وقال البيهقي: عافية مجهول، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحًا، وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: رأيت بخط شيخنا المنذري أنه قال: عافية ابن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه (انظر نصب الراية: 2/374، 375 والمراعاة على المشكاة: 3/82).
خامسًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكم" (رواه البخاري في باب "صلاة العيدين" من صحيحه مطولاً، ثم ذكره في الزكاة - باب "الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر"- انظر "فتح الباري": 3/210، 211، ورواه الترمذي في كتاب "الزكاة" -باب "ما جاء في زكاة الحلي"- انظر "صحيح الترمذي بشرح ابن العربى": 3/129) (رواه البخاري والترمذي وغيرهما) قال ابن العربى: هذا الحديث يوجب بظاهره أن لا زكاة في الحلي، بقوله للنساء: "تصدقن ولو من حليكم" ولو كانت الصدقة فيه واجبة لما ضرب المثل به صدقة التطوع (شرح الترمذي: 3/130، 131) يعنى أنه لا يحسن أن يقال: تصدقوا ولو من الإبل السائمة أو تصدقوا ولو مما أخرجت الأرض من القمح أو مما أثمرت النخيل من التمر، ما دامت الصدقة من هذه الأشياء لازمة ومفروضة، إنما يقال مثلاً: تصدق ولو من لبن بقرتك، تصدق ولو من طعامك وزادك، ونحو ذلك مما لا تجب فيه الزكاة المفروضة.
مناقشة وترجيح قول المانعين لوجوب الزكاة في الحلي
والذي أرجحه بعد هذا المعترك الفقهي: أن قول المانعين لوجوب الزكاة في الحلي أقوى وأولى، مع تفصيل وقيود سأذكرها.
فهذا القول هو الذي يوافق المبادئ العامة في وعاء (الوعاء: كلمة يستعملها رجال المالية والضرائب في الأموال التي تفرض عليها الضرائب وهذا هو المصطلح الشائع في مصر وفي بعض البلاد العربية الأخرى كسوريا يستخدمون بدلها: المطرح أو المصدر) الزكاة، ويجعل لها نظرية مطردة ثابتة، وهى نظرية الوجوب في المال النامي بالفعل، أو الذي من شأنه أن ينمى، كالنقود، فهي مال قابل لأن ينمى، بل يجب أن ينمى ولا يكنز فيستحق صاحبه العذاب بخلاف الحلي المباح للمرأة المعتاد لمثلها، فإنه زينة ومتاع شخصي لها، يشبع حاجة من حوائجها التي فطرها الله عليها، وهى الرغبة في التزين والتجمل وقد راعى الإسلام هذه الحاجة الفطرية، فأباح لها من ذلك ما حرم على الرجال من الذهب والحرير.
وإذن يكون الحلي للمرأة كالثياب الأنيقة، والأثاث الفاخر، وألوان الزينات والأمتعة الرائعة التي تقتنيها في البيت مما ليس محرمًا عليها.
بل يكون حلى الذهب والفضة هنا كحلي الجواهر واللآلئ والأحجار الكريمة التي تلبسها وتتحلى بها، وقد أباحها الله بنص القرآن (في مثل قوله تعالى في الآية "14" من سورة النحل: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها).
وهذه اللآلئ والجواهر الغالية، وتلك الثياب والأمتعة الثمينة -معفاة من وجوب الزكاة بإجماع الأئمة مع أنها مال عظيم، له قيمة كبيرة.
ولكن الزكاة -كما تبين لنا من الهدى النبوي- لا تجب في كل مال، وإنما تجب -كما قلنا- في المال النامي أو القابل للنماء وما ذلك إلا ليبقى الأصل، وتؤخذ الزكاة من النماء والفضل ولهذا شرط السوم في الماشية، وشرط النماء والفضل عن الحوائج الأصلية وأعفيت دور السكنى ودواب الركوب وأدوات الاستعمال من الزكاة اتفاقًا.
ولقد قرر فقهاء الحنفية أنفسهم -الموجبون للزكاة في الحلي- أن سبب وجوب الزكاة هو: ملك مال معد مرصد للنماء والزيادة فاضل عن الحاجة (انظر البحر الرائق: 2/218).
فهل ينطبق هذا على حلى المرأة المباح، وهو ليس مرصدًا للنماء والزيادة، ولا فاضلاً، ما دام مستعملاً في حدود القدر المعتاد لمثلها؟
ولقد أسقط الحنفية أيضًا الزكاة عن "المواشي العاملة" في السقي والحرث ونحوها مع وجوب الزكاة في كنسها المتخذ للنماء وهو السائمة -لأنها صرفت عن جهة النماء إلى الاستعمال، فأصبحت كالأدوات والأشياء المعدة للانتفاع الشخصي، وهو القول الراجح لما بيناه فى موضعه.
فكيف جاز عند الحنفية -وهم أصحاب قياس- أن يسقطوا الزكاة عن العوامل، ويوجبوها في الحلي المباح، وهما من باب واحد؟
إن يقيني أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ثبت تماثلهما وإذا رأينا هذه التفرقة في قضية دل ذلك على خطأ في تصورنا وحكمنا ولهذا احتج أبو عبيد على من أوجب زكاة الحلي وأسقط زكاة العوامل بأنه فرق بين متماثلين، كما سيأتي.
وأوضح من ذلك: أنه يستبعد في حكم الشريعة العادلة: أن يعفى من الزكاة حلى اللؤلؤ والماس والجواهر الثمينة، التي يقدر الفص الواحد منها بآلاف الدنانير، ولا يتحلى بها عادة إلا النساء الثريات والمقتدرات، وزوجات الأثرياء الكبار وبناتهم ثم توجب الشريعة الزكاة في حلى الذهب والفضة، التي يتحلى بها عادة المتوسطات الحال، بل كثير من الفقيرات، كما نرى في نساء الريف والقرى، وزوجات الفلاحين والعمال ورقاق الحال إلى اليوم؟
هل يعقل أن تبيح الشريعة الغراء لهؤلاء النساء الاستمتاع بحلي الذهب والفضة ثم تأتي فتفرض عليهن إخراج ربع عشره في كل عام، على حين تعفى أرباب اللؤلؤ والماس ونحوهما؟
إن الذي نعقله هو إعفاء هؤلاء وأولئك جميعًا؛ لأن هذا الحلي وذاك متاع شخصي، وليس مالاً مرصدًا للنماء.
لقد كان الإمام الهادي -من الزيدية- منطقيًا مع نفسه حين ذهب إلى وجوب الزكاة في حلى الذهب والفضة وفي الجواهر واللآلئ جميعًا؛ إذ لم يجد فرقًا معتبرًا بينهما أما إعفاء أحد الصنفين إعفاء كليًا، وإيجاب الزكاة في الآخر، فلا يسوغ في منطق من يرون تعليل أحكام الشريعة، ويرون أنها لا تفرق بين متماثلين، وهم الجمهور الأعظم من الأئمة.(/71)
ومما يعضد ما رجحناه: أن القاعدة في كل مال: أن يؤخذ زكاته منه نفسه؛ من الأصل والنماء معًا، أو من النماء فقط ولا يخرج عن هذه القاعدة، إلا لضرورة، كما في أخذ السياه من الإبل إذا كانت أقل من خمس وعشرين وقد وضحنا حكمة ذلك في زكاة الإبل.
وهنا كيف تستطيع المرأة إخراج الزكاة من حليها إذا كانت لا تملك غيره، كما هو شأن الكثيرات ؟ إن معنى ذلك: أن تكلف بيعه أو بيع جزء منه، أو بيع شيء آخر من متاعها، حتى يمكنها أداء ما وجب عليه فيه.
فهل جاءت الشريعة بمثل هذا في باب الزكاة كله، فيما عدا ما ذكرناه من قضية الإبل والشياه؟ هل كلفت الشريعة المزكى أن يدفع زكاة ماله من مال آخر؟ أو كلفته ببيع ماله ليدفع منه الزكاة؟
ذلك ما لم تجيء به الشريعة فيما رأيت، فكيف خالفت هذا الأصل هنا؟
وكل هذا تأييد لنظرية "المال النامي" الذي يفترض أن تؤخذ الزكاة من نمائه ليبقى الأصل سالمًا لصاحبه، ومصدر دخله متجدد له.
إن نتيجة إيجاب الزكاة في الحلي -وهو لا ينمى- أن نأتي على مقدار ثمنه في جملة سنين، وهذا ما أخبر به بعض من أوجب فيه الزكاة، فقد سئل ميمون بن مهران عن زكاة الحلي، فقال: "إن لنا طوقًا، لقد زكيته حتى آتى على نحو من ثمنه" (الأموال ص 442) وأرى أن روح الشريعة في الزكاة تأبى هذا.
وإذا كان وجوب الزكاة في المال يدور على النماء تبين لنا صحة ما ذكره ابن العربى في أحكام القرآن: "أن قصد النماء لما أوجب الزكاة في العروض وهى ليست بمحل لإيجاب الزكاة -كذلك قصد قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذها حليًا يسقط الزكاة، فإن ما أوجب ما لم يجب يصلح لإسقاط ما وجب، وتخصيص ما عم وشمل" أ هـ (أحكام القرآن لابن العربى: 2/919، وانظر شرح الترمذي له: 3/131).
على أن النصوص التي أوجبت الزكاة في الفضة والذهب إنما لاحظت فيهما اعتبار "الثمينة" ولهذا عبرت عن الفضة بالورق والرقة -وهي النقود الفضية- وعبرت عن الذهب بالدنانير -وهي النقود الذهبية- حتى الآية الكريمة التي تقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (التوبة: 34) يدل ذكر الكنز والإنفاق فيها على أن المراد بالذهب والفضة فيها: النقود، لأنها هي التي تكنز وتنفق، أما الحلي المعتاد المستعمل، فلا يعتبر كنزًا، كما أنه ليس معدًا للإنفاق بطبيعته.
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره وأيده الفقيه الحجة الإمام أبو عبيد في كتابه القيم "الأموال" ويحسن بي أن أسوق هنا نص عبارته لما فيها من نصاعة الحق وقوة الدليل، قال رحمه الله:
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا بلغت الرقة خمس أواق ففيها ربع العشر" فخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة: "الرقة" من بين الفضة، وأعرض عن ذكر ما سواه فلم يقل -إذا بلغت كذا ففيها كذا، ولكنه اشترط الرقة من بينها ولا يعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق (الفضة) المنقوشة، ذات السكة السائرة في الناس (يجب أن نذكر أن أبا عبيد إمام في اللغة، كما هو في الفقه والأثر، وله كتاب "غريب الحديث" صنعه في أربعين سنة، وقد طبع في حيدر آباد بالهند عام 1384هـ (1964م) وظهر منه ثلاثة أجزاء من أربعة) (يعني النقود الفضية).
"وكذلك والأواقي ليس معناها إلا الدراهم، كل أوقية أربعون درهمًا، ثم أجمع المسلمون على الدنانير المضروبة أن الزكاة واجبة عليه كالدراهم، وقد ذكر الدنانير أيضًا في بعض الحديث المرفوع (ذكرنا أشهرها فى نصاب النقود).
"فلم يختلف المسلمون فيهما، واختلفوا في الحلى، وذلك أنه يستمتع به ويكون جمالاً، وأن العين (نقد الذهب)، والورق (نقد الفضة) لا يصلحان لشيء من الأشياء إلا أن يكونا ثمنًا لها، ولا ينتفع منهما بأكثر من الإنفاق لهما، فبهذا بان حكمهما من حكم الحلي الذي يكون زينة ومتاعًا فصار هنا كسائر الأثاث والأمتعة، فلهذا أسقط الزكاة عنه من أسقطها.
"ولهذا المعنى قال أهل العراق: لا صدقة في الإبل والبقر العوامل، لأنها شبهت بالمماليك والأمتعة، ثم أوجبوا الصدقة في الحلي.
"وأوجب أهل الحجاز الصدقة في الإبل والبقر العوامل، وأسقطوها عن الحلي وكلا الفريقين قد كان يلزمه أن يجعلهما واحدًا: إما إسقاط الصدقة عنهما جميعًا، وإما إيجابها فيهما جميعًا.
"وكذلك هما عندنا، سبيلهما واحد، لا تجب الصدقة عليهما، لما قصصنا من أمرهما فأما الحديث المرفوع الذي ذكرناه أول هذا الباب، حين قال للمرأة اليمانية، ذات المسكتين من ذهب: "أتعطين زكاته" ؟ فإن هذا الحديث لا نعلمه يروى إلا من وجه بإسناد قد تكلم الناس فيه قديمًا وحديثًا (قد سبق أن الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعمرو بن شعيب بن محمد ابن عبد الله بن عمرو بن العاص أحد علماء زمانه (ت 118 هـ) اختلف في توثيقه وتضعيفه، فممن وثقه ابن معين، وابن راهويه والأوزاعى، وصالح جزرة، وذكر البخاري في تاريخه توثيقه، ومع هذا لم يحتج به في جامعه.
وعن أحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب له مناكير، وإنما نكتب حديثه لنعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا وقال عنه مرة أخرى: ربما احتججنا بحديثه، وربما وجس في القلب منه.
وقال أبو زرعة: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، قالوا: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، كما عيب عليه أنه كان لا يسمع بشيء إلا حدث به.
سئل ابن المدني عنه فقال: ما روى عنه أيوب وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روى عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده، فهو ضعيف، وعن يحيى بن معين نحوه.(/72)
وقال ابن حبان: إذا روى عن الثقات غير أبيه يجوز الاحتجاج به، وإذا روى عن أبيه عن جده، ففيه مناكير كثيرة، فلا يجوز عندي الاحتجاج بذلك.
وانتهى الذهبي في "الميزان" إلى أن حديثه من قبيل الحسن (ميزان الاعتدال: 3/263 - 268).
وقال الحافظ في الفتح: ترجمة عمرو قوية على المختار، ولكنه حيث لا تعارض (أ هـ) وهنا قد عورضت بما صح عن عائشة وابن عمر وجابر وغيرهم من الصحابة من عدم إخراج زكاة الحلي، وقد عاصر عبد الله بن عمرو -جد شعيب أبى عمرو- هؤلاء الصحابة، فلم يلزمهم بما سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن المرأة وابنتها ولو فعل لرجعوا عن أقوالهم، ولنقل ذلك والله أعلم)، فإن يكن الأمر على ما روى، وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محفوظًا، فقد يحتمل معناه أن يكون أراد بالزكاة العارية، كما فسرته العلماء الذين ذكرناهم: سعيد بن المسيب والشعبي والحسن وقتادة في قولهم: "زكاته عاريته" (كان من عادة العرب إذا زفت عروس لا تستطيع أن تزين نفسها أو يزينها أهلها بالحلي المعتاد في العرس أن يعيرها أقاربها وجيرانها من حليهم ما تتزين به ليلة العرس، بل كن يستعرن الثياب الجميلة أيضًا كما جاء ذلك في حديث عن عائشة رضي الله عنها وفى عصرنا تؤجر بعض المحلات "فساتين" الزفاف وما يكملها من أدوات، للعرائس بأجور عالية، ليعدنها بعد العرس فحبذا لو نظمت بعض الجمعيات الخيرية النسائية إعارة الحلي ونحوه من الفساتين التي تهمل بعد الزفاف ولا تلبس- لمن يحتجن إليه، مع اتخاذ الضمانات اللازمة ويكون ذلك نوعًا من الزكاة).
ولو كانت الزكاة في الحلي فرضًا، كفرض الرقة لما اقتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك على أن يقوله لامرأة يخصها به عند رؤية الحلي عليها دون الناس، ولكان هذا كسائر الصدقات الشائعة المنتشرة عنه في العالم من كتبه وسننه، ولفعلته الأئمة بعده، وقد كان الحلي من فعل الناس في آباد الدهر، فلم نسمع له ذكرًا في شيء من كتب صدقاتهم.
"وكذلك حديث عائشة في قولها: "لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته" لا وجه له عندي سوى العارية، لأن القاسم بن محمد بن أخيها -كان ينكر عليها أن تكون أمرت بذلك أحدًا من نسائها أو بنات أخيها ولم تصح زكاة الحلي عندنا عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود، فأما حديث عبد الله بن عمرو في تزكيته حلى بناته، ففي إسناده نحو مما في إسناد الحديث المرفوع.
"والقول الآخر هو عن عائشة وابن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك ثم من وافقهم من التابعين بعد ومع هذا كله ما تأولنا فيه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- المصدقة لمذهبهم عند التدبر والنظر" أ هـ (الأموال ص 446).
وبعد هذا الكلام النير عن أبى عبيد: أحب أن أسجل هنا بعض الملاحظات على أدلة القائلين بتزكية الحلي.
تفنيد أدلة الموجبين لزكاة الحلي
1- أما ما يستدل به الموجبون من قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (التوبة: 34) الآية، وقولهم: إن الحلي من الكنوز، فيرده: أن إطلاق الكنز على الحلي المتخذ للاستمتاع بعيد (كما قال الدهلوي في الحجة البالغة: 2/509) إنما تريد الآية: الذهب والفضة التي من شأنها أن تنفق بدليل: (ولا ينفقونها) وذلك إنما يكون في النقود لا في الحلي الذي هو زينة ومتاع؛ إذ لم يوجب أحد إنفاق الحلي المباح إلا في ضرورات تقدر بقدرها.
وأما الأحاديث التي استند إليها الموجبون لزكاة الحلي، فللمانعين مواقف منها، من حيث ثبوتها، أو من حيث دلالتها.
فأما الحديث الأول فمتفق على صحته: "وفى الرقة ربع العشر" ولكن الرقة -كما سبق- إنما هي الدراهم المضروبة، ولا تطلق على الحلي المصوغ.
2- وأما الأحاديث الأخرى، فمنهم من ردها من حيث السند، كالترمذي الذي قال: "لا يصح في هذا الباب شيء" (صحيح الترمذي بشرح ابن العربى: 3/131، باب "ما جاء في زكاة الحلي").
وحتى ابن حزم، فمع أنه يقول بوجوب الزكاة في الحلي، لم يعتمد على هذه الأحاديث، بل أنكر على من احتج بها، قال: واحتج من رأى إيجاب الزكاة في الحلي بآثار واهية لا وجه للانشغال بها (المحلى: 6/78)، وإنما اعتمد ابن حزم على العمومات الواردة في زكاة الفضة والذهب.
فلنقف وقفة للنظر في أسانيد هذه الأحاديث.
أما حديث عمرو بن شعيب فقد رأينا: أن النسائي رواه مسندًا ومرسلاً، ورجح المرسل، وأن المنذري أشار في الترغيب إليه بعلامة الضعف، وقد سمعنا قول أبى عبيد فيه، وعلقنا عليه بما يكفي.
وأما حديث الفتخات المروى عن عائشة ففي إسناده يحيى بن أيوب الغافقي (ت 168 هـ) احتج به الشيخان وغيرهما، وهو صدوق، ولكن قال الذهبي: قال فيه ابن معين: صالح الحديث، وقال أحمد: سيئ الحفظ وقال ابن القطان وأبو حاتم: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوى وقال الدارقطني: في بعض حديثه اضطراب وذكر له عدة مناكير (انظر: الميزان للذهبي: 3/282، الترجمة (2438) - طبع مطبعة المساعدة - سنة 1325 هـ).
ومن كان بهذه المنزلة عند أئمة الجرح والتعديل، فلا يحتج بحديثه في موضوعات الخلاف وبخاصة أن عائشة قد صح عنها العمل بخلاف هذا الحديث كما سيأتي.
وأما حديث أم سلمة، فقد رأينا قول المنذري: فيه عتاب بن بشير، وقد أخرج له البخاري، وتكلم فيه غير واحد.
وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمته(/73)
"قال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس، أتى عن خصيف بمناكير، أراها من قبل خصيف وقال النسائي: ليس بذاك في الحديث وقال ابن المدني: كان أصحابنا يضعفونه وقال ابن معين: ثقة وقال مرة: ضعيف وقال على: ضربنا على حديثه وقال ابن عدى: أرجو أنه لا بأس به (ميزان الاعتدال: 3/27) ومعنى هذا: أن أحدًا من هؤلاء الأئمة لم يجزم بتوثيقه وفيهم من جزم بضعفه.
ولا يهولن القارئ أن البخاري أخرج له، فقد ذكر الحافظ ابن حجر: أنه ليس له في البخاري إلا حديثان: أحدهما تابع عليه، والثاني ذكره مقرونًا بغيره (هدى الساري "مقدمة الفتح": 2/189 - 190).
وقال الحافظ الزيلعى في "نصب الراية": "صاحبا الصحيح إذا أخرجا لمن تكلم فيه فإنما ينتقيان من حديث ما تابع عليه، وظهرت شواهده وعلم أن له أصلاً، ولا يرويان ما تفرد به، سيما إذا خالفه الثقات" (نصب الراية: 1/342).
هذا وقد تفرد بهذا الحديث -عن عتاب بن بشير- ثابت بن عجلان، كما قال البيهقي (المرجع نفسه: 2/372).
وثابت -وإن أخرج له البخاري- تكلم فيه أيضًا: فابن معين وثقة، وقال أحمد بن حنبل: أنا متوقف فيه، وقال أبو حاتم: صالح وذكره "ابن عدى" وساق له ثلاثة أحاديث غريبة وذكره "العقيلي" في كتاب "الضعفاء" وقال: لا يتابع على حديثه قال: فمما أنكر عليه حديث عتاب بن بشير عن عطاء عن أم سلمة وساق الحديث الذي معنا وقال الحافظ عبد الحق: ثابت لا يحتج به، فناقشه على قوله أبو الحسن بن القطان وقال: قول العقيلي أيضًا فيه تحامل عليه وقال: إنما يمر بهذا من لا يعرف بالثقة مطلقًا أما من عرف بها فانفراده لا يضر، إلا أن يكثر ذلك منه قال الذهبي معقبًا على ابن القطان: أما من عرف بالثقة فنعم وأما من وثق، ومثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبى حاتم يقول: صالح الحديث ("صالح الحديث" من ألفاظ المرتبة الدنيا من مراتب التعديل، عدها بعضهم الرابعة، وبعضهم السادسة، وهو ما أشعر بالقرب من التجريح، كما قال السخاوي في شرح "الألفية" والسندس في شرح النخبة انظر: الرفع والتكميل ص 109، 116، 124): فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد هذا يعد منكرًا، فرجح قول العقيلي وعبد الحق" (الميزان: 1/364 - 365).
أما البخاري فإنما أخرج لثابت حديثًا واحدًا في الذبائح، وله أصل عنده في الطهارة، كما قال الحافظ (هدى الساري: 2/155، 209) وهذا -كما عرفنا من طريقة الشيخين- ليس بالتوثيق المطلق، كما ذكر الزيلعى ولهذا لم يرو أحد الشيخين هذا الحديث ولا أي حديث في تزكية الحلي.
وإذا كان حديث أم سلمة يدور على ثابت بن عجلان وعتاب بن بشير، وكانا هما بما ذكرنا من المنزلة عند أئمة النقد؛ ما بين موثق ومضعف ومتوقف، فمثلهما لا يحتج به في مسائل الخلاف، التي تتعارض فيها الدلائل، وتتعاون كفتا الميزان، فضلاً عن المسائل التي تعارضها شواهد معتبرة كما في إيجاب تزكية الحلي.
وقد قال ابن حجر في مقدمة "تهذيب التهذيب" (الجزء الأول ص 5): وفائدة يراد كل ما قيل في الرجل من حرج وتوثيق، تظهر عند المعارضة (انتهى) كما في مسألتنا.
ومما يشكك في صحة هذه الأحاديث في نظري: أنها لم تشتهر بين الصحابة، رغم اختلافهم في هذا الأمر الذي يكاد يمس كل أسرة، وتشتد حاجتهم إلى معرفة الحكم فيه، ولو عرفت هذه الأحاديث بين الصحابة لحسمت النزاع، وارتفع الخلاف، ولكنه لم يرتفع.
فإما أن تكون الأحاديث منسوخة أو غير صحيحة، وإلا فيستبعد أن يختلف الصحابة في هذا الأمر، ولا يرد بعضهم على بعض بما سمع من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما هو شأنهم في مسائل الخلاف الأخرى.
وقد جاء عن عائشة من أصح طريق -كما قال ابن حزم- أنها خالفت ما روى عنها آنفًا (قال الحافظ في التلخيص - بعد حديث الفتخات: "يمكن الجمع بينهما بأنها كانت ترى الزكاة فيها، ولا ترى إخراج الزكاة مطلقًا من مال الأيتام" أ هـ. وهو تأويل بعيد عن المتبادر من الحديث)، فكيف يمكن هذا؟
ولذا قال البيهقي وأقره النووي والمنذري (المجموع: 6/35، ومختصر السنن: 2/176): إن رواية القاسم وابن أبى مليكة عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي عن بنات أخيها -مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى- توقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة، فهي لا تخالف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيما روته عنه، إلا فيما علمته منسوخًا (قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (1/526)- بعد أن ذكر الأحاديث والآثار المؤيدة لمذهب الحنفية في القول بزكاة الحلي: واعلم أن مما يعكر على ما ذكرنا: ما في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة -رضى الله عنها- كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها، فلا تخرج من حليهن الزكاة" وعائشة راوية حديث "الفتخات" وعمل الراوي بخلاف ما روى، عندنا بمنزلته للناسخ، فيكون ذلك منسوخًا ويجاب عنه بأن الحكم بأن ذلك نسخ عندنا هو إذا لم يعارض مقتضى النسخ معارض يقتضي عدمه، وهو ثابت هنا، فإن كتابة عمر إلى الأشعري تدل على أنه حكم مقرر، وكذا من ذكرنا معه من الصحابة فإذا رفع التردد في النسخ، والثبوت متحقق لا يحكم بالنسخ" أ هـ.
وقد عرفنا أن كتابة عمر إلى أبى موسى لم تصح؛ لأن في الرواية انقطاعًا، ولهذا أنكر الحسن أن يكون أحد من الخلفاء قال بزكاة الحلي.
وذكر أبو عبيد: أن القول بزكاته لم يصح عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود وبهذا ثبت كلام البيهقي وغيره من وقوع الريب في رواية الفتخات).(/74)
(جـ) ومن العلماء من تأول هذه الأحاديث المذكورة -على تقدير صحتها- بأن زكاة الحلي إنما وجبت في الوقت الذي كان الحلي من الذهب حرامًا، فلما صار مباحًا للنساء سقطت زكاته بالاستعمال، كما تسقط زكاة الماشية بالاستعمال قال البيهقي: وإلى ذلك ذهب كثير من أصحابنا، ثم ساق أخبارًا تدل على تحريم التحلي بالذهب، ثم أخرى تدل على إباحته للنساء، ثم قال: فهذه الأخبار وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن، على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة (هذا الإجماع الذي نقله البيهقي في سننه: 4/142، وذكره ابن حجر في الفتح: 10/260، واستقر العمل به في سائر العصور، وفي شتى أقطار الإسلام -يعارض ما ذهب إليه المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني في رسالته عن "آداب الزفاف" ف 29: أن التحلي بالذهب حرام على النساء حرمته على الرجال، إلا ما كان مقطعًا كالأزرار ونحوها.
ومما يؤيد نقل الإجماع هنا أمران:
أولاً: اختلاف الأئمة في وجوب زكاة الحلي للنساء، وحديثهم عنه حديث الأمر المفروغ من إباحته، ولو كان محرمًا لوجبت فيه الزكاة بالإجماع.
ثانيًا: استقرار العمل على الإباحة للنساء في شتى الأمصار والأعصار -منذ عهد الصحابة فمن بعدهم- دون نكير من أحد من المسلمين، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كل هذه القرون، وتستبيح ما حرم الله ورسوله دون تأويله، ولا إنكار من أحد من أهل العلم.
وهذا يدل على أن أحاديث حل الذهب والحرير للنساء هي المتأخرة والناسخة إذ لا يعقل أن تكون الأحاديث المحرمة هي الناسخة ثم يعمل الصحابة رضوان الله عليهم بضدها ولكنى أوافق الشيخ في تحريم ما بلغ حد السرف وتجاوز المعتاد، كالخواتيم الكبار ونحوها، ويمكن حمل بعض الأحاديث الواردة في التحريم على ذلك ولا يتسع المجال لمناقشة الموضوع هنا).
ويعكر على هذا التأويل أن حديث عائشة كان عن "فتخات من ورق" أي فضة، ولم يقل أحد إن الفضة كانت محرمة ثم أبيحت (السنن الكبرى: 4/140 - 142) وفي حديث أم سلمة إقرار لها على لبسه.
وقد يخطر تأويل آخر في حديث عائشة وأم سلمة -إن صحت روايتهما- ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل نساءه وأهل بيته معاملة خاصة فيها شيء من التقشف، ومجافاة الزينة والترف؛ لما لهن من مكان القدوة بين نساء الأمة، ولهذا قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) (الأحزاب: 32)، (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) (الأحزاب 30).
فلعل هذا كان حكمًا خاصًا بهن، ومن أجل ذلك لم يرد عنهن أنهن أفتين بذلك لنساء الأمة عامة، ومن أجله لم تزك عائشة حلي بنات أخيها وهن في حجرها، مع أنها كانت تخرج الزكاة من سائر أموالهن، كما صحت بذلك الرواية.
(هـ) ومن العلماء من أول هذه الأحاديث -على فرض صحتها- بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى فيها إسرافًا ومجاوزة للمعتاد (انظر نهاية المحتاج: 2/88) فأوجب فيها الزكاة كفارة وتطهيرًا.
وما يعضد هذا التأويل وصف "المسكتين" اللتين كانتا في يدي ابنة المرأة بالغلظ و"الفتخات" فسروها بأنها: خواتيم كبار فلعلها كانت أكبر مما ينبغي وفي هذا دليل لمن قال بتزكية الحلي المحرم أو المكروه (المرجع السابق).
ومن الصحابة من قال بزكاة الحلي، ولكن قال: تجب مرة واحدة، وهو مروى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- فلا تتكرر زكاة الحلي بتكرر الحول (انظر المحلى: 6/78، والسنن الكبرى: 4/138).
ومن الصحابة والتابعين من فسر زكاة الحلي تفسيرًا آخر: فليست زكاته كزكاة النقود بإخراج ربع العشر، بل زكاته إعارته في العرس ونحوه لمن تحتاج إليه، ويرون ذلك واجبًا.
وروى ذلك البيهقي عن ابن عمرو وابن المسيب (السنن الكبرى: 4/140).
وروى أبو عبيد وابن أبى شيبة ذلك عن: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وقتادة، والشعبي، أن زكاة الحلي إعارته (الأموال ص 443، والمصنف: 4/28).
وكل هذه الاحتمالات الواردة في دلالة الأحاديث المذكورة تسقط الاستدلال بها وفقًا للقاعدة المشهورة: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال، سقط به الاستدلال وهذا كله مبنى على افتراض التسليم بصحة هذه الأحاديث فكيف وفى كل منها ما ذكرناه من أسباب الضعف؟
والغريب في هذه القضية: أن فقهاء مدرسة الرأي -كما يسمون- يستدلون على مذهبهم فيها بالحديث والأثر، وفقهاء مدرسة الحديث يستدلون بالرأي والنظر (وهذا يدلنا على أن تقسيم الأئمة المتبوعين إلى أهل رأى، وأهل حديث -تقسيم فيه كثير من المبالغة؛ فإن أهل الرأي لا يرفضون الحديث، وأهل الحديث لا يرفضون الرأي والنظر- كما رأينا- والقضية تحتاج إلى تمحيص وقد أثبت أستاذنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة فى كتابه عن "مالك" أنه من أهل الرأي أيضًا، وأيد ذلك بالأدلة الناصعة. فليراجع.).
وأما ما ورد عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود -وقد صح ذلك عنه- وابن عمرو بن العاص -وفي صحته كلام- فالملاحظ: أنهم لم يفتوا بذلك الناس كافة، ولم يرد عنهم أنهم ألزموا به الجميع.
وكل ما ورد عنهم أنهم عملوا بذلك في خاصة أنفسهم وبيوتهم، فامرأة ابن مسعود تسأله عن طوقها الذهبي: أتؤدى زكاته ؟ فيجيبها: نعم وسؤالها عنه يدل على أن حكم الحلي لم يكن متعلمًا بينهم وابن عمرو يزكى حلى بناته كل عام فلا يبعد أن يكون هذا ورعًا منهم، وعملاً بالاحتياط لأنفسهم وأهلهم في أمر لم يعرفوا فيه عن الرسول حكمًا.(/75)
الأثر الوحيد الذي يخرج عن هذه الدائرة هو ما قيل إن عمر كتب إلى أبى موسى أن يأمر نساء المسلمين أن يزكين حليهن، ولكن هذا لم تثبت صحته، وأنكر الحسن أن يكون أحد من الخلفاء أوجب زكاة الحلي.
ما اتُّخذ من الحلي كنزًا ففيه الزكاة
وما اخترناه من عدم زكاة الحلي إنما نعنى به المستعمل المنتفع به، فهذا الذي قلنا: إنه زينة ومتاع، أما ما اتخذ مادة للكنز والادخار، واعتبره أصحابه بمنزلة الدنانير المخزونة، والنقود المكنوزة، فمثل هذا يجب أن يزكى.
ولذا روى عن سعيد بن المسيب: الحلي إذا لبس وانتفع به فلا زكاة فيه، وإذا لم يلبس ولم ينتفع به ففيه الزكاة (الأموال ص 443).
وقال مالك: من كان عنده تبر وحلي من ذهب أو فضة لا ينتفع به للبس فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، يوزن فيؤخذ ربع عشره، إلا أن ينقص عن وزن عشرين دينارًا عينًا أو مائتي درهم فإن نقص عن ذلك فليس فيه الزكاة، وإنما تكون فيه الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس، فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة (الموطأ وشرحه المنتقى: 2/107 وقد تبين من قول مالك أن الحلي إذا انكسر ولم يمكن إصلاحه، أو لم ينو إصلاحه: تجب فيه الزكاة انظر: بلغة السالك: 1/19، والروضة للنووي: 2/261 وينعقد الحول من يوم الانكسار).
وقال النووي: قال أصحابنا: لو اتخذ حليًا ولم يقصد به استعمالاً محرمًا ولا مكروهًا ولا مباحًا، بل قصد كنزه واقتناءه، فالمذهب الصحيح وجوب الزكاة فيه وبه قطع الجمهور (المجموع: 6/36، والروضة: 2/260).
ونحو هذا ما قاله الليث بن سعد: ما كان من حلى يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وما كان من حلى اتخذ ليحرز من الزكاة ففيه الزكاة (المحلى: 6/76)، ومعنى هذا أن القصد منه ليس اللبس والاستعمال، بل الفرار من الزكاة.
قال ابن حزم ردًا على قول الليث: ولو كان هذا لوجب على من اشترى بدراهمه دارًا أو ضيعة ليحرزها من الزكاة أن يزكيها (المرجع السابق) ونحن نقول: إن روح الشريعة التي جاءت بإبطال الحيل، ومعاملة المحتال بنقيض قصده تحتم هذا.
وكذلك قرر الحنابلة: أن ما اتخذ حليًا فرارًا من الزكاة لا تسقط عنه (المغنى: 3/11).
وسنعود لمسالة الاحتيال على إسقاط الزكاة في باب أداء الزكاة إن شاء الله.
وحلي الرجل الذي يحلي به أهله أو يعيره لمن يتحلى به أو يعيده لذلك، شأنه شأن الحلي الذي تملكه المرأة، لأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح.
ما جاوز المعتاد من الحلي ففيه الزكاة
وما بلغ من الحلي حد السرف ومجاوزة المعتاد يجب أن يزكى، وذلك أن وجه إسقاط الزكاة عن الحلي -مع أنه مادة النقدين- هو أن الشريعة أباحت استعماله والتزين به للمرأة، فصار بمنزلة الثياب ومتاع البيت.
أما ما جاوز حد الاعتدال فهو محرم أو مكروه، واستعمال غير معترف به شرعًا ولذا قال النووي: قال أصحابنا -يعنى الشافعية: كل حلى أبيح للنساء فإنما يباح إذا لم يكن فيه سرف ظاهر، فإن كان كخلخال وزنه مائتا دينار، فالصحيح الذي قطع به معظم العراقيين تحريمه (المجموع: 6/40).
وقال ابن حامد -من الحنابلة- في الحلي: يباح ما لم يبلغ ألف مثقال فإن بلغها حرم، وفيه الزكاة لما روى أبو عبيد والأثرم عن عمرو بن دينار قال: سئل جابر عن الحلي - هل فيه زكاة ؟ قال: لا! فقيل له: ألف دينار ؟ فقال: إن ذلك لكثير (المغنى: 3/11 وانظر الأثر رقم (1275) من الأموال ص 442، ورواه أيضًا الشافعي والبيهقي- انظر السنن الكبرى: 4/138) ولأنه يجر إلى السرف والخيلاء، ولا يحتاج إليه في الاستعمال (المغنى: 3/11).
وهذا استدلال قوى، ولكن صاحب "المغنى" رجح بأن الشرع أباح التحلي مطلقًا من غير تقييد، فلا يجوز تقييده بالرأي والتحكيم (المرجع السابق: 3/11).
ونسى الشيخ -رحمه الله- أن استعمال المباحات في الشريعة مقيد بقيدين: عدم الإسراف، وعدم الاختيال.
وفي هذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة" (رواه البخاري في صحيحه معلقًا -انظر تفسير ابن كثير: 2/182- طبع عيسى الحلبي)، ورواه النسائي في سننه -كتاب الزكاة- الاحتيال في الصدقة: 5/79- طبع المطبعة المصرية بالأزهر).
ويمكن أن يحمل حديث المرأة اليمنية -التي دخلت على الرسول وفى يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها ما قال- على أن هذا القدر كان مجاوزًا للمعتاد، وفيه إسراف، بالنسبة لابنة المرأة، ولهذا وصفت المسكتان بالغلظ ومن العلماء من أول هذا الحديث بذلك، وأن الزكاة إنما شرعت للزيادة فيه على قدر الحاجة (نصب الراية: 2/375، والمرقاة الجزء الرابع) ولعل هذا ما جعل عبد الله بن عمرو يزكى حلي بناته، فقد رووا أنه حلى ثلاث بنات له بستة آلاف دينار (رواه أبو عبيد ص 440) وهذا قدر كبير تجاوز المعتاد ولكن هل يزكى القدر الزائد أم الجميع؟ الظاهر من الأحاديث المذكورة أن الجميع يزكى حينئذ كأن ذلك نوع من التكفير عن هذا الغلو في استعمال المباح والله أعلم.
إن القول بالإباحة المطلقة، وبعدم إيجاب الزكاة مطلقًا، جعل مجموعة من ثروة الأمة تعطل في نفائس من الحلي، قد يمر العام والأعوام ولا تتحلى به المرأة، مما اضطرهم أن يودعوها في خزانات خاصة في المصارف (البنوك) خشية عليها من سطو اللصوص.
