وإطلاق لفظ الحامل يتناول - كما نصّ القليوبيّ - كلّ حمل ، ولو من زنىً وسواء أكانت المرضع أمّاً للرّضيع ، أم كانت مستأجرةً لإرضاع غير ولدها ، في رمضان أو قبله ، فإنّ فطرها جائز ، على الظّاهر عند الحنفيّة ، وعلى المعتمد عند الشّافعيّة ، بل لو كانت متبرّعةً ولو مع وجود غيرها ، أو من زنىً ، جاز لها الفطر مع الفدية .
وقال بعض الحنفيّة ، كابن الكمال والبهنسيّ : تقيّد المرضع بما إذا تعيّنت للإرضاع ، كالظّئر بالعقد ، والأمّ بأن لم يأخذ ثدي غيرها ، أو كان الأب معسراً ، لأنّه حينئذ واجب عليها ، لكن ظاهر الرّواية خلافه ، وأنّ الإرضاع واجب على الأمّ ديانةً مطلقاً وإن لم تتعيّن ، وقضاءً إذا كان الأب معسراً ، أو كان الولد لا يرضع من غيرها .
وأمّا الظّئر فلأنّه واجب عليها بالعقد ، ولو كان العقد في رمضان ، خلافاً لمن قيّد الحلّ بالإجارة قبل رمضان .
كما قال بعض الشّافعيّة كالغزاليّ : يقيّد فطر المرضع ، بما إذا لم تكن مستأجرةً لإرضاع غير ولدها ، أو لم تكن متبرّعةً ، لكن المعتمد المصحّح عندهم خلافه ، قياساً على السّفر فإنّه يستوي في جواز الإفطار به من سافر لغرض نفسه ، وغرض غيره ، بأجرة وغيرها .
رابعاً : الشّيخوخة والهرم :
63 - وتشمل الشّيخوخة والهرم ما يلي :
الشّيخ الفاني ، وهو الّذي فنيت قوّته ، أو أشرف على الفناء ، وأصبح كلّ يوم في نقص إلى أن يموت .
المريض الّذي لا يرجى برؤه ، وتحقّق اليأس من صحّته .
العجوز ، وهي المرأة المسنّة .
قال البهوتيّ : المريض الّذي لا يرجى برؤه في حكم الكبير .
وقيّد الحنفيّة عجز الشّيخوخة والهرم ، بأن يكون مستمرّاً ، فلو لم يقدرا على الصّوم لشدّة الحرّ مثلاً ، كان لهما أن يفطرا ، ويقضياه في الشّتاء .
ولا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يلزمهما الصّوم ، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه ، وأنّ لهما أن يفطرا ، إذا كان الصّوم يجهدهما ويشقّ عليهما مشقّةً شديدةً .
قال ابن جزيّ : إنّ الشّيخ والعجوز العاجزين عن الصّوم ، يجوز لهما الفطر إجماعاً ، ولا قضاء عليهما .
والأصل في شرعيّة إفطار من ذكر :
أ - قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فقد قيل في بعض وجوه التّأويل : إنّ ( لا ) مضمرة في الآية ، والمعنى : وعلى الّذين لا يطيقونه .
وقال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : الآية ليست بمنسوخة ، وهي للشّيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة ، لا يستطيعان أن يصوما ، فيطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً .
والآية في محلّ الاستدلال ، حتّى على القول بنسخها ، لأنّها إن وردت في الشّيخ الفاني - كما ذهب إليه بعض السّلف - فظاهر ، وإن وردت للتّخيير فكذلك ، لأنّ النّسخ إنّما يثبت في حقّ القادر على الصّوم ، فبقي الشّيخ الفاني على حاله كما كان .
ب - والعمومات القاضية برفع الحرج ، كقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وموجب الإفطار بسبب الشّيخوخة عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وهو قول عند المالكيّة : وجوب الفدية ، ويأتي تفصيله .
خامساً : إرهاق الجوع والعطش :
64 - من أرهقه جوع مفرط ، أو عطش شديد ، فإنّه يفطر ويقضي .
وقيّده الحنفيّة بأمرين :
الأوّل : أن يخاف على نفسه الهلاك ، بغلبة الظّنّ ، لا بمجرّد الوهم ، أو يخاف نقصان العقل، أو ذهاب بعض الحواسّ ، كالحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما الهلاك أو على أولادهما .
قال المالكيّة : فإن خاف على نفسه حرّم عليه الصّيام ، وذلك لأنّ حفظ النّفس والمنافع واجب .
الثّاني : أن لا يكون ذلك بإتعاب نفسه ، إذ لو كان به تلزمه الكفّارة ، وقيل : لا .
وألحقه بعض الفقهاء بالمريض ، وقالوا : إنّ الخوف على النّفس في معنى المرض .
وقال القليوبيّ : ومثل المرض غلبة جوع وعطش ، لا نحو صداع ، ووجع أذن وسنّ خفيفة.
ومثّلوا له بأرباب المهن الشّاقّة ، لكن قالوا : عليه أن ينوي الصّيام ليلاً ، ثمّ إن احتاج إلى الإفطار ، ولحقته مشقّة ، أفطر .
قال الحنفيّة : المحترف المحتاج إلى نفقته كالخبّاز والحصّاد ، إذا علم أنّه لو اشتغل بحرفته يلحقه ضرر مبيح للفطر ، يحرم عليه الفطر قبل أن تلحقه مشقّة .
وقال أبو بكر الآجرّيّ من الحنابلة : من صنعته شاقّة ، فإن خاف بالصّوم تلفاً ، أفطر وقضى ، إن ضرّه ترك الصّنعة ، فإن لم يضرّه تركها أثم بالفطر وبتركها ، وإن لم ينتف الضّرر بتركها ، فلا إثم عليه بالفطر للعذر .
65 - وألحقوا بإرهاق الجوع والعطش خوف الضّعف عن لقاء العدوّ المتوقّع أو المتيقّن كأن كان محيطاً : فالغازي إذا كان يعلم يقيناً أو بغلبة الظّنّ القتال بسبب وجوده بمقابلة العدوّ ، ويخاف الضّعف عن القتال بالصّوم ، وليس مسافراً ، له الفطر قبل الحرب .
قال في الهنديّة : فإن لم يتّفق القتال فلا كفّارة عليه ، لأنّ في القتال يحتاج إلى تقديم الإفطار، ليتقوّى ولا كذلك المرض .
وقال البهوتيّ : ومن قاتل عدوّاً ، أو أحاط العدوّ ببلده ، والصّوم يضعفه عن القتال ، ساغ له الفطر بدون سفر نصّاً ، لدعاء الحاجة إليه .
ولا خلاف بين الفقهاء ، في أنّ المرهق ومن في حكمه ، يفطر ، ويقضي - كما ذكرنا - وإنّما الخلاف بينهم فيما إذا أفطر المرهق ، فهل يمسك بقيّة يومه ، أم يجوز له الأكل ؟
سادساً : الإكراه :
66 - الإكراه : حمل الإنسان غيره ، على فعل أو ترك ما لا يرضاه بالوعيد .
ومذهب الحنفيّة والمالكيّة ، أنّ من أكره على الفطر فأفطر قضى .(/17)
قالوا : إذا أكره الصّائم بالقتل على الفطر ، بتناول الطّعام في شهر رمضان ، وهو صحيح مقيم ، فمرخّص له به ، والصّوم أفضل ، حتّى لو امتنع من الإفطار حتّى قتل ، يثاب عليه ، لأنّ الوجوب ثابت حالة الإكراه ، وأثر الرّخصة في الإكراه هو سقوط المأثم بالتّرك ، لا في سقوط الوجوب ، بل بقي الوجوب ثابتاً ، والتّرك حراماً ، وإذا كان الوجوب ثابتاً ، والتّرك حراماً ، كان حقّ اللّه تعالى قائماً ، فهو بالامتناع بذل نفسه لإقامة حقّ اللّه تعالى ، طلباً لمرضاته ، فكان مجاهداً في دينه ، فيثاب عليه .
وأمّا إذا كان المكره مريضاً أو مسافراً ، فالإكراه - كما يقول الكاسانيّ - حينئذ مبيح مطلق، في حقّ كلّ منهما ، بل موجب ، والأفضل هو الإفطار ، بل يجب عليه ذلك ، ولا يسعه أن لا يفطر ، حتّى لو امتنع من ذلك ، فقتل ، يأثم . ووجه الفرق : أنّ في الصّحيح المقيم كان الوجوب ثابتاً قبل الإكراه من غير رخصة التّرك أصلاً ، فإذا جاء الإكراه - وهو سبب من أسباب الرّخصة - كان أثره في إثبات رخصة التّرك ، لا في إسقاط الوجوب .
وأمّا في المريض والمسافر ، فالوجوب مع رخصة التّرك ، كان ثابتاً قبل الإكراه ، فلا بدّ أن يكون للإكراه أثر آخر لم يكن ثابتاً قبله ، وليس ذلك إلاّ إسقاط الوجوب رأساً ، وإثبات الإباحة المطلقة ، فنزل منزلة الإكراه على أكل الميتة ، وهناك يباح له الأكل ، بل يجب عليه، فكذا هنا .
وفرّق الشّافعيّة بين الإكراه على الأكل أو الشّرب ، وبين الإكراه على الوطء : فقالوا في الإكراه على الأكل : لو أكره حتّى أكل أو شرب لم يفطر ، كما لو أوجر في حلقه مكرهاً ، لأنّ الحكم الّذي ينبني على اختياره ساقط لعدم وجود الاختيار .
أمّا لو أكره على الوطء زنىً ، فإنّه لا يباح بالإكراه ، فيفطر به ، بخلاف وطء زوجته . واعتمد العزيزيّ الإطلاق ، ووجّهه بأنّ عدم الإفطار ، لشبهة الإكراه ، على الوطء ، والحرمة من جهة الوطء ، فعلى هذا يكون الإكراه على الإفطار مطلقاً بالوطء والأكل والشّرب ، إذا فعله المكره لا يفطر به ، ولا يجب عليه القضاء إلاّ في الإكراه على الإفطار بالزّنى ، فإنّ فيه وجهاً بالإفطار والقضاء عندهم .
وهذا الإطلاق عند الشّافعيّة ، هو مذهب الحنابلة أيضاً : فلو أكره على الفعل ، أو فعل به ما أكره عليه ، بأن صبّ في حلقه ، مكرهاً أو نائماً ، كما لو أوجر المغمى عليه معالجةً ، لا يفطر ، ولا يجب عليه القضاء ، لحديث : » وما استكرهوا عليه « .
ملحقات بالعوارض :
67 - يمكن إلحاق ما يلي ، من الأعذار ، بالعوارض الّتي ذكرها الفقهاء ، وأقرّوها وأفردوا لها أحكاماً كلّما عرضت في الصّوم ، كالحيض والنّفاس والإغماء والجنون والسّكر والنّوم والرّدّة والغفلة .
وأحكامهما تنظر في مصطلحاتها .
ما يفسد الصّوم ويوجب القضاء والكفّارة :
أوّلاً : الجماع عمداً :
68 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ جماع الصّائم في نهار رمضان عامداً مختاراً بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السّبيلين مفطر يوجب القضاء والكفّارة ، أنزل أو لم ينزل . وفي قول ثان للشّافعيّة لا يجب القضاء ، لأنّ الخلل انجبر بالكفّارة .
وفي قول ثالث لهم : إن كفّر بالصّوم دخل فيه القضاء ، وإلاّ فلا يدخل فيجب القضاء .
وعند الحنابلة : إذا جامع في نهار رمضان - بلا عذر - آدميّاً أو غيره حيّاً أو ميّتاً أنزل أم لا فعليه القضاء والكفّارة ، عامداً كان أو ساهياً ، أو جاهلاً أو مخطئاً ، مختاراً أو مكرهاً ، وهذا لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : » بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل ، فقال : يا رسول اللّه ، هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ؟ قال : لا . قال : فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعرَقٍ فيها تمر ، قال : أين السّائل ؟ فقال : أنا ، قال : خذ هذا فتصدّق به ، فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ، فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي ، فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال : أطعمه أهلك « .
ولا خلاف في فساد صوم المرأة بالجماع لأنّه نوع من المفطرات ، فاستوى فيه الرّجل والمرأة . وإنّما الخلاف في وجوب الكفّارة عليها :
فمذهب أبي حنيفة ومالك وقول للشّافعيّ ، ورواية عن أحمد وهي المذهب عند الحنابلة ، وجوب الكفّارة عليها أيضاً ، لأنّها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها كالرّجل . وعلّل الحنفيّة وجوبها عليها ، بأنّ السّبب في ذلك هو جناية الإفساد ، لا نفس الوقاع ، وقد شاركته فيها ، وقد استويا في الجناية ، والبيان في حقّ الرّجل بيان في حقّ المرأة ، فقد وجد فساد صوم رمضان بإفطار كامل حرام محض متعمّد ، فتجب الكفّارة عليها بدلالة النّصّ، ولا يتحمّل الرّجل عنها ، لأنّ الكفّارة عبادة أو عقوبة ، ولا يجري فيها التّحمّل . وفي قول للشّافعيّ وهو الأصحّ ، ورواية أخرى عن أحمد : أنّه لا كفّارة عليها ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبةً ، ولم يأمر المرأة بشيء ، مع علمه بوجود ذلك منها . ولأنّ الجماع فعله ، وإنّما هي محلّ الفعل .
وفي قول للشّافعيّة : تجب ، ويتحمّلها الرّجل .
وروي عن أحمد : أنّ الزّوج تلزمه كفّارة واحدة عنهما ، وضعّفها بعض الحنابلة بأنّ الأصل عدم التّداخل .(/18)
وقال ابن عقيل من الحنابلة : إن أكرهت المرأة على الجماع في نهار رمضان حتّى مكّنت الرّجل منها لزمتها الكفّارة ، وإن غصبت أو أتيت نائمةً فلا كفّارة عليها .
ثانياً : الأكل والشّرب عمداً :
69 - ممّا يوجب القضاء والكفّارة ، عند الحنفيّة والمالكيّة : الأكل والشّرب .
فإذا أكل الصّائم ، في أداء رمضان أو شرب غذاءً أو دواءً ، طائعاً عامداً ، بغير خطأ ولا إكراه ولا نسيان ، أفطر وعليه الكفّارة .
وضابطه عند الحنفيّة : وصول ما فيه صلاح بدنه لجوفه ، بأن يكون ممّا يؤكل عادةً على قصد التّغذّي أو التّداوي أو التّلذّذ ، أو ممّا يميل إليه الطّبع ، وتنقضي به شهوة البطن ، وإن لم يكن فيه صلاح البدن ، بل ضرره .
وشرطوا أيضاً لوجوب الكفّارة : أن ينوي الصّوم ليلاً ، وأن لا يكون مكرهاً ، وأن لا يطرأ عذر شرعيّ لا صنع له فيه ، كمرض وحيض .
وشرط المالكيّة : أن يكون إفساد صوم رمضان خاصّةً ، عمداً قصداً لانتهاك حرمة الصّوم ، من غير سبب مبيح للفطر .
وتجب الكفّارة في شرب الدّخان عند الحنفيّة والمالكيّة ، فإنّه ربّما أضرّ البدن ، لكن تميل إليه بعض الطّباع ، وتنقضي به شهوة البطن ، يضاف إلى ذلك أنّه مفتر وحرام ، لحديث أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : » نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتر « .
ودليل وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب عمداً ، ما ورد في الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان ، أن يعتق رقبةً أو يصوم شهرين متتابعين ، أو يطعم ستّين مسكيناً « فإنّه علّق الكفّارة بالإفطار ، وهي وإن كانت واقعة حال لا عموم لها ، لكنّها علّقت بالإفطار ، لا باعتبار خصوص الإفطار ولفظ الرّاوي عامّ ، فاعتبر ، كقوله : » قضى بالشّفعة للجار « .
ومذهب الشّافعيّة والحنابلة عدم وجوب الكفّارة على من أكل أو شرب عمداً في نهار رمضان أداءً ، وذلك لأنّ النّصّ - وهو حديث الأعرابيّ الّذي وقع على امرأته في رمضان - ورد في الجماع ، وما عداه ليس في معناه .
ولأنّه لا نصّ في إيجاب الكفّارة بهذا ، ولا إجماع .
ولا يصحّ قياسه على الجماع ، لأنّ الحاجة إلى الزّجر عنه أمسّ ، والحكمة في التّعدّي به آكد ، ولهذا يجب به الحدّ إذا كان محرّماً .
ثالثاً : رفع النّيّة :
70 - وممّا يوجب الكفّارة عند المالكيّة ، ما لو تعمّد رفع النّيّة نهارًا ، كأن يقول وهو صائم : رفعت نيّة صومي ، أو يقول رفعت نيّتي .
وأولى من ذلك ، رفع النّيّة في اللّيل ، كأن يكون غير ناو للصّوم ، لأنّه رفعها في محلّها فلم تقع النّيّة في محلّها .
وكذلك تجب الكفّارة عند المالكيّة بالإصباح بنيّة الفطر ، ولو نوى الصّيام بعده ، على الأصحّ كما يقول ابن جزيّ .
أمّا إن علّق الفطر على شيء ، كأن يقول : إن وجدت طعاماً أكلت فلم يجده ، أو وجده ولم يفطر فلا قضاء عليه .
أمّا عند الحنابلة - وفي وجه عند الشّافعيّة - فإنّه يجب القضاء بترك النّيّة دون الكفّارة . وعند الحنفيّة ، وفي الوجه الآخر عند الشّافعيّة : لا يجب القضاء .
ما لا يفسد الصّوم :
أوّلاً : الأكل والشّرب في حال النّسيان :
71 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأكل والشّرب في حال النّسيان لا يفسد الصّوم فرضاً أو نفلاً ، خلافاً للمالكيّة ، كما تقدّم في ف /38.
ثانياً : الجماع في حال النّسيان :
72 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب ، والحسن البصريّ ومجاهد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر إلى أنّ الجماع في حال النّسيان لا يفطّر قياساً على الأكل والشّرب ناسياً . وذهب المالكيّة في المشهور - وهو ظاهر مذهب الحنابلة - إلى أنّ من جامع ناسياً فسد صومه ، وعليه القضاء فقط عند المالكيّة ، والقضاء والكفّارة عند الحنابلة .
ثالثاً : دخول الغبار ونحوه حلق الصّائم :
73 - إذا دخل حلق الصّائم غبار أو ذباب أو دخان بنفسه ، بلا صنعه ، ولو كان الصّائم ذاكراً لصومه ، لم يفطر إجماعاً - كما قال ابن جزيّ - لعدم قدرته على الامتناع عنه ، ولا يمكن الاحتراز منه .
وكذلك إذا دخل الدّمع حلقه وكان قليلاً نحو القطرة أو القطرتين فإنّه لا يفسد صومه ، لأنّ التّحرّز منه غير ممكن .
وإن كان كثيراً حتّى وجد ملوحته في جميع فمه وابتلعه فسد صومه .
رابعاً : الادّهان :
74 - لو دهن الصّائم رأسه ، أو شاربه لا يضرّه ذلك ، وكذا لو اختضب بحنّاء ، فوجد الطّعم في حلقه لم يفسد صومه ، ولا يجب عليه القضاء ، إذ لا عبرة بما يكون من المسامّ ، وهذا قول الجمهور .
لكن صرّح الدّردير من المالكيّة ، بأنّ المعروف من المذهب وجوب القضاء .
خامساً : الاحتلام :
75 - إذا نام الصّائم فاحتلم لا يفسد صومه ، بل يتمّه إجماعاً ، إذا لم يفعل شيئاً يحرم عليه ويجب عليه الاغتسال .
وفي الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: » ثلاث لا يفطرن الصّائم : الحجامة والقيء والاحتلام « .
ومن أجنب ليلاً ، ثمّ أصبح صائماً ، فصومه صحيح ، ولا قضاء عليه عند الجمهور .
وقال الحنفيّة : وإن بقي جنباً كلّ اليوم ، وذلك لحديث : عائشة وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما قالتا : » نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً ، من غير احتلام ثمّ يغتسل ، ثمّ يصوم « .
قال الشّوكانيّ : وإليه ذهب الجمهور ، وجزم النّوويّ بأنّه استقرّ الإجماع على ذلك ، وقال ابن دقيق العيد : إنّه صار إجماعاً أو كالإجماع .(/19)
وقد أخرج الشّيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه صلى الله عليه وسلم قال : » من أصبح جنباً فلا صوم له « وحمل على النّسخ أو الإرشاد إلى الأفضل ، وهو : أنّه يستحبّ أن يغتسل قبل الفجر ، ليكون على طهارة من أوّل الصّوم .
سادساً : البلل في الفم :
76 - ممّا لا يفسد الصّوم البلل الّذي يبقى في الفم بعد المضمضة ، إذا ابتلعه الصّائم مع الرّيق ، بشرط أن يبصق بعد مجّ الماء ، لاختلاط الماء بالبصاق ، فلا يخرج بمجرّد المجّ ، ولا تشترط المبالغة في البصق ، لأنّ الباقي بعده مجرّد بلل ورطوبة ، لا يمكن التّحرّز عنه .
سابعاً : ابتلاع ما بين الأسنان :
77 - ابتلاع ما بين الأسنان ، إذا كان قليلاً ، لا يفسد ولا يفطر ، لأنّه تبع لريقه ، ولأنّه لا يمكن الاحتراز عنه ، بخلاف الكثير فإنّه لا يبقى بين الأسنان ، والاحتراز عنه ممكن . والقليل : هو ما دون الحمّصة ، ولو كان قدرها أفطر .
ومذهب زفر ، وهو قول للشّافعيّة : فساد الصّوم مطلقاً ، بابتلاع القليل والكثير ، لأنّ الفم له حكم الظّاهر ، ولهذا لا يفسد صومه بالمضمضة - كما قال المرغينانيّ - ولو أكل القليل من خارج فمه أفطر ، فكذا إذا أكل من فمه .
وللشّافعيّة قول آخر بعدم الإفطار به مطلقاً .
وشرط الشّافعيّة والحنابلة ، لعدم الإفطار بابتلاع ما بين الأسنان شرطين :
أوّلهما : أن لا يقصد ابتلاعه .
والآخر : أن يعجز عن تمييزه ومجّه ، لأنّه معذور فيه غير مفرّط ، فإن قدر عليهما أفطر ، ولو كان دون الحمّصة ، لأنّه لا مشقّة في لفظه ، والتّحرّز عنه ممكن .
ومذهب المالكيّة : عدم الإفطار بما سبق إلى جوفه من بين أسنانه ، ولو عمداً ، لأنّه أخذه في وقت يجوز له أخذه فيه - كما يقول الدّسوقيّ - وقيل : لا يفطر ، إلاّ إن تعمّد بلعه فيفطر ، أمّا لو سبق إلى جوفه فلا يفطر .
ثامناً : دم اللّثة والبصاق :
78 - لو دميت لثته ، فدخل ريقه حلقه مخلوطاً بالدّم ، ولم يصل إلى جوفه ، لا يفطر عند الحنفيّة ، وإن كان الدّم غالباً على الرّيق ، لأنّه لا يمكن الاحتراز منه ، فصار بمنزلة ما بين أسنانه أو ما يبقى من أثر المضمضة ، أمّا لو وصل إلى جوفه ، فإن غلب الدّم فسد صومه، وعليه القضاء ولا كفّارة ، وإن غلب البصاق فلا شيء عليه ، وإن تساويا ، فالقياس أن لا يفسد وفي الاستحسان يفسد احتياطاً .
ولو خرج البصاق على شفتيه ثمّ ابتلعه ، فسد صومه ، وفي الخانيّة : ترطّبت شفتاه ببزاقه، عند الكلام ونحوه ، فابتلعه ، لا يفسد صومه ، وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة .
ومذهب الشّافعيّة والحنابلة : الإفطار بابتلاع الرّيق المختلط بالدّم ، لتغيّر الرّيق ، والدّم نجس لا يجوز ابتلاعه وإذا لم يتحقّق أنّه بلع شيئاً نجساً لا يفطر ، إذ لا فطر ببلع ريقه الّذي لم تخالطه النّجاسة .
تاسعاً : ابتلاع النّخامة :
79 - النّخامة هي : النّخاعة ، وهي ما يخرجه الإنسان من حلقه ، من مخرج الخاء المعجمة .
قال الفيّوميّ : هكذا قيّده ابن الأثير ، وهكذا قال المطرّزيّ ، وزاد : ما يخرج من الخيشوم عند التّنحنح .
ومذهب الحنفيّة ، والمعتمد عند المالكيّة : أنّ النّخامة سواء أكانت مخاطاً نازلاً من الرّأس ، أم بلغماً صاعداً من الباطن ، بالسّعال أو التّنحنح - ما لم يفحش البلغم - لا يفطر مطلقاً . وفي نصوص المالكيّة : إنّ البلغم لا يفطر مطلقاً ، ولو وصل إلى طرف اللّسان ، لمشقّته ، خلافاً لخليل ، الّذي رأى الفساد ، فيما إذا أمكن طرحه ، بأن جاوز الحلق ، ثمّ أرجعه وابتلعه ، وأنّ عليه القضاء .
وفي رواية عن أحمد أنّ ابتلاع النّخامة لا يفطر ، لأنّه معتاد في الفم غير واصل من خارج، فأشبه الرّيق .
وعند الشّافعيّة هذا التّفصيل :
إن اقتلع النّخامة من الباطن ، ولفظها فلا بأس بذلك في الأصحّ ، لأنّ الحاجة إليه ممّا يتكرّر، وفي قول : يفطر بها كالاستقاءة .
ولو صعدت بنفسها ، أو بسعاله ، ولفظها لم يفطر جزماً .
ولو ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم ، أفطر جزماً .
وإذا حصلت في ظاهر الفم ، يجب قطع مجراها إلى الحلق ، ومجّها ، فإن تركها مع القدرة على ذلك ، فوصلت إلى الجوف ، أفطر في الأصحّ ، لتقصيره ، وفي قول : لا يفطر ، لأنّه لم يفعل شيئاً ، وإنّما أمسك عن الفعل .
ولو ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم ، أفطر جزماً .
ونصّ الحنابلة على أنّه يحرم على الصّائم بلع نخامة ، إذا حصلت في فمه ، ويفطر بها إذا بلعها ، سواء أكانت في جوفه أم صدره ، بعد أن تصل إلى فمه ، لأنّها من غير الفم ، فأشبه القيء ، ولأنّه أمكن التّحرّز منها فأشبه الدّم .
من أجل هذا الخلاف ، نبّه ابن الشّحنة على أنّه ينبغي إلقاء النّخامة ، حتّى لا يفسد صومه على قول الإمام الشّافعيّ ، وليكون صومه صحيحاً بالاتّفاق لقدرته على مجّها .
عاشراً : القيء :
80 - يفرّق بين ما إذا خرج القيء بنفسه ، وبين الاستقاءة .
وعبّر الفقهاء عن الأوّل ، بما : إذا ذرعه القيء ، أي غلب القيء الصّائم .
فإذا غلب القيء ، فلا خلاف بين الفقهاء في عدم الإفطار به ، قلّ القيء أم كثر ، بأن ملأ الفم ، وهذا لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: » من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمداً فليقض « .
أمّا لو عاد القيء بنفسه ، في هذه الحال ، بغير صنع الصّائم ، ولو كان ملء الفم ، مع تذكّر الصّائم للصّوم ، فلا يفسد صومه ، عند محمّد - من الحنفيّة - وهو الصّحيح عندهم ، لعدم وجود الصّنع منه ، ولأنّه لم توجد صورة الفطر ، وهي الابتلاع ، وكذا معناه ، لأنّه لا يتغذّى به عادةً ، بل النّفس تعافه .(/20)
وعند أبي يوسف : يفسد صومه ، لأنّه خارج ، حتّى انتقضت به الطّهارة ، وقد دخل .
وإن أعاده ، أو عاد قدر حمّصة منه فأكثر ، فسد صومه باتّفاق الحنفيّة ، لوجود الإدخال بعد الخروج ، فتتحقّق صورة الفطر ولا كفّارة فيه .
وإن كان أقلّ من ملء الفم ، فعاد ، لم يفسد صومه ، لأنّه غير خارج ، ولا صنع له في الإدخال .
وإن أعاده فكذلك عند أبي يوسف لعدم الخروج ، وعند محمّد يفسد صومه ، لوجود الصّنع منه في الإدخال .
ومذهب المالكيّة : أنّ المفطر في القيء هو رجوعه ، سواء أكان القيء لعلّة أو امتلاء معدة، قلّ أو كثر ، تغيّر أو لا ، رجع عمداً أو سهواً ، فإنّه مفطر وعليه القضاء .
ومذهب الحنابلة : أنّه لو عاد القيء بنفسه ، لا يفطر لأنّه كالمكره ، ولو أعاده أفطر ، كما لو أعاد بعد انفصاله عن الفم .
81 - أمّا الاستقاءة ، وهي : استخراج ما في الجوف عمداً ، أو هي : تكلّف القيء فإنّها مفسدة للصّوم موجبة للقضاء عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - مع اختلافهم في الكفّارة .
وروي عند الحنابلة ، أنّه لا يفطر بالاستقاءة إلاّ بملء الفم ، قال ابن عقيل : ولا وجه لهذه الرّواية عندي .
وللحنفيّة تفصيل في الاستقاءة :
أ - فإن كانت عمداً ، والصّائم متذكّر لصومه ، غير ناس ، والقيء ملء فمه ، فعليه القضاء للحديث المذكور ، والقياس متروك به ، ولا كفّارة فيه لعدم صورة الفطر .
ب - وإن كان أقلّ من ملء الفم ، فكذلك عند محمّد ، يفسد صومه ، لإطلاق الحديث ، وهو ظاهر الرّواية .
وعند أبي يوسف لا يفسد ، لعدم الخروج حكماً ، قالوا : وهو الصّحيح ، ثمّ إن عاد بنفسه لم يفسد عنده ، لعدم سبق الخروج ، وإن أعاده فعنه : أنّه لا يفسد لعدم الخروج ، وهي أصحّ الرّوايتين عنه .
ونصّ الحنفيّة على أنّ هذا كلّه إذا كان القيء طعاماً ، أو مرّةً فإن كان الخارج بلغماً ، فغير مفسد للصّوم ، عند أبي حنيفة ومحمّد ، خلافاً لأبي يوسف .
حادي عشر : طلوع الفجر في حالة الأكل أو الجماع :
82 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فليلفظه ، ويصحّ صومه . فإن ابتلعه أفطر ، وكذا الحكم عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيمن أكل أو شرب ناسياً ثمّ تذكّر الصّوم ، صحّ صومه إن بادر إلى لفظه . وإن سبق شيء إلى جوفه بغير اختياره ، فلا يفطر عند الحنابلة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة .
وأمّا المالكيّة فقالوا : إذا وصل شيء من ذلك إلى جوفه - ولو غلبه - أفطر .
وإذا نزع ، وقطع الجماع عند طلوع الفجر في الحال فمذهب الحنفيّة والشّافعيّة - وأحد قولين للمالكيّة - لا يفسد صومه ، وقيّده القليوبيّ بأن لا يقصد اللّذّة بالنّزع ، وإلاّ بطل صومه ، حتّى لو أمنى بعد النّزع ، لا شيء عليه ، وصومه صحيح ، لأنّه كالاحتلام ، كما يقول الحنفيّة ، ولتولّده من مباشرة مباحة ، كما يقول الشّافعيّة .
ومشهور مذهب المالكيّة : أنّه لو نزع عند طلوع الفجر ، وأمنى حال الطّلوع - لا قبله ولا بعده - فلا قضاء ، لأنّ الّذي بعده من النّهار والّذي قبله من اللّيل ، والنّزع ليس وطئاً . والقول الآخر للمالكيّة هو وجوب القضاء .
وسبب هذا الاختلاف عند المالكيّة هو أنّه : هل يعدّ النّزع جماعاً ، أو لا يعدّ جماعاً ؟
ولهذا قالوا : من طلع عليه الفجر – وهو يجامع – فعليه القضاء ، وقيل : والكفّارة . ومذهب الحنابلة : أنّ النّزع جماع ، فمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال ، مع أوّل طلوع الفجر ، فعليه القضاء والكفّارة ، لأنّه يلتذّ بالنّزع ، كما يلتذّ بالإيلاج ، كما لو استدام بعد طلوع الفجر .
ولو مكث بعد طلوع الفجر مجامعاً ، بطل صومه ، ولو لم يعلم بطلوعه .
وفي وجوب الكفّارة في المكث والبقاء ، في هذه الحال ، خلاف : فظاهر الرّواية ، في مذهب الحنفيّة ، والمذهب عند الشّافعيّة عدم وجوب الكفّارة ، لأنّها تجب بإفساد الصّوم ، والصّوم منتف حال الجماع فاستحال إفساده ، فلم تجب الكفّارة .
أو كما قال النّوويّ : لأنّ مكثه مسبوق ببطلان الصّوم .
وروي عن أبي يوسف وجوب الكفّارة .
مكروهات الصّوم :
83 - يكره للصّائم بوجه عامّ - مع الخلاف - ما يلي :
أ - ذوق شيء بلا عذر ، لما فيه من تعريض الصّوم للفساد ، ولو كان الصّوم نفلاً ، على المذهب عند الحنفيّة ، لأنّه يحرم إبطال النّفل بعد الشّروع فيه ، وظاهر إطلاق الكراهة يفيد أنّها تحريميّة .
ومن العذر مضغ الطّعام للولد ، إذا لم تجد الأمّ منه بدّاً ، فلا بأس به ، ويكره إذا كان لها منه بدّ .
وليس من العذر ، ذوق اللّبن والعسل لمعرفة الجيّد منه والرّديء عند الشّراء ، فيكره ذلك . وكذا ذوق الطّعام ، لينظر اعتداله ، ولو كان لصانع الطّعام .
لكن نقل عن الإمام أحمد قوله : أحبّ إليّ أن يجتنب ذوق الطّعام ، فإن فعل فلا بأس به ، بل قال بعض الحنابلة : إنّ المنصوص عنه : أنّه لا بأس به لحاجة ومصلحة ، واختاره ابن عقيل وغيره وإلاّ كره .
وإن وجد طعم المذوق في حلقه أفطر .
ب - ويكره مضغ العلك ، الّذي لا يتحلّل منه أجزاءً ، فلا يصل منه شيء إلى الجوف . ووجه الكراهة : اتّهامه بالفطر ، سواء أكان رجلاً أم امرأةً ، قال عليّ رضي الله تعالى عنه: إيّاك وما يسبق إلى العقول إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره .
أمّا ما يتحلّل منه أجزاء ، فيحرم مضغه ، ولو لم يبتلع ريقه ، إقامةً للمظنّة مقام المئنّة ، فإن تفتّت فوصل شيء منه إلى جوفه عمداً أفطر ، وإن شكّ في الوصول لم يفطر .
ج - تكره القبلة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( تقبيل ف /17 ) .(/21)
د - ويرى جمهور الفقهاء أنّ المباشرة والمعانقة ودواعي الوطء - كاللّمس وتكرار النّظر- حكمها حكم القبلة فيما تقدّم .
وخصّ الحنفيّة المباشرة الفاحشة ، بالكراهة التّحريميّة ، وهي - عندهم - أن يتعانقا ، وهما متجرّدان ، ويمسّ فرجه فرجها . ونصّوا على أنّ الصّحيح أنّها تكره ، وإن أمن على نفسه الإنزال والجماع .
ونقل الطّحاويّ وابن عابدين عدم الخلاف في كراهتها ، وكذلك القبلة الفاحشة ، وهي : أن يمصّ شفتها ، فيكره على الإطلاق .
هـ – الحجامة ، وهي أيضاً ممّا يكره للصّائم – في الجملة – وهي استخراج الدّم المحقن من الجسم ، مصّاً أو شرطاً .
ومذهب الجمهور أنّها لا تفطّر الحاجم ولا المحجوم ، ولكنّهم كرهوها بوجه عامّ .
وقال الحنفيّة : لا بأس بها ، إن أمن الصّائم على نفسه الضّعف ، أمّا إذا خاف الضّعف ، فإنّها تكره ، وشرط شيخ الإسلام الكراهة ، إذا كانت تورث ضعفاً يحتاج معه إلى الفطر . وقال المالكيّة : إنّ المريض والصّحيح ، إذا علمت سلامتهما بالحجامة أو ظنّت ، جازت الحجامة لهما ، وإن علم أو ظنّ عدم السّلامة لهما حرّمت لهما ، وفي حالة الشّكّ تكره للمريض ، وتجوز للصّحيح .
قالوا : إنّ محلّ المنع إذا لم يخش بتأخيرها عليل هلاكاً أو شديد أذىً ، وإلاّ وجب فعلها وإن أدّت للفطر ، ولا كفّارة عليه .
وقال الشّافعيّة : يستحبّ الاحتراز من الحجامة ، من الحاجم والمحجوم ، لأنّها تضعفه .
قال الشّافعيّ في الأمّ : لو ترك رجل الحجامة صائماً للتّوقّي ، كان أحبّ إليّ ، ولو احتجم لم أره يفطره .
ونقل النّوويّ عن الخطّابيّ ، أنّ المحجوم قد يضعف فتلحقه مشقّة ، فيعجز عن الصّوم فيفطر بسببها ، والحاجم قد يصل إلى جوفه شيء من الدّم .
ودليل عدم الإفطار بالحجامة ، حديث : ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ، واحتجم وهو صائم « .
ودليل كراهة الحجامة حديث ثابت البنانيّ أنّه قال لأنس بن مالك : » أكنتم تكرهون الحجامة للصّائم على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، إلاّ من أجل الضّعف « .
وقالوا أيضاً : إنّه دم خارج من البدن ، فأشبه الفصد .
ومذهب الحنابلة أنّ الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم ، لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » أفطر الحاجم والمحجوم « .
قال المرداويّ : ولا نعلم أحداً من الأصحاب ، فرّق - في الفطر وعدمه - بين الحاجم والمحجوم .
قال الشّوكانيّ : يجمع بين الأحاديث ، بأنّ الحجامة مكروهة في حقّ من كان يضعف بها ، وتزداد الكراهة إذا كان الضّعف يبلغ إلى حدّ يكون سبباً للإفطار ، ولا تكره في حقّ من كان لا يضعف بها ، وعلى كلّ حال تجنّب الحجامة للصّائم أولى .
أمّا الفصد ، فقد نصّ الحنفيّة على كراهته ، كالحجامة ، وكراهة كلّ عمل شاقّ ، وكلّ ما يظنّ أنّه يضعف عن الصّوم ، وكذلك صرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّ الفصادة كالحجامة .
غير أنّ الحنابلة الّذين قالوا ، بالفطر في الحجامة ، قالوا : لا فطر بفصد وشرط ، ولا بإخراج دمه برعاف ، لأنّه لا نصّ فيه ، والقياس لا يقتضيه .
وفي قول لهم - اختاره الشّيخ تقيّ الدّين - إفطار المفصود دون الفاصد ، كما اختار إفطار الصّائم ، بإخراج دمه ، برعاف وغيره .
و - وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق في الصّوم .
ففي المضمضة : بإيصال الماء إلى رأس الحلق ، وفي الاستنشاق : بإيصاله إلى فوق المارن .
وذلك لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : » بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائماً « ، وذلك خشية فساد صومه .
ومن المكروهات الّتي عدّدها المالكيّة : فضول القول والعمل ، وإدخال كلّ رطب له طعم - في فمه - وإن مجّه ، والإكثار من النّوم في النّهار .
ما لا يكره في الصّوم :
84 - لا يكره للصّائم - في الجملة - ما يلي ، مع الخلاف في بعضها :
أ - الاكتحال غير مكروه عند الحنفيّة والشّافعيّة ، بل أجازوه ، ونصّوا على أنّه لا يفطر به الصّائم ولو وجد طعمه في حلقه ، قال النّوويّ : لأنّ العين ليست بجوف ، ولا منفذ منها إلى الحلق .
واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » اكتحل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو صائم « ، وحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال : » جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكت عيني ، أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال : نعم « .
وتردّد المالكيّة في الاكتحال ، فقالوا : إن كان لا يتحلّل منه شيء لم يفطر ، وإن تحلّل منه شيء أفطر . وقال أبو مصعب : لا يفطر . ومنعه ابن القاسم مطلقاً .
وقال أبو الحسن : إن تحقّق أنّه يصل إلى حلقه ، لم يكن له أن يفعله ، وإن شكّ كره ، ولْيَتَمَادَ - أي يستمرّ في صومه - وعليه القضاء ، فإن علم أنّه لا يصل ، فلا شيء عليه . وقال مالك في المدوّنة : إذا دخل حلقه ، وعلم أنّه قد وصل الكحل إلى حلقه ، فعليه القضاء ولا كفّارة عليه . وإن تحقّق عدم وصوله للحلق لا شيء عليه ، كاكتحاله ليلاً وهبوطه نهاراً للحلق ، لا شيء عليه في شيء من ذلك .
وهذا أيضاً مذهب الحنابلة ، فقد قالوا : إذا اكتحل بما يصل إلى حلقه ويتحقّق الوصول إليه فسد صومه ، وهذا الصّحيح من المذهب .
واستدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أمر بالإثمد المروّح عند النّوم ، وقال : ليتّقه الصّائم « ولأنّ العين منفذ ، لكنّه غير معتاد ، وكالواصل من الأنف .
واختار الشّيخ تقيّ الدّين أنّه لا يفطر بذلك .(/22)
ب - التّقطير في العين ، ودهن الأجفان ، أو وضع دواء مع الدّهن في العين لا يفسد الصّوم، لأنّه لا ينافيه وإن وجد طعمه في حلقه ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، والظّاهر من كلام الشّافعيّة أنّهم يوافقون الحنفيّة .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ التّقطير في العين مفسد للصّوم إذا وصل إلى الحلق ، لأنّ العين منفذ وإن لم يكن معتاداً .
ج - دهن الشّارب ونحوه ، كالرّأس والبطن ، لا يفطر بذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ولو وصل إلى جوفه بشرب المسامّ ، لأنّه لم يصل من منفذ مفتوح ، ولأنّه ليس فيه شيء ينافي الصّوم ، ولأنّه - كما يقول المرغينانيّ - : نوع ارتفاق ، وليس من محظورات الصّوم . لكن المالكيّة قالوا : من دهن رأسه نهاراً ، ووجد طعمه في حلقه ، أو وضع حنّاء في رأسه نهاراً ، فاستطعمها في حلقه ، فالمعروف في المذهب وجوب القضاء وإن قال الدّردير : لا قضاء عليه ، والقاعدة عندهم : وصول مائع للحلق ، ولو كان من غير الفم ، مع أنّهم قالوا: لا قضاء في دهن جائفة ، وهي : الجرح النّافذ للجوف ، لأنّه لا يدخل مدخل الطّعام .
د - الاستياك ، لا يرى الفقهاء بالاستياك بالعود اليابس أوّل النّهار بأساً ، ولا يكره عند الحنفيّة والمالكيّة بعد الزّوال ، وهو وجه عند الشّافعيّة في النّفل ، ليكون أبعد من الرّياء ، ورواية عند الحنابلة آخر النّهار . بل صرّح الأوّلون بسنّيّته آخر النّهار وأوّله ، وذلك لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من خير خصال الصّائم السّواك « .
ولقول عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه : » رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ، يتسوّك وهو صائم « .
وقد أطلقت هذه الأحاديث السّواك ، فيسنّ ولو كان رطباً ، أو مبلولاً بالماء ، خلافاً لأبي يوسف في رواية كراهة الرّطب ، ولأحمد في رواية كراهة المبلول بالماء ، لاحتمال أن يتحلّل منه أجزاء إلى حلقه ، فيفطّره ، وروي عن أحمد أنّه لا يكره .
وشرط المالكيّة لجوازه أن لا يتحلّل منه شيء ، فإن تحلّل منه شيء كره ، وإن وصل إلى الحلق أفطر .
وذهب الشّافعيّة إلى سنّيّة ترك السّواك بعد الزّوال ، وإذا استاك فلا فرق بين الرّطب واليابس ، بشرط أن يحترز عن ابتلاع شيء منه أو من رطوبته .
واستحبّ أحمد ترك السّواك بالعشيّ ، وقال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » خلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك الأذفر « لتلك الرّائحة لا يعجبني للصّائم أن يستاك بالعشيّ .
وعنه روايتان في الاستياك بالعود الرّطب :
إحداهما : الكراهة - كما تقدّم - والأخرى : أنّه لا يكره ، قال ابن قدامة : ولم ير أهل العلم بالسّواك أوّل النّهار بأساً ، إذا كان العود يابساً .
هـ – المضمضة والاستنشاق في غير الوضوء والغسل لا يكره ذلك ولا يفطر .
وقيّده المالكيّة بما إذا كان لعطش ونحوه ، وكرهوه لغير موجب ، لأنّ فيه تغريراً ومخاطرةً، وذلك لاحتمال سبق شيء من الماء إلى الحلق ، فيفسد الصّوم حينئذ .
وفي الحديث عن عمر رضي الله تعالى عنه : » أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصّائم ؟ فقال : أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم ؟ قلت : لا بأس ، قال : فمه « .
ولأنّ الفم في حكم الظّاهر ، لا يبطل الصّوم بالواصل إليه كالأنف والعين .
ومع ذلك ، فقد قال ابن قدامة : إنّ المضمضة ، إن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه ، فحكمه حكم المضمضة للطّهارة ، وإن كان عابثاً ، أو مضمض من أجل العطش كره .
ولا بأس أن يصبّ الماء على رأسه من الحرّ والعطش ، لما روي عن بعض أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالعرج ، يصبّ الماء على رأسه وهو صائم ، من العطش ، أو من الحرّ « .
وكذا التّلفّف بثوب مبتلّ للتّبرّد ودفع الحرّ على المفتى به - عند الحنفيّة - لهذا الحديث ، ولأنّ بهذه عوناً له على العبادة ، ودفعاً للضّجر والضّيق .
وكرهها أبو حنيفة ، لما فيها من إظهار الضّجر في إقامة العبادة .
و - اغتسال الصّائم ، فلا يكره ، ولا بأس به حتّى للتّبرّد ، عند الحنفيّة وذلك لما روي عن عائشة وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما قالتا : » نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنباً ، من غير احتلام ، ثمّ يغتسل ثمّ يصوم « .
وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه دخل الحمّام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان .
وأمّا الغوص في الماء ، إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه ، فلا بأس به ، وكرهه بعض الفقهاء حال الإسراف والتّجاوز أو العبث ، خوف فساد الصّوم .
الآثار المترتّبة على الإفطار :
85 - حصر الفقهاء الآثار المترتّبة على الإفطار في أمور ، منها : القضاء ، والكفّارة الكبرى ، والكفّارة الصّغرى - وهذه هي الفدية - والإمساك بقيّة النّهار ، وقطع التّتابع ، والعقوبة .
أوّلاً : القضاء :
86 - من أفطر أيّاماً من رمضان - كالمريض والمسافر - قضى بعدّة ما فاته ، لأنّ القضاء يجب أن يكون بعدّة ما فاته ، لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
ومن فاته صوم رمضان كلّه ، قضى الشّهر كلّه ، سواء ابتدأه من أوّل الشّهر أو من أثنائه ، كأعداد الصّلوات الفائتة .(/23)
قال الأبيّ : القضاء لما فات من رمضان بالعدد : فمن أفطر رمضان كلّه ، وكان ثلاثين ، وقضاه في شهر بالهلال ، وكان تسعةً وعشرين يوماً ، صام يوماً آخر . وإن فاته صوم رمضان وهو تسعة وعشرون يوماً ، وقضاه في شهر - وكان ثلاثين يوماً - فلا يلزمه صوم اليوم الأخير ، لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وقال ابن وهب : إن صام بالهلال ، كفاه ما صامه ، ولو كان تسعةً وعشرين ، ورمضان ثلاثين .
وكذا قال القاضي من الحنابلة : إن قضى شهراً هلاليّاً أجزأه ، سواء كان تامّاً أو ناقصاً وإن لم يقض شهراً ، صام ثلاثين يوماً . وهو ظاهر كلام الخرقيّ .
قال المجد : وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وقال : هو أشهر .
ويجوز أن يقضي يوم شتاء عن يوم صيف ، ويجوز عكسه ، بأن يقضي يوم صيف عن يوم شتاء ، وهذا لعموم الآية المذكورة وإطلاقها .
وقضاء رمضان يكون على التّراخي . لكن الجمهور قيّدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه ، بأن يهلّ رمضان آخر ، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها : » كان يكون عليّ الصّوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان ، لمكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم « . كما لا يؤخّر الصّلاة الأولى إلى الثّانية .
ولا يجوز عند الجمهور تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر ، من غير عذر يأثم به ، لحديث عائشة هذا ، فإن أخّر فعليه الفدية : إطعام مسكين لكلّ يوم ، لما روي عن ابن عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتّى أدركه رمضان آخر : عليه القضاء وإطعام مسكين لكلّ يوم ، وهذه الفدية للتّأخير ، أمّا فدية المرضع ونحوها فلفضيلة الوقت ، وفدية الهرم لأصل الصّوم ، ويجوز الإطعام قبل القضاء ومعه وبعده .
ومذهب الحنفيّة ، وهو وجه محتمل عند الحنابلة : إطلاق التّراخي بلا قيد ، فلو جاء رمضان آخر ، ولم يقض الفائت ، قدّم صوم الأداء على القضاء ، حتّى لو نوى الصّوم عن القضاء لم يقع إلاّ عن الأداء ، ولا فدية عليه بالتّأخير إليه ، لإطلاق النّصّ ، وظاهر قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وعند غير الحنفيّة يحرم التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ، ولا يصحّ تطوّعه بالصّوم قبل قضاء ما عليه من رمضان ، بل يبدأ بالفرض حتّى يقضيه ، وإن كان عليه نذر صامه بعد الفرض ، لأنّ الصّوم عبادة متكرّرة ، فلم يجز تأخير الأولى عن الثّانية ، كالصّلوات المفروضة .
مسائل تتعلّق بالقضاء :
الأولى :
87 - إن أخّر قضاء رمضان - وكذا النّذر والكفّارة - لعذر ، بأن استمرّ مرضه أو سفره المباح إلى موته ، ولم يتمكّن من القضاء ، فلا شيء عليه ، ولا تدارك للغائب بالفدية ولا بالقضاء ، لعدم تقصيره ، ولا إثم به ، لأنّه فرض لم يتمكّن منه إلى الموت ، فسقط حكمه ، كالحجّ ، ولأنّه يجوز تأخير رمضان بهذا العذر أداءً ، فتأخير القضاء أولى ، كما يقول النّوويّ .
وسواء استمرّ العذر إلى الموت ، أم حصل الموت في رمضان ، ولو بعد زوال العذر كما قال الشّربينيّ الخطيب .
وقال أبو الخطّاب : يحتمل أن يجب الصّوم عنه أو التّكفير
الثّانية :
88 - لو أفطر بعذر واتّصل العذر بالموت فقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا يصام عنه ولا كفّارة فيه ، لأنّه فرض لم يتمكّن من فعله إلى الموت فسقط حكمه ، كالحجّ .
أمّا إذا زال العذر وتمكّن من القضاء ، ولم يقض حتّى مات ففيه تفصيل :
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المذهب ، وهو الأصحّ والجديد عند الشّافعيّة - إلى أنّه لا يصام عنه ، لأنّ الصّوم واجب بأصل الشّرع لا يقضى عنه ، لأنّه لا تدخله النّيابة في الحياة فكذلك بعد الممات كالصّلاة .
وذهب الشّافعيّة في القديم ، وهو المختار عند النّوويّ ، وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة إلى أنّه يجوز لوليّه أن يصوم عنه ، زاد الشّافعيّة : ويصحّ ذلك ، ويجزئه عن الإطعام ، وتبرأ به ذمّة الميّت ولا يلزم الوليّ الصّوم بل هو إلى خيرته ، لحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » من مات وعليه صيام صام عنه وليّه « .
أمّا في وجوب الفدية فقد اختلفوا فيه على النّحو التّالي :
قال الحنفيّة : لو أخّر قضاء رمضان بغير عذر ، ثمّ مات قبل رمضان آخر أو بعده ، ولم يقض لزمه الإيصاء بكفّارة ما أفطره بقدر الإقامة من السّفر والصّحّة من المرض وزوال العذر ، ولا يجب الإيصاء بكفّارة ما أفطره على من مات قبل زوال العذر .
وذهب الشّافعيّة - في الجديد - إلى أنّه يجب في تركته لكلّ يوم مدّ من طعام .
وذهب الحنابلة في المذهب إلى الإطعام عنه لكلّ يوم مسكيناً .
والظّاهر من مذهب المالكيّة : وجوب مدّ عن كلّ يوم أفطره إذا فرّط ، بأن كان صحيحاً مقيماً خالياً من الأعذار .
ثانياً : الكفّارة الكبرى :
89 - ثبتت الكفّارة الكبرى بالنّصّ في حديث الأعرابيّ الّذي واقع زوجته في نهار رمضان . ولا خلاف بين الفقهاء في وجوبها بإفساد الصّوم بالوقاع في الجملة ، وإنّما الخلاف في وجوبها بإفساده بالطّعام والشّراب : فتجب - في الجملة أيضاً - بإفساد صوم رمضان خاصّةً ، طائعاً متعمّداً غير مضطرّ ، قاصداً انتهاك حرمة الصّوم ، من غير سبب مبيح للفطر .
وقال الحنفيّة : إنّما يكفّر إذا نوى الصّيام ليلاً ، ولم يكن مكرهاً ، ولم يطرأ مسقط ، كمرض وحيض .
فلا كفّارة في الإفطار في غير رمضان ، ولا كفّارة على النّاسي والمكره - عند الجمهور - ولا على النّفساء والحائض والمجنون ، ولا على المريض والمسافر ، ولا على المرهق بالجوع والعطش ، ولا على الحامل ، لعذرهم .(/24)
ولا على المرتدّ ، لأنّه هتك حرمة الإسلام ، لا حرمة الصّيام خصوصاً .
فتجب بالجماع عمداً، لا ناسياً - خلافاً لأحمد وابن الماجشون من المالكيّة - وتجب بالأكل والشّرب عمداً ، خلافاً للشّافعيّ وأحمد ، وتقدّمت موجبات أخرى مختلف فيها ، كالإصباح بنيّة الفطر ، ورفض النّيّة نهاراً والاستقاء العامد ، وابتلاع ما لا يغذّي عمداً .
أمّا خصال الكفّارة فهي : العتق والصّيام والإطعام ، وهذا بالاتّفاق بين الفقهاء ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : » بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل ، فقال : يا رسول اللّه ، هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ؟ قال : لا ، قال : فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ فيها تمر ، قال : أين السّائل ؟ فقال : أنا ، قال : خذ هذا فتصدّق به ، فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ، فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي ، فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال : أطعمه أهلك « .
قال ابن تيميّة الجدّ في تعليقه على هذا الحديث : وفيه دلالة قويّة على التّرتيب .
قالوا : فكفّارته ككفّارة الظّهار ، لكنّها ثابتة بالكتاب ، وأمّا هذه فبالسّنّة .
وقال الشّوكانيّ : ظاهر الحديث أنّ الكفّارة بالخصال الثّلاث على التّرتيب .
قال ابن العربيّ : لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه إلى أمر آخر ، وليس هذا شأن التّخيير .
وقال البيضاويّ : إنّ ترتيب الثّاني على الأوّل ، والثّالث على الثّاني ، بالفاء يدلّ على عدم التّخيير ، مع كونها في معرض البيان وجواب السّؤال ، فنزل منزلة الشّرط وإلى القول بالتّرتيب ذهب الجمهور . وأنّها ككفّارة الظّهار : فيعتق أوّلاً ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستّين مسكيناً ، لهذا الحديث .
ثالثاً : الكفّارة الصّغرى :
90 - الكفّارة الصّغرى : هي الفدية ، وتقدّم أنّها مدّ من طعام لمسكين إذا كان من البرّ ، أو نصف صاع إذا كان من غيره ، وذلك عن كلّ يوم ، وهي عند الحنفيّة كالفطرة قدراً ، وتكفي فيها الإباحة ، ولا يشترط التّمليك هنا ، بخلاف الفطرة .
وتجب على من أخّر قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر ، وعلى الحامل والمرضع والشّيخ الهرم .
وينظر التّفصيل في مصطلح : ( فدية ) .
رابعاً : الإمساك لحرمة شهر رمضان :
91 - من لوازم الإفطار في رمضان : الإمساك لحرمة الشّهر ، قال النّوويّ : وهو من خواصّ رمضان ، كالكفّارة ، فلا إمساك على متعدّ بالفطر ، وفي نذر أو قضاء وفيه خلاف وتفصيل وتفريع في المذاهب الفقهيّة :
فالحنفيّة وضعوا أصلين لهذا الإمساك :
أوّلهما : أنّ كلّ من صار في آخر النّهار بصفة ، لو كان في أوّل النّهار عليها للزمه الصّوم، فعليه الإمساك .
ثانيهما : كلّ من وجب عليه الصّوم ، لوجود سبب الوجوب والأهليّة ، ثمّ تعذّر عليه المضيّ، بأن أفطر متعمّداً ، أو أصبح يوم الشّكّ مفطراً ، ثمّ تبيّن أنّه من رمضان ، أو تسحّر على ظنّ أنّ الفجر لم يطلع ، ثمّ تبيّن طلوعه ، فإنّه يجب عليه الإمساك تشبّهاً على الأصحّ ، لأنّ الفطر قبيح ، وترك القبيح واجب شرعاً ، وقيل : يستحبّ .
وأجمع الحنفيّة على أنّه لا يجب على الحائض والنّفساء والمريض والمسافر هذا الإمساك . وأجمعوا على وجوبه على من أفطر عمداً ، أو خطأً ، أو أفطر يوم الشّكّ ثمّ تبيّن أنّه من رمضان ، وكذا على مسافر أقام ، وحائض ونفساء طهرتا ، ومجنون أفاق ، ومريض صحّ، ومفطر ولو مكرهاً أو خطأً ، وصبيّ بلغ ، وكافر أسلم .
وقال ابن جزيّ من المالكيّة : وأمّا إمساك بقيّة اليوم ، فيؤمر به من أفطر في رمضان خاصّةً ، عمداً أو نسياناً ، لا من أفطر لعذر مبيح ثمّ زال العذر مع العلم برمضان ، فإنّه لا يندب له الإمساك ، كمن اضطرّ للفطر في رمضان ، من شدّة جوع أو عطش فأفطر ، وكحائض ونفساء طهرتا نهاراً ، ومريض صحّ نهاراً ، ومرضع مات ولدها ، ومسافر قدم ، ومجنون أفاق ، وصبيّ بلغ نهاراً ، فلا يندب الإمساك منهم .
وقيّد العلم برمضان ، احتراز عمّن أفطر ناسياً ، وعمّن أفطر يوم الشّكّ ثمّ ثبت أنّه من رمضان ، فإنّه يجب الإمساك ، كصبيّ بيّت الصّوم ، واستمرّ صائماً حتّى بلغ ، فإنّه يجب عليه الإمساك ، لانعقاد صومه له نافلةً ، أو أفطر ناسياً قبل بلوغه فيجب عليه بعد الإمساك، وإن لم يجب القضاء على الصّبيّ في هاتين الصّورتين .
ونصّوا كذلك على أنّ من أكره على الفطر ، فإنّه يجب عليه الإمساك ، بعد زوال الإكراه قالوا : لأنّ فعله قبل زوال العذر ، لا يتّصف بإباحة ولا غيرها .
ونصّوا على أنّه يندب إمساك بقيّة اليوم لمن أسلم ، لتظهر عليه علامة الإسلام بسرعة ، ولم يجب ، تأليفاً له للإسلام ، كما ندب قضاؤه ، ولم يجب لذلك .
والشّافعيّة بعد أن نصّوا على أنّ الإمساك تشبّهاً من خواصّ رمضان ، كالكفّارة ، وأنّ من أمسك تشبّهاً ليس في صوم وضعوا هذه القاعدة ، وهي : أنّ الإمساك يجب على كلّ متعدّ بالفطر في رمضان ، سواء أكل أو ارتدّ أو نوى الخروج من الصّوم - وقلنا إنّه يخرج بذلك- كما يجب على من نسي النّيّة من اللّيل ، وهو غير واجب على من أبيح له الفطر إباحةً حقيقيّةً ، كالمسافر إذا قدم ، والمريض إذا برئ بقيّة النّهار .(/25)
ونظروا بعد ذلك في هذه الأحوال :
المريض والمسافر ، اللّذان يباح لهما الفطر ، لهما ثلاثة أحوال :
الأولى : أن يصبحا صائمين ، ويدوما كذلك إلى زوال العذر ، فالمذهب لزوم إتمام الصّوم . الثّانية : أن يزول العذر بعد ما أفطر ، فلا يجب الإمساك ، لكن يستحبّ لحرمة الوقت - كما يقول المحلّيّ - فإن أكلا أخفياه ، لئلاّ يتعرّضا للتّهمة وعقوبة السّلطان ، ولهما الجماع بعد زوال العذر ، إذا لم تكن المرأة صائمةً ، بأن كانت صغيرةً ، أو طهرت من الحيض ذلك اليوم .
الثّالثة : أن يصبحا غير ناويين ، ويزول العذر قبل أن يأكلا ، ففي المذهب قولان :
لا يلزمهما الإمساك في المذهب ، لأنّ من أصبح تاركاً للنّيّة فقد أصبح مفطراً ، فكان كما لو أكل وقيل : يلزمهما الإمساك حرمةً لليوم .
وإذا أصبح يوم الشّكّ مفطراً غير صائم ، ثمّ ثبت أنّه من رمضان ، فقضاؤه واجب ، ويجب إمساكه على الأظهر ، وقيل : لا يلزمه ، لعذره .
أمّا لو بان أنّه من رمضان قبل الأكل : فقد حكى المتولّي في لزوم الإمساك القولين ، وجزم الماورديّ وجماعة بلزومه .
قال القليوبيّ وهو المعتمد .
وإذا بلغ صبيّ مفطراً أو أفاق مجنون ، أو أسلم كافر أثناء يوم من رمضان ففيه أوجه : أصحّها أنّه لا يلزمهم إمساك بقيّة النّهار لأنّه يلزمهم قضاؤه ، والثّاني : أنّه يلزمهم ، بناءً على لزوم القضاء .
والثّالث : يلزم الكافر دونهما ، لتقصيره .
والرّابع : يلزم الكافر والصّبيّ لتقصيرهما ، أو لأنّهما مأموران على الجملة - كما يقول الغزاليّ - دون المجنون .
قال المحلّيّ : لو بلغ الصّبيّ بالنّهار صائماً ، بأن نوى ليلاً ، وجب عليه إتمامه بلا قضاء ، وقيل : يستحبّ إتمامه ، ويلزمه القضاء ، لأنّه لم ينو الفرض .
والحائض والنّفساء إذا طهرتا في أثناء النّهار ، فالمذهب أنّه لا يلزمهما الإمساك ، ونقل الإمام الاتّفاق عليه .
وفي مذهب الحنابلة هذه القاعدة بفروعها :
من صار في أثناء يوم من رمضان أهلاً للوجوب لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة الوقت ، ولقيام البيّنة فيه بالرّؤية ، ولإدراكه جزءاً من وقته كالصّلاة .
وكذا كلّ من أفطر والصّوم يجب عليه ، فإنّه يلزمه الإمساك والقضاء ، كالفطر لغير عذر ، ومن أفطر يظنّ أنّ الفجر لم يطلع وكان قد طلع ، أو يظنّ أنّ الشّمس قد غابت ولم تغب ، أو النّاسي للنّيّة ، فكلّهم يلزمهم الإمساك ، قال ابن قدامة : لا نعلم بينهم فيه اختلافاً . أو تعمّدت مكلّفة الفطر ، ثمّ حاضت أو نفست ، أو تعمّد الفطر مقيم ثمّ سافر ، فكلّهم يلزمهم الإمساك والقضاء ، لما سبق .
فأمّا من يباح له الفطر في أوّل النّهار ظاهراً وباطناً كالحائض والنّفساء والمسافر والصّبيّ والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النّهار ، فطهرت الحائض والنّفساء، وأقام المسافر ، وبلغ الصّبيّ ، وأفاق المجنون ، وأسلم الكافر ، وصحّ المريض ، ففيهم روايتان :
إحداهما : يلزمهم الإمساك بقيّة اليوم ، لأنّه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصّيام ، فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك ، كقيام البيّنة بالرّؤية .
واقتصر على موجب هذه الرّواية البهوتيّ ، في كشّافه وروضه .
والأخرى : لا يلزمهم الإمساك ، لأنّه روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّه قال : من أكل أوّل النّهار ، فليأكل آخره .
ولأنّه أبيح له الفطر أوّل النّهار ظاهراً وباطناً ، فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النّهار ، كما لو دام العذر .
قال ابن قدامة : فإذا جامع أحد هؤلاء ، بعد زوال عذره ، انبنى على الرّوايتين ، في وجوب الإمساك :
1 - فإن قلنا : يلزمه الإمساك ، فحكمه حكم من قامت البيّنة بالرّؤية في حقّه إذا جامع .
2 - وإن قلنا : لا يلزمه الإمساك ، فلا شيء عليه .
وقد روي عن جابر بن يزيد : أنّه قدم من سفره فوجد امرأته قد طهرت من حيض ، فأصابها .
خامساً : العقوبة :
92 - يراد بالعقوبة هنا : الجزاء المترتّب على من أفطر عمداً في رمضان من غير عذر ، فهي من لوازم الإفطار وموجباته .
وفي عقوبة المفطر العامد ، من غير عذر ، خلاف وتفصيل :
فمذهب الحنفيّة أنّ تارك الصّوم كتارك الصّلاة ، إذا كان عمداً كسلاً ، فإنّه يحبس حتّى يصوم ، وقيل : يضرب في حبسه ، ولا يقتل إلاّ إذا جحد الصّوم أو الصّلاة ، أو استخفّ بأحدهما .
ونقل ابن عابدين عن الشرنبلالي ، أنّه لو تعمّد من لا عذر له الأكل جهاراً يقتل ، لأنّه مستهزئ بالدّين ، أو منكر لما ثبت منه بالضّرورة ، ولا خلاف في حلّ قتله ، والأمر به . وأطلق ابن جزيّ من المالكيّة في العقوبة قوله : هي للمنتهك لصوم رمضان .
وقال خليل : أدّب المفطر عمداً .
وكتب عليه الشّرّاح : أنّ من أفطر في أداء رمضان عمداً اختياراً بلا تأويل قريب ، يؤدّب بما يراه الحاكم : من ضرب أو سجن أو بهما معاً ، ثمّ إن كان فطره بما يوجب الحدّ ، كزنىً وشرب خمر ، حدّ مع الأدب ، وقدّم الأدب .
وإن كان فطره يوجب رجماً ، قدّم الأدب ، واستظهر المسناويّ سقوط الأدب بالرّجم ، لإتيان القتل على الجميع .
ومفهومه : أنّه إن كان الحدّ جلداً ، فإنّه يقدّم على الأدب - كما قال الدّسوقيّ - فإن جاء المفطر عمداً ، قبل الاطّلاع عليه ، حال كونه تائباً ، قبل الظّهور عليه ، فلا يؤدّب . والشّافعيّة نصّوا - بتفصيل - على أنّ من ترك صوم رمضان ، غير جاحد ، من غير عذر كمرض وسفر ، كأن قال : الصّوم واجب عليّ ، ولكن لا أصوم حبس ، ومنع من الطّعام والشّراب نهاراً ، ليحصل له صورة الصّوم بذلك .(/26)
قالوا : وأمّا من جحد وجوبه فهو كافر ، لأنّ وجوب صوم رمضان معلوم من أدلّة الدّين بالضّرورة : أي علماً صار كالضّروريّ في عدم خفائه على أحد ، وكونه ظاهراً بين المسلمين .
سادساً : قطع التّتابع :
93 - التّتابع هو : الموالاة بين أيّام الصّيام ، بحيث لا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفّارة .
تتأثّر مدّة الصّوم الّتي يشترط فيها التّتابع نصّاً ، بالفطر المتعمّد ، وهي - بعدّ الكاسانيّ - : صوم رمضان ، وصوم كفّارة القتل ، وكفّارة الظّهار ، والإفطار العامد في رمضان ، وصوم كفّارة اليمين - عند الحنفيّة .
صوم المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان :
94 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من اشتبهت عليه الشّهور لا يسقط عنه صوم رمضان ، بل يجب لبقاء التّكليف وتوجّه الخطاب .
فإذا أخبره الثّقات بدخول شهر الصّوم عن مشاهدة أو علم وجب عليه العمل بخبرهم ، وإن أخبروه عن اجتهاد منهم فلا يجب عليه العمل بذلك ، بل يجتهد بنفسه في معرفة الشّهر بما يغلب على ظنّه ، ويصوم مع النّيّة ولا يقلّد مجتهداً مثله .
فإن صام المحبوس المشتبه عليه بغير تحرّ ولا اجتهاد ووافق الوقت لم يجزئه ، وتلزمه إعادة الصّوم لتقصيره وتركه الاجتهاد الواجب باتّفاق الفقهاء ، وإن اجتهد وصام فلا يخلو الأمر من خمسة أحوال :
الحال الأولى : استمرار الإشكال وعدم انكشافه له ، بحيث لا يعلم أنّ صومه صادف رمضان أو تقدّم أو تأخّر ، فهذا يجزئه صومه ولا إعادة عليه في قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، والمعتمد عند المالكيّة ، لأنّه بذل وسعه ولا يكلّف بغير ذلك ، كما لو صلّى في يوم الغيم بالاجتهاد ، وقال ابن القاسم من المالكيّة : لا يجزيه الصّوم ، لاحتمال وقوعه قبل وقت رمضان .
الحال الثّانية : أن يوافق صوم المحبوس شهر رمضان فيجزيه ذلك عند جمهور الفقهاء ، قياساً على من اجتهد في القبلة ، ووافقها ، وقال بعض المالكيّة : لا يجزيه لقيامه على الشّكّ ، لكن المعتمد الأوّل .
الحال الثّالثة : إذا وافق صوم المحبوس ما بعد رمضان فيجزيه عند جماهير الفقهاء ، إلاّ بعض المالكيّة كما تقدّم آنفاً ، واختلف القائلون بالإجزاء : هل يكون صومه أداءً أو قضاءً ؟ وجهان ، وقالوا : إن وافق بعض صومه أيّاماً يحرم صومها كالعيدين والتّشريق يقضيها . الحال الرّابعة : وهي وجهان :
الوجه الأوّل : إذا وافق صومه ما قبل رمضان وتبيّن له ذلك ولمّا يأت رمضان لزمه صومه إذا جاء بلا خلاف ، لتمكّنه منه في وقته .
الوجه الثّاني : إذا وافق صومه ما قبل رمضان ولم يتبيّن له ذلك إلاّ بعد انقضائه ففي إجزائه قولان :
القول الأوّل : لا يجزيه عن رمضان بل يجب عليه قضاؤه ، وهذا مذهب المالكيّة والحنابلة ، والمعتمد عند الشّافعيّة .
القول الثّاني : يجزئه عن رمضان ، كما لو اشتبه على الحجّاج يوم عرفة فوقفوا قبله ، وهو قول بعض الشّافعيّة .
الحال الخامسة : أن يوافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض ، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه ، وما وافق قبله لم يجزئه ، ويراعى في ذلك أقوال الفقهاء المتقدّمة . والمحبوس إذا صام تطوّعاً أو نذراً فوافق رمضان لم يسقط عنه صومه في تلك السّنة ، لانعدام نيّة صوم الفريضة ، وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة .
وقال الحنفيّة : إنّ ذلك يجزيه ويسقط عنه الصّوم في تلك السّنة ، لأنّ شهر رمضان ظرف لا يسع غير صوم فريضة رمضان ، فلا يزاحمها التّطوّع والنّذر .
صوم المحبوس إذا اشتبه عليه نهار رمضان بليله :
95 - إذا لم يعرف الأسير أو المحبوس في رمضان النّهار من اللّيل ، واستمرّت عليه الظّلمة ، فقد قال النّوويّ : هذه مسألة مهمّة قلّ من ذكرها ، وفيها ثلاثة أوجه للصّواب : أحدها : يصوم ويقضي لأنّه عذر نادر .
الثّاني : لا يصوم ، لأنّ الجزم بالنّيّة لا يتحقّق مع جهالة الوقت .
الثّالث : يتحرّى ويصوم ولا يقضي إذا لم يظهر خطؤه فيما بعد ، وهذا هو الرّاجح .
ونقل النّوويّ وجوب القضاء على المحبوس الصّائم بالاجتهاد إذا صادف صومه اللّيل ثمّ عرف ذلك فيما بعد ، وقال : إنّ هذا ليس موضع خلاف بين العلماء ، لأنّ اللّيل ليس وقتاً للصّوم كيوم العيد .(/27)
صَابُون *
التّعريف :
1 - الصّابون : هو الّذي يغسل به الثّياب معروف .
ونقل عن ابن دريد وغيره : أنّه ليس من كلام العرب وهو مركّب من أحماض دهنيّة وبعض القلويّات ، وتستعمل رغوته في التّنظيف والغسل .
ما يتعلّق بالصّابون من أحكام :
أوّلاً : استعمال الصّابون المعمول من زيت نجس :
2 - يرى الحنفيّة في القول المختار عندهم : أنّ الصّابون المصنوع من الزّيت النّجس أو المتنجّس طاهر ، فيجوز استعماله والمعاملة به ، قال في الدّرّ : ويطهر زيت تنجّس بجعله صابوناً ، به يفتى للبلوى ، كتنّور رشّ بماء نجس لا بأس بالخبز فيه ، وكطين تنجّس فجعل منه كوز بعد جعله على النّار ، وقال ابن عابدين : هذه المسألة قد فرّعوها على قول محمّد ، وعليه الفتوى للبلوى ، واختاره أكثر المشايخ خلافاً لأبي يوسف .
والعلّة عند محمّد هي التّغيّر وانقلاب الحقيقة ، ومقتضاه عدم اختصاص ذلك الحكم بالصّابون ، فيدخل فيه كلّ ما كان فيه تغيّر وانقلاب حقيقة ومثله ما في الفتح لابن الهمام .
وأجاز الشّافعيّة كذلك الانتفاع بالصّابون المعمول من زيت نجس ، لكنّهم لم يصرّحوا بطهارته ، فقد جاء في أسنى المطالب نقلاً عن المجموع : يجوز اتّخاذ الصّابون من الزّيت النّجس قال الرّمليّ : ويجوز استعماله في بدنه وثوبه ، كما صرّحوا بذلك .
ثمّ قال : ثمّ يطهّرهما ويفهم منه : أنّه ما زال نجساً ، وذلك لأنّ الأصل عندهم أنّه لا يطهر من نجس العين إلاّ شيئان : خمر تخلّلت ، وجلد نجس بالموت إذا دبغ .
أمّا المالكيّة : فقد فرّقوا بين النّجس والمتنجّس فقالوا : بجواز الانتفاع بمتنجّس ، لا بنجس في غير مسجد وأكل آدميّ ، فيستصبح عندهم بالزّيت المتنجّس في غير المسجد ، ويعمل منه الصّابون ، وينتفع به في سائر وجوه الانتفاع .
والظّاهر من كلامهم : عدم جواز الانتفاع بالصّابون المعمول من النّجس كشحم الميتة ، وإن صرّح بعضهم بجواز الاستصباح بشحم الميتة إذا تحفّظ منه .
وقال الحنابلة : لا تطهر نجاسة باستحالة ولا بنار ، فالصّابون المعمول من زيت نجس نجس ، ودخان النّجاسة وغبارها نجس . وهذا ظاهر المذهب عندهم .
قال ابن قدامة : ويستخرج أن تطهر النّجاسات بالاستحالة قياساً على الخمر إذا انقلبت ، وجلود الميتة إذا دبغت .
ثانياً : الوضوء بماء الصّابون :
3 - ذهب الحنفيّة : إلى أنّ ماء الصّابون إذا ذهبت رقّته وصار ثخيناً لا يجوز التّوضّؤ به ، وإذا بقيت رقّته ولطافته جاز قال ابن الهمام في تعليل الجواز : المخالط المغلوب لا يسلب الإطلاق ، فوجب ترتيب حكم المطلق على الماء الّذي هو كذلك ، أي : جواز الوضوء به .
وقد » اغتسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من قصعة فيها أثر العجين « ، والماء بذلك يتغيّر ، ولم يعتبر المغلوبيّة .
والأصل عند الشّافعيّة : أنّه إذا اختلط بالماء شيء يمكن حفظه منه - غير التّراب والملح - كالزّعفران ، والتّمر ، والدّقيق ، فتغيّر أحد أوصافه ، فإنّه لا يجوز الوضوء به ، لأنّه زال عنه إطلاق اسم الماء . لكنّهم ذكروا في صفة التّغيّر : أنّه إن كان يسيراً ، بأن وقع فيه قليل من زعفران ، فاصفرّ قليلاً أو صابون أو دقيق فابيضّ قليلاً ، بحيث لا يضاف إليه فوجهان : الصّحيح منهما : أنّه طهور لبقاء اسم الماء ، قال النّوويّ : وهو المختار .
ومثله ما عند الحنابلة حيث قالوا : وما سقط في الماء من الباقلاّ ، والحمّص ، والورد ، والزّعفران وغيره من الطّاهرات ، وكان يسيراً ، فلم يوجد له طعم ولا لون ولا رائحة كثيرة حتّى ينسب الماء إليه توضّأ به .
وهذا إذا كان الصّابون معمولاً من زيت طاهر . أمّا إذا كان مصنوعاً من غير طاهر ، فكذلك الحكم عند من يقول بطهارته كالحنفيّة ومن معهم ، أمّا من يقول : إنّ النّجس لا يطهر باستحالته فلا يجوز التّوضّؤ به . ( ر : ف 2 ) .
والظّاهر عند المالكيّة : أنّهم لا يجوّزون التّوضّؤ بماء الصّابون مطلقاً ، سواء كان طاهراً أو نجساً . حيث قالوا : ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه شيء طاهر ، فذلك الماء طاهر في نفسه غير مطهّر لغيره ، فلا يتوضّأ به ، ويستعمل في العادات .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( طهارة ومياه ) .
ثالثاً : استعمال المحرم للصّابون :
4 - صرّح الحنفيّة : بأنّه لا بأس باستعمال المحرم الصّابون ، قال ابن عابدين نقلاً عن الفتح : لو غسل بالصّابون والحرض لا رواية فيه ، وقالوا : لا شيء فيه ، لأنّه ليس بطيب ولا يقتل - أي الهوامّ - ثمّ قال : ومقتضى التّعليل عدم وجوب الدّم والصّدقة اتّفاقاً ، ولذا قال في الظّهيريّة : وأجمعوا أنّه لا شيء عليه .
وهذا هو المفهوم من كلام سائر الفقهاء في الصّابون العاديّ ، الّذي لا يعتبر طيباً ، لأنّ المحرم إنّما يمنع من استعمال الطّيب ، ولم نجد لهم نصّاً في الموضوع .
وينظر في مصطلحي : ( تطيّب وإحرام ) .(/1)
صَاع *
التّعريف :
1 - الصّاع والصّواع - بالكسر وبالضّمّ - لغةً : مكيال يكال به ، وهو أربعة أمداد .
وقال الدّاوديّ : معياره لا يختلف أربع حفنات بكفّي الرّجل الّذي ليس بعظيم الكفّين ولا صغيرها . وقيل : هو إناء يشرب فيه .
ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المدّ :
2 - المُدّ بالضّمّ : كيل ، وهو رطلان عند أهل العراق ، ورطل وثلث عند أهل الحجاز .
وقال الفيروز آبادي : قيل : المدّ هو ملء كفّي الإنسان المتوسّط إذا ملأهما ومدّ يده بهما ، وبه سمّي مدّاً .
وفي الاصطلاح : اتّفق الفقهاء على أنّ المدّ يساوي ربع الصّاع ، فالمدّ من أجزاء الصّاع ، كما اتّفقوا على أنّ المدّ والصّاع من وحدات الأكيال الّتي تعلّقت بها كثير من الأحكام الفقهيّة المشهورة .
ب - الوسق :
3 - الوَسق والوِسق : مكيلة معلومة ، وهو ستّون صاعاً بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فالوسق على هذا الحساب مائة وستّون منّاً .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ج - المنّ :
4 - المنّ بالفتح والتّشديد معيار قديم ، كان يكال به أو يوزن ، وقدره إذ ذاك رطلان بغداديّان ، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
د - الفرق :
5 - الفرق بفتحتين أو بسكون الرّاء : مكيال معروف بالمدينة وهو ستّة عشر رطلاً ، والجمع فرقان .
وفي الاصطلاح : قال أبو عبيد : لا اختلاف بين النّاس أعلمه في ذلك أنّ الفرق ثلاثة آصع ، وهي ستّة عشر رطلاً
هـ – الرّطل :
6 – الرّطل : معيار يوزن به ، وهو بالبغداديّ اثنتا عشرة أوقيّةً ، فيساوي مثقالاً .
قال الرّافعيّ : قال الفقهاء : وإذا أطلق الرّطل في الفروع ، فالمراد به رطل بغداديّ ، والرّطل مكيال أيضاً .
الأحكام المتعلّقة بالصّاع :
مقدار الصّاع :
7 - اختلف الفقهاء في مقدار الصّاع ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّاع : خمسة أرطال وثلث بالعراقيّ ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لكعب بن عجرة : » تصدّق بفرق بين ستّة مساكين « قال أبو عبيد : ولا اختلاف بين النّاس أعلمه في أنّ الفرق ثلاثة آصع ، والفرق ستّة عشر رطلاً ، فثبت أنّ الصّاع خمسة أرطال وثلث .
وروي : أنّ أبا يوسف حينما دخل المدينة سألهم عن الصّاع ، فقالوا : خمسة أرطال وثلث ، فطالبهم بالحجّة فقالوا : غداً ، فجاء من الغد سبعون شيخاً كلّ واحد منهم أخذ صاعاً تحت ردائه فقال : صاعي ورثته عن أبي ، وورثه أبي عن جدّي ، حتّى انتهوا به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
والرّطل العراقيّ عندهم : مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم .
وقال أبو حنيفة : الصّاع ثمانية أرطال لأنّ أنس بن مالك قال : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضّأ بالمدّ وهو رطلان ، ويغتسل بالصّاع « ، فعلم من حديث أنس : أنّ مقدار المدّ رطلان . فإذا ثبت أنّ المدّ رطلان : يلزم أن يكون صاع رسول اللّه أربعة أمداد ، وهي ثمانية أرطال لأنّ المدّ ربع صاع باتّفاق .
والرّطل العراقيّ عند أبي حنيفة : عشرون أستاراً ، والأستار : ستّة دراهم ونصف
الاغتسال بالصّاع :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاغتسال بالصّاع مجزئ ، إذا حصل الإسباغ .
قال ابن قدامة : ليس في حصول الإجزاء في المدّ في الوضوء ، والصّاع في الغسل خلاف نعلمه فإن أسبغ بدون الصّاع في الغسل أجزأه ذلك ، لأنّ اللّه تعالى أمر بالغسل وقد فعله .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ : الاغتسال بالصّاع سنّة ، قال الشّافعيّة : يسنّ أن لا ينقص ماء الغسل عن صاع تقريباً ، وهو أربعة أمداد فيمن اعتدل جسده ، لأنّه صلى الله عليه وسلم كان يوضّؤه المدّ ، ويغسّله الصّاع .
أمّا من لم يعتدل جسده فيختلف زيادةً ونقصاً .
فعن أنس - رضي الله عنه - : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يغسّل - أو كان يغتسل - بالصّاع إلى خمسة أمداد ، ويتوضّأ بالمدّ « .
وورد : » أنّ قوماً سألوا جابراً عن الغسل ، فقال : يكفيك صاع ، فقال رجل : ما يكفيني . فقال جابر : كان يكفي من هو أوفى شعراً منك وخير منك ، يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم « .
ولم ينصّ الحنفيّة والمالكيّة على سنّيّة الاغتسال بالصّاع .
صدقة الفطر :
9 - اختلف الفقهاء في تقدير صدقة الفطر بالصّاع ، فقال جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ الواجب في صدقة الفطر - عن كلّ إنسان - صاع من البرّ أو الشّعير أو دقيقهما أو التّمر ، أو الزّبيب ، فهم يرون عدم التّفريق بين جميع الأصناف الّتي يخرج منها زكاة الفطر ، لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على النّاس صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير على كلّ حرّ وعبد ، ذكر وأنثى من المسلمين « .
ولما روى أبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال : » كنّا نخرج إذ كان فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ، عن كلّ صغير وكبير ، حرّ أو مملوك صاعاً من طعام ، أو صاعاً من أقط ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من زبيب « .
وقد نقل عن أبي الفرج الدّارميّ والبندنيجيّ : أنّ الواجب إخراج صاع معاير بالصّاع الّذي كان يخرج به زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وذلك الصّاع موجود ، ومن لم يجده وجب عليه الاستظهار بأن يخرج ما يتيقّن أنّه لا ينقصه عنه .(/1)
وقال الحنفيّة : إنّ الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من حنطة وسويقه ، أو صاع من شعير أو تمر ، لما روى ثعلبة بن صعير العذريّ أنّه قال : خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: » أدّوا عن كلّ حرّ وعبد نصف صاع من برّ أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير « . وهو ما ذهب إليه سعيد بن المسيّب ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعمر بن عبد العزيز ، وعروة بن الزّبير ، وسعيد بن جبير .
وذكر الشّيخ أبو منصور الماتريديّ : أنّ عشرةً من الصّحابة - رضي الله عنهم - منهم أبو بكر، وعمر ، وعثمان ، وعليّ - رضي الله عنهم - رووا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر نصف صاع من برّ ، واحتجّ بروايتهم .
واختلفت الرّواية عن أبي حنيفة في الزّبيب ، فذكر في الجامع الصّغير : نصف صاع ، لأنّ قيمة الزّبيب تزيد عن قيمة الحنطة في العادة ، ثمّ اكتفى من الحنطة بنصف صاع ، فمن الزّبيب أولى. وروى الحسن ، وأسد بن عمرو ، عن أبي حنيفة : صاعاً من زبيب ، وهو قول أبي يوسف ومحمّد ، ووجه هذه الرّواية ما روي عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال : » كنّا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر ، أو صاعًا من زبيب « .
ولأنّ الزّبيب لا يكون مثل الحنطة في التّغذّي ، بل يكون أنقص منها ، كالشّعير والتّمر ، فكان التّقدير فيه بالصّاع ، كما في الشّعير والتّمر .
ويجوز عند الحنفيّة : أداء صدقة الفطر في الفطرة الواحدة من جنسين أو أكثر ، فلو أدّى نصف صاع شعير ، ونصف صاع تمر ، أو نصف صاع شعير وربع صاع من حنطة جاز .
وهناك خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( زكاة الفطر ) .
وقال الشّافعيّة : لا يجزئ في الفطرة الواحدة صاع من جنسين ، سواء كان الجنسان متماثلين أو أحدهما ممّا يجب والآخر أعلى منه ، كما لا يجزئ في كفّارة اليمين أن يكسو خمسةً ويطعم خمسةً ، لأنّه مأمور بصاع برّ ، أو شعير ، أو غيرهما .
وقال الحنابلة : لو جمع صاعاً من التّمر ، والزّبيب ، والبرّ ، والشّعير ، والأقط ، وأخرجه أجزأه كما لو كان خالصاً من أحدهما .
ولم نعثر للمالكيّة على نصّ في ذلك .(/2)
صَدَقة *
التّعريف :
1 - الصّدقة بفتح الدّال لغةً : ما يعطى على وجه التّقرّب إلى اللّه تعالى لا على وجه المكرمة . ويشمل هذا المعنى الزّكاة وصدقة التّطوّع .
وفي الاصطلاح : تمليك في الحياة بغير عوض على وجه القربة إلى اللّه تعالى ، وهي تستعمل بالمعنى اللّغويّ الشّامل ، فيقال للزّكاة : صدقة ، كما ورد في القرآن الكريم : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } الآية .
ويقال للتّطوّع : صدقة كما ورد في كلام الفقهاء وتحلّ لغنيّ ، أي صدقة التّطوّع .
يقول الرّاغب الأصفهانيّ : الصّدقة : ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزّكاة . لكنّ الصّدقة في الأصل تقال : للمتطوّع به ، والزّكاة تقال : للواجب .
والغالب عند الفقهاء : استعمال هذه الكلمة في صدقة التّطوّع خاصّةً .
يقول الشّربينيّ : صدقة التّطوّع هي المرادة عند الإطلاق غالباً ويفهم هذا من كلام سائر الفقهاء أيضاً ، يقول الحطّاب : الهبة إن تمحّضت لثواب الآخرة فهي الصّدقة ، ومثله ما قاله البعليّ الحنبليّ في المطلع على أبواب المقنع .
وفي وجه تسميتها صدقةً يقول القليوبيّ : سمّيت بذلك لإشعارها بصدق نيّة باذلها ، وهذا المعنى الأخير أي صدقة التّطوّع هو المقصود في هذا البحث عند الإطلاق .
2 - وقد تطلق الصّدقة على الوقف ، ومن ذلك ما رواه البخاريّ عن ابن عمر - رضي الله عنهما : من حديث طويل أنّ عمر تصدّق بمال له على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان يقال له : ثمغ ... فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » تصدّق بأصله ، لا يباع ولا يوهب ، ولا يورث ، ولكن ينفق ثمره « .
3 - وقد تطلق الصّدقة : على كلّ نوع من المعروف ، ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » كلّ معروف صدقة « .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الهبة ، الهديّة ، العطيّة :
4 - الهبة ، والهديّة ، والعطيّة ، كلّ منها تمليك بلا عوض ، إلاّ أنّه إذا كان هذا التّمليك لثواب الآخرة فصدقة ، وإذا كان للمواصلة والوداد فهبة ، وإن قصد به الإكرام فهديّة . فكلّ واحد من هذه الألفاظ قسيم للآخر . والعطيّة شاملة للجميع .
ب - العاريّة :
5 - العاريّة : إباحة أو تمليك منفعة عين مع بقاء العين لصاحبها بشروط مخصوصة .
وعلى هذا فكلّ من الصّدقة والعاريّة تبرّع لكنّ الصّدقة تمليك عين ، والعاريّة إباحة أو تمليك منفعة ، على خلاف وتفصيل عند الفقهاء ، والصّدقة يمتنع الرّجوع فيها . كما سيأتي . والعاريّة لا بدّ فيها من ردّ العين لمالكها بعد استيفاء منافعها ، كما هو مفصّل في مصطلح : ( إعارة ) .
حكمة مشروعيّة الصّدقة وفضلها :
6 - إنّ أداء الصّدقة من باب إعانة الضّعيف ، وإغاثة اللّهيف ، وإقدار العاجز ، وتقويته على أداء ما افترض اللّه عليه من التّوحيد والعبادات .
والصّدقة شكر للّه تعالى على نعمه ، وهي دليل لصحّة إيمان مؤدّيها وتصديقه ، ولهذا سمّيت صدقةً .
وقد ورد في فضل الصّدقة أحاديث منها :
أ - ما رواه أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه .. « فذكر منهم : » رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه « ب - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ولا يقبل اللّه إلاّ الطّيّب ، إلاّ أخذها الرّحمن بيمينه ، وإن كانت تمرةً تربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله «.
أقسام الصّدقة :
7 - الصّدقة أنواع :
أ - صدقة مفروضة من جهة الشّرع على الأموال ، وهي زكاة المال ، وتنظر أحكامها في مصطلح : ( زكاة ) .
ب - صدقة على الأبدان ، وتنظر أحكامها في مصطلح : ( زكاة الفطر ) .
ج - صدقة يفرضها الشّخص على نفسه ، وهي الصّدقة الواجبة بالنّذر ، وتنظر أحكامها في: ( نذر ) .
د - الصّدقات المفروضة حقّاً للّه تعالى ، كالفدية ، والكفّارة ، وتنظر أحكامها في مصطلح : ( فدية وكفّارة ) .
هـ - صدقة التّطوّع ، ونبيّن أحكامها فيما يلي :
الحكم التّكليفيّ :
8 - الصّدقة مسنونة ، ورد النّدب إليها في كثير من آيات القرآن الكريم ، وكثير من الأحاديث النّبويّة الشّريفة .
أمّا من القرآن الكريم فقوله تعالى : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
يقول ابن العربيّ : جاء هذا الكلام في معرض النّدب والتّحضيض على إنفاق المال في ذات اللّه تعالى على الفقراء والمحتاجين ، وفي سبيل اللّه بنصرة الدّين .
وقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } .
وأمّا من الأحاديث فقد روي من حديث عبد اللّه بن مسعود : » أنّ أبا الدّحداح لمّا جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : يا نبيّ اللّه ، ألا أرى ربّنا يستقرض ممّا أعطانا لأنفسنا ، ولي أرضان : أرض بالعالية وأرض بالسّافلة ، وقد جعلت خيرهما صدقةً . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كم عَذْق مذلّل لأبي الدّحداح في الجنّة « .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : » أيّما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه اللّه يوم القيامة من ثمار الجنّة ، وأيّما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه اللّه يوم القيامة من الرّحيق المختوم ، وأيّما مؤمن كسا مؤمناً على عري ، كساه اللّه من خضر الجنّة « .(/1)
قال النّوويّ : الصّدقة مستحبّة ، وفي شهر رمضان آكد ، وكذا عند الأمور المهمّة ، وعند الكسوف ، وعند المرض ، والسّفر ، وبمكّة ، والمدينة ، وفي الغزو والحجّ ، والأوقات الفاضلة، كعشر ذي الحجّة ، وأيّام العيد ، ومثل ذلك ما قاله البهوتيّ وغيره من الفقهاء .
ما يتعلّق بالصّدقة من أحكام :
9 - الكلام عن الصّدقة يستوجب التّطرّق للأمور التّالية :
أ - المتصدّق : وهو ، من يدفع الصّدقة ويخرجها من ماله .
ب - المتصدّق عليه : وهو من يأخذ الصّدقة من الغير .
ج - المتصدّق به : وهو المال الّذي يتطوّع بالتّصدّق به .
د - النّيّة : وتفصيل ذلك فيما يلي :
أوّلاً : المتصدّق :
10 - صدقة التّطوّع : تبرّع ، فيشترط فيها :
أ - أن يكون المتصدّق من أهل التّبرّع ، أي : عاقلاً بالغاً رشيداً ، ذا ولاية في التّصرّف .
وعلى ذلك فلا تصحّ صدقة التّطوّع من الصّغير ، والمجنون ، والمحجور عليه بسفه أو دين أو غيرهما من أسباب الحجر ، أمّا الصّغير غير المميّز فإنّه ليس من أهل التّصرّف أصلاً ، كما صرّح به الفقهاء والأصوليّون .
وأمّا الصّغير المميّز : فإنّ الصّدقة منه تعتبر من التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً ، وقد ذهب الفقهاء إلى أنّ التّصرّفات الضّارّة ضرراً دنيويّاً ، والّتي يترتّب عليها خروج شيء من ملكه من غير مقابل ، كالهبة ، والصّدقة ، والوقف ، وسائر التّبرّعات لا تصحّ ، بل تقع باطلةً ، حتّى لو أذن الوليّ أو الوصيّ ، لأنّ إجازتهما في التّصرّفات الضّارّة لاغية ، وقد استثنى المالكيّة ، والحنابلة ، وصيّة الصّبيّ المميّز الّذي يعقل الوصيّة .
وأمّا المحجور عليهم للسّفه ، أو الإفلاس ، أو غيرهما فهم ممنوعون من التّصرّف فلا تصحّ منهم الصّدقة وهذا في الجملة ، وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( حجر ) .
وكما لا تصحّ صدقة التّطوّع من الصّبيّ ، والمجنون ، والمحجور عليه ، لا تصحّ الصّدقة من أموالهم من قبل أوليائهم نيابةً عنهم ، لأنّهم لا يملكون التّبرّع من أموال من تحت ولايتهم .
ب - أن يكون مالكاً للمال المتصدّق به ، أو وكيلاً عنه ، فلا تصحّ الصّدقة من مال الغير بلا وكالة . ومن فعل ذلك يضمن ما تصدّق به ، لأنّه ضيّع مال الغير على صاحبه بغير إذنه ، يقول التّمرتاشيّ : شرائط صحّة الهبة في الواهب : العقل ، والبلوغ ، والملك .
ثمّ قال : والصّدقة كالهبة بجامع التّبرّع ولأنّ الصّدقة من القربات فتشترط فيها النّيّة ، وهي منتفية فيما إذا تصدّق من مال الغير دون إذنه .
صدقة المرأة من مال زوجها :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمرأة أن تتصدّق من بيت زوجها للسّائل وغيره بما أذن الزّوج صريحاً .
كما يجوز التّصدّق من مال الزّوج بما لم يأذن فيه ، ولم ينه عنه إذا كان يسيراً عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة - .
ويستدلّ الفقهاء على الجواز بما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة ، كان لها أجرها وله مثله بما اكتسب ، ولها بما أنفقت ، وللخازن مثل ذلك ، من غير أن ينتقص من أجورهم شيئاً « ولم يذكر إذناً .
وعن أسماء - رضي الله عنها - أنّها جاءت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبيّ اللّه ، ليس لي شيء إلاّ ما أدخل عليّ الزّبير فهل عليّ جناح أن أرضخ ممّا يدخل عليّ ؟ فقال : » ارضخي ما استطعت ، ولا توعي فيوعي اللّه عليك « .
ولأنّ الشّيء اليسير غير ممنوع عنه في العادة كما علّله المرغينانيّ والنّوويّ وابن العربيّ .
قال في الهداية : يجوز للمرأة أن تتصدّق من منزل زوجها بالشّيء اليسير ، كالرّغيف ونحوه ، لأنّ ذلك غير ممنوع عنه في العادة ومثله ما ذكره الحصكفيّ .
ويقول النّوويّ في شرحه لصحيح مسلم : الإذن ضربان :
أحدهما : الإذن الصّريح في النّفقة والصّدقة ، والثّاني : الإذن المفهوم من اطّراد العرف والعادة ، كإعطاء السّائل كسرة ونحوها ممّا جرت العادة به ، واطّرد العرف فيه ، وعلم بالعرف رضا الزّوج والمالك به ، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلّم .
ومثله ما حرّره ابن العربيّ حيث قال : ويحتمل عندي أن يكون محمولاً على العادة . وأنّها إذا علمت منه ، أنّه لا يكره العطاء والصّدقة فعلت من ذلك ما لم يجحف ، وعلى ذلك عادة النّاس ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : » غير مفسدة « .
ويقول ابن قدامة : الإذن العرفيّ يقوم مقام الإذن الحقيقيّ ، فصار كأنّه قال لها : افعلي .
هذا وفي الرّواية الثّانية عند الحنابلة : لا يجوز للمرأة التّصدّق من مال زوجها ولو كان يسيراً ، لما روى أبو أمامة الباهليّ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلاّ بإذن زوجها ، قيل : يا رسول اللّه : ولا الطّعام ؟ قال : ذاك أفضل أموالنا « .
قال ابن قدامة : والأوّل - أي الجواز بالشّيء اليسير - أصحّ ، لأنّ الأحاديث فيها خاصّة صحيحة ، والخاصّ يقدّم على العامّ .
أمّا إذا منعها من الصّدقة من ماله ، ولم يكن العرف جارياً بذلك ، أو اضطرب العرف ، أو شكّت في رضاه ، أو كان شخصاً يشحّ بذلك ، لم يجز للمرأة وغيرها التّصدّق من ماله إلاّ بصريح إذنه، كما حقّقه النّوويّ وغيره .(/2)
12 - وما ذكر من حكم تصدّق المرأة من مال زوجها يطبّق على تصدّق الخازن من مال المالك، فقد ورد في حديث التّرمذيّ : » وللخازن مثل ذلك « أي : من الأجر ، أي : إنّهما سواء في المثوبة ، كلّ واحد منهما له أجر كامل ، كما قال ابن العربيّ ، أو معناه المشاركة في الأجر مطلقاً ، لأنّ المشارك في الطّاعة مشارك في الأجر ، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر ، كما حقّقه النّوويّ .
تصدّق الزّوجة من مالها بأكثر من الثّلث :
13 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة - إلى أنّ المرأة البالغة الرّشيدة لها حقّ التّصرّف في مالها ، بالتّبرّع ، أو المعاوضة ، سواء أكانت متزوّجةً ، أم غير متزوّجة .
وعلى ذلك فالزّوجة لا تحتاج إلى إذن زوجها في التّصدّق من مالها ولو كان بأكثر من الثّلث والدّليل على ذلك ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال للنّساء : » تصدّقن ولو من حليّكنّ ، فتصدّقن من حليّهنّ « ولم يسأل ولم يستفصل ، فلو كان لا ينفذ تصرّفهنّ بغير إذن أزواجهنّ لما أمرهنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصّدقة ، ولا محالة أنّه كان فيهنّ من لها زوج ومن لا زوج لها ، كما حرّره السّبكيّ .
ولأنّ المرأة من أهل التّصرّف ، ولا حقّ لزوجها في مالها ، فلم يملك الحجر عليها في التّصرّف بجميعه ، كما علّله ابن قدامة .
وقال المالكيّة : وهو رواية عند الحنابلة : يحجر على الزّوجة الحرّة الرّشيدة لزوجها البالغ الرّشيد في تبرّع زاد على الثّلث ، وذلك لما ورد أنّ امرأة كعب بن مالك ، أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحليّ لها ، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لا يجوز للمرأة عطيّة حتّى يأذن زوجها ، فهل استأذنت كعباً ؟ فقالت : نعم ، فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى كعب ، فقال : هل أذنت لها أن تتصدّق بحليّها ؟ قال : نعم . فقبله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « .
ولأنّ المقصود من مالها التّجمّل به لزوجها ، والمال مقصود في زواجها ، حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها « .
والعادة أنّ الزّوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسّط فيه ، وينتفع به ، فتعلّق حقّ الزّوج في مالها ومحلّ الحجر عليها في تبرّعها بزائد عن الثّلث من مالها إذا كان التّبرّع لغير زوجها . وأمّا له فلها أن تهب جميع مالها له ، ولا اعتراض عليها في ذلك لأحد .
هذا ، واتّفق الفقهاء على أنّ المريض مرض الموت ليس له أن يتصدّق من ماله بأكثر من الثّلث ( ر : مرض الموت ) .
ثانياً : المتصدّق عليه :
14 - لا يشترط في المتصدّق عليه ما يشترط في المتصدّق ، من العقل ، والبلوغ ، والرّشد ، وأهليّة التّبرّع ، فيصحّ التّصدّق على الصّغير ، والمجنون ، والمحجور عليه بسفه ، أو إفلاس أو غيرهما ، لأنّ الصّدقة عليهم نفع محض لهم ، فلا تحتاج إلى إذن الأولياء .
وحيث إنّ الصّدقة تمليك بلا عوض لثواب الآخرة ، فهناك أشخاص لا تصحّ عليهم الصّدقة ، وآخرون تصحّ عليهم ، وقد فصّل الفقهاء هذا الموضوع كالتّالي :
أ - الصّدقة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
15 - يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة : أنّ صدقة التّطوّع كانت محرّمةً على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل صدقة الفريضة المتّفق على حرمتها ، وذلك صيانةً لمنصبه الشّريف وقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه ، فإن قيل : صدقة قال لأصحابه : كلوا ، ولم يأكل ، وإن قيل له : هديّة ضرب بيده فأكل معهم « .
وعلى ذلك : فالصّدقة بالمعنى المعروف كانت محرّمةً على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد أبدل اللّه تعالى رسوله بها الفيء الّذي يؤخذ على سبيل الغلبة والقهر المبنيّ على عزّ الآخذ ، وذلّ المأخوذ منه .
ب - الصّدقة على آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
16 - اتّفق الفقهاء : على عدم جواز صدقة الفريضة على آل محمّد صلى الله عليه وسلم ، لقوله عليه الصلاة والسلام : » إنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس « .
أمّا صدقة التّطوّع ، فالجمهور على جوازها عليهم . والبعض يقولون : بعدم الجواز .
وتفصيل الموضوع ينظر في مصطلح : ( آل ف 4 و 10 ) .
ج - التّصدّق على ذوي القرابة والأزواج :
17 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّصدّق على الأقرباء ، والأزواج صدقة التّطوّع ، بل صرّح بعضهم : بأنّه يسنّ التّصدّق عليهم ، ولهم أخذها ، ولو كانوا ممّن تجب نفقته على المتصدّق ، فعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » إذا أنفق الرّجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة « .
وقال صلى الله عليه وسلم : » الصّدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرّحم ثنتان : صدقة وصلة « .
قال الشّافعيّة : دفع الصّدقة لقريب أقرب فأقرب رحماً ولو كان ممّن تجب عليه نفقته أفضل من دفعها لغير القريب ، وللقريب غير الأقرب للحديث المتقدّم ، ولخبر الصّحيحين : » أنّ امرأتين أتيتا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالتا لبلال : سل لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل يجزئ أن نتصدّق على أزواجنا ويتامى في حجورنا ؟ فقال : نعم لهما أجران : أجر القرابة ، وأجر الصّدقة « .(/3)
هذا وقد رتّب الشّافعيّة من يفضّل عليهم الصّدقة فقالوا : هي في الأقرب فالأقرب ، وفي الأشدّ منهم عداوةً أفضل منها في غيره ، وذلك ليتألّف قلبه ، ولما فيه من مجانبة الرّياء وكسر النّفس، وألحق بهم الأزواج من الذّكور والإناث ، ثمّ الرّحم غير المحرم ، كأولاد العمّ والخال .
ثمّ في الأقرب فالأقرب رضاعاً ، ثمّ مصاهرةً ، ثمّ ولاءً ، ثمّ جواراً ، وقدّم الجار الأجنبيّ على قريب بعيد عن دار المتصدّق ، بحيث لا تنقل إليه الزّكاة ، ولو كان ببادية .
ومثله ما عند الحنابلة .
د - التّصدّق على الفقراء والأغنياء :
18 - الأصل أنّ الصّدقة تعطى للفقراء والمحتاجين ، وهذا هو الأفضل ، كما صرّح به الفقهاء . وذلك لقوله تعالى : { أَوْمِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } .
واتّفقوا على أنّها تحلّ للغنيّ ، لأنّ صدقة التّطوّع كالهبة فتصحّ للغنيّ والفقير .
قال السّرخسيّ : ثمّ التّصدّق على الغنيّ يكون قربةً يستحقّ بها الثّواب ، فقد يكون غنيّاً يملك النّصاب ، وله عيال كثيرة ، والنّاس يتصدّقون على مثل هذا لنيل الثّواب .
لكن يستحبّ للغنيّ التّنزّه عنها ، ويكره له التّعرّض لأخذها ، لأنّ اللّه تعالى مدح المتعفّفين عن السّؤال مع وجود حاجتهم ، فقال : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ } .
ويكره له أخذها وإن لم يتعرّض لها .
ويحرم عليه أخذها إن أظهر الفاقة ، كما يحرم أن يسأل ، ويستوي في ذلك الغنيّ بالمال ، والغنيّ بالكسب ، لحديث : » من سأل النّاس أموالهم تكثّراً فإنّما يسأل جمراً ، فليستقلّ أو ليستكثر « أي : يعذّب به يوم القيامة .
لكن نقل الرّمليّ عن ابن عبد السّلام أنّ الصّحيح من مذهب الشّافعيّ : جواز طلبها للغنيّ ، ويحمل الذّمّ الوارد في الأخبار على الطّلب من الزّكاة الواجبة .
هـ – الصّدقة على الكافر :
19 – اختلف الفقهاء في جواز صدقة التّطوّع على الكافر ، وسبب الخلاف : هو أنّ الصّدقة تمليك لأجل الثّواب ، وهل يثاب الشّخص بالإنفاق على الكفّار ؟ .
فقال الحنابلة : وهو المشهور عند الشّافعيّة ، والمنقول عن محمّد في السّير الكبير : إنّه يجوز دفع صدقة التّطوّع للكفّار مطلقاً ، سواء أكانوا من أهل الذّمّة أم من الحربيّين ؟ مستأمنين أم غير مستأمنين ، وذلك لعموم قوله تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } . قال ابن قدامة : ولم يكن الأسير يومئذ إلاّ كافراً .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : » في كلّ كبد رطبة أجر « .
وقد ورد في حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت : » قدمت عليّ أمّي وهي مشركة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قلت : إنّ أمّي قدمت وهي راغبة ، أفأصل أمّي ؟ قال : نعم ، صلي أمّك « .
ولأنّ صلة الرّحم محمودة في كلّ دين ، والإهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق .
وفرّق الحصكفيّ في الدّرّ بين الذّمّيّ وغيره فقال : وجاز دفع غير الزّكاة وغير العشر والخراج إلى الذّمّيّ - ولو واجباً - كنذر وكفّارة وفطرة خلافاً لأبي يوسف .
وأمّا الحربيّ ولو مستأمناً فجميع الصّدقات لا تجوز له .
ويقرب منه ما ذكره الشّربينيّ من الشّافعيّة حيث قال : قضيّة إطلاق حلّ الصّدقة للكافر ، أنّه لا فرق بين الحربيّ وغيره ، وهو ما في البيان عن الصّيمريّ والأوجه ما قاله الأذرعيّ من أنّ : هذا فيمن له عهد ، أو ذمّة أو قرابة أو يرجى إسلامه ، أو كان بأيدينا بأسر ونحوه . فإن كان حربيّاً ليس فيه شيء ممّا ذكر فلا .
ثالثاً : المتصدّق به :
20 - المتصدّق به هو : المال الّذي يعطى للفقير وذي الحاجة ، وحيث إنّ الصّدقة تمليك بلا عوض لأجل ثواب الآخرة ، فينبغي في المال المتصدّق به أن يكون من الحلال الطّيّب ، ولا يكون من الحرام أو ممّا فيه شبهة ، كما ينبغي أن يكون المتصدّق به مالاً جيّداً ، لا رديئاً ، حتّى يحصل على خير البرّ وجزيل الثّواب .
وقد بحث الفقهاء هذه الأحكام ، وحكم التّصدّق من الأموال الرّديئة والحرام كالتّالي :
التّصدّق بالمال الحلال والحرام والمال المشتبه فيه :
21 - لقد حثّ الإسلام أن تكون الصّدقة من المال الحلال والطّيّب ، وأن تكون ممّا يحبّه المتصدّق .
فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب ، ولا يقبل اللّه إلاّ الطّيّب ، إلاّ أخذها الرّحمن بيمينه ، وإن كانت تمرةً فتربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل ، كما يربّي أحدكم فلوّه أو فصيله « والمراد بالطّيّب هنا الحلال ، كما قال النّوويّ .
وعنه أيضاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » أيّها النّاس إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلاّ طيّبًا ، وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء يا ربّ يا ربّ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، فأنّى يستجاب لذلك } .
قال النّوويّ : وهذا الحديث أحد الأحاديث الّتي هي من قواعد الإسلام ومباني الأحكام ... وفيه الحثّ على الإنفاق من الحلال ، والنّهي عن الإنفاق من غيره . وفيه أنّ المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه .(/4)
وحذّر الحسينيّ في كفاية الأخيار من أخذ مال فيه شبهة للتّصدّق به ، ونقل عن ابن عمر قوله : لأن أردّ درهماً من حرام أحبّ إليّ أن أتصدّق بمائة ألف درهم ثمّ بمائة ألف درهم حتّى بلغ ستّمائة ألف .
وعلى هذا فيستحبّ أن يختار الرّجل أحلّ ماله ، وأبعده عن الحرام والشّبهة فيتصدّق به ، كما حرّره النّوويّ .
وإذا كان في عهدة المكلّف مال حرام ، فإن علم أصحابه وجب ردّه إليهم ، وإن لم يعلم أصحابه يتصدّق به .
أمّا الآخذ أي : المتصدّق عليه فإن عرف أنّ المال المتصدّق به من النّجس أو الحرام كالغصب ، أو السّرقة ، أو الغدر ، فيستحبّ له أن لا يأخذه ولا يأكل منه . ومع ذلك فقد أجاز أكثر الفقهاء أخذه له مع الكراهة .
يقول ابن عابدين : إذا كان عليه ديون ومظالم لا يعرف أربابها ، وأيس من معرفتهم ، فعليه التّصدّق بقدرها من ماله ، وإن استغرقت جميع ماله .
وقال ابن الهمام : يؤمر بالتّصدّق بالأموال الّتي حصلت بالغدر ، كالمال المغصوب .
قال الجمل من الشّافعيّة : لو تصدّق أو وهب أو أوصى بالنّجس صحّ على معنى نقل اليد ، لا التّمليك .
وصرّح الحنابلة : بأنّ من بيده نحو غصوب ، أو رهون ، أو أمانات ، لا يعرف أربابها ، وأيس من معرفتهم ، فله الصّدقة بها منهم ، أي : من قبلهم . وقال بعضهم : يجب عليه التّصدّق . وكذلك الحكم في الدّيون الّتي جهل أربابها عند الحنابلة .
أمّا الأموال الّتي فيها شبهة فالأولى الابتعاد عنها ، ولهذا قال النّوويّ في التّصدّق بما فيه شبهة: إنّه مكروه .
قد ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم : » الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس ، فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه « .
التّصدّق بالجيّد والرّديء :
22 - يستحبّ في الصّدقة أن يكون المتصدّق به أي : المال المعطى من أجود مال المتصدّق وأحبّه إليه ، قال اللّه تعالى : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } .
قال القرطبيّ : والمعنى لن تكونوا أبراراً حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ، أي : نفائس الأموال وكرائمها، وكان السّلف - رضي الله عنهم - إذا أحبّوا شيئاً جعلوه للّه تعالى .
فقد ورد في حديث متّفق عليه : » أنّ أبا طلحة كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل ، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب ، قال أنس - راوي الحديث - فلمّا أنزلت هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } قام أبو طلحة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنّها صدقة للّه ، أرجو برّها وذخرها عند اللّه فضعها يا رسول اللّه حيث أراك اللّه قال : فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : بخ ذلك مال رابح « .
وكان عمر بن عبد العزيز يشتري أعدالاً من سكّر ويتصدّق بها ، فقيل له : هلاّ تصدّقت بقيمتها؟ قال : لأنّ السّكّر أحبّ إليّ فأردت أن أنفق ممّا أحبّ .
والمراد بالآية حصول كثرة الثّواب بالتّصدّق ممّا يحبّه . ولا يلزم أن يكون المال المتصدّق به كثيراً ، ويستحبّ التّصدّق ولو بشيء نزر ، قال اللّه تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } وفي الحديث الصّحيح : » اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة « .
ونهى اللّه سبحانه وتعالى عن التّصدّق بالرّديء من المال ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : لا تتصدّقوا بالصّدقة من المال الخبيث ، ولا تفعلوا مع اللّه ما لا ترضونه لأنفسكم .
ورجّح ابن العربيّ : أنّ الآية في صدقة التّطوّع حيث قال : لو كانت في الفريضة لما قال : { وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ } لأنّ الرّديء والخبيث لا يجوز أخذه في الفرض بحال ، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه ، وإنّما يؤخذ مع عدم الإغماض في النّفل .
وقال القرطبيّ : والظّاهر من قول براء ، والحسن ، وقتادة ، أنّ الآية في التّطوّع ، ندبوا إليه أن لا يتطوّعوا إلاّ بممتاز جيّد وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في رجل علّق قنو حشف في المسجد : » لو شاء ربّ هذه الصّدقة تصدّق بأطيب منها « .
وقال : » إنّ ربّ هذه الصّدقة يأكل الحشف يوم القيامة « .
التّصدّق بكلّ ماله :
23 - يستحبّ أن تكون الصّدقة بفاضل عن كفايته ، وكفاية من يمونه ، وإن تصدّق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم . ومن أراد التّصرّف بماله كلّه ، وهو يعلم من نفسه حسن التّوكّل والصّبر عن المسألة فله ذلك ، وإلاّ فلا يجوز .
ويكره لمن لا صبر له على الضّيق أن ينقص نفقة نفسه عن الكفاية التّامّة .
وهذا ما صرّح به فقهاء الحنفيّة وقال المالكيّة : إنّ الإنسان ما دام صحيحاً رشيداً له التّبرّع بجميع ماله على كلّ من أحبّ .
قال في الرّسالة : ولا بأس أن يتصدّق على الفقراء بماله كلّه للّه .(/5)
لكن قال النّفراويّ : محلّ ندب التّصدّق بجميع المال أن يكون المتصدّق طيّب النّفس بعد الصّدقة بجميع ماله ، لا يندم على البقاء بلا مال . وأنّ ما يرجوه في المستقبل مماثل لما تصدّق به في الحال ، وأن لا يكون يحتاج إليه في المستقبل لنفسه ، أو لمن تلزمه نفقته ، أو يندب الإنفاق عليه ، وإلاّ لم يندب له ذلك بل يحرم عليه إن تحقّق الحاجة لمن تلزمه نفقته ، أو يكره إن تيقّن الحاجة لمن يندب الإنفاق عليه ، لأنّ الأفضل أن يتصدّق بما يفضل عن حاجته ومؤنته ، ومؤنة من ينفق عليه .
ويقول ابن قدامة : الأولى أن يتصدّق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدّوام لقوله عليه الصلاة والسلام : » خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنىً ، وابدأ بمن تعول « ولأنّ نفقة من يمونه واجبة والتّطوّع نافلة ، وتقديم النّفل على الفرض غير جائز .
فإن كان الرّجل لا عيال له ، فأراد الصّدقة بجميع ماله وكان ذا مكسب ، أو كان واثقاً من نفسه يحسن التّوكّل والصّبر على الفقر والتّعفّف عن المسألة فحسن ، وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال : » أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نتصدّق فوافق ذلك مالاً عندي ، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً ، فجئت بنصف مالي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : مثله . قال : وأتى أبو بكر بكلّ ما عنده فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم اللّه ورسوله ، فقلت لا أسابقك إلى شيء بعده أبداً « .
قال ابن قدامة : فهذا كان فضيلةً في حقّ أبي بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - لقوّة يقينه ، وكمال إيمانه ، وكان أيضاً تاجراً ذا مكسب ، فإن لم يوجد في المتصدّق أحد هذين كره له التّصدّق بجميع ماله .
فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » يأتي أحدكم بما يملك ، ويقول هذه صدقة ، ثمّ يقعد يستكفّ النّاس ، خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنىً « ، ولأنّ الإنسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر ، وشدّة نزاع النّفس إلى ما خرج منه فيندم ، فيذهب ماله ، ويبطل أجره ، ويصير كلاً على النّاس .
واتّفق قول الشّافعيّة مع سائر الفقهاء في : أنّ ما يحتاج إليه لعياله ودينه لا يجوز له أن يتصدّق به ، وإن فضل عن ذلك شيء ، فهل يستحبّ أن يتصدّق بجميع الفاضل ؟ فيه عندهم أوجه ، أصحّها : إن صبر على الضّيق فنعم ، وإلاّ فلا بل يكره ذلك ، قالوا : وعليه تحمل الأخبار المختلفة الظّاهر .
رابعاً : النّيّة :
24 - الصّدقة قربة ، لأنّها تمليك بلا عوض ، لأجل ثواب الآخرة ، فلا بدّ فيها من النّيّة ، وقد ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إنّما الأعمال بالنّيّات « ويستحبّ في الصّدقة أن ينوي المتصدّق ثوابها لجميع المؤمنين والمؤمنات .
وقد ذكر بعض الفقهاء أنّ كلّ من أتى بعبادة ما سواء أكانت صلاةً أم صوماً أم صدقةً أم قراءةً ، له أن يجعل ثوابه لغيره وإن نواها لنفسه .
قال ابن عابدين : والأفضل لمن يتصدّق نفلاً أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات ، لأنّها تصل إليهم ، ولا ينقص من أجره شيء .
وتفصيل أحكام النّيّة في مصطلح : ( نيّة ) .
إخفاء صدقة التّطوّع :
25 - الأفضل في صدقة التّطوّع أن تكون سرّاً ، وهذا عند أكثر الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وإن كانت تصحّ ويثاب عليها في العلن ، قال اللّه تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : » سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه « وذكر منهم » رجلاً تصدّق أخفى حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه « .
ولما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » صنائع المعروف تقي مصارع السّوء ، وصدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ ، وصلة الرّحم تزيد في العمر « .
ولأنّ الإسرار بالتّطوّع يخلو عن الرّياء والمنّ ، وإعطاء الصّدقة سرّاً يراد به رضا اللّه سبحانه وتعالى وحده .
ونقل عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قوله : صدقة السّرّ في التّطوّع أفضل من صدقة العلانية بسبعين ضعفاً .
قال ابن العربيّ : والتّحقيق فيه أنّ الحال في الصّدقة يختلف بحال المعطي لها والمعطى إيّاها والنّاس الشّاهدين لها .
أمّا المعطي فله فائدة إظهار السّنّة وثواب القدوة ، وآفتها الرّياء ، والمنّ ، والأذى .
وأمّا المعطى إيّاها فإنّ السّرّ أسلم له من احتقار النّاس له ، أو نسبته إلى أنّه أخذها مع الغنى وترك التّعفّف .
وأمّا حال النّاس فالسّرّ عنهم أفضل من العلانية لهم ، من جهة أنّهم ربّما طعنوا على المعطي لها بالرّياء ، وعلى الآخذ لها بالاستغناء ، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصّدقة . لكنّ هذا اليوم قليل ويقول الخطيب : إن كان المتصدّق ممّن يقتدى به ، وأظهرها ليقتدى به من غير رياء ولا سمعة، فهو أفضل .
أمّا صدقة الفرض فلا خلاف أنّ إظهارها أفضل كصلاة الفرض وسائر الفرائض .
ترك المنّ والأذى :
26 - يحرم المنّ والأذى بالصّدقة ، ويبطل الثّواب بذلك ، فقد نهى اللّه تعالى عن المنّ والأذى ، وجعلهما مبطلين للصّدقات حيث قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ } .(/6)
وحثّ سبحانه وتعالى المنفقين في سبيل اللّه بعدم إتباع ما أنفقوا منّاً ولا أذىً فقال : { الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذىً لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
ولا خلاف بين الفقهاء ، في أنّ المنّ والأذى في الصّدقة حرام يبطل الثّواب .
قال القرطبيّ : عبّر تعالى عن عدم القبول وحرمان الثّواب بالإبطال .
وقال الشّربينيّ : المنّ بالصّدقة حرام مبطل للأجر للآية السّابقة ، ولخبر مسلم : » ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ، ولهم عذاب أليم . قال : فقرأها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار . قال أبو ذرّ : خابوا وخسروا ، من هم يا رسول اللّه ؟ قال : المسبل ، والمنّان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب « .
وجعله البهوتيّ من الكبائر فقال : ويحرم المنّ بالصّدقة وغيرها ، وهو من الكبيرة ويبطل الثّواب بذلك .
وهل تبطل المعصية الطّاعة ؟ فيه خلاف . قال القرطبيّ : العقيدة أنّ السّيّئات لا تبطل الحسنات ، ولا تحبطها . فالمنّ والأذى في صدقة لا يبطل صدقةً أخرى
التّصدّق في المسجد :
27 - اختلف الفقهاء في حكم التّصدّق في المسجد ، وأكثرهم على جوازه مع الكراهة ، وبعضهم بيّنوا له شروطاً لا يجوز بغيرها .
قال ابن عابدين : لا يحلّ أن يسأل شيئاً من له قوت يومه بالفعل أو بالقوّة ، كالصّحيح المكتسب، ويأثم معطيه إن علم بحاله ، لأنّه أعانه على المحرّم ، والمختار أنّ السّائل إذا كان لا يمرّ بين يدي المصلّي ، ولا يتخطّى الرّقاب ، ولا يسأل إلحافاً ، بل لأمر لا بدّ منه ، فلا بأس بالسّؤال والإعطاء . ثمّ قال نقلاً عن البزّازيّة : ولا يجوز الإعطاء إذا لم يكونوا على تلك الصّفة .
وما نقله القرطبيّ عن البراء بن عازب من تعليق رجل قنو حشف في المسجد يدلّ كذلك على مطلق الجواز ، وإن كان لم يعتبر من الطّيّبات كما يدلّ على الجواز أيضاً ما رواه أبو داود عن عبد الرّحمن بن أبي بكر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا ؟ فقال أبو بكر : دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرّحمن فأخذتها فدفعتها إليه « .
ويقول البهوتيّ : يكره سؤال الصّدقة في المسجد ، والتّصدّق عليه ، لأنّه إعانة على المكروه ، ثمّ يقول : ولا يكره التّصدّق على غير السّائل ولا على من سأل له الخطيب .
وتفصيل الموضوع في مصطلح : ( مسجد )
الأحوال والأماكن الّتي تفضّل فيها الصّدقة :
28 - ذكر الفقهاء الحالات والأماكن الّتي تفضّل فيها الصّدقة ، ويكون أجرها أكثر من غيرها ، ومن هذه الحالات والأماكن ما يأتي :
قال الشّربينيّ الخطيب : دفع صدقة التّطوّع في رمضان أفضل من دفعها في غيره ، لما رواه التّرمذيّ عن أنس - رضي الله عنه - : » سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيّ الصّدقة أفضل ؟ قال : صدقة في رمضان « . ولأنّ الفقراء فيه يضعفون ويعجزون عن الكسب بسبب الصّوم .
وتتأكّد في الأيّام الفاضلة كعشر ذي الحجّة ، وأيّام العيد ، وكذا في الأماكن الشّريفة ، كمكّة والمدينة ، وفي الغزو ، والحجّ ، وعند الأمور المهمّة ، كالكسوف والمرض والسّفر .
ثمّ نقل عن الأذرعيّ قوله : ولا يفهم من هذا أنّ من أراد التّطوّع بصدقة ، أو برّ في رجب ، أو شعبان مثلاً ، أنّ الأفضل له أن يؤخّره إلى رمضان أو غيره من الأوقات الفاضلة ، بل المسارعة إلى الصّدقة أفضل بلا شكّ ، وإنّما المراد أنّ التّصدّق في رمضان وغيره من الأيّام الفاضلة أعظم أجراً ممّا يقع في غيرها .
وزاد الحنابلة فقالوا : وفي أوقات الحاجة أفضل منها في غيرها لقوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } .
وعلّل الحنابلة فضل الصّدقة في رمضان بأنّ الحسنات تضاعف فيه ، ولأنّ فيه إعانةً على أداء الصّوم المفروض ، ومن فطّر صائماً كان له أجر مثله .
ويستحبّ استحباباً مؤكّداً ، التّوسيع على العيال ، والإحسان إلى الأقارب والجيران في شهر رمضان - لا سيّما في عشرة آخره ، لأنّ فيه ليلة القدر ، فهو أفضل ممّا عداه من الأيّام الأخرى
الرّجوع في الصّدقة :
29 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يصحّ للمتصدّق أن يرجع في صدقته ، لأنّ المقصود بالصّدقة الثّواب ، وقد حصل ، وإنّما الرّجوع يكون عند تمكّن الخلل فيما هو المقصود كما يقول السّرخسيّ .
ويستوي أن تكون الصّدقة على غنيّ أو فقير في أن لا رجوع فيها ، كما صرّح به فقهاء الحنفيّة.
وعمّم المالكيّة الحكم فقالوا : كلّ ما يكون لثواب الآخرة لا رجوع فيها ، ولو من والد لولده لكنّهم قالوا : للوالد أن يعتصر ما وهبه لابنه وذلك بشروط تذكر في : ( هبة ) .
ونصوص الشّافعيّة والحنابلة تتّفق مع سائر الفقهاء في عدم صحّة رجوع المتصدّق في صدقته أمّا الرّجوع في الهبة فتذكر أحكامها في مصطلح : ( هبة ) .(/7)
صَلاةَ التَّطَوّع *
التّعريف :
1 - التّطوّع لغةً : التّبرّع ، يقال : تطوّع بالشّيء ، تبرّع به ، ومن معانيه في الاصطلاح أنّه اسم لما شرع زيادةً على الفرائض والواجبات . أو ما كان مخصوصاً بطاعة غير واجبة ، أو هو الفعل المطلوب طلباً غير جازم .
وتفصيل الاصطلاحات الفقهيّة في هذا الموضوع ينظر في مصطلح : ( تطوّع ) .
وصلاة التّطوّع هي ما زادت على الفرائض والواجبات . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث السّائل عن الإسلام « خمس صلوات في اليوم واللّيلة ، فقيل : هل عليّ غيرها قال : لا، إلاّ أن تطوّع » .
أنواع صلاة التّطوّع :
2 - الأصل في صلاة التّطوّع أن تؤدّى على انفراد ، وهي أنواع :
منها : السّنن الرّواتب ، وهي السّنن التّابعة للفرائض ، وهي عشر ركعات : ركعتان قبل الظّهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، وركعتان قبل الفجر . وقال أبو الخطّاب : وأربع قبل العصر ، لما روى ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « رحم اللّه امرأً صلّى قبل العصر أربعاً » وآكد هذه الرّكعات ركعتا الفجر . حيث قالت عائشة - رضي الله عنها - : « لم يكن النّبيّ صلى الله عليه وسلم على شيء من النّوافل أشدّ منه تعاهدًا على ركعتي الفجر » .
ومن هذه السّنن ما يتقدّم على الفرائض ، ومنها ما يتأخّر عنها ، وفي ذلك معنىً لطيف مناسب :
أمّا في التّقديم فلأنّ النّفوس - لاشتغالها بأسباب الدّنيا - بعيدة عن حال الخشوع والحضور الّتي هي روح العبادة ، فإذا قدّمت النّوافل على الفرائض أنست النّفس بالعبادة .
وأمّا تأخيرها عنها فقد ورد أنّ النّوافل جابرة لنقص الفرائض ، فإذا وقع الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الّذي قد يقع فيه . وللتّفصيل ينظر : ( راتب ، وسنن رواتب ) . ومن صلاة التّطوّع صلوات معيّنة غير السّنن مع الفرائض والتّطوّعات المطلقة ومنها :
3 - صلاة الضّحى : وهي مستحبّة ، لما روى أبو هريرة قال : « أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهنّ حتّى أموت : صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وصلاة الضّحى ، ونوم على وتر » .
انظر ( صلاة الضّحى ، وصلاة الأوّابين ) .
4 - صلاة التّسبيح : لما روى ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعاه إلى صلاتها مرّةً كلّ يوم ، أو كلّ جمعة ، أو كلّ شهر ، أو كلّ سنة ... أو في العمر مرّةً » . وقال أحمد عنها : ليس فيها شيء يصحّ ، ولم يرها مستحبّةً ، وإن فعلها إنسان فلا بأس ، فإنّ النّوافل والفضائل لا يشترط صحّة الحديث فيها .
وأمثلة الصّلاة المتطوّع بها كثيرة كصلاة الاستخارة ، وصلاة الحاجة ، وصلاة التّوبة ، وصلاة تحيّة المسجد ، وركعتي السّفر وغيرها فليرجع إليها في مصطلحاتها الخاصّة .
الفرق بين أحكام صلاة التّطوّع وأحكام الصّلاة المفروضة :
5 - صلاة التّطوّع تفارق صلاة الفرض في أشياء منها :
الصّلاة جلوساً :
يجوز التّطوّع قاعدًا مع القدرة على القيام ، ولا يجوز ذلك في الفرض ، لأنّ التّطوّع خير دائم ، فلو ألزمناه القيام لتعذّر عليه إدامة هذا الخير .
أمّا الفرض فإنّه يختصّ ببعض الأوقات ، فلا يكون في إلزامه مع القدرة عليه حرج .
القراءة :
القراءة في التّطوّع تكون فيما سوى الفاتحة في الرّكعات كلّها ، وأمّا القراءة في الرّباعيّة والثّلاثيّة من المكتوبات فهي في الرّكعتين الأوليين فقط .
وينظر التّفصيل في مصطلح : ( قراءة ) .
الجلوس على رأس الرّكعتين :
الجلوس على رأس الرّكعتين في الرّباعيّة والثّلاثيّة في الفرائض ليس بفرض بلا خلاف ، ولا يفسد الفرض بتركه ، وفي التّطوّع اختلاف . انظر مصطلح : ( صلاة ) .
الجماعة في التّطوّع :
الجماعة في التّطوّع ليست بسنّة إلاّ في قيام رمضان ، وفي الفرض واجبة أو سنّة مؤكّدة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلاّ المكتوبة » . انظر : ( صلاة الجماعة ) .
الوقت والمقدار :
التّطوّع المطلق غير مؤقّت بوقت خاصّ ، ولا مقدّر بمقدار خاصّ ، فيجوز في أيّ وقت كان على أيّ مقدار كان ، إلاّ أنّه يكره في بعض الأوقات وعلى بعض المقادير .
والفرض مقدّر بمقدار خاصّ ، موقّت بأوقات مخصوصة ، فلا تجوز الزّيادة على قدره . انظر : ( أوقات الصّلاة ) .
النّيّة :
يتأدّى التّطوّع المطلق بمطلق النّيّة ، ولا يتأدّى الفرض إلاّ بتعيين النّيّة ، انظر تفصيل ذلك في : ( نيّة ) .
الصّلاة على الرّاحلة وما في معناها :
يجوز التّنفّل على الدّابّة مع القدرة على النّزول ، أمّا أداء الفرض على الدّابّة فإنّه لا يجوز . على تفصيل وخلاف ينظر في : ( الصّلاة على الرّاحلة ) .
الصّلاة في الكعبة وعلى ظهرها :
لا تصحّ الفريضة في الكعبة ولا على ظهرها عند الحنابلة لقوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } والمصلّي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لها ، وإنّما هو مستقبل لجزء منها .
واستقبال القبلة شرط للصّلاة مع القدرة إلاّ في النّفل للمسافر السّائر ماشياً أو راكباً فيصلّي حيث توجّه ، وقيل لا يجوز ذلك إلاّ للرّاكب .
وجوّز أبو حنيفة والشّافعيّ صلاة الفريضة في الكعبة وعلى ظهرها ، لأنّه مسجد ، ولأنّه محلّ لصلاة النّفل ، فكان محلّاً للفرض كخارجها . ولكن النّافلة مبناها على التّخفيف والمسامحة بدليل صلاتها قاعداً وإلى غير القبلة ، وفي السّفر على الرّاحلة ، وقد « صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في البيت ركعتين » .
ما يكره في صلاة التّطوّع :
6 - المكروه في صلاة التّطوّع نوعان :(/1)
النّوع الأوّل : وهو ما يرجع إلى القدر :
تكره الزّيادة على أربع ركعات بتسليمة واحدة في النّهار ، ولا يكره ذلك في صلاة اللّيل ، فللمصلّي أن يصلّي ستّاً وثمانياً بتسليمة واحدة .
والأصل في ذلك أنّ النّوافل شرعت تبعاً للفرائض ، والتّبع لا يخالف الأصل فلو زيدت على الأربع في النّهار لخالفت الفرائض ، وهذا هو القياس في اللّيل ، إلاّ أنّ الزّيادة على الأربع إلى الثّماني أو إلى السّتّ معروف بالنّصّ ، وهو ما روي عن « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يصلّي باللّيل خمس ركعات ، سبع ركعات ، تسع ركعات ، إحدى عشرة ركعةً ، ثلاث عشرة ركعةً » .
والثّلاث من كلّ واحد من هذه الأعداد الوتر وركعتان من ثلاثة عشر سنّة الفجر ، فيبقى ركعتان وأربع وستّ وثمان ، فيجوز إلى هذا القدر بتسليمة واحدة من غير كراهة .
7- واختلفوا في الزّيادة على الثّماني بتسليمة واحدة :
قال بعضهم : يكره لأنّ هذه الزّيادة على هذا لم ترو عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : لا يكره ، وإليه ذهب السّرخسيّ . قال : لأنّ فيه وصل العبادة بالعبادة فلا يكره .
وقد حكي عن ابن العربيّ المالكيّ أنّ منتهى صلاة الضّحى - عند أهل المذهب المالكيّ - ثمان ، وأقلّها ركعتان ، وأوسطها ستّ ، فما زاد على الأكثر يكره .
النّوع الثّاني : وهو ما يرجع إلى الوقت :
8- فيكره التّطوّع في الأوقات المكروهة ، وهي اثنا عشر ، بعضها يكره التّطوّع فيها لمعنىً في الوقت ، وبعضها يكره التّطوّع فيها لمعنىً في غير الوقت :
فأمّا الّذي يكره التّطوّع فيها لمعنىً يرجع إلى الوقت فهي :
أ - ما بعد طلوع الشّمس إلى أن ترتفع وتبيضّ .
ب - عند استواء الشّمس إلى أن تزول .
ج - عند تغيّر الشّمس ، وهو احمرارها واصفرارها إلى أن تغرب .
وانظر تفصيل ذلك في : ( أوقات الصّلاة ) .
9- ومن الأوقات الّتي يكره فيها التّطوّع لمعنىً في غير الوقت ما بعد الغروب ، لأنّ فيه تأخير المغرب وهو مكروه .
ومنها ما بعد شروع الإمام في الصّلاة ، وقبل شروعه بعدما أخذ المؤذّن في الإقامة ، قضاءً لحقّ الجماعة .
ومنها وقت الخطبة يوم الجمعة ، لأنّها سبب لترك استماع الخطبة .
ومنها ما بعد خروج الإمام للخطبة يوم الجمعة قبل أن يشتغل بها وما بعد فراغه منها قبل أن يشرع في الصّلاة .
ويستثنى من ذلك تحيّة المسجد على خلاف فيها انظر : ( تحيّة ) .
ومنها ما قبل صلاة العيد ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتطوّع قبل العيدين » مع شدّة حرصه على الصّلاة ، وعن عبد اللّه بن مسعود وحذيفة أنّهما كانا ينهيان النّاس عن الصّلاة قبل العيد ، لأنّ المبادرة إلى صلاة العيد مسنونة ، وفي الاشتغال بالتّطوّع تأخيرها ، ولو اشتغل بأداء التّطوّع في بيته يقع في وقت طلوع الشّمس وكلاهما مكروه ، وقيل إنّما يكره ذلك في المصلّى كي لا يشتبه على النّاس أنّهم يصلّون العيد قبل صلاة العيد ، فأمّا في بيته فلا بأس بأن يتطوّع بعد طلوع الشّمس .
وعامّة الحنفيّة على أنّه لا يتطوّع قبل صلاة العيد ، لا في المصلّى ولا في بيته ، فأوّل الصّلاة في هذا اليوم صلاة العيد .
الأوقات المستحبّة للنّفل :
10 - النّوافل المطلقة تشرع في اللّيل كلّه وفي النّهار فيما سوى أوقات النّهي ، وتطوّع اللّيل أفضل من تطوّع النّهار . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل ، وأفضل التّهجّد جوف اللّيل الآخر » ولما روى عمرو بن عبسة قال : « قلت : يا رسول اللّه أيّ اللّيل أسمع ؟ قال : جوف اللّيل الآخر » .
ويستحبّ الوتر قبل صلاة الفجر ، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر .
والأفضل فعل الوتر في آخر اللّيل ، فإذا غلب على ظنّه أنّه لا يقوم آخر اللّيل فليفعله في أوّله لقوله صلى الله عليه وسلم : « من خاف أن لا يقوم من آخر اللّيل فليوتر أوّله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر اللّيل ، فإنّ صلاة آخر اللّيل مشهودة وذلك أفضل » .
انظر : ( صلاة الوتر ) .
الشّروع في صلاة التّطوّع :
11 - يلزم النّفل بالشّروع فيه - عند الحنفيّة والمالكيّة - لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ولأنّ ما أدّاه صار للّه تعالى فوجب صيانته بلزوم الباقي .
وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يلزم ، لأنّه مخيّر فيما لم يفعل بعد ، فله إبطال ما أدّاه تبعاً .
12 - وذهب الحنفيّة أنّه إذا شرع المتطوّع في الصّلاة فقد قيل : لا يلزم بالافتتاح أكثر من ركعتين وإن نوى أكثر من ذلك إلاّ بعارض الاقتداء .
وروي عن أبي يوسف ثلاث روايات :
الأولى - أنّ من افتتح التّطوّع ينوي أربع ركعات ثمّ أفسدها فعليه أن يقضي أربعاً .
الثّانية - أنّ من افتتح النّافلة ينوي عدداً يلزمه بالافتتاح ذلك وإن كان مائة ركعة ، وذلك أنّ الشّروع في كونه سبباً للّزوم كالنّذر ، ثمّ يلزمه بالنّذر جميع ما تناوله كذا بالشّروع .
الثّالثة - أنّ من نوى أربع ركعات لزمه ، وإن نوى أكثر من ذلك لم يلزمه . وكذا في السّنن الرّاتبة أنّه لا يجب بالشّروع فيها إلاّ ركعتان ، حتّى لو قطعها قضى ركعتين لأنّه نفل ، وعلى رواية أبي يوسف ومتأخّري الحنفيّة قضى أربعاً .
وبناءً على ذلك فإنّ من وجب عليه ركعتان بالشّروع ففرغ منهما وقعد على رأس الرّكعتين وقام إلى الثّالثة على قصد الأداء يلزمه إتمام ركعتين أخريين ويبنيهما على التّحريمة الأولى، لأنّ قدر المؤدّى صار عبادةً فيجب عليه إتمام الرّكعتين صيانةً له عن البطلان .
الأفضل في عدد الرّكعات في صلاة التّطوّع :(/2)
13 - أفضل التّطوّع في النّهار أربع أربع في قول الحنفيّة ، فقد صلّى ابن عمر صلاة التّطوّع أربع ركعات بالنّهار ،لما روي عن أبي أيّوب عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: « أربع قبل الظّهر ليس فيهنّ تسليم ، تفتح لهنّ أبواب السّماء » ولأنّ مفهوم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلاة اللّيل مثنى مثنى » أنّ صلاة النّهار رباعيّة جوازاً لا تفضيلاً. وقال المالكيّة : النّوافل باللّيل والنّهار مثنى مثنى يسلّم من كلّ ركعتين .
وقال الشّافعيّة : الأفضل للمتنفّل ليلاً ونهاراً أن يسلّم من كلّ ركعتين ، لخبر : « صلاة اللّيل والنّهار مثنى مثنى » .
وقد قال أبو يوسف ومحمّد في صلاة اللّيل : إنّها مثنى .. مثنى .
وصلاة اللّيل - عند أبي حنيفة - أربع ، احتجاجاً بما ورد عن « عائشة أنّها سئلت عن قيام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت : ما كان يزيد في رمضان ، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً ، يصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثمّ يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثمّ يصلّي ثلاثاً » وكلمة : ( كان ) عبارة عن العادة والمواظبة، وما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يواظب إلاّ على أفضل الأعمال ، وأحبّها إلى اللّه. وعند الحنابلة : صلاة التّطوّع في اللّيل لا تجوز إلاّ مثنى مثنى ، والأفضل في تطوّع النّهار كذلك مثنى مثنى ، وإن تطوّع بأربع في النّهار فلا بأس .
ما يقرأ من القرآن في صلاة التّطوّع :
ليس هناك ما يفيد توقيفاً في القراءة في صلاة التّطوّع ، ولكن هناك ما يفيد ندب آيات أو سور معيّنة في صلوات معيّنة ، منها على سبيل المثال :
الرّكعتان قبل الفجر :
14 - يستحبّ في هاتين الرّكعتين التّخفيف ، ومن صور التّخفيف عند مالك أن يقرأ فيهما بأمّ القرآن فقط ، وقد ورد عن « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يخفّف ركعتي الفجر على ما روته عائشة قالت : حتّى إنّي أقول : هل قرأ فيهما بأمّ القرآن ؟ » .
وظاهر هذا أنّه كان يقرأ فيهما بأمّ القرآن فقط .
وقال الشّافعيّ : لا بأس بأن يقرأ فيهما بأمّ القرآن مع سورة قصيرة .
وقد روي من طريق أبي هريرة أنّ السّورتين هما : " الكافرون " و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
وقال ابن عمر : « رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً فكان يقرأ في الرّكعتين قبل الفجر بـ { قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } » .
وورد عن ابن عبّاس أنّه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ... } الآية الّتي في البقرة منهما : { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } » .
وروى أبو داود « أنّه قرأ في الثّانية : { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أو { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } » ، فسنّ الجمع بينهما ليتحقّق الإتيان بالوارد .
والسّبب في اختلاف الرّوايات اختلاف قراءته صلى الله عليه وسلم في هذه الصّلاة ، واختلافهم في تعيين القراءة في الصّلاة .
وقال أبو حنيفة : لا توقيف في هاتين الرّكعتين في القراءة يستحبّ ، وأنّه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من اللّيل .
الرّكعتان بعد المغرب :
15 - يستحبّ أن يقرأ فيهما { قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لحديث ابن مسعود « ما أحصي ما سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الرّكعتين بعد المغرب وفي الرّكعتين قبل صلاة الفجر بـ { قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } » .
ركعات الوتر الثّلاث :
16 - عن أبيّ بن كعب قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوتر بـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، { قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ } ، { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } » .
وعن عائشة مثله ، وقالت : « في الثّالثة بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والمعوّذتين » .
وهو قول مالك والشّافعيّ وقال مالك في الشّفع : لم يبلغني فيه شيء معلوم وقد روي عن أحمد أنّه سئل : يقرأ بالمعوّذتين في الوتر ؟ قال : ولم لا يقرأ ؟ ، وذلك لما روت عائشة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الرّكعة الأولى بـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وفي الثّانية { قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ } وفي الثّالثة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والمعوّذتين » .
التّحوّل من المكان للتّطوّع بعد الفرض :
17 - من صلّى المكتوبة وأراد أن يتطوّع ، فإن كان إماماً استحبّ له أن يتحوّل من مكانه وإن كان غير إمام فهو بالخيار إن شاء تحوّل ، وإن شاء تطوّع في مكانه .
وذهب أبو حنيفة والشّافعيّ إلى مشروعيّة التّحوّل بعد الفرض للإمام وغيره ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس والزّبير وغيرهما ، إلاّ أنّ الشّافعيّ قال : الفصل بين الفرض والتّطوّع بالكلام يقوم مقام التّحوّل .
والحجّة في ذلك ما روي عن السّائب بن يزيد قال : « صلّيت مع معاوية الجمعة في المقصورة فلمّا سلّم الإمام قمت في مقامي فصلّيت ، فلمّا دخل أرسل إليّ فقال : لا تعد لما فعلت إذا صلّيت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتّى تكلّم أو تخرج ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك » .(/3)
وقد روى ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيّب والحسن أنّهما كان يعجبهما إذا سلّم الإمام أن يتقدّم . وقد روي ذلك عن ابن عمر وإسحاق ، وإليه ذهب مالك وأحمد ، إلاّ أنّ مالكاً كره للمأموم - أيضاً - التّطوّع بعد الجمعة من غير أن يتحوّل .
وقد روى عطاء الخراسانيّ عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: « لا يصلّ الإمام في الموضع الّذي صلّى فيه حتّى يتحوّل » .
الجماعة في صلاة التّطوّع :
18 - الجماعة سنّة في صلاة العيدين عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهي ليست بتطوّع عند الحنفيّة والحنابلة . ( ر : صلاة العيدين ) .
واتّفق الفقهاء على أنّ الجماعة سنّة في الكسوف والخسوف ، وكذلك في صلاة الاستسقاء إلاّ عند أبي حنيفة فإنّه لا جماعة فيها عنده ، لأنّه لا صلاة فيها .
والجماعة في صلاة التّراويح سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ومستحبّة عند المالكيّة . والجماعة في صلاة الوتر سنّة في شهر رمضان عند الحنابلة ومستحبّة عند الشّافعيّة وفي قول عند الحنفيّة .
أمّا ما عدا ما ذكر ممّا تسنّ له الجماعة فالأصل فيه أن يصلّى على انفراد لكن لو صلّى جماعةً جاز لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما وكان أكثر تطوّعه منفرداً وصلّى بأنس وأمّه واليتيم .
الجهر والإسرار في صلاة التّطوّع :
19 - يستحبّ الجهر بالنّوافل ليلاً ما لم يشوّش على مصلّ آخر ، والإسرار نهاراً . وإنّما جهر في الجمعة والعيدين لحضور أهل البوادي والقرى كي يسمعوه فيتعلّموه ويتّعظوا به . وانظر تفصيل ذلك في : ( جهر ف / 18 ) .
الوقوف والقعود في صلاة التّطوّع :
20 - يجوز التّطوّع قاعداً مع القدرة على القيام ، لأنّ التّطوّع خير دائم ، فلو ألزمناه القيام يتعذّر عليه إدامة هذا الخير .
ولأنّ كثيراً من النّاس يشقّ عليه طول القيام ، فلو وجب في التّطوّع لترك أكثره ، فسامح الشّارع في ترك القيام فيه ترغيباً في تكثيره كما سامح في فعله على الرّاحلة في السّفر . والأصل في جواز النّفل قاعداً مع القدرة على القيام ما روت عائشة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي جالساً ، فيقرأ وهو جالس ، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آيةً ، قام فقرأ وهو قائم ، ثمّ ركع ، ثمّ سجد ، ثمّ يفعل في الرّكعة الثّانية مثل ذلك » .
وقد روي من طريق آخر ما يفيد التّخيير في الرّكوع والسّجود بين القيام والقعود ، حيث فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم الأمرين ، كما زادت عائشة : « أنّها لم تر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة اللّيل قاعداً قطّ حتّى أسنّ ، فكان يقرأ قاعداً حتّى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحواً من ثلاثين آيةً أو أربعين آيةً ثمّ ركع » .
وعنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي ليلاً طويلاً قائماً ،وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم ، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد». ولو افتتح التّطوّع قائماً ثمّ أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند الحنابلة ، وهو قول أبي حنيفة استحساناً ، لأنّه متبرّع وهو مخيّر بين القيام والقعود في الابتداء فكذا بعد الشّروع ، لأنّه متبرّع أيضاً .
وعند أبي يوسف ومحمّد لا يجوز ، وهو القياس ، لأنّ الشّروع ملزم كالنّذر ، ولو نذر أن يصلّي ركعتين قائماً لا يجوز له القعود من غير عذر ، فكذا إذا شرع قائماً .
ولو افتتح التّطوّع قاعداً فأدّى بعضها قاعداً ، وبعضها قائماً أجزأه لحديث عائشة المتقدّم ، فقد انتقل من القعود إلى القيام ، ومن القيام إلى القعود ، فدلّ على أنّ ذلك جائز في صلاة التّطوّع .
وقد نقل عن أبي حنيفة عدم جواز صلاة سنّة الفجر والتّراويح قاعداً ، لأنّ كلّاً منهما سنّة مؤكّدة .
وإذا لم يرو خلاف في إباحة التّطوّع جالساً ، فقد روي تفضيل القيام حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى قائماً فهو أفضل ، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم » . وفي رواية « صلاة الرّجل قاعداً نصف الصّلاة » .
الصّلاة مضطجعاً :
21 - وأمّا صلاة التّطوّع مضطجعاً فظاهر قول أصحاب أبي حنيفة عدم الجواز لعموم الأدلّة على افتراض الرّكوع والسّجود والاعتدال عنهما .
وقول الجواز مرويّ عن الحسن البصريّ لقوله صلى الله عليه وسلم : « من صلّى نائماً فله نصف أجر القاعد » وقد قال الحسن : إن شاء الرّجل صلّى صلاة التّطوّع قائماً أو جالساً أو مضطجعاً .
وقال ابن تيميّة : التّطوّع مضطجعاً لغير عذر لم يجوّزه إلاّ طائفة قليلة من أصحاب الشّافعيّ وأحمد ، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنّه صلّى مضطجعاً بلا عذر ،ولو كان هذا مشروعاً لفعلوه.
حكم سجود السّهو في صلاة التّطوّع :
22 - قال جمهور العلماء : إنّ السّهو في التّطوّع كالسّهو في الفريضة يشرع له سجود السّهو ، وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن أبي عقيل أنّه سمع سعيد بن المسيّب يقول : سجدتا السّهو في النّوافل كسجدتي السّهو في المكتوبة . وإلى ذلك ذهب الأئمّة الأربعة . انظر : ( سجود السّهو ) .
حكم قضاء السّنن :
23 - يستحبّ قضاء النّوافل بعد وقتها المحدّد لها على خلاف للفقهاء وتفصيل في ذلك . وقال الجوينيّ في قضاء النّوافل : إنّ ما لا يجوز التّقرّب به ابتداءً لا يقضى كالكسوف والاستسقاء فإنّه لا يجوز أن يتطوّع به الإنسان ابتداءً من غير وجود سببهما ، وما يجوز التّطوّع به ابتداءً كنافلة ركعتين مثلاً ، هل تقضى ؟ فيه قولان .
وانظر تفصيل ذلك في : ( قضاء ) .(/4)
صَلاَة التّسْبيح *
التّعريف :
1 - صلاة التّسبيح نوع من صلاة النّفل تفعل على صورة خاصّة يأتي بيانها . وإنّما سمّيت صلاة التّسبيح لما فيها من كثرة التّسبيح ، ففيها في كلّ ركعة خمس وسبعون تسبيحةً .
الحكم التّكليفيّ :
اختلف الفقهاء في حكم صلاة التّسبيح ، وسبب اختلافهم فيها اختلافهم في ثبوت الحديث الوارد فيها :
2 - القول الأوّل : قال بعض الشّافعيّة : هي مستحبّة . وقال النّوويّ في بعض كتبه : هي سنّة حسنة واستدلّوا بالحديث الوارد فيها ، وهو ما روى أبو داود « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال للعبّاس بن عبد المطّلب : يا عبّاس يا عمّاه ، ألا أعطيك ألا أمنحك ، ألا أحبوك ، ألا أفعل بك - عشر خصال - إذا أنت فعلت ذلك غفر اللّه لك ذنبك أوّله ، وآخره ، قديمه ، وحديثه ، خطأه ، وعمده ، صغيره ، وكبيره ، سرّه ، وعلانيته ، عشر خصال : أن تصلّي أربع ركعات : تقرأ في كلّ ركعة فاتحة الكتاب وسورةً ، فإذا فرغت من القراءة في أوّل ركعة وأنت قائم قلت : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر ، خمس عشرة مرّةً ، ثمّ تركع وتقولها وأنت راكع عشراً ، ثمّ ترفع رأسك من الرّكوع فتقولها عشراً، ثمّ تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً ، ثمّ ترفع رأسك من السّجود فتقولها عشراً ثمّ تسجد فتقولها عشراً ، ثمّ ترفع رأسك فتقولها عشراً ، فذلك خمس وسبعون في كلّ ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات ، إن استطعت أن تصلّيها في كلّ يوم مرّةً فافعل ، فإن لم تفعل ففي كلّ جمعة مرّةً فإن لم تفعل ففي كلّ شهر مرّةً ، فإن لم تفعل ففي كلّ سنة مرّةً ، فإن لم تفعل ففي عمرك مرّةً » .
قالوا : وقد ثبت هذا الحديث من هذه الرّواية ، وهو وإن كان من رواية موسى بن عبد العزيز فقد وثّقه ابن معين وقال النّسائيّ : ليس به بأس . وقال الزّركشيّ : الحديث صحيح وليس بضعيف وقال ابن الصّلاح : حديثها حسن ، ومثله قال النّوويّ في تهذيب الأسماء واللّغات . وقال المنذريّ : رواته ثقات ا هـ .
وقد روي من حديث العبّاس نفسه ومن حديث أبي رافع وأنس بن مالك .
3 - القول الثّاني : ذهب بعض الحنابلة إلى أنّها لا بأس بها ، وذلك يعني الجواز . قالوا : لو لم يثبت الحديث فيها فهي من فضائل الأعمال فيكفي فيها الحديث الضّعيف . ولذا قال ابن قدامة : إن فعلها إنسان فلا بأس فإنّ النّوافل والفضائل لا يشترط صحّة الحديث فيها .
4 - والقول الثّالث : أنّها غير مشروعة . قال النّوويّ في المجموع : في استحبابها نظر لأنّ حديثها ضعيف وفيها تغيير لنظم الصّلاة المعروف فينبغي ألاّ يفعل بغير حديث وليس حديثها بثابت ، ونقل ابن قدامة أنّ أحمد لم يثبت الحديث الوارد فيها ، ولم يرها مستحبّةً . قال : وقال أحمد : ما تعجبني . قيل له : لم ؟ قال : ليس فيها شيء يصحّ ، ونفض يده كالمنكر . والحديث الوارد فيها جعله ابن الجوزيّ من الموضوعات . وقال ابن حجر في التّلخيص : الحقّ أنّ طرقه كلّها ضعيفة ، وإن كان حديث ابن عبّاس يقرب من شرط الحسن إلاّ أنّه شاذّ لشدّة الفرديّة فيه وعدم الشّاهد والمتابع من وجه معتبر ، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصّلوات : قال : وقد ضعّفها ابن تيميّة والمزنيّ ، وتوقّف الذّهبيّ ، حكاه ابن عبد الهادي في أحكامه . ا هـ .
ولم نجد لهذه الصّلاة ذكراً فيما اطّلعنا عليه من كتب الحنفيّة والمالكيّة ، إلاّ ما نقل في التّلخيص الحبير عن ابن العربيّ أنّه قال : ليس فيها حديث صحيح ولا حسن .
كيفيّة صلاة التّسبيح ووقتها :
5 - الّذين قالوا باستحباب صلاة التّسبيح أو جوازها راعوا في الكيفيّة ما ورد في الحديث من أنّها أربع ركعات ، وما يقال فيها من التّسبيح والتّكبير والتّهليل والحوقلة بالأعداد الواردة ومواضعها وغير ذلك من الكيفيّة . وأضاف الشّافعيّة أنّها تصلّى أربع ركعات لا أكثر، وبتسليم واحد إن كانت في النّهار وتسليمين إن كانت في اللّيل . وأنّ الأفضل فعلها كلّ يوم مرّةً ، وإلاّ فجمعة ، وإلاّ فشهر ، وإلاّ فسنة ، وإلاّ ففي العمر مرّةً .(/1)
صَلاَة الضُّحَى *
التّعريف :
1 - الصّلاة في اللّغة والاصطلاح سبق الكلام عنها في مصطلح ( صلاة ) .
وأمّا الضّحى في اللّغة : فيستعمل مفرداً ، وهو فويق الضّحوة ، وهو حين تشرق الشّمس إلى أن يمتدّ النّهار ، أو إلى أن يصفو ضوءها وبعده الضّحاء .
والضّحاء - بالفتح والمدّ - هو إذا علت الشّمس إلى ربع السّماء فما بعده .
وعند الفقهاء الضّحى : ما بين ارتفاع الشّمس إلى زوالها .
الألفاظ ذات الصّلة :
صلاة الأوّابين :
2 - قيل : هي صلاة الضّحى . وعلى هذا فهما مترادفتان ، وقيل : إنّ صلاة الأوّابين ما بين المغرب والعشاء وبهذا تفترقان .
صلاة الإشراق :
3 - بتتبّع ظاهر أقوال الفقهاء والمحدّثين يتبيّن : أنّ صلاة الضّحى وصلاة الإشراق واحدة إذ كلّهم ذكروا وقتها من بعد الطّلوع إلى الزّوال ولم يفصلوا بينهما .
وقيل : إنّ صلاة الإشراق غير صلاة الضّحى ، وعليه فوقت صلاة الإشراق بعد طلوع الشّمس ، عند زوال وقت الكراهة . ( ر : صلاة الإشراق ) .
الحكم التّكليفيّ :
4 - صلاة الضّحى نافلة مستحبّة عند جمهور الفقهاء وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّها سنّة مؤكّدة . فقد روى أبو ذرّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يصبح على كلّ سلامى من أحدكم صدقة : فكلّ تحميدة صدقة ، وكلّ تهليلة صدقة : وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضّحى » .
وعن أبي الدّرداء - رضي الله عنه - قال : « أوصاني حبيبي بثلاث لن أدعهنّ ما عشت : بصيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وصلاة الضّحى ، وأن لا أنام حتّى أوتر » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « أوصاني خليلي بثلاث : صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وركعتي الضّحى وأن أوتر قبل أن أرقد » .
وقال بعض الحنابلة : لا تستحبّ المداومة عليها ؛ كي لا تشتبه بالفرائض ، ونقل التّوقّف فيها عن ابن مسعود وغيره .
صلاة الضّحى في حقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
5 - اختلف العلماء في وجوب صلاة الضّحى على رسول اللّه مع اتّفاقهم على عدم وجوبها على المسلمين .
فذهب الجمهور إلى أنّ صلاة الضّحى ليست مفروضةً على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وذكر الشّافعيّة وبعض المالكيّة وبعض الحنابلة أنّ صلاة الضّحى ضمن ما اختصّ به رسول اللّه من الواجبات ، وأقلّ الواجب منها عليه ركعتان .
( ر : اختصاص ف /10 ، ج /2 ، ص 259 ) .
المواظبة على صلاة الضّحى :
6 - اختلف العلماء هل الأفضل المواظبة على صلاة الضّحى ، أو فعلها في وقت وتركها في وقت ؟
فذهب الجمهور إلى أنّه تستحبّ المواظبة على صلاة الضّحى ؛ لعموم الأحاديث الصّحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم : « أحبّ العمل إلى اللّه تعالى ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ » . ونحو ذلك . وروى الطّبرانيّ في الأوسط من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ في الجنّة باباً يقال له الضّحى فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الّذين كانون يديمون صلاة الضّحى ؟ هذا بابكم فادخلوه برحمة اللّه » .
وروى ابن خزيمة في صحيحه عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يحافظ على صلاة الضّحى إلاّ أوّاب ، قال : وهي صلاة الأوّابين » .
وقال الحنابلة على الصّحيح من المذهب - وهو ما حكاه صاحب الإكمال عن جماعة : لا تستحبّ المداومة على صلاة الضّحى بل تفعل غبّاً ؛ لقول عائشة - رضي الله عنها - « ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم . سبّح سبحة الضّحى قطّ » .
وروى أبو سعيد الخدريّ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الضّحى حتّى نقول : لا يدعها ، ويدعها حتّى نقول : لا يصلّيها » ولأنّ في المداومة عليها تشبيهاً بالفرائض . وقال أبو الخطّاب : تستحبّ المداومة عليها ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى بها أصحابه وقال : « من حافظ على شفعة الضّحى غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر » .
( ر : نفل ) .
وقت صلاة الضّحى :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الأفضل فعل صلاة الضّحى إذا علت الشّمس واشتدّ حرّها ; لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال » ومعناه أن تحمى الرّمضاء وهي الرّمل فتبرك الفصال من شدّة الحرّ .
قال الطّحاويّ : ووقتها المختار إذا مضى ربع النّهار . وجاء في مواهب الجليل نقلاً عن الجزوليّ : أوّل وقتها ارتفاع الشّمس ، وبياضها وذهاب الحمرة ، وآخره الزّوال .
قال الحطّاب نقلاً عن الشّيخ زرّوق : وأحسنه إذا كانت الشّمس من المشرق مثلها من المغرب وقت العصر .
قال الماورديّ : ووقتها المختار إذا مضى ربع النّهار .
قال البهوتيّ : والأفضل فعلها إذا اشتدّ الحرّ .
ثمّ اختلف الفقهاء في تحديد وقت صلاة الضّحى على الجملة .
فذهب الجمهور إلى أنّ وقت صلاة الضّحى من ارتفاع الشّمس إلى قبيل زوالها ما لم يدخل وقت النّهي .
وقال النّوويّ في الرّوضة : قال أصحابنا " الشّافعيّة " : وقت الضّحى من طلوع الشّمس ، ويستحبّ تأخيرها إلى ارتفاعها .
ويدلّ له خبر أحمد عن أبي مرّة الطّائفيّ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: « قال اللّه : يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات من أوّل نهارك أكفك آخره » لكن قال الأذرعيّ : نقل ذلك عن الأصحاب فيه نظر ، والمعروف من كلامهم الأوّل " أي ما ذهب إليه الجمهور " .
وقال الرّمليّ الكبير في حاشيته على شرح الرّوض ، بعد أن نقل قول النّوويّ السّابق ذكره : لم أر من صرّح به فهو وجه غريب أو سبق قلم .
عدد ركعات صلاة الضّحى :(/1)
8 - لا خلاف بين الفقهاء القائلين : باستحباب صلاة الضّحى في أنّ أقلّها ركعتان .
فقد روى أبو ذرّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يصبح على كلّ سلامى من أحدكم صدقة : فكلّ تسبيحة صدقة ، وكلّ تحميدة صدقة ، وكلّ تهليلة صدقة ، وكلّ تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضّحى » . فأقلّ صلاة الضّحى ركعتان لهذا الخبر .
وإنّما اختلفوا في أقلّها وأكثرها :
فذهب المالكيّة والحنابلة - على المذهب - إلى أنّ أكثر صلاة الضّحى ثمان لما روت أمّ هانئ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة وصلّى ثماني ركعات ، فلم أر صلاةً قطّ أخفّ منها غير أنّه يتمّ الرّكوع والسّجود » .
وصرّح المالكيّة بكراهة ما زاد على ثماني ركعات ، إن صلّاها بنيّة الضّحى لا بنيّة نفل مطلق، وذكروا أنّ أوسط صلاة الضّحى ستّ .
ويرى الحنفيّة والشّافعيّة - في الوجه المرجوح - وأحمد - في رواية عنه - أنّ أكثر صلاة الضّحى اثنتا عشرة ركعةً ، لما رواه التّرمذيّ والنّسائيّ بسند فيه ضعف أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من صلّى الضّحى ثنتي عشرة ركعةً بنى اللّه له قصراً من ذهب في الجنّة» قال ابن عابدين نقلاً عن شرح المنية : وقد تقرّر أنّ الحديث الضّعيف يجوز العمل به في الفضائل .
وقال الحصكفيّ من الحنفيّة ، نقلاً عن الذّخائر الأشرفيّة : وأوسطها ثمان وهو أفضلها ؛ لثبوته بفعله وقوله عليه الصلاة والسلام وأمّا أكثرها فبقوله فقط . وهذا لو صلّى الأكثر بسلام واحد أمّا لو فصل فكلّما زاد أفضل .
أمّا الشّافعيّة : فقد اختلفت عباراتهم في أكثر صلاة الضّحى إذ ذكر النّوويّ في المنهاج أنّ أكثرها اثنتا عشرة وخالف ذلك في شرح المهذّب ، فحكى عن الأكثرين : أنّ أكثرها ثمان ركعات . وقال في روضة الطّالبين : أفضلها ثمان وأكثرها اثنتا عشرة ، ويسلّم من كلّ ركعتين .
السّور الّتي تقرأ في صلاة الضّحى :
9 - قال ابن عابدين : يقرأ فيها سورتي الضّحى أي سورة { والشّمس } وسورة { والضّحى } ، وظاهره الاقتصار عليهما ولو صلّاها أكثر من ركعتين . فقد روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نصلّي الضّحى بسور منها : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ، { وَالضُّحَى } » .
وفي نهاية المحتاج : ويسنُّ أن يقرأ فيهما - ركعتي الضّحى - " الكافرون ، والإخلاص " وهما أفضل في ذلك من الشّمس ، { وَالضُّحَى } وإن وردتا أيضاً ؛ إذ " الإخلاص " تعدل ثلث القرآن ، " والكافرون " تعدل ربعه بلا مضاعفة .