ولكن ما حد الإسراف؟
إن حد ذلك -فيما أرى- يختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والأحوال، فحلي بألف دينار قد يكون مناسبًا لثرية أو زوجة ثرى في بلد غني مثل أمريكا.(/76)
وقد يكون نصفه أو ربعه أو دون ذلك إسرافًا في بعض البلاد التي لا يجد الإنسان فيها قوت يومه إلا بشق النفس، فلا بد من النظر في الإباحة إلى ثراء الفرد وثراء الأمة معًا والحكم في هذا هو العرف (قال الرملي في "نهاية المحتاج" وهو يتحدث عن خاتم الفضة للرجل وكم تكون زنته أمثقالاً أم أكثر ؟ قال: "المعتمد ضبطه بالعرف، فما خرج عنه كان إسرافًا كما في الخلخال للمرأة وعلى ما تقرر فالأوجه اعتبار عرف أمثاله كالملابس" أ هـ).
على أن هذا لو لم يكن حرامًا ولا مكروهًا لدلت مجاوزة المعتاد فيه على أنه إنما اتخذ كنزًا لا حلية.
ولعل مما يوضح هذا في عصرنا أن من الناس من يتخذ من الحلي والجواهر وسيلة من وسائل تهريب النقود.
وينبغي أن يكون هذا هو حكم اللؤلؤ والياقوت والماس وكل الأحجار الكريمة والجواهر النفيسة، فما اتخذ منها للحلية والزينة ولم يبلغ درجة الإسراف فلا زكاة فيه، وما جاوز المعتاد مجاوزة بينه فهو من الإسراف المحرم، ولا يصح أن يتمتع بالإعفاء من الزكاة وكذلك ما اتخذ بقصد الاكتناز جدير أن تجب فيه الزكاة، إذ اقتناؤه حينئذ حيلة للتهرب مما في المال من حق معلوم للسائل والمحروم، والنية هي الفيصل في هذا، ويدل عليها مجاوزة المعتاد.
وما دام وجوب الزكاة يدور على مجاوزة المعتاد، فإن القدر المعتاد يعفى من وجوب الزكاة ولو أخرج عنه كله فهو أولى وأحوط، مرافقة لظاهر الأحاديث، كما ذكرنا.
تلخيص أحكام زكاة الذهب والفضة حسب الرأي الراجح
نستطيع تلخيص أحكام هذا المبحث -حسبما رجحناه- فيما يلي:
(أ) من ملك مصوغًا من الذهب أو الفضة نظر في أمره، فإن كان للاقتناء والاكتناز -ذخيرة للزمن- وجبت فيه الزكاة، لأنه مرصد للنماء، فهو كغير المصوغ من السبائك والنقود المضروبة.
(ب) وإن كان معدًا للانتفاع والاستعمال الشخصي نظرنا في نوع هذا الاستعمال، فإن كان محرمًا كأواني الذهب والفضة والتحف والتماثيل، وما يتخذه الرجل لنفسه من سوار أو طوق أو خاتم ذهب أو نحو ذلك وجبت فيه الزكاة؛ لأنه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله، وبقى على حكم الأصل.
(ج) ومن الاستعمال المحرم ما كان فيه سرف ظاهر من حلي النساء، ويعرف ذلك بمجاوزة المعتاد لمثل هذه المرأة في مثل بيئتها وعصرها وثروة أمتها.
(د) وإن كان الحلي معدًا لاستعمال مباح كحلي النساء -في غير سرف- وما أعد لهن، وخاتم الفضة للرجال: لم تجب فيه الزكاة؛ لأنه مال غير نام، لأنه من حاجات الإنسان وزينته كثيابه، وأثاثه ومتاعه، وقد أعد لاستعمال مباح، فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر.
(هـ) ولا فرق بين أن يكون الحلي المباح مملوكًا لامرأة تلبسه أو تعيره أو يكون مملوكًا لرجل يحلى به أهله أو يعيره أو يعده لذلك.
(و) وما وجبت فيه الزكاة من الحلي أو الآنية أو التحف يزكى زكاة النقدين، فيخرج ربع عشره (2.5بالمائة) كل حول، وحده أو مع بقية ماله، إن كان له مال.
(ز) وهذا بشرط أن يكون نصابًا أو يكمل بمال عنده قدر نصاب، وهو خمسة وثمانون جرامًا من الذهب.
والمعتبر: القيمة لا الوزن لأن للصنعة أثرها في زيادة القيمة.
**************
زكاة الذهب المعد للاستعمال
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اسم المفتى
13918 رقم الفتوى
02/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
الفتوى رقم (1797)
إنني أرغب من فضيلتكم إفادتي وإخواني عن موضوع زكاة الذهب أو الحلي الذهبية والفضية المعدة للإستعمال، وليس للبيع والشراء، حيث أن البعض يقول: إن المعد منها للبس ليس فيه زكاة، والبعض الآخر يقول: فيها زكاة سواء للإستعمال أو للتجارة، وأن الأحاديث الواردة في زكاة المعدة للاستعمال أقوى من الأحاديث الواردة بأنه لا زكاة فيها، آمل من سعادتكم التكرم بإجابتي خطياً عن ذلك إجابة واضحة جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
نص الفتوى
الحمد لله(/77)
أجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة إذا كان حلياً محرم الاستعمال، أو كان معداً للتجارة أو نحوها. أما إذا كان حلياً مباحاً معدا للاستعمال أو الإعارة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح، فقد اختلف أهل العلم في وجوب زكاته؛ فذهب بعضهم إلى وجوب زكاته لدخوله في عموم قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}، الآية، قال القرطبي في تفسيره ما نصه: وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال ابن عمر: (من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال)ا.هـ ولورود أحاديث تقضي بذلك ومنها ما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: (أتعطين زكاة هذا؟) قالت: لا، قال: (أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟) فخلعتهما فألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: هما لله ولرسوله) وما روى أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والدار قطني والبيهقي في سننهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من ورق فقال: (ماهذا يا عائشة؟) فقلت صنعتهن أتزين لك يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتؤدين زكاتهن؟) قلت: لا، أو ماشاء الله، قال: (هو حسبك من النار) وما رووا عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكنز هو؟ فقال: (ما بلغ أن يؤدى زكاته فزكي فليس بكنز) ، وذهب بعضهم إلى أنه لا زكاة فيه؛ لأنه صار بالاستعمال المباح من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، وأجابوا عن عموم الآية الكريمة بأنه مخصص بما جرى عليه الصحابة رضوان الله عنهم، فقد ثبت بإسناد صحيح أن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج منه الزكاة وروى الدار قطني بإسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أنها كانت تحلي بناتها بالذهب ولا تزكيه نحواً من خمسين ألفاً، وقال أبو عبيد في كتابه الأموال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزوج المرأة من بناته على عشرة آلاف فيجعل حليها من ذلك أربعة آلاف، قال فكانوا لا يعطون عنه يعني الزكاة، وقال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عمرو بن دينار قال: سئل جابر بن عبدالله: أفي الحلي زكاة؟ قال لا، قيل: وإن بلغ عشرة آلاف قال: كثير، وأجابوا عن الأحاديث الواردة نصاً في وجوب الزكاة فيه بأن في أسانيدها ما يضعف الاحتجاج بها، فقد وصفها ابن حزم في المحلى بأنها آثار واهية لا وجه للاشتغال بها، وقال الترمذي بعد روايته حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء، وقال ابن بدر الموصلي في كتابه المغني عن الحفظ والكتاب فيما لم يصح فيه شيء من الأحاديث في الباب: باب زكاة الحلي، قال المصنف لا يصح في هذا الباب شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء عن الشوكاني في السيل الجرار تعليقاً على كتاب المغني عن الحفظ والكتاب، لم يرد في زكاة الحلي حديث صحيح وقال بعضهم زكاته عاريته.
والأرجح من القولين قول من قال بوجوب الزكاة فيها، إذا بلغت النصاب، أو كان لدى مالكيها من الذهب والفضة أو عروض التجارة ما يكمل النصاب؛ لعموم الأحاديث في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وليس هناك مخصص صحيح فيما نعلم، ولأحاديث عبدالله بن عمرو بن العاص وعائشة وأم سلمة المتقدم ذكرها، وهي أحاديث جيدة الأسانيد، لا مطعن فيها مؤثر، فوجب العمل بها. أما تضعيف الترمذي وابن حزم لها والموصلي فلا وجه له فيما نعلم مع العلم بأن الترمذي رحمه الله معذور فيما ذكره؛ لأنه ساق حديث عبدالله بن عمرو من طريق ضعيفة وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أخرى صحيحة، ولعل الترمذي لم يطلع عليها .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو: عبدالله بن قعود
عضو: عبدالله بن غديان
نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
**************
كيفية إخراج زكاة الحلي
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اسم المفتى
13919 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السؤال رقم (3020)
كيف أخرج زكاة الحلية؟ حيث أني قبل سنة أخذت الذهب بثلاثة آلاف، لكنه اليوم القيمة مضاعفة، فهل أخرج الزكاة على ثمن الشراء أو على سعر الذهب في الوقت الحاضر؟
نص الفتوى
الحمد لله
عليك إخراج زكاة مالديك من حلي الذهب حسب سعره يوم حال عليه الحول ووجبت فيه الزكاة، لا على ثمنه يوم الشراء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو: عبدالله بن قعود
عضو: عبدالله بن غديان
نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
**************
زكاة الحلي هل هو كل عام؟
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اسم المفتى
13922 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السؤال رقم (4509)(/78)
الذهب الذي تملكه المرأة ماهو العدد الذي تجب فيه الزكاة؟ لأن هذا الذهب هو ملك للمرأة، هل يتزكى في كل سنة أم مرة في السنة.. إلخ، أو لايجب عليه زكاة، وما هو حكم الشرع فيه؟
نص الفتوى
الحمد لله
إذا بلغ الذهب الذي تلبسه المرأة نصاباً لنفسه أو لضمه إلى ماعندها مما تجب فيه الزكاة من ذهب أو فضة أو عروض تجارة وكمل النصاب بالضم وجبت فيه الزكاة كلما حال عليه الحول، مع العلم أن النصاب من الذهب يساوي عشرين مثقالاً، ومقداره بالجنيه السعودي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع جنيه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو: عبدالله بن غديان
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
**************
زكاة الحلي
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز اسم المفتى
10101 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هناك إسراف من بعض النساء في لبس الذهب ، مع أن لبسه حلال ، فما حكم الزكاة في الذهب ؟ . طبعا الزكاة فرع من فروع موضوعنا عن الاستهلاك وعن الإنفاق .
نص الفتوى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وبعد:
الذهب والحرير قد أحلا للإناث دون الرجال ، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها) خرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
واختلف العلماء في الزكاة هل تجب في الحلي أم لا ؟ .
فذهب بعض العلماء إلى أنها لا تجب في الحلي الذي تلبسه المرأة وتعيره ، وقال آخرون إنها تجب ، وهذا هو الصواب أي وجوب الزكاة فيه إذ بلغ النصاب ، وحال عليه الحول لعموم الأدلة . والنصاب هو عشرون مثقالا من الذهب ، ومائة وأربعون مثقالا من الفضة ، فإذا بلغ الحلي من الذهب من القلائد أو الأسورة أو نحوها عشرين مثقالا وجبت فيها الزكاة ، والعشرون مثقالا تعادل أحد عشر جنيها ونصفا من الجنيهات السعودية .
ومقداره بالجرام 92 جراما . . فإذا بلغ الحلي من الذهب هذا المقدار 92 جراما - أحد عشر جنيها ونصفا - فإنه تجب فيه الزكاة .
والزكاة ربع العشر من كل ألف خمسة وعشرون كل حول . وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن امرأة دخلت عليه وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال " أتعطين زكاة هذا " ؟ قالت لا فقال " أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار" ؟ قال الراوي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح . : وقالت أم سلمة رضي الله عنها وكانت تلبس أوضاحا من ذهب أكنز هذا يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام (ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز) رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم .
وأخرج أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها بسند . صحيح قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتخات من ورق فقال (ما هذا يا عائشة " ؟ فقلت صنعتهن أتزين لك يا رسول الله قال " أتؤدين زكاتهن " ؟ قلت لا أو ما شاء الله قال " هو حسبك من النار) وقد صححه الحاكم كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في بلوغ المرام ، والمراد بالورق : الفضة .
فدل ذلك على أن الذي لا يزكى هو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة والعياذ بالله . نسأل الله للجميع التوفيق والإعانة والهداية وصلاح العمل ، كما نسأل سبحانه أن يوفقنا وإياكن وجميع المسلمين لما فيه خير الإسلام ، وأن يتوفانا الله جميعا عليه إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
****************
زكاة الحلي
عبد الفتاح إدريس اسم المفتى
21529 رقم الفتوى
30/11/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
أمتلك قدرًا من الذهب في حدود 350 جرام من الذهب اشتريتها لزوجتي وهي لا تلبسها إلا في مناسبات الأفراح فهل عليها زكاة مع العلم أنني اشتريتها منذ خمس سنوات سابقة أفتوني في ذلك بارك الله فيكم يا أهل العلم؟
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة واسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
السائل الكريم شكر الله لك وأحسن إليك وزادك حرصا على معرفة إمور دينك وبعد فالحلي الغير مستعملة تجب فيها الزكاة ونصابها إذا بلغت 85 جرام وتقدر هذه الجرامات بالفلوس ثم تدفع 2,5% وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:
مذهب جمهور الفقهاء -غير الحنفية والظاهرية- هو عدم وجوب الزكاة في الحلي المتخذة من الذهب والفضة، وإن بلغت النصاب؛ استدلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الحلي زكاة" وهو حديث صحيح، واستدلالاً أيضًا بآثار كثيرة مروية عن عائشة وأسماء وعبد الله بن عمر وغيرهم من فقهاء الصحابة، أنهم كانوا لا يخرجون عن الحلي زكاة.
إلا أن الحنفية والظاهرية قالوا بوجوب الزكاة في حلي النساء؛ استدلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخلت عليه امرأة وفي يد ابنتها مسكتان (إسورتان) غليظتان من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذين فقالت: لا، فقال لها: أيسرك أن يسوّرك الله بهما سوارين من نار يوم القيامة، فقالت: لا، فخلعتهما من يد ابنتها وأعطتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ولرسوله.(/79)
وروي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها اتخذت أوضاحًا (خلاخل) من ذهب، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكنز هو؟ (تقصد بالكنز ما ورد في قول الحق سبحانه "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب إليم") فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بلغ أن يؤدى زكاته فزُكي فليس بكنز، وأحاديث أخرى كثيرة وردت توجب الزكاة في حلي المرأة إذا بلغت النصاب في الذهب والفضة.
والذي تركن النفس إليه من مذاهب الفقهاء هو إيجاب الزكاة في الحلي إذا كانت فاحشة بحسب عرف المجتمع الذي تتحلى فيه المرأة بهذه الحلي. أما إذا كانت هذه الحلي يسيرة، وكانت لا تفضل عن حاجة المرأة في التحلي غالبًا في أحوالها العادية، فإنه لا تجب عليها الزكاة فيها، إلا أنه لا بد لها في جميع الأحوال أن تستعملها في التحلي لزوجها، وذلك لأن هذا هو المقصود من اقتنائها أو اتخاذها.
****************
زكاة الذهب المستعمل
عبد الله الفقيه اسم المفتى
22841 رقم الفتوى
11/05/2005 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السلام عليكم
أريد أن أسأل عن زكاة الذهب المستعمل والغير مستعمل للزينة للمرأة فهل فيهما الاثنين زكاة أم لا وكيف الزكاة في ساعة اليد الذهبية؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نص الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن من أهل العلم من أوجب الزكاة في الذهب المعد للزينة إذا بلغ نصاباً ، وهذا منقول عن بعض الصحابة ، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض الفقهاء المعاصرين ، لما صح من حديث أبي داود (أن عائشة رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدها فتخات من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟. فقالت: صنعتهن لأتزين لك بهن يا رسول الله. فقال أتؤدين زكاتهن؟. فقالت: لا. قال: هن حسبك من النار). ولعل هذه الفتخات كانت تبلغ نصاباً، أو كان عند عائشة رضي الله عنها ما تضمه لها حتى تبلغ نصاباً. وأشار الصنعاني في سبل السلام إلى أن ظاهر هذا الحديث يفيد عدم اشتراط النصاب في زكاة الحلي، والأول هو المشهور.
أما مذهب الجمهور من الفقهاء ، وهو قول جماعة من الصحابة ، وبه قال بعض الفقهاء المعاصرين فهو أنه لا زكاة في الحلي المعد للزينة. ونحن نرى أن الأولى أن يزكي احتياطا ليخرج من الخلاف ويغلب حظ الفقراء .
أما كيفية إخراج الزكاة لمن أراد فهي أن تعرف زنته يوم تجب فيه الزكاة ويقوم بالسعر الذي يباع به في الوقت من غير نظر إلى ما اشتري به ثم تخرج من تلك القيمة ربع العشر 2.5% اثنين ونصف بالمئة، ونصاب الذهب هو ما بلغ 85 جراماً تقريبا.ً
والله أعلم
***************
زكاة ذهب الزينة
علي محي الدين القره داغي اسم المفتى
21380 رقم الفتوى
13/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السلام عليكم
بداية أحب أن أعبر لكم عن شكري لمجهوداتكم العظيمة وعملكم الجاد وأتوجه إلى الله أن يكون ذلك في ميزان حسناتي وحسناتكم وبعد :
أريد أن أسألك عن زكاة الذهب حيث إن زوجتي معها ما يزيد عن 90 جرام ترتديه للزينة مع الأخذ في الاعتبار أننا في حالة الضرورة سوف نبيع هذا الذهب للانتفاع به فهل على هذا الذهب من زكاة وكم تبلغ هذه الزكاة إن وجدت
وجزاكم الله خيرا.
نص الفتوى
أخي السائل سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
أولاً: كمية الذهب التي تجب فيها الزكاة هي 20 مثقالاً، والمثقال هو أربعة جرامات وربع، فيكون الناتج 85 جرامًا من الذهب الخالص.
فمن ملك هذه الكمية وحال عليها الحول فوجبت عليه الزكاة بنسبة 2.5%
أما مسألة الزينة أو ما يسمى بحلي المرأة، فإن الزكاة في حلي المرأة مجال خلاف بين الفقهاء، والراجح أن الحلي الملبوس بحيث لا يقل لبسه عن غالبية السنة، فإن هذه الكمية الملبوسة في غالب السنة لا تجب فيها الزكاة، أما الحلي غير الملبوس في غالب السنة أو الخارج عن العرف والعادة بحيث يكون كثيرًا وكبيرًا فتجب فيه الزكاة، وإخراجها من الحلي يتم كالأتي:
يقدر الحلي الموجود بقيمة السوق للبيع، ثم تدفع الزكاة من هذه القيمة، فمثلا لو أن امرأة عندها ألف جرام من الذهب وهو غير ملبوس في معظم أيام السنة، فيجب عليها الزكاة حسب قيمة هذا الذهب، فلو فرضنا أن قيمة ألف جرام في السوق يساوي 30 ألف جنيه فحينها يجب أن تدفع سبعمائة وخمسون جنيها
وقصدي من هذا المثال أن المرأة لا يجب عليها أن تدفع زكاة الحلي حسب قيمته بسعر الشراء، وإنما بسعر البيع الحالي عند حولان الحول أي عند إرادة دفع الزكاة.
*************
زكاة الذهب المستعمل
علي محي الدين القره داغي اسم المفتى
21383 رقم الفتوى
13/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
الذهب الملبوس هل علية زكاة أفيدونا أطال الله فى عمركم.
نص الفتوى
أخي الكريم سلام الله عليك ورحمته وبركاته، وبعد
أولاً: كمية الذهب التي تجب فيها الزكاة هي 20 مثقالاً، والمثقال هو أربعة جرامات وربع، فيكون الناتج 85 جرامًا من الذهب الخالص.
فمن ملك هذه الكمية وحال عليها الحول وجبت عليه الزكاة بنسبة 2.5%
أما مسألة الزينة أو ما يسمى بحلي المرأة، فإن الزكاة في حلي المرأة مجال خلاف بين الفقهاء، والراجح أن الحلي الملبوس بحيث لا يقل لبسه عن غالبية السنة، فإن هذه الكمية الملبوسة في غالب السنة لا تجب فيها الزكاة، أما الحلي غير الملبوس في غالب السنة أو الخارج عن العرف والعادة بحيث يكون كثيرًا وكبيرًا فتجب فيه الزكاة، وإخراجها من الحلي يتم كالأتي:(/80)
يقدر الحلي الموجود بقيمة السوق للبيع، ثم تدفع الزكاة من هذه القيمة، فمثلا لو أن امرأة عندها ألف جرام من الذهب وهو غير ملبوس في معظم أيام السنة، فيجب عليها الزكاة حسب قيمة هذا الذهب، فلو فرضنا أن قيمة ألف جرام في السوق يساوي 40 ألف ريال فحينها يجب أن تدفع ألف ريال
وقصدي من هذا المثال أن المرأة لا يجب عليها أن تدفع زكاة الحلي حسب قيمته بسعر الشراء، وإنما بسعر البيع الحالي عند حولان الحول أي عند إرادة دفع الزكاة
أما الحلي الذي يلبسه الرجال من الذهب ونحوه فتجب فيه الزكاة بالإجماع؛ لأن لبس الذهب للرجل محرم، والرخص لا تستفاد من المعاصي وكذلك الحال فيما لو كان الإنسان يلبس أشياء ثمينة مثل الساعات الثمينة المرصعة، فهذه إن كان يلبسها الرجال فتجب فيها الزكاة من قيمتها بنسبة 2.5%، وإن كانت تلبسها النساء فحكمها حكم الحلي السابق الآن والله أعلم
*************
زكاة الحلي
فضيلة الشيخ صالح الفوزان اسم المفتى
17665 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السؤال عن زكاة الحلي: الذهب المختزن ولم يُعد للزينة، بل للاحتفاظ بقيمته، وهو حلي؟
نص الفتوى
الحمد لله
نعم؛ فالحلي إذا كان مُعدًّا للتجارة والاحتفاظ بقيمته يعتبر من الرصيد، إذا احتاجه الإنسان؛ باعه، أو إذا ارتفع ثمنه؛ باعه؛ فهذا تجب فيه زكاة، وتجب الزكاة في قيمته لا على وزنه، فيثمن عند تمام الحول بما يساوي، ثم يُخرج ربع العشر من قيمته المقدرة.
أما إذا كان محتفظًا به للقنية فقط، لا يراد به التجارة؛ فهذا تجب فيه الزكاة أيضًا، ولكن تجب الزكاة على وزنه إذا بلغ نصابًا، (بلغ 11.5 جنيه سعودي تقريبًا)؛ فإنه تجب فيه الزكاة، والزكاة هنا على وزنه إذا كان معدًا للقنية؛ لا للتجارة، ولا للبس، وإنما محتفظ به للقنية.
وإذا كان معدًّا للبيع والشراء؛ فإن الزكاة تجب على قيمته لا على وزنه، قد يكون أنقص من النصاب ومع هذا تجب الزكاة على قيمته؛ لأنه معد للتجارة.
*************
زكاة الحلي
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
10424 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل يجوز للأم أن تبيع ذهب طفلتها، وهل يجب عليها الزكاة فيه؟
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يجوز للأم أن تتصرف في مال أولادها ذكرواً وإناثاً، بشرط أن لا تتضرر البنت، ولا تعطيه البنت الأخرى، فأما زكاته فإن بلغ النصاب زكت قيمته، والنصاب نحو أحد عشر جنيهاً ونصفاً.
**********
زكاة الحلي المستعملة
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
11151 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل حٌلي المرأة التي تلبسه فيه زكاة أم لا؟
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد اختلف العلماء في زكاة الحلي الملبوس، فروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليها فتخات من فضة فقال: (أتؤدين زكاتها؟)(الحديث أخرجه أبو داود والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني رحمه الله. قالت: لا. قال: (هي حظكِ من النار). وهو صحيح، وحمل على أن زكاته إعارته أو لبسه، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد بنتها مسكتان من ذهب فقال: (أتزكين هذا؟) قالت: لا. قال (أتحبين أن يسوّركِ الله بهما بسوارين من نار؟) فألقتهما (الحديث آخرجه أبو داود والنسائي والترمذي). وهو صحيح، ولعل زكاته عاريته أو ضمّه مع غيره، وعلى هذا فالأحوط إخراج زكاة الحلي الملبوس، وإن لم يخرجها واكتفى بعاريته أو لبسه فلا بأس لوجود الخلاف، فقد كانت عائشة تحلي بنات أخيها ولا تخرج عنه زكاة، ولأنه مال مستعمل فهو كاللباس.
**************
زكاة ذهب الزينة
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
11364 رقم الفتوى
02/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
عندي ذهب كثير أستعمله للزينة وأعيره لصديقاتي فهل فيه زكاة؟
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد وقع خلاف بين المشايخ في زكاة الحلي، والرأي الذي عليه الفتوى أنه يزكى ولو كان يلبس ولو كان يعار، فيقدر ثمنه وتخرج زكاة الثمن إذا بلغ النصاب الذي هو خمسة وثمانون جراماً من الذهب الخالص، فقد ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)(التوبة:34) قال: كل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، ولأنه قد ورد في الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص قصة امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال: "أتؤدين زكاة هذا؟" قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار" إلخ ولمن منع الزكاة في الحلي أدلة وتعليلات مذكورة في كتب الفقه وغيرها والله أعلم.
***********88
أراء الفقهاء في زكاة الحلي المستعملة
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
11365 رقم الفتوى
02/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
تضاربت آراء الأئمة الأربعة "جزاهم الله خير الجزاء" حول إخراج زكاة الحلي المعد لزينة النساء، فمنهم من قال: تجب بشروط، ومنهم من قال: لا تجب، ومنهم من قال: تجب بدون شروط، فما الرأي الذي ترونه مناسباً جزاكم الله خيراً؟!
وإذا كانت تجب فيها الزكاة فكيف تخرج هل بسعر السوق الحالي -علماً بأنك لو رغبت في البيع سوف لا تجد الثمن الذي قد اشتريت به- أم بالسعر القديم للشراء مع افتراض عدم ثبات الأسعار؟!
نص الفتوى(/81)
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا شك أن هناك خلافاً قوياً قديماً وحديثاً في حكم زكاة الحلي المستعمل، ولكن القول الذي أختاره هو لزوم إخراج زكاته كل عام ولو كان ملبوساً، لقوة الأدلة والتعليلات التي تؤيد هذا القول، وعلى هذا فإنها تقدر بقيمتها الحالية ولا ينظر إلى رأس مالها الذي اشتريت به، فتزكى قيمة الحلي التي يقوم بها في الحال، سواء كان أكثر مما اشتريت به أو أقل، ثم تزكى تلك القيمة بربع العشر والله أعلم.
***************
زكاة اللؤلؤ عنوان الفتوى
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
11367 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل على اللؤلؤ والألماس زكاة؟ وما مقدارها؟ وكيف تخرج؟
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اختلف العلماء في زكاة الحلي الذي تتخذه النساء من الذهب أو الفضة أو غيرها كاللؤلؤ والألماس والبلاتين ونحو ذلك مما تتخذه النساء للزينة، سواء في الرقبة أو الذراع أو العضد أو الأصابع أو الآذان.
فذهب الجمهور إلى أنه لا يزكى، لأنه لا ينمي ولا يزيد، فإخراج زكاته كل عام يسبب نقصه ثم تلاشيه، بخلاف المال الذي له نماء وزيادة كل عام، كأموال التجارة والماشية والحرث والكسب والنقود التي يصلح أن يُتجر بها، فلذلك تخرج منها الزكاة ولا تنقصها لزيادتها بالاتجار ونحوه، وقد روى عن جابر مرفوعاً وموقوفاً: ليس في الحلي زكاة، وقد كانت عائشة تحلى بنات أخيها عبد الرحمن ولا تخرج منه زكاة.
وذهب آخرون إلى أن الحلي يزكى إذا كان كثيراً ولا يلبس إلا نادراً، لأن في اتخاذه إسرافاً وتبذيراً، وقد تتخذه النساء هرباً من الزكاة ولا تحتاج إلى التجمل به إلا في الحفلات النادرة ونحو ذلك، فتخرج زكاته حتى لا يتخذ ذريعة إلى إسقاط حق الفقراء فيه.
وذهب آخرون ومنهم بعض مشايخنا إلى أنه يزكى كله سواء الملبوس أو غير الملبوس إذا بلغ حلي المرأة نصاباً، وذلك لورود الأحاديث في ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن عائشة رضي الله عنهما، ولأنه مال يصلح أن ينمى ويستعمل في تجارة، ولأن التحلي ليس من الضروريات للحياة، وخوفاً من الإسراف فيه والهرب بسببه من الزكاة المفروضة، وهذا أحوط ولا فرق بين الذهب والألماس واللؤلؤ والمرجان وسائر المجوهرات والله أعلم.
*************
زكاة المجوهرات خلاف الذهب والفضة
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
11368 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل تجب الزكاة في المجوهرات خلاف الذهب مثل الألماس واللؤلؤ علماً بأنني استعمله في المناسبات وليس للتجارة؟
نص الفتوى
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذه المجوهرات تكون من الحلي الذي يلبس للزينة وتتجمل به المرأة عند زوجها وفي الحفلات، فإن الحلي اسم لكل ما تتحلى به المرأة، وليس خاصاً بالذهب والفضة، بل يعم كل الجواهر والمعادن الثمينة أو غيرها، وقد اختلف العلماء والمشايخ في زكاة الحلي المعدّ للاستعمال أو العارية، وأكثر الفقهاء على أنه لا زكاة فيه، وكثير من العلماء المحققين ذهبوا إلى وجوب الزكاة فيه ولو كان مما يلبس ويستعمل، وهذا هو الأحوط خروجاً من الخلاف، ويدخل في ذلك الألماس واللؤلؤ والزبرجد والعقيان والبليتين وسائر المجوهرات التي يتحلى بها، فنختار أنها تزكى كل سنة بأن تقدر قيمتها، وتخرج زكاة القيمة، وتصرف للمستحقين، ولو كانت تلبس دائما فإن الأحاديث عامة فيما يلبس ومالا يلبس والله أعلم.
**************
زكاة الحلي والتصرف فيها
فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين اسم المفتى
2290 رقم الفتوى
03/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل يجوز للأم أن تبيع ذهب طفلتها، وهل يجب عليها الزكاة فيه؟
نص الفتوى
يجوز للأم أن تتصرف في مال أولادها ذكورًا وإناثًا، بشرط أن لا تتضرر البنت، ولا تعطيه البنت الأخرى، فأما زكاته فإن بلغ النصاب زكت قيمته، والنصاب نحو أحد عشر جنيهًا ونصفًا.
************(/82)
زكاة الفطر .
التّعريف
1 - من معاني الزّكاة في اللّغة : النّماء ، والزّيادة ، والصّلاح ، وصفوة الشّيء ، وما أخرجته من مالك لتطهّره به . والفطر : اسم مصدرٍ من قولك : أفطر الصّائم إفطارًا . وأضيفت الزّكاة إلى الفطر ; لأنّه سبب وجوبها ، وقيل لها فطرة ، كأنّها من الفطرة الّتي هي الخلقة . قال النّوويّ : يقال للمخرج : فطرة . والفطرة - بكسر الفاء لا غير - وهي لفظة مولّدة لا عربيّة ولا معرّبة بل اصطلاحيّة للفقهاء ، فتكون حقيقةً شرعيّةً على المختار ، كالصّلاة والزّكاة . وزكاة الفطر في الاصطلاح : صدقة تجب بالفطر من رمضان . حكمة مشروعيّتها :
2 - حكمة مشروعيّة زكاة الفطر الرّفق بالفقراء بإغنائهم عن السّؤال في يوم العيد ، وإدخال السّرور عليهم في يوم يسرّ المسلمون بقدوم العيد عليهم ، وتطهير من وجبت عليه بعد شهر الصّوم من اللّغو والرّفث . روى أبو داود عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما قال : { فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر ، طهرةً للصّائم من اللّغو والرّفث ، وطعمةً للمساكين ، من أدّاها قبل الصّلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أدّاها بعد الصّلاة فهي صدقة من الصّدقات } .
( الحكم التّكليفيّ ) :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ زكاة الفطر واجبة على كلّ مسلمٍ . واستدلّ القائلون بالوجوب بما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : { فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على النّاس صاعًا من تمرٍ ، أو صاعًا من شعيرٍ ، على كلّ حرٍّ ، أو عبدٍ ، ذكرٍ أو أنثى من المسلمين } . وبقوله صلى الله عليه وسلم : { أدّوا عن كلّ حرٍّ وعبدٍ صغيرٍ أو كبيرٍ ، نصف صاعٍ من برٍّ أو صاعًا من تمرٍ أو شعيرٍ } وهو أمر ، والأمر يقتضي الوجوب . وفي قولٍ للمالكيّة مقابل للمشهور : إنّها سنّة ، واستبعده الدّسوقيّ .
شرائط وجوب أداء زكاة الفطر : يشترط لوجوب أدائها ما يلي :
4 - أوّلًا : الإسلام : وهذا عند جمهور الفقهاء . وروي عن الشّافعيّة في الأصحّ عندهم أنّه يجب على الكافر أن يؤدّيها عن أقاربه المسلمين ، وإنّما كان الإسلام شرطًا عند الجمهور ; لأنّها قربة من القرب ، وطهرة للصّائم من الرّفث واللّغو ، والكافر ليس من أهلها إنّما يعاقب على تركها في الآخرة . 5 - ثانيًا : الحرّيّة عند جمهور الفقهاء خلافًا للحنابلة ; لأنّ العبد لا يملك ، ومن لا يملك لا يملّك .
6- ثالثًا : ألا يكون قادرًا على إخراج زكاة الفطر ، وقد اختلف الفقهاء في معنى القدرة على إخراجها : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم اشتراط ملك النّصاب في وجوب زكاة الفطر . وذهب الحنفيّة إلى أنّ معنى القدرة على إخراج صدقة الفطر أن يكون مالكًا للنّصاب الّذي تجب فيه الزّكاة من أيّ مالٍ كان ، سواء كان من الذّهب أو الفضّة ، أو السّوائم من الإبل والبقر والغنم ، أو من عروض التّجارة . والنّصاب الّذي تجب فيه الزّكاة من الفضّة مائتا درهمٍ . فمن كان عنده هذا القدر فاضلًا عن حوائجه الأصليّة من مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ وسلاحٍ وفرسٍ ، وجبت عليه زكاة الفطر . وفي وجهٍ آخر للحنفيّة إذا كان لا يملك نصابًا تجوز الصّدقة عليه . ولا يجتمع جواز الصّدقة عليه مع وجوبها عليه . وقال المالكيّة : إذا كان قادرًا على المقدار الّذي عليه ولو كان أقلّ من صاعٍ وعنده قوت يومه وجب عليه دفعه ، بل قالوا : إنّه يجب عليه أن يقترض لأداء زكاة الفطر إذا كان يرجو القضاء ; لأنّه قادر حكمًا ، وإن كان لا يرجو القضاء لا يجب عليه . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّها تجب على من عنده فضل عن قوته وقوت من في نفقته ليلة العيد ويومه ، ويشترط كونه فاضلًا عن مسكنٍ وخادمٍ يحتاج إليه في الأصحّ . واتّفق جميع القائلين بعدم اشتراط ملك النّصاب على أنّ المقدار الّذي عنده إن كان محتاجًا إليه لا تجب عليه زكاة الفطر ، لأنّه غير قادرٍ . استدلّ الجمهور على عدم اشتراط ملك النّصاب بأنّ من عنده قوت يومه فهو غنيّ ، فما زاد على قوت يومه وجب عليه أن يخرج منه زكاة الفطر ، والدّليل على ذلك ما رواه سهل بن الحنظليّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من النّار ، فقالوا : يا رسول اللّه ، وما يغنيه ؟ قال : أن يكون له شبع يومٍ وليلةٍ } . دلّ الحديث على أنّ من عنده قوت يومه فهو غنيّ وجب عليه أن يخرج ممّا زاد على قوت يومه . واستدلّ الحنفيّة ومن وافقهم على اشتراط ملك النّصاب بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا صدقة إلاّ عن ظهر غنًى } . والظّهر ها هنا كناية عن القوّة ، فكأنّ المال للغنيّ بمنزلة الظّهر ، عليه اعتماده ، وإليه استناده ، والمراد أنّ التّصدّق إنّما تجب عليه الصّدقة إذا كانت له قوّة من غنًى ، ولا يعتبر غنيًّا إلاّ إذا ملك نصابًا .
من تؤدّى عنه زكاة الفطر :(/1)
7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ زكاة الفطر يجب أن يؤدّيها عن نفسه من يملك نصابًا ، وعن كلّ من تلزمه نفقته ، ويلي عليه ولايةً كاملةً . والمراد بالولاية أن ينفذ قوله على الغير شاء أو أبى ، فابنه الصّغير ، وابنته الصّغيرة ، وابنه الكبير المجنون ، كلّ أولئك له حقّ التّصرّف في ما لهم بما يعود عليهم بالنّفع شاءوا أو أبوا . وينبني على هذه القاعدة أنّ زكاة الفطر يخرجها الشّخص عن نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم : { ابدأ بنفسك ، ثمّ بمن تعول } . ويخرجها عن أولاده الصّغار إذا كانوا فقراء ، أمّا الأغنياء منهم ، بأن أهدي إليهم مال ، أو ورثوا مالًا ، فيخرج الصّدقة من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، لأنّ زكاة الفطر ليست عبادةً محضةً ، بل فيها معنى النّفقة ، فتجب في مال الصّبيّ ، كما وجبت النّفقة في ماله لأقاربه الفقراء ، وقال محمّد : تجب في مال الأب لأنّها عبادة محضة ، وهو ليس من أهلها ; لأنّه غير مكلّفٍ . أمّا أولاده الكبار ، فإن كانوا أغنياء وجب عليهم إخراج الزّكاة عن أنفسهم ، وعمّن يلون عليهم ولايةً كاملةً ، وإن كانوا فقراء لا يخرج الزّكاة عنهم ; لأنّه وإن كانت نفقتهم واجبةً عليه إلاّ أنّه لا يلي عليهم ولايةً كاملةً فليس له حقّ التّصرّف في مالهم إن كان لهم مال إلاّ بإذنهم . وإن كان أحدهم مجنونًا ، فإن كان غنيًّا أخرج الصّدقة من ماله ، وإن كان فقيرًا دفع عنه صدقة الفطر ; لأنّه ينفق عليه ، ويلي عليه ولايةً كاملةً ، فله حقّ التّصرّف في ماله بدون إذنه . وقال الحنفيّة بناءً على قاعدتهم المذكورة : لا تجب عن زوجته لقصور الولاية والنّفقة ، أمّا قصور الولاية ، فإنّه لا يلي عليها إلاّ في حقوق النّكاح فلا تخرج إلاّ بإذنه ، أمّا التّصرّف في مالها بدون إذنها فلا يلي عليه . وأمّا قصور النّفقة فلأنّه لا ينفق عليها إلاّ في الرّواتب كالمأكل والمسكن والملبس . وكما لا يخرجها عن زوجته لا يخرجها عن والديه وأقاربه الفقراء إن كانوا كبارًا ; لأنّه لا يلي عليهم ولايةً كاملةً . وذهب المالكيّة إلى أنّ زكاة الفطر يخرجها الشّخص عن نفسه وعن كلّ من تجب عليه نفقته . وهم الوالدان الفقيران ، والأولاد الذّكور الفقراء ، والإناث الفقيرات ، ما لم يدخل الزّوج بهنّ . والزّوجة والزّوجات وإن كنّ ذوات مالٍ ، وزوجة والده الفقير لحديث ابن عمر : { أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصّغير والكبير والحرّ والعبد ممّن تمونون } . أي : تنفقون عليهم . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ صدقة الفطر يخرجها الشّخص عن نفسه ، وعن كلّ من تجب عليه نفقته من المسلمين ، لقرابةٍ ، أو زوجيّةٍ ، أو ملكٍ ، وهم : أوّلًا : زوجته غير النّاشزة ولو مطلّقةً رجعيّةً ، سواء كانت حاملًا أم لا ، أم بائنًا حاملًا ، لوجوب نفقتهنّ عليه . لقوله تعالى : { وإن كنّ أولات حملٍ فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ } ومثلها الخادم إذا كانت نفقته غير مقدّرةٍ ، فإن كانت مقدّرةً بأن كان يعطى أجرًا كلّ يومٍ ، أو كلّ شهرٍ ، لا يخرج عنه الصّدقة ; لأنّه أجير والأجير لا ينفق عليه . ثانيًا : أصله وفرعه ذكرًا أو أنثى وإن علوا ، كجدّه وجدّته . ثالثًا : فرعه وإن نزل ذكرًا أو أنثى صغيرًا أو كبيرًا ، بشرط أن يكون أصله وفرعه فقراء . وقالوا : إن كان ولده الكبير عاجزًا عن الكسب أخرج الصّدقة عنه ، وقالوا : لا يلزم الابن فطرة زوجة أبيه الفقير ; لأنّه لا تجب عليه نفقتها . وذهب الحنابلة إلى أنّه يجب إخراج الصّدقة عن نفسه ، وعن كلّ من تجب عليه نفقته من المسلمين ، فإن لم يجد ما يخرجه لجميعهم بدأ بنفسه ، فزوجته ، فأمّه ، فأبيه ، ثمّ الأقرب فالأقرب على حسب ترتيب الإرث ، فالأب وإن علا مقدّم على الأخ الشّقيق ، والأخ الشّقيق مقدّم على الأخ لأبٍ . أمّا ابنه الصّغير الغنيّ فيخرج من ماله .
( سبب الوجوب ووقته ) :(/2)
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ وقت وجوب زكاة الفطر طلوع فجر يوم العيد ، وهو أحد قولين مصحّحين للمالكيّة . واستدلّوا بما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : { أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة } . دلّ الحديث على أنّ أداءها الّذي ندب إليه الشّارع هو قبل الخروج إلى مصلّى العيد ، فعلم أنّ وقت وجوبها هو يوم الفطر ، ولأنّ تسميتها صدقة الفطر ، تدلّ على أنّ وجوبها بطلوع فجر يوم الفطر ; لأنّ الفطر إنّما يكون بطلوع فجر ذلك اليوم ، أمّا قبله فليس بفطرٍ ; لأنّه في كلّ ليلةٍ من ليالي رمضان يصوم ويفطر ، فيعتبر مفطرًا من صومه بطلوع ذلك اليوم . وذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة ، إلى أنّ الوجوب هو بغروب شمس آخر يومٍ من رمضان ، وهو أحد قولين للمالكيّة ، لقول ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : { فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرةً للصّائم من اللّغو والرّفث ، وطعمةً للمساكين ، فمن أدّاها قبل الصّلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أدّاها بعد الصّلاة فهي صدقة من الصّدقات } . دلّ الحديث على أنّ صدقة الفطر تجب بغروب شمس آخر يومٍ من رمضان ، من جهة أنّه أضاف الصّدقة إلى الفطر ، والإضافة تقتضي الاختصاص ، أي الصّدقة المختصّة بالفطر ، وأوّل فطرٍ يقع عن جميع رمضان هو بغروب شمس آخر يومٍ من رمضان . ويظهر أثر الخلاف فيمن مات بعد غروب شمس آخر يومٍ من رمضان : فعند الشّافعيّة ومن وافقهم تخرج عنه صدقة الفطر ; لأنّه كان موجودًا وقت وجوبها ، وعند الحنفيّة ومن وافقهم لا تخرج عنه صدقة الفطر لأنّه لم يكن موجودًا ، ومن ولد بعد غروب شمس آخر يومٍ من رمضان تخرج عنه صدقة الفطر عند الحنفيّة ومن وافقهم ; لأنّه وقت وجوبها كان موجودًا ، ولا تخرج عنه الصّدقة عند الشّافعيّة ومن وافقهم ; لأنّه كان جنينًا في بطن أمّه وقت وجوبها . ومن أسلم بعد غروب الشّمس من آخر يومٍ من رمضان ، لا تخرج عنه الصّدقة عند الشّافعيّة ومن وافقهم ; لأنّه وقت وجوبها لم يكن أهلًا ، وعند الحنفيّة ومن وافقهم تخرج عنه صدقة الفطر ; لأنّه وقت وجوبها كان أهلًا .
( وقت وجوب الأداء ) :
9 - ذهب جمهور الحنفيّة إلى أنّ وقت وجوب أداء زكاة الفطر موسّع ، لأنّ الأمر بأدائها غير مقيّدٍ بوقتٍ ، كالزّكاة ، فهي تجب في مطلق الوقت وإنّما يتعيّن بتعيّنه ، ففي أيّ وقتٍ أدّى كان مؤدّيًا لا قاضيًا ، غير أنّ المستحبّ إخراجها قبل الذّهاب إلى المصلّى ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { اغنوهم في هذا اليوم } . وذهب الحسن بن زيادٍ من الحنفيّة إلى أنّ وقت وجوب الأداء مضيّق كالأضحيّة ، فمن أدّاها بعد يوم العيد بدون عذرٍ كان آثمًا ، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واتّفق جميع الفقهاء على أنّها لا تسقط بخروج وقتها ; لأنّها وجبت في ذمّته لمن هي له ، وهم مستحقّوها ، فهي دين لهم لا يسقط إلاّ بالأداء ; لأنّها حقّ للعبد ، أمّا حقّ اللّه في التّأخير عن وقتها فلا يجبر إلاّ بالاستغفار والنّدامة
. إخراجها قبل وقتها :
10 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز تقديمها عن وقتها يومين لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : كانوا يعطون صدقة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يسنّ إخراجها قبل صلاة العيد ويكره تأخيرها عن الصّلاة ، ومحرّم تأخيرها عن يوم العيد بلا عذرٍ ; لفوات المعنى المقصود ، وهو إغناء الفقراء عن الطّلب في يوم السّرور ، فلو أخّرها بلا عذرٍ عصى وقضى ، لخروج الوقت . وروى الحسن بن زيادٍ عن أبي حنيفة أنّه يجوز تقديمها عن وقتها سنةً أو سنتين كالزّكاة . وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه يجوز تقديمها في رمضان فقط ، وهو قول مصحّح للحنفيّة .
( مقدار الواجب ) :(/3)
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب إخراجه في الفطرة صاع من جميع الأصناف الّتي يجوز إخراج الفطرة منها عدا القمح والزّبيب ، فقد اختلفوا في المقدار فيهما : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ الواجب إخراجه في القمح هو صاع منه . وسيأتي بيان الصّاع ومقداره كيلًا ووزنًا . واستدلّ الجمهور على وجوب صاعٍ من برٍّ بحديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : { كنّا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعامٍ ، أو صاعًا من تمرٍ ، أو صاعًا من شعيرٍ ، أو صاعًا من زبيبٍ ، أو صاعًا من أقطٍ ، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت } . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الواجب إخراجه من القمح نصف صاعٍ ، وكذا دقيق القمح وسويقه ، أمّا الزّبيب فروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه يجب نصف صاعٍ كالبرّ ، لأنّ الزّبيب تزيد قيمته على قيمة القمح ، وذهب الصّاحبان - أبو يوسف ومحمّد - إلى أنّه يجب صاع من زبيبٍ ، واستدلّوا على ذلك بما روي عن أبي سعيدٍ الخدريّ - رضي الله عنه - : { كنّا نخرج إذ كان فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كلّ صغيرٍ وكبيرٍ ، حرٍّ أو مملوكٍ ، صاعًا من أقطٍ ، أو صاعًا من طعامٍ ، أو صاعًا من شعيرٍ ، أو صاعًا من تمرٍ ، أو صاعًا من زبيبٍ ، فلم نزل نخرج ، حتّى قدم علينا معاوية حاجًّا أو معتمرًا ، فكلّم النّاس على المنبر ، وكان فيما كلّم به النّاس أن قال : إنّي أرى أنّ مدّين من سمراء الشّام يعني القمح تعدل صاعًا من تمرٍ ، فأخذ النّاس بذلك ، أمّا أنا فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت ، كما كنت أخرجه } . دلّ الحديث على أنّ الّذي كان يخرج على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صاع من الزّبيب . استدلّ الحنفيّة على وجوب نصف صاعٍ من برٍّ بما روي { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب قبل الفطر بيومٍ أو يومين ، فقال : أدّوا صاعًا من برٍّ بين اثنين ، أو صاعًا من تمرٍ ، أو شعيرٍ ، عن كلّ حرٍّ ، وعبدٍ صغيرٍ أو كبيرٍ } .
( نوع الواجب ) :
12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجزئ إخراج زكاة الفطر القيمة من النّقود وهو الأفضل ، أو العروض ، لكن إن أخرج من البرّ أو دقيقه أو سويقه أجزأه نصف صاعٍ ، وإن أخرج من الشّعير أو التّمر أو الزّبيب فصاع ، لما روى ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال : { كان النّاس يخرجون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من شعيرٍ أو تمرٍ أو سلتٍ أو زبيبٍ } . قال ابن عمر : فلمّا كان عمر ، وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطةٍ ، مكان صاعٍ من تلك الأشياء . ثمّ قال الحنفيّة : ما سوى هذه الأشياء الأربعة المنصوص عليها من الحبوب كالعدس والأرز ، أو غير الحبوب كاللّبن والجبن واللّحم والعروض ، فتعتبر قيمته بقيمة الأشياء المنصوص عليها ، فإذا أراد المتصدّق أن يخرج صدقة الفطر من العدس مثلًا ، فيقوّم نصف صاعٍ من برٍّ ، فإذا كانت قيمة نصف الصّاع ثمانية قروشٍ مثلًا ، أخرج من العدس ما قيمته ثمانية قروشٍ مثلًا ، ومن الأرز واللّبن والجبن وغير ذلك من الأشياء الّتي لم ينصّ عليها الشّارع ، يخرج من العدس ما يعادل قيمته . وذهب المالكيّة ، إلى أنّه يخرج من غالب قوت البلد كالعدس والأرز ، والفول والقمح والشّعير والسّلت والتّمر والأقط والدّخن . وما عدا ذلك لا يجزئ ، إلاّ إذا اقتاته النّاس وتركوا الأنواع السّابقة ، ولا يجوز الإخراج من غير الغالب ، إلاّ إذا كان أفضل ، بأن اقتات النّاس الذّرة فأخرج قمحًا . وإذا أخرج من اللّحم اعتبر الشّبع ، فإذا كان الصّاع من البرّ يكفي اثنين إذا خبز ، أخرج من اللّحم ما يشبع اثنين . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يخرج من جنس ما يجب فيه العشر ، ولو وجدت أقوات فالواجب غالب قوت بلده ، وقيل : من غالب قوته ، وقيل : مخيّر بين الأقوات ، ويجزئ الأعلى من الأدنى لا العكس . وذهب الحنابلة إلى أنّه يخرج من البرّ أو التّمر أو الزّبيب أو الشّعير ، لحديث أبي سعيدٍ السّابق وفيه : { كنّا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعامٍ ، أو صاعًا من شعيرٍ ، أو صاعًا من تمرٍ ... } الحديث ويخيّر بين هذه الأشياء ، ولو لم يكن المخرج قوتًا . ويجزئ الدّقيق إذا كان مساويًا للحبّ في الوزن ، فإن لم يجد ذلك أخرج من كلّ ما يصلح قوتًا من ذرةٍ أو أرزٍ أو نحو ذلك .
13 - والصّاع مكيال متوارث من عهد النّبوّة ، وقد اختلف الفقهاء في تقديره كيلًا ، واختلفوا في تقديره بالوزن . وينظر تفصيله في مصطلح ( مقادير ) .
مصارف زكاة الفطر :
14 - اختلف الفقهاء فيمن تصرف إليه زكاة الفطر على ثلاثة آراءٍ : ذهب الجمهور إلى جواز قسمتها على الأصناف الثّمانية الّتي تصرف فيها زكاة المال ، وينظر مصطلح : ( زكاة ) . وذهب المالكيّة وهي رواية عن أحمد واختارها ابن تيميّة إلى تخصيص صرفها بالفقراء والمساكين . وذهب الشّافعيّة إلى وجوب قسمتها على الأصناف الثّمانية ، أو من وجد منهم .
( أداء القيمة ) :(/4)
15 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز دفع القيمة ، لأنّه لم يرد نصّ بذلك ، ولأنّ القيمة في حقوق النّاس لا تجوز إلاّ عن تراضٍ منهم ، وليس لصدقة الفطر مالك معيّن حتّى يجوز رضاه أو إبراؤه . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز دفع القيمة في صدقة الفطر ، بل هو أولى ليتيسّر للفقير أن يشتري أيّ شيءٍ يريده في يوم العيد ; لأنّه قد لا يكون محتاجًا إلى الحبوب بل هو محتاج إلى ملابس ، أو لحمٍ أو غير ذلك ، فإعطاؤه الحبوب ، يضطرّه إلى أن يطوف بالشّوارع ليجد من يشتري منه الحبوب ، وقد يبيعها بثمنٍ بخسٍ أقلّ من قيمتها الحقيقيّة ، هذا كلّه في حالة اليسر ، ووجود الحبوب بكثرةٍ في الأسواق ، أمّا في حالة الشّدّة وقلّة الحبوب في الأسواق ، فدفع العين أولى من القيمة مراعاةً لمصلحة الفقير ، وينظر التّفصيل في الزّكاة .
مكان دفع زكاة الفطر :
16 - تفرّق زكاة الفطر في البلد الّذي وجبت على المكلّف فيه ، سواء أكان ماله فيه أم لم يكن ; لأنّ الّذي وجبت عليه هو سبب وجوبها ، فتفرّق في البلد الّذي سببها فيه .
نقل زكاة الفطر :
17 - اختلف في نقل الزّكاة من البلد الّذي وجبت فيه إلى غيره ، وتفصيله ينظر في مصطلح : ( زكاة ) .(/5)
زكاة .
التّعريف
1 - الزّكاة لغةً : النّماء والرّيع والزّيادة ، من زكا يزكو زكاةً وزكاءً ، ومنه قول عليٍّ رضي الله عنه : العلم يزكو بالإنفاق . والزّكاة أيضًا الصّلاح ، قال اللّه تعالى { فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيرًا منه زكاةً } . قال الفرّاء : أي صلاحًا ، وقال تعالى : { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحدٍ أبدًا } أي ما صلح منكم { ولكنّ اللّه يزكّي من يشاء } أي يصلح من يشاء . وقيل لما يخرج من حقّ اللّه في المال " زكاة " ، لأنّه تطهير للمال ممّا فيه من حقٍّ ، وتثمير له ، وإصلاح ونماء بالإخلاف من اللّه تعالى . وزكاة الفطر طهرة للأبدان . وفي الاصطلاح : يطلق على أداء حقٍّ يجب في أموالٍ مخصوصةٍ ، على وجهٍ مخصوصٍ ويعتبر في وجوبه الحول والنّصاب . وتطلق الزّكاة أيضًا على المال المخرج نفسه ، كما في قولهم : عزل زكاة ماله ، والسّاعي يقبض الزّكاة . ويقال : زكّى ماله أي أخرج زكاته ، والمزكّي : من يخرج عن ماله الزّكاة . والمزكّي أيضًا : من له ولاية جمع الزّكاة . وقال ابن حجرٍ : قال ابن العربيّ : إنّ الزّكاة تطلق على الصّدقة الواجبة والمندوبة ، والنّفقة والحقّ ، والعفو . ثمّ ذكر تعريفها في الشّرع .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الصّدقة :
2 - الصّدقة : تطلق بمعنيين : الأوّل : ما أعطيته من المال قاصدًا به وجه اللّه تعالى فيشمل ما كان واجبًا وهو الزّكاة ، وما كان تطوّعًا . والثّاني : أن تكون بمعنى الزّكاة ، أي في الحقّ الواجب خاصّةً ، ومنه الحديث : { ليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة } . والمصدق - بفتح الصّاد مخفّفةً - هو السّاعي الّذي يأخذ الحقّ الواجب في الأنعام ، يقال : جاء السّاعي فصدق القوم ، أي أخذ منهم زكاة أنعامهم . والمتصدّق والمصّدّق - بتشديد الصّاد - هو معطي الصّدقة .
ب - العطيّة :
3 - العطيّة : هي ما أعطاه الإنسان من ماله لغيره ، سواء كان يريد بذلك وجه اللّه تعالى ، أو يريد به التّودّد ، أو غير ذلك ، فهي أعمّ من كلٍّ من الزّكاة والصّدقة والهبة ونحو ذلك .
( الحكم التّكليفيّ ) :
4 - الزّكاة فريضة من فرائض الإسلام ، وركن من أركان الدّين . وقد دلّ على وجوبها الكتاب والسّنّة والإجماع . فمن الكتاب قوله تعالى : { وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة } . وقوله : { فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فإخوانكم في الدّين } وقوله : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ما أدّيت زكاته فليس بكنزٍ } ومن السّنّة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { بني الإسلام على خمسٍ } وذكر منها إيتاء الزّكاة { وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرسل السّعاة ليقبضوا الصّدقات ، وأرسل معاذًا إلى أهل اليمن ، وقال له : أعلمهم أنّ اللّه افترض عليهم صدقةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم } . وقال صلى الله عليه وسلم : { من آتاه اللّه مالًا فلم يؤدّ زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان ، يطوّقه يوم القيامة ، ثمّ يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثمّ يقول : أنا مالك ، أنا كنزك } . وأمّا الإجماع فقد أجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبها من حيث الجملة ، واتّفق الصّحابة رضي الله عنهم على قتال مانعيها . فقد روى البخاريّ أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال : لمّا توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه ، وكفر من كفر من العرب ، فقال عمر رضي الله عنه : كيف تقاتل النّاس وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه . فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على اللّه } . فقال أبو بكرٍ : واللّه لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة ، فإنّ الزّكاة حقّ المال . واللّه لو منعوني عناقًا كانوا يؤدّونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر : فواللّه ما هو إلاّ أن قد شرح اللّه صدر أبي بكرٍ رضي الله عنه ، فعرفت أنّه الحقّ .
أطوار فرضيّة الزّكاة :(/1)
5 - إيتاء الزّكاة كان مشروعًا في ملل الأنبياء السّابقين ، قال اللّه تعالى في حقّ إبراهيم وآله عليهم الصلاة والسلام : { وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وكانوا لنا عابدين } . وشرع للمسلمين إيتاء الصّدقة للفقراء ، منذ العهد المكّيّ ، كما في قوله تعالى : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فكّ رقبةٍ أو إطعام في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيمًا ذا مقربةٍ أو مسكينًا ذا متربةٍ } وبعض الآيات المكّيّة جعلت للفقراء في أموال المؤمنين حقًّا معلومًا ، كما في قوله تعالى : { والّذين في أموالهم حقّ معلوم للسّائل والمحروم } . وقال ابن حجرٍ : اختلف في أوّل فرض الزّكاة فذهب الأكثرون إلى أنّه وقع بعد الهجرة ، وادّعى ابن خزيمة في صحيحه أنّ فرضها كان قبل الهجرة . واحتجّ بقول جعفرٍ للنّجاشيّ : { ويأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّيام } ويحمل على أنّه كان يأمر بذلك في الجملة ، ولا يلزم أن يكون المراد هذه الزّكاة المخصوصة ذات النّصاب والحول . قال : وممّا يدلّ على أنّ فرض الزّكاة وقع بعد الهجرة اتّفاقهم على أنّ صيام رمضان إنّما فرض بعد الهجرة ; لأنّ الآية الدّالّة على فرضيّته مدنيّة بلا خلافٍ ، وثبت من حديث قيس بن سعدٍ قال : { أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزّكاة ، ثمّ نزلت فريضة الزّكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ، ونحن نفعله } .
فضل إيتاء الزّكاة :
6 - يظهر فضل الزّكاة من أوجهٍ :
1 - اقترانها بالصّلاة في كتاب اللّه تعالى ، فحيثما ورد الأمر بالصّلاة اقترن به الأمر بالزّكاة ، من ذلك قوله تعالى : { وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه } . ومن هنا قال أبو بكرٍ في قتال مانعي الزّكاة : واللّه لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة ، إنّها لقرينتها في كتاب اللّه .
2 - أنّها ثالث أركان الإسلام الخمسة ، لما في الحديث { بني الإسلام على خمسٍ : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدًا رسول اللّه ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت } .
3 - أنّها من حيث هي فريضة أفضل من سائر الصّدقات لأنّها تطوّعيّة ، وفي الحديث القدسيّ { ما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه } . أمّا فضل إيتاء الزّكاة من حيث هي صدقة من الصّدقات فيأتي في مباحث : ( صدقة التّطوّع ) .
حكمة تشريع الزّكاة :
7 - أ - أنّ الصّدقة وإنفاق المال في سبيل اللّه يطهّران النّفس من الشّحّ والبخل ، وسيطرة حبّ المال على مشاعر الإنسان ، ويزكّيه بتوليد مشاعر الموادّة ، والمشاركة في إقالة العثرات ، ودفع حاجة المحتاجين ، أشار إلى ذلك قول اللّه تعالى . { خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها } ، وفيها من المصالح للفرد والمجتمع ما يعرف في موضعه ، ففرض اللّه تعالى من الصّدقات حدًّا أدنى ألزم العباد به ، وبيّن مقاديره ، قال الدّهلويّ : إذ لولا التّقدير لفرّط المفرط ولاعتدى المعتدي . ب - الزّكاة تدفع أصحاب الأموال المكنوزة دفعًا إلى إخراجها لتشترك في زيادة الحركة الاقتصاديّة ، يشير إلى ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ألا من ولي يتيمًا له مال فليتّجر فيه ، ولا يتركه حتّى تأكله الصّدقة } .
ج - الزّكاة تسدّ حاجة جهات المصارف الثّمانية وبذلك تنتفي المفاسد الاجتماعيّة والخلقيّة النّاشئة عن بقاء هذه الحاجات دون كفايةٍ .
أحكام مانع الزّكاة : إثم مانع الزّكاة :
8 - من منع الزّكاة فقد ارتكب محرّمًا هو كبيرة من الكبائر ، وورد في القرآن والسّنّة ما يفيد أنّ عقوبته في الآخرة من نوعٍ خاصٍّ ، كما في حديث مسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { ما من صاحب كنزٍ لا يؤدّي زكاته إلاّ أحمي عليه في نار جهنّم ، فيجعل صفائح ، فيكوى بها جنباه وجبينه ، حتّى يحكم اللّه بين عباده في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ ، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار ، وما من صاحب إبلٍ لا يؤدّي زكاتها إلاّ بطح لها بقاعٍ قرقرٍ كأوفر ما كانت تستنّ عليه ، كلّما مضى عليه أخراها ردّت عليه أولاها ، حتّى يحكم اللّه بين عباده ، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ ، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار ، وما من صاحب غنمٍ لا يؤدّي زكاتها ، إلاّ بطح لها بقاعٍ قرقرٍ ، كأوفر ما كانت ، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ، كلّما مضى عليه أخراها ردّت عليه أولاها ، حتّى يحكم اللّه بين عباده ، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ ممّا تعدّون ، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار } .
العقوبة لمانع الزّكاة :(/2)
9 - من منع الزّكاة وهو في قبضة الإمام تؤخذ منه قهرًا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على اللّه } ومن حقّها الزّكاة ، قال أبو بكرٍ رضي الله عنه بمحضر الصّحابة : الزّكاة حقّ المال " وقال رضي الله عنه : واللّه لو منعوني عقالًا كانوا يؤدّونه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . وأقرّه الصّحابة على ذلك . وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ مانع الزّكاة إذا أخذت منه قهرًا لا يؤخذ معها من ماله شيء . وذهب الشّافعيّ في القديم ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو بكرٍ عبد العزيز من أصحاب أحمد إلى أنّ مانع الزّكاة يؤخذ شطر ماله عقوبةً له ، مع أخذ الزّكاة منه . واحتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { في كلّ سائمة إبلٍ في كلّ أربعين بنت لبونٍ ، لا تفرّق إبل عن حسابها ، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ، ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربّنا ، لا يحلّ لآل محمّدٍ منها شيء } . ويستدلّ لقول الجمهور بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ليس في المال حقّ سوى الزّكاة } . وبأنّ الصّحابة رضي الله عنهم لم يأخذوا نصف أموال الأعراب الّذين منعوا الزّكاة . فأمّا من كان خارجًا عن قبضة الإمام ومنع الزّكاة ، فعلى الإمام أن يقاتله ; لأنّ الصّحابة قاتلوا الممتنعين من أدائها ، فإن ظفر به أخذها منه من غير زيادةٍ على قول الجمهور كما تقدّم . وهذا فيمن كان مقرًّا بوجوب الزّكاة ، لكن منعها بخلًا أو تأوّلًا ، ولا يحكم بكفره ، ولذا فإن مات في قتاله عليها ورثه المسلمون من أقاربه وصلّي عليه . وفي روايةٍ عن أحمد يحكم بكفره ولا يورث ولا يصلّى عليه ، لما روي أنّ أبا بكرٍ لمّا قاتل مانعي الزّكاة ، وعضّتهم الحرب قالوا : نؤدّيها ، قال : لا أقبلها حتّى تشهدوا أنّ قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار ، ووافقه عمر . ولم ينقل إنكار ذلك عن أحدٍ من الصّحابة فدلّ على كفرهم . وأمّا من منع الزّكاة منكرًا لوجوبها ، فإن كان جاهلًا ومثله يجهل ذلك لحداثة عهده بالإسلام ، أو لأنّه نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن الأمصار ، أو نحو ذلك ، فإنّه يعرّف وجوبها ولا يحكم بكفره لأنّه معذور ، وإن كان مسلمًا ناشئًا ببلاد الإسلام بين أهل العلم فيحكم بكفره ، ويكون مرتدًّا ، وتجري عليه أحكام المرتدّ ، لكونه أنكر معلومًا من الدّين بالضّرورة .
من تجب في ماله الزّكاة :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ البالغ العاقل المسلم الحرّ العالم بكون الزّكاة فريضةً ، رجلًا كان أو امرأةً تجب في ماله الزّكاة إذا بلغ نصابًا ، وكان متمكّنًا من أداء الزّكاة ، وتمّت الشّروط في المال . واختلفوا فيما عدا ذلك كما يلي :
أ - الزّكاة في مال الصّغير والمجنون :(/3)
11 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الزّكاة تجب في مال كلٍّ من الصّغير والمجنون ذكرًا كان أو أنثى ، وهو مرويّ عن عمر ، وابنه ، وعليٍّ وابنه الحسن ، وعائشة ، وجابرٍ ، وبه قال ابن سيرين ومجاهد ، وربيعة ، وابن عيينة ، وأبو عبيدٍ وغيرهم . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ألا من ولي يتيمًا له مال فليتّجر فيه ، ولا يتركه حتّى تأكله الصّدقة } والمراد بالصّدقة الزّكاة المفروضة ; لأنّ اليتيم لا يخرج من ماله صدقة تطوّعٍ ، إذ ليس للوليّ أن يتبرّع من مال اليتيم بشيءٍ ; ولأنّ الزّكاة تراد لثواب المزكّي ومواساة الفقير ، والصّبيّ والمجنون من أهل الثّواب وأهل المواساة على ما قال الشّيرازيّ ، وبأنّ الزّكاة حقّ يتعلّق بالمال ، فأشبه نفقة الأقارب وأروش الجنايات وقيم المتلفات . وقال الدّردير : إنّما وجبت في مالهما لأنّها من باب خطاب الوضع . ويتولّى الوليّ إخراج الزّكاة من مالهما ; لأنّ الوليّ يقوم مقامهما في أداء ما عليهما من الحقوق ، كنفقة القريب ، وعلى الوليّ أن ينوي أنّها زكاة ، فإن لم يخرجها الوليّ وجب على الصّبيّ بعد البلوغ ، والمجنون بعد الإفاقة ، إخراج زكاة ما مضى . وروي عن ابن مسعودٍ والثّوريّ والأوزاعيّ أنّهم قالوا : تجب الزّكاة ، ولا تخرج حتّى يبلغ الصّبيّ ، أو يفيق المجنون ، وذلك أنّ الوليّ ليس له ولاية الأداء ، قال ابن مسعودٍ : احص ما يجب في مال اليتيم من الزّكاة ، فإذا بلغ فأعلمه ، فإن شاء زكّى وإن شاء لم يزكّ ، أي لا إثم على الوليّ بعدئذٍ إن لم يزكّ الصّبيّ . وذهب ابن شبرمة إلى أنّ أمواله الظّاهرة من نعمٍ وزرعٍ وثمرٍ يزكّى ، وأمّا الباطنة فلا . وقال سعيد بن المسيّب : لا يزكّي حتّى يصلّي ويصوم ، وقال أبو وائلٍ ، والنّخعيّ ، وسعيد بن جبيرٍ والحسن البصريّ : لا زكاة في مال الصّبيّ ، وذهب أبو حنيفة وهو مرويّ عن عليٍّ وابن عبّاسٍ إلى أنّ الزّكاة لا تجب في مال الصّغير والمجنون ، إلاّ أنّه يجب العشر في زروعهما وثمارهما ، وزكاة الفطر عنهما . واستدلّ لهذا القول بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يفيق ، وعن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم } . ولأنّها عبادة ، فلا تتأدّى إلاّ بالاختيار تحقيقًا لمعنى الابتلاء ، ولا اختيار للصّبيّ والمجنون لعدم العقل ، وقياسًا على عدم وجوبها على الذّمّيّ لأنّه ليس من أهل العبادة ، وإنّما وجب العشر فيما يخرج من أرضهما لأنّه في معنى مؤنة الأرض ، ومعنى العبادة فيه تابع . وممّا يتّصل بهذا زكاة مال الجنين من إرثٍ أو غيره ، ذكر فيه النّوويّ عند الشّافعيّة طريقين والمذهب أنّها لا تجب ، قال : وبذلك قطع الجمهور ; لأنّ الجنين لا يتيقّن حياته ولا يوثق بها ، فلا يحصل تمام الملك واستقراره ، قال : فعلى هذا يبتدئ حول ماله من حين ينفصل .
ب - الزّكاة في مال الكافر :
12 - لا تجب الزّكاة في مال الكافر الأصليّ اتّفاقًا ، حربيًّا كان أو ذمّيًّا ; لأنّه حقّ لم يلتزمه ; ولأنّها وجبت طهرةً للمزكّي ، والكافر لا طهرة له ما دام على كفره . وأخذ عمر رضي الله عنه الزّكاة مضاعفةً من نصارى بني تغلب عندما رفضوا دفع الجزية ورضوا بدفع الزّكاة . وقد ذهب الجمهور إلى أنّ ما يؤخذ منهم يصرف في مصارف الفيء ; لأنّه في حقيقته جزية ، وذهب محمّد بن الحسن إلى أنّه يصرف في مصارف الزّكاة وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة . أمّا المرتدّ ، فما وجب عليه من الزّكاة في إسلامه ، وذلك إذا ارتدّ بعد تمام الحول على النّصاب لا يسقط في قول الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّه حقّ مالٍ فلا يسقط بالرّدّة كالدّين ، فيأخذه الإمام من ماله كما يأخذ الزّكاة من المسلم الممتنع ، فإن أسلم بعد ذلك لم يلزمه أداؤها . وذهب الحنفيّة إلى أنّه تسقط بالرّدّة الزّكاة الّتي وجبت في مال المرتدّ قبل الرّدّة ، لأنّ من شرطها النّيّة عند الأداء ، ونيّته العبادة وهو كافر غير معتبرةٍ ، فتسقط بالرّدّة كالصّلاة ، حتّى ما كان منها زكاة الخارج من الأرض . وأمّا إذا ارتدّ قبل تمام الحول على النّصاب فلا يثبت الوجوب عند الجمهور من الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة . والأصحّ عند الشّافعيّة أنّ ملكه لماله موقوف فإن عاد إلى الإسلام تبيّن بقاء ملكه وتجب فيه الزّكاة وإلاّ فلا .
ج - من لم يعلم بفرضيّة الزّكاة :
13 - ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وابن المنذر ، وزفر من الحنفيّة إلى أنّ العلم بكون الزّكاة مفروضةً ليس شرطًا لوجوبها ، فتجب الزّكاة على الحربيّ إذا أسلم في دار الحرب وله سوائم ومكث هناك سنين ولا علم له بالشّريعة الإسلاميّة ، ويخاطب بأدائها إذا خرج إلى دار الإسلام . وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنّ العلم بكون الزّكاة فريضةً شرط لوجوب الزّكاة فلا تجب الزّكاة على الحربيّ في الصّورة المذكورة .
د - من لم يتمكّن من الأداء :(/4)
14 - ذهب مالك والشّافعيّ إلى أنّ التّمكّن من الأداء شرط لوجوب أداء الزّكاة ، فلو حال الحول ثمّ تلف المال قبل أن يتمكّن صاحبه من الأداء فلا زكاة عليه ، حتّى لقد قال مالك : إنّ المالك لو أتلف المال بعد الحول قبل إمكان الأداء فلا زكاة عليه إذا لم يقصد الفرار من الزّكاة . واحتجّ لهذا القول بأنّ الزّكاة عبادة فيشترط لوجوبها إمكان أدائها كالصّلاة والصّوم . وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ التّمكّن من الأداء ليس شرطًا لوجوبها ، لمفهوم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا زكاة في مالٍ حتّى يحول عليه الحول } . فمفهومه وجوبها عليه إذا حال الحول ، ولأنّ الزّكاة عبادة ماليّة ، فيثبت وجوبها في الذّمّة مع عدم إمكان الأداء ، كثبوت الدّيون في ذمّة المفلس .
الزّكاة في المال العامّ ( أموال بيت المال ) :
14 م - نصّ الحنابلة على أنّ مال الفيء ، وخمس الغنيمة ، وكلّ ما هو تحت يد الإمام ممّا يرجع إلى الصّرف في مصالح المسلمين لا زكاة فيه . ولم نجد لدى غيرهم تعرّضًا لهذه المسألة مع مراعاتها في التّطبيق ، إذ لم يعهد علمًا ولا عملًا أخذ الزّكاة من الأموال العامّة .
الزّكاة في الأموال المشتركة والأموال المختلفة والأموال المتفرّقة :
15 - الّذي يكلّف بالزّكاة هو الشّخص المسلم بالنّسبة لماله ، فإن كان ما يملكه نصابًا وحال عليه الحول وتمّت الشّروط ففيه الزّكاة ، فإن كان المال شركةً بينه وبين غيره ، وكان المال نصابًا فأكثر فلا زكاة على أحدٍ من الشّركاء عند الجمهور ، وهو قول عند الشّافعيّة حتّى يكون نصيبه نصابًا ، ولا يستثنى من ذلك عند الحنفيّة شيء ، ويستثنى عند الجمهور ومنهم الشّافعيّة السّائمة المشتركة فإنّها تعامل معاملة مال رجلٍ واحدٍ في القدر الواجب وفي النّصاب عند غير المالكيّة ، وكذا السّائمة المختلطة - أي الّتي يتميّز حقّ كلٍّ من الخليطين فيها لكنّها تشترك في المرعى ونحوه من المرافق - وذهب الشّافعيّة على الأظهر إلى أنّ المال المشترك والمال المختلط يعامل معاملة مال رجلٍ واحدٍ في النّصاب والقدر الواجب ، وهو رواية أخرى عند الحنابلة رجّح العمل بها بعضهم كابن عقيلٍ والآجرّيّ . واحتجّوا بعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا يفرّق بين مجتمعٍ ولا يجمع بين متفرّقٍ خشية الصّدقة } . ولمعرفة تفصيل القول في ذلك والخلاف فيه ينظر مصطلح ( خلطة ) . هذا إذا كان المال في بلدٍ واحدٍ ، أمّا إن كان مال الرّجل مفرّقًا بين بلدين أو أكثر ، فإن كان من غير المواشي فلا أثر لتفرّقه ، بل يزكّى زكاة مالٍ واحدٍ . وإن كان من المواشي وكان بين البلدين مسافة قصرٍ فأكثر فكذلك عند الجمهور ، وهو رواية عن أحمد رجّحها صاحب المغني . والمعتمد عند الحنابلة أنّ كلّ مالٍ منها يزكّى منفردًا عمّا سواه ، فإن كان كلا المالين نصابًا زكّاهما كنصابين ، وإن كان أحدهما نصابًا والآخر أقلّ من نصابٍ زكّى ما تمّ نصابًا دون الآخر . قال ابن المنذر : لا أعلم هذا القول عن غير أحمد . واحتجّ من ذهب إلى هذا بأنّه لمّا أثّر اجتماع مال الجماعة حال الخلطة في مرافق الملك ومقاصده على أتمّ الوجوه حتّى جعله كمالٍ واحدٍ وجب تأثير الافتراق الفاحش في المال الواحد حتّى يجعله كمالين . واحتجّ أحمد بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ولا يجمع بين متفرّقٍ } ولأنّ كلّ مالٍ تخرج زكاته ببلده .
شروط المال الّذي تجب فيه الزّكاة :
16 - يشترط في المال الّذي تجب فيه الزّكاة من حيث الجملة شروط :
1 - كونه مملوكًا لمعيّنٍ .
2 - وكون مملوكيّته مطلقةً ( أي كونه مملوكًا رقبةً ويدًا ) .
3 - وكونه ناميًا .
4 - وأن يكون زائدًا على الحاجات الأصليّة .
5- حولان الحول .
6- وبلوغه نصابًا ، والنّصاب في كلّ نوعٍ من المال بحسبه .
7- وأن يسلم من وجود المانع ، والمانع أن يكون على المالك دين ينقص النّصاب .
17 - الشّرط الأوّل : كون المال مملوكًا لمعيّنٍ : فلا زكاة فيما ليس له مالك معيّن ، ومن هنا ذهب الحنفيّة إلى أنّ الزّكاة لا تجب في سوائم الوقف ، والخيل المسبّلة ; لأنّها غير مملوكةٍ . قالوا : لأنّ في الزّكاة تمليكًا ، والتّمليك في غير الملك لا يتصوّر ، قالوا : ولا تجب الزّكاة في ما استولى عليه العدوّ ، وأحرزوه بدارهم ; لأنّهم ملكوه بالإحراز ، فزال ملك المسلم عنه . وقال المالكيّة : لا زكاة في الموصى به لغير معيّنين . وتجب في الموقوف ولو على غير معيّنٍ كمساجد ، أو بني تميمٍ ; لأنّ الوقف عندهم لا يخرجه عن ملك الواقف ، فلو وقف نقودًا للسّلف يزكّيها الواقف أو المتولّي عليها منها كلّما مرّ عليها حول من يوم ملكها ، أو زكّاها إن كانت نصابًا ، وهذا إن لم يتسلّفها أحد ، فإن تسلّفها أحد زكّيت بعد قبضها منه لعامٍ واحدٍ . وفصّل الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إذا كان الوقف على غير معيّنٍ ، كالفقراء ، أو كان على مسجدٍ ، أو مدرسةٍ ، أو رباطٍ ونحوه ممّا لا يتعيّن له مالك لا زكاة فيه . وكذا النّقد الموصى به في وجوه البرّ ، أو ليشترى به وقف لغير معيّنٍ ، بخلاف الموقوف على معيّنٍ فإنّه يملكه فتجب فيه الزّكاة عند الحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة ، وقيل عندهم : لا تجب ; لأنّ ملكه ينتقل إلى اللّه تعالى لا إلى الموقوف عليه .