وقال الشبراملسي : ويقرؤهما أي " الكافرون ، والإخلاص " - أيضاً - فيما لو صلّى أكثر من ركعتين ، ومحلّ ذلك - أيضاً - ما لم يصلّ أربعاً أو ستّاً بإحرام فلا يستحبّ قراءة سورة بعد التّشهّد الأوّل ، ومثله كلّ سُنّة تَشَهّد فيها بتشهّدين فإنّه لا يقرأ السّورة فيما بعد التّشهّد الأوّل ( ر : قراءة ، ونافلة ) .
هذا وفي قضاء صلاة الضّحى إذا فاتت من وقتها ، وفي فعلها جماعةً تفاصيل للفقهاء تنظر في : ( تطوّع وصلاة الجماعة ) .(/2)
صَلاَةُ الإِشْراق *
التّعريف :
1 - سبق تعريف الصّلاة في بحث صلاة .
وأمّا الإشراق : فهو من شرق ، يقال : شرقت الشّمس شروقاً ، وشرقاً أيضاً : طلعت ، وأشرقت - بالألف - أضاءت ، ومنهم من يجعلهما بمعنىً .
وصلاة الإشراق - بهذا الاسم - ذكرها بعض فقهاء الشّافعيّة على ما جاء في بعض كتبهم ، وذلك في أثناء الكلام على صلاة الضّحى .
ففي منهاج الطّالبين وشرحه للمحلّيّ قال : من النّوافل الّتي لا يسنّ لها الجماعة : الضّحى : وأقلّها ركعتان ، وأكثرها اثنتا عشرة ركعةً ، ويسلّم من كلّ ركعتين . قال القليوبيّ تعليقاً على قوله : " الضّحى " هي صلاة الأوّابين وصلاة الإشراق على المعتمد عند شيخنا الرّمليّ وشيخنا الزّياديّ ، وقيل : كما في الإحياء : إنّها " أي صلاة الإشراق " صلاة ركعتين عند ارتفاع الشّمس .
وفي عميرة قال الإسنويّ : ذكر جماعة من المفسّرين . أنّ صلاة الضّحى هي صلاة الإشراق المشار إليها في قوله تعالى : { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } أي يصلّين ، لكن في الإحياء أنّها غيرها ، وأنّ صلاة الإشراق ركعتان بعد طلوع الشّمس عند زوال وقت الكراهة .(/1)
صَلاَةُ التَّراوِيح *
التّعريف :
1 - تقدّم تعريف الصّلاة لغةً واصطلاحًا في مصطلح : ( صلاة ) .
والتّراويح : جمع ترويحة ، أي ترويحة للنّفس ، أي استراحة ، من الرّاحة وهي زوال المشقّة والتّعب ، والتّرويحة في الأصل اسم للجلسة مطلقةً ، وسمّيت الجلسة الّتي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالتّرويحة للاستراحة ، ثمّ سمّيت كلّ أربع ركعات ترويحةً مجازاً ، وسمّيت هذه الصّلاة بالتّراويح ، لأنّهم كانوا يطيلون القيام فيها ويجلسون بعد كلّ أربع ركعات للاستراحة .
وصلاة التّراويح : هي قيام شهر رمضان ، مثنى مثنى ، على اختلاف بين الفقهاء في عدد ركعاتها ، وفي غير ذلك من مسائلها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - إحياء اللّيل :
2 - إحياء اللّيل ، ويطلق عليه بعض الفقهاء أيضًا قيام اللّيل ، هو : إمضاء اللّيل ، أو أكثره في العبادة كالصّلاة والذِّكْر وقراءة القرآن الكريم ، ونحو ذلك . ( ر : إحياء اللّيل ) . وإحياء اللّيل : يكون في كلّ ليلة من ليالي العام ، ويكون بأيّ من العبادات المذكورة أو نحوها وليس بخصوص الصّلاة .
أمّا صلاة التّراويح فتكون في ليالي رمضان خاصّةً .
ب - التّهجّد :
3 - التّهجّد في اللّغة : من الهجود ، ويطلق الهجود على النّوم وعلى السّهر ، يقال : هجد إذا نام باللّيل ، ويقال أيضاً هجد : إذا صلّى اللّيل ، فهو من الأضداد ، ويقال : تهجّد إذا أزال النّوم بالتّكلّف .
وهو في الاصطلاح : صلاة التّطوّع في اللّيل بعد النّوم .
والتّهجّد - عند جمهور الفقهاء - صلاة التّطوّع في اللّيل بعد النّوم ، في أيّ ليلة من ليالي العام .
أمّا صلاة التّراويح فلا يشترط لها أن تكون بعد النّوم ، وهي في ليالي رمضان خاصّةً .
ج - التّطوّع :
4 - التّطوّع هو : ما شُرع زيادةً على الفرائض والواجبات من الصّلاة وغيرها ، وسمّي بذلك ، لأنّه زائد على ما فرضه اللّه تعالى ، وصلاة التّطوّع أو النّافلة تنقسم إلى نفل مقيّد ومنه صلاة التّراويح ، وإلى نفل مطلق أي غير مقيّد بوقت .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( تطوّع ) .
د - الوتر :
5 - الوتر هو : الصّلاة المخصوصة بعد فريضة العشاء ، سمّيت بذلك لأنّ عدد ركعاتها وتر لا شفع .
الحكم التّكليفيّ :
6 - اتّفق الفقهاء على سُنِّيَّةِ صلاة التّراويح ، وهي عند الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة سنّة مؤكّدة ، وهي سنّة للرّجال والنّساء ، وهي من أعلام الدّين الظّاهرة .
وقد سنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة التّراويح ورغّب فيها ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه فرض صيام رمضان عليكم ، وسننت لكم قيامه ... » .
وروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدّم من ذنبه » قال الخطيب الشّربينيّ وغيره : اتّفقوا على أنّ صلاة التّراويح هي المرادة بالحديث المذكور .
وقد صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة التّراويح في بعض اللّيالي ، ولم يواظب عليها ، وبيّن العذر في ترك المواظبة وهو خشية أن تكتب فيعجزوا عنها ، فعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد ، فصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر النّاس ، ثمّ اجتمعوا من الثّالثة فلم يخرج إليهم ، فلمّا أصبح قال : قد رأيت الّذي صنعتم ،فلم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أنّي خشيت أن تفرض عليكم »، وذلك في رمضان زاد البخاريّ فيه : « فتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك » .
وفي تعيين اللّيالي الّتي قامها النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه روى أبو ذرّ - رضي الله تعالى عنه - قال : « صمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشّهر حتّى بقي سبع ، فقام بنا حتّى ذهب ثلث اللّيل ، فلمّا كانت السّادسة لم يقم بنا ، فلمّا كانت الخامسة قام بنا حتّى ذهب شطر اللّيل ، فقلت : يا رسول اللّه لو نفلتنا قيام هذه اللّيلة؟ قال : فقال : إنّ الرّجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف حسب له قيام ليلة قال : فلمّا كانت الرّابعة لم يقم ، فلمّا كانت الثّالثة جمع أهله ونساءه والنّاس فقام بنا حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال : قلت : وما الفلاح ؟ قال : السّحور ، ثمّ لم يقم بنا بقيّة الشّهر » .
وعن النّعمان بن بشير - رضي الله تعالى عنهما - قال : « قمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث اللّيل الأوّل ، ثمّ قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف اللّيل ، ثمّ قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتّى ظننّا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمّونه السّحور » .
وقد واظب الخلفاء الرّاشدون والمسلمون من زمن عمر - رضي الله تعالى عنه - على صلاة التّراويح جماعةً ، وكان عمر - رضي الله تعالى عنه - هو الّذي جمع النّاس فيها على إمام واحد .
عن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ ، قال : خرجت مع عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - ليلةً في رمضان إلى المسجد ، فإذا النّاس أوزاع متفرّقون ، يصلّي الرّجل لنفسه ، ويصلّي الرّجل فيصلّي بصلاته الرّهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلةً أخرى والنّاس يصلّون بصلاة قارئهم ، فقال : نعمت البدعة هذه ، والّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون . يريد آخر اللّيل ، وكان النّاس يقومون أوّله .(/1)
وروى أسد بن عمرو عن أبي يوسف قال : سألت أبا حنيفة عن التّراويح وما فعله عمر ، فقال : التّراويح سنّة مؤكّدة ، ولم يتخرّص عمر من تلقاء نفسه ، ولم يكن فيه مبتدعاً ، ولم يأمر به إلاّ عن أصل لديه وعهد من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولقد سنّ عمر هذا وجمع النّاس على أبيّ بن كعب فصلّاها جماعةً والصّحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار وما ردّ عليه واحد منهم ، بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك .
فضل صلاة التّراويح :
7 - بيَّن الفقهاء منزلة التّراويح بين نوافل الصّلاة .
قال المالكيّة : التّراويح من النّوافل المؤكّدة ،حيث قالوا : وتأكّد تراويح ، وهو قيام رمضان. وقال الشّافعيّة : التّطوّع قسمان :
قسم تسنّ له الجماعة وهو أفضل ممّا لا تسنّ له الجماعة لتأكّده بسنّها له ، وله مراتب :
فأفضله العيدان ثمّ الكسوف للشّمس ، ثمّ الخسوف للقمر ، ثمّ الاستسقاء ، ثمّ التّراويح ... وقالوا : الأصحّ أنّ الرّواتب وهي التّابعة للفرائض أفضل من التّراويح وإن سنّ لها الجماعة، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم واظب على الرّواتب دون التّراويح .
قال شمس الدّين الرّمليّ : والمراد تفضيل الجنس على الجنس من غير نظر لعدد .
وقال الحنابلة : أفضل صلاة تطوّع ما سنّ أن يصلّى جماعةً ، لأنّه أشبه بالفرائض ثمّ الرّواتب ، وآكد ما يسنّ جماعةً : كسوف فاستسقاء فتراويح .
تاريخ مشروعيّة صلاة التّراويح والجماعة فيها :
8 - روى الشّيخان عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من جوف اللّيل ليالي من رمضان وصلّى في المسجد ، وصلّى النّاس بصلاته ، وتكاثروا فلم يخرج إليهم في الرّابعة ، وقال لهم : خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ». قال القليوبيّ : هذا يشعر أنّ صلاة التّراويح لم تشرع إلاّ في آخر سني الهجرة لأنّه لم يرد أنّه صلّاها مرّةً ثانيةً ولا وقع عنها سؤال .
وجمع عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - النّاس في التّراويح على إمام واحد في السّنة الرّابعة عشرة من الهجرة ، لنحو سنتين خلتا من خلافته ، وفي رمضان الثّاني من خلافته .
النّداء لصلاة التّراويح :
9 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا أذان ولا إقامة لغير الصّلوات المفروضة ، لما ثبت « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أذّن للصّلوات الخمس والجمعة دون ما سواها من الوتر ، والعيدين، والكسوف ، والخسوف ، والاستسقاء ، وصلاة الجنازة ، والسّنن والنّوافل » .
وقال الشّافعيّة : ينادى لجماعة غير الصّلوات المفروضة : الصّلاة جامعة ، ونقل النّوويّ عن الشّافعيّ قوله : لا أذان ولا إقامة لغير المكتوبة ، فأمّا الأعياد والكسوف وقيام شهر رمضان فأحبّ أن يقال : الصّلاة جامعةً .
واستدلّوا بما روى الشّيخان « أنّه لمّا كسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نودي : إنّ الصّلاة جامعة » وقيس بالكسوف غيره ممّا تشرع فيه الجماعة ومنها التّراويح . وكالصّلاة جامعةً : الصّلاة الصّلاة ، أو هلمّوا إلى الصّلاة ،أو الصّلاة رحمكم اللّه، أو حيّ على الصّلاة خلافاً لبعضهم .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا ينادى على التّراويح " الصّلاة جامعة " لأنّه محدث .
تعيين النّيّة في صلاة التّراويح :
10 - ذهب الشّافعيّة وبعض الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى اشتراط تعيين النّيّة في التّراويح ، فلا تصحّ التّراويح بنيّة مطلقة ، بل ينوي صلاة ركعتين من قيام رمضان أو من التّراويح لحديث : « إنّما الأعمال بالنّيّات » وليتميّز إحرامه بهما عن غيره .
وعلَّل الحنفيّة القائلون بذلك قولهم بأنّ التّراويح سنّة ، والسّنّة عندهم لا تتأدّى بنيّة مطلق الصّلاة أو نيّة التّطوّع ، واستدلّوا بما روى الحسن عن أبي حنيفة أنّه : لا تتأدّى ركعتا الفجر إلاّ بنيّة السّنّة .
لكنّهم اختلفوا في تجديد النّيّة لكلّ ركعتين من التّراويح ، قال ابن عابدين في الخلاصة : الصّحيح نعم ،لأنّه صلاة على حدة ، وفي الخانيّة : الأصحّ لا ، فإنّ الكلّ بمنزلة صلاة واحدة، ثمّ قال ويظهر لي " ترجيح " التّصحيح الأوّل ، لأنّه بالسّلام خرج من الصّلاة حقيقةً ، فلا بدّ من دخوله فيها بالنّيّة ، ولا شكّ أنّه الأحوط خروجاً من الخلاف .
وقال عامّة مشايخ الحنفيّة : إنّ التّراويح وسائر السّنن تتأدّى بنيّة مطلقة ، لأنّها وإن كانت سنّةً لا تخرج عن كونها نافلةً ، والنّوافل تتأدّى بمطلق النّيّة ، إلاّ أنّ الاحتياط أن ينوي التّراويح أو سنّة الوقت أو قيام رمضان احترازاً عن موضع الخلاف .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يندب في كلّ ركعتين من التّراويح أن ينوي فيقول سرّاً : أصلّي ركعتين من التّراويح المسنونة أو من قيام رمضان .
عدد ركعات التّراويح :
11 - قال السّيوطيّ : الّذي وردت به الأحاديث الصّحيحة والحسان الأمر بقيام رمضان والتّرغيب فيه من غير تخصيص بعدد ، ولم يثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى التّراويح عشرين ركعةً ، وإنّما صلّى ليالي صلاةً لم يذكر عددها ، ثمّ تأخّر في اللّيلة الرّابعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها .
وقال ابن حجر الهيثميّ : لم يصحّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى التّراويح عشرين ركعةً ، وما ورد « أنّه كان يصلّي عشرين ركعةً » فهو شديد الضّعف .
واختلفت الرّواية فيما كان يصلّى به في رمضان في زمان عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه :(/2)
فذهب جمهور الفقهاء - من الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وبعض المالكيّة - إلى أنّ التّراويح عشرون ركعةً ، لما رواه مالك عن يزيد بن رومان والبيهقيّ عن السّائب بن يزيد من قيام النّاس في زمان عمر - رضي الله تعالى عنه - بعشرين ركعةً ، وجمع عمر النّاس على هذا العدد من الرّكعات جمعاً مستمرّاً ، قال الكاسانيّ : جمع عمر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان على أبيّ بن كعب - رضي الله تعالى عنه - فصلّى بهم عشرين ركعةً ، ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعاً منهم على ذلك .
وقال الدّسوقيّ وغيره : كان عليه عمل الصّحابة والتّابعين .
وقال ابن عابدين : عليه عمل النّاس شرقاً وغرباً .
وقال عليّ السّنهوريّ : هو الّذي عليه عمل النّاس واستمرّ إلى زماننا في سائر الأمصار وقال الحنابلة : وهذا في مظنّة الشّهرة بحضرة الصّحابة فكان إجماعاً والنّصوص في ذلك كثيرة .
وروى مالك عن السّائب بن يزيد قال : أمر عمر بن الخطّاب أبيّ بن كعب وتميماً الدّاريّ أن يقوما للنّاس بإحدى عشرة ركعةً ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين ، حتّى كنّا نعتمد على العصيّ من طول القيام ، وما كنّا ننصرف إلاّ في فروع الفجر . وروى مالك عن يزيد بن رومان أنّه قال : كان النّاس يقومون في زمان عمر بن الخطّاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعةً ، قال البيهقيّ والباجيّ وغيرهما : أي بعشرين ركعةً غير الوتر ثلاث ركعات ، ويؤيّده ما رواه البيهقيّ وغيره عن السّائب بن يزيد - رضي الله تعالى عنه - قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - في شهر رمضان بعشرين ركعةً .
قال الباجيّ : يحتمل أن يكون عمر أمرهم بإحدى عشرة ركعةً ، وأمرهم مع ذلك بطول القراءة ، يقرأ القارئ بالمئين في الرّكعة ، لأنّ التّطويل في القراءة أفضل الصّلاة ، فلمّا ضعف النّاس عن ذلك أمرهم بثلاث وعشرين ركعةً على وجه التّخفيف عنهم من طول القيام، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الرّكعات .
وقال العدويّ : الإحدى عشرة كانت مبدأ الأمر ، ثمّ انتقل إلى العشرين .
وقال ابن حبيب : رجع عمر إلى ثلاث وعشرين ركعةً .
وخالف الكمال بن الهمام مشايخ الحنفيّة القائلين بأنّ العشرين سنّة في التّراويح فقال : قيام رمضان سنّة إحدى عشرة ركعةً بالوتر في جماعة ، فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ تركه لعذر ، أفاد أنّه لولا خشية فرضه عليهم لواظب بهم ، ولا شكّ في تحقّق الأمن من ذلك بوفاته صلى الله عليه وسلم فيكون سنّةً ، وكونها عشرين سنّة الخلفاء الرّاشدين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين » ندب إلى سنّتهم ، ولا يستلزم كون ذلك سنّته ، إذ سنّته بمواظبته بنفسه أو إلاّ لعذر ، وبتقدير عدم ذلك العذر كان يواظب على ما وقع منه ، فتكون العشرون مستحبّاً ، وذلك القدر منها هو السّنّة ، كالأربع بعد العشاء مستحبّة وركعتان منها هي السّنّة ، وظاهر كلام المشايخ أنّ السّنّة عشرون ، ومقتضى الدّليل ما قلنا فيكون هو المسنون ، أي فيكون المسنون منها ثماني ركعات والباقي مستحبّاً .
وقال المالكيّة : القيام في رمضان بعشرين ركعةً أو بستّ وثلاثين واسع أي جائز ، فقد كان السّلف من الصّحابة - رضوان الله عليهم - يقومون في رمضان في زمن عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - في المساجد بعشرين ركعةً ، ثمّ يوترون بثلاث ، ثمّ صلّوا في زمن عمر بن عبد العزيز ستّاً وثلاثين ركعةً غير الشّفع والوتر .
قال المالكيّة : وهو اختيار مالك في المدوّنة ، قال : هو الّذي لم يزل عليه عمل النّاس أي بالمدينة بعد عمر بن الخطّاب ، وقالوا : كره مالك نقصها عمّا جعلت بالمدينة .
وعن مالك - أي في غير المدوّنة - قال : الّذي يأخذ بنفسي في ذلك الّذي جمع عمر عليه النّاس ، إحدى عشرة ركعةً منها الوتر ، وهي صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي المذهب أقوال وترجيحات أخرى .
وقال الشّافعيّة : ولأهل المدينة فعلها ستّاً وثلاثين ، لأنّ العشرين خمس ترويحات ، وكان أهل مكّة يطوفون بين كلّ ترويحتين سبعة أشواط ، فحمل أهل المدينة بدل كلّ أسبوع ترويحةً ليساووهم ، قال الشّيخان : ولا يجوز ذلك لغيرهم .. وهو الأصحّ كما قال الرّمليّ لأنّ لأهل المدينة شرفاً بهجرته صلى الله عليه وسلم ومدفنه ، وخالف الحليميّ فقال : ومن اقتدى بأهل المدينة فقام بستّ وثلاثين فحسن أيضاً .
وقال الحنابلة : لا ينقص من العشرين ركعةً ، ولا بأس بالزّيادة عليها نصّاً ، قال عبد اللّه بن أحمد : رأيت أبي يصلّي في رمضان ما لا أحصي ، وكان عبد الرّحمن بن الأسود يقوم بأربعين ركعةً ويوتر بعدها بسبع .
قال ابن تيميّة : والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلّين ، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام ، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها ، كما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل . وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل . وهو الّذي يعمل به أكثر المسلمين ، فإنّه وسط بين العشر وبين الأربعين ، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك . وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمّة كأحمد وغيره .
قال : ومن ظنّ أنّ قيام رمضان فيه عدد موقّت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ .
الاستراحة بين كلّ ترويحتين :
12 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة الاستراحة بعد كلّ أربع ركعات ، لأنّه المتوارث عن السّلف ، فقد كانوا يطيلون القيام في التّراويح ويجلس الإمام والمأمومون بعد كلّ أربع ركعات للاستراحة .(/3)
وقال الحنفيّة : يندب الانتظار بين كلّ ترويحتين ، ويكون قدر ترويحة ، ويشغل هذا الانتظار بالسّكوت أو الصّلاة فرادى أو القراءة أو التّسبيح .
وقال الحنابلة : لا بأس بترك الاستراحة بين كلّ ترويحتين ، ولا يسنّ دعاء معيّن إذا استراح لعدم وروده .
التّسليم في صلاة التّراويح :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من يصلّي التّراويح يسلّم من كلّ ركعتين ، لأنّ التّراويح من صلاة اللّيل فتكون مثنى مثنى ، لحديث : « صلاة اللّيل مثنى مثنى » ولأنّ التّراويح تؤدّى بجماعة فيراعى فيها التّيسير بالقطع بالتّسليم على رأس الرّكعتين لأنّ ما كان أدوم تحريمةً كان أشقّ على النّاس .
واختلفوا فيمن صلّى التّراويح ولم يسلّم من كلّ ركعتين :
فقال الحنفيّة : لو صلّى التّراويح كلّها بتسليمة وقعد في كلّ ركعتين فالصّحيح أنّه تصحّ صلاته عن الكلّ ، لأنّه قد أتى بجميع أركان الصّلاة وشرائطها ، لأنّ تجديد التّحريمة لكلّ ركعتين ليس بشرط عندهم ، لكنّه يكره إن تعمّد على الصّحيح عندهم ، لمخالفته المتوارث ، وتصريحهم بكراهة الزّيادة على ثمانٍ في صلاة مطلق التّطوّع فهنا أولى .
وقالوا : إذا لم يقعد في كلّ ركعتين وسلّم تسليمةً واحدةً فإنّ صلاته تفسد عند محمّد ، ولا تفسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، والأصحّ أنّها تجوز عن تسليمة واحدة ، لأنّ السّنّة أن يكون الشّفع الأوّل كاملاً ، وكماله بالقعدة ولم توجد ، والكامل لا يتأدّى بالنّاقص .
وقال المالكيّة : يندب لمن صلّى التّراويح التّسليم من كلّ ركعتين ، ويكره تأخير التّسليم بعد كلّ أربع ، حتّى لو دخل على أربع ركعات بتسليمة واحدة فالأفضل له السّلام بعد كلّ ركعتين . وقال الشّافعيّة : لو صلّى في التّراويح أربعاً بتسليمة واحدة لم يصحّ ، فتبطل إن كان عامداً عالماً ، وإلاّ صارت نفلاً مطلقاً ، وذلك لأنّ التّراويح أشبهت الفرائض في طلب الجماعة فلا تغيّر عمّا ورد . ولم نجد للحنابلة كلاماً في هذه المسألة .
القعود في صلاة التّراويح :
14 - جاء في مذهب الحنفيّة أنّ من يصلّي التّراويح قاعداً فإنّه يجوز مع الكراهة تنزيهاً لأنّه خلاف السّنّة المتوارثة .
وصرّح الحنفيّة بأنّه : يكره للمقتدي أن يقعد في صلاة التّراويح ، فإذا أراد الإمام أن يركع قام ، واستظهر ابن عابدين أنّه يكره تحريماً ، لأنّ في ذلك إظهار التّكاسل في الصّلاة والتّشبّه بالمنافقين ، قال اللّه تعالى : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } فإذا لم يكن ذلك لكسل بل لكبر ونحوه لا يكره ، ولم نجد مثل هذا لغير الحنفيّة .
وقت صلاة التّراويح :
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ وقت صلاة التّراويح من بعد صلاة العشاء ، وقبل الوتر إلى طلوع الفجر ، لنقل الخلف عن السّلف ، ولأنّها عرفت بفعل الصّحابة فكان وقتها ما صلّوا فيه ، وهم صلّوا بعد العشاء قبل الوتر ، ولأنّها سنّة تبع للعشاء فكان وقتها قبل الوتر. ولو صلّاها بعد المغرب وقبل العشاء فجمهور الفقهاء وهو الأصحّ عند الحنفيّة على أنّها لا تجزئ عن التّراويح ، وتكون نافلةً عند المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة أنّها تصحّ ، لأنّ جميع اللّيل إلى طلوع الفجر قبل العشاء وبعدها وقت للتّراويح ، لأنّها سمّيت قيام اللّيل فكان وقتها اللّيل .
وعلّل الحنابلة عدم الصّحّة بأنّها تفعل بعد مكتوبة وهي العشاء فلم تصحّ قبلها كسنّة العشاء، وقالوا : إنّ التّراويح تصلّى بعد صلاة العشاء وبعد سنّتها ، قال المجد : لأنّ سنّة العشاء يكره تأخيرها عن وقت العشاء المختار ، فكان إتباعها لها أولى .
ولو صلّاها بعد العشاء وبعد الوتر فالأصحّ عند الحنفيّة أنّها تجزئ .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ تأخير التّراويح إلى ثلث اللّيل أو نصفه ، واختلف الحنفيّة في أدائها بعد نصف اللّيل ، فقيل يكره ، لأنّها تبع للعشاء كسنّتها ، والصّحيح لا يكره لأنّها من صلاة اللّيل والأفضل فيها آخره .
وذهب الحنابلة إلى أنّ صلاتها أوّل اللّيل أفضل ، لأنّ النّاس كانوا يقومون على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - أوّله ، وقد قيل لأحمد : يؤخّر القيام أي في التّراويح إلى آخر اللّيل ؟ قال : سنّة المسلمين أحبّ إليّ .
الجماعة في صلاة التّراويح :
16 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة الجماعة في صلاة التّراويح ، لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما سبق ، ولفعل الصّحابة - رضوان اللّه تعالى عليهم - ومن تبعهم منذ زمن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - ; ولاستمرار العمل عليه حتّى الآن .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الجماعة في صلاة التّراويح سنّة .
قال الحنفيّة : صلاة التّراويح بالجماعة سنّة على الكفاية في الأصحّ ، فلو تركها الكلّ أساءوا، أمّا لو تخلّف عنها رجل من أفراد النّاس وصلّى في بيته فقد ترك الفضيلة ، وإن صلّى في البيت بالجماعة لم ينل فضل جماعة المسجد .
وقال المالكيّة : تندب صلاة التّراويح في البيوت إن لم تعطّل المساجد ، وذلك لخبر : « عليكم بالصّلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة » ولخوف الرّياء وهو حرام ، واختلفوا فيما إذا صلّاها في بيته ، هل يصلّيها وحده أو مع أهل بيته ؟ قولان ، قال الزّرقانيّ : لعلّهما في الأفضليّة سواء .(/4)
وندب صلاة التّراويح - في البيوت عندهم - مشروط بثلاثة أمور : أن لا تعطّل المساجد ، وأن ينشط لفعلها في بيته ، ولا يقعد عنها ، وأن يكون غير آفاقيّ بالحرمين ، فإن تخلّف شرط كان فعلها في المسجد أفضل ، وقال الزّرقانيّ : يكره لمن في المسجد الانفراد بها عن الجماعة الّتي يصلّونها فيه ، وأولى إذا كان انفراده يعطّل جماعة المسجد .
وقال الشّافعيّة : تسنّ الجماعة في التّراويح على الأصحّ ، لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - الّذي سبق ذكره ،وللأثر عن عمر - رضي الله تعالى عنه - ولعمل النّاس على ذلك. ومقابل الأصحّ عندهم أنّ الانفراد بصلاة التّراويح أفضل كغيرها من صلاة اللّيل لبعده عن الرّياء .
وقال الحنابلة : صلاة التّراويح جماعةً أفضل من صلاتها فرادى ، قال أحمد : كان عليّ وجابر وعبد اللّه - رضي الله عنهم - يصلّونها في الجماعة .
وفي حديث أبي ذرّ - رضي الله تعالى عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمع أهله ونساءه ، وقال : إنّ الرّجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف كتب له قيام ليلة » .
وقالوا : إن تعذّرت الجماعة صلّى وحده لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » .
القراءة وختم القرآن الكريم في التّراويح :
17 - ذهب الحنابلة وأكثر المشايخ من الحنفيّة وهو ما رواه الحسن عن أبي حنيفة إلى أنّ السّنّة أن يختم القرآن الكريم في صلاة التّراويح ليسمع النّاس جميع القرآن في تلك الصّلاة . وقال الحنفيّة : السّنّة الختم مرّةً ، فلا يترك الإمام الختم لكسل القوم ، بل يقرأ في كلّ ركعة عشر آيات أو نحوها ، فيحصل بذلك الختم ، لأنّ عدد ركعات التّراويح في شهر رمضان ستّمائة ركعة ، أو خمسمائة وثمانون ، وآي القرآن الكريم ستّ آلاف وشيء .
ويقابل قول هؤلاء ما قيل : الأفضل أن يقرأ قدر قراءة المغرب لأنّ النّوافل مبنيّة على التّخفيف خصوصاً بالجماعة ، وما قيل : يقرأ في كلّ ركعة ثلاثين آيةً لأنّ عمر - رضي الله تعالى عنه - أمر بذلك ، فيقع الختم ثلاث مرّات في رمضان ، لأنّ لكلّ عشر فضيلةً كما جاءت به السّنّة ، « أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار » .
وقال الكاسانيّ : ما أمر به عمر - رضي الله تعالى عنه - هو من باب الفضيلة ، وهو أن يختم القرآن أكثر من مرّة ، وهذا في زمانهم ، وأمّا في زماننا فالأفضل أن يقرأ الإمام على حسب حال القوم ، فيقرأ قدر ما لا ينفّرهم عن الجماعة ، لأنّ تكثير الجماعة أفضل من تطويل القراءة .
ومن الحنفيّة من استحبّ الختم ليلة السّابع والعشرين رجاء أن ينالوا ليلة القدر ، وإذا ختم قبل آخره .. قيل : لا يكره له التّراويح فيما بقي ، قيل : يصلّيها ويقرأ فيها ما يشاء . وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّه يندب للإمام الختم لجميع القرآن في التّراويح في الشّهر كلّه، وقراءة سورة في تراويح جميع الشّهر تجزئ ، وكذلك قراءة سورة في كلّ ركعة ، أو كلّ ركعتين من تراويح كلّ ليلة في جميع الشّهر تجزئ وإن كان خلاف الأولى إذا كان يحفظ غيرها أو كان هناك من يحفظ القرآن غيره ، قال ابن عرفة : في المدوّنة لمالك : وليس الختم بسنّة .
وقال الحنابلة : يستحبّ أن يبتدئ التّراويح في أوّل ليلة بسورة القلم : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } بعد الفاتحة لأنّها أوّل ما نزل من القرآن ، فإذا سجد للتّلاوة قام فقرأ من البقرة نصّ عليه أحمد ، والظّاهر أنّه قد بلغه في ذلك أثر ، وعنه : أنّه يقرأ بسورة القلم في عشاء الآخرة من اللّيلة الأولى من رمضان .
قال الشّيخ : وهو أحسن ممّا نقل عنه أنّه يبتدئ بها التّراويح ويختم آخر ركعة من التّراويح قبل ركوعه ويدعو ، نصّ عليه .
المسبوق في التّراويح :
18 - قال الحنفيّة : من فاته بعض التّراويح وقام الإمام إلى الوتر أوتر معه ثمّ صلّى ما فاته .
وقال المالكيّة : من أدرك مع الإمام ركعةً فلا يخلو أن تكون من الرّكعتين الأخيرتين من التّرويحة أو من الأوليين ، فإن كانت من الأخيرتين فإنّه يقضي الرّكعة الّتي فاتته بعد سلام الإمام في أثناء فترة الرّاحة ، وإن كانت من الرّكعتين الأوليين فقد روى ابن القاسم عن مالك أنّه لا يسلّم سلامه ولكن يقوم فيصحب الإمام فإذا قام الإمام من الرّكعة الأولى من الأخريين تشهّد وسلّم ثمّ دخل معه في الرّكعتين الأخريين فصلّى منهما ركعةً ثمّ قضى الثّانية منهما حين انفراده بالتّنفّل .
وعند الحنابلة : سئل أحمد عمّن أدرك من ترويحة ركعتين يصلّي إليها ركعتين ؟ فلم ير ذلك، وقال : هي تطوّع .
قضاء التّراويح :
19 - إذا فاتت صلاة التّراويح عن وقتها بطلوع الفجر ، فقد ذهب الحنفيّة في الأصحّ عندهم، والحنابلة في ظاهر كلامهم إلى أنّها لا تقضى ; لأنّها ليست بآكد من سنّة المغرب والعشاء ، وتلك لا تقضى فكذلك هذه .
وقال الحنفيّة : إن قضاها كانت نفلًا مستحبًّا لا تراويح كرواتب اللّيل ، لأنّها منها ، والقضاء عندهم من خواصّ الفرض وسنّة الفجر بشرطها .
ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة أنّ من لم يؤدّ التّراويح في وقتها فإنّه يقضيها وحده ما لم يدخل وقت تراويح أخرى ، وقيل : ما لم يمض الشّهر .
ولم نجد تصريحاً للمالكيّة والشّافعيّة في هذه المسألة .
لكن قال النّوويّ : لو فات النّفل المؤقّت ندب قضاؤه في الأظهر .(/5)
صَلاَةُ الجماعة *
التّعريف :
1 - المقصود بصلاة الجماعة : فعل الصّلاة في جماعة .
فضل صلاة الجماعة :
2 - لصلاة الجماعة فضل كبير ، وقد حثّ عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عدّة أحاديث منها : قوله صلى الله عليه وسلم : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجةً » وفي رواية أخرى : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجةً » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال « لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل ، ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التّهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصّبح لأتوهما ولو حبواً».
وعن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل ، ومن صلّى الصّبح في جماعة فكأنّما صلّى اللّيل كلّه » .
ولأهمّيّتها يقول الفقهاء : الصّلاة في الجماعة معنى الدّين ، وشعار الإسلام ، ولو تركها أهل مصر قوتلوا ، وأهل حارة جبروا عليها وأكرهوا .
الحكم التّكليفيّ :
للفقهاء في بيان حكم صلاة الجماعة أقوال مختلفة ، وبيانها فيما يلي :
أوّلاً : الجماعة في الفرائض :
3 - ذهب الحنفيّة - في الأصحّ - وأكثر المالكيّة ، وهو قول للشّافعيّة ، إلى أنّ صلاة الجماعة في الفرائض سنّة مؤكّدة للرّجال ، وهي شبيهة بالواجب في القوّة عند الحنفيّة . وصرّح بعضهم بأنّها واجبة - حسب اصطلاحهم - واستدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجةً » وفي رواية : « بخمس وعشرين درجةً » ، فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجماعة لإحراز الفضيلة ، وذا آية السّنن ، وقال عبد اللّه بن مسعود في الصّلوات : إنّها من سنن الهدي . وذهب الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - ، إلى أنّها فرض كفاية ، وهو قول بعض فقهاء الحنفيّة ، كالكرخيّ والطّحاويّ ، وهو ما نقله المازريّ عن بعض المالكيّة .
واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصّلاة إلاّ قد استحوذ عليهم الشّيطان ، فعليك بالجماعة فإنّما يأكل الذّئب القاصية » .
وقد فصّل بعض المالكيّة فقالوا : إنّها فرض كفاية من حيث الجملة أي بالبلد ، فيقاتل أهلها عليها إذا تركوها ، وسنّة في كلّ مسجد وفضيلة للرّجل في خاصّة نفسه .
وذهب الحنابلة ، وهو قول للحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّها واجبة وجوب عين وليست شرطاً لصحّة الصّلاة ، خلافاً لابن عقيل من الحنابلة ، الّذي ذهب إلى أنّها شرط في صحّتها قياساً على سائر واجبات الصّلاة .
واستدلّ الحنابلة بقول اللّه تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } فأمر اللّه تعالى بالجماعة حال الخوف ، ففي غيره أولى .
وبما رواه أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :
« والّذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ، فيحطب ثمّ آمر بالصّلاة فيؤذّن لها ، ثمّ آمر رجلاً فيؤمّ النّاس ، ثمّ أخالف إلى رجال لا يشهدون الصّلاة ، فأحرّق عليهم بيوتهم » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل أعمى ، فقال : يا رسول اللّه ، إنّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرخّص له ، فيصلّي في بيته فرخّص له ، فلمّا ولّى دعاه فقال : هل تسمع النّداء بالصّلاة ؟ قال : نعم قال : فأجب » وإذا لم يرخّص للأعمى الّذي لم يجد قائداً فغيره أولى . ولذلك قالوا : إنّ تارك الجماعة يقاتل وإن أقامها غيره ، لأنّ وجوبها على الأعيان .
4 - والجماعة في صلاة الخوف عند الشّافعيّة أفضل من الانفراد لعموم الأخبار في صلاة الجماعة ، كما في الأمن . وانظر مصطلح : ( صلاة الخوف ) .
5- أمّا بالنّسبة لصلاة الجمعة فإنّ الجماعة شرط في صحّتها ، فلا تصحّ بغير جماعة ، وهذا باتّفاق الفقهاء . ( ر : صلاة الجمعة ) .
6- والجماعة في صلاة الجنازة ليست بشرط ، بل سنّة ، وقال ابن رشد : إنّ الجماعة شرط فيها كالجمعة ، والمشهور عند المالكيّة أنّها مندوبة .
حكم صلاة جماعة النّساء :
7 - ما سبق من حكم صلاة الجماعة إنّما هو بالنّسبة للرّجال .
أمّا بالنّسبة للنّساء : فعند الشّافعيّة والحنابلة يسنّ لهنّ الجماعة منفردات عن الرّجال ، سواء أأمّهنّ رجل أم امرأة ، لفعل عائشة وأمّ سلمة - رضي الله تعالى عنهما - وقد « أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ورقة بأن تجعل لها مؤذّناً يؤذّن لها وأمرها أن تؤمّ أهل دارها» ولأنّهنّ من أهل الفرض ، فأشبهن الرّجال .
أمّا الحنفيّة فإنّ الجماعة للنّساء عندهم مكروهة ، ولأنّ خروجهنّ إلى الجماعات قد يؤدّي إلى فتنة .
ومنع المالكيّة جماعة النّساء ، لأنّ من شروط الإمام أن يكون ذكراً فلا تصحّ إمامة المرأة لرجال ، ولا لنساء مثلها ، وإنّما يصحّ للمرأة حضور جماعة الرّجال إذا لم تكن مخشيّة الفتنة .
الجماعة في غير الفرائض :
8 - الجماعة في صلاة العيدين شرط صحّة عند الحنفيّة والحنابلة ، وسنّة عند المالكيّة والشّافعيّة .
واتّفق الفقهاء على أنّ الجماعة سنّة في صلاة الكسوف .
وسوّى الشّافعيّة والحنابلة بين الكسوف والخسوف في سنّيّة الجماعة فيهما .
أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يرون صلاة الجماعة في صلاة الخسوف .(/1)
والجماعة في صلاة الاستسقاء سنّة عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، ومحمّد ، وأبي يوسف خلافاً لأبي حنيفة ، فإنّه لا يرى فيها صلاةً أصلاً .
والجماعة في صلاة التّراويح سنّة عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ومستحبّة عند المالكيّة . والجماعة في صلاة الوتر سنّة في شهر رمضان عند الحنابلة ، ومستحبّة عند الشّافعيّة وفي قول عند الحنفيّة .
وتجوز الجماعة في غير ما ذكر من صلاة التّطوّع عند جمهور الفقهاء وقالوا : يجوز التّطوّع جماعةً وفرادى ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما ، وكان أكثر تطوّعه منفرداً ، « وصلّى بحذيفة مرّةً ، وبأنس وأمّه واليتيم مرّةً ، وأمّ أصحابه في بيت عتبان مرّةً كذلك » .
وعن ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - « أنّه أمّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم » .
والمالكيّة قيّدوا الجواز بما إذا كانت الجماعة قليلةً ، وكان المكان غير مشتهر ، فإن كثر العدد كرهت الجماعة ، وكذلك تكره لو كانت الجماعة قليلةً والمكان مشتهراً .
ويرى الحنفيّة أنّ الجماعة في النّفل في غير رمضان مكروهة .
من يطالب بالجماعة :
9 - يطالب بصلاة الجماعة - سواء كان الطّلب على سبيل الوجوب ، أو على سبيل السّنّيّة- : الرّجال الأحرار العقلاء القادرون عليها دون حرج ، فلا تجب على النّساء والعبيد والصّبيان وذوي الأعذار . ومع ذلك تصحّ منهم صلاة الجماعة ، وتنعقد بهم ، على ما هو مبيّن بعد ذلك ، وقد استحبّ الشّافعيّة ، والحنابلة جماعة النّساء ، وقرّر الحنابلة أنّه يكره للحسناء حضور الجماعة مع الرّجال ، خشية الافتتان بها ، ويباح لغيرها حضور الجماعة .
العدد الّذي تنعقد به الجماعة :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ أقلّ عدد تنعقد به الجماعة اثنان ، وهو أن يكون مع الإمام واحد ، فيحصل لهما فضل الجماعة ، لما روى أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اثنان فما فوقهما جماعة » ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحويرث : « إذا حضرت الصّلاة فليؤذّن أحدكما وليؤمّكما أكبركما » وسواء أكان ذلك في المسجد أم في غيره كالبيت والصّحراء .
وسواء أكان الّذي يصلّي مع الإمام رجلاً أم امرأةً . فمن صلّى إماماً لزوجته حصل لهما فضل الجماعة .
واختلف الفقهاء في انعقاد الجماعة في صلاة الفريضة لو كان الواحد مع الإمام صبيّاً مميّزاً، إذ غير المميّز لا تنعقد به جماعة بالاتّفاق .
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى انعقادها باقتداء الصّبيّ مع حصول فضل الجماعة « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الرّجل الّذي فاتته الجماعة : من يتصدّق على هذا » ، ولأنّه يصحّ أن يكون إماماً ، وهو متنفّل ، فجاز أن يكون مأموماً بالمفترض كالبالغ .
وعند المالكيّة - وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد - لا يحصل فضل الجماعة باقتداء الصّبيّ في الفرض ، لأنّ صلاة الصّبيّ نفل ، فكأنّ الإمام صلّى منفرداً .
وأمّا في التّطوّع فيصحّ باقتداء الصّبيّ ، ويحصل فضل الجماعة ، وهذا باتّفاق . « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ابن عبّاس مرّةً وهو صبيّ ، وأمّ حذيفة مرّةً أخرى » .
ويختلف العدد بالنّسبة لإظهار الشّعيرة في البلدة أو القرية ، إذ أنّ صلاة الجماعة من شعائر الإسلام ، ولو تركها أهل قرية قوتلوا عليها ، ولذلك قال المالكيّة : قوتلوا عليها لتفريطهم في الشّعيرة ، ولا يخرج أهل البلد عن العهدة إلاّ بجماعة أقلّها ثلاثة : إمام ومأمومان ، ومؤذّن يدعو للصّلاة ، وموضع معدّ لها ، وهو المسجد .
وقال الشّافعيّة : إن امتنع أهل القرية قوتلوا ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصّلاة إلاّ استحوذ عليهم الشّيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنّما يأكل الذّئب القاصية » فتجب بحيث يظهر الشّعار بإقامتها بمحلّ في القرية الصّغيرة والكبيرة بمحالّ يظهر بها الشّعار ، ويسقط الطّلب بطائفة وإن قلّت .
ويرى المالكيّة : أنّ الإمام الرّاتب بمسجد أو غيره إذا جاء في وقته المعتاد له ، فلم يجد أحدًا يصلّي معه ، فصلّى منفرداً ، بعد أن أذّن وأقام فإنّه يعتبر كالجماعة فضلاً وحكماً ، ويحصل له فضل الجماعة إن نوى الإمامة ، لأنّه لا تتميّز صلاته منفرداً عن صلاته إماماً إلاّ بالنّيّة ، ولذلك لا يعيد في أخرى ، ولا يصلّي بعده جماعةً ، ويجمع ليلة المطر .
والأحكام الّتي سبقت بالنّسبة للعدد الّذي تنعقد به الجماعة إنّما هو في غير الجمعة والعيد ، إذ فيهما يختلف العدد - ولكلّ مذهب رأيه في تحديد العدد ، حسبما يستند إليه من أدلّة . وينظر تفصيل ذلك في : ( صلاة الجمعة وصلاة العيدين ) .
أفضل مكان لصلاة الجماعة :
11 - تجوز إقامة صلاة الجماعة في أيّ مكان طاهر ، في البيت أو الصّحراء أو المسجد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ » . « وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لرجلين : إذا صلّيتما في رحالكما ، ثمّ أتيتما مسجد جماعة ، فصلّيا معهم ، فإنّها لكما نافلة » إلاّ أنّ الجماعة للفرائض في المسجد أفضل منها في غير المسجد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم ، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة » ، ولأنّ المسجد مشتمل على الشّرف والطّهارة ، كما أنّ إقامتها في المسجد فيه إظهار الشّعائر وكثرة الجماعة .(/2)
والصّلاة في المساجد الّتي يكثر فيها النّاس أفضل من الصّلاة في المساجد الّتي يقلّ فيها النّاس ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلاة الرّجل مع الرّجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرّجل مع الرّجلين أزكى من صلاته مع الرّجل ، وما كانوا أكثر فهو أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ » وإن كان في جواره أو غير جواره مسجد لا تنعقد فيه الجماعة إلاّ بحضوره ، ففعلها فيه أفضل وأولى من فعلها في المسجد الّذي يكثر فيه النّاس ، لأنّه يعمّره بإقامة الجماعة فيه وبذلك تحصل الجماعة في مسجدين .
وإذا كانت الجماعة في المسجد أفضل من إقامتها في البيت فإنّه لو كان إذا ذهب الإنسان إلى المسجد ، وترك أهل بيته لصلّوا فرادى ، أو لتهاونوا أو تهاون بعضهم في الصّلاة ، أو لو صلّى في بيته لصلّى جماعةً ، وإذا صلّى في المسجد صلّى وحده فصلاته في بيته أفضل . وإن كان البلد ثغراً فالأفضل اجتماع النّاس في مسجد واحد ، ليكون أعلى للكلمة ، وأوقع للهيبة ، وإذا جاءهم خبر عن عدوّهم سمعه جميعهم ، وإن أرادوا التّشاور في أمر حضر جميعهم ، وإن جاء عين الكفّار رآهم فأخبر بكثرتهم .
والصّلاة في المساجد الثّلاثة : - المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى - وإن قلّت الجماعة فيها أفضل منها في غيرها من المساجد وإن كثرت الجماعة فيها ، بل قال بعض الفقهاء : الانفراد فيها أفضل من الجماعة في غيرها .
وأمّا النّوافل فصلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :« صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة». لكن ما شرعت له الجماعة من السّنن فهو مستثنًى من الحديث ، وصلاته في المسجد أفضل من صلاته في البيت .
وما سبق من أفضليّة صلاة الجماعة في المسجد إنّما هو بالنّسبة للرّجال ، أمّا بالنّسبة للنّساء فالجماعة لهنّ في البيت أفضل منها في المسجد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها » .
ما تدرك به الجماعة :
12 - يفرّق بعض الفقهاء بين إدراك فضيلة الجماعة ، وبين ثبوت حكم الجماعة ، ويختلفون في القدر الّذي تدرك به فضيلة الجماعة . ويختلفون كذلك في القدر الّذي يثبت به حكم الجماعة . وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : ما تدرك به فضيلة الجماعة :
13 - اختلف الفقهاء في القدر الّذي تدرك به فضيلة الجماعة ، فعند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، وهو قول ابن يونس وابن رشد من المالكيّة تدرك فضيلة الجماعة باشتراك المأموم مع الإمام في جزء من صلاته ، ولو في القعدة الأخيرة قبل السّلام، لأنّه أدرك جزءاً من الصّلاة ، فأشبه ما لو أدرك ركعةً ، ولأنّ من أدرك آخر الشّيء فقد أدركه ، ولأنّه لو لم يدرك فضل الجماعة بذلك لمنع من الاقتداء ، لأنّه يكون حينئذ زيادة بلا فائدة ، لكن ثوابه يكون دون ثواب من أدركها من أوّلها .
ومقابل الصّحيح عند الشّافعيّة - وهو قول خليل والدّردير وابن الحاجب من المالكيّة - لا تدرك فضيلة الجماعة إلاّ بإدراك ركعة كاملة ، لأنّ الصّلاة كلّها ركعة مكرّرة .
ويشترط لحصول فضل الجماعة نيّة الاقتداء من المأموم ، ليحوز فضل الجماعة وهذا باتّفاق، أمّا نيّة الإمام الإمامة ففيها خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( إمامة واقتداء ) .
ثانياً : ما يثبت به حكم الجماعة وما يترتّب عليه من أحكام :
14 - المقصود بحكم الجماعة - كما يفسّره المالكيّة - أنّ من ثبت له حكم الجماعة لا يقتدى به ، ولا يعيد في جماعة ، ويصحّ استخلافه ، ويترتّب عليه سجود سهو الإمام . وحكم الجماعة هذا لا يثبت عند المالكيّة إلاّ بإدراك ركعة كاملة بسجدتيها مع الإمام .
أمّا عند الحنفيّة : فلا تدرك الجماعة إلاّ بإدراك ركعاتها كلّها في الجملة . يقول صاحب الدّرّ المختار وشرحه : لا يكون مصلّياً جماعةً اتّفاقاً ( أي بين فقهاء المذهب ) من أدرك ركعةً من ذوات الأربع ، أو من الصّلاة الثّنائيّة أو الثّلاثيّة ، لأنّه منفرد ببعضها ، لكنّه أدرك فضلها ولو بإدراك التّشهّد . وكذا مدرك الثّلاث لا يكون مصلّياً بجماعة على الأظهر . وقال السّرخسيّ : للأكثر حكم الكلّ ، لكن صاحب البحر ضعّفه .
إعادة الصّلاة جماعةً لمن صلّى منفرداً أو في جماعة :
15 - من أدّى الصّلاة المكتوبة منفرداً ثمّ وجد جماعةً استحبّ له أن يدخل مع الجماعة لتحصيل الفضل ، لما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّه صلّى في مسجد الخيف، فرأى رجلين خلف الصّفّ لم يصلّيا معه ، فقال : عليّ بهما ، فجيء بهما ترعد فرائصهما ، فقال : ما منعكما أن تصلّيا معنا ؟ فقالا : يا رسول اللّه : إنّا كنّا قد صلّينا في رحالنا ، قال : فلا تفعلا ،إذا صلّيتما في رحالكما ثمّ أتيتما مسجد جماعة ، فصلّيا معهم ، فإنّها لكما نافلة » وعن أبي ذرّ - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخّرون الصّلاة عن وقتها ، أو يميتون الصّلاة عن وقتها ؟ قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال : صلّ الصّلاة لوقتها ، فإن أدركتها معهم فصلّ ، فإنّها لك نافلة » .(/3)
وهذا باتّفاق ، من حيث طلب الإعادة لتحصيل الفضل - وللفقهاء تفصيل في استثناء بعض الصّلوات من استحباب الإعادة - فعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لا تعاد صلاة المغرب ، لأنّ التّنفّل بالثّلاث بعد المغرب مكروه ، ولا نظير له في الشّرع ، فإذا أعادها شفع بجعلها أربعاً أو اقتصر على اثنتين ، وتصير نافلةً ، كمن دخل مع الإمام في ثانية المغرب ، أمّا إن أتمّ مع الإمام الثّلاث سهواً لا يسلّم معه ، وأتى برابعة وجوبًا ، وسجد للسّهو . وزاد الحنفيّة عدم إعادة العصر والفجر ، لكراهة النّفل بعدهما ، وهو محكيّ عن بعض الشّافعيّة .
وقال المالكيّة : لو أوتر بعد العشاء فلا يعيد العشاء ، لأنّه إن أعاد الوتر لزم مخالفة قوله صلى الله عليه وسلم : « لا وتران في ليلة » ، وإن لم يعده لزم مخالفة قوله صلى الله عليه وسلم : « اجعلوا آخر صلاتكم وتراً » .
والصّلاة المعادة تكون نافلةً ، وهذا قول الحنفيّة والحنابلة ، وهو قول الشّافعيّ في الجديد ، لأنّ الفرض لا يتكرّر في وقت واحد .
وقال المالكيّة : يفوّض في الثّانية أمره إلى اللّه تعالى في قبول أيّ من الصّلاتين لفرضه ، وهو قول الشّافعيّ في القديم .
وقال سعيد بن المسيّب وعطاء والشّعبيّ : تكون المعادة مع الجماعة هي المكتوبة ، لما روي في حديث يزيد بن عامر بن الأسود أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا جئت إلى الصّلاة فوجدت النّاس فصلّ معهم ، وإن كنت قد صلّيت تكن لك نافلةً وهذه مكتوبة » .
هذا بالنّسبة لمن صلّى منفرداً . أمّا بالنّسبة لمن صلّى المكتوبة في جماعة ثمّ وجد جماعةً أخرى فقد ذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى استحباب إعادة الصّلاة مرّةً أخرى في الجماعة الثّانية ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الصّبح ، فرأى رجلين لم يصلّيا معه فقال : ما منعكما أن تصلّيا معنا ؟ قالا : صلّينا في رحالنا فقال : إذا صلّيتما في رحالكما ثمّ أتيتما مسجد جماعة فصلّيا معهم فإنّها لكما نافلة » .
فقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّيتما » يصدق بالانفراد والجماعة . وروى الأثرم عن الإمام أحمد قال : سألت أبا عبد اللّه عمّن صلّى في جماعة ثمّ دخل المسجد - وهم يصلّون - أيصلّي معهم ؟ قال : نعم . وقد روى أنس قال : صلّى بنا أبو موسى الغداة في المربد ، فانتهينا إلى المسجد الجامع ، فأقيمت الصّلاة ، فصلّينا مع المغيرة بن شعبة . وعن صلة عن حذيفة أنّه أعاد الظّهر والعصر والمغرب وكان قد صلّاهنّ في جماعة .
وذهب المالكيّة - وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى أنّ من صلّى في جماعة فلا يعيدها في جماعة أخرى ، لأنّه حصّل فضيلة الجماعة فلا معنى للإعادة بخلاف المنفرد ، واستثنى المالكيّة المسجد الحرام ، ومسجد المدينة وبيت المقدس . قالوا : يجوز لمن صلّى جماعةً في غير هذه المساجد أن يعيد فيها جماعةً ، لفضل تلك البقاع .
تكرار الجماعة في مسجد واحد :
16 - يكره تكرار الجماعة في مسجد الحيّ الّذي له إمام وجماعة معلومون ، لما روى أبو بكرة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصّلاة ، فوجد النّاس قد صلّوا فمال إلى منزله فجمع أهله فصلّى بهم » ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لما تركها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع علمه بفضل الجماعة في المسجد ، وورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة صلّوا في المسجد فرادى ، ولأنّ التّكرار يؤدّي إلى تقليل الجماعة ، لأنّ النّاس إذا علموا أنّهم تفوتهم الجماعة يستعجلون ، فتكثر الجماعة ، وإذا علموا أنّها لا تفوتهم يتأخّرون ؛ فتقلّ الجماعة ، وتقليل الجماعة مكروه ، وهذا رأي جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - في الجملة ، إذ هناك بعض القيود مع شيء من التّفصيل لكلّ مذهب . فالحنفيّة يقيّدون كراهة التّكرار بما إذا صلّى في مسجد الحيّ أهله بأذان وإقامة ، فإذا صلّى فيه أوّلاً غير أهله أو صلّى فيه أهله بدون أذان وإقامة لا يكره تكرار الجماعة فيه. كذلك روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّه يكره التّكرار إذا كانت الجماعة الثّانية كثيرةً ، فأمّا إذا كانوا ثلاثةً أو أربعةً ، فقاموا في زاوية من زوايا المسجد وصلّوا بجماعة فلا يكره . وروي عن محمّد : أنّه يكره التّكرار إذا كانت الجماعة الثّانية على سبيل التّداعي والاجتماع، فأمّا إذا لم يكن فلا يكره .
وروي عن أبي يوسف : أنّه إذا لم تكن الجماعة الثّانية على الهيئة الأولى لا تكره ، وإلاّ تكره - وهو الصّحيح - وبالعدول عن المحراب تختلف الهيئة .
ويقول المالكيّة : يجوز للإمام الرّاتب الجمع - يعني أن يصلّي جماعةً - إن جمع غيره قبله بغير إذنه إن لم يؤخّر عن عادته كثيراً ، فإن أذن لأحد أن يصلّي مكانه ، أو أخّر عن عادته تأخيراً كثيراً يضرّ بالمصلّين فجمعوا ، كره للإمام الجمع حينئذ . وبناءً على كراهة إعادة الصّلاة جماعةً في المسجد الّذي له إمام راتب فإنّه إذا دخل جماعة المسجد بعدما صلّى أهله فيه ففي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة يصلّون وحداناً .(/4)
وعند المالكيّة يندب خروجهم من المسجد ليجمعوا خارجه ، أو مع إمام راتب آخر ، ولا يصلّون في هذا المسجد أفذاذاً ؛ لفوات فضل الجماعة ، إلاّ بالمساجد الثّلاثة " مكّة والمدينة والأقصى " ، فلا يخرجون إذا وجدوا الإمام قد صلّى ويصلّون فيها أفذاذاً ؛ لفضل فذّها على جماعة غيرها ، وهذا إن دخلوها فوجدوا الرّاتب قد صلّى ، وأمّا إن علموا بصلاته قبل دخولهم فإنّهم يجمعون خارجها ، ولا يدخلونها ليصلّوا أفذاذاً .
وبعد أن ذكر الشّافعيّة كراهة إعادة صلاة الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب ، قالوا : ومن حضر ولم يجد إلاّ من صلّى استحبّ لبعض من حضر أن يصلّي معه ؛ ليحصل له فضل الجماعة ، لما روى أبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - « أنّ رجلاً جاء ، وقد صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من يتصدّق على هذا ؟ فقام رجل فصلّى معه » .
وهذا بناءً على قولهم بأنّ الجماعة الثّانية إنّما تكره إذا لم يأذن الإمام ، فإن أذن فلا كراهة . هذا بالنّسبة لمسجد الحيّ الّذي له إمام راتب .
17 - أمّا المسجد الّذي في سوق ، أو في الطّرق وممرّ النّاس ، فإنّه يجوز تكرار الجماعة فيه ، ولا تكره ؛ لأنّ النّاس فيه سواء ، لا اختصاص له بفريق دون فريق .
مثل ذلك المسجد الّذي ليس له إمام ولا مؤذّن ، ويصلّي النّاس فيه فوجاً فوجاً ، فإنّ الأفضل أن يصلّي كلّ فريق بأذان وإقامة ، وهذا باتّفاق .
وذهب الحنابلة إلى عدم كراهة إعادة الجماعة في المسجد ، ولو كان مسجد الحيّ وله إمام راتب ، بل قالوا : إذا صلّى إمام الحيّ ، حضر جماعة أخرى استحبّ لهم أن يصلّوا جماعةً ، وهو قول ابن مسعود وعطاء والحسن والنّخعيّ وقتادة وإسحاق ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجةً » وفي رواية : « بسبع وعشرين درجةً » ، وروى أبو سعيد قال : « جاء رجل وقد صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : من يتصدّق على هذا ؟ فقام رجل فصلّى معه » ، وروى الأثرم بإسناده عن أبي أمامة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثله وزاد قال : « فلمّا صلّيا قال : وهذان جماعة » . ولأنّه قادر على الجماعة ، فاستحبّ له فعلها ، كما لو كان المسجد في ممرّ النّاس وهذا فيما عدا إعادة الجماعة في المساجد الثّلاثة ، فقد روي عن الإمام أحمد ، وبعض المالكيّة كراهة إعادة الجماعة فيها ، وفي رأي آخر عند الحنابلة لا تكره ، وخالف في ذلك بعض المالكيّة حيث أفتى بالجواز .
الصّلاة عند قيام الجماعة :
18 - من دخل المسجد ، وقد أخذ المؤذّن في إقامة الصّلاة فلا يجوز له الانشغال عنها بنافلة ، سواء أخشي فوات الرّكعة الأولى أم لم يخش فواتها ؛ لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة » ولأنّ ما يفوته مع الإمام أفضل ممّا يأتي به ، فلا يشتغل به ، وقد روت السّيّدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت الصّلاة ، فرأى ناساً يصلّون ، فقال : أصلاتان معاً ؟ » . وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وبهذا قال أبو هريرة ، وابن عمر ، وعروة ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وهو مذهب الحنفيّة بالنّسبة لغير سنّة الفجر .
وقال الحنفيّة في سنّة الفجر : إذا خاف فوت ركعتي الفجر لاشتغاله بسنّتها تركها ؛ لكون الجماعة أكمل ، فلا يشرع فيها . وإذا رجا إدراك ركعة مع الإمام فلا يترك سنّة الفجر ، بل يصلّيها ، وذلك في ظاهر المذهب ، وقيل : إذا رجا إدراك التّشهّد مع الإمام فإنّه يصلّي السّنّة خارج المسجد عند بابه إن وجد مكاناً ، فإن لم يجد مكاناً تركها ولا يصلّيها داخل المسجد ؛ لأنّ التّنفّل في المسجد عند اشتغال الإمام بالفريضة مكروه .
وروي عن ابن مسعود : أنّه دخل والإمام في صلاة الصّبح فركع ركعتي الفجر ، وهذا مذهب الحسن ، ومكحول ، ومجاهد ، وحمّاد بن أبي سليمان .
19 - ومن كان يصلّي النّافلة ، ثمّ أقيمت صلاة الجماعة فقد قال الشّافعيّة والحنابلة : إن لم يخش فوات الجماعة بسلام الإمام فإنّه يتمّ النّافلة ، ولا يقطعها ؛ لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ثمّ يدخل في الجماعة .
وقال المالكيّة : إن لم يخش فوات ركعة بإتمام النّافلة بأن تحقّق أو ظنّ أنّه يدرك الإمام في الرّكعة الأولى عقب إتمام ما هو فيه أتمّها ، ثمّ دخل مع الجماعة .
أمّا إن خشي فوات الجماعة - كما يقول الشّافعيّة والحنابلة - أو خشي فوات ركعة - كما يقول المالكيّة - فإنّه يقطع النّافلة وجوباً عند المالكيّة ، وندباً في غير الجمعة عند الشّافعيّة، ووجوباً في الجمعة " أي إن كانت الّتي يصلّيها الإمام هي الجمعة " ، وعند الحنابلة روايتان حكاهما ابن قدامة ، إحداهما : يتمّ النّافلة ، والثّانية : يقطعها ؛ لأنّ ما يدركه من الجماعة أعظم أجراً وأكثر ثواباً ممّا يفوته بقطع النّافلة ؛ لأنّ صلاة الجماعة تزيد على صلاة الرّجل وحده سبعاً وعشرين درجةً .
أمّا الحنفيّة : فلم يقيّدوا القطع أو الإتمام بإدراك الجماعة ، أو عدم إدراكها ؛ لأنّ الشّروع في النّافلة عندهم يجعلها واجبةً ، ولذلك يقولون : الشّارع في نفل لا يقطع مطلقاً إذا أقيمت الجماعة وهو في صلاة النّافلة ، بل يتمّه ركعتين ، وإذا كان في سنّة الظّهر ، أو سنّة الجمعة ، إذا أقيمت الظّهر ، أو خطب الإمام ، فإنّه يتمّها أربعاً على القول الرّاجح ؛ لأنّها صلاة واحدة .(/5)
ونقل ابن عابدين عن الكمال في فتح القدير ما نصّه : وقيل : يقطع على رأس الرّكعتين في سنّة الظّهر والجمعة ، وهو الرّاجح ؛ لأنّه يتمكّن من قضائها بعد الفرض . وهذا حيث لم يقم إلى الرّكعة الثّالثة . أمّا إن قام إليها وقيّدها بسجدة ففي رواية النّوادر يضيف إليها رابعةً ويسلّم ، وإن لم يقيّدها بسجدة فقيل : يتمّها أربعاً ، ويخفّف القراءة . وقيل : يعود إلى القعدة ويسلّم ، وهذا أشبه ، قال في شرح المنية : والأوجه أن يتمّها .
20 - وإن أقيمت الجماعة والمنفرد يصلّي الصّلاة المفروضة الّتي يؤدّيها الإمام ، فإن لم يكن قيّد الرّكعة الأولى بالسّجود قطع صلاته ، واقتدى ، وإن كان قد عقد ركعةً بالسّجود ، فإن كان في صلاة الصّبح أو المغرب قطع صلاته واقتدى بالإمام ، إلاّ إذا كان قد قام إلى الرّكعة الثّانية ، وقيّدها بالسّجود فإنّه في هذه الحالة يتمّ صلاته . ولا يدخل مع الإمام ؛ لكراهة التّنفّل بعد الفجر وبالثّلاث في المغرب .
وهذا كما يقول الحنفيّة ، لكن المالكيّة قالوا : يدخل مع الإمام في صلاة الصّبح ولا يدخل معه في صلاة المغرب .
وإن كانت الصّلاة رباعيّةً ، وكان المنفرد قد قيّد الرّكعة الأولى بالسّجود ، شفع بركعة أخرى، وسلّم واقتدى بالإمام ، وكذلك إذا كان صلّى ركعتين وقام إلى الثّالثة ، ولكنّه لم يقيّدها بالسّجدة ، فإنّه يرجع للجلوس ، ويعيد التّشهّد ، ويسلّم ويدخل مع الإمام . وإن كان قد قيّد الثّالثة بالسّجدة فإنّه يتمّ صلاته ، ويقتدي بالإمام متنفّلاً ، إلاّ في العصر ، كما هو عند الحنفيّة ؛ لكراهة النّفل بعده .
21 - من شرع في صلاة فائتة وأقيمت الحاضرة في المسجد فإنّه لا يقطع صلاته ، لكنّه لو خاف فوت جماعة الحاضرة قبل قضاء الفائتة ، فإن كان صاحب ترتيب قضى ، وإن لم يكن فالظّاهر أنّه يقتدي ؛ لإحراز فضيلة الجماعة ، مع جواز تأخير القضاء وإمكان تلافيه .
قال ابن عابدين بعد أن نقل ذلك عن الخير الرّمليّ : ووجهه ظاهر ؛ لأنّ الجماعة واجبة عندنا ، أو في حكم الواجب .
أمّا إذا شرع في قضاء فرض ، وأقيمت الجماعة في ذلك الفرض بعينه ، فإنّه يقطع ويقتدي. وعزي للخلاصة : أنّه لو شرع في قضاء الفوائت ، ثمّ أقيمت لا يقطع ، هذا مذهب الحنفيّة . وقال المالكيّة : من شرع في فريضة ، وأقيمت الجماعة في غيرها ، بأن كان في ظهر ، فأقيمت عليه العصر مثلاً قطع صلاته الّتي فيها إن خشي ، بأن تحقّق أو ظنّ فوات ركعة مع الإمام ، وإن لم يخش فوات ركعة مع الإمام بأن تحقّق أو ظنّ إدراكه في الأولى عقب إتمام ما هو فيه فلا يقطع بل يتمّ صلاته .
وقال الشّافعيّة : من كان يصلّي فائتةً ، والجماعة تصلّي الحاضرة فلا يقلب صلاته نفلاً ليصلّيها جماعةً ، إذ لا تشرع فيها الجماعة حينئذ ، خروجاً من خلاف العلماء ، فإن كانت الجماعة في تلك الفائتة بعينها جاز ذلك ، لكنّه لا يندب ، أي جاز قطع صلاته الّتي هو فيها ، ويقتدي بالإمام .
ما يستحبّ لمن قصد الجماعة :
22 - يستحبّ للرّجل إذا أقبل إلى الصّلاة : أن يقبل بخوف ووجل وخشوع وخضوع ، وعليه السّكينة والوقار ، وإن سمع الإقامة لم يسع إليها في عجلة ، لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون ، وعليكم السّكينة ، فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا » وعن أبي قتادة قال: « بينما نحن نصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلمّا صلّى قال : ما شأنكم ؟ قالوا : استعجلنا إلى الصّلاة ، قال : فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصّلاة فعليكم بالسّكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتمّوا » ، وفي رواية : « فاقضوا » .
وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة .
وقال الإمام أحمد وأبو إسحاق : إن خاف فوات التّكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع إذا طمع أن يدركها ما لم يكن عجلةً تقبح ، جاء الحديث عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّهم كانوا يعجّلون شيئاً إذا خافوا فوات التّكبيرة الأولى » ، وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشتدّ إلى الصّلاة وقال : بادروا حدّ الصّلاة يعني التّكبيرة الأولى .
وقال المالكيّة : يجوز الإسراع في المشي للصّلاة في جماعة لإدراك فضلها إسراعاً يسيراً بلا خبب أي بلا جري يذهب الخشوع ، فيكره ، ولو خاف فوات إدراكها ولو جمعةً ؛ لأنّ لها بدلاً؛ ولأنّ الشّارع إنّما أذن في السّعي مع السّكينة ، فاندرجت الجمعة وغيرها ، إلاّ أن يكون في محلّ لا تصحّ الصّلاة فيه ويضيق الوقت ، بحيث يخشى فواته إن لم يسرع، فيجب حينئذ. كذلك قال الشّافعيّة : لو ضاق الوقت وخشي فواته فليسرع ، كما لو خشي فوات الجمعة وكذلك لو امتدّ الوقت ، وكانت لا تقوم إلاّ به ، ولو لم يسرع لتعطّلت ، قاله الأذرعيّ . ويستحبّ أن يقارب بين خطوه لتكثر حسناته ، فإنّ كلّ خطوة يكتب له بها حسنة ، وقد روى عبد بن حميد في مسنده بإسناده عن زيد بن ثابت قال : « أقيمت الصّلاة ، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه فقارب في الخطى ثمّ قال : أتدري لم فعلت هذا ؟ لتكثر خطانا في طلب الصّلاة » .
كيفيّة انتظام المصلّين في صلاة الجماعة :
23 - إذا انعقدت الجماعة بأقلّ ما تنعقد به ( واحد مع الإمام ) فالسّنّة أن يقف المأموم عن يمين الإمام إذا كان رجلاً أو صبيّاً يعقل ، فإن كانت امرأةً أقامها خلفه ، ولو كان مع الإمام اثنان ، فإن كانا رجلين أقامهما خلفه ، وإن كانا رجلاً وامرأةً أقام الرّجل عن يمينه والمرأة خلف الرّجل .(/6)
ولو كانت الجماعة كثيرةً وفيهم رجال ونساء وصبيان قام الرّجال في الصّفوف الأولى خلف الإمام ، ثمّ قام الصّبيان من وراء الرّجال ، ثمّ قام النّساء من وراء الصّبيان .
وفي جماعة النّساء تقف الّتي تؤمّ النّساء وسطهنّ .
ولا يجوز أن يتأخّر الإمام عن المأمومين في الموقف ، ولا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المقتدين .
وهذا في الجملة، وتفصيل ذلك في : مصطلح ( إمامة الصّلاة ج /6 ،ف 20 - 21 - 22 ).
أفضليّة الصّفوف وتسويتها :
24 - يستحبّ أن يتقدّم النّاس في الصّفّ الأوّل ؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الّتي تحثّ على التّقدّم إلى الصّفّ الأوّل ، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لو يعلمون ما في الصّفّ الأوّل لكانت قرعةً » .
وعن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الصّفّ الأوّل على مثل صفّ الملائكة ، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه » .
كما يستحبّ إتمام الصّفوف ، ولا يشرع في صفّ حتّى يتمّ ما قبله ، فيبدأ بإتمام الصّفّ الأوّل، ثمّ الّذي يليه ، ثمّ الّذي يليه وهكذا إلى آخر الصّفوف ، فعن أنس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أتمّوا الصّفّ المقدّم ثمّ الّذي يليه ، فما كان من نقص فليكن في الصّفّ المؤخّر » .
ويستحبّ الاعتدال في الصّفوف ، فإذا وقفوا في الصّفّ لا يتقدّم بعضهم بصدره أو غيره ولا يتأخّر عن الباقين ، ويسوّي الإمام بينهم ففي صحيح ابن خزيمة عن البراء « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي ناحية الصّفّ ويسوّي بين صدور القوم ومناكبهم ، ويقول : لا تختلفوا فتختلف قلوبكم إنّ اللّه وملائكته يصلّون على الصّفوف الأول » .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها ؟ فقلنا : يا رسول اللّه وكيف تصفّ الملائكة عند ربّها ؟ قال : يتمّون الصّفوف الأول ، ويتراصّون في الصّفّ » .
وأخرج البخاريّ من حديث أنس قال : « أقيموا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه » .
كما يستحبّ سدّ الفرج ، والإفساح لمن يريد الدّخول في الصّفّ . فقد ورد عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أقيموا الصّفوف ، وحاذوا بين المناكب وسدّوا الخلل ، ولينوا بأيدي إخوانكم ، ولا تذروا فرجات للشّيطان ، ومن وصل صفّاً وصله اللّه ومن قطع صفّاً قطعه اللّه » .
قال النّوويّ : واستحباب الصّفّ الأوّل ثمّ الّذي يليه ثمّ الّذي يليه إلى آخرها - هذا الحكم مستمرّ في صفوف الرّجال بكلّ حال ، وكذا في صفوف النّساء المنفردات بجماعتهنّ عن جماعة الرّجال ، أمّا إذا صلّت النّساء مع الرّجال جماعةً واحدةً ، وليس بينهما حائل فأفضل صفوف النّساء آخرها .
لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خير صفوف الرّجال أوّلها وشرّها آخرها ، وخير صفوف النّساء آخرها ، وشرّها أوّلها » .
صلاة الرّجل وحده خلف الصّفوف :
25 - الأصل في صلاة الجماعة أن يكون المأمومون صفوفاً متراصّةً - كما سبق بيانه - ولذلك يكره أن يصلّي واحد منفردًا خلف الصّفوف دون عذر ، وصلاته صحيحة مع الكراهة ، وتنتفي الكراهة بوجود العذر على ما سيأتي بيانه .
وهذا عند جمهور الفقهاء : - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - والأصل فيه ما رواه البخاريّ عن « أبي بكرة : أنّه انتهى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو راكع ، فركع قبل أن يصل إلى الصّفّ ، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : زادك اللّه حرصاً ولا تعد » .
قال الفقهاء : يؤخذ من ذلك عدم لزوم الإعادة ، وأنّ الأمر الّذي ورد في حديث وابصة بن معبد الّذي رواه التّرمذيّ من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي خلف الصّفّ، فأمره أن يعيد الصّلاة » . هذا الأمر بالإعادة إنّما هو على سبيل الاستحباب ؛ جمعاً بين الدّليلين .
وعند الحنابلة تبطل صلاة من صلّى وحده ركعةً كاملةً خلف الصّفّ منفرداً دون عذر ؛ لحديث وابصة بن معبد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي خلف الصّفّ وحده فأمره أن يعيد » .
وعن عليّ بن شيبان : « أنّه صلّى بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فانصرف ، ورجل فرد خلف الصّفّ ، قال : فوقف عليه نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم حين انصرف قال : استقبل صلاتك ، لا صلاة للّذي خلف الصّفّ » .
فأمّا حديث أبي بكرة فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد نهاه فقال : « لا تعد » ، والنّهي يقتضي الفساد ، وعذره فيما فعله لجهله بتحريمه ، وللجهل تأثير في العفو .
وفيما يلي بيان كيفيّة تصرّف المأموم ليجتنب الصّلاة منفرداً خلف الصّفّ ، حتّى تنتفي الكراهة ، كما يقول جمهور الفقهاء ، وتصحّ كما يقول الحنابلة :
26 - من دخل المسجد وقد أقيمت الجماعة ، فإن وجد فرجةً في الصّفّ الأخير وقف فيها ، أو وجد الصّفّ غير مرصوص وقف فيه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وملائكته يصلّون على الّذين يصلون الصّفوف » .
وإن وجد الفرجة في صفّ متقدّم فله أن يخترق الصّفوف ليصل إليها لتقصير المصلّين في تركها ، يدلّ على ذلك ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نظر إلى فرجة في صفّ فليسدّها بنفسه ، فإن لم يفعل ، فمرّ مارّ ، فليتخطّ على رقبته فإنّه لا حرمة له » .(/7)
ولأنّ سدّ الفرجة الّتي في الصّفوف مصلحة عامّة له وللقوم بإتمام صلاته وصلاتهم ، فإنّ تسوية الصّفوف من تمام الصّلاة ، كما ورد في الحديث . وقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسدّ الفرج .
وهذا باتّفاق بين الفقهاء في الجملة إذ إنّ بعض المالكيّة يحدّد الصّفوف الّتي يجوز اختراقها بصفّين غير الّذي خرج منه والّذي دخل فيه ، كذلك قال الحنابلة : لو كانت الفرجة بحذائه كره أن يمشي إليها عرضًا بين يدي بعض المأمومين ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه» .
27 - ومن لم يجد فرجةً في أيّ صفّ فقد اختلف الفقهاء فيما ينبغي أن يفعله حينئذ .
قال الحنفيّة : من لم يجد فرجةً ينبغي أن ينتظر من يدخل المسجد ليصطفّ معه خلف الصّفّ، فإن لم يجد أحداً وخاف فوات الرّكعة جذب من الصّفّ إلى نفسه من يعرف منه علماً وخلقاً لكي لا يغضب عليه ، فإن لم يجد وقف خلف الصّفّ بحذاء الإمام ، ولا كراهة حينئذ ، لأنّ الحال حال العذر ، هكذا ذكر الكاسانيّ في البدائع ، لكن الكمال بن الهمام ذكر في الفتح : أنّ من جاء والصّفّ ملآن يجذب واحداً منه ، ليكون معه صفّاً آخر ، ثمّ قال : وينبغي لذلك " أي لمن كان في الصّفّ " أن لا يجيبه ، فتنتفي الكراهة عن هذا ؛ لأنّه فعل وسعه .
وقال المالكيّة : من لم يمكنه الدّخول في الصّفّ ، فإنّه يصلّي منفرداً عن المأمومين ، ولا يجذب أحدًا من الصّفّ ، وإن جذب أحداً فلا يطعه المجذوب ؛ لأنّ كلّاً من الجذب والإطاعة مكروه .
والصّحيح عند الشّافعيّة : أنّ من لم يجد فرجةً ولا سعةً فإنّه يستحبّ أن يجرّ إليه شخصاً من الصّفّ ليصطفّ معه ، لكن مع مراعاة أنّ المجرور سيوافقه ، وإلاّ فلا يجرّ أحداً منعاً للفتنة، وإذا جرّ أحداً فيندب للمجرور أن يساعده لينال فضل المعاونة على البرّ والتّقوى .
ومقابل الصّحيح - وهو ما نصّ عليه في البويطيّ واختاره القاضي أبو الطّيّب - أنّه يقف منفرداً ، ولا يجذب أحداً ؛ لئلاّ يحرم غيره فضيلة الصّفّ السّابق .
وقال الحنابلة : من لم يجد موضعًا في الصّفّ يقف فيه وقف عن يمين الإمام إن أمكنه ذلك ; لأنّه موقف الواحد ، فإن لم يمكنه الوقوف عن يمين الإمام فله أن ينبّه رجلاً من الصّفّ ليقف معه ، وينبّهه بكلام أو بنحنحة أو إشارة ويتبعه من ينبّهه .
وظاهره وجوباً لأنّه من باب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به .
ويكره تنبيهه بجذبه نصّاً ، واستقبحه أحمد وإسحاق لما فيه من التّصرّف فيه بغير إذنه .
وقال ابن عقيل : جوّز أصحابنا جذب رجل يقوم معه صفًّا ، وصحّح ذلك ابن قدامة ؛ لأنّ الحالة داعية إليه ، فجاز كالسّجود على ظهره أو قدمه حال الزّحام ، وليس هذا تصرّفاً فيه ، إنّما هو تنبيهه ليخرج معه ، فجرى مجرى مسألته أن يصلّي معه ، وقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لينوا بأيدي إخوانكم » فإن امتنع من الخروج معه لم يكرهه وصلّى وحده .
الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن صلاة الجماعة :
الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن صلاة الجماعة : منها ما هو عامّ ، ومنها ما هو خاصّ . وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : الأعذار العامّة :
28 - أ - المطر الشّديد الّذي يشقّ معه الخروج للجماعة ، والّذي يحمل النّاس على تغطية رءوسهم .
ب - الرّيح الشّديدة ليلاً لما في ذلك من المشقّة .
ج - البرد الشّديد ليلاً أو نهاراً ، وكذلك الحرّ الشّديد . والمراد البرد أو الحرّ الّذي يخرج عمّا ألفه النّاس أو ألفه أصحاب المناطق الحارّة أو الباردة .
د - الوحل الشّديد الّذي يتأذّى به الإنسان في نفسه وثيابه ، ولا يؤمن معه التّلوّث .
وعن أبي يوسف : سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين وردغة فقال : لا أحبّ تركها .
قال ابن عابدين : وفي شرح الزّاهديّ عن شرح التّمرتاشيّ : اختلف في كون الأمطار والثّلوج والأوحال والبرد الشّديد عذراً ، وعن أبي حنيفة : إذا اشتدّ التّأذّي يعذر ، وفي وجه عند الشّافعيّة - وهو مقابل الصّحيح - أنّ الوحل ليس بعذر ، والصّحيح أنّه عذر .
هـ - الظّلمة الشّديدة ، والمراد بها كون الإنسان لا يبصر طريقه إلى المسجد ، قال ابن عابدين : والظّاهر أنّه لا يكلّف إيقاد نحو سراج وإن أمكنه ذلك .
والدّليل على كون الأعذار السّابقة من مطر وغيره تبيح التّخلّف عن الجماعة الأحاديث الواردة في ذلك ومنها :
ما روي أنّ ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أذّن بالصّلاة في ليلة ذات برد وريح فقال: ألا صلّوا في الرّحال ، ثمّ قال : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلةً ذات برد ومطر يقول : ألا صلّوا في رحالكم » وفي رواية : « كان يأمر مناديه في اللّيلة الممطرة واللّيلة الباردة ذات الرّيح أن يقول : ألا صلّوا في رحالكم » .
عن عبد اللّه بن الحارث ، عن عبد اللّه بن عبّاس : « أنّه قال لمؤذّنه في يوم مطير : إذا قلت : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه . أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه فلا تقل : حيّ على الصّلاة . قل : صلّوا في بيوتكم . قال : فكأنّ النّاس استنكروا ذاك . فقال : أتعجبون من ذا ؟ قد فعل ذا من هو خير منّي . إنّ الجمعة عَزْمةٌ . وإنّي كرهت أن أحرجكم ، فتمشوا في الطّين والدّحض » .
ثانياً : الأعذار الخاصّة :
أ - المرض :
29 - وهو المرض الّذي يشقّ معه الإتيان إلى المسجد لصلاة الجماعة . قال ابن المنذر :(/8)
لا أعلم خلافاً بين أهل العلم : أنّ للمريض أن يتخلّف عن الجماعات من أجل المرض ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا مرض تخلّف عن المسجد ، وقال : مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس » ، ومن ذلك كبر السّنّ الّذي يشقّ معه الإتيان إلى المسجد .
ب - الخوف :
30 - وهو عذر في ترك الجماعة ؛ لما روى ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من سمع النّداء ، فلم يمنعه من اتّباعه عذر ، قالوا : وما العذر يا رسول اللّه ؟ قال : خوف أو مرض ، لم تقبل منه الصّلاة الّتي صلّى » .
والخوف ثلاثة أنواع : خوف على النّفس ، وخوف على المال ، وخوف على الأهل .
الأوّل : أن يخاف على نفسه سلطاناً يأخذه ، أو عدوّاً أو لصّاً أو سبعاً أو دابّةً أو سيلاً أو نحو ذلك ممّا يؤذيه في نفسه ، وفي معنى ذلك أن يخاف غريماً له يلازمه ، ولا شيء معه يوفّيه ؛ لأنّ حبسه بدين هو معسر به ظلم له . فإن كان قادراً على أداء الدّين لم يكن عذراً له ؛ لأنّه يجب إيفاؤه .
ومن ذلك : الخوف من توقيع عقوبة ، كتعزير وقود وحدّ قذف ممّا يقبل العفو . فإن كان يرجو العفو عن العقوبة إن تغيّب أيّاماً عن الجماعة كان ذلك عذراً . فإن لم يرج العفو أو كان الحدّ، ممّا لا يقبل العفو كحدّ الزّنا لم يكن ذلك عذراً ، وهذا كما يقول الشّافعيّة والمالكيّة. واختلف الحنابلة فيمن وجب عليه قصاص ، فلم يعتبره بعضهم عذراً ، واعتبره بعضهم عذرًا إن رجا العفو مجّاناً أو على مال ، وقال القاضي : إن كان يرجو الصّلح على مال فله التّخلّف حتّى يصالح . أمّا الحدود ، فما كان حقّاً لآدميّ كحدّ القذف فالصّحيح عندهم أنّه ليس عذراً في التّخلّف ، لكن ابن مفلح قال في كتابه الفروع : ويتوجّه فيه وجه : إن رجا العفو ، قال في شرح منتهى الإرادات : وجزم به في الإقناع .
أمّا الحدود الّتي لا تقبل العفو فلا تعتبر عذراً .
الثّاني : أن يخاف على ماله من ظالم أو لصّ ، أو يخاف أن يسرق منزله أو يحرق منه شيء ، أو يكون له خبز في تنّور أو طبيخ على نار ، ويخاف حريقه باشتغاله عنه ، أو يكون له غريم إن ترك ملازمته ذهب بماله ، أو يكون له بضاعة أو وديعة عند رجل وإن لم يدركه ذهب ، أو كانت عنده أمانة كوديعة أو رهن أو عاريّة ممّا يجب عليه حفظه ، ويخاف تلفه بتركه . ويدخل في ذلك الخوف على مال الغير .
الثّالث : الخوف على الأهل : من ولد ووالد وزوج إن كان يقوم بتمريض أحدهم ، فإنّ ذلك عذر في التّخلّف عن الجماعة .
ومثل ذلك : القيام بتمريضه الأجنبيّ إذا لم يكن له من يقوم بتمريضه ، وكان يخشى عليه الضّياع لو تركه ، وقد ثبت أنّ ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - استصرخ على سعيد بن زيد ، وهو يتجمّر للجمعة ، فأتاه بالعقيق ، وترك الجمعة .
ج - حضور طعام تشتاقه نفسه وتنازعه إليه :
31 - قال ابن قدامة : إذا حضر العشاء في وقت الصّلاة فالمستحبّ أن يبدأ بالعشاء قبل الصّلاة ؛ ليكون أفرغ لقلبه وأحضر لباله ، ولا يستحبّ أن يعجّل عن عشائه أو غدائه ، فإنّ أنساً روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قرب العشاء وحضرت الصّلاة فابدءوا به قبل أن تصلّوا صلاة المغرب ، ولا تعجّلوا عن عشائكم » ، ولا فرق بين أن يخاف فوت الجماعة أو لا يخاف ، فإنّ في بعض ألفاظ حديث أنس : « إذا حضر العشاء وأقيمت الصّلاة فابدءوا بالعشاء » وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصّلاة فابدءوا بالعشاء ولا يعجّلنّ حتّى يفرغ منه » . وتعشّى ابن عمر وهو يسمع قراءة الإمام .
قال ابن قدامة : قال أصحابنا : إنّما يقدّم العشاء على الجماعة إذا كانت نفسه تتوق إلى الطّعام كثيراً ، ونحوه قال الشّافعيّ . وقال بظاهر الحديث عمر وابنه وإسحاق وابن المنذر . وقال ابن عبّاس : لا نقوم إلى الصّلاة وفي أنفسنا شيء .
قال ابن عبد البرّ : أجمعوا على أنّه لو صلّى بحضرة الطّعام فأكمل صلاته أنّ صلاته تجزئه .
د - مدافعة أحد الأخبثين :
32 - ومثلهما الرّيح ، فإنّ ذلك عذر يبيح التّخلّف عن الجماعة ، قالت السّيّدة عائشة - رضي الله تعالى عنها - : إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا صلاة بحضرة طعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان » ، ولأنّ القيام إلى الصّلاة مع مدافعة أحد الأخبثين يبعده عن الخشوع فيها ويكون مشغولاً عنها .
هـ - أكل ذي رائحة كريهة :
33 - وذلك كبصل وثوم وكرّاث وفجل إذا تعذّر زوال رائحته ، فإنّ ذلك عذر يبيح التّخلّف عن الجماعة ، حتّى لا يتأذّى به النّاس والملائكة ؛ لحديث : « من أكل من هذه البقلة : الثّوم - وقال مرّةً : من أكل البصل والثّوم والكرّاث - فلا يقربنّ مسجدنا ؛ فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم » . والمراد أكل هذه الأشياء نيئةً ، ويدخل في ذلك من كانت حرفته لها رائحة مؤذية ، كالجزّار والزّيّات ونحو ذلك . ومثل ذلك من كان به مرض يتأذّى به النّاس ، كجذام وبرص ، ففي كلّ ذلك يباح التّخلّف عن الجماعة .
و - العري :
34 - فمن لم يجد ما يستر ما بين السّرّة والرّكبة فإنّه يباح له التّخلّف عن الجماعة .
وهذا إذا كان من عادة أمثاله الخروج بمثل ذلك ، قال الشّافعيّة وبعض المالكيّة : الأليق بالحنيفيّة السّمحة : أنّه إن وجد ما يليق بأمثاله خرج للجماعة ، وإلاّ فلا .
ز - العمى :
35 - اعتبر الحنفيّة أنّ العمى عذر يبيح التّخلّف عن الجماعة وإن وجد قائداً .
ولم يعتبره جمهور الفقهاء عذراً إلاّ أن لا يجد قائداً ، ولم يهتد للطّريق بنفسه .
ح - إرادة السّفر :(/9)
36 - من تأهّب لسفر مباح مع رفقة ، ثمّ أقيمت الجماعة ، وكان يخشى إن حضر الجماعة أن تفوته القافلة ، فإنّه يباح له التّخلّف عن الجماعة .
ط - غلبة النّعاس والنّوم :
37 - فمن غلبه النّعاس والنّوم إن انتظر الجماعة صلّى وحده . وكذلك لو غلبه النّعاس مع الإمام ؛ لأنّ « رجلاً صلّى مع معاذ ، ثمّ انفرد فصلّى وحده عند تطويل معاذ ، وخوف النّعاس والمشقّة ، فلم ينكر عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين أخبره » ، والأفضل الصّبر والتّجلّد على رفع النّعاس والصّلاة جماعةً .
ي - زفاف الزّوجة :
38 - فزفاف الزّوجة عذر يبيح للزّوج التّخلّف عن صلاة الجماعة ، وذلك كما يقول الشّافعيّة والحنابلة ، لكن الشّافعيّة قيّدوه بالتّخلّف عن الجماعة في الصّلوات اللّيليّة فقط ، وأمّا المالكيّة فلم يعتبروا ذلك عذراً ، وخفّف مالك للزّوج ترك بعض الصّلاة في الجماعة للاشتغال بزوجه والسّعي إلى تأنيسها واستمالتها .
39 - ك - ذكر الحنفيّة من الأعذار الّتي تبيح التّخلّف عن الجماعة : الاشتغال بالفقه ، لا بغيره من العلوم .
كما ذكر الشّافعيّة من الأعذار : السّمن المفرط .(/10)
صَلاَةُ الخَوْف *
التّعريف :
1 - تعريف الصّلاة ينظر في مصطلح ( صلاة ) .
أمّا الخوف : فهو توقّع مكروه عن أمارة مظنونة أو متحقّقة ، وهو مصدر بمعنى الخائف ، أو بحذف مضاف : الصّلاة في حالة الخوف ويطلق على القتال ، وبه فسّر اللّحيانيّ قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ } الآية كما فسّر قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } .
وليس المراد من إضافة الصّلاة إلى الخوف أنّ الخوف يقتضي صلاةً مستقلّةً كقولنا : صلاة العيد ، ولا أنّه يؤثّر في قدر الصّلاة ووقتها كالسّفر ، فشروط الصّلاة ، وأركانها ، وسننها ، وعدد ركعاتها في الخوف كما في الأمن ، وإنّما المراد أنّ الخوف يؤثّر في كيفيّة إقامة الفرائض إذا صلّيت جماعةً ، وأنّ الصّلاة في حالة الخوف تحتمل أموراً لم تكن تحتملها في الأمن ، وصلاة الخوف هي : الصّلاة المكتوبة يحضر وقتها والمسلمون في مقاتلة العدوّ أو في حراستهم .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعيّة صلاة الخوف في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، وإلى أنّها لا تزال مشروعةً إلى يوم القيامة ، وقد ثبت ذلك بالكتاب ، قال تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } الآية .
وخطاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطاب لأمّته ، ما لم يقم دليل على اختصاصه ؛ لأنّ اللّه أمرنا باتّباعه ، وتخصيصه بالخطاب لا يقتضي تخصيصه بالحكم ، كما ثبت بالسّنّة القوليّة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » وهو عامّ .
والسّنّة الفعليّة فقد صحّ أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلّاها ، وبإجماع الصّحابة ، فقد ثبت بالآثار الصّحيحة عن جماعة من الصّحابة - رضي الله عنهم - أنّهم صلّوها في مواطن بعد وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم في مجامع بحضرة كبار من الصّحابة ، وممّن صلّاها عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - في حروبه بصفّين وغيرها ، وحضرها من الصّحبة خلائق كثيرون منهم : سعيد بن العاص ، وسعد بن أبي وقّاص وأبو موسى الأشعريّ وغيرهم من كبار الصّحابة - رضي الله عنهم - وقد روى أحاديثهم البيهقيّ وبعضها في سنن أبي داود .
ولم يقل أحد من هؤلاء الصّحابة الّذين رأوا صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الخوف بتخصيصها بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو يوسف من الحنفيّة : كانت مختصّةً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم واحتجّ بالآية السّابقة .
وذهب المزنيّ من الشّافعيّة إلى أنّ صلاة الخوف كانت مشروعةً ثمّ نسخت واحتجّ بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتته صلوات يوم الخندق ، ولو كانت صلاة الخوف جائزةً لفعلها .
مواطن جواز صلاة الخوف :
3 - تجوز صلاة الخوف عند شدّة الخوف في قتال الحربيّين ؛ لقوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } الآية ، وكذلك تجوز في كلّ قتال مباح ، كقتال أهل البغي ، وقطّاع الطّرق ، وقتال من قصد إلى نفس شخص ، أو أهله أو ماله ، قياساً على قتال الحربيّين ، وجاء في الأثر : « من قتل دون ماله فهو شهيد . ومن قتل دون دينه فهو شهيد . ومن قتل دون دمه فهو شهيد . ومن قتل دون أهله فهو شهيد » .
والرّخصة في هذا النّوع لا تختصّ بالقتال ، بل متعلّق بالخوف مطلقاً . فلو هرب من سيل ، أو حريق ولم يجد معدلاً عنه ، أو هرب من سبع فله أن يصلّي صلاة شدّة الخوف ، إذا ضاق الوقت وخاف فوت الصّلاة ، وكذا المديون المعسر العاجز عن إثبات إعساره ، ولا يصدّقه المستحقّ ، وعلم أنّه لو ظفر به حبسه .
ولا تجوز في القتال المحرّم كقتال أهل العدل ، وقتال أهل الأموال لأخذ أموالهم ، وقتال القبائل عصبيّةً ، ونحو ذلك ؛ لأنّها رخصة وتخفيف ، فلا يجوز أن يتمتّع بها العصاة ؛ لأنّ في ذلك إعانةً على المعصية ، وهو غير جائز ، وتجوز في السّفر والحضر ، والفرض ، والنّفل غير المطلق ، والأداء ، والقضاء .
كيفيّة صلاة الخوف :
4 - اختلف الفقهاء في كيفيّة صلاة الخوف ؛ لتعدّد الرّوايات عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كيفيّتها ، وأخذ كلّ صفة من الصّفات الواردة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم طائفة من أهل العلم . كما اختلفوا في عدد الأنواع الواردة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
فقال الشّافعيّة : إنّ الأنواع الّتي جاءت في الأخبار ستّة عشر نوعاً ، كما ذكر النّوويّ ، وبعضها في صحيح مسلم ، وبعضها في سنن أبي داود ، وفي ابن حبّان منها تسعة .
وقال ابن القصّار من المالكيّة : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّاها في عشرة مواطن ، وقال أحمد : أنّها وردت في ستّة أوجه أو سبعة ، ومنهم من أوصل أنواعها إلى أربعة وعشرين نوعاً ، وكلّها جائز ، فقال أحمد : كلّ حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز ؛ لأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - صلّاها في مرّات ، وأيّام مختلفة وأشكال متباينة ، يتحرّى في كلّها ما هو أحوط للصّلاة ، وأبلغ في الحراسة ، فهي على اختلاف صورها متّفقة في المعنى .
عدد ركعات صلاة الخوف :(/1)
5 - لا ينتقص عدد ركعات الصّلاة بسبب الخوف ، فيصلّي الإمام بهم ركعتين ، إن كانوا مسافرين وأرادوا قصر الصّلاة ، أو كانت الصّلاة من ذوات ركعتين ، كصلاة الفجر ، أو الجمعة ، ويصلّي بهم ثلاثاً أو أربعاً إن كانت الصّلاة من ذوات الثّلاث ، أو الأربع وكانوا مقيمين ، أو مسافرين أرادوا الإتمام .
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء ، وهو قول عامّة الصّحابة .
وروي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّه كان يقول : " إنّ صلاة الخوف ركعة " .
بعض الأنواع المرويّة في صلاة الخوف :
6 - الأوّل : صلاته صلى الله عليه وسلم : بذات الرّقاع ، فيفرّق الإمام الجيش إلى فرقتين: فرقة تحمل في وجه العدوّ ، وفرقة ينحاز بها إلى حيث لا تبلغهم سهام العدوّ ، فيفتتح بهم الصّلاة ، ويصلّي بهم ركعةً في الثّنائيّة : الصّبح والمقصورة ، وركعتين في الثّلاثيّة والرّباعيّة ، هذا القدر من هذه الكيفيّة اتّفقت المذاهب الأربعة عليه .
واختلفوا فيما يفعل بعد ذلك ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا قام إلى الثّانية في الثّنائيّة ، وإلى الثّالثة في الثّلاثيّة والرّباعيّة خرج المقتدون عن متابعته ، وأتمّوا الصّلاة لأنفسهم ، وذهبوا إلى وجه العدوّ ، وتأتي الطّائفة الحارسة . ويطيل الإمام إلى لحوقهم ، فإذا لحقوه صلّى بهم الرّكعة الثّانية في الثّنائيّة ، والثّالثة في الثّلاثيّة ، والثّالثة والرّابعة في الرّباعيّة من صلاته ، فإذا جلس للتّشهّد قاموا وأتمّوا الصّلاة ، والإمام ينتظرهم ، فإذا لحقوه سلّم بهم .
إلاّ أنّ مالكاً قال : يسلّم الإمام ولا ينتظرهم ، فإذا سلّم قضوا ما فاتهم من الصّلاة من ركعة ، أو ركعتين بفاتحة وسورة جهرًا في الجهريّة .
وقد اختار الشّافعيّ وأصحابه هذه الصّفة لسلامتها من كثرة المخالفة ولأنّها أحوط لأمر الحرب ، وأقلّ مخالفةً لقاعدة الصّلاة .
وقال أبو حنيفة : إذا قام إلى الثّانية لم يتمّ المقتدون به الصّلاة بل يذهبون إلى مكان الفرقة الحارسة وهم في الصّلاة فيقفون سكوتاً ، وتأتي تلك الطّائفة وتصلّي مع الإمام ركعته الثّانية فإذا سلّم ذهبت إلى وجه العدوّ ، وجاء الأوّلون إلى مكان الصّلاة وأتمّوا أفذاذاً ، وجاءت الطّائفة الأخرى ، وصلّوا ما بقي لهم من الصّلاة وتشهّدوا وسلّموا .
وهو قول عند الشّافعيّة .
7- الثّاني : أن يجعل الإمام الجيش فرقتين : فرقةً في وجه العدوّ ، وفرقةً يحرم بها ، ويصلّي بهم جميع الصّلاة ، ركعتين كانت ، أم ثلاثاً ، أم أربعاً ، فإذا سلّم بهم ذهبوا إلى وجه العدوّ وجاءت الفرقة الأخرى فيصلّي بهم تلك الصّلاة مرّةً ثانيةً ، وتكون له نافلةً ، ولهم فريضة ، وهذه صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل ، وتندب هذه الكيفيّة إذا كان العدوّ في غير جهة القبلة ، وكان في المسلمين كثرة والعدوّ قليل وخيف هجومهم على المسلمين ولا يقول بهذه الكيفيّة من الأئمّة من لا يجيز اقتداء المفترض بالمنتفل .
8- الثّالث : أن يرتّبهم الإمام صفّين ، ويحرم بالجميع فيصلّون معاً ، يقرأ ويركع ، ويعتدل بهم جميعاً ، ثمّ يسجد بأحدهما ، وتحرس الأخرى حتّى يقوم الإمام من سجوده ، ثمّ يسجد الآخرون ، ويلحقونه في قيامه ، ويفعل في الرّكعة الثّانية كذلك ، ولكن يحرس فيها من سجد معه أوّلاً ، ويتشهّد ، ويسلّم بهم جميعاً ، وهذه صلاته بعسفان .
ويشترط في استحباب هذه الكيفيّة : كثرة المسلمين ، وكون العدوّ في جهة القبلة غير مستتر بشيء يمنع رؤيته .
وله أن يرتّبهم صفوفاً ، ثمّ يحرس صفّان ، فإن حرس بعض كلّ صفّ بالمناوبة جاز ، وكذا لو حرست طائفة في الرّكعتين ؛ لحصول الغرض بكلّ ذلك ، والمناوبة أفضل ؛ لأنّها الثّابتة في الخبر ، ولو تأخّر الصّفّ الثّاني الّذي حرس في الرّكعة الثّانية ليسجدوا ، وتأخّر الصّفّ الأوّل الّذي سجد أوّلاً ليحرس ولم يمشوا أكثر من خطوتين كان أفضل ؛ لأنّه الثّابت في خبر مسلم .
هذه الصّفة رواها جابر ، قال : « شهدت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصفّنا صفّين : صفّ خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والعدوّ بيننا وبين القبلة ، فكبّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكبّرنا جميعاً ، ثمّ ركع وركعنا جميعاً ، ثمّ رفع رأسه من الرّكوع، ورفعنا جميعاً . ثمّ انحدر بالسّجود والصّفّ الّذي يليه ، وقام الصّفّ المؤخّر في نحر العدوّ، فلمّا قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم السّجود وقام الصّفّ الّذي يليه ، انحدر الصّفّ المؤخّر بالسّجود وقاموا ، ثمّ تقدّم الصّفّ المؤخّر وتأخّر الصّفّ المتقدّم ، ثمّ ركع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً ، ثمّ رفع رأسه من الرّكوع ، ورفعنا جميعاً ، ثمّ انحدر بالسّجود ، والصّفّ الّذي يليه الّذي كان مؤخّراً في الرّكعة الأولى ، وقام الصّفّ المؤخّر في نحور العدوّ، فلمّا قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم السّجود والصّفّ الّذي يليه ، انحدر الصّفّ المؤخّر بالسّجود فسجدوا ، ثمّ سلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسلّمنا جميعاً » .
وهذه الأنواع الثّلاثة مستحبّة لا واجبة ، فلو صلّوا فرادى أو انفردت طائفة من الإمام ، أو صلّى الإمام ببعضهم كلّ الصّلاة ، وبالباقين غيره جاز ، ولكن تفوت فضيلة الجماعة على المنفرد .
9 - الرّابع : صلاة شدّة الخوف : إذا اشتدّ الخوف فمنعهم من صلاة الجماعة على الصّفة المتقدّمة ولم يمكن قسم الجماعة ؛ لكثرة العدوّ ، ورجوا انكشافه قبل خروج الوقت المختار ، بحيث يدركون الصّلاة فيه ، أخّروا استحباباً .(/2)
فإذا بقي من الوقت ما يسع الصّلاة صلّوا إيماءً ، وإلاّ صلّوا فرادى بقدر طاقتهم ، فإن قدروا على الرّكوع والسّجود فعلوا ذلك ، أو صلّوا مشاةً أو ركباناً ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثمّ لا إعادة عليهم إذا أمنوا ، لا في الوقت ولا بعده .
والأصل فيما ذكر قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } . وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : « فإن كان خوف أشدّ من ذلك صلّوا رجالاً قياماً على أقدامهم ، أو ركباناً مستقبلي القبلة ، أو غير مستقبليها » متّفق عليه .
وزاد البخاريّ قال نافع : لا أرى عبد اللّه بن عمر قال ذلك إلاّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وإن عجزوا عن الرّكوع والسّجود أومئوا بهما ، وأتوا بالسّجود أخفض من الرّكوع .
وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء .
10 - واختلفوا في جواز القتال في الصّلاة ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز القتال في هذه الحالة الشّديدة في الصّلاة ، ويعفى عمّا فيه من الحركات ، من الضّربات والطّعنات المتواليات ، والإمساك بسلاح ملطّخ بالدّم ؛ للحاجة ؛ وقوله تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } وأخذ السّلاح لا يكون إلاّ للقتال ، وقياساً على المشي والرّكوب اللّذين جاءا في الآية .
وقال الحنفيّة : يشترط لجواز الصّلاة بهذه الكيفيّة : ألاّ يقاتل ، فإن قاتل فسدت صلاته ، وقالوا : « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهنّ في اللّيل وقال : شغلونا عن الصّلاة الوسطى حتّى آبت الشّمس ملأ اللّه قبورهم ناراً أو بيوتهم أو بطونهم » فلو جاز القتال في الصّلاة لما أخّرها ؛ ولأنّ إدخال عمل كثير - ليس من أعمال الصّلاة - في الصّلاة مفسد في الأصل ، فلا يترك هذا الأصل إلاّ في مورد النّصّ ، وهو المشي لا القتال .
صلاة الجمعة في الخوف :
11 - إذا حصل الخوف في بلد وحضرت صلاة الجمعة فلهم أن يصلّوها على هيئة ذات الرّقاع ، وعسفان ، ويشترط في الصّلاة على هيئة صلاة ذات الرّقاع :
أ - أن يخطب بجميعهم ، ثمّ يفرّقهم فرقتين ، أو يخطب بفرقة ، ويجعل منها مع كلّ من الفرقتين أربعين فصاعداً ، فلو خطب بفرقة وصلّى بأخرى لم تصحّ .
ب - أن تكون الفرقة الأولى أربعين فصاعداً ، فلو نقصت عن أربعين لم تنعقد الجمعة ، وإن نقصت الفرقة الثّانية لم يضرّ للحاجة ، والمسامحة في صلاة الخوف .
ولو خطب بهم وصلّى بهم على هيئة صلاة الخوف بعسفان فهي أولى بالجواز ، ولا تجوز على هيئة صلاة بطن نخل ؛ إذ لا تقام جمعة بعد جمعة .
السّهو في صلاة الخوف :
12 - يتحمّل الإمام سهو المأمومين إذا صلّى بهم صلاة ذات الرّقاع على الهيئة الّتي ذهب إليها جمهور الفقهاء ، إلاّ سهو الطّائفة الأولى في الرّكعة الثّانية فلا يتحمّله ؛ لانقطاع قدوتها بالمفارقة ، وسهو الإمام في الرّكعة الأولى يلحق الكلّ ، فيسجدون للسّهو في آخر صلاتهم ، وإن لم يسجد الإمام .
وسهوه في الثّانية لا يلحق الأوّلين لمفارقتهم قبل السّهو ، ويلحق الآخرين .
حمل السّلاح في هذه الصّلوات :
13 - حمل السّلاح في هذه الصّلوات مستحبّ ، يكره تركه لمن لا عذر له من مرض ، أو أذًى من مطر أو غيره احتياطاً لقوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } إلى أن قال جلّ شأنه : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } وحملوا الأمر في قوله تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } على النّدب ، لأنّ تركه لا يفسد الصّلاة ، فلا يجب حمله ، كسائر ما لا يفسد تركه ، وقياساً على الأمن ؛ ولأنّ الغالب السّلامة ، أمّا إذا كان المصلّي يتعرّض للهلاك بترك السّلاح وجب حمله ، أو وضعه بين يده بحيث يسهل تناوله عند الحاجة .(/3)
صَلاَةُ الكُسُوف *
التّعريف :
1 - هذا المصطلح مركّب في لفظين تركيب إضافة : صلاة ، والكسوف .
فالصّلاة تنظر في مصطلح : ( صلاة ) .
أمّا الكسوف : فهو ذهاب ضوء أحد النّيّرين " الشّمس ، والقمر " أو بعضه ، وتغيّره إلى سواد ، يقال : كسفت الشّمس ، وكذا خسفت ، كما يقال : كسف القمر ، وكذا خسف ، فالكسوف ، والخسوف ، مترادفان ، وقيل : الكسوف للشّمس ، والخسوف للقمر ، وهو الأشهر في اللّغة .
وصلاة الكسوف : صلاة تؤدّى بكيفيّة مخصوصة ، عند ظلمة أحد النّيّرين أو بعضهما .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الصّلاة لكسوف الشّمس سنّة مؤكّدة عند جميع الفقهاء ، وفي قول للحنفيّة : إنّها واجبة .
أمّا الصّلاة لخسوف القمر فهي سنّة مؤكّدة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وهي حسنة عند الحنفيّة، ومندوبة عند المالكيّة .
والأصل في ذلك الأخبار الصّحيحة : كخبر الشّيخين : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه ، لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا رأيتموهما فادعوا اللّه ، وصلّوا حتّى ينجلي » ، « ولأنّه صلى الله عليه وسلم صلّاها لكسوف الشّمس » كما رواه الشّيخان ، ولكسوف القمر كما رواه ابن حبّان في كتابه الثّقات.
وعن « ابن عبّاس - رضي الله عنه - : أنّه صلّى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال : إنّما صلّيت لأنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي » .
والصّارف عن الوجوب : حديث الأعرابيّ المعروف : « هل عليّ غيرها » .
ولأنّها صلاة ذات ركوع وسجود ، لا أذان لها ولا إقامة ، كصلاة الاستسقاء .
وقت صلاة الكسوف :
3 - ووقتها من ظهور الكسوف إلى حين زواله ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتموهما فادعوا اللّه وصلّوا حتّى ينجلي » فجعل الانجلاء غايةً للصّلاة ؛ ولأنّها شرعت رغبةً إلى اللّه في ردّ نعمة الضّوء ، فإذا حصل ذلك حصل المقصود من الصّلاة .
صلاة الكسوف في الأوقات الّتي تكره فيها الصّلاة :
4 - اختلف الفقهاء في ذلك .
فذهب الحنفيّة ، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة ، وهو رواية عن مالك إلى أنّها لا تصلّى في الأوقات الّتي ورد النّهي عن الصّلاة فيها ، كسائر الصّلوات ، فإن صادف الكسوف في هذه الأوقات لم تصلّ ، جعل في مكانها تسبيحاً ، وتهليلاً ، واستغفاراً ، وقالوا : لأنّه إن كانت هذه الصّلاة نافلةً فالتّنفّل في هذه الأوقات مكروه وإن كان لها سبب ، وإن كانت واجبةً فأداء الصّلاة الواجبة فيها مكروه أيضاً .
وقال الشّافعيّة - وهو رواية أخرى عن مالك ورواية عن أحمد - : تصلّى في كلّ الأوقات ، كسائر الصّلوات الّتي لها سبب متقدّم أو مقارن ، كالمقضيّة وصلاة الاستسقاء ، وركعتي الوضوء ، وتحيّة المسجد .
والرّواية الثّالثة عن مالك : أنّها إذا طلعت مكسوفةً يصلّى حالاً ، وإذا دخل العصر مكسوفةً ، أو كسفت عندهما لم يصلّ لها .
فوات صلاة الكسوف :
5 - تفوت صلاة كسوف الشّمس بأحد أمرين :
الأوّل : انجلاء جميعها ، فإن انجلى البعض فله الشّروع في الصّلاة للباقي ، كما لو لم ينكسف إلاّ ذلك القدر .
الثّاني : بغروبها كاسفةً .
ويفوت خسوف القمر بأحد أمرين :
الأوّل : الانجلاء الكامل .
الثّاني : طلوع الشّمس .
ولو حال سحاب ، وشكّ في الانجلاء صلّى ؛ لأنّ الأصل بقاء الكسوف . ولو كانا تحت غمام، فظنّ الكسوف لم يصلّ حتّى يستيقن .
وقال المالكيّة : إن غاب القمر وهو خاسف لم يصلّ . وإن صلّ ولم تنجل لم تكرّر الصّلاة ، لأنّه لم ينقل عن أحد ، وإن انجلت وهو في الصّلاة أتمّها ؛ لأنّها صلاة أصل ، غير بدل عن غيرها ؛ فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصّلوات .
سنن صلاة الكسوف :
6 - يسنّ لمريد صلاة الكسوف :
أ - أن يغتسل لها ؛ لأنّها صلاة شرع لها الاجتماع .
ب - وأن تصلّى حيث تصلّى الجمعة ؛ « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : صلّاها في المسجد» .
ج - وأن يدعى لها : " الصّلاة جامعةً " لما روى عبد اللّه بن عمرو - رضي الله عنهما - : « قال : لمّا كسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نودي : إنّ الصّلاة جامعة » وليس لها أذان ولا إقامة اتّفاقاً .
د - وأن يكثر ذكر اللّه ، والاستغفار ، والتّكبير والصّدقة ، والتّقرّب إلى اللّه تعالى بما استطاع من القرب ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه وكبّروا وصلّوا وتصدّقوا » .
هـ - وأن يصلّوا جماعةً لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّاها في جماعة » .
وقال أبو حنيفة ، ومالك : يصلّى لخسوف القمر وحداناً : ركعتين ، ركعتين ، ولا يصلّونها جماعةً ، لأنّ الصّلاة جماعةً لخسوف القمر لم تنقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أنّ خسوفه كان أكثر من كسوف الشّمس ؛ ولأنّ الأصل أنّ غير المكتوبة لا تؤدّى بجماعة إلاّ إذا ثبت ذلك بدليل ، ولا دليل فيها .
الخطبة فيها :
7 - قال أبو حنيفة ومالك وأحمد : لا خطبة لصلاة الكسوف ، وذلك لخبر : « فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه ، وكبّروا ، وصلّوا وتصدّقوا » أمرهم - عليه الصلاة والسلام - بالصّلاة ، والدّعاء ، والتّكبير ، والصّدقة ، ولم يأمرهم بخطبة ، ولو كانت الخطبة مشروعةً فيها لأمرهم بها ؛ ولأنّها صلاة يفعلها المنفرد في بيته ؛ فلم يشرع لها خطبة .(/1)
وقال الشّافعيّة : يسنّ أن يخطب لها بعد الصّلاة خطبتان ، كخطبتي العيد . لما روت عائشة - رضي الله عنها - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من الصّلاة قام وخطب النّاس ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه عزّ وجلّ ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه وكبّروا وصلّوا وتصدّقوا » .
8 - وتشرع صلاة الكسوف للمنفرد ، والمسافر والنّساء ؛ لأنّ عائشة ، وأسماء - رضي الله عنهما - صلّتا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ويستحبّ للنّساء غير ذوات الهيئات أن يصلّين مع الإمام ، وأمّا اللّواتي تخشى الفتنة منهنّ فيصلّين في البيوت منفردات . فإن اجتمعن فلا بأس ، إلاّ أنّهنّ لا يخطبن .
إذن الإمام بصلاة الكسوف :
9 - لا يشترط لإقامتها إذن الإمام ؛ لأنّها نافلة وليس إذنه شرطاً في نافلة ، فإذا ترك الإمام صلاة الكسوف فللنّاس أن يصلّوها علانيةً إن لم يخافوا فتنةً ، وسرّاً إن خافوها ، إلى هذا ذهب الشّافعيّة ، والحنابلة .
وقال الحنفيّة في ظاهر الرّواية : لا يقيمها جماعةً إلاّ الإمام الّذي يصلّي بالنّاس الجمعة والعيدين ، لأنّ أداء هذه الصّلاة جماعةً عرف بإقامة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلا يقيمها إلاّ من هو قائم مقامه . فإن لم يقمها الإمام صلّى النّاس حينئذ فرادى . وروي عن أبي حنيفة أنّه قال : إنّ لكلّ إمام مسجد أن يصلّي بالنّاس في مسجده بجماعة ؛ لأنّ هذه الصّلاة غير متعلّقة بالمصر ، فلا تكون متعلّقةً بالسّلطان كغيرها من الصّلوات .
كيفيّة صلاة الكسوف :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ صلاة الكسوف ركعتان . واختلفوا في كيفيّة الصّلاة بها . وذهب الأئمّة : مالك ، والشّافعيّ ، وأحمد : إلى أنّها ركعتان في كلّ ركعة قيامان ، وقراءتان، وركوعان ، وسجدتان .
واستدلّوا : بما رواه ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال : « كسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى الرّسول صلى الله عليه وسلم والنّاس معه ، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة ، ثمّ ركع ركوعاً طويلاً ، ثمّ قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأوّل ، ثمّ ركع ركوعاً طويلاً ، وهو دون الرّكوع الأوّل » .
وقالوا : وإن كانت هناك روايات أخرى ، إلاّ أنّ هذه الرّواية هي أشهر الرّوايات في الباب . والخلاف بين الأئمّة في الكمال لا في الإجزاء والصّحّة فيجزئ في أصل السّنّة ركعتان كسائر النّوافل عند الجميع .
وأدنى الكمال عند الأئمّة الثّلاثة : أن يحرم بنيّة صلاة الكسوف ، ويقرأ فاتحة الكتاب ، ثمّ يركع ، ثمّ يرفع رأسه ويطمئنّ ، ثمّ يركع ثانياً ، ثمّ يرفع ويطمئنّ ، ثمّ يسجد سجدتين فهذه ركعة . ثمّ يصلّي ركعةً أخرى كذلك . فهي ركعتان : في كلّ ركعة قيامان ، وركوعان ، وسجدتان . وباقي الصّلاة من قراءة ، وتشهّد ، وطمأنينة كغيرها من الصّلوات .
وأعلى الكمال : أن يحرم ، ويستفتح ، ويستعيذ ، ويقرأ الفاتحة ، سورة البقرة ، أو قدرها في الطّول ، ثمّ يركع ركوعاً طويلاً فيسبّح قدر مائة آية ، ثمّ يرفع من ركوعه ، فيسبّح ، ويحمد في اعتداله . ثمّ يقرأ الفاتحة ، وسورةً دون القراءة الأولى : آل عمران ، أو قدرها، ثمّ يركع فيطيل الرّكوع ، وهو دون الرّكوع الأوّل ، ثمّ يرفع من الرّكوع ، فيسبّح ، ويحمد ، ولا يطيل الاعتدال ، ثمّ يسجد سجدتين طويلتين ، ولا يطيل الجلوس بين السّجدتين . ثمّ يقوم إلى الرّكعة الثّانية ، فيفعل مثل ذلك المذكور في الرّكعة الأولى من الرّكوعين وغيرهما ، لكن يكون دون الأوّل في الطّول في كلّ ما يفعل ثمّ يتشهّد ويسلّم .
وقال الحنفيّة : إنّها ركعتان ، في كلّ ركعة قيام واحد، وركوع واحد وسجدتان كسائر النّوافل. واستدلّوا بحديث أبي بكرة ، قال : « خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فخرج يجرّ رداءه حتّى انتهى إلى المسجد وثاب النّاس إليه ، فصلّى بهم ركعتين » . إلخ " ومطلق الصّلاة تنصرف إلى الصّلاة المعهودة . وفي رواية : « فصلّى ركعتين كما يصلّون » .
الجهر بالقراءة والإسرار بها :
11 - يجهر بالقراءة في خسوف القمر ؛ لأنّها صلاة ليليّة ولخبر عائشة - رضي الله عنها- قالت : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف » .
ولا يجهر في صلاة كسوف الشّمس ؛ لما روى ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة الكسوف ، فلم نسمع له صوتاً » .
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة والمالكيّة والشّافعيّة . وقال أحمد ، وأبو يوسف : يجهر بها ، وهو رواية عن مالك . وقالوا : قد روي ذلك عن عليّ - رضي الله عنه - وفعله عبد اللّه بن زيد وبحضرته البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم . وروت عائشة - رضي الله عنها - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : صلّى صلاة الكسوف ، وجهر فيها بالقراءة » ولأنّها نافلة شرعت لها الجماعة ، فكان من سننها الجهر كصلاة الاستسقاء ، والعيدين .
اجتماع الكسوف بغيرها من الصّلوات :
12 - إذا اجتمع مع الكسوف أو الخسوف غيره من الصّلاة : كالجمعة ، أو العيد ، أو صلاة مكتوبة ، أو الوتر ، ولم يُؤمَن من الفوات ، قدّم الأخوف فوتاً ثمّ الآكد ، فتقدّم الفريضة ، ثمّ الجنازة ، ثمّ العيد ، ثمّ الكسوف .
ولو اجتمع وتر وخسوف قدّم الخسوف ؛ لأنّ صلاته آكد حينئذ لخوف فوتها .
وإن أمن من الفوات ، تقدّم الجنازة ثمّ الكسوف أو الخسوف ، ثمّ الفريضة .
الصّلاة لغير الكسوف من الآيات :(/2)
13 - قال الحنفيّة : تستحبّ الصّلاة في كلّ فزع : كالرّيح الشّديدة ، والزّلزلة ، والظّلمة ، والمطر الدّائم لكونها من الأفزاع ، والأهوال . وقد روي : أنّ ابن عبّاس - رضي الله عنهما - صلّى لزلزلة بالبصرة .
وعند الحنابلة : لا يصلّى لشيء من ذلك إلاّ الزّلزلة الدّائمة ، فيصلّى لها كصلاة الكسوف ؛ لفعل ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أمّا غيرها فلم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه الصّلاة له .
وفي رواية عن أحمد : أنّه يصلّى لكلّ آية .
وقال الشّافعيّة : لا يصلّى لغير الكسوفين صلاة جماعة ، بل يستحبّ أن يصلّى في بيته ، وأن يتضرّع إلى اللّه بالدّعاء عند رؤية هذه الآيات ، وقال الإمام الشّافعيّ - رحمه الله - : لا آمر بصلاة جماعة في زلزلة ، ولا ظلمة ، ولا لصواعق ، ولا ريح ، ولا غير ذلك من الآيات، وآمر بالصّلاة منفردين ، كما يصلّون منفردين سائر الصّلوات .
وقال المالكيّة : لا يصلّى لهذه الآيات مطلقاً .(/3)
صَلاَةُ المَرِيض *
التّعريف :
1 - المريض لغةً : من المرض ، والمرض - بفتح الرّاء وسكونها - فساد المزاج . والمرض اصطلاحاً : ما يعرض للبدن ، فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ ، والمريض من اتّصف بذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
صلاة أهل الأعذار :
2 - أهل الأعذار : هم الخائف ، والعريان ، والغريق ، والسّجين ، والمسافر ، والمريض وغيرهم ، وبعض هذه الألفاظ أفردت له أحكام خاصّة ، وبعضها تدخل أحكامه في صلاة المريض .
الحكم التّكليفيّ :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة التّطوّع قاعداً مع القدرة على القيام ؛ لأنّ النّوافل تكثر، فلو وجب فيها القيام مثلاً شقّ ذلك ؛ وانقطعت النّوافل ، ولا خلاف في أنّ القيام أفضل. أمّا صلاة الفرض فحكمها التّكليفيّ يختلف باختلاف نوع المرض ، وتأثيره على الأفعال والأقوال فيها ، وهي تشمل الفرض العينيّ والكفائيّ ، كصلاة الجنازة ، وصلاة العيد عند من أوجبها ، وتشمل الواجب بالنّذر على من نذر القيام فيه .
وقد أجمع الفقهاء على أنّ من لا يطيق القيام له أن يصلّي جالساً .
ضابط المرض الّذي يعتبر عذراً في الصّلاة :
4 - إذا تعذّر على المريض كلّ القيام ، أو تعسّر القيام كلّه ، بوجود ألم شديد أو خوف زيادة المرض أو بطئه - يصلّي قاعداً بركوع وسجود .
والألم الشّديد كدوران رأس ، أو وجع ضرس ، أو شقيقة أو رمد .
ويخرج به ما لو لحق المصلّي نوع من المشقّة فإنّه لا يجوز له ترك القيام .
ومثل الألم الشّديد خوف لحوق الضّرر من عدوّ آدميّ أو غيره على نفسه أو ماله لو صلّى قائماً . وكذلك لو غلب على ظنّه بتجربة سابقة ، أو إخبار طبيب مسلم أنّه لو قام زاد سلس بوله ، أو سال جرحه ، أو أبطأ برؤه ، فإنّه يترك القيام ويصلّي قاعداً .
وإذا تعذّر كلّ القيام فهذا القدر الحقيقيّ ، وما سواه فهو حكميّ .
صور العجز والمشقّة :
عدم القدرة على القيام :
5 - القيام ركن في الصّلاة المفروضة لما ورد عن عمران بن حصين - أنّه قال - : « كانت بي بواسير ، فسألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال : صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنبك » .
فإن عجز عن القيام صلّى قاعداً ؛ للحديث المذكور ؛ ولأنّ الطّاعة بحسب الطّاقة .
فإن صلّى مع الإمام قائماً بعض الصّلاة ، وفتر في بعضها فصلّى جالساً صحّت صلاته .
ومن صلّى قاعداً يركع ويسجد ثمّ برئ بنى على صلاته قائماً عند الحنفيّة ، والحنابلة ، وجاز عند المالكيّة أن يقوم ببعض الصّلاة ثمّ يصلّي على قدر طاقته ثمّ يرجع فيقوم ببعضها الآخر، وكذلك الجلوس إن تقوّس ظهره حتّى صار كأنّه راكع ، رفع رأسه في موضع القيام على قدر طاقته . وتفصيل ذلك في مصطلح ( انحناء ) .
عدم القدرة على القيام لوجود علّة بالعين :
6 - إن كان بعين المريض وجع ، بحيث لو قعد أو سجد زاد ألم عينه فأمره الطّبيب المسلم الثّقة بالاستلقاء أيّاماً ، ونهاه عن القعود والسّجود ، وهو قادر على القيام فقيل له : إن صلّيت مستلقيًا أمكن مداواتك فقد اختلف الفقهاء فيه على رأيين :
الأوّل : عند جمهور الفقهاء يجوز له ترك القيام ؛ لأنّه يخاف الضّرر من القيام فأشبه المريض فيجزئه أن يستلقي ويصلّي بالإيماء لأنّ حرمة الأعضاء كحرمة النّفس .
الثّاني : لا يجوز له ترك القيام ، وهو وجه عند الشّافعيّة لما روي أنّ ابن عبّاس - رضي الله عنهما - لمّا وقع في عينيه الماء حمل إليه عبد الملك الأطبّاء فقيل له : إنّك تمكث سبعة أيّام لا تصلّي إلاّ مستلقياً فسأل عائشة ، وأمّ سلمة - رضي الله عنهما - فنهتاه .
عدم القدرة على رفع اليدين في التّكبير عند القيام أو غيره :
7 - يستحبّ رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه ؛ لما ورد عن ابن عمر – رضي الله عنهما - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصّلاة رفع يديه حذو منكبيه ، وإذا كبّر للرّكوع ، وإذا رفع رأسه من الرّكوع » .
فإن لم يمكنه رفعهما ، أو أمكنه رفع إحداهما ، أو رفعهما إلى ما دون المنكب رفع ما أمكنه لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » .
فإن كان به علّة إذا رفع اليد جاوز المنكب رفع ؛ لأنّه يأتي بالمأمور به وزيادة هو مغلوب عليها .
ويجوز للمريض غير القادر على أداء ركن من أركان الصّلاة الاتّكاء على شيء ، ويرجع في ذلك إلى مصطلح : ( اتّكاء ، استناد ) .
عدم القدرة على الرّكوع :
8 - الرّكوع في الصّلاة ركن ؛ لقوله تعالى : { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } والجمهور على أنّ من لم يمكنه الرّكوع أومأ إليه ، وقرّب وجهه إلى الأرض على قدر طاقته ، ويجعل الإيماء للسّجود أخفض من إيماء الرّكوع ، لكن الخلاف في كيفيّة أداء ذلك مع عدم القدرة على الرّكوع دون القيام .
اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين :
الأوّل : وهو الّذي عليه الجمهور أنّ القادر على القيام دون الرّكوع يومئ من القيام ، لأنّ الرّاكع كالقائم في نصب رجليه ، وذلك لقوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } « وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صلّ قائماً » ولأنّه ركن قدر عليه ، على أن يكون هناك فرق واضح بين الإيماءين إذا عجز عن السّجود أيضاً .
الثّاني : عند الحنفيّة أنّ القيام يسقط عن المريض حال الرّكوع ، ولو قدر على القيام مع عدم القدرة على الرّكوع فيصلّي قاعداً يومئ إيماءً ؛ لأنّ ركنيّة القيام للتّوصّل به إلى السّجدة ؛ لما فيها من نهاية التّعظيم ، فإذا كان لا يتعقّبه السّجود لا يكون ركنًا فيتخيّر ، والأفضل عندهم هو الإيماء قاعداً ؛ لأنّه أشبه بالسّجود .
عدم القدرة على السّجود :(/1)
9 - السّجود ركن في الصّلاة لقوله تعالى : { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } ، واختلفوا في عدم القدرة على السّجود والجلوس مع القدرة على القيام على اتّجاهين :
الأوّل : يرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ القادر على القيام فقط دون السّجود والجلوس يومئ لهما من القيام ، ولا يجوز له أن يضطجع ويومئ لهما من اضطجاعه ، فإن اضطجع تبطل الصّلاة عندهم .
الثّاني : يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القادر على القيام فقط دون السّجود والجلوس يومئ لهما وهو قائم ؛ لأنّ السّاجد عندهم كالجالس في جمع رجليه على أن يحصل فرق بين الإيماءين .
عدم القدرة على وضع الجبهة والأنف :
10 - السّجود على الجبهة واجب ، حيث « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض » وإن سجد على مخدّة أجزأه ؛ لأنّ أمّ سلمة – رضي الله عنها – سجدت على مخدّة لرمد بها بلا رفع ، واحتجّ بفعل ابن عبّاس - رضي الله عنهما - وغيرهما .
فإن رفع شيئاً كالوسادة أو الخشبة أو الحجر إلى جبهته فإنّ الحنفيّة يرون أنّه لا يجزئه ؛ لانعدام السّجود لقوله صلى الله عليه وسلم : « إن استطعت أن تسجد على الأرض وإلاّ فأومئ إيماءً ، واجعل سجودك أخفض من ركوعك برأسك » فإن فعل ذلك وهو يخفض رأسه أجزأه ؛ لوجود الإيماء ، وإن وضع ذلك على جبهته لا يجزئه .
ويكره عند بعض الحنابلة ويجزئه عند آخرين نصّاً ؛ لأنّه أتى بما أمكنه منه أشبه الإيماء . وإذا لم يستطع المصلّي تمكين جبهته من الأرض لعلّة بها ، اقتصر على الأنف عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وزاد الشّافعيّة : إن كان بجبهته جراحة عصبها بعصابة وسجد عليها ، ولا إعادة عليه على المذهب .
عدم القدرة على استقبال المريض للقبلة :
11 - المريض العاجز عن استقبال القبلة ولا يجد من يحوّله إليها - لا متبرّعاً ولا بأجرة مثله وهو واجدها - فإنّه يصلّي على حسب حالته . وللتّفصيل راجع مصطلح : ( استقبال ) .
صلاة المريض جماعةً :
12 - المريض إن قدر على الصّلاة وحده قائماً ، ولا يقدر على ذلك مع الإمام لتطويله صلّى منفرداً ؛ لأنّ القيام آكد ؛ لكونه ركناً في الصّلاة لا تتمّ إلاّ به .
والجماعة تصحّ الصّلاة بدونها ؛ ولأنّ العجز يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام ، بدليل أنّ صلاة القاعد على النّصف من صلاة القائم ، وصلاة الجماعة تفضل صلاة الرّجل وحده سبعاً وعشرين درجةً .
العجز عن القيام والجلوس :
13 - إن تعذّر على المريض القيام والجلوس في آن واحد صلّى على جنبه دون تحديد للشّقّ الأيمن أو الأيسر ، وهذا هو مذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة .
وذهب المالكيّة ، والحنابلة إلى أنّه من الأفضل أن يصلّي على جنبه الأيمن ثمّ الأيسر ، فإن لم يستطع على جنبه يصلّي مستلقياً على قفاه ورجلاه إلى القبلة وأومأ بطرفه .
والدّليل على ما سبق « قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين : صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » .
وقال المالكيّة : إن لم يستطع أن يصلّي مستلقياً على ظهره صلّى على بطنه ورأسه إلى القبلة ، فإن قدّمها على الظّهر بطلت .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن تعسّر القعود أومأ مستلقياً على قفاه ، أو على أحد جنبيه والأيمن أفضل من الأيسر ، والاستلقاء على قفاه أولى من الجنب إن تيسّر ، والمستلقي يجعل تحت رأسه شيئاً كالوسادة ؛ ليصير وجهه إلى القبلة لا إلى السّماء ، وليتمكّن من الإيماء .
وصلاة المريض بالهيئة الّتي ذكرها الفقهاء فيما سبق لا ينقص من أجره شيئاً ؛ لحديث أبي موسى - رضي الله عنه - مرفوعاً : « إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً » .
كيفيّة الإيماء :
14 - إن لم يستطع المريض القيام والقعود أو الرّكوع أو الجلوس أو جميعها فاحتاج إلى الإيماء فهل يومئ برأسه لها أم بعينه أم بقلبه ؟
فالجمهور أنّ المريض يومئ بما يستطيعه وذلك لحديث : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » والأصل أنّ المريض إذا لم يستطع إلاّ الإيماء فيومئ برأسه ، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه ( عينه ) ناوياً مستحضراً تيسيراً له للفعل عند إيمائه ، وناوياً القول إذا أومأ له ، فإن عجز عن القول فبقلبه مستحضراً له ، كالأسير ، والخائف من آخرين إن علموا بصلاته يؤذونه .
أمّا الحنفيّة - ما عدا زفر - فإنّ الّذي لا يستطيع الإيماء برأسه فعليه أن يؤخّر الصّلاة ، ولا يومئ بعينه ولا بقلبه ولا بحاجبه .
وعندهم لا قياس على الرّأس ؛ لأنّه يتأدّى به ركن الصّلاة دون العين وغيرها وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة إذا كان مفيقاً ؛ لأنّه يفهم مضمون الخطاب بخلاف المغمى عليه .
العجز المؤقّت :
15 - قد يعجز المريض بعض الوقت عن قيام ، أو قعود ، أو ركوع ، أو سجود ، ثمّ يستطيعه بعد ذلك . فالجمهور على أنّه يجوز أن يؤدّي صلاته بقدر طاقته ، ويرجع إلى ما يستطيعه بعد ذلك ، فلو افتتح الصّلاة قائماً ثمّ عجز فقعد وأتمّ صلاته جاز له ذلك .
وإن افتتحها قاعداً ثمّ قدر على القيام قام وأتمّ صلاته ؛ لأنّه يجوز أن يؤدّي جميع صلاته قاعداً عند العجز ، وجميعها قائماً عند القدرة ، فجاز أن يؤدّي بعضها قاعداً عند العجز وبعضها قائماً عند القدرة .
وإن افتتح الصّلاة قاعداً ثمّ عجز اضطجع ، وإن افتتحها مضطجعاً ثمّ قدر على القيام أو القعود قام أو قعد
الطّمأنينة للمريض في صلاته :
16 - قال النّوويّ : لا يلزم المريض الطّمأنينة عند القيام ؛ لأنّه ليس مقصوداً لنفسه . واختلف الحنفيّة هل هو سنّة أم واجب ؟ وتفصيل ذلك يرجع فيه إلى مصطلح : ( صلاة ) .
إمامة المريض :(/2)
17 - المريض تختلف حاله من واحد لآخر فقد يكون المرض سلس بول ، أو انفلات ريح ، أو جرحاً سائلاً أو رعافاً ، ولكلّ حالة من هذه الحالات أحكام خاصّة بالنّسبة للإمامة تنظر في مصطلح : ( اقتداء ، إمامة ) .
الجمع بين الصّلاتين للمريض :
18 - للفقهاء في مسألة الجمع بين الصّلاتين للمريض رأيان .
فذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وبعض المالكيّة إلى أنّه لا يجوز للمريض الجمع بين الصّلاتين لأجل المرض ، وذلك لأنّه لم ينقل عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه جمع لأجل المرض .
وذهب الحنابلة وبعض المالكيّة إلى جواز الجمع للمريض بين الصّلاتين ، ويخيّر بين التّقديم والتّأخير ، وسواء كان ذلك المرض دوخةً أو حمّى أو غيرهما .(/3)
صَلاَةُ المُسَافِر *
التّعريف :
1 - السّفر لغةً : قطع المسافة ، وخلاف الحضر " أي الإقامة " ، والجمع : أسفار ، ورجل سفر ، وقوم سفر : ذوو سفر .
والفقهاء يقصدون بالسّفر : السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام الشّرعيّة وهو : أن يخرج الإنسان من وطنه قاصداً مكاناً يستغرق المسير إليه مسافةً مقدّرةً عندهم ، على اختلاف بينهم في هذا التّقدير كما سيأتي بيانها .
والمراد بالقصد : الإرادة المقارنة لما عزم عليه ، فلو طاف الإنسان جميع العالم بلا قصد الوصول إلى مكان معيّن فلا يصير مسافراً .
ولو أنّه قصد السّفر ، ولم يقترن قصده بالخروج فعلاً فلا يصير مسافراً كذلك ؛ لأنّ المعتبر في حقّ تغيير الأحكام الشّرعيّة هو السّفر الّذي اجتمع فيه القصد والفعل .
خصائص السّفر :
2 - يختصّ السّفر بأحكام تتعلّق به ، وتتغيّر بوجوده ، ومن أهمّها : قصر الصّلاة الرّباعيّة، وإباحة الفطر للصّائم ، وامتداد مدّة المسح على الخفّين إلى ثلاثة أيّام ، والجمع بين الظّهر والعصر ، والجمع بين المغرب والعشاء ، وحرمة السّفر على الحرّة بغير محرم ، وولاية الأبعد .
ويقتصر هذا البحث على ما يتّصل بالسّفر من حيث قصر الصّلاة .
أمّا ما يختصّ بغيرها من أحكام شرعيّة ففيها تفصيل كثير ينظر في مصطلح ( سفر ، صوم ، المسح على الخفّين ، أوقات الصّلاة ، نكاح ، وولاية ) .
تقسيم الوطن :
ينقسم الوطن إلى : وطن أصليّ ، ووطن إقامة ، ووطن سكنى .
الوطن الأصليّ :
3 - هو المكان الّذي يستقرّ فيه الإنسان بأهله ، سواء أكان موطن ولادته أم بلدةً أخرى ، اتّخذها داراً وتوطّن بها مع أهله وولده ، ولا يقصد الارتحال عنها ، بل التّعيّش بها .
ويأخذ حكم الوطن : المكان الّذي تأهّل به ، أي تزوّج به ، ولا يحتاج الوطن الأصليّ إلى نيّة الإقامة . لكن المالكيّة يشترطون : أن تكون الزّوجة مدخولاً بها غير ناشز .
وممّا تقدّم يتبيّن : أنّ الوطن الأصليّ يتحقّق عند أغلب الفقهاء بالإقامة الدّائمة على نيّة التّأبيد ، سواء أكان في مكان ولادته أم في مكان آخر ، ويلحق بذلك مكان الزّوجة .
4 - والوطن الأصليّ يجوز أن يكون واحداً أو أكثر ، وذلك مثل أن يكون له أهل ودار في بلدتين أو أكثر ، ولم يكن من نيّة أهله الخروج منها ، وإن كان ينتقل من أهل إلى أهل في السّنة ، حتّى إنّه لو خرج مسافراً من بلدة فيها أهله ، ودخل بلدةً أخرى فيها أهله ، فإنّه يصير مقيمًا من غير نيّة الإقامة .
ما ينتقض به الوطن الأصليّ :
5 - الوطن الأصليّ ينتقض بمثله لا غير ، وهو أن يتوطّن الإنسان في بلدة أخرى وينقل الأهل إليها من بلدته مضرباً عن الوطن الأوّل ، ورافضاً سكناه ، فإنّ الوطن الأوّل يخرج بذلك عن أن يكون وطناً أصليّاً له ، حتّى لو دخل فيه مسافراً لا تصير صلاته أربعاً .
والأصل فيه : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمهاجرين من أصحابه - رضي الله عنهم - كانوا من أهل مكّة ، وكان لهم بها أوطان أصليّة ، ثمّ لمّا هاجروا وتوطّنوا بالمدينة، وجعلوها داراً لأنفسهم انتقض وطنهم الأصليّ بمكّة ، حتّى كانوا إذا أتوا مكّة يصلّون صلاة المسافرين . ولذلك « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين صلّى بهم : أتمّوا يا أهل مكّة صلاتكم فإنّا قوم سفر » .
ولا ينتقض الوطن الأصليّ بوطن الإقامة ، ولا بوطن السّكنى ؛ لأنّهما دونه ، والشّيء لا ينسخ بما هو دونه ، وكذا لا ينتقض بنيّة السّفر والخروج من وطنه حتّى يصير مقيماً بالعودة من غير نيّة الإقامة .
وطن الإقامة :
6 - هو المكان الّذي يقصد الإنسان أن يقيم به مدّةً قاطعةً لحكم السّفر فأكثر على نيّة أن يسافر بعد ذلك ، مع اختلاف بين المذاهب في مقدار هذه المدّة كما سيأتي بيانها .
أمّا شرائطه : فقد ذكر الكرخيّ في جامعه عن محمّد روايتين :
الرّواية الأولى : إنّما يصير الوطن وطن إقامة بشريطتين :
إحداهما : أن يتقدّمه سفر .
والثّانية : أن يكون بين وطنه الأصليّ وبين هذا الموضع " الّذي توطّن فيه بنيّة إقامة هذه المدّة " مسافة القصر .
وبدون هذين الشّرطين لا يصير وطن إقامة ، وإن نوى الإقامة مدّةً قاطعةً للسّفر في مكان صالح للإقامة ، حتّى إنّ الرّجل المقيم لو خرج من مصره إلى قرية لا لقصد السّفر ، ونوى أن يتوطّن بها المدّة القاطعة للسّفر فلا تصير تلك القرية وطن إقامة له وإن كان بينهما مسافة القصر ؛ لانعدام تقدّم السّفر . وكذا إذا قصد مسيرة سفر ، وخرج حتّى وصل إلى قرية بينها وبين وطنه الأصليّ أقلّ من مسافة القصر ، ونوى أن يقيم بها المدّة القاطعة للسّفر لا تصير تلك القرية وطن إقامة له .
والرّواية الثّانية - وهي رواية ابن سماعة عن محمّد بن الحسن - أنّه يصير مقيماً من غير هاتين الشّريطتين كما هو ظاهر الرّواية .
والمالكيّة يشترطون مسافة القصر إن كانت نيّة الإقامة في ابتداء السّير ، فإن كانت في أثنائه فلا تشترط المسافة على المعتمد .
ما ينتقض به وطن الإقامة :
7 - وطن الإقامة ينتقض بالوطن الأصليّ ؛ لأنّه فوقه ، وبوطن الإقامة ؛ لأنّه مثله والشّيء يجوز أن ينسخ بمثله ، وينتقض بالسّفر - أيضاً - لأنّ توطّنه في هذا المقام ليس للقرار ، ولكن لحاجة ، فإذا سافر منه يستدلّ به على قضاء حاجته ، فصار معرضاً عن التّوطّن به ، فصار ناقضاً له ، ولا ينتقض وطن الإقامة بوطن السّكنى ؛ لأنّه دونه فلا ينسخه .
وطن السّكنى :
8 - هو المكان الّذي يقصد الإنسان المقام به أقلّ من المدّة القاطعة للسّفر .(/1)
وشرطه : نيّة عدم الإقامة المدّة القاطعة للسّفر ، ولذلك يعتبر مسافراً بهذه النّيّة وإن طال مقامه ؛ لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلةً يقصر الصّلاة » ، وروي عن سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - أنّه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصّلاة .
إلاّ أنّ هذا الحكم ليس متّفقاً عليه بين المذاهب على تفصيل سيأتي بيانه .
ما ينتقض به وطن السّكنى :
9 - وطن السّكنى ينتقض بالوطن الأصليّ وبوطن الإقامة ؛ لأنّهما فوقه ، وينتقض بوطن السّكنى ؛ لأنّه مثله ، وينتقض بالسّفر ؛ لأنّ توطّنه في هذا المقام ليس للقرار ، ولكن لحاجة، فإذا سافر منه يستدلّ به على انقضاء حاجته ، فصار معرضاً عن التّوطّن به ، فصار ناقضاً له .
هذا ، والفقيه الجليل أبو أحمد العياضيّ قسّم الوطن إلى قسمين : أحدهما : وطن قرار والآخر : مستعار .
صيرورة المقيم مسافراً وشرائطها :
10 - يصير المقيم مسافراً إذا تحقّقت الشّرائط الآتية :
الشّريطة الأولى : الخروج من المقام ، أي موطن إقامته ، وهو أن يجاوز عمران بلدته ويفارق بيوتها ، ويدخل في ذلك ما يعدّ منه عرفاً كالأبنية المتّصلة ، والبساتين المسكونة ، والمزارع ، والأسوار ، وذلك على تفصيل بين المذاهب سيأتي بيانه .
ولا بدّ من اقتران النّيّة بالفعل ؛ لأنّ السّفر الشّرعيّ لا بدّ فيه من نيّة السّفر كما تقدّم ، ولا تعتبر النّيّة إلاّ إذا كانت مقارنةً للفعل ، وهو الخروج ؛ لأنّ مجرّد قصد الشّيء من غير اقتران بالفعل يسمّى عزماً ، ولا يسمّى نيّةً ، وفعل السّفر لا يتحقّق إلاّ بعد الخروج من المصر ، فما لم يخرج لا يتحقّق قران النّيّة بالفعل ، فلا يصير مسافراً .
الشّريطة الثّانية : نيّة مسافة السّفر ، فلكي يصير المقيم مسافراً لا بدّ أن ينوي سير مسافة السّفر الشّرعيّ ؛ لأنّ السّير قد يكون سفراً وقد لا يكون ، فالإنسان قد يخرج من موطن إقامته إلى موضع لإصلاح ضيعة ، ثمّ تبدو له حاجة أخرى إلى المجاوزة عنه إلى موضع آخر ، وليس بينهما مدّة سفر ، ثمّ يتجاوز ذلك إلى مكان آخر ، وهكذا إلى أن يقطع مسافةً بعيدةً أكثر من مدّة السّفر ، ولذلك لا بدّ من نيّة مدّة السّفر للتّمييز .
وعلى هذا قالوا : أمير خرج مع جيشه في طلب العدوّ ، ولم يعلم أين يدركهم فإنّهم يصلّون صلاة المقيم في الذّهاب ، وإن طالت المدّة ، وكذلك لو طاف الدّنيا من غير قصد إلى قطع المسافة فلا يعدّ مسافراً ، ولا يترخّص .
تحديد أقلّ مسافة السّفر بالأيّام :
11 - أقلّ هذه المسافة مقدّر عند عامّة العلماء ، ولكنّهم اختلفوا في التّقدير .
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة واللّيث والأوزاعيّ : إلى أنّ أقلّ مدّة السّفر مسيرة يومين معتدلين بلا ليلة ، أو مسيرة ليلتين معتدلتين بلا يوم ، أو مسيرة يوم وليلة .
وذلك ؛ لأنّهم قدّروا السّفر بالأميال ، واعتبروا ذلك ثمانيةً وأربعين ميلاً ، وذلك أربعة برد ، وتقدّر بسير يومين معتدلين .
واستدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا أهل مكّة : لا تقصروا الصّلاة في أدنى من أربعة برد ، من مكّة إلى عسفان » ولأنّ ابن عمر وابن عبّاس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها ، ولا يعرف لهما مخالف ، وأسنده البيهقيّ بسند صحيح ، مثل هذا لا يكون إلاّ عن توقيف ، وعلّقه البخاريّ بصيغة الجزم ، وقال الأثرم : قيل لأبي عبد اللّه : في كم تقصر الصّلاة ؟ قال : في أربعة برد ، قيل له : مسيرة يوم تامّ ؟ قال : لا ، أربعة برد : ستّة عشر فرسخاً : مسيرة يومين . وقد قدّره ابن عبّاس من عسفان إلى مكّة مستدلّاً بالحديث السّابق .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ أقلّ مسافة السّفر مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها ، لما روي عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - « أنّه سئل عن المسح على الخفّين فقال : جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم » ، فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكلّ مسافر أن يمسح ثلاثة أيّام ولياليها ، ولن يتصوّر أن يمسح المسافر ثلاثة أيّام ولياليها ، ومدّة السّفر أقلّ من هذه المدّة . وكذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلاّ ومعها محرم » ، فلو لم تكن المدّة مقدّرةً بالثّلاث لم يكن لتخصيص الثّلاث معنى .
وقد استحبّ ذلك الإمام الشّافعيّ للخروج من الخلاف .
والعبرة بالسّير هو السّير الوسط ، وهو سير الإبل المثقلة بالأحمال ، ومشي الأقدام على ما يعتاد من ذلك ، مع ما يتخلّله من نزول واستراحة وأكل وصلاة .
ويحترز بالسّير الوسط عن السّير الأسرع ، كسير الفرس والبريد ، وعن السّير الأبطأ ، كسير البقر يجرّ العجلة ، فاعتبر الوسط ؛ لأنّه الغالب .
والسّير في البحر يراعى فيه اعتدال الرّياح ؛ لأنّه هو الوسط ، وهو ألاّ تكون الرّياح غالبةً ولا ساكنةً ، ويعتبر في الجبل ما يليق به ، فينظر كم يسير في مثل هذا مسافة القصر فيجعل أصلاً ، وذلك معلوم عند النّاس فيرجع إليهم عند الاشتباه .
سلوك أحد طريقين مختلفين لغاية واحدة :(/2)
12 - إذا كان لمكان واحد طريقان مختلفان ، أحدهما يقطعه في ثلاثة أيّام ، والآخر يمكن أن يصل إليه في يوم واحد ، فقد قال أبو حنيفة : يقصر لو سلك الطّريق الأقرب ؛ لأنّه يعتبر مسافراً ، هكذا ذكر الكاسانيّ في البدائع ، وجاء في العناية : إذا كان لموضع طريقان : أحدهما في الماء يقطع بثلاثة أيّام ولياليها إذا كانت الرّيح متوسّطةً ، والطّريق الثّاني في البرّ يقطع بيوم أو يومين ، فلا يعتبر أحدهما بالآخر ، فإن ذهب إلى طريق الماء قصر ، وإن ذهب إلى طريق البرّ أتمّ ، ولو انعكس انعكس الحكم .
وقال المالكيّة : لا يقصر عادل عن طريق قصير ، وهو ما دون مسافة القصر إلى طريق طويل فيه المسافة بدون عذر ، بل لمجرّد قصد القصر ، أو لا قصد له ، فإن عدل لعذر أو لأمر ، ولو مباحاً فيما يظهر قصر . وبمثل ذلك يقول الشّافعيّة .
والحنابلة يجيزون القصر لمن سلك الطّريق الأبعد مع وجود الأقرب ، ولو لغير عذر .
الحكم بالنّسبة لوسائل السّفر الحديثة :
13 - معلوم ممّا سبق : أنّ الفقهاء حدّدوا أقلّ المسافة الّتي تشترط لقصر الصّلاة ، وأنّهم اعتبروا السّير الوسط " مشي الأقدام وسير الإبل " هو الأساس في التّقدير، والمقصود - هنا- هو معرفة الحكم إذا استعملت وسائل السّفر الحديثة كالقطار والطّائرة ، حيث الرّاحة وقصر المدّة .
وقد تحدّث الفقهاء في ذلك : فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - كما يتّضح من أقوالهم - أنّ المسافر لو قطع مسافة السّفر المحدّدة في زمن أقلّ ؛ لاستعماله وسائل أسرع فإنّه يقصر الصّلاة ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه سافر مسافة القصر .
فقد قال الدّسوقيّ : من كان يقطع المسافة بسفره قصر ، ولو كان يقطعها في لحظة بطيران ونحوه .
وقال النّوويّ : يقصر المسافر ، ولو قطع المسافة في ساعة .
وقال الخطيب الشّربينيّ : يقصر المسافر ، لو قطع المسافة في بعض يوم كما لو قطعها على فرس جواد .
وقال البهوتيّ : يقصر المسافر الرّباعيّة إلى ركعتين إجماعاً ، ولو قطع المسافة في ساعة واحدة ؛ لأنّه صدق عليه أنّه يسافر أربعة برد " مسافة القصر " .
وقد اختلف النّقل عند الحنفيّة ، فنقل الكاسانيّ في بدائعه ما روي عن أبي حنيفة : من أنّ المسافر لو سار إلى موضع في يوم أو يومين ، وأنّه بسير الإبل ، والمشي المعتاد ثلاثة أيّام فإنّه يقصر ، اعتباراً للسّير المعتاد .
وهذا القول يوافق المذاهب السّابقة ؛ لأنّ أبا حنيفة اعتبر أنّ العلّة هي قطع المسافة .
لكن الكمال بن الهمام : اعتبر أنّ العلّة لقصر الصّلاة في السّفر هي المشقّة الّتي تلحق بالمسافر ، ولذلك يذكر : أنّ المسافر لو قطع المسافة في ساعة فإنّه لا يقصر الصّلاة ، وإن كان يصدق عليه أنّه قطع مسافة ثلاثة أيّام بسير الإبل ؛ لانتفاء مظنّة المشقّة ، وهي العلّة .
العبرة بنيّة الأصل دون التّبع :
14 - المعتبر في نيّة السّفر الشّرعيّ نيّة الأصل دون التّابع ، فمن كان سفره تابعاً لغيره فإنّه يصير مسافراً بنيّة ذلك الغير ، وذلك كالزّوجة التّابعة لزوجها ؛ فإنّها تصير مسافرةً بنيّة زوجها ، وكذلك من لزمه طاعة غيره كالسّلطان وأمير الجيش ، فإنّه يصير مسافراً بنيّة من لزمته طاعته ؛ لأنّ حكم التّبع حكم الأصل .
أمّا الغريم الّذي يلازمه صاحب الدّين ، فإن كان مليئاً ، فالنّيّة له ؛ لأنّه يمكنه قضاء الدّين ، والخروج من يده ، وإن كان الغريم مفلساً ، فالنّيّة لصاحب الدّين ؛ لأنّه لا يمكنه الخروج من يده ، فكان تابعاً له . هذا مذهب الحنفيّة والحنابلة .
ويقول الشّافعيّة : لو تبعت الزّوجة زوجها ، أو الجنديّ قائده في السّفر ، ولا يعرف كلّ واحد منهم مقصده فلا قصر لهم ؛ لأنّ الشّرط - وهو قصد موضع معيّن - لم يتحقّق ، وهذا قبل بلوغهم مسافة القصر ، فإن قطعوها قصروا .
فلو نوت الزّوجة دون زوجها ، أو الجنديّ دون قائده مسافة القصر ، أو جهلا الحال قصر الجنديّ غير المثبت في الدّيوان ، دون الزّوجة ؛ لأنّ الجنديّ حينئذ ليس تحت يد الأمير وقهره ، بخلاف الزّوجة ، فنيّتها كالعدم .
أمّا الجنديّ المثبت في الدّيوان فلا يقصر ؛ لأنّه تحت يد الأمير ، ومثله الجيش ، إذ لو قيل : بأنّه ليس تحت يد الأمير وقهره كالآحاد لعظم الفساد .
أحكام القصر :
مشروعيّة القصر :
15 - القصر معناه : أن تصير الصّلاة الرّباعيّة ركعتين في السّفر ، سواء في حالة الخوف، أو في حالة الأمن . وقد شرع القصر في السّنة الرّابعة من الهجرة .
ومشروعيّة القصر ثابتة بالكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } . وأمّا السّنّة : فما ورد عن يعلى بن أميّة قال : « قلت لعمر بن الخطّاب : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، فقد أمن النّاس . قال : عجبت ممّا عجبت منه ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » .
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : « صحبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السّفر على ركعتين » ، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك . وغير ذلك من الأحاديث والآثار.
فالآية الكريمة دلّت على مشروعيّة القصر في حالة الخوف، ودلّت الأحاديث على مشروعيّته في حالتي الخوف والأمن .
وقد أجمعت الأمّة على مشروعيّة القصر .
الحكم التّكليفيّ للقصر :(/3)
16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ القصر جائز تخفيفاً على المسافر ؛ لما يلحقه من مشقّة السّفر غالباً ، واستدلّوا بالآية الكريمة : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فقد علّق القصر على الخوف ؛ لأنّ غالب أسفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم تخل منه . ونفي الجناح في الآية يدلّ على جواز القصر ، لا على وجوبه .
واستدلّوا كذلك بحديث يعلى بن أميّة السّابق : « صدقة تصدّق اللّه بها عليكم » .
وذهب الحنفيّة : إلى أنّ فرض المسافر من ذوات الأربع ركعتان لا غير ، فليس للمسافر عندهم أن يتمّ الصّلاة أربعاً ؛ لقول عائشة - رضي الله عنها - : « فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين ، فأقرّت صلاة السّفر ، وزيد في صلاة الحضر » . ولا يعلم ذلك إلاّ توقيفاً ، وقول ابن عبّاس - رضي الله عنهما - : « إنّ اللّه عزّ جلّ فرض الصّلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعاً ، وفي الخوف ركعةً » .
والرّاجح المشهور عند المالكيّة : أنّ القصر سنّة مؤكّدة ؛ فإنّه لم يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أتمّ الصّلاة ، بل المنقول عنه القصر في كلّ أسفاره ، وما كان هذا شأنه فهو سنّة مؤكّدة .
وهناك أقوال أخرى في المذهب فقيل : إنّه فرض ، وقيل : إنّه مستحبّ ، وقيل : إنّه مباح .
هل الأصل القصر أو الإتمام ؟
17 - قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ الأصل هو الإتمام وأنّ القصر رخصة ، واستدلّوا بحديث مسلم السّابق : « صدقة تصدّق اللّه بها عليكم » .
إلاّ أنّ المشهور من مذهب الشّافعيّة : أنّ القصر أفضل من الإتمام ، إذا بلغ السّفر ثلاثة أيّام، اقتداءً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ وخروجاً من خلاف من أوجبه ، كأبي حنيفة ، إلاّ الملّاح الّذي يسافر في البحر بأهله ، ومن لا يزال مسافراً بلا وطن ، فالإتمام لهما أفضل خروجاً من خلاف من أوجبه عليهما ، كالإمام أحمد .
ومقابل المشهور : إنّ الإتمام أفضل مطلقاً ، لأنّه الأصل ، والأكثر عملاً ، أمّا إذا لم يبلغ السّفر ثلاثة أيّام فالإتمام أفضل لأنّه الأصل .
وعند الحنابلة : القصر أفضل من الإتمام نصّاً ، لمداومة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء عليه . لكن إن أتمّ من يباح له القصر لم يكره .
وعند الحنفيّة : القصر هو الأصل في الصّلاة ؛ إذ الصّلاة في الأصل فرضت ركعتين ، في حقّ المقيم والمسافر جميعاً ، لحديث عائشة المتقدّم ذكره ، ثمّ زيدت ركعتان في حقّ المقيم . وأقرّت الرّكعتان في حقّ المسافر كما كانتا في الأصل ، فالرّكعتان من ذوات الأربع في حقّ المسافر ليستا قصراً حقيقةً ، بل هو تمام فرض المسافر ، والإكمال ليس رخصةً في حقّه ، بل هو إساءة ومخالفة للسّنّة .
والقصر عزيمة ؛ لما روي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنّه قال : « ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ صلّى ركعتين إلاّ المغرب » ولو كان القصر رخصةً والإكمال هو العزيمة لما ترك العزيمة إلاّ أحياناً ؛ إذ العزيمة أفضل ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يختار من الأعمال إلاّ أفضلها ، وكان لا يترك الأفضل إلاّ مرّةً أو مرّتين تعليمًا للرّخصة في حقّ الأمّة ، ولقد « قصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال لأهل مكّة : أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر » فلو جاز الأربع لما اقتصر على ركعتين .
شرائط القصر :
يقصر المسافر الصّلاة الرّباعيّة إلى ركعتين إذا توفّرت الشّرائط الآتية :
الأولى : نيّة السّفر :
18 - وهي شريطة عند جميع الفقهاء كما سبق .
والمعتبر فيها : نيّة الأصل دون التّابع على ما سبق بيانه ، وأن تكون من بالغ عند الحنفيّة، ولذلك لو خرج الصّبيّ قاصداً السّفر وسار مسافةً حتّى بقي إلى مقصده أقلّ من مدّة السّفر فبلغ حينذاك ، فإنّه لا يقصر الصّلاة ، بل يصلّي أربعاً ؛ لأنّ قصده السّفر لم يصحّ ابتداءً ، وحين بلغ لم يبق إلى مقصده مدّة السّفر فلا يصير مسافراً عندهم .
ويشترط عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في السّفر الّذي تقصر فيه الصّلاة : ألاّ يكون لمعصية ، فلا يقصر عاص بسفره ، كآبق وقاطع طريق ؛ لأنّ الرّخص لا يجوز أن تتعلّق بالمعاصي ؛ وجواز الرّخص في سفر المعصية إعانة على المعصية وهذا لا يجوز .
فإن قصر العاصي بسفره فعند المالكيّة لا يعيد الصّلاة على الأصوب ، وإن أثم بعصيانه . ومن أنشأ السّفر عاصياً به ، ثمّ تاب في أثنائه ، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يقصر إن كان ما بقي من سفر مسافة القصر ، ولو سافر سفراً مباحاً ثمّ قصد بسفره المعصية قبل تمام سفره ، انقطع التّرخّص ، فلا يقصر عند المالكيّة ، وهو الأصحّ للشّافعيّة .
وذهب الحنابلة - وهو القول الثّاني للشّافعيّة - إلى أنّه يقصر .
ولم يشترط الحنفيّة أن يكون السّفر مباحًا ، بل أجازوا القصر في سفر المعصية - أيضاً - ، فإنّه يستوي في المقدار المفروض على المسافر من الصّلاة سفر الطّاعة من الحجّ والجهاد وطلب العلم ، وسفر المباح كسفر التّجارة ونحوه ، وسفر المعصية كقطع الطّريق والبغي ؛ لأنّ الدّلائل الّتي وردت لا توجب الفصل بين مسافر ومسافر .(/4)
ومن هذه الدّلائل قوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ... } ، وقوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } وقول عليّ - رضي الله عنه - : « جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم » من غير فصل بين سفر وسفر، فوجب العمل بعموم النّصوص وإطلاقها .
الثّانية : مسافة السّفر :
19 - وهو أن يقصد الإنسان مسيرة مسافة السّفر المقدّرة عند الفقهاء ، حتّى إنّه لو طاف الدّنيا من غير قصد مسيرة المسافة المحدّدة لا يجوز له القصر ؛ لأنّه لا يعتبر مسافراً ، وقد مرّ بيان ذلك .
الثّالثة : الخروج من عمران بلدته :
20 - فالقصر لا يجوز إلاّ أن يجاوز المسافر محلّ إقامته ، وما يتبعه على التّفصيل الّذي سيأتي بيانه .
لكن هل يشترط الخروج للسّفر قبل مضيّ وقت يسع الإتمام ؟ اختلف الفقهاء في ذلك :
يقول الكاسانيّ الحنفيّ : وسواء خرج في أوّل الوقت أو في وسطه أو في آخره ، حتّى لو بقي من الوقت مقدار ما يتّسع لأداء ركعتين ، فإنّه يقصر في ظاهر قول أصحابنا .
وقال إبراهيم النّخعيّ ، ومحمّد بن شجاع الثّلجيّ : إنّما يقصر إذا خرج قبل الزّوال ، فأمّا إذا خرج بعد الزّوال فإنّه يكمل الظّهر ويقصر العصر . والكلام في ذلك مبنيّ على أنّ الصّلاة هل تجب في أوّل الوقت أو في آخره ؟
فعند المحقّقين من الحنفيّة : لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين ، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن ، وإنّما التّعيين إلى المصلّي من حيث الفعل ، حتّى إنّه إذا شرع في أوّل الوقت تجب في ذلك الوقت ، وكذلك إذا شرع في وسطه أو في آخره . وثمّة أصل آخر ، وهو مقدار ما يتعلّق به الوجوب في آخر الوقت ، فقال الكرخيّ وأكثر المحقّقين من الحنفيّة: إنّ الوجوب يتعلّق بآخر الوقت بمقدار التّحريمة وهو المختار ، وعليه فإنّ الأداء يتغيّر وإن بقي مقدار ما يسع التّحريمة فقط ، وقال زفر واختاره القدوريّ : لا يجب إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدّي فيه الفرض . وعلى ذلك القول فلا يتغيّر الفرض إلاّ إذا بقي من الوقت ما يمكن فيه الأداء .
وعند المالكيّة : تقصر الصّلاة الّتي يسافر في وقتها ولو الضّروريّ ، فيقصر الظّهرين قبل الغروب بثلاث ركعات فأكثر ولو أخّرهما عمداً ، فإذا لم يبق إلاّ بمقدار ركعتين أو ركعة صلّى العصر فقط سفريّةً .
وقال الشّافعيّة : إن سافر وقد بقي من الوقت أقلّ من قدر الصّلاة ، فإن قلنا : إنّه مؤدّ لجميع الصّلاة جاز له القصر ، وإن قلنا : إنّه مؤدّ لما فعل في الوقت قاض لما فعل بعد الوقت لم يجز له القصر .
وقال الحنابلة : إن دخل عليه وقت الصّلاة في الحضر ، ثمّ سافر ، لزمه أن يتمّ ؛ لوجوبها عليه تامّةً بدخول وقتها .
الرّابعة : اشتراط نيّة القصر عند كلّ صلاة :
21 - يشترط للقصر نيّته في التّحريمة ، ومثل نيّة القصر ما لو نوى الظّهر مثلاً ركعتين ، ولم ينو ترخّصاً ، كما قاله الشّافعيّ ، ومثل النّيّة - أيضًا - ما لو قال : أؤدّي صلاة السّفر ، كما قاله المتولّي من الشّافعيّة ، فلو لم ينو ما ذكر ، بأن نوى الإتمام أو أطلق أتمّ ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة .
أمّا الحنفيّة : فإنّ نيّة السّفر تجعل فرض المسافر ركعتين ، وهذا يكفي .
وعند المالكيّة : تكفي نيّة القصر في أوّل صلاة يقصرها في السّفر ، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصّلوات ، وقيل : إنّه لا بدّ من نيّة القصر عند كلّ صلاة ولو حكماً .
واشترط الشّافعيّة التّحرّز عمّا ينافي نيّة القصر في دوام الصّلاة ، وذلك مثل نيّة الإتمام ، فلو نوى الإتمام بعد نيّة القصر أتمّ ، ولو أحرم قاصراً ثمّ تردّد في أنّه يقصر أم يتمّ ؟ أتمّ . أو شكّ في أنّه نوى القصر أم لا ؟ أتمّ . وإن تذكّر في الحال أنّه نواه ، لأنّه أدّى جزءاً من صلاته حال التّردّد على التّمام ، ولو قام القاصر لثالثة عمداً بلا موجب لإتمام ، كنِيّته أو نيّة إقامة بطلت صلاته .
ونحوهم الحنابلة : فعندهم : إن عزم المسافر في صلاته على ما يلزمه به الإتمام من الإقامة وسفر المعصية لزمه أن يتمّ تغليبًا لكونه الأصل ، أو تاب من سفر المعصية في الصّلاة الّتي أحرم بها سفريّةً لزمه أن يتمّ ، ولا تنفعه نيّة القصر ، وكمن نوى خلف مقيم عالماً بأنّ إمامه مقيم ، وأنّه لا يباح له القصر ، فلم تنعقد .
واشترط الشّافعيّة - أيضاً - : العلم بجواز القصر ، فلو قصر جاهلاً به لم تصحّ صلاته ؛ لتلاعبه .
وعند الحنفيّة : لو اختار الأربع لا يقع الكلّ فرضاً ، بل المفروض ركعتان ، والشّطر الثّاني : يقع تطوّعاً ، حتّى إنّه لو لم يقعد على رأس الرّكعتين قدر التّشهّد فسدت صلاته ؛ لأنّها القعدة الأخيرة في حقّه ، وإذا أتمّ ساهيًا صحّت صلاته ، ووجب عليه سجود السّهو ، وإن كان عمداً وجلس على رأس الرّكعتين صحّت صلاته وأساء لتأخيره السّلام عن مكانه . ويقول المالكيّة : إن نوى المسافر الإقامة القاطعة لحكم السّفر ، وهو في الصّلاة الّتي أحرم بها سفريّةً شفع بأخرى ندباً إن عقد ركعةً وجعلها نافلةً ، ولا تجزئ حضريّة إن أتمّها أربعاً؛ لعدم دخوله عليها ولا تجزئ سفريّة ؛ لتغيّر نيّته في أثنائها .
المكان الّذي يبدأ منه القصر :(/5)
22 - قال الفقهاء : يبدأ المسافر القصر إذا فارق بيوت المصر ، فحينئذ يصلّي ركعتين . وأصله ما روى أنس - رضي الله عنه - قال : « صلّيت الظّهر مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً ، وصلّيت معه العصر بذي الحليفة ركعتين » ، وما روي عن عليّ - رضي الله عنه - : أنّه لمّا خرج من البصرة يريد الكوفة صلّى الظّهر أربعاً ثمّ نظر إلى خصّ أمامه وقال : لو جاوزنا هذا الخصّ صلّينا ركعتين .
والمعتبر مفارقة البيوت من الجانب الّذي يخرج منه ، وإن كان في غيره من الجوانب بيوت. ويدخل في بيوت المصر المباني المحيطة به ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقصر في سفره إلاّ بعد الخروج من المدينة .
والقريتان المتدانيتان المتّصل بناء إحداهما بالأخرى ، أو الّتي يرتفق أهل إحداهما بالأخرى فهما كالقرية الواحدة ، وإلاّ فلكلّ قرية حكم نفسها يقصر إذا جاوز بيوتها والأبنية الّتي في طرفها .
وساكن الخيام يقصر إذا فارق خيام قومه ومرافقها ، كملعب الصّبيان ، والبساتين المسكونة المتّصلة بالبلد ، ولو حكماً لا يقصر إلاّ إذا فارقها إن سافر من ناحيتها ، أو من غير ناحيتها، وكان محاذياً لها عند المالكيّة . ويقصر سكّان القصور والبساتين وأهل العزب إذا فارقوا ما نسبوا إليه بما يعدّ مفارقةً عرفاً .
والبلدة الّتي لها سور ، لا يقصر إلاّ إذا جاوزه وإن تعدّد ، كما قال الشّافعيّة .
وقالوا أيضاً : يعتبر مجاوزة عرض الوادي إن سافر في عرضه ، والهبوط إن كان في ربوة، والصّعود إن كان في وهدة . وهذا إن سافر في البرّ ، ويعتبر في سفر البحر المتّصل ساحله بالبلد جري السّفينة أو الزّورق ، فيقصر بمجرّد تحرّكها ، أمّا إذا كان البحر بعيداً عن المدينة فالعبرة بمجاوزة سور المدينة .
الصّلوات الّتي تقصر ، ومقدار القصر :
23 - الصّلوات الّتي تقصر هي : الصّلاة الرّباعيّة ، وهي : الظّهر ، والعصر ، والعشاء إجماعاً ، ولا قصر في الفجر والمغرب لحديث عائشة - رضي الله عنها - : « فرض صلاة السّفر والحضر ركعتين ركعتين . فلمّا أقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنّها وتر النّهار » ولأنّ القصر هو : سقوط شطر الصّلاة ، وبعد سقوط الشّطر من الفجر والمغرب لا يبقى نصف مشروع ، بخلاف الصّلاة الرّباعيّة فإنّها هي الّتي تقصر ، وذلك في جميع المذاهب .
ومقدار القصر : أن تصير الرّباعيّة ركعتين لا غير . ولا قصر في السّنن عند الحنفيّة .
ولا قصر في المنذورة عند الشّافعيّة .
اقتداء المسافر بالمقيم ، وعكسه :
24 - يقول الحنفيّة : يصحّ اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت ، وينقلب فرض المسافر أربعاً عند عامّة الفقهاء من الحنفيّة لأنّه لمّا اقتدى به صار تبعاً له ؛ لأنّ متابعته واجبة عليه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه » وأداء الصّلاة في الوقت ممّا يحتمل التّغيير ، وهو التّبعيّة ، فيتغيّر فرضه أربعاً ، فصار صلاة المقتدي مثل صلاة الإمام ، فصحّ اقتداؤه به .
ولا يصحّ اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت عند الحنفيّة ؛ لأنّ الصّلاة خارج الوقت من باب القضاء ، وهو خلف عن الأداء ، والأداء لم يتغيّر فلا يتغيّر القضاء بالاقتداء بالمقيم ، فبقيت صلاته ركعتين وصارت القعدة الأولى للتّشهّد فرضاً في حقّه ، وهي نفل في حقّ الإمام فيكون هذا اقتداء المفترض بالمتنفّل في حقّ القعدة ، وكما لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفّل في جميع الصّلاة ، فلا يجوز في ركن منها .
ولو أنّ مقيماً صلّى ركعتين بقراءة ، فلمّا قام إلى الثّالثة جاء مسافر واقتدى به بعد خروج الوقت لا يصحّ ؛ لما سبق بيانه من أنّ فرض المسافر تقرّر ركعتين بخروج الوقت ، والقراءة فرض عليه في الرّكعتين ، وهي نفل في حقّ المقيم في الأخيرتين ، فيكون اقتداء المفترض بالمتنفّل في حقّ القراءة .
وأمّا اقتداء المقيم بالمسافر فيصحّ في الوقت وخارج الوقت ؛ لأنّ صلاة المسافر في الحالتين واحدة ، والقعدة فرض في حقّه نفل في حقّ المقتدي ، واقتداء المتنفّل بالمفترض جائز في كلّ الصّلاة فكذا في بعضها ، وإذا سلّم الإمام على رأس الرّكعتين لا يسلّم المقيم ؛ لأنّه قد بقي عليه شطر الصّلاة ، فلو سلّم فسدت صلاته ، ولكنّه يقوم ويتمّها أربعاً ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أتمّوا يا أهل مكّة صلاتكم ، فإنّا قوم سفر » ، ويقول الإمام المسافر ذلك للمقيمين اقتداءً بالرّسول عليه السلام .
وعند المالكيّة : يجوز اقتداء المسافر بالمقيم مع الكراهة ، ويلزمه الإتمام ولو نوى القصر ; لمتابعة الإمام ، وهذا إذا أدرك معه ركعةً ، واختلف في الإعادة ، لمخالفة سنّة القصر . ويجوز - أيضاً - اقتداء المقيم بالمسافر مع الكراهة ، ويسلّم المسافر ، ويتمّ المقيم . ويجوز كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة اقتداء المسافر بالمقيم ، ويلزمه الإتمام . كما يجوز اقتداء المقيم بالمسافر ، وفرضا الإتمام .
وذهب طاوس والشّعبيّ وتميم بن حذلم : إلى أنّ المسافر إن أدرك مع الإمام المقيم ركعتين أجزأتا عنه .
وذهب الحسن والزّهريّ والنّخعيّ وقتادة : إلى أنّه إن أدرك معه ركعةً فأكثر أتمّ ، وإن أدرك معه أقلّ من ركعة قصر .
قضاء فائتة السّفر في الحضر وعكسه :(/6)
25 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في القديم : من فاتته صلاة في السّفر قضاها في الحضر ركعتين ، ومن فاتته صلاة في الحضر قضاها في السّفر أربعاً ؛ لأنّ القضاء بحسب الأداء . والمعتبر في ذلك آخر الوقت ؛ لأنّه المعتبر في السّببيّة عند عدم الأداء في الوقت . وقال زفر : إذا سافر وقد بقي من الوقت قدر ما يمكنه أن يصلّي فيه صلاة السّفر يقضي صلاة السّفر ، وإن كان الباقي دونه صلّى صلاة المقيم .
وذهب الشّافعيّة في الجديد - وهو الأصحّ - إلى أنّه لا يجوز له القصر ؛ لأنّه تخفيف تعلّق بعذر فزال بزوال العذر . وإن فاتته في السّفر فقضاها في السّفر ففيه قولان :
أحدهما : لا يقصر ؛ لأنّها صلاة ردّت من أربع إلى ركعتين ، فكان من شرطها الوقت . والثّاني : له أن يقصر - وهو الأصحّ - لأنّه تخفيف تعلّق بعذر ، والعذر باق ، فكان التّخفيف باقياً . وإن فاتته في الحضر صلاة ، فأراد قضاءها في السّفر لم يجز له القصر ؛ لأنّه ثبت في ذمّته صلاة تامّة فلم يجز له القصر ، وقال المزنيّ : له أن يقصر .
وقال الحنابلة : إذا نسي صلاة حضر فذكرها في السّفر ، أو نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر صلّى في الحالتين صلاة حضر . نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود والأثرم ؛ لأنّ القصر رخصة من رخص السّفر فيبطل بزواله .
زوال حالة السّفر :
26 - المسافر إذا صحّ سفره يظلّ على حكم السّفر ، ولا يتغيّر هذا الحكم إلاّ أن ينوي الإقامة ، أو يدخل وطنه ، وحينئذ تزول حالة السّفر ، ويصبح مقيماً تنطبق عليه أحكام المقيم . وللإقامة شرائط هي :
الأولى : نيّة الإقامة ومدّتها المعتبرة :
27 - نيّة الإقامة أمر لا بدّ منه عند الحنفيّة ، حتّى لو دخل مصراً ومكث فيه شهراً أو أكثر لانتظار قافلة ، أو لحاجة أخرى يقول : أخرج اليوم أو غداً ، ولم ينو الإقامة ، فإنّه لا يصير مقيماً ، وذلك لإجماع الصّحابة - رضي الله عنهم - فإنّه روي عن سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - أنّه : أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصّلاة .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما - : أنّه أقام بأذربيجان شهراً وكان يقصر الصّلاة .
وعن علقمة : أنّه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر .
وروي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنّه قال : « غزوت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح ، فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلةً ، لا يصلّي إلاّ ركعتين ، ويقول : يا أهل البلد : صلّوا أربعاً فإنّا قوم سفر » .
أمّا مدّة الإقامة المعتبرة : فأقلّها خمسة عشرة يوماً ؛ لما روي عن ابن عبّاس وابن عمر رضي الله عنهم - أنّهما قالا : إذا دخلت بلدةً وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوماً فأكمل الصّلاة ، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر ، قال الكاسانيّ : وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد ؛ لأنّه من جملة المقادير ، ولا يظنّ بهما التّكلّم جزافاً ، فالظّاهر أنّهما قالاه سماعاً من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وعند المالكيّة : لا بدّ من النّيّة ، وأقلّ مدّة الإقامة أربعة أيّام صحاح مع وجوب عشرين صلاةً في مدّة الإقامة ، ولا يحتسب من الأيّام يوم الدّخول إن دخل بعد طلوع الفجر ، ولا يوم الخروج إن خرج في أثنائه .
ولا بدّ من اجتماع الأمرين : الأربعة الأيّام والعشرين صلاةً .
واعتبر سحنون : العشرين صلاةً فقط .
ثمّ إنّ نيّة الإقامة إمّا أن تكون في ابتداء السّير ، وإمّا أن تكون في أثنائه ، فإن كانت في ابتداء السّير ، وكانت المسافة بين النّيّة وبين محلّ الإقامة مسافة قصر ، قصر الصّلاة حتّى يدخل محلّ الإقامة بالفعل ، وإلاّ أتمّ من حين النّيّة ، أمّا إن كانت النّيّة في أثناء السّفر فإنّه يقصر حتّى يدخل محلّ الإقامة بالفعل ، ولو كانت المسافة بينهما دون مسافة القصر على المعتمد ، ويستثنى من نيّة الإقامة نيّة العسكر بمحلّ خوف ، فإنّها لا تقطع حكم السّفر .
وإذا أقام بمحلّ في أثناء سفره دون أن ينوي الإقامة به ، فإنّ إقامته به لا تمنع القصر ولو أقام مدّةً طويلةً إلاّ أنّه إذا علم أنّه سيقيم أربعة أيّام في مكان عادةً ، فإنّ ذلك يقطع حكم السّفر ولو لم ينو الإقامة ؛ لأنّ العلم بالإقامة كالنّيّة ، بخلاف الشّكّ فإنّه لا يقطع حكم السّفر. ويقول الشّافعيّة : لو نوى المسافر المستقلّ ، ولو محاربًا إقامة أربعة أيّام تامّةً بلياليها ، أو نوى الإقامة وأطلق بموضع عينه ، انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع سواء أكان مقصده أم في طريقه ، أو نوى بموضع وصل إليه إقامة أربعة أيّام انقطع سفره بالنّيّة مع مكثه .
ولو أقام أربعة أيّام بلا نيّة انقطع سفره بتمامها ؛ لأنّ اللّه تعالى أباح القصر بشرط الضّرب في الأرض ، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض .
والسّنّة بيّنت أنّ ما دون الأربع لا يقطع السّفر ، ففي الصّحيحين : « يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً » ، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكّة ومساكنة الكفّار ، فالتّرخّص في الثّلاث يدلّ على بقاء حكم السّفر ، بخلاف الأربعة ، وألحق بإقامة الأربعة : نيّة إقامتها .
ولا يحسب من الأربعة يوما دخوله وخروجه إذا دخل نهاراً على الصّحيح ، والثّاني يحسبان بالتّلفيق ، فلو دخل زوال السّبت ليخرج زوال الأربعاء أتمّ ، وقبله قصر ، فإن دخل ليلاً لم تحسب بقيّة اللّيلة ويحسب الغد .
واختار السّبكيّ من الشّافعيّة : أنّ الرّخصة لا تتعلّق بعدد الأيّام بل بعدد الصّلوات ، فيترخّص بإقامة مدّة يصلّي فيها إحدى وعشرين صلاةً مكتوبةً ؛ لأنّه المحقّق من فعله صلى الله عليه وسلم حين نزل بالأبطح .(/7)
ولو أقام ببلد بنيّة أن يرحل إذا حصلت حاجة يتوقّعها كلّ وقت ، أو حبسه الرّيح بموضع في البحر قصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدّخول والخروج ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقامها بمكّة عام الفتح لحرب هوازن يقصر الصّلاة .
وقيل : يقصر أربعة أيّام غير يومي الدّخول والخروج ، وفي قول : يقصر أبداً ؛ لأنّ الظّاهر أنّه لو زادت حاجة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الثّمانية عشر لقصر في الزّائد .
ولو علم المسافر بقاء حاجته مدّةً طويلةً فلا قصر له على المذهب ؛ لأنّه ساكن مطمئنّ بعيد عن هيئة المسافرين .
وعند الحنابلة : لو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاةً أتمّ لحديث جابر وابن عبّاس - رضي الله عنهم - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قدم مكّة صبيحة رابعة ذي الحجّة فأقام بها الرّابع والخامس والسّادس والسّابع ، وصلّى الصّبح في اليوم الثّاني ، ثمّ خرج إلى منًى ، وكان يقصر الصّلاة في هذه الأيّام ، وقد عزم على إقامتها » . ولو نوى المسافر إقامةً مطلقةً بأن لم يحدّها بزمن معيّن في بلدة أتمّ ؛ لزوال السّفر المبيح للقصر بنيّة الإقامة ، ولو شكّ في نيّته ، هل نوى إقامة ما يمنع القصر أو لا ؟ أتمّ ؛ لأنّه الأصل .
وإن أقام المسافر لقضاء حاجة يرجو نجاحها أو جهاد عدوّ بلا نيّة إقامة تقطع حكم السّفر ، ولا يعلم قضاء الحاجة قبل المدّة ولو ظنّاً ، أو حبس ظلماً ، أو حبسه مطر قصر أبداً ؛ لأنّ
« النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصّلاة » .
فإن علم أو ظنّ أنّها لا تنقضي في أربعة أيّام لزمه الإتمام ، كما لو نوى إقامة أكثر من أربعة أيّام . وإن نوى إقامةً بشرط ، كأن يقول : إن لقيت فلانًا في هذا البلد أقمت فيه وإلاّ فلا ، فإن لم يلقه في البلد فله حكم السّفر ؛ لعدم الشّرط الّذي علّق الإقامة عليه ؛ وإن لقيه به صار مقيماً ؛ لاستصحابه حكم نيّة الإقامة إن لم يكن فسخ نيّته الأولى للإقامة قبل لقائه أو حال لقائه ، وإن فسخ النّيّة بعد لقائه فهو كمسافر نوى الإقامة ، فليس له أن يقصر في موضع إقامته ؛ لأنّه محلّ ثبت له فيه حكم الإقامة ، فأشبه وطنه .
الشّريطة الثّانية - اتّحاد مكان المدّة المشترطة للإقامة :
28 - صرّح الحنفيّة بأنّ المدّة الّتي يقيمها المسافر ويصير بها مقيماً ، يشترط فيها أن تقضى في مكان واحد أو ما يشبه المكان الواحد ؛ لأنّ الإقامة قرار والانتقال يضادّه .
فإذا نوى المسافر الإقامة المدّة القاطعة للسّفر في موضعين ، فإن كانا مصراً واحداً أو قريةً واحدةً صار مقيماً ؛ لأنّهما متّحدان حكماً ، وإن كانا مصرين نحو مكّة ومنىً ، أو الكوفة والحيرة ، أو إن كانا قريتين ، أو أحدهما مصراً والآخر قريةً فلا يصير مقيماً ، ولا تزول حالة السّفر ؛ لأنّهما مكانان متباينان حقيقةً وحكماً . فإن نوى المسافر أن يقيم باللّيالي في أحد الموضعين ويخرج بالنّهار إلى الموضع الآخر ، فإن دخل أوّلاً الموضع الّذي نوى المقام فيه باللّيل يصير مقيماً ، ثمّ بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافراً ؛ لأنّ موضع إقامة الرّجل حيث يبيت فيه .
الشّريطة الثّالثة - صلاحية المكان للإقامة :
29 - يقول الحنفيّة : لا بدّ أن يكون المكان الّذي يقيم فيه المسافر صالحاً للإقامة ، والمكان الصّالح للإقامة : هو موضع اللّبث والقرار في العادة ، نحو الأمصار والقرى ، وأمّا المفازة والجزيرة والسّفينة فليست موضع الإقامة ، حتّى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً ، كذا روي عن أبي حنيفة ، وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتّركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع ، ونووا الإقامة خمسة عشر يوماً صاروا مقيمين ، وعلى هذا : إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوماً يصير مقيماً كما في القرية ، وفي رواية أخرى عن أبي يوسف : أنّهم لا يصيرون بذلك مقيمين .
والحاصل أنّ هناك قولاً واحداً عند أبي حنيفة وهو : لا يصير مقيماً في المفازة ولو كان ثمّة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط . وعن أبي يوسف روايتان . والصّحيح قول أبي حنيفة ؛ لأنّ موضع الإقامة موضع القرار ، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النّيّة لغواً .
ولو حاصر المسلمون مدينةً من مدائن أهل الحرب ، ووطّنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوماً لم تصحّ نيّة الإقامة ويقصرون ، وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن . وقال أبو يوسف : إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة فكذلك ، وإن كانوا في الأبنية صحّت نيّتهم . وقال زفر في الفصلين جميعاً : إن كانت الشّوكة والغلبة للمسلمين صحّت نيّتهم ، وإن كان للعدوّ لم تصحّ .
أمّا المالكيّة والشّافعيّة فلا يشترطون أن يكون المكان صالحاً للإقامة ، فلو نوى المسافر الإقامة في مكان ، ولو كان غير صالح للإقامة صحّت نيّته ، وامتنع القصر .
وعند الحنابلة قولان في اشتراط كون المكان صالحاً للإقامة .
حكم التّبعيّة في الإقامة والعبرة لنيّة المتبوع فيها :
30 - يقول الحنفيّة : العبرة بنيّة الأصل في الإقامة ، ويصير التّبع مقيماً بإقامة الأصل كالعبد والمرأة والجيش ونحو ذلك .
وإنّما يصير التّبع مقيماً بإقامة الأصل ، وتنقلب صلاته أربعاً إذا علم التّبع بنيّة إقامة الأصل. فأمّا إذا لم يعلم فلا ، حتّى إذا صلّى التّبع صلاة المسافرين قبل العلم بنيّة إقامة الأصل ، فإنّ صلاته جائزة ، ولا يجب عليه إعادتها .
وقد مرّ بيان حكم التّبعيّة في حالة السّفر ، وتفصيل المذاهب في ذلك .
والإقامة كالسّفر في التّبعيّة .
دخول الوطن :(/8)
31 - إذا دخل المسافر وطنه زال حكم السّفر ، وتغيّر فرضه بصيرورته مقيماً ، وسواء دخل وطنه للإقامة ، أو للاجتياز ، أو لقضاء حاجة ، أو ألجأته الرّيح إلى دخوله ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يخرج مسافراً إلى الغزوات ، ثمّ يعود إلى المدينة ولا يجدّد نيّة الإقامة ؛ لأنّ وطنه متعيّن للإقامة فلا حاجة إلى التّعيين بالنّيّة .
ودخول الوطن الّذي ينتهي به حكم السّفر هو أن يعود إلى المكان الّذي بدأ منه القصر ، فإذا قرب من بلده فحضرت الصّلاة فهو مسافر ما لم يدخل ، وقد روي : أنّ عليّاً - رضي الله عنه - حين قدم الكوفة من البصرة صلّى صلاة السّفر وهو ينظر إلى أبيات الكوفة . وروي - أيضاً - أنّ ابن عمر - رضي الله عنهما - قال لمسافر : صلّ ركعتين ما لم تدخل منزلك. وإذا دخل وطنه في الوقت وجب الإتمام .
العزم على العودة إلى الوطن :
32 - إذا عزم المسافر على العودة إلى وطنه قبل أن يسير مسافة القصر ، فإنّه يعتبر مقيمًا من حين عزم على العودة ويصلّي تماماً ؛ لأنّ العزم على العودة إلى الوطن قصد ترك السّفر بمنزلة نيّة الإقامة ، واشترط الشّافعيّة مع ذلك : أن ينوي وهو مستقلّ ماكث ، أمّا لو نوى وهو سائر فلا يقصر حتّى يدخل وطنه .
وإن كان بين المكان الّذي عزم فيه على العودة وبين الوطن مدّة سفر قصر ، فلا يصير مقيماً ؛ لأنّه بالعزم على العود قصد ترك السّفر إلى جهة ، وقصد السّفر إلى جهة أخرى ، فلم يكمل العزم على العود إلى السّفر لوقوع التّعارض ، فبقي مسافراً كما كان إلى أن يدخل وطنه .
جمع الصّلاة :
33 - المراد بالجمع : هو أن يجمع المصلّي بين فريضتين في وقت إحداهما ، جمع تقديم أو جمع تأخير .
والصّلاة الّتي يجوز فيها الجمع هي : الظّهر مع العصر ، والمغرب مع العشاء .
والجمع بين فريضتين جائز بإجماع الفقهاء . إلاّ أنّهم اختلفوا في مسوّغات الجمع : فعند الحنفيّة يجمع بين الظّهر والعصر في وقت الظّهر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة ، فمسوّغ الجمع عندهم هو الحجّ فقط ، ولا يجوز عندهم الجمع لأيّ عذر آخر ، كالسّفر والمطر .
وعند المالكيّة للجمع ستّة أسباب : السّفر ، والمطر ، والوحل مع الظّلمة ، والمرض ، وبعرفة ، ومزدلفة .
وزاد الشّافعيّة على ما ذكره المالكيّة : عدم إدراك العدوّ .
وزاد الحنابلة كذلك : الرّيح الشّديدة .
على أنّ هناك بعد ذلك شرائط بالنّسبة لهذه المسوّغات تختلف باختلاف المذاهب مع تفصيل كثير ، وذلك مثل من اشترط في السّفر ضرباً معيّناً ، كقول مالك : لا يجمع المسافر إلاّ أن يجدّ به السّير ، ومنهم من اشترط سفر القربة كالحجّ والغزو ، ومنهم من منع الجمع بسبب المطر نهاراً وأجازه ليلاً ، ومنهم من أجازه بسبب المطر ليلاً ونهاراً .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( جمع الصّلوات ) .(/9)
ب - صَلَاةُ الْوِتْرِ :
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِافْتِرَاضِ صَلَاةِ الْوِتْرِ عَلَيْهِ , مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أُمَّتِهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْوِتْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْغَزَالِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ : إنَّ هَذَا الْوُجُوبَ خَاصٌّ بِالْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ , لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْمَذْهَبُ أَنَّ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ , وَلَكِنْ جَوَازُ صَلَاتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ خَاصٌّ بِهِ عليه الصلاة والسلام . وَيَرَى الْعَيْنِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِيّ وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ - إنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوِتْرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْهِ الْوِتْرُ .
--------------------
صَلاَةُ الوِتْر *
التّعريف :
1 - الوتر " بفتح الواو وكسرها " لغةً : العدد الفرديّ ، كالواحد والثّلاثة والخمسة ، ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وتر يحبّ الوتر » . ومن كلام العرب : كان القوم شفعاً فوترتهم وأوترتهم ، أي جعلت شفعهم وتراً . وفي الحديث : « من استجمر فليوتر » معناه : فليستنج بثلاثة أحجار أو خمسة أو سبعة ، ولا يستنج بالشّفع .
والوتر في الاصطلاح : صلاة الوتر ، وهي صلاة تفعل ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر ، تختم بها صلاة اللّيل ، سمّيت بذلك لأنّها تصلّى وتراً ، ركعةً واحدةً ، أو ثلاثاً ، أو أكثر ، ولا يجوز جعلها شفعاً ، ويقال : صلّيت الوتر ، وأوترت ، بمعنىً واحد .
وصلاة الوتر اختلف فيها ، ففي قول : هي جزء من صلاة قيام اللّيل والتّهجّد ، قال النّوويّ : هذا هو الصّحيح المنصوص عليه في الأمّ ، وفي المختصر . وفي وجه أي لبعض الشّافعيّة : أنّه لا يسمّى تهجّداً ، بل الوتر غير التّهجّد .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الوتر سنّة مؤكّدة ، وليس واجباً ، ودليل سنّيّته قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وتر يحبّ الوتر ، فأوتروا يا أهل القرآن » وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعله وواظب عليه .
واستدلّوا لعدم وجوبه بما ثبت : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سأله أعرابيّ : عمّا فرض اللّه عليه في اليوم واللّيلة ؟ فقال : خمس صلوات ، فقال : هل عليّ غيرها ؟ قال : لا إلاّ أن تطوّع » .
وعن عبد اللّه بن محيريز « أنّ رجلًا من بني كنانة يدعى المخدجيّ سمع رجلاً بالشّام يكنّى أبا محمّد ، يقول : الوتر واجب . قال المخدجيّ : فرحت إلى عبادة بن الصّامت - رضي الله عنه - فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد ، فأخبرته بالّذي قال أبو محمّد ، فقال عبادة : كذب أبو محمّد ، سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات كتبهنّ اللّه على العباد ، من جاء بهنّ ، لم يضيّع منهنّ شيئاً ، استخفافاً بحقّهنّ ، كان له عند اللّه عهد أن يدخله الجنّة ، ومن لم يأت بهنّ فليس له عند اللّه عهد ، إن شاء عذّبه وإن شاء أدخله الجنّة » .
وقال عليّ - رضي الله عنه - الوتر ليس بحتم كهيئة الصّلاة المكتوبة ، ولكن سنّة ، سنّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " قالوا : ولأنّ الوتر يجوز فعله على الرّاحلة لغير الضّرورة، وثبت ذلك بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر - رضي الله عنهما - : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسبّح على الرّاحلة قبل أيّ وجه توجّه ، ويوتر عليها، غير أنّه لا يصلّي عليها المكتوبة » فلو كانت واجبةً لما صلّاها على الرّاحلة ، كالفرائض .
وذهب أبو حنيفة - خلافاً لصاحبيه - وأبو بكر من الحنابلة : إلى أنّ الوتر واجب ، وليس بفرض ، وإنّما لم يجعله فرضاً ، لأنّه لا يكفر جاحده ، ولا يؤذّن له كأذان الفرائض ، واستدلّ بوجوبه بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الوتر حقّ ، فمن لم يوتر فليس منّا كرّر ثلاثاً » وبقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه تعالى أمدّكم بصلاة هي خير لكم من حمر النّعم ، وهي صلاة الوتر ، فصلّوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر » وهو أمر ، والأمر يقتضي الوجوب ، والأحاديث الآمرة به كثيرة ، ولأنّه صلاة مؤقّتة تقضى .
وروي عن أبي حنيفة : أنّه سنّة ، وعنه رواية ثالثة : أنّه فرض ، لكن قال ابن الهمام : مراده بكونه سنّةً : أنّه ثبت بالسّنّة ، فلا ينافي الوجوب ، ومراده بأنّه فرض : أنّه فرض عمليّ ، وهو الواجب .
وجوب الوتر على النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
3 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة : بأنّ من خصائص النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجوب الوتر عليه ، قالوا : وكونه كان يصلّي الوتر على الرّاحلة يحتمل أنّه لعذر ، أو أنّه كان واجباً عليه في الحضر دون السّفر . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ثلاث هنّ عليّ فرائض ، وهنّ لكم تطوّع : الوتر ، والنّحر ، وصلاة الضّحى » .
درجة السّنّيّة في صلاة الوتر عند غير الحنفيّة ، ومنزلتها بين سائر النّوافل :(/1)
4 - صلاة الوتر عند الجمهور سنّة مؤكّدة لحديث عبد اللّه بن محيريز السّابق ، والأحاديث الّتي تحضّ عليها ، وحديث خارجة بن حذافة قال : قال : رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه أمدّكم بصلاة هي خير لكم من حمر النّعم ، وهي صلاة الوتر ، فصلّوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر » .
ومن هنا ذهب الحنابلة إلى أنّ من تركها فقد أساء ، وكره له ذلك . قال أحمد : من ترك الوتر عمداً فهو رجل سوء ، ولا ينبغي أن تقبل له شهادة . ا هـ .
والوتر من السّنن الرّواتب عند الحنابلة ، وفي أحد قولين للشّافعيّة ، وهو عند المالكيّة والشّافعيّة : آكد الرّواتب وأفضلها .
وآكد النّوافل عند الحنابلة : صلاة الكسوف ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يتركها عند وجود سببها ، ثمّ الاستسقاء ، لأنّه تشرع لها الجماعة مطلقاً ، فأشبهت الفرائض ، ثمّ التّراويح ، لأنّه لم يداوم عليها خشية أن تفرض ، لكنّها أشبهت الفرائض من حيث مشروعيّة الجماعة لها ، ثمّ الوتر ، لأنّه ورد فيه من الأخبار ما لم يأت مثله في ركعتي الفجر ، ثمّ سنّة الفجر ، ثمّ سنّة المغرب ، ثمّ باقي الرّواتب سواء .
وقت الوتر :
5 - وقت الوتر عند الحنابلة - وهو المعتمد عند الشّافعيّة - يبدأ من بعد صلاة العشاء وذلك لحديث خارجة المتقدّم ، وفيه : « فصلّوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر » قالوا : ويصلّى استحباباً بعد سنّة العشاء ؛ ليوالي بين العشاء وسنّتها . قالوا : ولو جمع المصلّي بين المغرب والعشاء جمع تقديم ، أي في وقت المغرب فيبدأ وقت الوتر من بعد تمام صلاة العشاء .
ومن صلّى الوتر قبل أن يصلّي العشاء لم يصحّ وتره لعدم دخول وقته ، فإن فعله نسياناً أعاده .
وفي قول عند الشّافعيّة : وقت الوتر هو وقت العشاء ، فلو صلّى الوتر قبل أن يصلّي العشاء صحّ وتره .
وآخر وقته عند الشّافعيّة ، والحنابلة طلوع الفجر الثّاني لحديث خارجة المتقدّم .
وذهب المالكيّة : إلى أنّ أوّل وقت صلاة الوتر من بعد صلاة العشاء الصّحيحة ومغيب الشّفق، فمن قدّم العشاء في جمع التّقديم فإنّه لا يصلّي الوتر إلاّ بعد مغيب الشّفق . وأمّا آخر وقت الوتر عندهم فهو طلوع الفجر ، إلاّ في الضّرورة ، وذلك لمن غلبته عيناه عن ورده فله أن يصلّيه ، فيوتر ما بين طلوع الفجر وبين أن يصلّي الصّبح ، ما لم يخش أن تفوت صلاة الصّبح بطلوع الشّمس . فلو شرع في صلاة الصّبح ، وكان منفرداً ، قبل أن يصلّي الوتر ، ندب له قطعها ليصلّي الوتر . ولا يندب ذلك للمؤتمّ ، وفي الإمام روايتان . وذهب الحنفيّة : إلى أنّ وقت الوتر هو وقت العشاء ،أي من غروب الشّفق إلى طلوع الفجر، ولذا اكتفي بأذان العشاء وإقامته ، فلا يؤذّن للوتر ، ولا يقام لها ، مع قولهم بوجوبها . قالوا : ولا يجوز تقديم صلاة الوتر على صلاة العشاء ، لا لعدم دخول وقتها ، بل لوجوب التّرتيب بينها وبين العشاء . فلو صلّى الوتر قبل العشاء ناسياً ، أو صلّاهما ، فظهر فساد صلاة العشاء دون الوتر يصحّ الوتر ويعيد العشاء وحدها عند أبي حنيفة ، لأنّ التّرتيب يسقط بمثل هذا العذر . وقال الحنفيّة - أيضاً - : من لم يجد وقت العشاء والوتر ، بأن كان في بلد يطلع فيه الفجر مع غروب الشّفق ، أو قبله ، فلا يجب عليه العشاء ولا الوتر .
6- واتّفق الفقهاء : على أنّه يسنّ جعل الوتر آخر النّوافل الّتي تصلّى باللّيل ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اجعلوا آخر صلاتكم باللّيل وتراً » .
فإن أراد من صلّى العشاء أن يتنفّل يجعل وتره بعد النّفل ، وإن كان يريد أن يتهجّد - أي يقوم من آخر اللّيل - فإنّه إذا وثق باستيقاظه أواخر اللّيل يستحبّ له أن يؤخّر وتره ليفعله آخر اللّيل ، وإلاّ فيستحبّ تقديمه قبل النّوم ؛ لحديث : « من خاف أن لا يقوم من آخر اللّيل فليوتر أوّله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر اللّيل ، فإنّ صلاة آخر اللّيل مشهودة ، وذلك أفضل » وحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : « من كلّ اللّيل قد أوتر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، من أوّل اللّيل وأوسطه وآخره ، فانتهى وتره إلى السّحر » .
عدد ركعات صلاة الوتر :
7 - أقلّ صلاة الوتر عند الشّافعيّة والحنابلة ركعة واحدة . قالوا : ويجوز ذلك بلا كراهة لحديث : « صلاة اللّيل مثنى مثنى ، فإذا خفت الصّبح فأوتر بواحدة » والاقتصار عليها خلاف الأولى ، لكن في قول عند الشّافعيّة : شرط الإيتار بركعة سبق نفل بعد العشاء من سنّتها ، أو غيرها ليوتر النّفل .
وفي قول عند الحنابلة - خلاف الصّحيح من المذهب - : يكره الإيتار بركعة حتّى في حقّ المسافر ، تسمّى البتيراء ، ذكره صاحب الإنصاف .
وقال الحنفيّة : لا يجوز الإيتار بركعة ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء » قالوا : " روي أنّ عمر - رضي الله عنه - رأى رجلاً يوتر بواحدة ، فقال : ما هذه البتيراء؟ لتشفعنّها أو لأؤدّبنّك " .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : أكثر الوتر إحدى عشرة ركعةً ، وفي قول عند الشّافعيّة أكثره ثلاث عشرة ركعةً ، ويجوز بما بين ذلك من الأوتار ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أحبّ أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحبّ أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحبّ أن يوتر بواحدة فليفعل » . وقوله : « أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة » .
وقالت أمّ سلمة - رضي الله عنها - : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة ركعةً » . لكن قال المحلّيّ : يحمل هذا على أنّها حسبت فيه سنّة العشاء .(/2)
وأدنى الكمال عند الشّافعيّة والحنابلة ثلاث ركعات ، فلو اقتصر على ركعة كان خلاف الأولى. ونصّ الحنابلة : على أنّه لا يكره الإيتار بركعة واحدة ، ولو بلا عذر .
وأكمل من الثّلاث خمس ، ثمّ سبع ، ثمّ تسع ثمّ إحدى عشرة ، وهي أكمله .
أمّا الحنفيّة : فلم يذكروا في عدده إلاّ ثلاث ركعات ، بتشهّدين وسلام ، كما يصلّى المغرب . واحتجّوا بقول عائشة - رضي الله عنها - « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلّم إلاّ في آخرهنّ » وفي الهداية : حكى الحسن إجماع المسلمين على الثّلاث . قال ابن الهمام : وهو مرويّ عن فقهاء المدينة السّبعة .
أمّا عند المالكيّة : فإنّ الوتر ركعة واحدة ، لكن لا تكون إلاّ بعد شفع يسبقها .
واختلف : هل تقديم الشّفع شرط صحّة أو كمال ؟ قالوا : وقد تسمّى الرّكعات الثّلاث وتراً إلاّ أنّ ذلك مجاز ، والوتر في الحقيقة هو الرّكعة الواحدة . ويكره أن يصلّي واحدةً فقط ، بل بعد نافلة ، وأقلّ تلك النّافلة ركعتان ، ولا حدّ لأكثرها . قالوا : والأصل في ذلك حديث : « صلاة اللّيل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصّبح صلّى ركعةً واحدةً توتر له ما قد صلّى » .
ويستثنى من كراهة الإيتار بركعة واحدة من كان له عذر ، كالمسافر والمريض ، فقد قيل : لا يكره له ذلك ، وقيل : يكره له أيضاً . فإن أوتر دون عذر بواحدة دون شفع قبلها ، قال أشهب : يعيد وتره بأثر شفع ما لم يصلّ الصّبح . وقال سحنون : إن كان بحضرة ذلك أي بالقرب ، شفعها بركعة ثمّ أوتر ، وإن تباعد أجزأه .
وقالوا : لا يشترط في الشّفع الّذي قبل ركعة الوتر نيّة تخصّه ، بل يكتفي بأيّ ركعتين كانتا .
صفة صلاة الوتر :
أوّلاً : الفصل والوصل :
8 - المصلّي إمّا أن يوتر بركعة ، أو بثلاث ، أو بأكثر :
أ - فإن أوتر المصلّي بركعة - عند القائلين بجوازه - فالأمر واضح .
ب - وإن أوتر بثلاث ، فله ثلاث صور :
الصّورة الأولى : أن يفصل الشّفع بالسّلام ، ثمّ يصلّي الرّكعة الثّالثة بتكبيرة إحرام مستقلّة . وهذه الصّورة عند غير الحنفيّة ، وهي المعيّنة عند المالكيّة ، فيكره ما عداها ، إلاّ عند الاقتداء بمن يصِلُ .
وأجازها الشّافعيّة والحنابلة ، وقالوا : إنّ الفصل أفضل من الوصل ، لزيادته عليه السّلام وغيره . وفي قول عند الشّافعيّة : إن كان إماماً فالوصل أفضل ، لأنّه يقتدي به المخالف ، وإن كان منفرداً فالفصل أفضل . قالوا : ودليل هذه الصّورة ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشّفع والوتر بتسليمة» وورد : أنّ ابن عمر - رضي الله عنهما - كان يسلّم من الرّكعتين حتّى يأمر ببعض حاجته . وصرّح الحنابلة بأنّه يسنّ فعل الرّكعة بعد الشّفع بعد تأخير لها عنه . نصّ على ذلك أحمد . ويستحبّ أن يتكلّم بين الشّفع والوتر ليفصل .
وذكر الشّافعيّة أنّه ينوي في الرّكعتين إن أراد الفصل : " ركعتين من الوتر " أو " سنّة الوتر" أو " مقدّمة الوتر " قالوا : ولا يصحّ بنيّة " الشّفع " أو " سنّة العشاء " أو " صلاة اللّيل " . الصّورة الثّانية : أن يصلّي الثّلاث متّصلةً سرداً ، أي من غير أن يفصل بينهنّ بسلام ولا جلوس ، وهي عند الشّافعيّة والحنابلة أولى من الصّورة التّالية . واستدلّوا لهذه الصّورة بأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كان يوتر بخمس ، لا يجلس إلاّ في آخرها » .
وهذه الصّورة مكروهة عند المالكيّة ، لكن إن صلّى خلف من فعل ذلك فيواصل معه . الصّورة الثّالثة : الوصل بين الرّكعات الثّلاث ، بأن يجلس بعد الثّانية فيتشهّد ولا يسلّم ، بل يقوم للثّالثة ويسلّم بعدها ، فتكون في الهيئة كصلاة المغرب ، إلاّ أنّه يقرأ في الثّالثة سورةً بعد الفاتحة خلافاً للمغرب .
وهذه الصّورة هي المتعيّنة عند الحنفيّة . قالوا : فلو نسي فقام للثّالثة دون تشهّد فإنّه لا يعود ، وكذا لو كان عامداً عند أبي حنيفة ، وهذا استحسان . والقياس أن يعود ، واحتجّوا لتعيّنها بقول أبي العالية : " علَّمنا أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم : أنّ الوتر مثل صلاة المغرب ، فهذا وتر اللّيل ، وهذا وتر النّهار " .
وقال الشّافعيّة : هي جائزة مع الكراهة ؛ لأنّ تشبيه الوتر بالمغرب مكروه .
وقال الحنابلة : لا كراهة إلاّ أنّ القاضي أبا يعلى منع هذه الصّورة . وخيّر ابن تيميّة بين الفصل والوصل .
ج - أن يصلّي أكثر من ثلاث :
9 - وهو جائز - كما تقدّم - عند الشّافعيّة والحنابلة .
قال الشّافعيّة : فالفصل بسلام بعد كلّ ركعتين أفضل ، لحديث : « كان صلى الله عليه وسلم يصلّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر بإحدى عشرة ركعةً ويسلّم من كلّ ركعتين ، ويوتر بواحدة » ويجوز أن يصلّي أربعاً بتسليمة ، وستّاً بتسليمة ، ثمّ يصلّي ركعةً ، وله الوصل بتشهّد ، أو تشهّدين في الثّلاث الأخيرة .
وقال الحنابلة : إن أوتر بخمس أو سبع فالأفضل أن يسردهنّ سرداً فلا يجلس إلاّ في آخرهنّ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعةً يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلاّ في آخرها » . ولحديث أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس ، وسبع ، لا يفصل بينهنّ بتسليم » .
وإن أوتر بتسع فالأفضل أن يسرد ثمانياً ، ثمّ يجلس للتّشهّد ولا يسلّم ، ثمّ يصلّي التّاسعة ويتشهّد ويسلّم . ويجوز في الخمس والسّبع والتّسع أن يسلّم من كلّ ركعتين .(/3)
وإن أوتر بإحدى عشرة فالأفضل أن يسلّم من كلّ ركعتين ، ويجوز أن يسرد عشراً ، ثمّ يتشهّد ، ثمّ يقوم فيأتي بالرّكعة ويسلّم ، ويجوز أن يسرد الإحدى عشرة فلا يجلس ولا يتشهّد إلاّ في آخرها .
ثانياً : القيام والقعود في صلاة الوتر ، وأداؤها على الرّاحلة :
10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ صلاة الوتر لا تصحّ إلاّ من قيام ، إلاّ لعاجز ، فيجوز أن يصلّيها قاعداً ، ولا تصحّ على الرّاحلة من غير عذر .
وذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه تجوز للقاعد أن يصلّيها ولو كان قادراً على القيام ، وإلى جواز صلاتها على الرّاحلة ولو لغير عذر . وذلك مرويّ عن عليّ وابن عمر وابن عبّاس والثّوريّ وإسحاق - رضي الله عنهم - قالوا : لأنّها سنّة ، فجاز فيها ذلك كسائر السّنن .
واحتجّوا لذلك بما ورد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسبّح على الرّاحلة قبل أيّ وجه توجّه ، ويوتر عليها ، غير أنّه لا يصلّي عليها المكتوبة » .
وعن سعيد بن يسار أنّه قال : « كنت أسير مع ابن عمر - رضي الله عنهما - بطريق مكّة، قال سعيد : فلمّا خشيت الصّبح نزلت فأوترت ، ثمّ أدركته ، فقال لي ابن عمر : أين كنت ؟ فقلت له : خشيت الفجر فنزلت فأوترت . فقال عبد اللّه : أليس لك في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقلت : بلى واللّه . قال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير » .
ثالثاً : الجهر والإسرار :
11 - قال الحنفيّة : يجهر في الوتر إن كان إماماً في رمضان لا في غيره .
وقال المالكيّة : تأكّد ندب الجهر بوتر ، سواء صلّاه ليلاً أو بعد الفجر .
وقال الشّافعيّة : يسنّ لغير المأموم أن يجهر بالقراءة في وتر رمضان ، ويسرّ في غيره . وقال الحنابلة : يخيّر المنفرد في صلاة الوتر في الجهر وعدمه ، وظاهر كلام جماعة : أنّ الجهر يختصّ بالإمام فقط ، قال في الخلاف : وهو أظهر .
رابعاً : ما يقرأ في صلاة الوتر :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّه يقرأ في كلّ ركعة من الوتر الفاتحة وسورةً .
والسّورة عند الجمهور سنّة ، لا يعود لها إن ركع وتركها .
ثمّ ذهب الحنفيّة إلى أنّه لم يوقّت في القراءة في الوتر شيء غير الفاتحة ، فما قرأ فيه فهو حسن ، وما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أنّه قرأ به في الأولى بسورة { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، وفي الثّانية " بالكافرون " وفي الثّالثة " بالإخلاص " ، فيقرأ به أحياناً ، ويقرأ بغيره أحياناً للتّحرّز عن هجران باقي القرآن .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يندب القراءة بعد الفاتحة بالسّور الثّلاث المذكورة ، لما ورد من حديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ذلك » . وذهب المالكيّة والشّافعيّة - كذلك - إلى أنّه يندب في الشّفع " سبّح ، والكافرون " ، أمّا في الثّالثة فيندب أن يقرأ " بسورة الإخلاص ، والمعوّذتين " ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - في ذلك . لكن قال المالكيّة : يندب ذلك إلاّ لمن له حزب ، أي قدر من القرآن يقرؤه ليلاً ، فيقرأ من حزبه في الشّفع والوتر .
خامساً : القنوت في صلاة الوتر :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ القنوت في الوتر مشروع في الجملة ، واختلفوا في أنّه واجب أو مستحبّ ، وفي أنّه يكون في جميع ليالي السّنة أو في بعضها ، وفي أنّه هل يكون قبل الرّكوع أو بعده ، وفيما يسنّ أن يدعو به ، وفي غير ذلك من مسائله .
وذهب المالكيّة إلى أنّ القنوت في الوتر مكروه . وينظر بيان ذلك في مصطلح ( قنوت ) .
الوتر في السّفر :
14 - لا يختلف حكم صلاة الوتر في السّفر عنه في الحضر ، فمن قال : إنّه سنّة ، وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - غير أبي بكر من الحنابلة وأبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة - فإنّه يسنّ في السّفر كالحضر .
ومن قال إنّه واجب - وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو بكر من الحنابلة - فإنّه يجب في السّفر كالحضر .
أداء صلاة الوتر في جماعة :
15 - ينصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يسنّ أن يصلّى الوتر في جماعة ، لكن تندب الجماعة في الوتر الّذي يكون عقب التّراويح ، تبعاً لها .
وصرّح الحنفيّة بأنّه يندب فعله حينئذ في المسجد تبعاً للتّراويح ، وقال بعضهم : بل يسنّ أن يكون الوتر في المنزل . قال في الفتاوى الهنديّة : هذا هو المختار .
وقال المالكيّة : يندب فعلها في البيوت ولو جماعةً إن لم تعطّل المساجد عن صلاتها بها جماعةً . وعلّلوا أفضليّة الانفراد بالسّلامة من الرّياء ، ولا يسلم منه إلاّ إذا صلّى وحده في بيته .
ونصّ الحنابلة على أنّ فعل الوتر في البيت أفضل ، كسائر السّنن إلاّ لعارض ، فالمعتكف يصلّيها في المسجد ، وإن صلّى مع الإمام التّراويح يصلّي معه الوتر لينال فضيلة الجماعة ، لكن إن كان له تهجّد فإنّه يتابع الإمام في الوتر فإذا سلّم الإمام لم يسلّم معه بل يقوم فيشفع وتره ، وذلك لينال فضيلة الجماعة .
ونصّ الحنابلة كذلك على أنّه لو أدرك المسبوق بالوتر مع الإمام ركعةً فإن كان الإمام سلّم من اثنتين أجزأت المسبوق الرّكعة عن وتره ، وإن كان الإمام لم يسلّم من الرّكعتين فعلى المسبوق أن يقضيهما لحديث : « ما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فاقضوا » .
نقض الوتر :(/4)
16 - من صلّى الوتر ثمّ بدا له بعد ذلك أن يصلّي نفلاً ، فإنّ ذلك جائز بلا كراهة عند الشّافعيّة كما قال النّوويّ . ولو صلّى مع الإمام التّراويح ، ثمّ أوتر معه وهو ينوي القيام بعد ذلك ، فلا بأس أن يوتر معه إن طرأت له النّيّة بعده أو فيه . أمّا إن طرأت له قبل ذلك فيكره له على ما صرّح به المالكيّة .
وإذا أراد أن يصلّي بعد الوتر فله عند الفقهاء طريقتان :
الطّريقة الأولى : أن يصلّي شفعاً ما شاء ، ثمّ لا يوتر بعد ذلك .
وقد أخذ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة بهذه الطّريقة ، وهو المشهور عند الشّافعيّة وقول النّخعيّ والأوزاعيّ وعلقمة . وقالوا : لا ينقض وتره ، وهو مرويّ عن أبي بكر وسعد وعمّار وابن عبّاس وعائشة - رضي الله عنهم - استدلّوا بقول عائشة - رضي الله عنها - وقد سئلت عن الّذي ينقض وتره فقالت : " ذاك الّذي يلعب بوتره " رواه سعيد بن منصور . واستدلّوا على عدم إيتاره مرّةً أخرى بحديث طلق بن عليّ مرفوعاً : « لا وتران في ليلة » ولما صحّ : « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بعد الوتر ركعتين » .
والطّريقة الثّانية : وعليها القول الآخر عند الشّافعيّة : أن يبدأ نفله بركعة يشفع بها وتره ، ثمّ يصلّي شفعاً ما شاء ثمّ يوتر ، وهو مرويّ عن عثمان وعليّ وأسامة ، وسعد وابن عمر وابن مسعود وابن عبّاس - رضي الله عنهم - على ما صرّح به النّوويّ وابن قدامة . ثمّ قال : ولعلّهم ذهبوا إلى قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :« اجعلوا آخر صلاتكم باللّيل وتراً».
قضاء صلاة الوتر :
17 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من طلع عليه الفجر ولم يصلّ الوتر يجب عليه قضاؤه ، سواء أتركه عمداً أم نسياناً وإن طالت المدّة ، ومتى قضاه يقضيه بالقنوت . فلو صلّى الصّبح وهو ذاكر أنّه لم يصلّ الوتر فصلاة الصّبح فاسدة عند أبي حنيفة لوجوب التّرتيب بين الوتر والفريضة .
ولا يقضي الوتر عند المالكيّة إذا تذكّره بعد أن صلّى الصّبح . فإن تذكّره فيها ندب له إن كان منفرداً أن يقطعها ليصلّي الوتر ما لم يخف خروج الوقت ، وإن تذكّره في أثناء ركعتي الفجر فقيل : يقطعها كالصّبح ، وقيل : يتمّها ثمّ يوتر .
وذهب طاوس إلى أنّ الوتر يقضى ما لم تطلع الشّمس .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يقضي الوتر إذا فات وقته ، أي على سبيل النّدب لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نام عن الوتر أو نسيه فليصلّه إذا أصبح أو ذكره » قالوا : ويقضيه مع شفعه .
والصّحيح عند الشّافعيّة : أنّه يستحبّ قضاء الوتر وهو المنصوص في الجديد ويستحبّ القضاء أبداً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها » .
والقول الثّاني : لا تقضى وهو نصّه في القديم .
التّسبيح بعد الوتر :
18 - يستحبّ أن يقول بعد الوتر : " سبحان الملك القدّوس " ثلاث مرّات ، ويمدّ صوته بها في الثّالثة ، لحديث عبد الرّحمن بن أبزى قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوتر ب { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } ، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال : سبحان الملك القدّوس . ثلاث مرّات ، ثمّ يرفع صوته بها في الثّالثة » .(/5)
صَلاَةُ الْحاجَة *
التّعريف :
1 - الصّلاة ينظر تعريفها في مصطلح ( صلاة ) .
والحاجة في اللّغة : المأربة ، والتّحوّج : طلب الحاجة بعد الحاجة ، والحوج : الطّلب ، والحوج : الفقر .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الحاجة عن المعنى اللّغويّ .
وللأصوليّين تعريف خاصّ للحاجة : فقد عرّفها الشّاطبيّ فقال : هي ما يفتقر إليه من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المصلحة ، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين - على الجملة - الحرج والمشقّة ( ر : حاجة ف /1 من الموسوعة ج /16 ) .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ صلاة الحاجة مستحبّة .
واستدلّوا بما أخرجه التّرمذيّ عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من كانت له إلى اللّه حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضّأ فليحسن الوضوء ، ثمّ ليصلّ ركعتين ، ثمّ ليثن على اللّه ، وليصلّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ ليقل : لا إله إلاّ اللّه الحليم الكريم ، سبحان اللّه ربّ العرش العظيم ، الحمد للّه ربّ العالمين ، أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك والغنيمة من كلّ برّ ، والسّلامة من كلّ إثم ، لا تدع لي ذنباً إلاّ غفرته ، ولا همّاً إلاّ فرّجته ، ولا حاجةً هي لك رضاً إلاّ قضيتها يا أرحم الرّاحمين ». رواه ابن ماجه وزاد بعد قوله : « يا أرحم الرّاحمين : ثمّ يسأل من أمر الدّنيا والآخرة ما شاء فإنّه يقدّر » .
كيفيّة صلاة الحاجة " عدد الرّكعات وصيغ الدّعاء " :
3 - اختلف في عدد ركعات صلاة الحاجة ، فذهب المالكيّة والحنابلة ، وهو المشهور عند الشّافعيّة ، وقول عند الحنفيّة إلى أنّها ركعتان ، والمذهب عند الحنفيّة أنّها : أربع ركعات ، وفي قول عندهم وهو قول الغزاليّ : إنّها اثنتا عشرة ركعةً وذلك لاختلاف الرّوايات الواردة في ذلك ، كما تنوّعت صيغ الدّعاء لتعدّد الرّوايات . وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً : روايات الرّكعتين وفيها اختلاف الدّعاء :
4 - رواية عبد اللّه بن أبي أوفى ، وفيها أنّ صلاة الحاجة ركعتان مع ذكر الدّعاء الّذي أرشد إليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهي الرّواية الّتي سبق ذكرها في الحكم ( ف /2 ) .
5- حديث أنس - رضي الله عنه - ولفظه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا عليّ : ألا أعلّمك دعاءً إذا أصابك غمّ أو همّ تدعو به ربّك فيستجاب لك بإذن اللّه ويفرج عنك : توضّأ وصلّ ركعتين ، واحمد اللّه واثن عليه وصلّ على نبيّك واستغفر لنفسك وللمؤمنين والمؤمنات ثمّ قل : اللّهمّ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون لا إله إلاّ اللّه العليّ العظيم ، لا إله إلاّ اللّه الحليم الكريم ، سبحان اللّه ربّ السّموات السّبع ، وربّ العرش العظيم ، والحمد للّه ربّ العالمين ، اللّهمّ كاشف الغمّ ، مفرّج الهمّ مجيب دعوة المضطرّين إذا دعوك ، رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما ، فارحمني في حاجتي هذه بقضائها ونجاحها رحمةً تغنيني بها عن رحمة من سواك » .
ثانياً : رواية الأربع :
6 - وهي مرويّة عن الحنفيّة قال ابن عابدين نقلاً عن التّجنيس وغيره : إنّ صلاة الحاجة أربع ركعات بعد العشاء ، وأنّ في الحديث المرفوع : « يقرأ في الأولى الفاتحة مرّةً وآية الكرسيّ ثلاثاً ، وفي كلّ من الثّلاث الباقية يقرأ الفاتحة والإخلاص والمعوّذتين مرّةً مرّةً كنّ له مثلهنّ من ليلة القدر » .
قال ابن عابدين : قال مشايخنا : صلّينا هذه الصّلاة فقضيت حوائجنا .
ثالثاً : رواية الاثنتي عشرة ركعةً والدّعاء الوارد فيها :
7 - روي عن وهيب بن الورد أنّه قال : إنّ من الدّعاء الّذي لا يردّ أن يصلّي العبد ثنتي عشرة ركعةً يقرأ في كلّ ركعة بأمّ الكتاب وآية الكرسيّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، فإن فرغ خرّ ساجداً ، ثمّ قال : سبحان الّذي لبس العزّ وقال به ، سبحان الّذي تعطّف بالمجد وتكرّم به ، سبحان الّذي أحصى كلّ شيء بعلمه ، سبحان الّذي لا ينبغي التّسبيح إلاّ له ، سبحان ذي المنّ والفضل ، سبحان ذي العزّ والكرم ، سبحان ذي الطّول ، أسألك بمعاقد العزّ من عرشك، ومنتهى الرّحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدّك الأعلى ، وكلماتك التّامّات العامّات الّتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر أن تصلّي على محمّد وعلى آل محمّد : ثمّ يسأل حاجته الّتي لا معصية فيها ، فيجاب إن شاء اللّه .(/1)
صَلاَةُ الْعِيدَيْن *
حكمة مشروعيّتها :
1 - الحكمة من مشروعيّة العيدين : أنّ كلّ قوم لهم يوم يتجمّلون فيه ويخرجون من بيوتهم بزينتهم . فقد ورد عن أنس - رضي الله عنه - أنّه قال : « كان لأهل الجاهليّة يومان في كلّ سنة يلعبون فيهما ، فلمّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة قال : كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم اللّه بهما خيراً منهما : يوم الفطر ويوم الأضحى » .
حكم صلاة العيدين :
2 - صلاة العيدين واجبة على القول الصّحيح المفتى به عند الحنفيّة - والمراد من الواجب عند الحنفيّة : أنّه منزلة بين الفرض والسّنّة - ودليل ذلك : مواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليها من دون تركها ولو مرّةً ، وأنّه لا يصلّي التّطوّع بجماعة - ما خلا قيام رمضان وكسوف الشّمس وصلاة العيدين فإنّها تؤدّى بجماعة ، فلو كانت سنّةً ولم تكن واجبةً لاستثناها الشّارع كما استثنى التّراويح وصلاة الخسوف .
أمّا الشّافعيّة والمالكيّة : فقد ذهبوا إلى القول بأنّها سنّة مؤكّدة . ودليلهم على ذلك : « قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح للأعرابيّ - وكان قد ذكر له الرّسول صلى الله عليه وسلم الصّلوات الخمس فقال له : هل عليّ غيرهنّ ؟ قال لا ، إلاّ أن تطوّع » . قالوا : ولأنّها صلاة ذات ركوع وسجود لم يشرع لها أذان فلم تجب بالشّرع ، كصلاة الضّحى . وذهب الحنابلة إلى القول بأنّها فرض كفاية ؛ لقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ، ولمداومة الرّسول صلى الله عليه وسلم على فعلها .
شروطها :
شروط الوجوب :
3 - شروط وجوب صلاة العيدين عند الحنفيّة : هي بعينها شروط وجوب صلاة الجمعة . فيشترط لوجوبها . أ - الإمام
ب - المصر .
ج - الجماعة .
د - الوقت .
هـ - الذّكورة .
و - الحرّيّة .
ز - صحّة البدن .
ح - الإقامة .
إلاّ الخطبة ، فإنّها سنّة بعد الصّلاة .
قال الكاسانيّ في بدائع الصّنائع - وهو يقرّر أدلّة هذه الشّروط - : أمّا الإمام فشرط عندنا لما ذكرنا في صلاة الجمعة ، وكذا المصر لما روينا عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه قال : لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلاّ في مصر جامع . ولم يرد بذلك نفس الفطر ونفس الأضحى ونفس التّشريق ؛ لأنّ ذلك ممّا يوجد في كلّ موضع ، بل المراد من لفظ الفطر والأضحى صلاة العيدين ؛ ولأنّها ما ثبتت بالتّوارث من الصّدر الأوّل إلاّ في الأمصار . والجماعة شرط لأنّها ما أدّيت إلاّ بجماعة ، والوقت شرط فإنّها لا تؤدّى إلاّ في وقت مخصوص ، به جرى التّوارث وكذا الذّكورة والعقل والبلوغ والحرّيّة وصحّة البدن ، والإقامة من شروط وجوبها كما هي من شروط وجوب الجمعة ؛ لما ذكرنا في صلاة الجمعة ، ولأنّ تخلّف شرط من هذه الشّروط يؤثّر في إسقاط الفرض فلأن تؤثّر في إسقاط الواجب أولى . وأمّا الحنابلة - وصلاة العيدين عندهم فرض كفاية كما سبق بيانه - فإنّما شرطوا لفرضيّتها: الاستيطان ، والعدد المشترط للجمعة .
والمالكيّة - وهم من القائلين بأنّ صلاة العيدين سنّة مؤكّدة - شرطوا لذلك ، أي لتأكيد سنّيّتها : تكامل شروط وجوب الجمعة ، وأن لا يكون المصلّي متلبّساً بحجّ .
فإذا فقد أحد الشّروط نظر : فإن كان المفقود هو عدم التّلبّس بالحجّ فصلاة العيد غير مطلوبة بأيّ وجه من وجوه الطّلب ، وإن كان المفقود هو أحد شروط وجوب الجمعة ، كالمرأة والمسافر ، فهي في حقّهم مستحبّة وليست بسنّة مؤكّدة . قال الصّفتيّ : وهي سنّة في حقّ من يؤمر بالجمعة وجوباً إلاّ الحاجّ فلا تسنّ له ولا تندب ، وأمّا المرأة والصّبيّ والمسافر فتستحبّ في حقّهم .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّها سنّة مؤكّدة في حقّ كلّ مكلّف ذكراً كان أو أنثى ، مقيماً أو مسافراً، حرّاً أو عبداً ، ولم يشترطوا لسنّيّتها شرطاً آخر غير التّكليف .
وقالوا باشتراط عدم التّلبّس بالحجّ لأدائها جماعةً ، أي فالحاجّ تسنّ له صلاة العيد منفرداً لا جماعةً .
شروط الصّحّة :
4 - كلّ ما يعتبر شرطاً في صحّة صلاة الجمعة ، فهو شرط في صحّة صلاة العيدين أيضاً ، ما عدا الخطبة فهي هنا ليست شرطاً في صحّة العيدين وإنّما هي سنّة .
ويستثنى - أيضاً - شرط عدم التّعدّد " راجع صلاة الجمعة " فلا يشترط ذلك لصلاة العيد ، قال الحصكفيّ : وتؤدّى بمصر واحد في مواضع كثيرة اتّفاقاً ، وقال ابن عابدين : مقرّراً هذا الكلام : والخلاف إنّما هو في الجمعة ، فيشترط لصحّتها : أ - الإمام ، ب - والمصر ، ج - والجماعة ، د - والوقت .
وقد مرّ أنّها شروط للوجوب أيضاً .
هذا عند الحنفيّة ، أمّا الحنابلة فقد اشترطوا الوقت والجماعة .
ولم يشترط المالكيّة والشّافعيّة لصحّة صلاة العيدين شيئاً من هذه الشّروط إلاّ الوقت .
أمّا الشّروط الّتي هي قدر مشترك في صحّة الصّلوات المختلفة من طهارة واستقبال قبلة ... إلخ فليس فيها من خلاف . ولمعرفتها ( ر : صلاة ) .
المرأة وصلاة العيدين :
5 - ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى كراهة خروج الشّابّات وذوات الجمال لصلاة العيدين لما في ذلك من خوف الفتنة ، ولكنّهم استحبّوا في المقابل خروج غير ذوات الهيئات منهنّ واشتراكهنّ مع الرّجال في الصّلاة .
وذلك للحديث المتّفق عليه عن أمّ عطيّة : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيّض في العيد ، فأمّا الحيّض فكنّ يعتزلن المصلّى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين » .
ولكن ينبغي أن يخرجن في ثياب لا تلفت النّظر دون تطيّب ولا تبرّج .(/1)
ويختلف الحكم عند الحنفيّة في إباحة خروج النّساء إلى صلاة العيدين بين كون المرأة شابّةً أو عجوزاً . أمّا الشّابّات من النّساء وذوات الجمال منهنّ ، فلا يرخّص لهنّ في الخروج إلى صلاة العيد ولا غيرها كصلاة الجمعة ونقل الكاسانيّ إجماع أئمّة المذهب الحنفيّ عليه ، وذلك لقوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } .
وأمّا العجائز فلا خلاف أنّه يرخّص لهنّ الخروج للعيد وغيره من الصّلوات .
غير أنّ الأفضل على كلّ حال أن تصلّي المرأة في بيتها .
واختلفت الرّواية عن أبي حنيفة : هل تخرج المرأة للصّلاة أم لتكثير سواد المسلمين ؟ .
وقت أدائها :
6 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ وقت صلاة العيدين يبتدئ عند ارتفاع الشّمس قدر رمح بحسب رؤية العين المجرّدة - وهو الوقت الّذي تحلّ فيه النّافلة - ويمتدّ وقتها إلى ابتداء الزّوال .
وقال الشّافعيّة : إنّ وقتها ما بين طلوع الشّمس وزوالها ، ودليلهم على أنّ وقتها يبدأ بطلوع الشّمس أنّها صلاة ذات سبب فلا تراعى فيها الأوقات الّتي لا تجوز فيها الصّلاة .
أمّا الوقت المفضّل لها ، فهو عند ارتفاع الشّمس قدر رمح ، إلاّ أنّه يستحبّ عدم تأخيرها عن هذا الوقت بالنّسبة لعيد الأضحى ، وذلك كي يفرغ المسلمون بعدها لذبح أضاحيهم ، ويستحبّ تأخيرها قليلاً عن هذا الوقت بالنّسبة لعيد الفطر ، وذلك انتظاراً لمن انشغل في صبحه بإخراج زكاة الفطر .
وهذا محلّ اتّفاق عند سائر الأئمّة ، ودليلهم على ما ذهبوا إليه من التّفريق بين صلاتي الفطر والأضحى : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى بعض الصّحابة : أن يقدّم صلاة الأضحى ويؤخّر صلاة الفطر » .
حكمها بعد خروج وقتها :
لفوات صلاة العيد عن وقتها ثلاث صور :
7 - الصّورة الأولى : أن تؤدّى صلاة العيد جماعةً في وقتها من اليوم الأوّل ولكنّها فاتت بعض الأفراد ، وحكمها في هذه الصّورة أنّها فاتت إلى غير قضاء ، فلا تقضى مهما كان العذر ؛ لأنّها صلاة خاصّة لم تشرع إلاّ في وقت معيّن وبقيود خاصّة ، فلا بدّ من تكاملها جميعاً ، ومنها الوقت . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة .
وأمّا الشّافعيّة : فقد أطلقوا القول بمشروعيّة قضائها - على القول الصّحيح في المذهب - في أيّ وقت شاء وكيفما كان : منفرداً أو جماعةً ، وذلك بناءً على أصلهم المعتمد ، وهو أنّ نوافل الصّلاة كلّها يشرع قضاؤها .
وأمّا الحنابلة : فقالوا : لا تقضى صلاة العيد ، فإن أحبّ قضاءها فهو مخيّر إن شاء صلّاها أربعاً ، إمّا بسلام واحد ، وإمّا بسلامين .
8- الصّورة الثّانية : أن لا تكون صلاة العيد قد أدّيت جماعةً في وقتها من اليوم الأوّل ، وذلك إمّا بسبب عذر : كأن غمّ عليهم الهلال وشهد شهود عند الإمام برؤية الهلال بعد الزّوال ، وإمّا بدون عذر .
ففي حالة العذر يجوز تأخيرها إلى اليوم الثّاني سواء كان العيد عيد فطر أو أضحى ؛ لأنّه قد ثبت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أنّ قوماً شهدوا برؤية الهلال في آخر يوم من أيّام رمضان ، فأمر عليه الصلاة والسلام بالخروج إلى المصلّى من الغد » .
وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيشرع قضاء صلاة العيد في اليوم الثّاني عند تأخّر الشّهادة برؤية الهلال . أمّا المالكيّة : فقد أطلقوا القول بعدم قضائها في مثل هذه الحال .
إلاّ أنّ الشّافعيّة لا يعتبرون صلاتها في اليوم الثّاني قضاءً إذا تأخّرت الشّهادة في اليوم الّذي قبله إلى ما بعد غروب الشّمس . بل لا تقبل الشّهادة حينئذ ويعتبر اليوم الثّاني أوّل أيّام العيد، فتكون الصّلاة قد أدّيت في وقتها .
9 - الصّورة الثّالثة : أن تؤخّر صلاة العيد عن وقتها بدون العذر الّذي ذكرنا في الصّورة الثّانية . فينظر حينئذ : إن كان العيد عيد فطر سقطت أصلًا ولم تقض . وإن كان عيد أضحى جاز تأخيرها إلى ثالث أيّام النّحر ، أي يصحّ قضاؤها في اليوم الثّاني ، وإلاّ ففي اليوم الثّالث من ارتفاع الشّمس في السّماء إلى أوّل الزّوال ، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر ولكن تلحقه الإساءة إن كان غير معذور بذلك .
مكان أدائها :
10 - كلّ مكان طاهر ، يصلح أن تؤدّى فيه صلاة العيد ، سواء كان مسجداً أو عرصةً وسط البلد أو مفازةً خارجها . إلاّ أنّه يسنّ الخروج لها إلى الصّحراء أو إلى مفازة واسعة خارج البلد تأسّياً بما كان يفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ولا بأس أن يستخلف الإمام غيره في البلدة ليصلّي في المسجد بالضّعفاء الّذين لا طاقة لهم بالخروج لها إلى الصّحراء .
ولم يخالف أحد من الأئمّة في ذلك ، إلاّ أنّ الشّافعيّة قيّدوا أفضليّة الصّلاة في الصّحراء بما إذا كان مسجد البلد ضيّقاً .
وإن كان المسجد واسعاً لا يتزاحم فيه النّاس ، فالصّلاة فيه أفضل ؛ لأنّ الأئمّة لم يزالوا يصلّون صلاة العيد بمكّة في المسجد ؛ ولأنّ المسجد أشرف وأنظف . ونقل صاحب المهذّب عن الشّافعيّ قوله : إن كان المسجد واسعاً فصلّى في الصّحراء فلا بأس ، وإن كان ضيّقاً فصلّى فيه ولم يخرج إلى الصّحراء كرهت ؛ لأنّه إذا ترك المسجد وصلّى في الصّحراء لم يكن عليهم ضرر ، وإذا ترك الصّحراء وصلّى في المسجد الضّيّق تأذّوا بالزّحام ، وربّما فات بعضهم الصّلاة .
كيفيّة أدائها :
أوّلاً - الواجب من ذلك :
11 - صلاة العيد ، لها حكم سائر الصّلوات المشروعة ، فيجب ويفرض فيها كلّ ما يجب ويفرض في الصّلوات الأخرى .
ويجب فيها - زيادةً على ذلك - ما يلي :
أوّلاً : - أن تؤدّى في جماعة وهو قول الحنفيّة والحنابلة .(/2)
ثانياً : - الجهر بالقراءة فيها ، وذلك للنّقل المستفيض عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ثالثاً : أن يكبّر المصلّي ثلاث تكبيرات زوائد بين تكبيرة الإحرام والرّكوع في الرّكعة الأولى ، وأن يكبّر مثلها - أيضاً - بين تكبيرة القيام والرّكوع في الرّكعة الثّانية .
وسيّان " بالنّسبة لأداء الواجب " أن تؤدّى هذه التّكبيرات قبل القراءة أو بعدها ، مع رفع اليدين أو بدونهما ، ومع السّكوت بين التّكبيرات أو الاشتغال بتسبيح ونحوه .
أمّا الأفضل فسنتحدّث عنه عند البحث في كيفيّتها المسنونة .
فمن أدرك الإمام بعد أن كبّر هذه التّكبيرات : فإن كان لا يزال في القيام كبّر المؤتمّ لنفسه بمجرّد الدّخول في الصّلاة ، وتابع الإمام . أمّا إذا أدركه راكعاً فليركع معه ، وليكبّر تكبيرات الزّوائد أثناء ركوعه بدل من تسبيحات الرّكوع .
وهذه التّكبيرات الزّائدة قد خالف في وجوبها المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ثمّ اختلفوا في عدد هذه التّكبيرات ومكانها .
فالشّافعيّة قالوا : هي سبع في الرّكعة الأولى بين تكبيرة الإحرام وبدء القراءة ، وخمس في الرّكعة الثّانية بين تكبيرة القيام وبدء القراءة أيضاً .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّها ستّ تكبيرات في الرّكعة الأولى عقب تكبيرة الإحرام ، وخمس في الثّانية عقب القيام إلى الرّكعة الثّانية أي قبل القراءة في الرّكعتين .
والجهر بالقراءة واجب عند الحنفيّة فقط . واتّفق الجميع على مشروعيّته .
ثانياً : المندوب من ذلك :
12 - يندب في صلاة العيدين كلّ ما يندب في الصّلوات الأخرى : فعلاً كان ، أو قراءةً ، وتختصّ صلاة العيدين بمندوبات أخرى نجملها فيما يلي :
أوّلاً - يسنّ أن يسكت بين كلّ تكبيرتين من التّكبيرات الزّوائد قدر ثلاث تسبيحات ولا يسنّ أن يشتغل بينهما بذكر أو تسبيح .
ثانياً - يسنّ أن يرفع يديه عند التّكبيرات الزّوائد إلى شحمة أذنيه ، بخلاف تكبيرة الرّكوع فلا يرفع يديه عندها .
ثالثاً - يسنّ أن يوالي بين القراءة في الرّكعتين ، وذلك بأن يكبّر التّكبيرات الزّوائد في الرّكعة الأولى قبل القراءة ، وفي الرّكعة الثّانية بعدها ، فتكون القراءتان متّصلتين على ذلك. رابعاً - يسنّ أن يقرأ في الرّكعة الأولى سورة الأعلى وفي الرّكعة الثّانية سورة الغاشية ولا يلتزمهما دائماً كي لا يترتّب على ذلك هجر بقيّة سور القرآن .
خامساً - يسنّ أن يخطب بعدها خطبتين ، لا يختلف في كلّ منهما في واجباتها وسننها عن خطبتي الجمعة .
إلاّ أنّه يستحبّ أن يفتتح الأولى منهما بتسع تكبيرات متتابعات والثّانية بسبع مثلها .
هذا ولا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة ، بل ينادى لها : الصّلاة جامعةً .
13 - ولها - أيضاً - سنن تتّصل بها وهي قبل الصّلاة أو بعدها نجملها فيما يلي :
أوّلاً : أن يطعم شيئاً قبل غدوّه إلى الصّلاة إذا كان العيد عيد فطر ، ويسنّ أن يكون المطعوم حلوًا كتمر ونحوه ، لما روى البخاريّ « أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يغدو يوم الفطر حتّى يأكل تمرات » .
ثانياً : يسنّ أن يغتسل ويتطيّب ويلبس أحسن ثيابه .
ثالثاً : يسنّ الخروج إلى المصلّى ماشياً ، فإذا عاد ندب له أن يسير من طريق أخرى غير الّتي أتى منها . ولا بأس أن يعود راكباً .
ثمّ إن كان العيد فطراً سنّ الخروج إلى المصلّى بدون جهر بالتّكبير في الأصحّ عند الحنفيّة .
رابعاً : إن كان أضحى فيسنّ الجهر بالتّكبير في الطّريق إليه .
قال في الدّرّ المختار : قيل : وفي المصلّى أيضاً وعليه عمل النّاس اليوم .
واتّفقت بقيّة الأئمّة مع الحنفيّة في استحباب الخروج إلى المصلّى ماشياً والعود من طريق آخر ، وأن يطعم شيئاً يوم عيد الفطر قبل خروجه إلى الصّلاة ، وأن يغتسل ويتطيّب ويلبس أحسن ثيابه .
أمّا التّكبير في الطّريق إلى المصلّى فقد خالف الحنفيّة في ذلك كلّ من المالكيّة والحنابلة ، والشّافعيّة ، فذهبوا إلى أنّه يندب التّكبير عند الخروج إلى المصلّى والجهر به في كلّ من عيدي الفطر والأضحى .
وأمّا التّكبير في المصلّى : فقد ذهبت الشّافعيّة " في الأصحّ من أقوال ثلاثة " إلى أنّه يسنّ للنّاس الاستمرار في التّكبير إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد .
وذهب المالكيّة - أيضاً - إلى ذلك استحساناً . قال العلّامة الدّسوقيّ في حاشيته على الشّرح الكبير : وأمّا التّكبير جماعةً وهم جالسون في المصلّى فهذا هو الّذي استحسن ، وهو رأي عند الحنابلة أيضاً .
وأمّا التّكبيرات الزّوائد في الصّلاة : فقد خالف الحنفيّة في استحباب موالاتها ، وعدم فصل أيّ ذكر بينها كلّ من الحنابلة والشّافعيّة حيث ذهب هؤلاء جميعاً إلى أنّه يستحبّ أن يفصل بينها بذكر ، وأفضله أن يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر . أو يقول: اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه كثيراً وسبحان اللّه وبحمده بكرةً وأصيلاً .
كما خالف المالكيّة في استحباب رفع اليدين عند التّكبيرات الزّوائد ، فذهبوا إلى أنّ الأفضل عدم رفع اليدين عند شيء منها .
كما خالف المالكيّة ، في عدد التّكبيرات الّتي يستحبّ افتتاح الخطبة بها . ويستحبّ عندهم أن تفتتح الخطبة بالتّكبير ولا تحديد للعدد عندهم .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا سنّة لها قبليّةً ولا بعديّةً ، ولا تصلّى أي نافلة قبلها وقبل الفراغ من خطبتها ؛ لأنّ الوقت وقت كراهة ، فلا يصلّى فيه غير العيد . أمّا بعد الفراغ من الخطبة فلا بأس بالصّلاة .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يكره التّنفّل قبلها ولا بعدها لما عدا الإمام ، سواء صلّيت في المسجد أو المصلّى .(/3)
وفصَّل المالكيّة فقالوا : يكره التّنفّل قبلها وبعدها إلى الزّوال ، إن أدّيت في المصلّى ولا يكره إن أدّيت في المسجد .
وللحنابلة تفصيل آخر فقد قالوا : لا يتنفّل قبل الصّلاة ولا بعدها كلّ من الإمام والمأموم ، في المكان الّذي صلّيت فيه ، فأمّا في غير موضعها فلا بأس .
مفسدات صلاة العيد :
14 - لصلاة العيد مفسدات مشتركة ومفسدات خاصّة .
أمّا مفسداتها المشتركة : فهي مفسدات سائر الصّلوات . ( راجع : صلاة ) .
وأمّا مفسداتها الخاصّة بها ، فتلخّص في أمرين :
الأوّل : أن يخرج وقتها أثناء أدائها بأن يدخل وقت الزّوال ، فتفسد بذلك . قال ابن عابدين : أي يفسد وصفها وتنقلب نفلاً ، اتّفاقاً إن كان الزّوال قبل القعود قدر التّشهّد ، وعلى قول الإمام أبي حنيفة إن كان بعده .
الثّاني : انفساخ الجماعة أثناء أدائها . فذلك - أيضاً - من مفسدات صلاة العيد .
وهل يشترط لفسادها أن تفسخ الجماعة قبل أن تقيّد الرّكعة الأولى بالسّجدة ، أم تفسد مطلقاً؟ يرد في ذلك خلاف وتفصيله في مفسدات صلاة الجمعة ( ر : صلاة الجمعة ) .
وخالف المالكيّة والشّافعيّة بالنّسبة لانفساخ الجماعة .
ما يترتّب على فسادها :
15 - قال صاحب البدائع : إن فسدت صلاة العيد بما تفسد به سائر الصّلوات من الحدث العمد وغير ذلك ، يستقبل الصّلاة على شرائطها ، وإن فسدت بخروج الوقت ، أو فاتت عن وقتها مع الإمام سقطت ولا يقضيها عندنا .
وسائر الأئمّة متّفقون على أنّ صلاة العيد إذا فسدت بما تفسد به سائر الصّلوات الأخرى ، تستأنف من جديد .
أمّا إن فسدت بخروج الوقت فقد اختلفوا في حكم قضائها أو إعادتها ، وقد مرّ تفصيل البحث في ذلك عند الكلام على وقت صلاة العيد ف / 7 وما بعدها .
شعائر وآداب العيد :
16 - أمّا شعائره فأبرزها : التّكبير .
وصيغته : اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر اللّه أكبر ، وللّه الحمد .
وخالفت الشّافعيّة والمالكيّة ، فذهبوا إلى جعل التّكبيرات الأولى في الصّيغة ثلاثاً بدل ثنتين . ثمّ إنّ هذا التّكبير يعتبر شعاراً لكلّ من عيدي الفطر والأضحى ، أمّا مكان التّكبير وحكمه وكيفيّته في عيد الفطر فقد مرّ الحديث عنه ف / 12.
وأمّا حكمه ومكانه في عيد الأضحى ، فيجب التّكبير مرّةً عقب كلّ فرض أدّي جماعةً ، أو قضي في أيّام العيد ، ولكنّه كان متروكاً فيها ، من بعد فجر يوم عرفة إلى ما بعد عصر يوم العيد .
وذهب أبو يوسف ومحمّد " وهو المعتمد في المذهب " إلى أنّه يجب بعد كلّ فرض مطلقاً ، ولو كان المصلّي منفرداً أو مسافراً أو امرأةً ، من فجر يوم عرفة إلى ما بعد عصر اليوم الثّالث من أيّام التّشريق .
أمّا ما يتعلّق بحكم التّكبير : فسائر المذاهب على أنّ التّكبير سنّة أو سنّة مؤكّدة وليس بواجب .
والمالكيّة يشرع التّكبير عندهم إثر خمس عشرة صلاةً تبدأ من ظهر يوم النّحر .
وأمّا ما يتعلّق بنوع الصّلاة الّتي يشرع بعدها التّكبير : فقد اختلفت في ذلك المذاهب : فالشّافعيّة على أنّه يشرع التّكبير عقب كلّ الصّلوات فرضاً كانت أم نافلةً على اختلافها لأنّ التّكبير شعار الوقت فلا يختصّ بنوع من الصّلاة دون آخر .
والحنابلة على أنّه يختصّ بالفروض المؤدّاة جماعةً من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيّام التّشريق ، فلا يشرع عقب ما أدّي فرادى من الصّلوات .
والمالكيّة على أنّه يشرع عقب الفرائض الّتي تصلّى أداءً ، فلا يشرع عقب ما صلّي من ذلك قضاءً مطلقاً أي سواء كان متروكات العيد أم لا .
ر : تكبير ج /13 ، ف /7 ، 14 ، 15 . من الموسوعة .
17 - وأمّا آدابه فمنها : الاغتسال ويدخل وقته بنصف اللّيل ، والتّطيّب ، والاستياك ، ولبس أحسن الثّياب . ويسنّ أن يكون ذلك قبل الصّلاة ، وأداء فطرته قبل الصّلاة .
ومن آداب العيد : إظهار البشاشة والسّرور فيه أمام الأهل والأقارب والأصدقاء ، وإكثار الصّدقات . قال في الدّرّ المختار : والتّهنئة بتقبّل اللّه منّا ومنكم لا تنكر .
ونقل ابن عابدين الخلاف في ذلك ثمّ صحّح القول بأنّ ذلك حسن لا ينكر ، واستند في تصحيحه هذا إلى ما نقله عن المحقّق ابن أمير الحاجّ من قوله : بأنّ ذلك مستحبّ في الجملة . وقاس على ذلك ما اعتاده أهل البلاد الشّاميّة والمصريّة من قولهم لبعض : عيد مبارك .
وذكر الشّهاب ابن حجر - أيضاً - أنّ هذه التّهنئة على اختلاف صيغها مشروعة ، واحتجّ له بأنّ البيهقيّ عقد له باباً فقال : باب ما روي في قول النّاس بعضهم لبعض في العيد : تقبّل اللّه منّا ومنكم ، وساق فيه ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة لكن مجموعها يحتجّ به في مثل ذلك ، ثمّ قال الشّهاب : ويحتجّ لعموم التّهنئة بسبب ما يحدث من نعمة ، أو يندفع من نقمة بمشروعيّة سجود الشّكر ، وبما في الصّحيحين « عن كعب بن مالك في قصّة توبته لمّا تخلّف في غزوة تبوك : أنّه لمّا بشّر بقبول توبته مضى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام إليه طلحة بن عبيد اللّه فهنّأه » .
كما يكره حمل السّلاح فيه ، إلاّ أن يكون مخافة عدوّ مثلاً ؛ لما ورد في ذلك من النّهي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .(/4)
صَلاَةُ اْلأَوَّابِين *
التّعريف :
1 - الصّلاة ، ينظر تعريفها في مصطلح : ( صلاة ) .
والأوّابون جمع أوّاب ، وفي اللّغة : آب إلى اللّه رجع عن ذنبه وتاب .
والأوّاب : الرّجّاع الّذي يرجع إلى التّوبة والطّاعة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن هذا المعنى .
سمّيت بصلاة الأوّابين لحديث زيد بن أرقم مرفوعاً : « صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال » وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : « أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لست بتاركهنّ : أن لا أنام إلاّ على وتر ، وأن لا أدع ركعتي الضّحى فإنّها صلاة الأوّابين ، وصيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر » .
وقت صلاة الأوّابين وحكمها :
2 - قال الجمهور : هي صلاة الضّحى ، والأفضل فعلها بعد ربع النّهار إذا اشتدّ الحرّ واستدلّوا بحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال » فقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلاة الأوّابين » هو الّذي أعطاها هذه التّسمية ، وكان ذلك واضحاً في حديث أبي هريرة المتقدّم وفيه ... « وأن لا أدع ركعتي الضّحى فإنّها صلاة الأوّابين » .
ولذلك يقول الفقهاء : من أتى بها " أي بصلاة الضّحى " كان من الأوّابين .
وينظر تفصيل أحكام صلاة الضّحى في مصطلح : ( صلاة الضّحى ) .
3 - وتطلق أيضاً على التّنفّل بعد المغرب . فقالوا : يستحبّ أداء ستّ ركعات بعد المغرب ليكتب من الأوّابين ، واستدلّوا على أفضليّة هذه الصّلاة بحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات لم يتكلّم فيما بينهنّ بسوء عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنةً » .
قال الماورديّ : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّيها ويقول : هذه صلاة الأوّابين » . ويؤخذ ممّا جاء عن صلاة الضّحى والصّلاة بين المغرب والعشاء أنّ صلاة الأوّابين تطلق على صلاة الضّحى ، والصّلاة بين المغرب والعشاء . فهي مشتركة بينهما كما يقول الشّافعيّة .
4 - وانفرد الشّافعيّة بتسمية التّطوّع بين المغرب والعشاء بصلاة الأوّابين ، وقالوا : تسنّ صلاة الأوّابين ، وتسمّى صلاة الغفلة ، لغفلة النّاس عنها ، واشتغالهم بغيرها من عشاء ، ونوم ، وغيرهما ، وهي عشرون ركعةً بين المغرب والعشاء ، وفي رواية أخرى أنّها ستّ ركعات . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( نفل ) .(/1)
صَوْمُ التَّطوّع *
التّعريف :
1 - الصّوم لغةً : مطلق الإمساك .
واصطلاحاً : إمساك عن المفطرات حقيقةً أو حكماً في وقت مخصوص من شخص مخصوص مع النّيّة .
والتّطوّع اصطلاحاً : التّقرّب إلى اللّه تعالى بما ليس بفرض من العبادات .
وصوم التّطوّع : التّقرّب إلى اللّه تعالى بما ليس بفرض من الصّوم .
فضل صوم التّطوّع :
2 - ورد في فضل صوم التّطوّع أحاديث كثيرة ، منها :
حديث سهل رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ في الجنّة باباً يقال له : الرّيّان ، يدخل منه الصّائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم . فيقال : أين الصّائمون ؟ فيقومون ، لا يدخل منه أحد غيرهم . فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد «
ومنها ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من صام يوماً في سبيل اللّه باعد اللّه تعالى وجهه عن النّار سبعين خريفاً « .
أنواع صوم التّطوّع :
3 - قسّم الحنفيّة صوم التّطوّع إلى مسنون ، ومندوب ، ونفل .
فالمسنون : عاشوراء مع تاسوعاء .
والمندوب : صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وصوم يوم الاثنين والخميس ، وصوم ستّ من شوّال ، وكلّ صوم ثبت طلبه والوعد عليه : كصوم داود عليه الصلاة والسلام ، ونحوه . والنّفل : ما سوى ذلك ممّا لم تثبت كراهته .
وقسّم المالكيّة - أيضاً - صوم التّطوّع إلى ثلاثة أقسام :
سنّة ، ومستحبّ ، ونافلة .
فالسّنّة : صيام يوم عاشوراء .
والمستحبّ : صيام الأشهر الحرم ، وشعبان ، والعشر الأول من ذي الحجّة ، ويوم عرفة ، وستّة أيّام من شوّال ، وثلاثة أيّام من كلّ شهر ، ويوم الاثنين والخميس .
والنّافلة : كلّ صوم لغير وقت ولا سبب ، في غير الأيّام الّتي يجب صومها أو يمنع .
وعند الشّافعيّة والحنابلة : صوم التّطوّع والصّوم المسنون بمرتبة واحدة .
أحكام النّيّة في صوم التّطوّع :
أ - وقت النّيّة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه لا يشترط تبييت النّيّة في صوم التّطوّع ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ فقلنا :لا ، فقال : فإنّي إذاً صائم « وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في نيّة صوم التّطوّع التّبييت كالفرض .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » من لم يبيّت الصّيام من اللّيل فلا صيام له « فلا تكفي النّيّة بعد الفجر ، لأنّ النّيّة : القصد ، وقصد الماضي محال عقلاً .
5- واختلف جمهور الفقهاء في آخر وقت نيّة التّطوّع :
فذهب الحنفيّة : إلى أنّ آخر وقت نيّة صوم التّطوّع الضّحوة الكبرى . والمراد بها : نصف النّهار الشّرعيّ ، والنّهار الشّرعيّ : من استطارة الضّوء في أفق المشرق إلى غروب الشّمس ، ونصّوا على أنّه لا بدّ من وقوع النّيّة قبل الضّحوة الكبرى ، فلا تجزئ النّيّة عند الضّحوة الكبرى اعتباراً لأكثر اليوم كما قال الحصكفيّ .
وذهب الشّافعيّة : إلى أنّ آخر وقت نيّة صوم التّطوّع قبل الزّوال ، واختصّ بما قبل الزّوال لما روي :» أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة يوماً : هل عندكم شيء ؟ قالت: لا . قال : فإنّي إذن صائم « . إذ الغداء اسم لما يؤكل قبل الزّوال ، والعشاء اسم لما يؤكل بعده ، ولأنّه مضبوط بيّن ، ولإدراك معظم النّهار به كما في ركعة المسبوق .
قال الشّربينيّ الخطيب : وهذا جرى على الغالب ممّن يريد صوم النّفل وإلاّ فلو نوى قبل الزّوال - وقد مضى معظم النّهار - صحّ صومه .
وذهب الحنابلة - والشّافعيّة في قول مرجوح - إلى امتداد وقت النّيّة إلى ما بعد الزّوال ، قالوا : إنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة ، ولم ينقل عن أحد من الصّحابة - رضي الله عنهم - ما يخالفه صريحاً ، ولأنّ النّيّة وجدت في جزء النّهار ، فأشبه وجودها قبل الزّوال بلحظة .
ويشترط لصحّة نيّة النّفل في النّهار : أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النّيّة ، فإن فعل فلا يجزئه الصّوم حينئذ .
ب - تعيين النّيّة :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يشترط في نيّة صوم التّطوّع التّعيين ، فيصحّ صوم التّطوّع بمطلق النّيّة ، وقال النّوويّ : وينبغي أن يشترط التّعيين في الصّوم المرتّب ، كصوم عرفة ، وعاشوراء ، والأيّام البيض ، والسّتّة من شوّال ، ونحوها ، كما يشترط ذلك في الرّواتب من نوافل الصّلاة .
والمعتمد عند الشّافعيّة خلاف ما صرّح به النّوويّ ، قال المحلّيّ : ويجاب بأنّ الصّوم في الأيّام المذكورة منصرف إليها ، بل لو نوى به غيرها حصلت أيضاً - كتحيّة المسجد - لأنّ المقصود وجود الصّوم فيها ، قال القليوبيّ : هذا الجواب معتمد من حيث الصّحّة ، وإن كان التّعيين أولى مطلقاً .
ما يستحبّ صيامه من الأيّام :
أ - صوم يوم وإفطار يوم :
7 - من صيام التّطوّع صوم يوم وإفطار يوم ، وهو أفضل صيام التّطوّع ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أحبّ الصّلاة إلى اللّه صلاة داود عليه السلام ، وأحبّ الصّيام إلى اللّه صيام داود : وكان ينام نصف اللّيل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، ويصوم يوماً ويفطر يوماً« .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما : » صم يوماً وأفطر يوماً ، فذلك صيام داود عليه السلام ، وهو أفضل الصّيام ، فقلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لا أفضل من ذلك « .
قال البهوتيّ : لكنّه مشروط بأن لا يضعف البدن حتّى يعجز عمّا هو أفضل من الصّيام ، كالقيام بحقوق اللّه تعالى وحقوق عباده اللازمة ، وإلاّ فتركه أفضل .
ب - صوم عاشوراء وتاسوعاء :(/1)
8 - اتّفق الفقهاء على سنّيّة صوم عاشوراء وتاسوعاء - وهما : اليوم العاشر ، والتّاسع من المحرّم - لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء : » أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله « .
ولحديث معاوية رضي الله عنه قال : سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : » هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب اللّه عليكم صيامه ، وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ، ومن شاء فليفطر« .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التّاسع « .
وقد كان صوم يوم عاشوراء فرضاً في الإسلام ، ثمّ نسخت فرضيّته بصوم رمضان ، فخيّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في صومه ، وهو اختيار كثيرين واختيار الشّيخ تقيّ الدّين من الحنابلة ، وهو الّذي قاله الأصوليّون .
وصوم يوم عاشوراء - كما سبق في الحديث الشّريف - يكفّر ذنوب سنة ماضية . والمراد بالذّنوب : الصّغائر ، قال الدّسوقيّ : فإن لم يكن صغائر ، حتّت من كبائر سنة ، وذلك التّحتيت موكول لفضل اللّه ، فإن لم يكن كبائر رفع له درجات .
وقال البهوتيّ : قال النّوويّ في شرح مسلم عن العلماء : المراد كفّارة الصّغائر ، فإن لم تكن له صغائر رجي التّخفيف من الكبائر ، فإن لم تكن له كبائر رفع له درجات .
وصرّح الحنفيّة : بكراهة صوم يوم عاشوراء منفرداً عن التّاسع ، أو عن الحادي عشر . كما صرّح الحنابلة : بأنّه لا يكره إفراد عاشوراء بالصّوم ، وهذا ما يفهم من مذهب المالكيّة.
قال الحطّاب : قال الشّيخ زرّوق في شرح القرطبيّة : واستحبّ بعض العلماء صوم يوم قبله ويوم بعده ، وهذا الّذي ذكره عن بعض العلماء غريب لم أقف عليه .
وذكر العلماء في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجهاً :
أحدها : أنّ المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما فقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً « .
الثّاني : أنّ المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم ، كما نهى أن يصوم يوم الجمعة وحده . الثّالث : الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع الغلط ، فيكون التّاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر .
واستحبّ الحنفيّة والشّافعيّة صوم الحادي عشر ، إن لم يصم التّاسع .
قال الشّربينيّ الخطيب : بل نصّ الشّافعيّ في الأمّ والإملاء على استحباب صوم الثّلاثة .
ج - صوم يوم عرفة :
9 - اتّفق الفقهاء على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاجّ - وهو : اليوم التّاسع من ذي الحجّة - وصومه يكفّر سنتين : سنةً ماضيةً ، وسنةً مستقبلةً ، روى أبو قتادة رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » صيام يوم عرفة ، أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله ، والسّنة الّتي بعده « .
قال الشّربينيّ الخطيب : وهو أفضل الأيّام لحديث مسلم : » ما من يوم أكثر من أن يعتق اللّه فيه عبداً من النّار من يوم عرفة « .
وذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى عدم استحبابه للحاجّ ، ولو كان قويّاً ، وصومه مكروه له عند المالكيّة والحنابلة ، وخلاف الأولى عند الشّافعيّة ، لما روت أمّ الفضل بنت الحارث رضي الله عنهما : » أنّها أرسلت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقدح لبن ، وهو واقف على بعيره بعرفة ، فشرب « .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : » أنّه حجّ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ أبي بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، فلم يصمه أحد منهم « ، لأنّه يضعفه عن الوقوف والدّعاء ، فكان تركه أفضل ، وقيل : لأنّهم أضياف اللّه وزوّاره .
وقال الشّافعيّة : ويسنّ فطره للمسافر والمريض مطلقاً ، وقالوا : يسنّ صومه لحاجّ لم يصل عرفة إلاّ ليلاً ، لفقد العلّة .
وذهب الحنفيّة إلى استحبابه للحاجّ - أيضاً - إذا لم يضعفه عن الوقوف بعرفات ولا يخلّ بالدّعوات ، فلو أضعفه كره له الصّوم .
د - صوم الثّمانية من ذي الحجّة :
10 - اتّفق الفقهاء على استحباب صوم الأيّام الثّمانية الّتي من أوّل ذي الحجّة قبل يوم عرفة ، لحديث ابن عبّاس : رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً : » ما من أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى اللّه من هذه الأيّام - يعني أيّام العشر - قالوا : يا رسول اللّه ولا الجهاد في سبيل اللّه ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل اللّه ، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء « .
قال الحنابلة : وآكده : الثّامن ، وهو يوم التّروية .
وصرّح المالكيّة : بأنّ صوم يوم التّروية يكفّر سنةً ماضيةً .
وصرّح المالكيّة ، والشّافعيّة : بأنّه يسنّ صوم هذه الأيّام للحاجّ أيضاً .
واستثنى المالكيّة من ذلك صيام يوم التّروية للحاجّ .
قال في المتيطيّة : ويكره للحاجّ أن يصوم بمنىً وعرفة تطوّعاً .
قال الحطّاب : بمنىً يعني في يوم التّروية ، يسمّى عند المغاربة : يوم منىً .
هـ – صوم ستّة أيّام من شوّال :
11 – ذهب جمهور الفقهاء – المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ومتأخّرو الحنفيّة – إلى أنّه يسنّ صوم ستّة أيّام من شوّال بعد صوم رمضان ، لما روى أبو أيّوب رضي الله تعالى عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » من صام رمضان ، ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال ، كان كصيام الدّهر « .(/2)
وعن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » صيام شهر رمضان بعشرة أشهر وستّة أيّام بعدهنّ بشهرين ، فذلك تمام سنة « يعني : أنّ الحسنة بعشرة أمثالها : الشّهر بعشرة أشهر ، والأيّام السّتّة بستّين يوماً ، فذلك سنة كاملة . وصرّح الشّافعيّة ، والحنابلة : بأنّ صوم ستّة أيّام من شوّال - بعد رمضان - يعدل صيام سنة فرضاً ، وإلاّ فلا يختصّ ذلك برمضان وستّة من شوّال ، لأنّ الحسنة بعشرة أمثالها . ونقل عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - كراهة صوم ستّة من شوّال ، متفرّقاً كان أو متتابعاً .
وعن أبي يوسف : كراهته متتابعاً ، لا متفرّقاً . لكن عامّة المتأخّرين من الحنفيّة لم يروا به بأساً .
قال ابن عابدين ، نقلاً عن صاحب الهداية في كتابه التّجنيس : والمختار أنّه لا بأس به ، لأنّ الكراهة إنّما كانت لأنّه لا يؤمن من أن يعدّ ذلك من رمضان ، فيكون تشبّهاً بالنّصارى ، والآن زال ذلك المعنى ، واعتبر الكاسانيّ محلّ الكراهة : أن يصوم يوم الفطر ، ويصوم بعده خمسة أيّام ، فأمّا إذا أفطر يوم العيد ثمّ صام بعده ستّة أيّام فليس بمكروه ، بل هو مستحبّ وسنّة .
وكره المالكيّة صومها لمقتدىً به ، ولمن خيف عليه اعتقاد وجوبها ، إن صامها متّصلةً برمضان متتابعةً وأظهرها ، أو كان يعتقد سنّيّة اتّصالها ، فإن انتفت هذه القيود استحبّ صيامها .
قال الحطّاب : قال في المقدّمات : كره مالك - رحمه الله تعالى - ذلك مخافة أن يلحق برمضان ما ليس منه من أهل الجهالة والجفاء ، وأمّا الرّجل في خاصّة نفسه فلا يكره له صيامها .
وصرّح الشّافعيّة ، والحنابلة : بأنّه لا تحصل الفضيلة بصيام السّتّة في غير شوّال ، وتفوت بفواته ، لظاهر الأخبار .
ومذهب الشّافعيّة : استحباب صومها لكلّ أحد ، سواء أصام رمضان أم لا ، كمن أفطر لمرض أو صباً أو كفر أو غير ذلك ، قال الشّربينيّ الخطيب : وهو الظّاهر ، كما جرى عليه بعض المتأخّرين ، وإن كانت عبارة كثيرين : يستحبّ لمن صام رمضان أن يتبعه بستّ من شوّال كلفظ الحديث .
وعند الحنابلة : لا يستحبّ صيامها إلاّ لمن صام رمضان .
12 - كما ذهب الشّافعيّة وبعض الحنابلة إلى أفضليّة تتابعها عقب العيد مبادرةً إلى العبادة، ولما في التّأخير من الآفات .
ولم يفرّق الحنابلة بين التّتابع والتّفريق في الأفضليّة .
وعند الحنفيّة تستحبّ السّتّة متفرّقةً : كلّ أسبوع يومان .
أمّا المالكيّة : فذهبوا إلى كراهة صومها متّصلةً برمضان متتابعةً ، ونصّوا على حصول الفضيلة ولو صامها في غير شوّال ، بل استحبّوا صيامها في عشر ذي الحجّة ، ذلك أنّ محلّ تعيينها في الحديث في شوّال على التّخفيف في حقّ المكلّف ، لاعتياده الصّيام ، لا لتخصيص حكمها بذلك .
قال العدويّ : إنّما قال الشّارع : " من شوّال " للتّخفيف باعتبار الصّوم ، لا تخصيص حكمها بذلك الوقت ، فلا جرم إن فعلها في عشر ذي الحجّة مع ما روي في فضل الصّيام فيه أحسن، لحصول المقصود مع حيازة فضل الأيّام المذكورة . بل فعلها في ذي القعدة حسن أيضاً ، والحاصل : أنّ كلّ ما بعد زمنه كثر ثوابه لشدّة المشقّة .
و - صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ صوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وذهب الجمهور منهم - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى استحباب كونها الأيّام البيض - وهي الثّالث عشر والرّابع عشر والخامس عشر من كلّ شهر عربيّ - سمّيت بذلك لتكامل ضوء الهلال وشدّة البياض فيها ، لما روى أبو ذرّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : » يا أبا ذرّ ، إذا صمت من الشّهر ثلاثة أيّام ، فصم ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة « .
قال الشّافعيّة : والأحوط صوم الثّاني عشر معها - أيضاً - للخروج من خلاف من قال : إنّه أوّل الثّلاثة ، ويستثنى ثالث عشر ذي الحجّة فلا يجوز صومه لكونه من أيّام التّشريق . فيبدّل بالسّادس عشر منه كما قال القليوبيّ .
وذهب المالكيّة إلى كراهة صوم الأيّام البيض ، فراراً من التّحديد ، ومخافة اعتقاد وجوبها . ومحلّ الكراهة : إذا قصد صومها بعينها ، واعتقد أنّ الثّواب لا يحصل إلاّ بصومها خاصّةً . وأمّا إذا قصد صيامها من حيث إنّها ثلاثة أيّام من الشّهر فلا كراهة .
قال الموّاق : نقلاً عن ابن رشد : إنّما كره مالك صومها لسرعة أخذ النّاس بقوله ، فيظنّ الجاهل وجوبها . وقد روي أنّ مالكاً كان يصومها ، وحضّ مالك - أيضاً - الرّشيد على صيامها .
وصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر كصوم الدّهر ، بمعنى : أنّه يحصل بصيامها أجر صيام الدّهر بتضعيف الأجر : الحسنة بعشرة أمثالها .
لحديث قتادة بن ملحان رضي الله عنه : » كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض : ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة . قال : قال : وهنّ كهيئة الدّهر « أي كصيام الدّهر .
ز - صوم الاثنين والخميس من كلّ أسبوع :
14 - اتّفق الفقهاء على استحباب صوم يوم الاثنين والخميس من كلّ أسبوع .
لما روى أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس . فسئل عن ذلك ؟ فقال : إنّ أعمال العباد تعرض يوم الاثنين والخميس ، وأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم « ، ولما ورد من حديث أبي قتادة رضي الله عنه : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال : فيه ولدت ، وفيه أنزل عليّ « .
ح - صوم الأشهر الحرم :
15 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى استحباب صوم الأشهر الحرم .(/3)
وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّ أفضل الأشهر الحرم : المحرّم ، ثمّ رجب ، ثمّ باقيها : ذو القعدة وذو الحجّة .
والأصل في ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أفضل الصّلاة بعد الصّلاة المكتوبة الصّلاة في جوف اللّيل ، وأفضل الصّيام بعد شهر رمضان صيام شهر اللّه المحرّم « . ومذهب الحنفيّة : أنّه من المستحبّ أن يصوم الخميس والجمعة والسّبت من كلّ شهر من الأشهر الحرم .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يسنّ صوم شهر المحرّم فقط من الأشهر الحرم .
وذكر بعضهم استحباب صوم الأشهر الحرم ، لكن الأكثر لم يذكروا استحبابه ، بل نصّوا على كراهة إفراد رجب بالصّوم ، لما روى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب « .
ولأنّ فيه إحياءً لشعار الجاهليّة بتعظيمه . وتزول الكراهة بفطره فيه ولو يوماً ، أو بصومه شهراً آخر من السّنة وإن لم يل رجباً .
ط - صوم شهر شعبان :
16 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى استحباب صوم شهر شعبان ، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً منه في شعبان « .
وعنها قالت : » كان أحبّ الشّهور إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ، بل كان يصله برمضان « .
قال الشّربينيّ الخطيب : ورد في مسلم : » كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كلّه : كان يصوم شعبان إلاّ قليلاً « .
قال العلماء : اللّفظ الثّاني مفسّر للأوّل ، فالمراد بكلّه غالبه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : » ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قطّ إلاّ رمضان « .
قال العلماء : وإنّما لم يستكمل ذلك لئلاّ يظنّ وجوبه .
وذهب الحنابلة إلى عدم استحباب صوم شعبان ، وذلك في قول الأكثر ، واستحبّه صاحب الإرشاد .
ى - صوم يوم الجمعة :
17 - لا بأس عند الحنفيّة بصوم يوم الجمعة بانفراده ، وهو قول أبي حنيفة ومحمّد ويندب عند المالكيّة ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه كان يصومه ولا يفطر . وقال أبو يوسف : جاء حديث في كراهته إلاّ أن يصوم قبله وبعده ، فكان الاحتياط أن يضمّ إليه يوماً آخر ، قال ابن عابدين : ثبت بالسّنّة طلبه والنّهي عنه ، والآخر منهما النّهي ، لأنّ فيه وظائف ، فلعلّه إذا صام ضعف عن فعلها .
ومحلّ النّهي عند المالكيّة هو مخافة فرضيّته ، وقد انتفت هذه العلّة بوفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة إفراد يوم الجمعة بالصّوم ، لحديث : » لا يصم أحدكم يوم الجمعة ، إلاّ أن يصوم قبله أو بعده « وليتقوّى بفطره على الوظائف المطلوبة فيه ، أو لئلاّ يبالغ في تعظيمه كاليهود في السّبت ، ولئلاّ يعتقد وجوبه ، ولأنّه يوم عيد وطعام .
حكم الشّروع في صوم التّطوّع :
18 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى لزوم صوم التّطوّع بالشّروع فيه ، وأنّه يجب على الصّائم المتطوّع إتمامه إذا بدأ فيه ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن كان صائماً فليصلّ ، وإن كان مفطراً فليطعم « قوله : فليصلّ : أي فليدع .
قال القرطبيّ : ثبت هذا عنه عليه الصلاة والسلام ، ولو كان الفطر جائزاً لكان الأفضل الفطر ، لإجابة الدّعوة الّتي هي السّنّة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم لزوم صوم التّطوّع بالشّروع فيه ، ولا يجب على الصّائم تطوّعاً إتمامه إذا بدأ فيه ، وله قطعه في أيّ وقت شاء ، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » قلت : يا رسول اللّه ، أهدي لنا حيس ، فقال : أرنيه ، فلقد أصبحت صائماً فأكل « وزاد النّسائيّ : » إنّما مثل صوم التّطوّع مثل الرّجل يخرج من ماله الصّدقة ، فإن شاء أمضاها ، وإن شاء حبسها « .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الصّائم المتطوّع أمين نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر « .
إفساد صوم التّطوّع وما يترتّب عليه :
19 - صرّح المالكيّة بحرمة إفساد صوم التّطوّع لغير عذر ، وهو ما يفهم من كلام الحنفيّة، حيث جاء في الفتاوى الهنديّة ما نصّه : ذكر الرّازيّ عن أصحابنا أنّ الإفطار بغير عذر في صوم التّطوّع لا يحلّ ، هكذا في الكافي .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة قطعه بلا عذر ، واستحباب إتمامه لظاهر قوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ، وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه .
ومن الأعذار الّتي ذكرها الحنفيّة والمالكيّة لجواز الفطر : الحلف على الصّائم بطلاق امرأته إن لم يفطر ، فحينئذ يجوز له الفطر ، بل نصّ الحنفيّة على ندب الفطر دفعاً لتأذّي أخيه المسلم . لكن الحنفيّة قيّدوا جواز الفطر إلى ما قبل نصف النّهار أمّا بعده فلا يجوز .
وكذلك من الأعذار عند الحنفيّة : الضّيافة للضّيف والمضيف إن كان صاحبها ممّن لا يرضى بمجرّد الحضور ، وكان الصّائم يتأذّى بترك الإفطار ، شريطة أن يثق بنفسه بالقضاء ، وقيّد المالكيّة جواز الفطر بالحلف بالطّلاق بتعلّق قلب الحالف بمن حلف بطلاقها ، بحيث يخشى أن لا يتركها إن حنث ، فحينئذ يجوز للمحلوف عليه الفطر ، ولا قضاء عليه أيضاً .
ومن الأعذار - أيضاً - : أمر أحد أبويه له بالفطر . وقيّد الحنفيّة جواز الإفطار بما إذا كان أمر الوالدين إلى العصر لا بعده ، قال ابن عابدين : ولعلّ وجهها أنّ قرب وقت الإفطار يرفع ضرر الانتظار .
وألحق المالكيّة بالأبوين : الشّيخ في السّفر ، الّذي أخذ على نفسه العهد أن لا يخالفه ، ومثله عندهم : شيخ العلم الشّرعيّ .(/4)
وصرّح الشّافعيّة باستحباب قطع صوم التّطوّع إن كان هناك عذر ، كمساعدة ضيف في الأكل إذا عزّ عليه امتناع مضيفه منه ، أو عكسه . أمّا إذا لم يعزّ على أحدهما امتناع الآخر عن ذلك فالأفضل عدم خروجه منه .
20 - واختلف الفقهاء في حكم قضاء صوم التّطوّع عند إفساده :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب قضاء صوم التّطوّع عند إفساده .
لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت : » كنت أنا وحفصة صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه ، فأكلنا منه ، فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة - وكانت ابنة أبيها - فقالت : يا رسول اللّه إنّا كنّا صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ، فقال : اقضيا يوماً آخر مكانه « .
ولأنّ ما أتى به قربةً ، فيجب صيانته وحفظه عن البطلان ، وقضاؤه عند الإفساد لقوله تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ، ولا يمكن ذلك إلاّ بإتيان الباقي ، فيجب إتمامه ، وقضاؤه عند الإفساد ضرورةً ، فصار كالحجّ والعمرة التّطوّعين .
ومذهب الحنفيّة : وجوب القضاء عند الإفساد مطلقاً ، أي : سواء أفسد عن قصد - وهذا لا خلاف فيه - أو غير قصد ، بأن عرض الحيض للصّائمة المتطوّعة وذلك في أصحّ الرّوايتين ، واستثنوا من ذلك : صوم العيدين وأيّام التّشريق ، فلا تلزم بالشّروع ، لا أداءً ولا قضاءً ، إذا أفسد ، لارتكابه النّهي بصيامها ، فلا تجب صيانته ، بل يجب إبطاله ، ووجوب القضاء ينبني على وجوب الصّيانة ، فلم يجب قضاءً ، كما لم يجب أداءً .
وخصّ المالكيّة وجوب القضاء بالفطر العمد الحرام ، وذلك كمن شرع في صوم التّطوّع ، ثمّ أفطر من غير ضرورة ولا عذر ، قال الحطّاب : احترز بالعمد من النّسيان والإكراه ، وبالحرام عمّن أفطر لشدّة الجوع والعطش والحرّ الّذي يخاف منه تجدّد مرض أو زيادته ، وكذلك عمّن أفطر لأمر والديه وشيخه ، وعدّوا السّفر الّذي يطرأ عليه من الفطر العمد . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجب القضاء على من أفسد صوم التّطوّع ، لأنّ القضاء يتبع المقضيّ عنه ، فإذا لم يكن واجباً ، لم يكن القضاء واجباً ، لكن يندب له القضاء ، سواء أفسد صوم التّطوّع بعذر أم بغير عذر ، خروجاً من خلاف من أوجب قضاءه .
ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا أفطر الصّائم تطوّعاً لم يثب على ما مضى ، إن خرج منه بغير عذر ، ويثاب عليه إن خرج بعذر .
الإذن في صوم التّطوّع :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّه ليس للمرأة أن تصوم تطوّعاً إلاّ بإذن زوجها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لا تصم المرأة وبعلها شاهد ، إلاّ بإذنه « ، ولأنّ حقّ الزّوج فرض، فلا يجوز تركه لنفل .
ولو صامت المرأة بغير إذن زوجها صحّ مع الحرمة عند جمهور الفقهاء ، والكراهة التّحريميّة عند الحنفيّة ، إلاّ أنّ الشّافعيّة خصّوا الحرمة بما يتكرّر صومه ، أمّا ما لا يتكرّر صومه كعرفة وعاشوراء وستّة من شوّال فلها صومها بغير إذنه ، إلاّ إن منعها .
ولا تحتاج المرأة إلى إذن الزّوج إذا كان غائباً ، لمفهوم الحديث ولزوال معنى النّهي .
قال الشّافعيّة : وعلمها برضاه كإذنه .
ومثل الغائب عند الحنفيّة : المريض ، والصّائم والمحرم بحجّ أو عمرة ، قالوا : وإذا كان الزّوج مريضاً أو صائماً أو محرماً لم يكن له منع الزّوجة من ذلك ، ولها أن تصوم وإن نهاها .
وصرّح الحنفيّة والمالكيّة بأنّه لا يصوم الأجير تطوّعاً إلاّ بإذن المستأجر ، إن كان صومه يضرّ به في الخدمة ، وإن كان لا يضرّه فله أن يصوم بغير إذنه .
22 - وإذا صامت الزّوجة تطوّعاً بغير إذن زوجها فله أن يفطّرها ، وخصّ المالكيّة جواز تفطيرها بالجماع فقط ، أمّا بالأكل والشّرب فليس له ذلك ، لأنّ احتياجه إليها الموجب لتفطيرها إنّما هو من جهة الوطء .
التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان :
23 - اختلف الفقهاء في حكم التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان :
فذهب الحنفيّة إلى جواز التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان من غير كراهة ، لكون القضاء لا يجب على الفور ، قال ابن عابدين : ولو كان الوجوب على الفور لكره ، لأنّه يكون تأخيراً للواجب عن وقته الضّيّق .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى الجواز مع الكراهة ، لما يلزم من تأخير الواجب ، قال الدّسوقيّ : يكره التّطوّع بالصّوم لمن عليه صوم واجب ، كالمنذور والقضاء والكفّارة . سواء كان صوم التّطوّع الّذي قدّمه على الصّوم الواجب غير مؤكّد ، أو كان مؤكّداً ، كعاشوراء وتاسع ذي الحجّة على الرّاجح .
وذهب الحنابلة إلى حرمة التّطوّع بالصّوم قبل قضاء رمضان ، وعدم صحّة التّطوّع حينئذ ولو اتّسع الوقت للقضاء ، ولا بدّ من أن يبدأ بالفرض حتّى يقضيه ، وإن كان عليه نذر صامه بعد الفرض أيضاً ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » من صام تطوّعاً وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنّه لا يتقبّل منه حتّى يصومه « ، وقياساً على الحجّ في عدم جواز أن يحجّ عن غيره أو تطوّعاً قبل حجّ الفريضة ومسألة انقلاب الصّوم الواجب إلى تطوّع ، والنّيابة في صوم التّطوّع سبق تفصيلها في مصطلح : ( تطوّع ف 19 ، 27 )(/5)
طهارة *
التّعريف :
1 - الطّهارة في اللّغة : النّظافة ، يقال : طهر الشّيء بفتح الهاء وضمّها يطهر بالضّمّ طهارةً فيهما ، والاسم : الطّهر بالضّمّ ، وطهّره تطهيراً ، وتطهّر بالماء ، وهم قوم يتطهّرون أي : يتنزّهون من الأدناس ، ورجل طاهر الثّياب ، أي : منزّه .
وفي الشّرع : هي عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة بصفة مخصوصة .
وعرفت أيضاً بأنّها : زوال حدث أو خبث ، أو رفع الحدث أو إزالة النّجس ، أو ما في معناهما أو على صورتهما .
وقال المالكيّة : إنّها صفة حكميّة توجب للموصوف بها جواز استباحة الصّلاة به ، أو فيه ، أو له . فالأوّلان يرجعان للثّوب والمكان ، والأخير للشّخص .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الغسل :
2 - الغَسل بالفتح : مصدر غسل ، والغُسل بالضّمّ : اسم من الغَسل - بالفتح - ومن الاغتسال ، وأكثر ما يستعمله الفقهاء من الاغتسال .
ويعرّفونه لغةً : بأنّه سيلان الماء على الشّيء مطلقاً .
وشرعًا : بأنّه سيلانه على جميع البدن بنيّة .
والطّهارة أعمّ من الغسل .
ب - التّيمّم :
3 - التّيمّم في اللّغة : مطلق القصد ، وفي الشّرع : قصد الصّعيد الطّاهر واستعماله بصفة مخصوصة لإزالة الحدث .
والتّيمّم أخصّ من الطّهارة .
ج - الوضوء :
4 - الوضوء بضمّ الواو : اسم للفعل ، وهو : استعمال الماء في أعضاء مخصوصة ، وهو المراد هنا وبفتحها : اسم للماء الّذي يتوضّأ به ، وهو مأخوذ من الوضاءة ، وهي الحسن والنّظافة والضّياء من ظلمة الذّنوب .
وفي الشّرع : أفعال مخصوصة مفتتحة بالنّيّة .
والطّهارة أعمّ منه .
تقسيم الطّهارة :
5 - الطّهارة تنقسم إلى قسمين :
طهارة من الحدث ، وطهارة من النّجس ، أي : حكميّة وحقيقيّة .
فالحدث هو : الحالة النّاقضة للطّهارة شرعاً ، بمعنى أنّ الحدث إن صادف طهارةً نقضها ، وإن لم يصادف طهارةً فمن شأنه أن يكون كذلك .
وينقسم إلى قسمين : الأكبر والأصغر ، أمّا الأكبر فهو : الجنابة والحيض والنّفاس ، وأمّا الأصغر فمنه : البول والغائط والرّيح والمذي والودي وخروج المنيّ بغير لذّة ، والهادي وهو : الماء الّذي يخرج من فرج المرأة عند ولادتها .
وأمّا النّجس - ويعبّر عنه بالخبث أيضاً - فهو عبارة عن النّجاسة القائمة بالشّخص أو الثّوب أو المكان .
والأولى منهما - وهي الطّهارة من الحدث الأصغر والأكبر - شرعت بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق } الآية ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : » لا تقبل صلاة بغير طهور « .
والثّانية منهما - وهي طهارة الجسد والثّوب والمكان الّذي يصلّى عليه من النّجس - شرعت بقوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } .
وقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } .
وقوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } .
وبقوله عليه الصلاة والسلام : » اغسلي عنك الدّم وصلّي « .
والطّهارة من ذلك كلّه من شروط صحّة الصّلاة .
ويرجع في تفصيل الطّهارة الحكميّة - وهي الطّهارة من الحدث - إلى مواطنها في مصطلحات : ( حدث ، وضوء ، جنابة ، حيض ، نفاس ) .
ما تشترط له الطّهارة الحقيقيّة :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يشترط لصحّة الصّلاة طهارة بدن المصلّي وثوبه ومكانه من النّجاسة . لما مرّ في الفقرة السّابقة .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابيّ : » صبّوا عليه ذنوباً من ماء « . وقال المالكيّة : إنّها واجبة مع الذّكر والقدرة ، وسنّة مع النّسيان وعدم القدرة .
والمعتمد في المذهب : أنّ من صلّى بالنّجاسة متعمّداً عالماً بحكمها ، أو جاهلاً وهو قادر على إزالتها يعيد صلاته أبداً ، ومن صلّى بها ناسياً أو غير عالم بها أو عاجزاً عن إزالتها يعيد في الوقت .
وأيضاً تشترط الطّهارة الحقيقيّة لصلاة الجنازة ، وهي شرط في الميّت بالإضافة إلى المصلّي.
وتشترط الطّهارة الحقيقيّة كذلك في سجدة التّلاوة .
واختلف الفقهاء في اشتراط الطّهارة الحقيقيّة في الطّواف ، فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى اشتراطها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الطّواف بالبيت بمنزلة الصّلاة إلاّ أنّ اللّه قد أحلّ فيه المنطق ، فمن نطق فلا ينطق إلاّ بخير « .
وذهب الحنفيّة إلى عدم اشتراط الطّهارة الحقيقيّة في الطّواف .
قال الطّحاويّ : والأكثر على أنّها سنّة مؤكّدة .
وانفرد الشّافعيّة باشتراط الطّهارة الحقيقيّة في خطبة الجمعة .
تطهير النّجاسات :
7 - النّجاسات العينيّة لا تطهر بحال ، إذ أنّ ذاتها نجسة ، بخلاف الأعيان المتنجّسة ، وهي الّتي كانت طاهرةً في الأصل وطرأت عليها النّجاسة ، فإنّه يمكن تطهيرها .
والأعيان منها ما اتّفق الفقهاء على نجاسته ، ومنها ما اختلفوا فيه .
وممّا اتّفق الفقهاء على نجاسته : الدّم المسفوح ، والميتة ، والبول والعذرة من الآدميّ . وممّا اختلف الفقهاء فيه : الكلب والخنزير ، حيث ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى القول بنجاسة الخنزير كما ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى نجاسة الكلب ، وقال الحنفيّة في الأصحّ : إنّ الكلب ليس بنجس العين ، وإنّما لحمه نجس . ولمعرفة ما يعتبر نجساً أو غير نجس ينظر مصطلح : ( نجاسة ) .
النّيّة في التّطهير من النّجاسات :(/1)
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّطهير من النّجاسة لا يحتاج إلى نيّة ، فليست النّيّة بشرط في طهارة الخبث ، ويطهر محلّ النّجاسة بغسله بلا نيّة ، لأنّ الطّهارة عن النّجاسة من باب التّروك ، فلم تفتقر إلى النّيّة كما علّله المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ولأنّ إزالة النّجاسة تعبّد غير معقول المعنى .
وقال البابرتيّ من الحنفيّة : الماء طهور بطبعه ، فإذا لاقى النّجس طهّره قصد المستعمل ذلك أو لا ، كالثّوب النّجس .
ما تحصل به الطّهارة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ الماء المطلق رافع للحدث مزيل للخبث ، لقول اللّه تعالى : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } .
ولحديث أسماء رضي الله تعالى عنها قالت : » جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة ، كيف تصنع به ؟ قال : تحتّه ثمّ تقرصه بالماء، ثمّ تنضحه ، ثمّ تصلّي فيه « .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يجوز تطهير النّجاسة بالماء المطلق ، وبكلّ مائع طاهر قالع ، كالخلّ وماء الورد ونحوه ممّا إذا عصر انعصر ، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت : ما كان لإحدانا إلاّ ثوب واحد تحيض فيه ، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها ، فقصعته بظفرها - أي حكّته - .
ولأنّه مزيل بطبعه ، فوجب أن يفيد الطّهارة كالماء بل أولى ، لأنّه أقلع لها ، ولأنّا نشاهد ونعلم بالضّرورة أنّ المائع يزيل شيئاً من النّجاسة في كلّ مرّة ، ولهذا يتغيّر لون الماء به ، والنّجاسة متناهية ، لأنّها مركّبة من جواهر متناهية ، فإذا انتهت أجزاؤها بقي المحلّ طاهراً لعدم المجاورة .
واتّفق الفقهاء على طهارة الخمر بالاستحالة ، فإذا انقلبت الخمر خلاً بنفسها فإنّها تطهر ، لأنّ نجاستها لشدّتها المسكرة الحادثة لها ، وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها ، فوجب أن تطهر ، كالماء الّذي تنجّس بالتّغيّر إذا زال تغيّره بنفسه .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ جلد الميتة يطهر بالدّباغة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إذا دبغ الإهاب فقد طهر « .
وقال المالكيّة والحنابلة بعدم طهارة جلد الميتة بالدّباغ .
لما روي عن عبد اللّه بن عكيم قال : » أتانا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - بأرض جهينة ، قال : وأنا غلام - قبل وفاته بشهر أو شهرين : أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب « .
وعدّ الحنفيّة من المطهّرات : الدّلك ، والفرك ، والمسح ، واليبس ، وانقلاب العين ، فيطهر الخفّ والنّعل إذا تنجّس بذي جرم بالدّلك ، والمنيّ اليابس بالفرك ، ويطهر الصّقيل كالسّيف والمرآة بالمسح ، والأرض المتنجّسة باليبس ، والخنزير والحمار بانقلاب العين ، كما لو وقعا في المملحة فصارا ملحاً .
المياه الّتي يجوز التّطهير بها ، والّتي لا يجوز :
10 - قسّم الفقهاء الماء من حيث جواز التّطهير به ورفعه للحدث والخبث ، أو عدم ذلك ، إلى عدّة أقسام :
أ - ماء طاهر مطهّر غير مكروه ، وهو الماء المطلق ، وهو الماء الباقي على خلقته ، أو هو الّذي لم يخالطه ما يصير به مقيّداً .
والماء المطلق يرفع الحدث والخبث باتّفاق الفقهاء . ويلحق به عند جمهور الفقهاء ما تغيّر بطول مكثه ، أو بما هو متولّد منه كالطّحلب .
ب - ماء طاهر مطهّر مكروه ، وخصّ كلّ مذهب هذا القسم بنوع من المياه : فخصّ الحنفيّة ذلك بالماء الّذي شرب منه حيوان مثل الهرّة الأهليّة والدّجاجة المخلاة وسباع الطّير والحيّة والفأرة ، وكان قليلاً ، والكراهة تنزيهيّة على الأصحّ ، وهو ما ذهب إليه الكرخيّ معلّلاً ذلك بعدم تحاميها النّجاسة ، ثمّ إنّ الكراهة إنّما هي عند وجود المطلق ، وإلاّ فلا كراهة أصلاً .
وصرّح المالكيّة بأنّ الماء إذا استعمل في رفع حدث أو في إزالة حكم خبث فإنّه يكره استعماله بعد ذلك في طهارة حدث كوضوء أو اغتسال مندوب لا في إزالة حكم خبث ، والكراهة مقيّدة بأمرين : أن يكون ذلك الماء المستعمل قليلاً كآنية الوضوء والغسل ، وأن يوجد غيره ، وإلاّ فلا كراهة ، كما يكره عندهم الماء اليسير - وهو ما كان قدر آنية الوضوء أو الغسل فما دونها - إذا حلّت فيه نجاسة قليلة كالقطرة ولم تغيّره ، قال الدّسوقيّ: الكراهة مقيّدة بقيود سبعة : أن يكون الماء الّذي حلّت فيه النّجاسة يسيراً ، وأن تكون النّجاسة الّتي حلّت فيه قطرة فما فوقها ، وأن لا تغيّره ، وأن يوجد غيره ، وأن لا يكون له مادّة كبئر ، وأن لا يكون جارياً ، وأن يراد استعماله فيما يتوقّف على طهور ، كرفع حدث حكم خبث ووضوء أو غسل مندوب ، فإن انتفى قيد منها فلا كراهة .
ومن المكروه أيضاً : الماء اليسير الّذي ولغ فيه كلب ولو تحقّقت سلامة فيه من النّجاسة ، وسؤر شارب الخمر .
وعند الشّافعيّة الماء المكروه ثمانية : المشمّس ، وشديد الحرارة ، وشديد البرودة ، وماء ديار ثمود إلاّ بئر النّاقة ، وماء ديار قوم لوط ، وماء بئر برهوت ، وماء أرض بابل ، وماء بئر ذروان .
والمكروه عند الحنابلة : الماء المتغيّر بغير ممازج ، كدهن وقطران وقطع كافور ، أو ماء سخّن بمغصوب أو بنجاسة ، أو الماء الّذي اشتدّ حرّه أو برده ، والكراهة مقيّدة بعدم الاحتياج إليه ، فإن احتيج إليه تعيّن وزالت الكراهة .
وكذا يكره استعمال ماء البئر الّذي في المقبرة ، وماء في بئر في موضع غصب ، وما ظنّ تنجّسه ، كما نصّوا على كراهة استعمال ماء زمزم في إزالة النّجاسة دون طهارة الحدث تشريفاً له .(/2)
ج - ماء طاهر في نفسه غير مطهّر ، وهو عند الحنفيّة الماء المستعمل ، وعرّفوه بأنّه : ما أزيل به حدث أو استعمل في البدن على وجه القربة ، ولا يجوز استعماله في طهارة الأحداث ، بخلاف الخبث ، ويصير مستعملاً عندهم بمجرّد انفصاله عن الجسد ولو لم يستقرّ بمحلّ .
وعند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - هو : الماء المغيّر طعمه أو لونه أو ريحه بما خالطه من الأعيان الطّاهرة تغيّراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه ، وهو كذلك عند الشّافعيّة : الماء المستعمل في فرض الطّهارة ونفلها على الجديد .
وصرّح جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - بأنّ هذا النّوع لا يرفع حكم الخبث أيضاً ، وعند الحنفيّة يرفع حكم الخبث .
د - ماء نجس ، وهو : الماء الّذي وقعت فيه نجاسة وكان قليلاً ، أو كان كثيراً وغيّرته ، وهذا لا يرفع الحدث ولا النّجس بالاتّفاق .
هـ - ماء مشكوك في طهوريّته ، وانفرد بهذا القسم الحنفيّة ، وهو عندهم : ما شرب منه بغل أو حمار .
و - ماء محرّم لا تصحّ الطّهارة به ، وانفرد به الحنابلة ، وهو عندهم : ماء آبار ديار ثمود - غير بئر النّاقة - والماء المغصوب ، وماء ثمنه المعيّن حرام .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( مياه ) .
تطهير محلّ النّجاسة :
11 - اختلف الفقهاء في ما يحصل به طهارة محلّ النّجاسة :
فذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين النّجاسة المرئيّة وغير المرئيّة .
فإذا كانت النّجاسة مرئيّةً فإنّه يطهر المحلّ المتنجّس بها بزوال عينها ولو بغسلة واحدة على الصّحيح ولو كانت النّجاسة غليظةً ، ولا يشترط تكرار الغسل ، لأنّ النّجاسة فيه باعتبار عينها ، فتزول بزوالها .
وعن أبي جعفر : أنّه يغسل مرّتين بعد زوال العين ، وعن فخر الإسلام : ثلاثاً بعده ، ويشترط زوال الطّعم في النّجاسة ، لأنّ بقاءه يدلّ على بقاء العين ، ولا يضرّ بقاء لون النّجاسة الّذي يشقّ زواله ، وكذا الرّيح وإن لم يشقّ زواله .
وهذا الحكم فيما إذا صبّ الماء على النّجاسة ، أو غسلها في الماء الجاري .
أمّا لو غسلها في إجّانة فيطهر بالثّلاث إذا عصر في كلّ مرّة .
وإذا كانت النّجاسة غير مرئيّة فإنّه يطهر المحلّ بغسلها ثلاثاً وجوباً ، والعصر كلّ مرّة في ظاهر الرّواية ، تقديراً لغلبة الظّنّ في استخراجها .
قال الطّحاويّ : ويبالغ في المرّة الثّالثة حتّى ينقطع التّقاطر ، والمعتبر قوّة كلّ عاصر دون غيره ، فلو كان بحيث لو عصر غيره قطّر طهر بالنّسبة إليه دون ذلك الغير ، ولو لم يصرف قوّته لرقّة الثّوب قيل : يطهر للضّرورة . وهو الأظهر ، وقيل : لا يطهر وهو اختيار قاضي خان .
وفي رواية : يكتفى بالعصر مرّةً .
ثمّ إنّ اشتراط الغسل والعصر ثلاثاً إنّما هو إذا غمسه في إجّانة ، أمّا إذا غمسه في ماء جار حتّى جرى عليه الماء أو صبّ عليه ماء كثير ، بحيث يخرج ما أصابه من الماء ويخلف غيره ثلاثاً ، فقد طهر مطلقاً بلا اشتراط عصر وتكرار غمس .
ويقصد بالنّجاسة المرئيّة عندهم : ما يرى بعد الجفاف ، وغير المرئيّة : ما لا يرى بعده . وذهب المالكيّة إلى أنّه يطهر محلّ النّجاسة بغسله من غير تحديد عدد ، بشرط زوال طعم النّجاسة ولو عسر ، لأنّ بقاء الطّعم دليل على تمكّن النّجاسة من المحلّ فيشترط زواله ، وكذلك يشترط زوال اللّون والرّيح إن تيسّر ذلك ، بخلاف ما إذا تعسّر .
وذهب الشّافعيّة إلى التّفريق بين أن تكون النّجاسة عيناً أو ليست بعين .
فإن كانت النّجاسة عيناً فإنّه يجب إزالة الطّعم ، ومحاولة إزالة اللّون والرّيح ، فإن عسر زوال الطّعم ، بأن لم يزل بحتّ أو قرص ثلاث مرّات عفي عنه ما دام العسر ، ويجب إزالته إذا قدر ، ولا يضرّ بقاء لون أو ريح عسر زواله فيعفى عنه ، فإن بقيا معاً ضرّ على الصّحيح ، لقوّة دلالتهما على بقاء عين النّجاسة .
وإن لم تكن النّجاسة عيناً - وهي ما لا يدرك لها عين ولا وصف ، سواء أكان عدم الإدراك لخفاء أثرها بالجفاف ، كبول جفّ فذهبت عينه ولا أثر له ولا ريح ، فذهب وصفه ، أم لا ، لكون المحلّ صقيلاً لا تثبت عليه النّجاسة كالمرآة والسّيف - فإنّه يكفي جري الماء عليه مرّةً ، وإن لم يكن بفعل فاعل كمطر .
وذهب الحنابلة إلى أنّه تطهر المتنجّسات بسبع غسلات منقّية ، لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : أمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً .
وقد أمر به في نجاسة الكلب ، فيلحق به سائر النّجاسات ، لأنّها في معناها ، والحكم لا يختصّ بمورد النّصّ ، بدليل إلحاق البدن والثّوب به .
قال البهوتيّ : فعلى هذا يغسل محلّ الاستنجاء سبعاً كغيره ، صرّح به القاضي والشّيرازيّ وابن عقيل ، ونصّ عليه أحمد في رواية صالح ، لكن نصّ في رواية أبي داود ، واختاره في المغني : أنّه لا يجب فيه عدد ، اعتماداً على أنّه لم يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، لا في قوله ولا فعله .
ويضرّ عندهم بقاء الطّعم ، لدلالته على بقاء العين ولسهولة إزالته ويضرّ كذلك بقاء اللّون أو الرّيح أو هما معاً إن تيسّر إزالتهما ، فإن عسر ذلك لم يضرّ .
وهذا في غير نجاسة الكلب والخنزير ، أمّا نجاستهما فللفقهاء فيها تفصيل آخر سيأتي بيانه .
تطهير ما تصيبه الغسالة قبل طهارة المغسول :
12 - الغسالة المتغيّرة بأحد أوصاف النّجاسة نجسة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إنّ الماء لا ينجّسه شيء إلاّ ما غلب على ريحه ولونه وطعمه « .(/3)
قال الخرشيّ من المالكيّة : سواء كان تغيّرها بالطّعم أو اللّون والرّيح ولو المتعسّرين ، ومن ثمّ ينجس المحلّ الّذي تصيبه الغسالة المتغيّرة ، ويكون تطهيره كتطهير أيّ محلّ متنجّس عند الجمهور .
لكنّ الحنابلة القائلين بأنّه لا يطهر المحلّ المتنجّس إلاّ بغسله سبعاً ، فيغسل عندهم ما نجس ببعض الغسلات بعدد ما بقي بعد تلك الغسلة ، فلو تنجّس بالغسلة الرّابعة مثلاً غسل ثلاث غسلات لأنّها نجاسة تطهر في محلّها بما بقي من الغسلات ، فطهرت به في مثله .
وصرّح المالكيّة بأنّ الغسالة غير المتغيّرة طاهرة ، قال الدّردير : لو غسلت قطرة بول مثلاً في جسد أو ثوب وسالت غير متغيّرة في سائره ولم تنفصل عنه كان طاهراً .
وعند الشّافعيّة : الغسالة غير المتغيّرة إن كانت قلّتين فطاهرة ، وإن كانت دونهما فثلاثة أقوال عند الشّافعيّة ، أظهرها : أنّ حكمها حكم المحلّ بعد الغسل ، إن كان نجساً بعد فنجسة، وإلاّ فطاهرة غير مطهّرة ، وهو مذهب الشّافعيّ الجديد .
وعند الحنابلة : إن غسلت بالطّهور نجاسة فانفصل متغيّراً بها ، أو انفصل غير متغيّر قبل زوال النّجاسة ، كالمنفصل من الغسلة السّادسة فما دونها وهو يسير فنجس ، لأنّه ملاق لنجاسة لم يطهّرها .
وإن انفصل القليل غير متغيّر بعد زوال النّجاسة ، كالمنفصل عن محلّ طهر أرضاً كان المحلّ أو غيرها ، فطهور إن كان قلّتين فأكثر ، وإن كان دون قلّتين فطاهر .
تطهير الآبار :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر ، فإنّ تطهيره يكون بالتّكثير إلى أن يزول التّغيّر ، ويكون التّكثير بالتّرك حتّى يزيد الماء ويصل إلى حدّ الكثرة ، أو بصبّ ماء طاهر فيه حتّى يصل هذا الحدّ .
كما ذهب المالكيّة والحنابلة إلى اعتبار النّزح طريقاً للتّطهير أيضاً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ تطهيره يكون بالنّزح فقط .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( آبار ف 21 وما بعدها ) .
الوضوء والاغتسال في موضع نجس :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الوضوء والاغتسال في موضع نجس مكروه خشية أن يتنجّس به المتوضّئ أو المغتسل ، وتوقّي ذلك كلّه أولى ، ولأنّه يورث الوسوسة ففي الحديث : » لا يبولن أحدكم في مستحمّه ، ثمّ يغتسل أو يتوضّأ فيه ، فإنّ عامّة الوسواس منه « .
تطهير الجامدات والمائعات :
15 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا وقعت النّجاسة في جامد ، كالسّمن الجامد ونحوه ، فإنّ تطهيره يكون برفع النّجاسة وتقوير ما حولها وطرحه ، ويكون الباقي طاهراً ، لما روت ميمونة رضي الله تعالى عنها : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال : ألقوها ، وما حولها فاطرحوه ، وكلوا سمنكم « .
وإذا وقعت النّجاسة في مائع فإنّه ينجّس ، ولا يطهر عند جمهور الفقهاء ، ويراق ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السّمن فقال : » إن كان جامداً فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه « وفي رواية: » وإن كان مائعاً فأريقوه « .
وذهب الحنفيّة إلى إمكان تطهيره بالغلي ، وذلك بأن يوضع في ماء ويغلي ، فيعلو الدّهن الماء ، فيرفع بشيء ، وهكذا ثلاث مرّات .
قال ابن عابدين : وهذا عند أبي يوسف ، وهو أوسع وعليه الفتوى ، خلافاً لمحمّد .
وقريب منه ما اختاره أبو الخطّاب من الحنابلة : أنّ ما يتأتّى تطهيره بالغلي - كالزّيت - يطهر به كالجامد ، وطريقة ذلك : جعله في ماء كثير يخاض فيه ، حتّى يصيب الماء جميع أجزائه ، ثمّ يترك حتّى يعلو على الماء ، فيؤخذ .
وعند الحنابلة ، كما قاله ابن قدامة : لا يطهر غير الماء من المائعات بالتّطهير في قول القاضي وابن عقيل ، قال ابن عقيل : إلاّ الزّئبق ، فإنّه لقوّته وتماسكه يجري مجرى الجامد. واستدلّ ابن قدامة بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن السّمن إذا وقعت فيه الفأرة ، فقال : » إن كان مائعاً فلا تقربوه ، ولو كان إلى تطهيره طريق لم يأمر بإراقته « .
تطهير المياه النّجسة :
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ تطهير المياه النّجسة يكون بصبّ الماء عليها ومكاثرتها حتّى يزول التّغيّر .
ولو زال التّغيّر بنفسه ، أو بنزح بعضه ، فعند المالكيّة قولان ، قيل : إنّ الماء يعود طهوراً، وقيل : باستمرار نجاسته ، وهذا هو الأرجح .
قال الدّسوقيّ : لأنّ النّجاسة لا تزال إلاّ بالماء المطلق ، وليس حاصلاً ، وحينئذ فيستمرّ بقاء النّجاسة .
ومحلّ القولين في الماء الكثير الّذي زال تغيّره بنفسه أو بنزح بعضه ، أمّا القليل فإنّه باق على تنجّسه بلا خلاف .
كما يطهر الماء النّجس عند المالكيّة لو زال تغيّره بإضافة طاهر ، وبإلقاء طين أو تراب إن زال أثرهما ، أي لم يوجد شيء من أوصافهما فيما ألقيا فيه ، أمّا إن وجد فلا يطهر ، لاحتمال بقاء النّجاسة مع بقاء أثرهما .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ الماء إن بلغ قلّتين فإنّه لا ينجس إلاّ إذا غيّرته النّجاسة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث « .
وقوله صلى الله عليه وسلم : » إنّ الماء لا ينجّسه شيء إلاّ ما غلب على ريحه وطعمه ولونه « وتطهيره حينئذ يكون بزوال التّغيّر ، سواء زال التّغيّر بنفسه : كأن زال بطول المكث ، أو بإضافة ماء إليه .(/4)
قال القليوبيّ : وهذا في التّغيّر الحسّيّ ، وأمّا التّقديريّ : كما لو وقع في الماء نجس لا وصف له فيقدّر مخالفاً أشدّ ، كلون الحبر وطعم الخلّ وريح المسك ، فإن غيّره فنجس ، ويعتبر الوصف الموافق للواقع ، ويعرف زوال التّغيّر منه بزوال نظيره من ماء آخر ، أو بضمّ ماء إليه لو ضمّ للمتغيّر حسّاً لزال ، أو بقي زمناً ذكر أهل الخبرة أنّه يزول به الحسّيّ. ولا يطهر الماء إنّ زال التّغيّر بمسك أو زعفران أو خلّ ، للشّكّ في أنّ التّغيّر زال أو استتر، والظّاهر الاستتار ، مثل ذلك زوال التّغيّر بالتّراب والجصّ .
ونصّ الحنابلة على أنّه إن نزح من الماء المتنجّس الكثير ، وبقي بعد المنزوح كثير غير متغيّر ، فإنّه يطهر لزوال علّة تنجّسه ، وهي التّغيّر . وكذا المنزوح الّذي زال مع نزحه التّغيّر طهور إن لم تكن عين النّجاسة فيه .
وإن كان الماء دون القلّتين فإنّه ينجس بملاقاة النّجاسة وإن لم تغيّره ، وتطهيره يكون بإضافة الماء إليه حتّى يبلغ القلّتين ولا تغيّر به ولو كوثر بإيراد طهور فلم يبلغ القلّتين لم يطهر .
والتّفصيل في مصطلح : ( مياه ) .
تطهير الأواني المتّخذة من عظام الميتات :
17 - الآنية المتّخذة من عظم حيوان مأكول اللّحم مذكّىً يحلّ استعمالها .
وأمّا الآنية المتّخذة من حيوان غير مأكول اللّحم ففيها خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( آنية ج 1 ف 10 وما بعدها ) .
تطهير ما كان أملس السّطح :
18 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أصابت النّجاسة شيئاً صقيلاً - كالسّيف والمرآة- فإنّه لا يطهر بالمسح ، ولا بدّ من غسله ، لعموم الأمر بغسل الأنجاس ، والمسح ليس غسلاً .
قال البهوتيّ من الحنابلة : لو قطع بالسّيف المتنجّس ونحوه بعد مسحه وقبل غسله ما فيه بلل كبطّيخ ونحوه نجّسه ، لملاقاة البلل للنّجاسة ، فإن كان ما قطعه به رطباً لا بلل فيه كجبن ونحوه فلا بأس به ، كما لو قطع به يابساً لعدم تعدّي النّجاسة إليه .
قال النّوويّ : لو سقيت سكّينٌ ماءً نجساً ، ثمّ غسلها طهر ظاهرها ، وهل يطهر باطنها بمجرّد الغسل أم لا يطهر حتّى يسقيها مرّةً ثانيةً بماء طهور ؟ وجهان : قطع القاضي حسين والمتولّي بأنّه يجب سقيها مرّةً ثانيةً واختار الشّاشيّ الاكتفاء بالغسل ، وهو المنصوص عن الشّافعيّ .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ ما كان أملس السّطح ، كالسّيف والمرآة ونحوهما ، إن أصابه نجس فإنّ تطهيره يكون بالمسح بحيث يزول أثر النّجاسة ، لأنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا يقتلون الكفّار بسيوفهم ثمّ يمسحونها ويصلّون وهم يحملونها ، ولأنّه لا يتشرّب النّجاسة ، وما على ظاهره يزول بالمسح .
قال الكمال : وعليه فلو كان على ظفره نجاسة فمسحها طهرت .
فإن كان بالصّقيل صدأ يتشرّب معه النّجاسة ، أو كان ذا مسامّ تتشرّبها ، فإنّه لا يطهر إلاّ بالماء .
وذهب المالكيّة إلى أنّ ما كان صلباً صقيلاً ، وكان يخشى فساده بالغسل كالسّيف ونحوه ، فإنّه يعفى عمّا أصابه من الدّم المباح ولو كان كثيراً ، خوفاً من إفساد الغسل له .
قال الدّردير : وسواء مسحه من الدّم أم لا على المعتمد ، أي خلافاً لمن علّله بانتفاء النّجاسة بالمسح .
قال الدّسوقيّ : فهذا التّعليل يقتضي أنّه لا يعفى عمّا أصاب السّيف ونحوه من الدّم المباح إلاّ إذا مسح ، وإلاّ فلا ، وعلى القول الأوّل : لا يعفى عمّا أصاب الظّفر والجسد من الدّم المباح لعدم فسادهما بالغسل ، وعلى القول الثّاني : يعفى عمّا أصابها منه إذا مسح .
وقيّد المالكيّة العفو بأن يكون الدّم مباحاً ، أمّا الدّم العدوان فيجب الغسل منه .
قال الدّسوقيّ : قال العدويّ : والمعتمد أنّ المراد بالمباح غير المحرّم ، فيدخل فيه دم مكروه الأكل إذا ذكّاه بالسّيف ، والمراد : المباح أصالةً ، فلا يضرّ حرمته لعارض كقتل مرتدّ به ، وقتل زان أحصن بغير إذن الإمام .
كما قيّدوا العفو بأن يكون مصقولاً لا خربشة فيه ، وإلاّ فلا عفو .
تطهير الثّوب والبدن من المنيّ :
19 - اختلف الفقهاء في نجاسة المنيّ ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى نجاسته ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه طاهر .
واختلف الحنفيّة والمالكيّة في كيفيّة تطهيره :
فذهب الحنفيّة إلى أنّ تطهير محلّ المنيّ يكون بغسله إن كان رطباً ، وفركه إن كان يابساً ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » كنت أفرك المنيّ من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً ، وأغسله إذا كان رطباً « .
قال ابن الهمام : الظّاهر أنّ ذلك بعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم خصوصاً إذا تكرّر منها مع التفاته صلى الله عليه وسلم إلى طهارة ثوبه وفحصه عن حاله .
ولا فرق في طهارة محلّه بفركه يابساً وغسله طريّاً بين منيّ الرّجل ومنيّ المرأة ، قال ابن عابدين : ويؤيّده ما صحّ عن عائشة رضي الله تعالى عنها : » أنّها كانت تحتّ المنيّ من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي « ، ولا خفاء أنّه كان من جماع ، لأنّ الأنبياء لا تحتلم ، فيلزم اختلاط منيّ المرأة به ، فيدلّ على طهارة منيّها بالفرك بالأثر ، لا بالإلحاق .
كما أنّه لا فرق في ذلك بين الثّوب والبدن على الظّاهر من المذهب .
وذهب المالكيّة إلى أنّ تطهير محلّ المنيّ يكون بالغسل لا غير .
والتّفصيل في مصطلح : ( منيّ ) .
طهارة الأرض بالماء :(/5)
20 - إذا تنجّست الأرض بنجاسة مائعة - كالبول والخمر وغيرهما - فتطهيرها أن تغمر بالماء بحيث يذهب لون النّجاسة وريحها ، وما انفصل عنها غير متغيّر بها فهو طاهر . بهذا قال جمهور الفقهاء ، وذلك لما رواه أنس رضي الله عنه قال : » جاء أعرابيّ فبال في طائفة ناحية من المسجد ، فزجره النّاس فنهاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه « وفي لفظ : » فدعاه فقال : إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، وإنّما هي لذكر اللّه عزّ وجلّ والصّلاة وقراءة القرآن وأمر رجلاً فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه « .
وإنّما أمر بالذّنوب لأنّ ذلك يغمر البول ، ويستهلك فيه البول وإن أصاب الأرض ماء المطر أو السّيول فغمرها وجرى عليها فهو كما لو صبّ عليها ، لأنّ تطهير النّجاسة لا تعتبر فيه نيّة ولا فعل ، فاستوى ما صبّه الآدميّ وما جرى بغير صبّه .
ولا تطهر الأرض حتّى يذهب لون النّجاسة ورائحتها ، ولأنّ بقاءهما دليل على بقاء النّجاسة، فإن كانت ممّا لا يزول لونها إلاّ بمشقّة سقط عنه إزالتها كالثّوب ، وكذا الحكم في الرّائحة .
ويقول الحنفيّة : إذا أصابت النّجاسة أرضاً رخوةً فيصبّ عليها الماء فتطهر ، لأنّها تنشّف الماء ، فيطهر وجه الأرض ، وإن كانت صلبةً يصبّ الماء عليها ، ثمّ تكبس الحفيرة الّتي اجتمع فيها الغسالة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( أرض ف 3 ) .
ما تطهر به الأرض سوى المياه :
21 - ذهب الحنفيّة عدا زفر إلى أنّ الأرض إذا أصابها نجس ، فجفّت بالشّمس أو الهواء أو غيرهما وذهب أثره طهرت وجازت الصّلاة عليها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : » أيّما أرض جفّت فقد ذكت « .
وذهب المالكيّة والحنابلة ، والشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، وزفر من الحنفيّة إلى أنّها لا تطهر بغير الماء ، لأمره صلى الله عليه وسلم أن يصبّ على بول الأعرابيّ ذنوب ماء ، وقوله صلى الله عليه وسلم : » أهريقوا على بوله ذنوباً من ماء ، أو سجلاً من ماء « والأمر يقتضي الوجوب ، ولأنّه محلّ نجس فلم يطهر بغير الغسل .
طهارة النّجاسة بالاستحالة :
22 - اتّفق الفقهاء على طهارة الخمر بالاستحالة ، فإذا انقلبت الخمر خلاً صارت طاهرةً . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تحليل ف 13 ، 14 ) .
واختلف الفقهاء فيما عدا الخمر من نجس العين هل يطهر بالاستحالة أم لا ؟
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يطهر نجس العين بالاستحالة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » نهى عن أكل الجلالة وألبانها « لأكلها النّجاسة ، ولو طهرت بالاستحالة لم ينه عنه .
قال الرّمليّ : ولا يطهر نجس العين بالغسل مطلقاً ، ولا بالاستحالة ، كميتة وقعت في ملاحة فصارت ملحاً ، أو أحرقت فصارت رماداً .
وقال البهوتيّ من الحنابلة : ولا تطهر نجاسة بنار ، فالرّماد من الرّوث النّجس نجس وصابون عمل من زيت نجس نجس ، وكذا لو وقع كلب في ملاحة فصار ملحاً ، أو في صبّانة فصار صابوناً .
لكن نصّ الحنابلة على أنّه إذا تحوّلت العلقة إلى مضغة ، فإنّها تصير طاهرةً بعد أن كانت نجسةً ، وذلك لأنّ نجاستها بصيرورتها علقةً ، فإذا زال ذلك عادت إلى أصلها ، كالماء الكثير المتغيّر بالنّجاسة .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ نجس العين يطهر بالاستحالة ، لأنّ الشّرع رتّب وصف النّجاسة على تلك الحقيقة ، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها ، فكيف بالكلّ ؟ . ونظيره في الشّرع النّطفة نجسة ، وتصير علقةً وهي نجسة ، وتصير مضغةً فتطهر ، والعصير طاهر فيصير خمراً فينجس ، ويصير خلاً فيطهر ، فعرفنا أنّ استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتّب عليها .
ونصّ الحنفيّة على أنّ ما استحالت به النّجاسة بالنّار ، أو زال أثرها بها يطهر .
كما تطهر النّجاسة عندهم بانقلاب العين ، وهو قول محمّد وأبي حنيفة ، وعليه الفتوى ، واختاره أكثر المشايخ ، خلافاً لأبي يوسف .
ومن تفريعات ذلك ما نقله ابن عابدين عن المجتبى أنّه إن جعل الدّهن النّجس في صابون يفتى بطهارته ، لأنّه تغيّر ، والتّغيّر يطهّر عند محمّد ، ويفتى به للبلوى ، وعليه يتفرّع ما لو وقع إنسان أو كلب في قدر الصّابون فصار صابوناً يكون طاهراً لتبدّل الحقيقة .
قال ابن عابدين : العلّة عند محمّد هي التّغيّر وانقلاب الحقيقة ، وإنّه يفتى به للبلوى ، ومقتضاه : عدم اختصاص ذلك الحكم بالصّابون ، فيدخل فيه كلّ ما كان فيه تغيّر وانقلاب حقيقةً ، وكان فيه بلوى عامّة .
كما نصّ المالكيّة على أنّ الخمر إذا تحجّرت فإنّها تطهر ، لزوال الإسكار منها ، وأنّ رماد النّجس طاهر ، لأنّ النّار تطهر .
قال الدّسوقيّ : سواء أكلت النّار النّجاسة أكلاً قويّاً أو لا ، فالخبز المخبوز بالرّوث النّجس طاهر ولو تعلّق به شيء من الرّماد ، وتصحّ الصّلاة قبل غسل الفم من أكله ، ويجوز حمله في الصّلاة .
ما يطهر من الجلود بالدّباغة :
23 - اتّفق الفقهاء على نجاسة جلود ميتة الحيوانات قبل الدّباغ ، واختلفوا في طهارة جلود الميتة بالدّباغة على تفصيل في مصطلح : ( دباغة ج 20 ف 8 وما بعدها ) .
تطهير الخفّ من النّجاسة :(/6)
24 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أصابت أسفل الخفّ أو النّعل نجاسة فإنّ تطهيره يكون بغسله ، ولا يجزئ لو دلكه كالثّوب والبدن ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون النّجاسة رطبةً أو جافّةً ، وعند الشّافعيّة قولان في العفو عن النّجاسة الجافّة إذا دلكت ، أصحّهما : القول الجديد للشّافعيّ ، وهو أنّه لا يجوز حتّى يغسله ، ولا تصحّ الصّلاة به ، والثّاني : يجوز لما روى أبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذىً فليمسحه ، وليصلّ فيهما « .
قال الرّافعيّ : إذا قلنا بالقديم وهو العفو فله شروط :
أحدها : أن يكون للنّجاسة جرم يلتصق بالخفّ ، أمّا البول ونحوه فلا يكفي دلكه بحال . الثّاني : أن يدلكه في حال الجفاف ، وأمّا ما دام رطباً فلا يكفي دلكه قطعاً .
الثّالث : أن يكون حصول النّجاسة بالمشي من غير تعمّد ، فلو تعمّد تلطيخ الخفّ بها وجب الغسل قطعاً .
ونقل البهوتيّ عن الإنصاف أنّ يسير النّجاسة إذا كانت على أسفل الخفّ والحذاء بعد الدّلك يعفى عنه على القول بنجاسته .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه إذا أصاب الخفّ نجاسة لها جرم ، كالرّوث والعذرة ، فجفّت ، فدلكه بالأرض جاز ، والرّطب وما لا جرم له كالخمر والبول لا يجوز فيه إلاّ الغسل ، وقال أبو يوسف : يجزئ المسح فيهما إلاّ البول والخمر ، وقال محمّد : لا يجوز فيهما إلاّ الغسل كالثّوب .
ولأبي يوسف إطلاق قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إذا أصاب خفّ أحدكم أو نعله أذىً فليدلكهما في الأرض ، وليصلّ فيهما ، فإنّ ذلك طهور لهما « من غير فصل بين الرّطب واليابس ، والمتجسّد وغيره ، وللضّرورة العامّة .
ولأبي حنيفة هذا الحديث . إلاّ أنّ الرّطب إذا مسح بالأرض يتلطّخ به الخفّ أكثر ممّا كان ، فلا يطهّره بخلاف اليابس ، لأنّ الخفّ لا يتداخله إلاّ شيء يسير وهو معفوّ عنه ، ولا كذلك البول والخمر لأنّه ليس فيه ما يجتذب مثل ما على الخفّ ، فيبقى على حاله ، حتّى لو لصق عليه طين رطب فجفّ ، ثمّ دلكه جاز ، كالّذي له جرم ، وبخلاف الثّوب لأنّه متخلّل فتتداخله أجزاء النّجاسة ، فلا تزول بالمسح ، فيجب الغسل .
ولمحمّد القياس على الثّوب والبساط ، بجامع أنّ النّجاسة تداخلت في الخفّ تداخلها فيهما . قال الكمال : وعلى قول أبي يوسف أكثر المشايخ ، وهو المختار لعموم البلوى .
وقال السّرخسيّ عن قول أبي يوسف : وهو صحيح ، وعليه الفتوى للضّرورة .
وفرّق المالكيّة بين أرواث الدّوابّ وأبوالها وبين غيرها من النّجاسات ، فإذا أصاب الخفّ شيء من روث الدّوابّ وأبوالها فإنّه يعفى عنه إن دلك بتراب أو حجر أو نحوه حتّى زالت العين ، وكذا إن جفّت النّجاسة بحيث لم يبق شيء يخرجه الغسل سوى الحكم .
وقيّد بعضهم العفو بأن تكون إصابة الخفّ أو النّعل بالنّجاسة بموضع يطرقه الدّوابّ كثيراً - كالطّرق - لمشقّة الاحتراز عنه .
قال الدّسوقيّ نقلاً عن البنانيّ : وهذا القيد نقله في التّوضيح ، والظّاهر اعتباره ، وفي كلام ابن الحاجب إشارة إليه لتعليله بالمشقّة ، كما ذكر خليل أنّ العفو إنّما هو لعسر الاحتراز ، وعلى هذا فلا يعفى عمّا أصاب الخفّ والنّعل من أرواث الدّوابّ بموضع لا تطرقه الدّوابّ كثيراً ولو دلكاً .
وإن أصاب الخفّ أو النّعل شيء من النّجاسات غير أرواث الدّوابّ وأبوالها ، كخرء الكلاب أو فضلة الآدميّ أو دم ، فإنّه لا يعفى عنه ، ولا بدّ من غسله .
قال الحطّاب نقلاً عن ابن العربيّ : والعلّة ندور ذلك في الطّرقات ، فإن كثر ذلك فيها صار كروث الدّوابّ .
تطهير ما تصيبه النّجاسة من ملابس النّساء في الطّرق :
25 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تنجّس ذيل ثوب المرأة فإنّه يجب غسله كالبدن ، ولا يطهّره ما بعده من الأرض .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يعفى عمّا يصيب ذيل ثوب المرأة اليابس من النّجاسة إذا مرّت بعد الإصابة على موضع طاهر يابس ، سواء كان أرضاً أو غيره .
وقيّدوا هذا العفو بعدّة قيود هي :
أ - أن يكون الذّيل يابساً وقد أطالته للسّتر ، لا للزّينة والخيلاء .
قال الدّسوقيّ : من المعلوم أنّه لا تطيله للسّتر إلاّ إذا كانت غير لابسة لخفّ أو جورب ، فعلى هذا لو كانت لابسةً لهما فلا عفو ، كان ذلك من زيّها أم لا .
ب - وأن تكون النّجاسة الّتي أصابت ذيل الثّوب مخفّفة جافّة ، فإن كانت رطبةً فإنّه يجب الغسل ، إلاّ أن يكون معفوّاً عنه كالطّين .
ج - وأن يكون الموضع الّذي تمرّ عليه بعد الإصابة طاهراً يابساً .
التّطهير من بول الغلام وبول الجارية :
26 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّطهير من بول الغلام وبول الجارية الصّغيرين أكلا أو لا ، يكون بغسله لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » استنزهوا من البول « .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجزئ في التّطهير من بول الغلام الّذي لم يطعم الطّعام النّضح ، ويكون برشّ الماء على المكان المصاب وغمره به بلا سيلان ، فقد روت أمّ قيس بنت محصن رضي الله عنها : » أنّها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطّعام إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأجلسه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجره ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء فنضحه ، ولم يغسله « .(/7)
أمّا بول الجارية الصّغيرة فلا يجزئ في تطهيره النّضح ، ولا بدّ فيه من الغسل ، لخبر التّرمذيّ : » ينضح بول الغلام ، ويغسل بول الجارية « ، وفرّق بينهما : بأنّ الائتلاف بحمل الصّبيّ يكثر ، فيخفّف في بوله ، وبأنّ بوله أرقّ من بولها ، فلا يلصق بالمحلّ كلصق بولها به .
قال أحمد : الصّبيّ إذا طعم الطّعام وأراده واشتهاه غسل بوله ، وليس إذا طعم ، لأنّه قد يلعق العسل ، وما يطعمه لغذائه وهو يريده ويشتهيه يوجب الغسل .
( ر : أنوثة ف 16 ) .
تطهير أواني الخمر :
27 - الأصل في تطهير أواني الخمر هو غسلها ، بهذا قال الحنفيّة والمالكيّة في الصّحيح عندهم والشّافعيّة والشّيخ أبو الفرج المقدسيّ الحنبليّ فيما كان مزفّتاً من الآنية .
وفي هذا يقول الحنفيّة : تطهر بغسلها ثلاثاً بحيث لا تبقى فيها رائحة الخمر ولا أثرها ، فإن بقيت رائحتها لا يجوز أن يجعل فيها من المائعات سوى الخلّ ، لأنّه بجعله فيها تطهر وإن لم تغسل ، لأنّ ما فيها من الخمر يتخلّل بالخلّ .
وفي الخلاصة : الكوز إذا كان فيه خمر تطهيره أن يجعل فيه الماء ثلاث مرّات ، كلّ مرّة ساعةً ، وإن كان جديداً عند أبي يوسف يطهر ، وعند محمّد لا يطهر أبداً .
ويقول الشّافعيّة : تطهر بغسلها مرّةً واحدةً إذا زال أثر النّجاسة ، ويندب غسلها ثلاث مرّات، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها ثلاثاً ، فإنّه لا يدري أين باتت يده « .
فندب إلى الثّلاث للشّكّ في النّجاسة ، فدلّ على أنّ ذلك يستحبّ إذا تيقّن ويجوز الاقتصار على الغسل مرّةً واحدةً .
والغسل الواجب في ذلك : أن يكاثر بالماء حتّى تستهلك النّجاسة .