18 - الشّرط الثّاني : أن يكون ملكيّة المال مطلقةً : وهذه عبارة الحنفيّة ، وعبّر غيرهم بالملك التّامّ : وهو ما كان في يد مالكه ينتفع به ويتصرّف فيه . والملك النّاقص يكون في أنواعٍ من المال معيّنةٍ ، منها :(/5)
1 - مال الضّمار : وهو كلّ مالٍ مالكه غير قادرٍ على الانتفاع به لكون يده ليست عليه ، فمذهب أبي حنيفة ، وصاحبيه ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة أنّه لا زكاة عليه فيه ، كالبعير الضّالّ ، والمال المفقود ، والمال السّاقط في البحر ، والمال الّذي أخذه السّلطان مصادرةً ، والدّين المجحود إذا لم يكن للمالك بيّنة ، والمال المغصوب الّذي لا يقدر صاحبه على أخذه ، والمسروق الّذي لا يدري من سرقه ، والمال المدفون في الصّحراء إذا خفي على المالك مكانه ، فإن كان مدفونًا في البيت تجب فيه الزّكاة عند الحنفيّة ، أي لأنّه في مكان محدودٍ . واحتجّوا بما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال : ليس في مال الضّمار زكاة ولأنّ المال إذا لم يكن الانتفاع به والتّصرّف فيه مقدورًا لا يكون المالك به غنيًّا . قالوا : وهذا بخلاف ابن السّبيل ( أي المسافر عن وطنه ) فإنّ الزّكاة تجب في ماله ; لأنّ مالكه يقدر على الانتفاع به ، وكذا الدّين المقرّ به إذا كان على مليءٍ . وذهب مالك إلى أنّ المال الضّائع ونحوه كالمدفون في صحراء إذا ضلّ صاحبه عنه أو كان بمحلٍّ لا يحاط به ، فإنّه يزكّى لعامٍ واحدٍ إذا وجده صاحبه ولو بقي غائبًا عنه سنين . وذهب الشّافعيّة في الأظهر وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّ الزّكاة تجب في المال الضّائع ولكن لا يجب دفعها حتّى يعود المال . فإن عاد يخرجها صاحبه عن السّنوات الماضية كلّها ; لأنّ السّبب الملك ، وهو ثابت . قالوا : لكن لو تلف المال ، أو ذهب ولم يعد سقطت الزّكاة . وكذا عندهم المال الّذي لا يقدر عليه صاحبه لانقطاع خبره ، أو انقطاع الطّريق إليه . والمال الموروث صرّح المالكيّة بأنّه لا زكاة فيه إلاّ بعد قبضه ، يستقبل به الوارث حولًا ، ولو كان قد أقام سنين ، وسواء علم الوارث به أو لم يعلم .
الزّكاة في مال الأسير ، والمسجون ونحوه :
19 - من كان مأسورًا أو مسجونًا قد حيل بينه وبين التّصرّف في ماله والانتفاع به ، ذكر ابن قدامة أنّ ذلك لا يمنع وجوب الزّكاة عليه ; لأنّه لو تصرّف في ماله ببيعٍ وهبةٍ ونحوهما نفذ ، وكذا لو وكّل في ماله نفذت الوكالة . أمّا عند المالكيّة فإنّ كون الرّجل مفقودًا أو أسيرًا يسقط الزّكاة في حقّه من أمواله الباطنة ، لأنّه بذلك يكون مغلوبًا على عدم التّنمية فيكون ماله حينئذٍ كالمال الضّائع ، ولذا يزكّيها إذا أطلق لسنةٍ واحدةٍ كالأموال الضّائعة . وفي قول الأجهوريّ والزّرقانيّ : لا زكاة عليه فيها أصلًا . وفي قول البنانيّ : لا تسقط الزّكاة عن الأسير والمفقود ، بل تجب الزّكاة عليهما كلّ عامٍ ، لكن لا يجب الإخراج من مالهما بل يتوقّف مخافة حدوث الموت . أمّا المال الظّاهر فقد اتّفقت كلمة المالكيّة أنّ الفقد والأسر لا يسقطان زكاته ; لأنّها محمولان على الحياة ، ويجوز أخذ الزّكاة من مالهما الظّاهر وتجزئ ، ولا يضرّ عدم النّيّة ; لأنّ نيّة المخرج تقوم مقام نيّته . ولم نجد لغير من ذكر تعرّضًا لهذه المسألة .
زكاة الدّين :(/6)
20 - الدّين مملوك للدّائن ، ولكنّه لكونه ليس تحت يد صاحبه فقد اختلفت فيه أقوال الفقهاء : فذهب ابن عمر ، وعائشة ، وعكرمة مولى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهم ، إلى أنّه لا زكاة في الدّين ، ووجهه أنّه غير نامٍ ، فلم تجب زكاته ، كعروض القنيّة ( وهي العروض الّتي تقتنى لأجل الانتفاع الشّخصيّ ) . وذهب جمهور العلماء إلى أنّ الدّين الحالّ قسمان : دين حالّ مرجوّ الأداء ، ودين حالّ غير مرجوّ الأداء . 21 - فالدّين الحالّ المرجوّ الأداء : هو ما كان على مقرٍّ به باذلٍ له ، وفيه أقوال : فمذهب الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو قول الثّوريّ : أنّ زكاته تجب على صاحبه كلّ عامٍ لأنّه مال مملوك له ، إلاّ أنّه لا يجب عليه إخراج الزّكاة منه ما لم يقبضه ، فإذا قبضه زكّاه لكلّ ما مضى من السّنين . ووجه هذا القول : أنّه دين ثابت في الذّمّة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه ; ولأنّه لا ينتفع به في الحال ، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مالٍ لا ينتفع به . على أنّ الوديعة الّتي يقدر صاحبها أن يأخذها في أيّ وقتٍ ليست من هذا النّوع ، بل يجب إخراج زكاتها عند الحول . ومذهب الشّافعيّ في الأظهر ، وحمّاد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وأبي عبيدٍ أنّه يجب إخراج زكاة الدّين المرجوّ الأداء في نهاية كلّ حولٍ ، كالمال الّذي هو بيده ، لأنّه قادر على أخذه والتّصرّف فيه . وجعل المالكيّة الدّين أنواعًا : فبعض الدّيون يزكّى كلّ عامٍ وهي دين التّاجر المدير عن ثمن بضاعةٍ تجاريّةٍ باعها ، وبعضها يزكّى لحولٍ من أصله لسنةٍ واحدةٍ عند قبضه ولو أقام عند المدين سنين ، وهو ما أقرضه لغيره من نقدٍ ، وكذا ثمن بضاعةٍ باعها محتكر ، وبعض الدّيون لا زكاة فيه ، وهو ما لم يقبض من نحو هبةٍ أو مهرٍ أو عوض جنايةٍ . 22 - وأمّا الدّين غير المرجوّ الأداء ، فهو ما كان على معسرٍ أو جاحدٍ أو مماطلٍ ، وفيه مذاهب : فمذهب الحنفيّة فيه كما تقدّم ، وهو قول قتادة وإسحاق ، وأبي ثورٍ ، ورواية عن أحمد ، وقول مقابل للأظهر للشّافعيّ : أنّه لا زكاة فيه لعدم تمام الملك ; لأنّه غير مقدورٍ على الانتفاع به . والقول الثّاني وهو قول الثّوريّ ، وأبي عبيدٍ ورواية عن أحمد ، وقول للشّافعيّ هو الأظهر : أنّه يزكّيه إذا قبضه لما مضى من السّنين ، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه في الدّين المظنون " إن كان صادقًا فليزكّه إذا قبضه لما مضى . وذهب مالك إلى أنّه إن كان ممّا فيه الزّكاة يزكّيه إذا قبضه لعامٍ واحدٍ وإن أقام عند المدين أعوامًا . وهو قول عمر بن عبد العزيز ، والحسن واللّيث ، والأوزاعيّ . واستثنى الشّافعيّة والحنابلة ما كان من الدّين ماشيةً فلا زكاة فيه ; لأنّ شرط الزّكاة في الماشية عندهم السّوم ، وما في الذّمّة لا يتّصف بالسّوم . الدّين المؤجّل :
23 - ذهب الحنابلة وهو الأظهر من قولي الشّافعيّة : إلى أنّ الدّين المؤجّل بمنزلة الدّين على المعسر ; لأنّ صاحبه غير متمكّنٍ من قبضه في الحال فيجب إخراج زكاته إذا قبضه عن جميع السّنوات السّابقة . ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه يجب دفع زكاته عند الحول ولو لم يقبضه . ولم نجد عند الحنفيّة والمالكيّة تفريقًا بين المؤجّل والحالّ . أقسام الدّين عند الحنفيّة :
24 - ذهب الصّاحبان إلى أنّ الدّيون كلّها نوع واحد ، فكلّما قبض شيئًا منها زكّاه إن كان الدّين نصابًا أو بلغ بضمّه إلى ما عنده نصابًا . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الدّين ثلاثة أقسامٍ : الأوّل : الدّين القويّ : وهو ما كان بدل مالٍ زكويٍّ ، كقرض نقدٍ ، أو ثمن مال سائمةٍ ، أو عرض تجارةٍ . فهذا كلّما قبض شيئًا منه زكّاه ولو قليلًا ( مع ملاحظة مذهبه في الوقص في الذّهب والفضّة ، فلا زكاة في المقبوض من دين دراهم مثلًا إلاّ إذا بلغت 40 درهمًا ويكون فيها درهم ) وحوله حول أصله ; لأنّ أصله زكويّ فيبنى على حول أصله روايةً واحدةً . الثّاني : الدّين الضّعيف : وهو ما لم يكن ثمن مبيعٍ ولا بدلًا لقرض نقدٍ ، ومثاله المهر والدّية وبدل الكتابة والخلع ، فهذا متى قبض منه شيئًا وكان عنده نصاب غيره قد انعقد حوله يزكّيه معه كالمال المستفاد ، وإن لم يكن عنده من غيره نصاب فإنّه لا تجب فيه الزّكاة إلاّ إذا قبض منه نصابًا وحال عليه الحول عنده منذ قبضه ; لأنّه بقبضه أصبح مالًا زكويًّا . الثّالث : الدّين المتوسّط : وهو ما كان ثمن عرض قنيةٍ ممّا لا تجب فيه الزّكاة ، كثمن داره أو متاعه المستغرق بالحاجة الأصليّة . ففي روايةٍ ، يعتبر مالًا زكويًّا من حين باع ما باعه فتثبت فيه الزّكاة لما مضى من الوقت ، ولا يجب الأداء إلاّ بعد أن يتمّ ما يقبضه منه نصابًا ، وفي روايةٍ أخرى : لا يبتدئ حوله إلاّ من حين يقبض منه نصابًا ، لأنّه حينئذٍ أصبح زكويًّا ، فصار كالحادث ابتداءً .
الأجور المقبوضة سلفًا :(/7)
25 - مذهب الحنابلة ، ونقله الكاسانيّ عن محمّد بن الفضل البخاريّ الحنفيّ ، وهو قول عند الشّافعيّة : إنّ الأجرة المعجّلة لسنين إذا حال عليها الحول تجب على المؤجّر زكاتها كلّها ، لأنّه يملكها ملكًا تامًّا من حين العقد . بدليل جواز تصرّفه فيها ، وإن كان ربّما يلحقه دين بعد الحول بالفسخ الطّارئ . وعند المالكيّة لا زكاة على المؤجّر فيما قبضه مقدّمًا إلاّ بتمام ملكه ، فلو آجر نفسه ثلاث سنين بستّين دينارًا ، كلّ سنةٍ بعشرين ، وقبض السّتّين معجّلةً ولا شيء له غيرها ، فإذا مرّ على ذلك حول فلا زكاة عليه ; لأنّ العشرين الّتي هي أجرة السّنة الأولى لم يتحقّق ملكه لها إلاّ بانقضائها ; لأنّها كانت عنده بمثابة الوديعة ، فلم يملكها حولًا كاملًا ، فإذا مرّ الحول الثّاني زكّى عشرين ، وإذا مرّ الثّالث زكّى أربعين إلاّ ما أنقصته الزّكاة ، فإذا مرّ الرّابع زكّى الجميع . وفي قولٍ عند المالكيّة وهو الأظهر للشّافعيّة : لا تجب إلاّ زكاة ما استقرّ ; لأنّ ما لم يستقرّ معرّض للسّقوط ، فتجب زكاة العشرين الأولى بتمام الحول الأوّل ، لأنّ الغيب كشف أنّه ملكها من أوّل الحول . وإذا تمّ الحول الثّاني فعليه زكاة عشرين لسنةٍ وهي الّتي زكّاها في آخر السّنة الأولى ، وزكاة عشرين لسنتين ، وهي الّتي استقرّ عليها ملكه الآن ، وهكذا . ولم نجد عند الحنفيّة تعرّضًا لهذه المسألة .
زكاة الثّمن المقبوض عن بضائع لم يجر تسليمها :
26 - إذا اشترى مالًا بنصاب دراهم ، أو أسلم نصابًا في شيءٍ فحال الحول قبل أن يقبض المشتري المبيع ، أو يقبض المسلّم فيه ، والعقد باقٍ لم يجر فسخه ، قال الحنابلة : زكاة الثّمن على البائع ; لأنّ ملكه ثابت فيه . ثمّ لو فسخ العقد لتلف المبيع ، أو تعذّر المسلّم فيه ، وجب ردّ الثّمن كاملًا . وصرّح الشّافعيّة بما هو قريب من ذلك وهو أنّ البضاعة المشتراة إذا حال عليها الحول من حين لزوم العقد تجب زكاتها على المشتري وإن لم يقبضها .
27 - الشّرط الثّالث : النّماء : ووجه اشتراطه على ما قال ابن الهمام ، أنّ المقصود من شرعيّة الزّكاة بالإضافة إلى الابتلاء مواساة الفقراء على وجهٍ لا يصير به المزكّي فقيرًا ، بأن يعطي من فضل ماله قليلًا من كثيرٍ ، والإيجاب في المال الّذي لا نماء له يؤدّي إلى خلاف ذلك مع تكرّر السّنين . قالوا : والنّماء متحقّق في السّوائم بالدّرّ والنّسل ، وفي الأموال المعدّة للتّجارة ، والأرض الزّراعيّة العشريّة ، وسائر الأموال الّتي تجب فيها الزّكاة ، ولا يشترط تحقّق النّماء بالفعل بل تكفي القدرة على الاستنماء بكون المال في يده أو يد نائبه . وبهذا الشّرط خرجت الثّياب الّتي لا تراد لتجارةٍ سواء كان صاحبها محتاجًا إليها أو لا ، وأثاث المنزل ، والحوانيت ، والعقارات ، والكتب لأهلها أو غير أهلها ، وخرجت الأنعام الّتي لم تعدّ للدّرّ والنّسل ، بل كانت معدّةً للحرث ، أو الرّكوب ، أو اللّحم . والذّهب والفضّة لا يشترط فيهما النّماء بالفعل ; لأنّهما للنّماء خلقةً ، فتجب الزّكاة فيهما ، نوى التّجارة أو لم ينو أصلًا ، أو نوى النّفقة . قالوا : وفقد النّماء سبب آخر في عدم وجوب الزّكاة في أموال الضّمار بأنواعها المتقدّمة ; لأنّه لا نماء إلاّ بالقدرة على التّصرّف ، ومال الضّمار لا قدرة عليه . وهذا الشّرط يصرّح به الحنفيّة ، ويراعيه غيرهم في تعليلاتهم دون تصريحٍ به .
28 - الشّرط الرّابع : الزّيادة على الحاجات الأصليّة : وهذا الشّرط يذكره الحنفيّة . وبناءً عليه قالوا : لا زكاة في كتب العلم المقتناة لأهلها وغير أهلها ولو كانت تساوي نصبًا ، وكذا دار السّكنى وأثاث المنزل ودوابّ الرّكوب ونحو ذلك . قالوا : لأنّ المشغول بالحاجة الأصليّة كالمعدوم ، وفسّره ابن ملكٍ بما يدفع عنه الهلاك تحقيقًا كثيابه ، أو تقديرًا كدينه . وقد جعل ابن ملكٍ من هذا النّوع أن يكون لديه نصاب دراهم أمسكها بنيّة صرفها إلى الحاجة الأصليّة فلا زكاة فيها إذا حال عليها الحول عنده ، لكن اعترضه ابن نجيمٍ في البحر الرّائق ، بأنّ الزّكاة تجب في النّقد كيفما أمسكه للنّماء أو للنّفقة ، ونقله عن المعراج والبدائع . ولم يذكر أيّ من أصحاب المذاهب هذا الشّرط مستقلًّا ، ولعلّه ; لأنّ الزّكاة أوجبها الشّرع في أجناسٍ معيّنةٍ من المال إذا حال الحول على نصابٍ كاملٍ منها ، فإذا وجد ذلك وجبت الزّكاة ، واستغناءً بشرط النّماء . والنّتيجة واحدة .(/8)
29 - الشّرط الخامس : الحول : المراد بالحول أن يتمّ على المال بيد صاحبه سنةً كاملةً قمريّةً ، فإن لم تتمّ فلا زكاة فيه ، إلاّ أن يكون بيده مال آخر بلغ نصابًا قد انعقد حوله ، وكان المالان ممّا يضمّ أحدهما إلى الآخر ، فيرى بعض الفقهاء ، أنّ الثّاني يزكّى مع الأوّل عند تمام حول الأوّل ، كما يأتي بيانه تفصيلًا . ودليل اعتبار الحول قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا زكاة في مالٍ حتّى يحول عليه الحول } . ويستثنى من اشتراط الحول في الأموال الزّكويّة الخارج من الأرض من الغلال الزّراعيّة ، والمعادن ، والرّكاز ، فتجب الزّكاة في هذين النّوعين ولو لم يحل الحول ، لقوله تعالى في الزّروع { وآتوا حقّه يوم حصاده } ولأنّها نماء بنفسها فلم يشترط فيها الحول ، إذ أنّها تعود بعد ذلك إلى النّقص ، بخلاف ما يشترط فيه الحول فهو مرصد للنّماء . وسيأتي تفصيل ذلك في النّوعين في موضعه . والحكمة في أنّ ما أرصد للنّماء اعتبر له الحول ، ليكون إخراج الزّكاة من النّماء لأنّه أيسر ; لأنّ الزّكاة إنّما وجبت مواساةً ، ولم يعتبر حقيقة النّماء ; لأنّه لا ضابط له ، ولا بدّ من ضابطٍ ، فاعتبر الحول .
المال المستفاد أثناء الحول :
30 - إن لم يكن عند المكلّف مال فاستفاد مالًا زكويًّا لم يبلغ نصابًا فلا زكاة فيه ولا ينعقد حوله ، فإن تمّ عنده نصاب انعقد الحول من يوم تمّ النّصاب ، وتجب عليه زكاته إن بقي إلى تمام الحول . وإن كان عنده نصاب ، وقبل أن يحول عليه الحول استفاد مالًا من جنس ذلك النّصاب أو ممّا يضمّ إليه ، فله ثلاثة أقسامٍ : الأوّل : أن تكون الزّيادة من نماء المال الأوّل . كربح التّجارة ، ونتاج السّائمة ، فهذا يزكّى مع الأصل عند تمام الحول . قال ابن قدامة : لا نعلم في ذلك خلافًا ، لأنّه تبع للنّصاب من جنسه ، فأشبه النّماء المتّصل . القسم الثّاني : أن يكون المستفاد من غير جنس المال الّذي عنده ، كأن يكون ماله إبلًا فيستفيد ذهبًا أو فضّةً . فهذا النّوع لا يزكّى عند حول الأصل . بل ينعقد حوله يوم استفادته إن كان نصابًا ، اتّفاقًا ، ما عدا قولًا شاذًّا أنّه يزكّيه حين يستفيده . ولم يعرّج على هذا القول أحد من العلماء ، ولا قال به أحد من أئمّة الفتيا . القسم الثّالث : أن يستفيد مالًا من جنس نصابٍ عنده قد انعقد حوله وليس المستفاد من نماء المال الأوّل . كأن يكون عنده عشرون مثقالًا ذهبًا ملكها في أوّل المحرّم ، ثمّ يستفيد ألف مثقالٍ في أوّل ذي الحجّة ، فقد اختلف العلماء في ذلك : فذهب الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّه يضمّ إلى الأوّل في النّصاب دون الحول ، فيزكّي الأوّل عند حوله أي في أوّل المحرّم في المثال المتقدّم ، ويزكّي الثّاني لحوله أي في أوّل ذي الحجّة ولو كان أقلّ من نصابٍ ، لأنّه بلغ بضمّه إلى الأوّل نصابًا . واستدلّوا بعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا زكاة في مالٍ حتّى يحول عليه الحول } . وبقوله : { من استفاد مالًا فلا زكاة عليه حتّى يحول عليه الحول عند ربّه } . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يضمّ كلّ ما يأتي في الحول إلى النّصاب الّذي عنده فيزكّيهما جميعًا عند تمام حول الأوّل ، قالوا : لأنّه يضمّ إلى جنسه في النّصاب فوجب ضمّه إليه في الحول كالنّصاب ، ولأنّ النّصاب سبب ، والحول شرط ، فإذا ضمّ في النّصاب الّذي هو سبب ، فضمّه إليه في الحول الّذي هو شرط أولى ; ولأنّ إفراد كلّ مالٍ يستفاد بحولٍ يفضي إلى تشقيص الواجب في السّائمة ، واختلاف أوقات الواجب ، والحاجة إلى ضبط مواقيت التّملّك ، ووجوب القدر اليسير الّذي لا يتمكّن من إخراجه ، وفي ذلك حرج ، وإنّما شرع الحول للتّيسير ، وقد قال اللّه تعالى { وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ } وقياسًا على نتاج السّائمة وربح التّجارة . واستثنى أبو حنيفة ما كان ثمن مالٍ قد زكّي فلا يضمّ ، لئلاّ يؤدّي إلى الثّني . وذهب المالكيّة إلى التّفريق في ذلك بين السّائمة وبين النّقود ، فقالوا في السّائمة كقول أبي حنيفة ، قالوا : لأنّ زكاة السّائمة موكولة إلى السّاعي ، فلو لم تضمّ لأدّى ذلك إلى خروجه أكثر من مرّةٍ ، بخلاف الأثمان فلا تضمّ ، فإنّها موكولة إلى أربابها .
الشّرط السّادس : أن يبلغ المال نصابًا :
31 - والنّصاب مقدار المال الّذي لا تجب الزّكاة في أقلّ منه ، وهو يختلف باختلاف أجناس الأموال الزّكويّة ، فنصاب الإبل خمس منها ، ونصاب البقر ثلاثون . ونصاب الغنم أربعون ، ونصاب الذّهب عشرون مثقالًا ، ونصاب الفضّة مائتا درهمٍ ، ونصاب الزّروع والثّمار خمسة أوسقٍ . ونصاب عروض التّجارة مقدّر بنصاب الذّهب أو الفضّة . وفي بعض ما تقدّم تفريعات وخلاف ينظر في مواضعه ممّا يلي من هذا البحث . والحكمة في اشتراط النّصاب واضحة ، وهي أنّ الزّكاة وجبت مواساةً ، ومن كان فقيرًا لا تجب عليه المواساة ، بل تجب على الأغنياء إعانته ، فإنّ الزّكاة تؤخذ من الأغنياء لتردّ على الفقراء . وجعل الشّرع النّصاب أدنى حدّ الغنى ; لأنّ الغالب في العادات أنّ من ملكه فهو غنيّ إلى تمام سنته .
الوقت الّذي يعتبر وجود النّصاب فيه :(/9)
32 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة على المعتمد في المذهب ، إلى أنّ من شرط وجوب الزّكاة وجود النّصاب في جميع الحول من أوّله إلى آخره ، فلو نقص في بعضه ولو يسيرًا انقطع الحول فلم تجب الزّكاة في آخره . قالوا : فلو كان له أربعون شاةً فماتت في الحول واحدة ثمّ ولدت واحدة انقطع الحول . فإن كان الموت والنّتاج في لحظةٍ واحدةٍ لم ينقطع ، كما لو تقدّم النّتاج على الموت ، واحتجّوا بعموم حديث { لا زكاة في مالٍ حتّى يحول عليه الحول } . وذهب الحنفيّة إلى أنّ المعتبر طرفا الحول ، فإن تمّ النّصاب في أوّله وآخره وجبت الزّكاة ولو نقص المال عن النّصاب في أثنائه ، ما لم ينعدم المال كلّيّةً ، فإن انعدم لم ينعقد الحول إلاّ عند تمام النّصاب ، وسواء انعدم لتلفه ، أو لخروجه عن أن يكون محلًّا للزّكاة ، كما لو كان له نصاب سائمةٍ فجعلها في الحول علوفةً . وفي قولٍ عند الحنابلة : إذا وجد النّصاب لحولٍ كاملٍ إلاّ أنّه نقص نقصًا يسيرًا كساعةٍ أو ساعتين وجبت الزّكاة . ولو زال ملك المالك للنّصاب في الحول ببيعٍ أو غيره ثمّ عاد بشراءٍ أو غيره استأنف الحول لانقطاع الحول الأوّل بما فعله ، لكن إن فعل ذلك حيلةً ففي انقطاع الحول خلاف ينظر في ما سبق تحت عنوان ( الحيل لإسقاطها ) . وذهب المالكيّة إلى أنّ الشّرط أن يحول الحول على ملك النّصاب أو ملك أصله ، فالأوّل كما لو كان يملك أربعين شاةً تمام الحول ، والثّاني كما لو ملك عشرين شاةً من أوّل الحول فحملت وولدت فتمّت بذلك أربعين قبل تمام الحول ، فتجب الزّكاة في النّوعين عند حول الأصل . ومثاله أيضًا ، أن يكون عنده دينار ذهبٍ فيشتري به سلعةً للتّجارة فيبيعها بعشرين دينارًا قبل تمام الحول ، ففيها الزّكاة عندما يحول الحول على ملكه للدّينار ، والّذي يضمّ إلى أصله فيتمّ به النّصاب هو نتاج السّائمة وربح التّجارة ، بخلاف المال المستفاد بطريقٍ آخر كالعطيّة والميراث فإنّه يستقبل بها حولها
. الشّرط السّابع : الفراغ من الدّين :
33 - وهذا الشّرط معتبر من حيث الجملة عند جمهور الفقهاء ومنهم الشّافعيّ في قديم قوليه ، وعبّر بعضهم بأنّ الدّين مانع من وجوب الزّكاة . فإن زاد الدّين الّذي على المالك عمّا بيده فلا زكاة عليه ، وكذا إن لم يبق بيده بعدما يسدّ به دينه نصاب فأكثر . واحتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إذا كان لرجلٍ ألف درهمٍ وعليه ألف درهمٍ فلا زكاة عليه } . وقوله : { أمرت أن آخذ الصّدقة من أغنيائكم فأردّها على فقرائكم } . ومن عليه ألف ومعه ألف فليس غنيًّا ، ولقول عثمان رضي الله عنه : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤدّه وليزكّ بقيّة ماله . ولا يعتبر الدّين مانعًا إلاّ إن استقرّ في الذّمّة قبل وجوب الزّكاة ، فأمّا إن وجب بعد وجوب الزّكاة لم تسقط ; لأنّها وجبت في ذمّته ، فلا يسقطها ما لحقه من الدّين بعد ثبوتها . وذهب الشّافعيّ في الجديد ، وحمّاد ، وربيعة إلى أنّ الدّين لا يمنع الزّكاة أصلًا ; لأنّ الحرّ المسلم إذا ملك نصابًا حولًا وجبت عليه الزّكاة فيه لإطلاق الأدلّة الموجبة للزّكاة في المال المملوك .
الأموال الّتي يمنع الدّين زكاتها والّتي لا يمنع :
34 - أمّا الأموال الباطنة وهي النّقود وعروض التّجارة فإنّ الجمهور القائلين بأنّ الدّين يمنع الزّكاة ذهبوا إلى أنّ الدّين يمنع الزّكاة فيها ، ولو كان من غير جنسها على ما صرّح به المالكيّة . وأمّا الأموال الظّاهرة وهي السّائمة والحبوب والثّمار والمعادن فذهب الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة على قولٍ والحنابلة في الرّواية المعتمدة في المذهب ) إلى أنّ الدّين لا يمنع وجوب الزّكاة فيها ، روي عن أحمد أنّه قال : لأنّ المصدّق إذا جاء فوجد إبلًا أو بقرًا أو غنمًا لم يسأل : أيّ شيءٍ على صاحبها من الدّين ، وليس المال - يعني الأثمان - هكذا . والفرق بين الأموال الظّاهرة والباطنة أنّ تعلّق الزّكاة بالظّاهرة آكد ; لظهورها وتعلّق قلوب الفقراء بها ; ولأنّ الحاجة إلى حفظها أوفر ، فتكون الزّكاة فيها آكد . واستثنى الحنابلة على الرّواية المشهورة الدّين الّذي استدانه المزكّي للإنفاق على الزّرع والثّمر ، فإنّه يسقطه لما روي عن ابن عمر : يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله يزكّي ما بقي . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الدّين يمنع الزّكاة في الأموال الباطنة وفي السّوائم ، أمّا ما وجب في الخارج من الأرض فلا يمنعه الدّين ، كما لا يمنع الخراج ، وذلك لأنّ العشر والخراج مؤنة الأرض ، ولذا يجبان في الأرض الموقوفة وأرض المكاتب وإن لم تجب فيهما الزّكاة . وذهب الحنابلة في روايةٍ إلى أنّ الدّين يمنع الزّكاة في الأموال الظّاهرة والباطنة ، ونقله ابن قدامة عن الثّوريّ وإسحاق واللّيث والنّخعيّ .
الدّيون الّتي تمنع وجوب الزّكاة :(/10)
35 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الدّين الّذي يمنع وجوب الزّكاة هو ما كان له مطالب من جهة العباد سواء كان دينًا للّه كزكاةٍ وخراجٍ ، أو كان للعباد ، وسواء كان حالًّا أو مؤجّلًا ، ولو صداق زوجته المؤجّل للفراق ، أو نفقةً لزوجته ، أو لقريبٍ لزمته بقضاءٍ أو تراضٍ ، وكذا عندهم دين الكفالة ، قالوا : لأنّ الكفيل محتاج إلى ما بيده ليقضي عنه دفعًا للملازمة أو الحبس . أمّا ما لم يكن له مطالب من جهة العباد فلا يمنع وجوب الزّكاة ، قالوا : كدين النّذر والكفّارة والحجّ ، ومثلها الأضحيّة ، وهدي المتعة ، ودين صدقة الفطر . وذهب المالكيّة إلى أنّ زكاة المال الباطن يسقطها الدّين ولو كان دين زكاةٍ ، أو زكاة فطرٍ ، أو كان للعباد حالًّا كان أو مؤجّلًا ، أو كان مهر زوجةٍ أو نفقة زوجةٍ مطلقًا ، أو نفقة ولدٍ أو والدٍ إن كان قد حكم بها القاضي . واختلف قول المالكيّة في مثل دين الكفّارة والهدي الواجب فاختار منها خليل وابن راشدٍ القفصيّ أنّه لا يمنع وجوب الزّكاة لعدم المطالب من العباد ، واختار ابن عتّابٍ أنّه يمنع لأنّ الإمام يطالب الممتنع بإخراج ما عليه من مثل هذه الدّيون . وذهب الحنابلة إلى أنّ دين الآدميّ مطلقًا يمنع وجوب الزّكاة ، أمّا دين اللّه ففي قولٍ : يمنع وفي قولٍ : لا .
شروط إسقاط الزّكاة بالدّين :
36 - القائلون بأنّ الدّين يسقط الزّكاة في قدره من المال الزّكويّ ، اشترط أكثرهم أن لا يجد المزكّي مالًا يقضي منه الدّين سوى ما وجبت فيه . فلو كان له مال آخر فائض عن حاجاته الأساسيّة ، فإنّه يجعله في مقابلة الدّين ، لكي يسلم المال الزّكويّ فيخرج زكاته . ثمّ قد قال المالكيّة والحنابلة : إنّه يعمل بذلك سواء كان ما يقضي منه من جنس الدّين أو غير جنسه . فلو كان عليه دين مائتا درهمٍ وعنده عروض قنيةٍ تساوي مائتي درهمٍ فأكثر وعنده مائتا درهمٍ ، جعل العروض في مقابلة الدّين لأنّه أحظّ للفقراء . وكذا إن كان عليه دين وله مالان زكويّان ، لو جعل أحدهما في مقابل الدّين لم يكن عليه زكاة ، ولو جعل الآخر في مقابلة الدّين كان عليه زكاة ، فإنّه يجعل في مقابلة الدّين ما هو أحظّ للفقراء ، كمن عليه دين مائة درهمٍ وله مائتا درهمٍ وتسع من الإبل ، فإذا جعلنا في مقابلة الدّين الأربعة من الإبل الزّائدة عن النّصاب لكون الأربعة تساوي المائة من الدّراهم أو أكثر منها وجب ذلك رعايةً لحظّ الفقراء ، لأنّنا لو جعلنا ممّا معه من الدّراهم مائةً في مقابلة الدّين سقطت زكاة الدّراهم . وذكر المالكيّة أيضًا ممّا يمكن أن يجعل في مقابلة الدّين فيمنع سقوط الزّكاة : الدّين الحالّ المرجوّ ، والأموال الزّكويّة الأخرى ولو جرت تزكيتها ، وأنّ العرض يقوّم وقت الوجوب ، وأخرجوا من ذلك نحو البعير الشّارد ، والمال الضّائع ، والدّين المؤجّل أو غير المرجوّ لعدم صلاحيّة جعله في مقابلة الدّين الّذي عليه . ومذهب الحنفيّة - ومثله حكي عن اللّيث بن سعدٍ على ما نقله صاحب المغني وهو رواية عن أحمد على ما ذكره صاحب الفروع - أنّ من كان عنده مال زكويّ ومال غير زكويٍّ فائض عن حاجته الأساسيّة وعليه دين فله أن يجعل في مقابلة الدّين المال الزّكويّ ، ولو من غير جنسه ، فإن بقي منه نصاب فأكثر زكّاه وإلاّ فلا زكاة عليه ، قالوا : لأنّ غير مال الزّكاة يستحقّ للحوائج ، ومال الزّكاة فاضل عنها ، فكان الصّرف إليه أيسر ، وأنظر بأرباب الأموال . قالوا : ولو كان له مالان زكويّان من جنسين أو أكثر جاز له أن يجعل أيًّا منهما أو بعضه في مقابلة الدّين والخيار له . فلو كان عنده دراهم ودنانير وعروض تجارةٍ وسوائم يصرف الدّين لأيسرها قضاءً ، ولو كان عنده نصاب بقرٍ ونصاب إبلٍ وعليه شاة دينًا ، جاز جعلها في مقابلة شيءٍ من البقر لئلاّ يجب عليه التّبيع ; لأنّ التّبيع فوق الشّاة .
زكاة المال الحرام :(/11)
37 - المال الحرام كالمأخوذ غضبًا أو سرقةً أو رشوةً أو ربًا أو نحو ذلك ليس مملوكًا لمن هو بيده ، فلا تجب عليه زكاته ; لأنّ الزّكاة تمليك ، وغير المالك لا يكون منه تمليك ; ولأنّ الزّكاة تطهّر المزكّي وتطهّر المال المزكّى لقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها } وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل اللّه صدقةً من غلولٍ } . والمال الحرام كلّه خبث لا يطهر ، والواجب في المال الحرام ردّه إلى أصحابه إن أمكن معرفتهم وإلاّ وجب إخراجه كلّه عن ملكه على سبيل التّخلّص منه لا على سبيل التّصدّق به ، وهذا متّفق عليه بين أصحاب المذاهب . قال الحنفيّة : لو كان المال الخبيث نصابًا لا يلزم من هو بيده الزّكاة ; لأنّه يجب إخراجه كلّه فلا يفيد إيجاب التّصدّق ببعضه . وفي الشّرح الصّغير للدّردير من المالكيّة : تجب الزّكاة على مالك النّصاب فلا تجب على غير مالكٍ كغاصبٍ ومودعٍ . وقال الشّافعيّة كما نقله النّوويّ عن الغزاليّ وأقرّه : إذا لم يكن في يده إلاّ مال حرام محض فلا حجّ عليه ولا زكاة ، ولا تلزمه كفّارة ماليّة . وقال الحنابلة : التّصرّفات الحكميّة للغاصب في المال المغصوب تحرم ولا تصحّ ، وذلك كالوضوء من ماءٍ مغصوبٍ والصّلاة بثوبٍ مغصوبٍ أو في مكان مغصوبٍ ، وكإخراج زكاة المال المغصوب ، والحجّ منه ، والعقود الواردة عليه كالبيع والإجارة . وعلى القول بأنّ المال المغصوب يدخل في ملك الغاصب في بعض الصّور كأن اختلط بماله ولم يتميّز فإنّه يكون بالنّسبة للغاصب مالًا زكويًّا ، إلاّ أنّه لمّا كان الدّين يمنع الزّكاة ، والغاصب مدين بمثله أو قيمته ، فإنّ ذلك يمنع الزّكاة فيه . قال ابن عابدين : من ملك أموالًا غير طيّبةٍ أو غصب أموالًا وخلطها ، ملكها بالخلط ويصير ضامنًا ، وإن لم يكن له سواها نصاب فلا زكاة عليه فيها وإن بلغت نصابًا لأنّه مديون وأموال المدين لا تنعقد سببًا لوجوب الزّكاة عند الحنفيّة ، فوجوب الزّكاة مقيّد بما إذا كان له نصاب سواها ، ولا يخفى أنّ الزّكاة حينئذٍ إنّما تجب فيما زاد عليها لا فيها . ثمّ إنّ المال المغصوب الّذي لا يقدر صاحبه على أخذه لا زكاة عليه فيه ، ومتى قدر صاحبه عليه فقيل : ليس عليه زكاة لما مضى من السّنين لأنّه كان محجوزًا عنه ولم يكن قادرًا على استنمائه ( تنميته ) فكان ملكه ناقصًا ، وقيل : عليه زكاته لما مضى ، وهذا مذهب الشّافعيّة في الجديد . وقال الحنابلة : يخرج زكاته ويعود بها على الغاصب ، وليس ذلك عند الحنابلة من باب تزكية الغاصب للمال الحرام ، وإنّما ذلك لأنّه نقص حصل في المال وهو بيد الغاصب أشبه ما لو تلف بعضه .
القسم الثّاني الأصناف الّتي تجب فيها الزّكاة وأنصبتها ومقادير الزّكاة في كلٍّ منها أوّلًا : زكاة الحيوان :
38 - أجمع الفقهاء على أنّ الإبل والبقر والغنم هي من الأصناف الّتي تجب فيها الزّكاة ، واستدلّوا لذلك بأحاديث كثيرةٍ ، منها حديث أبي هريرة المتقدّم في مسألة الحكم التّكليفيّ للزّكاة ، وفي الخيل خلاف ، وأمّا البغال والحمير وغيرها من أصناف الحيوان فليس فيها زكاة ما لم تكن للتّجارة .