وعند المالكيّة ، كما جاء في القوانين الفقهيّة : في طهارة الفخّار من نجس غوّاص كالخمر قولان ، قال الموّاق نقلاً عن النّوادر في أواني الخمر : تغسل وينتفع بها ، ولا تضرّها الرّائحة . وتطهر أوانيه إذا تحجّرت الخمر فيها أو خلّلت ، ويطهر إناؤها تبعاً لها ولو فخّاراً بغوّاص .
ويقول الحنابلة : إذا كان في الإناء خمر يتشرّبها الإناء ، ثمّ متى جعل فيه مائع ، سواء ظهر فيه طعم الخمر أو لونه ، لم يطهر بالغسل ، لأنّ الغسل لا يستأصل أجزاءه من جسم الإناء ، فلم يطهّره كالسّمسم إذا ابتلّ بالنّجاسة ، قال أبو الفرج المقدسيّ : آنية الخمر منها المزفّت ، فتطهر بالغسل ، لأنّ الزّفت يمنع وصول النّجاسة إلى جسم الإناء ، ومنها ما ليس بمزفّت ، فيتشرّب أجزاء النّجاسة ، فلا يطهر بالتّطهير ، فإنّه متى ترك فيه مائع ظهر فيه طعم الخمر ولونه .
تطهير آنية الكفّار وملابسهم :
28 - يقول الحنفيّة في آنية الكفّار : إنّها طاهرة لأنّ سؤرهم طاهر ، لأنّ المختلط به اللّعاب، وقد تولّد من لحم طاهر ، فيكون طاهراً ، فقد روي : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا مشركين « .
ولو كان عين المشرك نجساً لما فعل ذلك : ولا يعارض بقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } لأنّ المراد به النّجس في العقيدة ، فمتى تنجّست أوانيهم فإنّه يجري عليها ما يجري على ما تنجّس من أواني المسلمين من غسل وغيره ، إذ لهم ما لنا وعليهم ما علينا وثيابهم طاهرة ، ولا يكره منها إلاّ السّراويل المتّصلة بأبدانهم لاستحلالهم الخمر ، ولا يتّقونها كما لا يتوقّون النّجاسة والتّنزّه عنها ، فلو أمن ذلك بالنّسبة لها وكان التّأكّد من طهارتها قائماً ، فإنّه يباح لبسها ، وإذا تنجّست جرى عليها ما يجري على تطهير ملابس المسلمين عندما تصيبها نجاسة ، سواء بالغسل أو غيره .
وكره الشّافعيّة استعمال أوانيهم وثيابهم لما روى أبو ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول اللّه إنّا بأرض أهل الكتاب ، ونأكل في آنيتهم فقال : » لا تأكلوا في آنيتهم إلاّ أن لا تجدوا بدّاً ، فإن لم تجدوا بدّاً فاغسلوها وكلوا فيها « . ولأنّهم لا يتجنّبون النّجاسة فكره لذلك .
فإن توضّأ من أوانيهم نظرت : فإن كانوا ممّن لا يتديّنون باستعمال النّجاسة صحّ الوضوء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ من مزادة مشركة .
وتوضّأ عمر رضي الله عنه من جرّة نصرانيّ ، ولأنّ الأصل في أوانيهم الطّهارة .
وإن كانوا ممّن يتديّنون باستعمال النّجاسة ففيه وجهان :
أحدهما : أنّه يصحّ الوضوء لأنّ الأصل في أوانيهم الطّهارة ، والثّاني : لا يصحّ لأنّهم يتديّنون باستعمال النّجاسة كما يتديّن المسلمون بالماء الطّاهر ، فالظّاهر من أوانيهم وثيابهم النّجاسة .
وأجاز المالكيّة استعمال أوانيهم إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها ، وصرّح القرافيّ في الفروق بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب والمسلمون الّذين لا يصلّون ولا يستنجون ولا يتحرّزون من النّجاسات من الأطعمة وغيرها محمول على الطّهارة ، وإن كان الغالب عليه النّجاسة ، فإذا تنجّست أوانيهم فإنّها تطهر بزوال تلك النّجاسة بالغسل بالماء أو بغيره ممّا له صفة الطّهوريّة .
وكذلك الحال بالنّسبة لملابسهم ، فإنّ الأصل فيها الطّهارة ما لم يصبها النّجس ، ولذا لا يصلّى في ملابسهم أي ما يلبسونه ، لأنّ الغالب نجاستها ، فحمل عليها عند الشّكّ ، أمّا إن علمت أو ظنّت طهارتها فإنّه يجوز أن يصلّى فيها .(/8)
ويقول الحنابلة في ثيابهم وأوانيهم : إنّها طاهرة مباحة الاستعمال ما لم تعلم نجاستها ، وأضافوا : إنّ الكفّار على ضربين - أهل الكتاب وغيرهم - فأمّا أهل الكتاب فيباح أكل طعامهم وشرابهم واستعمال آنيتهم ما لم تعلم نجاستها ، قال ابن عقيل : لا تختلف الرّواية في أنّه لا يحرم استعمال أوانيهم ، لقول اللّه تبارك وتعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } .
وعن عبد اللّه بن مغفّل رضي الله عنه قال : » أصبت جراباً من شحم يوم خيبر ، قال فالتزمته ، فقلت : واللّه لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً . قال : فالتفتّ فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متبسّماً « . وروي : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ بخبز وإهالة سنخة « ، وتوضّأ عمر من جرّة نصرانيّة .
وأمّا غير أهل الكتاب - وهم المجوس وعبدة الأوثان ونحوهم - ومن يأكل لحم الخنزير من أهل الكتاب في موضع يمكنهم أكله ، أو يأكل الميتة ، أو يذبح بالسّنّ والظّفر فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذّمّة عملاً بالأصل ، وأمّا أوانيهم فقال أبو الخطّاب : حكمها حكم أواني أهل الكتاب ، يباح استعمالها ما لم يتحقّق نجاستها ، » لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضّئوا من مزادة مشركة « .
ولأنّ الأصل الطّهارة ، فلا تزول بالشّكّ .
وقال القاضي : هي نجسة ، لا يستعمل ما استعملوه منها إلاّ بعد غسله ، لحديث أبي ثعلبة المتقدّم ، ولأنّ أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم ، وذبائحهم ميتة ، فتتنجّس بها وهذا ظاهر كلام أحمد ، فإنّه قال في المجوس : لا يؤكل من طعامهم إلاّ الفاكهة ، لأنّ الظّاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم ، ومتى شكّ في الإناء هل استعملوه أم لا ؟ فهو طاهر ، لأنّ الأصل طهارته .
تطهير المصبوغ بنجس :
29 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المصبوغ بنجس يطهر بغسله ، إلاّ أنّ الحنفيّة يقولون : يغسل حتّى يصير الماء صافياً ، وقيل : يغسل بعد ذلك ثلاث مرّات .
ويقول المالكيّة : يطهر بغسله حتّى يزول طعم النّجس ، ومتى زال طعمه فقد طهر ولو بقي شيء من لونه وريحه .
ويقول الشّافعيّة : يغسل حتّى ينفصل النّجس منه ولم يزد المصبوغ وزناً بعد الغسل على وزنه قبل الصّبغ ، وإن بقي اللّون لعسر زواله ، فإن زاد وزنه ضرّ ، فإن لم ينفصل عنه لتعقّده به لم يطهر ، لبقاء النّجاسة فيه .
ويقول الحنابلة : يطهر بغسله وإن بقي اللّون لقوله عليه الصلاة والسلام في الدّم : » ولا يضرّك أثره « .
رماد النّجس المحترق بالنّار :
30 - المعتمد عند المالكيّة والمختار للفتوى ، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة وبه يفتى ، والحنابلة في غير الظّاهر : أنّ رماد النّجس المحترق بالنّار طاهر ، فيطهر بالنّار الوقود المتنجّس والسّرقين والعذرة تحترق فتصير رماداً تطهر ، ويطهر ما تخلّف عنها . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( رماد ج 23 ، ف 3 ) .
تطهير ما يتشرّب النّجاسة :
31 - اختلف الفقهاء في اللّحم الّذي طبخ بنجس ، هل يطهر أم لا ؟
فذهب الحنفيّة – عدا أبي يوسف – والحنابلة إلى أنّ اللّحم الّذي طبخ بنجس لا يمكن تطهيره، قال ابن عابدين نقلاً عن الخانيّة : إذا صبّ الطّبّاخ في القدر مكان الخلّ خمراً غلطاً، فالكلّ نجس لا يطهر أبداً ، وما روي عن أبي يوسف أنّه يغلى ثلاثاً لا يؤخذ به . وذهب المالكيّة إلى أنّ اللّحم الّذي طبخ بنجس من ماء ، أو وقعت فيه نجاسة حال طبخه قبل نضجه ، فإنّه لا يقبل التّطهير ، أمّا إن وقعت فيه نجاسة بعد نضجه فإنّه يقبل التّطهير ، وذلك بأن يغسل ما تعلّق به من المرق .
وقيّد الدّسوقيّ ذلك بما إذا لم تطل إقامة النّجاسة فيه ، بحيث يظنّ أنّها سرت فيه ، وإلاّ فلا يقبل التّطهير .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ اللّحم الّذي طبخ بنجس يمكن تطهيره ، وفي كيفيّة طهارته وجهان : أحدهما : يغسل ثمّ يعصر كالبساط ، الثّاني : يشترط أن يغلي بماء طهور .
وقطع القاضي حسين والمتولّي بوجوب السّقي مرّةً ثانيةً والغلي ، واختار الشّاشيّ الاكتفاء بالغسل .
واختلف الفقهاء أيضاً في الفخّار الّذي يتشرّب النّجاسة ، هل يطهر أم لا ؟
فذهب المالكيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ الفخّار الّذي يتشرّب النّجاسة لا يطهر . ونقل الدّسوقيّ عن البنانيّ أنّ الفخّار البالي إذا حلّت فيه نجاسة غوّاصة يقبل التّطهير ، والّذي لا يقبل التّطهير هو الفخّار الّذي لم يستعمل قبل حلول الغوّاص فيه ، أو استعمل قليلاً، قال الدّسوقيّ : وهو أولى .
وصرّح المالكيّة بأنّ مثل الفخّار أواني الخشب الّذي يمكن سريان النّجاسة إلى داخله . وذهب أبو يوسف إلى أنّه يمكن تطهير الخزف الّذي يتشرّب النّجاسة ، وذلك بأن ينقع في الماء ثلاثاً ، ويجفّف كلّ مرّة .
قال ابن عابدين : قول محمّد أقيس ، وقول أبي يوسف أوسع .
ونصّ الحنابلة على أنّه لا يطهر باطن حبّ تشرّب النّجاسة .
وعند الحنفيّة : لو طبخت الحنطة في الخمر ، قال أبو يوسف : تطبخ ثلاثاً بالماء وتجفّف في كلّ مرّة ، وقال أبو حنيفة : إذا طبخت في الخمر لا تطهر أبداً ، وبه يفتى ، إلاّ إذا صبّ فيه الخلّ ، وترك حتّى صار الكلّ خلاً .
ونصّ المالكيّة على أنّ الزّيتون الّذي ملّح بنجس ، بأن جعل عليه ملح نجس يصلحه ، إمّا وحده أو مع ماء لا يقبل التّطهير ، أمّا لو طرأت عليه النّجاسة بعد تمليحه واستوائه ، فإنّه يقبل التّطهير ، وذلك بغسله بالماء المطلق .(/9)
قال الدّسوقيّ : ومثل ذلك يقال في الجبن واللّيمون والنّارنج والبصل والجزر الّذي يتخلّل ، ومحلّ عدم الضّرر إذا لم تمكث النّجاسة مدّةً يظنّ أنّها سرت فيه ، وإلاّ فلا يقبل التّطهير . كما نصّ المالكيّة على أنّ البيض الّذي سلق بنجس لا يقبل التّطهير .
قال الدّسوقيّ : ولا فرق بين أن يكون الماء المسلوق فيه متغيّراً بالنّجاسة أم لا .
وقال البنانيّ : الظّاهر - كما قاله بعضهم - أنّ الماء إذا حلّته نجاسة ولم تغيّره ، ثمّ سلق فيه البيض ، فإنّه لا ينجّسه ، حيث إنّ الماء حينئذ طهور ولو قلّ على المشهور .
أمّا لو طرأت على البيض المسلوق نجاسة بعد سلقه واستوائه فإنّه لا يتنجّس ، كما أنّه لو شوي البيض المتنجّس قشره فإنّه لا ينجس .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ اللّبن المختلط بنجاسة جامدة - كالرّوث وعظام الميتة - نجس ، ولا طريق إلى تطهيره لعين النّجاسة .
قال النّوويّ : فإن طبخ فالمذهب - وهو الجديد - أنّه على نجاسته .
أمّا اللّبن غير المختلط بنجاسة جامدة ، بأن نجس بسبب عجنه بماء نجس أو بول ، فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه ، ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتّى يصل الماء إلى جميع أجزائه .
ونصّ الحنابلة على أنّه لا يطهر عجين تنجّس ، لأنّه لا يمكن غسله .(/10)
طَوَاف *
التّعريف :
1 - الطّواف لغةً : الدّوران حول الشّيء ، يقال : طاف حول الكعبة وبها يطوف طوفاً وطوفاناً بفتحتين ، والمطاف : موضع الطّواف .
وتطوّف وطوّف : بمعنى طاف ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أصله يتطوّف ، قلبت التّاء طاءً ثمّ أدغمت .
وفي الاصطلاح : الطّواف : هو الدّوران حول البيت الحرام .
الألفاظ ذات الصّلة :
السّعي :
2 - السّعي في اللّغة : المشي ، وأيضاً القصد إلى الشّيء ، والعدو ، والتّصرّف في الأعمال .
واصطلاحاً : المشي بين الصّفا والمروة .
وقد يطلق على السّعي الطّواف ، والتّطوّف ، كما سبق في الآية : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
أنواع الطّواف :
3 - يتنوّع الطّواف بحسب سبب مشروعيّته إلى سبعة أنواع ، وهي : طواف القدوم ، طواف الزّيارة ، طواف الوداع ، طواف العمرة ، طواف النّذر ، طواف تحيّة المسجد الحرام، طواف التّطوّع .
كذا عدّها الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة .
وعدّها الشّافعيّة ستّةً : طواف القدوم ، طواف الرّكن ، طواف الوداع ، طواف ما يتحلّل به في الفوات ، طواف النّذر ، طواف التّطوّع .
وقولهم " طواف الرّكن " : يشمل طواف ركن الحجّ وركن العمرة ، وقولهم : " طواف التّطوّع " يشمل تحيّة المسجد ، أي المسجد الحرام ، لاعتبار أنّ تحيّة المسجد بالصّلاة تنوب عن الطّواف .
واختصّ مذهب الشّافعيّة بطواف ما يتحلّل به في الفوات ، فإنّه يدخل في العمرة عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ من فاته الحجّ يتحلّل بعمرة عندهم ، ويتحلّل بطواف وسعي وحلق عند الشّافعيّة ، حتّى لو سعى بعد طواف القدوم سقط عنه السّعي ، ولا ينقلب عمله هذا إلى عمرة عند الشّافعيّة .
ولكلّ نوع من هذه الأنواع أحكامه على التّفصيل التّالي :
أوّلاً : طواف القدوم :
4 - ويسمّى طواف القادم ، وطواف الورود ، وطواف التّحيّة ، لأنّه شرع للقادم والوارد من غير مكّة لتحيّة البيت ، ويسمّى أيضاً طواف اللّقاء ، وأوّل عهد بالبيت ، وطواف القدوم سنّة للآفاقيّ القادم إلى مكّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة تحيّة للبيت العتيق ، لذلك يستحبّ البدء به دون تأخير .
وسوّى الشّافعيّة بين داخلي مكّة ، المحرم منهم وغير المحرم في سنّيّة طواف القدوم ، بناءً على مذهبهم في جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن قصده لحاجة غير النّسك .
ولم يجز غيرهم دخول الحرم إلاّ بنسك : يحرم حجّاً أو عمرةً ، لذلك كان طواف القدوم عندهم من مناسك الحجّ خاصّةً ، لأنّ المعتمر يبدأ بطواف العمرة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ طواف القدوم واجب ، من تركه يجب عليه الدّم .
وفي بيان من يجب عليه طواف القدوم ، ودليل الوجوب ، وكيفيّة طواف القدوم ووقته ، ومن يسقط عنه : تفصيل سبق في مصطلح : ( حجّ ف 88 وما بعدها ) .
ثانياً : طواف الإفاضة :
5 - طواف الإفاضة ركن من أركان الحجّ المجمع عليها ، لا يتحلّل الحاجّ بدونه التّحلّل الأكبر ، ولا ينوب عنه شيء ألبتّة ، ويؤدّيه الحاجّ بعد أن يفيض من عرفة ، ويبيت بالمزدلفة ، فيأتي منىً يوم العيد ، فيرمي وينحر ويحلق ، ويأتي مكّة ، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة ، ويسمّى أيضاً طواف الزّيارة ، ويسمّى طواف الفرض ، والرّكن ، لأنّه فرض وركن من أركان الحجّ .
وفي فرضيّة طواف الإفاضة وكيفيّته وعدد أشواطه ، وشروطه الخاصّة به ، ووقته ، وما يسنّ فيه ، وما يترتّب على تأخيره أو تركه : في ذلك كلّه تفصيل سبق في مصطلح : ( حجّ من ف 52 إلى 55 و ف 124 ) .
ثالثاً : طواف الوداع :
6 - ويسمّى طواف الصّدر ، وطواف آخر العهد .
وهو واجب عند الجمهور - الحنفيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة - ومستحبّ عند المالكيّة .
واستدلّ الجمهور على وجوبه بما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أنّه أمر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت « ، إلاّ أنّه خفّف عن المرأة الحائض .
واستدلّ المالكيّة على أنّه مستحبّ ، بأنّه جاز للحائض تركه دون فداء ، ولو وجب لم يجز للحائض تركه .
وفي شروط وجوبه ومن يجب عليه وشروط صحّته ووقته تفصيل سبق في مصطلح : ( حجّ ف 70 إلى 74 ) .
رابعاً : طواف العمرة :
7 - وهو ركن فيها ، وأوّل وقته بعد الإحرام بالعمرة ، ولا آخر له .
وينظر التّفصيل في مصطلح : ( عمرة ) .
خامساً : طواف النّذر :
8 - وهو واجب ، ولا يختصّ بوقت إذا لم يعيّن النّاذر في نذره للطّواف وقتاً .
والتّفصيل في مصطلح : ( نذر ) .
سادساً : طواف تحيّة المسجد الحرام :
9 - وهو مستحبّ لكلّ من دخل المسجد الحرام ، إلاّ إذا كان عليه طواف آخر ، فيقوم مقامه ، كالمعتمر ، فإنّه يطوف طواف فرض العمرة ، ويندرج فيه طواف تحيّة المسجد ، كما ارتفع به طواف القدوم ، وهو أقوى من طواف تحيّة المسجد ، وذلك لأنّ تحيّة هذا المسجد الشّريف هي الطّواف إلاّ إذا كان مانع فحينئذ يصلّي تحيّة المسجد .
سابعاً : طواف التّطوّع :
10 - ومنه طواف تحيّة المسجد الحرام ، وزمنه - كما سبق - عند الدّخول ، أمّا طواف التّطوّع غير طواف التّحيّة ، فلا يختصّ بزمان دون زمان ، ويجوز في أوقات كراهة الصّلاة عند جمهور الفقهاء .
ولا ينبغي له أن يتطوّع ويكون عليه غيره من سائر الفروض .
ويصحّ من كلّ مسلم عاقل مميّز - ولو من الصّغار - إذا كان طاهراً .(/1)
ويلزم بالشّروع فيه وكذا في طواف القدوم والتّحيّة ، أي بمجرّد النّيّة عند الحنفيّة ، على الخلاف في مسألة لزوم إتمام النّافلة بالشّروع فيها .
والتّفصيل في مصطلح : ( شروع ف 5 ) .
أحكام الطّواف العامّة :
ذكر الفقهاء أموراً لا بدّ منها في الطّواف بصفة عامّة ، لكنّهم اختلفوا في عدّها ركناً أو واجباً أو شرطاً على النّحو التّالي :
أوّلاً : حصول الطّائف حول الكعبة العدد المطلوب من الأشواط :
11 - ذهب الفقهاء إلى أنّ على كلّ طائف أن يطوف حول الكعبة العدد المطلوب من الأشواط سواء كان حصوله هذا بفعل نفسه ، أو بفعل غيره ، بأن حمله الغير وطاف به ، وسواء كان قادراً على الطّواف بنفسه فأمر شخصاً أن يحمله في الطّواف أو حمله الآخر بغير أمره ، فإنّ هذا كاف في أداء فرض الطّواف ، وسقوطه عن الذّمّة ، لأنّ الفرض هو حصول الطّواف حول البيت ، وقد حصل .
ثانياً : عدد أشواط الطّواف :
12 - لا خلاف أنّ عدد أشواط الطّواف المطلوبة سبعة ، لكنّ الفقهاء اختلفوا بعد ذلك في ركنيّة السّبعة :
فالجمهور على أنّ الرّكن سبعة أشواط لا يجزئ عن الفرض أقلّ منها .
وقسّم الحنفيّة السّبعة إلى ركن وواجب .
أمّا العدد الرّكن فأكثر هذه السّبعة ، وأمّا الواجب فهو الأقلّ الباقي بعد أكثر الطّواف . واستدلّ الجمهور بقوله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق } فإنّ الآية تفيد التّكثير ، لأنّه عبّر بصيغة التّفعيل ، وقد جاء فعله صلى الله عليه وسلم مبيّناً القدر الّذي يحصل به امتثال قوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا } وهو سبعة أشواط ، فتكون هي الفرض .
كما استدلّوا بأنّ مقادير العبادات لا تعرف بالرّأي والاجتهاد ، وإنّما تعرف بالتّوقيف ، أي التّعليم من الشّارع ، والرّسول صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً ، وفعله هذا بيان لمناسك الحجّ ، كما قال : » خذوا عنّي مناسككم « .
فالفرض طواف سبعة أشواط ولا يعتدّ بما دونها .
واستدلّ الحنفيّة بأدلّة ، منها :
1 - قوله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق } وهذا أمر مطلق عن أيّ قيد ، والأمر المطلق يوجب مرّةً واحدةً ، ولا يقتضي التّكرار ، فالزّيادة على شوط من الطّواف تحتاج إلى دليل آخر ، والدّليل قائم على فرضيّة أكثر السّبع ، وهو الإجماع ، فتكون فرضاً ، ولا إجماع على فرضيّة الباقي ، فلا يكون فرضاً بل واجباً .
2 - أنّ الطّائف قد أتى بأكثر السّبع ، والأكثر يقوم مقام الكلّ ، فكأنّه أدّى الكلّ .
وقال كمال الدّين بن الهمام من الحنفيّة : الّذي ندين به أنّه لا يجزئ أقلّ من سبع ، ولا يجبر بعضه بشيء .
الشّكّ في عدد الأشواط :
13 - لو شكّ في عدد أشواط طوافه وهو في الطّواف بنى على اليقين ، وهو الأقلّ عند جمهور الفقهاء - الشّافعيّة والحنابلة - .
قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ولأنّها عبادة ، فمتى شكّ فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصّلاة .
وأجرى المالكيّة ذلك في غير المستنكح ، فقالوا : يبني الشّاكّ غير المستنكح على الأقلّ ، والمراد بالشّكّ مطلق التّردّد الشّامل للوهم ، أمّا الشّاكّ المستنكح فيبني على الأكثر .
وفصّل الحنفيّة في الشّكّ في عدد الأشواط بين طواف الفرض والواجب وغيره : أمّا طواف الفرض كالعمرة والزّيارة والواجب كالوداع فقالوا : لو شكّ في عدد الأشواط فيه أعاده ، ولا يبني على غالب ظنّه ، بخلاف الصّلاة ، ولعلّ الفرق بينهما كثرة الصّلوات المكتوبة وندرة الطّواف .
أمّا غير طواف الفرض والواجب وهو النّفل فإنّه إذا شكّ فيه يتحرّى ، ويبني على غالب ظنّه ، ويبني على الأقلّ المتيقّن في أصله .
أمّا إذا شكّ بعد الفراغ من الطّواف فلا يلتفت إليه عند الجمهور ، وسوّى المالكيّة بينه وبين ما إذا كان في الطّواف ، وأطلق الحنفيّة عباراتهم في الشّكّ .
وإن أخبره ثقة بعدد طوافه أخذ به إن كان عدلاً عند الأكثر ، وصرّح المالكيّة بشرط كونه معه في الطّواف ، ولم يشرط ذلك الشّافعيّة والحنابلة .
وقال الحنفيّة : لو أخبره عدل بعدد مخصوص مخالف لما في ظنّه أو علمه ، يستحبّ له أن يأخذ بقوله احتياطاً فيما فيه الاحتياط فيكذّب نفسه ، لاحتمال نسيانه ويصدّقه ، لأنّه عدل لا غرض له في خبره ، ولو أخبره عدلان وجب العمل بقولهما ، وإن لم يشكّ ; لأنّ علمين خير من علم واحد ، ولأنّ إخبارهما بمنزلة شاهدين على إنكاره في فعله أو إقراره . واستحبّ الشّافعيّة له الأخذ بقول العدل المخالف لعلمه ، خلافاً للصّلاة .
ثالثاً : النّيّة :
14 - مجرّد إرادة الدّوران حول الكعبة لا لقصد شيء آخر يكفي في هذا الشّرط ، دون تعيينه للفرض أو الوجوب أو السّنّة ، ولا تعيين كونه للإفاضة أو للصّدر أو للقدوم ونحو ذلك ، كما صرّح به الحنفيّة في الرّاجح .
ومن قام بعمل الطّواف لطلب غريم أو فراراً من ظالم لا يعتدّ به ما لم ينو مع عمله هذا الطّواف وفي شرح مختصر الطّحاويّ : نيّة الحجّ عند الإحرام كافية عن نيّة الطّواف .
وقال الحنفيّة : لو طاف طوافاً في وقته الّذي عيّن الشّارع وقوعه فيه وقع عنه ، نواه بعينه أو لا ، أو نوى طوافاً آخر ، فلو قدم معتمراً وطاف بأيّ نيّة كانت من نيّات الطّواف كأن نواه تطوّعاً يقع طوافه عن العمرة ، أو قدم حاجّاً وطاف قبل يوم النّحر وقع عن طواف القدوم .
وقال الدّسوقيّ : إنّ نيّة الإحرام بالحجّ يندرج فيها الوقوف كالطّواف والسّعي وتطلب النّيّة من المارّ دون غيره .(/2)
وقرّر الشّافعيّة : أنّ نيّة الطّواف شرط إن استقلّ بأن لم يشمله نسك ، كالطّواف المنذور والمتطوّع به ، قال ابن الرّفعة : وطواف الوداع لا بدّ له من نيّة ، لأنّه يقع بعد التّحلّل ، لأنّه ليس من المناسك عند الشّيخين ، بخلاف الطّواف الّذي يشمله نسك وهو طواف الرّكن للحجّ أو العمرة وطواف القدوم فلا يحتاج ذلك إلى نيّة في الأصحّ ، لشمول نيّة النّسك له ، وقالوا : ما لم يصرف الطّواف إلى غرض آخر من طلب غريم أو نحوه .
وقال الحنابلة : لا بدّ لصحّة الطّواف من النّيّة لحديث : » إنّما الأعمال بالنّيّات « .
ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه صلاةً والصّلاة لا تصحّ إلاّ بالنّيّة اتّفاقاً ، وفي طواف الإفاضة يعيّن في نيّته هذا الطّواف .
طواف المغمى عليه :
15 - لو طاف بالمغمى عليه رفاقه محمولاً ، أجزأ ذلك الطّواف الواحد عن الحامل والمحمول إن نواه الحامل عن نفسه وعن المحمول ، وإن كان بغير أمر المغمى عليه ، بناءً على أنّ عقد الرّفقة متضمّن لفعل هذه المنفعة ، وسواء اتّفق طوافهما بأن كان لعمرتهما ، أو لزيارتهما ، ونحوهما ، أو اختلف طوافهما ، فيكون طواف الحامل عمّا أوجبه إحرامه ، وطواف المحمول كذلك .
وانظر المسألة في مصطلح : ( إحرام ف 137 - 143 ) .
طواف النّائم والمريض :
16 - لو طاف أحد بمريض وهو نائم من غير إغماء ففيه تفصيل عند الحنفيّة : إن كان الطّواف بأمره وحملوه على فوره أي ساعته عرفاً وعادةً يجوز ، وإلاّ بأن طافوا به من غير أن يأمرهم بالطّواف به أو فعلوا لكن لا على فوره فلا يجزيه الطّواف .
ففرّقوا في الحكم بين الوقوف والطّواف لعدم اشتراط النّيّة في الوقوف بعرفة ، وفرّقوا بين المغمى عليه والنّائم فاكتفوا في المغمى عليه بعقد الرّفقة ، وفي المريض النّائم اعتبروا الأمر الصّريح لقيام نيّتهم مقام نيّته ، لأنّ أقرب إلى الشّعور من حال المغمى عليه .
وعند غير الحنفيّة ينتظر حتّى يفيق المغمى عليه والنّائم ويستوفي شروط الطّواف الّتي منها الطّهارتان .
رابعاً : وقوع الطّواف في المكان الخاصّ :
17 - مكان الطّواف هو حول الكعبة المشرّفة داخل المسجد الحرام ، قريباً من البيت أو بعيداً عنه ، وهذا شرط متّفق عليه ، لقوله تعالى : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } .
فلو طاف من وراء مقام إبراهيم عليه السلام ، أو من وراء حائل كمنبر أو غيره كالأعمدة ، أو على سطح المسجد الحرام أجزأه ذلك ، لأنّه قد حصل حول البيت ، ما دام ضمن المسجد، وإن وسع المسجد ، ومهما توسّع ما لم يبلغ الحلّ عند الجمهور .
وقال المالكيّة : يجوز الطّواف بسقائف المسجد ، وهي محلّ كان به قباب معقودة ، ومن وراء زمزم وقبّة الشّراب حذاء زمزم ، ولا يضرّ حيلولة الأسطوانات وزمزم والقبّة بين الطّائف والبيت بسبب زحمة انتهت إليها ، لأنّ الزّحام يصيّر الجميع متّصلاً بالبيت ، وإن لم تكن زحمة بل طاف تحت السّقائف اعتباطاً ، أو لحرّ ، أو لبرد ، أو مطر أعاد وجوباً ما دام بمكّة ، ولم يرجع له من بلده أو ممّا يتعذّر منه الرّجوع ، وعليه الدّم ، لكنّ الظّاهر أنّ الحرّ والبرد الشّديدين كالزّحمة ، كما قرّر الدّسوقيّ ، وعلى هذا لو طاف في السّقائف لزحمة ثمّ قبل كماله زالت الزّحمة وجب إكماله في المحلّ المعتاد ، سواء كان الباقي قليلاً أو كثيراً ، فلو كمل الباقي في السّقائف فالظّاهر أنّه يعيد ذلك الّذي كمّله في السّقائف .
خامساً : أن يكون الطّواف حول البيت كلّه :
18 - وذلك يشمل الشّاذروان ، وهو الجزء السّفليّ الخارج عن جدار البيت مرتفعاً على وجه الأرض على القول بأنّه من الكعبة .
وقد اختلف فيه هل هو من الكعبة أو ليس من الكعبة ؟ فقال جماعة : هو من الكعبة تركته قريش لضيق النّفقة ، وقال الحنفيّة : ليس من الكعبة وعليه المحقّقون .
سادساً : أن يكون الحجر داخلاً في طوافه :
19 - الحِجْر - بكسر الحاء وسكون الجيم - هو الموضع المحاط بجدار مقوّس تحت ميزاب الكعبة ، في الجهة الشّماليّة من الكعبة ، ويسمّى الحطيم أيضاً .
والحجر هو جزء من البيت ، تركته قريش لضيق النّفقة ، وأحاطته بالجدار ، وقيل : الّذي منها ستّة أذرع أو سبعة أذرع ، فالنّظر في القدر الزّائد إلى طواف النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ورائه ، وهو ما قطع به أكثر الشّافعيّة كما صرّح به النّوويّ في المجموع . وعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لها : » ألم تري أنّ قومك لمّا بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟ فقلت : يا رسول اللّه ، ألا تردّها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت فقال عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما : لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرّكنين اللّذين يليان الحجر إلاّ أنّ البيت لم يتمّم على قواعد إبراهيم « .
وعنها قالت : » سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو ؟ قال : نعم « .
وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وعطاء وأبو ثور وابن المنذر : إلى أنّ الطّواف من وراء الحطيم فرض ، من تركه لم يعتدّ بطوافه ، حتّى لو مشى على جداره لم يجزئه ، لأنّه جزء من الكعبة ، كما ثبت ذلك بالسّنّة الصّحيحة ، ويجب أن يكون داخلاً في الطّواف . واستدلّوا أيضاً بمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الطّواف من وراء الحجر ، وفعله بيان للقرآن ، فيلتحق به ، فيكون فرضاً .(/3)
أمّا الحنفيّة فقالوا : دخول الحجر في الطّواف واجب لأنّ كونه جزءاً من البيت ثبت بخبر الواحد ، وخبر الواحد يثبت به الوجوب عندهم لا الفرض .
وعلى ذلك فمن ترك الطّواف خلف الحجر لم يصحّ طوافه عند الجمهور ، ولم يعتدّ به ، لأنّه لم يطف بجميع البيت .
أمّا عند الحنفيّة فيجب عليه إعادة الطّواف ما دام بمكّة ، فإن رجع إلى بلده بغير إعادة فعليه هدي يرسله إلى مكّة ، والأفضل عند الحنفيّة إعادة كلّ الطّواف ليؤدّيه على الوجه الحسن ، وللخروج من الخلاف .
أمّا الواجب في الإعادة : فيجزيه أن يأخذ عن يمينه خارج الحجر مبتدئاً من أوّل أجزاء الفرجة أو قبله بقليل احتياطاً ، ويطوف حتّى ينتهي إلى آخره ، ثمّ يدخل الحجر من الفرجة الّتي وصل إليها ويخرج من الجانب الآخر ، أو لا يدخل الحجر ، بل يرجع ويبتدئ من أوّل الحجر .
سابعاً : ابتداء الطّواف من الحجر الأسود :
20 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو قول عند المالكيّة إلى أنّ ابتداء الطّواف من الحجر الأسود شرط لصحّة الطّواف ، وهو رواية في مذهب الحنفيّة ، فلا يعتدّ بالشّوط الّذي بدأه بعد الحجر الأسود .
واستدلّوا بمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجعلوها دليل الفرضيّة ، لأنّها بيان لإجمال القرآن .
ولا بدّ عندهم من محاذاة الحجر الأسود بجميع البدن ، لأنّ ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته بجميع البدن ، كالاستقبال في الصّلاة .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة على الرّاجح في المذهبين إلى أنّ ابتداء الطّواف من الحجر الأسود واجب ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك ، والمواظبة دليل الوجوب ، لا سيّما وقد قال صلى الله عليه وسلم : » خذوا عنّي مناسككم « فيلزم الدّم بترك البداية منه في طواف الرّكن .
قال المحقّق الشّيخ عليّ القارئ : ولو قيل : إنّه واجب لا يبعد ، لأنّ المواظبة من غير ترك مرّة دليله ، فيأثم به ويجزيه ، ولو كان في الآية إجمال لكان شرطاً كما قال محمّد ، لكنّه منتف في حقّ الابتداء ، فيكون مطلق التّطوّف فرضاً ، وافتتاحه - أي من الحجر الأسود - واجباً للمواظبة . وهو الأشبه والأعدل ، فينبغي أن يكون هو المعوّل .
ثامناً : التّيامن :
21 - التّيامن : سير الطّائف عن يمين الكعبة ، وجعل يساره لجانب الكعبة ، وهذا شرط عند جمهور الفقهاء وقرّروا أنّ الطّواف على عكس ذلك باطل .
واستدلّوا : » بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل البيت في الطّواف على يساره « ، ولأنّها عبادة متعلّقة بالبيت فيجب فيها التّرتيب كالصّلاة .
وقال الحنفيّة : التّيامن واجب في الطّواف ، والطّواف على عكسه صحيح مع الكراهة التّحريميّة ، وتجب إعادته ما دام بمكّة ، وإن رجع إلى أهله من غير إعادة يجب عليه الدّم . واستدلّوا بأنّه هيئة متعلّقة بالطّواف ، فلا تمنع صحّته ، وجعلوا الآية : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق } دليلاً على إجزاء الطّواف وصحّته على أيّ هيئة ، لأنّ الأمر مطلق ، فيتأدّى الرّكن بدون تلك الهيئة ، وحملوا فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الوجوب .
تاسعاً : الطّهارة من الحدث والخبث :
22 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ الطّهارة من الأحداث ومن الأنجاس شرط لصحّة الطّواف ، فإذا طاف فاقداً أحدها فطوافه باطل لا يعتدّ به .
وقال الحنفيّة : الطّهارة من الحدث ومن الخبث واجب للطّواف ، وهو رواية عن أحمد .
وإن كان أكثر الحنفيّة على أنّ الطّهارة من النّجاسة الحقيقيّة سنّة مؤكّدة .
استدلّ الجمهور بحديث ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » الطّواف بالبيت صلاة فأقلّوا من الكلام « .
وإذا كان صلاةً والصّلاة لا تجوز بدون الطّهارة من الأحداث ، فكذلك الطّواف لا بدّ فيه من الطّهارة .
واستدلّ الحنفيّة بقوله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق } .
ووجه الاستدلال بها أنّ الأمر بالطّواف مطلق لم يقيّده الشّارع بشرط الطّهارة ، وهذا نصّ قطعيّ ، والحديث خبر آحاد ويفيد غلبة الظّنّ فلا يقيّد نصّ القرآن ، لأنّه دون رتبته ، فحملنا الحديث على الوجوب وعملنا به .
وعلى ذلك : فمن طاف محدثاً فطوافه باطل عند الجمهور ، وعليه العود لأدائه إن كان طوافاً واجباً ، ولا تحلّ له النّساء إن كان طواف إفاضة حتّى يؤدّيه .
أمّا عند الحنفيّة فهو صحيح لكن تجب إعادته ما دام بمكّة ، وإلاّ وجب عليه الفداء .
ومن أحدث في أثناء الطّواف يذهب فيتوضّأ ويتمّم الأشواط ولا يعيدها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن مالك .
والمشهور عن مالك : أنّه يعيد الطّواف من أوّله ، ولا يبني على الأشواط السّابقة ، وذلك لأنّ الموالاة في أشواط الطّواف شرط في صحّة الطّواف .
وذهب الحنابلة إلى أنّه إن أحدث عمداً فإنّه يبتدئ الطّواف ، لأنّ الطّهارة شرط له ، وإن سبقه الحدث ففيه روايتان :
إحداهما : يبتدئ أيضاً ، والرّواية الثّانية : يتوضّأ ويبني ، قال حنبل عن أحمد فيمن طاف ثلاثة أشواط أو أكثر ، يتوضّأ فإن شاء بنى ، وإن شاء استأنف ، قال أبو عبد اللّه : يبني إذا لم يحدث حدثاً إلاّ الوضوء ، فإن عمل عملاً غير ذلك استقبل الطّواف ، وذلك لأنّ الموالاة تسقط عند العذر في إحدى الرّوايتين ، وهذا معذور ، فجاز البناء ، وإن اشتغل بغير الوضوء فقد ترك الموالاة لغير عذر فلزمه الابتداء إذا كان الطّواف فرضاً ، فأمّا المسنون فلا تجب إعادته كالصّلاة المسنونة إذا بطلت .
عاشراً : ستر العورة :(/4)
23 - ذهب الجمهور إلى أنّ ستر العورة شرط في صحّة الطّواف ، وقال الحنفيّة : هو واجب في الطّواف ليس شرطاً لصحّته ، وذلك لأنّ الطّواف عند الجمهور كالصّلاة يجب فيه ستر العورة لقوله صلى الله عليه وسلم : » الطّواف بالبيت صلاة « ، ولحديث : » لا يطوف بالبيت عريان « .
فمن أخلّ بستر العورة الإخلال المفسد للصّلاة بحسب المذاهب ، فسد طوافه عند الجمهور ، وعند الحنفيّة عليه الدّم .
حادي عشر : موالاة أشواط الطّواف :
24 - اشتراط الموالاة بين أشواط الطّواف مذهب المالكيّة والحنابلة ، وعند الحنفيّة والشّافعيّة سنّة للاتّباع ، لأنّه صلى الله عليه وسلم والى في طوافه ، وفي قول عند الشّافعيّة أنّ الموالاة واجبة .
ودليل شرط الموالاة ووجوبها حديث : » الطّواف بالبيت صلاة « فيشترط له الموالاة كسائر الصّلوات ، ودليل السّنّيّة فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ثاني عشر : المشي للقادر عليه :
25 - ذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ المشي للقادر عليه واجب مطلقاً في أيّ طواف ، وعند المالكيّة واجب في الطّواف الواجب ، وأمّا الطّواف غير الواجب فالمشي فيه سنّة عندهم .
وذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ المشي في الطّواف سنّة .
فلو طاف راكباً مع قدرته على المشي لزمه دم عند الحنفيّة والمذهب عند الحنابلة لتركه واجب المشي ، إلاّ إذا أعاده ماشياً ، أمّا عند الشّافعيّة والرّواية الأخرى عن أحمد فيجوز طوافه بلا كراهية .
أمّا إذا كان عاجزاً عن المشي وطاف محمولاً فلا فداء عليه اتّفاقاً ولا إثم .
ثالث عشر : فعل طواف الإفاضة في أيّام النّحر :
26 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ أداء طواف الإفاضة في أيّام النّحر واجب فلو أخّره حتّى أدّاه بعدها صحّ ووجب عليه دم ، جزاء تأخيره عنها وهو المفتى به في المذهب .
والمشهور عند المالكيّة : أنّه لا يلزمه بالتّأخير شيء إلاّ بخروج ذي الحجّة فإذا خرج لزمه دم ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان إلى أنّه لا يلزمه شيء بالتّأخير .
وفي تفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( حجّ ف 55 ) .
رابع عشر - ركعتا الطّواف بعد كلّ سبعة أشواط :
27 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب بعد كلّ طواف فرضاً أو نفلاً صلاة ركعتين ، وهو رواية عن أحمد وقول عند الشّافعيّة ، ووافقهم المالكيّة في الطّواف الرّكن ، أو الواجب في المشهور عندهم .
واستدلّوا بمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبما ورد في حديث جابر : » أنّه صلى الله عليه وسلم تقدّم إلى مقام إبراهيم فقرأ : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً } فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول - ولا أعلمه ذكره إلاّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الرّكعتين : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } « .
وهذا إشارة إلى أنّ صلاته بعد الطّواف امتثال لهذا الأمر ، والأمر للوجوب ، إلاّ أنّ استنباط ذلك من الحديث ظنّيّ ، وذلك يثبت الوجوب الّذي هو دون الفرض وفوق السّنّة .
والمذهب عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ ركعتي الطّواف سنّة .
واستدلّوا بما ورد من الأحاديث بتحديد الصّلاة المفترضة بالصّلوات الخمس ، وصلاة الطّواف - كما قال الشّيرازيّ - صلاة زائدة على الصّلوات الخمس ، فلم تجب بالشّرع على الأعيان كسائر النّوافل .
وعند الشّافعيّة والحنابلة إذا صلّى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطّواف .
وعند المالكيّة في غير طواف الفرض والواجب تردّد بين الوجوب والسّنّيّة ، واستظهر الحطّاب أنّ الرّكعتين سنّة كما قال الدّسوقيّ .
سنن الطّواف :
أ - الاضطباع :
28 - هو أن يجعل وسط الرّداء تحت إبطه اليمنى عند الشّروع في الطّواف ويردّ طرفيه على كتفه اليسرى وتبقى كتفه اليمنى مكشوفةً ، واللّفظ مأخوذ من الضّبع وهو عضد الإنسان .
وهو سنّة عند الجمهور للرّجال دون النّساء ، لما روي عن يعلى بن أميّة : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً « ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم قد قذفوها على عواتقهم اليسرى « .
ويسنّ الاضطباع عند الحنفيّة والشّافعيّة في كلّ طواف بعده سعي كطواف القدوم لمن أراد أن يسعى بعده ، وطواف العمرة ، وطواف الزّيارة إن أخّر السّعي إليه ، وزاد الحنفيّة طواف النّفل إذا أراد أن يسعى بعده من لم يعجّل السّعي بعد طواف القدوم .
وقال الحنابلة : لا يضطبع في غير طواف القدوم .
والاضطباع سنّة في جميع أشواط الطّواف ، فإذا فرغ من الطّواف ترك الاضطباع ، حتّى أنّه تكره صلاة الطّواف مضطبعاً كما صرّح الحنفيّة والشّافعيّة .
( ر : اضطباع ف 4 ) .
ب - الرّمَل :
29 - الرّمل هو : إسراع المشي مع تقارب الخطى وهزّ الكتفين من غير وثب .
والرّمل سنّة في كلّ طواف بعده سعي ، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : » قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكّة وقد وهنتهم حمّى يثرب . فقال المشركون : إنّه يقدم عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمّى ، ولقوا منها شدّةً ، فجلسوا ممّا يلي الحجر ، وأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الرّكنين ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الّذين زعمتم أنّ الحمّى قد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا « .(/5)
لكنّ الرّمل ظلّ سنّةً في الأشواط الثّلاثة الأولى بتمامها ، فقد فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّته ، وكانت بعد فتح مكّة ودخول النّاس في دين اللّه أفواجاً ، كما سبق في حديث جابر : » فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً « .
وسار على ذلك الصّحابة أبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده صلى الله عليه وسلم . ثمّ الرّمل كالاضطباع سنّة في حقّ الرّجال ، أمّا النّساء فلا يسنّ لهنّ رمل ولا اضطباع . واستثنى الحنابلة من سنّيّة الرّمل أهل مكّة ومن أحرم منها أيضاً ، فلا يسنّ لهم الرّمل عندهم .
ج - ابتداء الطّواف من جهة الرّكن اليمانيّ :
30 - يسنّ أن يبدأ الطّواف قريباً من الحجر الأسود من جهة الرّكن اليمانيّ ، ثمّ يستقبل الحجر مهلّلاً رافعاً يديه ، وذلك ليتحقّق ابتداء الطّواف من الحجر الأسود ، وهو واجب . لكنّ المرور بجميع البدن على الحجر الأسود ليس واجباً عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو واجب عند الشّافعيّة والحنابلة ، لذلك صرّح المحقّقون في المذهب الحنفيّ باستحباب هذه الكيفيّة خروجاً من الخلاف ، فلوا استقبل الحجر مطلقاً ونوى الطّواف كفى في حصول المقصود الّذي هو الابتداء من الحجر عند الحنفيّة والمالكيّة .
قال الحطّاب : يستقبل الحجر بجميع بدنه وتكون يده اليسرى محاذيةً ليمين الحجر ثمّ يقبّله ويمشي على جهة يده اليمنى .
د - استقبال الحجر عند ابتداء الطّواف :
31 - استقبال الحجر عند ابتداء الطّواف ، ورفع اليدين عند التّكبير مقابلة الحجر ، نصّ على هذه السّنّة الحنفيّة .
هـ – استلام الحجر وتقبيله :
32 – استلام الحجر وتقبيله في ابتداء الطّواف وفي كلّ شوط ، وبعد ركعتي الطّواف ، ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء ، لكنّ المالكيّة قيّدوا السّنّيّة بأوّل الطّواف وجعلوا ذلك مستحبّاً في باقيه ، واستحبّ الحنفيّة تقبيل الحجر .
وصفة الاستلام : أن يضع كفّيه على الحجر ، ويضع فمه بين كفّيه ويقبّله .
عن ابن عمر : أنّ عمر رضي الله عنه قبّل الحجر وقال : إنّي لأعلم أنّك حجر ، ولولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك .
وأخرج أبو داود والنّسائيّ عن ابن عمر قال : » كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر في كلّ طوفة « وكان ابن عمر يفعله .
و - استلام الرّكن اليمانيّ :
33 - استلامه يكون بوضع اليدين عليه ، وهو الرّكن الواقع قبل ركن الحجر الأسود .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما تركت استلام هذين الرّكنين : اليمانيّ والحجر ، مذ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستلمهما ، في شدّة ولا رخاء .
والسّنّيّة مذهب الجمهور ، وقول محمّد من الحنفيّة ، لكنّه عند المالكيّة سنّة في الشّوط الأوّل مندوب في غيره ، وقال الشّيخان : أبو حنيفة وأبو يوسف : هو مندوب .
وذهب الفقهاء إلى أنّه لا يقبّله ولا يسجد عليه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يقبّل ما استلم به الرّكن اليمانيّ ولا يشير إليه .
وعند الشّافعيّة يقبّل ما استلم به الرّكن اليمانيّ ويشير إليه عند العجز عن الوصول إليه ، وعند المالكيّة يضع يده على فمه من غير تقبيل .
أمّا غير هذين الرّكنين فلا يسنّ استلامه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يستلم هذين الرّكنين ولا يستلم غيرهما ، عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال : » لم أر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلاّ الرّكنين اليمانيّين « .
وقد أبدى العلماء لذلك التّفاوت بين أركان البيت سبباً وضّحه الرّمليّ فقال : والسّبب في اختلاف الأركان في هذه الأحكام : أنّ الرّكن الّذي فيه الحجر الأسود فيه فضيلتان : كون الحجر فيه ، وكونه على قواعد سيّدنا إبراهيم ، واليمانيّ فيه فضيلة واحدة : وهي كونه على قواعد أبينا إبراهيم ، وأمّا الشّاميّان فليس لهما شيء من الفضيلتين .
ز - الدّعاء :
34 - وهو مخيّر فيه غير محدود عند المالكيّة ، وصرّح الشّافعيّة بأنّه يسنّ في أوّل الطّواف ، وفي كلّ طوفة الدّعاء بالمأثور وهو : " بسم اللّه واللّه أكبر ، اللّهمّ إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاءً بعهدك ، واتّباعاً لسنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وسلم " والدّعاء المأثور في بقيّة جوانب البيت وهو مندوب ، ومنه :
الدّعاء عند رؤية الكعبة :
35 - اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابةً ، وزد من شرّفه وكرّمه ممّن حجّه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وبرّاً .
اللّهمّ أنت السّلام ، ومنك السّلام ، فحيّنا ربّنا بالسّلام .
دعاء افتتاح الطّواف واستلام الحجر الأسود أو المرور به :
36 - بسم اللّه واللّه أكبر ، اللّهمّ إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاءً بعهدك واتّباعاً لسنّة نبيّك صلى الله عليه وسلم . وحكمه كما سبق .
والمعنى : أطوف باسم اللّه ، وأطوف اللّهمّ إيماناً بك .
الدّعاء في الأشواط الثّلاثة الأولى :
37 - اللّهمّ اجعله حجّاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً ، اللّهمّ لا إله إلاّ أنت وأنت تحيي بعدما أمتّ .
وإذا كان يؤدّي عمرةً دعا فقال : اجعلها عمرةً مبرورةً ، وإن كان طوافاً نفلاً دعا : اجعله طوافاً مبروراً أي مقبولاً وسعياً مشكوراً - وسعي الرّجل عمله - كما قال تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى } .
الدّعاء في الأشواط الأربعة الباقية :
38 - اللّهمّ اغفر وارحم ، واعف عمّا تعلم ، وأنت الأعزّ الأكرم .
الدّعاء عند الرّكن اليمانيّ :(/6)
39 - بسم اللّه واللّه أكبر ، والسّلام على رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر والذّلّ ، ومواقف الخزي في الدّنيا والآخرة ، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار .
الدّعاء بين الرّكن اليمانيّ والحجر الأسود :
40 - ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النّار .
ربّ قنّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف على كلّ غائبة لي بخير .
الدّعاء بعد ركعتي الطّواف :
41 - اللّهمّ إنّك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي ، اللّهمّ إنّي أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتّى أعلم أنّه لا يصيبني إلاّ ما كتبت لي ، ورضاً بما قسمت .
دعاء لعامّة الطّواف :
42 - اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وخطاياي ، وعمدي ، وإسرافي في أمري ، إنّك إن لا تغفر لي تهلكني .
اللّهمّ البيت بيتك ، ونحن عبيدك ، ونواصينا بيدك ، وتقلّبنا في قبضتك ، فإن تعذّبنا فبذنوبنا، وإن تغفر لنا فبرحمتك ، فرضت حجّك لمن استطاع إليه سبيلاً ، فلك الحمد على ما جعلت لنا من السّبيل ، اللّهمّ ارزقنا ثواب الشّاكرين .
دعاء الشّرب من ماء زمزم :
43 - اللّهمّ إنّي أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وعملاً متقبّلاً ، وشفاءً من كلّ داء .
ح - القرب من البيت الحرام :
44 - القرب في الطّواف من البيت للرّجال والبعد للنّساء ، وعدّه الشّافعيّة سنّةً .
فلو فات الرّمل بمراعاة القرب من البيت فالرّمل مع البعد أولى ، إلاّ إذا كان الزّحام شديداً أو خاف صدم النّساء لو بعد عن البيت ، فالقرب حينئذ مع ترك الرّمل أولى .
ط - حفظ البصر عن كلّ ما يشغله :
45 - على الطّائف أن يحفظ بصره ، عن كلّ ما يشغله عن الطّواف : لأنّ الطّواف عبادة ، وهو بمنزلة الصّلاة ، فينبغي أن يتمّ فيه التّفرّغ لأدائه .
ى - الإسرار بالذّكر والدّعاء :
46 - الإسرار بالأذكار والأدعية مطلوب في الطّواف ، لأنّ اللّه تعالى سميع ، حتّى لا يؤذي غيره إن جهر .
ك - التزام الملتزم :
47 - يستحبّ عند جمهور الفقهاء بعد طواف الوداع أن يلتزم الطّائف الملتزم وهو الجدار الّذي بين الحجر الأسود وباب الكعبة المشرّفة ، اقتداءً بالرّسول صلى الله عليه وسلم والتزامه أن يلصق صدره وخدّه الأيمن ، ويداه وكفّاه مبسوطتان قائمتان ، وهو متذلّل مستجير بربّ البيت ، والملتزم من المواضع الّتي يستجاب فيها الدّعاء ، ويدعو بالمأثور من الدّعاء إن حفظه وإلاّ فيما تيسّر .
ل - قراءة القرآن الكريم :
48 - قراءة القرآن من غير رفع صوت عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وعند الحنفيّة تجوز قراءة القرآن ، والذّكر أفضل عند الحنفيّة والمالكيّة .
أمّا الشّافعيّة فقالوا : مأثور الدّعاء أفضل من القراءة ، وهي أفضل من غير مأثوره .
استدلّ الحنفيّة بأنّ هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الأفضل ، ولم يثبت عنه في الطّواف قراءة قرآن ، بل الذّكر ، وهو المتوارث من السّلف والمجمع عليه فكان أولى .
واستدلّ الشّافعيّة على أفضليّة الدّعاء بالمأثور في الطّواف على القراءة باتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأفضليّة القرآن على غير المأثور في الطّواف ، بأنّ الموضع موضع ذكر ، والقرآن أفضل الذّكر .
واستدلّوا بالحديث القدسيّ : » من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين ، وفضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه « .
مباحات الطّواف :
49 - أ - الكلام المباح الّذي يحتاج إليه .
صرّح بعض الحنفيّة بكراهة الكلام ، لكنّه محمول على ما لا حاجة إليه .
ولذلك صرّح الشّافعيّة أنّ الأفضل ألاّ يتكلّم لقوله صلى الله عليه وسلم : » الطّواف صلاة فأقلّوا فيه الكلام « وفي رواية : » إلاّ أنّكم تتكلّمون فيه فمن تكلّم فلا يتكلّم إلاّ بخير « .
ب - السّلام على من لا يكون مشغولاً بالذّكر .
ج - الإفتاء والاستفتاء ، ونحوه من تعليم جاهل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر .
د - الخروج من الطّواف لحاجة ضروريّة .
هـ - الشّرب ، لعدم إخلاله بالموالاة لقلّة زمانه ، بخلاف الأكل .
و - لبس نعل أو خفّ إذا كانا طاهرين .
محرّمات الطّواف :
50 - أ - ترك ركن من أركان الطّواف ، وحكمه : أنّه لا يتحلّل التّحلّل الأكبر إلاّ بالعود وأدائه إن كان الطّواف فرضاً ، أو واجباً .
ب - ترك شرط من شروط الطّواف ، وحكمه : أنّ الطّواف غير صحيح ، ويجب أن يعيده إن كان فرضاً ، أو واجباً .
فإن كان بمكّة أعاده ولا إشكال ، وإن سافر من مكّة ، فلا بدّ له من الرّجوع إلى مكّة وإعادته ، كما في ترك ركن من أركان الطّواف .
ج - ترك واجب من واجبات الطّواف ، وهو غير مجزئ عند الجمهور ، مكروه كراهةً تحريميّةً عند الحنفيّة حسب اصطلاحهم ، ويلزمه الإثم ، ويجب عليه الدّم .
مكروهات الطّواف :
51 - نصّ الفقهاء على أمور تكره في الطّواف ، منها :
أ - رفع الصّوت بالذّكر والدّعاء والقرآن بما يشوّش على الطّائفين .
ب - الكلام غير المحتاج إليه ، لقول ابن عمر رضي الله عنهما : أقلّوا الكلام فإنّما أنتم في صلاة .
ج - إنشاد شعر ليس من قبيل الذّكر والثّناء على اللّه .
د - ترك سنّة من سنن الطّواف ، حسبما هو مقرّر في كلّ مذهب ، كترك الرّمل في طواف بعده سعي ، وكترك استلام الحجر الأسود والإشارة إليه .
هـ - الجمع بين أكثر من طواف كامل من غير صلاة بعد كلّ طواف ، إلاّ إذا وقعت الصّلاة في وقت كراهة فيؤخّرها عند الحنفيّة .(/7)
و - الطّواف وهو يدافع البول أو الغائط ، أو وهو شديد التّوقان إلى الأكل ، ونحو ذلك ممّا يشغله عن الحضور في العبادة ، كما يكره في الصّلاة .
ز - الأكل في الطّواف اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة وكذا الشّرب عند الشّافعيّة ، وكراهة الشّرب أخفّ عندهم ، قال الشّافعيّ : لا بأس بشرب الماء في الطّواف ولا أكرهه ، بمعنى المأثم ، لكنّي أحبّ تركه ، لأنّ تركه أحسن في الأدب ، وقال الشّافعيّ في الإملاء : روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه شرب وهو يطوف .
ح - وضع الطّائف يده على فيه ، إلاّ أن يحتاج إليه مثل دفع التّثاؤب .
ط - تشبيك الأصابع أو فرقعتها ، كما يكره ذلك في الصّلاة .
كيفيّة الطّواف :
52 - إذا أراد شخص الطّواف فيستعدّ لذلك بتطهير بدنه وثيابه من النّجاسة ، ويغتسل إن كان جنباً ، ويتوضّأ ويضبط ثياب إحرامه حتّى يأمن أن تنكشف عورته في أثناء الطّواف وزحامه ، وإذا أراد أداء طواف بعده سعي مثل طواف القدوم في حال تقديم السّعي إليه ، وطواف الزّيارة إذا لم يقدّم السّعي عليه ، وطواف العمرة ، فيسنّ له في هذه الأطوفة الاضطباع في الأشواط كلّها .
كيفيّة الاضطباع :
53 - وكيفيّة الاضطباع : أن يجعل الطّائف وسط الرّداء تحت إبطه اليمنى ، ويردّ طرفيه على كتفه اليسرى ، ويترك كتفه اليمنى مكشوفةً .
ثمّ يتّجه إلى الحجر الأسود حتّى يتجاوزه قليلاً إلى جهة الرّكن اليمانيّ ، ويقطع التّلبية إن كان محرماً ، ينوي الطّواف الّذي يريده ، ويجعل يساره إلى البيت ، ثمّ يستقبل الحجر الأسود ويستلمه ، بأن يضع عليه يديه ويضع وجهه بين كفّيه ، ويقبّله ثلاثاً .
لكن إذا وجد الطّائف زحاماً فيجتنب الإيذاء ، ويكتفي بالإشارة إلى الحجر بيديه ، لأنّ استلام الحجر سنّة ، وإيذاء النّاس حرام يجب تركه ، ولا يجوز ارتكاب الحرام لأجل السّنّة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : » يا عمر ، إنّك رجل قويّ ، لا تزاحم على الحجر ، فتؤذي الضّعيف ، إن وجدت خلوةً فاستلمه ، وإلاّ فاستقبله فهلّل وكبّر « .
وكيفيّة الإشارة : أن يرفع الطّائف يديه حذاء منكبيه ، ويجعل باطنهما نحو الحجر الأسود يشير بهما إليه .
54 - ويرمل الطّائف في الأشواط الثّلاثة الأولى إن كان سيسعى بعد الطّواف .
وكيفيّة الرّمل : إسراع المشي مع مقاربة الخطى وهزّ الكتفين من غير وثب ، ويمشي بقيّة الأشواط ، ويكون في طوافه على غاية الأدب والحضور والتّعظيم ، مع غضّ البصر وخفض الصّوت بالذّكر والدّعاء ، فإذا وصل إلى الحطيم وهو المكان المحاط بجدار دائريّ ، جهة شمال الكعبة حيث الميزاب فيجعل الحطيم في ضمن طوافه ، ولا يدخل في داخله ، فإذا وصل إلى الرّكن اليمانيّ فيستلمه ، وذلك بأن يضع يديه عليه فقط ، دون سجود ولا تقبيل له ولا ليديه ، حتّى يصل إلى الحجر الأسود ، فيكون بذلك قد أدّى شوطاً ، فيستلم الحجر ويقبّله ، أو يشير إليه إذا كان زحام .
ويتابع الطّواف حتّى تكمل سبعة أشواط عند الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله ختاماً لأشواط الطّواف ، أو يشير إليه إذا كان هناك زحام ، ثمّ يتّجه نحو مقام إبراهيم الخليل عليه السلام فيجعله بينه وبين الكعبة ، ويصلّي ركعتي الطّواف ، ولكن ليس هذا الوضع شرطاً لصحّتهما كما يتوهّم العامّة ، فلا يزاحم ويصلّي ركعتي الطّواف أينما تيسّر ، فحيثما أدّاهما جائز ، لكنّ الحرم أفضل ، ويقرأ في الرّكعة الأولى سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثّانية { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } اتّباعاً لفعله صلى الله عليه وسلم ، ثمّ يدعو بعدهما بما يحبّ له ولمن يحبّ .(/8)
طُمَأْنِينَة *
التّعريف :
1 - الطّمأنينة لغةً : السّكون ، يقال : اطمأنّ الرّجل اطمئناناً وطمأنينةً : أي سكن ، واطمأنّ القلب : إذا سكن ولم يقلق .
ومنه قوله تعالى : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي ليسكن إلى المعاينة بعد الإيمان بالغيب ، وقوله تعالى : { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } أي إذا سكنت قلوبكم .
وفي المصباح المنير : اطمأنّ بالموضع أقام به واتّخذه وطناً ، وموضع مطمئنّ منخفض . والطّمأنينة اصطلاحاً : هي استقرار الأعضاء زمناً ما .
وللفقهاء تفصيل في حدّ هذا الزّمن سيأتي بيانه في الحكم الإجماليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّعديل :
2 - التّعديل في اللّغة : إقامة الحكم ، والتّزكية ، وتسوية الميزان .
واصطلاحاً : استعمل الحنفيّة التّعديل بمعنى الطّمأنينة ، فيعدّون من واجبات الصّلاة تعديل الأركان ، ويقصدون بذلك تسكين الجوارح في الرّكوع والسّجود حتّى تطمئنّ المفاصل . فالتّعديل بهذا المعنى مرادف للطّمأنينة .
الحكم الإجماليّ :
3 - اختلف الفقهاء في حكم الطّمأنينة في الصّلاة ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة وابن الحاجب من المالكيّة إلى أنّ الطّمأنينة ركن من أركان الصّلاة ، لحديث المسيء صلاته وهو : » أنّ رجلاً دخل المسجد فصلّى ثمّ جاء فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ عليه ، ثمّ قال : ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ ، فعل ذلك ثلاثاً ، ثمّ قال : والّذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره ، فعلّمني ، فقال : إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر ، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ، ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعاً ، ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائماً ، ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً ، ثمّ ارفع حتّى تطمئنّ جالساً ، ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً ، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها « .
ومحلّ الطّمأنينة عندهم : في الرّكوع ، والسّجود ، والاعتدال من الرّكوع ، والجلوس بين السّجدتين .
وذهب الحنفيّة - عدا أبي يوسف - إلى أنّ الطّمأنينة واجبة وليست بفرض ويسمّونها " تعديل الأركان " وهي سنّة في تخريج الجرجانيّ ، والصّحيح الوجوب ، وهو تخريج الكرخيّ .
قال ابن عابدين : حتّى تجب سجدتا السّهو بتركه ، كذا في الهداية وجزم به في الكنز والوقاية والملتقى وهو مقتضى الأدلّة .
ومحلّ التّعديل عندهم في الرّكوع والسّجود ، واختار بعض الحنفيّة وجوب التّعديل في الرّفع من الرّكوع ، والجلوس بين السّجدتين أيضاً .
قال ابن عابدين : الأصحّ روايةً ودرايةً وجوب تعديل الأركان ، وأمّا القومة والجلسة وتعديلهما فالمشهور في المذهب السّنّيّة ، وروي وجوبها وهو الموافق للأدلّة وعليه الكمال ومن بعده من المتأخّرين .
وقال أبو يوسف : بفرضيّة الكلّ ، واختاره في المجمع والعين ، ورواه الطّحاويّ عن أئمّة الحنفيّة الثّلاثة ، وقال في الفيض : إنّه الأحوط .
وعند المالكيّة في الطّمأنينة خلاف .
قال الدّسوقيّ : القول بفرضيّتها صحّحه ابن الحاجب والمشهور من المذهب أنّها سنّة ، ولذا قال زرّوق والبنّانيّ : من ترك الطّمأنينة أعاد في الوقت على المشهور وقيل : إنّها فضيلة .
أقلّ الطّمأنينة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء : - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ أقلّ الطّمأنينة هو سكون الأعضاء .
قال المالكيّة : أقلّها ذهاب حركة الأعضاء زمناً يسيراً .
وقال الشّافعيّة : أقلّها أن يمكث المصلّي حتّى تستقرّ أعضاؤه وتنفصل حركة هويّه عن ارتفاعه .
قال النّوويّ : ولو زاد في الهويّ ثمّ ارتفع والحركات متّصلة ولم يلبث لم تحصل الطّمأنينة ، ولا يقوم زيادة الهويّ مقام الطّمأنينة بلا خلاف .
وقال الحنابلة : أقلّها حصول السّكون وإن قلّ ، وهذا على الصّحيح من المذهب ، وقيل : هي بقدر الذّكر الواجب ، قال المرداويّ : وفائدة الوجهين : إذا نسي التّسبيح في ركوعه ، أو في سجوده ، أو التّحميد في اعتداله ، أو سؤال المغفرة في جلوسه أو عجز عنه لعجمة أو خرس ، أو تعمّد تركه ، وقلنا : هو سنّة ، واطمأنّ قدراً لا يتّسع له فصلاته صحيحة على الوجه الأوّل ، ولا تصحّ على الثّاني .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ أقلّ الطّمأنينة هو تسكين الجوارح قدر تسبيحة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة ) .(/1)
طُهْر *
التّعريف :
1 - الطّهر في اللّغة هو النّقاء من الدّنس والنّجس والتّطهّر : الاغتسال ، يقال : تطهّرت المرأة إذا انقطع عنها الدّم واغتسلت ، وجمع الطّهر : أطهار .
وفي الشّرع : زمان نقاء المرأة من دم الحيض والنّفاس .
الألفاظ ذات الصّلة :
القرء :
2 - القرء في اللّغة - بفتح القاف وضمّها - يقع على ، الطّهر وعلى الحيض .
الحيض :
3 - الحيض في اللّغة السّيلان ، تقول العرب : حاضت الشّجرة إذا سال صمغها ، وحاض الوادي إذا سال ماؤه ، وحاضت المرأة إذا خرج دمها من رحمها .
وشرعاً : هو دم يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصّحّة من غير سبب في أوقات معلومة .
والحيضة المرّة ، وهي الدّفعة الواحدة من دفعات دم الحيض .
الحكم الإجماليّ :
وردت أحكام الطّهر في أبواب الحيض والطّلاق والعدّة من كتب الفقهاء كما يلي :
الطّهر في باب الحيض :
4 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا حدّ لأكثر الطّهر ، فقد لا تحيض المرأة في عمرها إلاّ مرّةً ، وقد لا تحيض أصلاً ، فحينئذ تصلّي وتصوم أبداً ، ويأتيها زوجها ، وتنقضي عدّتها بالأشهر.
قالوا : وإنّ غالب الطّهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون يوماً بلياليها ، لأنّ غالب الحيض ستّة أيّام بلياليها أو سبعة ، وباقي الشّهر وهو أربع وعشرون أو ثلاث وعشرون يكون غالب الطّهر ، لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش : » إنّما هي ركضة من الشّيطان ، فتحيّضي ستّة أيّام أو سبعة أيّام في علم اللّه ، ثمّ اغتسلي ، فإذا رأيت أنّك قد طهرت واستنقأت فصلّي أربعاً وعشرين ليلةً أو ثلاثاً وعشرين ليلةً وأيّامها « .
إلاّ أنّهم اختلفوا في أقلّ الطّهر بين الحيضتين ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حيض ف 24 وما بعدها ) .
كما اختلفوا في حكم الطّهر أو النّقاء الّذي يحدث أثناء فترة الحيض ، كأن رأت يوماً وليلةً دماً ، ويوماً وليلةً نقاءً ، أو يومين دماً ويومين نقاءً أو أكثر أو أقلّ ما لم يتجاوز أكثر الحيض ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تلفيق ف 4 - 9 ) .
واختلفوا كذلك في الطّهر من الحيض ، أو النّفاس الّذي يحلّها لزوجها ، فقال جمهور الفقهاء : هو أن تغتسل بعد انقطاع الدّم عنها .
وقال الحنفيّة : إذا انقطع دمها لأكثر الحيض جاز لزوجها الوطء قبل الغسل ، وإن انقطع لأقلّ من ذلك لم يجز له الوطء حتّى تغتسل ، أو يدخل عليها وقت الصّلاة فتتيمّم لها .
وينظر تفصيل هذه الأحكام في مصطلح : ( حيض ف 44 ) .
الطّهر في باب الطّلاق :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّجل إذا طلّق امرأته - وكانت من ذوات الأقراء - في طهر لم يمسّها فيه ثمّ تركها حتّى تنقضي عدّتها فإنّ طلاقه يكون سنّيّاً .
كما اتّفقوا على أنّ من أقسام الطّلاق البدعيّ : أن يطلّق زوجته وهي من ذوات الأقراء في طهر جامعها فيه ، لأنّ فيه تطويل العدّة على المرأة فتتضرّر بذلك ، ولأنّها قد تحمل من ذلك الجماع فيحصل النّدم منه ، ولأنّ في ذلك مخالفةً لقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } الآية . وتفصيله في مصطلحي : ( طلاق ، وحيض ف 45 ) .
الطّهر في العدّة :
6 - اختلف الفقهاء في معنى القرء الوارد في قوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } بعد أن اتّفقوا على أنّ عدّة المرأة المطلّقة إن كانت من ذوات الأقراء هي ثلاثة قروء :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الأقراء هي : الأطهار .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ الأقراء هي الحيض .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قرء ) .(/1)
عشر ذي الحجّة *
التّعريف :
1 - عشر ذي الحجّة : اسم للعدد الّذي يبتدئ من أوّل الشّهر إلى العاشر منه .
الأحكام المتعلّقة بعشر ذي الحجّة :
مضاعفة العمل فيها :
2 - ذهب الفقهاء إلى : أنّ أيّام عشر ذي الحجّة ولياليها أيّام شريفة ومفضّلة ، يضاعف العمل فيها ، ويستحبّ الاجتهاد في العبادة فيها ، وزيادة عمل الخير والبرّ بشتّى أنواعه فيها ، ولعظم شأنها أقسم اللّه سبحانه بها بقوله : { وَالْفَجْرِ ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ } حيث يرى جمهور المفسّرين أنّ المقصود من الآية هي عشر ذي الحجّة .
وهي أفضل أيّام السّنة لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » ما من أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى اللّه من هذه الأيّام ، يعني أيّام العشر قالوا : يا رسول اللّه ولا الجهاد في سبيل اللّه ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل اللّه ، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء « .
ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة ، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر « .
استحباب الصّوم في عشر ذي الحجّة :
3 - قال الفقهاء : يستحبّ الصّوم في العشر الأول من ذي الحجّة ما عدا العاشر منه ، وهو يوم النّحر الّذي هو يوم عيد الأضحى المبارك ، فلا يجوز الصّيام فيه باتّفاق ، فالمراد ما عداه من باقي العشر .
واستدلّوا لذلك بالأحاديث السّابقة .
أمّا صوم يوم عرفة وفضله فقد اتّفق الفقهاء على استحبابه إلاّ للحاجّ ، لما ثبت عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : » سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال : يكفّر السّنة الماضية والباقية « .
وفي معنى تكفير السّنة الماضية والمستقبلة قال بعض الفقهاء : إنّ اللّه سبحانه يغفر للصّائم ذنوب سنتين ، وقال آخرون : يغفر له ذنوب السّنة الماضية ، ويعصمه عن الذّنوب في السّنة المستقبلة .
أمّا فيما يغفر من الذّنوب بصيام يوم عرفة فقال جمهور الفقهاء : المراد صغائر الذّنوب دون الكبائر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : » الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهنّ من الذّنوب إذا اجتنب الكبائر « .
وقال آخرون : إنّ هذا لفظ عامّ وفضل اللّه واسع لا يحجر ، فيرجى أن يغفر اللّه له ذنوبه صغيرها وكبيرها .
وتفصيل ذلك في : ( صغائر ف 4 ، يوم عرفة ) .(/1)
وفي الموسوعة الفقهية :
عَاشُورَاء *
التّعريف :
1 - عاشوراء : هو اليوم العاشر من المحرّم ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : » أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء : يوم العاشر « .
الألفاظ ذات الصّلة :
تاسوعاء :
2 - تاسوعاء : هو اليوم التّاسع من شهر المحرّم .
والصّلة بين تاسوعاء وعاشوراء أنّ صوم كلّ منهما مستحبّ ، استدلالاً بالحديث الصّحيح : » أنّه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء ، فقيل له : إنّ اليهود والنّصارى تعظّمه ، فقال : فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع « .
الحكم الإجماليّ :
3 - صوم يوم عاشوراء مسنون ، أو مستحبّ ، كصوم يوم تاسوعاء ، فقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء ، وقال عليه الصلاة والسلام : » صيام يوم عرفة أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله والسّنة الّتي بعده ، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله « ، وفي رواية لمسلم : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع « قال ابن عبّاس : فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وفي فضل يوم عاشوراء ، وحكمة مشروعيّة الصّيام فيه قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : » قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى ، قال : فأنا أحقّ بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه « .
ومعنى تكفير سنة : أي ذنوب سنة من الصّغائر ، فإن لم يكن صغائر خفّف من كبائر السّنة وذلك التّخفيف موكول لفضل اللّه ، فإن لم يكن كبائر رفع له درجات .
وعن عطاء أنّه سمع ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول في يوم عاشوراء : خالفوا اليهود وصوموا التّاسع والعاشر .
وقد ذكر العلماء في حكمة استحباب صيام تاسوعاء مع صيام عاشوراء أوجهاً :
أحدها : أنّ المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر .
والثّاني : أنّ المراد وصل يوم عاشوراء بصوم .
والثّالث : الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط ، فيكون التّاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر .
وللمزيد من التّفصيل في ذلك : ( ر : صوم التّطوّع ) .
التّوسعة في عاشوراء :
4 - قال بعض الفقهاء تستحبّ التّوسعة على العيال والأهل في عاشوراء ، واستدلّوا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » من وسّع على أهله يوم عاشوراء وسّع اللّه عليه سائر سنته « .
قال ابن عيينة : قد جرّبناه منذ خمسين سنةً أو ستّين فما رأينا إلاّ خيراً .
5 - أمّا غير التّوسعة على العيال ممّا يحدث من الاحتفال والاكتحال والاختضاب يوم العاشر وليلته : فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الاحتفال في ليلة العاشر من محرّم أو في يومه بدعة ، وأنّه لا يستحبّ شيء منه ، بل ما روي في هذا الباب إنّما هو من وضع الوضّاعين أهل البدع تشجيعاً لبدعتهم الّتي يصنعونها في هذا اليوم .
ولم يثبت في فضل هذا اليوم إلاّ الصّيام فقط .(/1)
عَانَة *
التّعريف :
1 - العانة في اللّغة : هي الشّعر النّابت فوق الفرج ، وتصغيرها عوينة وقيل : هي المنبت .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ لهذا اللّفظ عن معناه اللّغويّ ، قال العدويّ والنّفراويّ : العانة : هي ما فوق العسيب والفرج وما بين الدّبر والأنثيين .
وقال النّوويّ : المراد بالعانة الشّعر الّذي فوق ذكر الرّجل وحواليه وكذلك الشّعر الّذي حوالي فرج المرأة .
الأحكام المتعلّقة بالعانة :
حلق العانة :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ حلق العانة سنّة ، ويرى الشّافعيّة على أصحّ القولين وجوب حلق العانة على الزّوجة إذا أمرها زوجها بذلك .
المفاضلة بين حلق العانة وغيره من طرق الإزالة :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز إزالة شعر العانة بأيّ مزيل من حلق وقصّ ونتف ونورة ، لأنّ أصل السّنّة يتأدّى بالإزالة بأيّ مزيل ، كما أنّه لا خلاف بينهم في أنّ الحلق أفضل لإزالة شعر العانة في حقّ الرّجل .
أمّا المرأة فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأولى في حقّها النّتف .
وذهب جمهور المالكيّة والنّوويّ في قول إلى ترجيح الحلق في حقّ المرأة ، لحديث جابر في » النّهي عن طروق النّساء ليلاً حتّى تمتشط الشّعثة وتستحدّ المغيّبة « .
قال الحنابلة : لا بأس بالإزالة بأيّ شيء ويؤخذ من عباراتهم أنّهم يرون أفضليّة الحلق .
توقيت حلق العانة :
4 - يستحبّ حلق العانة في كلّ أسبوع مرّةً ، وجاز في كلّ خمسة عشر ، وكره تركه وراء الأربعين ، لحديث أنس رضي الله عنه : » وُقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلةً « .
قال القرطبيّ في المفهم : ذكر الأربعين تحديد لأكثر المدّة ، ولا يمنع تفقّد ذلك من الجمعة إلى الجمعة ، والضّابط في ذلك : الاحتياج .
وقال النّوويّ : ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص ، والضّابط : الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة - أي خصال الفطرة - .
دفن شعر العانة :
5 - يستحبّ دفن ما أخذ من شعر العانة ومواراته في الأرض .
قال مهنّا : سألت أحمد عن الرّجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه ؟ قال يدفنه ، قلت : بلغك فيه شيء ؟ قال : كان ابن عمر يدفنه .
وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أنّه أمر بدفن الشّعر والأظفار « .
قال ابن حجر : وقد استحبّ أصحابنا دفنها لكونها أجزاءً من الآدميّ .
حلق عانة الميّت :
6 - قال الحنفيّة : لا يؤخذ شيء من شعر الميّت ، وهذا ما يفهم من عبارات المالكيّة ، فقد أورد الزّرقانيّ أثراً بلفظ : يصنع بالميّت ما يصنع بالعروس غير أنّه لا يحلق ولا ينوّر . وذهب الحنابلة إلى تحريم حلق شعر عانته لما فيه من لمس عورته وربّما احتاج إلى نظرها وهو محرّم فلا يرتكب من أجل مندوب .
ويرى الشّافعيّة على الجديد استحباب أخذ شعر عانة الميّت ، وعلى القول الثّاني يقولون بكراهته .
وللتّفصيل ( ر : شعر ) .
النظر إلى العانة للضرورة :
7 – يجوز النظرُ إلى العانةِ وإلى العورة عامةً لحاجةٍ ملجئةٍ ، قال ابن قدامة : يباح للطبيب النظرُ إلى ما تدعو إليه الحاجة من بدنِها – بدن المراة – من العورة وغيرها فإنه موضعُ حاجةٍ – ومثل ذلك النظر إلى عورة الرجل – لحديث عطيةَ القرظي قال : » كنتُ من سبي بني قُريظة ،ومَن لم يُنبت لم يُقتل فكنتُ فيمن لم يُنبت ، وزاد في رواية : فكشفوا عانتي فوجدوها لم تُنبت ، فجعلوني مِن السبي « .
وعن عثمانَ أنه أُتي بغلامٍ قد سرق فقال انظروا إلى مؤتزرِه فلم يجدوه أنبت الشعرَ فلم يقطعه .
وقال الشربيني الخطيبُ : وأما عند الحاجةِ فالنظرُ واللمسُ مباحان لفصدٍ وحجامةٍ وعلاجٍ ولو في فرجٍ للحاجةِ الملجئة إلى ذلك ، لأنّ في التحريم حينئذٍ حرَجاً ، فللرجلِ مداواة المرأةِ وعكسه ، وليكنْ ذلك بحضرةِ مَحرمٍ أو زوجٍ أو امرأة ثقةٍ .
وللتفصيل في شروطِ جَواز معالجةِ الطبيبِ امرأةً أجنبية ينظرُ : ( عورة ) .
هذا وقد ذكر الحنابلةُ حلقَ العانةِ لمن لا يُحسنه ضمنَ الضروراتِ التي تجيزُ النظرَ إلى العورةِ .
دلالة ظهور شعر العانة على البلوغ :
8 - يرى المالكيّة على المذهب والحنابلة واللّيث وإسحاق وأبو ثور أنّ الإنبات - وهو ظهور الشّعر الخشن للعانة - علامة البلوغ مطلقاً .
ولم يعتبر أبو حنيفة الإنبات علامة البلوغ مطلقاً .
وأمّا الشّافعيّ فقد اعتبر الإنبات أمارةً على البلوغ في حقّ الكافر ، واختلف قوله في المسلم .
وللتّفصيل ( ر : بلوغ فقرة 10 ) .
الجناية على العانة :
9 - تجب حكومة العدل في قطع عانة المرأة وكذلك عانة الرّجل ، لأنّه جناية ليس فيها أرش مقدّر من جهة الشّرع ولا يمكن إهدارها فتجب فيها حكومة العدل .
وللتّفصيل في شروط وجوب حكومة العدل وكيفيّة تقديرها ينظر مصطلح : ( حكومة عدل ف 5 وما بعدها ) .(/1)
عَرَفَات *
التّعريف :
1 - عرفات وعرفة : المكان الّذي يؤدّي فيه الحجّاج ركن الحجّ وهو الوقوف بها .
حدود عرفة :
2 - قال الشّافعيّ : هي ما جاوز وادي عُرَنة - بعين مضمومة ثمّ راء مفتوحة ثمّ نون - إلى الجبال القابلة ممّا يلي بساتين ابن عامر ، وقد وضعت الآن علامات حول أرض عرفة تبيّن حدودها ويجب على الحاجّ أن يتنبّه لها ، لئلاّ يقع وقوفه خارج عرفة ، فيفوته الحجّ ، أمّا جبل الرّحمة ففي وسط عرفات ، وليس نهاية عرفات ، ويجب التّنبّه إلى مواضع ليست من عرفات يقع فيها الالتباس للحجّاج وهي :
أ - وادي عرنة .
ب - وادي نمرة .
ج - المسجد الّذي سمّاه الأقدمون مسجد إبراهيم ، ويسمّى مسجد نمرة ومسجد عرفة ، قال الشّافعيّ : إنّه ليس من عرفات ، وإنّ من وقف به لم يصحّ وقوفه ، وقد تكرّر توسيع المسجد كثيراً في عصرنا ، وفي داخل المسجد علامات تبيّن للحجّاج ما هو من عرفات ، وما ليس منها ينبغي النّظر إليها .
الحكم التّكليفيّ :
3 - الوقوف بعرفات ركن من أركان الحجّ ، بل هو الرّكن الّذي إذا فات فات الحجّ بفواته لحديث : » الحجّ عرفة « .
وللتّفصيل ينظر : ( حجّ ف وما بعدها ، ويوم عرفة ) .(/1)
عَرَق *
التّعريف :
1 - العرق لغةً : ما جرى من أصول الشّعر من ماء الجلد ، قال صاحب اللّسان : ويأتي لعدّة معان منها : الثّواب واللّبن .
ويستعمل عند الفقهاء بمعنيين :
الأوّل : ما رشح من البدن .
والآخر : نوع من المسكرات يقطر من الخمر ويسمّى عرقيّاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّمع :
2 - الدّمع لغةً : ماء العين ، يقال : دمعت العين دمعاً إذا سال ماؤها ، وعين دامعة أي : سائل دمعها .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
والصّلة بين العرق والدّمع أنّ كلاً منهما ممّا يفرزه الجسم .
ب - اللّعاب :
3 - اللّعاب في اللّغة : ما سال من الفم ، يقال : لعب الرّجل إذا سال لعابه ، وألعب أي : صار له لعاب يسيل من فمه ، ولعاب الحيّة : سمّها ، ولعاب النّحل العسل .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
أ - العرق بمعنى ما رشح من البدن :
4 - ذهب الفقهاء إلى طهارة عرق الإنسان مطلقاً ، لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ، الصّاحي والسّكران ، والطّاهر والحائض والجنب .
5- واختلفوا في حكم طهارة عرق الحيوان :
فقسّم الحنفيّة عرق الحيوان إلى أربعة أنواع : طاهر ، ونجس ، ومكروه ، ومشكوك فيه ، وذلك لأنّ كلّ واحد منها متولّد من اللّحم فأخذ حكمه .
فالطّاهر : عرق ما يؤكل لحمه من الحيوان ، وعرق الفرس ، أمّا عرق ما يؤكل لحمه ، فلأنّه يتولّد من لحم مأكول فأخذ حكمه ، وأمّا طهارة عرق الفرس ، فلأنّ عرقه متولّد من لحمه وهو طاهر ، وحرمته لكونه آلة الجهاد لا لنجاسته .
والنّجس : عرق الكلب والخنزير وسباع البهائم ، أمّا الكلب فلنجاسة سؤره لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات « فهذا الحديث يفيد النّجاسة ، لأنّ الطّهور مصدر بمعنى الطّهارة فيستدعي سابقة التّنجّس أو الحدث ، والثّاني منتف ، فتعيّن الأوّل ، وأمّا الخنزير فلأنّه نجس العين لقوله تعالى : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } .
وأمّا سباع البهائم ، فلأنّه متولّد من لحمها ، ولحمها حرام نجس ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » نهى عن كلّ ذي ناب من السّباع وعن كلّ ذي مخلب من الطّير « .
والمكروه : عرق الهرّة والدّجاجة المخلاة وسباع الطّير وسواكن البيوت ، قال الكرخيّ : كراهية عرق الهرّة لأجل أنّها لا تتحامى النّجاسة ، وقال الطّحاويّ : الكراهة لحرمة لحمها قال الزّيلعيّ : قول الطّحاويّ يدلّ على أنّها إلى التّحريم أقرب كسباع البهائم ، لأنّ الموجب للكراهة لازم غير عارض ، وقول الكرخيّ يدلّ على التّنزّه ، وهذا أصحّ والأقرب إلى موافقة الحديث ، فإنّه عليه الصلاة والسلام قال فيها : » إنّها ليست بنجس إنّما هي من الطّوّافين عليكم والطّوّافات « .
وأمّا كراهة عرق الدّجاجة المخلاة فلعدم تحاميها النّجاسة ، ويصل منقارها إلى ما تحت رجليها ، ويلحق بها الإبل والبقر الجلالة ، وأمّا كراهة عرق سباع الطّير وسواكن البيوت فاستحساناً للضّرورة وعموم البلوى ، فسباع الطّير تنقضّ من علوّ وهواء فلا يمكن صون الأواني عنها لا سيّما في البراريّ ، وسواكن البيوت طوافها ألزم من الهرّة ، لأنّ الفأرة تدخل ما لا تقدر الهرّة دخوله وهو العلّة في الباب لسقوط النّجاسة ، والقياس أن يكون نجساً ، لأنّ لحمها نجس وحرام .
والعرق المشكوك فيه عرق الحمار والبغل لتعارض الأدلّة ، لأنّه قد ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : » أمر يوم خيبر بإكفاء القدور من لحوم الحمر الأهليّة وقال : إنّها رجس « .
وأمّا البغل فهو من نسل الحمار فيكون بمنزلته ، قال ابن عابدين : قيل : سببه تعارض الأخبار في لحمه ، وقيل اختلاف الصّحابة في سؤره ، والأصحّ : أنّ الحمار أشبه الهرّة لوجوده في الدّور والأفنية ، لكنّ الضّرورة فيه دون الضّرورة فيها لدخولها مضايق البيت فأشبه الكلب والسّباع ، فلمّا ثبت الضّرورة من وجه دون وجه واستوى ما يوجب الطّهارة والنّجاسة تساقطا للتّعارض ، فصيّر إلى الأصل ، وهو هنا شيئان : الطّهارة في الماء ، والنّجاسة في اللّعاب ، وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي الأمر مشكلاً ، نجساً من وجه ، طاهراً من آخر .
وذهب المالكيّة إلى طهارة عرق كلّ حيوان حيّ ، بحريّاً كان أو برّيّاً ، ولو كلباً أو خنزيراً . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العرق له حكم حيوانه طهارةً ونجاسةً ، فعرق الحيوان الطّاهر طاهر ، وعرق الحيوان النّجس نجس ، وعند الشّافعيّة كلّ الحيوانات طاهرة ما عدا الكلب والخنزير وما تفرّع من أحدهما ، وعند الحنابلة : النّجس من الحيوان ما لا يؤكل من الطّير والبهائم ممّا فوق الهرّ خلقةً كالصّقر والبوم والعقاب والحدأة والنّسر والرّخم وغراب البين والأبقع والبغل والحمار والأسد والنّمر والفهد والذّئب والكلب والخنزير وابن آوى والدّبّ والقرد .
قال صاحب المغني : والصّحيح عندي طهارة البغل والحمار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يركبهما ويركبان في زمنه وفي عصر الصّحابة فلو كان نجساً لبيّن لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولأنّهما لا يمكن التّحرّز منهما لمقتنيهما فأشبها السّنّور . والتّفصيل في مصطلح : ( طهارة ، ونجاسة ) .
ب - العرق بمعنى الخمر :(/1)
6 - العرق نوع من المسكرات يقطر من الخمر ، حكمه حكم الخمر ، فهو نجس ويحدّ شاربه قال ابن عابدين : لا شكّ أنّ العرق المستقطر من الخمر هو عين الخمر ، تتصاعد مع الدّخان وتقطر من الطّابق بحيث لا يبقى منها إلاّ أجزاؤه التّرابيّة ، ولذا يفعل القليل منه في الإسكار أضعاف ما يفعله كثير الخمر ، والمعتمد المفتى به : أنّ العرق لم يخرج بالطّبخ والتّصعيد عن كونه خمراً ، فيحدّ بشرب قطرة منه وإن لم يسكر ، وأمّا إذا سكر منه فلا شبهة في وجوب الحدّ به ، وقد صرّح في منية المصلّي بنجاسته أيضاً .(/2)
عَظْم *
التّعريف :
1 - العظم في اللّغة : هو الّذي عليه اللّحم من قصب الحيوان ، ومنه قوله تعالى : { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً } ، والجمع أعظم وعظام وعظامه بالهاء لتأنيث الجمع .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالعظم :
طهارة العظم أو نجاسته :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ عظم الآدميّ طاهر سواء كان حيّاً أو ميّتاً وسواء كان مسلماً أو كافراً لقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } الآية ، ومن التّكريم أن لا يحكم بنجاسته بالموت .
وذهب الفقهاء كذلك إلى أنّ عظم السّمك يبقى طاهراً بعد موته لقوله صلى الله عليه وسلم : » أحلّت لنا ميتتان ودمان الجراد والحيتان والكبد والطّحال « .
كما ذهبوا إلى أنّ عظم مأكول اللّحم المذبوح شرعاً طاهر يجوز الانتفاع به ، إلاّ أنّهم اختلفوا في عظم الميتة أو المذبوح الّذي لا يؤكل لحمه ، فذهب الجمهور وهم المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وإسحاق إلى أنّ عظام الميتة نجسة سواء كانت ميتة ما يؤكل لحمه أو ما لا يؤكل لحمه ، وسواء في غير مأكول اللّحم ذبح أو لم يذبح ، وأنّها لا تطهر بحال ويحرم استعمالها لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } .
ولأنّ ابن عمر رضي الله عنهما : كره أن يدّهن في عظم فيل ، لأنّه ميتة ، والسّلف يطلقون الكراهة ويريدون بها التّحريم - كما يقول النّوويّ - وكذا ما أبين من حيوان نجس الميتة من العظام سواء كان حيّاً أو ميّتاً ، لأنّه جزء متّصل بالحيوان اتّصال خلقة فأشبه الأعضاء ، وكره عطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم عظام الفيلة ، ورخّص في الانتفاع بها محمّد بن سيرين وابن جريج .
وذهب الحنفيّة إلى طهارة عظام الميتة .
والتّفصيل في مصطلح : ( عاج ف 4 ، 5 ، 6 ) .
الاستنجاء بالعظم :
3 - اختلف الفقهاء في حكم الاستنجاء بالعظم ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز الاستنجاء أو الاستجمار بالعظم سواء كان هذا العظم طاهراً كعظم مأكول اللّحم المذكّى أو نجساً كعظم الميتة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : اتّبعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته فقال : » ابغني أحجاراً أستنفض بها أو نحوه ، ولا تأتني بعظم ولا روث « وللنّهي الوارد عنه صلى الله عليه وسلم عندما سأل الجنّ الزّاد ربّهم فقال : » لكم كلّ عظم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً ، وكلّ بعرة علف لدوابّكم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنّهما طعام إخوانكم « .
وقالوا : إنّ من خالف النّهي واستنجى بالعظم لم يجزئه وكان عاصياً لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : » نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بروث أو عظم وقال : إنّهما لا تطهّران « .
ولأنّ الاستنجاء بغير الماء رخصة والرّخصة لا تحصل بحرام ، لكنّه يكفيه الحجر بعد ذلك ما لم تنتشر النّجاسة ولم يكن على العظم زهومة .
ولو أحرق عظماً طاهراً بالنّار وخرج عن حال العظم فهل يجوز الاستنجاء به ؟
للشّافعيّة فيه وجهان :
الأوّل : لا يجوز الاستنجاء به لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : » نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الرّوث والرّمّة « أي : الاستنجاء بهما ، والرّمّة هي العظم البالي ، ولا فرق بين البالي بنار أو البالي بمرور الزّمان وهذا أصحّ .
الوجه الثّاني : يجوز الاستنجاء به ، لأنّ النّار أحالته وأخرجته عن حال العظم المنهيّ عن الاستنجاء به .
وقال الحنفيّة : يكره تحريماً الاستنجاء بالعظم للنّهي الوارد في ذلك ، ولكن إذا خالف واستنجى بالعظم أجزأه عندهم ، لأنّه يجفّف النّجاسة وينقّي المحلّ .
قال ابن عابدين : يستفاد من الحديث السّابق - وهو حديث الجنّ - أنّ العظم لو كان عظم ميتة لا يكره الاستنجاء به .
وأمّا المالكيّة فالعظم عندهم إذا كان نجساً كعظم الميتة فلا يجوز الاستجمار به ، وإن كان العظم طاهراً كعظم مأكول اللّحم المذكّى فيجوز الاستنجاء به مع الكراهة .
الذّبح بالعظم :
4 - اختلف الفقهاء في حكم الذّبح بالعظم على تفصيل ينظر في مصطلح : ( ذبائح ف 41 )
القصاص في العظم :
5- ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا قصاص في العظم إلاّ من مفصل لعدم إمكان المماثلة في غير المفصل ، وفي ذلك تفصيل ينظر في : ( قصاص ، وقود ) .(/1)
عَقِيق *
التّعريف :
1 - العقيق في اللّغة : الوادي الّذي شقّه السّيل قديماً .
قال أبو منصور : ويقال لكلّ ما شقّه ماء السّيل في الأرض فأنهره ووسّعه عقيق ، والجمع أعقّة وعقائق .
قال ابن منظور : العقيق واد بالحجاز غلبت الصّفة عليه غلبة الاسم ولزمته الألف والَلام . وفي بلاد العرب عدّة مواضع تسمّى العقيق ، منها عقيق أرض اليمامة ، ومنها عقيق بناحية المدينة ، ومنها عقيق آخر يدفق ماؤه في غوري تهامة ، ومنها عقيق القنان . والعقيق أيضاً : خرز أحمر يتّخذ منه الفصوص ، الواحدة عقيقة ، وفي المصباح المنير : حجر يعمل منه الفصوص .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحجر :
2 - الحجر : الصّخرة ، والجمع في القلّة أحجار ، وفي الكثرة حجار وحجارة .
فالحجر أعمّ من العقيق في أحد معنييه .
ب - المعدن :
3 - من معاني المعدن : مكان كلّ شيء يكون فيه أصله ومبدؤه نحو معدن الذّهب والفضّة والأشياء .
والمعادن : المواضع الّتي يستخرج منها جواهر الأرض .
والمعدن بأحد معانيه أعمّ من العقيق .
ج - الياقوت :
4 - الياقوت من الجواهر ، أجوده الأحمر الرّمّانيّ .
وكلّ من العقيق والياقوت من الأحجار الّتي تستعمل للزّينة .
الحكم الإجماليّ :
يتعلّق بالعقيق بمعنييه أحكام :
أوّلاً : العقيق بمعنى الوادي :
5 - نصّ الشّافعيّة على أفضليّة إحرام أهل العراق ومن في ناحيتهم من العقيق على ذات عرق ، والعقيق واد وراء ذات عرق ممّا يلي المشرق ، قال النّوويّ : قال أصحابنا : والاعتماد في ذلك على ما في العقيق من الاحتياط ، قيل : وفيه سلامة من التباس وقع في ذات عرق ؛ لأنّ ذات عرق قرية خربت وحوّل بناؤها إلى جهة الكعبة ، فالاحتياط الإحرام قبل موضع بنائها الآن .
واستأنسوا مع الاحتياط بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : » وقّت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق « .
وقال المالكيّة والحنابلة : ميقات أهل العراق : ذات عرق .
وانظر مصطلح : ( إحرام 48 ) .
ثانياً : العقيق بمعنى نوع من الحجر :
أ - التّيمّم بالعقيق :
6 - اختلف الفقهاء في جواز التّيمّم بالعقيق :
فذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز التّيمّم بالعقيق ، وذهب الحنفيّة إلى جواز التّيمّم بالعقيق لكونه من جنس الأرض .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تيمّم ف 26 ) .
ب - زكاة العقيق :
7 - اختلف الفقهاء في وجوب الزّكاة في العقيق :
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى أنّه لا زكاة في العقيق كسائر الجواهر إلاّ أن تكون للتّجارة ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لا زكاة في حجر « . وذهب الحنابلة إلى وجوب الزّكاة في العقيق ؛ لعموم قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } .
ولأنّه معدن فتعلّقت الزّكاة بالخارج منه كالأثمان ؛ ولأنّه مال لو غنمه وجب عليه خمسه ، فإذا أخرجه من معدن وجبت فيه الزّكاة كالذّهب ، قال ابن قدامة : صفة المعدن الّذي يتعلّق به وجوب الزّكاة هو كلّ ما خرج من الأرض ممّا يخلق فيها من غيرها ممّا له قيمة كالحديد والياقوت والزّبرجد والعقيق .
ج - الرّبا في العقيق :
8 - لا يجري الرّبا في العقيق وذلك لعدم توافر العلل الرّبويّة فيه عند المالكيّة والشّافعيّة ، ولا يجري الرّبا فيه كذلك عند الحنفيّة والحنابلة ؛ لأنّه غير مكيل ولا موزون إلاّ إذا تعارف النّاس بيعه بالكيل أو بالوزن .
د - السّلم في العقيق :
9 - اختلف الفقهاء في جواز السّلم في العقيق :
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى عدم صحّة السّلم في العقيق ؛ لتفاوت آحاده تفاوتاً فاحشاً . ونصّ الشّافعيّة على عدم جواز السّلم في العقيق ، واستثنوا حالة ما إذا كان بالوزن . وذهب المالكيّة إلى جواز السّلم في صنوف الفصوص والحجارة مطلقاً .
هـ – التّزيّن بالعقيق :
10 – ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة التّختّم بالعقيق للرّجل .
وذهب بعض الحنابلة إلى استحبابه ، وقال ابن رجب : ظاهر كلام أكثر الأصحاب أنّه لا يستحبّ ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية منها .(/1)
عَمْد *
التّعريف :
1 - العمد في اللّغة : قصد الشّيء والاستناد إليه ، وهو المقصود بالنّيّة يقال : تعمّد وتعمّد له وعمد إليه وله ، أي قصده .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القصد :
2 - يقال : قصدت الشّيء وله وإليه قصداً : إذا طلبته بعينه ، وقصد الأمر : توجّه إليه عامداً ، والمقصد : موضوع القصد ، وقصد في الأمر : توسّط ولم يجاوز الحدّ فيه ، وقصد الطّريق : أي : استقام .
والقصد أعمّ من العمد .
ب - العزم :
3 - العزم في اللّغة : عقد القلب على إمضاء الأمر ، يقال : عزم فلان عزماً أي : جدّ وصبر ، وعزم الأمر أي : عقد نيّته وضميره على فعله .
ج - الخطأ :
4 - الخطأ في اللّغة : ضدّ الصّواب وهو اسم من أخطأ فهو مخطئ ، يقال لمن يذنب على غير عمد ، ولمن أراد الصّواب فصار إلى غيره ، قال الرّاغب الأصفهانيّ : الخطأ العدول عن الجهة .
والخطأ في الاصطلاح : فعل يصدر من الإنسان بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواه الأحكام المتعلّقة بالعمد :
وردت الأحكام المتعلّقة بالعمد في أبواب من كتب الفقه ، منها :
أ - في الصّلاة :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المصلّي إذا ترك ركناً من أركان الصّلاة عمداً أو انتقل إلى ما بعده بطلت صلاته ، وكذا إن تكلّم في صلاته أو أكل أو شرب عمداً .
وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح : ( صلاة ف 107 وما بعدها ) .
ب - في الصّوم :
6 - لو أكل الصّائم أو شرب أو باشر أهله عامداً أفطر بالإجماع .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صوم ف 37 وما بعدها ) .
ج - في الجنايات :
7 - القتل العمد محرّم بالإجماع مستوجب للقصاص والنّار كما جاء في قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } .
وقد اختلفوا في قبول توبة قاتل العمد :
فذهب جمهور فقهاء المذاهب الأربعة إلى قبول توبته ، لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ ََلا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَََلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إََِلا بِالْحَقِّ وَََلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ، إََِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } .
وقوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ; ولأنّ الكفر أعظم من قتل العمد بإجماع الفقهاء فإذا قبلت التّوبة منه فقبول التّوبة من القتل أولى .
وذهب جماعة من علماء السّلف ومنهم ابن عبّاس رضي الله عنهما إلى أنّه ليس لقاتل العمد توبة ، لقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .
د - في الرّدّة :
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا فعل الإنسان ما يكفر به عمداً أو قال قولاً يخرجه عن الملّة عمداً فقد ارتدّ وتجرى عليه أحكام المرتدّ .
والتّفصيل في مصطلح : ( ردّة ف 10 وما بعدها ) .
هـ - في الطّلاق :
9 - اتّفق الفقهاء على وقوع الطّلاق ممّن يتعمّده ، فإن مرّ لفظ الطّلاق بلسان نائم أو تلفّظ به من زال عقله بسبب لم يعص اللّه فيه أو سبق لسانه إلى لفظ الطّلاق أو تلفّظ بالطّلاق حاكياً كلام غيره أو كرّر الفقيه لفظ الطّلاق في الدّرس فلا يقع الطّلاق في هذه المسائل كلّها .
و - الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمداً :
10 - أجمع الفقهاء على أنّ تعمّد الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ من أعظم الفرى أن يدعى الرّجل إلى غير أبيه ، أو يري عينه ما لم تر ، أو يقول على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل » .
ولكنّهم اختلفوا في كفر من تعمّد الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
فقال الذّهبيّ وابن حجر الهيتميّ : ذهبت طائفة من العلماء إلى أنّ الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفر ينقل عن الملّة ، ولا ريب أنّ تعمّد الكذب على اللّه ورسوله في تحليل حرام أو تحريم حلال كفر محض ، وإنّما الكلام في الكذب عليه فيما سوى ذلك . واتّفق العلماء على أنّه لا تقبل رواية متعمّد الكذب في حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أبداً وإن تاب وحسنت طريقته تغليظاً عليه وزجراً عن الكذب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنّه يصير شرعاً مستمرّاً إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره صلى الله عليه وسلم فإنّ مفسدته ليست عامّةً بل تكون قاصرةً .
ز - حلف اليمين كذباً عمداً :
11 - أجمع الفقهاء على أنّ حلف اليمين كذباً عمداً حرام من كبائر الذّنوب ، لقول اللّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وقوله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي اللّه وهو عليه غضبان » .(/1)
ولما رواه عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الكبائر : الإشراك باللّه ، وعقوق الوالدين ، وقتل النّفس ، واليمين الغموس » .
واليمين الّتي يتعمّد فيها الكذب سمّيت غموساً ; لأنّها تغمس الحالف في الإثم في الدّنيا وتغمسه في النّار يوم القيامة .
وقال ابن قدامة : الكذب حرام فإذا كان محلوفاً عليه كان أشدّ في التّحريم ، وإن أبطل به حقّاً أو اقتطع به مال معصوم كان أشدّ .
راجع مصطلح : ( أيمان ف 108 - 114 ) .
ح - الحنث في اليمين عمداً :
12 - تعمّد الحنث في اليمين تجري عليه الأحكام الخمسة :
فقد يكون الحنث واجباً وذلك إذا كان الحلف على ترك واجب عينيّ أو على فعل محرّم ، فإذا حلف مثلاً على أن لا يصلّي إحدى الصّلوات الخمس المفروضة وجب عليه الحنث .
وقد يكون الحنث مندوباً وذلك إذا حلف على ترك مندوب كسنّة الضّحى أو على فعل مكروه كأن يلتفت بوجهه في الصّلاة فيندب الحنث وقد يكون الحنث مباحاً وذلك إذا حلف على ترك مباح أو فعله كدخول دار وأكل طعام معيّن ولبس ثوب فقال بعض الفقهاء : الأفضل في هذا ترك الحنث لما فيه من تعظيم اللّه تعالى .
وقد يكون الحنث حراماً وذلك إذا حلف على فعل واجب أو ترك حرام فعليه أن ينفذ ما حلف عليه لقوله تعالى : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } .
وقد يكون تعمّد الحنث مكروهاً وذلك إذا حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه للأحاديث السّابقة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حنث ف 6 ) .(/2)
عَوْرة *
التّعريف :
1 - العورة في اللّغة : الخلل في الثّغر وفي الحرب ، وقد يوصف به منكّراً ، فيكون للواحد والجمع بلفظ واحد . وفي القرآن الكريم : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً } فهنا ورد الوصف مفرداً والموصوف جمعاً . وتطلق على السّاعة الّتي تظهر فيها العورة عادةً للّجوء فيها إلى الرّاحة والانكشاف ، وهي ساعة قبل الفجر ، وساعة عند منتصف النّهار ، وساعة بعد العشاء الآخر ، وفي التّنزيل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وكلّ شيء يستره الإنسان أنفةً وحياءً فهو عورة . وهي في الاصطلاح : ما يحرم كشفه من الجسم سواء من الرّجل أو المرأة ، أو هي ما يجب ستره وعدم إظهاره من الجسم ، وحدّها يختلف باختلاف الجنس وباختلاف العمر ، كما يختلف من المرأة بالنّسبة للمحرم وغير المحرم على التّفصيل الّذي يأتي ، وقال الشّربينيّ الخطيب : هي ما يحرم النّظر إليه .
الألفاظ ذات الصّلة :
السّتر :
2 - السّتر لغةً : ما يستر به ، والسّترة بالضّمّ مثله ، ويقال لما ينصبه المصلّي قدّامه علامةً لمصلّاه من عصاً وغيرها سترة ؛ لأنّه يستر المارّ من المرور أي يحجبه ، والصّلة بين العورة والسّتر أنّ السّتر مطلوب لتغطية العورة .
الأحكام المتعلّقة بالعورة :
تتعلّق بالعورة أحكام ذكرها الفقهاء في مواطن منها :
عورة المرأة بالنّسبة للرّجل الأجنبيّ :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ جسم المرأة كلّه عورة بالنّسبة للرّجل الأجنبيّ عدا الوجه والكفّين ؛ لأنّ المرأة تحتاج إلى المعاملة مع الرّجال وإلى الأخذ والعطاء لكن جواز كشف ذلك مقيّد بأمن الفتنة .
وورد عن أبي حنيفة القول بجواز إظهار قدميها ؛ لأنّه سبحانه وتعالى نهى عن إبداء الزّينة واستثنى ما ظهر منها . والقدمان ظاهرتان ، ويقول ابن عابدين : إنّ ظهر الكفّ عورة ؛ لأنّ الكفّ عرفاً واستعمالاً لا يشمل ظهره .
وورد عن أبي يوسف القول بجواز إظهار ذراعيها أيضاً لأنّهما يبدوان منها عادةً .
وجاز كشف الوجه والكفّين والنّظر إليهما بدليل قوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي مواضعها ، فالكحل زينة الوجه ، والخاتم زينة الكفّ ، بدليل ما روي « أنّ أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ، دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال : يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلاّ هذا وهذا ، وأشار إلى وجهه وكفّيه » .
وقال القرطبيّ في معنى قوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } اختلف النّاس في قدر المستثنى فقال ابن مسعود : ظاهر الزّينة هو الثّياب ، وزاد ابن جبير الوجه ، وقال سعيد بن جبير أيضاً وعطاء والأوزاعيّ : الوجه والكفّان والثّياب ، وقال ابن عبّاس وقتادة والمسور بن مخرمة : ظاهر الزّينة هو الكحل والسّوار والخضاب إلى نصف الذّراع والقرط والفتخ .
وذكر الطّبريّ حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلاّ وجهها ، وإلاّ ما دون هذا ، وقبض على ذراع نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكفّ مثل قبضة أخرى » .
وقال الشّربينيّ الخطيب : وشرط السّاتر منع إدراك لون البشرة لا حجمها ، فلا يكفي ثوب رقيق ولا مهلهل لا يمنع إدراك اللّون .
وظاهر مذهب أحمد بن حنبل أنّ كلّ شيء من المرأة عورة بالنّسبة للأجنبيّ عنها حتّى ظفرها، وروي عن الإمام أحمد أنّه قال : إنّ من يُبِينُ زوجته لا يجوز أن يأكل معها لأنّه مع الأكل يرى كفّها ، وقال القاضي من الحنابلة : يحرم نظر الأجنبيّ إلى الأجنبيّة ما عدا الوجه والكفّين ، ويباح له النّظر إلى هذين العضوين مع الكراهة عند أمن الفتنة .
وممّا يحتجّ به للحرمة ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: « يا عليّ لا تتبع النّظرة النّظرة فإنّ لك الأولى ، وليست لك الآخرة » وما ورد من « أنّ الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما كان رديف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحجّ فجاءته الخثعميّة تستفتيه ، فأخذ الفضل ينظر إليها وتنظر هي إليه ، فصرف عليه الصلاة والسلام وجه الفضل عنها » .
وقال الحنابلة : العجوز الّتي لا يشتهى مثلها لا بأس بالنّظر إلى ما يظهر منها غالباً ، لقوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً } وفي معنى العجوز الشّوهاء الّتي لا تشتهى ، ومن ذهبت شهوته من الرّجال لكبر أو عنّة أو مرض لا يرجى برؤه والخصيّ والشّيخ والمخنّث الّذي لا شهوة له فحكمه حكم ذوي المحارم في النّظر ، لقوله تعالى : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ } .
وعند الشّافعيّة حكمه حكم الأجنبيّ ، إذ يحرم عليه النّظر حتّى إلى الوجه والكفّين عند خوف الفتنة .(/1)
وقال الحنفيّة والشّافعيّة : ظهور المرأة بالزّينة للصّغير الّذي لم يظهر على عورات النّساء ، والّذي لا يعرف العورة من غير العورة لا بأس به لقوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء } ، وأمّا الّذي يعرف التّمييز بين العورة وغيرها وقارب الحلم فلا يجوز لها إبداء زينتها له .
وقال الفقهاء : من أراد خطبة امرأة فله أن ينظر إليها سواء أذنت هي أو وليّها به أم لم يأذنا به ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما خطب امرأةً : « انظر إليها ، فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما » .
وللمرأة أيضاً النّظر إلى ما هو غير عورة من الرّجل إن أرادت الاقتران به .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( خطبة ف /26 ، 29 ) .
أمّا صوت المرأة فليس بعورة عند الشّافعيّة ، ويجوز الاستماع إليه عند أمن الفتنة ، وقالوا: وندب تشويهه إذا قرع بابها فلا تجيب بصوت رخيم .
عورة المرأة المسلمة بالنّسبة للأجنبيّة الكافرة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء : " الحنفيّة والمالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة " إلى أنّ المرأة الأجنبيّة الكافرة كالرّجل الأجنبيّ بالنّسبة للمسلمة ، فلا يجوز أن تنظر إلى بدنها ، وليس للمسلمة أن تتجرّد بين يديها ، لقوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } أي النّساء المسلمات فلو جاز نظر المرأة الكافرة لما بقي للتّخصيص فائدة ، وقد صحّ عن عمر رضي الله عنه الأمر بمنع الكتابيّات من دخول الحمّام مع المسلمات .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه يجوز أن ترى الكافرة من المسلمة ما يبدو منها عند المهنة، وفي رأي آخر عندهم أنّه يجوز أن ترى منها ما تراه المسلمة منها وذلك لاتّحاد الجنس كالرّجال .
والمذهب عند الحنابلة أنّه لا فرق بين المسلمة والذّمّيّة ولا بين المسلم والذّمّيّ في النّظر ، وقال الإمام أحمد في رواية عنه :لا تنظر الكافرة إلى الفرج من المسلمة ولا تكون قابلةً لها. وفي رواية أخرى عنه أنّ المسلمة لا تكشف قناعها عند الذّمّيّة ولا تدخل معها الحمّام .
عورة المرأة بالنّسبة للمرأة المسلمة :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ عورة المرأة بالنّسبة للمرأة هي كعورة الرّجل إلى الرّجل ، أي ما بين السّرّة والرّكبة ، ولذا يجوز لها النّظر إلى جميع بدنها عدا ما بين هذين العضوين ، وذلك لوجود المجانسة وانعدام الشّهوة غالباً ، ولكن يحرم ذلك مع الشّهوة وخوف الفتنة .
عورة المرأة بالنّسبة للمحارم :
6 - المراد بمحرم المرأة من يحرم عليه نكاحها على وجه التّأبيد لنسب أو سبب" مصاهرة" أو رضاع .
قال المالكيّة والحنابلة في المذهب : إنّ عورة المرأة بالنّسبة إلى رجل محرم لها هي غير الوجه والرّأس واليدين والرّجلين ، فيحرم عليها كشف صدرها وثدييها ونحو ذلك عنده ، ويحرم على محارمها كأبيها رؤية هذه الأعضاء منها وإن كان من غير شهوة وتلذّذ .
وذكر القاضي من الحنابلة أنّ حكم الرّجل مع ذوات محارمه هو كحكم الرّجل مع الرّجل والمرأة مع المرأة .
وعورة المرأة بالنّسبة لمن هو محرم لها عند الحنفيّة هي ما بين سرّتها إلى ركبتها ، وكذا ظهرها وبطنها ، أي يحلّ لمن هو محرّم لها النّظر إلى ما عدا هذه الأعضاء منها عند أمن الفتنة وخلوّ نظره من الشّهوة ، والأصل فيه قوله تعالى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ } والمراد بالزّينة مواضعها لا الزّينة نفسها لأنّ النّظر إلى أصل الزّينة مباح مطلقاً، فالرّأس موضع التّاج ، والوجه موضع الكحل ، والعنق والصّدر موضعا القلادة والأذن موضع القرط ، والعضد موضع الدّملوج ، والسّاعد موضع السّوار ، والكفّ موضع الخاتم ، والسّاق موضع الخلخال ، والقدم موضع الخضاب ، بخلاف الظّهر والبطن والفخذ لأنّها ليست بموضع للزّينة ، ولأنّ الاختلاط بين المحارم أمر شائع ولا يمكن معه صيانة مواضع الزّينة عن الإظهار والكشف .
وكلّ ما جاز النّظر إليه منهنّ دون حائل جاز لمسه عند أمن الفتنة وإلاّ لم يجز ، وكذلك الأمر بالنّسبة للخلوة بإحداهنّ منفردين تحت سقف واحد ، فالرّسول صلى الله عليه وسلم كان يقبّل فاطمة رضي الله عنها .
ولم يجز للرّجل النّظر إلى ظهر أو بطن أو فخذ من هي محرم له فضلاً عن حرمة النّظر إلى ما بين سرّتها وركبتها ، كما لم يحلّ لمس أيّ من هذه الأعضاء لعموم قوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } ؛ ولأنّه سبحانه وتعالى جعل الظّهار منكراً من القول وزوراً، وهو - أي الظّهار - تشبيه الزّوجة بظهر الأمّ في حقّ الحرمة ، ولو لم يكن النّظر إلى ظهر الأمّ وبطنها أو لمسها حراماً لم يكن الظّهار منكراً من القول وزوراً .
وكلّ ما يحلّ للرّجل من النّظر واللّمس من ذوات محارمه يحلّ مثله لها بالنّسبة لمن هو محرم لها ، وكلّ ما يحرم عليه يحرم عليها .
والشّافعيّة يرون جواز نظر الرّجل إلى ما عدّا ما بين السّرّة والرّكبة من محارمه من النّساء من نسب أو رضاع أو مصاهرة صحيحة ، وقيل : يحلّ له النّظر فقط إلى ما يظهر منها عادةً في العمل داخل البيت ، أي إلى الرّأس والعنق واليد إلى المرفق والرّجل إلى الرّكبة .
وهم يقرّرون هذين الاتّجاهين أيضاً بالنّسبة لنظرها إلى من هو محرم لها .(/2)
وقال الحنابلة : الكافر محرم لقريبته المسلمة لأنّ أبا سفيان أتى المدينة وهو مشرك فدخل على ابنته أمّ حبيبة فطوت فراش النّبيّ صلى الله عليه وسلم لئلاّ يجلس عليه ، ولم تحتجب منه ولا أمرها بذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم .
عورة الأمة بالنّسبة للرّجل الأجنبيّ :
7 - اختلف الفقهاء في عورة الأمة بالنّسبة للرّجل الأجنبيّ .
فقال المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة : إنّ عورتها هي ما بين سرّتها وركبتها .
وقال الحنفيّة : عورتها مثل عورة الحرّة بالنّسبة لمحارمها .
وقال الحنابلة : إنّ عورتها كعورة الحرّة لا يجوز أن ينظر منها إلاّ ما يجوز النّظر إليه من الحرّة .
عورة الرّجل بالنّسبة للرّجل :
8 - عورة الرّجل بالنّسبة إلى رجل آخر - سواء كان قريباً له أو أجنبيّاً عنه - هي ما بين سرّته إلى ركبته عند الحنفيّة ، ويستدلّون بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ما تحت السّرّة عورة » والسّرّة عندهم ليست بعورة استدلالاً بما روي أنّ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أبدى سرّته فقبّلها أبو هريرة رضي الله عنه ، ولكنّ الرّكبة عورة عندهم ، بدليل ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الرّكبة من العورة » .
وما جاز نظره من الرّجل بالنّسبة للرّجل جاز لمسه .
والشّافعيّة والحنابلة في المذهب يرون أنّ الرّكبة والسّرّة ليستا من العورة في الرّجل ، وإنّما العورة ما بينهما فقط .
لما روي عن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: « ما فوق الرّكبتين من العورة ، وما أسفل السّرّة وفوق الرّكبتين من العورة » .
والرّواية الأخرى عند الحنابلة أنّها الفرجان استدلالاً بما روى أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حسر يوم خيبر الإزار عن فخذه حتّى أنّي لأنظر إلى بياض فخذه عليه الصلاة والسلام » .
وجواز نظر الرّجل من الرّجل إلى ما هو غير عورة منه مشروط بعدم وجود الشّهوة وإلاّ حرم .
ويرى المالكيّة في المشهور عندهم أنّ عورة الرّجل بالنّسبة للرّجل ما بين السّرّة والرّكبة ، وعليه فإنّ الفخذ عورة لا يجوز النّظر إليها في المشهور عندهم ، وقيل : لا يحرم وإنّما يكره، وقيل : يكره عند من يستحيى منه ، بدليل « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كشف فخذه عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما . ولمّا دخل عثمان رضي الله عنه ستره وقال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة » .
عورة الرّجل بالنّسبة للأجنبيّة :
9 - اختلف الفقهاء في عورة الرّجل بالنّسبة للأجنبيّة .
فيرى الحنفيّة أنّ لها النّظر إلى ما عدا ما بين السّرّة إلى الرّكبة إن أمنت على نفسها الفتنة. والمالكيّة يرون أنّ لها النّظر إلى ما يراه الرّجل من محرمه وهو الوجه والأطراف عند أمن الفتنة .
أمّا الشّافعيّة فلا يجيزون لها النّظر إلى ما هو عورة وإلى ما هو غير عورة منه من غير سبب ، بدليل عموم آية : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } وبدليل ما روت أمّ سلمة رضي الله عنها قالت « كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أمّ مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فقال صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه فقلنا : يا رسول اللّه أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه » .
والقول الرّاجح عند الحنابلة يجيز نظر المرأة إلى ما ليس بعورة من الأجنبيّ ، لحديث عائشة رضي الله عنها « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد » .
عورة الصّغير والصّغيرة :
10 - يرى الحنفيّة أن لا عورة للصّغير والصّغيرة جدّاً ، وحدّد بعضهم هذا الصّغر بأربع سنوات فما دونها ، ثمّ إلى عشر سنين يعتبر في عورته ما غلظ من الكبير ، وتكون عورته بعد العشر كعورة البالغين ، ونقل ابن عابدين أنّه ينبغي اعتبار السّبع ، لأمرهما بالصّلاة إذا بلغا هذه السّنّ .
ويرى المالكيّة أنّ الصّغير ابن ثمان سنوات فأقلّ لا عورة له ، فللمرأة النّظر إلى جميع بدنه حيّاً وأن تغسّله ميّتاً ، ولها النّظر إلى جميع بدن من هو بين التّاسعة والثّانية عشرة ولكن ليس لها غسله ، والبالغ ثلاث عشرة سنةً فما فوق عورته كعورة الرّجل .
أمّا الصّغيرة فهي إلى سنّ السّنتين وثمانية أشهر فلا عورة لها إذا كانت رضيعةً ، وأمّا غير الرّضيعة إن كانت لم تبلغ حدّ الشّهوة فلا عورة لها بالنّسبة للنّظر ، أمّا بالنّسبة للمسّ فعورتها كعورة المرأة فليس للرّجل أن يغسّلها ، أمّا المشتهاة فعورتها كعورة المرأة بالنّسبة للنّظر والتّغسيل .
وعورة الصّغير في الصّلاة السّوأتان والعانة والأليتان ، فيندب له سترها ، أمّا عورة الصّغيرة فهي بين السّرّة والرّكبة ، وما زاد على ذلك ممّا يجب ستره على الحرّة فمندوب لها فقط .(/3)
والأصحّ عند الشّافعيّة حلّ النّظر إلى صغيرة لا تشتهى لأنّها ليست مظنّة الشّهوة ، إلاّ الفرج فلا يحلّ النّظر إليه ، وفرج الصّغير كفرج الصّغيرة على المعتمد ، واستثنى ابن القطّان الأمّ زمن الرّضاع والتّربية للضّرورة ، وينبغي أن تكون المرضعة غير الأمّ كالأمّ والأصحّ أنّ الصّبيّ المراهق في نظره للأجنبيّة كالرّجل البالغ الأجنبيّ ، فلا يجوز للمرأة أن تبرز له لقوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء } ، ومقابل الأصحّ أنّه معها كالبالغ من ذوي محارمها ، وأمّا غير المراهق فإن لم يبلغ حدّاً يحكي ما يراه فكالعدم ، أو بلغه من غير شهوة كالمحرم ، أو بشهوة فكالبالغ ، وقالوا : إنّ عورة الصّغير في الصّلاة ذكراً كان أو أنثى ، مراهقاً كان أو غير مراهق كعورة المكلّف في الصّلاة .
والحنابلة قالوا : إنّ الصّغير الّذي هو أقلّ من سبع سنين لا عورة له ، فيجوز النّظر إلى جميع بدنه ومسّه ، ومن زاد عن ذلك إلى ما قبل تسع سنين فإن كان ذكراً فعورته القبل والدّبر في الصّلاة وخارجها ، وإن كان أنثى فعورتها ما بين السّرّة والرّكبة بالنّسبة للصّلاة . وأمّا خارجها فعورتها بالنّسبة للمحارم هي ما بين السّرّة والرّكبة ، وبالنّسبة للأجانب من الرّجال جميع بدنها إلاّ الوجه والرّقبة والرّأس واليدين إلى المرفق والسّاق والقدم .
عورة كلّ من الزّوجين بالنّسبة للآخر :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه ليس أي جزء من بدن الزّوجة عورةً بالنّسبة للزّوج وكذلك أي جزء من بدنه بالنّسبة لها ، وعليه يحلّ لكلّ واحد منهما النّظر إلى جميع جسم الآخر ومسّه حتّى الفرج ؛ لأنّ وطأها مباح ، فيكون نظر كلّ منهما إلى أيّ جزء من أجزاء الآخر مباحاً بشهوة وبدون شهوة بطريق الأولى ، والأصل فيه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } وما ورد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال : « قلت : يا رسول اللّه : عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال : احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك » .
لكنّ الشّافعيّة والحنابلة قالوا : يكره نظر كلّ منهما إلى فرج الآخر ، ونصّ الشّافعيّة على أنّ النّظر إلى باطن الفرج أشدّ كراهةً .
وقال الحنفيّة : من الأدب أن يغضّ كلّ من الزّوجين النّظر عن فرج صاحبه ، واستدلّوا بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال « إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ، ولا يتجرّد تجرّد العيرين » .
عورة الخنثى المشكل :
12 - الخنثى المشكل الرّقيق عند الحنفيّة كالأمة ، والحرّ كالحرّة ، أي فيما هو عورة منها وفيما هو ليس بعورة ، قال ابن عابدين : ينبغي أن لا تكشف الخنثى للاستنجاء ولا للغسل عند أحد أصلاً ؛ لأنّها إن كشفت عند رجل احتمل أنّها أنثى ، وإن كشفت عند أنثى احتمل أنّها ذكر .
والشّافعيّة يرون أنّ الخنثى المشكل يعامل بأشدّ الاحتمالين ، فيجعل مع النّساء رجلاً ومع الرّجال امرأةً ، ولا يجوز أن يخلو به أجنبيّ ولا أجنبيّة ، وإن كان مملوكاً لامرأة فهو معها كعبدها .
وقال الحنابلة : الخنثى المشكل كالرّجل ، لأنّ ستر ما زاد على عورة الرّجل محتمل فلا نوجب عليه حكماً بأمر محتمل متردّد فيه ، والعورة الفرجان اللّذان في قبله لأنّ أحدهما فرج حقيقيّ، وليس يمكنه تغطيته يقيناً إلاّ بتغطيتهما ، فوجب عليه ذلك كما يجب ستر ما قرب من الفرجين ضرورة سترهما .
العورة في الصّلاة :
13 - يجب ستر العورة في الصّلاة لكلا الجنسين في حال توفّر السّاتر ، لقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد بالزّينة في الآية الثّياب في الصّلاة . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » ، أي البالغة ، والثّوب الرّقيق الّذي يصف ما تحته من العورة لا تجوز الصّلاة فيه لانكشاف العورة . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة ف /12 ) .
ما تستره المرأة في الإحرام :
14 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المرأة ما دامت محرمةً ليس لها أن تغطّي وجهها إذ ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه : إحرام الرّجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها . وليس لها أن تلبس القفّازين . والتّفصيل ينظر في ( إحرام /67 - 68 ) .
لمس الأجنبيّ أو الأجنبيّة :
15 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز مسّ الرّجل شيئاً من جسد المرأة الأجنبيّة الحيّة ، سواء أكانت شابّةً أم عجوزاً ، لما ورد « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم تمسّ يده يد امرأة قطّ » . ولأنّ المسّ أبلغ من النّظر في اللّذّة وإثارة الشّهوة . ووافقهم الحنفيّة في حكم لمس الأجنبيّة الشّابّة ، وقالوا : لا بأس بمصافحة العجوز ومسّ يدها لانعدام خوف الفتنة .
عورة الميّت :
16 - ذهب الفقهاء إلى أنّ عورة الميّت يحرم النّظر إليها كحرمة النّظر إلى عورة الحيّ « لقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه : لا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميّت » .
أمّا لمس الميّت لتغسيله فينظر في مصطلح ( تغسيل الميّت ف /11 وما بعدها ) .
النّظر إلى العورة لتحمّل الشّهادة :
17 - يصرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بجواز النّظر إلى وجه المرأة الأجنبيّة عند الشّهادة وعند البيع والشّراء ، وكذلك لها النّظر .(/4)
قال الشّربينيّ الخطيب : يجوز النّظر للشّهادة تحمّلاً وأداءً ، هذا كلّه إن لم يخف الفتنة فإن خافها لم ينظر إلاّ إن تعيّن عليه فينظر ويضبط نفسه ، كما يجوز النّظر إلى الفرج للشّهادة على الزّنى والولادة ، وإلى الثّدي للشّهادة على الرّضاع .
وقال ابن قدامة : وللشّاهد النّظر إلى وجه المشهود عليها لتكون الشّهادة واقعةً على عينها، قال أحمد : لا يشهد على امرأة إلاّ أن يكون قد عرفها بعينها ، وإن عامل امرأةً في بيع أو إجارة فله النّظر إلى وجهها ليعلمها بعينها ، وقد روي عن أحمد كراهة ذلك في حقّ الشّابّة دون العجوز ، ولعلّه كرهه لمن يخاف الفتنة أو يستغني عن المعاملة ، فأمّا مع الحاجة وعدم الشّهوة فلا بأس .
ويصرّح الحنفيّة أنّه يجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم على امرأة ، وللشّاهد إذا أراد أن يشهد عليها النّظر إلى وجهها وإن خاف الاشتهاء ، للحاجة إلى إحياء الحقوق عن طريق القضاء وأداء الشّهادة .
أمّا النّظر لتحمّل الشّهادة فقيل يباح وإن أدّى إلى الاشتهاء ، والأصحّ أنّه لا يباح لانتفاء الضّرورة ، إذ يوجد من يؤدّيها دون الاشتهاء بخلاف حالة الأداء وفي حالة الزّنى تنهض الحاجة للنّظر إلى العورة الغليظة لتحمّل الشّهادة ثمّ أدائها ، إذ لا يمكن الشّهادة على الزّنى بدون النّظر إلى هذه العورة ، والحرمة تسقط لمكان الضّرورة .
كشف العورة للحاجة الملجئة :
18 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز عند الحاجة الملجئة كشف العورة من الرّجل أو المرأة ، لأيّ من جنسهما أو من الجنس الآخر ، وقالوا : إنّه يجوز للقابلة النّظر إلى الفرج عند الولادة أو لمعرفة البكارة في امرأة العنّين أو نحوها ، ويجوز للطّبيب المسلم إن لم توجد طبيبة أن يداوي المريضة الأجنبيّة المسلمة ، وينظر منها ويلمس ما تلجئ الحاجة إلى نظره أو لمسه ، فإن لم توجد طبيبة ولا طبيب مسلم جاز للطّبيب الذّمّيّ ذلك .
ويجوز للطّبيبة أن تنظر وتلمس من المريض ما تدعو الحاجة الملجئة إلى نظره إن لم يوجد طبيب يقوم بمداواة المريض .
واستدلّوا بما ورد عن عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه أنّه أتي بغلام قد سرق فقال : انظروا إلى مؤتزره ، فنظروا ولم يجدوه أنبت الشّعر فلم يقطعه .
وقال المالكيّة : يجوز نظر الطّبيب إلى محلّ المرض من المرأة الأجنبيّة إذا كان في الوجه أو اليدين ، قيل ولو بفرجها للدّواء ، كما يجوز للقابلة نظر الفرج ، قال التّتّائيّ : ولي فيه وقفة، إذ القابلة أنثى وهي يجوز لها نظر فرج الأنثى إذا رضيت .
كشف العورة عند الاغتسال :
19 - ذهب الفقهاء إلى جواز كشف العورة عند الاغتسال في حال الانفراد .
واستدلّوا بما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ينظر بعضهم إلى بعض وكان موسى يغتسل وحده ... » .
أمّا في غير هذه الحالة فينظر التّفصيل في مصطلح : ( استتار ف /8 وما بعدها ) .
السّلام على مكشوف العورة :
20 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يكره السّلام على مكشوف العورة ولو كان الانكشاف لضرورة ، وأنّه لا يسلّم على من يقضي حاجته ، وإن سلّم عليه أحد فلا يردّ عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ رجلاً مرّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلّم عليه فلم يردّ عليه صلى الله عليه وسلم » . والتّفصيل في مصطلح ( سلام ف /17 ) .
الإنكار على مكشوف العورة :
21 - قال ابن عابدين : لو رأى شخص غيره مكشوف الرّكبة ينكر عليه برفق ولا ينازعه إن لجّ ، وفي الفخذ يعنّفه إن قدر على ذلك . ولا يضربه إن لجّ ، وفي السّوأة يؤدّبه إن لجّ . وقال ابن تيميّة يلزمه الإنكار على مكشوف العورة ؛ إذ هو من الأمر بالمعروف .(/5)
عُذْر *
التّعريف :
1 - العذر لغةً : - هو الحجّة الّتي يعتذر بها ، والجمع أعذار ، يقال : لي في هذا الأمر عذر ، أي : خروج من الذّنب ، وفي المصباح : عذرته عذراً من باب ضرب : رفعت عنه اللّوم ، فهو معذور أي : غير ملوم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّخصة :
2 - الرّخصة في اللّغة هي : اسم من " رخّص " تقول : رخّص له الأمر أي : أذن له فيه بعد النّهي عنه ، وتأتي بمعنى ترخيص اللّه للعبد في أشياء خفّفها عنه فهي إذن بمعنى : التّيسير والتّخفيف .
وفي الاصطلاح : هي ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السّبب المحرّم ، ولولا العذر لثبتت الحرمة .
ب - العفو :
3 - العفو في اللّغة : هو محو الذّنوب ، وهو - أيضاً - : التّجاوز عن الذّنب ، وترك العقاب عليه ، وهو أيضاً قبول الدّية في العمد .
وفي الاصطلاح : هو الصّفح وإسقاط اللّوم والذّنب ، وفي الجنايات هو : إسقاط وليّ المقتول القود عن القاتل .
أقسام العذر :
4 - ينقسم العذر من حيث العموم والخصوص إلى قسمين : عذر خاصّ ، وعذر عامّ .
القسم الأوّل :
أوّلاً : العذر الخاصّ بأحكام العبادات :
ويكون على نوعين :
النّوع الأوّل : العذر الملازم غالباً لفرد معيّن :
5 - ومنه : الاستحاضة وسلس البول وانفلات الرّيح ، وانطلاق البطن ، والجرح الّذي لا يرقأ والرّعاف الدّائم فكلّ مسلم مصاب بعذر من هذه الأعذار يكون معذوراً ، والمعذور بهذا الاعتبار : هو الّذي لا يمضي عليه وقت صلاة إلاّ والحدث الّذي ابتلي به موجود .
أثر هذه الأعذار في العبادات :
أ - في الوضوء والغسل والتّيمّم :
6 - اتّفق الفقهاء بالنّسبة للمستحاضة على أنّه إذا انتهت الأيّام المعتبرة حيضاً وجب عليها الاغتسال من الحيض ، ثمّ لا يجب عليها الغسل بعد ذلك في كلّ يوم ، أو لكلّ صلاة بسبب خروج دم الاستحاضة إلاّ إذا عرض لها ما يوجب الغسل غير الاستحاضة .
7 - ولكنّهم اختلفوا في كيفيّة وضوئها ، ووضوء من في حكمها من أصحاب الأعذار ، كمن به سلس البول ، وانفلات الرّيح ، وانطلاق البطن ، والجرح الّذي لا يرقأ :
فذهب الحنفيّة إلى أنّ هؤلاء يتوضّئون لوقت كلّ صلاة ، ويصلّون ما شاءوا من الفرائض أداءً أو قضاءً ، والواجبات كالوتر ، وكذا النّوافل حتّى يخرج الوقت ، ما لم يعرض ناقض من النّواقض الاعتياديّة واستدلّوا بما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » المستحاضة تتوضّأ لوقت كلّ صلاة « .
وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها حين قالت له : إنّي أستحاض ، فلا أطهر : » توضّئي لوقت كلّ صلاة « وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام : » المستحاضة تتوضّأ لكلّ صلاة « ، لأنّه يراد بالصّلاة الوقت ، قال عليه الصلاة والسلام : » أينما أدركتني الصّلاة تمسّحت وصلّيت « ويقال : آتيك لصلاة الظّهر أي : لوقتها ، فالمستحاضة ومن في حكمها تكون بين الوقتين في حكم الطّاهرات ما لم يطرأ ناقض آخر .
وذهب المالكيّة إلى أنّ تكرار الوضوء بالنّسبة للمستحاضة ومن في حكمها من أصحاب الأعذار لا يجب لوقت كلّ صلاة وإنّما يستحبّ ذلك ، إلاّ إذا كان انقطاع الدّم أكثر من إتيانه فيجب ، لأنّ هذا من الحدث المبتلى به ، واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش : » فاغتسلي وصلّي « ولم يأمرها بالوضوء ، ولأنّه ليس بمنصوص على الوضوء منه ، ولا في معنى المنصوص ، لأنّ المنصوص عليه هو الخارج المعتاد ، وليس هذا بمعتاد .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المستحاضة ومن في حكمها من أصحاب الأعذار يجب أن يتوضّئوا لكلّ فرض بعد دخول وقته ، ويصلّوا مع هذا الفرض ما يشاءون من النّوافل ، مستدلّين بحديث فاطمة بنت أبي حبيش : » توضّئي لكلّ صلاة « ما لم يعرض لها ناقض اعتياديّ . وذهب الحنابلة إلى أنّ المستحاضة ومن في حكمها عليهم الوضوء لكلّ صلاة ، وبعد غسل محلّ الحدث وشدّه والتّحرّز من خروج الحدث بما يمكن مستدلّين بما روي عن عديّ بن ثابت عن أبيه عن جدّه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المستحاضة : » تدع الصّلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتتوضّأ لكلّ صلاة ، وتصوم وتصلّي « .
هذه أحكام الغسل والوضوء لأصحاب الأعذار ، ووسيلة التّطهّر في كليهما هي الماء ، ولكنّ هذا مشروط بالقدرة على استعماله ووجوده .
ولا يختلف حكم التّيمّم بالنّسبة للمستحاضة ومن في حكمها من أصحاب الأعذار ، فقد قاس الفقهاء التّيمّم على الوضوء والغسل في جميع أحوالهما ، بشرط فقدان الماء أو العجز عن استعماله مع وجوده ، فالتّيمّم مشروع عند إرادة الصّلاة وفقدان الماء ، وهو خلف عن الوضوء والغسل ، والخلف لا يخالف الأصل ، بل يقوم مقامه .
شرط ثبوت العذر وزواله :
8 - شرط ثبوت العذر : هو استمرار الحدث وعدم التّمكّن من حفظ الطّهارة ، أو استمراره أكثر من انقطاعه ، بحيث لا يمضي وقت صلاة إلاّ والحدث الّذي ابتلي به موجود وملازم له غالباً .
أمّا شرط زواله : فهو انقطاع العذر كالدّم وغيره ، وخروج صاحبه عن كونه معذوراً ، وخلوّ وقت كامل عنه ، لأنّ طهارة أصحاب الأعذار طهارة عذر وضرورة ، فتتقيّد بالوقت كالتّيمّم .
بطلان طهارة صاحب العذر :(/1)
9 - اختلف الفقهاء في وقت بطلان طهارة صاحب العذر ، فذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّها تبطل بخروج الوقت ما لم يطرأ عليها في الوقت ناقض آخر ، ولو كان مماثلاً للعذر الأوّل ، كما لو سال أحد منخريه فتوضّأ له ، ثمّ سال الآخر في الوقت انتقض الوضوء بالثّاني ، لأنّه حدث جديد ، ولا عبرة بالمماثلة ، ولأنّ الحدث مبطل للطّهارة ، وعند الإمام أحمد تبطل بخروج الوقت كما تبطل بدخوله وهو ما ذهب إليه أبو يوسف من الحنفيّة فالحدث الآخر وخروج الوقت أو دخوله يبطلان طهارة صاحب العذر .
طروء العذر في أثناء العبادة :
10 - إذا تحقّق في المكلّف وجود العذر قبل الصّلاة يتوضّأ ويصلّي ، ويبقى طاهراً فيما بين الوقتين ، فيصلّي وإن استمرّ العذر معه في أثناء العبادة ، فلا تبطل عبادته ، لضرورة المرض الّذي يعدّ من الحدث المبتلى به .
أمّا إذا دخل الصّلاة صحيحاً سليماً ، ثمّ دهمه العذر في أثنائها وتأكّد لديه استمراره ، فهل ينقض وضوءه وتبطل صلاته أم لا ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على النّحو التّالي :
11 – أوّلاً : إذا خرج ما يعذر به من أحد السّبيلين ، كان الخروج حدثاً يبطل الوضوء كما يبطل الصّلاة ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة الّذين قالوا : بوجوب الوضوء على أصحاب الأعذار لوقت كلّ صلاة ، سواء أكان العذر معتاداً ، لقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة : » توضّئي لكلّ صلاة ، وصلّي وإن قطر الدّم على الحصير « ، ولما رواه البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها قالت : » اعتكفت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه ، فكانت ترى الدّم والصّفرة والطّست تحتها وهي تصلّي « ، أم كان غير معتاد ، لما رواه عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في المذي : » يغسل ذكره ويتوضّأ « .
ولما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : في الودي الوضوء .
والمذي والودي غير معتادين ، وقد وجب فيهما الوضوء ، ولأنّهما خارجان من السّبيل فينقضان كالرّيح والغائط ، وذهب المالكيّة إلى أنّ الخارج من هذه الأشياء إذا كان معتاداً يبطل الوضوء والصّلاة ، أمّا إذا كان غير معتاد كسلس البول ، ولازمه نصف الزّمان فأكثر فإنّه لا ينقض وضوءه ، ولا يبطل صلاته إلاّ إذا كان أقلّ فينقض الوضوء ويبطل الصّلاة .
12 - ثانياً : إذا كان ما يعذر به خارجاً من غير السّبيلين كالدّم والقيح والرّعاف ، فإنّه ينقض الوضوء عند الحنفيّة ، ولا ينقض الوضوء عند المالكيّة والشّافعيّة ، وكذلك إن كان قليلاً عند الحنابلة ، أمّا إن كان كثيراً فإنّه ينقض الوضوء .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( رعاف ف 2 ) .
النّوع الثّاني : أعذار طارئة :
13 - هناك أعذار ترفع عن المكلّف الحرج ، وتدفع عنه الضّيق في عباداته وتكاليفه في أحواله كافّةً ، منها : ما هو متّفق عليه كالمرض مثلاً ، ومنها : ما هو مختلف فيه كالبرد والمطر والخوف .
فعند المالكيّة تكون شدّة الوحل عذراً لترك صلاة الجماعة والجمعة ، وكذلك شدّة الرّيح باللّيل لا بالنّهار ، كما يكون الخوف على مال من ظالم أو لصّ أو نار ، أو الخوف على العرض ، أو الدّين ، كأن يخاف قذف أحد من السّفهاء له ، أو إلزام قتل شخص أو ضربه ظلماً ، أو إلزام بيعة ظالم لا يقدر على مخالفته ، وكذلك الخوف من الحرّ أو البرد الشّديدين. وعند الشّافعيّة يعذر في ترك الجماعة في اللّيلة المطيرة ، واللّيلة الباردة ذات الرّيح ، والجمع بين الصّلاتين : المغرب والعشاء .
وعند الحنابلة يعذر في ترك الجمعة والجماعة الخائف من ضياع ماله ، كغلّة في بيادرها ، ودوابّ أنعام لا حافظ لها ، أو تلفه أو فواته ، كمن ضاع له كيس نقود وهو يرجو وجوده ، أو خائف من ضرر في ماله أو في معيشة يحتاج إليها ، وكذلك يعذر في ترك الجمعة والجماعة متأذّ بمطر شديد أو وحل أو ثلج ، أو جليد ، أو ريح باردة في ليلة مظلمة ، لقول ابن عمر رضي الله عنهما : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة باردة ، أو ذات مطر في السّفر أن يقول : ألا صلّوا في رحالكم « .
وكذلك الخوف على ولده وأهله أن يضيعوا وكذلك يعذر عندهم عن صلاة الفرض وهو قادر على القيام للصّلاة على الرّاحلة واقفةً أو سائرةً خشية الأذى بوحل أو مطر ونحوه ، والجمع في الصّلاة بين المغرب والعشاء لمطر يبلّ الثّياب .
أمّا الحنفيّة فلم يعتبروا واحداً من هذه الأمور عذراً يبيح للمكلّف التّخلّف عن صلاة الجماعة في المسجد ، ولا عن صلاة الجمعة .
القسم الثّاني : أعذار عامّة تتّصل بأحكام العبادات :
14 - لقد بنى الإسلام أحكامه على اليسر والسّهولة ، فشرع ألواناً من الرّخص لظروف توجد للمكلّف نوعاً من المشقّة تثقل كاهله في القيام ببعض العبادات .
ومن أسباب هذه الرّخص :
أ - السّفر :
وهو السّفر الّذي تناط به الرّخص .
وتفصيله في مصطلح : ( سفر ف 6 وما بعدها ) .
وهي في الجملة كما يلي :
قصر الصّلاة وجمعها :
15 - أجمع الفقهاء على مشروعيّة قصر الصّلاة في السّفر ، وذهب جمهورهم إلى أنّ السّفر من الأعذار المبيحة لجمع الصّلوات .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة المسافر ) .
جواز الفطر في رمضان :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ السّفر بشروطه من الأعذار المبيحة للفطر في رمضان .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صوم ) .
امتداد مدّة المسح على الخفّين :
17 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ السّفر يطيل مدّة المسح على الخفّين إلى ثلاثة أيّام بلياليها .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( مسح على الخفّين ) .
سقوط وجوب الجمعة :(/2)
18 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإقامة من شروط وجوب الجمعة ، وعلى ذلك يكون السّفر بشروطه من أسباب سقوط وجوب الجمعة عن المسافر .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة الجمعة ) .
سقوط القسم بين الزّوجات :
19 - اتّفق الفقهاء على وجوب العدل في القسم بين الزّوجات في المبيت ، ويسقط هذا في السّفر ، على تفصيل ينظر في مصطلح : ( قسم بين الزّوجات ) .
ب - المرض :
ومن الرّخص المتعلّقة بالمرض ما يأتي :
التّيمّم عند العجز عن استعمال الماء شرعاً :
20 - إذا خاف المريض من استعمال الماء على نفسه ، أو عضو من أعضائه التّلف ، أو زيادة المرض أو تأخّر البرء جاز له التّيمّم .
على تفصيل ينظر في مصطلح : ( تيمّم ف 21 ) .
العجز عن أداء ركن من أركان الصّلاة :
21 - إذا عجز المريض عن أداء الصّلاة بأركانها أو خاف زيادة مرضه بذلك صلّى على قدر استطاعته .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( صلاة المريض ) .
الجمع بين الصّلاتين :
22 - اختلف الفقهاء في جواز الجمع بين الصّلوات للمريض ، فذهب المالكيّة والحنابلة إلى جواز الجمع خلافاً للحنفيّة والشّافعيّة .
على تفصيل ينظر في مصطلح : ( جمع الصّلوات ف 9 ) .
التّخلّف عن الجمعة :
23 - ذهب الفقهاء إلى جواز تخلّف المريض عن صلاة الجمعة للعجز أو المشقّة .
على تفصيل ينظر في مصطلح : ( صلاة الجمعة ) .
الفطر في رمضان :
24 - اتّفق الفقهاء على جواز الفطر للمريض في رمضان .
على تفصيل ينظر في مصطلح : ( صوم ) .
خروج المعتكف من المسجد :
25 - يجوز للمعتكف الخروج من المسجد حالة المرض .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( اعتكاف ف 36 وما بعدها ) .
الاستنابة في الحجّ والعمرة وفي رمي الجمرات :
26 - ذهب الفقهاء إلى مشروعيّة الإنابة في الحجّ ، وفي رمي الجمار لغير القادر عليهما على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( حجّ ف 66 ، 115 ) .
استباحة محظورات الإحرام مع الفدية :
27 - حظر الشّارع الحكيم بعض المباحات على المحرم تذكيراً له بما أقدم عليه من نسك ، لكنّ الشّارع راعى الأعذار الّتي قد تقوم بالمحرم ، فأباح بعض المحظورات ، وشرع الفدية جبراً لما قد يكون في إحرام المحرم من مخالفة .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( إحرام ف 54 وما بعدها ) .
التّداوي بالمحرّم :
28 - اتّفق الفقهاء من حيث الجملة على عدم جواز التّداوي بالمحرّم والنّجس ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم « .
لكنّ بعض الفقهاء أباحوا التّداوي بهما لعذر ، على تفصيل ينظر في مصطلح : ( تداوي ف 8 و 9 ) .
إباحة النّظر إلى العورة ولمسها :
29 - اتّفق الفقهاء على تحريم نظر الأجنبيّ إلى العورة ، ولمسها من الذّكر ، أو الأنثى ، لكنّهم أباحوا ذلك للعذر أو الضّرورة كالمرض .
وفي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( تطبيب ف 4 ، وعورة ) .
ج - الإكراه :
30 - الإكراه الّذي تتغيّر معه بعض الأحكام هو : حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به ، وللإكراه تقسيمات باعتبارات مختلفة راعاها الفقهاء والأصوليّون ومنها : تقسيم الإكراه إلى إكراه بحقّ ، وهو : الإكراه المشروع الّذي لا ظلم فيه ولا إثم ، وإكراه بغير حقّ وهو : الإكراه ظلماً أو الإكراه المحرّم لتحريم وسيلته أو لتحريم المطلوب به .
وقسّم الحنفيّة الإكراه إلى : إكراه ملجئ : وهو الّذي يكون بالتّهديد ، بإتلاف النّفس أو عضو منها ، أو بإتلاف جميع المال ، أو التّهديد بهتك العرض ، أو بقتل من يهمّ الإنسان أمره ، وإكراه غير ملجئ وهو : الّذي يكون بما لا يفوّت النّفس أو بعض الأعضاء ، كالحبس لمدّة قصيرة ، والضّرب الّذي لا يخشى منه القتل أو إتلاف بعض الأعضاء . والإكراه بجميع أقسامه مفسد للرّضا في الجملة ، وبعضه مفسد للاختيار ، على خلاف في ذلك ، وفي أحكام الإكراه بأقسامه المختلفة ، وفي آثار كلّ قسم على الاختيار والرّضا . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( إكراه ، ف 16 وما بعدها ) .
د - الجهل والنّسيان :
31 - الجهل هو اعتقاد الشّيء على غير ما هو عليه ، والنّسيان من معانيه : ترك الشّيء عن ذهول وغفلة ، والجهل والنّسيان يعتبران عذرين مسقطين للإثم في الجملة ، على تفصيل ينظر في مصطلح : ( جهل ف 4 وما بعدها ، ونسيان ) .
هـ – الجنون والإغماء والنّوم :
32 – الجنون هو : اختلال العقل يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلاّ نادراً والإغماء هو : آفة في القلب أو الدّماغ تعطّل القوى المدركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً ، والنّوم معروف ، وقد عرّف بأنّه : فتور يعرض للإنسان مع قيام العقل يوجب العجز عن إدراك المحسوسات والأفعال الاختياريّة واستعمال العقل .
33 - والجنون : عذر وعارض من عوارض أهليّة الأداء ، وهو يزيلها من أصلها ، لأنّ أساسها العقل والتّمييز ، والمجنون عديم العقل والتّمييز ولا يؤثّر الجنون في أهليّة الوجوب، لأنّ أساسها الإنسانيّة ، أمّا أثر الجنون في العبادات والتّصرّفات والجنايات ففيه تفصيل ينظر في مصطلح : ( جنون ف 9 وما بعدها وأهليّة ف 27 ) .
34 - وكلّ من الإغماء والنّوم عذر ، وهما لا ينافيان أهليّة الوجوب ، لعدم إخلالهما بالذّمّة ، إلاّ أنّهما يوجبان تأخير توجّه الخطاب بالأداء إلى حال اليقظة ، وفي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( إغماء ف 5 وما بعدها ، وأهليّة ف 30 - 31 ونوم ) .
و - الاضطرار :(/3)
35 - الاضطرار : ظرف قاهر يصلح أن يكون عذراً يجوز بسببه ارتكاب المحظور شرعاً للمحافظة على إحدى الضّروريّات الخمس وهي : النّفس ، والمال والعرض ، والعقل ، والدّين ، وهذا باتّفاق الفقهاء قاطبةً .
وفي هذا الموضوع تفصيل ينظر في مصطلح : ( ضرورة ) .
ز - الحاجة :
36 - الحاجة هي : الّتي لا تتوقّف عليها صيانة الأصول الخمسة المتقدّمة ولا حمايتها ، ولكن تتحقّق بدونها مع الضّيق والحرج ، فهي إذن ما يترتّب على عدم استجابة المكلّف إليها عسر وصعوبة .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( حاجة ف 2 ) .
ح - الصّغر :
37 - الصّغر عارض من عوارض الأهليّة ، لما في الصّغير من النّقص في العقل والقدرة الجسميّة ، والصّبيّ قبل أن يميّز كالمجنون ، أمّا بعد التّمييز فيحدث له ضرب من أهليّة الأداء .
أعذار لها أحكام خاصّة :
أ - الإعسار بالدّين والنّفقة :
38 - إذا عجز الزّوج عن الإنفاق على زوجته لإعساره ، وطلبت التّفريق بناءً على عجزه عمّا وجب لها ولو بما تندفع به الضّرورة ، فهل يعتبر الإعسار بالدّين والنّفقة عذراً لعدم تلبية طلبها ؟ اختلف الفقهاء في ذلك :
فذهب المالكيّة والشّافعيّ وأحمد بن حنبل إلى أنّ للقاضي أن يفرّق بين الزّوجين لإعسار الزّوج وعجزه عن النّفقة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإعسار بالدّين والنّفقة ليس عذراً ، فلا يجوز للقاضي التّفريق بين الزّوجين إذا عجز الزّوج عن النّفقة ، وهو المرويّ عن عطاء والزّهريّ وابن شبرمة وابن يسار ، والحسن البصريّ ، والثّوريّ وابن أبي ليلى ، وحمّاد بن سليمان ، والمزنيّ من الشّافعيّة ، لأنّ العسر عرض لا يدوم ، والمال غاد ورائح ، ولأنّ التّفريق ضرر بالزّوج لا يمكن تداركه ، أمّا عدم الإنفاق فهو ضرر بالزّوجة يمكن علاجه بالاستدانة على الزّوج ، فيرتكب أخفّ الضّررين .
ب - العذر في تأخير ردّ المبيع المعيب :
39 - اتّفق الفقهاء على أنّ ردّ المبيع المعيب يكون بعد العلم بالعيب إذا لم يوجد منه ما يدلّ على الرّضا ، وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ خيار الرّدّ بالعيب على التّراخي ولا يشترط أن يكون ردّ المبيع بعد العلم بالعيب على الفور ، فمتى علم العيب فأخّر الرّدّ لم يبطل خياره ، حتّى يوجد منه ما يدلّ على الرّضا ، وعند المالكيّة إذا علم بالعيب فسكت ليوم أو يومين من غير عذر يسقط خياره ، وإن كان له عذر لم يسقط خياره مهما سكت عن المطالبة بالرّدّ ، فهو معذور مهما طالت المدّة .
وقال الشّافعيّة : لو علم المشتري بالعيب فلا يجوز تأخيره إلاّ بعذر ، ومن العذر عندهم : انشغاله بصلاة دخل وقتها ، أو بأكل ونحوه .
وكذا لو علم بالعيب ثمّ تراخى لمرض أو خوف لصّ ، أو حيوان مفترس ، أو نحوه فله التّأخير ، لأنّ الرّدّ بالعيب عندهم على الفور ، إذ الأصل في البيع اللّزوم والجواز عارض ، ولأنّه خيار ثبت بالشّرع لدفع الضّرر عن المال ، فكان فوريّاً كالشّفعة ، فيبطل الرّدّ بالتّأخير بغير عذر ، وفي الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ المشتري يلزمه الإشهاد على الفسخ إن أمكنه ولو في حال عذره ، لأنّ التّرك يحتمل الإعراض ، وأصل البيع اللّزوم ، فتعيّن الإشهاد ، ومقابل الأصحّ لا يلزمه الإشهاد .
ج - العذر في تأخير طلب الشّفعة :
40 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ عدم العلم بالبيع أو الشّراء يعدّ عذراً في تأخير طلب الشّفعة ، ولكنّهم اختلفوا في صور هذا العذر بعد العلم على النّحو الآتي :
فالحنفيّة يعدّون التّأخير في طلب الشّفعة جائزاً للأعذار الآتية :
السّفر ، كأن سمع الشّفيع بالبيع فحينئذ يطلب طلب المواثبة ، ثمّ يشهد إن قدر وإلاّ وكّل ، أو كتب كتاباً ، ثمّ يرسله إلى البائع على أساس أنّ طلب الشّفعة فوريّ عندهم .
ومن الأعذار عند الحنفيّة : تعسّر الوصول إلى القاضي فهو عذر في تأخير الشّفيع الجار ، والصّلاة المفروضة فهي عذر في تأخير طلب الشّفعة .
وأمّا المالكيّة فيعدّون عدم طلب المشتري من الشّفيع تقديم طلب الشّفعة أو إسقاطها ، وهو لا يعلم بالشّراء ، عذراً فيقولون : عند الشّراء يطلب المشتري من الشّفيع طلب الشّفعة أو إسقاطها ، فإذا رفض إصدار أحدهما حكم الحاكم بإسقاطها ، ولا عذر له بتأخير اختيار أحد الأمرين ، إلاّ بقدر ما يطّلع به على الشّيء المشفوع فيه كساعة مثلاً ، وبناءً على هذا إذا لم يطلب منه المشتري الطّلب أو الإسقاط - وهو لا يعلم بالشّراء - يكون عذراً للشّفيع .
وأمّا الشّافعيّة فقالوا : الأظهر أنّ الشّفعة على الفور ، فإذا علم الشّفيع بالبيع فليبادر على العادة ، فإن كان مريضاً أو غائباً عن بلد المشتري أو خائفاً من عدوّ فليوكّل إن قدر ، وإلاّ فليشهد على الطّلب فإن ترك المقدور عليه منهما بطل حقّه في الأظهر .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( شفعة ف 31 ) .
وعند الحنابلة على الرّأي الصّحيح : يجوز للشّفيع أن يؤخّر طلب الشّفعة بعد العلم بها لعذر، وذلك كأن يعلم ليلاً فيؤخّره إلى الصّبح ، أو لشدّة جوع أو عطش حتّى يأكل أو يشرب ، أو لطهارة أو إغلاق باب أو ليخرج من الحمّام ، أو ليؤذّن ويقيم ويأتي بالصّلاة وسنّتها ، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها ، لأنّ العادة تقديم هذه الحوائج على غيرها ، فلا يكون الاشتغال بها رضىً بترك الشّفعة .
د - أثر العذر في العقود :(/4)
41 - العقود اللازمة يجب الوفاء بها ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } لكن قد تطرأ أعذار لا يمكن معها الوفاء بها ، أو يتعسّر معها ذلك ، وعندئذ ينحلّ الإلزام وينفسخ العقد ، وفي ذلك يقول ابن عابدين : كلّ عذر لا يمكن معه استيفاء المعقود عليه إلاّ بضرر يلحقه في نفسه أو ماله يثبت له حقّ الفسخ .
هـ – العذر في ترك الجهاد :
42 – الجهاد فرض كفاية إذا لم يكن هناك نفير عامّ ، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، أمّا إذا كان النّفير عامّاً ، فالجهاد يصبح فرض عين على كلّ قادر من المسلمين ، وهذا الحكم في فرضيّة الجهاد متّفق عليه بين الفقهاء ، ولكن من لا قدرة له فلا يطالب بالجهاد ، لأنّه معذور ، وقد أشار سبحانه وتعالى في كتابه إلى أصحاب الأعذار فقال : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } .
والآية نزلت في هؤلاء حين همّوا بالخروج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين نزلت آية التّخلّف عن الجهاد ، وقال سبحانه أيضاً : { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ } .
فظاهر الآيتين يدلّ على أنّ الحرج مرفوع في كلّ ما يضطرّهم إليه العذر .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( جهاد ) .(/5)
عُريان *
التّعريف :
1 - العريان في اللّغة : المتجرّد من ثيابه ، مأخوذ من العري ، وهو خلاف اللّبس يقال : عري الرّجل من ثيابه يعرى من باب تعب عرياً فهو عار وعريان ، والمرأة عاريّة وعريانة .
ونقل ابن منظور : أنّ العريان مأخوذ من النّبت الّذي قد عري عرياً إذا استبان .
ولا يختلف معناه في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الكشف :
2 - الكشف : من كشف الشّيء أي : رفع عنه ما يواريه ويغطّيه ، و كشف اللّه غمّه بمعنى : أزاله ، واكتشفت المرأة : بالغت في إظهار محاسنها .
والكشف أعمّ من العري .
السّتر :
3 - السّتر بالفتح : مصدر سترت الشّيء أستره إذا غطّيته ، وتستّر أي : تغطّى ، وجارية مستّرة أي : مخدّرة .
والسّتر مقابل العري .
الأحكام الّتي تتعلّق بالعريان :
أ - الاغتسال عرياناً :
4 - الاغتسال عرياناً بين النّاس محرّم عند جميع الفقهاء ، لأنّ ستر العورة فرض وكشفها محرّم إلاّ بين الزّوجين ، فقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه أنّه قال : عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : » احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ممّا ملكت يمينك « .
وقال صلى الله عليه وسلم : » لا ينظر الرّجل إلى عورة الرّجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة « .
أمّا إذا كان خالياً فيجوز الاغتسال عرياناً ، لكن قيّد أكثر الفقهاء هذا الجواز بالكراهة ، وقالوا : يستحبّ التّستّر وإن كان خالياً لما ورد في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال : يا رسول اللّه ، إذا كان أحدنا خالياً ؟ قال : » اللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس « وروي أنّ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما دخل غديراً وعليه برد له متوشّحاً به ، فلمّا خرج قيل له ، قال : إنّما تستّرت ممّن يراني ولا أراه ، يعني ربّي والملائكة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( غسل ، عورة ) .
ب - دخول الحمّام عرياناً :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ دخول الحمّام مشروع ، لكنّه مقيّد بما إذا لم يكن فيه كشف العورة ، قال أحمد : إن علمت أنّ كلّ من في الحمّام عليه إزار فادخله وإلاّ فلا تدخل وفصّل بعض المالكيّة فقالوا : دخول الرّجل الحمّام مع زوجته أو وحده مباح ، ومع قوم لا يستترون ممنوع ، وأمّا مع قوم مستترين فمكروه .
وتفصيله في مصطلح : ( حمّام ، وعورة ) .
ج - الصّلاة عرياناً :
6 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو المشهور عند المالكيّة - إلى أنّ ستر العورة شرط لصحّة الصّلاة وعبّر بعضهم بأنّه فرض فلا تصحّ الصّلاة دونه ، أي عرياناً .
ولا فرق في ذلك بين من يصلّي منفرداً أو بجماعة ، في خلوة أو بين النّاس ، في ضوء أو في ظلام ، وهذا الشّرط لمن يكون قادراً على ستر العورة وواجداً للثّياب ، فلو صلّى مكشوف العورة قادراً وواجداً للسّاتر بطلت صلاته ، وعليه الإعادة ، والدّليل على اشتراط ستر العورة ، وعدم صحّة صلاة العريان قوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد به الثّياب في الصّلاة .
وإذا لم يجد المصلّي ما يستر به عورته ، فاتّفق الفقهاء على أنّه يجب عليه أن يصلّي عرياناً ، لأنّ اشتراط السّتر في صحّة الصّلاة مقيّد بالقدرة ، وهو عاجز عنه .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( عورة ، وصلاة ) .
كيفيّة الصّلاة عرياناً :
7 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ من لم يجد ثوباً يستر به عورته صلّى عرياناً قاعداً يومئ بالرّكوع والسّجود ، ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع ، وإن صلّى قائماً أو جالساً وركع وسجد بالأرض جاز له ذلك إلاّ أنّ الأوّل أفضل ، لأنّ السّتر وجب لحقّ الصّلاة وحقّ النّاس .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة ف 35 ) .
8 - ثمّ اختلف الحنفيّة والحنابلة في مشروعيّة الجماعة للعراة :
فقال الحنابلة : الجماعة مشروعة للعراة ، وبه قال قتادة ، لأنّ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » صلاة الرّجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعاً وعشرين درجةً « عامّ في كلّ مصلّ ، ولا تسقط الجماعة لتعذّر سببها في الموقف ، كما لو كانوا في مكان ضيّق لا يمكن أن يتقدّمهم إمامهم ، قال البهوتيّ وتصلّي العراة جماعةً وجوباً .
أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بكراهة جماعتهم كراهةً تحريميّةً ، ومع ذلك إذا صلّوا بالجماعة يتوسّطهم إمامهم ، كما قال ابن عابدين وابن قدامة وغيرهما .
قال ابن الهمام : ولو تقدّمهم جاز : ويرسل كلّ واحد رجليه نحو القبلة ، ويضع يديه بين فخذيه يومئ إيماءً .