شروط وجوب الزّكاة في الحيوان : يشترط في الماشية لوجوب الزّكاة فيها تمام الحول ، وكونها نصابًا فأكثر ، بالإضافة إلى سائر الشّروط المتقدّم بيانها لوجوب الزّكاة في الأموال عامّةً على التّفصيل المتقدّم . ويشترط هنا شرطان آخران :(/12)
39 - الأوّل : السّوم : ومعناه أن يكون غذاؤها على الرّعي من نبات البرّ ، فلو كانت معلوفةً لم تجب فيها الزّكاة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ; لأنّ في المعلوفة تتراكم المئونة ، فينعدم النّماء من حيث المعنى ، واستدلّوا لذلك بما في حديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدّه مرفوعًا : { في كلّ سائمة إبلٍ في كلّ أربعين بنت لبونٍ } . وحديث : { في كلّ خمسٍ من الإبل السّائمة شاة } . فدلّ بمفهومه على أنّ المعلوفة لا زكاة فيها . ثمّ اختلف القائلون بهذا ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ السّائمة هي الّتي تكتفي بالرّعي في أكثر الحول ، فلو علفها صاحبها نصف الحول أو أكثر كانت معلوفةً ولم تجب زكاتها لأنّ القليل تابع للكثير ; ولأنّ أصحاب السّوائم لا يجدون بدًّا من أن يعلفوا سوائمهم في بعض الأوقات كأيّام البرد والثّلج . وذهب الشّافعيّة على الأصحّ إلى أنّ الّتي تجب فيها الزّكاة هي الّتي ترعى كلّ الحول ، وكذا إن علفت قدرًا قليلًا تعيش بدونه بلا ضررٍ بيّنٍ تجب فيها الزّكاة ، فإن علفت أكثر من ذلك فلا زكاة فيها . وذهب المالكيّة إلى أنّ الزّكاة تجب في الأنعام غير السّائمة كوجوبها في السّائمة حتّى لو كانت معلوفةً كلّ الحول . قالوا : والتّقييد في الحديث بالسّائمة لأنّ السّوم هو الغالب على مواشي العرب ، فهو قيد اتّفاقيّ لبيان الواقع لا مفهوم له . نظيره قوله تعالى : { وربائبكم اللّاتي في حجوركم } فإنّها تحرم ولو لم تكن في الحجر . 40 - الشّرط الثّاني : أن لا تكون عاملةً ، فالإبل المعدّة للحمل والرّكوب ، والنّواضح ، وبقر الحرث والسّقي لا زكاة فيها ولو كانت سائمةً . هذا مذهب الحنفيّة ، وهو قول الشّافعيّة في الأصحّ ومذهب الحنابلة ، واستدلّوا بحديث : { ليس في العوامل والحوامل والبقر المثيرة شيء } . والحوامل هي المعدّة لحمل الأثقال ، والبقر المثيرة هي بقر الحرث الّتي تثير الأرض ، ولحديث : { ليس في البقر العوامل شيء } . وذهب المالكيّة وهو قول آخر للشّافعيّة : إلى أنّ العمل لا يمنع الزّكاة في الماشية لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { في كلّ خمس ذودٍ شاة } . ولأنّ استعمال السّائمة زيادة رفقٍ ومنفعةٍ تحصل للمالك فلا يقتضي ذلك منع الزّكاة ، بل تأكيد إيجابها . 41 - الشّرط الثّالث : بلوغ السّاعي إن كان هناك ساعٍ ، فإن لم يكن هناك ساعٍ فلا يشترط هذا الشّرط بل يكتفى بمرور الحول . وهذا الشّرط للمالكيّة خاصّةً . وبنوا عليه أنّه إذا مات شيء من المواشي أو ضاع بغير تفريطٍ من المالك بعد الحول وقبل مجيء السّاعي فلا زكاة فيه ، وإنّما يزكّى الباقي إن كان فيه الزّكاة وإلاّ فلا . ولو مات ربّ الماشية قبل بلوغ السّاعي فلا زكاة ، ويستقبل الوارث حولًا ، ولا تجزئ إن أخرجها قبل وصول السّاعي . قالوا : وإن سأل السّاعي ربّ الماشية عن عددها فأخبره بعددها فغاب عنه ثمّ رجع إليه فوجدها قد زادت أو نقصت بموت شيءٍ منها - أو بذبحه - فالمعتبر الموجود . وإن تخلّف السّاعي عن الوصول مع إمكان وصوله وكان تخلّفه لعذرٍ أو لغير عذرٍ فأخرج المالك الزّكاة أجزأه وإن لم تجب عليه بمجرّد مرور الحول ، وإنّما يصدّق ببيّنته .
الزّكاة في الوحشيّ من بهيمة الأنعام والمتولّد بين الأهليّ والوحشيّ :
42 - ذهب جمهور العلماء ومنهم الحنابلة في الأصحّ عندهم ، إلى أنّه لا زكاة في الوحشيّ من الإبل والبقر والغنم ، وذلك لأنّ اسم الإبل والبقر والغنم لا يتناولها عند الإطلاق ; ولأنّها لا تجزئ في الهدي والأضحيّة . وفي روايةٍ أخرى عن أحمد فيها الزّكاة ، لأنّ الاسم يشملها فتدخل في الأخبار الواردة . وأمّا ما تولّد بين الأهليّ والوحشيّ فإنّ مذهب أبي حنيفة وهو قول مرويّ عن مالكٍ أنّه إن كانت الوحشيّة أمّه فلا زكاة فيه ، وإن كانت أمّه أهليّةً والوحشيّ أباه ففيه الزّكاة ; لأنّ ولد البهيمة يتبع أمّه في أحكامه . وقال الشّافعيّ ، وهو القول المشهور عند المالكيّة : لا زكاة في المتولّد بين الأهليّ والوحشيّ مطلقًا ، ومال إليه ابن قدامة من الحنابلة ; لأنّه ليس في أخذ الزّكاة منها نصّ ولا إجماع ولا قياس صحيح ، فلا تتناوله نصوص الشّرع . وقال الحنابلة وهو قول ثالث عند المالكيّة : تجب الزّكاة في المتولّد مطلقًا ، سواء كانت الوحشيّة الفحول أو الأمّهات ، كما إنّ المتولّد بين السّائمة والمعلوفة تجب فيه الزّكاة إذا سام .
أ - ( زكاة الإبل ) :
43 - الإبل اسم جمعٍ ليس له مفرد من لفظه وواحده الذّكر : جمل ، والأنثى : ناقة ، والصّغير حوار إلى سنةٍ ، وإذا فطم فهو فصيل ، والبكر هو الفتيّ من الإبل والأنثى بكرة . وللعرب تسميات للإبل بحسب أسنانها ورد استعمالها في السّنّة واستعملها الفقهاء ، كابن المخاض ، وهو ما أتمّ سنةً ودخل في الثّانية ، سمّي بذلك لأنّ أمّه تكون غالبًا قد حملت ، والأنثى بنت مخاضٍ ، وابن اللّبون وهو ما أتمّ سنتين ودخل في الثّالثة ، سمّي بذلك لأنّ أمّه تكون قد ولدت بعده فهي ذات لبنٍ ، والأنثى بنت لبونٍ ، والحقّ ما دخل في الرّابعة ، والأنثى حقّة ، سمّيت بذلك لأنّها استحقّت أن يطرقها الفحل ، والجذع هو الّذي دخل في الخامسة ; لأنّه جذع أي أسقط بعض أسنانه ، والأنثى جذعة . وهذه الأنواع الأربعة هي الّتي تؤخذ الإناث منها في الدّية ، وقد يؤخذ الذّكور منها كابن اللّبون ، على تفصيلٍ يذكر فيما يلي . المقادير الواجبة في زكاة الإبل :(/13)
44 - بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم المقادير الواجبة في زكاة الإبل ، وهي في حديث البخاريّ المذكور فيما يلي بكماله لكثرة الحاجة إليه في المسائل التّالية : عن أنسٍ رضي الله عنه أنّ { أبا بكرٍ رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لمّا وجّهه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم . هذه فريضة الصّدقة الّتي فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، والّتي أمر اللّه بها رسوله ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعط : في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كلّ خمسٍ شاة ، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ أنثى ، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين ففيها بنت لبونٍ أنثى ، فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستّين ففيها حقّة طروقة الجمل ، فإذا بلغت واحدةً وستّين إلى خمسٍ وسبعين ففيها جذعة ، فإذا بلغت - يعني ستًّا وسبعين - إلى تسعين ففيها بنتا لبونٍ ، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائةٍ ففيها حقّتان طروقتا الجمل . فإذا زادت على عشرين ومائةٍ ففي كلّ أربعين بنت لبونٍ ، وفي كلّ خمسين حقّة . ومن لم يكن معه إلاّ أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلاّ أن يشاء ربّها ، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة . وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائةٍ شاة . فإذا زادت على عشرين ومائةٍ إلى مائتين شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائةٍ ففيها ثلاث ، فإذا زادت على ثلاثمائةٍ ففي كلّ مائةٍ شاة ، فإذا كانت سائمة الرّجل ناقصةً من أربعين شاةً واحدةً فليس فيها صدقة إلاّ أن يشاء ربّها . وفي الرّقّة ربع العشر ، فإن لم تكن إلاّ تسعين ومائةً فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربّها } . وفي موضعٍ آخر روى البخاريّ من حديث أنسٍ أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كتب له فريضة الصّدقة الّتي أمر اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم : { من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقّة فإنّها تقبل منه الحقّة ، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له ، أو عشرين درهمًا . ومن بلغت عنده صدقة الحقّة وليست عنده الحقّة وعنده الجذعة فإنّها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدّق عشرين درهمًا أو شاتين . ومن بلغت عنده صدقة الحقّة وليست عنده إلاّ بنت لبونٍ فإنّها تقبل منه بنت لبونٍ ويعطي شاتين أو عشرين درهمًا . ومن بلغت صدقته بنت لبونٍ وعنده حقّة فإنّها تقبل منه الحقّة ويعطيه المصدّق عشرين درهمًا أو شاتين . ومن بلغت صدقته بنت لبونٍ وليست عنده ، وعنده بنت مخاضٍ فإنّها تقبل منه بنت مخاضٍ ، ويعطي معها عشرين درهمًا أو شاتين } . 45 - وبناءً على هذا الحديث ، تؤخذ الزّكاة من الإبل حسب الجدول التّالي : عدد الإبل القدر الواجب من 1 - إلى 4 ليس فيها شيء . من 5 - 9 فيها شاة واحدة . من 10 - 14 فيها شاتان من 15 - 19 فيها 3 شياهٍ من 20 - 24 فيها 4 شياهٍ من 25 - 35 فيها بنت مخاضٍ ( فإن لم يوجد فيها بنت مخاضٍ يجزئ ابن لبونٍ ذكر ) . من 36 - 45 بنت لبونٍ من 46 - 60 حقّة من 61 - 75 فيها جذعة من 76 - 90 فيها بنتا لبونٍ من 91 - 120 فيها حقّتان من 121 - 129 فيها 3 بنات لبونٍ من 130 - 139 فيها حقّة وبنتا لبونٍ من 140 - 149 حقّتان وبنت لبونٍ من 150 - 159 فيها 3 حقاقٍ من 160 - 169 فيها 4 بنات لبونٍ وهكذا في ما زاد ، في كلّ 40 بنت لبونٍ ، وفي كلّ 50 حقّة . وهذا الجدول جارٍ على مذهب الشّافعيّة ، ورواية في مذهب الحنابلة ، وهو قول الأوزاعيّ وإسحاق ، وأوّله إلى 120 مجمع عليه ، لتناول حديث أنسٍ له ، وعدم الاختلاف في تفسيره . واختلف فيما بين 121 - 129 فقال مالك يتخيّر السّاعي بين حقّتين وثلاث بنات لبونٍ ، وذهب أبو عبيدٍ ، وهو الرّواية الأخرى عن أحمد إلى أنّ فيها حقّتين ; لأنّ الفرض لا يتغيّر إلاّ بمائةٍ وثلاثين . 46 - وذهب الحنفيّة إلى أنّ الفريضة تستأنف بعد 120 ، ففي كلّ خمسٍ ممّا زاد عليها شاة بالإضافة إلى الحقّتين ، فإن بلغ الزّائد ما فيه بنت مخاضٍ أو بنت لبونٍ وجبت إلى أن يبلغ الزّائد ما فيه حقّة فتجب ، ويمثّل ذلك الجدول التّالي : عدد الإبل القدر الواجب 121 - 124 حقّتان 125 - 129 حقّتان وشاة 130 - 134 حقّتان وشاتان 135 - 139 حقّتان و 3 شياهٍ 140 - 144 حقّتان و 4 شياهٍ 145 - 149 حقّتان وبنت مخاضٍ 150 - 154 3 حقاقٍ 155 - 159 3 حقاقٍ وشاة 160 - 164 3 حقاقٍ وشاتان 165 - 169 3 حقاقٍ و 3 شياهٍ 170 - 174 3 حقاقٍ و 4 شياهٍ 175 - 185 3 حقاقٍ وبنت مخاضٍ 186 - 195 3 حقاقٍ وبنت لبونٍ 196 - 199 4 حقاقٍ 200 - 204 4 حقاقٍ أو 5 بنات لبونٍ 205 - 209 4 حقاقٍ أو بنات لبونٍ وشاة وهكذا . واحتجّوا بما في حديث قيس بن سعدٍ أنّه قال : قلت لأبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزمٍ : أخرج لي كتاب الصّدقات الّذي كتبه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : فأخرج كتابًا في ورقةٍ وفيه : { فإذا زادت الإبل على مائةٍ وعشرين استؤنفت الفريضة } .
وفي زكاة الإبل مسائل فرعيّة منها :
47 - أ - أنّ الّذي يؤخذ في زكاة الإبل الإناث دون الذّكور ، إلاّ ابن اللّبون إن عدم بنت المخاض كما في الحديث المتقدّم ، بخلاف البقر فتؤخذ منها الذّكور كما يأتي . فإن كان المال كلّه ذكورًا أجزأ الذّكر على الأصحّ عند الشّافعيّة وهو المقدّم عند الحنابلة ، وعند المالكيّة يلزم الوسط ولو انفرد الذّكور ، والظّاهر أنّه يريدون ناقةً وسطًا من السّنّ المطلوب .(/14)
48 - ب - أنّ الشّاة الّتي تؤخذ في زكاة الإبل إن كانت أنثى ( جذعة من الضّأن ، أو ثنيّة من المعز فما فوق ذلك ) أجزأت بلا نزاعٍ . وأمّا الذّكر ، فيحتمل أن يجزئ لصدق اسم الشّاة عليه ، وهو المعتمد عند المالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة .
ج - إن تطوّع المزكّي فأخرج عمّا وجب عليه سنًّا أعلى من السّنّ الواجب جاز ، مثل أن يخرج بدل بنت المخاض بنت لبونٍ أو حقّةً أو جذعةً ، أو عن بنت اللّبون حقّةً أو جذعةً . قال ابن قدامة : لا نعلم في ذلك خلافًا . لما في حديث أبيّ بن كعبٍ { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن قدّم ناقةً عظيمةً سمينةً عن بنت مخاضٍ : ذاك الّذي عليك . فإن تطوّعت بخيرٍ آجرك اللّه فيه ، وقبلناه منك } .
- د - إن أخرج بدل الشّاة ناقةً أجزأه ، وكذا عمّا وجب من الشّياه فيما دون خمسٍ وعشرين ; لأنّه يجزئ عن 25 ، فإجزاؤه عمّا دونها أولى . وهذا مذهب أبي حنيفة والشّافعيّ ، وهو الأصحّ عند المالكيّة ، وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يجزئ ، لأنّه أخرج عن المنصوص عليه غيره من غير جنسه فلم يجزئه ، كما لو أخرج عن أربعين من الغنم بعيرًا .
هـ - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والنّخعيّ وابن المنذر إلى أنّ من وجب عليه في إبله سنّ فلم يكن في إبله ذلك السّنّ فله أن يخرج من السّنّ الّذي فوقه ممّا يؤخذ في زكاة الإبل ، ويأخذ من السّاعي شاتين أو عشرين درهمًا ، أو أن يخرج من السّنّ الّذي تحته ممّا يجزئ في الزّكاة ويعطي السّاعي معها شاتين أو عشرين درهمًا . واستدلّوا بما في حديث أنسٍ المتقدّم بيانه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ المزكّي إذا لم يكن عنده السّنّ الواجب ، أو كان عنده فله أن يدفع قيمة ما وجب ، أو يدفع السّنّ الأدون وزيادة الدّراهم بقدر النّقص ، كما لو أدّى ثلاث شياهٍ سمانٍ عن أربعٍ وسطٍ ، أو بعض بنت لبونٍ عن بنت مخاضٍ ، وذلك على أصلهم في جواز إخراج القيمة في الزّكاة .
نصاب زكاة البقر والقدر الواجب :
51 - بيّنت السّنّة نصاب زكاة البقر والقدر الواجب ، وذلك فيما روى مسروق { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كلّ حالمٍ دينارًا ، ومن البقر من كلّ ثلاثين تبيعًا ، ومن كلّ أربعين مسنّةً } . وروي عن معاذٍ رضي الله عنه نحو ذلك ، وفي حديثه { وأمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئًا إلاّ إن بلغ مسنّةً أو جذعًا - يعني تبيعًا - وأنّ الأوقاص لا شيء فيها } . 52 - وبناءً على الحديثين المذكورين تؤخذ زكاة البقر حسب الجدول التّالي : عدد البقر القدر الواجب 1 - 29 لا شيء فيها 30 - 39 تبيع ( أو تبيعة ) 40 - 59 مسنّة 60 - 69 تبيعان 70 - 79 تبيع ومسنّة 80 - 89 تبيعان 90 - 99 3 أتبعةٍ 100 - 109 تبيعان ومسنّة 110 - 119 تبيع ومسنّتان 120 - 129 4 أتبعةٍ أو 3 مسنّاتٍ . وهكذا في كلّ ثلاثين تبيع أو تبيعة ، وفي كلّ أربعين مسنّة . وعلى هذا تجري مذاهب جماهير العلماء ، وفي ذلك خلاف في بعض المواضع ، منها :
53 - أ - ذهب سعيد بن المسيّب والزّهريّ خلافًا لسائر الفقهاء ، إلى أنّ في البقر من ( 5 - 24 ) في كلّ خمسٍ شاة قياسًا على زكاة الإبل ; لأنّ البقرة تعدل ناقةً في الهدي والأضحيّة . 54 - ب - ومنها : أخذ الذّكر في زكاة البقر : أمّا التّبيع الذّكر فيؤخذ اتّفاقًا ، فهو بمنزلة التّبيعة ، للنّصّ عليه في حديث أنسٍ ، وأمّا المسنّ الذّكر فمذهب الحنفيّة أنّه يجوز أخذه . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لا يؤخذ إلاّ المسنّة الأنثى لأنّ النّصّ ورد فيها . 55 - ج - ومنها في الأسنان ، فالتّبيع عند الجمهور ما تمّ له سنة وطعن في الثّانية ، والمسنّة ما تمّ لها سنتان وطعنت في الثّالثة ، وعند المالكيّة التّبيع ما تمّ له سنتان ودخل في الثّالثة ، والمسنّة ما تمّ لها ثلاث سنين ودخلت في الرّابعة . 56 - د - ومنها أنّ الوقص الّذي من ( 41 - 59 ) لا شيء فيه عند الجمهور ، وهو رواية عن أبي حنيفة وقول الصّاحبين ، وهو المختار عند الحنفيّة لظاهر ما تقدّم من الحديث . وذهب أبو حنيفة في ظاهر الرّواية إلى أنّ ما زاد على الأربعين ليس عفوًا ، بل يجب فيه بحسابه ، ففي الواحدة الزّائدة عن الأربعين ربع عشر مسنّةٍ ، وفي الثّنتين نصف عشر مسنّةٍ ، وهكذا ، وإنّما قال هذا فرارًا من جعل الوقص ( 19 ) وهو مخالف لجميع أوقاص زكاة البقر ، فإنّ جميع أوقاصها تسعة تسعة .
زكاة الغنم :
57 - زكاة الغنم واجبة بالسّنّة والإجماع ، فممّا ورد فيها حديث أنسٍ المتقدّم ذكره في زكاة الإبل . ( ف 46 ) . وبناءً على الحديث المذكور تؤخذ زكاة الغنم طبقًا للجدول التّالي : عدد الغنم القدر الواجب 1 - 39 لا شيء فيها 40 - 120 شاة 121 - 200 شاتان 201 - 399 3 شياهٍ 400 - 499 4 شياهٍ 500 - 599 5 شياهٍ وهكذا ما زاد عن ذلك في كلّ مائة شاةٍ شاة مهما كان قدر الزّائد . وعلى هذا تجري مذاهب جمهور الفقهاء ، وأوّل هذا الجدول وآخره مجمع عليه . 58 - واختلف فيه فيما بين ( 300 - 399 ) فقد ذهب النّخعيّ وأبو بكرٍ من الحنابلة إلى أنّ فيه أربع شياهٍ لا ثلاثةً ، ثمّ لا يتغيّر القدر الواجب إلى ( 500 ) فيكون فيها خمس شياهٍ كقول الجمهور ، واستدلّ هؤلاء بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أنسٍ المتقدّم جعل الثّلاثمائة حدًّا لما تجب فيه الشّياه الثّلاثة فوجب أن يتغيّر الفرض عندها فيجب أربعة .(/15)
وفي زكاة الغنم مسائل خاصّة بها . 59 - أ - منها أنّ الشّاة تصدق على الذّكر والأنثى ومن هنا ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز إخراج الذّكر في زكاة الغنم ، ولأنّ الشّاة إذا أمر بها مطلقًا أجزأ فيها الذّكر كالأضحيّة والهدي . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الغنم إن كانت إناثًا كلّها أو كان فيها ذكور وإناث فيتعيّن إخراج الإناث . وذهب الحنابلة كذلك إلى أنّه لا يجوز إخراج الذّكر في صدقة الغنم إذا كان في النّصاب شيء من الإناث .
ب - الّذي يؤخذ في صدقة الغنم هو الثّنيّة ، والثّنيّ في اصطلاح الفقهاء - خلافًا لما عند أهل اللّغة - ما تمّ له سنة فما زاد ، فتجزئ اتّفاقًا ، فإن كانت أقلّ من ذلك لم تجزئ سواء كانت من الضّأن أو المعز ، وهذا قول أبي حنيفة ، واحتجّ له بأنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال للسّاعي : اعتدّ عليهم بالسّخلة ولا تأخذها منهم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجذعة - وهي ما تمّ لها ستّة أشهرٍ - إن كانت من الضّأن - لا من المعز - تجزئ في الزّكاة ، وقال الصّاحبان : يجزئ الجذع من الضّأن سواء كان الجذع ذكرًا أو أنثى ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، واختلفوا في سنّ الجذع نحوًا من اختلاف أصحاب مالكٍ فيه ، وقال مالك : تجزئ الجذعة سواء أكانت من الضّأن أو المعز ، لكن اختلف أصحاب مالكٍ في سنّ الجذع ، فقال بعضهم : أدناه سنة ، وقيل : عشرة أشهرٍ ، وقيل : ثمانية ، وقيل : ستّة .
مسائل عامّة في زكاة الإبل والبقر والغنم :
61 - أ - كلّ جنسٍ من الإبل والبقر والغنم ينقسم إلى نوعين ، فالإبل نوعان : العراب وهي الإبل العربيّة ، وهي ذات سنامٍ واحدٍ ، والبخاتيّ ( جمع بختيّةٍ ) وهي إبل العجم والتّرك ، وهي ذات سنامين . والبقر نوعان : البقر المعتاد ، والجواميس . والغنم : إمّا ضأن ، وهي ذوات الصّوف ، واحدتها ضأنة ، وإمّا معز ، وهي ذوات الشّعر ، واحدتها عنز ، والذّكر تيس ، ويقال للذّكر والأنثى من الضّأن والمعز : شاة . والمقادير الواجبة في الجداول السّابقة تشمل من كلّ جنسٍ نوعيه ، ويضمّ أحدهما إلى الآخر في تكميل النّصاب إجماعًا . أمّا من أيّ النّوعين تؤخذ الزّكاة ففيه تفصيل . 62 - ب - فإن كان عنده أحد النّوعين فزكاته منه تجزئه اتّفاقًا ، أمّا إن أخرج عن الإبل العراب مثلًا بختيّةً بقيمة العربيّة فجائز أيضًا ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وكذلك المعتمد عند المالكيّة ، لكن لا يشترط عندهم رعاية القيمة . وقيل : لا يجوز ; لأنّ فيه تفويت صفةٍ مقصودةٍ ، وهو قول القاضي من الحنابلة . وقال الحنفيّة : الواجب إخراج الزّكاة من النّوع الّذي عنده . 63 - ج - أمّا إن اختلف النّوعان : فقد قال الحنفيّة وإسحاق : إذا اختلف النّوعان تجب الزّكاة من أكثرهما ، فإن استويا فعند الحنفيّة يجب الوسط أي أعلى الأدنى ، أو أدنى الأعلى ، وإذا علم الواجب فالقاعدة عندهم جواز شيءٍ بقيمته سواء من النّوع الآخر أو غيره . وقال الشّافعيّة والحنابلة : يؤخذ من كلّ نوعٍ ما يخصّه ، فلو كانت إبله كلّها مهريّةً أو أرحبيّةً أخذ الفرض من جنس ما عنده ، وهذا هو الأصل ; لأنّها أنواع تجب فيها الزّكاة ، فتؤخذ زكاة كلّ نوعٍ منه ، كأنواع الثّمرة والحبوب ، قالوا : فلو أخذ عن الضّأن معزًا ، أو عكسه جاز في الأصحّ بشرط رعاية القيمة ، وفي قولٍ عند الشّافعيّة : يؤخذ الضّأن عن المعز دون العكس ، وعراب البقر عن الجواميس دون العكس ; لأنّ الضّأن والعراب أشرف . وقال المالكيّة : إن وجبت واحدة في نوعين فمن الأكثر ، فإن تساويا خيّر السّاعي ، وإن وجب ثنتان أخذ من كلّ نوعٍ واحدةً إن تساويا ، فإن لم يتساويا لم يأخذ من الأقلّ إلاّ بشرطين : كونه نصابًا لو انفرد ، وكونه غير وقصٍ . وإذا زادت عن ذلك وأمكن أن يؤخذ من كلّ نوعٍ بانفراده أخذ منه ، وما لم يمكن يضمّ بعضه إلى بعضٍ ، فيأخذ من الأكثر ، ويخيّر السّاعي عند التّساوي ففي 340 من الضّأن و 160 من المعز يؤخذ ثلاث من الضّأن عن ثلاثمائة ضأنةٍ ، وواحدة من المعز عن المائة ، وتؤخذ عنز واحدة عن الأربعين ضأنةً والسّتّين من المعز ; لأنّ المعز أكثر فإن كانت 350 من الضّأن و 150 من المعز خيّر السّاعي في المائة المجتمعة بين ضأنةٍ وعنزٍ .
صفة المأخوذ في زكاة الماشية :(/16)
64 - ينبغي أن يكون المأخوذ في الزّكاة من الوسط ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ثلاث من فعلهنّ فقد طعم طعم الإيمان : من عبد اللّه وحده ، وأنّه لا إله إلاّ اللّه ، وأعطى زكاة ماله طيّبةً بها نفسه رافدةً عليه كلّ عامٍ ، لا يعطي الهرمة ، ولا الدّرنة ، ولا المريضة ، ولا الشّرط اللّئيمة ، ولكن من وسط أموالكم ، فإنّ اللّه لم يسألكم خيره ، ولم يأمركم بشرّه } . الحديث . وهذا يقتضي أمرين : الأوّل : أن يتجنّب السّاعي طلب خيار المال ، ما لم يخرجه المالك طيّبةً به نفسه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للسّاعي : { إيّاك وكرائم أموالهم } . قال عمر رضي الله عنه لساعيه : لا تأخذ الرّبى ، ولا الماخض ، ولا الأكولة ، ولا فحل الغنم والرّبى هي القريبة العهد بالولادة ; لأنّها تربّي ولدها . والماخض الحامل ، والأكولة الّتي تأكل كثيرًا ; لأنّها تكون أسمن ، وفحل الغنم هو المعدّ للضّراب . فإن كانت ماشية الرّجل كلّها خيارًا ، فقد اختلف الفقهاء فقيل : يأخذ السّاعي من أوسط الموجود ، وقيل : يكلّف شراء الوسط من ذلك الجنس . الأمر الثّاني : أن لا يكون المأخوذ من شرار المال ، ومنه المعيبة ، والهرمة ، والمريضة ، لكن إن كانت كلّها معيبةً أو هرمةً أو مريضةً ، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه يجوز إخراج الواجب منها ، وقيل : يكلّف شراء صحيحةٍ أخذًا بظاهر النّهي الوارد في الحديث ، وقيل : يخرج صحيحةً مع مراعاة القيمة .
زكاة الخيل :
65 - ذهب جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة إلى أنّ الخيل الّتي ليست للتّجارة لا زكاة فيها ولو كانت سائمةً واتّخذت للنّماء ، وسواء كانت عاملةً أو غير عاملةٍ ، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة } وقوله : { قد عفوت عن صدقة الخيل والرّقيق } . وذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنّ الخيل إذا كانت سائمةً ذكورًا وإناثًا ففيها الزّكاة ، وليس في ذكورها منفردةً زكاة ، لأنّها لا تتناسل ، وكذلك في الإناث منفرداتٍ ، وفي روايةٍ عن أبي حنيفة في الإناث المنفردات زكاة لأنّها تتناسل بالفحل المستعار ، وروي عنه أيضًا أنّها تجب في الذّكور المنفردات أيضًا . واحتجّ له بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم { في الخيل : هي لرجلٍ أجر ، ولرجلٍ ستر ، وعلى رجلٍ وزر } فساق الحديث إلى أن قال في الّذي هي له ستر : { ولم ينس حقّ اللّه في رقابها ولا في ظهورها } فحقّ ظهورها العاريّة ، وحقّ رقابها الزّكاة ، وبما ورد عن يعلى بن أميّة أنّ أخاه عبد الرّحمن بن أميّة اشترى من أهل اليمن فرسًا أنثى بمائة قلوصٍ ، فندم البائع ، فلحق بعمر ، فقال : غصبني يعلى وأخوه فرسًا لي ، فكتب عمر إلى يعلى أن الحق بي ، فأتاه فأخبره الخبر ، فقال : إنّ الخيل لتبلغ هذا عندكم ؟ ، ما علمت أنّ فرسًا يبلغ هذا . فنأخذ عن كلّ أربعين شاةٍ شاةً ولا نأخذ من الخيل شيئًا ؟ ، خذ من كلّ فرسٍ دينارًا . فقرّر على الخيل دينارًا دينارًا . وعن الزّهريّ أنّ عثمان رضي الله عنه كان يصدّق الخيل ، أي يأخذ زكاةً منها ، ثمّ قال أبو حنيفة : إن شاء المزكّي أعطى عن كلّ فرسٍ دينارًا ، وإن شاء قوّم خيله وأعطى عن كلّ مائتي درهمٍ خمسة دراهم .
زكاة سائر أصناف الحيوان :
66 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّه لا زكاة في سائر الحيوان غير ما تقدّم ، ما لم تكن للتّجارة ، فليس في البغال والحمير وغيرها زكاة . واحتجّوا لذلك بما في الحديث { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الخيل فقال : هي لرجلٍ أجر ... } الحديث المتقدّم ، ثمّ { سئل عن الحمير ، فقال : لم ينزل عليّ فيها إلاّ هذه الآية الفاذّة : { فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيرًا يره } } .
ثانيًا : زكاة الذّهب والفضّة والعملات المعدنيّة والورقيّة 67 - أ - زكاة الذّهب والفضّة : زكاة الذّهب والفضّة واجبة من حيث الجملة بإجماع الفقهاء ، لقول اللّه تبارك وتعالى : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } . مع قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ما أدّيت زكاته فليس بكنزٍ } . وقوله : { ما من صاحب ذهبٍ ولا فضّةٍ لا يؤدّي منها حقًّا إلاّ إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نارٍ فأحمي عليها في نار جهنّم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ... } الحديث . فالعذاب المذكور في الآية للكنز مطلقًا بيّن الحديث أنّه لمن منع زكاة النّقدين ، فتقيّد به .
ما تجب فيه الزّكاة من الذّهب والفضّة :(/17)
68 - تجب الزّكاة في الذّهب والفضّة إذا تمّت الشّروط العامّة للزّكاة المتقدّم بيانها من الحول والنّصاب وغيرهما في جميع أنواع الذّهب والفضّة سواء المضروب منها دنانير أو دراهم ( وقد يسمّى العين ، والمسكوك ) ، وفي التّبر وهو غير المضروب ، والسّبائك ، وفي المصوغ منها على شكل آنيةٍ أو غيرها . ولا يستثنى من ذلك إلاّ شيئان : الأوّل : الحليّ من الذّهب والفضّة الّذي يعدّه مالكه لاستعماله في التّحلّي استعمالًا مباحًا . قال المالكيّة : ولو لإعارةٍ أو إجارةٍ ، فلا يكون فيه زكاة عند الجمهور ومنهم الشّافعيّة على المذهب ، لأنّه من باب المقتنى للاستعمال كالملابس الخاصّة ، وكالبقر العوامل . وذهب الحنفيّة وهو قول مقابل للأظهر عند الشّافعيّة : إلى وجوب الزّكاة في الحليّ ، كغيرها من أنواع الذّهب والفضّة . وينظر تفصيل القول في وجوبها وبيان الأدلّة في مصطلح ( حليّ ) أمّا المقادير الواجبة والنّصاب فتأتي في موضعها من هذا البحث . الثّاني : الذّهب والفضّة المستخرجان من المعادن ( من باطن الأرض ) ، فيجب فيهما الزّكاة بمجرّد الاستخراج إذا بلغ المستخرج نصابًا بدون اشتراط حولٍ ، ويأتي تفصيل ذلك .
نصاب زكاة الذّهب والفضّة والقدر الواجب فيهما :
69 - نصاب الذّهب : نصاب الذّهب عند جمهور الفقهاء عشرون مثقالًا ، فلا تجب الزّكاة في أقلّ منها ، إلاّ أن يكون لمالكها فضّة أو عروض تجارةٍ يكمل بهما النّصاب عند من قال ذلك على ما سيأتي بيانه ، ولم ينقل خلاف في ذلك إلاّ ما روي عن الحسن أنّ النّصاب أربعون مثقالًا . وما روي عن عطاءٍ ، وطاووسٍ ، والزّهريّ وسليمان بن حربٍ ، وأيّوب السّختيانيّ أنّ نصاب الذّهب معتبر بالفضّة ، فما كان من الذّهب قيمته 200 درهمٍ ففيه الزّكاة ، سواء كان أقلّ من ( 20 ) مثقالًا أو مساويةً لها أو أكثر منها ، قالوا : لأنّه لم يثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم تقدير في نصاب الذّهب ، فيحمل نصابه على نصاب الفضّة . واحتجّ الجمهور بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ليس في أقلّ من عشرين مثقالًا من الذّهب ، ولا في أقلّ من مائتي درهمٍ صدقة } . وفي حديث عمر وعائشة رضي الله عنهما { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كلّ عشرين دينارًا فصاعدًا نصف دينارٍ ، ومن الأربعين دينارًا } .
نصاب الفضّة :
70 - يقال للفضّة المضروبة ( ورق ) ( ورقّة ) ، وقيل : تسمّى بذلك مضروبةً كانت أو غير مضروبةٍ ، ونصاب الفضّة مائتا درهمٍ بالإجماع ، وقد ورد فيه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة } والأوقيّة 40 ( أربعون ) درهمًا ، وفي كتاب أنسٍ المرفوع { وفي الرّقّة ربع العشر ، فإن لم يكن إلاّ تسعين ومائةً فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربّها } . ثمّ الدّرهم المعتبر هو الدّرهم الشّرعيّ ، وما زاد عنه أو نقص فبالوزن . وقيل عند بعض الحنفيّة : إنّ المعتبر في حقّ كلّ أهل بلدٍ دراهمهم بالعدد .
النّصاب في المغشوش من الذّهب والفضّة :
71 - المغشوش من الذّهب أو الفضّة ، وهو المسبوك مع غيره . ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا زكاة فيه حتّى يبلغ خالصه نصابًا ، لما في الحديث المتقدّم { ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة } . فإذا بلغه أخرج الواجب خالصًا أو أخرج من المغشوش ما يعلم اشتماله على خالصٍ بقدر الواجب مع مراعاة درجة الجودة . وقال الحنفيّة : إذا كان الغالب على الورق المضروب الفضّة فهو في حكم الفضّة ، فتجب فيه الزّكاة كأنّه كلّه فضّةً ، ولا تزكّى زكاة العروض ، ولو كان قد أعدّها للتّجارة ، قالوا : لأنّ الدّراهم لا تخلو من قليل الغشّ ، لأنّها لا تنطبع إلاّ به ، والغلبة أن تزيد الفضّة على النّصف . أمّا إن كان الغشّ غالبًا فلا يكون لها حكم الفضّة بل حكم العروض ، فلا زكاة فيها إلاّ إن نواها للتّجارة ، وبلغت نصابًا بالقيمة ، فإن لم ينوها للتّجارة فإن كانت بحيث يخلّص منها فضّةً تبلغ نصابًا وجبت زكاتها ، وإلاّ فلا . وقال المالكيّة : إن كانت الدّراهم والدّنانير المغشوشة رائجةً كرواج غير المغشوشة فإنّها تعامل مثل الكاملة سواءً ، فتكون فيها الزّكاة إن بلغ وزنها بما فيها من الغشّ نصابًا ، أمّا إن كانت غير رائجةٍ فالعبرة بما فيها من الذّهب أو الفضّة الخالصين على تقدير التّصفية ، فإن بلغ نصابًا زكّي وإلاّ فلا . وهذا الّذي تقدّم فيما كان الغشّ فيه نحاسًا أو غيره ، أمّا الذّهب المغشوش بالفضّة فيعتبر عند الشّافعيّة والحنابلة كلّ جنسٍ منهما ، فإن كان أحدهما نصابًا زكّي الجميع ولو لم يبلغ الآخر نصابًا ، وكذا إن كانا بضمّ أحدهما إلى الآخر يكمل منهما نصاب ، كأن يكون فيه ثلاثة أرباع نصاب ذهبٍ وربع نصاب فضّةٍ ، وإلاّ فلا زكاة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن بلغ الذّهب المخلوط بالفضّة نصاب الذّهب ففيه زكاة الذّهب ، وإن بلغت الفضّة نصاب الفضّة ففيها زكاة الفضّة إن كانت الغلبة للفضّة ، أمّا إن كانت الغلبة للذّهب فهو كلّه ذهب ، لأنّه أعزّ وأغلى قيمةً . ولم نجد للمالكيّة تعرّضًا لهذه المسألة .
القدر الواجب :(/18)
72 - تؤخذ الزّكاة ممّا وجبت فيه من الذّهب والفضّة بنسبة ربع العشر ( 5 . 2 ) وهكذا بالإجماع ، إلاّ أنّهم اختلفوا في الوقص . فذهب الجمهور ومنهم الصّاحبان ، إلى أنّه لا وقص في الذّهب والفضّة ، فلو كان عنده ( 210 ) دراهم ففي المائتين خمسة دراهم ، وفي الزّائد بحسابه ، وهو في المثال ربع درهمٍ ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كانت مائتي درهمٍ ففيها خمسة دراهم ، فما زاد فبحساب ذلك } . ولأنّ الوقص في السّائمة لتجنّب التّشقيص ، ولا يضرّ في النّقدين . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الزّائد على النّصاب عفو لا شيء فيه حتّى يبلغ خمس نصابٍ . فإذا بلغ الزّائد في الفضّة أربعين درهمًا فيكون فيها درهم ، ثمّ لا شيء في الزّائد حتّى تبلغ أربعين درهمًا ، وهكذا ، وكذا في الذّهب لا شيء في الزّائد على العشرين مثقالًا حتّى يبلغ أربعة مثاقيل . واحتجّ له ابن الهمام بحديث عمرو بن حزمٍ مرفوعًا { ليس فيما دون الأربعين صدقة } . وحديث معاذٍ { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن لا يأخذ من الكسور شيئًا } .
ب - الزّكاة في الفلوس :
73 - الفلوس ما صنع من النّقود من معدنٍ غير الذّهب والفضّة . وقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفلوس إن كانت أثمانًا رائجةً أو سلعًا للتّجارة تجب الزّكاة في قيمتها ، وإلاّ فلا . وحكم الفلوس عند المالكيّة حكم العروض . نقل البنانيّ عن المدوّنة : من حال الحول على فلوسٍ عنده قيمتها مائتا درهمٍ فلا زكاة فيها إلاّ أن يكون مديرًا فيقوّمها كالعروض . قالوا : ويجزئ إخراج زكاتها منها ( أي فلوسًا ) على المشهور ، وفي قولٍ : لا يجوز ; لأنّها من العروض ، والعروض يجب إخراج زكاتها بالقيمة دنانير من الذّهب ، أو دراهم من الفضّة . وعند الحنابلة إن كانت الفلوس للنّفقة فلا زكاة فيها ، كعروض القنية ، وإن كانت للتّجارة كالّتي عند الصّيارفة تزكّى زكاة القيمة ، كسائر عروض التّجارة ، ولا يجزئ إخراج زكاتها منها بل تخرج من ذهبٍ وفضّةٍ ، كقولهم في العروض .
زكاة الموادّ الثّمينة الأخرى :
74 - لا زكاة في الموادّ الثّمينة المقتناة إذا كانت من غير الذّهب والفضّة ، وذلك كالجواهر من اللّؤلؤ والمرجان والزّمرّد والفيروز ونحوها ، وكذا ما صنع من التّحف الثّمينة من حديدٍ أو نحاسٍ أو صفرٍ أو زجاجٍ أو غير ذلك ، وإن حسنت صنعتها وكثرت قيمتها ، فإن كانت عروض تجارةٍ ففيها الزّكاة على ما يأتي .
ج - زكاة الأوراق النّقديّة ( ورق النّوط ) :
75 - إنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الزّكاة في الأوراق النّقديّة واجبة ، نظرًا لأنّها عامّة أموال النّاس ورءوس أموال التّجارات والشّركات وغالب المدّخرات ، فلو قيل بعدم الزّكاة فيها لأدّى إلى ضياع الفقراء والمساكين ، وقد قال اللّه تعالى : { وفي أموالهم حقّ للسّائل والمحروم } ولا سيّما أنّها أصبحت عملةً نقديّةً متواضعًا عليها في جميع أنحاء العالم ، وينبغي تقدير النّصاب فيها بالذّهب أو الفضّة .
ضمّ الذّهب إلى الفضّة في تكميل النّصاب ، وضمّ عروض التّجارة إليهما :
76 - ذهب الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة وهو رواية عن أحمد وقول الثّوريّ والأوزاعيّ ) إلى أنّ الذّهب والفضّة يضمّ أحدهما إلى الآخر في تكميل النّصاب ، فلو كان عنده خمسة عشر مثقالًا من الذّهب ، ومائة وخمسون درهمًا ، فعليه الزّكاة فيهما ، وكذا إن كان عنده من أحدهما نصاب ، ومن الآخر مالًا يبلغ النّصاب يزكّيان جميعًا ، واستدلّوا بأنّ نفعهما متّحد ، من حيث إنّهما ثمنان ، فمنهما القيم وأروش الجنايات ، ويتّخذان للتّحلّي . وذهب الشّافعيّة وهو رواية أخرى عن أحمد وقول أبي عبيدٍ وابن أبي ليلى وأبي ثورٍ إلى أنّه لا تجب في أحد الجنسين الزّكاة حتّى يكمل وحده نصابًا ، لعموم حديث : { ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة } . والقائلون بالضّمّ اختلفوا فذهب مالك وأبو يوسف ومحمّد وأحمد في روايةٍ إلى أنّ الضّمّ يكون بالأجزاء فلو كان عنده خمسة عشر مثقالًا ذهبًا ، وخمسون درهمًا لوجبت الزّكاة ; لأنّ الأوّل نصاب ، والثّاني 25 نصاب ، فيكمل منهما نصاب ، وكذا لو كان عنده ثلث نصابٍ من أحدهما وثلثان من الآخر ونحو ذلك . وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يضمّ أحدهما إلى الآخر بالتّقويم في أحدهما بالآخر بما هو أحظّ للفقراء ، أي يضمّ الأكثر إلى الأقلّ ، فلو كان عنده نصف نصاب فضّةٍ ، وربع نصاب ذهبٍ تساوي قيمته نصف نصاب فضّةٍ فعليه الزّكاة . أمّا العروض فتضمّ قيمتها إلى الذّهب أو الفضّة ويكمل بها نصاب كلٍّ منهما . قال ابن قدامة : لا نعلم في ذلك خلافًا . وفي هذا المعنى العملة النّقديّة المتداولة .
ثالثًا : زكاة عروض التّجارة :
77 - التّجارة تقليب المال بالبيع والشّراء لغرض تحصيل الرّبح . والعرض بسكون الرّاء ، هو كلّ مالٍ سوى النّقدين ، قال الجوهريّ : العرض المتاع ، وكلّ شيءٍ فهو عرض سوى الدّراهم والدّنانير فإنّهما عين ، وقال أبو عبيدٍ : العروض الأمتعة الّتي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون حيوانًا ولا عقارًا . أمّا العرض بفتحتين فهو شامل لكلّ أنواع المال ، قلّ أو كثر ، قال أبو عبيدة : جميع متاع الدّنيا عرض . وفي الحديث : { ليس الغنى عن كثرة العرض } . وعروض التّجارة جمع العرض بسكون الرّاء ، وهي في اصطلاح الفقهاء كلّ ما أعدّ للتّجارة كائنةً ما كانت سواء من جنسٍ تجب فيه زكاة العين كالإبل والغنم والبقر ، أو لا ، كالثّياب والحمير والبغال . حكم الزّكاة في عروض التّجارة :(/19)
78 - جمهور الفقهاء على أنّ المفتى به هو وجوب الزّكاة في عروض التّجارة ، واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم } وبحديث سمرة : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصّدقة من الّذي نعدّ للبيع } . وحديث أبي ذرٍّ مرفوعًا : { في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البزّ صدقتها } وقال حماس : مرّ بي عمر فقال : أدّ زكاة مالك . فقلت : ما لي إلاّ جعاب أدمٍ . فقال : قوّمها ثمّ أدّ زكاتها . ولأنّها معدّة للنّماء بإعداد صاحبها فأشبهت المعدّ لذلك خلقةً كالسّوائم والنّقدين .
شروط وجوب الزّكاة في العروض : الشّرط الأوّل : أن لا يكون لزكاتها سبب آخر غير كونها عروض تجارةٍ :
أ - ( السّوائم الّتي للتّجارة ) :
79 - فلو كان لديه سوائم للتّجارة بلغت نصابًا ، فلا تجتمع زكاتان إجماعًا ، لحديث : { لا ثني في الصّدقة } بل يكون فيها زكاة العين عند المالكيّة والشّافعيّة في الجديد ، كأن كان عنده خمس من الإبل للتّجارة ففيها شاة ، ولا تعتبر القيمة ، فإن كانت أقلّ من خمسٍ فإنّها تقوّم فإن بلغت نصابًا من الأثمان وجبت فيها زكاة القيمة . وإنّما قدّموا زكاة العين على زكاة التّجارة لأنّ زكاة العين أقوى ثبوتًا لانعقاد الإجماع عليها ، واختصاص العين بها ، فكانت أولى . وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّها تزكّى زكاة التّجارة لأنّها أحظّ للمساكين ; لأنّها تجب فيما زاد بالحساب ، لكن قال الحنابلة : إن بلغت عنده نصاب سائمةٍ ولم تبلغ قيمته نصابًا من الأثمان فلا تسقط الزّكاة ، بل تجب زكاة السّائمة ، كمن عنده خمس من الإبل للتّجارة لم تبلغ قيمتها مائتي درهمٍ ، ففيها شاة . ونظير هذا عند الفقهاء غلّة مال التّجارة ، كأن يكون ثمرًا ممّا تجب فيه الزّكاة إن كان الشّجر للتّجارة .
ب - الحليّ والمصنوعات الذّهبيّة والفضّيّة الّتي للتّجارة :
80 - أمّا المصوغات من الذّهب والفضّة إن كانت للتّجارة ، فقد ذهب المالكيّة إلى أنّه ليس فيها زكاة إن كانت أقلّ من نصابٍ بالوزن ، ولو زادت قيمتها عن نصابٍ بسبب الجودة أو الصّنعة ، ويزكّى على أساس القيمة الشّاملة أيضًا لما فيه من الجواهر المرصّعة . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّ الصّناعة المحرّمة لا تقوّم لعدم الاعتداد بها شرعًا ، أمّا الصّنعة المباحة فتدخل في التّقويم إن كان الحليّ للتّجارة ، ويعتبر النّصاب بالقيمة كسائر أموال التّجارة ، ويقوّم بنقدٍ آخر من غير جنسه ، فإن كان من ذهبٍ قوّم بفضّةٍ ، وبالعكس ، إن كان تقويمه بنقدٍ آخر أحظّ للفقراء ، أو نقص عن نصابه ، كخواتم فضّةٍ لتجارةٍ زنتها ( مائة وتسعون درهمًا ) وقيمتها ( عشرون ) مثقالًا ذهبًا ، فيزكّيها بربع عشر قيمتها ، فإن كان وزنها ( مائتي ) درهمٍ ، وقيمتها تسعة عشر مثقالًا وجب أن لا تقوّم ، وأخرج ربع عشرها . ويظهر من كلام ابن عابدين أنّ مذهب الحنفيّة أنّ العبرة في الحليّ والمصنوع من النّقدين بالوزن من حيث النّصاب ومن حيث قدر المخرج ، وعند زفر المعتبر القيمة ، وعند محمّدٍ الأنفع للفقراء . وعند الشّافعيّة في مصوغ الذّهب والفضّة الّذي للتّجارة هل يزكّى زكاة العين أو زكاة القيمة قولان .
ج - الأراضي الزّراعيّة الّتي للتّجارة وما يخرج منها :
81 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه تجب الزّكاة في الخارج من الأرض الزّراعيّة من ثمرٍ أو زرعٍ ، ولا يجب الزّكاة في قيمة الأرض العشريّة ولو كانت للتّجارة ، وهذا إن كان قد زرع الأرض العشريّة فعلًا ووجب فيها العشر ; لئلاّ يجتمع حقّان للّه تعالى في مالٍ واحدٍ . فإن لم يزرعها تجب زكاة التّجارة فيها لعدم وجوب العشر ، فلم يوجد المانع ، بخلاف الخراج الموظّف فإنّه يجب فيها ولو عطّلت أي لأنّه كالأجرة . أمّا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة فيجب زكاة رقبة الأرض كسائر عروض التّجارة بكلّ حالٍ . ثمّ اختلف الجمهور في كيفيّة تزكية الغلّة . فمذهب المالكيّة أنّ النّاتج من الأرض الزّراعيّة الّتي للتّجارة لا زكاة في قيمته في عامه اتّفاقًا إن كانت قد وجبت فيه زكاة النّبات ، فإن لم تكن فيه لنقصه عن نصاب الزّرع أو الثّمر ، تجب فيه زكاة التّجارة ، وكذا في عامه الثّاني وما بعده . وقال الشّافعيّة على الأصحّ عندهم والقاضي من الحنابلة : يزكّى الجميع زكاة القيمة ، لأنّه كلّه مال تجارةٍ ، فتجب فيه زكاة التّجارة ، كالسّائمة المعدّة للتّجارة . قال الشّافعيّة : ويزكّى التّبن أيضًا والأغصان والأوراق وغيرها إن كان لها قيمة ، كسائر مال التّجارة . وذهب الحنابلة وأبو ثورٍ إلى أنّه يجتمع في العشريّة العشر وزكاة التّجارة ، لأنّ زكاة التّجارة في القيمة ، والعشر في الخارج ، فلم يجتمعا في شيءٍ واحدٍ ; ولأنّ زكاة العشر في الغلّة أحظّ للفقراء من زكاة التّجارة فإنّها ربع العشر ، ومن هنا فارقت عندهم زكاة السّائمة المتّجر بها ، فإنّ زكاة السّوم أقلّ من زكاة التّجارة .
الشّرط الثّاني : تملّك العرض بمعاوضةٍ :(/20)
82 - يشترط أن يكون قد تملّك العرض بمعاوضةٍ كشراءٍ بنقدٍ أو عرضٍ أو بدينٍ حالٍّ أو مؤجّلٍ ، وكذا لو كان مهرًا أو عوض خلعٍ . وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة ، ومحمّدٍ ، فلو ملكه بإرثٍ أو بهبةٍ أو احتطابٍ أو استردادٍ بعيبٍ واستغلال أرضه بالزّراعة أو نحو ذلك فلا زكاة فيه . قالوا : لأنّ التّجارة كسب المال ببدلٍ هو مال ، وقبول الهبة مثلًا اكتساب بغير بدلٍ أصلًا . وعند الشّافعيّة في مقابل الأصحّ أنّ المهر وعوض الخلع لا يزكّيان زكاة التّجارة . وقال الحنابلة وأبو يوسف : الشّرط أن يكون قد ملكه بفعله ، سواء كان بمعاوضةٍ أو غيرها من أفعاله ، كالاحتطاب وقبول الهبة ، فإن دخل في ملكه بغير فعله ، كالموروث ، أو مضيّ حول التّعريف في اللّقطة ، فلا زكاة فيه . وفي روايةٍ عن أحمد : لا يعتبر أن يملك العرض بفعله ، ولا أن يكون في مقابلة عوضٍ ، بل أيّ عرضٍ نواه للتّجارة كان لها ، لحديث سمرة : { أمرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصّدقة من الّذي نعدّ للبيع } .
الشّرط الثّالث : نيّة التّجارة :
83 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في زكاة مال التّجارة أن يكون قد نوى عند شرائه أو تملّكه أنّه للتّجارة ، والنّيّة المعتبرة هي ما كانت مقارنةً لدخوله في ملكه ; لأنّ التّجارة عمل فيحتاج إلى النّيّة مع العمل ، فلو ملكه للقنية ثمّ نواه للتّجارة لم يصر لها ، ولو ملك للتّجارة ثمّ نواه للقنية وأن لا يكون للتّجارة صار للقنية ، وخرج عن أن يكون محلًّا للزّكاة ولو عاد فنواه للتّجارة لأنّ ترك التّجارة ، من قبيل التّروك ، والتّرك يكتفى فيه بالنّيّة كالصّوم . قال الدّسوقيّ : ولأنّ النّيّة سبب ضعيف تنقل إلى الأصل ولا تنقل عنه ، والأصل في العروض القنية . وقال ابن الهمام : لمّا لم تكن العروض للتّجارة خلقةً فلا تصير لها إلاّ بقصدها فيه . واستثنى الحنفيّة ممّا يحتاج للنّيّة ما يشتريه المضارب ، فإنّه يكون للتّجارة مطلقًا ; لأنّه لا يملك بمال المضاربة غير المتاجرة به . ولو أنّه آجر داره المشتراة للتّجارة بعرضٍ ، فعند بعض الحنفيّة لا يكون العرض للتّجارة إلاّ بنيّتها ، وقال بعضهم : هو للتّجارة بغير نيّةٍ . قال المالكيّة : ولو قرن بنيّة التّجارة نيّة استغلال العرض ، بأن ينوي عند شرائه أن يكريه وإن وجد ربحًا باعه ، ففيه الزّكاة على المرجّح عندهم ، وكذا لو نوى مع التّجارة القنية بأن ينوي الانتفاع بالشّيء كركوب الدّابّة أو سكنى المنزل ثمّ إن وجد ربحًا باعه . قالوا : فإن ملكه للقنية فقط ، أو للغلّة فقط أو لهما ، أو بلا نيّةٍ أصلًا فلا زكاة عليه .
الشّرط الرّابع : بلوغ النّصاب :
84 - ونصاب العروض بالقيمة ، ويقوّم بذهبٍ أو فضّةٍ ، فلا زكاة في ما يملكه الإنسان من العروض إن كانت قيمتها أقلّ من نصاب الزّكاة في الذّهب أو الفضّة ، ما لم يكن عنده من الذّهب أو الفضّة نصاب أو تكملة نصابٍ . وتضمّ العروض بعضها إلى بعضٍ في تكميل النّصاب وإن اختلفت أجناسها . واختلف الفقهاء فيما تقوّم به عروض التّجارة : بالذّهب أم بالفضّة . فذهب الحنابلة وأبو حنيفة في روايةٍ عنه عليها المذهب ، إلى أنّها تقوّم بالأحظّ للفقراء ، فإن كان إذا قوّمها بأحدهما لا تبلغ نصابًا وبالآخر تبلغ نصابًا تعيّن عليه التّقويم بما يبلغ نصابًا . وقال أبو حنيفة في روايةٍ عنه : يخيّر المالك فيما يقوّم به لأنّ الثّمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء . وقال الشّافعيّة وأبو يوسف : يقوّمها بما اشترى به من النّقدين ، وإن اشتراها بعرضٍ قوّمها بالنّقد الغالب في البلد ، وقال محمّد : يقوّمها بالنّقد الغالب على كلّ حالٍ كما في المغصوب والمستهلك . ولم نجد عند المالكيّة تعرّضًا لما تقوّم به السّلع ، مع أنّهم قالوا : إنّها لا زكاة فيها ما لم تبلغ نصابًا
. نقص قيمة التّجارة في الحول عن النّصاب :
85 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة على القول المنصوص إلى أنّ المعتبر في وجوب الزّكاة القيمة في آخر الحول ، فلو كانت قيمة العروض في أوّل الحول أقلّ من نصابٍ ثمّ بلغت في آخر الحول نصابًا وجبت فيها الزّكاة ، وهذا خلافًا لزكاة العين فلا بدّ فيها عندهم من وجود النّصاب في الحول كلّه . قالوا : لأنّ الاعتبار في العروض بالقيمة ، ويعسر مراعاتها كلّ وقتٍ لاضطراب الأسعار ارتفاعًا وانخفاضًا فاكتفي باعتبارها في وقت الوجوب ، قال الشّافعيّة : فلو تمّ الحول وقيمة العرض أقلّ من نصابٍ فإنّه يبطل الحول الأوّل ويبتدئ حول جديد . وقال الحنفيّة وهو قول ثانٍ للشّافعيّة : المعتبر طرفا الحول ، لأنّ التّقويم يشقّ في جميع الحول فاعتبر أوّله للانعقاد وتحقّق الغنى ، وآخره للوجوب ، ولو انعدم بهلاك الكلّ في أثناء الحول بطل حكم الحول . وقال الحنابلة وهو قول ثالث للشّافعيّة : المعتبر كلّ الحول كما في النّقدين ، فلو نقصت القيمة في أثناء الحول لم تجب الزّكاة ، ولو كانت قيمة العرض من حين ملكه أقلّ من نصابٍ فلا ينعقد الحول عليه حتّى تتمّ قيمته نصابًا ، والزّيادة معتبرة سواء كانت بارتفاع الأسعار ، أو بنماء العرض ، أو بأن باعها بنصابٍ ، أو ملك عرضًا آخر أو أثمانًا كمّل بها النّصاب .
الشّرط الخامس : الحول :(/21)
86 - والمراد أن يحول الحول على عروض التّجارة ، فما لم يحل عليها الحول فلا زكاة فيها ، وهذا إن ملكها بغير معاوضةٍ ، أو بمعاوضةٍ غير ماليّةٍ كالخلع ، عند من قال بذلك ، أو اشتراها بعرض قنيةٍ ، أمّا إن اشتراها بمالٍ من الأثمان أو بعرضٍ تجارةٍ آخر ، فإنّه يبني حول الثّاني على حول الأوّل ; لأنّ مال التّجارة تتعلّق الزّكاة بقيمته ، وقيمته هي الأثمان نفسها ; ولأنّ النّماء في التّجارة يكون بالتّقليب . فإن أبدل عرض التّجارة بعرضٍ قنيةٍ أو بسائمةٍ لم يقصد بها التّجارة فإنّ حول زكاة التّجارة ينقطع . وربح التّجارة في الحول يضمّ إلى الأصل فيزكّي الأصل والرّبح عند آخر الحول . فإذا حال الحول وجب على المالك تقويم عروضه وإخراج زكاتها عند الجمهور ، ولمالكٍ تفصيل بين المحتكر لتجارته والمدير لها يأتي تفصيله في الشّرط التّالي .
الشّرط السّادس : تقويم السّلع :
87 - يرى المالكيّة أنّ التّاجر إمّا أن يكون محتكرًا أو مديرًا ، والمحتكر هو الّذي يرصد بسلعه الأسواق وارتفاع الأسعار ، والمدير هو من يبيع بالسّعر الحاضر ثمّ يخلفه بغيره وهكذا ، كالبقّال ونحوه . فالمحتكر يشترط لوجوب الزّكاة عليه أن يبيع بذهبٍ أو فضّةٍ يبلغ نصابًا ، ولو في مرّاتٍ ، وبعد أن يكمل ما باع به نصابًا يزكّيه ويزكّي ما باع به بعد ذلك وإن قلّ ، فلو أقام العرض عنده سنين فلم يبع ثمّ باعه فليس عليه فيه إلاّ زكاة عامٍ واحدٍ يزكّي ذلك المال الّذي يقبضه . أمّا المدير فلا زكاة عليه حتّى يبيع بشيءٍ ولو قلّ ، كدرهمٍ ، وعلى المدير الّذي باع ولو بدرهمٍ أن يقوّم عروض تجارته آخر كلّ حولٍ ويزكّي القيمة ، كما يزكّي النّقد . وإنّما فرّق مالك بين المدير والمحتكر لأنّ الزّكاة شرعت في الأموال النّامية ، فلو زكّى السّلعة كلّ عامٍ - وقد تكون كاسدةً - نقصت عن شرائها ، فيتضرّر ، فإذا زكّيت عند البيع فإن كانت ربحت فالرّبح كان كامنًا فيها فيخرج زكاته ; ولأنّه ليس على المالك أن يخرج زكاة مالٍ من مالٍ آخر . وبهذا يتبيّن أنّ تقويم السّلع عند المالكيّة هو للتّاجر المدير خاصّةً دون التّاجر المحتكر ، وأنّ المحتكر ليس عليه لكلّ حولٍ زكاة فيما احتكره بل يزكّيه لعامٍ واحدٍ عند بيعه وقبض ثمنه . أمّا عند سائر العلماء فإنّ المحتكر كغيره ، عليه لكلّ حولٍ زكاة .
كيفيّة التّقويم والحساب في زكاة التّجارة :
أ - ما يقوّم من السّلع وما لا يقوّم :
88 - الّذي يقوّم من العروض هو ما يراد بيعه دون ما لا يعدّ للبيع ، فالرّفوف الّتي يضع عليها السّلع لا زكاة فيها . وممّا ذكره الحنفيّة من ذلك أنّ تاجر الدّوابّ إن اشترى لها مقاود أو براذع ، فإن كان يبيع هذه الأشياء معها ففيها الزّكاة ، وإن كانت لحفظ الدّوابّ بها فلا زكاة فيها . وكذلك العطّار لو اشترى قوارير ، فما كان من القوارير لحفظ العطر عند التّاجر فلا زكاة فيها ، وما كان يوضع فيها العطر للمشتري ففيها الزّكاة . وموادّ الوقود كالحطب ، ونحوه ، وموادّ التّنظيف كالصّابون ونحوه الّتي أعدّها الصّانع ليستهلكها في صناعته لا ليبيعها فلا زكاة فيما لديه منها ، والموادّ الّتي لتغذية دوابّ التّجارة لا تجب فيها الزّكاة . وذكر المالكيّة أنّه لا زكاة في الأواني الّتي تدار فيها البضائع ، ولا الآلات الّتي تصنع بها السّلع ، والإبل الّتي تحملها ، إلاّ أن تجب الزّكاة في عينها . وذكر الشّافعيّة أنّ الموادّ الّتي للصّباغة أو الدّباغة ، والدّهن للجلود ، فيها الزّكاة ، بخلاف الملح للعجين أو الصّابون للغسل فلا زكاة فيهما لهلاك العين ، وذكر الحنابلة نحو ذلك .
ب - تقويم الصّنعة في الموادّ الّتي يقوّم صاحبها بتصنيعها :
89 - الموادّ الخام الّتي اشتراها المالك وقام بتصنيعها يستفاد من كلام المالكيّة أنّها تقوّم على الحال الّتي اشتراها عليها صاحبها ، أي قبل تصنيعها ، وذلك بيّن ، على قول من يشترط في وجوب الزّكاة في العروض أن يملكها بمعاوضةٍ ; لأنّ هذا قد ملكها بغير معاوضةٍ بل بفعله . ونصّ البنانيّ " الحكم أنّ الصّنّاع يزكّون ما حال على أصله الحول من مصنوعاتهم إذا كان نصابًا ولا يقوّمون صناعتهم " قال ابن لبٍّ : لأنّها فوائد كسبهم استفادوها وقت بيعهم .
السّعر الّذي تقوّم به السّلع :
90 - صرّح الحنفيّة أنّ عروض التّجارة يقوّمها المالك على أساس سعر البلد الّذي فيه المال ، وليس الّذي فيه المالك ، أو غيره ممّن له بالمال علاقة ، ولو كان في مفازةٍ تعتبر قيمته في أقرب الأمصار . وتعتبر القيمة يوم الوجوب في قول أبي حنيفة لأنّه في الأصل بالخيار بين الإخراج من العين وأداء القيمة ، ويجبر المصدّق على قبولها ، فيستند إلى وقت ثبوت الخيار وهو وقت الوجوب . وقال الصّاحبان : المعتبر القيمة يوم الأداء ; لأنّ الواجب عندهما جزء من العين ، وله ولاية منعها إلى القيمة ، فتعتبر يوم المنع كما في الوديعة .
زيادة سعر البيع عن السّعر المقدّر :
91 - إن قوّم سلعةً لأجل الزّكاة وأخرجها على أساس ذلك ، فلمّا باعها زاد ثمنها على القيمة ، فقد صرّح المالكيّة بأنّه لا زكاة في هذه الزّيادة بل هي ملغاة ; لاحتمال ارتفاع سعر السّوق ، أو لرغبة المشتري ، أمّا لو تحقّق أنّه غلط في التّقويم فإنّها لا تلغى لظهور الخطأ قطعًا . وكذا صرّح الشّافعيّة بأنّ الزّيادة عن التّقويم لا زكاة فيها عن الحول السّابق .
التّقويم للسّلع البائرة :(/22)
92 - مقتضى مذهب الجمهور أنّه لا فرق في التّقويم ، بين السّلع البائرة وغيرها . أمّا المالكيّة فقد ذكروا أنّ السّلع الّتي لدى التّاجر المدير إذا بارت فإنّه يدخلها في التّقويم ويؤدّي زكاتها كلّ عامٍ إذا تمّت الشّروط ; لأنّ بوارها لا ينقلها للقنية ولا للاحتكار ، وهذا هو المشهور عندهم وهو قول ابن القاسم . وذهب ابن نافعٍ وسحنون إلى أنّ السّلع إذا بارت تنتقل للاحتكار ، وخصّ اللّخميّ وابن يونس الخلاف بما إذا بار الأقلّ ، أمّا إذا بار النّصف أو الأكثر فلا يقوّم اتّفاقًا عندهم ، ومقتضى ذلك أن لا زكاة فيها إلاّ إذا باع قدر نصابٍ فيزكّيه ، ثمّ كلّما باع شيئًا زكّاه كما تقدّم .
التّقويم للسّلع المشتراة الّتي لم يدفع التّاجر ثمنها :
93 - ذهب المالكيّة إلى أنّ التّاجر المدير لا يقوّم - لأجل الزّكاة - من سلعه إلاّ ما دفع ثمنه ، أو حال عليه الحول عنده وإن لم يدفع ثمنه ، وحكمه في ما لم يدفع ثمنه حكم من عليه دين وبيده مال . وأمّا ما لم يدفع ثمنه ولم يحل عليه الحول عنده فلا زكاة عليه فيه ، ولا يسقط عنه من زكاة ما حال حوله عنده شيء بسبب دين ثمن هذا العرض الّذي لم يحل حوله عنده ، إن لم يكن عنده ما يجعله في مقابلته .
تقويم دين التّاجر النّاشئ عن التّجارة :
94 - ما كان للتّاجر من الدّين المرجوّ إن كان سلعًا عينيّةً - أي من غير النّقدين - فإنّه عند المالكيّة إن كان مديرًا - لا محتكرًا - يقوّمه بنقدٍ حالٍّ ، ولو كان الدّين طعام سلمٍ ، ولا يضرّ تقويمه لأنّه ليس بيعًا له حتّى يؤدّي إلى بيع الطّعام قبل قبضه . وإن كان الدّين المرجوّ من أحد النّقدين وكان مؤجّلًا ، فإنّه يقوّمه بعرضٍ ، ثمّ يقوّم العرض بنقدٍ حالٍّ ، فيزكّي تلك القيمة لأنّها الّتي تملك لو قام على المدين غرماؤه . أمّا الدّين غير المرجوّ فلا يقوّمه ليزكّيه حتّى يقبضه ، فإن قبضه زكّاه لعامٍ واحدٍ . وأمّا عند الجمهور فلم يذكروا هذه الطّريقة ، فالظّاهر عندهم أنّ الدّين المؤجّل يحسب للزّكاة بكماله إذا كان على مليءٍ مقرٍّ .
إخراج زكاة عروض التّجارة نقدًا أو من أعيان المال :
95 - الأصل في زكاة التّجارة أن يخرجها نقدًا بنسبة ربع العشر من قيمتها ، كما تقدّم ، لقول عمر رضي الله عنه لحماسٍ : قوّمها ثمّ أدّ زكاتها . فإن أخرج زكاة القيمة من أحد النّقدين أجزأ اتّفاقًا . وإن أخرج عروضًا عن العروض فقد اختلف الفقهاء في جواز ذلك . فقال الحنابلة وهو ظاهر كلام المالكيّة وقول الشّافعيّ في الجديد وعليه الفتوى : لا يجزئه ذلك ، واستدلّوا بأنّ النّصاب معتبر بالقيمة ، فكانت الزّكاة من القيمة ، كما إنّ البقر لمّا كان نصابها معتبرًا بأعيانها ، وجبت الزّكاة من أعيانها ، وكذا سائر الأموال غير التّجارة . وأمّا عند الحنفيّة وهو قول ثانٍ للشّافعيّة قديم : يتخيّر المالك بين الإخراج من العرض أو من القيمة فيجزئ إخراج عرضٍ بقيمة ما وجب عليه من زكاة العروض ، قال الحنفيّة : وكذلك زكاة غيرها من الأموال حتّى النّقدين والماشية ولو كانت للسّوم لا للتّجارة ، ويأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه . وفي قولٍ ثالثٍ للشّافعيّة قديمٍ : أنّ زكاة العروض تخرج منها لا من ثمنها ، فلو أخرج من الثّمن لم يجزئ .
زكاة مال التّجارة الّذي بيد المضارب :
96 - من أعطى ماله مضاربةً لإنسانٍ فربح فزكاة رأس المال على ربّ المال اتّفاقًا ، أمّا الرّبح فقد اختلف فيه فظاهر كلام الحنفيّة أنّ على المضارب زكاة حصّته من الرّبح إن ظهر في المال ربح وتمّ نصيبه نصابًا . وذهب المالكيّة إلى أنّ مال القراض يزكّي منه ربّ المال رأس ماله وحصّته من الرّبح كلّ عامٍ ، وهذا إن كان تاجرًا مديرًا ، وكذا إن كان محتكرًا وكان عامل القراض مديرًا ، وكان ما بيده من مال ربّ المال الأكثر ، وما بيد ربّه المحتكر الأقلّ . وأمّا العامل فلا يجب عليه زكاة حصّته إلاّ بعد المفاصلة فيزكّيها إذا قبضها لسنةٍ واحدةٍ . وذهب الشّافعيّة على الأظهر إلى أنّ زكاة المال وربحه كلّها على صاحب المال ، فإن أخرجها من مال القراض حسبت من الرّبح ; لأنّها من مئونة المال وذلك لأنّ المال ملكه ، ولا يملك العامل شيئًا ولو ظهر في المال ربح حتّى تتمّ القسمة . هذا على القول بأنّ العامل لا يملك بالظّهور ، أمّا على القول بأنّه يملك بالظّهور فالمذهب أنّ على العامل زكاة حصّته . وذهب الحنابلة إلى أنّ على صاحب المال زكاة المال كلّه ما عدا نصيب العامل ; لأنّ نصيب العامل ليس لربّ المال ولا تجب على الإنسان زكاة مال غيره . ويخرج الزّكاة من المال لأنّه من مئونته ، وتحسب من الرّبح ; لأنّه وقاية لرأس المال . وأمّا العامل فليس عليه زكاة في نصيبه ما لم يقتسما ، فإذا اقتسما استأنف العامل حولًا من حينئذٍ . وقال أبو الخطّاب من الحنابلة : يحتسب من حين ظهور الرّبح ، ولا تجب عليه إخراج زكاته حتّى يقبضه .
رابعًا : زكاة الزّروع والثّمار : ما تجب فيه الزّكاة من أجناس النّبات :(/23)
97 - أجمع العلماء على أنّ في التّمر ( ثمر النّخل ) والعنب ( ثمر الكرم ) من الثّمار ، والقمح والشّعير من الزّروع الزّكاة إذا تمّت شروطها . وإنّما أجمعوا على ذلك لما ورد فيها من الأحاديث الصّحيحة ، منها حديث عبد اللّه بن عمرٍو رضي الله عنهما مرفوعًا : { الزّكاة في الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب } وفي لفظٍ { العشر في التّمر والزّبيب والحنطة والشّعير } ومنها حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : { إنّما سنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الزّكاة في هذه الأربعة الحنطة والشّعير والزّبيب والتّمر } وعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذٍ رضي الله عنهم أجمعين { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلّمان النّاس أمر دينهم ، فأمرهم أن لا يأخذوا الصّدقة إلاّ من هذه الأربعة : الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب } . 98 - ثمّ اختلف العلماء في ما عدا هذه الأصناف الأربعة : فذهب أبو حنيفة إلى أنّ الزّكاة تجب في كلّ ما يقصد بزراعته استنماء الأرض ، من الثّمار والحبوب والخضراوات والأبازير وغيرها ممّا يقصد به استغلال الأرض ، دون ما لا يقصد به ذلك عادةً كالحطب والحشيش والقصب ( أي القصب الفارسيّ بخلاف قصب السّكّر ) والتّبن وشجر القطن والباذنجان وبذر البطّيخ والبذور الّتي للأدوية كالحلبة والشّونيز ، لكن لو قصد بشيءٍ من هذه الأنواع كلّها أن يشغل أرضه بها لأجل الاستنماء وجبت الزّكاة ، فالمدار على القصد . واحتجّ بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { فيما سقت السّماء أو كان عثريًّا العشر } . فإنّه عامّ فيؤخذ على عمومه ، ولأنّه يقصد بزراعته نماء الأرض واستغلالها فأشبه الحبّ . وذهب صاحبا أبي حنيفة إلى أنّ الزّكاة لا تجب إلاّ فيما له ثمرة باقية حولًا . وذهب المالكيّة إلى التّفريق بين الثّمار والحبوب ، فأمّا الثّمار فلا يؤخذ من أيّ جنسٍ منها زكاة غير التّمر والعنب ، وأمّا الحبوب ، فيؤخذ من الحنطة والشّعير والسّلت والذّرة والدّخن والأرز والعلس ، ومن القطانيّ السّبعة الحمّص والفول والعدس واللّوبيا والتّرمس والجلبّان والبسيلة ، وذوات الزّيوت الأربع الزّيتون والسّمسم والقرطم وحبّ الفجل . فهي كلّها عشرون جنسًا ، لا يؤخذ من شيءٍ سواها زكاة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الزّكاة لا تجب في شيءٍ من الزّروع والثّمار إلاّ ما كان قوتًا . والقوت هو ما به يعيش البدن غالبًا دون ما يؤكل تنعّمًا أو تداويًا ، فتجب الزّكاة من الثّمار في العنب والتّمر خاصّةً ، ومن الحبوب في الحنطة والشّعير والأرز والعدس وسائر ما يقتات اختيارًا كالذّرة والحمّص والباقلاء ، ولا تجب في السّمسم والتّين والجوز واللّوز والرّمّان والتّفّاح ونحوها والزّعفران والورس والقرطم . وذهب أحمد في روايةٍ عليها المذهب إلى أنّ الزّكاة تجب في كلّ ما استنبته الآدميّون من الحبوب والثّمار ، وكان ممّا يجمع وصفين : الكيل ، واليبس مع البقاء ( أي إمكانيّة الادّخار ) وهذا يشمل أنواعًا سبعةً : الأوّل : ما كان قوتًا كالأرز والذّرة والدّخن . الثّاني : القطنيّات كالفول والعدس والحمّص والماشّ واللّوبيا . الثّالث : الأبازير ، كالكسفرة والكمّون والكراويا . الرّابع : البذور ، وبذر الخيار ، وبذر البطّيخ ، وبذر القثّاء ، وغيرها ممّا يؤكل ، أو لا يؤكل كبذور الكتّان وبذور القطن وبذور الرّياحين . الخامس : حبّ البقول كالرّشاد وحبّ الفجل والقرطم والحلبة والخردل . السّادس : الثّمار الّتي تجفّف ، وتدّخر كاللّوز والفستق والبندق . السّابع : ما لم يكن حبًّا ولا ثمرًا لكنّه يكال ويدّخر كسعترٍ وسمّاقٍ ، أو ورق شجرٍ يقصد كالسّدر والخطميّ والآس . قالوا : ولا تجب الزّكاة فيما عدا ذلك كالخضار كلّها ، وكثمار التّفّاح والمشمش والتّين والتّوت والموز والرّمّان والبرتقال وبقيّة الفواكه ، ولا في الجوز ، نصّ عليه أحمد ; لأنّه معدود ، ولا تجب في القصب ولا في البقول كالفجل والبصل والكرّاث ، ولا في نحو القطن والقنّب والكتّان والعصفر والزّعفران ونحو جريد النّخل وخوصه وليفه . وفي الزّيتون عندهم اختلاف يأتي بيانه . واحتجّ الحنابلة لذلك بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { ليس فيما دون خمسة أوساقٍ من تمرٍ ولا حبٍّ صدقة } فدلّ على اعتبار الكيل ، وأمّا الادّخار فلأنّ غير المدّخر لا تكمل فيه النّعمة لعدم النّفع به مآلًا . وذهب أحمد في روايةٍ ، وأبو عبيدٍ ، والشّعبيّ ، وهو مرويّ عن ابن عمر رضي الله عنهما إلى أنّه لا زكاة في شيءٍ غير هذه الأجناس الأربعة ، لأنّ النّصّ بها ورد ; ولأنّها غالب الأقوات ولا يساويها في هذا المعنى وفي كثرة نفعها شيء غيرها ، فلا يقاس عليها شيء . واحتجّ من عدا أبا حنيفة على انتفاء الزّكاة في الخضر والفواكه بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { ليس في الخضراوات صدقة } وعلى انتفائها في نحو الرّمّان والتّفّاح من الثّمار بما ورد أنّ سفيان بن عبد اللّه الثّقفيّ وكان عاملًا لعمر على الطّائف : أنّ قبله حيطانًا فيها من الفرسك ( الخوخ ) والرّمّان ما هو أكثر من غلّة الكروم أضعافًا فكتب يستأمر في العشر . فكتب إليه عمر أن ليس عليها عشر ، وقال : هي من العفاة كلّها وليس فيها عشر .