أمّا المالكيّة فقالوا : إنّ العريان يصلّي قائماً يركع ويسجد ، وإن اجتمع العراة العاجزون عن ستر عوراتهم بظلام لليل أو نحوه يصلّون جماعةً كالمستورين في تقديم إمامهم واصطفافهم خلفه ، والرّكوع والسّجود والقيام ، وإن لم يجتمعوا بظلام تفرّقوا للصّلاة وجوباً وصلّوا فرادى ، وإلاّ أعادوا بوقت ، فإن لم يمكن تفرّقهم لخوف على نفس من نحو سبع ، أو خوف على مال من الضّياع ، أو لضيق مكان كسفينة ، صلّوا قياماً راكعين ساجدين صفّاً واحداً غاضّين أبصارهم ، إمامهم وسطهم في الصّفّ غير متقدّم عليهم .(/1)
وعند الشّافعيّة في صلاة العريان العاجز عن ستر العورة قولان ووجه ، وقيل : ثلاثة أوجه: أصحّها : يصلّي قائماً ، ويتمّ الرّكوع والسّجود ، والثّاني : يصلّي قاعداً ، وهل يتمّ الرّكوع والسّجود أم يومئ ؟ فيه قولان : والثّالث : يتخيّر بين الأمرين ، ولو حضر جمع من العراة، فلهم أن يصلّوا جماعةً ، ويقف إمامهم وسطهم ، وهل يسنّ لهم الجماعة ، أم الأصحّ أنّ الأولى أن يصلّوا فرادى ؟ قولان : القديم : الانفراد أفضل ، والجديد : الجماعة أفضل ، قال النّوويّ : والمختار ما حكاه المحقّقون عن الجديد : أنّ الجماعة والانفراد سواء ، وهذا إذا كانوا بحيث يتأتّى نظر بعضهم إلى بعض ، فلو كانوا عمياً ، أو في ظلمة استحبّت لهم الجماعة بلا خلاف .
وبيان ما يعتبر ساتراً للعورة من الثّياب وغيرها ينظر في مصطلح : ( عورة ) .
هل يعيد العريان إذا وجد ساتراً بعد الصّلاة ؟
9 – إذا صلّى العاجز عن ستر العورة عرياناً ، ثمّ وجد ما يسترها به من الثّياب ونحوها فهل يعيد الصّلاة أم لا ؟ للفقهاء فيه اتّجاهان :
الأوّل : يعيد الصّلاة ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وبه قال المازريّ من المالكيّة ، وقال : هو المذهب عندهم ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، ونقل البهوتيّ عن الرّعاية : أنّه هو الأقيس عند الحنابلة ، الثّاني : تمّت صلاته ولا يعيدها ، وهذا قول الصّاحبين من الحنفيّة وابن القاسم من المالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، والظّاهر من مذهب الحنابلة .
الطّواف عرياناً :
10 - نصّ الحنفيّة على أنّه من واجبات الطّواف ستر العورة حتّى لو طاف عرياناً فعليه الإعادة ما دام بمكّة كما نصّ الشّافعيّة على أنّه يجب ستر العورة في الطّواف كما في الصّلاة ، فلو طاف عرياناً مع القدرة على ستر العورة لم يصحّ طوافه ، ونصّ المالكيّة على شرطيّة ستر العورة بالنّسبة إلى الذّكر والأنثى في الطّواف .
وكذلك الحنابلة شرطوا ستر العورة في الطّواف .(/2)
عُرَنَة *
التّعريف :
1 - عُرَنة بضمّ أوّله وفتح ثانيه ، ويقال أيضاً بطن عرنة : واد بحذاء عرفات من جهة المزدلفة ومنىً ومكّة - وعرنة هو واد بين العلمين اللّذين على حدّ عرفة ، والعلمين اللّذين على حدّ الحرم ، فليس عرنة من عرفة ، ولا من الحرم - عند جمهور الفقهاء ، خلافاً للحنفيّة .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ عرنة ، ويقال : بطن عرنة ليس من عرفة ولا يجزئ الوقوف فيه ، قال ابن عبد البرّ : أجمع العلماء على أنّ من وقف فيه لا يصحّ وقوفه ولا يجزئ .
وجاء في المجموع : وادي عرنة ليس من عرفات ، لا خلاف فيه .
نصّ عليه الشّافعيّ ، واتّفق عليه الأصحاب ، واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : » كلّ عرفات موقف ، وارفعوا عن بطن عرنة « ولأنّ الواقف فيه لم يقضه بعرفة .(/1)
عُضْو *
التّعريف :
1 - العضو بالضّمّ والكسر ، في اللّغة : كلّ عظم وافر بلحم ، سواء أكان من إنسان أم حيوان .
وأصل الكلمة بمعنى القطع والتّفريق .
يقال : عضّى الشّيء : فرّقه ووزّعه .
والعضّة : القطعة والفرقة .
وفي التّنزيل : { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أي : أجزاءً متفرّقةً ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. ويطلق العضو على جزء متميّز من مجموع الجسد ، سواء أكان من إنسان أم حيوان كاليد والرّجل والأذن .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الطّرف :
2 - الطّرف : النّاحية والطّائفة من الشّيء ، وطرف كلّ شيء منتهاه وغايته وجانبه ، قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } والجمع أطراف ، ويطلق على واحد من أطراف البدن .
فعلى هذا المعنى الأخير الطّرف أخصّ من العضو .
الأحكام الّتي تتعلّق بالعضو :
3 - عضو الآدميّ له أحكام فقهيّة مختلفة ، كوجوب طهارته في الوضوء والغسل والتّيمّم ، والمسح عليه ونحوها ، وكوجوب القصاص أو الدّية في الجناية عليه ، وقطعه في السّرقة ، وحكم غسله والصّلاة عليه ودفنه إذا وجد مباناً في المعركة وغيرها .
وتفصيل هذه الأحكام فيما يلي :
أ - الطّهارة على العضو المقطوع :
4 - من فرائض الوضوء غسل أعضاء الوضوء إذا كانت قائمةً وسليمةً ، أمّا إذا كانت مقطوعةً ، ففي المسألة تفصيل :
فلو قطع بعض يد المتوضّئ أو رجله وجب غسل باقيها إلى المرفق أو الكعب ، لبقاء جزء من محلّ العضو المفروض غسله ، فكلّ عضو سقط بعضه يتعلّق الحكم بباقيه غسلاً ومسحاً .
أمّا إذا قطعتا من فوق المرفق أو الكعب سقط الغسل ، ولا يجب غسل باقي عضده ، لأنّه ليس محلّ الفرض .
لكنّ الشّافعيّة قالوا : ندب غسل باقي عضده لئلاّ يخلو العضو عن طهارة .
أمّا إذا قطعت من المرفق ، بأن سلّ عظم الذّراع وبقي العظمان المسمّيان برأس العضد ، فيجب غسل رأس عظم العضد على المشهور عند الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، لأنّ غسل العظمين المتلاقيين من الذّراع والعضد واجب ، فإذا زال أحدهما غسل الآخر . وقال المالكيّة : لا يغسل أقطع المرفقين موضع القطع ، إذ قد أتى عليهما القطع ، بخلاف أقطع الرّجلين ، قال الحطّاب في وجه التّفرقة نقلاً عن ابن القاسم : الكعبان اللّذان إليهما حدّ الوضوء هما اللّذان في السّاقين فيغسلان ، أمّا المرفق فهو من الذّراعين وقد أتى عليه القطع فلا يغسل .
ب - الطّهارة على العضو الزّائد في الغسل :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ من خلق له عضو زائد ، كإصبع زائدة أو يد زائدة ، في محلّ الفرض وجب غسلها مع الأصليّة ، لأنّها نابتة فيه ، فتأخذ حكمه .
واختلفوا فيما إذا نبتت الزّائدة في غير محلّ الفرض ، كالإصبع أو الكفّ على العضو أو المنكب ، فقال الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو قول القاضي من الحنابلة : إنّ ما حاذى منها محلّ الفرض وجب غسله ، وإلاّ فلا يجب .
وقال المالكيّة : لو خلقت له كفّ بمنكب ، ولم يكن له يد غيرها يجب غسلها ، فإن كان له يد سواها فلا يجب غسل الكفّ إلاّ إذا نبتت في محلّ الفرض ، أو في غيره وكان لها مرفق ، فتغسل للمرفق ، لأنّ لها حكم اليد الأصليّة فإن لم يكن لها مرفق فلا غسل ما لم تصل لمحلّ الفرض .
والأصحّ عند الحنابلة : أنّ العضو الزّائد إذا كان في غير محلّ الفرض ، كالعضد أو المنكب لم يجب غسله ، سواء أكان قصيراً أم طويلاً ، لأنّه في غير محلّ الفرض فأشبه شعر الرّأس إذا نزل على الوجه .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( وضوء ) .
ج - العضو المبان :
6 - العضو المبان : إمّا أن يكون من الإنسان أو يكون من الحيوان ، وفي كلتا الحالتين : إمّا أن يكون من الحيّ أو من الميّت .
وقد ذكر الفقهاء أحكام كلّ حالة في مواضع مختلفة فيما يلي :
أوّلاً : العضو المبان من الإنسان الحيّ :
ذهب الفقهاء إلى أنّ العضو المبان من الإنسان الحيّ يدفن بغير غسل وصلاة ولو كان ظفراً أو شعراً .
ثانياً : العضو المبان من الإنسان الميّت :
يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول عند الحنابلة - أنّه إذا وجد رأس الميّت أو أحد شقّيه أو أعضائه الأخرى وكانت أقلّ من نصفه فإنّها لا تغسّل ولا يصلّى عليها ، قال الدّردير في تعليله : لأنّ شرط الغسل وجود الميّت ، فإن وجد بعضه فالحكم للغالب ، ولا حكم لليسير .
أمّا إذا وجد أكثر من نصفه ولو بلا رأس ، فإنّه يغسّل ويصلّى عليه عند الحنفيّة ، اعتباراً للغالب .
وقال المالكيّة : لا غسل دون الجلّ ، يعني دون ثلثي الجسد ، فإذا وجد نصف الجسد أو أكثر منه ودون الثّلثين مع الرّأس لم يغسّل على المعتمد .
وذهب الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، إلى أنّه لو وجد عضو مسلم علم موته بغير شهادة ، ولو كان ظفراً أو شعراً صلّي عليه بقصد الجملة ، وذلك وجوباً بعد غسله ، كما ورد عند الشّافعيّة ، وقال ابن قدامة : قال أحمد : صلّى أبو أيّوب على رجل ، وصلّى عمر على عظام بالشّام ، وصلّى أبو عبيدة على رءوس بالشّام ، ولأنّه بعض من جملة تجب الصّلاة عليها ، فيصلّى عليه كالأكثر .
ثالثاً : العضو المبان من الحيوان :
لا خلاف بين الفقهاء في أنّ العضو المبان من الحيوان الحيّ مأكول اللّحم - غير السّمك والجراد - قبل ذبحه يعتبر ميتةً لا يحلّ أكله ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : » ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهي ميتة « .
وقد قال اللّه تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } .
أمّا ما أبين من السّمك والجراد فيحلّ أكله ، وذلك لأنّ ميتة السّمك والجراد يحلّ أكلها .(/1)
فقد قال صلى الله عليه وسلم : » أحلّت لنا ميتتان ودمان أمّا الميتتان : فالجراد والحوت ، وأمّا الدّمان فالطّحال والكبد « .
أمّا العضو المبان من الحيوان غير مأكول اللّحم أو من الميتة فهو حرام بلا خلاف . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( أطعمة ، وصيد ) .
الجناية على عضو الآدميّ :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجناية على عضو من أعضاء الآدميّ عمداً فيها القصاص إذا أمكن التّماثل ، بأن كان القطع من المفصل مثلاً .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( قصاص ) .
أمّا إذا كانت الجناية على عضو من أعضائه خطأً أو شبه عمد أو سقط القصاص بالشّبهة أو نحوها ففيها الدّية .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( ديات ف 34 وما بعدها ) .
أمّا إذا جرح عضو من أعضاء الإنسان عمداً أو خطأً ولم يمكن القصاص فيجب الأرش . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حكومة عدل ف 4 وما بعدها ، وأرش ف 4 ، وديات ف 34 ) .(/2)
عُمْرة *
التّعريف :
1 - العُمْرة : بضمّ العين وسكون الميم لغةً : الزّيارة ، وقد اعتمر إذا أدّى العمرة ، وأعمره : أعانه على أدائها .
واصطلاحاً عرّفها جمهور الفقهاء بأنّها الطّواف بالبيت والسّعي بين الصّفا والمروة بإحرام .
الألفاظ ذات الصّلة :
الحجّ :
2 - الحجّ في اللّغة : القصد ، أو القصد إلى معظّم .
وفي الاصطلاح : عرّفه الدّردير بأنّه الوقوف بعرفة والطّواف بالكعبة والسّعي بين الصّفا والمروة محرماً بنيّة الحجّ .
والصّلة بين العمرة والحجّ وثيقة ، فالحجّ يتضمّن أعمال العمرة ويزيد عليها بأشياء كالوقوف بعرفة ، والمبيت بمنًى وغير ذلك من أعمال الحجّ .
الحكم التّكليفيّ :
3 - ذهب المالكيّة وأكثر الحنفيّة إلى أنّ العمرة سنّة مؤكّدة في العمر مرّةً واحدةً .
وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّها واجبة في العمر مرّةً واحدةً على اصطلاح الحنفيّة في الواجب .
والأظهر عند الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة أنّ العمرة فرض في العمر مرّةً واحدةً ، ونصّ أحمد على أنّ العمرة لا تجب على المكّيّ ; لأنّ أركان العمرة معظمها الطّواف بالبيت وهم يفعلونه فأجزأ عنهم .
استدلّ الحنفيّة والمالكيّة على سنّيّة العمرة بأدلّة منها :
حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا ، وأن تعتمروا هو أفضل » .
وبحديث طلحة بن عبيد اللّه رضي الله عنه : « الحجّ جهاد والعمرة تطوّع » .
واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة على فرضيّة العمرة بقوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } أي : افعلوهما تامّين ، فيكون النّصّ أمراً بهما فيدلّ على فرضيّة الحجّ والعمرة .
وبحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « قلت : يا رسول اللّه هل على النّساء جهاد ؟ قال : نعم ، عليهنّ جهاد لا قتال فيه : الحجّ والعمرة » .
فضيلة العمرة :
4 - ورد في فضل العمرة أحاديث كثيرة منها :
ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة » .
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الحجّاج والعمّار وفد اللّه ، إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم » .
وجوه أداء العمرة :
5 - تتأدّى العمرة على ثلاثة أوجه وهي :
أ - إفراد العمرة : وذلك بأن يحرم بالعمرة أي : ينويها ويلبّي - دون أن يتبعها بحجّ - في أشهر الحجّ ، أو يحجّ ثمّ يعتمر بعد الحجّ ، أو يأتي بأعمال العمرة في غير أشهر الحجّ فهذه كلّها إفراد للعمرة .
ب - التّمتّع : وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ ويأتي بأعمالها ويتحلّل ، ثمّ يحجّ ، فيكون متمتّعاً ويجب عليه هدي التّمتّع بالشّروط المقرّرة للتّمتّع .
ر : ( تمتّع ف 7 وحجّ ف 37 ) .
ج - القران : وهو أن يحرم بالعمرة والحجّ معاً في إحرام واحد ، فيأتي بأفعالهما مجتمعين ، وتدخل أفعال العمرة في الحجّ عند الجمهور ، ويجزئه لهما طواف واحد وسعي واحد عندهم ، ويظلّ محرماً حتّى يتحلّل بأعمال يوم النّحر في الحجّ .
ومذهب الحنفيّة : أنّ القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ، طواف وسعي لعمرته ، ثمّ طواف وسعي لحجّه ، ولا يتحلّل بعد أفعال العمرة ، بل يظلّ محرماً أيضاً حتّى يتحلّل تحلّل الحجّ .
ر : ( قران ، وحجّ ف 37 ب ) .
وكيفما أدّى العمرة على أيّ وجه من هذه الوجوه تجزئ عنه ، ويتأدّى فرضها عند القائلين بفرضيّتها كما تتأدّى سنّيّتها على القول بسنّيّتها .
قال ابن قدامة في المغني : وتجزئ عمرة المتمتّع وعمرة القارن ، والعمرة من أدنى الحلّ عن العمرة الواجبة ، ولا نعلم في إجزاء عمرة التّمتّع خلافاً ، كذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما وعطاء وطاوس ومجاهد ، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم .
وروي عن أحمد أنّ عمرة القارن لا تجزئ ، وهو اختيار أبي بكر ، وعن أحمد : أنّ العمرة من أدنى الحلّ لا تجزئ عن العمرة الواجبة ، وقال : إنّما هي من أربعة أميال ، واحتجّ على أنّ عمرة القارن لا تجزئ بأنّ عائشة رضي الله عنها حين حاضت أعمرها من التّنعيم ، فلو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها .
واستدلّ ابن قدامة بقول الصّبيّ بن معبد : إنّي وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ فأهللت بهما ، فقال عمر : هديت لسنّة نبيّك .
وهذا يدلّ على أنّه أحرم بهما يعتقد أداء ما كتبه اللّه عليه منهما والخروج عن عهدتهما ، فصوّبه عمر وقال : هديت لسنّة نبيّك .
وبحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها لمّا جمعت بين الحجّ والعمرة : « يجزئ عنك طوافك بالصّفا والمروة عن حجّك وعمرتك » ، وقال ابن قدامة : وإنّما أعمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم من التّنعيم قصداً لتطييب قلبها وإجابة مسألتها ، لا لأنّها كانت واجبةً عليها ، ثمّ إن لم تكن أجزأتها عمرة القران فقد أجزأتها العمرة من أدنى الحلّ ، وهو أحد ما قصدنا الدّلالة عليه ; ولأنّ الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحةً فتجزئه كعمرة المتمتّع ; ولأنّ عمرة القارن أحد نسكي القران فأجزأت كالحجّ ، والحجّ من مكّة يجزئ في حقّ المتمتّع ، فالعمرة من أدنى الحلّ في حقّ المفرد - للعمرة – أولى .
صفة أداء العمرة :(/1)
6 - من أراد العمرة فإنّه يستعدّ للإحرام بالعمرة متى بلغ الميقات أو اقترب منه إن كان آفاقيّاً ، أو يحرم من حيث أنشأ أي : من حيث يشرع في التّوجّه للعمرة إن كان ميقاتيّاً ، أي يسكن أو ينزل في المواقيت أو ما يحاذيها ، أو في المنطقة الّتي بينها وبين الحرم .
أمّا إن كان مكّيّاً أو حرميّاً أو مقيماً أو نازلاً في مكّة أو في منطقة الحرم حول مكّة فإنّه يخرج من الحرم إلى أقرب مناطق الحلّ إليه ، فيحرم بالعمرة متى جاوز الحرم إلى الحلّ ولو بخطوة .
7- والاستعداد للإحرام أن يفعل ما يسنّ له ، وهو : الاغتسال والتّنظّف وتطييب البدن ، ثمّ يصلّي ركعتين سنّة الإحرام ، وتجزئ عنهما صلاة المكتوبة ، ثمّ ينوي بعدهما العمرة ، بنحو : " اللّهمّ إنّي أريد العمرة فيسّرها لي وتقبّلها منّي إنّك أنت السّميع العليم " ، ثمّ يلبّي قائلاً : " لبّيك اللّهمّ لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك " وبهذا يصبح محرماً أي : داخلاً في العمرة ، وتحرم عليه محظورات الإحرام ، ويستمرّ يلبّي حتّى يدخل مكّة ويشرع في الطّواف .
8- فإذا دخل المعتمر مكّة بادر إلى المسجد الحرام ، وتوجّه إلى الكعبة المعظّمة بغاية الخشوع والاحترام ، ويبدأ بالطّواف من الحجر الأسود ، فيطوف سبعة أشواط طواف ركن العمرة ، فينويه ويستلم الحجر في ابتداء الطّواف ، ويقبّله إن لم يخش الزّحام أو إيذاء أحد ويكبّر وإلاّ أشار إليه وكبّر ، ويقطع التّلبية باستلام الحجر في ابتداء الطّواف أو الإشارة إليه ، وكلّما مرّ بالحجر استلمه وقبّله أو أشار إليه .
9- ويسنّ له أن يضطبع في أشواط طوافه هذا كلّها ، والاضطباع أن يجعل وسط الرّداء تحت إبطه اليمنى ، ويردّ طرفيه على كتفه اليسرى ويبقي كتفه اليمنى مكشوفةً ، كما يسنّ للرّجل الرّمل في الأشواط الثّلاثة الأولى ، ويمشي في الباقي ، وليكثر المعتمر من الدّعاء والذّكر في طوافه كلّه .
10 - ثمّ إذا فرغ من طوافه يصلّي ركعتي الطّواف ثمّ يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله إن تيسّر ويكبّر أو يشير إليه ويكبّر ، ويذهب إلى الصّفا ، ويقرأ الآية : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
ويبدأ السّعي بين الصّفا والمروة من الصّفا ، فيرقى على الصّفا حتّى يرى الكعبة المعظّمة ، فيقف متوجّهاً إليها ويهلّل ويكبّر ويدعو ثمّ ينزل متوجّهاً إلى المروة ويسرع الرّجل بين الميلين الأخضرين ، ثمّ يمشي المعتمر حتّى يبلغ المروة ، فيقف عليها يذكر ويدعو بمثل ما فعل على الصّفا ، ثمّ ينزل فيفعل كما في الشّوط الأوّل حتّى يتمّ سبعة أشواط تنتهي على المروة ، وليكثر من الدّعاء والذّكر في سعيه ، ثمّ إذا فرغ المعتمر من سعيه حلق رأسه أو قصّره وتحلّل بذلك من إحرامه تحلّلاً كاملاً ، ويمكث بمكّة حلالاً ما بدا له .
11 - ثمّ عليه طواف الوداع إذا أراد السّفر من مكّة - ولو كان مكّيّاً - وجوباً عند الشّافعيّة وسنّةً عند المالكيّة ، ويجب عليه طواف الوداع عند الحنابلة إلاّ إن كان مكّيّاً أو منزله في الحرم ، فلا يجب عليه الوداع ، أمّا الحنفيّة فلا يجب عندهم طواف الوداع على المعتمر لكن يستحبّ خروجاً من الخلاف ; لأنّ طواف الوداع عندهم من مناسك الحجّ ، شرع ليكون آخر عهده بالبيت .
أركان العمرة :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أركان العمرة ثلاثة هي : الإحرام والطّواف والسّعي ، وهو مذهب المالكيّة والحنابلة ، وقال بركنيّتها الشّافعيّة ، وزادوا ركناً رابعاً هو : الحلق . ومذهب الحنفيّة أنّ الإحرام شرط للعمرة ، وركنها واحد هو : الطّواف .
الرّكن الأوّل : الإحرام :
13 - الإحرام بالعمرة عند الجمهور هو نيّة العمرة .
وعند الحنفيّة : نيّة العمرة مع الذّكر أو الخصوصيّة .
ومرادهم بالذّكر : التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى ، والمراد بالخصوصيّة : ما يقوم مقام التّلبية من سوق الهدي أو تقليد البدن .
ويشترط في الإحرام مقارنته بالتّلبية عند أبي حنيفة ومحمّد ، والتّلبية شرط عند ابن حبيب من المالكيّة ، فلا يصحّ الإحرام بدون التّلبية أو ما يقوم مقامها عندهم .
والجمهور على أنّ التّلبية ليست شرطاً ، فقال المالكيّة : هي واجبة في الأصل ، والسّنّة قرنها بالإحرام ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّها سنّة في الإحرام مطلقاً .
وصيغة التّلبية هي : لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ، لا شريك لك .
واجبات الإحرام للعمرة :
14 - يجب في العمرة الإحرام من الميقات ، وتجنّب محظورات الإحرام
ميقات الإحرام للعمرة :
الميقات قسمان : ميقات زمانيّ ، وميقات مكانيّ :
الميقات الزّمانيّ للإحرام بالعمرة :
15 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ميقات العمرة الزّمانيّ هو جميع العام لغير المشتغل بالحجّ ، فيصحّ أن يحرم بها الإنسان ويفعلها في جميع السّنة ، وهي أفضل في شهر رمضان منها في غيره ، لما سيأتي .
وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية إلى أنّ العمرة تكره تحريماً يوم عرفة ، وأربعة أيّام بعده ، واستدلّوا بقول عائشة رضي الله عنها : " حلّت العمرة في السّنة كلّها إلاّ في أربعة أيّام : يوم عرفة ويوم النّحر ويومان بعد ذلك " .
ولأنّ هذه الأيّام أيّام شغل بالحجّ ، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك ، وربّما يقع الخلل فيه فتكره .
الميقات المكانيّ للإحرام بالعمرة :
أ - ميقات الآفاقيّ :(/2)
16 - والآفاقيّ : هو من منزله خارج منطقة المواقيت ، ومواقيت الآفاقيّ هي : ذو الحليفة لأهل المدينة ومن مرّ بها ، والجحفة لأهل الشّام ومن جاء من قبلها كأهل مصر والمغرب ، ويحرمون الآن من رابغ قبل الجحفة بقليل ، وقرن المنازل " ويسمّى الآن السّيل " لأهل نجد ، ويلملم لأهل اليمن وتهامة والهند ، وذات عرق لأهل العراق وسائر أهل المشرق .
ب - الميقاتيّ :
17 - والميقاتيّ : هو من كان في مناطق المواقيت أو ما يحاذيها أو ما دونها إلى مكّة . وهؤلاء ميقاتهم من حيث أنشئوا العمرة وأحرموا بها ، إلاّ أنّ الحنفيّة قالوا : ميقاتهم الحلّ كلّه ، والمالكيّة قالوا : يحرم من داره أو مسجده لا غير ، والشّافعيّة والحنابلة قالوا : ميقاتهم القرية الّتي يسكنونها لا يجاوزونها بغير إحرام .
ج - الحرميّ :
18 - والحرميّ وهو المقيم بمنطقة الحرم والمكّيّ ومن كان نازلاً بمكّة أو الحرم ، هؤلاء ميقاتهم للإحرام بالعمرة الحلّ ، فلا بدّ أن يخرجوا للعمرة عن الحرم إلى الحلّ ولو بخطوة واحدة يتجاوزون بها الحرم إلى الحلّ .
والتّفصيل في مصطلح : ( إحرام ف 39 - 52 - 53 ) .
والدّليل على تحديد هذه المواقيت للإحرام بالعمرة السّنّة والإجماع ، فمن السّنّة حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشّام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم هنّ لهنّ ، ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّة » .
وأمّا الإجماع فقال النّوويّ : إذا انتهى الآفاقيّ إلى الميقات وهو يريد الحجّ أو العمرة أو القران حرم عليه مجاوزته غير محرم بالإجماع .
وأمّا ميقات الحرميّ والمكّيّ للعمرة فقد خصّ من الحديث السّابق بما ورد عن عائشة رضي الله عنها في قصّة حجّها قالت : « يا رسول اللّه ، أتنطلقون بعمرة وحجّة وأنطلق بالحجّ ؟ فأمر عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ في ذي الحجّة » .
اجتناب محظورات الإحرام :
19 - محظورات الإحرام للعمرة هي محظورات الإحرام للحجّ ، منها :
أ - يحرم على الرّجل : لبس المخيط وكلّ ما نسج محيطاً بالجسم أو ببعض الأعضاء كالجوارب ، ويحرم عليه وضع غطاء على الرّأس وتغطية وجهه ، ولبس حذاء يبلغ الكعبين .
ب - يحرم على المرأة المحرمة ستر الوجه بستر يلامس البشرة ، ولبس قفّازين ، وتلبس سوى ذلك لباسها العاديّ .
ج - يحرم على الرّجال والنّساء الطّيب وأي شيء فيه طيب ، وإزالة الشّعر من الرّأس ومن أيّ موضع في الجسم ، واستعمال الدّهن المليّن للشّعر أو الجسم - ولو غير مطيّب - وتقليم الأظفار ، والصّيد والجماع ودواعيه المهيّئة له ، والرّفث " أي : المحادثة بشأنه " وليجتنب المحرمون الفسوق أي : مخالفة أحكام الشّريعة ، وكذا الجدال بالباطل .
ويجب في ارتكاب شيء من محظورات الإحرام الجزاء ، وفي الجماع خاصّةً فساد العمرة والكفّارة والقضاء ، عدا ما حرم من الرّفث والفسوق والجدال ففيها الإثم والجزاء الأخرويّ فقط .
انظر مصطلح : ( إحرام : ف 145 - 185 ) .
مكروهات الإحرام :
20 - يكره في إحرام العمرة ما يكره في إحرام الحجّ ، مثل تمشيط الرّأس أو حكّه بقوّة ، وكذا حكّ الجسد حكّاً شديداً ، والتّزيّن .
ر : ( إحرام ف 95 - 98 ) .
سنن الإحرام :
21 - يسنّ في الإحرام للعمرة أربع خصال هي : الاغتسال ، وتطييب البدن لا الثّوب ، وصلاة ركعتين ، يفعل هذه الثّلاثة قبل الإحرام . ثمّ التّلبية عقب النّيّة ، والتّلبية فرض في الإحرام عند الحنفيّة خلافاً للجمهور .
ر : ( إحرام ف 108 - 116 ) .
ويسنّ للمعتمر أن يكثر من التّلبية منذ نيّة الإحرام بالعمرة إلى بدء الطّواف باستلام الحجر الأسود عند الجمهور ، وقال المالكيّة : المعتمر الآفاقيّ يلبّي حتّى يبلغ الحرم ، لا إلى رؤية بيوت مكّة ، والمعتمر من الجعرانة أو من التّنعيم يلبّي إلى دخول بيوت مكّة .
الرّكن الثّاني : الطّواف :
22 - الطّواف بالكعبة المعظّمة ركن في العمرة ، وفرضه سبعة أشواط عند الجمهور ، وقال الحنفيّة : الأربعة فرض ، والثّلاثة الباقية واجبة .
ويشترط في هذا الطّواف : سبق الإحرام بالعمرة ، ثمّ سائر شروط الطّواف العامّة ، وهي : أصل نيّة الطّواف ، ووقوع الطّواف حول الكعبة ، وأن يشمل الحِجْر - أي الحطيم - والتّيامن ، والطّهارة من الأحداث والأنجاس وستر العورة .
وهذه كلّها شروط عند الجمهور ، وجعل الحنفيّة شمول الطّواف للحجر وما ذكر بعده واجبات في الطّواف .
واشترط المالكيّة والحنابلة موالاة أشواط الطّواف ، وهي عند الحنفيّة والشّافعيّة سنّة . ويجب في طواف العمرة : المشي للقادر عليه ، وركعتان بعد الطّواف ، وقال الشّافعيّة : كلا هذين سنّة .
ويسنّ في طواف العمرة : الرّمل في الأشواط الثّلاثة الأولى ، ثمّ يمشي في الباقي ، والاضطباع فيه كلّه ، وهذان للرّجال دون النّساء ; لأنّهما سنّتان في كلّ طواف بعده سعي ، وهذا طواف بعده سعي ، ويسنّ ابتداء الطّواف قبل الحجر الأسود بقليل ، واستقبال الحجر ، واستلامه وتقبيله إن تيسّر وإلاّ استقبله وأشار إليه بيديه ، واستلام الرّكن اليمانيّ والدّعاء . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( طواف ف 12 وما بعدها ) .
الرّكن الثّالث : السّعي :
23 - السّعي بين الصّفا والمروة ركن في العمرة عند المالكيّة والشّافعيّة ورواية عند الإمام أحمد ، وهو واجب عند الحنفيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة .(/3)
وأحكام السّعي في العمرة هي أحكام السّعي في الحجّ فيشترط فيه سبق الإحرام بالعمرة ، وأن يسبقه الطّواف ، وأن يبدأ السّعي بالصّفا فالمروة ، فلو عكس لغا الشّوط واحتسب من عند الصّفا .
وركن السّعي سبعة أشواط عند الجمهور ، وأربعة عند الحنفيّة والباقي واجب عندهم . ويجب المشي في السّعي على القادر عليه عند الحنفيّة والمالكيّة ، ويسنّ عند الشّافعيّة والحنابلة .
وتسنّ الموالاة بين السّعي والطّواف ، ونيّة السّعي ، والسّعي الشّديد بين الميلين الأخضرين ، كما تسنّ الموالاة بين أشواط السّعي عند الجمهور ، وهي شرط لصحّة السّعي عند المالكيّة .
وللتّفصيل انظر مصطلح : ( سعي ف 5 وما بعدها ) .
شروط فرضيّة العمرة :
24 - شروط فرضيّة العمرة عند القائلين بفرضيّتها هي شروط فرضيّة الحجّ ، وكذا على القول بوجوبها وسنّيّتها .
فيشترط لفرضيّة العمرة : العقل والإسلام والبلوغ والحرّيّة والاستطاعة ، والاستطاعة شرط لفرضيّة العمرة فقط ، لكن لا يتوقّف عليها سقوط الفرض عند من يقول بفرضيّة العمرة أو وجوبها ، فلو اعتمر من لم تتوفّر فيه شروط الاستطاعة صحّت عمرته وسقط الفرض عنه . وتتلخّص الاستطاعة في ملك الزّاد والقدرة على آلة الرّكوب ، وذلك بالنّسبة للرّجال والنّساء .
وتختصّ النّساء بشرطين آخرين وهما : مصاحبة الزّوج أو المحرم ، وعدم العدّة .
ويجزئ عند الشّافعيّة رفقة نساء ثقات عوضاً عن المحرم أو الزّوج في سفر الفرض .
أمّا البلوغ والحرّيّة فهما شرطان لوجوب العمرة وإجزائها عن الفرض ، فلو اعتمر الصّبيّ أو العبد صحّت عمرتهما ، ولم يسقط فرضها عنهما عند البلوغ أو العتق .
وأمّا العقل والإسلام : فهما شرطان لوجوب العمرة وصحّتها ، فلا تجب العمرة على كافر ، ولا مجنون ولا تصحّ منهما ، لكن يجوز أن يحرم بالعمرة عن المجنون وليّه ويؤدّي المناسك عنه ، ويجنّبه محظورات الإحرام وهكذا ، لكن لا يصلّي عنه ركعتي الإحرام أو الطّواف ، بل تسقطان عنه عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة فيصلّيهما عنه ، وهو ظاهر كلام الحنابلة .
ر : ( إحرام ف 135 وحجّ ف 104 - 106 ) .
واجبات العمرة :
25 - يجب في العمرة أمران :
الأوّل : السّعي بين الصّفا والمروة عند الحنفيّة والحنابلة ، وقال غيرهم : هو ركن .
الثّاني : الحلق أو التّقصير عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وقال الشّافعيّة في الرّاجح عندهم : إنّه ركن .
والقدر الواجب هو حلق شعر جميع الرّأس أو تقصيره عند المالكيّة والحنابلة ، وربع الرّأس على الأقلّ عند الحنفيّة ، وثلاث شعرات على الأقلّ عند الشّافعيّة .
والحلق للرّجال أفضل في العمرة إلاّ للمتمتّع ، فالتّقصير له أفضل ، لكي يبقي شعراً يأخذه في الحجّ .
والسّنّة للنّساء التّقصير فقط ، ويكره الحلق في حقّهنّ ; لأنّه مثلة .
سنن العمرة :
26 - يسنّ في العمرة ما يسنّ في الأفعال المشتركة بينها وبين الحجّ : في الإحرام والطّواف ، والسّعي ، والحلق .
ممنوعات العمرة :
27 - يمنع في العمرة مخالفة أحكامها بحسب الحكم الّذي تقع المخالفة له .
فمحرّمات العمرة : هي ترك شيء من أركانها ، فيحرم ترك شيء من الطّواف ، أو السّعي أو الحلق ، على القول بركنيّتهما ، ولا يتحلّل من إحرام العمرة حتّى يتمّ ما تركه . ومكروهات العمرة : ترك واجب من واجباتها ، وترك الواجب مكروه كراهة تحريم عند الحنفيّة ، وعند غيرهم حرام ، والمعنى واحد ; لأنّه يلزم الإثم عند الجمع ، ويلزم الدّم عند الحنفيّة وغيرهم .
ويكره ترك سنّة من السّنن ، ولا تسمّى كراهة تحريم ، ولا يلزم جزاء بتركها .
المباح في العمرة :
28 - يباح في العمرة كلّ ما لا يخلّ بأحكامها ، وخصوصاً أحكام الإحرام الّتي سبقت .
العمرة في شهر رمضان :
29 - تندب العمرة في شهر رمضان ، صرّح بذلك الحنفيّة ، لما ثبت في الحديث عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار : « ما منعك أن تحجّي معنا ؟ قالت : لم يكن لنا إلاّ ناضحان ، فحجّ أبو ولدها وابنها على ناضح ، وترك لنا ناضحاً ننضح عليه ، قال : فإذا جاء رمضان فاعتمري ، فإنّ عمرةً فيه تعدل حجّةً » وفي رواية : « تقضي حجّةً ، أو حجّةً معي » .
المكان الأفضل لإحرام المكّيّ :
30 - اختلف الفقهاء في أيّ الحلّ أفضل للإحرام بالعمرة لمن كان بمكّة أو الحرم .
فعند الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة أنّ الإحرام من التّنعيم أفضل لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التّنعيم ، فهو أفضل تقديماً لدلالة القول على دلالة الفعل .
وقال الحنابلة يلي الإحرام من التّنعيم في الأفضليّة الإحرام من الجعرانة ثمّ الحديبية .
وقال الشّافعيّة والحنابلة في وجه : الإحرام من الجعرانة أفضل ، ثمّ من التّنعيم ثمّ من الحديبية لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة وأمر عائشة بالاعتمار من التّنعيم وبعد إحرامه بها بذي الحليفة عام الحديبية همّ بالدّخول إليها من الحديبية فصدّه المشركون عنها ، فقدّم الشّافعيّ ما فعله صلى الله عليه وسلم ثمّ ما أمر به ثمّ ما همّ به . وقال أكثر المالكيّة : التّنعيم والجعرانة متساويان ، لا أفضليّة لواحد منهما على الآخر ، وتوجيهه ظاهر ، وهو ورود الأثر في كلّ منهما .
الإكثار من العمرة :(/4)
31 - يستحبّ الإكثار من العمرة ، ولا يكره تكرارها في السّنة الواحدة عند الجمهور - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ومطرّف وابن الماجشون من المالكيّة - وهو قول عليّ وابن عمر وابن عبّاس وأنس وعائشة رضي الله تعالى عنهم وعطاء وطاوس وعكرمة رحمهم الله ، وتدلّ لهم الأحاديث الواردة في فضل العمرة ، والحثّ عليها ، فإنّها مطلقة تتناول تكرار العمرة تحثّ عليه .
وفصّل ابن قدامة ما يستحبّ فيه الإكثار فقال : قال عليّ رضي الله عنه في كلّ شهر مرّةً ، وكان أنس إذا حمّم رأسه خرج فاعتمر ، وقال عكرمة : يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره ، وقال عطاء : إن شاء اعتمر في كلّ شهر مرّتين ، وقال أحمد : إذا اعتمر فلا بدّ أن يحلق أو يقصّر وفي عشرة أيّام يمكن حلق الرّأس .
وقال الشّافعيّ : إن قدر أن يعتمر في الشّهر مرّتين أو ثلاثاً أحببت له ذلك .
والمشهور عند المالكيّة : يكره تكرار العمرة في السّنة مرّتين ، وهو قول الحسن وابن سيرين ، وتندب الزّيادة على المرّة لكن في عام آخر .
والمراد بالتّكرار في العام السّنة الهجريّة ، فلو اعتمر في ذي القعدة ثمّ في المحرّم لا يكره ; لأنّه اعتمر في السّنة الثّانية .
ومحلّ كراهة التّكرار في العام الواحد ما لم يتكرّر دخول مكّة من موضع عليه فيه إحرام ، كما لو خرج مع الحجيج ثمّ رجع إلى مكّة قبل أشهر الحجّ ، فإنّه يحرم بعمرة ; لأنّ الإحرام بالحجّ قبل أشهره مكروه .
وقد استدلّ المالكيّة بأنّه عليه الصلاة والسلام لم يكرّرها في عام واحد مع قدرته على ذلك . ومقابل المشهور عند المالكيّة قول مطرّف وابن الماجشون من جواز التّكرار ، بل قال ابن حبيب : لا بأس بها في كلّ شهر مرّةً .
وعلى المشهور عندهم من أنّه يكره تكرارها في السّنة الواحدة لو أحرم بثانية انعقد إحرامه إجماعاً ، قاله سند وغيره .
ويشمل استحباب العمرة واستحباب تكرارها أشهر الحجّ ; لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر فيها ، وفي ذلك إبطال لزعم الجاهليّة أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور ، بل إنّ عمراته صلى الله عليه وسلم - هي أربع - كانت كلّها في أشهر الحجّ كما ثبت عن أنس رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ، كلّهنّ في ذي القعدة إلاّ الّتي مع حجّته : عمرةً من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرةً من العام المقبل في ذي القعدة وعمرةً من جعرانة حيث قسّم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرةً مع حجّته » .
ودرءاً لما قد يفهم من تعارض بين هذا وما سبق من أفضليّة العمرة في رمضان قال الكمال ابن الهمام : إنّ رمضان أفضل بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وتركه لذلك لاقترانه بأمر يخصّه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتّلاً ، وأن لا يشقّ على أمّته ، فإنّه لو اعتمر فيه لخرجوا معه ، ولقد كان بهم رحيماً ، وقد أخبر في بعض العبادات أنّ تركه لها ; لئلاّ يشقّ عليهم مع محبّته لها كالقيام بهم في رمضان ، ومحبّته لأن يسقي بنفسه مع سقاة زمزم ثمّ تركه كي لا يغلبهم النّاس على سقايتهم ، ولم يعتمر عليه الصلاة والسلام في السّنة إلاّ مرّةً .
وما قاله الكمال يتّفق وما هو مقرّر عند الأصوليّين ، من أنّ دلالة القول مقدّمة على دلالة الفعل .
لكن استثنى الحنفيّة من ذلك الاعتمار في أشهر الحجّ للمكّيّ ، والمقيم بها ، ولأهل المواقيت ومن بينها وبين مكّة ، فيكره لهؤلاء الاعتمار في أشهر الحجّ عند الحنفيّة ; لأنّ الغالب عليهم أنّهم يحجّون ، فيصبحون متمتّعين ، ويلزمهم دم جزاءً إن فعلوه عند الحنفيّة .
أمّا عند الجمهور فلا حرج عليهم في ذلك ; لأنّهم يجيزون لهم التّمتّع ، ويسقطون عنهم دم التّمتّع أيضاً .
ر : ( تمتّع ف 11 12 ) .
الإخلال بأحكام العمرة :
أوّلاً : ترك ركن من أركان العمرة بمانع قاهر :
32 - يعتبر المنع من ركن من أركان العمرة بمانع قاهر إحصاراً يبيح التّحلّل من إحرام العمرة ، ويتفاوت اعتباره إحصاراً باختلاف المذاهب في أركان العمرة ، وفيما يعتبر سبباً للإحصار ، وما يترتّب على ذلك من أحكام .
انظر : ( إحصار ف 12 - 25 ) .
ثانياً : ترك ركن من أركان العمرة من غير مانع قاهر :
33 - من ترك شيئاً من أركان العمرة كالطّواف أو السّعي - عند القائل بركنيّته - فإنّه يكون قد فعل حراماً ، ويجب عليه الإتيان بما تركه ، ويظلّ محرماً يجب عليه اجتناب محظورات الإحرام كلّها حتّى يرجع ويأتي بما تركه ، ولا تفوت عليه العمرة أبداً ; لأنّه ليس لأركانها وقت معيّن .
ثالثاً : فساد العمرة :
34 - لا تفسد العمرة بترك ركن من أركانها ، ولا بترك واجب فيها ، إلاّ بالجماع قبل التّحلّل من إحرامها ، على التّفصيل التّالي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة - وهو الطّواف أربعة أشواط عندهم - فإنّه تفسد عمرته ، أمّا لو وقع المفسد بعد ذلك فلا تفسد العمرة ; لأنّه بأداء الرّكن أمن الفساد .
وذهب المالكيّة إلى أنّ المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشوط فسدت ، أمّا لو وقع بعد تمام السّعي قبل الحلق فلا تفسد ; لأنّه بالسّعي تتمّ أركانها ، والحلق من شروط الكمال عندهم .
ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه إذا حصل المفسد قبل التّحلّل من العمرة فسدت ، والتّحلّل يحصل بالحلق عند الفريقين ، وهو ركن عند الشّافعيّة واجب عند الحنابلة .
ويجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحجّ من الاستمرار فيها ، والقضاء ، والفداء . 35 - واختلفوا في فداء إفساد العمرة :(/5)
فمذهب الحنفيّة والحنابلة أنّه يلزمه شاة ; لأنّ العمرة أقلّ رتبةً من الحجّ ، فخفّت جنايتها ، فوجبت شاة .
ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه تلزمه بدنة قياساً على الحجّ .
أمّا فداء الجماع الّذي لا يفسد العمرة فشاة فقط عند الحنفيّة ، وبدنة عند المالكيّة .
ر : ( إحرام ف 174 - 175 ) .
رابعاً : ترك واجب في العمرة :
36 - من ترك واجباً في العمرة ، كالسّعي عند الحنفيّة وفي القول الرّاجح عند الحنابلة ، وكالحلق عند الجمهور خلافاً للشّافعيّة ، فإنّه يأثم بهذا ، ويجب عليه الدّم عندهم .
خامساً : ترك سنّة من سنن العمرة :
37 - تارك السّنّة يحرم نفسه الثّواب والفضل الّذي أعدّه اللّه لمن أتى بالسّنّة ، وصرّح الحنفيّة في تارك السّنّة بكونه مسيئاً ، ولا يلزمه جزاء ولا فداء .
أداء العمرة عن الغير :
38 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يجوز أداء العمرة عن الغير ; لأنّ العمرة كالحجّ تجوز النّيابة فيها ; لأنّ كلاً من الحجّ والعمرة عبادة بدنيّة ماليّة ولهم في ذلك تفصيل : ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز أداء العمرة عن الغير بأمره ; لأنّ جوازها بطريق النّيابة ، والنّيابة لا تثبت إلاّ بالأمر ، فلو أمره أن يعتمر فأحرم بالعمرة واعتمر جاز ; لأنّه فعل ما أمر به .
وذهب المالكيّة إلى أنّه تكره الاستنابة في العمرة وإن وقعت صحّت .
وقال الشّافعيّة : تجوز النّيابة في أداء العمرة عن الغير إذا كان ميّتاً أو عاجزاً عن أدائها بنفسه ، فمن مات وفي ذمّته عمرة واجبة مستقرّة بأن تمكّن بعد استطاعته من فعلها ولم يؤدّها حتّى مات ، وجب أن تؤدّى العمرة عنه من تركته ، ولو أدّاها عنه أجنبيّ جاز ولو بلا إذن كما أنّ له أن يقضي دينه بلا إذن .
وتجوز النّيابة في أداء عمرة التّطوّع إذا كان عاجزاً عن أدائها بنفسه ، كما في النّيابة عن الميّت .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا تجوز العمرة عن الحيّ إلاّ بإذنه ; لأنّها عبادة تدخلها النّيابة ، فلم تجز إلاّ بإذنه ، أمّا الميّت فتجوز عنه بغير إذنه .(/6)
عِبَادَةُ *
التّعريف :
1 - العبادة في اللّغة : الخضوع ، والتّذلّل للغير لقصد تعظيمه ولا يجوز فعل ذلك إلاّ للّه ، وتستعمل بمعنى الطّاعة .
وفي الاصطلاح : ذكروا لها عدّة تعريفات متقاربة : منها :
أ - هي أعلى مراتب الخضوع للّه ، والتّذلّل له .
ب - هي المكلّف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربّه .
ج - هي فعل لا يراد به إلاّ تعظيم اللّه بأمره .
د - هي اسم لما يحبّه اللّه ويرضاه من الأقوال ، والأفعال ، والأعمال الظّاهرة والباطنة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القربة :
2 - القربة هي : ما يتقرّب به إلى اللّه فقط ، أو مع الإحسان للنّاس كبناء الرّباط والمساجد ، والوقف على الفقراء والمساكين .
ب - الطّاعة :
3 - الطّاعة هي : موافقة الأمر بامتثاله سواء أكان من اللّه أم من غيره ، قال تعالى : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }
4 - قال ابن عابدين : بين هذه الألفاظ " العبادة - القربة - الطّاعة " عموم وخصوص مطلق .
فالعبادة : ما يثاب على فعله ، وتتوقّف صحّته على نيّة ، والقربة : ما يثاب على فعله بعد معرفة من يتقرّب إليه به ، ولم يتوقّف على نيّة ، والطّاعة : ما يثاب على فعله توقّف على نيّة أم لا ، عرف من يفعله لأجله ، أم لا .
فالصّلوات الخمس ، والصّوم ، والزّكاة ، وكلّ ما تتوقّف صحّته على نيّة : عبادة ، وطاعة ، وقربة ، وقراءة القرآن ، والوقف ، والعتق ، والصّدقة ، ونحو ذلك ممّا لا تتوقّف على نيّة: قربة ، وطاعة ، لا عبادة .
والنّظر المؤدّي إلى معرفة اللّه تعالى : طاعة ، لا قربة ، لأنّ المعرفة تحصل بعدها ، ولا عبادة لعدم توقّفه على نيّة ، وقال الزّركشيّ من الشّافعيّة : إنّ العبادة مشتقّة من التّعبّد ، وعدم النّيّة لا يمنع كون العمل عبادةً ، وقال : وعندي أنّ العبادة ، والقربة ، والطّاعة تكون فعلاً وتركاً ، والعمل المطلوب شرعاً يسمّى عبادةً إذا فعله المكلّف تعبّداً ، أو تركه تعبّداً أمّا إذا فعله لا بقصد التّعبّد ، بل لغرض آخر ، أو ترك شيئاً من المحرّمات لغرض آخر غير التّعبّد فلا يكون عبادةً لقوله تعالى : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } .
الأحكام المتعلّقة بالعبادة :
العبادة لا تصدر إلاّ عن وحي :
5 - المقصود من العبادة : تهذيب النّفس بالتّوجّه إلى اللّه ، والخضوع له ، والانقياد لأحكامه بالامتثال لأمره ، فلا تصدر إلاّ عن طريق الوحي بنوعيه : الكتاب الكريم ، وسنّة النّبيّ المعصوم الّذي لا ينطق عن الهوى ، قال تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } .
أو بما يقرّه اللّه من اجتهاده صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الصّحيح : » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ « .
أمّا الأمور العاديّة الّتي تجري بين النّاس لتنظيم مصالحهم الدّنيويّة ، فالمقصود منها : التّوجيه إلى إقامة العدل بينهم ، ودفع الضّرر ، فيجوز فيها الاجتهاد فيما لم يرد فيه نصّ ، لتحقيق العدل ، ودفع الضّرر .
والتّفصيل في الملحق الأصوليّ .
اشتراط النّيّة في العبادات :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط النّيّة في العبادات لخبر : » إنّما الأعمال بالنّيّات « والحكمة في إيجاب النّيّة فيها : تميّز العبادة عن العادة ، وتمييز رتب بعض العبادات بعضها عن بعض ، ولهذا قالوا : تجب النّيّة في العبادة الّتي تلتبس بعادة ، فالوضوء والغسل يتردّدان بين التّنظيف والتّبرّد والعبادة ، والإمساك عن المفطرات قد يكون للّحميّة والتّداوي، وقد يكون لعدم الحاجة إليه ، وقد يكون للصّوم الشّرعيّ ، والجلوس في المسجد يكون للاستراحة ويكون للاعتكاف ، ودفع المال للغير قد يكون صدقة تطوّع وقد يكون فرض الزّكاة ، فشرعت النّيّة لتمييز العبادة عن غيرها ، والصّلاة قد تكون فرضاً ، أو نفلاً ، فشرعت النّيّة لتمييز الفرض عن النّفل .
أمّا الّتي لا تلتبس بعادة ، كالإيمان باللّه والخوف ، والرّجاء ، والأذان ، والإقامة ، وخطبة الجمعة ، وقراءة القرآن والأذكار فلا تجب فيها النّيّة لأنّها متميّزة بصورتها .
النّيابة في العبادات :
7 - قسّم الفقهاء العبادة في هذا الصّدد إلى أقسام ثلاثة :
1 - عبادة بدنيّة محضة .
2 - عبادة ماليّة محضة .
3 - عبادة متردّدة بينهما .
فالعبادة البدنيّة المحضة : كالصّلاة والصّوم ، والوضوء ، والغسل .. فالأصل فيها امتناع النّيابة ، إلاّ ما أخرج بدليل ، كالصّوم عن الميّت ، لأنّ المقصود من التّكاليف البدنيّة الابتلاء ، والمشقّة ، وهي تحصل بإتعاب النّفس والجوارح بالأفعال المخصوصة ، وهو أمر لا يتحقّق بفعل نائبه ، فلم تجزئ النّيابة ، إلاّ في ركعتي الطّواف تبعاً للنّسك ، ولو استناب فيهما وحدهما لم يصحّ .
أمّا الصّوم عن الميّت فقد أخرج عن هذه القاعدة لدليل ورد فيه : فقد قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : » جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت ، وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ فقال : أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيته أكان ذلك يؤدّى عنها ؟ قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمّك « .
( ر : صوم ) .
العبادة الماليّة : أمّا العبادات الماليّة المحضة كالصّدقة ، والزّكاة ، والكفّارات ، والنّذر ، والأضحيّة ، ونحو ذلك فتصحّ فيها النّيابة ، لأنّ دفع الزّكاة إلى الإمام إمّا واجب ، أو مندوب ، ومعلوم أنّه لا يفرّقها على المستحقّين إلاّ عن طريق النّيابة .(/1)
وأمّا العبادة المتردّدة بين الماليّة والبدنيّة فتصحّ فيها النّيابة عند العجز الدّائم إلى الموت ، أو بعد الموت ، وذلك كالحجّ .
وصف العبادة بالأداء ، أو القضاء ، أو الإعادة :
8 - العبادة : إن كان لها وقت محدود الطّرفين ، ووقعت في الوقت ، ولم يسبق فعلها مرّةً أخرى في الوقت فأداء ، وإن سبق فعلها فيه فإعادة ، وإن وقعت بعد الوقت فقضاء ، أو قبله فتعجيل ، فالصّلوات الخمس ، وصوم رمضان ، والحجّ ، والعمرة ، والنّوافل المؤقّتة كلّها توصف بالأداء ، وبالقضاء ، وإن لم يكن لها وقت محدود الطّرفين ، كالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر ، والتّوبة عن الذّنوب ، وردّ المظالم ، فلا توصف بأداء ، ولا قضاء وكذا الوضوء ، والغسل لا يوصفان بأداء ولا قضاء ، والزّكاة إن أخرجها قبل الحول يسمّى تعجيلاً .
والتّفصيل في الملحق الأصوليّ .
جعل ثواب ما فعله من العبادات لغيره :
9 - ذهب علماء أهل السّنّة والجماعة : إلى أنّ للإنسان أن يجعل ثواب ما فعله من عبادة لغيره ، وهذا محلّ اتّفاق في العبادات غير البدنيّة المحضة كالصّدقة ، والدّعاء ، والاستغفار ، والوقف عن الميّت ، وبناء المسجد عنه ، والحجّ عنه ، إذا فعلها وجعل ثوابها للميّت لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } .
وقوله جلّ شأنه : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } .
ودعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكلّ ميّت صلّى عليه ، وسأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم : فقال : » يا رسول اللّه ، إنّ أمّي ماتت أفينفعها إن تصدّقت عنها ؟ قال : نعم « . واختلفوا في العبادات البدنيّة المحضة : فقال الحنفيّة ، والحنابلة : له أن يجعل ثواب عبادته لغيره ، سواء صحّت فيها النّيابة ، أم لم تصحّ فيها ، كالصّلاة ، والتّلاوة ونحوها ممّا لا تجوز فيها النّيابة ، وقالوا : وردت أحاديث صحيحة ، في الصّوم ، والحجّ ، والدّعاء ، والاستغفار وهي : عبادات بدنيّة ، وقد أوصل اللّه نفعها إلى الميّت ، وكذلك ما سواها ، مع ما روي في التّلاوة .
وقال الإمام الشّافعيّ : ما عدا الصّدقة ، ونحوها ممّا يقبل النّيابة كالدّعاء ، والاستغفار ، لا يفعل عن الميّت كالصّلاة عنه قضاءً ، أو غيرها ، وقراءة القرآن ، لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلا مَا سَعَى } هذا هو المشهور عن الإمام وهو مذهب المالكيّة .
ولكنّ المتأخّرين من الشّافعيّة ذهبوا إلى أنّ ثواب القراءة يصل إلى الميّت وحكى النّوويّ في شرح مسلم والأذكار وجهاً أنّ ثواب القراءة يصل إلى الميّت .
واختاره جماعة من أصحاب الشّافعيّ منهم ابن الصّلاح والمحبّ الطّبريّ ، وصاحب الذّخائر، وعليه عمل النّاس ، و » ما رأى المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن « .
هل يكون الكافر مسلماً بإتيان العبادة ؟ :
10 – قال ابن نجيم : الأصل أنّ الكافر إذا أتى بعبادة ، فإن كانت موجودةً في سائر الأديان ; لا يكون بها مسلماً كالصّلاة ، منفرداً ، والصّدقة ، والصّوم ، والحجّ الّذي ليس بكامل ، وإن أتى ما يختصّ بشرعنا ، ولو من الوسائل كالتّيمّم ، أو من المقاصد ، أو من الشّعائر كالصّلاة بجماعة ، والحجّ الكامل ، والأذان في المسجد وقراءة القرآن وسجود التّلاوة عند سماع آيات السّجدة ، يكون بذلك مسلماً .
والتّفصيل في مصطلح : ( إسلام ) .(/2)
عِصَابَة *
التّعريف :
1 - العصابة في اللّغة : من العصب ، وهو الطّيّ الشّديد ، يقال : عصب الشّيء يعصبه عصباً : طواه ولواه ، وقيل : شدّه ، والعصابة ما عصب به يقال : عصب رأسه وعصبه : شدّه ، وتطلق على العمامة ، والجماعة من النّاس ، والخيل ، والطّير .
أمّا في الاصطلاح فخصّ استعمالها عند الفقهاء في معنيين :
الأوّل : العمامة ، كما ورد في حديث ثوبان رضي الله عنه : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب « .
قال الخطّابيّ : العصائب العمائم ، سمّيت عصائب لأنّ الرّأس يعصب بها .
الثّاني : ما يعصب به الجراحة .
الألفاظ ذات الصّلة :
الجبيرة :
2 - الجبيرة لغةً : العيدان الّتي تشدّ على العظم لتجبره على استواء ، يقال : جبرت اليد أي وضعت عليها الجبيرة .
واستعملها أكثر الفقهاء في نفس المعنى اللّغويّ ، إلاّ أنّ المالكيّة فسّروا الجبيرة بالمعنى الأعمّ ، حيث قالوا : الجبيرة ما يداوي الجرح ، سواء أكان أعواداً أم لزقةً أم غير ذلك .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً : العصابة بمعنى العمامة :
ذكر الفقهاء أحكام العصابة بمعنى العمامة في مواضع ، منها :
أ - المسح :
3 -ذهب الحنابلة والمالكيّة - على تفصيل عندهم - إلى جواز المسح على العمامة في الوضوء ، لما روي عن المغيرة بن شعبة قال : » توضّأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفّين والعمامة « .
ولأنّه حائل في محلّ ورد الشّرع بمسحه فجاز عليه كالخفّين ، كما قال ابن قدامة ، لكنّ المالكيّة قيّدوا الجواز بما إذا خيف على نزعها ضرر ، أو شقّ نزعها .
أمّا الحنفيّة فلم يقولوا بجواز المسح على العمامة ، بل قالوا ترفع ويمسح على الرّأس ، وذلك لعدم الحرج في رفعها ، والأمر في قوله تعالى وارد على مسح الرّأس ، بخلاف المسح على الخفّ ، لما في نزعه من الحرج فيجوز .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( عمامة ، ومسح ) .
ب - السّجود على كور العمامة :
4 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : أنّه يكره السّجود على كور عمامته ، قال الحنفيّة والحنابلة : إلاّ لعذر ، وإن صحّ بشرط كونه على جبهته ، كلّها أو بعضها لا فوق الجبهة . وذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى عدم جواز السّجود على كور عمامته ، ر : ( سجود ف 7 ) .
وتفصيل أحكام العصابة بهذا المعنى ينظر في مصطلح : ( عمامة ) .
ثانياً - العصابة بمعنى ما يعصب به :
5 - ذهب الفقهاء إلى مشروعيّة المسح على ما يعصب به من اللّصوق ، واللّزوق والجبائر في حالة العذر نيابةً عن الغسل أو التّيمّم .
وتفصيل أحكام العصابة بهذا المعنى ينظر في مصطلح : ( جبيرة ف 4 وما بعدها ) .(/1)
عِمَامَة *
التّعريف :
1 - العمامة لغةً : اللّباس الّذي يلاث - يلفّ - على الرّأس تكويراً ، وتعمّم الرّجل : كوّر العمامة على رأسه ، والجمع عمائم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العذبة :
2 - العذبة : طرف الشّيء كعذبة الصّوت واللّسان أي : طرفهما ، والطّرف الأعلى للعمامة يسمّى عذبةً وإن كان مخالفاً للاصطلاح العرفيّ .
ب - الذّؤابة :
3 - الذّؤابة تطلق على الضّفيرة من الشّعر إذا كانت مرسلةً كما تطلق على طرف العمامة ، والجمع ذوائب ويستعملها الفقهاء بهذين المعنيين .
فالعذبة والذّؤابة جزء من العمامة .
ولا يفرّق بعضهم بين العذبة والذّؤابة .
ج - العصابة :
4 - للعصابة في الاستعمال العربيّ عدّة معان متشابهة : العصابة بمعنى العمامة ، فهي مرادفة لها .
قال الجاحظ : والعصابة والعمامة سواء .
فهي مرادفة للعمامة ، كما ورد في الحديث : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سريّةً فأصابهم البرد فلمّا قدموا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب « ، وفسّرت العصائب هنا بالعمائم .
وتطلق العصابة على ما يشدّ به الرّأس وغيره ، فهي بهذا المعنى أعمّ من العمامة .
د - المعجر :
5 - المعجر : ثوب أصغر من الرّداء وأكبر من المقنعة تعتجر به المرأة فتلفّه على استدارة رأسها ثمّ تجلبب فوقه بجلبابها ، والجمع المعاجر .
ويكون الاعتجار بالمعجر بالنّسبة للنّساء وبالعمامة بالنّسبة للرّجال ، وهو ليّ الثّوب على الرّأس من غير إدارة تحت الحنك ، وفي بعض العبارات أنّه لفّ العمامة دون التّلحّي . والاعتجار بالعمامة أن يلفّها على رأسه ويردّ طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئاً تحت ذقنه .
والصّلة بين المعجر والعمامة أنّ المعجر والعمامة كليهما يلفّ به الرّأس غير أنّ المعجر للمرأة والعمامة للرّجل .
هـ – القناع :
6 – يطلق القناع والمقنّع والمقنّعة على نوع من القماش يضعه الجنسان على الرّأس . ويطلق أيضاً على الخمار الّذي تغطّي به المرأة وجهها .
وفسّر بعضهم القناع بما يفيد خصوصيّته بالمرأة فقال : القناع والمقنّعة : ما تتقنّع به المرأة من ثوب يغطّي رأسها ومحاسنها .
ووصف البعض الرّجل بالتّقنّع فقال : رجل مقنّع إذا كان عليه بيضة ومغفر .
فالقناع يستعمل للنّساء ، والعمامة للرّجال .
و - القلنسوة :
7 - القلنسوة لغةً من ملابس الرّءوس وتجمع على قلانس ، والتّقليس لبس القلنسوة . واصطلاحاً : ما يلبس على الرّأس ويتعمّم فوقه أو هي الطّاقيّة .
والصّلة أنّ العمامة تلفّ على القلنسوة غالباً .
أشكال العمامة :
8 - للعمامة عدّة أشكال منها :
أن يلفّ الشّخص العمامة على رأسه ويسدلها على ظهره ، وتسمّى بهذه الهيئة القعاطة .
أن تلفّ على الرّأس دون التّلحّي بها ، وتسمّى الاعتجار .
أن يرخى طرفاها من ناحيتي الرّأس وتسمّى الزّوقلة .
أن تلاث على الرّأس ولا تسدل على الظّهر ولا تردّ تحت الحنك وتسمّى القفداء .
صفة عمائم الرّسول صلى الله عليه وسلم :
9 - روى الصّحابة رضي الله عنهم أخباراً تتعلّق بعمامة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نصّت على لونها وشكلها ونوعها .
فعن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكّة وعليه عمامة سوداء « .
والعمامة بهذا اللّون استعملها صلى الله عليه وسلم حين الخطابة ، فعن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب النّاس ، وعليه عمامة سوداء « .
وعن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر عن أبيه قال : » رأيت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبين مصبوغين بزعفران رداءً وعمامةً « .
وكانت لعمامته صلى الله عليه وسلم عذبة وكان يسدلها بين كتفيه ، فعن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال : » كأنّي أنظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه « .
تضمّن هذا الحديث بالإضافة إلى التّنصيص على لون عمامة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإخبار بإرخائه طرفها بين كتفيه .
وأخبر عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما بذلك فقال : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اعتمّ سدل عمامته بين كتفيه « .
وثبت أنّه صلى الله عليه وسلم تعمّم بعمامة قطريّة ، فعن أنس بن مالك قال : » رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توضّأ وعليه عمامة قطريّة ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدّم رأسه ولم ينقض العمامة « وفسّرت العمامة القطريّة بتفسيرين :
الأوّل : قيل هي ضرب من البرود فيه حمرة ولها أعلام وفيها بعض الخشونة .
الثّاني : قيل هي حلل جياد تحمل من قرية في البحرين يقال لها قطر .
وأمّا مقدارها فقد لاحظ السّيوطيّ أنّه لم يثبت حديث في مقدار عمامته صلى الله عليه وسلم، واستنتج من حديث نسبه إلى البيهقيّ يصف تعمّمه عليه الصلاة والسلام بأنّها عدّة أذرع ، ثمّ قال : والظّاهر أنّها كانت نحو العشرة أذرع أو فوقها بيسير .
ومن الأوصاف الّتي وقفنا عليها : سدل العمامة .
وصف عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه عمامته فقال : » عمّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يديّ ومن خلفي « .
وكان عبد اللّه بن عمر يسدل عمامته بين كتفيه ، وممّن فعل ذلك من التّابعين سالم بن عبد اللّه والقاسم بن محمّد .
وثبت أنّ من الصّحابة من جعل في عمامته علامةً ليعرف بها .
ومنهم من اتّخذ العمامة نفسها سمةً فقد كان حمزة يوم بدر معلّماً بريشة نعامة حمراء ، وكان الزّبير معلّماً بعمامة صفراء .
صفة عمائم أهل الذّمّة :(/1)
10 - لبس أهل الذّمّة العمائم الملوّنة تمييزاً لهم فكانت عمائم المسيحيّين زرقاء وعمائم اليهود صفراء ويذكر أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هو الّذي ألزمهم بذلك .
بيد أنّ هذه التّعليمات لم تطبّق بعد ذلك حيث تعمّم المسلمون بالعمائم الملوّنة ، ومن صفات عمائم أهل الذّمّة خلوّها من العذبة ، عدم إدارتها تحت الحنك عند التّعمّم ، قال ابن قدامة : " .. وإن لم يكن تحت الحنك منها شيء ، ولا لها ذؤابة لم يجز المسح عليها ; لأنّها على صفة عمائم أهل الذّمّة " .
الصّلاة بالعمامة :
11 - اتّفق الفقهاء على استحباب ستر الرّأس في الصّلاة للرّجل بعمامة وما في معناها ; لأنّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بالعمامة .
أمّا المرأة فواجب ستر رأسها .
ونصّ الحنفيّة على كراهة صلاة الرّجل مكشوف الرّأس إذا كان تكاسلاً لترك الوقار ، لا للتّذلّل والتّضرّع انظر مصطلح : ( رأس ف 5 ) .
السّجود على كور العمامة :
12 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز السّجود على كور العمامة وغيرها ممّا هو متّصل بالمصلّي من غير عذر من حرّ أو برد مع الكراهة التّنزيهيّة عند الحنفيّة لحديث أنس رضي الله عنه قال : « كنّا نصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شدّة الحرّ فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض يبسط ثوبه فيسجد عليه » وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه سجد على كور عمامته » .
وعن الحسن قال : كان أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يسجدون وأيديهم في ثيابهم ، ويسجد الرّجل على عمامته ، وفي رواية : كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويده في كمّه .
وذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى وجوب كشف الجبهة ومباشرتها بالمصلّى ، وعدم جواز السّجود على كمّه وذيله ويده وكور عمامته أو قلنسوته وغير ذلك ممّا هو متّصل به ، ويتحرّك بحركته لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجدت فمكّن جبهتك من الأرض » الحديث ، ولما روي عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : « أتينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه حرّ الرّمضاء فلم يشكنا » ، وفي رواية : « فما أشكانا » . وقال المالكيّة : السّجود على الجبهة فرض ، ويكره السّجود على كور عمامته إن كان لفّتين من شال رقيق كشاش ولا يعيد الصّلاة ، فإن كان أكثر من لفّتين واستقرّت عليه الجبهة فيعيد في الوقت وإن كانت العمامة مشدودةً على الرّأس وسجد على كورها ولم تمسّ جبهته الأرض فصلاته باطلة يعيدها أبداً وجوباً .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( سجود ف 7 ) ، ومصطلح : ( صلاة ف 101 ) .
حكم المسح على العمامة :
13 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز المسح على العمامة ; لأنّه لا حرج في نزعها .
وقال المالكيّة : يجوز المسح على العمامة إن خيف ضرر بسبب نزعها من الرّأس ولم يمكن حلّها ، وإن قدر على مسح بعض رأسه مباشرةً مسحه وكمّل على عمامته وجوباً .
وقال الشّافعيّة : يجوز المسح على العمامة وإن لبسها على حدث سواء عسر عليه تنحيتها أم لا ، ولا يكفي الاقتصار على العمامة بل يمسح بناصيته وعلى العمامة والأفضل أن لا يقتصر على أقلّ من النّاصية ، لحديث مسلم عن المغيرة : « أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فمسح بناصيته وعلى العمامة » .
وقال الحنابلة : يجوز المسح على العمامة وبه قال عمر وأنس وأبو أمامة ، وروي عن سعيد بن مالك وأبي الدّرداء رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة ومكحول والأوزاعيّ وأبو ثور وابن المنذر ، قال ابن المنذر : ممّن مسح على العمامة أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه .
واستدلّ الحنابلة بما روي عن المغيرة بن شعبة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : توضّأ فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفّين » .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( مسح ، ووضوء ) .
العمامة للميّت :
14 - ذهب أبو حنيفة ومالك إلى استحباب اشتمال الكفن على قميص وعمامة ، واعتمد الحنفيّة في ذلك على حديث سعيد بن منصور أنّ ابن عمر كفّن ابنه واقداً في خمسة أثواب قميص وعمامة وثلاث لفائف وأدار العمامة إلى تحت حنكه .
وأمّا مالك فقد روي عنه أنّه قال : والرّجل أحبّ إليّ أن يعمّم . قال : إنّ من شأن الميّت عندنا أن يعمّم .
وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّ الأفضل أن لا يكون في كفن الميّت قميص ولا عمامة ، واستدلّوا بقول عائشة رضي الله عنها : « كفّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة » متّفق عليه .
لبس العمامة في الإحرام :
15 - العمامة من اللّباس المحرّم في الإحرام ، نصّ على ذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم في حديث بيّن فيه ما يمنع على المحرم لباسه ، فعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما : « أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه : ما يلبس المحرم من الثّياب ؟ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السّراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلاّ أحد لا يجد نعلين فيلبس خفّين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه زعفران أو ورس » .
قال النّوويّ : نبّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كلّ ساتر للرّأس مخيطاً كان أو غيره حتّى العصابة فإنّها حرام ، فإن احتاج إليها لشجّة أو صداع أو غيرهما شدّها ، ولزمته الفدية .
التّعزير بخلع العمامة :
16 - التّعزير عقوبة فيما لا حدّ ولا كفّارة ، يجتهد القاضي في تقديرها .(/2)
وممّا يعزّر به خلع العمامة ، قال ابن شاس : كانوا يعاقبون الرّجل على قدره وقدر جنايته ، منهم من يضرب ومنهم من يحبس ، ومنهم من يقام واقفاً على قدميه في المحافل ، ومنهم من تنزع عمامته ، ومنهم من يحلّ إزاره .(/3)
عِيد *
التّعريف :
1 - العيد لغةً مشتقّ من العود ، وهو الرّجوع والمعاودة لأنّه يتكرّر .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، وهو يومان : يوم الفطر من رمضان وهو أوّل يوم من شوّال ، ويوم الأضحى وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة ، ليس للمسلمين عيد غيرهما .
الأحكام المتعلّقة بالعيد :
تتعلّق بالعيد أحكام منها :
أ - صلاة العيد :
2 - اختلف الفقهاء في حكم صلاة العيد .
فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّها سنّة مؤكّدة ، لحديث الأعرابيّ « الّذي ذكر له النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّلوات الخمس فقال : هل عليَّ غيرهنّ ؟ قال : لا ، إلاّ أن تطّوّع » .
وذلك مع فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها ومداومته عليها .
وذهب الحنفيّة - على المفتى به عندهم - إلى أنّها واجبة ، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليها من دون تركها ولو مرّةً ؛ ولأنّها تؤدّى بجماعة ، فلو كانت سنّةً ولم تكن واجبةً لاستثناها الشّارع ، كما استثنى التّراويح وصلاة الخسوف .
وذهب الحنابلة إلى أنّها فرض كفاية لقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ولمداومة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على فعلها .
والتّفصيل في مصطلح ( صلاة العيدين ف /2 وما بعدها ) .
ب - التّكبير في العيدين :
3 - التّكبير في العيدين يكون في أثناء الصّلاة وفي الطّريق إليها وبعد انقضائها .
أمّا التّكبير في الغدوّ إليها ، فقد ذهب الفقهاء إلى مشروعيّته عند الغدوّ إلى الصّلاة في المنازل والأسواق والطّرق إلى أن تبدأ الصّلاة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة العيدين ف /13 ) .
أمّا التّكبير في أثناء صلاة العيد ( التّكبيرات الزّوائد ) فهي سنّة عند جمهور الفقهاء ، واجبة عند الحنفيّة .
وفي بيان عدد هذه التّكبيرات وموضعها في الصّلاة اختلاف وتفصيل ينظر في مصطلح :
( صلاة العيدين ف /11 ، 12 ) .
أمّا التّكبير في أدبار الصّلاة فلا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّته في أيّام التّشريق ، وهو مندوب عند جمهور الفقهاء ، واجب عند الحنفيّة .
وللتّفصيل في صفة تكبير التّشريق ووقته ومحلّ أدائه ينظر مصطلح : ( أيّام التّشريق ف/ 13 ) .
ج - الأضحيّة في العيد :
4 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة الأضحيّة في عيد الأضحى ، واختلفوا في حكمها .
فذهب الجمهور إلى أنّها سنّة وقال الحنفيّة بوجوبها .
وفي بيان شروطها وأحكامها ووقتها اختلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( أضحيّة ف /7 وما بعدها ) .
د - ما يستحبّ فعله في العيدين :
5 - يستحبّ إحياء ليلتي العيد بطاعة اللّه تعالى من ذكر وصلاة وتلاوة وتكبير وتسبيح واستغفار ، لحديث « من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » .
ويستحبّ الغسل للعيد لما روى ابن عبّاس والفاكه بن سعد رضي الله عنهم « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى » ولأنّه يوم يجتمع النّاس فيه للصّلاة فاستحبّ الغسل فيه كيوم الجمعة ، وإن اقتصر على الوضوء أجزأه ، ويستحبّ أن يتزيّن ويتنظّف ويحلق شعره ويلبس أحسن ما يجد ويتطيّب ويتسوّك ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبس في العيدين بردي حبرة » . وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده » ،وقال مالك : سمعت أهل العلم يستحبّون الطّيب والزّينة في كلّ عيد ، والإمام بذلك أحقّ ، لأنّه منظور إليه من بينهم . وأفضل ألوان الثّياب البياض ، فعلى هذا إن استوى ثوبان في الحسن والنّفاسة فالأبيض أفضل ، فإن كان الأحسن غير أبيض فهو أفضل من الأبيض في هذا اليوم .
فإن لم يجد إلاّ ثوباً استحبّ أن يغسله للعيد .
ويستوي في استحباب تحسين الثّياب والتّنظيف والتّطيّب وإزالة الشّعر والرّائحة الكريهة ، الخارج إلى الصّلاة والقاعد في بيته ، لأنّه يوم الزّينة فاستووا فيه ، وهذا في حقّ غير النّساء .
وأمّا النّساء إذا خرجن فإنّهنّ لا يتزيّنّ ، بل يخرجن في ثياب البذلة ، ولا يلبسن الحسن من الثّياب ولا يتطيّبن لخوف الافتتان بهنّ ، وكذلك المرأة العجوز وغير ذوات الهيئة يجري ذلك في حكمها ، ولا يخالطن الرّجال بل يكنّ في ناحية منهم .
ويستحبّ تزيين الصّبيان ذكوراً كانوا أو إناثاً بالمصبّغ وبحليّ الذّهب ولبس الحرير في العيد، قال النّوويّ : اتّفقوا على إباحة تزيينهم بالمصبّغ وحليّ الذّهب والفضّة يوم العيد لأنّه يوم زينة ، وليس على الصّبيان تعبّد فلا يمنعون لبس الذّهب وغيره ، وأمّا في غير يوم العيد ففي تحليتهم بالذّهب ولباسهم الحرير ثلاثة أوجه ، أصحّها : جوازه . والثّاني : تحريمه ، والثّالث : جوازه قبل سبع سنين ومنعه بعدها .
وتستحبّ العمامة في العيد .
هـ - التّهنئة بيوم العيد :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعيّة التّهنئة بالعيد من حيث الجملة .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( تهنئة ف /10 ) .
و - التّزاور في العيدين :(/1)
7 - التّزاور مشروع في الإسلام ، وقد ورد ما يدلّ على مشروعيّة الزّيارة في العيد ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال مزمار الشّيطان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعهما » زاد في رواية هشام : « يا أبا بكر إنّ لكلّ قوم عيداً ، وهذا عيدنا » قال في الفتح : قوله : « وجاء أبو بكر " وفي رواية هشام بن عروة " دخل عليّ أبو بكر " وكأنّه جاء زائراً لها بعد أن دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيته .
ونقل في فتح الباري في الحكمة من مخالفته صلى الله عليه وسلم الطّريق يوم العيد أقوالاً منها : ليزور أقاربه من الأحياء والأموات ولم يضعّفه كما فعل مع بعضها ومثله في عمدة القاريّ ، وذلك تعليقاً على حديث جابر رضي الله عنه « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطّريق » .
ز - الغناء واللّعب والزّفن يوم العيد :
8 - يجوز الغناء واللّعب والزّفن في أيّام العيدين ، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش ، وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال : مزمار الشّيطان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعهما. فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا ، وكان يوم عيد يلعب السّودان بالدّرق والحراب ، فإمّا سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإمّا قال : تشتهين تنظرين ؟ فقلت نعم ، فأقامني وراءه ، خدّي على خدّه ، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة ، حتّى إذا مللت قال : حسبك ؟ قلت نعم ، قال : فاذهبي »
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بينما الحبشة يلعبون عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : دعهم يا عمر » .
وعن أنس رضي الله عنه : « كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويرقصون ويقولون : محمّد عبد صالح ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما يقولون ؟ قالوا : يقولون : محمّد عبد صالح » .
ح - زيارة المقابر في العيد :
9 - تستحبّ في العيد زيارة القبور والسّلام على أهلها والدّعاء لهم ، لحديث : « نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » وفي رواية « فإنّها تذكّر الآخرة » وحديث أبي هريرة مرفوعاً: « زوروا القبور فإنّها تذكّر الموت » .
وكره زيارتها ابن سيرين وإبراهيم النّخعيّ والشّعبيّ .
ط - عظة النّساء :
10 - يستحبّ وعظ النّساء بعد صلاة العيد ، وتعليمهنّ أحكام الإسلام ، وتذكيرهنّ بما يجب عليهنّ ، ويستحبّ حثّهنّ على الصّدقة ، وتخصيصهنّ بذلك في مجلس منفرد ، ومحلّ ذلك كلّه إذا أمنت الفتنة والمفسدة " قال ابن جريج : أخبرني عطاء عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : سمعته يقول « قام النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلّى ، فبدأ بالصّلاة ثمّ خطب ، فلمّا فرغ نزل فأتى النّساء ، فذكّرهنّ وهو يتوكّأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النّساء الصّدقة » قلت : " يعني ابن جريج لعطاء " أترى حقّاً على الإمام ذلك ويذكّرهنّ ؟ قال : إنّه لحقّ عليهم ، ومالهم لا يفعلونه ؟ قال في الفتح : ظاهره أنّ عطاءً كان يرى وجوب ذلك ، ولهذا قال عياض : لم يقل بذلك غيره ، وأمّا النّوويّ فحمله على الاستحباب ، وقال : لا مانع من القول به إذا لم يترتّب على ذلك مفسدة .(/2)
غنم
التّعريف
1 - الغنم لغةً : اسم جنس يطلق على الضّأن والمعز ، وقد تجمع على " أغنام " على معنى قطعانات من الغنم ، ولا واحد للغنم من لفظها . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، قال الحصكفيّ : الغنم مشتقّ من الغنيمة ; لأنّه ليس لها آلة الدّفاع ، فكانت غنيمةً لكلّ طالب .
الأحكام المتعلّقة بالغنم :
أ - الصّلاة في مرابض الغنم :
2 - يرى جمهور الفقهاء إباحة الصّلاة في مرابض الغنم إذا أمنت النّجاسة ، فقد روى جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنّ { رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أصلّي في مرابض الغنم ؟ قال : نعم . قال : أصلّي في مبارك الإبل ؟ قال : لا } وعند الحنفيّة إنّما تباح الصّلاة في مرابض الغنم إذا كانت فوق السّجّادة في حالة الضّرورة ، أو إذا كان أصحاب الغنم ينظّفون المرابض ، فأبيحت الصّلاة فيها لذلك ، وقالوا : لا تكره الصّلاة في مرابض الغنم إذا كان بعيداً من النّجاسة . وقال الشّافعيّة : إذا صلّى في أعطان الإبل أو مراح الغنم وماسّ شيئاً من أبوالها أو أبعارها أو غيرها من النّجاسات بطلت صلاته ، وإن بسط شيئاً طاهراً وصلّى عليه أو صلّى في موضع طاهر منه صحّت صلاته ، لكن تكره في أعطان الإبل ولا تكره في مرابض الغنم ، وليست الكراهة بسبب النّجاسة ، فإنّهما سواء في نجاسة البول والبعر ، وإنّما سبب كراهة أعطان الإبل هو ما يخاف من نفارها ، بخلاف الغنم فإنّها ذات سكينة . وأجاز المالكيّة الصّلاة - ولو من غير فرش - بمربض غنم وبقر لطهارة زبلها وللتّفصيل ( ر : صلاة ف 105 )
ب - ( زكاة الغنم ) :
3 - زكاة الغنم واجبة بالسّنّة والإجماع . أمّا السّنّة فما رواه أنس رضي الله عنه أنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لمّا وجّهه إلى البحرين : هذه فريضة الصّدقة الّتي فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، والّتي أمر اللّه بها رسوله ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعط ... { وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث ، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كلّ مائة شاة ، فإذا كانت سائمة الرّجل ناقصةً من أربعين شاةً واحدة فليس فيها صدقة إلاّ أن يشاء ربّها } وأجمع العلماء على وجوب الزّكاة فيها . وللتّفصيل ( ر : زكاة ف 57 وما بعدها )
ج - ( سرقة الغنم ) :
4 - اتّفق الفقهاء على وجوب القطع على من سرق الغنم من الأبنية المغلقة الأبواب المتّصلة بالعمارة . واختلفوا في سرقة الغنم من المرعى : فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا قطع في الغنم الرّاعية في حال رعيها ، سواء كان معها راع أو لا . ويرى الشّافعيّة وجوب القطع على من يسرق الغنم من المرعى ، إذا كان الرّاعي على نشز من الأرض يراها جميعاً ويبلغها صوته . أمّا الحنابلة فلا يشترطون بلوغ الصّوت ، ويكتفون بالنّظر ، حيث قالوا : وحرز الغنم في المرعى بالرّاعي ونظره إليها إذا كان الرّاعي يراها في الغالب ; لأنّ العادة حرزها بذلك وللتّفصيل في أحوال حرز الغنم وسائر المواشي في الأبنية وغير الأبنية ر : ( سرقة ف 37 )
د - ( السّلم في الغنم ) :
5 - يشترط لجواز السّلم في الغنم عند القائلين بجوازه في الحيوان - وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - ذكر الأنوثة والذّكورة والسّنّ واللّون والنّوع . ويرى الحنفيّة عدم جواز السّلم في الحيوان وغيره من العدديّات المتفاوتة ، لأنّه لا يمكن ضبطها بالوصف ، إذ يبقى بعد بيان جنسها ونوعها وصفتها وقدرها جهالةً فاحشةً مفضيةً إلى المنازعة للتّفاوت الفاحش بين حيوان وحيوان . والتّفصيل في مصطلح ر : ( سلم ف 20 وما بعدها ) .(/1)
غَارِمون *
التّعريف :
1 - الغارمون جمع غارم ، وهو في اللّغة : المدين ، وقيل : هو الّذي يلتزم ما ضمنه ، وتكفّل به " قال الزّجّاج : الغارمون هم الّذين لزمهم الدّين في الحمالة .
وفي الأثر : « الدّين مقضيّ والزّعيم غارم » .
وفي الاصطلاح الغارمون هم : المدينون العاجزون عن وفاء ديونهم .
وقال مجاهد : الغارمون هم قوم ركبتهم الدّيون من غير فساد ولا تبذير .
الألفاظ ذات الصّلة :
الكفيل :
2 - الكفيل : هو من التزم ديناً ، أو إحضار عين أو بدن والصّلة أنّ كلّاً منهما تحمّل ديناً ويزيد الكفيل تحمّله إحضار عين أو بدن .
استحقاق الغارمين من الزّكاة :
3 - الغارمون من الأصناف الثّمانية الّذين بيّنتهم آية مصارف الصّدقة ، وهي قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ } .
ولا خلاف بين الفقهاء في استحقاقهم سهماً من الزّكاة .
وفي الغارمين الّذين هم من مصارف الزّكاة ، وبيان الدّيون الّتي لزمتهم ، ومقدار ما يدفع إليهم تفصيل في مصطلح ( زكاة ف /17 ) .
دفع الزّكاة لغريم المدين :
4 - صرّح الحنابلة أنّه إذا أراد المزكّي دفع زكاة ماله إلى الغارم فله أن يسلّمها إليه ليدفعها إلى غريمه ، وإن أحبّ أن يدفعها إلى الغريم قضاءً عن دين الغارم فعن أحمد روايتان : إحداهما : يجوز ذلك ، قال أبو الحارث : قلت لأحمد : رجل عليه ألف دينار ، وكان على رجل ألف من زكاة ماله ، فأدّاها عن هذا الّذي عليه الدّين يجزئ هذا عن زكاته ؟ قال : نعم لا أرى بذلك بأساً ، وذلك لأنّه دفع الزّكاة في قضاء دينه ، فأشبه ما لو دفعها إليه يقضي بها دينه .
والرّواية الثّانية : لا يجوز دفعه إلى الغريم ، قال أحمد : أحبّ إليّ أن يدفعه إليه حتّى يقيض هو عن نفسه ، قيل : هو محتاج يخاف إن دفع إليه أن يأكله ولا يقضي دينه ، قال فليوكّل الغارم المزكّي ليقضي عنه ، فظاهر هذا أنّ المزكّي لا يدفع الزّكاة إلى الغريم إلاّ بوكالة الغارم ؛ لأنّ الدّين إنّما هو على الغارم ، فلا يصحّ قضاؤه عنه إلاّ بتوكيله أو إذنه ، وقال ابن قدامة : يحتمل أن يحمل هذا على الاستحباب ، ويكون قضاؤه عنه جائزاً ، وإن كان دافع الزّكاة الإمام جاز أن يقضي بها دينه من غير توكيله ; لأنّ للإمام ولايةً عليه في إيفاء الدّين، ولهذا يجبره عليه إن امتنع منه .
ادّعاء الغرم :
5 - إذا ادّعى شخص أنّ عليه ديناً ، فإن خفي ذلك لم يقبل منه إلاّ ببيّنة ، سواء أكان الغرم لمصلحة نفسه أم لإصلاح ذات البين لأنّ الأصل عدم الغرم وبراءة الذّمّة .
ومن الغارم الضّامن لغيره لا لتسكين فتنة وهو معسر ، بما على معسر فيعطى ، فإن وفّى فلا رجوع ، كمعسر ملتزم بما على موسر بلا إذن ، وصرف الصّدقة إلى الأصيل المعسر أولى أو هو موسر بما على موسر فلا يعطى .
الاستدانة لعمارة مسجد ونحوه :
6 - قال بعض الشّافعيّة : إن استدان لنحو عمارة مسجد وقرى ضيف وفكّ أسير يعطى عند العجز عن النّقد ، لا عن غيره كالعقار . وقال آخرون منهم : حكمه حكم المستدين لمصلحة نفسه .
وقال صاحب نهاية المحتاج : لو قيل : لا أثر لغناه بالنّقد أيضاً حملاً على هذه المكرمة العامّ نفعها لم يكن بعيداً .(/1)
غَرَق *
التّعريف :
1 - الغرق في اللّغة : الرّسوب في الماء ، يقال : رجل غرق وغريق ، وقيل : الغرق : الرّاسب في الماء ، والغريق : الميّت فيه .
وقال أبو عدنان : الغرق الّذي غلبه الماء ولمّا يغرق ، فإذا غرق فهو الغريق .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للغرق عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الغمر :
2 - من معاني الغمر : الماء الكثير ، قال ابن سيده وغيره : يقال ماء غمر : كثير مغرق ، ومن معانيه : التّغطية ، يقال غمره الماء غمراً : إذا غطّاه .
والصّلة : أنّ الغمر قد يكون سبباً للغرق .
الأحكام المتعلّقة بالغرق :
تتعلّق بالغرق أحكام ، منها :
أ - اعتبار الغرق من أسباب الشّهادة :
3 - الغرق من أسباب الشّهادة ، فمن مات غرقاً نال منازل الشّهداء في الآخرة ، إن لم يتعمّد ذلك ، جاء في الحديث الصّحيح : « الشّهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغرق، وصاحب الهدم ، والشّهيد في سبيل اللّه » .
والغريق من شهداء الآخرة ؛ لأنّه ينال منازل الشّهداء في الآخرة ، ولكن تختلف أحكامه في الدّنيا عن أحكام الشّهيد في سبيل اللّه ، وهو الّذي يموت في قتال الكفّار ، فيغسّل الغريق ويصلّى عليه ، بخلاف الشّهيد في سبيل اللّه .
والتّفصيل في مصطلح : ( شهيد ف /3 - 4 ) .
ب - قتال الأعداء بإغراقهم :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز في قتال الأعداء إغراقهم بالماء ، وقيّد الحنفيّة جواز ذلك بما إذا لم يتمكّن المسلمون من الظّفر بهم بلا مشقّة عظيمة بدون إرسال الماء عليهم لإغراقهم ، فإن تمكّنوا من الظّفر فلا يجوز إغراقهم ؛ لأنّ في ذلك إهلاك أطفالهم ونسائهم ومن عندهم من المسلمين .
والتّفصيل في مصطلح ( جهاد ف /32 ) .
ج - القتل بالإغراق :
5 - يرى جمهور الفقهاء أنّ من القتل العمد ما إذا ألقى الجاني شخصاً في ماء مغرق لمثله لا يخلص منه عادةً كلجّة وقت هيجانها ، وكان لا يخلص بسباحة لعجزه عنها ، أو لا يحسنها ، أو كان مكتوفاً ، أو زمناً فغرق فهو عمد ، ويجب فيه القصاص ، أمّا إذا كان يحسن السّباحة ومنع منها عارض بعد إلقائه كريح وموج فشبه عمد ، بخلاف ما إذا كان إلقاؤه وقت هيجان البحر ؛ لأنّه مهلك غالباً لا يمكنه الخلاص منه ، وأمّا إذا ألقى مميّزاً قادراً على الحركة في ماء جار أو راكد لا يعدّ مغرقاً عرفاً بقصد الإغراق ، فمكث فيه مضطجعاً ، فمات غرقاً فلا ضمان ولا كفّارة ، لأنّه المهلك لنفسه .
غَرْقى *
التّعريف :
1 - الغرقى في اللّغة : جمع غريق وغرق ، وهو الرّاسب في الماء ، وحكي عن الخليل الغرق : الرّاسب في الماء من غير موت ، فإن مات فهو غريق .
والفقهاء يستعملون لفظ غريق بالمعنيين اللّذين حكيا عن الخليل ، فهم يستعملون لفظ الغريق بمعنى الرّاسب في الماء ولم يمت ويحتاج إلى الإنقاذ ، جاء في الاختيار : من رأى أعمى كاد أن يتردّى في البئر وجب عليه إنقاذه وصار هذا كإنجاء الغريق ، ويستعملونه كذلك بمعنى الرّسوب في الماء والموت فعلاً ، وذلك في كلامهم عن ميراث الغرقى .
الأحكام المتعلّقة بالغرقى :
أ - قطع الصّلاة لإنقاذ غريق :
2 - إغاثة الغريق والعمل على إنجائه من الغرق واجب على كلّ مسلم متى استطاع ذلك ، يقول الفقهاء : يجب قطع الصّلاة لإغاثة غريق إذا قدر على ذلك ، سواء أكانت الصّلاة فرضاً أم نفلاً ، وسواء استغاث الغريق بالمصلّي أو لم يعيّن أحداً في استغاثته ، حتّى ولو ضاق وقت الصّلاة ؛ لأنّ الصّلاة يمكن تداركها بالقضاء بخلاف الغريق .
ب - حكم ترك إنقاذ الغريق :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ المسلم يأثم بتركه إنقاذ الغريق معصوم الدّم ، لكنّهم اختلفوا في حكم تركه إنقاذه هل يجب عليه القصاص أو الدّية أو شيء عليه ؟
فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - عدا أبي الخطّاب - على ما يفهم من كلامهم أنّه لا ضمان على الممتنع من إنقاذ الغريق إذا مات غرقاً ؛ لأنّه لم يهلكه ، ولم يحدث فيه فعلاً مهلكاً ، لكنّه يأثم .
وعند المالكيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة يضمن ؛ لأنّه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه ، قال المالكيّة : وتكون الدّية في ماله إن ترك التّخليص عمداً ، وعلى عاقلته إن تركه متأوّلاً .
أمّا الجناية بالتّغريق فينظر التّفصيل في مصطلح ( غرق ف /5 ) .
ج - اعتبار الغرقى من الشّهداء :
4 - يعتبر الفقهاء أنّ الغرقى من الشّهداء للأثر الصّحيح : « الشّهداء خمسة : المطعون ، والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشّهيد في سبيل اللّه » .
وينظر التّفصيل في مصطلحي ( شهيد ف /4 ، وغرق ف /3 ) .
د - إرث الغرقى :
5 - الغرقى إذا لم يعلم أيّهم مات أوّلاً فلا يرث بعضهم من بعض ، وإنّما يحصل ميراث كلّ واحد منهم لورثته الأحياء ، وهذا قول أبي بكر الصّدّيق وعمر بن الخطّاب .(/1)
غَلَس *
التّعريف :
1 - الغلس في اللّغة : ظلام آخر اللّيل ، أو إذا اختلط بضوء الصّباح ، أو أوّل الصّبح حين ينتشر في الآفاق ، وفي حديث الإفاضة : « كنّا نغلس من جمع إلى منىً » ، أي نسير إليها ذلك الوقت .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإسفار :
2 - من معاني الإسفار في اللّغة : الكشف والإضاءة ، يقال : سفر الصّبح ، وأسفر : أي أضاء ، وسفرت المرأة : كشفت عن وجهها .
واستعمله الفقهاء في ظهور الضّوء ، يقال : أسفر بالصّبح : إذا صلّاها وقت الإسفار أي عند ظهور الضّوء . وعلى ذلك فالإسفار مقابل الغلس والتّغليس .
الحكم الإجماليّ :
3 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأفضل تعجيل صلاة الصّبح في أوّل وقتها ، أي في الغلس ، قال النّوويّ : وهذا مذهب عمر وعثمان وابن الزّبير وأبي موسى وأبي هريرة رضي الله عنهم .
واستدلّوا على أفضليّة التّغليس بالفجر بما روته عائشة رضي الله عنها : » إن كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليصلّي الصّبح فينصرف النّساء متلفّعات بمروطهنّ ، ما يعرفن من الغلس » وبحديث أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى الصّبح مرّةً بغلس ، ثمّ صلّى مرّةً أخرى فأسفر بها ، ثمّ كانت صلاته بعد ذلك التّغليس حتّى مات ، ولم يعد إلى أن يسفر » .
أمّا الحنفيّة فقد ذهبوا إلى أنّه يستحبّ الإسفار بصلاة الفجر ، وتأخيرها إلى أن ينتشر الضّوء، ويتمكّن كلّ من يريد الصّلاة بجماعة في المسجد من أن يسير في الطّريق بدون أن يلحقه ضرر ، من نزول قدمه أو وقوعه في حفرة بسبب السّير في الظّلام .
واحتجّ الحنفيّة على استحباب الإسفار بقوله صلى الله عليه وسلم : « أسفروا بالفجر ، فإنّه أعظم للأجر » .
وقالوا في تحديد الإسفار : أن يكون بحيث لو ظهر فسادها أعادها بقراءة مسنونة ، قبل طلوع الشّمس ، أي بعد ما يتمكّن من الوضوء أو الغسل عند اللّزوم .
واستدلّ الحنفيّة لفضيلة الإسفار بالمعقول كذلك ، حيث قالوا : إنّ في الإسفار تكثير الجماعة، وفي التّغليس تقليلها ، وما يؤدّي إلى التّكثير أفضل .
والإسفار عند الحنفيّة مستحبّ سفراً وحضراً ، شتاءً وصيفاً ، منفرداً أو مؤتمّاً أو إماماً للرّجال ، إلاّ في مزدلفة للحاجّ ، فإنّ التّغليس لهم أفضل للتّفرّغ لواجب الوقوف ، كما أنّ التّغليس أفضل للنّساء ؛ لأنّ حالهنّ على التّستّر ، وهو في التّغليس أكثر وأتمّ .
ونقل عن أبي جعفر الطّحاويّ أنّه يبدأ بالتّغليس ويختم بالإسفار ، جمعاً بين أحاديث التّغليس والإسفار .
ونقل ابن عابدين عن الخانيّة استحباب التّغليس بفجر يوم عرفة ، والأكثرون على إسفاره .(/1)
غُروب *
التّعريف :
1 - الغروب لغةً : البعد ، يقال : غربت الشّمس تغرب غرباً وغروباً : أي بعدت وتوارت في مغيبها .
وغرُب الشّخص - بالضّمّ - غرابةً : بعد عن وطنه فهو غريب ، وأغرب الرّجل : أي أتى الغرب ، وغرّب القوم : أي ذهبوا ناحية المغرب .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الشّروق :
2 - الشّروق لغةً : طلوع الشّمس ، يقال : شرقت الشّمس شروقاً من باب قعد : أي طلعت وأضاءت على الأرض ، وأشرقت الأرض : أنارت بإشراق الشّمس .
وأشرق : أي دخل في وقت الشّروق .
وأيّام التّشريق سمّيت بذلك لأنّ لحوم الأضاحيّ تشرق فيها : أي تقدّد في الشّرقة ، وهي الشّمس .
والشّرق والمشرق : جهة الشّروق .
والمشرق مصلّى العيد ، سمّي بذلك لقيام الصّلاة فيه عند شروق الشّمس .
والشّروق ضدّ الغروب .
ما يتعلّق بالغروب من أحكام :
تتعلّق بالغروب جملة من الأحكام منها :
أ - في الصّلاة :
3 - يخرج وقت العصر بغروب الشّمس ، ويبدأ بغروبها وقت المغرب ، ومع ذلك فقد أجمع الفقهاء على أنّ من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدركها ، سواء أخّرها لعذر أو لغير عذر . لقوله صلى الله عليه وسلم « من أدرك ركعةً من الصّبح قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصّبح ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر » .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ، ف /9 ) .
ب - غروب الشّفق :
4 - غروب الشّفق علامة على خروج وقت المغرب ودخول وقت العشاء عند جمهور الفقهاء خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة في الجديد .
واختلف الفقهاء في المراد بالشّفق أهو البياض أم الحمرة ؟
والتّفصيل في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ف /11 ، 12 ) .
ج - كراهة الصّلاة عند غروب الشّمس :
5 - من الأوقات الّتي تكره فيها الصّلاة : بعد صلاة العصر حتّى تغرب الشّمس ، وعند غروبها حتّى يتكامل غروبها ويختفي قرصها ، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فعن عمر رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة بعد العصر حتّى تغرب الشّمس » .
ولقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الصّلاة في حديث طويل : « ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس ، فإنّها تغرب بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفّار » .
والتّفصيل في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ف /23 ) .
د - في زكاة الفطر :
6 - اختلف الفقهاء في وقت وجوب زكاة الفطر .
فقال الجمهور تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان ، وقال آخرون : تجب بطلوع فجر يوم العيد .
والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة الفطر/ ف 8 ) .
هـ - في الصّيام :
7 - أجمع الفقهاء على أنّ الصّائم يجب عليه أن يمسك عن المفطرات من طلوع الفجر يوم صومه حتّى تغرب الشّمس ويتأكّد من غروبها ، لقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }. كما أجمعوا على أنّ الصّوم ينقضي ويتمّ بغروب الشّمس ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أقبل اللّيل من هاهنا ، وأدبر النّهار من هاهنا ، وغربت الشّمس ، فقد أفطر الصّائم » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم اللّيل أقبل من هاهنا فقد أفطر الصّائم » ، قال الرّاوي : وأشار بيده قبل المشرق .
قال النّوويّ رحمه الله : قال أصحابنا : ويجب إمساك جزء من اللّيل بعد الغروب ؛ ليتحقّق به استكمال النّهار .
وعليه فإذا أفطر الصّائم للفرض وهو يظنّ غروب الشّمس ، فبان خلافه لزم عليه القضاء ، لما روى عليّ بن حنظلة عن أبيه قال : " كنت عند عمر رضي الله عنه في رمضان فأفطر وأفطر النّاس فصعد المؤذّن ليؤذّن فقال : أيّها النّاس هذه الشّمس لم تغرب ، فقال عمر رضي الله عنه : من كان أفطر فليصم يوماً مكانه " وفي رواية " فقال عمر : لا نبالي واللّه يوماً نقضي مكانه " .
ولأنّ الأصل بقاء النّهار فلزمه القضاء .
وقال إسحاق بن راهويه وبعض علماء السّلف : صومه صحيح ولا قضاء عليه ؛ لحديث « إنّ اللّه تعالى تجاوز عن أمّتي الخطأ والنّسيان ، وما استكرهوا عليه » .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إمساك ف /5 ) .(/1)
غُسْل *
التّعريف :
1 - الغسل لغةً : مصدر غسله يغسله ويضمّ ، أو بالفتح مصدر وبالضّمّ اسم .
والغِسل بالكسر : ما يغسل به الرّأس من خطميّ ونحو ذلك .
ويأتي الغسل بمعنى التّطهير ، يقال : غسل اللّه حوبتك أي خطيئتك .
والغسل في الاصطلاح : استعمال ماء طهور في جميع البدن على وجه مخصوص بشروط وأركان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الطّهارة :
2 - الطّهارة لغةً : النّظافة والنّزاهة عن الأنجاس والأدناس .
واصطلاحاً عرّفها الحنابلة بأنّها : ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال النّجس .
فالطّهارة أعمّ من الغسل .
ب - الوضوء :
3 - الوَضوء - بالفتح - في اللّغة الماء الّذي يتوضّأ به ، وهو أيضاً المصدر من توضّأت للصّلاة . والوُضوء - بالضّمّ - الفعل .
واصطلاحاً هو : استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة .
الحكم التّكليفيّ :
4 - الغسل مشروع بالكتاب والسّنّة ، أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } وقوله تعالى { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي اغتسلن .
وأمّا السّنّة فقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومسّ الختان الختان ، فقد وجب الغسل » .
والغسل قد يكون واجباً كغسل الجنابة والحائض ، وقد يكون سنّةً كغسل الجمعة والعيدين . ويفرد الفقهاء للأغسال المسنونة فصلاً خاصّاً ، وستأتي في مصطلحاتها .
موجبات الغسل :
أسباب وجوب الغسل هي :
الأوّل - خروج المنيّ :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ خروج المنيّ من موجبات الغسل ، بل نقل النّوويّ الإجماع على ذلك ، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة في النّوم أو اليقظة ، والأصل في ذلك حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّما الماء من الماء » ، ومعناه - كما حكاه النّوويّ - يجب الغسل بالماء من إنزال الماء الدّافق وهو المنيّ ، وعن أمّ سليم رضي الله عنها « أنّها سألت نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرّجل ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل ، فقالت أمّ سليم واستحييت من ذلك ، قالت : وهل يكون هذا ؟ فقال نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم ، فمن أين يكون الشّبه ؟ ، إنّ ماء الرّجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيّهما علا أو سبق يكون منه الشّبه » ، وفي لفظ أنّها قالت : « يا رسول اللّه إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم إذا رأت الماء » .
واشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لإيجاب الغسل بخروج المنيّ كونه عن شهوة .
قال ابن عابدين : لو انفصل - أي المنيّ - بضرب أو حمل ثقيل على ظهره فلا غسل عندنا. وقال الدّردير : وإن خرج بلا لذّة بل سلساً أو بضربة أو طربة أو لدغة عقرب فلا غسل . ونصّ المالكيّة على أنّه إذا خرج المنيّ بلذّة غير معتادة فإنّه لا يجب الغسل ، كنزوله بماء حارّ فأحسّ بمبادئ اللّذّة واستدام حتّى أنزل ، وكحكّة لجرب بذكره ، أو هزّ دابّةً له ، فلا غسل عليه إلاّ أن يحسّ بمبادئ اللّذّة فيستديم فيها حتّى يمني فيجب عليه الغسل ، أمّا لو كان الجرب بغير ذكره فالظّاهر عدم وجوب الغسل .
ولم يشترط الشّافعيّة الشّهوة ، وقالوا بوجوب الغسل بخروج المنيّ مطلقاً .
وشرط أبو يوسف الدّفق أيضاً ، ولم يشترطه أبو حنيفة ومحمّد ، وأثر الخلاف يظهر فيما لو احتلم أو نظر بشهوة ، فأمسك ذكره حتّى سكنت شهوته ، ثمّ أرسله فأنزل ، وجب الغسل عندهما لا عنده ، قال الحصكفيّ : وبقول أبي يوسف يفتى في ضيف خاف ريبةً أو استحيا ، وقال ابن عابدين : قول أبي يوسف قياس وقولهما استحسان ، وإنّه الأحوط فينبغي الإفتاء بقوله في مواضع الضّرورة فقط .
كما اشترط الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة لإيجاب الغسل خروج المنيّ من العضو - ذكر الرّجل وفرج المرأة الدّاخل قال النّوويّ : لو قبّل امرأةً فأحسّ بانتقال المنيّ ونزوله ، فأمسك ذكره فلم يخرج منه في الحال شيء ، ولا علم خروجه بعد ذلك فلا غسل عليه عندنا ، وبه قال العلماء كافّةً ، ودليله قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما الماء من الماء » ولأنّ العلماء مجمعون على أنّ من أحسّ بالحدث كالقرقرة والرّيح ، ولم يخرج منه شيء لا وضوء عليه ، فكذا هنا .
ولم يشترط الحنابلة الخروج ، بل أوجبوا الغسل بالإحساس بالانتقال ، فلو أحسّ رجل أو امرأة بانتقال المنيّ فحبسه فلم يخرج ، وجب الغسل كخروجه ؛ لأنّ الجنابة أصلها البعد ، لقوله تعالى : { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } أي البعيد ، ومع الانتقال قد باعد الماء محلّه ، فصدق عليه اسم الجنب ، وإناطةً للحكم بالشّهوة ، وتعليقاً له على المظنّة ، إذ بعد انتقاله يبعد عدم خروجه ، وأنكر أحمد أن يكون الماء يرجع .
وهناك مسائل تتعلّق بخروج المنيّ منها :
أ - رؤية المنيّ من غير تذكّر الاحتلام :
6 - لو استيقظ النّائم ووجد المنيّ ، ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل ، ومن احتلم ولم يجد منيّاً فلا غسل عليه ، لما روت عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً ؟ قال : يغتسل ، وعن الرّجل يرى أنّه قد احتلم ولم يجد بللاً ؟ قال : لا غسل عليه » .
والتّفصيل في مصطلح : ( احتلام ف /6 - 9 ) .
ب - خروج المنيّ بعد الغسل :
7 - اختلف الفقهاء في إيجاب الغسل في حالة خروج المنيّ بعد الاغتسال .(/1)
فذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا اغتسل ثمّ خرج المنيّ ، فإن كان خروجه بعد النّوم أو البول أو المشي الكثير فلا غسل عليه اتّفاقاً ، وإن خرج المنيّ بلا شهوة قبل النّوم أو البول أو المشي فإنّه يعيد الغسل عند أبي حنيفة ومحمّد خلافاً لأبي يوسف .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إن كانت اللّذّة ناشئةً عن غير جماع ، بل بملاعبة ، فيجب إعادة الغسل عند خروج المنيّ ولو اغتسل قبل خروجه ؛ لأنّ غسله لم يصادف محلّاً ، وإن كانت اللّذّة ناشئةً عن جماع ، بأن غيّب الحشفة ولم ينزل ، ثمّ اغتسل ثمّ أمنى ، فلا غسل عليه ؛ لأنّ الجنابة لا يتكرّر غسلها ، ولكن يتوضّأ .
وقال الشّافعيّة : إذا أمنى واغتسل ثمّ خرج منه منيّ على القرب بعد غسله لزمه الغسل ثانياً، سواء كان ذلك قبل أن يبول بعد المنيّ أو بعد بوله ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما الماء من الماء » ، ولم يفرّق ؛ ولأنّه نوع حدث فنقض مطلقاً ، كالبول والجماع وسائر الأحداث .
وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا خرج المنيّ بعد الغسل فلا يجب الغسل ثانياً ، لما روى سعيد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن الجنب يخرج منه الشّيء بعد الغسل ؟ قال : يتوضّأ، وكذا ذكره أحمد عن عليّ رضي الله عنه ؛ ولأنّه منيّ واحد فأوجب غسلاً واحداً كما لو خرج دفقةً واحدةً ؛ ولأنّه خارج لغير شهوة أشبه الخارج لبرد ، وبه علّل أحمد ، قال لأنّ الشّهوة ماضية ، وإنّما هو حدث أرجو أن يجزيه الوضوء .
ج - خروج المنيّ من غير مخرجه المعتاد :
8 - نصّ الحنابلة والشّافعيّة في أصحّ الوجهين على أنّه لو انكسر صلب الرّجل فخرج منه المنيّ ، ولم ينزل من الذّكر ، فإنّه لا يجب عليه الغسل .
وصرّح الحنابلة بأنّ حكمه كالنّجاسة المعتادة .
قال المتولّي من الشّافعيّة : إذا خرج المنيّ من ثقب في الذّكر غير الإحليل ، أو من ثقب في الأنثيين أو الصّلب ، فحيث نقضنا الوضوء بالخارج منه أوجبنا الغسل ، وقطع البغويّ بوجوب الغسل بخروجه من غير الذّكر ، قال النّوويّ والصّواب تفصيل المتولّي .
وصرّح ابن عابدين بأنّه لو خرج المنيّ من جرح في الخصية ، بعد انفصاله عن مقرّه بشهوة ، فالظّاهر افتراض الغسل .
الثّاني - التقاء الختانين :
9 - التقاء الختانين من موجبات الغسل بالاتّفاق ، لما روى أبو هريرة مرفوعاً : « إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثمّ جهدها فقد وجب الغسل » وزاد في رواية : « وإن لم ينزل »، ولما روت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومسّ الختان الختان فقد وجب الغسل » .
والتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة في الفرج ، ذلك أنّ ختان الرّجل هو الجلد الّذي يبقى بعد الختان ، وختان المرأة جلدة كعرف الدّيك فوق الفرج فيقطع منها في الختان ، فإذا غابت الحشفة في الفرج حاذى ختانه ختانها ، وإذا تحاذيا فقد التقيا ، وليس المراد بالتقاء الختانين التصاقهما وضمّ أحدهما إلى الآخر ، فإنّه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها ولم يدخله في مدخل الذّكر لم يجب الغسل ، وقال الدّردير : الحشفة رأس الذّكر .
ولا بدّ لإيجاب الغسل من تغييب الحشفة بكمالها في الفرج ، فإن غيّب بعضها فلا غسل عليه، وإن كان مقطوع الحشفة أو كان ممّن لم تخلق له حشفة فيعتبر قدرها ، قال النّوويّ : إذا قطع بعض الذّكر ، فإن كان الباقي دون قدر الحشفة لم يتعلّق به شيء من الأحكام ، وإن كان قدرها فقط تعلّقت الأحكام بتغييبه كلّه دون بعضه ، وإن كان أكثر من قدر الحشفة فوجهان مشهوران : أحدهما : أنّه لا يتعلّق الحكم ببعضه ، ولا يتعلّق إلاّ بتغييب جميع الباقي ، وهذا ما رجّحه الشّاشيّ ونقله الماورديّ عن نصّ الشّافعيّ ، ثانيهما : تعلّق الحكم بقدر الحشفة منه ، ورجّحه الأكثرون ، وقطع به الفورانيّ وإمام الحرمين والغزاليّ والبغويّ وصحّحه الرّافعيّ وغيره ، ونقل صاحب الدّرّ عن الأشباه أنّه لو لم يبق منه قدر الحشفة لم يتعلّق به حكم .
10 - واختلف الفقهاء في تحديد الفرج الّذي يجب الغسل بتغييب الحشفة فيه ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب الغسل بتغييب الحشفة في مطلق الفرج ، سواء كان لإنسان أو حيوان ، قبل أو دبر ، ذكر أو أنثى ، حيّ أو ميّت .
لكنّ المالكيّة شرطوا إطاقة ذي الفرج سواء كان آدميّاً أو غيره ، فإن لم يطق فلا غسل على ذي الحشفة المغيّب ما لم ينزل .
ووافق الحنفيّة الجمهور في ذلك ، إلاّ أنّهم استثنوا فرج البهيمة والميتة ، والصّغيرة غير المشتهاة ، والعذراء إن لم يزل عذرتها إذا لم يحصل إنزال ، وذلك لقصور الشّهوة في البهيمة والميتة والصّغيرة غير المشتهاة الّتي أقيمت مقام الإنزال في وجوب الغسل عند الإيلاج ، وعلامة الصّغيرة غير المشتهاة : أن تصير مفضاةً بالوطء .
11 - واختلف الفقهاء في اشتراط التّكليف في وجوب الغسل .
فذهب الحنفيّة إلى اشتراط التّكليف - العقل والبلوغ - في وجوب الغسل ، فإن كان أحدهما مكلّفاً فعليه الغسل فقط دون الآخر .
وقال المالكيّة : المغيّب إن كان بالغاً وجب الغسل عليه ، وكذا على المغيّب فيه إن كان بالغاً، وإلاّ وجب على المغيّب دون المغيّب فيه فإن كان المغيّب غير بالغ لم يجب عليه ولا على من غيّب فيه ، سواء كان بالغاً أم لا ما لم ينزل بذلك المغيّب فيه ، وإلاّ وجب عليه الغسل للإنزال.(/2)
وقال الشّافعيّة : الصّبيّ إذا أولج في امرأة أو دبر رجل ، أو أولج رجل في دبره ، يجب الغسل على المرأة والرّجل ، وكذا إذا استدخلت امرأة ذكر صبيّ فعليها الغسل ، ويصير الصّبيّ في كلّ هذه الصّور جنباً ، وكذا الصّبيّة إذا أولج فيها رجل أو صبيّ ، وكذا لو أولج صبيّ في صبيّ ، وسواء في هذا الصّبيّ المميّز وغيره ، وإذا صار جنباً لا تصحّ صلاته ما لم يغتسل ، ولا يقال : يجب عليه الغسل ، كما لا يقال : يجب عليه الوضوء ، بل يقال : صار محدثاً ، ويجب على الوليّ أن يأمره بالغسل إن كان مميّزاً .
ولم يشترط الحنابلة التّكليف لوجوب الغسل ، فيجب الغسل على المجامع غير البالغ - إن كان يجامع مثله كابنة تسع وابن عشر - فاعلاً كان أو مفعولاً به إذا أراد ما يتوقّف على الغسل ، قال البهوتيّ : وليس معنى وجوب الغسل في حقّ الصّغير التّأثيم بتركه ، بل معناه أنّه شرط لصحّة الصّلاة أو الطّواف أو إباحة مسّ المصحف ، كما نصّوا على وجوب الغسل على المجنون والمجنونة ، وذلك لأنّ موجب الطّهارة لا يشترط فيه القصد كسبق الحدث .
وهناك مسائل تتعلّق بالتقاء الختانين نذكر منها ما يلي :
أ - الإيلاج بحائل :
12 - اختلف الفقهاء في وجوب الغسل من الإيلاج بحائل .
فذهب المالكيّة وبعض الحنفيّة إلى أنّه لا يجب الغسل على من أولج حشفته أو قدرها ملفوفةً بخرقة كثيفة تمنع اللّذّة ، فإن كانت الخرقة رقيقةً بحيث يجد معها اللّذّة وحرارة الفرج فإنّه يجب عليه الغسل .
وذهب الشّافعيّة في الصّحيح وبعض الحنفيّة إلى أنّه يجب عليه الغسل في الخرقة الكثيفة ؛ لأنّه يسمّى مولجاً ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى الختانان ، أو مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل » قال الحصكفيّ : والأحوط الوجوب ، قال ابن عابدين : والظّاهر أنّه اختيار للقول بالوجوب .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يجب الغسل على من أولج بحائل مطلقاً ، من غير أن ينصّوا على كون الحائل رقيقاً أو كثيفاً .
ب - الإيلاج في فرج غير أصليّ :
13 - اشترط الفقهاء في وجوب الغسل بالإيلاج في الفرج : أن يكون الفرج أصليّاً ، احترازاً من فرج الخنثى المشكل ، وصرّح الفقهاء بأنّه لا غسل على الخنثى المشكل بإيلاجه في قبل أو دبر ؛ لجواز كونه امرأةً وهذا الذّكر منه زائد ، فيكون كالإصبع الزّائد ، كما أنّه لا غسل على من جامعه في قبله ؛ لجواز أن يكون رجلاً ، ففرجه كالجرح ، فلا يجب بالإيلاج فيه غسل بمجرّده ، أمّا لو جامعه رجل في دبره وجب الغسل عليهما لعدم الإشكال في الدّبر .
ج - وطء الجنّ :
14 - اختلف الفقهاء في وجوب الغسل من وطء الجنّ .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجب الغسل من إتيان الجنّ للمرأة ، وإتيان الرّجل للجنّيّة، إذا لم يكن إنزال .
قال ابن عابدين نقلاً عن المحيط : لو قالت : معي جنّيّ يأتيني مراراً وأجد ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها لانعدام سببه ، وهو الإيلاج أو الاحتلام .
واستثنى الحنفيّة ما إذا ظهر لها في صورة الآدميّ فإنّه يجب الغسل ، وكذا إذا ظهر للرّجل جنّيّة في صورة آدميّة فوطئها ، وذلك لوجود المجانسة الصّوريّة المفيدة لكمال السّببيّة . وقال السّيوطيّ من الشّافعيّة : لو وطئ الجنّيّ الإنسيّة فهل يجب عليها الغسل ؟ لم يذكر ذلك أصحابنا ، وعن بعض الحنفيّة والحنابلة أنّه لا غسل عليها ؛ لعدم تحقّق الإيلاج والإنزال فهو كالمنام بغير إنزال ، قال السّيوطيّ : وهو الجاري على قواعدنا .
وذهب الحنابلة إلى وجوب الغسل على المرأة لو قالت : بي جنّيّ يجامعني كالرّجل ، وكذا الرّجل لو قال : بي جنّيّة أجامعها كالمرأة .
د - إيلاج ذكر غير الآدميّ :
15 - اختلف الفقهاء في وجوب الغسل من إيلاج ذكر غير الآدميّ .
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الغسل من إيلاج ذكر غير الآدميّ كالبهيمة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا غسل من إيلاج ذكر غير الآدميّ .
هـ - وطء الميّت :
16 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الغسل على المولج في فرج الميّت لعموم الأدلّة ، ولا يعاد غسل الميّت المغيّب فيه عند المالكيّة ، وفي الأصحّ عند الشّافعيّة لعدم التّكليف ، وقال الحنابلة : يعاد غسل الميّتة الموطوءة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا غسل في وطء الميّتة .
واختلف الفقهاء في وجوب الغسل على المرأة فيما لو استدخلت ذكر ميّت في فرجها :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجب الغسل على المرأة لو أدخلت ذكر ميّت في فرجها ما لم تنزل .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الغسل عليها .
و - وصول المنيّ إلى الفرج من غير إيلاج :
17 - نصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه لا غسل على المرأة إذا وصل المنيّ إلى فرجها ما لم تنزل ؛ لفقد الإيلاج والإنزال .
قال الحنفيّة : فإن حبلت منه وجب الغسل لأنّه دليل الإنزال ، وتظهر فائدته في إعادة ما صلّت بعد وصول المنيّ إلى فرجها إلى أن اغتسلت بسبب آخر ، قال صاحب القنية : ولا شكّ أنّه مبنيّ على وجوب الغسل عليها بمجرّد انفصال منيّها إلى رحمها وهو خلاف الأصحّ الّذي هو ظاهر الرّواية .
وقال المالكيّة : إذا حملت اغتسلت وأعادت الصّلاة من يوم وصوله ، لأنّ حملها منه بعد انفصال منيّها من محلّه بلذّة معتادة ، قال الدّسوقيّ : هذا الفرع مشهور مبنيّ على ضعيف .
وهناك مسائل ذكرها بعض الفقهاء نذكر منها ما يلي :
أولاً - صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يجب الغسل في السّحاق - إتيان المرأة المرأة - إذا لم يحصل إنزال .(/3)
ثانياً - قال صاحب القنية من الحنفيّة : إنّ في وجوب الغسل بإدخال الأصبع في القبل أو الدّبر خلافاً ، والأولى أن يوجب إذا كان في القبل إذا قصد الاستمتاع لغلبة الشّهوة ؛ لأنّ الشّهوة فيهنّ غالبة ، فيقام السّبب مقام المسبّب ، وهو الإنزال ، دون الدّبر لعدمها ، ومثل هذا ما يصنع من خشب ونحوه على صورة الذّكر ، ووافقه على ذلك ابن عابدين .
وقال المالكيّة : لا ينقض وضوء المرأة بمسّها لفرجها ولو ألطفت ، أي أدخلت أصبعاً أو أكثر من أصابعها في فرجها .
الثّالث - الحيض والنّفاس :
18 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحيض والنّفاس من موجبات الغسل ، ونقل ابن المنذر وابن جرير الطّبريّ وآخرون الإجماع عليه .
ودليل وجوب الغسل في الحيض قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } أي إذا اغتسلن ، فمنع الزّوج من وطئها قبل غسلها ، فدلّ على وجوبه عليها ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : « إذا أقبلت الحيضة فدعي الصّلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي » .
ودليل وجوبه في النّفاس الإجماع - حكاه ابن المنذر وابن جرير الطّبريّ والمرغيناني من الحنفيّة صاحب الهداية - ولأنّه حيض مجتمع ؛ ولأنّه يحرّم الصّوم والوطء ويسقط فرض الصّلاة ، فأوجب الغسل كالحيض .
19 - واختلف الفقهاء في الموجب للغسل ، هل هو وجود الحيض والنّفاس أو انقطاعه أو شيء آخر ؟
فذهب المالكيّة إلى أنّ الموجب للغسل وجود الحيض لا انقطاعه ، والانقطاع إنّما هو شرط في صحّة الغسل .
ومثل المالكيّة الحنابلة ، قال البهوتيّ : يجب بالخروج ، وإنّما وجب بالخروج إناطةً للحكم بسببه ، والانقطاع شرط لصحّته ، وكلام الخرقيّ يدلّ على أنّه يجب بالانقطاع وهو ظاهر الأحاديث .
وقال بعض الحنفيّة : الحيض موجب بشرط انقطاعه .
وقال ابن عابدين : سبب وجوب الغسل إرادة فعل ما لا يحلّ إلاّ به عند عدم ضيق الوقت ، أو عند وجوب ما لا يصحّ معه وذلك عند ضيق الوقت .
واختلفت عبارات الشّافعيّة ، فصحّح النّوويّ في المجموع أنّ موجبه الانقطاع ، وقال القليوبيّ : الخروج موجب والانقطاع شرط لصحّته ، وقال الشّربينيّ الخطيب : ويعتبر مع خروج كلّ منهما - الحيض والنّفاس - وانقطاعه القيام إلى الصّلاة أو نحوها كما في الرّافعيّ والتّحقيق ، وقال إمام الحرمين وغيره : وليس في هذا الخلاف فائدة فقهيّة ، وقال النّوويّ : فائدته أنّ الحائض إذا أجنبت وقلنا : لا يجب غسل الحيض إلاّ بانقطاع الدّم ، وقلنا بالقول الضّعيف إنّ الحائض لا تمنع قراءة القرآن ، فلها أن تغتسل عن الجنابة لاستباحة قراءة القرآن .
وذكر صاحب البحر فائدةً أخرى قال : لو استشهدت الحائض في قتال الكفّار قبل انقطاع حيضها ، فإن قلنا يجب بالانقطاع لم تغسل ، وإن قلنا بالخروج فهل تغسل ؟ فيه الوجهان في غسل الجنب الشّهيد .
وذكر هذه المسألة أيضاً البهوتيّ من الحنابلة في شرحه على الإقناع .
وذكر الشّربينيّ الخطيب فائدةً ثالثةً ، وهي فيما إذا قال لزوجته : إن وجب عليك غسل فأنت طالق .
الرّابع - الموت :
20 - ذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الموت من موجبات الغسل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين توفّيت إحدى بناته : « اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك » .
وذهب بعض المالكيّة إلى سنّيّة غسل الميّت ، قال الدّسوقيّ : وجوب غسل الميّت هو قول عبد الوهّاب وابن محرز وابن عبد البرّ ، وشهره ابن راشد وابن فرحون ، وأمّا سنّيّته فحكاها ابن أبي زيد وابن يونس وابن الجلّاب وشهره ابن بزيزة .
والتّفصيل في مصطلح : ( تغسيل الميّت ف /2 ) .
الخامس - إسلام الكافر :
21 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ إسلام الكافر موجب للغسل ، فإذا أسلم الكافر وجب عليه أن يغتسل ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه « أنّ ثمامة بن أثال رضي الله عنه أسلم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل » وعن « قيس بن عاصم أنّه أسلم : فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر » ؛ ولأنّه لا يسلم غالباً من جنابة ، فأقيمت المظنّة مقام الحقيقة كالنّوم والتقاء الختانين ، ولم يفرّقوا في ذلك بين الكافر الأصليّ والمرتدّ ، فيجب الغسل على المرتدّ أيضاً إذا أسلم . وصرّح المالكيّة بصحّة الغسل قبل النّطق بالشّهادة إذا أجمع بقلبه على الإسلام ؛ لأنّ إسلامه بقلبه إسلام حقيقيّ متى عزم على النّطق من غير إباء ، لأنّ النّطق ليس ركناً من الإيمان ولا شرط صحّة على الصّحيح ، وقالوا : لو نوى بغسله الجنابة أو الطّهارة أو الإسلام كفاه ؛ لأنّ نيّته الطّهر من كلّ ما كان في حال كفره .
وقال الحنابلة : وسواء وجد منه في كفره ما يوجب الغسل من نحو جماع أو إنزال أو لا ، وسواء اغتسل قبل إسلامه أو لا ، فيكفيه غسل الإسلام سواء نوى الكلّ أو نوى غسل الإسلام إلاّ أن ينوي ألاّ يرتفع غيره ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ، ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال ، ووقت وجوب الغسل إذا أسلم أي بعد النّطق بالشّهادتين . 22 - وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى استحباب الغسل للكافر إذا أسلم وهو غير جنب ، لما روي أنّه « لمّا أسلم قيس بن عاصم رضي الله عنه أمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يغتسل » ، ولا يجب ذلك ؛ لأنّه أسلم خلق كثير ولم يأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالغسل .(/4)
وإذا أسلم الكافر وهو جنب وجب عليه الغسل ، قال النّوويّ : نصّ عليه الشّافعيّ واتّفق عليه جماهير الأصحاب .
وقال الكمال بن الهمام : الأصحّ وجوب الغسل عليه لبقاء صفة الجنابة السّابقة بعد الإسلام ، فلا يمكنه أداء المشروط بزوالها إلاّ به ، وقيل : لا يجب لأنّهم غير مخاطبين بالفروع ولم يوجد بعد الإسلام جنابة .
ونصّ الحنفيّة على أنّه لو حاضت الكافرة فطهرت ثمّ أسلمت فلا غسل عليها ، ولو أسلمت حائضاً ثمّ طهرت وجب عليها الغسل ، والفرق بينها وبين الجنب أنّ صفة الجنابة باقية بعد الإسلام فكأنّه أجنب بعده ، والانقطاع في الحيض هو السّبب ولم يتحقّق بعده . قال قاضي خان : والأحوط وجوب الغسل .
وعند الشّافعيّة وجهان فيما لو اغتسل حال كفره هل يجب إعادته ؟ أحدهما : لا تجب إعادته لأنّه غسل صحيح ، بدليل أنّه تعلّق به إباحة الوطء في حقّ الحائض إذا طهرت فلم تجب إعادته كغسل المسلمة ، والثّاني : وهو الأصحّ - تجب إعادته لأنّه عبادة محضة فلم تصحّ من الكافر في حقّ اللّه تعالى كالصّوم والصّلاة ، نصّ عليه الشّافعيّ وقطع به القاضي أبو الطّيّب وآخرون ، قال النّوويّ : ولا فرق في هذا بين الكافر المغتسل في الكفر والكافرة المغتسلة لحلّها لزوجها المسلم ، فالأصحّ في الجميع وجوب الإعادة .
فرائض الغسل :
الأولى - النّيّة :
23 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ النّيّة فرض في الغسل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » ويكفي فيها نيّة رفع الحدث الأكبر أو استباحة الصّلاة ونحوها .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ النّيّة في الغسل سنّة وليست بفرض .
والتّفصيل في مصطلح : ( نيّة )
الثّانية - تعميم الشّعر والبشرة بالماء :
24 - اتّفق الفقهاء على أنّ تعميم الشّعر والبشرة بالماء من فروض الغسل لحديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثمّ يتوضّأ كما يتوضّأ للصّلاة ، ثمّ يدخل أصابعه في الماء فيخلّل بها أصول شعره ، ثمّ يصبّ على رأسه ثلاث غرف بيديه ، ثمّ يفيض على جلده كلّه » وعن ميمونة رضي الله عنها قالت « توضّأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وضوءه للصّلاة غير رجليه ، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى ، ثمّ أفاض عليه الماء ، ثمّ نحّى رجليه فغسلهما ، هذه غسله من الجنابة » ولما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : « تذاكرنا غسل الجنابة عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمّا أنا فآخذ ملء كفّي ثلاثاً فأصبّ على رأسي ، ثمّ أفيضه بعد على سائر جسدي » .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ تحت كلّ شعرة جنابةً ، فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشر ».
قال النّوويّ : إفاضة الماء على جميع البدن شعره وبشره واجب بلا خلاف ، ومن ثمّ يجب إيصال الماء إلى كلّ ظاهر الجسد ومنه ما تحت الشّعرة ، سواء كان الشّعر الّذي على البشرة خفيفاً أو كثيفاً يجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة تحته بلا خلاف .
وقد نبّه الفقهاء إلى مواضع قد لا يصل إليها الماء كعمق السّرّة ، وتحت ذقنه . وتحت جناحيه ، وما بين أليتيه ، وما تحت ركبتيه ، وأسافل رجليه ، ويخلّل أصابع يديه ورجليه . ويخلّل شعر لحيته وشعر الحاجبين والهدب والشّارب والإبط والعانة .
قال الحنفيّة : يجب غسل كلّ ما يمكن بلا حرج ، كأذن وسرّة وشارب وحاجب وإن كثف ، ولحية وشعر رأس ولو متلبّداً ، وفرج خارج ، وأمّا الفرج الدّاخل فلا يغسل لأنّه باطن ، ولا تدخل أصبعها في قبلها ، ولا يجب غسل ما فيه حرج كعين وثقب انضمّ بعد نزع القرط وصار بحال إن أمرّ عليه الماء يدخله ، وإن غفل لا ، فلا بدّ من إمراره ، ولا يتكلّف لغير الإمرار من إدخال عود ونحوه فإنّ الحرج مرفوع .
وهناك مسائل تتعلّق بتعميم البشرة والشّعر بالماء نذكر منها ما يلي :
أ - المضمضة والاستنشاق :
25 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل ، قال الحنابلة : الفم والأنف من الوجه لدخولهما في حدّه فتجب المضمضة والاستنشاق في الطّهارة الكبرى والصّغرى فلا يسقط واحد منهما . لما روت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « المضمضة والاستنشاق من الوضوء الّذي لا بدّ منه » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أمر بالمضمضة والاستنشاق » . ولأنّ الفم والأنف في حكم الظّاهر ، بدليل أنّ الصّائم لا يفطر بوصول شيء إليهما ، ويفطر بعود القيء بعد وصوله إليهما .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى عدم وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل ، لأنّ الفم والأنف ليسا من ظاهر الجسد فلا يجب غسلهما ، واعتبروا غسلهما من سنن الغسل .
ب - نقض الضّفائر :
26 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يجب نقض الضّفائر في الغسل إذا كان الماء يصل إلى أصولها ، والأصل فيه حديث أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : « قلت : يا رسول اللّه إنّي امرأة أشدّ ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال : لا ، إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين » فإذا لم يصل الماء إلى أصول الضّفائر فإنّه يجب نقضها في الجملة .
قال الحنفيّة : وإذا لم يبتلّ أصلها ، بأن كان متلبّداً أو غزيراً أو مضفوراً ضفراً شديداً لا ينفذ فيه الماء يجب نقضها .(/5)
وقال المالكيّة : لا يجب نقض الضّفائر ما لم يشتدّ بنفسه أو ضفّر بخيوط كثيرة - سواء اشتدّ الضّفر أم لا - والمراد بها ما زاد على الاثنين في الضّفيرة ، وكذا ما ضفر بخيط أو خيطين مع الاشتداد ، وصرّحوا بوجوب ضغث مضفور الشّعر - أي جمعه وضمّه وتحريكه- ليداخله الماء ، قال الدّسوقيّ : وإن كانت عروساً تزيّن شعرها ، وفي البنانيّ وغيره : أنّ العروس الّتي تزيّن شعرها ليس عليها غسل رأسها لما في ذلك من إتلاف المال ، ويكفيها المسح عليه .
وقال الشّافعيّة : يجب نقض الضّفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلاّ بالنّقض ، بخلاف ما تعقّد بنفسه فلا يجب نقضه وإن كثر ، فإن كان بفعل عفي عن قليله ، ولو بقي من أطراف شعره مثلاً شيء ولو واحدةً بلا غسل ، ثمّ أزالها بقصّ أو نتف مثلاً لم يكف ، فلا بدّ من غسل موضعها ، بخلاف ما لو أزاله بعد غسلها . لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النّار » قال عليّ : فمن ثمّ عاديت شعر رأسي .
ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على أنّ الرّجل كالمرأة في ذلك .
وقال الحنفيّة : لا يكفي للرّجل بلّ ضفيرته فينقضها وجوباً لعدم الضّرورة وللاحتياط ولإمكان حلقه ، وفي رواية لا يجب نظراً إلى العادة .
ووافق الحنابلة الجمهور في عدم وجوب نقض الشّعر المضفور في غسل الجنابة إذا روت أصوله ، وخالفوهم في غسل الحيض والنّفاس حيث قالوا بوجوب النّقض ، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها :« انقضي شعرك وامتشطي»، ولا يكون المشط إلاّ في شعر غير مضفور ؛ ولأنّ الأصل وجوب نقض الشّعر لتحقّق وصول الماء إلى ما يجب غسله . فعفي عنه في غسل الجنابة ؛ لأنّه يكثر فشقّ ذلك فيه ، والحيض بخلافه ، فبقي على الأصل في الوجوب ، والنّفاس في معنى الحيض ، وقال ابن قدامة : قال بعض أصحابنا هذا مستحبّ غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء ، وهو الصّحيح إن شاء اللّه لأنّ في بعض ألفاظ حديث أمّ سلمة أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم « إنّي امرأة أشدّ ضفر رأسي فأنقضه للحيضة والجنابة ؟ فقال : لا ، إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين » وهي زيادة يجب قبولها ، وهذا صريح في نفي الوجوب .
الثّالثة - الموالاة :
27 - اختلف الفقهاء في الموالاة هل هي من فرائض الغسل أو من سننه ؟
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى سنّيّة الموالاة في غسل جميع أجزاء البدن لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ونصّ الحنابلة على أنّه إذا فاتت الموالاة قبل إتمام الغسل ، بأن جفّ ما غسله من بدنه بزمن معتدل وأراد أن يتمّ غسله ، جدّد لإتمامه نيّةً وجوباً ، لانقطاع النّيّة بفوات الموالاة ، فيقع غسل ما بقي بدون نيّة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الموالاة من فرائض الغسل .
الرّابعة - الدّلك :
28 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ دلك الأعضاء في الغسل سنّة وليس بفرض، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ رضي الله عنه : فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك » ولم يأمره بزيادة ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأمّ سلمة « إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ، ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين » ، ولأنّه غسل فلا يجب إمرار اليد فيه ، كغسل الإناء من ولوغ الكلب .
وذهب المالكيّة والمزنيّ من الشّافعيّة إلى أنّ الدّلك فريضة من فرائض الغسل ، واحتجّوا بأنّ الغسل هو إمرار اليد ، ولا يقال لواقف في المطر اغتسل ، وقال المزنيّ : ولأنّ التّيمّم يشترط فيه إمرار اليد فكذا هنا .
وقال المالكيّة : هو واجب لنفسه لا لإيصال الماء للبشرة ، فيعيد تاركه أبداً ، ولو تحقّق وصول الماء للبشرة لطول مكثه مثلاً في الماء ، قال الدّسوقيّ : هذا هو المشهور في المذهب ، وقال بعضهم : إنّه واجب لإيصال الماء للبشرة ، واختاره عليّ الأجهوريّ لقوّة مدركه ، ونصّوا على أنّه لا يشترط مقارنة الدّلك للماء ، بل يجزئ ولو بعد صبّ الماء وانفصاله ما لم يجفّ الجسد ، فلا يجزئ الدّلك في هذه الحالة لأنّه صار مسحاً لا غسلاً ، وصرّحوا بجواز الدّلك بالخرقة ، يمسك طرفها بيده اليمنى والطّرف الآخر باليسرى ويدلّك بوسطها ، فإنّه يكفي ذلك ولو مع القدرة على الدّلك باليد ، وكذا لو لفّ الخرقة على يده أو أدخل يده في كيس فدلّك به ، والمعتمد أنّه متى تعذّر الدّلك باليد سقط عنه ، ولا يجب عليه الدّلك بالخرقة ولا الاستنابة .
سنن الغسل :
أ - التّسمية :
29 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّسمية سنّة من سنن الغسل ، وعدّها المالكيّة من المندوبات ، لعموم حديث : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو أقطع» .
قال النّوويّ : وفيه وجه حكاه القاضي حسين والمتولّي وغيرهما أنّه لا تستحبّ التّسمية للجنب ، وهذا ضعيف لأنّ التّسمية ذكر ، ولا يكون قرآناً إلاّ بالقصد .
وذهب الحنابلة إلى وجوب التّسمية لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه » قياساً لإحدى الطّهارتين على الأخرى .
قال ابن قدامة : ظاهر مذهب أحمد أنّ التّسمية مسنونة في طهارة الأحداث كلّها ، وعنه أنّها واجبة فيها كلّها : الغسل والوضوء والتّيمّم .
وقال الخلّال : الّذي استقرّت الرّوايات عنه أنّه لا بأس بترك التّسمية .
ولفظ التّسمية عند الحنفيّة باسم اللّه العظيم والحمد للّه على دين الإسلام ، وقيل : الأفضل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم .(/6)
وقال النّوويّ : صفة التّسمية بسم اللّه ، فإذا زاد الرّحمن الرّحيم جاز، ولا يقصد بها القرآن. وقال الحنابلة : صفتها بسم اللّه ، ولا يقوم غيرها مقامها ، فلو قال : بسم الرّحمن ، أو القدّوس ، أو نحوه لم يجزئه ، لكن قال البهوتيّ : الظّاهر إجزاؤها بغير العربيّة ولو ممّن يحسنها - كما في التّذكية - إذ لا فرق .
ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يبتدئ النّيّة مع التّسمية ، ومصاحبةً لها عند الحنفيّة والحنابلة . قال البهوتيّ : وقتها عند أوّل الواجبات وجوباً ، وأوّل المسنونات استحباباً .
ب - غسل الكفّين :
30 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ في الغسل غسل اليدين إلى الرّسغين ثلاثاً ابتداءً قبل إدخالهما في الإناء ، لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت : « وضعت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ماءً للغسل ، فغسل يديه مرّتين أو ثلاثاً » .
قال الدّسوقيّ : هذا إذا كان الماء غير جار وكان يسيراً وأمكن الإفراغ منه ، وإلاّ فلا تتوقّف سنّيّة غسلهما على الأوّليّة .
ج - إزالة الأذى :
31 - قال الشّافعيّة والحنابلة : أكمل الغسل إزالة القذر طاهراً كان كالمنيّ ، أو نجساً كودي استظهاراً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يسنّ بعد غسل اليدين البدء بإزالة الخبث عن جسده ، سواء كان بفرج أو غيره ، لحديث ميمونة رضي الله عنها في صفة غسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ثمّ أفرغ على شماله فغسل مذاكيره » ، قال ابن عابدين : السّنّة نفس البداءة بغسل النّجاسة ، وأمّا نفس غسلها فلا بدّ منه ولو قليلةً .
وصرّح الحنفيّة بأنّه يسنّ غسل الفرج مع البداءة بغسل اليدين ، وذلك بأن يفيض الماء بيده اليمنى عليه فيغسله باليسرى ، ثمّ ينقّيه وإن لم يكن به خبث اتّباعاً للحديث .
وقال المالكيّة يندب البدء بإزالة الأذى أي النّجاسة في الغسل .
د - الوضوء :
32 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يسنّ في الغسل الوضوء كاملاً ، لحديث عائشة رضي الله عنها « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثمّ توضّأ وضوءه للصّلاة » .
وعدّه المالكيّة من المندوبات .
واختلف الفقهاء في محلّ غسل الرّجلين ، هل يغسلهما في وضوئه أو في آخر غسله ؟
فذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة في الأصحّ ، والحنابلة في الصّحيح من المذهب إلى أنّه لا يؤخّر غسل قدميه إلى آخر الغسل ، بل يكمل الوضوء بغسل الرّجلين .
قال ابن عابدين : ولو كان واقفاً في محلّ يجتمع فيه ماء الغسل ، وهو ظاهر حديث عائشة ، وعند الحنفيّة قول إنّه يؤخّر غسل قدميه مطلقاً ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد .
قال ابن عابدين : وهو ظاهر إطلاق الأكثر ، وإطلاق حديث ميمونة ، قال النّوويّ عن قولي الشّافعيّة : وهذان القولان إنّما هما في الأفضل ، وإلاّ فكيف فعل حصل الوضوء ، وقد ثبت الأمران في الصّحيح من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وعند الحنفيّة قول ثالث ، وهو إن كان في مكان يجتمع فيه الماء فيؤخّر غسل قدميه . وإلاّ غسلهما في الوضوء ، قال ابن عابدين : صحّحه في المجتبى ، وجزم به في الهداية والمبسوط والكافي .
وعند الحنابلة رواية عن الإمام أحمد بأنّ غسل رجليه مع الوضوء وتأخير غسلهما حتّى يغتسل سواء في الأفضليّة .
وذهب المالكيّة في الرّاجح إلى ندب تأخير غسل الرّجلين بعد فراغ الغسل ؛ لأنّه قد جاء التّصريح بتأخير غسلهما في الأحاديث كحديث ميمونة ، ووقع في بعض الأحاديث الإطلاق ، والمطلق يحمل على المقيّد .
هـ - البدء باليمين :
33 - اتّفق الفقهاء على استحباب البدء باليمين عند غسل الجسد ، وهو من مندوبات الغسل عند المالكيّة ، لحديث أنّه صلى الله عليه وسلم « كان يعجبه التّيمّن في طهوره » وفي حديث عائشة رضي الله عنها « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب ، فأخذ بكفّه ، ثمّ بدأ بشقّ رأسه الأيمن ثمّ الأيسر » .
و - البدء بأعلى البدن :
34 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يسنّ عند غسل الجسد البدء بأعلاه .
ووافقهم المالكيّة في ذلك ، لكنّهم عدّوه من المندوبات .
ز - تثليث الغسل :
35 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ تثليث غسل الأعضاء في الغسل سنّة ، لحديث ميمونة رضي الله عنها : « ثمّ أفرغ على رأسه ثلاث حفنات » ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها : « ثمّ يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشّعر ، حتّى إذا رأى أن قد استبرأ ، حفن على رأسه ثلاث حفنات » ، وأمّا باقي أعضاء الجسد فقياساً على الوضوء . قال الشّربينيّ الخطيب : إن كان الماء جارياً كفى في التّثليث أن يمرّ عليه ثلاثاً جريات ، وإن كان راكداً انغمس فيه ثلاثاً ، بأن يرفع رأسه منه وينقل قدميه ، أو ينتقل فيه من مقامه إلى آخر ثلاثاً ، ولا يحتاج إلى انفصال جملته ولا رأسه ، فإنّ حركته تحت الماء كجري الماء عليه .
وذهب المالكيّة إلى ندب تثليث غسل الرّأس فقط ، وأمّا بقيّة الأعضاء فاعتمد الدّردير كراهة غسلها أكثر من مرّة ، واعتمد البنانيّ تكرار غسل الأعضاء .
36 - وهناك سنن أخرى منها : أن يكون قدر الماء المغتسل به صاعاً لحديث سفينة رضي الله تعالى عنه : « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يغسّله الصّاع من الماء من الجنابة ويوضّئه المدّ » .
وقدّره أبو حنيفة بالصّاع العراقيّ وهو ثمانية أرطال ، وقدّره صاحباه بالصّاع الحجازيّ وهو خمسة أرطال وثلث .(/7)
قال ابن عابدين : نقل غير واحد إجماع المسلمين على أنّ ما يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدّر بمقدار ، وما في ظاهر الرّواية من أنّ أدنى ما يكفي في الغسل صاع وفي الوضوء مدّ لحديث : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصّاع إلى خمسة أمداد ، ويتوضّأ بالمدّ » ليس بتقدير لازم ، بل هو بيان أدنى القدر المسنون ، حتّى إنّ من أسبغ بدون ذلك أجزأه ، وإن لم يكفه زاد عليه ، لأنّ طباع النّاس وأحوالهم مختلفة .
وقال الدّردير : المدار على الإحكام ، وهو يختلف باختلاف الأجسام .
وبعد أن قرّر الشّافعيّة أنّه يسنّ أن لا ينقص ماء الغسل عن صاع ، قالوا : ولا حدّ له فلو نقص عن ذلك وأسبغ كفى .
37 - ونصّ الحنفيّة على أنّ سنن الغسل كسنن الوضوء سوى التّرتيب والدّعاء ، وآدابه كآداب الوضوء .
ونصّوا على أنّه يسنّ أن يبتدئ في حال صبّ الماء برأسه ، ثمّ على ميامنه ، ثمّ على مياسره كما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويسنّ السّواك أيضاً في الغسل .
ويستحبّ أن لا يتكلّم بكلام مطلقاً ، أمّا كلام النّاس فلكراهته حال الكشف ، وأمّا الدّعاء فلأنّه في مصبّ المستعمل ومحلّ الأقذار والأوحال .
وصرّحوا بأنّ من آداب الغسل : أن يغتسل بمكان لا يراه فيه أحد لا يحلّ له النّظر لعورته ؛ لاحتمال ظهورها في حال الغسل أو لبس الثّياب ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه عزّ وجلّ حييّ ستّير يحبّ الحياء والسّتر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر » .
ويستحبّ أيضاً أن يصلّي ركعتين سبحةً بعد الغسل كالوضوء لأنّه يشمله .
38 - ونصّ المالكيّة على أنّه يسنّ مسح صماخ ( ثقب ) الأذنين في الغسل ، وذلك بأن يحمل الماء في يديه وإمالة رأسه حتّى يصيب الماء باطن أذنيه ولا يصبّ الماء في أذنيه صبّاً ؛ لأنّه يورث الضّرر ، قال الدّسوقيّ : السّنّة هنا مسح الثّقب الّذي هو الصّماخ ، وأمّا ما زاد على ذلك فيجب غسله .
39 - وقال الشّافعيّة : من السّنن استصحاب النّيّة إلى آخر الغسل ، وأن لا يغتسل في الماء الرّاكد ولو كثر ، وأن يكون اغتساله من الجنابة بعد بول لئلاّ يخرج بعده منيّ .
ويسنّ أن يقول بعد فراغه : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأن يستقبل القبلة ويترك الاستعانة والتّنشيف .
ونصّ الحنابلة على أنّه يستحبّ أن يخلّل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه .
مكروهات الغسل :
40 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من مكروهات الغسل الإسراف في الماء .
ومن المكروهات ضرب الوجه بالماء ، والتّكلّم بكلام النّاس ، والاستعانة بالغير من غير عذر، ورجّح الطّحطاويّ أنّه لا بأس بالاستعانة ، وتنكيس الفعل ، وتكرار الغسل بعد الإسباغ، والغسل في الخلاء وفي مواضع الأقذار ، وترك الوضوء أو المضمضة أو الاستنشاق والاغتسال داخل ماء كثير كالبحر خشية أن يغلب عليه الموج فيغرقه .
صفة الغسل :
41 - للغسل صفتان : صفة إجزاء وصفة كمال .
فصفة الإجزاء تحصل بالنّيّة عند من يشترطها ، وتعميم جميع الشّعر والبشرة بالماء . وصفة الكمال تحصل بذلك وبمراعاة واجبات الغسل وسننه وآدابه الّتي سبق بيانها .(/8)
فاتحة الكتاب *
التّعريف :
1 - الفاتحة لغةً : ما يفتتح به الشّيء .
والكتاب من معانيه : الصّحف المجموعة .
والفاتحة في الاصطلاح هي : أمّ الكتاب ، سمّيت بذلك لأنّه يفتتح بها قراءة القرآن لفظاً ، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطّاً ، وتفتتح بها الصّلوات .
قال النّوويّ : لفاتحة الكتاب عشرة أسماء ، الصّلاة ، وسورة الحمد ، وفاتحة الكتاب ، وأمّ الكتاب ، وأمّ القرآن ، والسّبع المثاني ، والشّفاء ، والأساس ، والوافية ، والكافية .
وزاد القرطبيّ في أسمائها : القرآن العظيم ، والرّقية ، وعبّر عن السّبع المثاني بالمثاني فقط .
وزاد السّيوطيّ من الأسماء : فاتحة القرآن ، والكنز ، والنّور ، وسورة الشّكر ، وسورة الحمد الأولى ، وسورة الحمد القصرى ، والشّافية ، وسورة السّؤال ، وسورة الدّعاء ، وسورة تعليم المسألة ، وسورة المناجاة ، وسورة التّفويض .
الأحكام المتعلّقة بفاتحة الكتاب :
أ - مكان نزول فاتحة الكتاب وعدد آياتها :
2 - أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب من القرآن ، واختلفوا أهي مكّيّة أم مدنيّة ؟ فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما وقتادة وأبو العالية وغيرهم : هي مكّيّة ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ومجاهد وعطاء بن يسار والزّهريّ وغيرهم : هي مدنيّة ، قال القرطبيّ : والأوّل أصحّ ، لقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } ، وسورة الحجر مكّيّة بإجماع ، ولا خلاف في أنّ فرض الصّلاة كان بمكّة ، وما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير " الحمد للّه ربّ العالمين " ، يدلّ على هذا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء .
واختلف الفقهاء في كون البسملة آيةً من الفاتحة :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ البسملة ليست بآية من الفاتحة .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّها آية من الفاتحة .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( بسملة ف 5 ) .
ب - فضل فاتحة الكتاب :
3 - ورد في فضل فاتحة الكتاب عدّة أحاديث ، منها :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « والّذي نفسي بيده ما أنزلت في التّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزّبور ولا في الفرقان مثلها ، وإنّها سبع من المثاني والقرآن العظيم الّذي أعطيته » .
وعن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال : « كنت أصلّي في المسجد فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ألا أعلّمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ فأخذ بيديّ ، فلمّا أردنا أن نخرج قلت : يا رسول اللّه إنّك قلت لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد للّه ربّ العالمين هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الّذي أوتيته » . قال القرطبيّ : في الفاتحة من الصّفات ما ليس في غيرها ، حتّى قيل : إنّ جميع القرآن فيها ، وهي خمس وعشرون كلمةً ، تضمّنت جميع علوم القرآن ، ومن شرفها أنّ اللّه سبحانه قسمها بينه وبين عبده .
والفاتحة تضمّنت التّوحيد والعبادة والوعظ والتّذكير ، ولا يستبعد ذلك في قدرة اللّه تعالى .
ج - قراءة الفاتحة في الصّلاة :
4 - اختلف الفقهاء في حكم قراءة الفاتحة في الصّلاة :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ قراءة الفاتحة ركن من أركان الصّلاة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ قراءة الفاتحة واجب من واجبات الصّلاة وليست ركناً لثبوتها بخبر الواحد الزّائد على قوله تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } .
وللتّفصيل في حكم قراءتها في الفرض والنّفل للإمام والمأموم والمنفرد ، والجهر والسّرّ يراجع مصطلح ( صلاة ف 19 ، 38 ) .
د - خواصّ فاتحة الكتاب :
5 - ذكر العلماء أنّ من خواصّ سورة الفاتحة الاستشفاء بها ، وقد عقد البخاريّ باباً في الرّقي بفاتحة الكتاب ، وقد ثبت الرّقي بها في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه : « أنّ ناساً من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتوا على حيّ من أحياء العرب ، فلم يقروهم ، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيّد أولئك ، فقالوا : هل معكم من دواء أو راق ؟ فقالوا : إنّكم لم تقرونا ، ولا نفعل حتّى تجعلوا لنا جعلاً ، فجعلوا لهم قطيعاً من الشّاء ، فجعل يقرأ بأمّ القرآن ، ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ ، فأتوا بالشّاء فقالوا : لا نأخذه حتّى نسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فضحك وقال : وما أدراك أنّها رقية ؟ خذوها ، واضربوا لي بسهم » .
قال ابن القيّم : إذا ثبت أنّ لبعض الكلام خواصّ ومنافع ، فما الظّنّ بكلام ربّ العالمين ، ثمّ بالفاتحة الّتي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها ، لتضمّنها جميع معاني الكتاب ؟ فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء اللّه ومجامعها ، وإثبات المعاد ، وذكر التّوحيد ، والافتقار إلى الرّبّ في طلب الإعانة به والهداية منه ، وذكر أفضل الدّعاء ، وهو طلب الهداية إلى الصّراط المستقيم ، المتضمّن كمال معرفته وتوحيده ، وعبادته بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، والاستقامة عليه ، ولتضمّنها ذكر أصناف الخلائق ، وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحقّ والعمل به ، ومغضوب عليه لعدوله عن الحقّ بعد معرفته ، وضالّ لعدم معرفته له ، مع ما تضمّنته من إثبات القدر ، والشّرع ، والأسماء ، والمعاد ، والتّوبة ، وتزكية النّفس ، وإصلاح القلب ، والرّدّ على جميع أهل البدع ، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كلّ داء .(/1)
فساد *
التّعريف :
1 - الفساد في اللّغة : نقيض الصّلاح ، وخروج الشّيء عن الاعتدال ، قليلاً كان الخروج أو كثيراً ، يقال : فسد اللّحم : أنتن ، وفسدت الأمور : اضطربت ، وفسد العقد : بطل .
وفي الاصطلاح : عرّف جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة الفساد بأنّه : مخالفة الفعل الشّرع بحيث لا تترتّب عليه الآثار ، ولا يسقط القضاء في العبادات .
وعرّف الحنفيّة الفاسد بأنّه ما شرع بأصله دون وصفه .
الألفاظ ذات الصّلة :
الصّحّة :
2 - الصّحّة في اللّغة ضدّ السّقم والمرض ، وقد استعيرت الصّحّة للمعاني ، يقال : صحّت الصّلاة إذا سقط بها وجوب القضاء ، ويقال : صحّ العقد إذا ترتّب عليه أثره .
ولا يختلف المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، فالصّحّة والفساد متباينان .
الحكم التّكليفيّ :
3 - فساد التّصرّف يحرّمه ويؤثّم فاعله إذا علم بفساده ، سواء أكان ذلك في العبادات ، كالصّلاة بدون طهارة ، والأكل في نهار رمضان ، أم كان ذلك في المعاملات ، كبيع الميتة والدّم ، والاستئجار على الغناء المحرّم والنّوح ، وكرهن الخمر عند المسلم ولو كانت لذمّيّ وما شابه ذلك ، أم كان في النّكاح ، كنكاح معتدّة الغير .
وفساد البيع عند الحنفيّة وإن كان يفيد الملك بالقبض إلاّ أنّ الإقدام عليه حرام ، ويجب فسخه حقّاً للّه تعالى ، لأنّ فعله معصية ، فعلى العاقد التّوبة منه بفسخه .
فساد العبادة :
4 - تفسد العبادة بأمور منها :
أ - ترك شرط من شروط صحّة العبادة ، كترك ستر العورة ، أو الطّهارة ، أو استقبال القبلة في الصّلاة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة ف 115 وما بعدها ) .
وكترك الطّهارة من الحدث والخبث في الطّواف .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( طواف ف 22 ) .
ب - ترك ركن من أركان العبادة ، وذلك كترك النّيّة ، أو تكبيرة الإحرام في الصّلاة عند الجمهور ، أو القيام في الفرض للقادر عليه .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة ف 16 - 18 ) .
وكترك الإمساك عن المفطرات في الصّوم .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صوم ف 24 ) .
ج - ارتكاب فعل من الأفعال الّتي تفسد العبادة ، وذلك كالأكل والشّرب في الصّلاة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صلاة ف 107 - 114 ) .
وكالأكل والشّرب عمداً في الصّوم .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صوم ف 32 - 39 ) .
ومثل ذلك الجماع في الاعتكاف .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( اعتكاف ف 27 ) .
د - رفض نيّة العبادة في أثناء القيام بها ، ومن ذلك : رفض نيّة الصّلاة في أثنائها بأن قطع النّيّة أو عزم على قطعها .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( رفض ف 6 ) .
هـ - مخالفة النّهي الوارد على ذات الفعل أو على الوصف الملازم للفعل ، لأنّه يدلّ على الفساد في الجملة ، كالنّهي عن صوم يوم العيد .
أمّا النّهي الوارد على الوصف المجاور للفعل ، كالنّهي عن الصّلاة في الدّار المغصوبة ، فلا يفيد الفساد عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، ولكنّه يفيد الفساد عند الحنابلة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نهي ) والملحق الأصوليّ .
أثر فساد العبادة :
5 - فساد العبادة يترتّب عليه عدّة آثار ، منها :
أ - بقاء انشغال الذّمّة بالعبادة إلى أن تؤدّى ، إن كانت العبادة ليس لها وقت محدّد كالزّكاة ، وعبّر بعض الفقهاء فيها بالإعادة .
أو تقضى إن كانت العبادة لا يتّسع وقتها لمثلها كرمضان ، أو تعاد إن كان وقتها يتّسع لغيرها معها كالصّلاة ، فإن خرج الوقت كانت قضاءً ، أو يؤتى بالبدل كالظّهر لمن فسدت جمعته .
ب - العقوبة الدّنيويّة في بعض العبادات ، كالكفّارة على من تعمّد الإفطار بالجماع في نهار رمضان .
ج - عدم المضيّ في الفاسد إلاّ في الصّيام والحجّ ، إذ يجب الإمساك في الصّوم ، والمضيّ في الحجّ الفاسد ، مع القضاء فيهما .
د - قد يترتّب على فساد العبادة فساد عبادة أخرى ، كالوضوء يفسد بفساد الصّلاة بالقهقهة عند الحنفيّة .
هـ - حقّ استرداد الزّكاة إذا أعطيت لغير مستحقّ لها في بعض الأحوال .
وتفصيل كلّ ذلك في مصطلحاته .
أسباب الفساد في المعاملات :
6 - لا يفرّق جمهور الفقهاء بين الفساد والبطلان ، سواء أكان ذلك في العبادات كالصّلاة بدون طهارة ، أم في النّكاح كنكاح المحارم ، أم في عقود المعاملات كبيع الميتة والدّم والبيع بالخمر ، ذلك أنّ كلاً من الفساد والبطلان يدلان على أنّ الفعل وقع على خلاف ما طلبه الشّارع ، ولذلك لم يعتبره ولم يرتّب عليه الأثر الّذي رتّبه على الفعل الصّحيح ، وهذا في الجملة .
وأسباب الفساد عند الجمهور هي أسباب البطلان ، وهي ترجع إلى الخلل الواقع في ركن من أركان الفعل ، أو في شرط من شروط الصّحّة ، أو لورود النّهي عن الوصف الملازم للفعل ، أو عن الوصف المجاور عند الحنابلة .
يقول ابن رشد في كتاب البيوع : أسباب الفساد العامّة في البيع أربعة :
أحدها : تحريم عين المبيع ، والثّاني : الرّبا ، والثّالث : الغرر ، والرّابع : الشّروط الّتي تؤول إلى أحد هذين أو لمجموعهما .
ويفرّق الحنفيّة بين الفساد والبطلان في المعاملات ، على أساس التّمييز بين أصل العقد ووصفه .
وأسباب البطلان عند الحنفيّة هي حدوث خلل في أصل العقد ، بأن تخلّف ركن من أركانه أو شرط من شرائط انعقاده .
أمّا أسباب الفساد ، فهي حدوث خلل في وصف العقد مع سلامة الماهيّة ، فإذا اختلّ الوصف : بأن دخل المحلّ شرط فاسد ، فالعقد فاسد لا باطل .
والتّفصيل في مصطلح : ( عقد ) وفي الملحق الأصوليّ .
التّصرّفات الّتي فرّق فيها الجمهور بين الفساد والبطلان :(/1)
7 - الأصل عند جمهور الفقهاء عدم التّفرقة بين الفساد والبطلان ، ومع ذلك فإنّهم فرّقوا بينهما في بعض المسائل :
فالمالكيّة فرّقوا بين الفساد والبطلان في عقد القراض والمساقاة .
والشّافعيّة فرّقوا بينهما في عقود ذكرها الزّركشيّ فقال : الفاسد والباطل سواء في الحكم عندنا ، واستثنى النّوويّ : الحجّ والخلع والكتابة والعاريّة .
وعند الحنابلة يأتي التّفريق بين الفساد والبطلان في الوكالة والإجارة والشّركة والمضاربة والحجّ وغير ذلك .
قال ابن اللّحّام الحنبليّ : البطلان والفساد عندنا مترادفان ... ثمّ قال : إذا تقرّر هذا فذكر أصحابنا مسائل فرّقوا فيها بين الفاسد والباطل ثمّ ذكر أمثلةً كثيرةً للمسائل الّتي فرّقوا فيها بين الباطل والفاسد .
والتّفصيل في الملحق الأصوليّ .
ما يتعلّق بالفساد من أحكام :
8 - يتعلّق بالفساد أحكام أوردها الفقهاء في صورة قواعد فقهيّة أو أحكام للمسائل الفقهيّة ، منها :
أوّلاً : فساد المتضمِّن يوجب فساد المتضمَّن :
9 - هذه القاعدة من القواعد الّتي ذكرها الحنفيّة في كتبهم ، وعبّر عنها ابن نجيم بلفظ آخر هو : " المبنيّ على الفاسد فاسد " ووضّحوا هذه القاعدة فقالوا : يجوز بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها ، ويجب قطعها للحال ، فإن استأجر الشّجر إلى وقت الإدراك بطلت الإجارة ، لأنّه لا تعامل في إجارة الأشجار المجرّدة ، فلا يجوز ، وطابت له الزّيادة - وهي ما زاد في ذات المبيع - وذلك لبقاء الإذن .
ولو استأجر الأرض إلى أن يدرك الزّرع - أي إلى وقت إدراكه - فسدت الإجارة لجهالة المدّة ، ولم تطب الزّيادة لفساد الإذن بفساد الإجارة ، وفساد المتضمِّن يوجب فساد المتضمَّن ، بخلاف الباطل ، فإنّه معدوم شرعاً أصلاً ووصفاً فلا يتضمّن شيئاً ، فكانت مباشرته عبارةً عن الإذن .
وحاصل الفرق أنّ الفاسد له وجود ، لأنّه فائت الوصف دون الأصل ، فكان الإذن ثابتاً في ضمنه ، فيفسد ، أمّا الباطل فلا وجود له أصلاً ، فلم يوجد إلاّ الإذن .
وفي حاشية الشّلبيّ على الزّيلعيّ : الفرق بين الإذن الثّابت في ضمن الإجارة الباطلة وبينه في ضمن الإجارة الفاسدة : أنّ الإذن في الإجارة الباطلة صار أصلاً مقصوداً بنفسه ، لأنّ الباطل لا وجود له ، والمعدوم لا يصلح أن يكون متضمّناً ، وليس كذلك الإجارة الفاسدة ، لأنّ الفاسد ليس معدوماً بأصله ، صحّ أن يكون متضمّناً ، فإذا فسد المتضمِّن فسد المتضمَّن .
والحكم عند جمهور الفقهاء يظهر في العقود الّتي يفرّقون فيها بين الباطل والفاسد ، كالعقود المتضمّنة للإذن ، مثل الشّركة ، والمضاربة ، والوكالة ، فهذه العقود لا يمنع فسادها صحّة تصرّف المأذون لبقاء الإذن .
ففي كتب الشّافعيّة : الفاسد من العقود المتضمّنة للإذن إذا صدرت من المأذون صحّت ، كما في الوكالة المعلّقة إذا أفسدناها فتصرّف الوكيل ، صحّ لوجود الإذن ، وطرده الإمام في سائر صور الفساد .
وفي القواعد لابن رجب الحنبليّ : العقود الجائزة كالشّركة والمضاربة والوكالة لا يمنع فسادها نفوذ التّصرّف فيها بالإذن .
ويقول ابن قدامة : إذا تصرّف العامل في المضاربة الفاسدة نفذ تصرّفه لأنّه أذن له فيه ، فإذا بطل العقد بقي الإذن ، فملك به التّصرّف .
وقواعد المالكيّة لا تأبى ذلك .
ثانياً : الملك :
10 - التّصرّف الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض باتّفاق الفقهاء .
أمّا بعد القبض ، فلا يفيد الملك كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة .
يقول الزّركشيّ : الفاسد لا يملك فيه شيء ، ويلزمه الرّدّ ومؤنته ، وليس له حبسه لقبض البدل ، ولا يرجع بما أنفق إن علم الفساد ، وكذا إن جهل في الأصحّ .
ويستثنى صورتان :
إحداهما : الكتابة الفاسدة فإنّ المكاتب يملك فيها أكسابه .
الثّانية : إذا صالحنا كافراً بمال على دخول الحرم ، فدخل وأقام ، فإنّا نملك المال المأخوذ منه .
ويقول ابن قدامة : إن حكمنا بفساد العقد لم يحصل به ملك ، سواء اتّصل به القبض أو لم يتّصل ، ولا ينفذ تصرّف المشتري فيه ببيع ولا هبة ولا عتق ولا غيره .
أمّا الحنفيّة فإنّ التّصرّف الفاسد يفيد الملك عندهم بالقبض المأذون فيه ، ويملك القابض التّصرّف فيه ببيع أو هبة أو صدقة أو غير ذلك .
ومع ذلك فهو ملك غير لازم ، لأنّه مستحقّ للفسخ رفعاً للفساد ، ولذلك فهو مضمون .
وفي جامع الفصولين : الأصل في العقد الفاسد أنّ كلّ ما يملك ببيع جائز يملك بفاسد ، فلو شرى قنّاً بخمر - وهما مسلمان - ملك القنّ مشتريه بقبضه بإذن ، ولا يملك البائع الخمر . والهبة الفاسدة تفيد الملك بالقبض ، وبه يفتى ، وهي مضمونة .
والمقبوض بالقسمة الفاسدة يثبت الملك فيه وينفذ التّصرّف ، كالمقبوض بالشّراء الفاسد . وعند المالكيّة يتقرّر الملك في المقبوض بعقد فاسد بالفوات .
يقول ابن رشد : البيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرّمة وإلى مكروهة ، فأمّا المحرّمة فإنّها إذا فاتت مضت بالقيمة ، وأمّا المكروهة فإنّها إذا فاتت صحّت عنده ، وربّما صحّ عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض ، لخفّة الكراهة عنده في ذلك .
ثالثاً : الضّمان :
11 - يرى جمهور الفقهاء أنّ التّصرّفات الفاسدة تردّ إلى حكم صحيحها بالنّسبة للضّمان وعدمه ، فإن اقتضى التّصرّف الصّحيح الضّمان ففاسده كذلك ، وإن اقتضى عدم الضّمان ففاسده كذلك .
وللحنفيّة قاعدة شبيهة بما عند جمهور الفقهاء ، وهي : الأصل أنّ كلّ ما قبض بجهة التّملّك ضمن ، وكلّ ما قبض لا بجهة التّملّك لم يضمن .
والتّفصيل في مصطلح : ( ضمان ف 35 ، وما بعدها ) .
رابعاً : سقوط المسمّى في التّصرّفات الفاسدة :(/2)
12 - الواجب في التّصرّفات الصّحيحة الّتي يكون فيها تسمية نحو الأجر أو الرّبح أو المهر ، هو المسمّى ، فإذا فسدت هذه التّصرّفات ، فإنّ المسمّى يسقط ، ويختلف الفقهاء فيما يجب إذا سقط المسمّى ، ومن ذلك :
أ - الإجارة :
13 - إذا فسدت الإجارة واستوفى المستأجر المنفعة ، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ ، أي ولو زاد على المسمّى .
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد يجب أجر المثل ، بشرط أن لا يزيد عن المسمّى إذا كان في العقد تسمية ، فإذا لم يكن في العقد تسمية وجب أجر المثل بالغاً ما بلغ .
والتّفصيل في : ( إجارة ف 43 - 44 ) .
ب - المضاربة :
14 - الواجب في المضاربة الصّحيحة هو الرّبح المسمّى للمضارب ، فإذا فسدت المضاربة فلا يستحقّ المضارب الرّبح المسمّى ، لأنّها تسمية لم تصحّ ، وإنّما يكون له أجرة مثل عمله إذا عمل ، ويكون الرّبح جميعه لربّ المال ، لأنّه نماء ملكه .
والمضارب يستحقّ أجرة المثل بالغةً ما بلغت ، سواء أربحت المضاربة أم لم تربح ، لأنّه عمل طامعاً في المسمّى ، فإذا فات ، وجب ردّ عمله عليه وهو متعذّر ، فتجب قيمته وهي الأجرة .
وهذا عند الحنفيّة غير أبي يوسف ، والشّافعيّة ، والحنابلة غير الشّريف أبي جعفر .
وأمّا المالكيّة فإنّهم جعلوا للمضارب قراض المثل في مسائل معدودة ، وأجرة المثل فيما عداهما ، ولهم في ذلك ضابط ، هو : كلّ مسألة خرجت عن حقيقة القراض من أصلها ففيها أجرة المثل ، وأمّا إن شملها القراض ، لكن اختلّ منها شرط ، ففيها قراض المثل .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( مضاربة ) .
ج - النّكاح :
15 - المهر يسقط في النّكاح الفاسد - سواء اتّفق على فساده أم لا - إذا حصل التّفريق قبل الدّخول عند جمهور الفقهاء ، وقبل الخلوة فيما اختلف فيه عند الحنابلة .
هذا مع استثناء بعض المسائل الّتي يثبت فيها نصف المهر قبل الدّخول ، كما إذا ادّعى الزّوج قبل الدّخول رضاعاً محرّماً بلا بيّنة ، وكذّبته الزّوجة ، فإنّه يفسخ النّكاح وعليه نصف الصّداق كما يقول المالكيّة والحنابلة .
ويتّفق الفقهاء على وجوب المهر في النّكاح الفاسد بالدّخول ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها » .
فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها المهر فيما له حكم النّكاح الفاسد ، وعلّقه بالدّخول ، فدلّ على أنّ وجوبه متعلّق به .
واختلف الفقهاء في الواجب من المهر ، هل هو المسمّى أو مهر المثل أو الأقلّ منهما ؟ فعند الشّافعيّة وزفر من الحنفيّة لها مهر المثل .
وعند الحنفيّة - غير زفر - لها الأقلّ من مهر مثلها ومن المسمّى .
وعند المالكيّة لها المسمّى ، وإن لم يكن مسمّىً كنكاح الشّغار فلها مهر المثل .
وعند الحنابلة لها المسمّى في الفاسد - وهو ما اختلف فيه - ولها مهر المثل في الباطل - وهو ما اتّفق على فساده - .
وينظر تفصيل ذلك في : ( مهر - نكاح ) .
خامساً : الفساد في الأشياء المادّيّة :
16 - يرد الفساد في الأشياء المادّيّة كعطب الأطعمة ، ويذكر الفقهاء ذلك في بعض أبواب الفقه من حيث إيراد العقد عليها ، كما في الرّهن ، أو من حيث التقاطها ، أو من حيث اعتبارها عيباً في المبيع يوجب الرّدّ بالعيب .
وبيان ذلك فيما يلي :
أ - رهن ما يسرع إليه الفساد :
17 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ رهن ما يسرع إليه الفساد ، لكنّ الشّافعيّة قالوا : يصحّ رهن ما يسرع إليه الفساد إن أمكن تجفيفه ، كرطب وعنب يتجفّفان ، فإن كان لا يمكن تجفيفه ولكن رهن بدين حالّ أو مؤجّل لكنّه يحلّ قبل الفساد ولو احتمالاً جاز .
أمّا إذا لم يمكن تجفيفه ورهن بمؤجّل يحلّ بعد فساده أو معه ، لم يجز إلاّ إن شرط أن يبيعه عند خوف فساده ، وأن يكون ثمنه رهناً .
ولو رهن ما لا يسرع إليه الفساد فحدث قبل الأجل ما عرّضه للفساد - كحنطة ابتلت وتعذّر تجفيفها - لم ينفسخ الرّهن ، بل يباع وجوباً ويجعل ثمنه رهناً .
وقال الحنابلة : يصحّ رهن ما يسرع إليه الفساد ، سواء كان ممّا يمكن إصلاحه ، بالتّجفيف كالعنب والرّطب ، أو لا يمكن تجفيفه كالبطّيخ والطّبيخ .
ثمّ إن كان ممّا يجفّف ، فعلى الرّاهن تجفيفه ، لأنّه من مؤنة حفظه وتبقيته ، فيلزم الرّاهن كنفقة الحيوان ، وإن كان ممّا لا يجفّف ، فإنّه يباع ويقضى الدّين من ثمنه إن كان حالاً ، أو يحلّ قبل فساده ، فإن كان الدّين لا يحلّ قبل فساده ، جعل ثمنه رهناً مكانه ، سواء شرط في الرّهن بيعه أو أطلق ، لأنّ العرف يقتضي ذلك ، لأنّ المالك لا يعرّض ملكه للتّلف والهلاك ، فإذا تعيّن حفظه في بيعه حمل عليه مطلق العقد ، كتجفيف ما يجفّ ، وأمّا إذا شرط أن لا يباع فلا يصحّ ، لأنّه شرط ما يتضمّن فساده وفوات المقصود ، فأشبه ما لو شرط أن لا يجفّف ما يجفّ .
وفي وجه ذكره القاضي أنّ الرّاهن لو أطلق لا يصحّ .(/3)
وإذا شرط للمرتهن بيعه ، أو أذن له في بيعه بعد العقد ، أو اتّفقا على أن يبيعه الرّاهن أو غيره ، باعه ، وإن لم يمكن ذلك باعه الحاكم وجعل ثمنه رهناً ، ولا يقضى الدّين من ثمنه ، لأنّه ليس له تعجيل وفاء الدّين قبل حلوله ، وكذلك الحكم إن رهنه ثياباً يخاف فسادها ، كالصّوف ، قال أحمد فيمن رهن ثياباً يخاف فسادها كالصّوف : أتى السّلطان فأمره ببيعها . ونقل الحصكفيّ عن الذّخيرة : ليس للمرتهن بيع ثمرة الرّهن وإن خاف تلفها ، لأنّ له ولاية الحبس لا البيع ، ويمكن رفعه إلى القاضي ، حتّى لو كان في موضع لا يمكنه الرّفع للقاضي أو كان المرهون بحال يفسد قبل أن يرفع ، جاز له أن يبيعه .
قال ابن عابدين : وهذا إذا لم يبح الرّاهن له البيع .
وفي البيريّ عن الولوالجيّة : ويبيع ما يخاف عليه الفساد بإذن الحاكم ، ويكون رهناً في يده ، قال البيريّ : يؤخذ من هذا جواز بيع الدّار المرهونة إذا تداعت للخراب .
وقال المالكيّة : الأصل أنّه لا يجوز للمرتهن بيع المرهون إلاّ إن خشي فساده ، فإن خشي فساده جاز بيعه .
ب - التقاط ما يسرع فساده :
18 - من التقط ما لا يبقى ويفسد بالتّأخير ، كاللّحم واللّبن والفواكه ، فإنّه يعرّفه إلى أن يخشى فساده ، ثمّ يتصدّق به خوفاً من الفساد .
وهذا عند الحنفيّة ، وهو الأولى عند المالكيّة .
وقال الشّافعيّة : من التقط شيئاً ممّا يسرع فساده ولا يبقى بعلاج ، فإنّ آخذه يتخيّر بين خصلتين : فإن شاء باعه استقلالاً إن لم يجد حاكماً وبإذنه إن وجده ، وعرّف المبيع بعد بيعه ليتملّك ثمنه بعد التّعريف ، وإن شاء تملّكه في الحال وأكله وغرم قيمته .
وإن أمكن بقاء ما يسرع فساده بعلاج ، كرطب يتجفّف ، فإن كانت الغبطة في بيعه بيع جميعه بإذن الحاكم إن وجده ، وإلاّ باعه استقلالاً ، وإن كانت الغبطة في تجفيفه وتبرّع به الواجد له أو غيره ، جفّفه ، لأنّه مال غيره ، فروعي فيه المصلحة كوليّ اليتيم ، وإن لم يتبرّع بتجفيفه بيع بعضه بقدر ما يساوي التّجفيف لتجفيف الباقي ، طلباً للأحظّ .
وقال الحنابلة : من التقط ما لا يبقى عاماً وكان ممّا لا يبقى بعلاج ولا غيره ، فهو مخيّر بين أكله وبيعه وحفظ ثمنه ، فإن أكله ثبتت القيمة في ذمّته ، وإن باعه وحفظ ثمنه جاز ، وله أن يتولّى بيعه بنفسه دون حاجة إلى إذن الحاكم ، وعن أحمد : له بيع اليسير ، وإن كان كثيراً دفعه إلى السّلطان .
وإن أكله أو باعه حفظ صفاته ، ثمّ عرّفه عاماً .
وإن كان ما التقطه ممّا يمكن إبقاؤه بالعلاج ، كالعنب والرّطب ، فينظر ما فيه الحظّ لصاحبه : فإن كان في التّجفيف جفّفه ولم يكن له إلاّ ذلك ، وإن احتاج التّجفيف إلى غرامة باع بعضه في ذلك ، وإن كان الحظّ في بيعه باعه وحفظ ثمنه ، وإن تعذّر بيعه ولم يمكن تجفيفه تعيّن أكله ، وإن كان أكله أنفع لصاحبه فله أكله لأنّ الحظّ فيه .(/4)
فواسق *
التّعريف :
1 - أصل الفسق لغةً : الخروج عن الأمر ، تقول العرب : فسقت الرّطبة عن قشرها إذا خرجت .
وقد سمّى الشّارع بعض الحيوانات فواسق على سبيل الاستعارة امتهاناً لهنّ لكثرة خبثهنّ وأذاهنّ ، وهذه الحيوانات هي : الغراب ، والحدأة ، والفأرة ، والحيّة ، والكلب العقور .
قال الخطّابيّ : أصل الفسق الخروج عن الاستقامة ، والجور ، وبه سمّي العاصي فاسقاً ، وإنّما سمّيت هذه الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهنّ ، وقيل : لخروجهنّ عن الحرمة في الحلّ والحرم ، أي لا حرمة لهنّ بحال .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ما يتعلّق بالفواسق من أحكام :
الفواسق من الدّوابّ :
2 - سمّى الشّارع بعض الدّوابّ فواسق ، وذلك في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم : الحيّة ، والغراب الأبقع ، والفأرة ، والكلب العقور ، والحديّا » .
واتّفق الفقهاء على أنّ الغراب من الفواسق ، لكنّ الحنفيّة خصّوا ذلك بالغراب الّذي يأكل الجيف أي النّجاسات مع غيرها ، فيأكل الحبّ تارةً والنّجاسة أخرى وليس منه العقعق ، لأنّه لا يسمّى غراباً ، ولا يبتدئ بالأذى ، وكذا غراب الزّرع وهو الّذي يأكل الزّرع .
وذهب المالكيّة إلى عدّ الغراب من الفواسق مطلقاً سواء كان أسود أو أبقع وهو الّذي خالط سواده بياض .
وقال الشّافعيّة : الغراب أنواع : منها الأبقع وهو فاسق محرّم بلا خلاف ، ومنها الأسود الكبير ، ويقال له : الغداف الكبير ، ويقال : الغراب الجبليّ ، لأنّه يسكن الجبال ، وهو حرام على الأصحّ ، ومنها : غراب الزّرع ، وهو أسود صغير يقال له : الزّاغ ، وقد يكون محمرّ المنقار والرّجلين ، وهو حلال على الأصحّ ، ومنها : غراب آخر صغير أسود ، أو رماديّ اللّون ، وقد يقال له : الغداف الصّغير ، وهو حرام على الأصحّ ، وكذا العقعق .
وذهب الحنابلة إلى أنّ ما يباح أكله من الغربان ليس من الفواسق ، فلا يباح للمحرم قتله ، ونصّوا على أنّه لا يباح أكل العقعق والقاق وغراب البين والغراب الأبقع .
كما اتّفق الفقهاء على أنّ الحدأة من الفواسق .
واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ العقرب من الفواسق ، قال الخرشيّ من المالكيّة : ويلحق بها الرّتيلى ، وهي دابّة صغيرة سوداء ربّما قتلت من لدغته ، والزّنبور وهو ذكر النّحل . واتّفق الفقهاء على عدّ الحيّة من الفواسق .
قال العدويّ المالكيّ : ويدخل فيها الأفعى ، وهي حيّة رقشاء دقيقة العنق .
واتّفق الفقهاء على أنّ الفأر من الفواسق .
قال الحنفيّة : لا فرق بين الأهليّة والوحشيّة ، وصرّحوا بأنّ الضّبّ واليربوع ليسا من الفواسق ، لأنّهما لا يبدآن بالأذى .
وقال المالكيّة : ويلحق بالفأرة ابن عرس وما يقرض الثّياب من الدّوابّ .
وقال ابن حجر : الفأر أنواع : منها الجرذ ، والخلد ، وفأرة الإبل ، وفأرة المسك ، وفأرة الغيط ، وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء .
كما اتّفق الفقهاء على أنّ الكلب العقور من الفواسق .
واختلفوا في الكلب غير العقور ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الكلب غير العقور ليس من الفواسق .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه منها .
3 - واختلف الفقهاء في هل يلحق بالفواسق غيرها من الدّوابّ الّتي تشاركها في المعنى أم لا ؟
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّه يلحق بالفواسق غيرها من الدّوابّ الّتي تشاركها في المعنى ، فألحقوا بالكلب العقور مثلاً : الذّئب والأسد والنّمر والفهد ، وقال الخرشيّ من المالكيّة : المراد في الحديث - بالكلب العقور - هو عاديّ السّباع من أسد وفهد ونمر على المشهور ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في لهب بن أبي لهب : « اللّهمّ سلّط عليه كلبك ... فجاء الأسد فانتزعه فذهب به » .
وذهب الحنفيّة إلى عدم الإلحاق والاقتصار على الخمسة ، إلاّ أنّهم ألحقوا بها الحيّة والذّئب لثبوت الخبر .
قال صاحب الهداية : القياس على الفواسق ممتنع ، لما فيه من إبطال العدد ، واسم الكلب لا يقع على السّبع عرفاً .
قتل الفواسق :
4 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز قتل الفواسق من الدّوابّ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم : الحيّة والغراب الأبقع ، والفأرة ، والكلب العقور والحديّا » .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى استحباب قتلها ، للحديث المذكور ، لكنّ الحنابلة استثنوا من ذلك الكلب العقور وقالوا بوجوب قتله ولو كان معلّماً ، ليدفع شرّه عن النّاس .
وصرّحوا بأنّه لا تقتل كلبة عقرت من قرب من ولدها أو خرقت ثوبه ، لأنّ ذلك ليس عادةً لها ، بل تنقل بعيداً عن مرور النّاس دفعاً لشرّها .
كما نصّوا على قتل الكلب الأسود البهيم ولو كان معلّماً ، لأمره صلى الله عليه وسلم بقتله ولا يباح قتل غير الكلب العقور والأسود البهيم من الكلاب .
وخصّ الشّافعيّة سنّيّة قتل الكلب بالكلب العقور أمّا غير العقور فلا يجوز قتله على المعتمد ولا فرق في تلك الأحكام بين الحلّ والحرم والمحرم ، وغير المحرم .
وقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا جزاء على المحرم في قتلهنّ .
قتل الحيّة والعقرب في الصّلاة :
5 - اتّفق الفقهاء على جواز قتل الحيّة والعقرب في الصّلاة ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اقتلوا الأسودين في الصّلاة : الحيّة والعقرب » ، قال الكمال بن الهمام الحنفيّ : الحديث بإطلاقه يشمل ما إذا احتاج إلى عمل كثير في ذلك أو قليل ، وقيل : بل إذا كان قليلاً .(/1)
وخصّ المالكيّة الجواز في حال ما إذا كان العقرب أو الثّعبان مقبلةً عليه ، وكرهوا قتلها في حال عدم إقبالها .
وصرّح الدّردير المالكيّ بأنّ الصّلاة لا تبطل بانحطاطه لأخذ حجر يرميها به أو لقتلها ، لكن نقل الدّسوقيّ عن الحطّاب أنّ الانحطاط من قيام لأخذ حجر أو قوس من الفعل الكثير المبطل للصّلاة مطلقاً ، سواء كان لقتل عقرب لم تردّه أو لطائر أو صيد .
ونصّوا على كراهة قتل غير العقرب والثّعبان من طير أو دودة أو نحلة مطلقاً أقبلت عليه أم لا .
ونصّ الشّافعيّة على عدم بطلان الصّلاة عند قتل الحيّة والعقرب فيها إذا كان العمل قليلاً ، وبطلانها إن كان كثيراً ، والمرجع في ضابط العمل القليل والكثير العادة ، فما يعدّه النّاس قليلاً لا يضرّ ، وما يعدّونه كثيراً يضرّ ، قال النّوويّ : قال أصحابنا : على هذا الفعلة الواحدة كالخطوة والضّربة قليل بلا خلاف ، والثّلاث كثير بلا خلاف ، وفي الاثنين وجهان : أصحّهما قليل ، واتّفق الأصحاب على أنّ الكثير إنّما يبطل إذا توالى ، فإن تفرّق لم يضرّ .(/2)
فَتْحُ على الإِمام *
التّعريف :
1 - الفتح في اللّغة نقيض الإغلاق ، يقال : فتح الباب يفتحه فتحاً : أزال غلقه .
والإمام كلّ من يقتدى به .
والفتح على الإمام في الاصطلاح هو : تلقين المأموم الإمام الآية عند التّوقّف فيها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اللّبس :
2 - اللّبس : اختلاط الأمر ، من لبس الأمر عليه يلبس لبساً فالتبس : إذا خلطه عليه حتّى لا يعرف جهته وفي الحديث : « جاءه الشّيطان فلبس عليه » .
والصّلة أنّ اللّبس قد يكون سبباً للفتح على الإمام .
ب - الحصر :
3 - الحصر : ضرب من العيّ ، من حصر الرّجل حصراً : عيي ، وكلّ من امتنع من شيء لم يقدر عليه فقد حصر عنه .
والحصر قد يكون سبباً للفتح على الإمام .
الحكم التّكليفيّ :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فتح المؤتمّ على إمامه إذا أرتج عليه في القراءة وهو في الصّلاة وردّه إذا غلط في القراءة إلى الصّواب مشروع إجمالاً ، وبه قال جمع من الصّحابة والتّابعين كعثمان بن عفّان ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن عمر رضي الله عنهم ، وعطاء ، والحسن ، وابن سيرين وابن معقل ، ونافع بن جبير .
واستدلّوا : « بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاةً فقرأ فيها فلبس عليه فلمّا انصرف قال لأبيّ رضي الله عنه : أصلّيت معنا ؟ قال : نعم ، قال : فما منعك ؟ » .
وبحديث المسور بن يزيد المالكيّ رضي الله عنه قال : « شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يقرأ في الصّلاة ، فترك شيئاً لم يقرأه فقال له رجل : يا رسول اللّه تركت آية كذا وكذا ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هلاّ أذكرتنيها » .
وكرهه ابن مسعود - رضي الله عنه - وشريح ، والشّعبيّ ، والثّوريّ .
أحكام الفتح على الإمام :
5 - اختلف الفقهاء في بعض أحكام الفتح على الإمام بعد اتّفاقهم على مشروعيّته إجمالاً : فذهب الحنفيّة إلى أنّ المؤتمّ إن فتح على إمامه بعد توقّفه في القراءة لم يكن كلاماً مفسداً للصّلاة ، لأنّه مضطرّ إلى إصلاح صلاته ، سواء أقرأ الإمام مقدار الفرض في القراءة أم لم يقرأ ، لأنّه لو لم يفتح عليه ربّما يجري على لسانه ما يكون مفسداً للصّلاة ، فكان في الفتح عليه صلاح صلاته في الحالين ، ولما روي عن عليّ رضي الله عنه قال : " إذا استطعمكم الإمام فأطعموه " واستطعامه سكوته ، وينوي الفاتح الفتح لا التّلاوة على الصّحيح ، لأنّه مرخّص فيه ، وقراءته ممنوع عنها ، ولو فتح عليه بعد انتقاله إلى آية أخرى لم تفسد صلاته ، وهو قول عامّة مشايخهم ، لإطلاق المرخّص .
وفي البحر الرّائق : وفي المحيط ما يفيد أنّه المذهب ، فإنّ فيه : وذكر في الأصل والجامع الصّغير أنّه إذا فتح على إمامه يجوز مطلقاً ، لأنّ الفتح وإن كان تعليماً ، لكنّه ليس بعمل كثير ، وأنّه تلاوة حقيقيّة فلا يكون مفسداً ، وإن لم يكن محتاجاً إليه ، وصحّح في الظّهيريّة أنّه لا تفسد صلاة الفاتح على كلّ حال ، وتفسد صلاة الإمام ، إذا أخذ من الفاتح بعد أن انتقل إلى آية أخرى ، وفي الكافي : لا تفسد صلاة الإمام أيضاً .
والحاصل أنّ الفتح على إمامه لا يوجب فساد صلاة أحد لا الفاتح ، ولا الآخذ في الصّحيح ، ويكره للمقتدي أن يعجل بالفتح ، ويكره للإمام أن يلجئهم إليه بأن يسكت بعد الحصر ، أو يكرّر الآية ، بل يركع إذا جاء أوانه ، أو ينتقل إلى آية أخرى ليس في وصلها ما يفسد الصّلاة ، أو ينتقل إلى سورة أخرى .
واختلفت الرّوايات في أوان الرّكوع ، ففي بعضها : اعتبر أوانه إذا قرأ المستحبّ ، وفي بعضها : اعتبر فرض القراءة : أي إذا قرأ مقدار ما يجوز به الصّلاة ركع .
وإن فتح المصلّي على غير إمامه فسدت صلاته لأنّه تعليم وتعلّم ، فكان من جنس كلام النّاس ، إلاّ إذا نوى التّلاوة ، فإن نوى التّلاوة لا تفسد صلاته عند الكلّ ، وتفسد صلاة الآخذ ، إلاّ إذا تذكّر قبل تمام الفتح ، وأخذ في التّلاوة قبل تمام الفتح فلا تفسد وإلاّ فسدت صلاته ، لأنّ تذكّره يضاف إلى الفتح .
قال ابن عابدين : إن حصل التّذكّر بسبب الفتح تفسد مطلقاً ، سواء أشرع في التّلاوة قبل تمام الفتح أم بعده ، لوجود التّعلّم ، وإن حصل تذكّره من نفسه لا بسبب الفتح لا تفسد مطلقاً ، وكون الظّاهر أنّه حصل بالفتح لا يؤثّر بعد تحقّق أنّه من نفسه ، ويشمل هذا إذا كان المفتوح عليه مصلّياً أو غير مصلّ ، وإن سمع المؤتمّ ممّن ليس في الصّلاة ففتح به على إمامه فسدت صلاة الكلّ ، لأنّ التّلقين من خارج ، وفتح المراهق كالبالغ فيما ذكر . هذا كلّه قول أبي حنيفة ومحمّد ، وقال أبو يوسف : إنّ الفتح على الإمام لا يكون مفسداً للصّلاة ، فلا تفسد صلاة الفاتح مطلقاً ، لأنّه قراءة فلا تتغيّر بقصد القارئ .
وقال المالكيّة : إذا أرتج على الإمام في الفاتحة يجب على المأموم أن يفتح عليه على القول بأنّ قراءة الفاتحة تجب في الصّلاة كلّها أو جلّها .
أمّا على القول بأنّ الفاتحة تجب في جلّ الصّلاة لا في كلّها ، وحصل الرّتاج بعد قراءة الفاتحة في جلّ الصّلاة ، كأن يقف في ثالثة الثّلاثيّة ، أو رابعة الرّباعية ، فالفتح عليه سنّة ، أمّا صلاة الإمام فصحيحة مطلقاً ، لأنّه كمن طرأ له العجز عن ركن في أثناء الصّلاة ، أمّا في غير الفاتحة فيسنّ الفتح عليه إن وقف حقيقةً : بأن استفتح ولم ينتقل لغير سورة ولم يكرّر آيةً ، أو وقف حكماً : بأن ردّد آيةً ، إذ يحتمل أن يكون للتّبرّك أو التّلذّذ بها ، ويحتمل للاستطعام ، كقوله : " واللّه " ويكرّرها أو يسكت فيعلم أنّه لا يعلم أنّ بعدها " غفور رحيم " .(/1)
ومن الحكميّ أيضاً : خلط آية رحمة بآية عذاب ، أو تغييره آيةً تغييراً يقتضي الكفر ، أو وقفه وقفاً قبيحاً فيفتح عليه بالتّنبيه على الصّواب ، ولا سجود عليه للفتح على إمامه ، وأمّا إن انتقل إلى آية أخرى من غير الفاتحة ، أو لم يقف فيكره الفتح عليه حينئذ ولا تبطل صلاة الفاتح ولا سجود عليه .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الفتح على الإمام مستحبّ ، قال النّوويّ : إذا أرتج على الإمام ووقفت عليه القراءة استحبّ للمأموم تلقينه ، وكذا إذا كان يقرأ في موضع فسها وانتقل إلى غيره استحبّ تلقينه ، وإذا سها عن ذكر فأهمله ، أو قال غيره استحبّ للمأموم أن يقوله جهراً ليسمعه ، واستدلّوا بما روي عن أنس رضي الله عنه : « كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلقّن بعضهم بعضاً في الصّلاة » .
والأخبار السّابقة في مشروعيّة الفتح على الإمام .
ولا يقطع الفتح على الإمام موالاة الفاتحة ، لأنّه في مصلحة الصّلاة ، فلا يجب استئنافها ، وإن كان التّوقّف في قراءة غير الفاتحة ، لأنّه إعانة للإمام على القراءة المطلوبة .
ولا بدّ في الفتح عليه من قصد القراءة ، ولو مع الفتح ، وإلاّ بطلت صلاة الفاتح على المعتمد .
ويكون الفتح على الإمام إذا توقّف عن القراءة وسكت ، ولا يفتح عليه ما دام يردّد .
فإن لم يقصد القراءة بطلت صلاته على المعتمد إن كان عالماً ، وإلاّ فلا تبطل ، لأنّها ممّا يخفى على العوّام غالباً ، والفتح مندوب عندهم ولو في القراءة الواجبة ، وفي حاشية القليوبيّ : وفيه نظر في القراءة الواجبة في الرّكعة الأولى من الجمعة ، وقياس نظائره الوجوب في هذه ، وأنّه لا يقطع موالاة الفاتحة وإن طال ، وهو كذلك على المعتمد .
وقال الحنابلة : إذا أرتج على الإمام في القراءة الواجبة كالفاتحة لزم من وراءه الفتح عليه ، وكذا إن غلط في الفاتحة ، لتوقّف صحّة صلاته على ذلك ، كما يجب عليه تنبيهه عند نسيان سجدة ونحوها من الأركان الفعليّة .
وإن عجز المصلّي عن إتمام الفاتحة بالإرتاج عليه فكالعاجز عن القيام في أثناء الصّلاة ، يأتي بما يقدر عليه ، ويسقط عنه ما عجز عنه ، ولا يعيدها كالأمّيّ ، فإن كان إماماً صحّت صلاة الأمّيّ خلفه لمساواته له ، والقارئ يفارقه للعذر ويتمّ لنفسه ، لأنّه لا يصحّ ائتمام القارئ بالأمّيّ ، هذا قول ابن عقيل ، وقال الموفّق : والصّحيح أنّه إذا لم يقدر على قراءة الفاتحة تفسد صلاته .
ولا يفتح المصلّي على غير إمامه مصلّياً كان أو غيره ، لعدم الحاجة إليه فإن فعل كره ولم تبطل الصّلاة به ، لأنّه قول مشروع فيها .(/2)
فَخْذ*
التّعريف :
1 - الفخِْذ في اللّغة - بكسر الخاء وتسكينها - قطعة من أعضاء الجسم ، وهي ما فوق الرّكبة إلى الورك ، أو هي وصل ما بين السّاق والورك ، والفخذ مؤنّثة والجمع أفخاذ . والفخذ أيضاً اسم دون القبيلة وفوق البطن ، وهو بهذا المعنى مذكّر ، لأنّه بمعنى النّفر . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ما يتعلّق بالفخذ من أحكام :
وردت أحكام الفخذ في عدّة مواطن منها :
أ - العورة :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ فخذ المرأة الحرّة عورة ، واختلفوا في اعتبار فخذ الرّجل عورةً :
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فخذ الرّجل عورة ، ويجب سترها ، سواء في الصّلاة أو في خارجها .
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضي الله عنهم قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظرنّ إلى شيء من عورته ، فإنّ ما أسفل من سرّته إلى ركبتيه من عورته » ، فإذا كشف الرّجل فخذه بطلت صلاته عند الجمهور إلاّ المالكيّة ، فيقولون بعدم بطلان الصّلاة بكشف الفخذ أو الفخذين .
وذهب جماعة من العلماء ومن بينهم عطاء وداود ، ومحمّد بن جرير وأبو سعيد الإصطخريّ من الشّافعيّة - وهو رواية أحمد - إلى أنّ الفخذ ليس من العورة .
لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه ، أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه فأذن له وهو على تلك الحال فتحدّث ثمّ استأذن عمر رضي الله عنه فأذن له وهو كذلك ، ثمّ استأذن عثمان رضي الله عنه ، فجلس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه .. » الحديث وفي آخره فقال صلى الله عليه وسلم : « ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة » .
والتّفصيل في مصطلح ( عورة ) .
ب - المفاخذة :
3 - يحرم على الرّجل مفاخذة المرأة الأجنبيّة ، ويجب فيها التّعزير ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا يترتّب على المفاخذة أحكام الوطء والجماع ، من وجوب الغسل ، وإفطار الصّائم ، ووجوب الكفّارة فيه ، وقطع التّتابع في صوم كفّارة الظّهار مثلاً ، وإفساد الاعتكاف ، والحجّ والعمرة به ، وصيرورة البنت ثيّباً به ، ووجوب الصّداق به ، وكذا العدّة والرّجعة والاستبراء وتحليل المطلّقة ثلاثاً للّذي طلّقها ، وسقوط الإيلاء عن المولي ، وثبوت برّ من حلف أن يطأ وحنث من حلف أن لا يطأ ، وثبوت إحصان الزّوج به ، ووجوب حدّ الزّنا ، وغير ذلك من المسائل الشّرعيّة الّتي يشترط لثبوت أحكامها حصول الوطء ، وهو تغييب حشفة أو قدرها من الذّكر في الفرج ، فلا يثبت شيء من هذه الأحكام بالمفاخذة ولا بالمضاجعة ، ولا بمقدّمات الوطء الأخرى .
ج - في القصاص :
4 - ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة إلى وجوب القصاص في قطع الرّجل من أصل الفخذ وهو الورك ، لانضباطه وإمكان المماثلة به .
ونقل عن بعض الشّافعيّة : عدم وجوب القصاص فيها إذا لم يمكن القصاص إلاّ بإجافة . واتّفق الفقهاء على أنّه لا قصاص في كسر عظم الفخذ ، لعدم الوثوق بالمماثلة ، لأنّ الكسر لا يدخل تحت الضّبط وقد ينتج عن القصاص به زيادة عقوبة الجاني وهو معصوم الدّم ، إلاّ في قدر جنايته ، قال تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } ، وقال عزّ من قائل : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } .
وصرّح الشّافعيّة والحنابلة في وجه : أنّ للمجنيّ عليه قطع أقرب مفصل إلى أسفل الفخذ وهو مفصل الرّكبة ، لأنّ فيه استيفاء بعض الحقّ ، وله - عند ذلك - حكومة الباقي ، لأنّه لم يأخذ عوضاً عنها ، وهذا إذا قطعت رجله بسبب الكسر .
والتّفصيل في مصطلحات : ( قصاص ، قود ، عظم ) .(/1)
فَرْج *
التّعريف :
1 - الفرج في اللّغة : اسم لجمع سوآت الرّجال والنّساء ، وكذلك من الدّوابّ ونحوها من الخلق .
وقال الفيّوميّ : الفرج من الإنسان يطلق على القبل والدّبر ، لأنّ كلّ واحد منفرج أي منفتح ، وأكثر استعماله في العرف في القبل .
والفرج أيضاً الخلل بين الشّيئين ، والثّغر المخوف ، والعورة .
واصطلاحاً : قال ابن عابدين من الحنفيّة : إنّ الفرج لا يشمل الدّبر لغةً ، وإنّما يشمله حكماً ، ووافقه على ذلك الحطّاب من المالكيّة حيث صرّح بأنّ الفرج حيث أطلقته العرب فلا يريدون به إلاّ القبل .
وقال النّوويّ : قال أصحابنا : الفرج يطلق على القبل والدّبر من الرّجل والمرأة .
الأحكام المتعلّقة بالفرج :
للفرج - بما يشمل القبل والدّبر - أحكام خاصّة في الفقه الإسلاميّ منها :
الفرج عورة :
2 - أجمع العلماء على أنّ الفرج من العورة ، بل هو أشدّها . وهو عورة مغلّظة .
والتّفصيل في مصطلح ( عورة ) .
رطوبة فرج المرأة :
3 - رطوبة فرج المرأة هي ماء أبيض متردّد بين المذي والعرق يخرج من فرج المرأة . وذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة رطوبة الفرج الخارجة من باطنه ، لأنّها حينئذ رطوبة داخليّة ، أمّا الخارجة من ظاهر الفرج وهو ما يجب غسله في الغسل والاستنجاء فهي طاهرة .
وذهب أبو حنيفة والحنابلة : إلى طهارة رطوبة الفرج مطلقاً .
والتّفصيل في مصطلح ( نجاسة ) .
الوضوء من مسّ الفرج :
4 - اختلف الفقهاء في نقض الوضوء بمسّ الفرج :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ مسّ الفرج بالكفّ في الجملة ينقض الوضوء ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من مسّ فرجه فليتوضّأ » .
وحديث بسرة بنت صفوان أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من مسّ ذكره فلا يصلّ حتّى يتوضّأ » .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضّأ » .
وقد روي ذلك عن بضعة عشر صحابيّاً ، وهذا لا يدرك بالقياس ، فعلم أنّهم قالوه عن توقيف .
واشترطوا للنّقض عدم الحائل ، للحديث .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ مسّ الفرج لا ينقض الوضوء ، لما روى طلق بن عليّ الحنفيّ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يمسّ ذكره بعدما يتوضّأ ؟ قال : وهل هو إلاّ مضغة منه أو بضعة منه » .
قالوا : لكن من مسّ ذكره يغسل يده ندباً لحديث : « من مسّ ذكره فليتوضّأ » أي ليغسل يده ، جمعاً بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم : « هل هو إلاّ مضغة منه » .
ثمّ ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ النّاقض هو مسّ ذكر الرّجل وقبل المرأة ، وكذا حلقة الدّبر عند الحنابلة وفي الجديد عند الشّافعيّة .
والمراد بالفرج الّذي بمسّه ينتقض الوضوء عند المالكيّة الذّكر فقط ، فلا نقض عندهم بمسّ المرأة فرجها إلاّ إن قبضت عليه أو أدخلت يدها فيما بين الشّفرين ، فإنّه ينقض الوضوء عندهم اتّفاقاً .
5 - واختلف الفقهاء أيضاً في نقض الوضوء بمسّ الفرج المقطوع أو محلّه :
فذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم نقض الوضوء بمسّ الفرج المقطوع ، لذهاب حرمته ، وكذا مسّ محلّه ، لأنّه لا يسمّى فرجاً .
واستثنى الحنابلة مسّ الفرج البائن من المرأة ، فإنّه ينقض .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ مسّ الذّكر المنفصل - كلّه أو بعضه - ينقض الوضوء إلاّ ما قطع في الختان ، إذ لا يقع عليه اسم الذّكر .
وأمّا الدّبر وقبل المرأة فإن بقي اسمهما بعد قطعهما نقض الوضوء بمسّهما ، وإلاّ فلا ، لأنّ الحكم منوط بالاسم .
وينتقض الوضوء عندهم أيضاً بمسّ محلّ قطع الفرج .
والتّفصيل في مصطلح : ( وضوء ) .
وطء الحائض والنّفساء والمستحاضة في الفرج :
6 - اتّفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض والنّفساء في الفرج ، لقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح » ، ولأنّ دم النّفاس ما هو إلاّ دم حيض محتبس لأجل الحمل ، فكان حكمه حكم الحيض .
واستثنى الحنابلة من به شبق لا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج ، ولا يجد غير الحائض .
7 - واختلف الفقهاء في جواز وطء المستحاضة في الفرج :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأحمد في رواية إلى جواز وطء المستحاضة في الفرج ، لما روى عكرمة عن حمنة بنت جحش : أنّها كانت مستحاضةً وكان زوجها يجامعها . وذهب الحنابلة إلى حرمة وطء المستحاضة إلاّ أن يخاف العنت .
( ر : استحاضة ف 26 ، ووطء ) .
عصب المستحاضة فرجها للصّلاة :
8 - إذا أرادت المستحاضة الصّلاة غسلت فرجها قبل الوضوء وحشته بقطنة وخرقة دفعاً للنّجاسة وتقليلاً لها ، فإن كان دمها قليلاً يندفع بذلك وحده فلا شيء عليها غيره ، وإن لم يندفع بذلك وحده شدّت مع ذلك على فرجها وتلجّمت .
والأصل في ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش رضي الله تعالى عنها: « أنعت لك الكرسف ، فإنّه يذهب الدّم فقالت : هو أكثر من ذلك ، فقال : فتلجّمي » .
فساد الصّوم بإدخال شيء في الفرج :
9 - اختلف الفقهاء في فساد الصّوم بإدخال شيء في الفرج أو عدم فساده ، كما اختلفوا فيما يجب في حال إفساد الصّوم بشيء من ذلك :
فذهب الحنفيّة إلى أنّ جماع الصّائم غير النّاسي في الفرج يوجب القضاء ، وأمّا الكفّارة فلا تجب مع ذلك إلاّ إذا توفّرت الشّروط الآتية :
1 - أن يكون عامداً .
2 - أن يكون مكلّفاً .
3 - أن يكون مختاراً .
4 - أن لا يطرأ عليه شيء مبيح للفطر كحيض ومرض بغير صنعه .(/1)
5- أن يكون قد نوى الصّيام ليلاً .
6- أن يكون الصّوم في نهار رمضان .
7- أن يكون أداءً .
8- أن يكون المفعول به آدميّاً فلا يجب في الجنّ .
9- أن يكون مشتهىً على الكمال فلا كفّارة بجماع بهيمة أو ميتة ولو أنزل ، وبجماع الصّغيرة خلاف ، فالأوجه عندهم أن لا كفّارة بجماعها .
10 - أن تتوارى الحشفة في الفرج .
11 - أن يكون الجماع في الفرج ، أمّا الجماع في الدّبر فلا يوجب الكفّارة فيما رواه الحسن عن أبي حنيفة ، لقصور الجناية ، لأنّ المحلّ مستقذر ومن له طبيعة سليمة لا يميل إليه ، وفيما روى أبو يوسف عنه تجب الكفّارة في الدّبر ، قال الزّيلعيّ : وهو الأصحّ .
وقال ابن عابدين : وهو الصّحيح .
وتجب الكفّارة على المرأة إذا جامعها صبيّ أو مجنون ، وإذا أدخلت في فرجها عوداً أو أصبعاً أو نحوهما ، أو أدخل رجل أو امرأة نحو ذلك في دبرهما ، فإن كان الأصبع مبتلّةً أو غيّب العود ونحوه في الفرج أو الدّبر فسد الصّوم ، أمّا إذا كانت الأصبع يابسةً أو بقي طرف العود أو نحوه خارج الفرج أو الدّبر فلا يفسد الصّوم ، قال الزّيلعيّ : لو أدخلت الصّائمة أصبعها في فرجها أو دبرها لا يفسد على المختار ، إلاّ أن تكون مبلولةً بماء أو دهن .
وذهب المالكيّة إلى أنّ كلّ ما يصل إلى جوف الصّائم عن طريق الفرج أو الدّبر يفسد الصّيام الواجب والتّطوّع ، ويوجب القضاء والكفّارة ، سواء كان ذلك بجماع أو غيره إذا توفّرت فيه الشّروط التّالية :
1 - أن يكون الجماع موجباً للغسل ، فوطء الصّغيرة الّتي لا تطيق الوطء لا قضاء فيه ولا كفّارة إذا لم يحصل منه منيّ ولا مذي ، ولا قضاء ولا كفّارة كذلك على امرأة وطئها صبيّ ولم تنزل .
2 - أن يكون متعمّداً .
3 - أن يكون مختاراً .
4 - أن يكون عالماً بحرمة الموجب الّذي فعله ، ولا يشترط أن يعلم وجوب الكفّارة عليه .
5- أن يكون الصّوم الّذي أفسده في رمضان الحاضر ، ولا تجب الكفّارة ، في أضداد هذه الشّروط ومحترزاتها ، وإنّما يجب القضاء .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لو وصل إلى جوف الصّائم شيء عن طريق الفرج أو الدّبر بطل صومه ، قال النّوويّ : لو أدخل الرّجل أصبعه أو غيرها دبره أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيرها دبرها أو قبلها ... بطل الصّوم باتّفاق أصحابنا ، ثمّ قال : قال أصحابنا : وينبغي للصّائمة أن لا تبالغ بأصبعها في الاستنجاء ، فالّذي يظهر من فرجها إذا قعدت لقضاء الحاجة له حكم الظّاهر فيلزمها تطهيره ولا يلزمها مجاوزته ، فإن جاوزته بإدخال أصبعها زيادةً عليه بطل صومها ، ولا كفّارة عندهم إلاّ على من بطل صومه بجماع أثم به في نهار رمضان بسبب الصّوم ، فلا كفّارة على ناس أو مكره أو جاهل التّحريم ، ولا على مفسد غير رمضان ، أو بغير الجماع ، ولا على مسافر جامع بنيّة التّرخّص ، وكذا بغيرها في الأصحّ ، ولا على من ظنّ اللّيل فبان نهاراً ، ولا على من جامع بعد الأكل ناسياً وظنّ أنّه أفطر به ، ولا على من زنى ناسياً .
وعند الحنابلة : يجب القضاء والكفّارة بالجماع في الفرج في نهار رمضان ، سواء أنزل أو لم ينزل ، أو كان الجماع دون الفرج وأنزل عامداً أو ساهياً مختاراً أو مكرهاً ، وفي رواية أخرى عن أحمد : أنّ الجماع دون الفرج وإذا اقترن به الإنزال فلا كفّارة فيه ، وظاهر المذهب : أنّ من جامع ناسياً كالعامد في وجوب الكفّارة .
ولا فرق بين الجماع في القبل أو الدّبر من ذكر أو أنثى في وجوب الكفّارة .
واختلف في الوطء في فرج البهيمة ، فذكر القاضي أنّه موجب للكفّارة ، لأنّه وطء في فرج موجب للغسل مفسد للصّوم فأشبه وطء الآدميّة ، وذكر أبو الخطّاب أنّه لا تجب به الكفّارة ، لأنّه لا نصّ فيه ، ومخالف لوطء الآدميّة في إيجاب الحدّ على إحدى الرّوايتين وفي كثير من أحكامه .
ولا فرق بين كون الموطوءة زوجاً أو أجنبيّةً أو كبيرةً أو صغيرةً ، ويفسد صوم المرأة ويجب عليها القضاء دون الكفّارة بإدخال أصبعها أو أصبع غيرها في فرجها ، وقال بعض الحنابلة لا يفسد صومها إلاّ بالإنزال .
نظر كلّ من الزّوجين إلى فرج الآخر :
10 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز نظر كلّ من الزّوجين إلى فرج الآخر مطلقاً ، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال : قلت : يا رسول اللّه عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ، قال : « احفظ عورتك إلاّ من زوجك أو ما ملكت يمينك » ، ولأنّ الفرج محلّ الاستمتاع ، فجاز النّظر إليه كبقيّة البدن .
لكن صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّ الأولى أدباً ترك النّظر إلى الفرج ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرّد تجرّد العيرين » ، ولقول عائشة رضي الله عنها : « ما نظرت أو ما رأيت فرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قطّ » وفي لفظ قالت : « ما رأيته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا رآه منّي » .
وذهب الشّافعيّة إلى كراهة نظر كلّ من الزّوجين الفرج من الآخر ومن نفسه بلا حاجة ، لحديث عائشة ، وتشتدّ الكراهة بالنّظر إلى باطن الفرج ، وقالوا : إنّه لا يكره النّظر في حالة الجماع بل يجوز .
لمسّ فرج الزّوجة :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للزّوج مسّ فرج زوجته .
قال ابن عابدين : سأل أبو يوسف أبا حنيفة عن الرّجل يمسّ فرج امرأته وهي تمسّ فرجه ليتحرّك عليها هل ترى بذلك بأساً قال : لا ، وأرجو أن يعظم الأجر .
وقال الحطّاب : قد روي عن مالك أنّه قال لا بأس أن ينظر إلى الفرج في حال الجماع ، وزاد في رواية ويلحسه بلسانه ، وهو مبالغة في الإباحة ، وليس كذلك على ظاهره .(/2)
وقال الفنانيّ من الشّافعيّة : يجوز للزّوج كلّ تمتّع منها بما سوى حلقة دبرها ، ولو بمصّ بظرها .
وصرّح الحنابلة بجواز تقبيل الفرج قبل الجماع ، وكراهته بعده .
إتيان الزّوجة في دبرها :
12 - اتّفق الفقهاء على حرمة إتيان الزّوجة في دبرها .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ ، فلا تأتوا النّساء في أدبارهنّ » .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( وطء ) .
أثر النّظر إلى الفرج في التّحريم :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم حرمة المصاهرة بالنّظر إلى الفرج ، وانفرد الحنفيّة بالقول بثبوت حرمة المصاهرة بالنّظر إلى الفرج بشهوة ، وعلى ذلك فلو نظرت المرأة إلى ذكر رجل بشهوة ، أو نظر هو إلى فرجها بشهوة تعلّقت بهما حرمة المصاهرة ما لم ينزل ، فلو أنزل فلا حرمة ، لأنّ النّظر مؤدّ إلى الجماع غالباً فأقيم مقامه . فإذا أنزل علم أنّه لم يؤدّ إليه فلا حرمة ، وللشّرع مزيد اعتناء في حرمة الأبضاع ، ومن ذلك أنّه أقام شبهة البعضيّة بسبب الرّضاع مقام حقيقتها في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام من التّوارث ، ومنع أداء الزّكاة ، ومنع قبول الشّهادة ، فأقيم السّبب الدّاعي مقام المدعوّ احتياطاً .
والمعتبر عندهم النّظر إلى الفرج الدّاخل ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ عند اتّكاء المرأة ، وهو ظاهر الرّواية ، وعن أبي يوسف : النّظر إلى منابت الشّعر محرّم .
وقال محمّد : أن ينظر إلى الشّقّ .
ووجه ظاهر الرّواية أنّ هذا حكم تعلّق بالفرج ، والدّاخل فرج من كلّ وجه ، والخارج فرج من وجه ، وأنّ الاحتراز عن النّظر إلى الفرج الخارج متعذّر فسقط اعتباره .
فسخ النّكاح بعيب الفرج :
14 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى ثبوت الخيار في النّكاح لكلّ من الزّوجين بعيب من عيوب الفرج كالقرن والرّتق والعفل للمرأة ، والجبّ والخصاء والعنّة للرّجل ، فعن سليمان بن يسار : أنّ ابن سند تزوّج امرأةً وهو خصيّ ، فقال له عمر : أعلمتها ؟ قال : لا ، قال : أعلمها ثمّ خيّرها ولأنّه عيب يمنع الوطء الّذي هو مقصود النّكاح .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لواحد من الزّوجين خيار فسخ النّكاح بعيب في فرج الآخر ، وهو قول عطاء والنّخعيّ وعمر بن عبد العزيز وأبي زياد وأبي قلابة وابن أبي ليلى والأوزاعيّ والثّوريّ .
وروي عن عليّ قوله : لا تردّ الحرّة بعيب .
وعن ابن مسعود : لا ينفسخ النّكاح بعيب .
وللزّوجة عند الحنفيّة طلب التّفريق لعيب في فرج زوجها ، وهو العنّة والخصاء والجبّ ، وليس ذلك للزّوج ، لأنّ الطّلاق بيده .
والتّفصيل في مصطلح ( طلاق ف 93 ، 94 ) .
النّظر إلى الفرج لأجل التّداوي :
15 - اتّفق الفقهاء على جواز النّظر للتّطبيب إلى موضع المرض ، حتّى وإن كان في موضع الفرج ، ولا بدّ أن يكون النّظر حينئذ بقدر الضّرورة ، إذ الضّرورات تقدّر بقدرها . وقال ابن عابدين نقلاً عن الجوهرة : إذا كان المرض في سائر بدنها غير الفرج يجوز النّظر إليه عند الدّواء ، لأنّه موضع ضرورة ، وإن كان في موضع الفرج فينبغي أن تعلم امرأة تداويها ، فإن لم توجد وخافوا عليها أن تهلك أو يصيبها وجع لا تحتمله يستروا منها كلّ شيء إلاّ موضع العلّة ثمّ يداويها الرّجل ويغضّ بصره ما استطاع إلاّ عن موضع الجرح ، وينبغي هنا للوجوب .
وقال الشّربينيّ الخطيب : ويشترط عدم امرأة يمكنها تعاطي ذلك من امرأة وعكسه ، وأن لا يكون ذمّيّاً مع وجود مسلم ، وقياسه ما قال الأذرعيّ : أن لا تكون كافرةً أجنبيّةً مع وجود مسلمة على الأصحّ ، ولو لم نجد لعلاج المرأة إلاّ كافرةً ومسلماً فالظّاهر كما قال الأذرعيّ أنّ الكافرة تقدّم ، لأنّ نظرها ومسّها أخفّ من الرّجل .
وفي كتب الحنابلة : ولطبيب نظر ولمس ما تدعو الحاجة إلى نظره ولمسه حتّى فرجها ، وظاهره ولو ذمّيّاً .
دية الفرج :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ في الذّكر أو الحشفة دية كاملة وفي شفر فرج المرأة نصف الدّية ، وفي الشّفرين دية كاملة .
كما تجب الدّية كاملةً في إفضاء المرأة عند جمهور الفقهاء .
وقال الحنابلة : في الإفضاء ثلث الدّية .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( ديات ف 38 ، 40 ، 51 ) .
الختان :
17 - الختان في الرّجل : قطع الجلدة الّتي تغطّي الحشفة ، بحيث تنكشف الحشفة كلّها ، وفي المرأة ويسمّى خفاضاً قطع ما ينطلق عليه الاسم من الجلدة الّتي كعرف الدّيك فوق مخرج البول .
وهو سنّة عند الحنفيّة والمالكيّة في الرّجال ، مكرمة في النّساء ، وقيل هو سنّة عند الحنفيّة في النّساء أيضاً ، وواجب عند الشّافعيّة في الصّحيح والحنابلة في الرّجال والنّساء والتّفصيل في مصطلح ( ختان ف 2 ، 3 ) .
الأصل في الأبضاع التّحريم :
18 - من القواعد الفقهيّة المقرّرة قاعدة أنّ الأصل في الأبضاع التّحريم .
فإذا تقابل في المرأة حلّ وحرمة غلبت الحرمة ، ولهذا لا يجوز التّحرّي في الفروج كما يقول ابن نجيم ، وهو عبارة عن طلب الشّيء بغالب الرّأي عند تعذّر الوقوف على حقيقته . قال السّيوطيّ : ولهذا امتنع الاجتهاد فيما إذا اختلطت محرّمة بنسوة قرية محصورات ، لأنّه ليس أصلهنّ الإباحة حتّى يتأيّد الاجتهاد باستصحابه ، وإنّما جاز النّكاح في صورة غير المحصورات رخصةً من اللّه لئلاّ ينسدّ باب النّكاح عليه .
وفي مبسوط السّرخسيّ : إذا طلّق إحدى نسائه بعينها ثلاثاً ثمّ نسيها ، وكذلك إن متن كلّهنّ إلاّ واحدةً لم يسعه أن يقربها حتّى يعلم أنّها غير المطلّقة .(/3)
وصرّح ابن نجيم بأنّ هذه القاعدة إنّما هي فيما إذا كان في المرأة سبب محقّق للحرمة ، فلو كان في الحرمة شكّ لم يعتبر ، ولذا قالوا لو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيعة ووقع الشّكّ في وصول اللّبن إلى جوفها لم تحرم ، لأنّ في المانع شكّاً .(/4)
فَرْض *
التّعريف :
1 - الفرض لغةً : من فرضت الشّيء أفرضه فرضاً : أوجبته وألزمت به .
ويأتي الفرض بمعنى التّقدير ، فيقال : فرض القاضي النّفقة فرضاً بمعنى : قدّرها ، والفرض كلّ شيء تفرضه ، فتوجبه على إنسان بقدر معلوم ، والاسم الفريضة .
واصطلاحاً : عرّف الحنفيّة الفرض بأنّه ما عرف وجوبه بدليل قطعيّ موجب للعلم والعمل قطعاً ، أمّا ما عرف وجوبه بدليل ظنّيّ فهو الواجب عندهم .
الفرق بين الفرض والواجب :
2 - الفرض والواجب عند الجمهور بمعنىً واحد إلاّ في الحجّ .
ويدور اللّفظان عندهم على معنى الثّبوت والتّقدير مطلقاً ، وهو أعمّ من أن يثبت بدليل قطعيّ أو ظنّيّ .
وذهب الحنفيّة وأحمد في رواية إلى التّفريق بين الفرض والواجب ، فمدار الفرض عندهم لغةً على القطع ، وشرعاً على ما ثبت بدليل موجب للعلم قطعاً من الكتاب أو السّنّة المتواترة أو الإجماع ، ومدار الواجب عندهم لغةً على السّقوط واللّزوم ، وشرعاً على ما يكون دليله موجباً للعلم ، فيثبت الواجب عندهم بدليل ظنّيّ .
ويظهر أثر التّفريق بين الفرض والواجب عند الحنفيّة في أنّ جاحد الفرض كافر ، لأنّه أنكر ما وجب عليه اعتقاد فرضيّته قطعاً ، ولا يكفر جاحد الواجب ، لأنّ دليله لا يوجب الاعتقاد ، وإنّما يوجب العمل ، ولذا يفسّق تاركه ، ومثال الأوّل الصّلوات الخمس ، فإنّها فرض علميّ وعمليّ ، ومثال الثّاني صلاة الوتر عند أبي حنيفة فهي فرض عمليّ ، ويقال له : فرض عملاً ، واجب اعتقاداً ، وسنّة ثبوتاً .
وللتّفصيل انظر الملحق الأصوليّ
تقسيم الفرض بحسب المكلّف به :
3 - ينقسم الفرض باعتبار المكلّف به إلى : فرض كفاية ، وفرض عين .
أمّا فرض الكفاية : فهو ما يقصد حصوله من غير نظر بالذّات إلى فاعله ، فهو واجب على الكلّ ، ويسقط الوجوب بفعل البعض ، ويأثم الكلّ بتركه .
وأمّا فرض العين : فهو المنظور بالذّات إلى فاعله .
وذكر العلماء من أمثلة فرض الكفاية الدّينيّ : صلاة الجنازة ، والأمر بالمعروف ، وإقامة الحجج والبراهين القاطعة على إثبات الصّانع ، وإثبات النّبوّات ، والاشتغال بعلوم الشّرع من تفسير وحديث وفقه ، وتولّي القضاء والإفتاء .
ومن أمثلة فرض الكفاية الدّنيويّ : الحرف والصّنائع ، وما به قوام العيش كالبيع والشّراء .
4 - وذكر العلماء جملةً من الفروق بين فرض الكفاية وفرض العين وهي :
أ - أنّ فروض الكفاية أمر كلّيّ تتعلّق بها مصالح دينيّة ودنيويّة لا ينتظم الأمر إلاّ بحصولها ، فقصد الشّارع تحصيلها ، ولا يقصد تكليف الآحاد وامتحانهم بها ، بخلاف فروض الأعيان فإنّ الكلّ مكلّفون بها ممتحنون بتحصيلها .
ب - المصلحة من فروض الأعيان تتكرّر بتكرّرها كالصّلاة مثلاً ، فإنّ مصلحة الخضوع للّه تعالى والتّذلّل تتكرّر كلّما تكرّرت الصّلاة ، فشرع هذا القسم على الأعيان تكثيراً للمصلحة . أمّا المصلحة من فروض الكفاية فلا تتكرّر بتكرّرها ، كإنقاذ الغريق فإنّ النّازل إلى البحر بعد إنقاذه لا يحصّل شيئاً من المصلحة ، فجعله الشّارع على الكفاية نفياً للعبث في الأفعال ، ككسوة العريان وإطعام الجوعان .
ج - أنّ فرض العين يلزم بالشّروع إلاّ لعذر باتّفاق الفقهاء ، وكذلك فرض الكفاية خلافاً للشّافعيّة ، فلا يلزم فرض الكفاية بالشّروع إلاّ في الجهاد والجنازة والحجّ تطوّعاً عندهم فإنّه لا يقع إلاّ فرض كفاية .
د - أنّ من ترك فرض عين أجبر عليه وفي فرض الكفاية خلاف كما في تولّي القضاء وكفالة اللّقيط وغيرها .
المفاضلة بين فرض العين وفرض الكفاية :
5 - ذهب أبو إسحاق الإسفرايينيّ وإمام الحرمين إلى أنّ للقيام بفرض الكفاية أفضليّةً على القيام بفرض العين من حيث إنّ في أدائه إسقاطاً للحرج عن نفسه وعن المسلمين .
وذهب ابن عابدين والجلال المحلّيّ في شرحه على جمع الجوامع إلى أنّ القيام بفرض العين أفضل ، لشدّة اعتناء الشّارع به بقصد حصوله من كلّ مكلّف ، ولأنّه مفروض حقّاً للنّفس فهو أهمّ عندها وأكثر مشقّةً ، ونقل العطّار في حاشيته من كلام الإمام الشّافعيّ والأصحاب ما يؤيّد ذلك ، فقد قالوا : إنّ قطع الطّواف المفروض لصلاة الجنازة مكروه ، وعلّلوه بأنّه لا يحسن ترك فرض العين لفرض الكفاية ، فإذا ازدحم فرض الكفاية وفرض العين في وقت واحد لا يسع إلاّ أحدهما وجب تقديم فرض العين إلاّ إذا كان له بدل ، كما في سقوط الجمعة ممّن له قريب يمرّضه ، بل قالوا : لو اجتمع جنازة وجمعة وضاق الوقت قدّمت الجمعة على المذهب ، وقدّم الشّيخ أبو محمّد الجنازة لأنّ للجمعة بدلاً .
وإن كان في الوقت متّسع فيقدّم فرض الكفاية ، كما لو اجتمع كسوف وفرض ، ولم يخف فوت الفرض ، قدّم الكسوف كي لا يفوت ، وكذلك يقدّم إنقاذ الغريق على إتمام الصّوم في حقّ صائم لا يتمكّن من إنقاذه إلاّ بالإفطار لخوف الفوات .
وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .(/1)
فَم *
التّعريف :
1 - الفم من الإنسان : فتحة ظاهرة في الوجه وراءها تجويف يحتوي على جهازي المضغ والنّطق .
ويستعمل لغير الإنسان والحيوان مجازاً ، فيقال : فم القربة وفم التّرعة : لمدخل الماء ، وفم الوادي : أوّله .
وفي الكلّيّات : الفم هو الوعاء الكلّيّ لأعضاء الكلام في الإنسان ، والتّصويت في سائر الحيوانات المصوّتة ، والشّفتان غطاؤه .
الأحكام المتعلّقة بالفم :
يتعلّق بالفم من الأحكام الفقهيّة ما يأتي :
أ - غسل الفم في الوضوء والغسل :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ ظاهر الشّفتين - وهو ما يظهر عند انضمامهما - جزء من الوجه ، ومن ثمّ يجب غسله في الوضوء والغسل .
واختلفوا في وجوب غسل باطن الفم في الوضوء والغسل :
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى أنّه لا يجب غسل باطن الفم في الوضوء ، بل يسنّ وذلك في المضمضة وكذا الحكم في الغسل عند المالكيّة والشّافعيّة . وقال الحنفيّة بفرضيّة غسل الفم - المضمضة - في الغسل .
وذهب الحنابلة إلى أنّ الفم من الوجه ، فتجب المضمضة في الوضوء والغسل لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « المضمضة والاستنشاق من الوضوء الّذي لا بدّ منه » .
وفي حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه : « إذا توضّأت فمضمض » .
ب - تغطية الفم في الصّلاة :
3 - اتّفق الفقهاء على كراهة التّلثّم في الصّلاة ، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطّي الرّجل فاه في الصّلاة » .
والتّلثّم عند الشّافعيّة هو تغطية الفم .
وقال الحنفيّة والحنابلة : هو تعطية الفم والأنف .
وهو عند المالكيّة ما يصل لآخر الشّفة السّفلى .
ج - تقبيل الفم :
4 - اتّفق الفقهاء على كراهة تقبيل الفم ، سواء في ذلك الرّجل مع الرّجل ، أو المرأة مع المرأة .
قال الحنابلة : لأنّه قلّ أن يقع كرامةً .
والكراهة عند الحنفيّة كراهة تحريميّة ، وذلك عندما يكون عن شهوة ، أمّا إن كان على وجه المبرّة والإكرام فجائز .
ومنع الحنابلة أن يقبّل الرّجل محارمه على الفم مطلقاً .
ومنعه الشّافعيّة أيضاً إن كان بلا حاجة ولا شفقة ، وأجازوه إن كان لهما .
وأجاز المالكيّة تقبيل ابنته أو أخته أو أمّه فمه إذا قدم من سفره ، أمّا تقبيل الزّوج فم زوجته والعكس فجائز بالاتّفاق .(/1)
فَقير *
التّعريف :
1 - الفقير في اللّغة ضدّ الغنيّ ، وهو من قلّ ماله ، والفقر ضدّ الغنى .
وفي الاصطلاح عرّفه الشّافعيّة والحنابلة بأنّه : من لا يملك شيئاً ألبتّة ، أو يجد شيئاً يسيراً من مال أو كسب لا يقع موقعاً من كفايته .
وعرّفه الحنفيّة : بأنّه من يملك دون نصاب من المال النّامي ، أو قدر نصاب غير نام مستغرق في حاجته .
وعرّفه المالكيّة : بأنّه من يملك شيئاً لا يكفيه قوت عامه .
الألفاظ ذات الصّلة :
المسكين :
2 - المسكين عند الحنفيّة والمالكيّة : من لا يملك شيئاً .
وعند الشّافعيّة : من قدر على مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته ولا يكفيه .
وقال قوم : إنّ الفقير والمسكين صنف واحد .
وعند الحنابلة : من يجد معظم الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره .
والصّلة بينهما أنّ كلاً من الفقير والمسكين اسم ينبئ عن الحاجة ، وأنّ كليهما من مصارف الزّكاة والصّدقات .
ما يتعلّق بالفقير من أحكام :
الفقير الّذي تعطى له الزّكاة :
3 - يشترط في الفقير الّذي تعطى له الزّكاة الشّروط الآتية :
أ - الإسلام : فلا يجوز صرف الزّكاة إلى كافر باتّفاق الفقهاء ، لحديث معاذ رضي الله عنه: « خذها من أغنيائهم وردّها في فقرائهم » أمر عليه الصلاة والسلام بوضع الزّكاة في فقراء من يؤخذ منهم ، وهم المسلمون ، فلا يجوز في غيرهم .
أمّا ما سوى الزّكاة من صدقة الفطر ، والكفّارات والنّذور فقد اختلف الفقهاء في جواز صرفها لفقراء أهل الذّمّة :
فذهب الجمهور إلى أنّه لا يجوز صرفها إلى فقراء أهل الذّمّة ، لأنّ فقيرهم كافر فلم يجز الدّفع إليه كفقراء أهل الحرب .
وذهب أبو حنيفة ومحمّد بن الحسن إلى جواز صرفها إلى فقراء أهل الذّمّة ، وقالا : إنّ اللّه سبحانه وتعالى قال : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } ، من غير فصل بين فقير وفقير ، وعموم هذا النّصّ يقتضي جواز صرف الزّكاة إليهم ، إلاّ أنّه خصّ منه زكاة المال ، لحديث معاذ المتقدّم ، ولأنّ صرف الصّدقة إلى أهل الذّمّة من باب إيصال البرّ إليهم ، وما نهينا عن ذلك ، قال تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ، وظاهر هذا النّصّ جواز صرف الزّكاة إليهم ، لأنّه برّ بهم ، إلاّ أنّ البرّ بطريق زكاة المال غير مراد ، لحديث معاذ ، فيبقى غيرها من طرق البرّ بهم جائزاً . وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( كفّارة ، ونذر ) .
ب - أن لا يكون من بني هاشم ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس » .
ج - أن لا يكون رقيقاً ، ولو كان سيّده فقيراً ، لأنّ نفقته واجبة على سيّده فهو غنيّ بغناه ، إلاّ المكاتب فإنّه يعطى له .
د - أن لا يكون مكفّياً بنفقة قريب ، أو زوج ، وفي ذلك خلاف للحنفيّة .
وللتّفصيل انظر : ( زكاة ف 61 ) .
4 - ولا يمنع الفقر : مسكن الفقير وثيابه وإن كانت للتّجمّل ، وخادمه الّذي يحتاج إليه ، وماله الغائب في مرحلتين ، وكسب لا يليق به ، وكتب العلم إن كان من أهله ، لأنّ هذه الأشياء من الحوائج اللازمة الّتي لا بدّ للإنسان منها .
وطالب العلم الّذي يمنعه الكسب عن طلب العلم فقير ، فتعطى له الزّكاة ، ويترك الكسب لتعدّي نفعه وعمومه ، بخلاف من تفرّغ للعبادة والنّوافل ، فلا تعطى له الزّكاة لقصور نفعها عليه ، فيجب عليه الاكتساب وتركها .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( طالب علم ف 4 ، زكاة ف 162 ) .
ولا يشترط في الفقير ليعطى الزّكاة : الزّمانة ، ولا التّعفّف عن المسألة .
والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ف 177 - 178 ) .
القدر المعطى للفقير :
5 - ذهب المالكيّة والحنابلة في المذهب وهو قول عند الشّافعيّة إلى أنّ الفقير يعطى من الزّكاة الكفاية له ولمن يعوله عاماً كاملاً .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ المنصوص والحنابلة في رواية إلى أنّ الفقير يعطى ما تحصل به الكفاية على الدّوام .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ من لا يملك نصاباً زكويّاً يدفع إليه أقلّ من مائتي درهم أو تمامها ، ويكره إعطاؤه أكثر من ذلك .
والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ف 164 ) .
تحمّل الفقير في الدّية الواجبة على العاقلة :
6 - لا يجب على الفقير المشاركة فيما تحمله العاقلة من الدّيات لأنّ العقل مواساة ، ولا مواساة على فقير .
( ر : عاقلة ف 6 ) .
تحمّل الفقير نفقة الأقارب :
7 - الأصل في وجوب نفقة القريب قدرة من تجب عليه النّفقة ، بأن يكون غنيّاً أو فقيراً قادراً على الكسب الّذي يوفّر حاجته ويزيد بمقدار النّفقة .
والتّفصيل في مصطلح : ( نفقة ) .
ثبوت استحقاق الزّكاة بالفقر :
8 - إن علم حال الإنسان ، وأنّه فقير صرف له الزّكاة ، وإن لم يعلم تحرّى دافع الزّكاة في أمره ، فإن لم يعلم بحاله ، وادّعى فقراً وهو ممّن لا يعرف بالغنى قبل قوله ، ويصرف له الزّكاة بلا بيّنة ولا يمين ، لأنّ الأصل استصحاب الحال السّابقة ، والظّاهر صدقه ، ولعسر إقامة البيّنة على ذلك .
والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ف 165 ) .(/1)
فَوَات *
التّعريف :
1 - الفوات لغةً : مصدر فات الأمر يفوته فوتاً وفواتاً : ذهب عنه ، ويطلق أيضاً بمعنى السّبق ، تقول : فاتني فلان بكذا : أي سبقني به .
وفي اصطلاح الفقهاء : هو خروج العمل المطلوب شرعاً عن وقته المحدّد له شرعاً .
وقال الحنفيّة : فائت الحجّ هو الّذي أحرم به ثمّ فاته الوقوف بعرفة ولم يدرك شيئاً منه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأداء :
2 - الأداء لغةً : الإيصال ، وفي اصطلاح الجمهور من الأصوليّين والفقهاء : الأداء فعل بعض ، وقيل : كلّ ما دخل وقته قبل خروجه واجباً كان أو مندوباً .
وعند الحنفيّة : الأداء تسليم عين ما ثبت بالأمر .
ولم يعتبر في التّعريف التّقييد بالوقت ليشمل أداء الزّكاة والأمانات ، والمنذورات والكفّارات ، كما أنّه يعمّ فعل الواجب والنّفل .
والأداء خلاف الفوات .
ب - القضاء :
3 - من معاني القضاء في اللّغة : الأداء يقال : قضيت الحجّ والدّين : أدّيته ، قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ } ، أي أدّيتموها ، فالقضاء هنا بمعنى الأداء .
واستعمل العلماء القضاء في العبادة الّتي تفعل خارج وقتها المحدود شرعاً ، والأداء إذا فعلت في الوقت المحدود ، وهو مخالف للوضع اللّغويّ لكنّه اصطلاح للتّمييز بين الوقتين . والفوات يكون سبباً للقضاء .
ج - الإحصار :
4 - الإحصار في اللّغة : المنع .
واصطلاحاً : هو المنع من إتمام أركان الحجّ أو العمرة .
والإحصار سبب للفوات .
د - الإفساد :
5 - الإفساد لغةً : ضدّ الإصلاح .
واصطلاحاً : جعل الشّيء فاسداً ، سواء وجد صحيحاً ثمّ طرأ عليه المفسد ، كما لو انعقد الحجّ صحيحاً ثمّ طرأ عليه ما يفسده ، كالجماع قبل الوقوف بعرفة ، أو وجد الفساد مع العقد ، كبيع الطّعام قبل قبضه .
والإفساد قد يكون سبباً للفوات .
ما يحصل به الفوات في العبادات :
6 - العبادات المحدّدة بوقت تفوت بذهاب الوقت المحدّد لها من غير أداءً ، وتتعلّق بالذّمّة - أي تصبح ديناً ثابتاً في الذّمّة - إلى أن تقضى .
وللتّفصيل : ( ر : أداء ف 7 ) .
7- العبادات الواجبة المطلقة : كالكفّارات ، والنّذور المطلقة اختلفوا في وقت وجوب أدائها ، هل هو على الفور ، أو على التّراخي ، لكنّ الجميع متّفقون على أنّ وجوب الأداء يتضيّق في آخر عمره في زمان يتمكّن فيه من الأداء قبل موته ، والمراد أن ذلك بحسب غالب ظنّه .
وللتّفصيل : ( ر : أداء ف 8 ) .
وهذا يعني أنّ الواجب المطلق يفوت المكلّف بوفاته .
فوات الحجّ :
8 - اختصّ الحجّ بأنّ لفواته حالين :
الأولى : وفاة من وجب عليه الحجّ قبل أدائه ، وذلك سواء على القول بوجوبه على التّراخي ، أو على الفور .
الثّانية : أن يحرم بالحجّ ثمّ يفوته الوقوف بعرفة بحيث لا يدرك شيئاً منه في وقته المحدّد ومكانه المحدّد ، ولو ساعةً لطيفةً ، أي أدنى فترة من الزّمن ، وهو المراد من إطلاقهم " فوات " أو " فاته الحجّ " .
وللتّفصيل : ( ر : حجّ ف 123 ) .
9- والأصل في الحكم بفوات الحجّ بفوات الوقوف بعرفة هو قوله صلى الله عليه وسلم : « الحجّ عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ » .
قال الكاسانيّ : والاستدلال به من وجهين :
أحدهما : أنّه جعل الحجّ الوقوف بعرفة ، فإذا وجد فقد وجد الحجّ ، والشّيء الواحد في زمان واحد لا يكون موجوداً وفائتاً .
والثّاني : أنّه جعل تمام الحجّ الوقوف بعرفة ، وليس المراد منه التّمام الّذي هو ضدّ النّقصان ، لأنّ ذلك لا يثبت بالوقوف وحده ، فيدلّ على أنّ المراد منه الخروج عن احتمال الفوات .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحجّ ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحجّ ، فليحلّ بعمرة ، وعليه الحجّ من قابل » .
وبذلك ثبتت الآثار عن الصّحابة ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : من لم يدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحجّ ، فليأت البيت فليطف به سبعاً ويطّوّف بين الصّفا والمروة سبعاً ، ثمّ ليحلق أو يقصّر إن شاء ، وإن كان معه هديه فلينحره قبل أن يحلق ، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصّر ثمّ ليرجع إلى أهله .
وعن سليمان بن يسار أنّ أبا أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه خرج حاجّاً ، حتّى إذا كان بالنّازيّة من طريق مكّة ضلّت راحلته ، فقدم على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يوم النّحر فذكر ذلك له ، فقال له عمر : اصنع كما يصنع المعتمر ثمّ قد حللت .
كما روي غير ذلك من الآثار عن الصّحابة .
قال ابن رشد : أجمعوا على أنّ الوقوف بعرفة ركن من أركان الحجّ ، وأنّه من فاته فعليه حجّ من قابل .
وأمّا العمرة فإنّها لا تفوت بعد الإحرام بها بالإجماع ، لأنّها غير مؤقّتة ، إنّما تفوت بفوات العمر .
( ر : عمرة ) .
تحلّل من فاته الحجّ :
10 - لمّا كان للحجّ وقت محدّد من العام لا يؤدّى في غيره ، ولا يكون الحجّ في العام إلاّ مرّةً واحدةً ، ولمّا كان الإحرام بالحجّ له وقت معيّن ، وله محظورات يجب اجتنابها ، ويشقّ تحمّلها زمناً طويلاً ، فقد شرع لمن فاته الحجّ بفوات الوقوف بعرفة أن يتحلّل بأعمال العمرة من إحرامه باتّفاق العلماء على ذلك ، سواء كان الحجّ فرضاً أو نفلاً ، صحيحاً أو فاسداً ، وسواء كان الفوات بعذر أو بغير عذر .
وهذا التّحلّل واجب عند الحنفيّة والشّافعيّة ، حتّى إنّه لو بقي محرماً إلى العام القادم وصابر الإحرام ، فحجّ بذلك الإحرام لم يصحّ حجّه .
واستدلّوا على هذا بما سبق من الأدلّة والآثار حتّى قيل : هو إجماع الصّحابة .
ولأنّ موجب إحرام حجّه تغيّر شرعاً بالفوات ، فلا يترتّب عليه غير موجبه .(/1)
وعلّل الشّافعيّة ذلك بأنّه لئلاّ يصير محرماً بالحجّ في غير أشهره .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ من فاته الحجّ مخيّر ، إن شاء بقي على إحرامه للعام القابل ، وإن شاء تحلّل ، والتّحلّل أفضل مطلقاً حسب ظاهر الحنابلة .
وقال المالكيّة : إن دخل مكّة أو قاربها فالأفضل له التّحلّل ، وكره إبقاء إحرامه ، فإن هذا محلّه ، وإن كان بعيداً عنها فيخيّر بين البقاء على الإحرام والإحلال على حدّ سواء . واستدلّوا على هذا التّخيير بما قاله ابن قدامة : إنّ تطاول المدّة بين الإحرام وفعل النّسك لا يمنع إتمامه كالعمرة ، والمحرم بالحجّ في غير أشهره .
كيفيّة تحلّل من فاته الحجّ :
11 - يظلّ الحاجّ الّذي فاته الوقوف بعرفة على إحرامه ، واجتناب محظوراته ومراعاة أحكامه وتلبيته ، حتّى يتحلّل من إحرامه .
ويحصل التّحلّل لمن فاته الحجّ بالطّواف والسّعي وحلق الرّأس أو تقصيره ، باتّفاق الجميع ، وهذه هي أفعال العمرة .
12 - لكن هل هذه الأفعال هي عمرة حقيقيّة أم لا ؟
ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّها أفعال عمرة ، وليست عمرةً حقيقيّةً ، لذلك عبّروا بقولهم : " أفعال عمرة " كما ذكرنا " وبعمل عمرة " ولا ينقلب إحرامه عمرةً ، بل إنّ إحرامه بالحجّ باق إلى أن يتحلّل بأفعال العمرة كما ذكرنا .
وهذا مرويّ عن أحمد ، وبه قال ابن حامد من الحنابلة .
ومذهب الحنابلة أنّه يجعل إحرامه بعمرة ، وهذا ظاهر كلام الخرقيّ ، ونصّ عليه أحمد واختاره أبو بكر ، وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة أنّه ينقلب إحرامه بعمرة .
واستدلّ الجمهور بالآثار الواردة عن الصّحابة ، وفيها قولهم : اصنع كما يصنع المعتمر ، ويذكرون الأعمال : الطّواف والسّعي والحلاق ، ولم يسمّوها عمرةً .
وبأنّه أحرم بالحجّ لا بالعمرة حقيقةً ، واعتبار الحقيقة أصل في الشّرع ، فالقول بانقلاب إحرام الحجّ إحرام عمرة تغيير للحقيقة من غير دليل ، أو كما قال الرّمليّ : لأنّ إحرامه انعقد بنسك فلا ينصرف لآخر ، كعكسه أي كما لا ينصرف إحرام العمرة إلى الحجّ .
كما استدلّوا بأنّ فائت الحجّ لو كان من أهل مكّة يتحلّل بالطّواف والسّعي والحلاق كما يتحلّل أهل الآفاق ، ولا يلزمه الخروج إلى الحلّ ، ولو انقلب إحرامه إحرام عمرة وصار معتمراً للزمه الخروج إلى الحلّ ، وهو التّنعيم أو غيره ، والحال أنّ ذلك لا يجب عليه عند القائلين بانقلاب إحرام فائت الحجّ إلى عمرة .
وكذلك فائت الحجّ إذا جامع قبل أفعال العمرة للتّحلّل ليس عليه قضاء العمرة ، ولو كان عمرةً لوجب عليه قضاؤها كالعمرة المبتدأة .
وبأنّ هذه الأفعال في الحقيقة تحلّل لا عمرة بدليل عدم تجديد إحرام لها .
واستدلّ الحنابلة ومن معهم على أنّ إحرام فائت الحجّ ينقلب عمرةً بحديث الدّارقطنيّ السّابق عن عبد اللّه بن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم ، وفيه : « فليحلّ بعمرة » .
وبأنّه يجوز فسخ إحرام الحجّ إلى العمرة من غير فوات ، فمع الفوات أولى .
أحكام التّحلّل لمن فاته الحجّ :
13 - لا تحتاج أعمال التّحلّل لفائت الحجّ إلى إحرام جديد بالعمرة عند جمهور الفقهاء لأنّ إحرامه بالحجّ باق ، لكن صرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّه يحتاج إلى نيّة التّحلّل ، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصّر بنيّة التّحلّل ، ولم يصرّح بذلك الحنفيّة .
أمّا الحنابلة فقياس مذهبهم أنّ فسخ الحجّ إلى العمرة يوجب على فائت الحجّ أن ينوي فسخ حجّه إلى عمرة .
وللتّفصيل : ( ر : إحرام ف 127 ) .
14 - وتختلف كيفيّة تحلّل من فاته الحجّ باختلاف إحرامه : إفراداً كان أو تمتّعاً أو قراناً . فمن أحرم بالحجّ مفرداً وفاته الحجّ يتحلّل بأفعال العمرة على ما سبق بيانه .
والمتمتّع إن فاته الحجّ يتحلّل من إحرامه كتحلّل المفرد أيضاً ، ويبطل تمتّعه ، لأنّ شرط التّمتّع وجود الحجّ في سنة عمرته وسقط عنه دم التّمتّع عند الحنفيّة والمالكيّة حتّى إن كان ساق معه الهدي لتمتّعه يفعل به ما يشاء .
وقال الشّافعيّة والحنابلة لا يسقط عنه دم التّمتّع وإن كان من فاته الحجّ قارناً فقد ذهب الجمهور إلى أنّه يتحلّل كما يتحلّل المفرد ، لاندماج أفعال العمرة في الحجّ ، وتفوت العمرة بفوات الحجّ ، وهذه الصّورة مستثناة من الحكم بأنّ العمرة لا تفوت ، ولا يسقط عنه دم القران بل يلزمه إضافةً إلى هدي التّحلّل عندهم ، خلافاً للمالكيّة .
وزاد المالكيّة في التّحلّل فقالوا : كلّ من أحرم بالحجّ من مكّة وفاته الحجّ يؤمر لأجل التّحلّل أن يخرج من مكّة إلى الحلّ ثمّ يقوم بأفعال العمرة ويتحلّل ، وذلك ليجمع في إحرامه لتحلّله بين الحلّ والحرم ، وكذلك لو دخل مكّة معتمراً ثمّ أردف الإحرام بالحجّ على العمرة في مكّة وفاته الحجّ يخرج إلى الحلّ ويعمل أفعال العمرة ويتحلّل .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن كان قد طاف لعمرته ويسعى لها ، ثمّ يطوف طوافاً آخر لفوات الحجّ ويسعى له ثمّ يحلق أو يقصّر ، وسقط عنه دم القران ، وعليه قضاء حجّة لا غير ، لفراغ ذمّته من إحرام عمرته .
ووجه ذلك أنّ القارن محرم بعمرة وحجّة ، وعليه عند الحنفيّة طواف وسعي لعمرته ، وطواف وسعي لحجّه ، والعمرة لا تفوت ، لأنّ جميع الأوقات وقتها ، فيأتي بها ، وأمّا الطّواف والسّعي للحجّ فلأنّ الحجّة قد فاتته في هذه السّنة بعد الشّروع فيها وفائت الحجّ بعد الشّروع فيه لا يتحلّل إلاّ بأفعال العمرة ، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصّر .
وأمّا سقوط دم القران فإنّ القران يجب للجمع بين العمرة والحجّ ، ولم يوجد هذا الجمع فلا يجب الدّم .
قضاء الفوائت في العبادات :
14 - يترتّب على فوات العبادة الواجبة حكمان :(/2)
أوّلهما : ارتكاب الإثم في تفويت الواجب إذا كان بغير عذر .
ثانيهما : تعلّق الواجب بالذّمّة ووجوب قضائه فيجب قضاء الواجب الفائت سواء كان تركه خطأً أو سهواً أو عمداً بعذر أو بغير عذر باتّفاق .
والتّفصيل في مصطلح : ( أداء ف 19 ، وقضاء الفوائت )
15 - أمّا النّفل ، سواء منه المطلق أو المترتّب بسبب أو وقت ، فقد اختلف الفقهاء في قضائه إذا فات ، فعند الحنفيّة والمالكيّة : لا يقضى شيء من السّنن سوى سنة الفجر . وقال الشّافعيّة : النّوافل قسمان :
أحدهما غير مؤقّت ، وهذا إذا فات لا يقضى .
والثّاني : مؤقّت ، وفيه أقوال : الصّحيح منها أنّه يستحبّ قضاؤه .
وعند الحنابلة أقوال ، اختار صاحب منتهى الإرادات أنّه يسنّ قضاء الرّواتب ، إلاّ ما فات مع فرضه وكثر فالأولى تركه ، إلاّ سنة الفجر فيقضيها مطلقاً لتأكّدها .
والتّفصيل في مصطلح : ( أداء ف 120 ، وقضاء الفوائت ) .(/3)
فَوْر *
التّعريف :
1 - الفور : مصدر للفعل : فار يفور فوراناً ، يقال : فارت القدر تفور فوراناً ، إذا غلت ، وجاشت ، وفار الماء : نبع ، ثمّ أطلق على الحالة الّتي تأتي أوّل الوقت بلا تأخير .
وفي الاصطلاح : هو وجوب أداء المأمور به في أوّل أوقات الإمكان بحيث يلحقه الذّمّ بالتّأخير عنه .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّراخي :
2 - التّراخي في اللّغة : التّقاعد عن الشّيء والتّقاعس عنه .
وفي الاصطلاح : هو كون الأداء متأخّراً عن أوّل وقت الإمكان إلى مظنّة الفوت .
والعلاقة بين الفور والتّراخي الضّدّيّة .
الأحكام المتعلّقة بالفور :
دلالة الأمر على الفور :
3 - بحث علماء الأصول في مبحث الأمر مقتضى الأمر هل صيغة الأمر " افعل " وما بمعناها تقتضي الفور أو التّراخي ؟ فاتّفقوا على أنّه إن صرّح الآمر فيه بفعل المأمور به في أيّ وقت شاء المأمور ، أو قال : لك التّأخير ، فهو للتّراخي ، وإن صرّح فيه بالتّعجيل فهو للفور ، وإن أمر مطلقاً ، أي كان مجرّداً عن دلالة التّعجيل أو التّأخير وجب العزم على الفور على الفعل قطعاً ، وهل يقتضي الأمر المطلق الفعل على الفور أو يجوز التّراخي فيه ؟ اختلفوا في ذلك فقال قائلون : هو على التّراخي ، وله تأخيره إلى الوقت الّذي يخشى فواته بالتّأخير عنه .
وقال آخرون : هو على الفور ، يلزم على المأمور فعله في أوّل أحوال الإمكان .
وقال قوم : بالوقف .
والتّفصيل في الملحق الأصوليّ .
الفور في أداء العبادات :
4 - بناءً على الاختلاف في مقتضى دلالة الأمر المطلق على الفور أو التّراخي اختلف الفقهاء في وجوب أداء بعض العبادات على الفور ، أو جواز تأخيرها إلى وقت يخشى فواتها بالتّأخير ، ومن تلك العبادات :
أ - الحجّ :
5 - اختلف الفقهاء في وجوب أداء الحجّ في أوّل أحوال الإمكان ، وجواز التّراخي في أدائه بعد العزم على فعله :
فذهب الحنفيّة في القول المختار عندهم ، والمالكيّة في الرّاجح والحنابلة إلى أنّه يجب أداؤه على الفور ، ولا يجوز تأخيره عن أوّل أوقات الإمكان ، وهي السّنة الأولى عند استجماع شرائط الوجوب ، ويأثم المكلّف بالتّأخير ، ويفسّق به ، وتردّ به شهادته إن تكرّر منه . وقال الشّافعيّة ومحمّد من الحنفيّة ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، ومالك : إنّه يجب وجوباً موسّعاً من حيث الأداء ، إن عزم على فعله في المستقبل ، ولا يجب عليه أداؤه فوراً ، إلاّ في حالات : كأن نذر أن يحجّ في أوّل أحوال الإمكان ، أو خاف من غصب أو تلف مال ، أو قضاء عارض .
والتّفصيل في مصطلحي : ( حجّ ف 5 وأمر ف 7 ) .
ب - أداء الزّكاة على الفور :
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة في المفتى به عندهم إلى أنّ أداء الزّكاة يجب على الفور ، حين التّمكّن من أدائها ، ويأثم المكلّف بتأخيرها بعد التّمكّن ، حتّى عند الّذين يرون أنّ الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التّراخي ، بل مجرّد طلب المأمور به ، لأنّ الأمر بالصّرف إلى الفقير معه قرينة إرادة الفور منه ، ولأنّه حقّ لزم المزكّي وقدر على أدائه ، ودلّت القرينة على طلبه ، وهي حاجة الأصناف ، وهي معجّلة ، فمتى لم تجب على الفور لم يحصل المقصود من الإيجاب على الوجه المطلوب .
والقول الثّاني عند الحنفيّة ، وعليه عامّة علمائهم : أنّها على التّراخي وأن افتراضها عمريّ ، لما قلنا : من أنّ مطلق الأمر لا يقتضي الفور فيجوز للمكلّف تأخيره ، وهو قول عند الحنابلة .
( ر : زكاة ف 125 ) .
ج - وجوب الصّلوات المفروضة بدخول الوقت :
7 - أجمع المسلمون على أنّ الصّلوات الخمس مؤقّتة بمواقيت معلومة ، لا تصحّ قبلها ، ويفوت أداؤها بخروجها ، ثمّ اختلف الفقهاء في وجوبها أوّل أوقاتها في حقّ من هو من أهل الوجوب عند دخول الوقت ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها تجب في أوّل الوقت على من هو من أهل الوجوب وجوباً موسّعاً بشرط أن يعزم في أوّل الوقت على فعلها فيه ، أي إنّ للمكلّف أن يؤخّرها إلى أن يبقى من الوقت ما يسع لأدائها فقط ، فيجب حينئذ أداؤها فوراً ويأثم بتأخيرها ، ولا يأثم ما بقي من الوقت ما يسعها وإن مات فيه ، واستدلّوا بقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } والأمر يقتضى الفور ، ولأنّ دخول الوقت سبب الوجوب فيترتّب عليه حكمه حين وجوده ، ولأنّه يشترط لها نيّة الفرضيّة ، فلو لم تجب لصحّت بدون نيّة الواجب كالنّافلة ، وتفارق النّافلة فإنّها لا يشترط لها ذلك ، ويجوز تركها غير عازم على فعلها ، وهذه إنّما يجوز تأخيرها مع العزم على فعلها ، كما تؤخّر صلاة المغرب ليلة مزدلفة عن وقتها ، وكما تؤخّر سائر الصّلوات عن وقتها إذا كان مشتغلاً بتحصيل شروطها .
وقال الحنفيّة : لا تجب الصّلاة فور دخول أوّل الوقت على التّعيين ، إنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن ، وإنّما التّعيين إلى المصلّي من حيث الفعل ، حتّى إنّه إذا شرع في أوّل الوقت تجب عليه في ذلك الوقت ، وكذا في أوسطه ، أو آخره ، ومتى لم يعيّن بالفعل حتّى بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلاً ، حتّى يأثم بترك التّعيين ، وإن كان لا يتعيّن الأداء بنفسه .
انظر مصطلح : ( أداء ف 7 ) .
د - قضاء النّسك على الفور :(/1)
8 - ذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّ من أفسد نسكه بعد الإحرام به وجب قضاؤه على الفور ، لقول جمع من الصّحابة من غير مخالف ، بأن يأتي بالعمرة عقيب التّحلّل من النّسك الفاسد ، وبالحجّ في سنته إن أمكنه ، بأن يحصره العدوّ بعد الإفساد فيتحلّل ، ثمّ يزول الإحصار ، أو يتحلّل كذلك لمرض شرط التّحلّل به ، ثمّ شفي والوقت باق فيشتغل بالقضاء ، وتسمية ما ذكر بالقضاء مع أنّه وقع في وقته ، وهو العمر لا يشكل عند من يرى أنّ وقته العمر ، لأنّ القضاء هنا بمعناه اللّغويّ ، فإن لم يمكنه أتى به من قابل وجوباً ، لأنّه بالإحرام بالأداء تضيّق وقته .
وعند الحنفيّة وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة لا يجب القضاء على الفور .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( إحرام ف 185 ) .
هـ - الفور في قضاء الصّوم :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ قضاء رمضان يكون على التّراخي ، وقيّدوه بما إذا لم يفت وقت قضائه ، بأن يهلّ رمضان آخر .
وقال الشّافعيّة : يجب قضاء الصّوم على الفور ، في أربعة مواضع : يوم الشّكّ إن بان أنّه من رمضان ، والمتعدّي بالفطر ، والمرتدّ بعد رجوعه إلى الإسلام ، وتارك النّيّة ليلاً عمداً . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( صوم ف 86 ) .
و - قضاء الصّلاة فوراً :
10 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ قضاء الصّلاة الفائتة يجب على الفور ولا يجوز تأخيرها مع القدرة ، وقال الشّافعيّة : من ترك الصّلاة بعذر كنوم ، ونسيان لم يلزمه قضاؤها فوراً ، ولكن يسنّ له المبادرة بقضائها ، أمّا إذا فاتت بلا عذر لزمه قضاؤها فوراً . ( ر : قضاء الفوائت ) .
ثانياً : الفور في غير العبادات :
أ - الرّدّ بخيار العيب :
11 - ذهب الحنفيّة في المعتمد والحنابلة في الصّحيح من المذهب إلى أنّ الرّدّ بخيار العيب على التّراخي ، وذهب المالكيّة إلى أنّه على التّراخي إلى يوم أو يومين .
وذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ الرّدّ بالعيب على الفور بأن يردّ المشتري المبيع حال اطّلاعه على العيب ، لأنّ الأصل في المبيع اللّزوم ، فيبطل بالتّأخير من غير عذر ، ولأنّه خيار ثبت بالشّرع لدفع الضّرر عن المال ، فكان فوريّاً كالشّفعة ، هذا إذا كان العيب في مبيع معيّن ، فلو قبض شيئاً عمّا في الذّمّة بنحو بيع أو سلم ، فوجده معيباً لم يلزمه ردّه على الفور على الأصحّ ، لأنّه لا يملكه إلاّ بالرّضا بعيبه ، ولأنّه غير معقود عليه .
وانظر مصطلح : ( خيار العيب ف 27 - 29 ) .
ب - طلب الشّفعة على الفور :
12 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حقّ طلب الشّفعة على الفور ، فيطلب ساعة يعلم بالبيع ، لأنّه خيار ثبت بنفسه لدفع الضّرر ، وذهب المالكيّة إلى أنّه ليس على الفور .
( ر : شفعة ف 28 - 32 ) .
ج - الفور في نفي الولد باللّعان :
13 - إذا أتت امرأة بولد لزم زوجها نسبه بالفراش ، فإذا أراد نفيه باللّعان بعد ذلك فقد اشترط المالكيّة والشّافعيّة في الجديد على الأظهر والحنابلة لصحّة النّفي أن يكون فور العلم بالولادة مع إمكانه ، فلو أخّره زمناً لغير عذر لم ينتف عنه بحال بعد ذلك .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة في أحد القولين في القديم إلى جواز تأخير النّفي مدّةً قدّرها أبو حنيفة بمدّة التّهنئة ، وهي ثلاثة أيّام ، وهو قول الشّافعيّة في القديم ، وفي قول لأبي حنيفة أنّها سبعة أيّام .
وقدّرها الصّاحبان بمدّة النّفاس .
والقول الثّاني في القديم عند الشّافعيّة أنّ له النّفي متى شاء ولا يسقط بإسقاطه .
د - فوريّة القبول عقب الإيجاب في العقود :
14 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز تأخير القبول عن الإيجاب في العقود مدّة المجلس ، فإذا انقطع المجلس بتشاغل أو غيره سقط الإيجاب ولم يلحق به قبول .
وذهب الشّافعيّة إلى وجوب الفوريّة بين الإيجاب والقبول .
هـ - الفور في الفسخ بعيب في أحد الزّوجين :
15 - خيار فسخ النّكاح بعيب في أحد الزّوجين عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على التّراخي لا يسقط ما لم يوجد من طالب الفسخ منهما ما يدلّ على الرّضا به من القول ، والاستمتاع من الزّوج ، أو التّمكين من المرأة .
وقال الشّافعيّة : إنّ خيار فسخ النّكاح بعيب في أحد الزّوجين على الفور بعد ثبوته ، لأنّه خيار عيب شرع لدفع الضّرر فكان على الفور ، كالبيع ، والشّفعة ، ومعنى كونه على الفور هنا : أنّ المطالبة بالفسخ ، والرّفع إلى الحاكم يكونان على الفور ، ولا ينافي ذلك ضرب المدّة في العنّة ، فإنّها تتحقّق حينئذ ، فيبادر بالرّفع إلى الحاكم .
ثمّ يبادر بالفسخ عند ثبوت سببه عنده ، وإلاّ سقط خياره .(/2)
فُرْجَة *
التّعريف :
1 - الفُرجة - بالضّمّ - لغةً : من فَرَجت بين الشّيئين فرجاً - من باب ضرب - : فتحت ، وفرج القوم للرّجل فرجاً : أوسعوا في المواقف والمجلس ، وذلك الموضع فُرجة ، والجمع فُرج ، مثل غرفة وغرف .
وكلّ منفرج بين الشّيئين فهو فرجة ، والفُرجة بالضّمّ أيضاً في الحائط ونحوه الخلل ، وكلّ موضع مخافة فرجة .
والفَرجة - بالفتح - مصدر يكون في المعاني ، وهو الخلوص من شدّة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالفرجة :
يتعلّق بالفرجة جملة من الأحكام الفقهيّة منها :
أ - فُرجة الصّفّ في صلاة الجماعة والجمعة :
2 - من تسوية الصّفوف في صلاة الجماعة أن لا يقف المصلّي في صفّ وأمامه صفّ آخر ناقص أو فيه فرجة ، فيجوز له شقّ الصّفوف لسدّ الخلل أو الفرجة في الصّفوف وقد جاء في السّنّة من حديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نظر إلى فرجة في صفّ فليسدّها بنفسه ، فإن لم يفعل فمرّ مارّ فليتخطّ على رقبته فإنّه لا حرمة له » .
وللتّفصيل انظر مصطلح : ( صفّ ف 3 ، وصلاة الجمعة ف 40 ، وصلاة الجماعة ف 26، وتخطّي الرّقاب ف 2 و 4 ) .
ب - تربّص الفرجة للرّمل في الطّواف :
3 - من سنن الطّواف الرّمل ، ولو فات الرّمل بالقرب من البيت لزحمة فالرّمل مع البعد عن البيت أولى ، ولو كان من يفوته الرّمل مع القرب بسبب الزّحمة يرجو فرجةً ، فله أن يتربّص ليجد الفرجة ليرمل فيها ، وإن لم يطمع بفرجة لكثرة الزّحام فإن علم أنّه إن تأخّر إلى حاشية النّاس أمكنه الرّمل فليتأخّر .
ج - الإسراع في المشي في الفرج عند الدّفع من عرفة :
4 - من سنن وآداب الدّفع من عرفة إلى مزدلفة السّكينة والوقار في السّير ، فإذا وجد الحاجّ فرجةً أسرع في المشي بلا إيذاء ، وهذا ما يدلّ عليه حديث أسامة رضي الله عنه : « كان يسير العَنَق ، فإذا وجد فجوةً نصّ » .
وقيل : لا يسنّ في زماننا الإسراع لكثرة الإيذاء .
وللتّفصيل انظر مصطلح : ( يوم عرفة ) .(/1)
فُلُوس *
التّعريف :
1 - الفلوس لغةً : جمع فلس للكثرة ، أمّا جمع القلّة فهو : أفلس وبائعها فلاس ، وأفلس الرّجل : إذا صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ، فكأنّما صارت دراهمه فلوساً وزيوفاً ، وفلّسه القاضي تفليساً : حكم بإفلاسه .
وفي الاصطلاح : كلّ ما يتّخذه النّاس ثمناً من سائر المعادن عدا الذّهب والفضّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّراهم :
2 - الدّراهم جمع درهم ، وهو نوع من النّقد ضرب من الفضّة وسيلةً للتّعامل .
والصّلة بين الدّراهم والفلوس أنّها من الأثمان الّتي يتعامل بها .
ب - الدّنانير :
3 - الدّنانير جمع دينار ، وهو نوع من النّقد ضرب من الذّهب وسيلةً للتّعامل .
والصّلة بين الدّنانير والفلوس أنّها من الأثمان الّتي يتعامل بها .
أحكام الفلوس :
للفلوس أحكام عديدة ، منها :
أوّلاً : زكاة الفلوس :
4 - اختلف الفقهاء في زكاة الفلوس على اتّجاهات :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الفلوس كالعروض فلا تجب الزّكاة فيها إلاّ إذا عرضت للتّجارة .
وذهب الحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة إلى أنّ الفلوس الرّائجة تجب فيها الزّكاة مطلقاً كالذّهب والفضّة ، لأنّها أثمان مطلقاً ، فإذا كسدت عدّت عروضاً فلم تجب فيها الزّكاة إلاّ إذا عرضت للتّجارة .
والمذهب عند المالكيّة أنّه لا زكاة في الفلوس النّحاسيّة فلا تجب الزّكاة في عينها لخروجها عمّا وجبت الزّكاة في عينه من النّعم والأصناف المخصوصة من الحبوب والثّمار والذّهب والفضّة ، فمن كانت عنده فلوس قيمتها مائتا درهم فلا زكاة عليه فيها ، إلاّ أن يكون مديراً - متاجراً بها - فيقوّمها كالعروض ، أمّا المحتكر فعليه زكاة ثمنها ، وحين تكون الفلوس للتّجارة ثمّ أقامت - أي بقيت - عند مالكها سنين ثمّ باعها بذهب أو فضّة فليس فيها إلاّ زكاة سنة واحدة كسائر عروض التّجارة المحتكرة .
ثانياً : ربويّة الفلوس :
5 - اتّجه الفقهاء في ربويّة الفلوس الرّائجة اتّجاهات ثلاثةً :
الاتّجاه الأوّل : الأصحّ عند الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة ، وهو قول الشّيخين من الحنفيّة ، وقول عند المالكيّة : أنّها ليست أثماناً ربويّةً وأنّها كالعروض .
والاتّجاه الثّاني : قول محمّد من الحنفيّة ، وقول عند المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابل الصّحيح عند الحنابلة : أنّها ربويّة وهي كالنّقود .
الاتّجاه الثّالث : وهو قول للمالكيّة : أنّها وسط بين العروض والنّقود ، فهي كالنّقد في نحو الصّرف والرّبا ، وهي كالعروض في غير ذلك ، وعلى هذا الاتّجاه يكره التّفاضل عند بيع الفلوس بجنسها متفاضلاً من غير تحريم ، والكراهة تنزيهيّة عن الرّبا وتستحبّ شروط الصّرف .
أمّا إذا كانت الفلوس كاسدةً غير رائجة فهي عروض باتّفاق .
تغيير الفلوس :
6 - قد تتغيّر الفلوس بما يطرأ عليها من كساد أو انقطاع أو رخص قيمتها وغلائها ، وهذا ممّا يؤدّي إلى عدم اعتمادها في سوق التّعامل .
وتكسد الفلوس بترك التّعامل بها في جميع البلاد ، وتنقطع بأن لا توجد إلاّ في أيدي الصّيارفة أو يلغيها السّلطان ، وترخص قيمتها وتزيد بحسب ما تساويه من الذّهب والفضّة .
فإذا طرأ مثل هذه الأمور على الفلوس وهي ثابتة في الذّمم ، فقد تكلّم الفقهاء في كيفيّة قضاء هذه الدّيون على النّحو الآتي :
أوّلاً : مذهب الحنفيّة :
7 - الفلوس النّافقة إذا اشترى بها أحد ثمّ كسدت أو انقطعت عن أيدي النّاس فإنّ البيع يبطل ، ويجب على المشتري ردّ المبيع إن كان قائماً ، فإن كان هالكاً فيردّ مثله إن كان مثليّاً وإلاّ فيردّ قيمته ، وهذا إن كان القبض حاصلاً ، فإن لم يكن المبيع مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً ، وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقال أبو يوسف ومحمّد : لا يبطل البيع ، لأنّ المتعذّر إنّما هو التّسليم بعد الكساد وذلك غير موجب للفساد لاحتمال زوال الكساد بالرّواج كما لو اشترى شيئاً بالرّطبة ثمّ انقطع ، فإذا لم يتقرّر بطلان البيع وتعذّر تسليم المبيع وجبت قيمته .
وقد اختلف أبو يوسف مع محمّد في وقت القيمة ، فقال أبو يوسف : تجب قيمته يوم البيع ، وقال محمّد : تجب قيمته يوم الكساد وهو آخر ما يتعامل به النّاس ، وقد اختلفت الفتوى على القولين ، ففي الذّخيرة البرهانيّة : أنّ الفتوى على قول أبي يوسف ، وفي المحيط والتّتمّة والحقائق : الفتوى على قول محمّد رفقاً بالنّاس .
ولو غلت الفلوس فالبيع على حاله ولا خيار للمشتري ، أمّا إذا رخصت قيمتها ونقصت فمذهب أبي حنيفة أنّه ليس للدّائن إلاّ المثل ، وبه قال أبو يوسف أوّلاً ، ثمّ رجع أبو يوسف عن هذا القول ليقول قولاً ثانياً وهو : أنّ على المدين قيمة الفلوس يوم البيع ، والفتوى على هذا القول .
وما ذكرناه من الخلاف في الفلوس الثّابتة في الذّمّة بسبب البيع المؤجّل الثّمن يقال في الفلوس الثّابتة في الذّمّة ديناً بسبب القرض والمهر المؤجّل وشبهه ، فعند أبي حنيفة لا يؤثّر الانقطاع والكساد والرّخص والغلاء في أنّه يجب على المدين ردّ المثل ، وعند أبي يوسف ومحمّد يردّ القيمة بالذّهب يوم البيع عند أبي يوسف ، ويردّ القيمة يوم الكساد أو الانقطاع عند محمّد ، أمّا في الرّخص فيجب ردّ القيمة يوم القرض .
وقال ابن عابدين : إنّ الّذي استقرّ عليه الحال هو : دفع النّوع الّذي وقع عليه العقد من النّقود إذا كان معيّناً وقد أفتى شيخ ابن عابدين وتابعه ابن عابدين بلزوم الصّلح بين البائع والمشتري على نوع الوفاء .
هذا وقد أورد الكاسانيّ صوراً من صرف الفلوس بالدّراهم ثمّ ظهر استحقاق الفلوس .(/1)
مثاله : لو اشترى بدرهم فلوساً وتقابضا وافترقا ، ثمّ استحقّت الفلوس من يده ، وأخذها المستحقّ ، فإنّ العقد لا يبطل لأنّه بالاستحقاق وإن انتقض القبض والتحق بالعدم إلاّ أنّ الافتراق يصير كأنّه حصل عن قبض الدّراهم دون الفلوس ، وهذا غير موجب لبطلان العقد ، وعلى بائع الفلوس أن ينقد مثلها ، ونفس الحكم فيما إذا استحقّ بعضها ، وأخذ قدر المستحقّ ، فعلى بائع الفلوس أن ينقد مثل القدر المستحقّ ، ومثله لو وجد بعض الفلوس كاسدةً يردّ البائع بقدر الكاسد ، وإن كان المشتري قبض الفلوس ولم ينقد الدّراهم وافترقا ثمّ استحقّت الفلوس ، فإنّ المستحقّ بالخيار : إن شاء أجاز نقد البائع فيجوز العقد ، لأنّ الإجازة استندت إلى وقت العقد فجاز النّقد والعقد ، ويرجع المستحقّ على بائع الفلوس بمثلها ، وينقد المشتري الدّراهم لبائع الفلوس ، وإن شاء لم يجز وأخذ الفلوس وبطل العقد لأنّه تبيّن أنّ افتراقهما حصل لا عن قبض أصلاً .
ثانياً : مذهب المالكيّة :
8 - المشهور في مذهب المالكيّة أنّ الفلوس إذا قطع التّعامل بها أو تغيّرت نقصاً أو زيادةً وكانت ثابتةً في الذّمّة بسبب قرض أو بيع أو نكاح أو غيره فإنّ للدّائن المثل .
أمّا إذا عدمت فإنّ الواجب قيمتها يوم الحكم ، ولم يفرّق بعضهم بين المدين المماطل وغيره ، وقيّد بعضهم وجوب القيمة بما إذا لم يكن المدين مماطلاً ، فإن كان مماطلاً فإنّ له الأحظّ من أخذ القيمة أو ممّا آل إليه الأمر من السّكّة الجديدة الزّائدة عن القديمة ، وهذا هو الأظهر - كما يقول الصّاويّ - بسبب ظلم المدين بمطله .
وذكر الخرشيّ أنّ له قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين من العدم والاستحقاق ، فلو كان انقطاع التّعامل بها أو تغيّرها نقصاً أو غلاءً أوّل الشّهر الفلانيّ وإنّما حلّ الأجل آخره فله القيمة آخره ، وبالعكس بأن حلّ الأجل أوّله وعدمت آخره فإنّ له القيمة يوم العدم .
ومقابل المشهور عند المالكيّة قول شاذّ في المذهب وهو وجوب القيمة إذا بطلت الفلوس ، وهو محكيّ عن عبد الحميد الصّائغ ومعزوّ إلى أشهب ، وحجّة هذا القول أنّ البائع دفع شيئاً منتفعاً به لأخذ شيء منتفع به فلا يظلم بإعطاء ما لا ينتفع به ، وقيل : الواجب قيمة السّلعة يوم دفعها لا قيمة السّكّة الّتي انقطعت .
وقد قال الرّهونيّ : ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب وصريح كلام آخرين منهم : أنّ الخلاف السّابق محلّه إذا قطع التّعامل بالسّكّة القديمة جملةً ، وأمّا إذا تغيّرت بزيادة أو نقص فلا ، ثمّ أردف الرّهونيّ قائلاً : وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدّاً حتّى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلّة الّتي علّل بها المخالف .
ثالثاً : مذهب الشّافعيّة :
9 - الّذي عليه فقهاء المذهب الشّافعيّ أنّ الفلوس الثّابتة في الذّمّة من سلف أو بيع أو غيره ثمّ أبطلها السّلطان فليس للدّائن إلاّ مثل فلوسه الّتي سلف أو باع بها حين العقد . ونفس الحكم يقال فيما لو رخصت أو غلت الفلوس ليس له إلاّ المثل ، وهذا هو رأي جمهور فقهاء الشّافعيّة .
وذكر البغويّ والرّافعيّ وجهاً في المذهب : أنّ البائع بالفلوس الّتي أبطلها السّلطان : إن شاء أجاز البيع بذلك النّقد ، وإن شاء فسخه كما لو تعيّب قبل القبض .
رابعاً : مذهب الحنابلة :
10 - يذهب الحنابلة إلى أنّ مبلغ القرض لو كان فلوساً فأبطلها السّلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمةً في يده أو استهلكها ، ويقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثمّ يعطيه ، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً ، فإذا لم يبطلها السّلطان وجب ردّ المثل ، سواء رخصت أو غلت أو كانت بحالها .(/2)
فِضَّة *
التّعريف :
1 - الفضّة - كما قال الجوهريّ - معروفة ، وجاء في المعجم الوسيط : الفضّة عنصر أبيض قابل للسّحب والطّرق والصّقل ، من أكثر الموادّ توصيلاً للحرارة والكهرباء ، وهو من الجواهر النّفيسة الّتي تستخدم في صكّ النّقود .
وقال الرّاغب : الفضّة اختصّت بأدون المتعامل بها من الجواهر .
الألفاظ ذات الصّلة :
الذّهب :
2 - الذّهب : المعدن المعروف ، وصلته بالفضّة أنّهما مشتركان في النّقديّة ، وثمنيّة الأشياء في أصل الخلقة .
الأحكام المتعلّقة بالفضّة :
أ - استعمال الأواني المصنوعة من الفضّة :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الشّرب من الأواني المصنوعة من الفضّة حرام ، مستدلّين بأدلّة ، منها : عن أمّ سلمة رضي الله عنها ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الّذي يشرب في آنية الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم » .
وبما رواه البراء بن عازب قال : « نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الشّرب في الفضّة ، فإنّه من شرب فيها في الدّنيا لم يشرب في الآخرة » .
قال النّوويّ : قال أصحابنا : أجمعت الأمّة على تحريم الأكل والشّرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضّة إلاّ ما حكي عن داود ، وإلاّ قول الشّافعيّ في القديم - وقد رجع عنه - ولأنّه إذا حرم الشّرب فالأكل أولى ، لأنّه أطول مدّةً وأبلغ في السّرف .
وهذا الّذي قاله النّوويّ محلّ اتّفاق بين المذاهب الأربعة في تحريم الأكل والشّرب ، وكذا سائر أنواع الاستعمالات ، ومنها تزيين الحوانيت والبيوت بها ، كما نصّ عليه النّوويّ ومن قبله إمام الحرمين ، مع ملاحظة أنّ الحنفيّة عبّروا في هذا المقام بالكراهة التّحريميّة لا الحرام ، وأنّ علّة تحريم الأكل والشّرب هي : عين الفضّة ، أو الخيلاء والسّرف .
ب - اقتناء الفضّة دون استعمال :
4 - أجمع العلماء على أنّ اقتناء الفضّة على غير صورة الأواني لا يحرم إذا كان لغرض صحيح ، وأمّا ما كان من الفضّة على صورة الأواني ونحوها ممّا يمكن استعماله ، فللعلماء فيه آراء :
الرّأي الأوّل : وهو قول الحنفيّة ، والرّواية الرّاجحة عند المالكيّة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة وهؤلاء يرون أنّ اقتناء أواني الفضّة تحرم كما يحرم استعمالها ، لأنّ ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتّخاذه ، ولأنّ اتّخاذه يؤدّي إلى استعمال محرّم ، فيحرم ، كإمساك الخمر ، ولأنّ المنع من الاستعمال لما فيه من الخيلاء والسّرف ، وهو موجود في الاتّخاذ ، ولأنّ الاتّخاذ والحالة هذه عبث ، فيحرم .
الرّأي الثّاني : أنّ اتّخاذ أواني الفضّة لا يحرم إذا لم يستعملها وهو ظاهر المدوّنة ، وقول عند الشّافعيّ ، ورواية أو وجه عن أحمد ، لأنّ الخبر إنّما ورد بالاستعمال فلا يحرم الاتّخاذ ، كما لو اتّخذ الرّجل ثياب الحرير واقتناها دون أن يستعملها ، فكذا اقتناء أواني الفضّة دون استعمالها .
وقد نصّ الشّافعيّ على تحريم الاتّخاذ في باب زكاة الحليّ ، فقال في المختصر : فإن اتّخذ رجل أو امرأة إناء ذهب أو ورق زكّياه في القولين لأنّه ليس لواحد منهما اتّخاذه .
الرّأي الثّالث : أنّ التّحريم إنّما يكون إذا كان الاتّخاذ بقصد الاستعمال ، أمّا إذا كان اتّخاذه بقصد العاقبة ، أو لزوجته ، أو بنته ، أو لا لشيء ، فلا حرمة ، وهو ما رجّحه العدويّ . وقال الدّردير : وحرم اقتناؤه أي ادّخاره ولو لعاقبة دهر ، لأنّه ذريعة للاستعمال ، وكذا التّجمّل به على المعتمد ، وقولنا : " ولو لعاقبة دهر " هو مقتضى النّقل ، ويشعر به التّعليل ، وهو الّذي ينبغي الجزم به ، إذ الإناء لا يجوز لرجل ولا لامرأة ، فلا معنى لاتّخاذه للعاقبة ، بخلاف الحليّ .
وقال الدّسوقيّ : والحاصل أنّ اقتناءه إن كان بقصد الاستعمال فحرام باتّفاق ، وإن كان لقصد العاقبة أو التّجمّل أو لا لقصد شيء ، ففي كلّ قولان ، والمعتمد المنع .
ج - الوضوء والغسل من آنية الفضّة :
5 - إذا توضّأ إنسان - رجلاً كان أو امرأةً - من إناء فضّة فللفقهاء فيه مذهبان :
الأوّل لجمهور الفقهاء : أنّه لا يجوز التّوضّؤ والاغتسال من آنية الفضّة والذّهب ، قال الدّسوقيّ : فلا يجوز فيه أكل ولا شرب ، ولا طبخ ولا طهارة ، وإن صحّت الصّلاة ، كالصّلاة في الأرض المغصوبة ، تصحّ مع الحرمة .
الثّاني : المذهب القديم للشّافعيّ أنّه مكروه تنزيهاً ، وهو وجه عند الحنابلة ، وأنّه لا تصحّ الطّهارة منه .
والتّفصيل في مصطلح : ( آنية ف 3 ) .
د - التّختّم بالفضّة :
6 - اتّفق الفقهاء على جواز تختّم الرّجل بخاتم الفضّة ، لما رواه أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم ، فقيل له : إنّهم لا يقرءون كتاباً إلاّ بخاتم ، فاتّخذ خاتماً من فضّة ونقش فيه : محمّد رسول اللّه » .
ويذكر الحافظ المنذريّ زيادةً على هذا في رواية : « فكان في يده حتّى قبض ، وفي يد أبي بكر حتّى قبض ، وفي يد عمر حتّى قبض ، وفي يد عثمان ، فبينما هو عند بئر إذ سقط في البئر فأمر بها فنزحت فلم يقدر عليه » .
وللفقهاء في جواز تعدّد خواتم الرّجل ومقدار وزن خاتمه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( تختّم ف 9 ) .
هـ - اتّخاذ السّنّ ونحوها من الفضّة :
7 - يجوز اتّخاذ السّنّ ونحوها وشدّها من الفضّة ، قياساً على الأنف ، لما رواه أبو داود عن عبد الرّحمن بن طرفة : « أنّ جدّه عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب ، فاتّخذ أنفاً من ورق ، فأنتن عليه ، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتّخذ أنفاً من ذهب » .
ومن النّصوص المذهبيّة في هذا ما يلي :(/1)
قال الحنفيّة : لو شدّها - يعني السّنّ - بالفضّة ، لا يكره بالإجماع ، وكذلك نصّ المالكيّة على جواز اتّخاذ الأنف والسّنّ من ذهب أو فضّة ، أو ربط سنّ تخلخل بشريط مطلقاً بذهب أو فضّة .
وقال المحلّيّ من الشّافعيّة : وقيس على الأنف الأنملة والسّنّ ، وتجويز الثّلاثة من الفضّة أولى .
ويقول النّوويّ : شدّ السّنّ العليلة بذهب أو فضّة جائز ، ويباح أيضاً الأنملة منهما ، وفي جواز الأصبع واليد منهما وجهان .
والحنابلة أباحوا اتّخاذ السّنّ وحلية السّيف والكثير من الأشياء من الفضّة ، فمن باب أولى يكون حكم اتّخاذ الأنف وغيرها ممّا يحتاج إليه في الجراحات ، من الفضّة .
و - تزيين أدوات الجهاد ونحوها بالفضّة :
8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تزيين أدوات الجهاد ونحوها بالفضّة ، وإلى جواز تزيين المصحف بها .
واستدلّوا بما قاله أنس رضي الله عنه : « كانت قبيعة سيف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فضّةً » والقبيعة ما كان على رأس قائم السّيف وطرف مقبضه ، وما رواه هشام بن عروة قال : كان سيف زبير رضي الله عنه محلّىً فضّةً .
وقال الكاسانيّ : أمّا السّيف المضبّب والسّكّين فلا بأس به بالإجماع ، وكذلك المنطقة المضبّبة ، لورود الآثار بالرّخصة بذلك في السّلاح .
أمّا المالكيّة فقصروا إباحة التّزيين بالفضّة - وكذا بالذّهب - على المصحف والسّيف ، وكذلك اتّخاذ الأنف منها ، أو ربط السّنّ بها .
ز - الضّبّة من الفضّة والتّطعيم بها :
9 - اختلف العلماء في حكم الضّبّة من الفضّة في الإناء .
والأصل في هذا الخلاف ما رواه الدّارقطنيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من شرب من إناء ذهب أو فضّة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم » .
فأبو حنيفة يرى أنّ الإناء المضبّب بالذّهب لا بأس بالأكل والشّرب فيه ، وبالأولى يجوز ذلك في المضبّب بالفضّة لأنّها أخفّ حرمةً من الذّهب .
واشترط المرغينانيّ لذلك شرطاً ، وهو أن يتّقي موضع الفم ، وألحق بذلك الرّكوب على السّرج المفضّض ، واشترط عدم المباشرة للضّبّة من الفضّة .
وعند المالكيّة في المضبّب قولان : الحرمة والجواز ، إمّا مطلقاً أو مع الكراهة ، ورجّح الدّردير والدّسوقيّ والحطّاب وابن الحاجب الحرمة .
ومذهب الشّافعيّة - كما ذكره النّوويّ في المنهاج - أنّ المضبّب من الإناء بفضّة ضبّةً كبيرةً لزينة يحرم استعماله ، وما ضبّب بفضّة ضبّةً صغيرةً بقدر الحاجة فلا يحرم ، وإن ضبّب بفضّة ضبّةً صغيرةً لزينة ، أو كبيرةً لحاجة ، جاز في الأصحّ مع الكراهة نظراً للصّغر والحاجة ، وضبّة موضع الاستعمال نحو الشّرب كغيره فيما ذكر في الأصحّ ، والقول الثّاني أنّه يحرم إناؤها مطلقاً لمباشرتها بالاستعمال .
وفي ضابط القلّة والكثرة عندهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّه الّذي يستوعب جزءاً من أجزاء الإناء بكماله ، والآخر : العرف ، والثّالث : أنّ الكثير ما يلمع للنّاظر على بعد ، والقليل خلافه .
واختار الرّافعيّ الثّاني ، وإمام الحرمين والغزاليّ الثّالث .
وجملة ما ذكره الحنابلة أنّ الضّبّة تباح بثلاثة شروط :
أحدها : أن تكون يسيرةً ، والثّاني : أن تكون من الفضّة ، والثّالث : أن تكون للحاجة أي لمصلحة وانتفاع ، مثل أن تجعل على شقّ أو صدع وإن قام غيرها مقامها ، وقال القاضي أبو يعلى ليس هذا بشرط ، ويجوز اليسير من غير حاجة إذا لم يباشر الاستعمال .
وكره أحمد أن يباشر موضع الضّبّة بالاستعمال ، فلا يشرب من موضع الضّبّة ، لأنّه يصير كالشّارب من إناء فضّة ، وكره الحلقة من الفضّة ، لأنّ القدح يرفع بها ، فيباشرها بالاستعمال ، وكذا ما أشبهه .
ح - الإناء المموّه بفضّة وعكسه :
10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأواني المموّهة بماء الفضّة إذا كان لا يخلص منه شيء فلا بأس بالانتفاع بها في الأكل والشّرب وغير ذلك ، وما يخلص منه شيء لا يحرم عند أبي حنيفة أيضاً ، ويكره عند أبي يوسف ومحمّد في الأشهر عنه ، كالمضبّب .
وللمالكيّة قولان في المموّه ، كالقولين في المضبّب ، وهما التّحريم والكراهة ، أو المنع والجواز .
واستظهر بعضهم الجواز نظراً لقوّة الباطن .
والشّافعيّة يرون جواز استعمال المموّه بالفضّة في الأصحّ ، لقلّة المموّه به ، فكأنّه معدوم . والقول الثّاني المقابل للأصحّ ، أنّه يحرم للخيلاء وكسر قلوب الفقراء .
فإن كثر المموّه بحيث يحصل منه شيء بالعرض على النّار حرم جزماً ، وإن كان لا يحصل منه شيء ، فلا يحرم .
قال الشّافعيّة : ولو اتّخذ إناءً من الفضّة - أو الذّهب - وموّهه بنحاس ونحوه ، فإن حصل منه شيء بالعرض على النّار حلّ استدامته ، وإلاّ فلا .
ومحلّ ما ذكر بالنّسبة لاستدامته ، أمّا الفعل ، فحرام مطلقاً ، ولو على سقف أو جدار أو على الكعبة .
ومذهب الحنابلة أنّه يحرم اتّخاذ الإناء ونحوه ، إذا كان مموّهاً بذهب أو فضّة ، وكذا المطعّم والمطليّ والمكفّت .
ط - المسح على الخفّ من فضّة :
11 - المسح على الخفّين المتّخذين من الفضّة - وكذا الذّهب - لا يجوز عند جمهور الفقهاء .
أمّا عند الحنفيّة والحنابلة ، فلعدم إمكان متابعة المشي فيهما .
وأمّا عند المالكيّة فلعدم كونهما متّخذين من الجلد .
والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه يكفي المسح على الخفّ من الفضّة للرّجل وغيره .(/2)
وقال الجمهور : إنّه وإن كان يجوز للمرأة - في الجملة - لبس الخفّين من الفضّة - وكذا الذّهب - ولا سيّما عند المالكيّة لأنّهما من الملبوس ، لكنّ جواز اللّبس لا يستلزم جواز المسح عليهما ، لتخلّف بعض الشّروط ، كالجلديّة عند المالكيّة ، ومتابعة المشي عند الحنفيّة والحنابلة .
ي - بيع الفضّة بالفضّة وبيع الذّهب بالفضّة وعكسه :
12 - أجمع أهل العلم على جواز بيع الفضّة بالفضّة بشروط ثلاثة هي : الحلول ، والتّقابض قبل التّفرّق ، والتّماثل ، سواء في ذلك القليل والكثير ، وما نقل عن أبي حنيفة من أنّه رخّص في القليل ، فهذا خاصّ بما لا يستطاع كيله ممّا يكال ، لأنّ العلّة فيه الكيل ولم توجد ، أمّا اليسير من الفضّة والذّهب فهذا موزون يمكن وزنه بمثله على أيّ حال كان ، وهذا متّفق عليه ، والدّليل عليه مع شروطه ما رواه مسلم بسنده إلى عبادة بن الصّامت قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد » .
وإذا اختلّ شرط من الشّروط الثّلاثة ، كان بيعاً ربويّاً محرّماً ، أمّا بيع الذّهب بالفضّة وعكسه فجائز بشرط التّقابض ، يدلّ لهذا ما رواه مسلم بسنده إلى مالك بن أوس بن الحدثان أنّه قال : أقبلت أقول : من يصطرف الدّراهم ؟ فقال طلحة بن عبيد اللّه ، وهو عند عمر بن الخطّاب : أرنا ذهبك ثمّ ائتنا إذا جاء خادمنا نعطك ورقك ، فقال عمر بن الخطّاب : كلا واللّه لتعطينّه ورقه أو لتردّنّ إليه ذهبه ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « الورق بالذّهب رباً إلاّ هاء وهاء » .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( رباً ف 12 وما بعدها ) ومصطلح : ( صرف ف 20 وما بعدها ) .
ك - الغشّ في الفضّة وأثره في الأحكام :
13 - يجوز عند الفقهاء في الجملة التّعامل بالدّراهم والدّنانير المغشوشة إن راجت ، نظراً للعرف .
أمّا إذا بيعت بعضها ببعض مصارفةً ، فقد فصّلوا صورها وأحكامها على النّحو المذكور في مصطلح : ( صرف ف 41 وما بعدها ) .
وهذا في التّعامل بالمغشوش في عقود المعاوضات بجنسه ، أمّا التّعامل به في عقود المعاوضات بغير جنسه ، أو في غير عقود المعاوضات كالسّلف ونحوه ، فتفصيله كما يأتي :
فالكاسانيّ من الحنفيّة رتّب الكلام في المراد هنا وهو استقراض الدّراهم المغشوشة والشّراء بها على الكلام في الأنواع الثّلاثة من الغشّ :
أمّا النّوع الأوّل : وهو ما كانت فضّته غالبةً على غشّه ، فلا يجوز استقراضه ولا الشّراء به إلاّ وزناً ، لأنّ الغشّ إذا كان مغلوباً فيه كان بمنزلة الدّراهم الزّائفة ، ولا يجوز بيع الدّراهم الزّائفة بعضها ببعض عدداً ، لأنّها وزنيّة ، فلم يعتبر العدد فيها ، فكان بيع بعضها ببعض مجازفةً ، فلم يجز ، فلا يجوز استقراضها ولا التّعامل بها إلاّ وزناً ، صيانةً لها عن الرّبا ، وعن شبهة الرّبا .
وأمّا النّوع الثّاني : وهو ما استوى فيه الفضّة والغشّ ، فكذلك ، لأنّ الفضّة إذا كانت تبقى بعد السّبك ويذهب الغشّ كانت ملحقةً بالدّراهم الزّيوف ، ولا تجوز عدداً ، وإنّما تجوز وزناً لإبعادها عن شبهة الرّبا ، وإن بقي كلّ منهما على حاله بعد السّبك فكلّ منهما جنس قائم بنفسه ، والفضّة لا تجوز عدداً لأنّها وزنيّة ، والصّفر يجوّزه ، وإذا اجتمع المانع والمجيز فالحكم بالفساد عند تعارض جهتي الجواز والفساد أحوط .
أمّا النّوع الثّالث : وهو ما كان الغشّ فيه غالباً ، فينظر فيه إلى عادة النّاس ، فإن تعاملوا به وزناً وجب التّعامل فيه وزناً ، لأنّ الوزن صفة أصليّة ، وإن تعاملوا فيه عدداً جاز التّعامل به عدداً ، ومثل الاستقراض الشّراء بها كما سلف .
هذا إذا اشترى بالأنواع الثّلاثة ولم يعيّنها ، فأمّا إذا عيّنها واشترى بها عرضاً ، بأن قال : اشتريت هذا العرض بهذه الدّراهم وأشار إليها ، فلا شكّ في جواز الشّراء بها ، ولا تتعيّن بالإشارة إليها ، ولا يتعلّق العقد بعينها ، حتّى لو هلكت قبل أن ينقدها المشتري لا يبطل البيع ، ويعطى مكانها مثلها من جنسها ونوعها وقدرها وصفتها .
والمالكيّة نظروا في التّعامل بها إلى منع الغشّ بين المسلمين ، فقالوا بجواز التّعامل بها وبيعها لمن يكسرها ولا يغشّ بها ، فإن أمن ذلك جاز البيع ، وقد حكى ابن رشد الاتّفاق على جواز البيع حينئذ .
فإن لم يؤمن غشّ المسلمين به كره البيع ، وإن علم أنّه يغشّ به المسلمين وجب على البائع أن يستردّه ويفسخ بيعه إن كان قائماً ، فإن لم يقدر على ردّه لذهاب عينه أو نحوه ، فهل يملك الثّمن ويندب له أن يتصدّق به ، أو يتصدّق به وجوباً ، أو يتصدّق بالزّائد على فرض بيعه ممّن لا يغشّ ؟ أقوال ثلاثة ، ورجّح الأخير الشّيخ العدويّ .
أمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم منع التّعامل في هذه الدّراهم المغشوشة إذا بيعت بمثلها أو بخالص جنسها ، أمّا شراء سلعة أخرى بها فقال أصحاب الشّافعيّ : إن كان الغشّ ممّا لا قيمة له جاز الشّراء بها ، وإن كان ممّا له قيمة ، ففي جواز إنفاقها وجهان .(/3)
وعن أحمد في ذلك روايتان ، أظهرهما الجواز ، والثّانية التّحريم ، قال ابن قدامة : والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر غشّه واصطلح عليه ، فإنّ المعاملة به جائزة ، إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما ، فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميّزين ، ولأنّ هذا مستفيض في الأعصار جار بينهم من غير نكير ، وفي تحريمه مشقّة وضرر ، وليس شراؤها بها غشّاً للمسلمين ولا تغريراً لهم ، والمقصود منها ظاهر مرئيّ معلوم .
ل - نصاب الزّكاة من الفضّة :
14 - نصاب الفضّة مائتا درهم ، لا خلاف في ذلك بين علماء الإسلام ، وقد بيّنته السّنّة فيما رواه أبو سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ولا فيما دون خمس ذود صدقة ، ولا فيما دون خمس أواق صدقة ». وفي رواية أحمد وأبي داود والتّرمذيّ عن عليّ قال : « ... فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم » .
والتّفصيل ينظر في مصطلح : ( زكاة ف 67 وما بعدها ) .
م - الدّية ومقدارها من الفضّة :
15 - عند الجمهور دية الرّجل المسلم اثنا عشر ألف درهم .
ويرى الحنفيّة أنّ دية الرّجل المسلم عشرة آلاف درهم من الفضّة .
والتّفصيل في مصطلح : ( ديات ف 28 وما بعدها ) .(/4)
قرآن
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11907)
قرآن
«التعريف»
1 - القرآن لغةً : في الأصل مصدر من قرأ بمعنى الجمع ، يقال : قرأ قرآناً ، قال تعالى : « إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» } ، قال ابن عباس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به ، وخص بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فصار له كالعلم .
وفي الاصطلاح : قال البزدويّ : هو الكتاب المنزل على رسول الله ، المكتوب في المصاحف ، المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نقلاً متواتراً ، بلا شبهة ، وهو النظم والمعنى جميعاً في قول عامة العلماء .
والقرآن عند الأصوليّين يطلق على المجموع وعلى كلّ جزء منه ; لأنهم يبحثون من حيث إنه دليل على الحكم ، وذلك آية آية لا مجموع القرآن .
وقد سمى الله تعالى القرآن بخمسة وخمسين اسماً : سماه كتاباً ، ومبيناً ، وقرآناً ، وكريماً ، وكلاماً ، ونوراً ، وهدىً ، ورحمةً ، وفرقاناً ، وشفاءً ، وموعظةً ، وذكراً ، ومباركاً ، وعليّاً ، وحكمةً ... إلخ .
الألفاظ ذات الصّلة
«المصحف»
2 - المصحف - بضمّ الميم وكسرها وفتحها - ، ما جعل جامعاً للصّحف المكتوبة ، وجمعه مصاحف . وروى السّيوطيّ أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف .
والصّلة أن المصحف ما جمع فيه القرآن .
«حجّية القرآن»
3 - القرآن هو الأصل الأول من أصول الشرع ، وهو حجة من كلّ وجه لتوقّف حجّية غيره من الأصول عليه لثبوتها به ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله تعالى ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما صار حجةً بالكتاب بقوله تعالى : « وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ » ، وكذا الإجماع والقياس .
وللتفصيل في أدلة حجّية القرآن وأسلوب القرآن في الدلالة على الأحكام ينظر الملحق الأصوليّ.
«خصائص القرآن»
«أ - الكتابة في المصاحف»
4 - القرآن هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف نقلاً متواتراً ، وقيّد بالمصاحف ; لأن الصحابة رضي الله عنهم بالغوا في نقله وتجريده عما سواه ، حتى كرهوا التعاشير والنقط كي لا يختلط بغيره ، فنعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن ، وأن ما هو خارج عنه ليس منه ، إذ يستحيل في العرف والعادة مع توافر الدواعي على حفظ القرآن أن يهمل بعضه ، فلا ينقل ، أو يخلط به ما ليس منه .
«ب - التواتر»
5 - لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه ، وأما في محلّه ووضعه وترتيبه فعند المحقّقين من علماء أهل السّنة كذلك ، أي يجب أن يكون متواتراً . فقد جاء في مسَلَّم الثّبوت وشرحه فواتح الرحموت : ما نقل آحاداً فليس بقرآن قطعاً ، ولم يعرف فيه خلاف لواحد من أهل المذاهب ، واستدل بأن القرآن مما تتوفر الدواعي على نقله لتضمّنه التحدّي ; ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى والنظم جميعاً حتى تعلق بنظمه أحكام كثيرة; ولأنه يتبرك به في كلّ عصر بالقراءة والكتابة ، ولذا علم جهد الصحابة في حفظه بالتواتر القاطع ، وكلّ ما تتوفر دواعي نقله ينقل متواتراً عادةً ، فوجوده ملزوم للتواتر عند الكلّ عادةً ، فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعاً ، والمنقول آحاداً ليس متواتراً ، فليس قرآناً .
كما جاء فيه : على أن ترتيب آي كلّ سورة توقيفيّ بأمر الله وبأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا انعقد الإجماع ، وجاء أيضاً : بقي أمر ترتيب السّور فالمحقّقون على أنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل هذا الترتيب باجتهاد من الصحابة ... والحقّ هو الأول . والتفصيل في مصطلح : « مصحف » .
«ج - الإعجاز»
6 - من خصائص القرآن أنه كلام الله المعجز ، المتحدى بإعجازه ، والمراد بالإعجاز ارتقاؤه في البلاغة إلى حدّ خارج عن طوق البشر ، قال الزركشيّ : ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز ; لأن العرب عجزوا عن معارضته ، قال تعالى : « وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ » .
قال القاضي أبو بكر : ذهب عامة أصحابنا - وهو قول أبي الحسن الأشعريّ في كتبه - إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السّورة ، قصيرةً كانت أو طويلةً ، أو ما كان بقدرها ، قال : فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر ، فذلك معجز .
والتفصيل في الملحق الأصوليّ .
«د - كونه بلغة العرب»
7 - لقد أنزل الله القرآن بلغة العرب ، قال الله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ» .
قال الزركشيّ : لا خلاف أنه ليس في القرآن كلام مركب على غير أساليب العرب ، وأن فيه أسماء أعلام لمن لسانه غير اللّسان العربيّ ، كإسرائيل ، وجبرائيل ، ونوح ، ولوط ، وإنما اختلفوا هل في القرآن ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب ؟
فذهب القاضي إلى أنه لا يوجد ذلك فيه ، وكذلك نقل عن أبي عبيدة .(/1)
واحتج هذا الفريق بقول الله تعالى : « وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ » ، ولو كان فيه لغة العجم لم يكن عربيّاً محضاً ، وآيات كثيرة في هذا المعنى ; ولأن الله سبحانه تحداهم بالإتيان بسورة من مثله ، ولا يتحداهم بما ليس من لسانهم ولا يحسنونه . قال الإمام الشافعيّ : والقرآن يدلّ على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب .
وذهب قوم إلى أنه فيه لغة غير العرب ، واحتجّوا بأن « المشكاة » هندية ، « والإستبرق » فارسية .
وقال من نصر هذا : اشتمال القرآن على كلمتين ونحوهما أعجمية لا يخرجه عن كونه عربيّاً وعن إطلاق هذا الاسم عليه ، ولا يمهّد للعرب حجةً ، فإن الشّعر الفارسي يسمى فارسيّاً وإن كان فيه آحاد كلمات عربية .
قال ابن قدامة : يمكن الجمع بين القولين بأن تكون هذه الكلمات أصلها بغير العربية ثم عربتها العرب واستعملتها ، فصارت من لسانها بتعريبها واستعمالها لها ، وإن كان أصلها أعجميّاً . والتفصيل في الملحق الأصوليّ .
«هـ - كونه محفوظاً بحفظ الله تعالى»
8 - تكفل الله تعالى بحفظ كتابه الكريم ، قال تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » ، قال القرطبيّ : المراد بالذّكر القرآن والمراد بالحفظ أن يحفظ من أن يزاد فيه أو ينقص منه ، قال قتادة وثابت البنانيّ : حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقّاً ، فتولى سبحانه وتعالى حفظه ، فلم يزل محفوظاً ، وقال في غيره : « إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الذينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء » ، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا .
«و - نسخ القرآن»
9 - اتفق الفقهاء على جواز نسخ القرآن بالقرآن واختلفوا في نسخ القرآن بالسّنة على أقوال كما اختلفوا في شروط النسخ وأحواله .
والتفصيل في الملحق الأصوليّ .
«ز- جمع القرآن»
7 - جمع القرآن مرتين مرةً في عهد أبي بكر الصّدّيق وثانيةً في عهد عثمان رضي الله عنهما. والتفصيل في مصطلح « مصحف » :
«ح - تنجيم القرآن»
8 - نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً لمعان مختلفة .
والتفصيل في « مصحف » .
«ط - رسم المصحف»
12 - كتب القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه على شكل معين وعلى يد جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ووزّعت النّسخ التي كتبوها على العواصم الإسلامية وسمّيت هذه الطريقة الرسم العثماني ،وقد اختلف الفقهاء في وجوب التزامها في كتابة القرآن الكريم أو جواز الخروج عنها. والتفصيل في مصطلح « مصحف » .
«الأحكام الفقهية المتعلّقة بالقرآن»
«أولاً : قراءة القرآن في الصلاة»
13 - اتفق الفقهاء على أن قراءة القرآن في الصلاة ركن ، واختلفوا في تعيين الفاتحة لهذه الفريضة ، وفي صحة الصلاة بالقراءة بغير العربية .
وللتفصيل « ر : صلاة ، ف /19 وقراءة » .
«ثانياً : قراءة القرآن خارج الصلاة»
14 - يستحبّ الإكثار من تلاوة القرآن خارج الصلاة ، لقول الله تعالى : « إِنَّ الذينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ » ، ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : xx من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول « الم » حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف « ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ ، له أجران « ، وقال صلى الله عليه وسلم :
» اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه « .
آداب قراءة القرآن
15 - ينبغي للقارئ أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى ، ويقرأ على حال من يرى الله تعالى ، فإنه إن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه ، وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظّف فاه بالسّواك وغيره .
ويستحبّ أن يقرأ القرآن وهو على طهارة وإن قرأ محدثاً حدثاً أصغر دون مسّ المصحف جاز بإجماع المسلمين .
والجنب يحرم عليه قراءة القرآن عند عامة العلماء ، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. وقال ابن عباس : يقرأ الجنب ورده ، وقال سعيد بن المسيّب : يقرأ القرآن .
ويحرم على الحائض والنّفساء قراءة القرآن في الجملة عند جمهور الفقهاء .
وعند المالكية تجوز قراءة القرآن للحائض وإن كانت متلبّسةً بجنابة قبل الحيض ، إلا أن ينقطع عنها دمه حقيقةً أو حكماً كمستحاضة ، فإنها لا تقرأ إن كانت متلبّسةً بجنابة .
ر : حيض ف 39 .
ويستحبّ أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ، ولهذا استحب جماعة من العلماء أن تكون القراءة في المسجد ، لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ، ومحصّلاً لفضيلة أخرى وهي الاعتكاف .
وللتفصيل في الأماكن التي تكره فيها قراءة القرآن ر : قراءة .
ويستحبّ للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة ، ويجلس متخشّعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه، ويكون جلوسه وحده في تحسين أدبه وخضوعه كجلوسه بين يدي معلّمه ، فهذا هو الأكمل ، ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر ، ولكن دون الأول .
وللتفصيل في الأحوال التي تجوز أو تكره فيها قراءة القرآن ر : قراءة .(/2)
وإذا أراد الشّروع في القراءة استعاذ فقال : أعوذ بألله من الشيطان الرجيم ، هكذا قال الجمهور من العلماء .
وقال بعض السلف : يتعوذ بعد القراءة .
قال الزركشيّ : يستحبّ التعوّذ قبل القراءة فإن قطعها قطع ترك وأراد العود جدد ، وإن قطعها لعذر عازماً على العود كفاه التعوّذ الأول ما لم يطل الفصل .
وللتفصيل في محلّ الاستعاذة من القراءة ر : استعاذة ف / 7 ، وتلاوة ف / 6 .
وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم أول كلّ سورة سوى سورة " براءة " ،
ر : تلاوة ف / 7 .
وللتفصيل في اختلاف الفقهاء في كون البسملة آيةً من الفاتحة ومن كلّ سورة ينظر بسملة ف / 2 .
فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبّر عند القراءة ، فهو المقصود والمطلوب ، وبه تنشرح الصّدور وتستنير القلوب ، ر : تلاوة ف /10 .
ويستحبّ البكاء عند قراءة القرآن ، والتباكي لمن لا يقدر عليه ، والحزن والخشوع ، قال الله تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } ، وقد قرأ ابن مسعود القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي حديثه : » فإذا عيناه تذرفان xx ، وطريقه في تحصيل البكاء أن يحضر في قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ، ثم يتأمل تقصيره في ذلك ، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب .
ويسنّ الترتيل في قراءة القرآن ، قال الله تعالى : « وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً » .
« ر : تلاوة ف 9 » .
مما يعتنى به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين ، فمن ذلك اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القراءة إلا كلاماً ضطرّ إليه ، ومن ذلك العبث باليد وغيرها فإنه يناجي ربه سبحانه وتعالى ، فلا يعبث بين يديه .
ومن ذلك النظر إلى ما يلهي ويبدّد الذّهن .
«آداب استماع القرآن»
16 - استماع القرآن والتفهّم لمعانيه من الآداب المحثوث عليها ، ويكره التحدّث بحضور القراءة .
قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام : والاشتغال عن السماع بالتحدّث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع ، وهو يقتضي أنه لا بأس بالتحدّث للمصلحة .
وصرح الحنفية بوجوب الاستماع للقراءة مطلقاً ، أي في الصلاة وخارجها .
وللتفصيل في أحكام استماع القرآن خارج الصلاة « ر : استماع ف / 3 وما بعدها » .
«آداب حامل القرآن»
17 - آداب حامل القرآن مقرئاً كان أو قارئاً هي في الجملة آداب المعلّم والمتعلّم التي سبق تفصيلها في « تعلّم وتعليم ف / 9 - 10 » .
ومن آدابه أيضاً : أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل ، وأن يرفع نفسه عن كلّ ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن ، وأن يكون متصوّناً عن دنيء الاكتساب ، شريف النفس ، مترفّعاً على الجبابرة والجفاة من أهل الدّنيا ، متواضعاً للصالحين وأهل الخير والمساكين ، وأن يكون متخشّعاً ذا سكينة ووقار ، فقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال : يا معشر القراء ارفعوا رءوسكم فقد وضح لكم الطريق ، واستبقوا الخيرات لا تكونوا عيالاً على الناس .
ومن أهمّ ما يؤمر به أن يحذر كل الحذر من اتّخاذ القرآن معيشةً يكتسب بها ، فقد جاء عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به » .
وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، منهم من منع أخذ الأجرة عليه ، ومنهم من أجاز .
وللتفصيل « ر : إجارة ف / 109 - 110 » .
وينبغي أن يحافظ على تلاوته ويكثر منها ، قال الله تعالى مثنياً على من كان دأبه تلاوة آيات الله : « يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ » وسماه ذكراً وتوعد المعرض عنه ، ومن تعلمه ثم نسيه ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلّتًا من الإبل في عُقُلها » .
وقال : « بئسما لأحدهم يقول : نسيت آية كيت وكيت ، بل هو نُسِّيَ، استذكروا القرآن فلهو أشدّ تفصِّياً من صدور الرّجال من النعم بعقلها » .
«آداب الناس كلّهم مع القرآن»
18 - أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته ، وأجمعوا على أن من جحد منه حرفاً مما أجمع عليه ، أو زاد حرفاً لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك ، فهو كافر .
«تفسير القرآن»
19 - كتاب الله بحره عميق ، وفهمه دقيق ، لا يصل إلى فهمه إلا من تبحر في العلوم وعامل الله بتقواه في السّرّ والعلانية ، وأجله عند مواقف الشّبهات ، ولهذا قال العلماء : يحرم تفسير القرآن بغير علم ، والكلام في معانيه لمن ليس من أهلها ، وأما تفسيره للعلماء فجائز حسن ، والإجماع منعقد عليه ، فمن كان أهلاً للتفسير ، جامعاً للأدوات التي يعرف بها معناه ، غلب على ظنّه المراد ، فسره إن كان مما يدرك بالاجتهاد ، كالمعاني والأحكام الخفية والجلية والعموم والخصوص والإعراب وغير ذلك .
وإن كان مما لا يدرك بالاجتهاد ، كالأمور التي طريقها النقل وتفسير الألفاظ اللّغوية فلا يجوز له الكلام فيه إلا بنقل صحيح من جهة المعتمدين من أهله .
وأما من كان ليس من أهله لكونه غير جامع لأدواته ، فحرام عليه التفسير ، لكن له أن ينقل التفسير عن المعتمدين من أهله .
وللتفصيل « ر : تفسير ف / 9 ، 10 » .
«ترجمة القرآن»
20 - اختلف الفقهاء في جواز قراءة القرآن في الصلاة بغير العربية ، فذهب الجمهور إلى أنه لا تجوز القراءة بغير العربية سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن .(/3)
ويرى أبو حنيفة جواز القراءة بالفارسية وغيرها من اللّغات سواء كان يحسن العربية أو لا ، وقال أبو يوسف ومحمد لا تجوز إذا كان يحسن العربية ; لأن القرآن اسم لمنظوم عربيّ لقوله تعالى : « إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً » ، والمراد نظمه .
وللتفصيل « ر : ترجمة ف /6 وقراءة » .
وأما ترجمة القرآن خارج الصلاة ، وبيان معناه للعامة ، ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معناه ، فهو جائز باتّفاق أهل الإسلام .
وتكون تلك الترجمة عبارةً عن معنى القرآن ، وتفسيراً له بتلك اللّغة .
« ر : ترجمة ف / 3 - 5 » .
«سور القرآن»
21 - انعقد إجماع الأئمة على أن عدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورةً ، التي جمعها عثمان رضي الله عنه وكتب بها المصاحف ، وبعث كل مصحف إلى مدينة من مدن الإسلام ، ولا يعرج إلى ما روي عن أبيّ أن عددها مائة وست عشرة سورةً ، ولا على قول من قال : مائة وثلاث عشرة سورةً بجعل الأنفال وبراءة سورةً ، وجعل بعضهم سورة الفيل وسورة قريش سورةً واحدةً ، وبعضهم جعل المعوّذتين سورةً ، وكلّ ذلك أقوال شاذة لا التفات إليها .
وللتفصيل في ترتيب نزول سور القرآن وآياته وشكله ونقطه وتحزيبه وتعشيره وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه ينظر « مصحف » .
«ختم القرآن»
22 - كان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه .
فمنهم من يختم القرآن في اليوم والليلة مرةً ، وبعضهم مرتين ، وانتهى بعضهم إلى ثلاث ، ومنهم من يختم في الشهر .
قال النوويّ : والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدّين ومصالح المسلمين العامة ، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل والهذرمة .
وقد كره جماعة من المتقدّمين الختم في كلّ يوم وليلة .
وقال أبو الوليد الباجيّ : « أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو أن يختم في سبع أو ثلاث » ، يحتمل أنه الأفضل في الجملة ، أو أنه الأفضل في حقّ ابن عمرو ، لما علم من ترتيله في قراءته ، وعلم من ضعفه عن استدامته أكثر مما حد له ، وأما من استطاع أكثر من ذلك فلا تمنع الزّيادة عليه ، وسئل مالك عن الرجل يختم القرآن في كلّ ليلة فقال : ما أحسن ذلك. إن القرآن إمام كلّ خير .
23 - ويسنّ الدّعاء عقب ختم القرآن ، لحديث الطبرانيّ وغيره عن العرباض بن سارية مرفوعاً « من ختم القرآن فله دعوة مستجابة » .
ويسنّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم ، لحديث : « أحبّ الأعمال إلى الله الحالّ المرتحل ، الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره ، كلما حل ارتحل » .
«نقش الحيطان بالقرآن»
24 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية إلى أنه يكره نقش الحيطان بالقرآن . وقال بعض الحنفية : يرجى أن يجوز .
«النّشرة»
25 - اختلف العلماء في النّشْرة وهي أن يكتب شيئاً من أسماء الله أو من القرآن ثم يغسله بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقيه ، فأجازها سعيد بن المسيّب ، قيل : الرجل يؤخذ عن امرأته أيحلّ عنه وينشر ؟ قال : لا بأس به ، وما ينفع لم ينه عنه .
وممن صرح بالجواز الحنابلة وبعض الشافعية منهم العماد النّيهيّ تلميذ البغويّ قال : لا يجوز ابتلاع رقعة فيها آية من القرآن فلو غسلها وشرب ماءها جاز ، وجزم القاضي حسين والرافعيّ بجواز أكل الأطعمة التي كتب عليها شيء من القرآن .
قال ابن عبد البرّ : النّشرة من جنس الطّبّ فهي غسالة شيء له فضل ، فهي كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : « لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك » ، و « من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل » .
ومنعها الحسن وإبراهيم النخعيّ .
---(/4)
الخلاصة في أحكام قيام الليل في الفقه الإسلامي
أيها الأحباب السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه خلاصة أحكام قيام الليل
ففي الموسوعة الفقهية :
قِيام الليل *
التعريف :
1 - القيام في اللّغة : نقيض الجلوس .
والليل في اللّغة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : قضاء الليل ولو ساعةً بالصلاة أو غيرها ، ولا يشترط أن يكون مستغرقاً لأكثر الليل .
ويرى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّه يحصل بصلاة العشاء جماعةً والعزم على صلاة الصّبح جماعةً ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صلى العشاء في جماعة فكانما قام نصف الليل ، ومن صلى الصّبح في جماعة فكانما صلى الليل كله» .
وجاء في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم الليل بطاعة ، وقيل : ساعةً منه ، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
الألفاظ ذات الصّلة :
التهجّد :
2 - التهجّد في اللّغة من الهجود ، ويطلق على النّوم والسهر : يقال : هجد : نام بالليل ، فهو هاجد ، والجمع هجود ، وهجد : صلى بالليل ، ويقال تهجد : إذا نام ، وتهجد إذا صلى، فهو من الأضداد ، ومنه قيل لصلاة الليل : التهجّد .
قال الأزهريّ : المعروف في كلام العرب : أنّ الهاجد هو النائم ، هجد ، هجوداً إذا نام ، وأما المتهجّد فهو القائم إلى الصلاة من النّوم ، وكانه قيل له متهجّد لإلقائه الهجود عن نفسه .
وقد فسرت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، ومجاهد ، قوله تعالى : { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } ، بالقيام للصلاة من النّوم ، فيكون موافقاً للتهجّد .
وأما في الاصطلاح : فقد ذكر القاضي حسين من الشافعية : أنّ التهجّد في الاصطلاح هو صلاة التطوّع في الليل بعد النّوم ، ويؤيّده ما روي من حديث الحجاج بن عمرو رضي الله عنه قال : " يحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلّي حتى يصبح أنّه قد تهجد ، إنّما التهجّد : المرء يصلّي الصلاة بعد رقدة " ، وقيل : إنّه يطلق على صلاة الليل مطلقاً .
وتفصيله في مصطلح ( تهجّد ف / 4 - 6 ) .
والصّلة بين قيام الليل والتهجّد : أنّ قيام الليل أعمّ من التهجّد .
الحكم التكليفيّ :
3 - اتفق الفقهاء على مشروعية قيام الليل ، وهو سنّة عند الحنفية والحنابلة ، ومندوب عند المالكية ، ومستحبّ عند الشافعية .
واختلفوا في فرضيته على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وينظر تفصيله في مصطلح ( اختصاص ف / 4 ) .
كما صرحوا بأنّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار ، قال أحمد : ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل ، وقد صرحت الأحاديث بفضله والحثّ عليه ، كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بقيام الليل ، فإنّه دأب الصالحين قبلكم ، وهو قربة لكم إلى ربّكم ، ومكفرة للسيّئات ، ومنهاة عن الإثم » .
الوقت الأفضل لقيام الليل :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ قيام الليل لا يكون إلا بعد صلاة العشاء ، سواء سبقه نوم أو لم يسبقه ، وأنّ كونه بعد النّوم أفضل .
واختلفوا بعد ذلك في أفضل الأوقات لقيام الليل على أقوال :
فذهب الجمهور إلى أنّ الأفضل مطلقاً السّدس الرابع والخامس من الليل ، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام ، وأحبّ الصّيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ويصوم يوماً ويفطر يوماً » .
وأما لو أراد أن يجعل الليل نصفين : أحدهما للنّوم ، والآخر للقيام ، فالنّصف الأخير أفضل ، لقلة المعاصي فيه غالباً ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدّنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » . ولو أراد أن يجعله أثلاثاً ، فيقوم ثلثه ، وينام ثلثيه ، فالثّلث الأوسط أفضل من طرفيه ; لأنّ الغفلة فيه أتمّ ، والعبادة فيه أثقل ، والمصلّين فيه أقلّ ، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر » .
ويرى المالكية أنّ الأفضل قيام ثلث الليل الآخر لمن تكون عادته الانتباه آخر الليل ، أما من كان غالب حاله أن لا ينتبه آخره ، فالأفضل أن يجعله أول الليل احتياطاً .
أما الليل كلّه ، فقد صرح الشافعية والحنابلة بكراهة قيامه ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلةً إلى الصّبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان » .
ولما روي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم « قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ألم أخبر أنّك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، فقال : فلا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم ، فإنّ لجسدك عليك حقّاً وإنّ لعينك عليك حقّاً وإن لزوجك عليك حقّاً ولزورك عليك حقّاً » .
واستثنوا ليالي مخصوصةً لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر » .
عدد ركعاته :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحبّ افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين » .(/1)
واختلفوا بعد ذلك ، فقال الحنفية : منتهى ركعاته ثماني ركعات ، وهو عند المالكية عشر ركعات ، أو اثنتا عشرة ركعةً .
وقال الشافعية : لا حصر لعدد ركعاته لخبر : « الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر » .
وقال ابن قدامة : اختلفت الرّوايات في عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل : قال ابن عباس رضي الله عنهما : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً » ، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : « ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً : يصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلّي ثلاثاً » ، وفي لفظ قالت : « كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان وغيره بالليل ثلاث عشرة ركعةً ، منها ركعتا الفجر » .
وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في مصطلحي ( تهجّد ف / 6 ، وصلاة التراويح ف / 11 ) .
وهل يصلى أربعاً أربعاً ، أو مثنى مثنى ؟ ذهب مالك والشافعية وأبو يوسف ومحمد إلى أنّه يصلى مثنى مثنى ، احتجاجاً بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « صلاة الليل مثنى ، مثنى ... » ; ولأنّ عمل الأمة في التراويح مثنى مثنى ، من لدن عمر رضي الله تعالى عنه إلى يومنا هذا ، فدل أنّ ذلك أفضل .
وقال أبو حنيفة : يصلى أربعاً أربعاً ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها السابق .
وقال الموصليّ : صلاة الليل ركعتان بتسليمة ، أو ستّ أو ثمان ; لأنّ كل ذلك نقل في تهجّده صلى الله عليه وسلم وتكره الزّيادة على ذلك ; لأنّه لم ينقل .
ترك قيام الليل لمعتاده :
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يكره ترك تهجّد اعتاده بلا عذر ، لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما : « يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل » ، فينبغي للمكلف الأخذ من العمل بما يطيقه ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل » .
وقالت عائشة رضي الله عنها : « كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً داوم عليها » .
وقالت : « كان عمله ديمةً » ، وقالت : « كان إذا عمل عملاً أثبته » .
الاجتماع لقيام الليل :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز التطوّع جماعةً وفرادى ; لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما .
والأفضل في غير التراويح المنزل ، لحديث : « عليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » .
وفي رواية : « صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة » . ولكن إذا كان في بيته ما يشغل باله ، ويقلّل خشوعه ، فالأفضل أن يصلّيها في المسجد فرادى ; لأنّ اعتبار الخشوع أرجح .
ونص الحنفية على كراهة الجماعة في التطوّع إذا كان على سبيل التداعي ، بأن يقتدي أربعة بواحد .
وصرح المالكية بأنّه يكره الجمع في النافلة غير التراويح إن كثرت الجماعة ، سواء كان المكان الذي أريد الجمع فيه مشتهراً كالمسجد ، أو لا كالبيت ، أو قلت الجماعة وكان المكان مشتهراً ، وذلك لخوف الرّياء .
فإن قلت وكان المكان غير مشتهر فلا كراهة ، إلا في الأوقات التي صرح العلماء ببدعة الجمع فيها ، كليلة النّصف من شعبان ، وأول جمعة من رجب ، وليلة عاشوراء ، فإنّه لا خلاف في الكراهة مطلقاً .
قيام ليلة الجمعة :
8 - نصَّ الحنفية على ندب إحياء ليلة الجمعة .
وصرح الشافعية بأنّه يكره تخصيص ليلة الجمعة بقيام . أي بصلاة ، لحديث : « لا تختصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي » .
أما تخصيص غيرها ، سواء كان بالصلاة أو بغيرها ، فلا يكره .
وكذلك لا يكره تخصيص ليلة الجمعة بغير الصلاة ، كقراءة القرآن ، أو الذّكر ، أو الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قيام ليلتي العيدين :
9 - اتفق الفقهاء على أنّه يندب قيام ليلتي العيدين لقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلتي العيدين محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( إحياء الليل ف / 11 ) .
قيام ليالي رمضان :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في سنّية قيام ليالي رمضان ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
« من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » .
وقال الفقهاء : إنّ التراويح هي قيام رمضان ، ولذلك فالأفضل استيعاب أكثر الليل بها ; لأنّها قيام الليل .
قيام ليلة النّصف من شعبان والاجتماع له :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب قيام ليلة النّصف من شعبان ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها ، وصوموا نهارها ، فإنّ الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدّنيا ، فيقول : ألا من مستغفر لي فأغفر له ، ألا من مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلًى فأعافيه ... ألا كذا ... ألا كذا ... حتى يطلع الفجر » .
والتفصيل في ( إحياء الليل ف / 13 ) .
قيام ليالي العشر من ذي الحجة :
12 - صرح الحنفية والحنابلة أنّه يستحبّ قيام الليالي العشر الأول من ذي الحجة ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من أيام أحبّ إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة ، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر » .
قيام أول ليلة من رجب :
13 – يرى بعض الفقهاء أنّه يستحب قيام أول ليلة من رجب ، لأنّها من الليالي الخمس التي لا يردّ فيها الدعاء ، وهي : ليلة الجمعة ، وأول ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، وليلتا العيد .(/2)
ما يستحبّ في قيام الليل :
يستحبّ في قيام الليل ما يلي :
أ - الافتتاح بركعتين خفيفتين :
14 - صرح الشافعية والحنابلة بأنّه يستحبّ لقائم الليل أن يفتتح تهجّده بركعتين خفيفتين لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين » ، وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أنّه قال : « لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة ، فصلى ركعتين خفيفتين ... » الحديث .
ب - ما يقوله القائم للتهجّد :
15 - اختلفت عبارات الفقهاء فيما يقوله قائم الليل إذا قام من الليل يتهجد ، تبعاً لاختلاف الرّوايات عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
فقال سليمان الجمل : إنّه يستحبّ أن يمسح المستيقظ النّوم عن وجهه ، وأن ينظر إلى السماء ولو أعمى وتحت سقف ، وأن يقرأ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلى آخر الآيات .
وعن عبادة رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من تعارّ " استيقظ "، من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير ، الحمد لله ، وسبحان الله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا ، استجيب له ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد ، قال : اللهم لك الحمد ، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ، ولك الحمد ، أنت الحقّ ، ووعدك الحقّ ، ولقاؤك حقّ، وقولك حقّ ، والجنّة حقّ ، والنار حقّ ، والنّبيّون حقّ ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حقّ ، والساعة حقّ ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدّم ، وأنت المؤخّر ، لا إله إلا أنت ، أو لا إله غيرك » وزاد في رواية : « ولا حول ولا قوة إلا بالله » .
ج - كيفية القراءة في قيام الليل :
16 - قال الحنفية والحنابلة : إنّ قائم الليل مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها ، غير أنّ الحنفية قالوا : إنّ الجهر أفضل ما لم يؤذ نائماً ونحوه ، وقال الحنابلة : إن كان الجهر أنشط له في القراءة ، أو كان بحضرته من يستمع قراءته ، أو ينتفع بها ، فالجهر أفضل ، وإن كان قريباً منه من يتهجد ، أو من يستضرّ برفع صوته ، فالإسرار أولى ، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء ، قال عبد الله بن أبي قيس : « سألت عائشة رضي الله تعالى عنها ، كيف كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كلّ ذلك قد كان يفعل ، ربما أسر بالقراءة ، وربما جهر » ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : « كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يرفع طوراً ويخفض طوراً » .
وصرح المالكية بأنّه يندب الجهر في صلاة الليل ما لم يشوّش على مصلّ آخر ، وإلا حرم ، والسّرّ فيها خلاف الأولى .
وقال الشافعية : يسنّ التوسّط بين الإسرار والجهر إن لم يشوّش على نائم أو مصلّ أو نحوهما .
د - إيقاظ من يرجى تهجّده :
17 - نصَّ الشافعية على أنّه يستحبّ لمن قام يتهجد أن يوقظ من يطمع في تهجّده إذا لم يخف ضرراً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته ، فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً ، والذاكرات » .