الزّكاة في الزّيتون :(/24)
99 - تجب الزّكاة في الزّيتون عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول الزّهريّ والأوزاعيّ ومالكٍ واللّيث والثّوريّ ، وهو قول الشّافعيّ في القديم ، ورواية عن أحمد ، وهو مرويّ عن ابن عبّاسٍ ، لقوله تعالى : { وآتوا حقّه يوم حصاده } بعد أنّ ذكر الزّيتون في أوّل الآية . ولأنّه يمكن ادّخار غلّته فأشبه التّمر والزّبيب . وذهب الشّافعيّة في الجديد وأحمد في الرّواية الأخرى إلى أنّه لا زكاة في الزّيتون لأنّه لا يدّخر يابسًا ، فهو كالخضراوات .
شروط وجوب الزّكاة في الزّروع والثّمار :
100 - لا يشترط الحول في زكاة الزّروع والثّمار اتّفاقًا ، لقوله تعالى : { وآتوا حقّه يوم حصاده } ولأنّ الخارج نماء في ذاته فوجبت فيه الزّكاة فورًا كالمعدن ، بخلاف سائر الأموال الزّكويّة فإنّما اشترط فيها الحول ليمكن فيه الاستثمار . ويشترط لوجوب الزّكاة في الزّروع والثّمار ما يلي : الشّرط الأوّل النّصاب : ونصابها خمسة أوسقٍ عند الجمهور ، وبه قال صاحبا أبي حنيفة في ما يوسق ، لما في حديث : { ليس فيما دون خمسة أوساقٍ من تمرٍ ولا حبٍّ صدقة } والوسق لغةً : حمل البعير ، وهو في الحنطة والعدس ونحوهما ستّون صاعًا بصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ( وينظر تحرير مقدار الصّاع في مصطلح : مقادير ) فالنّصاب ثلاثمائة صاعٍ . وقال أبو حنيفة : لا يشترط نصاب لزكاة الزّروع والثّمار بل هي واجبة في القليل والكثير ما لم يكن أقلّ من نصف صاعٍ . النّصاب فيما لا يكال :
101 - ذهب أبو يوسف إلى أنّ ما لا يوسق فنصابه بالقيمة ، فإن بلغت قيمته قيمة أدنى نصابٍ ممّا يوسق ففيه الزّكاة ، وإلاّ فلا . وذهب محمّد إلى أنّ نصابه خمسة أمثال ما يقدّر به ، ففي القطن خمسة أحمالٍ ، وفي العسل خمسة أفراقٍ ، وفي السّكّر خمسة أمناءٍ . وفي النّصاب مسائل :
أ - ما يضمّ بعضه إلى بعضٍ لتكميل النّصاب :
102 - تضمّ أنواع الجنس الواحد لتكميل النّصاب ، كأنواع التّمر وإن اختلفت أسماؤها لأنّها كلّها تمر ، وصرّح الشّافعيّة بأنّه يؤخذ من كلّ نوعٍ بقسطه ، فإن شقّ أخرج من الوسط .. ويضمّ الجيّد من الجنس الواحد إلى الرّديء منه ولا يكمّل جنس من جنسٍ آخر فلا يضمّ التّمر إلى الزّبيب ولا أيّ منهما إلى الحنطة أو الشّعير . إلاّ أنّهم اختلفوا في بعض الأشياء أنّها أجناس أو أنواع ، كالعلس وكان قوت صنعاء اليمن ، فقد قيل : هو جنس مستقلّ ، فلا بدّ أن يكمّل نصابًا وحده ، وهو قول ابن القاسم وأصبغ وابن وهبٍ من المالكيّة ، وقيل : هو نوع من الحنطة ، فيضمّ إليها ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة . وقول مالكٍ وسائر أصحابه ، والقمح والشّعير والسّلت أجناس ثلاثة لا يضمّ أحدها إلى الآخر عند الشّافعيّة . ومذهب الحنابلة أنّ القمح جنس وأنّ الشّعير والسّلت نوعان من جنسٍ واحدٍ . ومذهب المالكيّة أنّ الثّلاثة جنس واحد يكمّل النّصاب منها جميعًا . بخلاف الأرز والذّرة والدّخن فهي أجناس مختلفة ، وكذلك القطانيّ عند المالكيّة وهي سبعة أصنافٍ كلّها جنس واحد يضمّ بعضه إلى بعضٍ ، وكذلك تضمّ القطانيّ بعضها إلى بعضٍ في روايةٍ عند الحنابلة . ضمّ غلّة العام الواحد بعضها إلى بعضٍ :
103 - لا تضمّ ثمرة عامٍ إلى ثمرة عامٍ آخر ولا الحاصل من الحبّ كذلك . وأمّا في العام الواحد ، فقد فرّق الشّافعيّة في الأظهر بين الزّرع والثّمر ، فأمّا الزّرع فيضمّ ما زرع في العام الواحد بعضه إلى بعضٍ ، كالذّرة تزرع في الرّبيع وفي الخريف ، وأمّا الثّمر إذا اختلف إدراكه فلا يضمّ بعضه إلى بعضٍ في العام الواحد ، وذلك كما لو اختلف إدراكه لاختلاف أنواعه واختلاف بلاده حرارةً وبرودةً ، وكما لو أطلع النّخل في العام الواحد مرّتين فلا يضمّ . وفي قولٍ عندهم : إن أطلع الثّاني بعد جداد الأوّل فلا يضمّ وإلاّ فيضمّ . وقال المالكيّة : يشترط للضّمّ أن يزرع أحدها قبل استحقاق حصاد الآخر وهو وقت وجوب الزّكاة فيه ، ويشترط أيضًا أن يبقى من حبّ الأوّل إلى استحقاق حصاد الثّاني وإن لم يحصد ما يكمل به النّصاب ، أمّا لو أكل الأوّل قبل وقت وجوب الزّكاة في الثّاني ، فلا يضمّ الثّاني للأوّل بل إن كان الثّاني نصابًا زكّي ، وإلاّ فلا . وكذا يضمّ زرع ثانٍ إلى أوّلٍ ، وثانٍ إلى ثالثٍ ، إن كان فيه مع كلٍّ منهما خمسة أوسقٍ ، وهذا إن لم يخرج زكاة الأوّلين حتّى يحصد الثّالث . وحيث ضمّ أصنافًا بعضها إلى بعضٍ فإنّه يخرج من كلٍّ صنفٍ بحسبه . وأطلق الحنابلة القول أنّ زرع العام الواحد يضمّ بعضه إلى بعضٍ إذا اتّفق الجنس ، وكذا ثمرة العام ، سواء كان الأصل ممّا يحمل مرّتين في العام كالذّرة ، أو لا .
104 - والمعتبر في قدر النّصاب اتّحاد المالك ، فإن كان الزّرع والثّمر مشتركًا ، أو مختلطًا فلا زكاة فيه ما لم يبلغ ما يملكه المزكّي منه وحده نصابًا ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المال المشترك والمختلط يزكّى زكاة مالٍ واحدٍ فإن بلغ مجموعه نصابًا زكّي ، وإلاّ فلا . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( خلطة ) . ولا ترد هذه التّفريعات كلّها عند الحنفيّة لأنّ النّصاب هنا غير معتبرٍ بل تجب الزّكاة عندهم في قليل الزّروع وكثيرها كما تقدّم .
ب - نصاب ما له قشر ، وما ينقص كيله باليبس :(/25)
105 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه تعتبر الأوسق الخمسة بعد التّصفية في الحبوب ، وبعد الجفاف في الثّمار فلو كان له عشرة أوسقٍ من العنب لا يجيء منها بعد الجفاف خمسة أوسقٍ من الزّبيب فليس عليه فيها زكاة ، وذلك لأنّ الجفاف هو وقت وجوب الإخراج ، فاعتبر النّصاب بحال الثّمار وقت الوجوب . والمراد بتصفية الحبّ فصله من التّبن ومن القشر الّذي لا يؤكل معه . وهذا إن كان الحبّ ييبس ويدّخر . أمّا إن كان ممّا لا يصلح ادّخاره إلاّ في قشره الّذي لا يؤكل معه كالعلس ، وهو حبّ شبيه بالحنطة ، والأرز في بعض البلاد إذ يخزّنونه بقشره ، فقد أطلق بعض الشّافعيّة القول بأنّ نصابه عشرة أوسقٍ اعتبارًا لقشره الّذي ادّخاره فيه أصلح له . وقال الحنابلة وهو قول الشّيخ أبي حامدٍ من الشّافعيّة : يعتبر ما يكون صافيه نصابًا ، ويؤخذ الواجب منه بالقشر . وقال المالكيّة : بل يحسب في النّصاب قشر الأرز والعلس الّذي يخزّنان به كقشر الشّعير فلو كان الأرز مقشورًا أربعة أوسقٍ فإن كان بقشره خمسة أوسقٍ زكّي ، وإن كان أقلّ فلا زكاة ، وله أن يخرج الواجب مقشورًا أو غير مقشورٍ ، وأمّا القشر الّذي لا يخزّن الحبّ به كقشر الفول الأعلى فيحتسب فيه الزّكاة مقدّر الجفاف .
وقت وجوب الزّكاة في الحبّ والثّمر :
106 - اختلف الفقهاء في الوقت الّذي تجب فيه زكاة الزّروع والثّمار . فذهب المالكيّة ما عدا ابن عرفة ، والشّافعيّة وأبو حنيفة إلى أنّها تجب بإفراك الحبّ ، وطيب الثّمر والأمن عليه من الفساد ، والمراد بإفراك الحبّ طيبه واستغناؤه عن السّقي ، وإن بقي في الأرض لتمام طيبه ، وطيب الثّمر نحو أن يزهي البسر ، أو تظهر الحلاوة في العنب . قالوا : لأنّ الحبّ باشتداده يكون طعامًا حقيقةً وهو قبل ذلك بقل ، والثّمر قبل بدوّ صلاحه بلح وحصرم ، وبعد بدوّ صلاحه ثمرة كاملة ، ولأنّ ذلك وقت الخرص ، والمراد بالوجوب هنا انعقاد سبب الوجوب ، ولا يكون الإخراج إلاّ بعد اليبس والجفاف . وذهب أبو يوسف من الحنفيّة وهو قول ابن أبي موسى من الحنابلة وقول ابن عرفة من المالكيّة إلى أنّ الوجوب يتعلّق باليبس واستحقاق الحصاد . وذهب محمّد بن الحسن إلى أنّ الوجوب لا يثبت إلاّ بحصاد الثّمرة وجعلها في الجرين . وقال الحنابلة : يثبت الوجوب ببدوّ الصّلاح في الثّمر ، واشتداد الحبّ في الزّرع ، ويستقرّ الوجوب بجعل الثّمرة أو الزّرع في الجرين أو البيدر ، فلو تلف قبل استقرار الحبوب بجائحةٍ فلا شيء عليه إجماعًا على ما قال ابن المنذر ونقله في شرح المنتهى عنه ، أمّا قبل ثبوت الوجوب فلو بيع النّخل أو الأرض فلا زكاة على البائع في الزّرع والثّمر ، ولو مات المالك قبل الوجوب فالزّكاة على الورثة إن بقي إلى وقت الوجوب وبلغ نصيب الوارث نصابًا ، وكذا إن أوصى بها ومات قبل الوجوب فلا زكاة فيها ، ولو أكل من الثّمرة قبل الوجوب لم يحتسب عليه ما أكل ، ولو نقصت عن النّصاب بما أكل فلا زكاة عليه . وأمّا بعد الوجوب فتلزمه الزّكاة وإن باع أو أوصى بها ، ولا شيء على من ملكها بعد أن ثبت الوجوب . وذكر الحنابلة ممّا يتفرّع على ذلك أنّه لا زكاة على من حصل على نصابٍ من لقاط السّنبل أو أجرة الحصاد ، أو ما يأخذه من المباحات من الحبّ أو العفص والأشنان ونحوها لأنّه لم يملكها وقت الوجوب .
من تلزمه الزّكاة في حال اختلاف مالك الغلّة عن مالك الأرض :
107 - إن كان مالك الزّرع عند وجوب الزّكاة فيه هو مالك الأرض ، فالأمر واضح ، فتلزمه الزّكاة . أمّا إن كان مالك الزّرع غير مالك الأرض فلذلك صور :
أ - الأرض الخراجيّة :
108 - أرض الصّلح الّتي أقرّت بأيدي أصحابها على أنّها لهم ولنا عليها الخراج ، متى أسلموا سقط خراجها ، ووجب عليهم في غلّتها الزّكاة ، فإن اشتراها من الذّمّيّ مسلم فعليه الزّكاة فيها ، وأرض العنوة الّتي ملكها المسلمون وحيزت لبيت المال فهذه عليها الخراج اتّفاقًا ، سواء بقي من هي بيده على دينه أو أسلم أو باعها لمسلمٍ ; لأنّه خراج بمعنى الأجرة ، واختلف الفقهاء هل يجب في غلّتها إن كان صاحبها مسلمًا الزّكاة أيضًا ، فذهب الجمهور إلى أنّ الخراج يؤدّى أوّلًا ، ثمّ يزكّى ما بقي . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا زكاة في غلّة الأرض الخراجيّة ، وذلك لأنّ الخراج مئونة الأرض ، والعشر فيه معنى المئونة ، فلا يجتمع عشر وخراج . والتّفصيل في مصطلح : ( خراج ) .
ب - الأرض المستعارة والمستأجرة :
109 - ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان ) إلى أنّ من استعار أرضًا أو استأجرها فزرعها ، فالزّكاة على المستعير والمستأجر لأنّ الغلّة ملكه ، والعبرة في الزّكاة بملكيّة الثّمرة لا بملكيّة الأرض أو الشّجر . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ العشر على المؤجّر لأنّ الأرض كما تستنمى بالزّراعة تستنمى بالإجارة .
ج - الأرض الّتي تستغلّ بالمزارعة أو المساقاة :(/26)
110 - ذهب الحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة إلى أنّ العشر في هاتين الحالتين على كلٍّ من المالك والعامل كلّ بحسب نصيبه من الغلّة إن بلغ نصيبه نصابًا ، ومن كان نصيبه منهما أقلّ من نصابٍ فلا عشر عليه ، ما لم يكن له من أرضٍ غيرها ما يكمّل به النّصاب . وهذا عند الحنابلة على الرّواية الّتي لا تجعل الخلطة مؤثّرةً في زكاة الزّروع . أمّا على الرّواية الّتي تجعل الخلطة مؤثّرةً فيها ، فإذا بلغت غلّة الأرض خمسة أوسقٍ يكون فيها الزّكاة فيؤخذ من كلٍّ من الشّريكين عشر نصيبه ، ما لم يكن أحدهما ممّن لا عشر عليه ، كالذّمّيّ . وعند أبي حنيفة العشر في المزارعة على ربّ الأرض ; لأنّ المزارعة عنده فاسدة ، فالخارج منها له ، تحقيقًا أو تقديرًا . ويرى المالكيّة أنّه يجب إخراج زكاة الحائط ( البستان ) المساقى عليه من جملة الثّمرة إن بلغت نصابًا ، أو كان لربّ الحائط ما إن ضمّه إليها بلغت نصابًا ، ثمّ يقتسمان ما بقي ، ولا بأس أن تشترط الزّكاة في حظّ ربّ الحائط أو العامل ; لأنّه يرجع إلى جزءٍ معلومٍ ساقاه عليه فإن لم يشترطا شيئًا فشأن الزّكاة أن يبدأ بها ثمّ يقتسمان ما بقي . وقال اللّخميّ نقلًا عن مالكٍ : إنّ المساقاة تزكّى على ملك ربّ الحائط فيجب ضمّها إلى ماله من ثمرٍ غيرها ، ويزكّي جميعها ولو كان العامل ممّن لا تجب عليه ، وتسقط إن كان ربّ الحائط ممّن لا تجب عليه والعامل ممّن تجب عليه .
د - الأرض المغصوبة :
111 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو غصب أرضًا عشريّةً فزرعها إن لم تنقصها الزّراعة فلا عشر على ربّ الأرض ، وإن نقصتها الزّراعة كان العشر على ربّ الأرض . وقال قاضي خان : أرض خراجها وظيفة اغتصبها غاصب فإن كان الغاصب جاحدًا ولا بيّنة للمالك إن لم يزرعها الغاصب فلا خراج على أحدٍ ، وإن زرعها الغاصب ولم تنقصها الزّراعة ، فالخراج على الغاصب ، وإن كان الغاصب مقرًّا بالغصب أو كان للمالك بيّنة ولم تنقصها الزّراعة فالخراج على ربّ الأرض ، وإن نقصتها الزّراعة عند أبي يوسف الخراج على ربّ الأرض قلّ النّقصان أو كثر ، كأنّه آجرها من الغاصب بضمان النّقصان . وعند محمّدٍ ينظر إلى الخراج والنّقصان فأيّهما كان أكثر كان ذلك على الغاصب إن كان النّقصان أكثر من الخراج ، فمقدار الخراج يؤدّيه الغاصب إلى السّلطان ويدفع الفضل إلى صاحب الأرض ، وإن كان الخراج أكثر يدفع الكلّ إلى السّلطان ، ومن نصّهم هذا في الخراج يفهم مرادهم ممّا تقدّم في العشر . وذهب المالكيّة إلى أنّ النّخل إذا غصبت ثمّ ردّت بعد أعوامٍ مع ثمرتها ، فإنّها تزكّى لكلّ عامٍ بلا خلافٍ إذا لم تكن زكّيت أي يزكّى ما يخرج منها إذا ردّ الغاصب جميعها . فإن ردّ بعض ثمارها وكان حصل في كلّ سنةٍ نصاب ولم يردّ جميعه بل ردّ منه قدر نصابٍ فأكثر وكان بحيث لو قسم على سنين الغصب لم يبلغ كلّ سنةٍ نصابًا ففي زكاته قولان . وصرّح الحنابلة بأنّ زكاة الزّرع على مالك الأرض إن تملّك الزّرع قبل وقت الحصاد وبعد اشتداده ، وذلك لأنّه يتملّكه بمثل بذره وعوض لواحقه ، فيستند ملكه إلى أوّل زرعه . أمّا إن حصد الغاصب الزّرع بأن لم يتملّكه ربّها قبل حصاده ، فزكاة الزّرع على الغاصب لاستقرار ملكه عليه . ولم نجد للشّافعيّة نصًّا في هذه المسألة .
زكاة الزّرع والثّمر المأخوذين من الأرض المباحة :
112 - من أخذ من الأرض المباحة ما في جنسه الزّكاة ، وبلغ نصابًا . فقد ذهب المالكيّة والحنابلة وأبو يوسف إلى أنّه لا زكاة عليه ، وهو لمن أخذه . قال الحنابلة : لكن لو زرع في أرضٍ مباحةٍ ففيه الزّكاة . وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ ثمر الجبال والمفاوز فيه العشر ، إن حماه الإمام أي من أهل الحرب والبغاة وقطّاع الطّريق ، ولو كان الشّجر غير مملوكٍ ولم يعالجه أحد ; لأنّ المقصود النّماء ، وقد حصل بأخذه .
خرص الثّمار إذا بدا صلاحها :
113 - ذهب جمهور الفقهاء - خلافًا للحنفيّة - إلى أنّه ينبغي للإمام إذا بدا صلاح الثّمار أن يرسل ساعيًا يخرصها - أي يقدّر كم سيكون مقدارها بعد الجفاف - ليعرف قدر الزّكاة الواجبة على أصحابها ، وذلك لمعرفة حقّ الفقراء وأهل استحقاق الزّكاة ، وللتّوسعة على أهل الثّمار ليخلّي بينهم وبينها فيأكلوا منها رطبًا ثمّ يؤدّون الزّكاة بحساب الخرص المتقدّم ، وذلك عند جفاف الثّمر . ولمعرفة مؤهّلات الخارص ، وما يراعيه عند الخرص ، ومعرفة ما يخرص من الغلال وما لا يخرص ، وسائر أحكام الخرص ينظر مصطلح : ( خرص ) .
الحيل لإسقاط الزّكاة :(/27)
114 - اختلف الفقهاء في حكم التّحيّل لإسقاط الزّكاة : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ المالك إن فعل ما تسقط به الزّكاة عنه ولو بنيّة الفرار منها سقطت ، ومثّل له ابن عابدين بمن وهب النّصاب قبل الحول بيومٍ ، ثمّ رجع في هبته بعد الحول ، وكذا لو وهبه أثناء الحول ثمّ رجع أثناء الحول لانقطاع الحول بذلك ، وكذا لو وهب النّصاب لابنه ، أو استبدل نصاب السّائمة بآخر . ثمّ قال أبو يوسف : لا يكره ذلك لأنّه امتناع عن الوجوب ، لا إبطال لحقّ الغير ، وقال محمّد : يكره لأنّ فيه إضرارًا بالفقراء وإبطال حقّهم مآلًا . والفتوى على قول محمّدٍ عند الحنفيّة . وعند الشّافعيّة : الفرار مكروه في المعتمد ، وقال الغزاليّ : حرام ولا تبرأ به الذّمّة في الباطن . وذهب المالكيّة والحنابلة والأوزاعيّ وابن الماجشون وإسحاق وأبو عبيدٍ - وهو ما نقله القاضي ابن كجٍّ من الشّافعيّة - إلى تحريم التّحيّل لإسقاط الزّكاة ، ولو فعل لم تسقط ، كمن أبدل النّصاب من الماشية بغير جنسه فرارًا من الزّكاة ، أو أتلف أو استهلك جزءًا من النّصاب عند قرب الحول .. ولو فعل ذلك في أوّل الحول لم تجب الزّكاة ; لأنّ ذلك ليس بمظنّة الفرار من الزّكاة . واستدلّوا بما ذكره اللّه تعالى في سورة القلم من قصّة أصحاب الجنّة ، وقوله فيها : { فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون فأصبحت كالصّريم } فعاقبهم اللّه تعالى على تحيّلهم لإسقاط حقّ الفقراء ، فتؤخذ معاقبةً للمحتال بنقيض قصده ، قياسًا على منع ميراث القاتل ، وتوريث المطلّقة في مرض الموت . والّذي يؤخذ منه على ما بيّنه المالكيّة هو زكاة المبدل ، ولا تؤخذ منه زكاة البدل إن كانت أكثر لأنّها لم تجب .
قدر المأخوذ في زكاة الزّروع والثّمار :
115 - يؤخذ في زكاة الزّروع والثّمار عشر الخارج أو نصف عشره . فالعشر اتّفاقًا فيما سقي بغير كلفةٍ ، كالّذي يشرب بماء المطر أو بماء الأنهار سيحًا ، أو بالسّوّاقي دون أن يحتاج إلى رفعه غرفًا أو بآلةٍ ، أو يشرب بعروقه ، وهو ما يزرع في الأرض الّتي ماؤها قريب من وجهها تصل إليه عروق الشّجر فيستغني عن السّقي . ويجب فيما يسقى بكلفةٍ نصف العشر ، سواء سقته النّواضح أو سقي بالدّوالي ، أو السّواني أو الدّواليب أو النّواعير أو غير ذلك . وكذا لو مدّ من النّهر ساقيّةً إلى أرضه فإذا بلغها الماء احتاج إلى رفعه بالغرف أو بآلةٍ . والضّابط لذلك أن يحتاج في رفع الماء إلى وجه الأرض إلى آلةٍ أو عملٍ . واستدلّ لذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { فيما سقت السّماء والعيون أو كان عثريًّا العشر ، وما سقي بالنّضج نصف العشر } والحكمة في تقليل القدر الواجب فيما فيه عمل أنّ للكلفة أثرًا في تقليل النّماء . ولو احتاجت الأرض إلى ساقٍ يسقيها بماء الأنهار أو الأمطار ، ويحوّل الماء من جهةٍ إلى جهةٍ ، أو احتاجت إلى عمل سواقٍ أو حفر أنهارٍ لم يؤثّر ذلك في تقليل النّصاب . وإن سقيت الأرض نصف الوقت بكلفةٍ ونصفها بغير كلفةٍ فالزّكاة ثلاثة أرباع العشر اتّفاقًا ، وإن سقيت بأحدهما أكثر من الآخر فالجمهور على اعتبار الأكثر ، ويسقط حكم الأقلّ ، وقيل : يعتبر كلّ منهما بقسطه .
ما يطرح من الخارج قبل أخذ العشر أو نصفه :
116 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ العشر أو نصفه على التّفصيل المتقدّم يؤخذ من كلّ الخارج ، فلا يطرح منه البذر الّذي بذره ولا أجرة العمّال أو كري الأنهار أو أجرة الحافظ ونحو ذلك بل يجب العشر في الكلّ ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة ، ولو رفعت المؤنة لكان الواجب بنفس المقدار ، واستظهر الصّيرفيّ أنّ الواجب إن كان جزءًا من الخارج فإنّه يجعل كالهالك وتجب الزّكاة في الباقي . وذهب الحنابلة إلى أنّ النّفقة على الزّرع إن كانت دينًا يسقطها مالكه منه قبل احتساب العشر ، قال أحمد : من استدان ما أنفق على زرعه واستدان ما أنفق على أهله ، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله . قالوا : وذلك لأنّه من مؤنة الزّرع ، فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره ، فكأنّه لم يحصل ، وهذا بخلاف سائر الدّيون فإنّها لا تسقط من الحاصل لأنّه من الأموال الظّاهرة على المشهور عند الحنابلة كما تقدّم . وشبيه بمؤنة الزّرع عند الحنابلة خراج الأرض فإنّه يؤخذ من الغلّة قبل احتساب الزّكاة فيها . ولم نجد للمالكيّة والشّافعيّة كلامًا في هذه المسألة .
ما يلزم المالك فعله قبل إخراج القدر الواجب :(/28)
117 - يؤخذ القدر الواجب من الغلّة بعد التّجفيف في الثّمار والتّصفية في الحبوب ; لأنّه أوان الكمال وحال الادّخار ، والمؤنة على الثّمرة إلى حين الإخراج لازمة لربّ المال ، لأنّه في حقّ الغلّة ، كالحفظ في حقّ الماشية ، ولا يحقّ للسّاعي أخذه رطبًا . ولو أخرج ربّ المال العشر رطبًا لم يجزئه . نصّ على ذلك الحنابلة . ويستثنى من ذلك أحوال : منها : أن يضطرّ إلى قطع الثّمرة قبل كمالها خوفًا من العطش ، أو إلى قطع بعضها ، فيجوز له ذلك ، ومثل ذلك أن يكون قطعها رطبةً أنفع وأصلح . ومنها : أن يكون الثّمر ممّا لا يجفّ بل يؤكل رطبًا كبعض أنواع العنب والتّمر والفول ونحوها ، فتجب فيه الزّكاة حتّى عند من قال بأنّ من شرط ما يزكّى الادّخار ، وذلك لأنّه يدّخر من حيث الجملة . وفي كلتا الحالتين : يجوز أخذ حقّ الفقراء رطبًا ، وإن أتلفها ربّ المال فعليه القيمة ويجوز إخراج قدر الزّكاة من الجنس جافًّا إن شاء ربّ المال . وقيل : يجب في ذمّته العشر جافًّا ولو بأن يشتريه . وقال المالكيّة : يجب عشر الثّمن إن بيع وإلاّ فالقيمة . والزّيتون عند من قال تؤخذ منه الزّكاة ، إن كان من الزّيتون الّذي يعصر منه الزّيت يؤخذ العشر من زيته بعد عصره ، ولو كان زيته قليلًا ; لأنّه هو الّذي يدّخر فهو بمثابة التّجفيف في سائر الثّمار . وإن كان يدّخر حبًّا ، فيؤخذ عشره حبًّا إذا بلغ الحبّ خمسة أوسقٍ . وهذا مذهب المالكيّة والحنابلة . قال مالك : إذا بلغ الزّيتون خمسة أوسقٍ أخذ الخمس من زيته بعد أن يعصر . وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يخرج العشر منه حبًّا على كلّ حالٍ .
زكاة العسل والمنتجات الحيوانيّة :
118 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ العسل تؤخذ منه الزّكاة ، واحتجّ لهم بما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم { كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من عشر قرباتٍ قربة من أوسطها } . وورد أنّ أبا سيّارة المتعيّ قال : { قلت : يا رسول اللّه إنّ لي نحلًا ، قال : أدّ العشر ، قلت : يا رسول اللّه : احمها لي . فحماها له } . وأخذ عمر من العسل العشر . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ العسل لا زكاة فيه . قال ابن المنذر : ليس في وجوب الصّدقة في العسل خبر يثبت . ثمّ ذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط أمران : الأوّل : أن لا يكون النّحل في أرضٍ خراجيّةٍ ; لأنّ الخراجيّة يؤخذ منها الخراج ، ولا يجتمع عندهم عشر وخراج كما تقدّم . الثّاني : إن كان النّحل في أرض مفازةٍ أو جبلٍ غير مملوكٍ فلا زكاة فيه إلاّ إن حفظه الإمام من اللّصوص وقطّاع الطّرق ، وقال أبو يوسف : لا زكاة إلاّ إن كانت الأرض مملوكةً .
نصاب العسل : ( 118 م ) - قال الحنابلة : نصابه عشرة أفراقٍ ( والفرق مكيال يسع 16 رطلًا عراقيًّا من القمح ) . وقيل : عندهم النّصاب ألف رطلٍ . وقال محمّد : خمسة أفراقٍ . وقال أبو حنيفة : تجب الزّكاة في قليله وكثيره . أمّا ما عدا العسل فقد نصّ الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة على أنّه لا زكاة في الحرير ودودة القزّ . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لأنّه ليس بمنصوصٍ ولا في معنى المنصوص . وأضاف صاحب مطالب أولي النّهى : الصّوف والشّعر واللّبن ، وذكر الشّافعيّ ممّا لا زكاة فيه أيضًا : المسك ونحوه من الطّيب .
زكاة الخارج من الأرض غير النّبات :
119 - قد يستخرج من الأرض غير النّبات الذّهب أو الفضّة أو غيرهما من المعادن الّتي تنطبع كالنّحاس والحديد والزّئبق أو لا تنطبع كالنّفط والقار والفحم وغيرها . وكلّ ذلك قد يكون مخلوقًا في الأرض بفعل اللّه تعالى ، أو يكون ممّا وضعه فيها الآدميّون كالكنوز الّتي يضعها أهلها في الأرض ثمّ يبيدون وتبقى فيها . ويرى الحنفيّة أنّ اسم ( الرّكاز ) شامل لكلّ ذلك ، ويرى الحنابلة أنّ اسم الرّكاز خاصّ بما هو مركوز في الأرض خلقةً ، ويؤخذ الخمس من ذلك أو ربع العشر على اختلافٍ وتفصيلٍ عند الفقهاء ، وقد اختلفوا فيما يؤخذ أهو زكاة تصرف في مصارفها أم فيء يصرف في مصارفه . ولمعرفة كلّ ذلك تنظر المصطلحات : ( ركاز ، كنز ، معدن ) .
زكاة المستخرج من البحار :
120 - ذهب جمهور العلماء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهي إحدى روايتين عن أحمد وهو قول أبي عبيدٍ وأبي ثورٍ إلى أنّ المستخرج من البحر من اللّؤلؤ والعنبر والمرجان ونحوها لا شيء فيه من زكاةٍ أو خمسٍ ، لما روي عن ابن عبّاسٍ : ليس في العنبر شيء ، إنّما هو شيء ألقاه البحر وروي مثله عن جابرٍ ، ولأنّه قد كان يستخرج على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم يأت فيه سنّة عنه ولا عنهم . وفي روايةٍ عن أحمد وهو قول أبي يوسف : فيه الزّكاة ، لأنّه يشبه الخارج من معدن البرّ . وروي أنّ ابن عبّاسٍ قال في العنبر : إن كان فيه شيء ففيه الخمس ، وكتب يعلى بن أميّة إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في عنبرةٍ وجدها على ساحل البحر فاستشار الصّحابة ، فأشاروا أن يأخذ منها الخمس . فكتب عمر إليه بذلك . وروي مثل ذلك عن الحسن والزّهريّ . وعن عمر بن عبد العزيز أنّه أخذ من العنبر الخمس . وأمر عمر بن عبد العزيز عامله بعمان أن يأخذ من السّمك الزّكاة إذا بلغ ثمنه مائتي درهمٍ . وقال المالكيّة : ما خرج من البحر كعنبرٍ إن لم يتقدّم عليه ملك فهو لواجده ولا يخمّس كالصّيد ، فإن كان تقدّم عليه ملك فإن كان لجاهليٍّ أو شكّ فيه فركاز ، وإن كان لمسلمٍ أو ذمّيٍّ فلقطة .
القسم الثّالث إخراج الزّكاة :(/29)
121 - من وجبت عليه الزّكاة إمّا أن يخرجها بإعطائها مباشرةً إلى الفقراء وسائر المستحقّين ، وإمّا أن يدفعها إلى الإمام ليصرفها في مصارفها . ونذكر هنا الأحكام المتعلّقة بالإخراج وخاصّةً الإخراج المباشر إلى الفقراء . النّيّة عند أداء الزّكاة :
122 - الزّكاة فريضة من فرائض العبادات ، كالصّلاة ، ولذلك فإنّ النّيّة شرط فيها عند عامّة العلماء . وروي عن الأوزاعيّ عدم اشتراط النّيّة فيها لأنّها دين على صاحبها ، وأداء الدّين لا يفتقر إلى نيّةٍ . واستدلّ الجمهور بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى } . ولأنّ إخراج المال للّه يكون فرضًا ويكون نفلًا ، فافتقرت الفريضة إلى النّيّة لتمييزها عن النّفل ، وقياسًا على الصّلاة . ومعنى النّيّة المشترطة في الزّكاة أن يقصد بقلبه أنّ ما يخرجه هو الزّكاة الواجبة عليه في ماله ، وإن كان يخرج عمّن تحت يده من صبيٍّ أو مجنونٍ أن يقصد أنّها الزّكاة الواجبة عليهما . ويعتبر أن يكون النّاوي مكلّفًا ; لأنّها فريضة . وينوي عند دفعها إلى الإمام أو إلى مستحقّها ، أو قبل الدّفع بقليلٍ . فإن نوى بعد الدّفع لم يجزئه على ما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة . أمّا عند الحنفيّة فالشّرط مقارنة النّيّة للأداء ولو حكمًا ، كما لو دفع بلا نيّةٍ ثمّ نوى والمال لا يزال قائمًا في ملك الفقير بخلاف ما إذا نوى بعدما استهلكه الفقير أو باعه فلا تجزئ عن الزّكاة . وقال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : إن عزل الزّكاة عن ماله ونوى عند العزل أنّها زكاة كفى ذلك ، ولو لم ينو عند الدّفع ، قال ابن عابدين : لأنّ الدّفع يتفرّق ، فيتحرّج باستحضار النّيّة عند كلّ دفعٍ ، فاكتفي بذلك ، للحرج . وإن دفع الزّكاة إلى وكيله ناويًا أنّها زكاة كفى ذلك ، والأفضل أن ينوي الوكيل أيضًا عند الدّفع إلى المستحقّين أيضًا ولا تكفي نيّة الوكيل وحده . ولو دفع الإنسان كلّ ماله إلى الفقراء تطوّعًا بعد ما وجبت فيه الزّكاة ، لم تسقط عنه الزّكاة ، بل تبقى في ذمّته ، وبهذا قال الشّافعيّة والحنابلة لأنّه لم ينو الفرض . وقال الحنفيّة : تسقط عنه الزّكاة في هذه الحال استحسانًا لأنّه لمّا أدّى الكلّ زالت المزاحمة بين الجزء المؤدّى وسائر الأجزاء ، وبأداء الكلّ للّه تعالى تحقّق أداء الجزء الواجب . ولا يجب تعيين المال المخرج عنه ، لكن لو عيّنه تعيّن . فلو أخرج الزّكاة ونوى عن ماله الغائب الّذي لا يعلم سلامته جاز ، لأنّ الأصل بقاؤه ثمّ إن تبيّنت سلامته أجزأه ، وإن تبيّن تلفه لم يجز أن يصرف الزّكاة إلى مالٍ آخر ، وإن نوى عن مالي الغائب أو الحاضر ، فتبيّن تلف الغائب أجزأت عن الحاضر ، وإن نوى بالمخرج أن يكون زكاة المال الموروث الّذي يشكّ في موت مورثه لم تجزئه ، لأنّه متردّد والأصل عدم الموت . ولا يشترط علم آخذ الزّكاة أنّها زكاة .
النّيّة عند أخذ السّلطان الزّكاة :
123 - إن أخذ السّلطان أو نوّابه الزّكاة من الممتنع عن أدائها قهرًا ، وبمنزلة الممتنع قهرًا من غيّب ماله لئلاّ تؤخذ منه الزّكاة ، والأسير ، ومن يتعذّر الوصول إليه ، على ما صرّح به شارح المنتهى ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك . فقال الشّافعيّة في الأصحّ وهو قول عند الحنابلة : إن أخذ السّلطان الزّكاة من الممتنع قهرًا ونوى عند الأخذ أو عند التّفريق ، أجزأت عن الممتنع ظاهرًا وباطنًا ، لأنّ تعذّر النّيّة في حقّه أسقط وجوبها عنه ، كالصّغير والمجنون ، والسّلطان له ولاية على المالك . وأطلق المالكيّة القول بإجزائها ، وظاهره إجزاؤها ظاهرًا وباطنًا . وقال القاضي من الحنابلة : إذا أخذها السّلطان أجزأت من غير نيّةٍ سواء أخذها طوعًا أو كرهًا ، لأنّ أخذ الإمام لها بمنزلة القسم بين الشّركاء ، لأنّه وكيل الفقراء ; ولأنّ للسّلطان ولايةً عامّةً ، وبدليل أنّه يأخذها من الممتنع اتّفاقًا ، ولو لم يجزئه لما أخذها ، أو لأخذها ثانيةً وثالثةً ، حتّى ينفد ماله . وفي قول أبي الخطّاب وابن عقيلٍ من الحنابلة : إن أخذها الإمام قهرًا أجزأت ظاهرًا ، فلا يطالب بها ، ولا تجزئ باطنًا ، لأنّها عبادة ، فلا تجزئ عمّن وجبت عليه بغير نيّةٍ ، كالصّلاة ، وأخذ الإمام لها يسقط المطالبة بها لا غير .