هـ - إطالة القيام وتكثير الركعات :
18 - ذهب جمهور الحنفية ، والمالكية في قول ، والشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة ، إلى أنّ طول القيام أفضل من كثرة العدد ، فمن صلى أربعاً مثلاً وطول القيام أفضل ممن صلى ثمانياً ولم يطوّله ، للمشقة الحاصلة بطول القيام ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصلاة طول القنوت » والقنوت : القيام .
ولأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته التهجّد ، وكان يطيله ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يداوم إلا على الأفضل .
وزاد الشافعية قولهم : هذا إن صلى قائماً ، فإن صلى قاعداً فالأقرب أنّ كثرة العدد أفضل ، لتساويهما في القعود الذي لا مشقة فيه ، حيث زادت كثرة العدد بالرّكوعات والسّجودات وغيرها .
وقال أبو يوسف من الحنفية : إذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل ، وأما إذا كان له ورد من القرآن يقرؤه ، فكثرة السّجود أفضل .
وذهب المالكية في الأظهر ، وهو وجه عند الحنابلة : إلى أنّ الأفضل كثرة الرّكوع والسّجود، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عليك بكثرة السّجود ، فإنّك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً ، وحط عنك بها خطيئةً » ; ولأنّ السّجود في نفسه أفضل وآكد ، بدليل أنّه يجب في الفرض والنّفل ، ولا يباح بحال إلا لله تعالى ، بخلاف القيام ، فإنّه يسقط في النّفل ، ويباح في غير الصلاة للوالدين ، والحاكم ، وسيّد القوم والاستكثار مما هو آكد وأفضل أولى .
وللحنابلة وجه ثالث ، وهو : أنّهما سواء ، لتعارض الأخبار في ذلك .
و - نية قيام الليل عند النّوم :
19 - صرح الشافعية والحنابلة بأنّه يندب أن ينوي الشخص قيام الليل عند النّوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى ، وكان نومه صدقةً عليه من ربّه عز وجل » .(/3)
قَبْر *
التّعريف :
1 - القبر : مدفن الإنسان ، يقال قبره يقْبِره ويقْبُره قبراً ومقبراً : دفنه ، وأقبره : جعل له قبراً ، والمقْبَُرة بفتح الباء وضمّها : موضع القبور أي موضع دفن الموتى .
والقابر : الدّافن بيده .
ما يتعلّق بالقبر من أحكام :
أ - احترام القبر :
2 - القبر محترم شرعاً توقيراً للميّت ، ومن ثمّ اتّفق الفقهاء على كراهة وطء القبر والمشي عليه ، لما ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نهى أن توطأ القبور » .
لكنّ المالكيّة خصّوا الكراهة بما إذا كان مسنّماً ، كما استثنى الشّافعيّة والحنابلة وطء القبر للحاجة من الكراهة كما إذا كان لا يصل إلى قبر ميّته إلاّ بوطء قبر آخر .
3 - وذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى كراهة الجلوس على القبر ، لما روى أبو مرثد الغنويّ رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها » ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر » .
وذهب المالكيّة إلى جواز الجلوس على القبر .
ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على كراهة الاتّكاء على القبر ، لما روي عن عمارة بن حزم قال : « رآني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالساً على قبر فقال : يا صاحب القبر ، انزل من على القبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك » ، وكذا يكره عند الشّافعيّة الاستناد إليه .
4 - واتّفق الفقهاء على حرمة التّخلّي على القبور ، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لأن أمشي على جمرة أو سيف ، أو أخصف نعلي برجلي ، أحبّ إليّ من أن أمشي على قبر مسلم ، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السّوق » ، وزاد الحنابلة حرمة التّخلّي بينها .
وصرّح الحنفيّة بكراهة النّوم عند القبر .
ب - كيفيّة حفر القبر :
أقلّ ما يجزئ في القبر وأكمله :
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ أقلّ ما يجزئ في القبر حفرة تكتم رائحة الميّت وتحرسه عن السّباع لعسر نبش مثلها غالباً .
قال البهوتيّ : لأنّه لم يرد فيه تقدير ، فيرجع فيه إلى ما يحصل به المقصود .
وقال الحنفيّة : الأدنى أن يعمّق نصف القامة .
أمّا الأكمل : فذهب الشّافعيّة والأكثر من الحنابلة إلى أنّه يستحبّ توسيع القبر وتعميقه قدر قامة وبسطة ، والمراد قامة رجل معتدل يقوم ويبسط يده مرفوعةً ، فقد أوصى عمر رضي الله عنه أن يعمّق قبره قامةً وبسطةً .
وقال المالكيّة : لا حدّ لأكثره لكن يندب عدم عمقه .
وروي عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال : لا تعمّقوا قبري فإنّ خير الأرض أعلاها وشرّها أسفلها .
وذهب الحنابلة على الصّحيح من المذهب إلى أنّه يسنّ تعميق القبر وتوسيعه بلا حدّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد : « احفروا وأعمقوا وأحسنوا » ، ولأنّ تعميق القبر أنفى لظهور الرّائحة الّتي تستضرّ بها الأحياء ، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه وآكد لستر الميّت .
وقال الحنفيّة : الأحسن أن يكون مقدار قامة ، وطوله على طول قدر الميّت ، وعرضه على قدر نصف طوله .
اللّحد والشّقّ :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ صفة اللّحد هي أن يحفر في أسفل حائط القبر الّذي من جهة القبلة مقدار ما يسع الميّت ويجعل ذلك كالبيت المسقوف .
وأمّا صفة الشّقّ ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحفر في وسط القبر حفيرة يوضع الميّت فيها ويبنى جانباها باللّبن أو غيره ويسقف عليها .
وقال المالكيّة : الشّقّ هو أن يحفر في أسفل القبر أضيق من أعلاه بقدر ما يسع الميّت ثمّ يغطّى فم الشّقّ .
واتّفق الفقهاء على أنّ اللّحد أفضل من الشّقّ من حيث الجملة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اللّحد لنا والشّقّ لغيرنا » .
وعن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال في مرض موته : « ألحدوا لي لحداً وانصبوا عليّ اللّبن نصباً كما صنع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم » .
قال الحنفيّة : فإن كانت الأرض رخوةً فلا بأس بالشّقّ .
وقال المالكيّة والشّافعيّة بأفضليّة الشّقّ في الأرض غير الصّلبة .
وقال الحنابلة : إن كانت الأرض رخوةً لا يثبت فيها اللّحد شقّ للحاجة ، وإن أمكن أن يجعل فيها اللّحد من الجنادل واللّبن والحجارة جعل ولم يعدل إلى الشّقّ .
اتّخاذ التّابوت في الدّفن :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يكره الدّفن في التّابوت إلاّ عند الحاجة ، وفرّق الحنفيّة بين الرّجل والمرأة .
والتّفصيل في مصطلح : ( دفن ف 11 ) .
ج - كيفيّة إدخال الميّت القبر ووضعه فيه :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ أن يدخل الميّت من قبل القبلة بأن يوضع من جهتها . وقال المالكيّة : إنّه لا بأس أن يدخل الميّت في قبره من أيّ ناحية كان والقبلة أولى .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه يستحبّ أن يوضع الميّت عند آخر القبر ثمّ يسلّ من قبل رأسه منحدراً .
والتّفصيل في مصطلح : ( دفن ف 8 ) .
د - تغطية القبر حين الدّفن :
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ تغطية قبر المرأة حين الدّفن ، واختلفوا في تغطية قبر الرّجل .
والتّفصيل في مصطلح : ( دفن ف 10 ) .
هـ - الجلوس عند القبر بعد الدّفن :
10 - قال الطّحاويّ : يستحبّ لمن دفن الميّت الجلوس عند قبره بقدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه .
والتّفصيل في مصطلح : ( جنائز ف 45 ) .
و - دفن أكثر من ميّت في القبر :(/1)
11 - الأصل أنّه لا يدفن أكثر من ميّت في القبر الواحد لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدفن كلّ ميّت في قبر ، وعلى هذا استمرّ فعل الصّحابة ومن بعدهم ، إلاّ للضّرورة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد : « ادفنوا الاثنين والثّلاثة في قبر واحد » .
واختلف الفقهاء في حكم دفن أكثر من ميّت في القبر لغير الضّرورة :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة إلى الكراهة .
وذهب الحنابلة وبعض الشّافعيّة إلى الحرمة .
قال القليوبيّ : الكراهة هو ما مشى عليه شيخ الإسلام وغيره واعتمده بعض شيوخنا ، واعتمد شيخنا الزّياديّ وشيخنا الرّمليّ أنّه حرام ولو مع اتّحاد الجنس أو المحرميّة أو الصّغر ، ولو دفن لم ينبش .
وقد سبق كيفيّة وضعهم في القبر الواحد في مصطلح : ( دفن ف 14 ) .
ز - تسنيم القبر وتسطيحه :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ تسنيم القبر - أي جعل التّراب مرتفعاً عليه كسنام الجمل - مندوب ، لما ورد عن سفيان التّمّار : « أنّه رأى قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسنّماً » .
قال المالكيّة والحنابلة : يرفع قدر شبر .
وقال الحنفيّة : قدر شبر أو أكثر شيئاً قليلاً .
وقال البهوتيّ : ليعرف أنّه قبر فيتوقّى ، ويترحّم على صاحبه ، وقد روي عن جابر : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر » ، وعن القاسم بن محمّد قال : دخلت على عائشة فقلت : يا أمّاه ، اكشفي لي عن قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما ، فكشفت لي عن ثلاثة قبور ، لا مشرفة ولا لاطئة ، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء .
قال المالكيّة : وإن زيد على التّسنيم أي من حيث كثرة التّراب بحيث يكون جرماً مسنّماً عظيماً فلا بأس به .
وصرّح الحنابلة بكراهة رفعه فوق شبر لحديث أبي الهيّاج الأسديّ قال : قال لي عليّ بن أبي طالب : « ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته » .
قالوا : والمشرف ما رفع كثيراً ، بدليل ما سبق عن القاسم بن محمّد " لا مشرفة ولا لاطئة " وعند المالكيّة قول ضعيف بكراهة التّسنيم وندب التّسطيح ، أي يجعل عليه سطح كالمصطبة ولكن لا يسوّى ذلك السّطح بالأرض بل يرفع كشبر ، وقيل يرفع قليلاً بقدر ما يعرف . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ تسطيح القبر أفضل من تسنيمه .
13 - ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا مات المسلم في بلاد الكفّار فلا يرفع قبره بل يخفى لئلاّ يتعرّضوا له .
قال البهوتيّ : تسوية قبر المسلم بالأرض وإخفاؤه بدار الحرب أولى من إظهاره وتسنيمه ، خوفاً من أن ينبش فيمثّل به .
ح - تطيين القبر وتجصيصه والبناء عليه :
14 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه يسنّ أن يرشّ على القبر بعد الدّفن ماء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بقبر سعد بن معاذ ، وأمر به في قبر عثمان بن مظعون .
وزاد الشّافعيّة والحنابلة : أن يوضع عليه حصىً صغار ، لما روى جعفر بن محمّد عن أبيه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رشّ على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء » ، ولأنّ ذلك أثبت له وأبعد لدروسه ، وأمنع لترابه من أن تذهبه الرّياح .
قال الشّافعيّة : ويحرم رشّه بالماء النّجس ، ويكره بماء الورد .
15 - واختلف الفقهاء في تطيين القبر :
فذهب الحنفيّة - في المختار - والحنابلة إلى جواز تطيين القبر ، ونقل التّرمذيّ عن الشّافعيّ أنّه لا بأس بالتّطيين .
قال النّوويّ : ولم يذكر ذلك جماهير الأصحاب .
ودليل الجواز قول القاسم بن محمّد في وصف قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه " مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء " .
وذهب المالكيّة وإمام الحرمين والغزاليّ من الشّافعيّة إلى كراهة تطيين القبر .
قال الدّسوقيّ : أكثر عباراتهم في تطيينه من فوق ، ونقل ابن عاشر عن شيخه أنّه يشمل تطيينه ظاهراً وباطناً .
16 - واتّفق الفقهاء على كراهة تجصيص القبر ، لما روى جابر رضي الله تعالى عنه : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه » .
قال المحلّيّ : التّجصيص التّبييض بالجصّ وهو الجير .
قال عميرة : وحكمة النّهي التّزيين ، وزاد إضاعة المال على غير غرض شرعيّ .
17 - وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة البناء على القبر في الجملة ، لحديث جابر : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر وأن يبنى عليه » . وسواء في البناء بناء قبّة أم بيت أم غيرهما .
وقال الحنفيّة : يحرم لو للزّينة ، ويكره لو للإحكام بعد الدّفن .
وفي الإمداد من كتب الحنفيّة : واليوم اعتادوا التّسنيم باللّبن صيانةً للقبر عن النّبش ورأوا ذلك حسناً ، وقال عبد اللّه بن مسعود : ما رأى المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن . ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على حرمة البناء في المقبرة المسبّلة ووجوب هدمه .
قال المالكيّة : إلاّ إذا كان يسيراً للتّمييز .
كما صرّح المالكيّة بحرمة تحويز القبر - بأن يبنى حوله حيطان تحدق به - ووجوب هدم ذلك فيما إذا بوهي بالبناء ، أو صار مأوىً لأهل الفساد ، أو في ملك الغير بغير إذنه ، قال الدّسوقيّ : البناء على القبر أو حوله في الأراضي الثّلاثة - وهي المملوكة له ولغيره بإذن والموات - حرام عند قصد المباهاة وجائز عند قصد التّمييز وإن خلا عن ذلك كره .
وعن أحمد روايتان في البناء في المقبرة المسبّلة :(/2)
رواية بالكراهة الشّديدة ، لأنّه تضييق بلا فائدة واستعمال للمسبّلة فيما لم توضع له . ورواية بالمنع ، صوّبها البهوتيّ قائلاً : المنقول في هذا ما سأله أبو طالب عمّن اتّخذ حجرةً في المقبرة ، قال : لا يدفن فيها ، والمراد لا يختصّ به وهو كغيره .
وقال الشّيخ تقيّ الدّين : من بنى ما يختصّ به فيها فهو غاصب .
وكره أحمد الفسطاط والخيمة على القبر ، لأنّ أبا هريرة أوصى حين حضره الموت أن لا تضربوا عليّ فسطاطاً .
وقال البخاريّ في صحيحه ورأى ابن عمر فسطاطاً على قبر عبد الرّحمن فقال : انزعه يا غلام فإنّما يظلّه عمله .
ط - تعليم القبر والكتابة عليه :
18 - اختلف الفقهاء في تعليم القبر :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز تعليم القبر بحجر أو خشبة أو نحوهما ، لما روي أنّه : « لمّا مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته ، فدفن فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله ، فقام إليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه فحملها فوضعها عند رأسه ، وقال : أتعلّم بها قبر أخي ، وأدفن إليه من مات من أهلي » .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يندب تعليم القبر بأن يوضع عند رأسه حجر أو خشبة ونحوهما ، قال الماورديّ : وكذا عند رجليه .
19 - واختلف الفقهاء أيضاً في الكتابة على القبر ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة الكتابة على القبر مطلقاً لحديث جابر قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه » .
قال المالكيّة : وإن بوهي بها حرم .
وقال الدّردير : النّقش مكروه ولو قرآناً ، وينبغي الحرمة لأنّه يؤدّي إلى امتهانه .
وذهب الحنفيّة والسّبكيّ من الشّافعيّة إلى أنّه لا بأس بالكتابة إن احتيج إليها حتّى لا يذهب الأثر ولا يمتهن .
قال ابن عابدين : لأنّ النّهي عنها وإن صحّ فقد وجد الإجماع العمليّ بها ، فقد أخرج الحاكم النّهي عنها من طرق ثمّ قال هذه الأسانيد صحيحة وليس العمل عليها فإنّ أئمّة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السّلف ، ويتقوّى بما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمل حجراً فوضعها عند رأس عثمان بن مظعون وقال : « أتعلّم بها قبر أخي ، وأدفن إليه من مات من أهلي » ، فإنّ الكتابة طريق إلى تعرّف القبر بها ، نعم يظهر أنّ محلّ هذا الإجماع العمليّ على الرّخصة فيها ما إذا كانت الحاجة داعيةً إليه في الجملة ، حتّى يكره كتابة شيء عليه من القرآن أو الشّعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك .
ي - زيارة القبور :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب زيارة القبور للرّجال ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّر الآخرة » .
وقد سبق تفصيل أحكام الزّيارة في مصطلح : ( زيارة القبور ف 1 ) ، كما سبق تفصيل أحكام زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مصطلح : ( زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ف 2 ) .
ك - نبش القبر :
21 - اتّفق الفقهاء على منع نبش القبر إلاّ لعذر وغرض صحيح ، واتّفقوا على أنّ من الأعذار الّتي تجيز نبش القبر كون الأرض مغصوبةً أو الكفن مغصوباً أو سقط مال في القبر ، وعندهم تفصيل في هذه الأعذار .
واختلفوا فيما يعدّ عذراً وغرضاً صحيحاً سوى هذه الأعذار ، وتفصيل ذلك فيما يلي :
فمن العذر عند الحنفيّة تعلّق حقّ الآدميّ به كأن تكون الأرض مغصوبةً أو أخذت بشفعة أو سقط في القبر متاع أو كفن بثوب مغصوب ، أو دفن معه مال ، قالوا : ولو كان المال درهماً ، أمّا لو تعلّق به حقّ اللّه تعالى كما إذا دفن بلا غسل أو صلاة أو وضع على غير يمينه أو إلى غير القبلة فإنّه لا ينبش بعد إهالة التّراب .
واستثنى المالكيّة من منع النّبش خمس مسائل :
الأولى : أن يكون الكفن مغصوباً سواء من الميّت أو غيره فينبش إن أبى ربّه أخذ قيمته ولم يتغيّر الميّت .
الثّانية : إذا دفن في ملك غيره بدون إذنه ، وعندهم في ذلك أقوال .
قال ابن رشد : للمالك إخراجه مطلقاً سواء طال الزّمن أم لا .
وقال اللّخميّ : له إخراجه إن كان بالفور ، وأمّا مع الطّول فليس له إخراجه وجبر على أخذ القيمة .
وقال ابن أبي زيد : إن كان بالقرب فله إخراجه ، وإن طال فله الانتفاع بظاهر الأرض ولا يخرجه .
الثّالثة : إن نسي معه مال لغيره ولو قلّ ، أو له وشحّ الوارث وكان له بال إن لم يتغيّر الميّت ، وإلاّ أجبر غير الوارث على أخذ القيمة أو المثل ولا شيء للوارث .
الرّابعة : عند الضّرورة في دفن غيره فينبش .
الخامسة : عند إرادة نقله عند توافر شروط النّقل .
وأجاز الشّافعيّة النّبش للضّرورة فقط ، ومن الضّرورة عندهم : لو دفن بلا غسل فيجب نبشه تداركاً لغسله الواجب ما لم يتغيّر .
قال النّوويّ : وللصّلاة عليه ، فإن تغيّر وخشي فساده لم يجز نبشه لما فيه من انتهاك حرمته .
ولو دفن في أرض أو ثوب مغصوبين ، فيجب نبشه وإن تغيّر ليردّ كلّ على صاحبه إذا لم يرض ببقائه ، وفي الثّوب وجه أنّه لا يجوز النّبش لردّه لأنّه كالتّالف فيعطى صاحبه قيمته . ولو وقع في القبر مال فيجب نبشه لأخذه ، قال النّوويّ : هكذا أطلقه أصحابنا ، وقيّد أبو إسحاق الشّيرازيّ الوجوب بالطّلب فعند عدم الطّلب يجوز ولا يجب ، قال القليوبيّ : وهو المعتمد ، ولو بلع مال نفسه حرم نبشه وشقّ جوفه لإخراجه ولو أكثر من الثّلث ولو في مرض موته ، أو مال غيره فكذلك إن لم يطلبه صاحبه أو ضمنوه لصاحبه وإلاّ وجب .
ولو دفن لغير القبلة فيجب نبشه وتوجيهه للقبلة ما لم يتغيّر .(/3)
ولو دفنت امرأة حامل رجي حياة جنينها فتنبش ويشقّ جوفها .
ولو دفن في مسجد فينبش مطلقاً ويخرج منه .
وأجاز الحنابلة نبش القبر لتدارك الواجب وللغرض الصّحيح .
فمن النّبش لتدارك الواجب ما لو دفن قبل الغسل فيلزم نبشه ويغسّل تداركاً لواجب الغسل ، ما لم يخف تفسّخه أو تغيّره .
ولو دفن لغير القبلة أيضاً ينبش ويوجّه إليها تداركاً لذلك الواجب .
ولو دفن قبل الصّلاة عليه ينبش ويصلّى عليه ، ليوجد شرط الصّلاة وهو عدم الحائل ، وقال ابن شهاب والقاضي : لا ينبش ويصلّى على القبر لإمكانها عليه .
ولو دفن قبل تكفينه يخرج ويكفّن ، لما روى سعيد عن شريح بن عبيد الحضرميّ أنّ رجالاً قبروا صاحباً لهم لم يغسّلوه ، ولم يجدوا له كفناً ، ثمّ لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه من قبره ثمّ غسّل وكفّن وحنّط وصلّي عليه ، ولو كفّن بحرير هل ينبش ؟ فيه وجهان : قال في الإنصاف : الأولى عدم نبشه احتراماً له .
ومن النّبش للغرض الصّحيح تحسين الكفن ، لحديث جابر قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول بعدما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه » ، ودفنه في بقعة خير من بقعته الّتي دفن فيها فيجوز نبشه لذلك ، ولمجاورة صالح لتعود عليه بركته وكإفراده في قبر عمّن دفن معه ، لقول جابر : دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتّى أخرجته ، فجعلته في قبر على حدة وفي رواية كان أبي أوّل قتيل ، يعني يوم أحد ، ودفن معه آخر في قبر ، ثمّ لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر ، فاستخرجته بعد ستّة أشهر ، فإذا هو كيوم وضعته هنيّة غير أذنه .
ولو دفن في مسجد ونحوه كمدرسة ورباط فينبش ويخرج تداركاً للعمل بشرط الواقف لتعيين الواقف الجهة لغير ذلك .
وإن دفن في ملك غيره بلا إذن ربّه ، فللمالك إلزام دافنه بنقله ليفرغ له ملكه عمّا شغله به بغير حقّ ، قالوا : والأولى للمالك تركه حتّى يبلى لما فيه من هتك حرمته .
وإن وقع في القبر ما له قيمة عرفاً أو رماه ربّه فيه نبش وأخذ ذلك منه ، لما روي أنّ المغيرة بن شعبة وضع خاتمه في قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قال خاتمي ، فدخل وأخذه ، وكان يقول : أنا أقربكم عهداً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، قال أحمد : إذا نسي الحفّار مسحاته في القبر جاز أن ينبش .
وإن كفّن بثوب غصب وطلبه ربّه لم ينبش وغرم ذلك من تركته ، لإمكان دفع الضّرر مع عدم هتك حرمته ، فإن تعذّر الغرم لعدم تركة نبش القبر وأخذ الكفن إن لم يتبرّع وارث أو غيره ببذل قيمة الكفن وإن بلع مال غيره بغير إذنه وكان ممّا تبقى ماليّته كخاتم وطلبه ربّه لم ينبش وغرم ذلك من تركته صوناً لحرمته مع عدم الضّرر ، فإن تعذّر الغرم نبش القبر وشقّ جوفه إن لم يتبرّع وارث أو غيره ببذل قيمة المال لربّه وإلاّ فلا ينبش ، وإن بلع مال الغير بإذن ربّه أخذ إذا بلي الميّت ، لأنّ مالكه هو المسلّط له على ماله بالإذن له ، ولا يعرض للميّت قبل أن يبلى .
وإن بلع مال نفسه لم ينبش قبل أن يبلى ، لأنّ ذلك استهلاك لمال نفسه في حياته أشبه ما لو أتلفه إلاّ أن يكون عليه دين فينبش ويشقّ جوفه فيخرج ويوفّى دينه ، لما في ذلك من المبادرة إلى تبرئة ذمّته من الدّين .
ل - قراءة القرآن على القبر :
22 - اختلف الفقهاء في قراءة القرآن على القبر :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تكره قراءة القرآن على القبر بل تستحبّ ، لما روى أنس مرفوعاً قال : « من دخل المقابر فقرأ فيها يس خفّف عنهم يومئذ ، وكان له بعددهم حسنات » ، وصحّ عن ابن عمر أنّه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها .
قال الشّافعيّة : يقرأ شيئاً من القرآن .
قال القليوبيّ : وممّا ورد عن السّلف أنّه من قرأ سورة الإخلاص إحدى عشرة مرّةً وأهدى ثوابها إلى الجبّانة غفر له ذنوب بعدد الموتى فيها .
وروى السّلف عن عليّ رضي الله عنه أنّه يعطى له من الأجر بعدد الأموات .
قال ابن عابدين نقلاً عن شرح اللّباب : ويقرأ من القرآن ما تيسّرله من الفاتحة وأوّل البقرة إلى المفلحون وآية الكرسيّ ، وآمن الرّسول ، وسورة يس ، وتبارك الملك ، وسورة التّكاثر والإخلاص اثنتي عشرة مرّةً أو إحدى عشرة أو سبعاً أو ثلاثاً .
وقال البهوتيّ : قال السّامريّ يستحبّ أن يقرأ عند رأس القبر بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمتها .
وصرّح الحصكفيّ بأنّه لا يكره إجلاس القارئين عند القبر ، قال : وهو المختار .
وذهب المالكيّة : إلى كراهة القراءة على القبر ، لأنّه ليس من عمل السّلف ، قال الدّردير : المتأخّرون على أنّه لا بأس بقراءة القرآن والذّكر وجعل ثوابه للميّت ويحصل له الأجر إن شاء اللّه .
لكن رجّح الدّسوقيّ الكراهة مطلقاً .
م - الصّلاة على القبر :
23 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الصّلاة على قبر الميّت في الجملة ، على تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( جنائز ف 37 ) .
ن - تقبيل القبر واستلامه :
24 - اختلف الفقهاء في حكم تقبيل القبر واستلامه :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى منع ذلك وعدّوه من البدع .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى الكراهة .
قال الشّافعيّة : إن قصد بتقبيل الأضرحة التّبرّك لم يكره .
وقال البهوتيّ من الحنابلة : وذلك كلّه من البدع .(/4)
قَدْر *
التّعريف :
1 - قدر الشّيء في اللّغة مبلغه ، وهو أن يكون مساوياً لغيره من غير زيادة ولا نقصان . وفي الاصطلاح : التّساوي في المعيار الشّرعيّ الموجب للمماثلة صورةً وهو الكيل والوزن ، قال الرّاغب : القدر والتّقدير تبيين كميّة الشّيء ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الهلال : « فإن غمّ عليكم فاقدروا له » أي قدّروا عدد الشّهر حتّى تكملوا ثلاثين يوماً .
ما يتعلّق بالقدر من أحكام :
أ - القدر المعفوّ عنه من النّجاسة :
2 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ قدر الدّرهم وما دونه من النّجاسة المغلّظة كالدّم والبول والخمر ونحوها معفوّ عنه ، وجازت الصّلاة معه .
وفرّق المالكيّة بين الدّم وما معه من قيح وصديد وسائر النّجاسات ، فيقولون بالعفو عن قدر درهم من دم وقيح وصديد ، لأنّ الإنسان لا يخلو عنه .
أمّا الشّافعيّة فقالوا بالعفو عن اليسير من الدّم والقيح ونحوهما ممّا يعسر الاحتراز عنه . وصرّح الحنابلة بأنّه لا يعفى عن يسير النّجاسة ولو لم يدركها الطّرف ، وإنّما يعفى عن يسير الدّم وما يتولّد منه من القيح والصّديد .
والتّفصيل في مصطلح : ( عفو ف 7 ) .
ب - قدر النّصاب في الزّكاة وقدر الواجب فيها :
3 - يختلف قدر النّصاب في أنواع الأموال الّتي تجب فيها الزّكاة كنصاب زكاة الأنعام ، ففي الإبل إذا بلغت خمساً شاة وفي البقر إذا بلغت ثلاثين تبيع أو تبيعة وفي الغنم إذا بلغت أربعين شاة .
وفي زكاة الذّهب إذا بلغ النّصاب عشرين مثقالاً والفضّة مائتي درهم فالمقدار الواجب فيهما ربع العشر ، وعروض التّجارة تقوّم ثمّ تعامل معاملة الذّهب والفضّة .
وفي زكاة الزّروع والثّمار إذا بلغت خمسة أوسق فيها العشر إن سقيت بغير كلفة ونصف العشر إن سقيت بكلفة .
والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ف 44 ، 51 ، 57 ، 72 ، 87 ، 115 ) .
ج - القدر من العلل الرّبويّة :
4 - اتّفق الفقهاء على ثبوت الرّبا في الأشياء السّتّة المنصوص عليها في حديث : « الذّهب بالذّهب مثلاً بمثل ، والفضّة بالفضّة مثلاً بمثل ، والتّمر بالتّمر مثلاً بمثل ، والبرّ بالبرّ مثلاً بمثل ، والملح بالملح مثلاً بمثل ، والشّعير بالشّعير مثلاً بمثل ... » .
كما اتّفق فقهاء الأمصار على أنّ حكم الرّبا غير مقصور على الأشياء السّتّة وأنّ فيها معنىً ويتعدّى الحكم بذلك المعنى إلى غيرها من الأموال .
واتّفقوا على أنّ علّة الذّهب والفضّة واحدة ، وعلّة الأعيان الأربعة واحدة ، ثمّ اختلفوا في تلك العلّة :
فذهب الحنفيّة إلى أنّ العلّة هي الجنسيّة والقدر ، عرفت الجنسيّة بقوله صلى الله عليه وسلم : « التّمر بالتّمر ، والحنطة بالحنطة » وعرف القدر بقوله صلى الله عليه وسلم : « مثلاً بمثل » ويعني بالقدر الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن ، فقد بيّن أنّ العلّة هي الكيل والوزن .
وروي عن عبادة وأنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعاً واحداً ، وما كيل فمثل ذلك ، فإذا اختلف النّوعان فلا بأس به » ، وجه التّمسّك به أنّه عليه الصلاة والسلام رتّب الحكم على الجنس والقدر ، وهذا نصّ على أنّهما علّة الحكم ، لما عرف أنّ ترتّب الحكم على الاسم المشتقّ ينبئ عن علّيّة مأخذ الاشتقاق لذلك الحكم ، فيكون تقديره : المكيل والموزون مثلاً بمثل بسبب الكيل أو الوزن مع الجنس ، والّذي يدلّ عليه حديث أبي سعيد وأبي هريرة : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال : أكلّ تمر خيبر هكذا ؟ فقال إنّا نأخذ الصّاع من هذا بالصّاعين والصّاعين بالثّلاثة ، فقال : فلا تفعل ، بع الجمع بالدّراهم ثمّ ابتع بالدّراهم جنيباً ، وقال : في الميزان مثل ذلك » أي في الموزون ، إذ نفس الميزان ليس من أموال الرّبا ، وهو أقوى حجّةً في علّيّة القدر ، وهو بعمومه يتناول الموزون كلّه الثّمن والمطعوم وغيرهما .
هذا ولمعرفة أقوال بقيّة الفقهاء في علّة تحريم الرّبا ينظر مصطلح : ( ربا ف 21 - 25 ).(/1)
قَرْقَرَةٌ
التَّعْرِيفُ : 1 - الْقَرْقَرَةُ فِي اللُّغَةِ : الضَّحِكُ الْعَالِي . وَالْقَرْقَرَةُ : رُغَاءُ الْبَعِيرِ , وَقَرْقَرَ بَطْنُهُ : صَوَّتَ , وَقَرْقَرَ الشَّرَابُ فِي حَلْقِهِ : صَوَّتَ . وَالْقَرْقَرَةُ اصْطِلَاحًا : حَبْسُ الرِّيحِ , ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الْحَاقِبُ وَالْحَاقِنُ وَالْحَازِقُ وَالْحَافِزُ : 2 - الْحَاقِنُ : مُدَافِعُ الْبَوْلِ , وَالْحَاقِبُ : مُدَافِعُ الْغَائِطِ , وَالْحَازِقُ : قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : مُدَافِعُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ , وَقِيلَ : مُدَافِعُ الرِّيحِ . وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : الْحَازِقُ الَّذِي ضَاقَ خُفُّهُ , وَالْحَافِزُ : مُدَافِعُ الرِّيحِ . وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا عَكْسَ ذَلِكَ قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : وَلَا مَانِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ . وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَرْقَرَةِ حَبْسُ مَا يُنْقِضُ الْوُضُوءَ فِي كُلٍّ .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 3 - انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْلِ أَنَّ الْقَرْقَرَةَ - حَبْسَ الرِّيحِ - إنْ كَانَتْ تَمْنَعُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - كَمَا لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْإِيتَانِ بِهِ بِعُسْرٍ - فَإِنَّهَا تُبْطِلُ الْوُضُوءَ . فَمَنْ حَصَرَهُ رِيحٌ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَصْلًا , أَوْ يَأْتِي بِهِ مَعَ عُسْرٍ كَانَ وُضُوءُهُ بَاطِلًا , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ , أَمَّا إذَا كَانَتْ الْقَرْقَرَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَا تُبْطِلُ الْوُضُوءَ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْقَرْقَرَةَ الشَّدِيدَةَ تُنْقِضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ لَمْ تَمْنَعْ مِنْ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ , وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِحَبْسِ الرِّيحِ , وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مَعَهَا . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( حَاقِنٌ ف 5 - 6 ) .(/1)
قَرْنٌ
التَّعْرِيفُ : 1 - الْقَرْنُ فِي اللُّغَةِ - بِالسُّكُونِ - مِنْ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ مَعْرُوفٌ , وَجَمْعُهُ قُرُونٌ , مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٌ , وَالْقَرْنُ أَيْضًا : الذُّؤَابَةُ , وَالْجِيلُ مِنْ النَّاسِ , وَيُطْلَقُ عَلَى وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ . وَقَرْنٌ أَيْضًا مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ , وَهُوَ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى عَرَفَاتٍ , وَيُقَالُ لَهُ : قَرْنُ الْمَنَازِلِ , وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَرْنِ : أَوَّلًا : قَرْنٌ بِمَعْنَى الْمِيقَاتِ : 2 - قَرْنٌ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ - مِيقَاتُ الْمُتَوَجِّهِينَ مِنْ نَجْدٍ إلَى الْحَجِّ , وَهُوَ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا , وَيُقَالُ لَهَا قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَقَرْنَ الثَّعَالِبِ , وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةٍ : يُقَالُ لَهُ : قَرْنٌ غَيْرُ مُضَافٍ , وَسَمَّاهُ فِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْنِد قَرْنُ الْمَعَادِنِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : إحْرَامٌ ف 40 ) .
ثَانِيًا : الْقَرْنُ مِنْ الْحَيَوَانِ : التَّضْحِيَةُ بِمَا لَا قَرْنَ لَهُ مِنْ غَنَمٍ أَوْ بَقَرٍ : 3 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَدَا ابْنَ حَامِدٍ - أَنَّهُ يُجْزِئُ الْجَمَّاءُ - وَهِيَ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا خِلْقَةً - فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ . وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ التَّضْحِيَةَ بِالْجَمَّاءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِالْجَمَّاءِ لِأَنَّ ذَهَابَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْقَرْنِ يَمْنَعُ , فَذَهَابُ الْجَمِيعِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَوَرُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَمَى , وَكَذَلِكَ مَا مَنَعَ مِنْهُ الْعَضَبُ يَمْنَعُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَجَمَّ أَوْلَى . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( جَمَّاءُ ف 3 ) .
التَّضْحِيَةُ بِمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ : 4 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَكْسُورَةَ الْقَرْنِ تُجْزِئُ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ , فَإِذَا بَلَغَ الْكَسْرُ الْمُشَاشَ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُ , وَالْمُشَاشُ رُءُوسُ الْعِظَامِ مِثْلُ الرُّكْبَتَيْنِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا الْمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يُدْمِي فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَرَضٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : تُجْزِئُ الَّتِي انْكَسَرَ قَرْنُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ , سَوَاءٌ أَدْمَى قَرْنُهَا بِالِانْكِسَارِ أَمْ لَا ؟ قَالَ الْقَفَّالُ : إلَّا أَنْ يُؤَثِّرَ أَلَمُ الِانْكِسَارِ فِي اللَّحْمِ فَيَكُونَ كَالْجَرَبِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْعَضْبَاءُ - وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا - لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ } قَالَ قَتَادَةَ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ : الْعَضَبُ النِّصْفُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ , وَقَالَ أَحْمَدُ : الْعَضْبَاءُ مَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا , نَقَلَهُ حَنْبَلٌ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ كَالْكُلِّ .(/1)
ثَالِثًا : الْقَرْنُ بِمَعْنَى الْجِيلِ مِنْ النَّاسِ , وَوَقْتٌ مِنْ الزَّمَانِ : خَيْرُ الْقُرُونِ : 5 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ قَرْنُهُ صلى الله عليه وسلم , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ - رَاوِي الْحَدِيثِ - : فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , ثُمَّ إنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ , وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ , وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ , وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } , وَفِي رِوَايَةٍ : { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ . . . } , قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَالْمُرَادُ بِقَرْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحَابَةُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَرِوَايَةُ { خَيْرُ النَّاسِ } عَلَى عُمُومِهَا وَالْمُرَادُ مِنْهُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ , وَلَا أَفْرَادُ النِّسَاءِ عَلَى مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَغَيْرِهِمَا , بَلْ الْمُرَادُ جُمْلَةُ الْقَرْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ قَرْنٍ بِجُمْلَتِهِ . قَالَ الْقَاضِي : وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَرْنِ هُنَا فَقَالَ الْمُغِيرَةُ : قَرْنُهُ أَصْحَابُهُ , وَاَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ , وَالثَّالِثُ أَبْنَاءُ أَبْنَائِهِمْ , وَقَالَ شَهْرٌ : قَرْنُهُ مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْهُ , وَالثَّانِي مَا بَقِيَتْ عَيْنٌ رَأَتْ مَنْ رَآهُ ثُمَّ كَذَلِكَ , وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ : الْقَرْنُ كُلُّ أَهْلِ طَبَقَةٍ مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْتٍ , وَقِيلَ : هُوَ لِأَهْلِ مُدَّةٍ بُعِثَ فِيهَا نَبِيٌّ طَالَتْ مُدَّتُهُ أَمْ قَصُرَتْ . وَذَكَرَ الْحَرْبِيُّ الْخِلَافَ فِي قَدْرِهِ بِالسِّنِينَ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ , ثُمَّ قَالَ : وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاضِحٌ , وَرَأَى أَنَّ الْقَرْنَ كُلُّ أُمَّةٍ هَلَكَتْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ : الْقَرْنُ عَشْرُ سِنِينَ , وَقَتَادَةَ : سَبْعُونَ , وَالنَّخَعِيُّ : أَرْبَعُونَ , وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى : مِائَةٌ وَعِشْرُونَ , وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ : مِائَةٌ , وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : هُوَ الْوَقْتُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَرْنَهُ صلى الله عليه وسلم الصَّحَابَةُ , وَالثَّانِي التَّابِعُونَ , وَالثَّالِثُ تَابِعُوهُمْ .(/2)
قَلَنْسُوَة *
التعريف :
1 - القَلَنْسُوة لغةً : من ملابس الرّءوس .
والتقليس : لبس القلنسوة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ما يتعلق بالقلنسوة من أحكام :
حكم المسح عليها في الوضوء :
2 - ذهب الحنفية والحنابلة في المذهب إلى أنّه لا يجوز المسح في الوضوء على القلنسوة لعدم الحرج في نزعها .
قال إسحاق بن إبراهيم : قال أحمد : لا يمسح على القلنسوة .
وقال المالكية : يجوز المسح على القلنسوة إن خيف من نزعها ضرر .
وقال الشافعية : إن عسر رفع القلنسوة ، أو لم يرد ذلك كمل بالمسح عليها وإن لبسها على حدث ، لخبر مسلم « أنّه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة » ، وسواء أعسر عليه تنحيتها أم لا .
حكم لبس المحرم القلنسوة :
3 - يحرم على المحرم لبس القلنسوة ، لأنّ ستر الرأس من محظورات الإحرام ، لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم : لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين » .
قال ابن بطال : قوله « ولا البرانس » قال في الصّحاح البرنس : قلنسوة طويلة وكان النّساك يلبسونها في صدر الإسلام .
فإن لبس المحرم القلنسوة لزمه الفدية وهذا باتّفاق الفقهاء .
حكم لبس أهل الذّمة القلانس :
4 - من أحكام أهل الذّمة أنّهم يُلزمون بلبس يميّزهم عن المسلمين ، لأنّ عمر رضي الله تعالى عنه صالحهم على تغيير زيّهم بمحضر من الصحابة ، فإذا لبسوا القلانس يجب أن تكون مخالفةً للقلانس التي يلبسها المسلمون وذلك بتمييزها بعلامة يُعرفون بها .
قال ابن عابدين : يمنع أهل الذّمة من لبس القلانس الصّغار ، وإنّما تكون طويلةً من كرباس مصبوغةً بالسواد مضربةً مبطنةً وهذا في العلامة أولى .
وقد ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج بإلزامهم لبس القلانس الطويلة المضربة وأنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يأمر بذلك ، أي تكون علامةً يعرفون بها .
وقال الشّيرازيّ : إن لبسوا القلانس جعلوا فيها خِرَقاً ليتميزوا عن قلانس المسلمين ، لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح نصارى الشام فشرط أن لا تتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة .
وبمثل ذلك قال الحنابلة .
وقال المالكية : يُلزمون بلبس يميّزهم .(/1)
قَهْقَهَة *
التعريف :
1 - القهقهة مصدر قهقه إذا مد ورجع في ضحكه ، وقيل : هو اشتداد الضحك .
وفي الاصطلاح : الضحك المسموع له ولجيرانه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الضحك :
2 - الضحك لغةً : مصدر ضَحِكَ يضحك ضِحكاً وضَحِكاً : انفرجت شفتاه وبدت أسنانه من السّرور .
وفي الاصطلاح : هو ما يكون مسموعاً له دون جيرانه .
وبين الضحك والقهقهة عموم وخصوص .
ب - التبسّم :
3 - التبسّم مصدر تبسم ، والثّلاثيّ بسم ، يقال : بسم يبسم بسماً : انفرجت شفتاه عن ثناياه ضاحكاً بدون صوت ، وهو أخفّ من الضحك .
وعرفه الجرجانيّ بقوله : ما لا يكون مسموعاً له ولجيرانه .
والصّلة بين التبسّم والقهقهة أنّ التبسّم غالباً مقدّمة للقهقهة .
الحكم الإجماليّ :
4 - اختلف الفقهاء في القهقهة في الصلاة ، فقال جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة : إنّ الصلاة تفسد بالقهقهة ولا ينتقض الوضوء ، لما روى البيهقيّ عن أبي الزّناد قال : كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم منهم سعيد بن المسيّب وعروة بن الزّبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وغيرهم يقولون فيمن رعف غسل عنه الدم ولم يتوضأ وفيمن ضحك في الصلاة أعادها ولم يعد وضوءه . ولأنّ الضحك لو كان ناقضاً لنقض في الصلاة وغيرها كالحدث ، فهي لا توجب الوضوء خارج الصلاة فلا توجبه داخلها كالعطاس والسّعال .
وقال الحنفية : القهقهة في الصلاة ذات الرّكوع والسّجود تنقض الوضوء وتفسد الصلاة لما روي عن أبي العالية والحسن البصريّ وإبراهيم النّخعيّ والزّهريّ « أنّ رجلاً أعمى جاء والنبيّ صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فتردى في بئر ، فضحك طوائف من الصحابة ، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة » ، وكما تبطل بالحدث العمد إذا حصل قبل القعود الأخير قدر التشهّد فإنّها تبطل كذلك ، بالقهقهة إذا حصلت قبل القعود الأخير قدر التشهّد كذلك أما إن كانت بعده فإنّها لا تبطل الصلاة وإن نقضت الوضوء. وأما إذا كانت القهقهة خارج الصلاة ، أو في صلاة الجنازة وسجدة التّلاوة وصلاة الصبيّ وصلاة الباني بعد الوضوء لا تفسد الوضوء في جميع ذلك .
قهقهة الإمام والمأموم :
5 - ولو قهقه الإمام والقوم جميعاً : فإنّ قهقهة الإمام أولاً تنقض وضوءه دون القوم ; لأنّ قهقهتهم لم تصادف تحريمة الصلاة بفساد صلاتهم لفساد صلاة الإمام ، فجعلت قهقهتهم خارج الصلاة .
وإن قهقه القوم أولاً ثم الإمام انتقض طهارة الكلّ ; لأنّ قهقهتهم حصلت في الصلاة .
وكذلك إن قهقهوا معاً ; لأنّ قهقهة الكلّ حصلت في تحريمة الصلاة .
وهذا مذهب الحنفية .(/1)
قَيْء *
التعريف :
1 - القيء لغةً : مصدر قاء ، يقال قاء الرجل ما أكله قيئاً من باب باع ، ثم أطلق المصدر على الطعام المقذوف ، واستقاء استقاءةً ، وتقيأ : تكلف القيء ، ويتعدى بالتضعيف فيقال : قيّأه غيره .
واصطلاحاً : هو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة .
الألفاظ ذات الصّلة :
القلس :
2 - القلَس لغةً : القذف وبابه ضرب ، وقال الخليل : القلس : ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء ، فإن عاد فهو القيء .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
والصّلة بينهما : أنّ القلس دون القيء .
الأحكام المتعلّقة بالقيء :
للقيء أحكام منها :
طهارة القيء ونجاسته :
3 - اختلفت الآراء في طهارة القيء ونجاسته .
فيقول الحنفية والشافعية والحنابلة بنجاسته ولكلّ منهم تفصيله ، وبذلك يقول المالكية في المتغيّر عن حال الطعام ولو لم يشابه أحد أوصاف العذرة .
قال الحنفية : إنّ نجاسته مغلظة ; لأنّ كل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة ولا خلاف عندهم في ذلك ، واستدلّوا بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم :
« يا عمار إنّما يغسل الثوب من خمس : من الغائط ، والبول ، والقيء ، والدم ، والمنيّ »، وهذا إذا كان ملء الفم ، أما ما دونه فطاهر على ما هو المختار من قول أبي يوسف ، وفي فتاوى نجم الدّين النّسفيّ : صبيّ ارتضع ثم قاء فأصاب ثياب الأمّ : إن كان ملء الفم فنجس ، فإذا زاد على قدر الدّرهم منع الصلاة في هذا الثوب ، وروى الحسن عن أبي حنيفة : أنّه لا يمنع ما لم يفحش ; لأنّه لم يتغير من كلّ وجه وهو الصحيح .
والثدي إذا قاء عليه الولد ، ثم رضعه حتى زال أثر القيء ، طهر حتى لو صلت صحت صلاتها .
وعند الشافعية : أنّه نجس ، وإن لم يتغير حيث وصل إلى المعدة ، ولو ماءً وعاد حالاً بلا تغيّر ; لأنّ شأن المعدة الإحالة ، فهو طعام استحال في الجوف إلى النّتن والفساد ، فكان نجساً كالغائط ، واستدلّوا لذلك بالحديث السابق ، وقالوا : إنّه لو ابتلي شخص بالقيء عفي عنه في الثوب والبدن وإن كثر كدم البراغيث .
والمراد بالابتلاء بذلك : أن يكثر وجوده بحيث يقلّ خلوّه منه ، واستثنوا من القيء عسل النّحل فقالوا : إنّه طاهر لا نجس معفوّ عنه .
وعند الحنابلة : أنّه نجس ; لأنّه طعام استحال في الجوف إلى الفساد أشبه الغائط .
واختلفت الرّواية عندهم في العفو عن يسير القيء فروي عن أحمد أنّه قال : هو عندي بمنزلة الدم ، وذلك لأنّه خارج من الإنسان نجس من غير السبيل فأشبه الدم ، وعنه أنّه لا يعفى عن يسير شيء من ذلك ; لأنّ الأصل أن لا يعفى عن شيء من النّجاسة خولف في الدم وما تولد منه فيبقى فيما عداه على الأصل .
وعند المالكية : أنّ النّجس من القيء هو المتغيّر عن حال الطعام ولو لم يشابه أحد أوصاف العذرة ، ويجب غسله عن الثوب والجسد والمكان ، فإن كان تغيّره بصفراء أو بلغم ولم يتغير عن حالة الطعام فطاهر .
فإذا تغير بحموضة أو نحوها فهو نجس وإن لم يشابه أحد أوصاف العذرة كما هو ظاهر المدونة واختاره سند والباجيّ وابن بشير وابن شاس وابن الحاجب خلافاً للتّونسيّ وابن رشد وعياض حيث قالوا : لا ينجس القيء إلا إذا شابه أحد أوصاف العذرة .
أثر القيء في الوضوء :
4 - اختلف الفقهاء في نقض الوضوء بالقيء :
فذهب المالكية والشافعية إلى أنّه لا ينقضه .
وعند الحنفية أنّ القيء ينقض الوضوء متى كان ملء الفم ، سواء كان قيء طعام أو ماء وإن لم يتغير .
وحدّ ملئه : أن لا ينطبق عليه الفم إلا بتكلّف " أي مشقة " على الأصحّ من التفاسير فيه ، وقيل حدّ ملئه : أن يمنع الكلام ، وذلك لتنجّسه بما في قعر المعدة وهو مذهب العشرة المبشرين بالجنّة ; ولأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم « قاء فتوضأ » ; ولأنّ خروج النّجاسة مؤثّر في زوال الطهارة .
فإذا لم يملأ الفم لا ينقض الوضوء ; لأنّه من أعلى المعدة ، وكذا لا ينقضه قيء بلغم ولو كان كثيراً لعدم تخلّل النّجاسة فيه وهو طاهر .
وإن قاء قليلاً قليلاً متفرّقاً ولو جمع تقديراً كان ملء الفم ، فأبو يوسف اعتبر اتّحاد المجلس; لأنّه جامع للمتفرّقات ، ومحمد اعتبر اتّحاد السبب وهو الغثيان ; لأنّه دليل على اتّحاده ، وهو الأصحّ ، وعلى هذا ينقض القيء المتفرّق الوضوء إن كان قدر ملء الفم .
وعند زفر ينقض قليله كثيره وهما في ذلك سواء ; لأنّه لما كان الخارج من غير السبيلين حدثاً بما دل عليه من الدليل وجب أن يستوي فيه القليل والكثير كالخارج من السبيلين ، ولقوله : « القلس حدث » .
ولو قاء دماً وهو علق يعتبر فيه ملء الفم ; لأنّه سوداء محترقة ، وإن كان مائعاً فكذلك عند محمد اعتباراً بسائر أنواعه ، وعندهما : إن سال بقوة نفسه ينقض الوضوء وإن كان قليلاً ; لأنّ المعدة ليست بمحلّ الدم ، فيكون من قرحة في الجوف .
وعند الحنابلة : أنّه ينقض الوضوء إن فحش في نفس كلّ أحد بحسبه ; لأنّ اعتبار حال الإنسان بما يستفحشه غيره حرج فيكون منفيّاً لما رواه معدان بن طلحة عن أبي الدرداء رضي الله عنه « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال : صدق أنا صببت له وضوءه » ، ولا ينقض اليسير لقول ابن عباس في الدم : إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة .
وتفصيله في مصطلح ( وضوء ) .
أثر القيء في الصلاة :
5 - الطهارة في الصلاة شرط من شروط صحتها وما يبطل الطهارة يبطل الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طهور » فتفسد الصلاة إن فقدت شرطاً من شروط صحتها كالطهارة .(/1)
فعند الحنفية : أنّ من سبقه الحدث في الصلاة فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم » ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا صلى أحدكم فقاء أو رعف فليضع يده على فمه وليقدّم من لم يسبق له شيء » ، فإن كان منفرداً إن شاء عاد إلى مكانه وإن شاء أتمها في منزله ، والمقتدي والإمام يعودان إلا أن يكون الإمام الجديد قد أتم الصلاة فيتخيران ، والاستئناف أفضل لخروجه عن الخلاف ، ولئلا يفصل بين أفعال الصلاة بأفعال ليست منها ، وقيل : إن كان إماماً أو مقتدياً فالبناء أولى إحرازاً لفضيلة الجماعة ، وإن كان إماماً استخلف لقوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إمام سبقه الحدث في الصلاة فلينصرف ولينظر رجلاً لم يسبق بشيء فليقدّمه ليصلّي بالناس » ، وإنّما يجوز البناء إذا فعل ما لا بد منه كالمشي والاغتراف حتى لو استقى أو غرز دلوه أو وصل إلى نهر فجاوزه إلى غيره فسدت صلاته ، وإن سبقه الحدث بعد التشهّد توضأ وسلم ; لأنّه لم يبق عليه سوى السلام ، وإن تعمد الحدث تمت صلاته ; لأنّه لم يبق عليه شيء من أركان الصلاة ، وقد تعذر البناء لمكان التعمّد وإذا لم يبق عليه شيء من أركان الصلاة تمت صلاته.
وعند المالكية : أنّ من ذرعه قيء طاهر يسير لم يزدرد منه شيئاً لم تبطل صلاته ، فإن كان نجساً أو كثيراً أو ازدرد شيئاً منه عمداً بطلت صلاته ، وإن ازدرد شيئاً منه نسياناً لم تبطل ويسجد للنّسيان بعد السلام ، وإن غلبه ففيه قولان ، والقلس كالقيء .
وذهب الشافعية : إلى أنّ من سبقه الحدث ففيه قولان : في الجديد تبطل صلاته ; لأنّه حدث يبطل الطهارة فأبطل الصلاة كحدث العمد ، وقال في القديم : لا تبطل صلاته بل ينصرف ويتوضأ ويبني على صلاته ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال : من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن صلاته وهو في ذلك لا يتكلم » ; ولأنّه حدث حصل بغير اختياره فأشبه سلس البول ، قال في المجموع : لو رعف المصلّي أو قاء أو غلبته نجاسة أخرى جاز له على القديم أن يخرج ويغسل نجاسته ويبني على صلاته بالشّروط السابقة في الحدث نص عليه .
وعند الحنابلة : إن كان القيء فاحشاً بطلت صلاته وعليه الإعادة ، واختلف الرّواية عند أحمد في يسيره ، فروي أنّه قال : هو عندي بمنزلة الدم وذلك ; لأنّه خارج من الإنسان نجس من غير السبيل فأشبه الدم ، وعنه أنّه لا يعفى عن يسير شيء من ذلك ; لأنّ الأصل أن لا يعفى عن شيء من النّجاسة .
أثر القيء في الصوم :
6 - اتفق الفقهاء على أنّ الصائم إذا ذرعه القيء " أي غلبه " فلا يبطل صومه لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمداً فليقض » . ولو عاد القيء بنفسه بغير صنع الصائم فعند المالكية والشافعية وأبي يوسف من الحنفية يفسد صومه ، وعند الحنابلة ومحمد من الحنفية لا يفسد صومه لعدم وجود الصّنع منه . والتفصيل في مصطلح ( صوم / 80 - 81 ) .(/2)
قَيْح *
التعريف :
1 - القيح في اللّغة : المدة الخالصة التي لا يخالطها دم .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصديد :
2 - الصديد هو ماء الجرح الرقيق المختلط بدم قبل أن تغلظ المدة ، ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
والعلاقة بينهما أنّ الصديد يكون في الجرح قبل القيح .
ب - الدم :
3 - الدم - بالتخفيف - هو ذلك السائل الأحمر الذي يجري في عروق الحيوانات وعليه تقوم الحياة .
ويستعمل الفقهاء الدم بهذا المعنى ، وكذلك بمعنى القصاص والهدي .
والدم بالمعنى الأول أصل القيح .
الأحكام التي تتعلق بالقيح :
حكم القيح من حيث النّجاسة والطهارة :
4 - اتفق الفقهاء على أنّ القيح إذا خرج من بدن الإنسان فهو نجس ; لأنّه من الخبائث ، قال الله تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } ، والطّباع السليمة تستخبثه ، والتحريم لا للاحترام دليل النّجاسة ; لأنّ معنى النّجاسة موجود في القيح إذ النّجس اسم للمستقذر وهذا مما تستقذره الطّباع السليمة لاستحالته إلى خبث ونتن رائحة ; ولأنّه متولّد من الدم والدم نجس .
انتقاض الوضوء بالقيح :
5 - اختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بالقيح ، فقال المالكية والشافعية : لا ينتقض الوضوء بخروج القيح من البدن ; لأنّ النّجاسة التي تنقض الوضوء عندهم هي ما خرجت من السبيلين فقط ، فلا ينتقض الوضوء بالنّجاسة الخارجة من غير السبيلين كالحجامة والقيح ; لما روي : « أنّ رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين في غزوة ذات الرّقاع فقام أحدهما يصلّي فرماه رجل من الكفار بسهم فنزعه وصلى ودمه يجري » .
وعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم به ولم ينكره .
وذهب الحنفية إلى أنّ خروج القيح من البدن إلى موضع يلحقه حكم التطهير ينقض الوضوء، قال السرخسيّ : لو تورم رأس الجرح فظهر به قيح ونحوه لا ينقض ما لم يتجاوز الورم ; لأنّه لا يجب غسل موضع الورم فلم يتجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير ; لأنّ الدم إذا لم يسل كان في محلّه ; لأنّ البدن محلّ الدم والرّطوبات إلا أنّه كان مستتراً بالجلدة وانشقاقها يوجب زوال السّترة لا زوال الدم عن محلّه ولا حكم للنّجس ما دام في محلّه وكذا هاهنا ، ألا ترى أنّه تجوز الصلاة مع ما في البطن من الأنجاس .
وقال زفر من الحنفية ينتقض الوضوء سواء سال القيح أو لم يسل ; لأنّ ظهور النّجس اعتبر حدثاً في السبيلين سال عن رأس المخرج أو لم يسل كذا في غير السبيلين .
والمذهب عند الحنابلة انتقاض الوضوء بالقيح إلا أنّ الذي ينقض عندهم هو الكثير من ذلك دون اليسير ، أما كون الكثير ينقض فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث فاطمة بنت أبي حبيش : « إنّما ذلك عرق ، فتوضئي لكلّ صلاة » ; ولأنّها نجاسة خارجة عن البدن أشبهت الخارج من السبيل ، وأما كون اليسير من ذلك لا ينقض فلمفهوم قول ابن عباس رضي الله عنهما في الدم : إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة .
قال أحمد بن حنبل : إنّ الكثير هو ما فحش في نفس كلّ أحد بحسبه ، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : " الفاحش ما فحش في قلبك ، وفي رواية أنّه ينقض قل أو كثر " .
صلاة من كان في ثوبه أو بدنه قيح :
6 - قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين إن أصاب بدن الإنسان أو ثوبه شيء من القيح فإنّه لا تجوز الصلاة إن كان كثيراً ; لأنّ من شروط الصلاة طهارة الثوب والبدن والمكان ، وأما إذا كان القيح يسيراً فإنّه في الجملة يعفى عن اليسير وتجوز الصلاة به ; لأنّ الإنسان غالباً لا يسلم من مثل هذا ; ولأنّه يشقّ التحرّز منه .
ثم اختلف الفقهاء في قدر اليسير المعفوّ عنه ، انظر تفصيل ذلك في مصطلح ( صديد ف / 17 ) .(/1)
قَيْلُولة *
التعريف :
1 - القيلولة في اللّغة : من قال يقيل قيلاً وقيلولةً ، وقائلةً : نام نصف النهار .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، قال الشّربينيّ الخطيب : القيلولة هي النّوم قبل الزوال .
وقال العينيّ : القيلولة معناها النّوم في الظهيرة .
وقال المناويّ : القيلولة : النّوم وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبل أو بعد .
الحكم التكليفيّ :
2 - نوم القائلة مستحبّ .
قال الموصليّ : تستحبّ القيلولة .
قال عليه الصلاة والسلام : « قيلوا فإنّ الشياطين لا تقيل » ، وقال : « استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ، وبالقيلولة على قيام الليل » ، يعني الصلاة فيه وهو التهجّد وما في معناه من ذكر وقراءة فإنّ النفس إذا أخذت حظها من نوم النهار استقبلت السهر بنشاط وقوة انبساط ، فأفاد ندب التسحّر والنّوم وسط النهار وبقصد التقوّي على الطاعة .
وقال الشّربينيّ الخطيب : يسنّ للمتهجّد القيلولة وهي النّوم قبل الزوال وهي بمنزلة السّحور للصائم .
وللتفصيل ( ر : نوم ) .
الاستئذان للدّخول وقت القيلولة :
3 - وقت القائلة هو من الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعرّي ، وهي ثلاثة أوقات ذكرها الله تعالى في قوله سبحانه : { مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء } ، فما قبل الفجر وقت انتهاء النّوم ووقت وضع ثياب النّوم ولبس ثياب النهار ، ووقت القائلة وقت التجرّد أيضاً وهي الظهيرة ، وبعد صلاة العشاء وقت التعرّي للنّوم فالتكشّف غالب في هذه الأوقات ، يروى « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهيرةً ليدعوه فوجده نائماً قد أغلق عليه الباب فدق الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أنّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدّخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن ، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } ، فخر ساجداً شكراً لله تعالى » ، فقد أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم ، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنّهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعرّي .
ثم اختلف الصحابة في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : هي محكمة : يعني في الرّجال خاصةً ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما قد ذهب حكمها . روى عكرمة أنّ نفراً من أهل العراق سألوا ابن عباس فقالوا : يا ابن عباس ، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد ، قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... } ، وقرأها . فقال ابن عباس : إنّ الله رفيق بجميع المؤمنين يحبّ الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم أو ولده أو يتيمه ، والرجل على أهله ، فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات . فجاءهم الله بالسّتور والخير ، فلم أر أحداً يعمل بذلك .(/1)
قُدْرَة *
التّعريف :
1 - القدرة في اللّغة : اسم من قَدَرت على الشّيء أقدر - من باب ضرب - قويت عليه وتمكّنت منه .
واصطلاحاً : هي الصّفة الّتي تمكّن الحيّ من الفعل وتركه بالإرادة .
قال الرّاغب الأصفهانيّ : القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكّن من فعل شيء ما ، وإذا وصف اللّه تعالى بها فهي نفي العجز عنه ، ومحال أن يوصف غير اللّه تعالى بالقدرة المطلقة معنىً ، وإن أطلق عليه لفظاً .
القدرة شرط التّكليف :
2 - يقول الأصوليّون : جواز التّكليف مبنيّ على القدرة الّتي يوجد بها الفعل المأمور به ، وهذا شرط في أداء كلّ أمر ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي طاقتها وقدرتها .
ويقول الجصّاص : نصّ التّنزيل قد أسقط التّكليف عمّن لا يقدر على الفعل ولا يطيقه ، من ذلك سقوط الفرض عن المكلّفين فيما لا تتّسع له قواهم ، لأنّ الوسع هو دون الطّاقة ، وأنّه ليس عليهم استفراغ الجهد في أداء الفرض ، نحو الشّيخ الكبير الّذي يشقّ عليه الصّوم ويؤدّي إلى ضرر يلحقه في جسمه وإن لم يخش الموت بفعله ، فليس عليه صومه ، لأنّ اللّه لم يكلّفه إلاّ ما يتّسع لفعله .
وقد قسّم الحنفيّة القدرة إلى قدرة ممكنة ، وهي مفسّرة بسلامة الآلات وصحّة الأسباب ، وإلى قدرة ميسّرة ، وهي الّتي يقدر بها الإنسان على الفعل مع يسر .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( استطاعة ف 10 ) والملحق الأصوليّ .
ما تتحقّق به القدرة :
يختلف ما تتحقّق به القدرة باختلاف التّصرّفات ، سواء أكان ذلك في العبادات أم في المعاملات .
القدرة في العبادات :
أوّلاً : القدرة على الطّهارة المائيّة :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الطّهارة بالماء للوضوء أو الغسل تتحقّق بما يأتي :
أ - وجود الماء الكافي للطّهارة والفائض عن الحاجة الضّروريّة ، وذلك لقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } .
ب - إمكان استعمال الماء بنفسه على وجه لا يضرّه ، أو استعماله بمساعد ولو بأجر ، لأنّ العاجز عن استعمال الماء بنفسه إذا وجد من يوضّئه بأجرة المثل يعتبر قادراً بقدرة الغير . فإذا لم يتحقّق وجود الماء أو إمكان الاستعمال ، فلا يعتبر الشّخص قادراً ، وينتقل من الطّهارة المائيّة إلى التّيمّم .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( تيمّم ف 21 وما بعدها ) .
ثانياً : القدرة على أداء أركان الصّلاة :
4 - ذهب الفقهاء إلى أنّه تتحقّق القدرة على أداء الصّلاة بسلامة أعضاء البدن الّتي يتمكّن بها المصلّي من الإتيان بالأركان على الوجه الأكمل الّذي بيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » .
وإذا عجزت أعضاء البدن عن الإتيان بها على الوجه الأكمل ، فإنّ المسلم يعتبر قادراً بما يمكنه الإتيان به ولو بإيماءة برأسه ، فيجب عليه الإتيان بذلك لقدرته عليه ، لأنّ الصّلاة من العبادات الّتي لا تسقط عن المكلّف إلاّ لمانع شرعيّ ، كالحيض والجنون المطبق . والأصل في ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : « صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب » وفي رواية : « فإن لم تستطع فمستلقياً ، لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها » .
ثالثاً : القدرة على أداء الزّكاة :
5 - ذهب مالك والشّافعيّ إلى أنّ القدرة على الأداء شرط لوجوب أداء الزّكاة على الفور ، وتتحقّق هذه القدرة بحضور المال وحضور المستحقّين أو حضور الإمام أو السّاعي ، لأنّ الزّكاة عبادة ، فيشترط لوجوبها إمكان أدائها ، كالصّلاة والصّوم .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ القدرة على الأداء ليست شرطاً لوجوبها ، لأنّ الزّكاة عبادة ماليّة فيثبت وجوبها في الذّمّة مع عدم إمكان الأداء ، كثبوت الدّيون في ذمّة المفلس . والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ف 14 وما بعدها ) .
رابعاً : القدرة على أداء الحجّ :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ من شروط وجوب الحجّ الاستطاعة ، لقوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } .
وذهب الفقهاء إلى أنّ الاستطاعة ، أي القدرة تتحقّق بما يأتي :
أ - وجود الزّاد والرّاحلة ، وهو وجود المال الّذي يكفي النّفقة ذهاباً وإياباً .
ب - سلامة البدن من الأمراض والعاهات الّتي تعوق عن الحجّ ، ويعتبر العاجز بنفسه قادراً بقدرة غيره ، كالأعمى الّذي يجد من يقوده ، والمقعد الّذي يجد من يحجّ عنه .
ج - أمن الطّريق وذلك بأن يكون الإنسان آمناً على نفسه وماله .
د - وجود محرم بالنّسبة للمرأة أو رفقة مأمونة كما يقول بعض الفقهاء .
والتّفصيل في مصطلح : ( حجّ ف 14 وما بعدها ) .
القدرة في المعاملات :
أوّلاً : القدرة على تسليم المبيع :
7 - ذهب الفقهاء إلى أنّ القدرة على تسليم المبيع من شروط صحّة البيع ، لأنّ غير المقدور على تسليمه كالمعدوم ، وتتحقّق القدرة على تسليم المبيع بأن يكون الإنسان مالكاً له متمكّناً من التّصرّف فيه وتسليمه للمشتري ، ولذلك لا يصحّ بيع الطّير في الهواء ، ولا السّمك في الماء ، ولا الجمل الشّارد ، ولا ما لا يملكه الإنسان .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( بيع منهيّ عنه ف 32 ) .
ثانياً : القدرة على استيفاء المنفعة في الإجارة :(/1)
8 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يشترط في المنفعة لصحّة الإجارة القدرة على استيفائها حقيقةً أو شرعاً ، وتتحقّق القدرة على استيفاء المنفعة من الشّيء المستأجر بالتّمكّن من الاستيفاء حقيقةً أو شرعاً ، ولذلك لا تصحّ إجارة الدّابّة الفارّة ، كما لا تصحّ إجارة الأقطع أو الأشلّ للخياطة بنفسه ، لأنّها منافع لا تحدث إلاّ عند سلامة الأسباب .
والتّفصيل في مصطلح : ( إجارة ف 30 ) .
ثالثاً : القدرة على أداء الدّين :
9 - ذهب الفقهاء إلى وجوب أداء الدّين عند القدرة على الأداء لقوله تعالى : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ } .
وإذا كان الدّين حالاً فإنّه يجب أداؤه على الفور عند طلبه متى كان المدين قادراً على الأداء ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم » ويتحقّق المطل عند عدم الأداء بعد الطّلب .
أمّا إذا كان الدّين مؤجّلاً فلا يجب أداؤه قبل حلول الأجل ، لكن لو أدّي قبله صحّ وسقط عن ذمّة المدين .
وإذا ماطل القادر ولم يؤدّ ما عليه من الدّين ألزمه الحاكم بالأداء بعد طلب الغرماء ، فإذا امتنع حبسه الحاكم لظلمه بتأخير الحقّ من غير ضرورة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » ، والحبس عقوبة فإن لم يؤدّ وكان له مال ظاهر باعه الحاكم عليه لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « باع على معاذ ماله وقضى ديونه » .
وكذلك روي أنّ سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه باع مال أسيفع وقسمه بين غرمائه .
وإذا لم يكن المدين قادراً على الأداء بأن كان معسراً أو أفلس ، ففي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( إعسار ف 15 ، وإفلاس ف 6 ) .
رابعاً : القدرة على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر :
10 - الأصل في ذلك قول اللّه تعالى : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » .
قال ابن العربيّ : القدرة أصل ، وتكون في النّفس وتكون في البدن إن احتاج إلى النّهي عن المنكر بيده .
وقال الغزاليّ : يجب قتال المقيمين على المعاصي المصرّين عليها ، فإذا لم يستطع الإنسان ذلك فلينكر بلسانه ، فإن خاف على نفسه أو على عضو من أعضائه أنكر بقلبه ، ولا يسقط الإنكار بالقلب عن المكلّف باليد أو اللّسان أصلاً .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ف 5 ) .
خامساً : القدرة على المحارب :
11 - الحرابة من الكبائر ، والمحاربون مفسدون في الأرض ، وجزاؤهم هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } .
ولكنّ هذه العقوبة إنّما تنفّذ فيهم إذا قدر عليهم الحاكم وتمكّن من القبض عليهم قبل أن يتوبوا ويأتوا معلنين توبتهم ، ولذلك إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم الحاكم سقطت العقوبة عنهم ، لقول اللّه تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( حرابة ف 24 ) .
سادساً القدرة على دفع الضّرر عن الغير :
12 - من أمكنه إنقاذ شخص من الهلاك كمن كان معه طعام وكان غيره مضطرّاً إليه فالواجب عليه بذله له ، وكذلك من وجد أعمى كاد أن يتردّى في بئر ، أو وجد إنساناً كاد أن يغرق ، فإنّ الواجب عليه إنقاذه متى كان قادراً على ذلك ، حتّى لو كان في صلاة وجب قطعها لإنقاذ غيره من الهلاك .
فإن امتنع الإنسان من بذل الطّعام الزّائد عن حاجته ، أو امتنع عن إنقاذ الغريق ونحوه ، فإنّه يكون آثماً ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أيّما رجل مات ضياعاً بين أقوام أغنياء فقد برئت منهم ذمّة اللّه وذمّة رسوله » .
يقول الكاسانيّ : من كان عنده ماء في أرض مملوكة له واضطرّ قوم إليه وخافوا الهلاك يقال له : إمّا أن تأذن بالدّخول وإمّا أن تعطي بنفسك ، فإن لم يعطهم ومنعهم من الدّخول فلهم أن يقاتلوه بالسّلاح ليأخذوا قدر ما يندفع به الهلاك ، والأصل فيه ما روي أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلّوهم على البئر فأبوا ، وسألوهم أن يعطوهم دلواً فأبوا ، فقالوا لهم : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا كادت تقطع فأبوا ، فذكروا ذلك لعمر رضي الله تعالى عنه فقال : هلاّ وضعتم فيهم السّلاح .
قال الشّربينيّ الخطيب : دفع ضرر المسلمين فرض كفاية على الموسرين ، ككسوة عار وإطعام جائع .
ويقول المالكيّة : يضمن من ترك تخليص شيء معرّض للهلاك ، من نفس أو مال ، وسواء قدر على تخليصه بيده أو بلسانه أو جاهه فإنّه يضمن .
وينظر تفصيل ذلك في : ( ضمان ) .
سابعاً : القدرة على تربية المحضون :
13 - يشترط فيمن تثبت له الحضانة أن يكون قادراً على صون الصّغير في خلقه وصحّته ، ولذلك لا تثبت الحضانة للعاجز لكبر سنّ أو مرض يعوق عن ذلك ، أو عاهة كالعمى والخرس والصّمم ، أو كانت الحاضنة تخرج كثيراً لعمل أو غيره وتترك الولد ضائعاً . وينظر تفصيل ذلك في : ( حضانة ف 14 ) .(/2)
قُرْءٌ
قُرْءٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْقُرْءُ لُغَةً : بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ الْحَيْضُ , وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الطُّهْرِ , وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ , وَجَمْعُهُ قُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَأَفْلُسٌ , وَيُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ . وَعَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْوَقْتِ . وَيُطْلَقُ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا , حَيْثُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي أَنَّ الْقُرْءَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُذَكَّرُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ , فَيَكُونُ حَقِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لِلْقُرْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ , وَكَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ( رضي الله عنهم ) وَفُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ قَالُوا : إنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْعِدَّةِ الْأَطْهَارُ , لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ . الْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ , وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ , قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ النَّيْسَابُورِيِّ : كُنْت أَقُولُ إنَّهُ الْأَطْهَارُ , وَأَنَا أَذْهَبُ الْيَوْمَ إلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ .(/1)
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْءِ : عِدَّةُ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ : 2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا ذَاتِ الْأَقْرَاءِ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } , سَوَاءٌ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْفُرْقَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَوْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : إنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ إذَا كَانَتْ حُرَّةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْقُرْءِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ , وَذَهَبُوا إلَى أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُحْتَسَبُ ذَلِكَ الطُّهْرُ مِنْ الْعِدَّةِ , حَتَّى لَا تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ كَوَامِلَ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ , فَلَا يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا , لقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ , وَلَوْ حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ لَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِطُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الَّذِي صَادَفَهُ الطَّلَاقُ مَحْسُوبٌ مِنْ الْأَقْرَاءِ , وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ , وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِعَدَدٍ لَا يَقَعُ عَلَى مَا دُونَهُ فَيَكُونُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ , وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْحَيْضِ يَكُونُ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثٍ كَوَامِلَ ; لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الطُّهْرِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ مِنْ الْعِدَّةِ , فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْكِتَابِ ; وَلِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْءِ بِمَعْنَى الْحَيْضِ , { قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْتَحَاضَةِ : إذَا أَتَى قُرْؤُك فَلَا تُصَلِّي } ; وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ , وَالْعِلْمُ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ , فَكَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ , وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرُوءِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْأَطْهَارُ , فَإِنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ طَاهِرًا وَبَقِيَ مِنْ زَمَنِ طُهْرِهَا شَيْءٌ وَلَوْ لَحْظَةً حُسِبَتْ قُرْءًا ; لِأَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ وَإِنْ قَلَّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ قُرْءٍ , فَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ . وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } , أَيْ فِي وَقْتِ عِدَّتِهِنَّ , لَكِنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مُحَرَّمٌ , فَيُصْرَفُ الْإِذْنُ إلَى زَمَنِ الطُّهْرِ , وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ , حَيْثُ قَالَ : { فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ } , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ , وَلِدُخُولِ الْهَاءِ فِي الثَّلَاثَةِ فِي قوله تعالى : { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } , وَإِنَّمَا تَدْخُلُ الْهَاءُ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لَا فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ يُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ , وَالْحَيْضُ مُؤَنَّثٌ وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْأَطْهَارُ .
انْتِقَالُ الْعِدَّةِ : أ - انْتِقَالُ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ : 3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى تَحَوُّلِ الْعِدَّةِ مِنْ الْحَيْضِ إلَى الْأَشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَصْبَحَتْ يَائِسَةً , فَتَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَى الْأَشْهُرِ , فَتَسْتَقْبِلُ بِالْأَشْهُرِ ; لِأَنَّهَا لَمَّا أَيِسَتْ قَدْ صَارَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ , لقوله تعالى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } , فَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ عَنْ الْحَيْضِ .(/2)
ب - انْتِقَالُ الْعِدَّةِ مِنْ الْقُرُوءِ أَوْ الْأَشْهُرِ إلَى وَضْعِ الْحَمْلِ : 4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوْ الْأَشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنْ الزَّوْجِ , فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَتَحَوَّلُ إلَى وَضْعِ الْحَمْلِ , وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْ الْقُرُوءِ أَوْ الْأَشْهُرِ , وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنْ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا ; وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَقْوَى مِنْ الدَّمِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ , لقوله تعالى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( عِدَّةٌ ف 38 )
ج - انْتِقَالُ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَشْهُرِ إلَى الْأَقْرَاءِ : 5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ , ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ , تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَشْهُرِ إلَى الْأَقْرَاءِ ; لِأَنَّ الْأَشْهُرَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ بَدَلٌ عَنْ الْأَقْرَاءِ , وَقَدْ ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ , وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ : ( عِدَّةٌ ف 28 - 31 )
قُرْآنٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْقُرْآنُ لُغَةً : فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ مِنْ قَرَأَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ , يُقَالُ : قَرَأَ قُرْآنًا , قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا جَمَعْنَاهُ وَأَثْبَتْنَاهُ فِي صَدْرِك فَاعْمَلْ بِهِ , وَخُصَّ بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَصَارَ لَهُ كَالْعَلَمِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : قَالَ الْبَزْدَوِيُّ : هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ , الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ , الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَقْلًا مُتَوَاتِرًا , بِلَا شُبْهَةٍ , وَهُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَالْقُرْآنُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَعَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ; لِأَنَّهُمْ يَبْحَثُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ , وَذَلِكَ آيَةٌ آيَةٌ لَا مَجْمُوعُ الْقُرْآنِ . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ بِخَمْسَةٍ وَخَمْسِينَ اسْمًا : سَمَّاهُ كِتَابًا , وَمُبِينًا , وَقُرْآنًا , وَكَرِيمًا , وَكَلَامًا , وَنُورًا , وَهُدًى , وَرَحْمَةً , وَفُرْقَانًا , وَشِفَاءً , وَمَوْعِظَةً , وَذِكْرًا , وَمُبَارَكًا , وَعَلِيًّا , وَحِكْمَةً . . . إلَخْ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : الْمُصْحَفُ : 2 - الْمُصْحَفُ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا - , مَا جُعِلَ جَامِعًا لِلصُّحُفِ الْمَكْتُوبَةِ , وَجَمْعُهُ مَصَاحِفُ . وَرَوَى السُّيُوطِيّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَسَمَّاهُ الْمُصْحَفَ . وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمُصْحَفَ مَا جُمِعَ فِيهِ الْقُرْآنُ .
( حُجِّيَّةُ الْقُرْآنِ ) : 3 - الْقُرْآنُ هُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ , وَهُوَ حُجَّةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَوَقُّفِ حُجِّيَّةِ غَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ عَلَيْهِ لِثُبُوتِهَا بِهِ , فَإِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } , وَكَذَا الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَدِلَّةِ حُجِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ .
( خَصَائِصُ الْقُرْآنِ ) : أ - الْكِتَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ : 4 - الْقُرْآنُ هُوَ مَا نُقِلَ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمُصْحَفِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا , وَقُيِّدَ بِالْمَصَاحِفِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم بَالَغُوا فِي نَقْلِهِ وَتَجْرِيدِهِ عَمَّا سِوَاهُ , حَتَّى كَرِهُوا التَّعَاشِيرَ وَالنَّقْطَ كَيْ لَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ , فَنَعْلَمَ أَنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمُصْحَفِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ , وَأَنَّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ لَيْسَ مِنْهُ , إذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ مَعَ تَوَافُرِ الدَّوَاعِي عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ أَنْ يُهْمَلَ بَعْضُهُ , فَلَا يُنْقَلُ , أَوْ يُخْلَطُ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ .(/3)
ب - التَّوَاتُرُ : 5 - لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ , وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ , أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا . فَقَدْ جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَرْحِهِ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ : مَا نُقِلَ آحَادًا فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ قَطْعًا , وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ خِلَافٌ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ , وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ لِتَضَمُّنِهِ التَّحَدِّيَ ; وَلِأَنَّهُ أَصْلُ الْأَحْكَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَالنَّظْمِ جَمِيعًا حَتَّى تَعَلَّقَ بِنَظْمِهِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ; وَلِأَنَّهُ يُتَبَرَّكُ بِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ , وَلِذَا عُلِمَ جَهْدُ الصَّحَابَةِ فِي حِفْظِهِ بِالتَّوَاتُرِ الْقَاطِعِ , وَكُلُّ مَا تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي نَقْلِهِ يُنْقَلُ مُتَوَاتِرًا عَادَةً , فَوُجُودُهُ مَلْزُومٌ لِلتَّوَاتُرِ عِنْدَ الْكُلِّ عَادَةً , فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ التَّوَاتُرُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ قَطْعًا , وَالْمَنْقُولُ آحَادًا لَيْسَ مُتَوَاتِرًا , فَلَيْسَ قُرْآنًا . كَمَا جَاءَ فِيهِ : عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ آيِ كُلِّ سُورَةٍ تَوْقِيفِيٌّ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِأَمْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ , وَجَاءَ أَيْضًا : بَقِيَ أَمْرُ تَرْتِيبِ السُّوَرِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ هَذَا التَّرْتِيبُ بِاجْتِهَادٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . . . وَالْحَقُّ هُوَ الْأَوَّلُ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مُصْحَفٌ ) .
ج - ( الْإِعْجَازُ ) : 6 - مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ , الْمُتَحَدَّى بِإِعْجَازِهِ , وَالْمُرَادُ بِالْإِعْجَازِ ارْتِقَاؤُهُ فِي الْبَلَاغَةِ إلَى حَدٍّ خَارِجٍ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ , قَالَ الزَّرْكَشِيّ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُعْجِزٌ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } . قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : ذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كُتُبِهِ - إلَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يُعْجَزُ عَنْهُ مِنْ الْقُرْآنِ السُّورَةُ , قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً , أَوْ مَا كَانَ بِقَدْرِهَا , قَالَ : فَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ بِقَدْرِ حُرُوفِ سُورَةٍ وَإِنْ كَانَتْ كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ , فَذَلِكَ مُعْجِزٌ . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .(/4)
د - ( كَوْنُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ) : 7 - لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } . قَالَ الزَّرْكَشِيّ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ كَلَامٌ مُرَكَّبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ , وَأَنَّ فِيهِ أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ لِمَنْ لِسَانُهُ غَيْرُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ , كَإِسْرَائِيلَ , وَجَبْرَائِيلَ , وَنُوحٍ , وَلُوطٍ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ غَيْرُ أَعْلَامٍ مُفْرَدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ الْعَرَبِ ؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي إلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِيهِ , وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ . وَاحْتَجَّ هَذَا الْفَرِيقُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } , وَلَوْ كَانَ فِيهِ لُغَةُ الْعَجَمِ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا مَحْضًا , وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ; وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ , وَلَا يَتَحَدَّاهُمْ بِمَا لَيْسَ مِنْ لِسَانِهِمْ وَلَا يُحْسِنُونَهُ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ إلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ . وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ فِيهِ لُغَةُ غَيْرِ الْعَرَبِ , وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ " الْمِشْكَاةَ " هِنْدِيَّةٌ , " وَالْإِسْتَبْرَقَ " فَارِسِيَّةٌ . وَقَالَ مَنْ نَصَرَ هَذَا : اشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَى كَلِمَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا أَعْجَمِيَّةٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَعَنْ إطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ , وَلَا يُمَهِّدُ لِلْعَرَبِ حُجَّةً , فَإِنَّ الشِّعْرَ الْفَارِسِيَّ يُسَمَّى فَارِسِيًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ آحَادُ كَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أَصْلُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ثُمَّ عَرَّبَتْهَا الْعَرَبُ وَاسْتَعْمَلَتْهَا , فَصَارَتْ مِنْ لِسَانِهَا بِتَعْرِيبِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا لَهَا , وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا أَعْجَمِيًّا . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .
هـ - كَوْنُهُ مَحْفُوظًا بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى : 8 - تَكَفَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِ كِتَابِهِ الْكَرِيمِ , قَالَ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } , قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ بِالْحِفْظِ أَنْ يُحْفَظَ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ , قَالَ قَتَادَةَ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ : حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلًا أَوْ تُنْقِصَ مِنْهُ حَقًّا , فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِفْظَهُ , فَلَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا , وَقَالَ فِي غَيْرِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } , فَوَكَّلَ حِفْظَهُ إلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا .
و - ( نَسْخُ الْقُرْآنِ ) : 9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِ النَّسْخِ وَأَحْوَالِهِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ .
7 - ( جَمْعُ الْقُرْآنِ ) : ز - جُمِعَ الْقُرْآنُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَثَانِيَةً فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رضي الله عنهما . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( مُصْحَفٌ ) :
8 - ( تَنْجِيمُ الْقُرْآنِ ) : ح - نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمًا لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ . وَالتَّفْصِيلُ فِي ( مُصْحَفٍ ) .
ط - ( رَسْمُ الْمُصْحَفِ ) : 12 - كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَلَى شَكْلٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى يَدِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَوُزِّعَتْ النُّسَخُ الَّتِي كَتَبُوهَا عَلَى الْعَوَاصِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الرَّسْمَ الْعُثْمَانِيَّ , وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْتِزَامِهَا فِي كِتَابَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْهَا . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( مُصْحَفٌ ) .
الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُرْآنِ : أَوَّلًا : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ : 13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ رُكْنٌ , وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ , وَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : صَلَاةٌ . ف 19 وَقِرَاءَةٌ ) .(/5)
ثَانِيًا : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ : 14 - يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } , وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ , وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا , لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ , وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ , وَلَامٌ حَرْفٌ , وَمِيمٌ حَرْفٌ } , وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ , وَاَلَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ , لَهُ أَجْرَانِ } , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ } .(/6)
آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ : 15 - يَنْبَغِي لِلْقَارِئِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يُنَاجِي اللَّهَ تَعَالَى , وَيَقْرَأُ عَلَى حَالِ مَنْ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى , فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ , وَيَنْبَغِي إذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ أَنْ يُنَظِّفَ فَاهُ بِالسِّوَاكِ وَغَيْرِهِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ وَإِنْ قَرَأَ مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ دُونَ مَسِّ الْمُصْحَفِ جَازَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْجُنُبُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ , مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَقْرَأُ الْجُنُبُ وِرْدَهُ , وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : يَقْرَأُ الْقُرْآنَ . وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِجَنَابَةٍ قَبْلَ الْحَيْضِ , إلَّا أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهَا دَمُهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمُسْتَحَاضَةٍ , فَإِنَّهَا لَا تَقْرَأُ إنْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِجَنَابَةٍ . ( ر : حَيْضٌ ف 39 ) . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَان نَظِيفٍ مُخْتَارٍ , وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ , لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ , وَمُحَصِّلًا لِفَضِيلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الِاعْتِكَافُ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ( ر : قِرَاءَةٌ ) . وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ , وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مُطْرِقًا رَأْسَهُ , وَيَكُونَ جُلُوسُهُ وَحْدَهُ فِي تَحْسِينِ أَدَبِهِ وَخُضُوعِهِ كَجُلُوسِهِ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ , فَهَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ , وَلَوْ قَرَأَ قَائِمًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ فِي فِرَاشِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ جَازَ وَلَهُ أَجْرٌ , وَلَكِنْ دُونَ الْأَوَّلِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ( ر : قِرَاءَةٌ ) . وَإِذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي الْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ فَقَالَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ , هَكَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ قَالَ الزَّرْكَشِيّ : يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَإِنْ قَطَعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَأَرَادَ الْعَوْدَ جَدَّدَ , وَإِنْ قَطَعَهَا لِعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ كَفَّاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ ( ر : اسْتِعَاذَةٌ ف 7 وَتِلَاوَةٌ ف 6 ) . وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى قِرَاءَةِ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ سِوَى سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " , ( ر : تِلَاوَةٌ ف 7 ) . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُنْظَرُ ( بَسْمَلَةٌ ف 2 ) . فَإِذَا شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَكُنْ شَأْنُهُ الْخُشُوعَ وَالتَّدَبُّرَ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ , فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ , وَبِهِ تَنْشَرِحُ الصُّدُورُ وَتَسْتَنِيرُ الْقُلُوبُ , ( ر : تِلَاوَةٌ ف 10 ) . وَيُسْتَحَبُّ الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , وَالتَّبَاكِي لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَالْحُزْنُ وَالْخُشُوعُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ } , وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي حَدِيثِهِ : { فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ } , وَطَرِيقُهُ فِي تَحْصِيلِ الْبُكَاءِ أَنْ يَحْضُرَ فِي قَلْبِهِ الْحُزْنُ بِأَنْ يَتَأَمَّلَ مَا فِيهِ مِنْ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ , ثُمَّ يَتَأَمَّلَ تَقْصِيرَهُ فِي ذَلِكَ , فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ حُزْنٌ وَبُكَاءٌ كَمَا يَحْضُرُ الْخَوَاصَّ فَلْيَبْكِ عَلَى فَقْدِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ . وَيُسَنُّ التَّرْتِيلُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } . ( ر : تِلَاوَةٌ ف 9 ) . وَمِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ بِهِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ مِنْ أُمُورٍ قَدْ يَتَسَاهَلُ فِيهَا بَعْضُ الْغَافِلِينَ الْقَارِئِينَ مُجْتَمِعِينَ , فَمِنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الضَّحِكِ وَاللَّغَطِ وَالْحَدِيثِ فِي خِلَالِ الْقِرَاءَةِ إلَّا كَلَامًا يُضْطَرُّ إلَيْهِ , وَمِنْ ذَلِكَ الْعَبَثُ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , فَلَا يَعْبَثُ بَيْنَ يَدَيْهِ . وَمِنْ ذَلِكَ النَّظَرُ إلَى مَا يُلْهِي وَيُبَدِّدُ الذِّهْنَ .(/7)
آدَابُ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ : 16 - اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ وَالتَّفَهُّمُ لِمَعَانِيهِ مِنْ الْآدَابِ الْمَحْثُوثِ عَلَيْهَا , وَيُكْرَهُ التَّحَدُّثُ بِحُضُورِ الْقِرَاءَةِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَالِاشْتِغَالُ عَنْ السَّمَاعِ بِالتَّحَدُّثِ بِمَا لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ سُوءُ أَدَبٍ عَلَى الشَّرْعِ , وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّحَدُّثِ لِلْمَصْلَحَةِ . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا , أَيْ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ ( ر : اسْتِمَاعٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا ) .
آدَابُ حَامِلِ الْقُرْآنِ : 17 - آدَابُ حَامِلِ الْقُرْآنِ مُقْرِئًا كَانَ أَوْ قَارِئًا هِيَ فِي الْجُمْلَةِ آدَابُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ الَّتِي سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي ( تَعَلُّمٌ وَتَعْلِيمٌ ف 9 - 10 ) . وَمِنْ آدَابِهِ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَأَكْرَمِ الشَّمَائِلِ , وَأَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى الْقُرْآنُ عَنْهُ إجْلَالًا لِلْقُرْآنِ , وَأَنْ يَكُونَ مُتَصَوِّنًا عَنْ دَنِيءِ الِاكْتِسَابِ , شَرِيفَ النَّفْسِ , مُتَرَفِّعًا عَلَى الْجَبَابِرَةِ وَالْجُفَاةِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا , مُتَوَاضِعًا لِلصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْمَسَاكِينِ , وَأَنْ يَكُونَ مُتَخَشِّعًا ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ , فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ الطَّرِيقُ , وَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ لَا تَكُونُوا عِيَالًا عَلَى النَّاسِ . وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ أَنْ يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ اتِّخَاذِ الْقُرْآنِ مَعِيشَةً يَكْتَسِبُ بِهَا , فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ } . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ , مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : إجَارَةٌ ف 109 - 110 ) . وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى تِلَاوَتِهِ وَيُكْثِرَ مِنْهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ دَأْبُهُ تِلَاوَةَ آيَاتِ اللَّهِ : { يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ أَنَاءَ اللَّيْلِ } وَسَمَّاهُ ذِكْرًا وَتَوَعَّدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ , وَمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ , فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا } وَقَالَ : { بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ يَقُولُ : نَسِيت آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ , بَلْ هُوَ نُسِّيَ , اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا } .
آدَابُ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ الْقُرْآنِ : 18 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ , وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهُ حَرْفًا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ , أَوْ زَادَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ , فَهُوَ كَافِرٌ .
( تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ ) : 19 - كِتَابُ اللَّهِ بَحْرُهُ عَمِيقٌ , وَفَهْمُهُ دَقِيقٌ , لَا يَصِلُ إلَى فَهْمِهِ إلَّا مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْعُلُومِ وَعَامَلَ اللَّهَ بِتَقْوَاهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ , وَأَجَلَّهُ عِنْدَ مَوَاقِفِ الشُّبُهَاتِ , وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَحْرُمُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ , وَالْكَلَامُ فِي مَعَانِيهِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا , وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لِلْعُلَمَاءِ فَجَائِزٌ حَسَنٌ , وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ , فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّفْسِيرِ , جَامِعًا لِلْأَدَوَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا مَعْنَاهُ , غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْمُرَادُ , فَسَّرَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ , كَالْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْإِعْرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ , كَالْأُمُورِ الَّتِي طَرِيقُهَا النَّقْلُ وَتَفْسِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْكَلَامُ فِيهِ إلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ أَهْلِهِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعٍ لِأَدَوَاتِهِ , فَحَرَامٌ عَلَيْهِ التَّفْسِيرُ , لَكِنْ لَهُ أَنْ يَنْقُلَ التَّفْسِيرَ عَنْ الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ أَهْلِهِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : تَفْسِيرٌ ف 9 , 10 ) .(/8)
تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ : 20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ , فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ أَحْسَنَ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَمْ يُحْسِنْ . وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ جَوَازَ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ اللُّغَاتِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَجُوزُ إذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لقوله تعالى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } , وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : تَرْجَمَةٌ ف 6 وَقِرَاءَةٌ ) . وَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ , وَبَيَانُ مَعْنَاهُ لِلْعَامَّةِ , وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَهْمٌ يَقْوَى عَلَى تَحْصِيلِ مَعْنَاهُ , فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ . وَتَكُونُ تِلْكَ التَّرْجَمَةُ عِبَارَةً عَنْ مَعْنَى الْقُرْآنِ , وَتَفْسِيرًا لَهُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ . ( ر : تَرْجَمَةٌ ف 3 - 5 ) .
( سُوَرُ الْقُرْآنِ ) : 21 - انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ عَدَدَ سُوَرِ الْقُرْآنِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً , الَّتِي جَمَعَهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه وَكَتَبَ بِهَا الْمَصَاحِفَ , وَبَعَثَ كُلَّ مُصْحَفٍ إلَى مَدِينَةٍ مِنْ مُدُنِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُعَرَّجُ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ عَدَدَهَا مِائَةٌ وَسِتَّ عَشْرَةَ سُورَةً , وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : مِائَةٌ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سُورَةً بِجَعْلِ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةٌ سُورَةً , وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ سُورَةَ الْفِيلِ وَسُورَةَ قُرَيْشٍ سُورَةً وَاحِدَةً , وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ سُورَةً , وَكُلُّ ذَلِكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ لَا الْتِفَاتَ إلَيْهَا . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَشَكْلِهِ وَنَقْطِهِ وَتَحْزِيبِهِ وَتَعْشِيرِهِ وَعَدَدِ حُرُوفِهِ وَأَجْزَائِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيِهِ يُنْظَرُ ( مُصْحَفٌ ) .
خَتْمُ الْقُرْآنِ : 22 - كَانَ السَّلَفُ رضي الله عنهم لَهُمْ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي قَدْرِ مَا يَخْتِمُونَ فِيهِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّةً , وَبَعْضُهُمْ مَرَّتَيْنِ , وَانْتَهَى بَعْضُهُمْ إلَى ثَلَاثٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتِمُ فِي الشَّهْرِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالِاخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ , وَكَذَا مَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِنَشْرِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ , فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ إخْلَالٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إلَى حَدِّ الْمَلَلِ وَالْهَذْرَمَةِ . وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الْخَتْمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ : { أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَخْتِمَ فِي سَبْعٍ أَوْ ثَلَاثٍ , } يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي الْجُمْلَةِ , أَوْ أَنَّهُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّ ابْنِ عَمْرٍو , لِمَا عُلِمَ مِنْ تَرْتِيلِهِ فِي قِرَاءَتِهِ , وَعُلِمَ مِنْ ضَعْفِهِ عَنْ اسْتِدَامَتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا حُدَّ لَهُ , وَأَمَّا مَنْ اسْتَطَاعَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ , وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَقَالَ : مَا أُحْسِنُ ذَلِكَ . إنَّ الْقُرْآنَ إمَامُ كُلِّ خَيْرٍ . 23 - وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ عَقِبَ خَتْمِ الْقُرْآنِ , لِحَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ مَرْفُوعًا { مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ } . وَيُسَنُّ إذَا فَرَغَ مِنْ الْخَتْمَةِ أَنْ يَشْرَعَ فِي أُخْرَى عَقِبَ الْخَتْمِ , لِحَدِيثِ : { أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ , الَّذِي يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إلَى آخِرِهِ , كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ } .
( نَقْشُ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ ) : 24 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ : وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : يُرْجَى أَنْ يَجُوزَ .(/9)
( النُّشْرَةُ ) : 25 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النُّشْرَةِ وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَغْسِلَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَمْسَحَ بِهِ الْمَرِيضَ أَوْ يَسْقِيَهُ , فَأَجَازَهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , قِيلَ : الرَّجُلُ يُؤْخَذُ عَنْ امْرَأَتِهِ أَيُحَلُّ عَنْهُ وَيُنْشَرُ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ , وَمَا يَنْفَعُ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ . وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْجَوَازِ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْعِمَادُ النِّيهِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيِّ قَالَ : لَا يَجُوزُ ابْتِلَاعُ رُقْعَةٍ فِيهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَوْ غَسَلَهَا وَشَرِبَ مَاءَهَا جَازَ , وَجَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرَّافِعِيُّ بِجَوَازِ أَكْلِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : النُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ فَهِيَ غُسَالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ , فَهِيَ كَوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ } , وَ { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ } . وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ .(/10)
قُرْبَةٌ
التَّعْرِيفُ : 1 - الْقُرْبَةُ - بِسُكُونِ الرَّاءِ وَالضَّمِّ لِلْإِتْبَاعِ - فِي اللُّغَةِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَالْجَمْعُ قُرَبٌ وَقُرُبَاتٌ . وَالْقُرْبَانُ - بِالضَّمِّ - مَا قُرِّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى , تَقُولُ مِنْهُ : قَرَّبْت لِلَّهِ قُرْبَانًا , وَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ , أَيْ طَلَبَ بِهِ الْقُرْبَةَ عِنْدَهُ تَعَالَى , قَالَ اللَّيْثُ : الْقُرْبَانُ : مَا قَرَّبْت إلَى اللَّهِ تَبْتَغِي بِذَلِكَ قُرْبَةً وَوَسِيلَةً . وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْقُرْبَةَ بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ . مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ : الْقُرْبَةُ : فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ . وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ : الْقُرْبَةُ : مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ , أَوْ مَعَ الْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ , كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - ( الْعِبَادَةُ ) : 2 - الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ : الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ , قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : فُلَانٌ عَابِدٌ , وَهُوَ الْخَاضِعُ لِرَبِّهِ الْمُسْتَسْلِمُ الْمُنْقَادُ لِأَمْرِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : هِيَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ . أَوْ هِيَ : فِعْلٌ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ هِيَ أَنَّ الْقُرْبَةَ أَعَمُّ مِنْ الْعِبَادَةِ , فَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ عِبَادَةً وَقَدْ لَا تَكُونُ , كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ , وَالْقُرْبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ عِبَادَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ . ب - ( الطَّاعَةُ ) : 3 - الطَّاعَةُ فِي اللُّغَةِ : الِانْقِيَادُ وَالْمُوَافَقَةُ , يُقَالُ : أَطَاعَهُ إطَاعَةً , أَيْ انْقَادَ لَهُ , وَالِاسْمُ : طَاعَةٌ . وَعَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِعِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ , مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ : الطَّاعَةُ : فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَلَوْ نَدْبًا وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ كَرَاهَةً . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ هِيَ : أَنَّ الْقُرْبَةَ أَخَصُّ مِنْ الطَّاعَةِ , لِاعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ فِي الْقُرْبَةِ . وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ , أَنَّ الْقُرْبَةَ : فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ . وَالْعِبَادَةُ : مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ . وَالطَّاعَةُ : فِعْلُ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ , تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَوْ لَا , عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ أَوْ لَا , فَنَحْوُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ , وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفُ وَالْعِتْقُ وَالصَّدَقَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لَا عِبَادَةٌ , وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةٌ لَا قُرْبَةٌ وَلَا عِبَادَةٌ , وَالنَّظَرُ لَيْسَ قُرْبَةً , لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُلُ بَعْدَهُ .(/1)
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 4 - مِنْ الْقُرَبِ مَا هُوَ وَاجِبٌ , وَذَلِكَ كَالْفَرَائِضِ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ , مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ , فَهِيَ عِبَادَاتٌ مَقْصُودَةٌ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِهَا , وَعُلِمَ مِنْ الشَّارِعِ الِاهْتِمَامُ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ إيقَاعَهَا عِبَادَةً . وَمِنْ الْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الْقُرَبُ الَّتِي يُلْزِمُ الْإِنْسَانُ بِهَا نَفْسَهُ بِالنَّذْرِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ , كَالنَّوَافِلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ , إذْ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ تَكُونُ قُرْبَةً بِنِيَّةِ إرَادَةِ الثَّوَابِ بِهَا , كَالْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْقُرْبَةُ , كَالطَّعَامِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ . وَمِنْ الْقُرُبَاتِ مَا هُوَ حَرَامٌ , وَذَلِكَ كَالْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ , كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ إذَا فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِمَّا لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَاجِبٌ فَلَا يَحِلُّ تَرْكُهُ لِسُنَّةٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قُرْبَةٌ , فَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رضي الله عنه الْتِزَامَهُ قِيَامَ اللَّيْلِ وَصِيَامَ النَّهَارِ وَاجْتِنَابَ النِّسَاءِ , وَقَالَ لَهُ : { أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّتِي ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ , لَكِنْ سُنَّتَك أَطْلُبُ . قَالَ : فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ } , وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَرْدِ الصَّوْمِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالِاخْتِصَاءِ , وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْفِطْرَ وَالنَّوْمَ ظَنًّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ إلَى رَبِّهِمْ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَا شَرَعَ , فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَقَدْ تَكُونُ الْقُرْبَةُ مَكْرُوهَةً , وَذَلِكَ كَالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ , وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا , وَكَالْوَصِيَّةِ مِنْ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ(/2)
مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الْقُرْبَةُ : 5 - الْقُرُبَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَادَةً كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ , أَوْ غَيْرَ عِبَادَةٍ كَالتَّبَرُّعَاتِ مِنْ صَدَقَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَوَقْفٍ . فَإِنْ كَانَتْ الْقُرُبَاتُ مِنْ الْعِبَادَاتِ , فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا , فَلَا تَصِحُّ قُرُبَاتُ الْعِبَادَةِ مِنْ الْكَافِرِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ , وَالصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا , قَالَ النَّوَوِيُّ : يُكْتَبُ لِلصَّبِيِّ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ : كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ , وَالزَّكَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْقِرَاءَةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ } , وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ , فَعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ : { أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قُرَى الْأَنْصَارِ : مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ . قَالَتْ : فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا , وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ , فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ } . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ , مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( صِغَرٌ ف 32 ) وَمُصْطَلَحِ ( جُنُونٌ ف 11 ) . وَإِنْ كَانَتْ الْقُرُبَاتُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ , كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَّةِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ , فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَا هُوَ مَالِيٌّ مِنْهَا أَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ وَرُشْدٍ , وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إذْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ . وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ ; لِأَنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ وَعِتْقَهُ وَوَصِيَّتَهُ وَصَدَقَتَهُ صَحِيحَةٌ , مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذِهِ عُقُودٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ قُرُبَاتٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِ .(/3)
( نِيَّةُ الْقُرْبَةِ ) : 6 - مِنْ الْقُرُبَاتِ مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ , وَمِنْهَا مَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ . أَوَّلًا : الْقُرُبَاتُ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ هِيَ كَمَا يَقُولُ الْقَرَافِيُّ : الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا , كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَتَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ , وَالْخَوْفِ مِنْ نِقَمِهِ , وَالرَّجَاءِ لِنِعَمِهِ , وَالتَّوَكُّلِ عَلَى كَرَمِهِ , وَالْحَيَاءِ مِنْ جَلَالِهِ , وَالْمَحَبَّةِ لِجَمَالِهِ , وَالْمَهَابَةِ مِنْ سُلْطَانِهِ , وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ , وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ , فَإِنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ لِجَنَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . ثَانِيًا : الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ , وَهِيَ : الْعِبَادَاتُ , مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ , وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ مَنْدُوبَةً , فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ تَعْظِيمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلِهَا , وَالْخُضُوعُ لَهُ فِي إتْيَانِهَا , وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , فَإِنَّ التَّعْظِيمَ بِالْفِعْلِ بِدُونِ الْمُعَظَّمِ مُحَالٌ , فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ فِيهِ الشَّرْعُ بِالنِّيَّاتِ , وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ فِي الْعِبَادَاتِ هِيَ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى , يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } . وَنِيَّةُ الْقُرْبَةِ إنَّمَا هِيَ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْعَادَاتِ , لِيَتَمَيَّزَ مَا لِلَّهِ عَنْ مَا لَيْسَ لَهُ , أَوْ تَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا , لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ , وَيَظْهَرَ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ . فَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا تَكُونُ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنْ الْعَادَةِ : الْغُسْلُ , يَكُونُ تَبَرُّدًا وَعِبَادَةً , وَدَفْعُ الْأَمْوَالِ , يَكُونُ صَدَقَةً شَرْعِيَّةً وَمُوَاصَلَةً عُرْفِيَّةً , وَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ , يَكُونُ عِبَادَةً وَحَاجَةً , وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ , يَكُونُ مَقْصُودًا لِلصَّلَاةِ وَتَفَرُّجًا يَجْرِي مَجْرَى اللَّذَّاتِ , وَالذَّبْحُ , قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ الْأَكْلِ , وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ , فَشُرِعَتْ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْقُرَبِ مِنْ غَيْرِهَا . أَمَّا نِيَّةُ الْقُرْبَةِ فِي الْعِبَادَاتِ , فَهِيَ لِتَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهَا , لِتَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ , وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ : الصَّلَاةُ , تَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ وَمَنْدُوبٍ , وَالْفَرْضُ يَنْقَسِمُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَضَاءً وَأَدَاءً , وَالْمَنْدُوبُ يَنْقَسِمُ إلَى رَاتِبٍ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ , وَغَيْرِ رَاتِبٍ كَالنَّوَافِلِ , وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قُرُبَاتِ الْمَالِ وَالصَّوْمِ وَالنُّسُكِ . ثَالِثًا : الْأَعْمَالُ الْوَاجِبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ أَوْ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا تُعْتَبَرُ قُرُبَاتٍ فِي ذَاتِهَا , لَكِنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ قُرُبَاتٍ إذَا نَوَى بِهَا الْقُرْبَةَ , وَمِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الَّتِي تَكُونُ صُوَرُ أَفْعَالِهَا كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهَا , كَدَفْعِ الدُّيُونِ , وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ , وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ , وَالْأَقَارِبِ , وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا , وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِلِ لَهَا , فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا , وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا , فَمَنْ دَفَعَ دَيْنَهُ غَافِلًا عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ أَجْزَأَ عَنْهُ , أَمَّا إنْ قَصَدَ الْقُرْبَةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ , وَإِلَّا فَلَا . وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ الْأَعْمَالِ , يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ فَإِنْ نَوَى بِتَرْكِهَا وَجْهَ اللَّهِ الْعَظِيمِ , فَإِنَّ التَّرْكَ يَصِيرُ قُرْبَةً وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ لِأَجْلِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ . وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَإِنَّ صِفَتَهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ مَا قُصِدَتْ لِأَجْلِهِ , فَإِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقَوِّيَ عَلَى الطَّاعَاتِ , أَوْ التَّوَصُّلَ إلَيْهَا كَانَتْ عِبَادَةً وَقُرْبَةً يُثَابُ عَلَيْهَا . وَفِي الْمَنْثُورِ : قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ : عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ وَرَدُّ السَّلَامِ قُرْبَةٌ لَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ عَلَيْهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ . وَقَطْعُ السَّرِقَةِ وَاسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ مِنْ الْإِمَامِ قُرْبَةٌ , وَلَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ , وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُثَبْ .(/4)
الثَّوَابُ عَلَى الْقُرُبَاتِ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى : 7 - يُثَابُ الْإِنْسَانُ وَيُعَاقَبُ عَلَى كَسْبِهِ وَاكْتِسَابِهِ , سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِتَسَبُّبٍ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } , وَقَالَ تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } , أَيْ لَيْسَ لَهُ إلَّا جَزَاءُ سَعْيِهِ , وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا } , وَالْغَرَضُ بِالتَّكَالِيفِ تَعْظِيمُ الْإِلَهِ بِطَاعَتِهِ , وَاجْتِنَابُ مَعْصِيَتِهِ , وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِيهِ . وَالثَّوَابُ عَلَى الْعَمَلِ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : الثَّوَابُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ , وَلَا اسْتِحْقَاقَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ , فَلَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى عَمَلٍ لِأَجْلِهِ بِجَعْلِ الثَّوَابِ لَهُ , كَمَا لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِإِعْطَاءِ الثَّوَابِ عَلَى غَيْرِ عَمَلٍ رَأْسًا .
أَثَرُ الْقَصْدِ فِي الثَّوَابِ عَلَى الْقُرْبَةِ : 8 - قَسَمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا تَمَيَّزَ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ , فَهَذَا يُثَابُ عَلَيْهِ مَهْمَا قَصَدَ إلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْقُرْبَةَ كَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَذَانِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ مِنْ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ بِصُورَتِهِ , فَهَذَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ إلَّا بِنِيَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : نِيَّةُ إيجَادِ الْفِعْلِ , وَالثَّانِيَةُ : نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ جَلَّ , فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ أُثِيبَ عَلَى أَجْزَائِهِ الَّتِي لَا تَقِفُ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ كَالتَّسْبِيحَاتِ وَالتَّكْبِيرَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْفَاسِدَةِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا شُرِعَ لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ إلَّا تَبَعًا , كَإِقْبَاضِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ , وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالصَّنَائِعِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا بَقَاءُ الْعَالَمِ , فَهَذَا لَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ عَزَّ جَلَّ . وَقَدْ يَقُومُ الْإِنْسَانُ بِعَمَلٍ وَيَسْتَوْفِي شُرُوطَهُ وَأَرْكَانَهُ , وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ثَوَابًا لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالنَّوَايَا , وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ , وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } . كَمَا قَدْ يُتْبِعُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ الصَّحِيحَ بِمَا يُضَيِّعُ ثَوَابَهُ , وَمِنْ ذَلِكَ الْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ , لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } . وَقَدْ يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعَ الصَّحِيحَ , فَقَدْ وَرَدَ حَدِيثَانِ يُؤَيِّدَانِ هَذَا الْمَعْنَى , أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ سَارِقٍ وَزَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَفِي نِهَايَةِ الْحَدِيثِ { أَنَّ الرَّجُلَ أُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُك عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ , وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا , وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ } . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي : حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنْ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ , وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَك مَا نَوَيْت يَا يَزِيدُ وَلَك مَا أَخَذْت يَا مَعْنُ } , قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ .(/5)
نَقْلُ ثَوَابِ الْقُرْبَةِ لِلْغَيْرِ : 9 - تَنْقَسِمُ الْقُرُبَاتُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ حَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي ثَوَابِهِ , وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نَقْلَهُ لِغَيْرِهِمْ , كَالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ , فَلَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَهَبَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إيمَانَهُ لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ هِبَةُ ثَوَابِ مَا سَبَقَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ , لَا سَبِيلَ إلَيْهِ . وَقِسْمٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي نَقْلِ ثَوَابِهِ , وَهُوَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ . وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ نَقْلِ ثَوَابِ مَا أَتَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ , يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : مَنْ صَامَ أَوْ صَلَّى أَوْ تَصَدَّقَ جَعَلَ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ جَازَ , وَيَصِلُ ثَوَابُهُ إلَيْهِمْ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَقَدْ وَرَدَ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ , فَيَذْبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ , وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَآلِ مُحَمَّدٍ } وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا , وَأَرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ , أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , تَصَدَّقْ عَنْهَا } . قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَعَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا , مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا , وَالتَّكْفِينِ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ , وَجَعْلِ ثَوَابِهَا لِلْأَمْوَاتِ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : أَيْ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : كَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ , وَالصَّدَقَةِ وَالْوَاجِبَاتِ الَّتِي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ نَقْلُ ثَوَابِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَى الْغَيْرِ , وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ ذَلِكَ لِلْمَيِّتِ , لقوله تعالى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ , أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ , أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } , وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَالصَّدَقَاتِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ , جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : تَنْفَعُ الْمَيِّتَ صَدَقَةٌ عَنْهُ , وَوَقْفٌ وَبِنَاءُ مَسْجِدٍ , وَحَفْرُ بِئْرٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَدُعَاءٌ لَهُ مِنْ وَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ , وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ غَيْرُ ذَلِكَ كَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لَكِنْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْأَذْكَارِ وَجْهًا , أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ , وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ .
الْأَجْرُ عَلَى الْقُرُبَاتِ :(/6)
10 - الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَلَا يَتَعَدَّى نَفْعُهَا فَاعِلَهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الِانْتِفَاعِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ هَاهُنَا انْتِفَاعٌ ; وَلِأَنَّ مَنْ أَتَى بِعَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً , وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنْهُ ; وَلِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ الصَّفَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ , وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا لِلْغَيْرِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ , فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ , لَكِنْ كَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَوْنَهَا قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا . لَكِنْ أَجَازَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ اسْتِحْسَانًا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ وَالْأَذَانُ لِلْحَاجَةِ . أَمَّا مَا يَقَعُ تَارَةً قُرْبَةً وَتَارَةً غَيْرَ قُرْبَةٍ , كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ , فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ . وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا كَالْقَضَاءِ , لَا يُعْتَبَرُ أَجْرًا , يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً , بَلْ رِزْقٌ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ , فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ لِلَّهِ أُثِيبَ , وَمَا يَأْخُذُهُ فَهُوَ رِزْقٌ لِلْمَعُونَةِ عَلَى الطَّاعَةِ , وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ , وَالْمُوصَى بِهِ كَذَلِكَ وَالْمَنْذُورُ كَذَلِكَ , لَيْسَ كَالْأُجْرَةِ . وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إلَى أَنَّ بَابَ الْأَرْزَاقِ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ وَأَبْعَدُ عَنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ , وَبَابُ الْإِجَارَةِ أَبْعَدُ مِنْ بَابِ الْمُسَامَحَةِ وَأَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُكَايَسَةِ . وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا : الْقُضَاةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْقَضَاءِ إجْمَاعًا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرُوا عَلَى الْقَضَاءِ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَرْزَاقَ إعَانَةٌ مِنْ الْإِمَامِ لَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ , لَا أَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَجِ وَنُهُوضِهَا , وَلَوْ اُسْتُؤْجِرُوا عَلَى ذَلِكَ لَدَخَلَتْ التُّهْمَةُ فِي الْحُكْمِ بِمُعَاوَضَةِ صَاحِبِ الْعِوَضِ , وَيَجُوزُ فِي الْأَرْزَاقِ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقَاضِي الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيلُ وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ , وَلَوْ كَانَ إجَارَةً لَوَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ . وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ : الْقَضَاءُ وَالشَّهَادَةُ وَالْإِمَامَةُ يُؤْخَذُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى , وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا .(/7)
النِّيَابَةُ فِي الْقُرْبَةِ : 11 - مِنْ الْقُرُبَاتِ مَا لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ فِي الْحَيَاةِ بِالْإِجْمَاعِ , وَذَلِكَ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ , مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ عَنْ الْحَيِّ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } , إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ , وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ , فَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ . وَمِنْ الْقُرُبَاتِ مَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ بِالْإِجْمَاعِ , وَهِيَ الْقُرُبَاتُ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِبْرَاءِ , سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْسَانُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ بِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إخْرَاجُ الْمَالِ , وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ . أَمَّا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ , كَالْحَجِّ , فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ , لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ , وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ , كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ , وَقَالَ الْبَاجِيُّ : تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْ الْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرَمِ , وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ أَجَّرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلَافِ . أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ , فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ إلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنْ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ , كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ , وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِحْجَاجِ رَجُلٍ عَنْهُ جَازَ , لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عَنْد الْمَالِكِيَّةِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ , أَمَّا الصَّوْمُ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ لَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ , أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ } , وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْأَظْهَرُ , أَمَّا الْحَجُّ فَمَنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ وَلَمْ يُؤَدِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ , لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ : { أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ , فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : حُجِّي عَنْهَا } . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنْ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ الْوَاجِبَيْنِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ - أَيْ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ - لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ , أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ , فَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ , سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ .(/8)
الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ ) : 12 - قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : فِي حَاشِيَةِ الْأَشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنْ الْمُضْمِرَاتِ عَنْ النِّصَابِ : وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَدَخَلَ رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْلُ عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ . ا هـ فَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ بِلَا كَرَاهَةٍ , وَنَقَلَ الْعَلَّامَةُ الْبِيرِيُّ فُرُوعًا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } , وَمَا وَرَدَ مِنْ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ , فَقَالَ لِلْغُلَامِ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ الْغُلَامُ : لَا وَاَللَّهِ , لَا أُوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا , قَالَ : فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ } , وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى طَلَبِ الْإِذْنِ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ بِلَا كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ . أ هـ . أَقُولُ : وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا عَارَضَ تِلْكَ الْقُرْبَةَ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا , كَاحْتِرَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَشْيَاخِ كَمَا أَفَادَهُ الْفَرْعُ السَّابِقُ وَالْحَدِيثُ . . . , وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ : وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَلَمَّا أُقِيمَتْ آثَرَ بِهِ , وَقَوَاعِدُنَا لَا تَأْبَاهُ . وَقَالَ السُّيُوطِيّ : الْإِيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ , وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ , قَالَ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : لَا إيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ , فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ , وَلَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَا بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ , فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إجْلَالَ الْإِلَهِ وَتَعْظِيمَهُ . وَقَالَ الْإِمَامُ : لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ - وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ - فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ , لَا أَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ , لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ : لَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ , فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى أَبْعَدَ مِنْ الْإِمَامِ كُرِهَ , قَالَ أَصْحَابُنَا : لِأَنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ . وَقَالَ الْقَرَافِيُّ : مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ , وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ , وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ , لَمْ يَجُزْ لَهُ الْإِيثَارُ , وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ لِاسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ , كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ . وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ فَلَا يَسُوغُ فِيهِ الْإِيثَارُ , وَالْحَقُّ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ , وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ إلَّا وَاحِدَةً تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ , فَحَسُنَ إيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ . وَقَالَ الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ : كَرِهَ قَوْمٌ إيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ ; لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إلَيْهِ قُرْبَةٌ وَالْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ .
( مَرَاتِبُ الْقُرُبَاتِ ) :(/9)
13 - أ - أَفْضَلُ الْقُرُبَاتِ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى , فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ } , جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ , لِجَلْبِهِ لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ وَدَرْئِهِ لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ مَعَ شَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَرَفِ مُتَعَلَّقِهِ , وَثَوَابُهُ الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ , وَالْخُلُوصُ مِنْ النِّيرَانِ وَغَضَبِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ . ب - ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ الْفَرَائِضُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ , لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ , وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْته عَلَيْهِ , وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا , وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا , وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ , وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنهُ , وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ , يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ } . جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي : يُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ , وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاحْتِرَامُ الْآمِرِ , وَتَعْظِيمُهُ بِالِانْقِيَادِ إلَيْهِ , وَإِظْهَارُ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ , وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ فَكَانَ التَّقَرُّبُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَمَلِ . ج - وَبَعْدَ مَنْزِلَةِ الْفَرَائِضِ فِي الْقُرْبَةِ تَكُونُ مَنْزِلَةُ النَّوَافِلِ , بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ , قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : إذَا أَدَّى الْعَبْدُ الْفَرَائِضَ وَدَاوَمَ عَلَى إتْيَانِ النَّوَافِلِ , نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى , وَكُلُّ فَرِيضَةٍ تُقَدَّمُ عَلَى نَوْعِهَا مِنْ النَّوَافِلِ كَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا , وَفَرَائِضِ الصِّيَامِ عَلَى نَوَافِلِهِ وَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا , وَهَكَذَا . د - وَإِذَا كَانَتْ قُرَبُ الْفَرَائِضِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَفْضَلِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ , فَقِيلَ : إنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { اعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } , وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ : إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ , وَقِيلَ : إنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } , وَقِيلَ : إنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ . هـ - وَالْقُرَبُ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْقُرَبِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ ; لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّتَهُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْ الْبَعْضِ فَقَطْ ; وَلِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَعْتَمِدُ عَدَمَ تَكْرَارِ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ , وَفَرْضُ الْأَعْيَانِ يَعْتَمِدُ تَكَرُّرَ الْمَصْلَحَةِ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ , وَالْفِعْلُ الَّذِي تَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ أَقْوَى فِي اسْتِلْزَامِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ الَّذِي لَا تُوجَدُ الْمَصْلَحَةُ مَعَهُ إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ . و - عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ الْإِنْسَانِ , فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا , وَسُئِلَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ , وَسُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ } , وَهَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِ , فَيَخْتَصُّ بِمَا يَلِيقُ بِالسَّائِلِ مِنْ الْأَعْمَالِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله تعالى عنهم مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَّا لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إلَى ذِي الْجَلَالِ , فَكَأَنَّ السَّائِلَ قَالَ : أَيِّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ لِي فَقَالَ : " بِرُّ الْوَالِدَيْنِ " , لِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ يَشْتَغِلُ بِبِرِّهِمَا , وَقَالَ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لِمَا سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ : { الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } , وَقَالَ لِمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ : { الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا } .(/10)
ز - وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَرَاتِبِ النَّوَافِلِ مِنْ الْعِبَادَاتِ , فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ : إنَّ نَوَافِلَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ , لِجَمْعِهَا أَنْوَاعًا مِنْ الْعِبَادَاتِ لَا تُجْمَعُ فِي غَيْرِهَا . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَفْضَلُ تَطَوُّعَاتِ الْبَدَنِ الْجِهَادُ لقوله تعالى { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } , ثُمَّ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمُهُ , ثُمَّ الصَّلَاةُ .
ح - أَمَّا الْقُرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ , فَمَرْتَبَتُهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا , فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ : مَرَاتِبُ الْقُرَبِ تَتَفَاوَتُ , فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ , وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ ; لِأَنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ , وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنْ الْكُلِّ , لِأَنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنْ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَالِ , وَقِيلَ : إنَّ الْقَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ ; لِأَنَّ " رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ : دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمٍ , وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ , فَسَأَلَ جِبْرِيلَ : مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ , فَقَالَ : لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ أَيْ مَا يَكْفِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ . } وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ - لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ - أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ } . وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ : بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ . وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ : أَنَّ فَضْلَ الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا , فَتَصَدُّقُ الْبَخِيلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ أَيَّامٍ .
ح - أَمَّا الْقُرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ , فَمَرْتَبَتُهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا , فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَنْثُورِ : مَرَاتِبُ الْقُرَبِ تَتَفَاوَتُ , فَالْقُرْبَةُ فِي الْهِبَةِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْقَرْضِ , وَفِي الْوَقْفِ أَتَمُّ مِنْهَا فِي الْهِبَةِ ; لِأَنَّ نَفْعَهُ دَائِمٌ يَتَكَرَّرُ , وَالصَّدَقَةُ أَتَمُّ مِنْ الْكُلِّ , لِأَنَّ قَطْعَ حَظِّهِ مِنْ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ فِي الْحَالِ , وَقِيلَ : إنَّ الْقَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ ; لِأَنَّ " رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ : دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمٍ , وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشْرٍ , فَسَأَلَ جِبْرِيلَ : مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ , فَقَالَ : لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ أَيْ مَا يَكْفِيهِ وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ . } وَتَكَسُّبُ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ - لِمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ أَوْ مُجَازَاةِ الْقَرِيبِ - أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ } . وَفِي الْأَشْبَاهِ لِابْنِ نُجَيْمٍ : بِنَاءُ الرِّبَاطِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجَّةِ الثَّانِيَةِ . وَاخْتَارَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ : أَنَّ فَضْلَ الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا , فَتَصَدُّقُ الْبَخِيلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَصِيَامِ أَيَّامٍ .(/11)
الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ : 15 - تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْبَةِ بِاتِّفَاقٍ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَتْمُ عَمَلِهِ بِالْقُرْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقُرَبِ السَّابِقَةِ , فَتَزِيدَ بِهَا حَسَنَاتُهُ , وَقَدْ تَكُونُ تَدَارُكًا لِمَا فَرَّطَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِيُدْرِكَ بِهَا مَا فَاتَ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ } , وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمَا لَا قُرْبَةَ فِيهِ كَوَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَنِيسَةِ . وَقَدْ تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إذَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ قُرَبٌ وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ . وَرَغْمَ أَنَّ التَّبَرُّعَاتِ لَا تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْقُرَبِ ; لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ تَمَحَّضَ نَفْعًا لِلصَّبِيِّ , فَصَحَّ مِنْهُ كَالْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ يَحْصُلُ ثَوَابُهَا لَهُ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْ مِلْكِهِ وَمَالِهِ , فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ وَلَا أُخْرَاهُ .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْقُرَبِ عَلَى بَعْضٍ فِي الْوَصِيَّةِ , وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي : قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : مَنْ أَوْصَى بِوَصَايَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتْ الْفَرَائِضُ مِنْهَا , سَوَاءٌ قَدَّمَهَا الْمُوصِي أَوْ أَخَّرَهَا مِثْلُ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ; لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ أَهَمُّ مِنْ النَّافِلَةِ , وَالظَّاهِرُ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ , فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْقُوَّةِ بُدِئَ بِمَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إذَا ضَاقَ عَنْهَا الثُّلُثُ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَهَمِّ , وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالزَّكَاةِ وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْحَجِّ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْحَجَّ , وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ , ثُمَّ تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ عَلَى الْكَفَّارَاتِ لِمَزِيَّتِهِمَا عَلَيْهَا فِي الْقُوَّةِ , وَالْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ ; لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْقُرْآنِ دُونَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ حَيْثُ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ , وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ , وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَدَّمُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْبَعْضِ , وَيُقْسَمُ الثُّلُثُ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا . فَمَا أَصَابَ الْقُرَبَ صُرِفَ إلَيْهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذُكِرَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَمَّا أَوْصَى بِهِ , فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فَكُّ أَسِيرٍ , ثُمَّ مُدَبَّرٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ , ثُمَّ صَدَاقُ مَرِيضٍ , ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ مَالِهِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَاقِي ثُلُثِهِ بَعْدَ إخْرَاجِ مَا تَقَدَّمَ , إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُولِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْحَوْلِ فَتَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ , كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إنْ مَاتَ الْمَالِكُ بَعْدَ إفْرَاكِ الْحَبِّ وَطِيبِ الثَّمَرِ وَمَجِيءِ السَّاعِي , فَتَخْرُجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ , ثُمَّ يُخْرِجَ مِنْ بَاقِي الثُّلُثِ زَكَاةَ الْفِطْرِ الَّتِي فَرَّطَ فِي إخْرَاجِهَا , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَقَتْلِ خَطَأٍ , ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , ثُمَّ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنْ وَصَّى بِشَيْءٍ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ صُرِفَ فِي الْقُرَبِ جَمِيعِهَا , لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ الْمُخَصِّصِ , وَيَبْدَأُ مِنْهَا بِالْغَزْوِ نَصًّا , لِقَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ : إنَّهُ أَفْضَلُ الْقُرَبِ , وَلَوْ قَالَ الْمُوصِي لِوَصِيِّهِ : ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ أَرَاك اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَيْثُ يُرِيك اللَّهُ تَعَالَى , فَلَهُ صَرْفُهُ فِي أَيِّ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْقُرَبِ رَأَى وَضْعَهُ فِيهَا عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ , وَالْأَفْضَلُ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَقَارِبِ الْمُوصِي غَيْرِ الْوَارِثِينَ ; لِأَنَّهُ فِيهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ .(/12)
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ : 16 - الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا , إذْ هُوَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما , قَالَ { أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا , فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ فَقَالَ : إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ , وَلَا يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ , وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ , لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ , أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ فِيهِ } . وَوَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ , أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ , أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ , فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً . وَالْوَقْفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ هُوَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْقُرْبَةُ , وَالْقُرْبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْوِيَ بِوَقْفِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ : الْوَقْفُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ , بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ أَصْلًا , بَلْ التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ , فَهُوَ بِدُونِهَا مُبَاحٌ . وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ : الْوَقْفُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ فِي وَقْفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ تَوَدُّدًا , أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ خَشْيَةَ بَيْعِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلَافِ ثَمَنِهِ , أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ , أَوْ رِيَاءً وَنَحْوَهُ , فَهَذَا وَقْفٌ لَازِمٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ , كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ , جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : إنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ , نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ . وَالثَّانِي : لَا , وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ . وَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ : يُشْتَرَطُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ , أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَى ذَاتِهِ وَصُورَتِهِ قُرْبَةً , وَالْمُرَادُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ يَكُونُ قُرْبَةً حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ , وَهَذَا شَرْطٌ فِي وَقْفِ الْمُسْلِمِ .(/13)
قُنُوت *
التعريف :
1 - يطلق القنوت في اللّغة على معان عدة ، منها :
- الطاعة : ومن ذلك قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } .
- والصلاة : ومن ذلك قوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }. وطول القيام : ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصلاة طول القنوت » أي طول القيام .
وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت ، فقال : ما أعرف القنوت إلا طول القيام ، ثم قرأ قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً } .
- والسّكوت : حيث ورد عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : كنّا نتكلم في الصلاة ، يكلّم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسّكوت ونهينا عن الكلام .
- والدّعاء : وهو أشهرها ، قال الزجاج : المشهور في اللّغة أنّ القنوت الدّعاء ، وأنّ القانت الداعي ، وحكى النّوويّ أنّ القنوت يطلق على الدّعاء بخير وشرّ ، يقال : قنت له وقنت عليه .
وفي الاصطلاح : قال ابن علان : القنوت عند أهل الشرع اسم للدّعاء في الصلاة في محلّ مخصوص من القيام .
القنوت في الصلاة :
2 - القنوت منحصر في ثلاثة مواطن : صلاة الصّبح ، وصلاة الوتر ، وفي النّوازل ، وبيان ذلك فيما يأتي :
أ - القنوت في الصّبح :
3 - اختلف الفقهاء في حكم القنوت في صلاة الصّبح على أربعة أقوال :
الأول : للحنفية والحنابلة والثوريّ : وهو أنّ القنوت في الصّبح غير مشروع ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي الدرداء ، رضي الله عنهم ، وقال أبو حنيفة : القنوت في الفجر بدعة ، وقال الحنابلة : يكره .
واستدلّوا على ذلك : بما ورد أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم « قنت في صلاة الفجر شهراً يدعو في قنوته على أحياء من أحياء العرب ، ثم تركه » ، قالوا : فكان منسوخاً ، إذ الترك دليل النسخ ، وبما روي عن أبي مالك سعد بن طارق الأشجعيّ قال : « قلت لأبي : يا أبت ، إنّك قد صليت خلف رسول الله ، وأبي بكر ، وعثمان ، وعليّ هاهنا بالكوفة نحواً من خمس سنين ، أكانوا يقنتون ؟ قال : أي بني ، محدث » . وفي لفظ : « يا بني إنّها بدعة » . قال التّرمذيّ : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم .
والثاني : للمالكية على المشهور : وهو أنّ القنوت في الصّبح مستحبّ وفضيلة ، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم « كان يقنت في صلاة الصّبح » فيما روى أبو هريرة وخفاف بن إيماء والبراء وأنس بن مالك . قال أنس : « ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدّنيا » ، وقال عليّ بن زياد بوجوب القنوت في الصّبح ، فمن تركه فسدت صلاته .
ويجوز قبل الرّكوع وبعده في الركعة الثانية ، غير أنّ المندوب الأفضل كونه قبل الرّكوع عقب القراءة بلا تكبيرة قبله ، وذلك لما فيه من الرّفق بالمسبوق ، وعدم الفصل بينه وبين ركني الصلاة ولأنّه الذي استقر عليه عمل عمر رضي الله عنه بحضور الصحابة ، قال القاضي عبد الوهاب البغداديّ " وروي عن أبي رجا العطارديّ قال : كان القنوت بعد الرّكوع، فصيره عمر قبله ليدرك المدرك وروي أنّ المهاجرين والأنصار سألوه عثمان ، فجعله قبل الرّكوع ، لأنّ في ذلك فائدةً لا توجد فيما بعده ، وهي أنّ القيام يمتدّ فيلحق المفاوت ، ولأنّ في القنوت ضرباً من تطويل القيام ، وما قبل الرّكوع أولى بذلك ، لا سيما في الفجر .
ويندب كونه بلفظ : اللهم إنّا نستعينك ، ونستغفرك ، ونؤمن بك ، ونتوكل عليك ، ونخضع لك ، ونخلع ونترك من يكفرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلّي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخاف عذابك ، إنّ عذابك الجدّ بالكفار ملحق .
ومن ترك القنوت عمداً أو سهواً فلا شيء عليه ، فإن سجد لتركه قبل السلام بطلت صلاته . وليس لدعاء القنوت حدّ محدود .
ولا يرفع يديه في دعاء القنوت ، كما لا يرفع في التأمين ، ولا في دعاء التشهّد .
والإسرار به هو المستحبّ في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد ، لأنّه دعاء ، فينبغي الإسرار به حذراً من الرّياء .
والمسبوق إذا أدرك الركعة الثانية لا يقنت في القضاء ، لأنّه إنّما يقضي الركعة الأولى ولم يكن فيها قنوت ، قال ابن رشد : إن أدرك قبل ركوع الثانية لم يقنت في قضائه ، سواء أدرك قنوت الإمام أم لا .
الثالث : للشافعية : وهو أنّ القنوت في صلاة الصّبح سنّة ، قال النّوويّ : اعلم أنّ القنوت مشروع عندنا في الصّبح ، وهو سنّةٌ متأكّدة ، وذلك لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه : « ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدّنيا » .
قالوا : ولو تركه لم تبطل صلاته ، لكن يسجد للسهو ، سواء تركه عمداً أو سهواً .
أمّا محلّه ، فبعد الرفع من الرّكوع في الركعة الثانية من الصّبح ، فلو قنت قبل الرّكوع لم يحسب له على الأصحّ ، وعليه أن يعيده بعد الرّكوع ثم يسجد للسهو .
وأمّا لفظه ، فالاختيار أن يقول فيه ما روي عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما قال :
« علمني رسول الله كلمات أقولهنّ في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك ، وأنّه لا يذلّ من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت » ، وزاد العلماء فيه :
" ولا يعزّ من عاديت " قبل : " تباركت ربنا وتعاليت " وبعده : " فلك الحمد على ما قضيت ، أستغفرك وأتوب إليك " .
قال النّوويّ : قال أصحابنا : لا بأس بهذه الزّيادة ، وقال أبو حامد والبندنيجيّ وآخرون : مستحبة .(/1)
ويسنّ أن يقول عقب هذا الدّعاء : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وسلّم .
وذلك في الوجه الصحيح المشهور .
قال النّوويّ : واعلم أنّ القنوت لا يتعين فيه دعاء على المذهب المختار ، فأي دعاء دعا به حصل القنوت ، ولو قنت بآية أو آيات من القرآن العزيز ، وهي مشتملة على الدّعاء حصل القنوت ، ولكنّ الأفضل ما جاءت به السّنّة .
ولو قنت بالمنقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حسناً ، فقد روي أنّه قنت في الصّبح بعد الرّكوع فقال : اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، وألّف بين قلوبهم ، وأصلح ذات بينهم ، وانصرهم على عدوّك وعدوّهم ، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ، ويكذّبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ، اللهم خالف بين كلمتهم ، وزلزل أقدامهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين ، بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إياك نعبد ولك نصلّي ونسجد ، ولك نسعى ونحفد ، ونخشى عذابك الجد ، ونرجو رحمتك ، إنّ عذابك بالكافرين ملحق .
ثم إنّه يستحبّ الجمع بين قنوت عمر رضي الله عنه وما سبق ، فإن جمع بينهما ، فالأصحّ تأخير قنوت عمر ، وإن اقتصر فليقتصر على الأول ، وإنّما يستحبّ الجمع بينهما إذا كان منفرداً أو إمام جماعة محصورين يرضون بالتطويل .
ويستحبّ إذا كان المصلّي إماماً ألا يخص نفسه بالدّعاء ، بل يعمّم ، فيأتي بلفظ الجمع " اللهم اهدنا ... إلخ " ، لما روي عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمّ امرؤ قوماً ، فيخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم » .
أما رفع اليدين في القنوت ففيه وجهان مشهوران ، أصحّهما استحباب رفع اليدين فيه . وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدّعاء - إن قلنا بالرفع - ففيه وجهان ، أصحّهما عدم استحباب المسح .
وأما الجهر بالقنوت أو الإسرار به في صلاة الصّبح ، فيفرق بين ما إذا كان المصلّي إماماً ، أو منفرداً ، أو مأموماً .
- فإن كان إماماً : فيستحبّ له الجهر بالقنوت في الأصحّ .
- وإن كان منفرداً فيسرّ به بلا خلاف .
- وإن كان مأموماً : فإن لم يجهر الإمام قنت سرّاً كسائر الدعوات ، وإن جهر الإمام بالقنوت، فإن كان المأموم يسمعه أمن على دعائه ، وشاركه في الثناء على آخره ، وإن كان لا يسمعه قنت سرّاً .
ب - القنوت في الوتر :
4 - اختلف الفقهاء في حكم القنوت في صلاة الوتر على أربعة أقوال :
الأول : لأبي حنيفة : وهو أنّ القنوت واجب في الوتر قبل الرّكوع في جميع السنة ، وقال الصاحبان أبو يوسف ومحمد : هو سنّة في كلّ السنة قبل الرّكوع .
فعند الحنفية إذا فرغ مصلّي الوتر من القراءة في الركعة الثالثة كبر رافعاً يديه ، ثم يقرأ دعاء القنوت ، واستدلّوا على ذلك بما روي أنّه صلى الله عليه وسلم « قنت في آخر الوتر قبل الرّكوع » .
وذكر الكرخيّ أنّ مقدار القيام في القنوت مقدار سورة { إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ } ، لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه كان يقرأ في القنوت : اللهم إنّا نستعينك … إلخ »
« اللهم اهدنا فيمن هديت ... إلخ » وكلاهما على مقدار هذه السّورة .
وليس في القنوت دعاء مؤقت ، كذا ذكر الكرخيّ في كتاب الصلاة ، لأنّه روي عن الصحابة أدعية في حال القنوت ، ولأنّ المؤقت من الدّعاء يجري على لسان الداعي من غير احتياجه إلى إحضار قلبه وصدق الرغبة منه إلى الله تعالى ، فيبعد عن الإجابة ، ولأنّه لا توقيت في القراءةِ لشيءٍ من الصلوات ، ففي دعاء القنوت أولى ، وقد روي عن محمد أنّه قال : التوقيت في الدّعاء يذهب رقة القلب ، وقال بعض مشايخنا : المراد من قوله : ليس في القنوت دعاء مؤقت ما سوى قوله : « اللهم إنّا نستعينك .. » لأنّ الصحابة اتفقوا على هذا في القنوت ، فالأولى أن يقرأه ، ولو قرأ غيره جاز ، ولو قرأ معه غيره كان حسناً ، والأولى أن يقرأ بعده ما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن عليّ رضي الله عنهما في قنوته « اللهم اهدنا فيما هديت .. » ، إلى آخره .
ومن لا يحسن القنوت بالعربية أو لا يحفظه ، ففيه ثلاثة أقوال مختارة ، قيل : يقول : " يا ربّ " ثلاث مرات ، ثم يركع ، وقيل : يقول : اللهم اغفر لي ثلاث مرات ، وقيل : يقول : اللهم ربنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، قال ابن نجيم بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة : والظاهر أنّ الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز ، وأنّ الأخير أفضل لشموله ، وأنّ التقييد بمن لا يحسن العربية ليس بشرط ، بل يجوز لمن يعرف الدّعاء المعروف أن يقتصر على واحد مما ذكر لما علمت أنّ ظاهر الرّواية عدم توقيته .
وأما صفة دعاء القنوت من الجهر والمخافتة ، فقد ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاويّ أنّه إن كان منفرداً فهو بالخيار : إن شاء جهر وأسمع غيره ، وإن شاء جهر وأسمع نفسه ، وإن شاء أسر كما في القراءة .
وإن كان إماماً يجهر بالقنوت ، لكن دون الجهر بالقراءة في الصلاة ، والقوم يتابعونه هكذا إلى قوله : إنّ عذابك بالكفار ملحق .
قال أبو يوسف : يسنّ أن يقرأ المقتدي أيضاً وهو المختار ، لأنّه دعاء كسائر الأدعية ، وقال محمد : لا يقرأ بل يؤمّن لأنّ له شبهة القرآن احتياطاً .
وقال في الذخيرة : استحسنوا الجهر في بلاد العجم للإمام ليتعلموا ، كما جهر عمر رضي الله عنه بالثناء حين قدم عليه وفد العراق ، ونص في الهداية على أنّ المختار المخافتة ، وفي المحيط على أنّه الأصحّ .(/2)
وفي البدائع : واختار مشايخنا بما وراء النّهر الإخفاء في دعاء القنوت في حقّ الإمام والقوم جميعاً ، لقوله تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « خير الذّكر الخفيّ » .
أما الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في القنوت . فقد قال أبو القاسم الصفار : لا يفعل ، لأنّ هذا ليس موضعها ، وقال الفقيه أبو الليث : يأتي بها ، لأنّ القنوت دعاء ، فالأفضل أن يكون فيه الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكره في الفتاوى .
وأما حكم القنوت إذا فات عن محلّه ، فقالوا : إذا نسي القنوت حتى ركع ثم تذكر بعدما رفع رأسه من الرّكوع لا يعود ، ويسقط عنه القنوت ويسجد للسهو ، وإن تذكره في الرّكوع ، فكذلك في ظاهر الرّواية ، كما في البدائع ، وصححه في الفتاوى الخانية ، وروي عن أبي يوسف : أنّه يعود إلى القنوت ، لأنّ له شبهاً بالقراءة فيعود ، كما لو ترك الفاتحة أو السّورة فتذكرها في الرّكوع أو بعد رفع الرأس منه ، فإنّه يعود وينتقض ركوعه، كذا هاهنا. والثاني : للمالكية في المشهور وطاوس ، وهو رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنّه لا يشرع القنوت في صلاة الوتر من السنة كلّها ، فعن طاوس أنّه قال : القنوت في الوتر بدعة ، وعن ابن عمر : أنّه لا يقنت في صلاة بحال ، ومشهور مذهب مالك كراهة القنوت في الوتر .
وفي رواية عن مالك أنّه يقنت في الوتر في النّصف الأخير من رمضان .
والثالث : للشافعية في الأصحّ : وهو أنّه يستحبّ القنوت في الوتر في النّصف الأخير من شهر رمضان خاصةً ، فإن أوتر بركعة قنت فيها ، وإن أوتر بأكثر قنت في الأخيرة .
وفي وجه للشافعية : أنّه يقنت في جميع رمضان .
وحكى الرّويانيّ وجهاً أنّه يجوز القنوت في جميع السنة بلا كراهة ، ولا يسجد للسهو لتركه في غير النّصف الأخير من رمضان ، قال : وهذا حسن وهو اختيار مشايخ طبرستان .
قال الرافعيّ : وظاهر كلام الشافعيّ كراهة القنوت في غير النّصف الأخير من رمضان .
أما محلّ القنوت في الوتر ، فهو بعد رفع الرأس من الرّكوع في الصحيح المشهور .
أما لفظ القنوت في الوتر فكالصّبح .
واستحب الشافعية أن يضم إلى ما ذكرنا من دعاء القنوت قنوت عمر رضي الله عنه .
أما الجهر بالقنوت في الوتر ورفع اليدين ومسح الوجه فحكمها ما سبق في قنوت الصّبح نفسه .
والرابع : للحنابلة : وهو أنّه يسنّ القنوت جميع السنة في الركعة الواحدة الأخيرة من الوتر بعد الرّكوع ، لما روى أبو هريرة وأنس « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الرّكوع » ، قال ابن قدامة في تعليل مشروعيته كل السنة : لأنّه وتر ، فيشرع فيه القنوت ، كالنّصف الأخير من رمضان ، ولأنّه ذكر شرع في الوتر ، فشرع في جميع السنة كسائر الأذكار .
ولو كبَّر ورفع يديه بعد القراءة ، ثم قنت قبل الرّكوع جاز ، لما روى أبيّ بن كعب « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الرّكوع » .
وهيئة القنوت أن يرفع يديه إلى صدره حال قنوته ويبسطهما وبطونهما نحو السماء ولو كان مأموماً ، ويقول جهراً - سواء أكان إماماً أو منفرداً - : " اللهم إنّا نستعينك ، ونستهديك ، ونستغفرك ، ونتوب إليك ، ونؤمن بك ، ونتوكل عليك ، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلّي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك ، إنّ عذابك الجد بالكفار ملحق ، اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا شر ما قضيت ، إنّك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنّه لا يذلّ من واليت ، ولا يعزّ من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم إنّا نعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك ، لا نحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .
وله أن يزيد ما شاء مما يجوز به الدّعاء في الصلاة ، قال المجد ابن تيمية : فقد صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقنت بقدر مائة آية ، ثم يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويفرد المنفرد الضمير ، فيقول اللهم اهدني . اللهم إنّي أستعيذك ... إلخ ، وهو الصحيح في المذهب . وعليه نص أحمد ، وعند ابن تيمية ، يجمعه ، لأنّه يدعو لنفسه وللمؤمنين . والمأموم إذا سمع قنوت إمامه أمن عليه بلا قنوت ، وإن لم يسمعه دعا ، وهل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ ؟ على روايتين :
أشهرهما : أنّه يمسح بهما وجهه ، نقله أحمد ، واختاره الأكثر ، لما روى السائب بن يزيد عن أبيه « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه ، مسح وجهه بيديه » ، وكخارج الصلاة .
والثانية : لا ، نقلها الجماعة ، واختارها الآجرّيّ لضعف الخبر ، وعنه : يكره ، صححها في الوسيلة ، وعنه : يمرّهما على صدره ، وبعد ذلك يرفع يديه إذا أراد السّجود ، لأنّ القنوت مقصود في القيام ، فهو كالقراءة .
ج - القنوت عند النازلة :
5 - اختلف الفقهاء في حكم القنوت عند النّوازل على أربعة أقوال :
الأول للحنفية : وهو أنّه لا يقنت في غير الوتر إلا لنازلةٍ : كفتنة وبليّةٍ ، فيقنت الإمام في الصلاة الجهرية ، قال الطحاويّ : إنّما لا يقنت عندنا في صلاة الفجر من دون وقوع بلية ، فإن وقعت فتنة أو بلية فلا بأس به ، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .(/3)
وهل القنوت للنازلة قبل الرّكوع أو بعده ؟ احتمالان ، استظهر الحمويّ في حواشي الأشباه والنّظائر كونه قبله ، ورجح ابن عابدين ما استظهره الشرنبلالي في مراقي الفلاح أنّه بعده. والثاني للمالكية في المشهور والشافعية في غير الأصحّ : وهو أنّه لا يقنت في غير الصّبح مطلقاً ، قال الزرقانيّ : لا بوتر ولا في سائر الصلوات عند الضرورة خلافاً لزاعميه ، لكن لو قنت في غيرها لم تبطل ، والظاهر أنّ حكمه في غير الصّبح الكراهة ، ودليلهم على ذلك ما في الصحيحين عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما « أنّه صلى الله عليه وسلم قنت شهراً ثم تركه » .
والثالث للشافعية في الصحيح المشهور وبعض المالكية : وهو أنّه إذا نزلت بالمسلمين نازلة، كوباء ، وقحط ، أو مطر يضرّ بالعمران أو الزرع ، أو خوف عدوّ ، أو أسر عالم قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة ، قال النّوويّ : مقتضى كلام الأكثرين أنّ الكلام والخلاف في غير الصّبح إنّما هو في الجواز ، ومنهم من يشعر إيراده بالاستحباب ، قلت : الأصحّ استحبابه ، وصرح به صاحب العدة ، ونقله عن نص الشافعيّ في الإملاء ، فإن لم تكن نازلة فلا قنوت إلا في صلاة الفجر ، قال ابن علان : وإن لم تنزل فلا يقنتوا ، أي يكره ذلك لعدم ورود الدليل لغير النازلة ، وفارقت الصّبح غيرها بشرفها مع اختصاصها بالتأذين قبل الوقت ، وبالتثويب ، وبكونها أقصرهن ، فكانت بالزّيادة أليق ، وليعود على يومه بالبركة ، لما فيه - أي القنوت - من الذّلة والخضوع .
واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنهما : « قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والصّبح ، يدعو على رِعْلٍ وذكوان وعصيّة في دبر كلّ صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة ، ويؤمَّن من خلفه » قال ابن علان : إنّه صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة ، لدفع تمرّد القاتلين ، لا لتدارك المقتولين لتعذّره . وقيس غير خوف العدوّ عليه .
وإذا قنت في غير الصّبح من الفرائض لنازلة ، فهل يجهر بالقنوت أم يسرّ به ؟ قال النّوويّ: الراجح أنّها كلّها كالصّبح ، سرّيةً كانت أم جهريةً ، ومقتضى إيراده في الوسيط أنّه يسرّ في السرية ، وفي الجهرية الخلاف .
والرابع للحنابلة على الراجح عندهم : وهو أنّه يكره القنوت في غير وتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة - غير الطاعون - لأنّه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس ولا في غيره، ولأنّه شهادة للأخيار ، فلا يسأل رفعه ، فيسنّ للإمام الأعظم - وهو الصحيح في المذهب - القنوت فيما عدا الجمعة من الصلوات المكتوبات - وهو المعتمد في المذهب - لرفع تلك النازلة ، ذلك لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه قنت شهراً يدعو على حيّ من أحياء العرب ، ثم تركه » ، وما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قنت ثم قال : إنّما استنصرنا على عدونا هذا .
ويقول الإمام في قنوته نحوا مما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يقول في القنوت : " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، وألّف بين قلوبهم ، وأصلح ذات بينهم ، وانصرهم على عدوّك وعدوّهم ، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذّبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ، اللهم خالف بين كلمتهم ، وزلزل أقدامهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لا يردّ عن القوم المجرمين ، بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إنّا نستعينك ... إلخ .
ويجهر بالقنوت للنازلة في صلاة جهرية ، قال ابن مفلح وظاهر كلامهم مطلقاً ، ولو قنت في النازلة كلّ إمام جماعة أو كلّ مصلّ ، لم تبطل صلاته . لأنّ القنوت من جنس الصلاة ، كما لو قال : آمين يا رب العالمين .(/4)
قِبْلَة *
التّعريف :
1 - القبلة في اللّغة : الجهة ، يقال : أين قبلتك ؟ والّتي يصلّى إليها ، والحالة الّتي عليها الإنسان من الاستقبال ، يقال : ما لكلامه قبلة ، ثمّ صارت حقيقةً شرعيّةً في الكعبة المشرّفة لا يفهم منها غيرها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الشّطر :
2 - شطر كلّ شيء نصفه ، والشّطر القصد والجهة ، قال تعالى : { وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } أي قصده وجهته .
والشّطر أعمّ من القبلة .
ب - النّحو :
3 - النّحو القصد ، تقول : نحوت نحو الشّيء - من باب قتل - إذا قصدته .
وهو أعمّ من القبلة .
الأحكام المتعلّقة بالقبلة :
أوّلاً : تشريع التّوجّه في الصّلاة إلى الكعبة :
4 - كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي بضعة عشر شهراً إلى بيت المقدس بعد قدومه المدينة ، ففرحت اليهود بذلك ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحبّ قبلة إبراهيم عليه السلام ، وكان يدعو اللّه ، وينظر إلى السّماء ، رجاء أن ينزل جبريل عليه السلام بالّذي سأل ، فأنزل اللّه : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } أي حوّل وجهك نحو الكعبة ، فارتاب اليهود ، فأنشأوا يقولون : قد اشتاق الرّجل إلى بيت أبيه ، وما لهم حتّى تركوا قبلتهم ، يصلّون مرّةً وجهاً ومرّةً وجهاً آخر ؟ وفرح المشركون ، وقالوا : إنّ محمّداً قد التبس عليه أمره ، ويوشك أن يكون على دينكم ، وقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زماناً ، ثمّ تركوها ، وتوجّهوا إلى غيرها ، وقال المشركون من أهل مكّة : تحيّر على محمّد دينه فتوجّه بقبلته إليكم ، وعلم أنّكم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم ، فأنزل اللّه الآيات : { سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } والآيات بعدها .
ثانياً : استقبال القبلة شرط لصحّة الصّلاة :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّوجّه نحو الكعبة في الصّلاة شرط من شروط صحّتها للقادر عليه لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } .
والاستقبال لا يجب في غير الصّلاة فتعيّن أن يكون فيها ، وقد ورد أنّه صلى الله عليه وسلم : « ركع ركعتين قبل الكعبة وقال : هذه القبلة » مع حديث : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » فلا تصحّ صلاة قادر على استقبالها بدونه بإجماع المسلمين .
واحترز بالقادر عن العاجز كمريض عجز عمّن يوجّهه ومربوط على خشبة ، وغريق على لوح يخاف من استقباله الغرق ، ومن خاف من نزوله عن دابّته على نفسه أو ماله ، أو انقطاعاً عن الرّفقة ، فإنّه يصلّي على حسب حاله .
وعند اشتداد الخوف ، بحيث لا يتمكّن من الصّلاة إلى القبلة ، لالتحام الجيش ، والحاجة إلى الكرّ والفرّ ، والطّعن والضّرب والمطاردة ، فله أن يصلّي على حسب حاله راجلاً وراكباً إلى القبلة إن أمكن ، وإلى غيرها إن لم يمكن .
والتّفصيل في : ( استقبال ف 9 ، وصلاة الخوف ف 9 ) .
واستثني أيضاً من وجوب استقبال القبلة : صلاة المتطوّع في السّفر على الرّاحلة . والتّفصيل في : ( استقبال ف 9 ) .
ثالثاً : ما يجزئ في الاستقبال :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من قدر على رؤية الكعبة يجب عليه أن يتوجّه إلى عين الكعبة ، ولا يجوز له الاجتهاد ، واختلفوا فيمن غاب عن الكعبة ولا يقدر على رؤيتها لبعدها عنه ، هل فرضه إصابة عين الكعبة أو الجهة ؟ فذهب قوم إلى أنّ الفرض هو العين ، وذهب آخرون إلى أنّه الجهة .
والتّفصيل في مصطلح : ( استقبال ف 12 - 19 ) .(/1)
قِراءة
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11924)
قِراءة
«التعريف»
1 - القراءة في اللّغة : التّلاوة ، يقال قرأ الكتاب قراءةً وقُرْآناً : تتبع كلماته نظراً ، نطق بها أو لم ينطق .
وقرأ الآية من القرآن : نطق بألفاظها عن نظر أو عن حفظ فهو قارئ ، والجمع قراء ، وقرأ السلام عليه قِراءةً : أبلغه إياه ، وقرأ الشيء قرءاً وقرآناً : جمعه وضم بعضه إلى بعض . واقْتَرأ القرآن والكتاب : قرأه ، واستقرأه : طلب إليه أن يقرأ ، وقارأه مقارأةً وقِراءً : دارسه . والقَرَّاء : الحسن القراءة .
والقراءة اصطلاحاً : هي تصحيح الحروف بلسانه بحيث يسمع نفسه ، وفي قول وإن لم يسمع نفسه .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - التّلاوة»
2 - التّلاوة في اللّغة : القراءة ، تقول : تلوت القرآن تلاوةً قرأته ، وتأتي بمعنى تبع ، تقول : تلوت الرجل أتلوه تلوّاً : تبعته ، وتتالت الأمور : تلا بعضها بعضاً . وتأتي بمعنى الترك والخذلان .
والتّلاوة اصطلاحاً : هي قراءة القرآن متتابعةً .
وفي فروق أبي هلال : الفرق بين القراءة والتّلاوة : أن التّلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعداً ، والقراءة تكون للكلمة الواحدة ، يقال قرأ فلان اسمه ، ولا يقال تلا اسمه ، وذلك أن أصل التّلاوة اتّباع الشيء الشيء ، يقال تلاه : إذا تبعه ، فتكون التّلاوة في الكلمات يتبع بعضها بعضاً ، ولا تكون في الكلمة الواحدة إذ لا يصحّ فيها التّلوّ .
وقال صاحب الكلّيات : القراءة أعمّ من التّلاوة .
«ب - الترتيل»
3 - الترتيل في اللّغة : التمهّل والإبانة . يقال رتل الكلام : أحسن تأليفه وأبانه وتمهل فيه . والترتيل في القراءة : الترسّل فيها والتبيين من غير بغي .
والترتيل اصطلاحاً : التأنّي في القراءة والتمهّل وتبيين الحروف والحركات .
والصّلة بين القراءة والترتيل عموم وخصوص .
«الأحكام المتعلّقة بالقراءة»
«أولاً : قراءة القرآن»
«أ - القراءة في الصلاة»
«ما يجب من القراءة في الصلاة»
4 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة ، فتجب قراءتها في كلّ ركعة من كلّ صلاة ، فرضاً أو نفلاً ، جهريةً كانت أو سرّيةً ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » ، وفي رواية : « لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب » .
وذهب الحنفية إلى أن ركن القراءة في الصلاة يتحقق بقراءة آية من القرآن لقوله تعالى : « فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » .
أما قراءة الفاتحة فهي من واجبات الصلاة وليست بركن ، والتفصيل في مصطلح : « صلاة ف / 38 » .
ويقصدون بالآية هنا الطائفة من القرآن مترجمةً - أي اعتبر لها مبدأ ومقطع - وأقلّها ستة أحرف ولو تقديراً ، كقوله تعالى : « لَمْ يَلِدْ » .
وهذا عند أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد : أدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة .
«ما يسنّ من القراءة في الصلاة»
5 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يسنّ للمصلّي أن يقرأ شيئاً من القرآن بعد الفاتحة .
كما ذهب الحنفية إلى أن قراءة أقصر سورة من القرآن أو ما يقوم مقامها بعد الفاتحة واجب وليس بسنة ، فإن أتى بها انتفت الكراهة التحريمية ، أما ما يحصل به أصل السّنة من القراءة فقد سبق تفصيله في مصطلح : « صلاة ف /66 » .
كما سبق تفصيل ما يسنّ للمصلّي أن يقرأه من المفصل في الصلوات الخمس في مصطلح « صلاة ف /66 » .
لكن الفقهاء اختلفوا في المفصل :
فذهب الحنفية إلى أن طوال المفصل من « الحجرات » إلى « البروج » ، والأوساط منها إلى « لم يكن » ، والقصار منها إلى آخر القرآن .
وعند المالكية طوال المفصل من « الحجرات » إلى « النازعات » ، وأوساطه من « عبس » إلى « الضّحى » ، وقصاره من « الضّحى » إلى آخر القرآن .
وقال الشافعية : طوال المفصل « كالحجرات واقتربت والرحمن » ، وأوساطه « كالشمس وضحاها والليل إذا يغشى » ، وقصاره « كالعصر وقل هو الله أحد » .
وذهب الحنابلة إلى أن أول المفصل سورة « ق » ، لحديث أوس بن حذيفة قال : « سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزّبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده » .
قالوا : وهذا يقتضي أن أول المفصل السّورة التاسعة والأربعون من أول البقرة لا من الفاتحة . وآخر طواله سورة عم ، وأوساطه منها للضّحى ، وقصاره منها لآخر القرآن .
ما يكره من القراءة وما يجوز في الصلاة :
6 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز قراءة سورة مخصوصة في الصلاة ، بل استحب الشافعية قراءة السجدة والإنسان في صبح الجمعة ، وعن أبي إسحاق وابن أبي هريرة من الشافعية لا تستحبّ المداومة عليهما ليعرف أن ذلك غير واجب .
قال الحنابلة : لا يكره ملازمة سورة يحسن غيرها مع اعتقاده جواز غيرها .
وذهب الحنفية إلى أنه يكره أن يوقّت بشيء من القرآن لشيء من الصلوات كالسجدة والإنسان لفجر الجمعة ، والجمعة والمنافقين للجمعة .
قال الكمال بن الهمام : المداومة مطلقاً مكروهة سواء رآه حتماً يكره غيره أو لا ، لإيهامه التعيين ، كما يستحبّ أن يقرأ بذلك أحياناً تبرّكاً بالمأثور .
وكره مالك الاقتصار على بعض السّورة في إحدى الرّوايتين عنه .
كما يكره عند الأكثر من الحنفية أن يقرأ آخر سورة في كلّ ركعة ، ويجوز أن يقرأ في الركعتين آخر سورة واحدة .(/1)
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يكره قراءة بعض السّورة ، لعموم قوله تعالى : « فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ » ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : xx كان يقرأ في الأولى من ركعتي الفجر : « قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا » وفي الثانية قوله تعالى : « قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء » « .
لكن صرح الشافعية بأن السّورة الكاملة أفضل من قدرها من طويلة ; لأن الابتداء بها والوقف على آخرها صحيحان بالقطع بخلافهما في بعض السّورة ، فإنهما يخفيان ، ومحلّه في غير التراويح ، أما فيها فقراءة بعض الطويلة أفضل ، وعللوه بأن السّنة فيها القيام بجميع القرآن ، بل صرحوا بأن كل محلّ ورد فيه الأمر بالبعض فالاقتصار عليه أفضل كقراءة آيتي البقرة وآل عمران في ركعتي الفجر .
وصرح الحنفية بأنه إذا قرأ المصلّي سورةً واحدةً في ركعتين فالأصحّ أنه لا يكره ، لكن لا ينبغي أن يفعل ، ولو فعل لا بأس به .
وصرحوا أيضاً بكراهة الانتقال من آية من سورة إلى آية من سورة أخرى ، أو من هذه السّورة وبينهما آيات .
وصرح الحنابلة بكراهة قراءة كلّ القرآن في فرض واحد لعدم نقله وللإطالة ، ولا تكره قراءته كلّه في نفل ; لأن عثمان رضي الله تعالى عنه كان يختم القرآن في ركعة ، ولا تكره قراءة القرآن كلّه في الفرائض على ترتيبه .
قال حرب : قلت لأحمد : الرجل يقرأ على التأليف في الصلاة ، اليوم سورةً وغداً التي تليها ؟ قال : ليس في هذا شيء ، إلا أنه روي عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصل وحده .
ما يحرم من القراءة في الصلاة
7 - نص الحنفية على أن المصلّي لو ترك ترتيب السّور لا يلزمه شيء مع كونه واجباً ; لأنه ليس واجباً أصليّاً من واجبات الصلاة .
وصرح المالكية بحرمة تنكيس الآيات المتلاصقة في ركعة واحدة ، وأنه يبطل الصلاة ; لأنه ككلام أجنبيّ .
ونص الشافعية على أنه يجب أن يأتي بالفاتحة مرتبةً فإذا بدأ بنصفها الثاني لم يعتد به مطلقاً سواء بدأ به عامداً أم ساهياً ويستأنف القراءة . هذا ما لم يغيّر المعنى . فإن غير المعنى بطلت صلاته .
كما صرح الحنابلة بحرمة تنكيس كلمات القرآن وتبطل الصلاة به ، قالوا : لأنه يصير بإخلال نظمه كلاماً أجنبيّاً يبطل الصلاة عمده وسهوه ، كما صرحوا بحرمة القراءة عما يخرج عن مصحف عثمان لعدم تواتره ولا تصحّ صلاته .
قال البهوتيّ : قال في شرح الفروع " وظاهره ولو وافق قراءة أحد من العشرة في أصحّ الرّوايتين " .
الجهر والإسرار في القراءة
8 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يسنّ للإمام أن يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية : كالصّبح والجمعة والأوليين من المغرب والعشاء ، ويسرّ في الصلاة السّرّية .
وذهب الحنفية إلى وجوب الجهر على الإمام في الصلاة الجهرية والإسرار في الصلاة غير الجهرية .
كما يسنّ للمنفرد الجهر في الصّبح والأوليين من المغرب والعشاء عند المالكية والشافعية . ويرى الحنفية والحنابلة على المذهب أن المنفرد يخير فيما يجهر به إن شاء جهر وإن شاء خافت ، والجهر أفضل عند الحنفية .
وتفصيل ذلك في مصطلح جهر ف /7 .
واشترط الحنفية والشافعية والحنابلة لاعتبار القراءة أن يسمع القارئ نفسه ، فلا تكفي حركة اللّسان من غير إسماع ; لأن مجرد حركة اللّسان لا يسمى قراءةً بلا صوت ; لأن الكلام اسم لمسموع مفهوم ، وهذا اختيار الهندوانيّ والفضليّ من الحنفية ورجحه المشايخ .
واختار الكرخيّ عدم اعتبار السماع ; لأن القراءة فعل اللّسان وذلك بإقامة الحروف دون الصّماخ; لأن السماع فعل السامع لا القارئ ، وهو اختيار الشيخ تقيّ الدّين من الحنابلة أيضاً . ولم يشترط المالكية أن يسمع نفسه وتكفي عندهم حركة اللّسان ، أما إجراؤها على القلب دون تحريك اللّسان فلا يكفي ، لكن نصّوا على أن إسماع نفسه أولى مراعاةً لمذهب الجمهور .
اللحن في القراءة
9 - اتفق الفقهاء على أن اللحن في القراءة إن كان لا يغيّر المعنى فإنه لا يضرّ وتصحّ الصلاة معه .
واختلفوا في اللحن الذي يغيّر المعنى .
فذهب الحنفية إلى أن اللحن إن غير المعنى تغييراً فاحشًا بأن قرأ : " وعصى آدمَ ربُّهُ " ، بنصب الميم ورفع الربّ وما أشبه ذلك - مما لو تعمد به يكفر - إذا قرأه خطأً فسدت صلاته في قول المتقدّمين .
وقال المتأخّرون محمد بن مقاتل ، وأبو نصر محمد بن سلام ، وأبو بكر بن سعيد البلخيّ ، والفقيه أبو جعفر الهندوانيّ ، وأبو بكر محمد بن الفضل ، والشيخ الإمام الزاهد وشمس الأئمة الحلوانيّ : لا تفسد صلاته .
وفي الفتاوى الهندية : ما قاله المتقدّمون أحوط ; لأنه لو تعمد يكون كفراً ، وما يكون كفراً لا يكون من القرآن ، وما قاله المتأخّرون أوسع ; لأن الناس لا يميّزون بين إعراب وإعراب ، والفتوى على قول المتأخّرين .
وذهب المالكية في المعتمد عندهم إلى أن اللحن ولو غير المعنى لا يبطل الصلاة ، وسواء ذلك في الفاتحة أو غيرها من السّور .(/2)
وذهب الشافعية إلى أن اللحن إذا كان يغيّر المعنى فإنه لا يضرّ في غير الفاتحة إلا إذا كان عامداً عالماً قادراً ، وأما في الفاتحة فإن قدر وأمكنه التعلّم لم تصح صلاته ، وإلا فصلاته صحيحة . ونص الحنابلة على أن اللحن إن كان يحيل المعنى فإن كان له القدرة على إصلاحه لم تصح صلاته ، لأنه أخرجه عن كونه قرآناً ، وإن عجز عن إصلاحه قرأ الفاتحة فقط التي هي فرض القراءة لحديث : » إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم xx ، ولا يقرأ ما زاد عن الفاتحة ، فإن قرأ عامداً بطلت صلاته ويكفر إن اعتقد إباحته ، وإن قرأ نسياناً أو جهلاً أو خطأً لم تبطل صلاته.
«قراءة المأموم خلف الإمام»
10 - اختلف الفقهاء في قراءة المأموم خلف الإمام .
فذهب المالكية والحنابلة إلى أنه لا تجب القراءة على المأموم سواء كانت الصلاة جهريةً أو سرّيةً لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة » ، قال ابن قندس من الحنابلة : الذي يظهر أن قراءة الإمام إنما تقوم عن قراءة المأموم إذا كانت صلاة الإمام صحيحةً ، احتزازاً عن الإمام إذا كان محدثاً أو نجساً ولو يعلم ذلك وقلنا بصحة صلاة المأموم ، فإنه لا بد من قراءة المأموم لعدم صحة صلاة الإمام ، فتكون قراءته غير معتبرة بالنّسبة إلى ركن الصلاة فلا تسقط عن المأموم .
وهذا ظاهر ، لكن لم أجد من أعيان مشايخ المذهب من استثناه . نعم وجدته في بعض كلام المتأخّرين .
قال البهوتيّ : وظاهر كلام الأشياخ والأخبار خلافه للمشقة .
ونص المالكية والحنابلة على أنه يستحبّ للمأموم قراءة الفاتحة في السّرّية .
وعن الإمام أحمد رواية أنها تجب في صلاة السّرّ ، وهو قول ابن العربيّ من المالكية حيث قال بلزومها للمأموم في السّرّية .
وذهب الحنفية إلى أن المأموم لا يقرأ مطلقاً خلف الإمام حتى في الصلاة السّرّية ، ويكره تحريماً أن يقرأ خلف الإمام ، فإن قرأ صحت صلاته في الأصحّ .
قالوا : ويستمع المأموم إذا جهر الإمام وينصت إذا أسر ، لحديث ابن عباس قال : « صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقرأ خلفه قوم ، فنزلت { وَإِذَا قُرِئ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } » .
قال أحمد : أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة .
قال ابن عابدين نقلاً عن البحر : وحاصل الآية : أن المطلوب بها أمران : الاستماع والسّكوت فيعمل بكلّ منهما ، والأول يخصّ بالجهرية والثاني لا ، فيجري على إطلاقه فيجب السّكوت عند القراءة مطلقاً .
وعن زيد بن ثابت قال : لا قراءة مع الإمام في شيء .
ومنع المؤتمّ من القراءة مأثور عن ثمانين نفراً من كبار الصحابة ; ولأن المأموم مخاطب بالاستماع إجماعاً فلا يجب عليه ما ينافيه ، إذ لا قدرة له على الجمع بينهما ، فصار نظير الخطبة ، فإنه لما أمر بالاستماع لا يجب على كلّ واحد أن يخطب لنفسه بل لا يجوز ، فكذا هذا . وذهب الشافعية إلى وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة مطلقاً سرّيةً كانت أو جهريةً، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب » .
وقد نص الشافعية والحنابلة على كراهة قراءة المأموم حال جهر الإمام ، واستثنى الشافعية حال ما إذا كان يخاف فوت بعض الفاتحة .
ونص الشافعية أيضاً على أن من علم أن إمامه لا يقرأ السّورة أو إلا سورةً قصيرةً ولا يتمكن من إتمام الفاتحة فإنه يقرؤها مع الإمام ، ويستحبّ للمأموم أن يقرأ في سكتات الإمام أو إذا كان لا يسمع الإمام لبعده أو لصمم .
قال الحنابلة : يستحبّ أن يقرأ في سكتات الإمام الفاتحة على المذهب ، وقال الشيخ تقيّ الدّين : مقتضى نصوص الإمام أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغير الفاتحة أفضل .
قال في جامع الاختيارات : مقتضى هذا إنما يكون غيرها أفضل إذا سمعها وإلا فهي أفضل من غيرها .
«القراءة في الرّكوع والسّجود»
11 - اتفق الفقهاء على كراهة القراءة في الرّكوع والسّجود ،لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: « ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأما الرّكوع فعظّموا فيه الرب عز وجل ، وأما السّجود فاجتهدوا في الدّعاء ، فقمن أن يستجاب لكم » .
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال : « نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد » .
ولأن الرّكوع والسّجود حالتا ذلّ في الظاهر ، والمطلوب من القارئ التلبّس بحالة الرّفعة والعظمة ظاهراً تعظيماً للقرآن .
قال الزركشيّ من الشافعية : محلّ الكراهة ما إذا قصد بها القراءة ، فإن قصد بها الدّعاء والثناء فينبغي أن يكون كما لو قنت بآية من القرآن .
«قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة»
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية في الصلاة مطلقًا سواء قدر على القراءة بالعربية أو عجز وتفسد بذلك .(/3)
واستدلّوا بحديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : « سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة ، فتصبرت حتى سلم ، فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السّورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : كذبت . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إنّي سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسله ، اقرأ يا هشام ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك أنزلت . ثم قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه » . قال النوويّ : فلو جازت الترجمة لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم اعتراضه في شيء جائز . ولأن ترجمة القرآن ليست قرآناً ; لأن القرآن هو هذا النظم المعجز ، وبالترجمة يزول الإعجاز فلم تجز ، وكما أن الشّعر يخرجه ترجمته عن كونه شعراً فكذا القرآن إضافةً إلى أن الصلاة مبناها على التعبّد والاتّباع والنهي عن الاختراع وطريق القياس مفسدة فيها .
وذهب أبو حنيفة إلى جواز قراءة القرآن في الصلاة بالفارسية وبأيّ لسان آخر ، لقول الله تعالى: « وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ » ، ولم يكن فيها بهذا النظم ، وقوله تعالى : « إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى » ، فصحف إبراهيم كانت بالسّريانية ، وصحف موسى بالعبرانية فدل على كون ذلك قرآناً ; لأن القرآن هو النظم والمعنى جميعاً حيث وقع الإعجاز بهما ، إلا أنه لم يجعل النظم ركناً لازماً في حقّ جواز الصلاة خاصةً رخصةً ; لأنها ليست بحالة الإعجاز ، وقد جاء التخفيف في حقّ التّلاوة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف » فكذا هنا .
وذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة إلى أنه لا تجوز القراءة بغير العربية إذا كان يحسن العربية ; لأن القرآن اسم لمنظوم عربيّ لقول الله تعالى : « إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً » ، وقال تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً » ، والمراد نظمه ، ولأن المأمور به قراءة القرآن ، وهو اسم للمنزل باللفظ العربيّ المنظوم هذا النظم الخاصّ المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلاً متواتراً ، والأعجميّ إنما يسمى قرآناً مجازاً ولذا يصحّ نفي اسم القرآن عنه .
والفتوى عند الحنفية على قول الصاحبين ، ويروى رجوع أبي حنيفة إلى قولهما .
قال الشلبيّ نقلاً عن العينيّ : صح رجوع أبي حنيفة إلى قولهما .
وقد اتفق الثلاثة - أبو حنيفة وصاحباه - على جواز القراءة بالفارسية وصحة الصلاة عند العجز عن القراءة بالعربية .
«القراءة بالمتواتر والشاذّ من القراءات»
13 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى جواز القراءة بالمتواتر من القراءات في الصلاة . واختلفوا في القراءات غير المتواترة ، والتفصيل في مصطلح : « قراءات ف /7 » .
وصرح الحنفية بأن الأولى أن لا يقرأ بالرّوايات الغريبة والإمالات عند العوام صيانةً لدينهم ; لأن بعض السّفهاء يقولون ما لا يعلمون فيقعون في الإثم والشقاء ، ولا ينبغي للأئمة أن يحملوا العوام على ما فيه نقصان دينهم فلا يقرأ عندهم مثل قراءة أبي جعفر وابن عامر وعليّ بن حمزة ، إذ لعلهم يستخفّون ويضحكون وإن كان كلّ القراءات والرّوايات صحيحةً فصيحةً .
قال ابن عابدين : ومشايخنا اختاروا قراءة أبي عمرو حفص عن عاصم .
وذهب الحنابلة إلى صحة الصلاة بقراءة ما وافق المصحف العثماني وإن لم يكن من العشرة ، أو لم يكن في مصحف غيره من الصحابة .
زاد في الرّعاية : وصح سنده عن صحابيّ ، قال في شرح الفروع : ولا بد من اعتبار ذلك . وكره الإمام أحمد قراءة حمزة والكسائيّ لما فيهما من الكسر والإدغام وزيادة المدّ ، وأنكرها بعض السلف كسفيان بن عيينة ويزيد بن هارون .
واختار الإمام أحمد قراءة نافع من رواية إسماعيل بن جعفر ، ثم قراءة عاصم من رواية أبي عياش .
وعند الفقهاء تفصيل في القراءة بالشاذّ من القراءات في الصلاة .
فذهب الحنفية إلى أن الصلاة لا تفسد بقراءة الشاذّ ، ولكن لا تجزئه هذه القراءة عن القراءة المفروضة ، ومن ثم تفسد صلاته إذا لم يقرأ معه بالتواتر ، فالفساد لتركه القراءة بالمتواتر لا للقراءة بالشاذّ .
ونص المالكية على حرمة القراءة بالشاذّ من القراءات ، لكن لا تبطل الصلاة بالشاذّ إلا إذا خالف المصحف .
وذهب الشافعية إلى أنه لا تجوز القراءة في الصلاة بالشاذّ ; لأنها ليست قرآناً ، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وتبطل به الصلاة إن غير المعنى في الفاتحة .
ومذهب الحنابلة حرمة قراءة ما خرج عن مصحف عثمان ولو وافق قراءة أحد من العشرة في أصحّ الرّوايتين ولا تصحّ الصلاة به .
وعنه رواية : يكره أن يقرأ بما يخرج عن مصحف عثمان ، وعلى هذه الرّواية تصحّ صلاته إذا صح سنده ، لأن الصحابة كانوا يصلّون بقراءاتهم في عصره صلى الله عليه وسلم وبعده ، وكانت صلاتهم صحيحةً بغير شكّ .
«القراءة من المصحف في الصلاة»(/4)
14 - ذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز القراءة من المصحف في الصلاة ، قال أحمد : لا بأس أن يصلّي بالناس القيام وهو ينظر في المصحف ، قيل له : الفريضة ؟ قال : لم أسمع فيها شيئاً. وسئل الزّهريّ عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف ، فقال : كان خيارنا يقرءون في المصاحف .
وفي شرح روض الطالب للشيخ زكريا الأنصاريّ : قرأ في مصحف ولو قلب أوراقه أحياناً لم تبطل - أي الصلاة - لأن ذلك يسير أو غير متوال لا يشعر بالإعراض ، والقليل من الفعل الذي يبطل كثيره إذا تعمده بلا حاجة مكروه .
وكره المالكية القراءة من المصحف في صلاة الفرض مطلقاً سواء كانت القراءة في أوله أو في أثنائه ، وفرقوا في صلاة النفل بين القراءة من المصحف في أثنائها وبين القراءة في أولها ، فكرهوا القراءة من المصحف في أثنائها لكثرة اشتغاله به ، وجوزوا القراءة من غير كراهة في أولها ; لأنه يغتفر فيها ما لا يغتفر في الفرض .
وذهب أبو حنيفة إلى فساد الصلاة بالقراءة من المصحف مطلقاً ، قليلاً كان أو كثيراً إماماً أو منفرداً أمّيّاً لا يمكنه القراءة إلا منه أو لا ، وذكروا لأبي حنيفة في علة الفساد وجهين :
أحدهما : أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير ، والثاني أنه تلقن من المصحف فصار كما لو تلقن من غيره ، وعلى الثاني لا فرق بين الموضوع والمحمول عنده ، وعلى الأول يفترقان .
واستثني من ذلك ما لو كان حافظاً لما قرأه وقرأ بلا حمل فإنه لا تفسد صلاته ; لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقّنه من المصحف ومجرد النظر بلا حمل غير مفسد لعدم وجهي الفساد .
وقيل : لا تفسد ما لم يقرأ آيةً ; لأنه مقدار ما تجوز به الصلاة عنده .
وذهب الصاحبان - أبو يوسف ومحمد - إلى كراهة القراءة من المصحف إن قصد التشبّه بأهل الكتاب .
«ب - القراءة خارج الصلاة»
«حكم قراءة القرآن»
15 - يستحبّ الإكثار من قراءة القرآن خارج الصلاة ، لقول الله تعالى : « يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ » ، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ... » .
واختلف الفقهاء في عدد الأيام التي ينبغي أن يختم فيها القرآن .
ذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يسنّ ختم القرآن في كلّ أسبوع لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو : « اقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك » .
قالوا : وإن قرأه في ثلاث فحسن ، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال :
« قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي قوةً ، قال : اقرأ القرآن في كلّ ثلاث » .
لكن نص المالكية بأن التفهّم مع قلة القرآن أفضل من سرد حروفه لقوله تعالى : « أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ » .
وصرح الحنابلة بكراهة تأخير ختم القرآن فوق أربعين يوماً بلا عذر لأنه يفضي إلى نسيانه والتهاون فيه ، وبتحريم تأخير الختم فوق أربعين إن خاف نسيانه .
وقال الحنفية : ينبغي لحافظ القرآن أن يختم في كلّ أربعين يوماً مرةً ; لأن المقصود من قراءة القرآن فهم معانيه والاعتبار بما فيه لا مجرد التّلاوة . قال الله تعالى : « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا » ، وذلك يحصل بالتأنّي لا بالتواني في المعاني ، فقدر للختم أقله بأربعين يوماً ، كل يوم حزب ونصف أو ثلثا حزب ، وقيل : ينبغي أن يختمه في السنة مرتين ، روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال : من قرأ القرآن في السنة مرتين فقد قضى حقه .
وصرح الحنفية بأنه لا يستحبّ أن يختم في أقل من ثلاثة أيام ، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث » .
قال النوويّ بعد أن ذكر آثاراً عن السلف في مدة ختم القرآن : والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدّين ومصالح المسلمين عامةً فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل والهذرمة .
«قراءة الحائض والنّفساء والجنب للقرآن»
16 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يحرم على الحائض والنّفساء قراءة القرآن لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن » .
وذهب المالكية إلى جواز قراءة الحائض والنّفساء للقرآن .
والتفصيل في مصطلح « حيض ف /39 » .
واتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنه يحرم على الجنب قراءة القرآن ، لما روي « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنباً » .
والتفصيل في مصطلح « جنابة ف /17 » .
«قراءة القرآن على المحتضر والقبر»
17 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى ندب قراءة سورة يس عند المحتضر ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « اقرءوا يس على موتاكم » ، أي من حضره مقدّمات الموت .
كما ذهبوا إلى استحباب قراءة القرآن على القبر ، لما رُوِيَ عن أنس مرفوعاً : « من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم وكان له بعدد من دفن فيها حسنات » ، ولما صح عن ابن عمر أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها .
وذهب المالكية إلى كراهة قراءة القرآن عند المحتضر وعلى القبر .
والتفصيل في مصطلح « احتضار ف /9 ، ومصطلح : قبر » .
«قراءة القرآن للميّت وإهداء ثوابها له»(/5)
18 - ذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز قراءة القرآن للميّت وإهداء ثوابها له ، قال ابن عابدين نقلاً عن البدائع : ولا فرق بين أن يكون المجعول له ميّتاً أو حيّاً ، والظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره .
وقال الإمام أحمد : الميّت يصل إليه كلّ شيء من الخير ، للنّصوص الواردة فيه ; ولأن الناس يجتمعون في كلّ مصر ويقرءون يهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعاً ، قاله البهوتيّ من الحنابلة .
وذهب المتقدّمون من المالكية إلى كراهة قراءة القرآن للميّت وعدم وصول ثوابها إليه ، لكن المتأخّرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذّكر حمل الثواب للميّت ويحصل له الأجر .
قال الدّسوقيّ : في آخر نوازل ابن رشد في السّؤال عن قوله تعالى : « وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى » ، قال : وإن قرأ الرجل وأهدى ثواب قراءته للميّت جاز ذلك وحصل للميّت أجره .
وقال ابن هلال : الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيّين أن الميّت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له ، وبه جرى عمل المسلمين شرقاً وغرباً ، ووقفوا على ذلك أوقافاً ، واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة .
والمشهور من مذهب الشافعيّ أنه لا يصل ثواب القراءة إلى الميّت .
وذهب بعض الشافعية إلى وصول ثواب القراءة للميّت .
قال سليمان الجمل : ثواب القراءة - للقارئ ، ويحصل مثله أيضاً للميّت لكن إن كان بحضرته ، أو بنيته ، أو يجعل ثوابها له بعد فراغها على المعتمد في ذلك .
وصرحوا بأنه لو سقط ثواب القارئ لمسقط كأن غلب الباعث الدّنيويّ كقراءته بأجرة فإنه لا يسقط مثله بالنّسبة للميّت .
ونصّوا على أنه لو استؤجر للقراءة للميّت ولم ينوه ولا دعا له بعدها ولا قرأ له عند قبره لم يبرأ من واجب الإجارة .
«قراءة القرآن للاستشفاء»
19 - صرح الفقهاء بجواز الاستشفاء بقراءة القرآن على المريض ، قال ابن عابدين : وعلى الجواز عمل الناس اليوم وبه وردت الآثار ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات ، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه ; لأنها كانت أعظم بركةً من يدي » . قال النوويّ : يستحبّ أن يقرأ عند المريض بالفاتحة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « وما أدراك أنها رقية » .
ويستحبّ أن يقرأ عنده : « قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ » ، و « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ » ، و « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ » مع النفث في اليدين ، فقد ثبت ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
«الاجتماع لقراءة القرآن»
20 - صرح الشافعية والحنابلة بأن الاجتماع لقراءة القرآن مستحبّ ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده » .
وروى ابن أبي داود أن أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه كان يدرس القرآن مع نفر يقرءون جميعاً .
قال الرحيبانيّ من الحنابلة : وكره أصحابنا قراءة الإدارة ، وهي أن يقرأ قارئ ثم يقطع ، ثم يقرأ غيره بما بعد قراءته ، وأما لو أعاد ما قرأه الأول وهكذا فلا يكره ; لأن جبريل كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن برمضان .
حكى ابن تيمية عن أكثر العلماء أن قراءة الإدارة حسنة كالقراءة مجتمعين بصوت واحد .
وقال النوويّ عن قراءة الإدارة : هذا جائز حسن ، قد سئل مالك رحمه الله تعالى عنه فقال : لا بأس به ، وصوبه البنانيّ والدّسوقيّ .
لكن صرح الحنفية والمالكية بكراهة قراءة الجماعة معاً بصوت واحد لتضمّنها ترك الاستماع والإنصات وللزوم تخليط بعضهم على بعض .
قال صاحب غنية المتملّي : يكره للقوم أن يقرءوا القرآن جملةً لتضمّنها ترك الاستماع والإنصات ، وقيل : لا بأس به .
«الأماكن التي تكره فيها قراءة القرآن»
21 - يستحبّ أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ، ولهذا استحب جماعة من العلماء أن تكون القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ، قاله النوويّ .
وصرح فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة بكراهة قراءة القرآن في المواضع القذرة ، واستثنى المالكية الآيات اليسيرة للتعوّذ ونحوه .
قال الحنفية : تكره القراءة في المسلخ والمغتسل ومواضع النجاسة .
واختلفوا في القراءة في الحمام ، فذهب الشافعية إلى جوازها من غير كراهة ، وقال المالكية بكراهتها إلا الآيات اليسيرة للتعوّذ ونحوه .
وقال الحنفية : القراءة في الحمام إن لم يكن فيه أحد مكشوف العورة وكان الحمام طاهراً تجوز جهراً وخفيةً ، وإن لم يكن كذلك فإن قرأ في نفسه فلا بأس به ويكره الجهر .
وكره أبو حنيفة القراءة عند القبور ، وأجازها محمد وبقوله أخدّ مشايخ الحنفية لورود الآثار به، منها ما روي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها .
ونص الحنابلة على كراهة القراءة بأسواق ينادى فيها ببيع ، ويحرم رفع صوت القارئ بها ، لما فيه من الامتهان للقرآن .
«الأحوال التي تجوز فيها قراءة القرآن والتي تكره»
22 - ذهب الحنفية والشافعية إلى جواز القراءة في الطريق إذا لم يلته عنها صاحبها ، فإن التهى صاحبها عنها كرهت .(/6)
قال في غنية المتملّي : القراءة ماشياً أو وهو يعمل عملاً إن كان منتبهاً لا يشغل قلبه المشي والعمل جائزة وإلا تكره .
وذهب المالكية إلى جواز قراءة القرآن الكريم للماشي في الطريق والراكب من غير كراهة . وخص المالكية ذلك للماشي من قرية إلى قرية أو إلى حائطه ، وكرهوا القراءة للماشي إلى السّوق ، والفرق أن الماشي للسّوق في قراءته ضرب من الإهانة للقرآن بقراءته في الطّرقات ، وليس كذلك الماشي من قرية إلى قرية ; لأن قراءته معينة له على طريقه .
وأجاز الفقهاء قراءة القرآن للمضطجع ، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن » وفي رواية : « يقرأ القرآن ورأسه في حجري » .
قال الحنفية : ويضمّ رجليه لمراعاة التعظيم بحسب الإمكان .
وقالوا : يجب على القارئ احترام القرآن بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال ، فإذا قرأه فيهما كان هو المضيّع لحرمته فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعاً للحرج في إلزامهم ترك أسبابهم المحتاج إليها ، فلو قرأ القرآن وبجنبه رجل يكتب الفقه ولا يمكن الكاتب الاستماع فالإثم على القارئ لقراءته جهراً في موضع اشتغال الناس بأعمالهم ولا شيء على الكاتب ، ولو قرأ على السطح في الليل جهراً والناس نيام يأثم .
ومثل ذلك ما صرح به الحنابلة من كراهة القراءة بأسواق ينادى فيها ببيع ، ومحرم على القارئ رفع الصوت بها .
وصرح النوويّ بكراهة القراءة للناعس ، قال : « كره النبيّ صلى الله عليه وسلم القراءة للناعس » مخافةً من الغلط .
ونص الحنابلة على كراهة القراءة حال خروج الرّيح ، فإذا غلبه الرّيح أمسك عن القراءة حتى يخرجه ثم يشرع بها .
قال النوويّ : ينبغي أن يمسك عن القراءة حتى يتكامل خروجه ثم يعود إلى القراءة ، وهو أدب حسن ، وإذا تثاءب أمسك عن القراءة حتى ينقضي التثاؤب ثم يقرأ .
«آداب قراءة القرآن»
23 - يستحبّ للقارئ في غير الصلاة أن يكون على أكمل أحواله من طهارة الباطن والظاهر مستقبلاً للقبلة ، ويجلس متخشّعاً بسكينة ووقار .
والتفصيل في مصطلح « تلاوة ف /6 » .
«الاستئجار على قراءة القرآن»
24 - اختلف الفقهاء في جواز الاستئجار لقراءة القرآن وأخذ الأجرة عليها .
فذهب المالكية والشافعية إلى جواز الاستئجار على قراءة القرآن .
قال الشافعية : وإذا قرأ جنباً ولو ناسياً لا يستحقّ أجرةً .
وذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه لا يصحّ الاستئجار على القراءة .
قال ابن عابدين : والاستئجار على التّلاوة وإن صار متعارفاً ، فالعرف لا يجيزه ; لأنه مخالف للنصّ ، وهو ما استدل به أئمتنا من قوله عليه الصلاة والسلام : « اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكبروا به » ، والعرف إذا خالف النص يردّ بالاتّفاق ، والذي أفتى به المتأخّرون جواز الاستئجار على تعليم القرآن لا على تلاوته خلافاً لمن وهم . لكن صرح الحنابلة بأنه يجوز أخذ الجعالة على تعليم القرآن بلا شرط على الصحيح من المذهب.
«ثانياً : قراءة غير القرآن الكريم»
«قراءة كتب الحديث»
25 - سئل ابن حجر الهيتميّ عن الجلوس لسماع الحديث وقراءته هل فيه ثواب أم لا ؟ فقال : إن قصد بسماعه الحفظ وتعلّم الأحكام أو الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أو اتّصال السند ففيه ثواب ، وأما قراءة متون الأحاديث فقال أبو إسحاق الشّيرازيّ : إن قراءة متونها لا يتعلق بها ثواب خاصّ لجواز قراءتها وروايتها بالمعنى . قال ابن العماد : وهو ظاهر إذ لو تعلق بنفس ألفاظها ثواب خاصّ لما جاز تغييرها وروايتها بالمعنى لأن ما تعلق به حكم شرعيّ لا يجوز تغييره بخلاف القرآن فإنه معجز ، وإذا كانت قراءته المجردة لا ثواب فيها لم يكن في استماعه المجرد عما مر ثواب بالأولى ، وأفتى بعضهم بالثواب وهو الأوجه عندي ; لأن سماعها لا يخلو من فائدة لو لم يكن إلا عود بركته صلى الله عليه وسلم على القارئ والمستمع ، فلا ينافي ذلك قولهم إن سماع الأذكار مباح لا سنة .
«قراءة الكتب السماوية»
26 - نص الحنابلة على أنه لا يجوز النظر في كتب أهل الكتاب ; « لأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين رأى مع عمر صحيفةً من التوراة » .
ومثل الحنابلة الشافعية حيث نصّوا على عدم جواز الاستئجار لتعليم التوراة والإنجيل وعدّوه من المحرمات .
«قراءة كتب السّحر بقصد تعلّمه»
27 - للفقهاء في قراءة كتب السّحر بقصد التعلّم أو العمل تفصيلات اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر .
وتفصيل ذلك في مصطلح « سحر ف /13 » .(/7)
ِقرَاءَاتٌ
قِرَاءَاتٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْقِرَاءَاتُ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ قِرَاءَةٍ وَهِيَ التِّلَاوَةُ . وَالْقِرَاءَاتُ فِي الِاصْطِلَاحِ : عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَاخْتِلَافِهَا مَعْزُوًّا لِنَاقِلِهِ . وَمَوْضُوعُ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ : كَلِمَاتُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ . وَفَائِدَتُهُ : صِيَانَتُهُ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدَ كَثِيرَةٍ تُبْنَى عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : ( الْقُرْآنُ ) : 2 - الْقُرْآنُ : هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ , الْمَنْقُولُ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا . قَالَ الزَّرْكَشِيّ : الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَاتُ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ , فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ , وَالْقِرَاءَاتُ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ , مِنْ الْحُرُوفِ وَكَيْفِيَّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ وَغَيْرِهِمَا .
أَرْكَانُ الْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ : 3 - قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ : كُلُّ قِرَاءَةٍ وَافَقَتْ الْعَرَبِيَّةَ - وَلَوْ بِوَجْهٍ - وَوَافَقَتْ أَحَدَ الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ - وَلَوْ احْتِمَالًا - وَصَحَّ سَنَدُهَا , فَهِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ رَدُّهَا , وَلَا يَحِلُّ إنْكَارُهَا , بَلْ هِيَ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ , وَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ قَبُولُهَا , سَوَاءٌ كَانَتْ عَنْ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ , أَمْ عَنْ الْعَشَرَةِ , أَمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ , وَمَتَى اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ , أُطْلِقَ عَلَيْهَا ضَعِيفَةً , أَوْ شَاذَّةً , أَوْ بَاطِلَةً , سَوَاءٌ كَانَتْ عَنْ السَّبْعَةِ , أَمْ عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ , هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . قَالَ أَبُو شَامَةَ : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْتَرَّ بِكُلِّ قِرَاءَةٍ تُعْزَى إلَى أَحَدِ السَّبْعَةِ , وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الصِّحَّةِ , وَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ هَكَذَا , إلَّا إذَا دَخَلَتْ فِي ذَلِكَ الضَّابِطِ , فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَنْسُوبَةَ إلَى كُلِّ قَارِئٍ مِنْ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ , مُنْقَسِمَةٌ إلَى الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ , وَالشَّاذِّ , غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةَ لِشُهْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ الصَّحِيحِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِمْ تَرْكَنُ النَّفْسُ إلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فَوْقَ مَا يُنْقَلُ عَنْ غَيْرِهِمْ .
الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ : 4 - الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْإِمَامِ , أَوْ إلَى الرَّاوِي عَنْ الْإِمَامِ , أَوْ إلَى الْآخِذِ عَنْ الرَّاوِي . فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ مَنْسُوبًا لِإِمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الرُّوَاةُ , فَهُوَ قِرَاءَةٌ , وَإِنْ كَانَ مَنْسُوبًا لِلرَّاوِي عَنْ الْإِمَامِ , فَهُوَ رِوَايَةٌ , وَكُلُّ مَا نُسِبَ لِلْآخِذِ عَنْ الرَّاوِي وَإِنْ سَفَلَ , فَهُوَ طَرِيقٌ . وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْوَاجِبُ , فَهُوَ عَيْنُ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالطُّرُقِ , بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ مُلْزَمٌ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا , فَلَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا عُدَّ ذَلِكَ نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ . وَأَمَّا الْخِلَافُ الْجَائِزُ , فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْجُهِ الَّتِي عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ , كَأَوْجُهِ الْبَسْمَلَةِ , وَأَوْجُهِ الْوَقْفِ عَلَى عَارِضِ السُّكُونِ , فَالْقَارِئُ مُخَيَّرٌ فِي الْإِتْيَانِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْهَا , غَيْرُ مُلْزَمٍ بِالْإِتْيَانِ بِهَا كُلِّهَا , فَلَوْ أَتَى بِوَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا أَجْزَأَهُ , وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا مِنْهُ , وَلَا نَقْصًا فِي رِوَايَتِهِ . وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لَا يُقَالُ لَهَا قِرَاءَاتٌ , وَلَا رِوَايَاتٌ , وَلَا طُرُقٌ , بَلْ يُقَالُ لَهَا أَوْجُهٌ فَقَطْ .(/1)
أَنْوَاعُ الْقِرَاءَاتِ : 5 - قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ : جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يُقْرَأُ بِهِ الْيَوْمَ , وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ خِلَالٍ وَهُنَّ : أَنْ يُنْقَلَ عَنْ الثِّقَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ سَائِغًا , وَيَكُونَ مُوَافِقًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ , فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ قُرِئَ بِهِ , وَقُطِعَ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ ; لِأَنَّهُ أُخِذَ عَنْ إجْمَاعٍ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ خَطِّ الْمُصْحَفِ , وَكَفَرَ مَنْ جَحَدَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا صَحَّ نَقْلُهُ عَنْ الْآحَادِ , وَصَحَّ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ , وَخَالَفَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ , فَهَذَا يُقْبَلُ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ لِعِلَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِإِجْمَاعٍ , إنَّمَا أُخِذَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ , وَلَا يَثْبُتُ قُرْآنٌ يُقْرَأُ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ . وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَدْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ , فَلَا يُقْطَعُ عَلَى مَغِيبِهِ وَصِحَّتِهِ , وَمَا لَمْ يُقْطَعْ عَلَى صِحَّتِهِ لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ , وَلَا يَكْفُرُ مَنْ جَحَدَهُ , وَلَبِئْسَ مَا صَنَعَ إذَا جَحَدَهُ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : هُوَ مَا نَقَلَهُ غَيْرُ ثِقَةٍ , أَوْ نَقَلَهُ ثِقَةٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ , فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَافَقَ خَطَّ الْمُصْحَفِ . وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَالسُّيُوطِيُّ كَلَامَ أَبِي مُحَمَّدٍ مَكِّيٍّ . 6 - وَتَنْقَسِمُ الْقِرَاءَاتُ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ إلَى الْأَنْوَاعِ الْآتِيَةِ : الْأَوَّلُ : الْمُتَوَاتِرُ , وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمْعٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ , عَنْ مِثْلِهِمْ إلَى مُنْتَهَاهُ , وَغَالِبُ الْقِرَاءَاتِ كَذَلِكَ . الثَّانِي : الْمَشْهُورُ , وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَلَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْمُتَوَاتِرِ , وَوَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ وَالرَّسْمَ , وَاشْتَهَرَ عِنْدَ الْقُرَّاءِ فَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ الْغَلَطِ , وَلَا مِنْ الشُّذُوذِ , وَيُقْرَأُ بِهِ , وَمِثَالُهُ مَا اخْتَلَفَتْ الطُّرُقُ فِي نَقْلِهِ عَنْ السَّبْعَةِ , فَرَوَاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ . الثَّالِثُ : الْآحَادُ , وَهُوَ مَا صَحَّ سَنَدُهُ , وَخَالَفَ الرَّسْمَ أَوْ الْعَرَبِيَّةَ , أَوْ لَمْ يَشْتَهِرْ الِاشْتِهَارَ الْمَذْكُورَ , وَلَا يُقْرَأُ بِهِ , وَقَدْ عَقَدَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ لِذَلِكَ بَابًا أَخْرَجَا فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا صَحِيحَ الْإِسْنَادِ . الرَّابِعُ : الشَّاذُّ , وَهُوَ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ . الْخَامِسُ : الْمَوْضُوعُ , كَقِرَاءَاتِ الْخُزَاعِيِّ . قَالَ السُّيُوطِيّ : وَظَهَرَ لِي سَادِسٌ يُشْبِهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ الْمُدْرَجِ , وَهُوَ مَا زِيدَ فِي الْقِرَاءَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ , كَقِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ ) , وَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ )
الْقِرَاءَاتُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالشَّاذَّةُ : 7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْقِرَاءَاتِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ , وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ , وَالْحَنَابِلَةُ , إلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ قِرَاءَاتُ قُرَّاءِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ الْعَشَرَةِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : الْقُرْآنُ الَّذِي تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ بِالِاتِّفَاقِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه إلَى الْأَمْصَارِ , وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْعَشَرَةُ , وَهَذَا هُوَ الْمُتَوَاتِرُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا , فَمَا فَوْقَ السَّبْعَةِ إلَى الْعَشَرَةِ غَيْرُ شَاذٍّ , وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ , وَهُوَ الصَّحِيحُ . وَقَالَ الْعَدَوِيُّ : الشَّاذُّ عِنْدَ ابْنِ السُّبْكِيّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ , وَعِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي أُصُولِهِ مَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ , وَقَوْلُ ابْنِ السُّبْكِيّ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْأُصُولِ , وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ مَرْجُوعٌ فِيهِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةَ هِيَ سَبْعٌ فَقَطْ , وَهِيَ قِرَاءَاتُ أَبِي عَمْرٍو , وَنَافِعٍ , وَابْنِ كَثِيرٍ , وَابْنِ عَامِرٍ , وَعَاصِمٍ , وَحَمْزَةَ , وَالْكِسَائِيِّ , وَمَا وَرَاءَ السَّبْعَةِ شَاذٌّ وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الشَّاذَّ مَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ , وَصَوَّبَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ .(/2)
أَشْهَرُ الْقُرَّاءِ وَرُوَاتُهُمْ : 8 - الْقِرَاءَاتُ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ , قِرَاءَاتٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَوَاتُرِهَا , وَقِرَاءَاتٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوَاتُرِهَا , وَقِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ . فَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَوَاتُرِهَا سَبْعَةٌ , وَهُمْ : 1 - نَافِعٌ الْمَدَنِيُّ : وَهُوَ أَبُو رُوَيْمٍ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ اللَّيْثِيُّ وَرَاوِيَاهُ : قالون , وَوَرْشٌ . 2 - ابْنُ كَثِيرٍ : وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الْمَكِّيُّ . وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ , وَرَاوِيَاهُ : الْبَزِّيُّ , وَقُنْبُلٌ . 3 - أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ : وَهُوَ زَبَّانُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَازِنِيُّ الْبَصْرِيُّ , وَرَاوِيَاهُ : الدُّورِيُّ , وَالسُّوسِيُّ . 4 - ابْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ : وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الشَّامِيُّ الْيَحْصُبِيُّ , وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ , قَاضِي دِمَشْقَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ , وَيُكَنَّى أَبَا عِمْرَانَ , وَرَاوِيَاهُ : هِشَامٌ , وَابْنُ ذَكْوَانَ . 5 - عَاصِمٌ الْكُوفِيُّ : وَهُوَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ , وَيُقَالُ لَهُ ابْنُ بَهْدَلَةَ , وَيُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ , وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ , وَرَاوِيَاهُ : شُعْبَةُ , وَحَفْصٌ . 6 - حَمْزَةُ الْكُوفِيُّ : وَهُوَ حَمْزَةُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عُمَارَةَ الزَّيَّاتُ الْفَرَضِيُّ التَّيْمِيُّ , وَيُكَنَّى أَبَا عُمَارَةَ , وَرَاوِيَاهُ : خَلَفٌ , وَخَلَّادٌ . 7 - الْكِسَائِيُّ الْكُوفِيُّ , وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ النَّحْوِيُّ , وَيُكَنَّى أَبَا الْحَسَنِ , وَرَاوِيَاهُ : أَبُو الْحَارِثِ , وَحَفْصٌ الدُّورِيُّ .
وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَوَاتُرِهَا ثَلَاثَةٌ , وَهُمْ : 1 - أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ : وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ , وَرَاوِيَاهُ : ابْنُ وَرْدَانَ , وَابْنُ جَمَّازٍ . 2 - يَعْقُوبُ الْبَصْرِيُّ : وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ , وَرَاوِيَاهُ : رُوَيْسٌ , وَرَوْحٌ . 3 - خَلَفٌ : وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ خَلَفُ بْنُ هِشَامِ بْنِ ثَعْلَبٍ الْبَزَّازُ الْبَغْدَادِيُّ , وَرَاوِيَاهُ : إِسْحَاقُ , وَإِدْرِيسُ .
( وَأَصْحَابُ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ هُمْ ) : 1 - ابْنُ مُحَيْصٍ : وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ , وَرَاوِيَاهُ : الْبَزِّيُّ السَّابِقُ , وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ شَنَبُوذٍ . 2 - الْيَزِيدِيُّ : وَهُوَ يَحْيَى بْنُ الْمُبَارَكِ , وَرَاوِيَاهُ : سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ , وَأَحْمَدُ بْنُ فَرْحٍ . 3 - الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : وَهُوَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَسَارٍ , وَرَاوِيَاهُ : شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْبَلْخِيّ , وَالدُّورِيُّ أَحَدُ رَاوِيَيْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ . 4 - الْأَعْمَشُ : وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ , وَرَاوِيَاهُ : الْحَسَنُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُطَّوِّعِيُّ , وَأَبُو الْفَرَجِ الشَّبَنُوذِيُّ الشَّطَوِيُّ .
الْقِرَاءَةُ بِالْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلَاةِ : 9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ . وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو , وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ . وَاخْتَارَ الْحَنَابِلَةُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ , ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ . وَقَدْ تَمَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ , وَحُكْمُ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنْ الْقِرَاءَاتِ , فِي مُصْطَلَحِ : ( قِرَاءَةٌ ) .(/3)
قِرَاءَةٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْقِرَاءَةُ فِي اللُّغَةِ : التِّلَاوَةُ , يُقَالُ قَرَأَ الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا : تَتَبَّعَ كَلِمَاتِهِ نَظَرًا , نَطَقَ بِهَا أَوْ لَمْ يَنْطِقْ . وَقَرَأَ الْآيَةَ مِنْ الْقُرْآنِ : نَطَقَ بِأَلْفَاظِهَا عَنْ نَظَرٍ أَوْ عَنْ حِفْظٍ فَهُوَ قَارِئٌ , وَالْجَمْعُ قُرَّاءٌ , وَقَرَأَ السَّلَامَ عَلَيْهِ قِرَاءَةً : أَبْلَغَهُ إيَّاهُ , وَقَرَأَ الشَّيْءَ قُرْءًا وَقُرْآنًا : جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ . وَاقْتَرَأَ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَ : قَرَأَهُ , وَاسْتَقْرَأَهُ : طَلَبَ إلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ , وَقَارَأَهُ مُقَارَأَةً وَقِرَاءً : دَارَسَهُ . وَالْقَرَّاءُ : الْحَسَنُ الْقِرَاءَةِ . وَالْقِرَاءَةُ اصْطِلَاحًا : هِيَ تَصْحِيحُ الْحُرُوفِ بِلِسَانِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ , وَفِي قَوْلٍ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - ( التِّلَاوَةُ ) : 2 - التِّلَاوَةُ فِي اللُّغَةِ : الْقِرَاءَةُ , تَقُولُ : تَلَوْت الْقُرْآنَ تِلَاوَةً قَرَأْته , وَتَأْتِي بِمَعْنَى تَبِعَ , تَقُولُ : تَلَوْت الرَّجُلَ أَتْلُوهُ تُلُوًّا : تَبِعْته , وَتَتَالَتْ الْأُمُورُ : تَلَا بَعْضُهَا بَعْضًا . وَتَأْتِي بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالْخِذْلَانِ . وَالتِّلَاوَةُ اصْطِلَاحًا : هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُتَتَابِعَةً . وَفِي فُرُوقِ أَبِي هِلَالٍ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتِّلَاوَةِ : أَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِكَلِمَتَيْنِ فَصَاعِدًا , وَالْقِرَاءَةُ تَكُونُ لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ , يُقَالُ قَرَأَ فُلَانٌ اسْمَهُ , وَلَا يُقَالُ تَلَا اسْمَهُ , وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ التِّلَاوَةِ اتِّبَاعُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ , يُقَالُ تَلَاهُ : إذَا تَبِعَهُ , فَتَكُونُ التِّلَاوَةُ فِي الْكَلِمَاتِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا , وَلَا تَكُونُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إذْ لَا يَصِحُّ فِيهَا التُّلُوُّ . وَقَالَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ : الْقِرَاءَةُ أَعَمُّ مِنْ التِّلَاوَةِ . ب - التَّرْتِيلُ : 3 - التَّرْتِيلُ فِي اللُّغَةِ : التَّمَهُّلُ وَالْإِبَانَةُ . يُقَالُ رَتَّلَ الْكَلَامَ : أَحْسَنَ تَأْلِيفَهُ وَأَبَانَهُ وَتَمَهَّلَ فِيهِ . وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ : التَّرَسُّلُ فِيهَا وَالتَّبْيِينُ مِنْ غَيْرِ بَغْيٍ . وَالتَّرْتِيلُ اصْطِلَاحًا : التَّأَنِّي فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّمَهُّلُ وَتَبْيِينُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّرْتِيلِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ .
( الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقِرَاءَةِ ) أَوَّلًا : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ : أ - الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ : مَا يَجِبُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ : 4 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ , فَتَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ , فَرْضًا أَوْ نَفْلًا , جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } , وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ رُكْنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَحَقَّقُ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لقوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } . أَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ , وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( صَلَاةٌ ف 38 ) . وَيَقْصِدُونَ بِالْآيَةِ هُنَا الطَّائِفَةَ مِنْ الْقُرْآنِ مُتَرْجَمَةً - أَيْ اُعْتُبِرَ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَقْطَعٌ - وَأَقَلُّهَا سِتَّةُ أَحْرُفٍ وَلَوْ تَقْدِيرًا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَمْ يَلِدْ } . وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : أَدْنَى مَا يُجْزِئُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ .(/4)
مَا يُسَنُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ : 5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ . كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ قِرَاءَةَ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ , فَإِنْ أَتَى بِهَا انْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ , أَمَّا مَا يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ السُّنَّةِ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( صَلَاةٌ ف 66 ) . كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُ مَا يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَهُ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مُصْطَلَحِ ( صَلَاةٌ ف 66 ) . لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَصَّلِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ طِوَالَ الْمُفَصَّلِ مِنْ ( الْحُجُرَاتِ ) إلَى ( الْبُرُوجِ ) , وَالْأَوْسَاطَ مِنْهَا إلَى ( لَمْ يَكُنْ ) , وَالْقِصَارَ مِنْهَا إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ طِوَالُ الْمُفَصَّلِ مِنْ ( الْحُجُرَاتِ ) إلَى ( النَّازِعَاتِ ) , وَأَوْسَاطُهُ مِنْ ( عَبَسَ ) إلَى ( الضُّحَى ) , وَقِصَارُهُ مِنْ ( الضُّحَى ) إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : طِوَالُ الْمُفَصَّلِ كَالْحُجُرَاتِ وَاقْتَرَبَتْ وَالرَّحْمَنُ , وَأَوْسَاطُهُ كَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى , وَقِصَارُهُ كَالْعَصْرِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمُفَصَّلِ سُورَةُ ق , لِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ : " سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا : ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ , وَسَبْعٌ , وَتِسْعٌ , وَإِحْدَى عَشْرَةَ , وَثَلَاثَ عَشْرَةَ , وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ " . قَالُوا : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ الْمُفَصَّلِ السُّورَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ لَا مِنْ الْفَاتِحَةِ . وَآخِرُ طِوَالِهِ سُورَةُ عَمَّ , وَأَوْسَاطُهُ مِنْهَا لِلضُّحَى , وَقِصَارُهُ مِنْهَا لِآخِرِ الْقُرْآنِ .(/5)
مَا يُكْرَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَمَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ : 6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلَاةِ , بَلْ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ وَالْإِنْسَانِ فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ , وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ لَا تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِمَا لِيُعْرَفَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ . قَالَ الْحَنَابِلَةُ : لَا يُكْرَهُ مُلَازَمَةُ سُورَةٍ يُحْسِنُ غَيْرَهَا مَعَ اعْتِقَادِهِ جَوَازَ غَيْرِهَا . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُوَقِّتَ بِشَيْءٍ . مِنْ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ كَالسَّجْدَةِ وَالْإِنْسَانِ لِفَجْرِ الْجُمُعَةِ , وَالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ لِلْجُمُعَةِ . قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ : الْمُدَاوَمَةُ مُطْلَقًا مَكْرُوهَةٌ سَوَاءٌ رَآهُ حَتْمًا يُكْرَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا , لِإِيهَامِهِ التَّعْيِينَ , كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ بِذَلِكَ أَحْيَانًا تَبَرُّكًا بِالْمَأْثُورِ . وَكَرِهَ مَالِكٌ الِاقْتِصَارَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ آخِرَ سُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ , وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ آخِرَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ , لِعُمُومِ قوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } , لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : { كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ : { قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } وَفِي الثَّانِيَةِ قوله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ } } . لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السُّورَةَ الْكَامِلَةَ أَفْضَلُ مِنْ قَدْرِهَا مِنْ طَوِيلَةٍ ; لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهَا وَالْوَقْفَ عَلَى آخِرِهَا صَحِيحَانِ بِالْقَطْعِ بِخِلَافِهِمَا فِي بَعْضِ السُّورَةِ , فَإِنَّهُمَا يَخْفَيَانِ , وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ , أَمَّا فِيهَا فَقِرَاءَةُ بَعْضِ الطَّوِيلَةِ أَفْضَلُ , وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ , بَلْ صَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْبَعْضِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ كَقِرَاءَةِ آيَتَيْ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي سُورَةً وَاحِدَةً فِي رَكْعَتَيْنِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ , لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ , وَلَوْ فَعَلَ لَا بَأْسَ بِهِ . وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِكَرَاهَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ إلَى آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ أُخْرَى , أَوْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَبَيْنَهُمَا آيَاتٌ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ كُلِّ الْقُرْآنِ فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَلِلْإِطَالَةِ , وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَتُهُ كُلُّهُ فِي نَفْلٍ ; لِأَنَّ عُثْمَانَ رضي الله تعالى عنه كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ , وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلِّهِ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى تَرْتِيبِهِ . قَالَ حَرْبٌ : قُلْت لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَقْرَأُ عَلَى التَّأْلِيفِ فِي الصَّلَاةِ , الْيَوْمَ سُورَةً وَغَدًا الَّتِي تَلِيهَا ؟ قَالَ : لَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ , إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ .
مَا يَحْرُمُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ : 7 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ تَرَكَ تَرْتِيبَ السُّوَرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا أَصْلِيًّا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الْآيَاتِ الْمُتَلَاصِقَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ , وَأَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ; لِأَنَّهُ كَكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً فَإِذَا بَدَأَ بِنِصْفِهَا الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ بَدَأَ بِهِ عَامِدًا أَمْ سَاهِيًا وَيَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ . هَذَا مَا لَمْ يُغَيِّرْ الْمَعْنَى . فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ , قَالُوا : لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِإِخْلَالِ نَظْمِهِ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ , كَمَا صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ عَمَّا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ لِعَدَمِ تَوَاتُرِهِ وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ . قَالَ الْبُهُوتِيُّ : قَالَ فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ " وَظَاهِرُهُ وَلَوْ وَافَقَ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ "(/6)
الْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ فِي الْقِرَاءَةِ : 8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ : كَالصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ , وَيُسِرُّ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْجَهْرِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَالْإِسْرَارِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرِ الْجَهْرِيَّةِ . كَمَا يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ فِي الصُّبْحِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُخَيَّرُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتْ , وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( جَهْرٌ ف 7 ) . وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِاعْتِبَارِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُسْمِعَ الْقَارِئُ نَفْسَهُ , فَلَا تَكْفِي حَرَكَةُ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ إسْمَاعٍ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ حَرَكَةِ اللِّسَانِ لَا يُسَمَّى قِرَاءَةً بِلَا صَوْتٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِمَسْمُوعٍ مَفْهُومٍ , وَهَذَا اخْتِيَارُ الْهِنْدُوَانِيِّ وَالْفَضْلِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمَشَايِخُ . وَاخْتَارَ الْكَرْخِيُّ عَدَمَ اعْتِبَارِ السَّمَاعِ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلُ اللِّسَانِ وَذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحُرُوفِ دُونَ الصِّمَاخِ ; لِأَنَّ السَّمَاعَ فِعْلُ السَّامِعِ لَا الْقَارِئِ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا . وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَتَكْفِي عِنْدَهُمْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ , أَمَّا إجْرَاؤُهَا عَلَى الْقَلْبِ دُونَ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ فَلَا يَكْفِي , لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إسْمَاعَ نَفْسِهِ أَوْلَى مُرَاعَاةً لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ .
اللَّحْنُ فِي الْقِرَاءَةِ : 9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّحْنَ فِي الْقِرَاءَةِ إنْ كَانَ لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهُ . وَاخْتَلَفُوا فِي اللَّحْنِ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ اللَّحْنَ إنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا بِأَنْ قَرَأَ : { وَعَصَى آدَمَ رَبُّهُ } , بِنَصَبِ الْمِيمِ وَرَفْعِ الرَّبِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - مِمَّا لَوْ تَعَمَّدَ بِهِ يَكْفُرُ - إذَا قَرَأَهُ خَطَأً فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فِي قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ . وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ , وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ , وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلْخِيّ , وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ , وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ , وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ . وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَحْوَطُ ; لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا , وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ , وَمَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَوْسَعُ ; لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ إعْرَابٍ وَإِعْرَابٍ , وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ اللَّحْنَ وَلَوْ غَيَّرَ الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ , وَسَوَاءٌ ذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ اللَّحْنَ إذَا كَانَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ إلَّا إذَا كَانَ عَامِدًا عَالِمًا قَادِرًا , وَأَمَّا فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنْ قَدَرَ وَأَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ , وَإِلَّا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ اللَّحْنَ إنْ كَانَ يُحِيلُ الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى إصْلَاحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ , لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا , وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إصْلَاحِهِ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَقَطْ الَّتِي هِيَ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } , وَلَا يَقْرَأُ مَا زَادَ عَنْ الْفَاتِحَةِ , فَإِنْ قَرَأَ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيَكْفُرُ إنْ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ , وَإِنْ قَرَأَ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلًا أَوْ خَطَأً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ .(/7)
قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ : 10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً أَوْ سِرِّيَّةً لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } , قَالَ ابْنُ قُنْدُسٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَقُومُ عَنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ إذَا كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةً , احْتِزَازًا عَنْ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مُحْدِثًا أَوْ نَجِسًا وَلَوْ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَقُلْنَا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ , فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ , فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى رُكْنِ الصَّلَاةِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْ الْمَأْمُومِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ , لَكِنْ لَمْ أَجِدْ مِنْ أَعْيَانِ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ مَنْ اسْتَثْنَاهُ . نَعَمْ وَجَدْته فِي بَعْضِ كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ . قَالَ الْبُهُوتِيُّ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَشْيَاخِ وَالْأَخْبَارِ خِلَافُهُ لِلْمَشَقَّةِ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي السِّرِّيَّةِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تَجِبُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالَ بِلُزُومِهَا لِلْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَقْرَأُ مُطْلَقًا خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ , وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ , فَإِنْ قَرَأَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ فِي الْأَصَحِّ . قَالُوا : وَيَسْتَمِعُ الْمَأْمُومُ إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ وَيُنْصِتُ إذَا أَسَرَّ , لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ خَلْفَهُ قَوْمٌ , فَنَزَلَتْ { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } . قَالَ أَحْمَدُ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الصَّلَاةِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ الْبَحْرِ : وَحَاصِلُ الْآيَةِ : أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَا أَمْرَانِ : الِاسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا , وَالْأَوَّلُ يُخَصُّ بِالْجَهْرِيَّةِ وَالثَّانِي لَا , فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَمَنْعُ الْمُؤْتَمِّ مِنْ الْقِرَاءَةِ مَأْثُورٌ عَنْ ثَمَانِينَ نَفَرًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ ; وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ مُخَاطَبٌ بِالِاسْتِمَاعِ إجْمَاعًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يُنَافِيهِ , إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا , فَصَارَ نَظِيرَ الْخُطْبَةِ , فَإِنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالِاسْتِمَاعِ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَخْطُبَ لِنَفْسِهِ بَلْ لَا يَجُوزُ , فَكَذَا هَذَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا سِرِّيَّةً كَانَتْ أَوْ جَهْرِيَّةً , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ , وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَالَ مَا إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ . وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ إمَامَهُ لَا يَقْرَأُ السُّورَةَ أَوْ إلَّا سُورَةً قَصِيرَةً وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إتْمَامِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا مَعَ الْإِمَامِ , وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ أَوْ إذَا كَانَ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ لِبُعْدِهِ أَوْ لِصَمَمٍ . قَالَ الْحَنَابِلَةُ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : مُقْتَضَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ . قَالَ فِي جَامِعِ الِاخْتِيَارَاتِ : مُقْتَضَى هَذَا إنَّمَا يَكُونُ غَيْرُهَا أَفْضَلَ إذَا سَمِعَهَا وَإِلَّا فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا .(/8)
الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ : 11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا وَإِنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا , فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ , وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ , فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } . وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه قَالَ : { نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ } . وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ حَالَتَا ذُلٍّ فِي الظَّاهِرِ , وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْقَارِئِ التَّلَبُّسُ بِحَالَةِ الرِّفْعَةِ وَالْعَظَمَةِ ظَاهِرًا تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ . قَالَ الزَّرْكَشِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مَا إذَا قَصَدَ بِهَا الْقِرَاءَةَ , فَإِنْ قَصَدَ بِهَا الدُّعَاءَ وَالثَّنَاءَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ قَنَتَ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ .(/9)
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ : 12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ عَجَزَ وَتَفْسُدُ بِذَلِكَ . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنه قَالَ : { سَمِعْت هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكِدْت أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ , فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ , فَلَبَّبْته بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ : مَنْ أَقْرَأَك هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُك تَقْرَأُ ؟ قَالَ : أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : كَذَبْتَ . فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ , فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَرْسِلْهُ , اقْرَأْ يَا هِشَامُ , فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ . ثُمَّ قَالَ : اقْرَأْ يَا عُمَرُ , فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ , إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ , فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } . قَالَ النَّوَوِيُّ : فَلَوْ جَازَتْ التَّرْجَمَةُ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم اعْتِرَاضَهُ فِي شَيْءٍ جَائِزٍ . وَلِأَنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ هَذَا النَّظْمُ الْمُعْجِزُ , وَبِالتَّرْجَمَةِ يَزُولُ الْإِعْجَازُ فَلَمْ تَجُزْ , وَكَمَا أَنَّ الشِّعْرَ يُخْرِجُهُ تَرْجَمَتُهُ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا فَكَذَا الْقُرْآنُ إضَافَةً إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِاتِّبَاعِ وَالنَّهْيِ عَنْ الِاخْتِرَاعِ وَطَرِيقُ الْقِيَاسِ مَفْسَدَةٌ فِيهَا . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ آخَرَ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } , وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا بِهَذَا النَّظْمِ , وقوله تعالى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } , فَصُحُفُ إبْرَاهِيمَ كَانَتْ بِالسُّرْيَانِيَّةِ , وَصُحُفُ مُوسَى بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ قُرْآنًا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا حَيْثُ وَقَعَ الْإِعْجَازُ بِهِمَا , إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً رُخْصَةً ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَالَةِ الْإِعْجَازِ , وَقَدْ جَاءَ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ التِّلَاوَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } فَكَذَا هُنَا . وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِمَنْظُومٍ عَرَبِيٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } , وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } , وَالْمُرَادُ نَظْمُهُ , وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ , وَهُوَ اسْمٌ لِلْمُنَزَّلِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْظُومِ هَذَا النَّظْمِ الْخَاصِّ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولِ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا , وَالْأَعْجَمِيُّ إنَّمَا يُسَمَّى قُرْآنًا مَجَازًا وَلِذَا يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْقُرْآنِ عَنْهُ . وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ , وَيُرْوَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى قَوْلِهِمَا . قَالَ الشَّلَبِيُّ نَقْلًا عَنْ الْعَيْنِيِّ : صَحَّ رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى قَوْلِهِمَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الثَّلَاثَةُ - أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ - عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ .(/10)
( الْقِرَاءَةُ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالشَّاذِّ مِنْ الْقِرَاءَاتِ ) : 13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلَاةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَاتِ غَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ , وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( قِرَاءَاتٌ ف 7 ) . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْرَأَ بِالرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ وَالْإِمَالَاتِ عِنْدَ الْعَوَامّ صِيَانَةً لِدِينِهِمْ ; لِأَنَّ بَعْضَ السُّفَهَاءِ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ فَيَقَعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالشَّقَاءِ , وَلَا يَنْبَغِي لِلْأَئِمَّةِ أَنْ يَحْمِلُوا الْعَوَامَّ عَلَى مَا فِيهِ نُقْصَانُ دِينِهِمْ فَلَا يُقْرَأُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ , إذْ لَعَلَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ وَيَضْحَكُونَ وَإِنْ كَانَ كُلُّ الْقِرَاءَاتِ وَالرِّوَايَاتِ صَحِيحَةً فَصِيحَةً . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَمَشَايِخُنَا اخْتَارُوا قِرَاءَةَ أَبِي عَمْرٍو حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ مَا وَافَقَ الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْعَشَرَةِ , أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مُصْحَفِ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ . زَادَ فِي الرِّعَايَةِ : وَصَحَّ سَنَدُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ , قَالَ فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ : وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ ذَلِكَ . وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ وَزِيَادَةِ الْمَدِّ , وَأَنْكَرَهَا بَعْضُ السَّلَفِ كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ . وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ , ثُمَّ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ . وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنْ الْقِرَاءَاتِ فِي الصَّلَاةِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِقِرَاءَةِ الشَّاذِّ , وَلَكِنْ لَا تُجْزِئُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ , وَمِنْ ثَمَّ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ مَعَهُ بِالتَّوَاتُرِ , فَالْفَسَادُ لِتَرْكِهِ الْقِرَاءَةَ بِالْمُتَوَاتِرِ لَا لِلْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى حُرْمَةِ الْقِرَاءَةِ بِالشَّاذِّ مِنْ الْقِرَاءَاتِ , لَكِنْ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالشَّاذِّ إلَّا إذَا خَالَفَ الْمُصْحَفَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ بِالشَّاذِّ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا , فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ , وَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ إنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فِي الْفَاتِحَةِ . وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ مَا خَرَجَ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَلَوْ وَافَقَ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ : يُكْرَهُ أَنْ يُقْرَأَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ , وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ إذَا صَحَّ سَنَدُهُ , لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِقِرَاءَاتِهِمْ فِي عَصْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ , وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةً بِغَيْرِ شَكٍّ .(/11)
الْقِرَاءَةُ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ : 14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ , قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْقِيَامَ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ , قِيلَ لَهُ : الْفَرِيضَةُ ؟ قَالَ : لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا شَيْئًا . وَسُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ يَقْرَأُ فِي رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ , فَقَالَ : كَانَ خِيَارُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْمَصَاحِفِ . وَفِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ لِلشَّيْخِ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ : قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا لَمْ تَبْطُلْ - أَيْ الصَّلَاةُ - لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ أَوْ غَيْرُ مُتَوَالٍ لَا يُشْعِرُ بِالْإِعْرَاضِ , وَالْقَلِيلُ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي يُبْطِلُ كَثِيرُهُ إذَا تَعَمَّدَهُ بِلَا حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ . وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِرَاءَةَ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ , وَفَرَّقُوا فِي صَلَاةِ النَّفْلِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي أَثْنَائِهَا وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِهَا , فَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي أَثْنَائِهَا لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ بِهِ , وَجَوَّزُوا الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي أَوَّلِهَا ; لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِيهَا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْفَرْضِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى فَسَادِ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ مُطْلَقًا , قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أُمِّيًّا لَا يُمْكِنُهُ الْقِرَاءَةُ إلَّا مِنْهُ أَوْ لَا , وَذَكَرُوا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عِلَّةِ الْفَسَادِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ , وَالثَّانِي أَنَّهُ تَلَقَّنَ مِنْ الْمُصْحَفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَلَقَّنَ مِنْ غَيْرِهِ , وَعَلَى الثَّانِي لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ عِنْدَهُ , وَعَلَى الْأَوَّلِ يَفْتَرِقَانِ . وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ حَافِظًا لِمَا قَرَأَهُ وَقَرَأَ بِلَا حَمْلٍ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ مُضَافَةٌ إلَى حِفْظِهِ لَا إلَى تَلَقُّنِهِ مِنْ الْمُصْحَفِ وَمُجَرَّدُ النَّظَرِ بِلَا حَمْلٍ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِعَدَمِ وَجْهَيْ الْفَسَادِ . وَقِيلَ : لَا تَفْسُدُ مَا لَمْ يَقْرَأْ آيَةً ; لِأَنَّهُ مِقْدَارُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ . وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ - أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - إلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْمُصْحَفِ إنْ قَصَدَ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ .(/12)
ب - ( الْقِرَاءَةُ خَارِجَ الصَّلَاةِ ) ( حُكْمُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ) : 15 - يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلَاةِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ } , وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ , رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ . . . } . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ فِيهَا الْقُرْآنَ . ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُسَنُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو : { اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ , وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ } . قَالُوا : وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَحَسَنٌ , لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله تعالى عنه قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ لِي قُوَّةً , قَالَ : اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ } . لَكِنْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ سَرْدِ حُرُوفِهِ لقوله تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَأْخِيرِ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى نِسْيَانِهِ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ , وَبِتَحْرِيمِ تَأْخِيرِ الْخَتْمِ فَوْقَ أَرْبَعِينَ إنْ خَافَ نِسْيَانَهُ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : يَنْبَغِي لِحَافِظِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَهْمُ مَعَانِيهِ وَالِاعْتِبَارُ بِمَا فِيهِ لَا مُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } , وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّأَنِّي لَا بِالتَّوَانِي فِي الْمَعَانِي , فَقَدَّرَ لِلْخَتْمِ أَقَلَّهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا , كُلَّ يَوْمٍ حِزْبٌ وَنِصْفٌ أَوْ ثُلُثَا حِزْبٍ , وَقِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَهُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ , رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتِمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله تعالى عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ } . قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ آثَارًا عَنْ السَّلَفِ فِي مُدَّةِ خَتْمِ الْقُرْآنِ : وَالِاخْتِيَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ , فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ لَطَائِفُ وَمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ , وَكَذَا مَنْ كَانَ مَشْغُولًا بِنَشْرِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ إخْلَالٌ بِمَا هُوَ مُرْصَدٌ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إلَى حَدِّ الْمَلَلِ وَالْهَذْرَمَةِ
قِرَاءَةُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ لِلْقُرْآنِ : 16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ } . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِلْقُرْآنِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( حَيْضٌ ف 39 ) . وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ , لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا } . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( جَنَابَةٌ ف 17 ) .(/13)
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُحْتَضِرِ وَالْقَبْرِ : 17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى نَدْبِ قِرَاءَةِ سُورَةِ يس عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { اقْرَءُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ } , أَيْ مَنْ حَضَرَهُ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ . كَمَا ذَهَبُوا إلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا : { مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا حَسَنَاتٌ } , وَلِمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَوْصَى إذَا دُفِنَ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتِهَا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ وَعَلَى الْقَبْرِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( احْتِضَارٌ ف 9 ) وَمُصْطَلَحِ ( قَبْرٌ ) .
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءُ ثَوَابِهَا لَهُ : 18 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا لَهُ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ الْبَدَائِعِ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُولُ لَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا , وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عِنْدَ الْفِعْلِ لِلْغَيْرِ أَوْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَلُ ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : الْمَيِّتُ يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ , لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ ; وَلِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ يُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا , قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَعَدَمِ وُصُولِ ثَوَابِهَا إلَيْهِ , لَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ حَمْلُ الثَّوَابِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ . قَالَ الدُّسُوقِيُّ : فِي آخِرِ نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ فِي السُّؤَالِ عَنْ قوله تعالى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } , قَالَ : وَإِنْ قَرَأَ الرَّجُلُ وَأَهْدَى ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِلْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ وَحَصَلَ لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ . وَقَالَ ابْنُ هِلَالٍ : الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْأَنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَصِلُ إلَيْهِ نَفْعُهُ وَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرُهُ إذَا وَهَبَ الْقَارِئُ ثَوَابَهُ لَهُ , وَبِهِ جَرَى عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا , وَوَقَفُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْقَافًا , وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ سَالِفَةٍ . وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ إلَى الْمَيِّتِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ . قَالَ سُلَيْمَانُ الْجَمَلُ : ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ - لِلْقَارِئِ , وَيَحْصُلُ مِثْلُهُ أَيْضًا لِلْمَيِّتِ لَكِنْ إنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ , أَوْ بِنِيَّتِهِ , أَوْ يَجْعَلُ ثَوَابَهَا لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ . وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ ثَوَابُ الْقَارِئِ لِمُسْقِطٍ كَأَنْ غَلَبَ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ كَقِرَاءَتِهِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ مِثْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ . وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وَلَا دَعَا لَهُ بَعْدَهَا وَلَا قَرَأَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ وَاجِبِ الْإِجَارَةِ .
( قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلِاسْتِشْفَاءِ ) : 19 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ الِاسْتِشْفَاءِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَرِيضِ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَعَلَى الْجَوَازِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَبِهِ وَرَدَتْ الْآثَارُ , فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ , فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي } . قَالَ النَّوَوِيُّ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَ الْمَرِيضِ بِالْفَاتِحَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { وَمَا أَدْرَاك أَنَّهَا رُقْيَةٌ } . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْرَأَ عِنْدَهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } , وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } , وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } مَعَ النَّفْثِ فِي الْيَدَيْنِ , فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .(/14)
الِاجْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ : 20 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ , لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ , وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ , وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ , وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ , وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ } . وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُد أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله تعالى عنه كَانَ يَدْرُسُ الْقُرْآنَ مَعَ نَفَرٍ يَقْرَءُونَ جَمِيعًا . قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ , وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ قَارِئٌ ثُمَّ يَقْطَعَ , ثُمَّ يَقْرَأَ غَيْرُهُ بِمَا بَعْدَ قِرَاءَتِهِ , وَأَمَّا لَوْ أَعَادَ مَا قَرَأَهُ الْأَوَّلُ وَهَكَذَا فَلَا يُكْرَهُ ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ بِرَمَضَانَ . حَكَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ حَسَنَةٌ كَالْقِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ قِرَاءَةِ الْإِدَارَةِ : هَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ , قَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ , وَصَوَّبَهُ الْبُنَانِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ . لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ مَعًا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ وَلِلُزُومِ تَخْلِيطِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . قَالَ صَاحِبُ غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي : يُكْرَهُ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ جُمْلَةً لِتَضَمُّنِهَا تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ , وَقِيلَ : لَا بَأْسَ بِهِ .
الْأَمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ : 21 - يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي مَكَان نَظِيفٍ مُخْتَارٍ , وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلنَّظَافَةِ وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ , قَالَهُ النَّوَوِيُّ . وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ , وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي الْمَسْلَخِ وَالْمُغْتَسَلِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ , فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى جَوَازِهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَتِهَا إلَّا الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ لِلتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : الْقِرَاءَةُ فِي الْحَمَّامِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ الْحَمَّامُ طَاهِرًا تَجُوزُ جَهْرًا وَخُفْيَةً , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَيُكْرَهُ الْجَهْرُ . وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ الْقُبُورِ , وَأَجَازَهَا مُحَمَّدٌ وَبِقَوْلِهِ أَخَدُّ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِهِ , مِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما اسْتَحَبَّ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتُهَا . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ , وَيَحْرُمُ رَفْعُ صَوْتِ الْقَارِئِ بِهَا , لِمَا فِيهِ مِنْ الِامْتِهَانِ لِلْقُرْآنِ .(/15)
الْأَحْوَالُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَاَلَّتِي تُكْرَهُ : 22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يَلْتَهِ عَنْهَا صَاحِبُهَا , فَإِنْ الْتَهَى صَاحِبُهَا عَنْهَا كُرِهَتْ . قَالَ فِي غُنْيَةِ الْمُتَمَلِّي : الْقِرَاءَةُ مَاشِيًا أَوْ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلًا إنْ كَانَ مُنْتَبِهًا لَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ الْمَشْيُ وَالْعَمَلُ جَائِزَةٌ وَإِلَّا تُكْرَهْ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمَاشِي فِي الطَّرِيقِ وَالرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ . وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ لِلْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ أَوْ إلَى حَائِطِهِ , وَكَرِهُوا الْقِرَاءَةَ لِلْمَاشِي إلَى السُّوقِ , وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَاشِيَ لِلسُّوقِ فِي قِرَاءَتِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْإِهَانَةِ لِلْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ فِي الطُّرُقَاتِ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ ; لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ . وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لِلْمُضْطَجِعِ , لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ } وَفِي رِوَايَةٍ : { يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي } . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : وَيَضُمُّ رِجْلَيْهِ لِمُرَاعَاةِ التَّعْظِيمِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَى الْقَارِئِ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ بِأَنْ لَا يَقْرَأَهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الِاشْتِغَالِ , فَإِذَا قَرَأَهُ فِيهِمَا كَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِحُرْمَتِهِ فَيَكُونُ الْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَ أَهْلِ الِاشْتِغَالِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فِي إلْزَامِهِمْ تَرْكَ أَسْبَابِهِمْ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا , فَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَبِجَنْبِهِ رَجُلٌ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَلَا يُمْكِنُ الْكَاتِبَ الِاسْتِمَاعُ فَالْإِثْمُ عَلَى الْقَارِئِ لِقِرَاءَتِهِ جَهْرًا فِي مَوْضِعِ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَاتِبِ , وَلَوْ قَرَأَ عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْلِ جَهْرًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ يَأْثَمُ . وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ بِأَسْوَاقٍ يُنَادَى فِيهَا بِبَيْعٍ , وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقَارِئِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا . وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِكَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ لِلنَّاعِسِ , قَالَ : كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقِرَاءَةَ لِلنَّاعِسِ مَخَافَةً مِنْ الْغَلَطِ . وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ , فَإِذَا غَلَبَهُ الرِّيحُ أَمْسَكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يُخْرِجَهُ ثُمَّ يَشْرَعَ بِهَا . قَالَ النَّوَوِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَتَكَامَلَ خُرُوجُهُ ثُمَّ يَعُودَ إلَى الْقِرَاءَةِ , وَهُوَ أَدَبٌ حَسَنٌ , وَإِذَا تَثَاءَبَ أَمْسَكَ عَنْ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ ثُمَّ يَقْرَأَ .
آدَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ : 23 - يُسْتَحَبُّ لِلْقَارِئِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مِنْ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ , وَيَجْلِسَ مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( تِلَاوَةٌ ف 6 ) .
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ : 24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : وَإِذَا قَرَأَ جُنُبًا وَلَوْ نَاسِيًا لَا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقِرَاءَةِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى التِّلَاوَةِ وَإِنْ صَارَ مُتَعَارَفًا , فَالْعُرْفُ لَا يُجِيزُهُ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ , وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَئِمَّتُنَا مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ , وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ , وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ , وَلَا تَسْتَكْبِرُوا بِهِ } , وَالْعُرْفُ إذَا خَالَفَ النَّصَّ يُرَدُّ بِالِاتِّفَاقِ , وَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لَا عَلَى تِلَاوَتِهِ خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ . لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجَعَالَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِلَا شَرْطٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .(/16)
ثَانِيًا : قِرَاءَةُ غَيْرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ : قِرَاءَةُ كُتُبِ الْحَدِيثِ : 25 - سُئِلَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ الْجُلُوسِ لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَقِرَاءَتِهِ هَلْ فِيهِ ثَوَابٌ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ : إنْ قَصَدَ بِسَمَاعِهِ الْحِفْظَ وَتَعَلُّمَ الْأَحْكَامِ أَوْ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ اتِّصَالَ السَّنَدِ فَفِيهِ ثَوَابٌ , وَأَمَّا قِرَاءَةُ مُتُونِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ : إنَّ قِرَاءَةَ مُتُونِهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لِجَوَازِ قِرَاءَتِهَا وَرِوَايَتِهَا بِالْمَعْنَى . قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ : وَهُوَ ظَاهِرٌ إذْ لَوْ تَعَلَّقَ بِنَفْسِ أَلْفَاظِهَا ثَوَابٌ خَاصٌّ لَمَا جَازَ تَغْيِيرُهَا وَرِوَايَتُهَا بِالْمَعْنَى لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ مُعْجِزٌ , وَإِذَا كَانَتْ قِرَاءَتُهُ الْمُجَرَّدَةُ لَا ثَوَابَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِمَاعِهِ الْمُجَرَّدِ عَمَّا مَرَّ ثَوَابٌ بِالْأَوْلَى , وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِالثَّوَابِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ عِنْدِي ; لِأَنَّ سَمَاعَهَا لَا يَخْلُو مِنْ فَائِدَةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَوْدُ بَرَكَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ , فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ إنَّ سَمَاعَ الْأَذْكَارِ مُبَاحٌ لَا سُنَّةٌ .
( قِرَاءَةُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ) : 26 - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً مِنْ التَّوْرَاةِ . وَمِثْلُ الْحَنَابِلَةِ الشَّافِعِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَعَدُّوهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
قِرَاءَةُ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ تَعَلُّمِهِ : 27 - لِلْفُقَهَاءِ فِي قِرَاءَةِ كُتُبِ السِّحْرِ بِقَصْدِ التَّعَلُّمِ أَوْ الْعَمَلِ تَفْصِيلَاتٌ اتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( سِحْرٌ ف 13 ) .(/17)
قِرَانٌ
قِرَانٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْقِرَانُ لُغَةً : جَمْعُ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ يُقَالُ قَرَنَ الشَّخْصُ لِلسَّائِلِ : إذَا جَمَعَ لَهُ بَعِيرَيْنِ فِي قِرَانٍ وَاحِدٍ , وَالْقِرَانُ : الْحَبْلُ يُقْرَنُ بِهِ , قَالَ الثَّعَالِبِيُّ : " لَا يُقَالُ لِلْحَبْلِ قِرَانٌ حَتَّى يُقْرَنَ فِيهِ بَعِيرَانِ " , وَالْقَرَنُ : الْحَبْلُ أَيْضًا . وَاصْطِلَاحًا : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا , أَوْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْإِفْرَادُ : 2 - الْإِفْرَادُ : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ , أَيْ أَنْ يَنْوِيَهُ مُنْفَرِدًا . وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَجِّ , غَيْرَ أَنَّ الْقِرَانَ يَتَضَمَّنُ نُسُكَيْنِ , وَالْإِفْرَادُ نُسُكًا وَاحِدًا . ب - ( التَّمَتُّعُ ) : 3 - التَّمَتُّعُ : هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ , ثُمَّ يَفْرُغَ مِنْهَا وَيَتَحَلَّلَ , ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا فِي عَامِهِ مِنْ مَكَّةَ . وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْقِرَانِ إتْمَامَ نُسُكَيْنِ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ دُونَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَّا بَعْدَ تَمَامِهِمَا مَعًا , أَمَّا فِي التَّمَتُّعِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الْعُمْرَةَ , ثُمَّ يَتَحَلَّلُ مِنْهَا , وَيُنْشِئُ حَجًّا بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ .
( مَشْرُوعِيَّةُ الْقِرَانِ ) : 4 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِرَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ : أَمَّا الْكِتَابُ , فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } . قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ : الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها , قَالَتْ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ , فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ , وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ , وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ , وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ , فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ } . فَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّحَابَةَ عَلَى الْقِرَانِ , فَيَكُونُ مَشْرُوعًا . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَوْجُهِ الْحَجِّ الَّتِي عَرَفْنَاهَا , دُونَ نَكِيرٍ , فَكَانَ إجْمَاعًا . قَالَ النَّوَوِيُّ : " وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ " .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ : 5 - بَعْدَ أَنْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الْأَوْجُهِ فِي أَدَاءِ الْحَجِّ دُونَ كَرَاهَةٍ , اخْتَلَفُوا فِي أَيُّهَا الْأَفْضَلُ , وَقَدْ قِيلَ بِأَفْضَلِيَّةِ كُلٍّ مِنْهَا , وَسَبَقَ بَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا . ( ر : إفْرَادٌ ف 7 - 8 وَتَمَتُّعٌ ف 4 - 5 ) .(/1)
( أَرْكَانُ الْقِرَانِ ) : 6 - الْقِرَانُ جَمْعٌ بَيْنَ نُسُكَيْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ , فَأَرْكَانُهُ هِيَ أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . اُنْظُرْ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ ( حَجٌّ ف 46 وَمَا بَعْدَهَا ) وَمُصْطَلَحِ ( عُمْرَةٌ ف 12 - 24 ) . لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُ أَدَاءُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِكُلٍّ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , أَوْ يَتَدَاخَلَانِ فَلَا يَجِبُ تَكْرَارُهُمَا ؟ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى التَّدَاخُلِ , وَأَنَّهُ يُجْزِئُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , وَلَا يَجِبُ تَكْرَارُهُمَا , وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَاسْتَدَلُّوا بِالنَّقْلِ وَالْقِيَاسِ : أَمَّا النَّقْلُ : فَحَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَالَتْ فِيهِ : " . . وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا " وَحَدِيثُهَا أَيْضًا لَمَّا جَمَعْت بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { يُجْزِئُ عَنْك طَوَافُك بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك } . وَعَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ , فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا } . وَأَمَّا الْقِيَاسُ : فَلِأَنَّهُ نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ وَرَمْيٌ وَاحِدٌ , فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ , كَالْمُفْرِدِ ; وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ , فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَالُ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى , كَالطَّهَارَتَيْنِ : الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - وَيُرْوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ , قَالُوا : الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ , وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ : طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ , وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجَّتِهِ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } , وَتَمَامُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَالِ , وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ " . وَبِمَا وَرَدَ عَنْ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ فِي قِصَّةِ حَجِّهِ قَارِنًا , قَالَ : " قَالَ - يَعْنِي عُمَرَ لَهُ - : فَصَنَعْت مَاذَا ؟ قَالَ : " مَضَيْت فَطُفْت طَوَافًا لِعُمْرَتِي , وَسَعَيْت سَعْيًا لِعُمْرَتِي , ثُمَّ عُدْتُ فَفَعَلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ لِحَجِّي , ثُمَّ بَقِيتُ حَرَامًا مَا أَقَمْنَا , أَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ , حَتَّى قَضَيْتُ آخِرَ نُسُكِي قَالَ : هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك " . وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ لِمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ : تُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا ثُمَّ تَطُوفُ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ . وَبِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدِلَّةِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ .(/2)
شُرُوطُ الْقِرَانِ : الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ : 7 - وَذَلِكَ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْعُمْرَةِ , فَإِنَّ إحْرَامَهُ هَذَا صَحِيحٌ , وَيُصْبِحُ قَارِنًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ . أَمَّا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ , فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ هَذَا الْإِحْرَامِ وَيَصِيرُ قَارِنًا - مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا - وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْرَامٌ ف 22 - 28 ) . الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ فَسَادِ الْعُمْرَةِ : 8 - إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا وَمُحْرِمٌ بِهِ فَوْقَهَا , فَقَدْ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ الْإِرْدَافِ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ صَحِيحَةً , وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : عَدَمُ فَسَادِ الْعُمْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ , وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْرَامٌ ف 24 ) . الشَّرْطُ الثَّالِثُ : 9 - أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ الطَّوَافَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْرَامٌ ف 25 - 27 ) الشَّرْطُ الرَّابِعُ : 10 - أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ كُلَّ الْأَشْوَاطِ أَوْ أَكْثَرَهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ . وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , لِقَوْلِهِمْ : إنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ . الشَّرْطُ الْخَامِسُ : 11 - أَنْ يَصُونَهُمَا عَنْ الْفَسَادِ : فَلَوْ أَفْسَدَهُمَا بِأَنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَقَبْلَ أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ بَطَلَ قِرَانُهُ , وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ , وَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ الْفَسَادِ . أَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَقَطْ فَسَدَ حَجُّهُ دُونَ عُمْرَتِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ , وَلَزِمَهُ مُوجِبُ فَسَادِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي أَرْكَانِ الْقِرَانِ , اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( تَمَتُّعٌ ف 13 ) . الشَّرْطُ السَّادِسُ : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : 12 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى صِحَّةِ الْقِرَانِ مِنْ الْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ , فَجَعَلُوا هَذَا شَرْطًا لِلُزُومِ دَمِ الْقِرَانِ , لَا لِلْمَشْرُوعِيَّةِ . وَقَالُوا : إنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قوله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } , يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } , وَالْمَعْنَى : ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْهَدْيِ عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ - وَهُوَ يَشْمَلُ الْقِرَانَ - إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , فَإِنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ , وَقِرَانُهُ وَتَمَتُّعُهُ صَحِيحَانِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِرَانِ أَنْ لَا يَكُونَ الْقَارِنُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الرَّاجِحِ . وَقَالُوا : الْمُرَادُ بِ ( ذَلِكَ ) الْوَارِدَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ : التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ , وَهُوَ يَشْمَلُ الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا قِرَانَ وَلَا تَمَتُّعَ لَهُ , وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهَدْيَ لَقَالَ : ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . وَيَدُلُّ لِلْحَنَفِيَّةِ مَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ : أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ . . . إلَى أَنْ قَالَ : " فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ , وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ , قَالَ اللَّهُ : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } . الشَّرْطُ السَّابِعُ : 13 - عَدَمُ فَوَاتِ الْحَجِّ : فَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ لَمْ يَكُنْ قَارِنًا , وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ .(/3)
( كَيْفِيَّةُ الْقِرَانِ ) : 14 - هِيَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ قَبْلَهُ , لَا بَعْدَهُ . وَمِيقَاتُ إحْرَامِ الْقَارِنِ هُوَ مِيقَاتُ إحْرَامِ الْمُفْرِدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : مِيقَاتُ الْقَارِنِ هُوَ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ آفَاقِيًّا فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ الْخَاصِّ بِهِ , وَمَنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا قِرَانَ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَلَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقِرَانُ , وَلَا دَمَ عَلَيْهِ , فَيُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ إلَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ بِالْقِرَانِ . ( ر : إحْرَامٌ ف 40 وَ 52 ) .
15 - وَكَيْفِيَّةُ إحْرَامِ الْقَارِنِ , أَنَّهُ بَعْدَمَا يَسْتَعِدُّ لِلْإِحْرَامِ يَقُولُ نَاوِيًا بِقَلْبِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي , أَوْ نَوَيْت الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ وَأَحْرَمْت بِهِمَا لِلَّهِ تَعَالَى , لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ , لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ . إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ , لَا شَرِيكَ لَك , ثُمَّ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ . وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَعَاقِبًا , بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ , ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إضَافَةً إلَى الْعُمْرَةِ ( ر : إحْرَامٌ ف 117 ) . فَإِذَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ قَارِنًا , فَإِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ الْمُفْرِدُ , وَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ , وَيَسْعَى بَعْدَهُ إنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ السَّعْيِ , ثُمَّ يَقِفُ بِعَرَفَةَ وَهَكَذَا إلَى آخِرِ أَعْمَالِ الْحَجِّ , وَيَذْبَحُ هَدْيًا يَوْمَ النَّحْرِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( هَدْيٌ ) . وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : فَإِنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ : طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِعُمْرَتِهِ , وَطَوَافٌ وَسَعْيٌ لِحَجَّتِهِ , وَكَيْفِيَّةُ أَدَائِهِ لِلْقِرَانِ : إذَا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ قَارِنًا دَخَلَ مَكَّةَ , وَابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ , يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى مِنْهَا , وَيَضْطَبِعُ فِيهَا كُلِّهَا , ثُمَّ يَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ , ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ , فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ , وَيَسْعَى بَعْدَهُ سَعْيَ الْحَجِّ إنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ ( ر : سَعْيٌ ) وَعِنْدَئِذٍ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ الثَّانِي وَيَضْطَبِعُ ; لِأَنَّ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ , ثُمَّ يُتَابِعُ أَعْمَالَ الْحَجِّ كَمَا فِي الْإِفْرَادِ , وَيَذْبَحُ هَدْيًا إلَى آخِرِهِ . . . لَكِنْ لَا يَتَحَلَّلُ بِمَا أَدَّاهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَلَا يَحْلِقُ , لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ وَوَقْتُ تَحَلُّلِهِ يَوْمُ النَّحْرِ .
تَحَلُّلُ الْقَارِنِ : 16 - لِلْقَارِنِ تَحَلُّلَانِ : التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ : وَيُسَمَّى أَيْضًا الْأَصْغَرَ . وَيَحْصُلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَبِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَبِفِعْلِ اثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهِيَ الرَّمْيُ , وَالْحَلْقُ , وَالطَّوَافُ , أَيْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الْمَسْبُوقُ بِالسَّعْيِ , وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ . وَالْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا , حَتَّى الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ الذَّبْحَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّحَلُّلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَيَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْجِمَاعَ . وَأَمَّا التَّحَلُّلُ الثَّانِي : وَيُسَمَّى التَّحَلُّلَ الْأَكْبَرَ : فَتَحِلُّ بِهِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءَ إجْمَاعًا . وَيَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَكْبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِشَرْطِ الْحَلْقِ هُنَا بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ , وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ مَسْبُوقًا بِالسَّعْيِ , وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا مَدْخَلَ لِلسَّعْيِ فِي التَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : يَحْصُلُ بِاسْتِكْمَالِ أَفْعَالِ التَّحَلُّلِ الثِّقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .(/4)
هَدْيُ الْقِرَانِ : 17 - يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيٌ يَذْبَحُهُ أَيَّامَ النَّحْرِ , لقوله تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } . لِأَنَّ الْقَارِنَ فِي حُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ , قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : " وَإِنَّمَا جَعَلَ الْقِرَانَ مِنْ بَابِ التَّمَتُّعِ ; لِأَنَّ الْقَارِنَ يَتَمَتَّعُ بِتَرْكِ النَّصَبِ فِي السَّفَرِ إلَى الْعُمْرَةِ مَرَّةً وَإِلَى الْحَجِّ أُخْرَى , وَيَتَمَتَّعُ بِجَمْعِهِمَا وَلَمْ يُحْرِمْ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ مِيقَاتِهِ , وَضَمَّ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ , فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } , وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم ; وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ نُسُكَيْنِ فِي وَقْتِ أَحَدِهِمَا فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَارِنِ وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِحْرَامِ أَوْلَى . وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِيهِ شَاةٌ , وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ , وَالْبَدَنَةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا . وَاخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ هَذَا الْهَدْيِ , فَقَالَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : هُوَ دَمُ شُكْرٍ , وَجَبَ شُكْرًا لِلَّهِ لِمَا وَفَّقَهُ إلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ , فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيُطْعِمُ مَنْ شَاءَ وَلَوْ غَنِيًّا , وَيَتَصَدَّقُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : هُوَ دَمُ جَبْرٍ , عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَذْهَبِهِمْ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ , بَلْ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِهِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي ( هَدْيٌ ) . وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ فَعَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ , لقوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( تَمَتُّعٌ ف 17 - 20 ) ( وَهَدْيٌ ) .
صَيْرُورَةُ التَّمَتُّعِ قِرَانًا : 18 - إذَا سَاقَ الْمُتَمَتِّعُ الْهَدْيَ كَمَا هُوَ السُّنَّةُ . فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا يَحِلُّ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ , وَلَا يَحْلِقُ , وَلَوْ حَلَقَ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ , وَيَكُونُ حَلْقُهُ جِنَايَةً عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ , وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِجِنَايَتِهِ هَذِهِ , بَلْ يَظَلُّ حَرَامًا , ثُمَّ يُهِلُّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْحَجِّ , وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ - لَكِنْ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ - حَتَّى يَحِلَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْهُمَا . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّهُ يَصِيرُ قَارِنًا , وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ كَاَلَّذِي لَمْ يَسُقْهُ , يَتَحَلَّلُ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ , وَيَمْكُثُ بِمَكَّةَ حَلَالًا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ , وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( تَمَتُّعٌ ف 15 ) .(/5)
( جِنَايَاتُ الْقَارِنِ عَلَى إحْرَامِهِ ) : 19 - بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي الْقَارِنِ , هَلْ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ . كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ , أَوْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ لَهُمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ , اخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ لِلْقَارِنِ . فَالْجُمْهُورُ سَوَّوْا بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ فِي كَفَّارَاتِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : " كُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْقَارِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ - مِمَّا ذَكَرْنَا - أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الْمُفْرِدِ بِجِنَايَتِهِ دَمٌ فَعَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ , لِجِنَايَتِهِ عَلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِحَجَّتِهِ وَدَمٌ لِعُمْرَتِهِ , وَكَذَا الصَّدَقَةُ " . وَالتَّفْصِيلُ فِي ( إحْرَامٌ ف 147 - 169 ) . وَهَذَا إنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ , كَلُبْسِ الْمَخِيطِ , وَالتَّطَيُّبِ , وَالْحَلْقِ , وَالتَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ , وَأَشْبَاهِهَا يَلْزَمُ الْقَارِنَ فِيهَا جَزَاءَانِ . أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ , فَلَا يَجِبُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ , كَتَرْكِ الرَّمْيِ , وَتَرْكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ . وَمِثْلُ الْقَارِنِ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ , كَالْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ , أَوْ الَّذِي لَمْ يَسُقْهُ لَكِنْ لَمْ يَحِلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ , وَكَذَا كُلُّ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ أَوْ الْعُمْرَتَيْنِ , كَمَنْ أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا , فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِهِمَا وَعَلَيْهِ قَضَاءُ أَحَدِهِمَا وَلَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِهِمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( ر : إحْرَامٌ ف 22 - 29 ) . أَمَّا جِمَاعُ الْقَارِنِ , فَفِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْرَامٌ ف 178 ) .
( قُرْبٌ ) التَّعْرِيفُ : 1 - الْقُرْبُ فِي اللُّغَةِ : ضِدُّ الْبُعْدِ , يُقَالُ : قَرُبْت مِنْهُ أَقْرَبُ قُرْبًا وَقُرْبَانًا أَيْ دَنَوْت مِنْهُ وَبَاشَرْته , وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ فَيُقَالُ : قَرَّبْته . وَيُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمَكَانِ , وَفِي الزَّمَانِ , وَفِي النِّسْبَةِ , وَفِي الْحَظْوَةِ , وَفِي الرِّعَايَةِ , وَالْقُدْرَةِ , وَقِيلَ : الْقُرْبُ فِي الْمَكَانِ , وَالْقُرْبَةُ فِي الْمَنْزِلَةِ , وَالْقَرَابَةُ فِي الرَّحِمِ . وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : الْبُعْدُ : 2 - الْبُعْدُ ضِدُّ الْقُرْبِ , يُقَالُ : بَعُدَ الشَّيْءُ بُعْدًا فَهُوَ بَعِيدٌ , وَالْجَمْعُ بُعَدَاءُ , وَيَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ : بَعُدْت بِهِ جَعَلْته بَعِيدًا , وَأَبْعَدْته : نَحَّيْته بَعِيدًا . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ . وَعَلَاقَةُ الْبُعْدِ بِالْقُرْبِ الضِّدْيَةُ . قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ : الْبُعْدُ ضِدُّ الْقُرْبِ , وَلَيْسَ لَهُمَا حَدٌّ مَحْدُودٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمَكَانِ بِغَيْرِهِ , يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْمَحْسُوسِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ , وَفِي الْمَعْقُولِ .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْبِ مِنْ أَحْكَامٍ : أ - فِي الْإِرْثِ 3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ مِنْ الْعَصَبَةِ الْوَارِثِينَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْإِرْثِ , فَلَا يَرِثُ ابْنُ ابْنٍ مَعَ ابْنٍ صُلْبٍ أَوْ مَعَ ابْنِ ابْنٍ أَقْرَبَ مِنْهُ , وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إلَى حَدِيثِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَأَوْلَى الْوَارِدَةُ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ أَقْرَبُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( إرْثٌ ف 45 , 54 ) .
ب - فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ : 4 - جَاءَ فِي الْمُغْنِي : أَحَقُّ النَّاسِ بِإِنْكَاحِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَبُوهَا وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ أَكْمَلُ نَظَرًا وَأَشَدُّ شَفَقَةً فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي الْوِلَايَةِ , ثُمَّ أَبُو الْأَبِ أَيْ الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا , ثُمَّ ابْنُهَا وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( وِلَايَةٌ ) .(/6)
حُكْمُ إنْكَاحِ الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ : 5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا زَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ مَعَ حُضُورِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ تَثْبُتْ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ كَالْمِيرَاثِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ إنْكَاحَ الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ فَلَهُ الِاعْتِرَاضُ وَالْفَسْخُ مَا لَمْ يَرْضَ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً كَقَبْضِهِ الْمَهْرَ مَثَلًا , وَمَا لَمْ يَسْكُتْ حَتَّى تَلِدَ أَوْ تَحْبَلَ . فَإِنْ رَضِيَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً , أَوْ سَكَتَ حَتَّى تَلِدَ أَوْ تَحْبَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ وَالْفَسْخِ , وَذَلِكَ لِئَلَّا يَضِيعَ الْوَلَدُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ , فَإِنَّ بَقَاءَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى تَرْبِيَتِهِ أَحْفَظُ لَهُ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ صَحِيحًا إذَا عَقَدَهُ الْأَبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَقْرَبُ مُجْبِرًا , فَإِنْ كَانَ مُجْبِرًا - وَهُوَ عِنْدَهُمْ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ - فَلَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( وِلَايَةٌ ) ( وَنِكَاحٌ ) .
ح - فِي الْحَضَانَةِ : 6 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْحَضَانَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأُمُّ , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَهَا عَلَى مَذَاهِبَ , عَلَى أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ الْقُرْبَ فِي الْجُمْلَةِ فِي الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( حَضَانَةٌ ف 9 - 13 ) .
د - فِي الْعَاقِلَةِ : 7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ يُرَاعَى فِيمَنْ يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ مِنْ الْعَاقِلَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَاتِلِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَلْزَمُ أَهْلَ الدِّيوَانِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دِيوَانٌ وَجَبَتْ عَلَى الْقَبِيلَةِ مِنْ النَّسَبِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( عَاقِلَةٌ ف 3 ) .
هـ - فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ الَّتِي يَتَرَخَّصُ فِيهَا فِي السَّفَرِ : 8 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ , وَمِنْهَا مَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ : ثَلَاثَةٌ تَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ وَهِيَ : الْقَصْرُ , وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ , وَمَسْحُ الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَاثْنَانِ يَجُوزَانِ فِي الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَهُمَا : تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ , وَثَلَاثَةٌ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالطَّوِيلِ قَوْلَانِ وَهِيَ : الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ وَجَوَازُ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ , وَالْأَصَحُّ اخْتِصَاصُ الْجَمْعِ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ , عَدَمُ اخْتِصَاصِ السَّفَرِ الطَّوِيلِ بِجَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ . قَالَ السُّيُوطِيّ : وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ الْوَكِيلِ رُخْصَةً تَاسِعَةً صَرَّحَ بِهَا الْغَزَالِيُّ رحمه الله وَهِيَ : مَا إذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ فَإِنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ وَيَأْخُذُ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِضَرَّاتِهَا إذَا رَجَعَ , وَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالطَّوِيلِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا : لَا . قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ : مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَهُوَ : الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَسُقُوطُ الْأُضْحِيَّةِ , وَمَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ , بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِصْرِ وَهُوَ : تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ وَالنَّفَلِ عَلَى الدَّابَّةِ وَجَوَازُ التَّيَمُّمِ وَاسْتِحْبَابُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ نِسَائِهِ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( جَمْعُ الصَّلَوَاتِ ف 3 ) ( وَسَفَرٌ ف 7 , 11 ) .
و - ( فِي انْتِقَالِ الْحَاضِنِ ) : 9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَالِ الْحَضَانَةِ مِنْ الْحَاضِنِ إلَى مَنْ يَلِيهِ فِي التَّرْتِيبِ بِالسَّفَرِ بُعْدًا أَوْ قُرْبًا , فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِلُ بِالسَّفَرِ الْبَعِيدِ دُونَ الْقَرِيبِ , وَسَوَّى آخَرُونَ فِي الِانْتِقَالِ بَيْنَ السَّفَرِ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ . وَالتَّفْصِيلُ مُصْطَلَحُ ( حَضَانَةٌ ف 15 ) .(/7)
ز - فِي سَفَرِ الْمُعْتَدَّةِ وَعَوْدَتِهَا : 10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُنْشِئَ سَفَرًا قَرِيبًا كَانَ هَذَا السَّفَرُ أَوْ بَعِيدًا , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا السَّفَرُ لِأَجْلِ الْحَجِّ , إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا خَرَجَتْ ثُمَّ طَرَأَتْ . الْعِدَّةُ هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ لِتَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا , أَمْ يَجُوزَ لَهَا أَنْ تَمْضِيَ فِي سَفَرِهَا ؟ وَهَلْ السَّفَرُ الْقَرِيبُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ عَنْ السَّفَرِ الْبَعِيدِ ؟ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( إحْدَادٌ ف 19 , 20 , 22 . 23 ) .(/8)
قِيام الليل *
التعريف :
1 - القيام في اللّغة : نقيض الجلوس .
والليل في اللّغة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : قضاء الليل ولو ساعةً بالصلاة أو غيرها ، ولا يشترط أن يكون مستغرقاً لأكثر الليل .
ويرى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّه يحصل بصلاة العشاء جماعةً والعزم على صلاة الصّبح جماعةً ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صلى العشاء في جماعة فكانما قام نصف الليل ، ومن صلى الصّبح في جماعة فكانما صلى الليل كله» .
وجاء في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم الليل بطاعة ، وقيل : ساعةً منه ، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
الألفاظ ذات الصّلة :
التهجّد :
2 - التهجّد في اللّغة من الهجود ، ويطلق على النّوم والسهر : يقال : هجد : نام بالليل ، فهو هاجد ، والجمع هجود ، وهجد : صلى بالليل ، ويقال تهجد : إذا نام ، وتهجد إذا صلى، فهو من الأضداد ، ومنه قيل لصلاة الليل : التهجّد .
قال الأزهريّ : المعروف في كلام العرب : أنّ الهاجد هو النائم ، هجد ، هجوداً إذا نام ، وأما المتهجّد فهو القائم إلى الصلاة من النّوم ، وكانه قيل له متهجّد لإلقائه الهجود عن نفسه .
وقد فسرت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم ، ومجاهد ، قوله تعالى : { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } ، بالقيام للصلاة من النّوم ، فيكون موافقاً للتهجّد .
وأما في الاصطلاح : فقد ذكر القاضي حسين من الشافعية : أنّ التهجّد في الاصطلاح هو صلاة التطوّع في الليل بعد النّوم ، ويؤيّده ما روي من حديث الحجاج بن عمرو رضي الله عنه قال : " يحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلّي حتى يصبح أنّه قد تهجد ، إنّما التهجّد : المرء يصلّي الصلاة بعد رقدة " ، وقيل : إنّه يطلق على صلاة الليل مطلقاً .
وتفصيله في مصطلح ( تهجّد ف / 4 - 6 ) .
والصّلة بين قيام الليل والتهجّد : أنّ قيام الليل أعمّ من التهجّد .
الحكم التكليفيّ :
3 - اتفق الفقهاء على مشروعية قيام الليل ، وهو سنّة عند الحنفية والحنابلة ، ومندوب عند المالكية ، ومستحبّ عند الشافعية .
واختلفوا في فرضيته على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وينظر تفصيله في مصطلح ( اختصاص ف / 4 ) .
كما صرحوا بأنّ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار ، قال أحمد : ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من قيام الليل ، وقد صرحت الأحاديث بفضله والحثّ عليه ، كما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بقيام الليل ، فإنّه دأب الصالحين قبلكم ، وهو قربة لكم إلى ربّكم ، ومكفرة للسيّئات ، ومنهاة عن الإثم » .
الوقت الأفضل لقيام الليل :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ قيام الليل لا يكون إلا بعد صلاة العشاء ، سواء سبقه نوم أو لم يسبقه ، وأنّ كونه بعد النّوم أفضل .
واختلفوا بعد ذلك في أفضل الأوقات لقيام الليل على أقوال :
فذهب الجمهور إلى أنّ الأفضل مطلقاً السّدس الرابع والخامس من الليل ، لما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما « أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام ، وأحبّ الصّيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ويصوم يوماً ويفطر يوماً » .
وأما لو أراد أن يجعل الليل نصفين : أحدهما للنّوم ، والآخر للقيام ، فالنّصف الأخير أفضل ، لقلة المعاصي فيه غالباً ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدّنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » . ولو أراد أن يجعله أثلاثاً ، فيقوم ثلثه ، وينام ثلثيه ، فالثّلث الأوسط أفضل من طرفيه ; لأنّ الغفلة فيه أتمّ ، والعبادة فيه أثقل ، والمصلّين فيه أقلّ ، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر » .
ويرى المالكية أنّ الأفضل قيام ثلث الليل الآخر لمن تكون عادته الانتباه آخر الليل ، أما من كان غالب حاله أن لا ينتبه آخره ، فالأفضل أن يجعله أول الليل احتياطاً .
أما الليل كلّه ، فقد صرح الشافعية والحنابلة بكراهة قيامه ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلةً إلى الصّبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان » .
ولما روي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم « قال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ألم أخبر أنّك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، فقال : فلا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم ، فإنّ لجسدك عليك حقّاً وإنّ لعينك عليك حقّاً وإن لزوجك عليك حقّاً ولزورك عليك حقّاً » .
واستثنوا ليالي مخصوصةً لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر » .
عدد ركعاته :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يستحبّ افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين » .
واختلفوا بعد ذلك ، فقال الحنفية : منتهى ركعاته ثماني ركعات ، وهو عند المالكية عشر ركعات ، أو اثنتا عشرة ركعةً .
وقال الشافعية : لا حصر لعدد ركعاته لخبر : « الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر » .(/1)
وقال ابن قدامة : اختلفت الرّوايات في عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل : قال ابن عباس رضي الله عنهما : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً » ، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : « ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعةً : يصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلّي ثلاثاً » ، وفي لفظ قالت : « كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان وغيره بالليل ثلاث عشرة ركعةً ، منها ركعتا الفجر » .
وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في مصطلحي ( تهجّد ف / 6 ، وصلاة التراويح ف / 11 ) .
وهل يصلى أربعاً أربعاً ، أو مثنى مثنى ؟ ذهب مالك والشافعية وأبو يوسف ومحمد إلى أنّه يصلى مثنى مثنى ، احتجاجاً بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « صلاة الليل مثنى ، مثنى ... » ; ولأنّ عمل الأمة في التراويح مثنى مثنى ، من لدن عمر رضي الله تعالى عنه إلى يومنا هذا ، فدل أنّ ذلك أفضل .
وقال أبو حنيفة : يصلى أربعاً أربعاً ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها السابق .
وقال الموصليّ : صلاة الليل ركعتان بتسليمة ، أو ستّ أو ثمان ; لأنّ كل ذلك نقل في تهجّده صلى الله عليه وسلم وتكره الزّيادة على ذلك ; لأنّه لم ينقل .
ترك قيام الليل لمعتاده :
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يكره ترك تهجّد اعتاده بلا عذر ، لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما : « يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل » ، فينبغي للمكلف الأخذ من العمل بما يطيقه ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : « أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل » .
وقالت عائشة رضي الله عنها : « كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاةً داوم عليها » .
وقالت : « كان عمله ديمةً » ، وقالت : « كان إذا عمل عملاً أثبته » .
الاجتماع لقيام الليل :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز التطوّع جماعةً وفرادى ; لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما .
والأفضل في غير التراويح المنزل ، لحديث : « عليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » .
وفي رواية : « صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة » . ولكن إذا كان في بيته ما يشغل باله ، ويقلّل خشوعه ، فالأفضل أن يصلّيها في المسجد فرادى ; لأنّ اعتبار الخشوع أرجح .
ونص الحنفية على كراهة الجماعة في التطوّع إذا كان على سبيل التداعي ، بأن يقتدي أربعة بواحد .
وصرح المالكية بأنّه يكره الجمع في النافلة غير التراويح إن كثرت الجماعة ، سواء كان المكان الذي أريد الجمع فيه مشتهراً كالمسجد ، أو لا كالبيت ، أو قلت الجماعة وكان المكان مشتهراً ، وذلك لخوف الرّياء .
فإن قلت وكان المكان غير مشتهر فلا كراهة ، إلا في الأوقات التي صرح العلماء ببدعة الجمع فيها ، كليلة النّصف من شعبان ، وأول جمعة من رجب ، وليلة عاشوراء ، فإنّه لا خلاف في الكراهة مطلقاً .
قيام ليلة الجمعة :
8 - نصَّ الحنفية على ندب إحياء ليلة الجمعة .
وصرح الشافعية بأنّه يكره تخصيص ليلة الجمعة بقيام . أي بصلاة ، لحديث : « لا تختصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي » .
أما تخصيص غيرها ، سواء كان بالصلاة أو بغيرها ، فلا يكره .
وكذلك لا يكره تخصيص ليلة الجمعة بغير الصلاة ، كقراءة القرآن ، أو الذّكر ، أو الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قيام ليلتي العيدين :
9 - اتفق الفقهاء على أنّه يندب قيام ليلتي العيدين لقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلتي العيدين محتسباً لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( إحياء الليل ف / 11 ) .
قيام ليالي رمضان :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في سنّية قيام ليالي رمضان ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
« من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » .
وقال الفقهاء : إنّ التراويح هي قيام رمضان ، ولذلك فالأفضل استيعاب أكثر الليل بها ; لأنّها قيام الليل .
قيام ليلة النّصف من شعبان والاجتماع له :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب قيام ليلة النّصف من شعبان ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها ، وصوموا نهارها ، فإنّ الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدّنيا ، فيقول : ألا من مستغفر لي فأغفر له ، ألا من مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلًى فأعافيه ... ألا كذا ... ألا كذا ... حتى يطلع الفجر » .
والتفصيل في ( إحياء الليل ف / 13 ) .
قيام ليالي العشر من ذي الحجة :
12 - صرح الحنفية والحنابلة أنّه يستحبّ قيام الليالي العشر الأول من ذي الحجة ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من أيام أحبّ إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة ، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر » .
قيام أول ليلة من رجب :
13 – يرى بعض الفقهاء أنّه يستحب قيام أول ليلة من رجب ، لأنّها من الليالي الخمس التي لا يردّ فيها الدعاء ، وهي : ليلة الجمعة ، وأول ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، وليلتا العيد .
ما يستحبّ في قيام الليل :
يستحبّ في قيام الليل ما يلي :
أ - الافتتاح بركعتين خفيفتين :(/2)
14 - صرح الشافعية والحنابلة بأنّه يستحبّ لقائم الليل أن يفتتح تهجّده بركعتين خفيفتين لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين » ، وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أنّه قال : « لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة ، فصلى ركعتين خفيفتين ... » الحديث .
ب - ما يقوله القائم للتهجّد :
15 - اختلفت عبارات الفقهاء فيما يقوله قائم الليل إذا قام من الليل يتهجد ، تبعاً لاختلاف الرّوايات عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
فقال سليمان الجمل : إنّه يستحبّ أن يمسح المستيقظ النّوم عن وجهه ، وأن ينظر إلى السماء ولو أعمى وتحت سقف ، وأن يقرأ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلى آخر الآيات .
وعن عبادة رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من تعارّ " استيقظ "، من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير ، الحمد لله ، وسبحان الله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا ، استجيب له ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد ، قال : اللهم لك الحمد ، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهنّ ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ، ولك الحمد ، أنت الحقّ ، ووعدك الحقّ ، ولقاؤك حقّ، وقولك حقّ ، والجنّة حقّ ، والنار حقّ ، والنّبيّون حقّ ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حقّ ، والساعة حقّ ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدّم ، وأنت المؤخّر ، لا إله إلا أنت ، أو لا إله غيرك » وزاد في رواية : « ولا حول ولا قوة إلا بالله » .
ج - كيفية القراءة في قيام الليل :
16 - قال الحنفية والحنابلة : إنّ قائم الليل مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها ، غير أنّ الحنفية قالوا : إنّ الجهر أفضل ما لم يؤذ نائماً ونحوه ، وقال الحنابلة : إن كان الجهر أنشط له في القراءة ، أو كان بحضرته من يستمع قراءته ، أو ينتفع بها ، فالجهر أفضل ، وإن كان قريباً منه من يتهجد ، أو من يستضرّ برفع صوته ، فالإسرار أولى ، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء ، قال عبد الله بن أبي قيس : « سألت عائشة رضي الله تعالى عنها ، كيف كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كلّ ذلك قد كان يفعل ، ربما أسر بالقراءة ، وربما جهر » ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : « كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل يرفع طوراً ويخفض طوراً » .
وصرح المالكية بأنّه يندب الجهر في صلاة الليل ما لم يشوّش على مصلّ آخر ، وإلا حرم ، والسّرّ فيها خلاف الأولى .
وقال الشافعية : يسنّ التوسّط بين الإسرار والجهر إن لم يشوّش على نائم أو مصلّ أو نحوهما .
د - إيقاظ من يرجى تهجّده :
17 - نصَّ الشافعية على أنّه يستحبّ لمن قام يتهجد أن يوقظ من يطمع في تهجّده إذا لم يخف ضرراً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته ، فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين الله كثيراً ، والذاكرات » .
هـ - إطالة القيام وتكثير الركعات :
18 - ذهب جمهور الحنفية ، والمالكية في قول ، والشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة ، إلى أنّ طول القيام أفضل من كثرة العدد ، فمن صلى أربعاً مثلاً وطول القيام أفضل ممن صلى ثمانياً ولم يطوّله ، للمشقة الحاصلة بطول القيام ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصلاة طول القنوت » والقنوت : القيام .
ولأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته التهجّد ، وكان يطيله ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يداوم إلا على الأفضل .
وزاد الشافعية قولهم : هذا إن صلى قائماً ، فإن صلى قاعداً فالأقرب أنّ كثرة العدد أفضل ، لتساويهما في القعود الذي لا مشقة فيه ، حيث زادت كثرة العدد بالرّكوعات والسّجودات وغيرها .
وقال أبو يوسف من الحنفية : إذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل ، وأما إذا كان له ورد من القرآن يقرؤه ، فكثرة السّجود أفضل .
وذهب المالكية في الأظهر ، وهو وجه عند الحنابلة : إلى أنّ الأفضل كثرة الرّكوع والسّجود، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عليك بكثرة السّجود ، فإنّك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً ، وحط عنك بها خطيئةً » ; ولأنّ السّجود في نفسه أفضل وآكد ، بدليل أنّه يجب في الفرض والنّفل ، ولا يباح بحال إلا لله تعالى ، بخلاف القيام ، فإنّه يسقط في النّفل ، ويباح في غير الصلاة للوالدين ، والحاكم ، وسيّد القوم والاستكثار مما هو آكد وأفضل أولى .
وللحنابلة وجه ثالث ، وهو : أنّهما سواء ، لتعارض الأخبار في ذلك .
و - نية قيام الليل عند النّوم :
19 - صرح الشافعية والحنابلة بأنّه يندب أن ينوي الشخص قيام الليل عند النّوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى ، وكان نومه صدقةً عليه من ربّه عز وجل » .(/3)
قِيَام *
التعريف :
1 - القيام لغةً : من قام يقوم قوماً وقياماً : انتصب ، وهو نقيض الجلوس .
ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القعود :
2 - القعود في اللّغة : الجلوس ، أو هو من القيام ، والجلوس من الضّجعة ومن السّجود . ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
والصّلة بين القيام والقعود التضادّ .
ب - الاضطجاع :
3 - الاضطجاع : وضع الجنب بالأرض ، والاضطجاع في السّجود : أن يتضام ويلصق صدره بالأرض .
ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
والصّلة بين القيام والاضطجاع التضادّ .
الحكم التكليفيّ :
4 - يتردد حكم القيام في العبادات وغيرها بين أن يكون واجباً أو حراماً أو سنّةً أو مكروهاً أو مباحاً ، بحسب نوع الفعل المرتبط به ، والدليل الوارد فيه ، وتفصيل ذلك فيما يلي : القيام في الصلاة المفروضة :
5 - اتفق الفقهاء على أنّ القيام ركن في الصلاة المفروضة على القادر عليه ، وكذا عند الحنفية في العبادة الواجبة ، كنذر وسنّة صلاة الفجر في الأصحّ ، لقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } أي : مطيعين ، ومقتضى هذا الأمر الافتراض ; لأنّه لم يفرض القيام خارج الصلاة ، فوجب أن يراد به الافتراض الواقع في الصلاة . إعمالاً للنص في حقيقته حيث أمكن .
وأكدت السّنّة فرضية القيام فيما رواه الجماعة إلا مسلماً ، عن عمران بن حصين قال :
« كانت بي بواسير ، فسألت النّبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال : صلِّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » .
كيفية القيام :
6 - اتفق الفقهاء على أنّ القيام المطلوب شرعاً في الصلاة هو الانتصاب معتدلاً ، ولا يضرّ الانحناء القليل الذي لا يجعله أقرب إلى أقلّ الرّكوع بحيث لو مد يديه لا ينال ركبتيه .
مقدار القيام :
7 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنّ القيام المفروض للقادر عليه يكون بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة فقط ; لأنّ الفرض عندهم ذلك ; ولأنّ من عجز عن القراءة وبدلها من الذّكر ، وقف بقدرها ، وأما السّورة بعدها فهي سنّة .
فإن أدرك المأموم الإمام في الرّكوع فقط ، فالرّكن من القيام بقدر التحريمة ; لأنّ المسبوق يدرك فرض القيام بذلك ، وهذا رخصة في حقّ المسبوق خاصةً ، لإدراك الركعة .
وذهب الحنفية إلى أنّ فرض القيام وواجبه ومسنونه ومندوبه لقادر عليه وعلى السّجود يكون بقدر القراءة المطلوبة فيه ، وهو بقدر آية فرض ، وبقدر الفاتحة وسورة واجب ، وبطوال المفصل وأوساطه وقصاره في محالّها المطلوبة مسنون ، والزّيادة على ذلك في نحو تهجّد مندوب ، فلو قدر المصلّي على القيام دون السّجود ، ندب إيماؤه قاعداً ، لقربه من السّجود ، وجاز إيماؤه قائماً .
سقوط القيام :
8 - اتفق الفقهاء على أنّ القيام يسقط في الفرض والنافلة لعاجز عنه ، لمرض أو غيره ، لحديث عمران بن حصين المتقدّم : « صلِّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » .
فإن قدر المريض على بعض القراءة ولو آيةً قائماً ، لزمه بقدرها .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة المريض ف / 5 ، 6 ) .
ويسقط القيام أيضاً عند الحنفية والحنابلة عن العاري ، فإنّه يصلّي قاعداً بالإيماء إذا لم يجد ساتراً يستر به عورته ، خلافاً للمالكية والشافعية ، فإنّه يصلّي عندهم قائماً وجوباً . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عريان ف / 7 ) .
ويسقط القيام كذلك حالة شدة الخوف ، فيصلّي قاعداً أو موميًا ، ولا إعادة عليه اتّفاقاً . وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة الخوف ف / 9 ) .
الاستقلال في القيام :
9 - ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول عند الشافعية إلى اشتراط الاستقلال في القيام أثناء الصلاة للقادر عليه في الفرائض دون النّوافل ، على تفصيل :
فذهب الحنفية ، إلى أنّ من اتكأ على عصاه ، أو على حائط ونحوه ، بحيث يسقط لو زال لم تصح صلاته ، فإن كان لعذر صحت ، أما في التطوّع أو النافلة : فلا يشترط الاستقلال بالقيام ، سواء أكان لعذر أم لا ، إلا أنّ صلاته تكره ; لأنّه إساءة أدب ، وثوابه ينقص إن كان لغير عذر .
والقيام فرض بقدر التحريمة والقراءة المفروضة كما تقدم في فرض ، وملحق به كنذر وسنّة فجر في الأصحّ ، لقادر عليه وعلى السّجود .
وذهب المالكية إلى إيجاب القيام مستقلّاً في الفرائض للإمام والمنفرد حال تكبيرة الإحرام ، وقراءة الفاتحة ، والهويّ للرّكوع ، فلا يجزئ إيقاع تكبيرة الإحرام والفاتحة في الفرض للقادر على القيام جالساً أو منحنياً ، ولا قائماً مستنداً لعماد بحيث لو أزيل العماد لسقط ، وأما حال قراءة السّورة فالقيام سنّة ، فلو استند إلى شيء لو أزيل لسقط ، فإن كان في غير قراءة السّورة ، بطلت صلاته ; لأنّه لم يأت بالفرض الرّكنيّ ، وإن كان في حال قراءة السّورة لم تبطل ، وكره استناده ، ولو جلس في حال قراءة السّورة بطلت صلاته ; لإخلاله بهيئة الصلاة ، أما المأموم فلا يجب عليه القيام لقراءة الفاتحة ، فلو استند حال قراءتها لعمود بحيث لو أزيل لسقط ، صحت صلاته .
وأما الشافعية في الأصحّ فلم يشترطوا الاستقلال في القيام ، فلو استند المصلّي إلى شيء بحيث لو رفع السّناد لسقط أجزأه مع الكراهة ، لوجود اسم القيام ، والثاني يشترط ولا تصحّ مع الاستناد في حال القدرة بحال ، والوجه الثالث يجوز الاستناد إن كان بحيث لو رفع السّناد لم يسقط ، وإلا فلا .(/1)
وذهب الحنابلة إلى أنّه لو استند استناداً قويّاً على شيء بلا عذر ، بطلت صلاته ، والقيام فرض بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة في الركعة الأولى ، وفيما بعد الركعة الأولى بقدر قراءة الفاتحة فقط .
صلاة القاعد خلف القائم وبالعكس :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة القاعد لعذر خلف القائم ، لما ثبت في السّنّة من وقائع ، منها : ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً ، في ثوب ، متوشّحاً به » ومنها ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت : « صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً » .
وأما صلاة القائم خلف الجالس أو القاعد : فهي جائزة عند الحنفية والشافعية ; لأنّه صلى الله عليه وسلم « صلى آخر صلاته قاعداً والناس قيام ، وأبو بكر يأتمّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر وهي صلاة الظّهر » .
وذهب المالكية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية ، إلى عدم الجواز ، مستدلّين بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يَؤُمَّن أحد بعدي جالساً » ; ولأنّ حال القائم أقوى من حال القاعد ، ولا يجوز بناء القويّ على الضعيف ، إلا أنّ الحنابلة استثنوا من عدم الجواز إمام الحيّ المرجو زوال علته ، وهذا في غير النّفل ، أما في النّفل فيجوز اتّفاقاً .
القيام في النّوافل :
11 - اتفق الفقهاء على جواز التنفل قاعداً لعذر أو غير عذر ، أما الاضطجاع فقد ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشافعية إلى أنّه لا يجوز للقادر على القيام أو الجلوس أن يصلّي النّفل مضطجعاً إلا لعذر ، وذهب الشافعية إلى جواز التنفل مضطجعاً مع القدرة على القيام في الأصحّ ، لحديث عمران بن الحصين أنّه سأل النّبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً قال : « من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد » .
والأفضل أن يصلّي على شقّه الأيمن فإن اضطجع على الأيسر جاز ويلزمه أن يقعد للرّكوع والسّجود قيل : يومئ بهما أيضاً .
الجمع بين القيام والجلوس في الركعة الواحدة في صلاة التطوّع :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ للمصلّي تطوّعاً القيام إذا ابتدأ الصلاة جالساً ، لحديث عائشة رضي الله عنها : « أنّها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة الليل قاعداً قطّ حتى أسنّ ، فكان يقرأ قاعداً حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آيةً ، ثم ركع » .
ويجوز للمصلّي أيضاً أن يصلّي بعض الركعة قائماً ثم يجلس أو العكس .
وذهب أبو يوسف ومحمد إلى كراهة القعود بعد القيام ، ومنع أشهب الجلوس بعد أن نوى القيام .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة التطوّع فقرة / 20 ) .
القيام في الصلاة في السفينة :
13 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة والصاحبان من الحنفية وهو الأظهر في المذهب ، إلى أنّه لا تصحّ الصلاة فرضاً في السفينة ونحوها كالمحفة والهودج والطائرة والسيارة قاعداً إلا لعذر .
وقال أبو حنيفة : لو صلى في الفلك قاعداً بلا عذر صح لغلبة العجز وأساء ، أي يركع ويسجد لا مومئاً ، قال ابن عابدين : لغلبة العجز أي ; لأنّ دوران الرأس فيها غالب والغالب كالمتحقّق فأقيم مقامه ، ثم قال : وأساء : أشار إلى أنّ القيام أفضل ; لأنّه أبعد عن شبهة الخلاف .
والتفصيل في مصطلح ( سفينة ف / 3 ) .
القيام في الأذان والإقامة :
14 - اتفق الفقهاء على أنّه يندب للمؤذّن والمقيم أن يؤذّن ويقيم قائماً ، لحديث ابن عمر في حديث بدء الأذان « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال : يا بلال ، قم فناد بالصلاة » ; ولأنّه أبلغ في الإعلام ، وترك القيام مكروه .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( أذان ف 37/ ، وإقامة ف / 15 ) .
بقاء الداخل إلى المسجد قائماً أثناء الأذان :
15 - إذا دخل المسلم المسجد ، والمؤذّن يؤذّن ، فهل يظلّ قائماً أو يجلس ؟ للفقهاء اتّجاهان :
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّه إذا دخل المصلّي المسجد ، والمؤذّن قد شرع في الأذان ، لم يأت بتحية ولا بغيرها ، بل يجيب المؤذّن واقفاً ، حتى يفرغ من أذانه ، ليجمع بين أجر الإجابة والتحية .
وذهب الحنفية إلى أنّه إذا دخل المصلّي المسجد ، والمؤذّن يؤذّن أو يقيم قعد حتى يفرغ المؤذّن من أذانه ، فيصلّي التحية بعدئذ ، ليجمع بين أجر الإجابة وتحية المسجد .
وقت القيام للصلاة :
16 - ينبغي أن لا يقوم المصلّون للصلاة عند الإقامة حتى يقوم الإمام أو يقبل ، أي عند الإمام ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت » .
وأما تعيين وقت قيام المصلّين إلى الصلاة ، ففيه اختلاف بين المذاهب .
ذهب جمهور الحنفية ما عدا زفر إلى أنّ القيام للإمام والمؤتمّ حين قول المقيم : حي على الفلاح ، أي عند الحيعلة الثانية ، وعند زفر عند قوله : حي على الصلاة ، أي عند الحيعلة الأولى ; لأنّه أمر به فيجاب ، هذا إذا كان الإمام حاضراً بقرب المحراب ، فإن لم يكن حاضراً ، يقوم كلّ صفّ حين ينتهي إليه الإمام على الأظهر ، وإن دخل الإمام من قدام ، قاموا حين يقع بصرهم عليه ، وإن أقام الإمام بنفسه في مسجد ، فلا يقف المؤتمّون حتى يتم إقامته .(/2)
وذهب المالكية إلى أنّه يجوز للمصلّي القيام حال الإقامة أو أولها أو بعدها ، فلا يطلب له تعيين حال ، بل بقدر الطاقة للناس ، فمنهم الثقيل والخفيف ، إذ ليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنّه عليه الصلاة والسلام قال : « إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت » ، وقال ابن رشد : فإن صح هذا وجب العمل به ، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفوّ عنه ، أعني أنّه ليس فيها شرع ، وأنّه متى قام كلّ واحد ، فحسن . وذهب الشافعية إلى أنّه يستحبّ للمأموم والإمام أن لا يقوما حتى يفرغ المؤذّن من الإقامة ، وقال الماورديّ : ينبغي لمن كان شيخاً بطيء النّهضة أن يقوم عند قوله : قد قامت الصلاة، ولسريع النّهضة أن يقوم بعد الفراغ ، ليستووا قياماً في وقت واحد .
فإذا أقيمت الصلاة وليس الإمام مع القوم بل يخرج إليهم فإنّ المأمومين لا يقومون حتى يروا الإمام لما رواه أبو قتادة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت » .
ورأي الحنابلة : أنّه يستحبّ أن يقوم المصلّي عند قول المؤذّن : قد قامت الصلاة ، لما روي عن أنس : « أنّه كان يقوم إذا قال المؤذّن : قد قامت الصلاة » .
القيام في خطبة الجمعة والعيدين ونحوهما :
17 - اختلف الفقهاء في حكم قيام الخطيب في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء والكسوفين .
فذهب الحنفية والحنابلة وابن العربيّ من المالكية ، إلى أنّ قيام الخطيب في الخطبة سنّة ، لفعله صلى الله عليه وسلم ولم يجب ; لأنّه ذِكْر ليس من شرطه استقبال القبلة ، فلم يجب له القيام ، كالأذان .
وذهب الشافعية وأكثر المالكية إلى أنّ قيام الخطيب حال الخطبة شرط ، إن قدر ، وذهب الدردير من المالكية إلى أنّ الأظهر أنّ القيام واجب غير شرط ، فإن جلس أساء وصحت . وزاد الشافعية أنّه إن عجز عن القيام خطب قاعداً ثم مضطجعاً كالصلاة ، ويصحّ الاقتداء به، والأولى له أن يستنيب .
واستدلّوا للقيام في الخطبة بما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً ، ثم يجلس ، ثم يقوم كما يفعلون اليوم » .
وفي الحديث دليل على أنّ القيام حال الخطبة مشروع ، قال ابن المنذر ، وهو الذي عليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار .
القيام في حال تلاوة القرآن الكريم والذّكر :
18 - تجوز تلاوة القرآن الكريم وترداد الأذكار من تهليل وتسبيح وتحميد وغيرها في أيّ حال ، قياماً وقعوداً ، وفي حالة الوقوف والمشي ، قال الإمام النّوويّ رحمه الله : ولو قرأ القرآن قائماً ، أو راكباً ، أو جالساً ، أو مضطجعاً ، أو في فراشه ، أو على غير ذلك من الأحوال ، جاز ، وله أجر ، قال الله عز وجل : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } .
القيام للجنازة عند مرورها :
19 - اختلف الفقهاء في حكم القيام للجنازة عند مرورها :
فقال المالكية والحنابلة : يكره القيام للجنازة إذا مرّوا بها على جالس ; لأنّه ليس عليه عمل السلف .
وعند الحنفية : المختار أن لا يقوم لها ، وقال القليوبيّ : يندب القيام للجنازة على المعتمد ، وأن يدعو لها ويثني عليها خيراً ، إن كانت أهلاً له .
القيام عند الأكل والشّرب :
20 - ذهب الحنفية إلى كراهة الأكل والشّرب قائماً تنزيهاً ، واستثنوا الشّرب من زمزم والشّرب من ماء الوضوء بعده ، حيث نفوا الكراهة عنهما .
وذهب المالكية إلى أنّه يباح الأكل والشّرب قائماً .
وذهب الشافعية إلى أنّ شرب الشخص قائماً بلا عذر خلاف الأولى .
وذهب الحنابلة إلى عدم كراهة الشّرب قائماً ، أما الأكل قائماً فقد قال البهوتيّ : وظاهر كلامهم لا يكره أكله قائماً ، ويتوجه كشرب .
وفي رواية عندهم أنّه يكره الأكل والشّرب ، قائماً .
وسبب الاختلاف أنّه وردت أحاديث متعارضة في الأكل والشّرب قائماً .
منها : عن أنس : « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم زجر وفي رواية : نهى عن الشّرب قائماً » ، قال قتادة : فقلنا : فالأكل ، فقال : ذاك شرّ وأخبث " ، ويدلّ هذا الحديث على منع الأكل والشّرب قائماً .
وهناك أحاديث أخرى تجيز الأكل والشّرب قائماً وقاعداً وماشياً .
منها : ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كنّا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ، ونشرب ونحن قيام » .
ومنها : ما رواه ابن عباس قال : « شرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من زمزم وهو قائم » .
القيام حال التبوّل :
21 - يستحبّ باتّفاق الفقهاء أن يبول الإنسان قاعداً ; لأنّه أستر وأبعد من مماسة البول ; ولئلا يصيبه الرشاش ، فيتنجس ، ويكره البول قائماً عند جمهور الفقهاء إلا لعذر .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( قضاء الحاجة ف / 9 ) .
القيام للقادم والوالد والحاكم والعالم وأشراف القوم :
22 - ورد النهي عن القيام للقادم إذا كان بقصد المباهاة والسّمعة والكبرياء ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من سَرَّهُ أن يتمثل له الرّجال قياماً ، فليتبوأ مقعده من النار » ، وثبت جواز القيام للقادم إذا كان بقصد إكرام أهل الفضل ، لحديث أبي سعيد الخدريّ : « أنّ أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيّد الأوس - فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد ، فأتاه على حمار ، فلما دنا من المسجد ، قال للأنصار : قوموا إلى سيّدكم أو خيركم .. » .(/3)
قال النّوويّ في شرح صحيح مسلم معلّقاً على هذا الحديث : فيه إكرام أهل الفضل ، وتلقّيهم بالقيام لهم ، إذا أقبلوا ، واحتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام ، قال القاضي عياض : وليس هذا من القيام المنهيّ عنه ، وإنّما ذلك فيمن يقومون عليه ، وهو جالس ، ويمثلون قياماً طوال جلوسه ، وأضاف النّوويّ : قلت : القيام للقادم من أهل الفضل مستحبّ ، وقد جاء فيه أحاديث ، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح .
ويستحبّ القيام لأهل الفضل كالوالد والحاكم ; لأنّ احترام هؤلاء مطلوب شرعاً وأدباً .
وقال الشيخ وجيه الدّين أبو المعالي في شرح الهداية : وإكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنّة مستحبة .
ونقل ابن الحاجّ عن ابن رشد - في البيان والتحصيل - أنّ القيام يكون على أوجه :
الأول : يكون القيام محظوراً ، وهو أن يقوم إكباراً وتعظيماً لمن يحبّ أن يقام إليه تكبّراً وتجبراً .
الثاني : يكون مكروهاً ، وهو قيامه إكباراً وتعظيماً وإجلالاً لمن لا يحبّ أن يقام إليه ، ولا يتكبر على القائمين إليه .
الثالث : يكون جائزاً ، وهو أن يقوم تجلةً وإكباراً لمن لا يريد ذلك ، ولا يشبه حاله حال الجبابرة ، ويؤمن أن تتغير نفس المقوم إليه .
الرابع : يكون حسناً ، وهو أن يقوم لمن أتى من سفر فرحاً بقدومه ، أو للقادم عليه سروراً به لتهنئته بنعمة ، أو يكون قادماً ليعزّيه بمصاب ، وما أشبه ذلك .
وقال ابن القيّم : وقد قال العلماء : يستحبّ القيام للوالدين والإمام العادل وفضلاء الناس ، وقد صار هذا كالشّعار بين الأفاضل . فإذا تركه الإنسان في حقّ من يصلح أن يفعل في حقّه لم يأمن أن ينسبه إلى الإهانة والتقصير في حقّه ، فيوجب ذلك حقداً ، واستحباب هذا في حقّ القائم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك ، ويرى أنّه ليس بأهل لذلك .
وقال القليوبيّ : ويسنّ القيام لنحو عالم ومصالح وصديق وشريف لا لأجل غنىً ، وبحث بعضهم وجوب ذلك في هذه الأزمنة ; لأنّ تركه صار قطيعةً .
وقد ورد « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت فاطمة عليه قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها » .
وورد عن محمد بن هلال عن أبيه أنّه قال : « إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج قمنا له حتى يدخل بيته » .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : « خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكّئًا على عصاً ، فقمنا له ، فقال : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم ، يعظّم بعضها بعضاً » .
وورد عن أنس رضي الله عنه قال : لم يكن شخص أحب إليهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا ، لما يعلمون من كراهيته لذلك .
القيام في العقوبات :
إقامة الحدّ جلداً أو رجماً أثناء القيام أو القعود :
23 - إذا كان الحدّ جلداً في الزّنا والقذف ، فيقام الحدّ على الرجل قائماً ، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له ، سواء أثبت الزّنا ببينة أم بإقرار ، وتضرب المرأة قاعدةً عند الجمهور " الحنفية والشافعية والحنابلة " ; لأنّ ذلك أستر للمرأة ، ولقول عليّ رضي الله عنه : يضرب الرّجال في الحدود قياماً والنّساء قعوداً .
وذهب الإمام مالك إلى أنّ الرجل يضرب قاعداً ، وكذا المرأة .
وأما إذا كان الحدّ رجماً ، كما في رجم الزّناة المحصنين ، فترجم المرأة بالاتّفاق قاعدةً . ويخير الإمام عند الحنفية في الحفر لها : إن شاء حفر لها ، وإن شاء ترك الحفر ، أما الحفر ; فلأنّه أستر لها ، وقد روي « أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حفر للمرأة الغامدية إلى ثَنْدوتها » " أي ثديها " ، وأما ترك الحفر فلأنّ الحفر للستر ، وهي مستورة بثيابها ; لأنّها لا تجرد عند إقامة الحدّ .
وهذا قول بعض الحنابلة أيضاً بالحفر للمرأة إلى الصدر إن ثبت زناها بالبينة ، أما إن ثبت زناها بالإقرار ، فلم يحفر لها .
والأصحّ عند الشافعية استحباب الحفر للمرأة إن ثبت زناها بالبينة لئلا تنكشف ، بخلاف ما إذا ثبت زناها بالإقرار ، لتتمكن من الهرب إن رجعت عن إقرارها .
وذهب المالكية على المشهور والحنابلة على الراجح إلى أنّه لا يحفر للمرأة ولا للرجل ، لعدم ثبوته ، قال ابن قدامة : أكثر الأحاديث على ترك الحفر ، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز ولا لليهوديين .
وأما الرجل فيرجم عند الجمهور قائماً ، وقال مالك : يرجم قاعداً .(/4)
َكُرّاث *
التعريف :
1 - الكُرّاث لغةً بفتح الكاف وضمّها وتشديد الراء: بقل معروف خبيث الرائحة كريه العرق.
ويقال : الكَرَاث بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وهو ضرب من النبات واحدته كراثة وبه سمّي الرجل كراثةً .
قال أبو حنيفة الدينوريّ : الكَرَاث شجرة جبلية لها خضرة ناعمة ليّنة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البقل :
2 - وهو كلّ ما يُنبت الربيع ، وكلّ نبات اخضرت به الأرض ، وكلّ ما ينبت أصله وفرعه في الشّتاء فهو بقل .
فهو أعمّ من الكراث .
ب - الثّوم :
3 - بقلة معروفة قوية الرائحة ، وهي ببلد العرب كثيرة ، منها برّيّ ومنها ريفيّ ، واحدته ثومة .
والكراث والثّوم نوعان مختلفان من البقل .
ج - البصل :
4 - نبات معروف ينمو تحت الأرض وله جذور دقيقة ويؤكل نيئاً أو مطبوخاً ، واحدته بصلة .
وهو غير الكراث وهما نوعان مختلفان .
د - الفجل :
5 - بقلة حولية وله أرومة خبيثة الجشاء ، واحدته فُجْلة - بضمّ الفاء وسكون الجيم - وفُجُلة - بضمّ الفاء والجيم - .
وهو غير الكراث ، وهما نوعان مختلفان من البقول .
ما يتعلق بالكراث من أحكام :
حكم أكله وأثره في حضور الجماعة :
6- اتفق الفقهاء على أنّ من الأعذار التي تبيح التخلّف عن الجماعة : أكل كلّ ذي رائحة كريهة كبصل وثوم وكراث وفجل إذا تعذر زوال رائحته لحديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل من هذه البقلة الثّوم وقال مرةً : من أكل البصل والثّوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم » .
والتفصيل في مصطلح ( صلاة الجماعة ف / 33 ) .
7- وهذا الحكم فيمن أراد الذهاب إلى المسجد ، أما من لم يرد الذهاب للمسجد فصرح الفقهاء أيضاً بكراهية أكله إلا لمن قدر على إزالة ريحها .
قال ابن قدامة : ويكره أكل البصل والثّوم والكراث والفجل وكلّ ذي رائحة كريهة من أجل رائحته ، سواء أراد دخول المسجد أم لم يرد ، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس » .
وفي حاشية الدّسوقيّ : وأما أكله خارج المسجد في غير الجمعة فمكروه إن لم يرد الذهاب للمسجد ، وإن أراد الذهاب إلى المسجد فالمعتمد أنّه حرام .
وقال القليوبيّ : وأكلها مكروه في حقّه صلى الله عليه وسلم على الراجح وكذا في حقّنا ولو في غير المسجد . نعم . قال ابن حجر وشيخ الإسلام : لا يكره أكلها لمن قدر على إزالة ريحها ولا لمن لم يرد الاجتماع مع الناس ، ويحرم أكلها بقصد إسقاط واجب كالجمعة ويجب السعي في إزالة ريحها .
وحكى النّوويّ إجماع من يعتدّ به على أنّ هذه البقول حلال .
أكل الزوجة للكراث :
8 - صرح الفقهاء بأنّ من حقّ الزوج على زوجته أن يمنعها من أكل ما له رائحة كريهة كثوم أو بصل أو كراث لأنّه يمنع القبلة وكمال الاستمتاع .
ففي فتح القدير والفتاوى الهندية : وله أن يمنعها من أكل ما يتأذى من رائحته .
وفي الشرح الصغير : يجوز للزوج منعها من أكل كلّ ما له رائحة كريهة ما لم يأكله معها أو يكن فاقد الشمّ وأما هي فليس لها منعه من ذلك ولو لم تأكل .
وفي مغني المحتاج : وله منعها من أكل ما يتأذى من رائحته كبصل أو ثوم .
وفي كشاف القناع : وتمنع الزوجة من أكل ما له رائحة كريهة كبصل أو ثوم وكراث لأنّه يمنع كمال الاستمتاع .
وهناك قول للحنابلة أنّه ليس للزوج منع الزوجة من ذلك لأنّه لا يمنع الوطء .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( عشرة ف / 14 ) .
السلم في الكراث :
9 - اختلف الفقهاء في صحة السلم في البقول وألتي منها الكراث ، فذهب الحنفية وهو قول الحنابلة في المذهب إلى عدم صحة ذلك لأنّ البقول من ذوات الأمثال ; ولأنّها تختلف ولا يمكن تقديرها بالحزم .
وذهب المالكية والشافعية وهو رواية للحنابلة إلى صحة ذلك .
بيع الكراث :
10 - اتفق الفقهاء في الجملة على صحة بيع الكراث بعد بدوّ صلاحه لعموم حديث ابن عمر « أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتى يبدو صلاحها » .
ولهم في ذلك تفصيلات وخلاف ينظر في مصطلح ( بيع منهيّ عنه ف / 70 - 87 ) .(/1)
تكفين *
التّعريف :
1 - التّكفين : مصدر كفّن ، ومثله الكفن ، ومعناهما في اللّغة : التّغطية والسّتر .
ومنه : سمّي كفن الميّت ، لأنّه يستره . ومنه : تكفين الميّت أي لفّه بالكفن .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ تكفين الميّت بما يستره فرض على الكفاية ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم ، وكفّنوا فيها موتاكم » .
ولما روى البخاريّ عن خبّاب رضي الله عنه قال : « هاجرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه اللّه ، فوقع أجرنا على اللّه ، فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئا ، منهم : مصعب بن عمير ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهديها قتل يوم أحد ، فلم نجد ما نكفّنه إلّا بردة ، إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه ، فأمرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نغطّي رأسه ، وأن نجعل على رجليه من الإذخر » .
صفة الكفن :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الميّت يكفّن - بعد طهره - بشيء من جنس ما يجوز له لبسه في حال الحياة ، فيكفّن في الجائز من اللّباس .
ولا يجوز تكفين الرّجل بالحرير ، وأمّا المرأة فيجوز تكفينها فيه عند جمهور الفقهاء ، لأنّه يجوز لها لبسه في الحياة ، لكن مع الكراهة ، لأنّ فيه سرفاً ويشبه إضاعة المال ، بخلاف لبسها إيّاه في الحياة ، فإنّه مباح شرعاً .
وعند الحنابلة يحرم التّكفين فيه عند عدم الضّرورة ذكرا كان الميّت أو أنثى ، لأنّه إنّما أبيح الحرير للمرأة حال الحياة ، لأنّها محلّ زينة وقد زال بموتها .
ويستحبّ تحسين الكفن عند الحنفيّة والمالكيّة بأن يكفّن في ملبوس مثله في الجمع والأعياد ما لم يوص بأدنى منه ، فتتّبع وصيّته ، لما روى مسلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه » .
وأمّا عند الحنابلة فيجب أن يكفّن الميّت في ملبوس مثله في الجمع والأعياد إذا لم يوص بدونه ، لأمر الشّارع بتحسينه .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعتبر في الأكفان المباحة حال الميّت ، فإن كان مكثرا فمن جياد الثّياب ، وإن كان متوسّطا فأوسطها ، وإن كان مقلاً فخشنها .
وتجزئ جميع أنواع القماش ، والخلق إذا غسل والجديد سواء لما روي عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنّه قال : اغسلوا ثوبيّ هذين وكفّنوني فيهما فإنّهما للمهل والصّديد. والأفضل أن يكون التّكفين بالثّياب البيض ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم وكفّنوا فيها موتاكم » .
ويشترط في الكفن ألا يصف البشرة ، لأنّ ما يصفها غير ساتر فوجوده كعدمه ، ويكره إذا كان يحكي هيئة البدن ، وإن لم يصف البشرة .
وتكره المغالاة في الكفن ، لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تغالوا في الكفن فإنّه يسلب سلباً سريعاً » . كما يكره التّكفين بمزعفر ، ومعصفر ، وشعر ، وصوف مع القدرة على غيره ، لأنّه خلاف فعل السّلف .
ويحرم التّكفين بالجلود لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنزع الجلود عن الشّهداء ، وأن يدفنوا في ثيابهم . ولا يكفّن الميّت في متنجّس نجاسة لا يعفى عنها وإن جاز له لبسه خارج الصّلاة مع وجود طاهر ، ولو كان الطّاهر حريراً .
أنواع الكفن : ذهب الحنفيّة إلى أنّ الكفن ثلاثة أنواع :
1 - كفن السّنّة .
2 - كفن الكفاية .
3 - كفن الضّرورة .
4 - أ - كفن السّنّة : هو أكمل الأكفان ، وهو للرّجل ثلاثة أثواب : إزار وقميص ولفافة ، والقميص من أصل العنق إلى القدمين بلا دخريص ولا أكمام . والإزار للميّت من أعلى الرّأس إلى القدم بخلاف إزار الحيّ واللّفافة كذلك . لحديث جابر بن سمرة ، فإنّه قال :
« كفّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميص وإزار ولفافة » .
وللمرأة خمسة أثواب : قميص وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها ، لحديث أمّ ليلى بنت قانف الثّقفيّة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ناول اللّواتي غسّلن ابنته في كفنها ثوبا ثوبا حتّى ناولهنّ خمسة أثواب » ، ولأنّها تخرج فيها حالة الحياة ، فكذا بعد الممات . 5 - ب - كفن الكفاية : هو أدنى ما يلبس حال الحياة ، وهو ثوبان للرّجل في الأصحّ ، لقول أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه حين حضره الموت : كفّنوني في ثوبيّ هذين اللّذين كنت أصلّي فيهما ، واغسلوهما ، فإنّهما للمهل والتّراب .
ولأنّ أدنى ما يلبسه الرّجل في حالة الحياة ثوبان ، لأنّه يجوز له أن يخرج فيهما ، ويصلّي فيهما من غير كراهة ، فكذا يجوز أن يكفّن فيهما أيضاً .
ويكره أن يكفّن في ثوب واحد ، لأنّ في حالة الحياة تجوز صلاته في ثوب واحد مع الكراهة ، فكذا بعد الموت .
والمراهق كالرّجل يكفّن فيما يكفّن فيه الرّجل ، لأنّ المراهق في حال حياته يخرج فيما يخرج فيه البالغ عادة ، فكذا يكفّن فيه ، وإن كان صبيّا لم يراهق ، فإن كفّن في خرقتين إزار ورداء فحسن ، وإن كفّن في إزار واحد جاز ، لأنّه في حال حياته كان يجوز الاقتصار على ثوب واحد في حقّه فكذا بعد الموت .
وأمّا المرأة فأقلّ ما تكفّن فيه ثلاثة أثواب : إزار ورداء وخمار ، لأنّ معنى السّتر في حالة الحياة يحصل بثلاثة أثواب ، حتّى يجوز لها أن تصلّي فيها وتخرج ، فكذا بعد الموت . ويكره أن تكفّن المرأة في ثوبين .(/1)
وأمّا الصّغيرة فلا بأس بأن تكفّن في ثوبين ، والمراهقة بمنزلة البالغة في الكفن ، والسّقط يلفّ في خرقة ، لأنّه ليس له حرمة كاملة ، ولأنّ الشّرع إنّما ورد بتكفين الميّت ، واسم الميّت لا ينطلق عليه ، كما لا ينطلق على بعض الميّت .
6 - ج - الكفن الضّروريّ للرّجل والمرأة : هو مقدار ما يوجد حال الضّرورة أو العجز بأن كان لا يوجد غيره ، وأقلّه ما يعمّ البدن ، للحديث السّابق في تكفين مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وكذا روي « أنّ حمزة رضي الله عنه لمّا استشهد كفّن في ثوب واحد لم يوجد له غيره » فدلّ على الجواز عند الضّرورة .
7 - وأقلّ الكفن عند المالكيّة ثوب واحد ، وأكثره سبعة .
ويستحبّ الوتر في الكفن ، والأفضل أن يكفّن الرّجل بخمسة أثواب ، وهي : القميص والعمامة والإزار ولفافتان ، ويكره أن يزاد للرّجل عليها . والأفضل أن تكفّن المرأة في سبعة أثواب . درع وخمار وإزار وأربع لفائف ، وندب خمار يلفّ على رأس المرأة ووجهها بدل العمامة للرّجل ، وندب عذبة قدر ذراع تجعل على وجه الرّجل .
8 - وقال الشّافعيّة : أقلّ الكفن ثوب واحد وهو ما يستر العورة .
وفي قدر الثّوب الواجب وجهان : أحدهما : ما يستر العورة ، وهي ما بين السّرّة والرّكبة في الرّجل ، وما عدا الوجه والكفّين في المرأة .
والثّاني : ما يستر جميع بدنه إلا رأس المحرم ووجه المحرمة .
والمستحبّ أن يكفّن الرّجل في ثلاثة أثواب : إزار ولفافتين بيض ، ليس فيها قميص ولا عمامة ، لما روت عائشة رضي الله عنها ، قالت : « كفّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحوليّة ليس فيها قميص ولا عمامة » .
والبالغ والصّبيّ في ذلك سواء ، وإن كفّن في خمسة أثواب لم يكره ، لأنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يكفّن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة ، ولأنّ أكمل ثياب الحيّ خمسة ، ويكره الزّيادة على ذلك ، لأنّه سرف .
وأمّا المرأة فإنّها تكفّن عند الشّافعيّة في خمسة أثواب : إزار ودرع " قميص " وخمار ولفافتين ، لأنّه عليه الصلاة والسلام كفّن فيها ابنته أمّ كلثوم .
لما روت أمّ عطيّة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ناولها إزاراً ودرعاً وخماراً وثوبين » ، ويكره مجاوزة الخمسة في الرّجل والمرأة ، والخنثى كالمرأة .
9 - وقال الحنابلة : الكفن الواجب ثوب يستر جميع بدن الميّت رجلا كان أو امرأة ، والأفضل أن يكفّن الرّجل في ثلاث لفائف ، وتكره الزّيادة على ثلاثة أثواب في الكفن لما فيه من إضاعة المال ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه .
ويجوز التّكفين في ثوبين « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المحرم الّذي وقصته دابّته : اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبين » ، وكان سويد بن غفلة يقول : يكفّن في ثوبين . وقال أحمد : يكفّن الصّبيّ في خرقة ( أي ثوب واحد ) وإن كفّن في ثلاثة فلا بأس .
تعميم الميّت :
10 - الأفضل عند الشّافعيّة والحنابلة أن يكفّن الرّجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره ، فإن كان في الكفن عمامة لم يكره ، لكنّه خلاف الأولى .
وعند المالكيّة الأفضل أن يكفّن الرّجل بخمسة أثواب وهي : قميص وعمامة وإزار ولفافتان. وأمّا عند الحنفيّة فتكره العمامة في الأصحّ ، لأنّها لم تكن في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّها لو وجدت العمامة لصار الكفن شفعاً ، والسّنّة أن يكون وتراً ، واستحسنها المتأخّرون من الحنفيّة ، لما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يعمّم الميّت من أهله ويجعل العذبة على وجهه .
على من يجب الكفن :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ كفن الميّت في ماله إن كان له مال ويكفّن من جميع ماله إلا حقّاً تعلّق بعين كالرّهن ، ويقدّم على الوصيّة والميراث ، لأنّ هذا من أصول حوائج الميّت فصار كنفقته في حال حياته وهي مقدّمة على سائر الواجبات .
وإن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته - وإذا تعدّد من وجبت النّفقة عليه فيكون كفنه عليهم ، على ما يعرف في باب النّفقات - كما تلزم كسوته في حال حياته .
وإن لم يكن له مال ولا من ينفق عليه فكفنه في بيت المال ، كنفقته في حال حياته لأنّه أعدّ لحوائج المسلمين .
وإن لم يكن في بيت المال فعلى المسلمين تكفينه ، فإن عجزوا سألوا النّاس ، وإن لم يوجد ذلك غسّل وجعل عليه الإذخر - أو نحوه من النّبات - ودفن ويصلّى على قبره .
وعلى الزّوج تكفين زوجته عند الحنفيّة على قول مفتى به ، والمالكيّة في قول ، والشّافعيّة في الأصحّ ، لأنّ نفقة الزّوجة واجبة على زوجها في حال حياتها ، فكذلك التّكفين وعلّلوا ذلك بأنّ التّفريق في هذا بين الموت والحياة غير معقول .
وأمّا عند المالكيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة ، فلا يلزم الزّوج كفن امرأته ولا مؤنة تجهيزها ، لأنّ النّفقة والكسوة وجبا في حالة الزّواج وقد انقطع بالموت فأشبهت الأجنبيّة . ولا يجب على المرأة كفن زوجها بالإجماع ، كما لا يجب عليها كسوته في حال الحياة .
كيفيّة تكفين الرّجل :(/2)
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الأكفان تجمّر أي تطيّب أوّلا وتراً قبل التّكفين بها ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا أجْمرْتُم الميّت فأجمروا وتراً » ولأنّ الثّوب الجديد أو الغسيل ممّا يطيّب ويجمّر في حالة الحياة ، فكذا بعد الممات ، ثمّ المستحبّ أن تؤخذ أحسن اللّفائف وأوسعها فتبسط أوّلا ليكون الظّاهر للنّاس حسنها ، فإنّ هذا عادة الحيّ يجعل الظّاهر أفخر ثيابه . ويجعل عليها حنوط ، ثمّ تبسط الثّانية الّتي تليها في الحسن والسّعة عليها ، ويجعل فوقها حنوط وكافور ثمّ تبسط فوقهما الثّالثة ويجعل فوقها حنوط وكافور ، ولا يجعل على وجه العليا ولا على النّعش شيء من الحنوط ، لأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال :" لا تجعلوا على أكفاني حنوطا " ، ثمّ يحمل الميّت مستورا بثوب ويترك على الكفن مستلقيا على ظهره بعد ما يجفّف ، ويؤخذ قطن فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ويشدّ عليه كما يشدّ التّبّان .
ويستحبّ أن يؤخذ القطن ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى جراح نافذة إن وجدت عليه ليخفى ما يظهر من رائحته ، ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السّجود ، كما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال :" تتبع مساجده بالطّيب " ولأنّ هذه المواضع شرّفت بالسّجود فخصّت بالطّيب .
ويستحبّ أن يحنّط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحيّ إذا تطيّب ، ثمّ يلفّ الكفن عليه بأن يثنى من الثّوب الّذي يلي الميّت طرفه الّذي يلي شقّه الأيسر على شقّه الأيمن ، والّذي يلي الأيمن على الأيسر ، كما يفعل الحيّ بالقباء ، ثمّ يلفّ الثّاني والثّالث كذلك ، وإذا لفّ الكفن عليه جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة ، وردّ على وجهه وصدره إلى حيث بلغ ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والسّاقين ، ثمّ تشدّ الأكفان عليه بشداد خيفة انتشارها عند الحمل ، فإذا وضع في القبر حلّ الشّداد ، هذا عند الشّافعيّة والحنابلة .
أمّا عند الحنفيّة فكذلك إلّا أنّه يلبس القميص أوّلا إن كان له قميص ثمّ يعطف الإزار عليه بمثل ما سبق ثمّ تعطف اللّفافة وهي الرّداء كذلك .
أمّا عند المالكيّة فيكون الإزار من فوق السّرّة إلى نصف السّاق تحت القميص واللّفائف فوق ذلك على ما تقدّم ويزاد عليها الحفاظ وهي خرقة تشدّ على قطن بين فخذيه خيفة ما يخرج من المخرجين ، واللّثام وهو خرقة توضع على قطن يجعل على فمه وأنفه خيفة ما يخرج منهما .
كيفيّة تكفين المرأة :
12 م - وأمّا تكفين المرأة فقال الحنفيّة : تبسط لها اللّفافة والإزار على ما تقدّم في الرّجل ، ثمّ توضع على الإزار وتلبس الدّرع ، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدّرع ، ويسدل شعرها ما بين ثدييها من الجانبين جميعا تحت الخمار ، ولا يسدل شعرها خلف ظهرها ، ثمّ يجعل الخمار فوق ذلك ، ثمّ يعطف الإزار واللّفافة كما قالوا في الرّجل : ثمّ الخرقة فوق ذلك تربط فوق الأكفان فوق الثّديين والبطن .
وذهب المالكيّة إلى أنّها تلبس الإزار من تحت إبطيها إلى كعبيها ، ثمّ تلبس القميص ، ثمّ تخمّر بخمار يخمّر به رأسها ورقبتها ، ثمّ تلفّ بأربع لفائف ، ويزاد عليها الحفاظ واللّثام . وعند الشّافعيّة على المفتى به تؤزّر بإزار ، ثمّ تلبس الدّرع ، ثمّ تخمّر بخمار ، ثمّ تدرّج في ثوبين ، قال الشّافعيّ رحمه الله : ويشدّ على صدرها ثوب ليضمّ ثيابها فلا تنتشر .
وأمّا عند الحنابلة ، فتشدّ الخرقة على فخذيها أوّلا ، ثمّ تؤزّر بالمئزر ، ثمّ تلبس القميص ، ثمّ تخمّر بالمقنعة ثمّ تلفّ بلفافتين على الأصحّ .
كيفيّة تكفين المحرم والمحرمة :
13 - قال الشّافعيّة والحنابلة : إذا مات المحرم والمحرمة حرم تطييبهما وأخذ شيء من شعرهما أو ظفرهما ، وحرم ستر رأس الرّجل وإلباسه مخيطا . وحرم ستر وجه المحرمة لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الّذي وقصته ناقته فمات : اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه اللّذين مات فيهما ، ولا تمسّوه بطيب ، ولا تخمّروا رأسه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » .
وعند الحنفيّة والمالكيّة يكفّن المحرم والمحرمة ، كما يكفّن غير المحرم أي يغطّى رأسه ووجهه ويطيّب ، لما روي عن عطاء عن ابن عبّاس « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في المحرم يموت : خمّروهم ولا تشبّهوهم باليهود » . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال في المحرم : إذا مات انقطع إحرامه ،
ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية ، أو علم ينتفع به » . والإحرام ليس من هذه الثّلاثة .
تكفين الشّهيد :(/3)
14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ شهيد المعركة - الّذي قتله المشركون ، أو وجد بالمعركة جريحا ، أو قتله المسلمون ظلماً ولم يجب فيه مال - يكفّن في ثيابه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « زمّلوهم بدمائهم » وقد روي في ثيابهم ، وعن عمّار وزيد بن صوحان أنّهما قالا : لا تنزعوا عنّي ثوبا . . الحديث ، غير أنّه ينزع عنه الجلود والسّلاح والفرو والحشو والخفّ والمنطقة والقلنسوة ". لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال :" تنزع عنه العمامة والخفّان والقلنسوة ، ولما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم » ولأنّ هذه الأشياء الّتي أمر بنزعها ليست من جنس الكفن ، ولأنّ المراد من قوله صلى الله عليه وسلم « زمّلوهم بثيابهم » الثّياب الّتي يكفّن بها وتلبس للسّتر ، ولأنّ الدّفن بالسّلاح وما ذكر معه كان من عادة أهل الجاهليّة ، فإنّهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التّشبّه بهم .
ويجوز أن يزاد في أكفانهم أو ينقص على أن لا يخرج عن كفن السّنّة ، لما روي عن خبّاب أنّ « حمزة رضي الله عنه لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتّى مدّت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر » .
وذاك زيادة ، ولأنّ الزّيادة على ما عليه حتّى يبلغ عدد السّنّة من باب الكمال وأمّا النّقصان فهو من باب دفع الضّرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثّياب ما يضرّ بالورثة تركه عليه .
وعند المالكيّة . أنّ شهيد المعركة يدفن بثيابه الّتي مات فيها وجوبا إن كانت مباحة وإلا فلا يدفن بها ، ويشترط أن تستره كلّه فتمنع الزّيادة عليها ، فإن لم تستره زيد عليها ما يستره ، فإن وجد عريانا ستر جميع جسده .
قال ابن رشد : من عرّاه العدوّ فلا رخصة في ترك تكفينه بل ذلك لازم . وأمّا الزّيادة على ثيابه إذا كان فيها ما يجزيه فلا بأس بها ، وليس لوليّه نزع ثيابه وتكفينه بغيرها .
ويندب دفنه بخفّ وقلنسوة ومنطقة - ما يحتزم به في وسطه - إن قلّ ثمنها وخاتم قلّ ثمنه ، ولا يدفن الشّهيد بآلة حرب قتل وهي معه كدرع وسلاح .
وقال الحنابلة : إنّ شهيد المعركة يجب دفنه في ثيابه الّتي قتل فيها ولو كانت حريراً على ظاهر المذهب . وينزع السّلاح والجلود والفرو والخفّ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنه السّابق ، ولا يزاد في ثياب الشّهيد ولا ينقص منها ، ولو لم يحصل المسنون بها لنقصها أو زيادتها . وذكر القاضي في تخريجه أنّه لا بأس بهما ، وجاء في المبدع : فإن سلب ما على الشّهيد من الثّياب ، كفّن بغيرها وجوبا كغيره .
وقال الشّافعيّة : يكفّن شهيد المعركة ندبا في ثيابه لخبر أبي داود بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه قال : « رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو قال : ونحن مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم » والمراد ثيابه الّتي مات فيها واعتاد لبسها غالبا ، وإن لم تكن ملطّخة بالدّم ، ويفهم من عبارتهم أنّه لا يجب تكفينه في ثيابه الّتي كانت عليه وقت استشهاده بل هو أمر مندوب إليه فيجوز أن يكفّن كسائر الموتى ، فإن لم يكن ما عليه سابغا أي ساترا لجميع بدنه تمّم وجوباً ، لأنّه حقّ للميّت ، ويندب نزع آلة الحرب عنه كدرع وخفّ ، وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالبا كجلد وفرو وجبّة محشوّة .
وأمّا شهداء غير المعركة كالغريق والحريق والمبطون والغريب فيكفّن كسائر الموتى وذلك باتّفاق جميع الفقهاء .
إعداد الكفن مقدّماً :
15 - في البخاريّ : عن ابن أبي حازم عن سهل رضي الله عنه : « أنّ امرأة جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها . . . فحسّنها فلان فقال : أكسنيها ما أحسنها . قال القوم : ما أحسنت ، لبسها النّبيّ صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ، ثمّ سألته ، وعلمت أنّه لا يردّ ، قال : إنّي واللّه ما سألته لألبسها ، إنّما سألته لتكون كفني ، قال سهل : فكانت كفنه » .
وهذا الحديث دليل على الجواز ، لعدم إنكار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك .
وفي حاشية ابن عابدين . وينبغي أن لا يكره تهيئة الكفن لأنّ الحاجة إليه متحقّقة غالباً .
وقال الشّافعيّة : لا يندب أن يعدّ لنفسه كفناً لئلا يحاسب على اتّخاذه إلا أن يكون من جهة حلّ أو أثر من ذي صلاح فحسن إعداده ، لكن لا يجب تكفينه فيه كما اقتضاه كلام القاضي أبي الطّيّب وغيره ، بل للوارث إبداله . ولهذا لو نزعت الثّياب الملطّخة بالدّم عن الشّهيد وكفّن في غيرها جاز مع أنّ فيها أثر العبادة الشّاهدة له بالشّهادة ، فهذا أولى .
إعادة تكفين الميّت :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو كفّن الميّت فسرق الكفن قبل الدّفن أو بعده كفّن كفنا ثانيا من ماله أو من مال من عليه نفقته أو من بيت المال ، لأنّ العلّة في المرّة الأولى الحاجة وهي موجودة في الحالة الثّانية .
القطع بسرقة الكفن :
17 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى قطع النّبّاش إذا تحقّقت شروط القطع في السّرقة ، لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من حرّق حرّقناه ، ومن غرّق غرّقناه ، ومن نبش قطعناه » .
ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سارق أمواتنا كسارق أحيائنا لأنّ القبر حرز للكفن ، وإن كان الكفن زائداً على كفن السّنّة أو دفن في تابوت فسرق التّابوت لم يقطع ، لأنّ ما زاد على المشروع في الكفن لم يجعل القبر حرزاً له وكذلك التّابوت .(/4)