تعجيل الزّكاة عن وقت الوجوب :(/30)
124 - ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو عبيدٍ وإسحاق ، إلى أنّه يجوز للمزكّي تعجيل إخراج زكاة ماله قبل ميعاد وجوبها ، لما ورد { أنّ العبّاس سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ ، فرخّص له في ذلك . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر : إنّا قد أخذنا زكاة العبّاس عام الأوّل للعام } . إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا : يجوز التّعجيل لعامٍ واحدٍ ولا يجوز لعامين في الأصحّ لأنّ زكاة العام الثّاني لم ينعقد حولها . واشترطوا لجواز ذلك أن يكون النّصاب موجودًا ، فلا يجوز تعجيل الزّكاة قبل وجود النّصاب ، بغير خلافٍ ، وذلك لأنّ النّصاب سبب وجوب الزّكاة ، والحول شرطها ولا يقدّم الواجب قبل سببه ، ويجوز تقديمه قبل شرطه ، كإخراج كفّارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث ، وكفّارة القتل بعد الجرح وقبل الزّهوق . وتوسّع الحنفيّة فقالوا : إن كان مالكًا لنصابٍ واحدٍ جاز أن يعجّل زكاة نصبٍ كثيرةٍ لأنّ اللّاحق تابع للحاصل . والشّافعيّة أجازوا ذلك في مال التّجارة لأنّ النّصاب فيها عندهم مشترط في آخر الحول فقط لا في أوّله ولا في أثنائه . وقال الحنابلة : إن ملك نصابًا فقدّم زكاته وزكاة ما قد يستفيده بعد ذلك فلا يجزئه عندهم . وقال الحنفيّة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة : إن قدّم زكاته وزكاة ما قد ينتج منه ، أو يربحه منه ، أجزأه لأنّه تابع لما هو مالكه الآن . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن أخرج زكاة الثّمار أو الزّروع قبل الوجوب ، بأن دفع الزّكاة من غيرها لم يصحّ ولم تجزئ عنه . وكذا لا تجزئ زكاة الماشية إن قدّمها وكان هناك ساعٍ يأتي لقبضها فأخرجها قبل قدومه . أمّا زكاة العين والماشية الّتي ليس لها ساعٍ فيجوز تقديمها في حدود شهرٍ واحدٍ لا أكثر ، وهذا على سبيل الرّخصة ، وهو مع ذلك مكروه والأصل عدم الإجزاء لأنّها عبادة موقوتة بالحول .
تأخير إخراج الزّكاة عن وقت وجوبها :
125 - ذهب جمهور العلماء ( الشّافعيّة والحنابلة وهو المفتى به عند الحنفيّة ) إلى أنّ الزّكاة متى وجبت ، وجبت المبادرة بإخراجها على الفور ، مع القدرة على ذلك وعدم الخشية من ضررٍ . واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى أمر بإيتاء الزّكاة ، ومتى تحقّق وجوبها توجّه الأمر على المكلّف بها ، والأمر المطلق يقتضي الفور عندهم ; ولأنّه لو جاز التّأخير لجاز إلى غير غايةٍ فتنتفي العقوبة على التّرك ; ولأنّ حاجة الفقراء ناجزة ، وحقّهم في الزّكاة ثابت ، فيكون تأخيرها منعًا لحقّهم في وقته . وسئل أحمد : إذا ابتدأ في إخراجها فجعل يخرجها أوّلًا فأوّلًا ؟ قال : لا ، بل يخرجها كلّها إذا حال الحول . وقال : لا يجري على أقاربه من الزّكاة كلّ شهرٍ ، أي مع التّأخير . ثمّ قال الشّافعيّة والحنابلة : ويجوز التّأخير لعذرٍ . وممّا ذكره الشّافعيّة من الأعذار : أن يكون المال غائبًا فيمهل إلى مضيّ زمنٍ يمكن فيه إحضاره ، وأن يكون بإخراجها أمر مهمّ دينيّ أو دنيويّ ، وأن ينتظر بإخراجها صالحًا أو جارًا . وممّا ذكره الحنابلة أن يكون عليه مضرّة في تعجيل الإخراج ، مثل من يحول عليه الحول قبل مجيء السّاعي ، ويخشى إن أخرجها بنفسه أخذها السّاعي منه مرّةً أخرى . وكذا إن خشي في إخراجها ضررًا في نفسه أو مالٍ له سواها ، لأنّ مثل ذلك يجوز تأخير دين الآدميّ لأجله ، فدين اللّه أولى . وذهب المالكيّة إلى أنّ الحاضر يجب عليه أن يخرج زكاة ما حضر من ماله وما غاب دون تأخيرٍ مطلقًا ، ولو دعت الضّرورة لصرف ما حضر ، بخلاف المسافر فله التّأخير إن دعته الضّرورة أو الحاجة لصرف ما معه في نفقته . والقول الآخر للحنفيّة ، وعليه عامّة مشايخهم أنّ افتراض الزّكاة عمريّ ، أي على التّراخي ففي أيّ وقتٍ أدّى يكون مؤدّيًا للواجب ، ويتعيّن ذلك الوقت للوجوب ، وإذا لم يؤدّ إلى آخر عمره يتضيّق عليه الوجوب حتّى لو لم يؤدّ يأثم إذا مات . واستدلّ له الجصّاص بأنّ من عليه الزّكاة إذا هلك نصابه بعد تمام الحول والتّمكّن من الأداء لا يضمن ، ولو كانت على الفور لضمن ، كمن أخّر صوم رمضان عن وقته فإنّ عليه القضاء .
حكم من ترك إخراج الزّكاة حتّى مات :(/31)
126 - من ترك الزّكاة الّتي وجبت عليه ، وهو متمكّن من إخراجها ، حتّى مات ولم يوص بإخراجها أثم إجماعًا . ثمّ ذهب جمهور الفقهاء منهم مالك والشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثورٍ ، وابن المنذر ، وهو مرويّ عن عطاءٍ ، والحسن ، والزّهريّ إلى أنّ من مات وعليه زكاة لم يؤدّها فإنّها لا تسقط عنه بالموت كسائر حقوق اللّه تعالى الماليّة ، ومنها الحجّ والكفّارات ، ويجب إخراجها من ماله سواء أوصى بها أو لم يوص ، وتخرج من كلّ ماله لأنّها دين للّه ، فتعامل معاملة الدّين ، ولا تزاحم الوصايا في الثّلث ; لأنّ الثّلث يكون فيما بعد الدّين . واستدلّوا بأنّه حقّ واجب في المال ، فلم تسقط بالموت كدين الآدميّ . ثمّ قال الشّافعيّة : إذا اجتمع دين اللّه مع دين الآدميّ يقدّم دين اللّه لحديث { دين اللّه أحقّ أن يقضى } . وقيل : يقدّم دين الآدميّ ، وقيل : يستويان . وذهب الأوزاعيّ واللّيث إلى أنّها تؤخذ من الثّلث مقدّمةً على الوصايا ولا يجاوز بها الثّلث . وذهب أبو حنيفة والثّوريّ والنّخعيّ والشّعبيّ إلى أنّ الزّكاة تسقط بالموت بمعنى أنّها لا يجب إخراجها من تركته ، فإن كان قد أوصى بها فهي وصيّة تزاحم سائر الوصايا في الثّلث ، وإن لم يوص بها سقطت ، لأنّها عبادة من شرطها النّيّة ، فسقطت بموت من هي عليه كالصّلاة والصّوم ، فإن أخرجها الورثة فهي صدقة تطوّعٍ منهم . ويستثنى من هذا عند الحنفيّة في ظاهر الرّواية عشر الخارج من الأرض ، فيؤخذ من تركة الميّت لأنّه عندهم في معنى مئونة الأرض . وفي روايةٍ : بل يسقط أيضًا . ثمّ عند المالكيّة تخرج زكاة فرّط فيها من رأس ماله إن تحقّق أنّه لم يخرجها ، أمّا إن كان ذلك بمجرّد إقراره في مرض موته وأشهد على بقائها في ذمّته ، وأوصى بإخراجها فهي من الثّلث ، وإلاّ فلا تخرج أصلًا . وأمّا زكاة عام موته فإن اعترف بحلولها وأوصى بإخراجها أخرجت من رأس المال .
تراكم الزّكاة لسنين :
127 - إذا أتى على المكلّف بالزّكاة سنون لم يؤدّ زكاته فيها وقد تمّت شروط الوجوب ، لم يسقط عنه منها شيء اتّفاقًا ، ووجب عليه أن يؤدّي الزّكاة عن كلّ السّنين الّتي مضت ولم يخرج زكاته فيها . ولكن اختلف الفقهاء في أنّه هل يسقط من المال قدر زكاته للسّنة الأولى ويزكّي في الثّانية ما عداه ، وهكذا في الثّالثة وما بعدها ، أم يزكّي كلّ المال لكلّ السّنين ؟ . قال ابن قدامة : فائدة الخلاف : أنّها إذا كانت في الذّمّة فحال على ماله حولان لم يؤدّ زكاتهما وجب عليه أداؤها لما مضى ، ولا تنقضي عنه الزّكاة في الحول الثّاني ، وكذلك إن كان أكثر من نصابٍ لم تنقص الزّكاة ، وإن مضى عليه أحوال ، فلو كان عنده أربعون شاةً مضى عليها ثلاثة أحوالٍ لم يؤدّ زكاتها وجب عليه ثلاث شياهٍ ، وإن كانت مائة دينارٍ ، فعليه سبعة دنانير ونصف ; لأنّ الزّكاة وجبت في ذمّته فلم يؤثّر في تنقيص النّصاب ، لكن إن لم يكن له مال آخر يؤدّي الزّكاة منه احتمل أن تسقط الزّكاة في قدرها ; لأنّ الدّين يمنع وجوب الزّكاة . وإن قلنا : الزّكاة تتعلّق بالعين ، وكان النّصاب ممّا تجب الزّكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤدّ زكاتها تعلّقت الزّكاة في الحول الأوّل من النّصاب بقدرها ، فإن كان نصابًا لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الأوّل ; لأنّ النّصاب نقص فيه ، وإن كان أكثر من نصابٍ عزل قدر فرض الحول الأوّل ، وعليه زكاة ما بقي . وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية جماعة .
حكم من شكّ هل أدّى الزّكاة أم لم يؤدّها :
128 - تعرّض لهذه المسألة الحنفيّة : فقالوا : إنّ من شكّ هل أدّى زكاته أو لا يجب عليه أن يزكّي بخلاف ما لو شكّ بعد الوقت أنّه هل صلّى أم لا ، لا يعيد . قالوا : لأنّ وقت الزّكاة لا آخر له ، بل هو العمر ، فالشّكّ فيها كالشّكّ في الصّلاة في الوقت . وقواعد المذاهب الأخرى تقتضي مثل ذلك فإنّ اليقين لا يزول بالشّكّ .
( صور إخراج الزّكاة ) :
129 - الزّكاة إمّا أن تخرج من أعيان المال وهو الأصل في غير زكاة العروض التّجاريّة وقد تقدّم . وإمّا أن تخرج القيمة . ذهب الجمهور إلى أنّ الواجب في زكاة عروض التّجارة إخراج القيمة ، ولا يجزئ إخراج شيءٍ من أعيان العروض عندهم ، خلافًا للحنفيّة القائلين بالجواز . ويجزئ إخراج الذّهب عن الفضّة بالقيمة وعكسه ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة ، ورواية عند الحنابلة رجّحها ابن قدامة . وذلك لأنّ المقصود من هذين الجنسين الثّمنيّة ، والتّوسّل بها إلى المقاصد ، وذلك موجود في الجنسين جميعًا ، ومن هنا فرّق من فرّق بينهما وبين سائر الأجناس ، فإنّ لكلّ جنسٍ مقصودًا مختصًّا به لا يحصل بالجنس الآخر . ولأنّ إخراج القيمة هنا قد يكون أرفق بالآخذ والمعطي . وقد يندرئ به الضّرر عنهما ، فإنّه لو تعيّن إخراج زكاة الدّنانير منها شقّ على من يملك أقلّ من أربعين دينارًا ذهبًا إخراج جزءٍ من دينارٍ ، لأنّه يحتاج إلى قطعه أو بيعه أو مشاركة الفقير له فيه ، وفي كلّ ذلك ضرر ، قال ابن قدامة : وعلى هذا لا يجوز الإبدال في موضعٍ يلحق فيه الفقير ضرر . وأضاف المالكيّة على المشهور عندهم جواز إخراج الفلوس عن كلٍّ من الذّهب والفضّة .(/32)
130 - وأمّا ما عدا ذلك كزكاة المواشي والزّروع وإخراج زكاة الذّهب أو الفضّة عن غيرهما أو العكس ، فقد اختلف الفقهاء في إخراج القيمة على مذاهب : فذهب الجمهور ( الشّافعيّة ، والمالكيّة على قولٍ ، والحنابلة في روايةٍ وهي المذهب ) إلى أنّه لا يجوز إخراج القيم في الزّكاة ، واستثنى بعض أصحاب هذا القول نحو إخراج بنت لبونٍ عن بنت مخاضٍ . واحتجّوا بحديث { في أربعين شاةٍ شاة ، وفي مائتي درهمٍ خمسة دراهم } فتكون الشّاة المذكورة والدّراهم المذكورة هي المأمور بها ، والأمر يقتضي الوجوب . واحتجّوا أيضًا بما في حديث كتاب أبي بكرٍ { هذه الصّدقة الّتي فرضها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين وأمر بها أن تؤدّى ، وكان فيه : في خمسٍ وعشرين من الإبل بنت مخاضٍ ، فإن لم تكن فابن لبونٍ ذكر } وهذا يدلّ على أنّه أراد عينها . وبحديث معاذٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال { خذ الحبّ من الحبّ ، والشّاة من الغنم ، والبعير من الإبل ، والبقرة من البقر } . قالوا : ولأنّ الزّكاة فرضت دفعًا لحاجة الفقير ، وحاجاته متنوّعة ، فينبغي أن يتنوّع الواجب ليتنوّع ما يصل إليه ، ووجبت شكرًا لنعمة المال ، ويحصل ذلك بالمواساة ممّا أنعم اللّه به عليه . ولأنّ الزّكاة قربة للّه تعالى وما كان كذلك فسبيله الاتّباع ، ولو جازت القيمة لبيّنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وذهب الحنفيّة ، وهو القول المشهور عند المالكيّة ، والرّواية الأخرى عند الحنابلة وقول الثّوريّ إلى أنّ إخراج القيمة جائز ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز . لكن قال المالكيّة : يجوز ، ويجزئ مع الكراهة ; لأنّه من قبيل شراء الإنسان الصّدقة الّتي أخرجها للّه تعالى . واحتجّ القائلون بإجزاء القيمة ، بما روي أنّ معاذًا قال لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثيابٍ آخذه منكم مكان الذّرة والشّعير ، فإنّه أهون عليكم ، وخير للمهاجرين بالمدينة . وقال عطاء : « كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يأخذ العروض في الصّدقة من الدّراهم أي عنها ; ولأنّ الغرض منها سدّ خلّة المحتاج ، وذلك معنًى معقول ; ولأنّ حاجاته مختلفة ، وبالقيمة يحصّل ما شاء من حاجاته . وقياسًا على الجزية فإنّ القيمة مجزئة فيها اتّفاقًا ، والغرض منها كفاية المقاتلة ، ومن الزّكاة كفاية الفقير . واحتجّوا أيضًا بما في حديث أنسٍ المرفوع { من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقّة فإنّها تؤخذ منه الحقّة ، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له ، أو عشرين درهمًا } . قال ابن الهمام : فانتقل إلى القيمة في موضعين ، فعلمنا أن ليس المقصود خصوص عين السّنّ المعيّن وإلاّ لسقط إن تعذّر ، أو لوجب عليه أن يشتريه فيدفعه . ثمّ قال المالكيّة : إن أكره على دفع القيمة فدفعها أجزأت ، قولًا واحدًا . وقال ابن تيميّة : لا تجزئ القيم إلاّ عند الحاجة ، مثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس . قال : وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحًا ، فإنّه منع من إخراج القيم وجوّزه في مواضع للحاجة .
الإخراج بإسقاط المزكّي دينه عن مستحقٍّ للزّكاة :
131 - لا يجوز للدّائن أن يسقط دينه عن مدينه الفقير المعسر الّذي ليس عنده ما يسدّ به دينه ويحسبه من زكاة ماله . فإن فعل ذلك لم يجزئه عن الزّكاة ، وبهذا قال الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة ما عدا أشهب ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وقول أبي عبيدٍ . ووجه المنع أنّ الزّكاة لحقّ اللّه تعالى ، فلا يجوز للإنسان أن يصرفها إلى نفع نفسه أو إحياء ماله ، واستيفاء دينه . وذهب الشّافعيّة في قولٍ وأشهب من المالكيّة وهو منقول عن الحسن البصريّ وعطاءٍ : إلى جواز ذلك ; لأنّه لو دفع إليه زكاته ثمّ أخذها منه عن دينه جاز ، فكذا هذا . فإن دفع الدّائن زكاة ماله إلى مدينه فردّها المدين إليه سدادًا لدينه ، أو استقرض المدين ما يسدّ به دينه فدفعه إلى الدّائن فردّه إليه واحتسبه من الزّكاة ، فإن لم يكن ذلك حيلةً ، أو تواطؤًا ، أو قصدًا لإحياء ماله ، جاز عند الجمهور ، وهو قول عند المالكيّة . وإن كان على سبيل الحيلة لم يجز عند المالكيّة والحنابلة ، وجاز عند الشّافعيّة ما لم يكن ذلك عن شرطٍ واتّفاقٍ ، بل بمجرّد النّيّة من الطّرفين . لكن صرّح الحنفيّة بأنّه لو وهب جميع الدّين إلى المدين الفقير سقطت زكاة ذلك الدّين ولو لم ينو الزّكاة ، وهذا استحسان .
احتساب المكس ونحوه عن الزّكاة :
132 - قال السّرخسيّ الحنفيّ : إذا نوى أن يكون المكس زكاةً فالصّحيح - أي عند الحنفيّة - أنّه لا يقع عن الزّكاة ، ونقله ابن عابدين عن الفتاوى البزّازيّة . وعند المالكيّة أفتى الشّيخ عليش فيمن يملك نصابًا من الأنعام ، فجعل عليه الحاكم نقدًا معلومًا كلّ سنةٍ ، يأخذه بغير اسم الزّكاة ، فلا يسوغ له أن ينوي به الزّكاة ، وإن نواها لا تسقط عنه ، وقال : أفتى به النّاصر اللّقانيّ والحطّاب . وفي المجموع للنّوويّ : اتّفق الأصحاب أنّ الخراج المأخوذ ظلمًا لا يقوم مقام العشر ، فإن أخذه السّلطان على أن يكون بدل العشر فهو كأخذ القيمة ، وفي سقوط الفرض به خلاف ، والصّحيح السّقوط به ، فعلى هذا إن لم يبلغ در العشر أخرج الباقي . وأفتى ابن حجرٍ الهيتميّ بأنّ ما يؤخذ من التّاجر من المكس لا يحسب عنه زكاةً ، ولو نوى به الزّكاة ; لأنّ الإمام لم يأخذه باسم الزّكاة . وعند الحنابلة روايتان : إحداهما يجزئ والأخرى لا يجزئ ، قال ابن مفلحٍ : وهي الأصحّ ; لأنّه أخذها غصبًا . وفي فتاوى ابن تيميّة : ما يأخذه ولاة الأمور بغير اسم الزّكاة لا يعتدّ به من الزّكاة .(/33)
ما ينبغي لمخرج الزّكاة مراعاته في الإخراج :
133 - أ - يستحبّ للمزكّي إخراج الجيّد من ماله ، مع العلم بأنّ الواجب في حقّه الوسط ، وذلك لقول اللّه تبارك وتعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون } وقوله : { لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون } .
134 - ب - إظهار إخراج الزّكاة وإعلانه ، قال ابن عبّاسٍ : جعل اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها ، يقال : بسبعين ضعفًا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها ، يقال : بخمسةٍ وعشرين ضعفًا ، قال : وكذلك جميع الفرائض والنّوافل في الأشياء كلّها . وقال الطّبريّ : أجمع النّاس على أنّ إظهار الواجب أفضل . ا هـ . وأمّا قوله تعالى : { إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } فهو في صدقة التّطوّع ، نظيرها الصّلاة ، تطوّعها في البيت أفضل ، وفريضتها في المسجد ومع الجماعة أفضل .
ج - الحذر من المنّ والرّياء والأذى ، وهذه الأمور محرّمة في كلّ ما يخرج من المال ممّا يقصد به وجه اللّه تعالى ، وتحبط الأجر لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى } . ومن هنا استحبّ المالكيّة للمزكّي أن يستنيب من يخرجها خوف قصد المحمدة .
ج - اختيار المزكّي من يعطيه الزّكاة :
136 - إعطاء المستحقّين الزّكاة ليس بدرجةٍ واحدةٍ من الفضل ، بل يتمايز . فقد نصّ المالكيّة على أنّه يندب للمزكّي إيثار المضطرّ أي المحتاج ، على غيره ، بأن يزاد في إعطائه منها دون عموم الأصناف .
د - أن لا يخبر المزكّي الفقير أنّها زكاة :
137 - قيل لأحمد : يدفع الرّجل زكاته إلى الرّجل ، فيقول : هذا من الزّكاة ، أو يسكت ؟ قال : ولم يبكّته بهذا القول ؟ يعطيه ويسكت ، ما حاجته إلى أن يقرّعه ؟ وهذا يقتضي الكراهة وبه صرّح اللّقانيّ من المالكيّة ، قال : لما فيه من كسر قلب الفقير . وقال ابن أبي هريرة من الشّافعيّة : لا بدّ أن يقول بلسانه شيئًا ، كالهبة ، قال النّوويّ : هذا ليس بشيءٍ . قال : والصّحيح المشهور أنّه إذا دفعها إلى المستحقّ ولم يقل هي زكاة ، ولا تكلّم بشيءٍ أصلًا فإنّها تجزئه وتقع زكاةً . لكن قال الشّافعيّة : إن أعطاه ولم يبيّن له أنّها زكاة فبان الآخذ غنيًّا لم يرجع عليه بشيءٍ .
التّوكيل في أداء الزّكاة :
138 - يجوز للمزكّي أن يوكّل غيره في أداء زكاته ، سواء في إيصالها للإمام أو نائبه ، أو في أدائها إلى المستحقّ ، سواء عيّن ذلك المستحقّ أو فوّض تعيينه إلى الوكيل . وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ إخراج المزكّي الزّكاة بنفسه أفضل من التّوكيل ; لأنّه بفعل نفسه أوثق . وقال المالكيّة : التّوكيل أفضل خشية قصد المحمدة ، ويجب لمن يعلم من نفسه ذلك القصد ، أو يجهل المستحقّين . قالوا : وليس للوكيل صرفها لقريب المزكّي الّذي تلزمه نفقته ، فإن لم تلزمه نفقته كره . ثمّ قال الشّافعيّة : إن كان الوكيل بالغًا عاقلًا ، جاز التّفويض إليه ، فإن كان صبيًّا أو سفيهًا لم يصحّ التّوكيل ، إلاّ إن نوى الموكّل وعيّن له من يعطيه المال .
تلف المال كلّه أو بعضه بعد وجوب الزّكاة :
139 - من وجبت عليه الزّكاة فلم يخرجها ثمّ ضاع المال كلّه أو بعضه ، أو تلف بغير فعل المزكّي فقد اختلف الفقهاء في ذلك : فقال الحنفيّة : إن تلف المال سقطت الزّكاة ; لأنّ الواجب جزء من النّصاب فيسقط بهلاك محلّه ، لكن إن كان هلاكه بعد طلب السّاعي فقيل : يضمن ، وقيل : لا يضمن . قالوا : وإذا هلك بعض المال يسقط من الزّكاة بقدره أي بنسبة ما هلك . وقالوا : إن تلف من مال الزّكاة بعد الحول ما كان به الباقي أقلّ من نصابٍ قبل إمكان الأداء بلا تفريطٍ سقطت الزّكاة ، فإن أمكن الأداء وفرّط ضمن . وقال المالكيّة والشّافعيّة : إن كان ضياعه بتفريطه في حفظه وجبت عليه زكاة كلّ المال ، وكذا إن فرّط في الإخراج بعد التّمكّن ، بأن وجد المستحقّ ، سواء طلب الزّكاة أم لم يطلبها ، لتقصيره بحبس الحقّ عن مستحقّه . ثمّ قال الشّافعيّة : إن لم يكن فرّط زكّى الباقي فقط بقسطه ، ولو كان أقلّ من نصابٍ ، على الأظهر عندهم ، فلو ملك خمسًا من الإبل فتلفت واحدة منه قبل التّمكّن ففي الباقي 5 4 شاةٍ على الأظهر ، ولا شيء على الثّاني . وقال المالكيّة - وهو قول آخر للشّافعيّة : إن كان الباقي أقلّ من نصابٍ سقطت الزّكاة . وقال الحنابلة : يجب عليه زكاة كلّ المال ، حتّى لو ضاع كلّه بعد الحول فالزّكاة في ذمّته لا تسقط إلاّ بالأداء ، لأنّها حقّ للفقراء ومن معهم لم يصل إليهم ، كدين الآدميّ . تلف الزّكاة بعد عزلها :
140 - لو عزل الزّكاة ونوى أنّها زكاة ماله فتلفت فالحكم كذلك عند كلٍّ من المالكيّة والحنابلة . وذكر المالكيّة صورة ما لو عزل الزّكاة فتلف المال وبقيت الزّكاة ، فإنّه يجب عليه إخراجها ولا تسقط بتلف المال .
القسم الرّابع : جمع الإمام ونوّابه للزّكاة :(/34)
141 - للإمام حقّ أخذ الزّكاة من المال الّذي وجبت فيه ( على خلافٍ في بعض الأموال يأتي بيانه ) . وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده يأخذون الزّكاة من كلّ الأموال ، إلى أن فوّض عثمان رضي الله عنه في خلافته أداء الزّكاة عن الأموال الباطنة إلى ملّاكها ، كما يأتي . ودليل ذلك قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم : { خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها } وقول أبي بكرٍ رضي الله عنه : واللّه لو منعوني عقالًا كانوا يؤدّونه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه واتّفق الصّحابة على ذلك . ويجب على الإمام أخذ الزّكاة ممّن وجبت عليهم ، فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه يجب على الإمام بعث السّعاة لأخذ الصّدقات ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السّعاة ، ولأنّ في النّاس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه ، ومنهم من يبخل . والوجوب هو أحد قولي المالكيّة ، واحتجّوا بقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقةً } . والّذين رخّصوا للإمام في عدم أخذ الزّكاة من جميع الأموال أو من بعضها دون بعضٍ ، إنّما هو إذا علم الإمام أنّهم إذا لم يأخذها منهم أخرجوها من عند أنفسهم ، أمّا لو علم أنّ إنسانًا من النّاس أو جماعةً منهم لا يخرجون الزّكاة فيجب على الإمام أخذها منهم ولو قهرًا ، كما تقدّم ; لأنّ الإمامة لحراسة الدّين وسياسة الدّنيا ، ومنع الزّكاة هدم لركنٍ من أركان الدّين .
حكم دفع الزّكاة إلى الإمام العادل :
142 - المراد بالإمام العادل هنا من يأخذ الزّكاة بحقّها ، ويعطيها لمستحقّها ، ولو كان جائرًا في غير ذلك على ما صرّح به المالكيّة . ومن دفع زكاة ماله إلى الإمام العادل جاز ، وأجزأت عنه اتّفاقًا . ولو كان بإمكانه دفعها إلى الإمام وتفريقها بنفسه فقد اختلف الفقهاء في ذلك : فذهب مالك وأبو حنيفة وأبو عبيدٍ ، وهو القديم من قولي الشّافعيّ ، إلى التّفريق بين الأموال الظّاهرة ، وهي الزّروع ، والمواشي ، والمعادن ، ونحوها ، وبين الأموال الباطنة وهي الذّهب والفضّة والتّجارات . فأمّا الظّاهرة فيجب دفعها إلى الإمام ، لأنّ أبا بكرٍ طالبهم بالزّكاة وقاتلهم عليها ، ووافقه الصّحابة على هذا ، فليس للمزكّي إخراجها بنفسه ، حتّى لقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لو أخرجها كذلك لم تجزئه . ولأنّ ما للإمام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه إلى المولّى عليه ، كوليّ اليتيم . وأمّا زكاة الأموال الباطنة فقال الحنفيّة : للإمام طلبها ، وحقّه ثابت في أخذ الزّكاة من كلّ مالٍ تجب فيه الزّكاة ، للآية . وما فعله عثمان رضي الله عنه أنّه فوّض إلى الملّاك زكاة المال الباطن ، فهم نوّابه في ذلك ، وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلًا ، ولهذا لو علم أنّ أهل بلدةٍ لا يؤدّون زكاتهم طالبهم بها . فأمّا إذا لم يطلبها لم يجب الدّفع إليه . وقال المالكيّة والشّافعيّة : زكاة الأموال الباطنة مفوّضة لأربابها ، فلربّ المال أن يوصلها إلى الفقراء وسائر المستحقّين بنفسه . وذهب الحنابلة ، وهو الجديد المعتمد من قولي الشّافعيّ : إلى أنّ الدّفع إلى الإمام غير واجبٍ في الأموال الظّاهرة والباطنة على السّواء ، فيجوز للمالك صرفها إلى المستحقّين مباشرةً ، قياسًا للظّاهرة على الباطنة ، ولأنّ في ذلك إيصال الحقّ إلى مستحقّه الجائز تصرّفه ، فيجزئه ، كما لو دفع الدّين إلى غريمه مباشرةً ، وأخذ الإمام لها إنّما هو بحكم النّيابة عن مستحقّها ، فإذا دفعها إليهم جاز ; لأنّهم أهل رشدٍ . ثمّ قال الشّافعيّة في الأظهر : الصّرف إلى الإمام أفضل من تفريقها بنفسه ; لأنّه أعرف بالمستحقّين ، وأقدر على التّفريق بينهم ، وبه يبرأ ظاهرًا وباطنًا . ثمّ قال الحنابلة : تفرقتها بنفسه ، أولى وأفضل من دفعها إلى الإمام ، لأنّه إيصال للحقّ إلى مستحقّه ، فيسلم عن خطر الخيانة من الإمام أو عمّاله ; ولأنّ فيه مباشرة تفريج كربة من يستحقّها ، وفيه توفير لأجر العمالة ، مع تمكّنه من إعطاء محاويج أقربائه ، وذوي رحمه ، وصلتهم بها ، إلاّ أنّه إن لم يثق بأمانة نفسه فالأفضل له دفعها إلى السّاعي ، لئلاّ يمنعه الشّحّ من إخراجها . أمّا لو طلب الإمام العادل الزّكاة فإنّه يجب الدّفع إليه اتّفاقًا ، وسواء كان المال ظاهرًا أو باطنًا ، والخلاف في استحقاقه جمع زكاة المال الباطن لا يبيح معصيته في ذلك إن طلبه ، لأنّ الموضع موضع اجتهادٍ ، وأمر الإمام يرفع الخلاف كحكم القاضي ، كما هو معلوم من قواعد الشّريعة . وصرّح المالكيّة بأنّ الإمام العدل إن طلبها فادّعى المالك إخراجها لم يصدّق .
دفع الزّكاة إلى الأئمّة الجائرين ، وإلى البغاة :(/35)
143 - إن أخذ الإمام الجائر الزّكاة قهرًا أجزأت عن صاحبها . وكذا إن أكره الإمام المزكّي فخاف الضّرر إن لم يدفعها إليه . واختلف الفقهاء فيمن كان قادرًا على الامتناع عن دفعها إلى الإمام الجائر ، أو على إخفاء ماله ، أو إنكار وجوبها عليه ، أو نحو ذلك : فذهب الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم جواز دفعها إلى الإمام حينئذٍ ، وأنّها لا تجزئ عن دافعها على التّفصيل التّالي : فقال الحنفيّة : إذا أخذ الخوارج والسّلاطين الجائرون زكاة الأموال الظّاهرة كزكاة السّوائم والزّروع وما يأخذه العاشر ، فإن صرفوه في مصارفه المشروعة فلا إعادة على المزكّي ، وإلاّ فعلى المزكّي فيما بينه وبين اللّه تعالى إعادة إخراجها . وفي حالة كون الآخذ لها البغاة ليس للإمام أن يطالب أصحاب الأموال بها ; لأنّه لم يحمهم من البغاة ، والجباية بالحماية ، ويفتى البغاة بأن يعيدوا ما أخذوه من الزّكاة . وأمّا الأموال الباطنة فلا يصحّ دفعها إلى السّلطان الجائر . وقال المالكيّة : إن دفعها إلى السّلطان الجائر اختيارًا ، فدفعها السّلطان لمستحقّها أجزأت عنه ، وإلاّ لم تجزئه . فإن طلبها الجائر فعلى ربّها جحدها والهرب بها ما أمكن ، فإن أكرهه جاز . وهذا إن كان جائرًا في أخذها أو صرفها ، وسواء كانت من الأموال الظّاهرة أو الباطنة . أمّا إن كان عادلًا فيها وجائرًا في غيرها ، فيجوز الدّفع إليه مع الكراهة . أمّا الشّافعيّة فذهبوا إلى أنّه إن طلب الإمام الجائر زكاة المال الباطن ، فصرفها إليه أفضل ، وكذا زكاة المال الظّاهر سواء لم يطلبها أو طلبها ، وفي التّحفة إن طلبها وجب الدّفع إليه . وذهب الحنابلة إلى أنّ دفع الزّكاة إلى الإمام الجائر والبغاة والخوارج إذا غلبوا على البلد جائز سواء كانت من الأموال الظّاهرة أو الباطنة . ويبرأ المزكّي بدفعها إليهم ، سواء صرفها الإمام في مصارفها أو لا . واحتجّوا بما ورد في ذلك عن بعض الصّحابة ، منهم سعد بن أبي وقّاصٍ وجابرٍ وأبي هريرة وابن عمر وغيرهم .
إرسال الجباة والسّعاة لجمع الزّكاة وصرفها :
144 - يجب على الإمام أن يرسل السّعاة لقبض الزّكاة وتفريقها على مستحقّيها ، وقد { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يولّي العمّال ذلك ويبعثهم إلى أصحاب الأموال ، فقد استعمل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عليها } ، وورد أنّه استعمل ابن اللّتبيّة . وكذلك الخلفاء الرّاشدون كانوا يرسلون سعاتهم لقبضها . ويشترط في السّاعي ما يلي :
1 - أن يكون مسلمًا ، فلا يستعمل عليها كافرًا لأنّها ولاية ، وفيها تعظيم للوالي .
2 - وأن يكون عدلًا ، أي ثقةً مأمونًا ، لا يخون ولا يجور في الجمع ، ولا يحابي في القسمة .
3 - وأن يكون فقيهًا في أمور الزّكاة ، لأنّه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ، ومحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض له من وقائع الزّكاة .
4 - وأن يكون فيه الكفاية ، وهي القدرة على القيام بالعمل وضبطه على الوجه المعتبر .
5- وأن لا يكون من آل البيت ، وفي هذا الشّرط اختلاف بين الفقهاء . ومعنى اشتراطه هنا عدم استحقاقه للأخذ منها مقابل عمله فيها ، فلو عمل بلا أجرٍ أو أعطي أجره من مال الفيء أو غيره جاز ، ( و ر : آل ، جباية ) . والسّعاة على الزّكاة أنواع فمنهم الجابي : وهو القابض للزّكاة ، والمفرّق : وهو القاسم ، والحاشر : وهو الّذي يجمع أرباب الأموال لتؤخذ منهم الزّكاة ، والكاتب لها . وإن لم يكن هناك إمام ، أو كان الإمام لا يرسل السّعاة لجبي الزّكاة فيجب على أهل الأموال إخراجها وتفريقها على المستحقّين ; لأنّهم أهل الحقّ فيها والإمام نائب . موعد إرسال السّعاة :
145 - الأموال قسمان : فما كان منها لا يشترط لزكاته الحول كالزّروع والثّمار والمعادن ، فهذا يرسل الإمام سعاته وقت وجوبها ، ففي الزّروع والثّمار عند إدراكها بحيث يصلهم وقت الجذاذ والحصاد . وهذا في غير الخرص ، أمّا الخارص فيرسل عند بدء ظهور الصّلاح كما تقدّم ( وانظر مصطلح : خرص ) . وما كان يشترط فيه الحول كالمواشي : فذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب أن يعيّن لهم شهرًا معيّنًا من السّنة القمريّة يرسل إليهم فيه السّاعي كلّ عامٍ .
حقوق العاملين على الزّكاة :(/36)
146 - العامل على الزّكاة يجوز إعطاؤه حقّه من الزّكاة نفسها بالشّروط المتقدّمة في السّاعي . ويجوز إعطاؤه من بيت المال . ويتعيّن ذلك إن لم يكن من أهل الزّكاة ، كأن يكون من آل البيت على ما صرّح به المالكيّة ، أو يكون العمل ممّا لا يحتاج إليه غالبًا كالرّاعي والحارس والسّائق على ما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة ، وقال الحنابلة : يعطى الرّاعي والحارس ونحوهما من الزّكاة كغيرهم من العاملين . وليس للسّاعي أن يأخذ من الزّكاة لنفسه شيئًا غير الأجر الّذي يعطيه إيّاه الإمام ، لما في حديث عديّ بن عميرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى يقول : { من استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا فما فوقه ، كان غلولًا يأتي به يوم القيامة } . وليس للسّاعي أن يأخذ شيئًا من أهل الأموال باسم الهديّة بسبب ولايته ، وإن أخذه لم يحلّ له أن يكتمه ويستأثر به ، لما ورد في حديث أبي حميدٍ السّاعديّ رضي الله عنه قال : { استعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له ابن اللّتبيّة على الصّدقة ، فلمّا قدم قال : هذا لكم ، وهذا أهدي لي . قال : فهلاّ جلس في بيت أبيه - أو بيت أمّه ، فينظر أيهدى له أم لا ؟ والّذي نفسي بيده ، لا يأخذ أحد منكم شيئًا إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرًا له رغاء ، أو بقرةً لها خوار ، أو شاةً تيعر - ثمّ رفع بيده حتّى رأينا عفرة إبطيه - اللّهمّ هل بلّغت ، اللّهمّ هل بلّغت ، ثلاثًا } .
دعاء السّاعي للمزكّي :
147 - إذا أخذ السّاعي الزّكاة استحبّ له أن يدعو للمالك ، لقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم } ولما ورد من حديث عبد اللّه بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللّهمّ صلّ على آل فلانٍ فأتاه أبي بصدقته ، فقال : اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى } . وفي قولٍ للشّافعيّة : يجب ذلك ، لظاهر الآية . ويقول : اللّهمّ صلّ على آل فلانٍ . وإن شاء دعا بغير ذلك . وفي قولٍ للشّافعيّة : لا يدعو بالصّلاة على آل المزكّي ، بل يدعو بغيرها ; لأنّ الصّلاة خاصّة بالأنبياء .
ما يصنع السّاعي بالممتنع عن أداء الزّكاة :
148 - قال الشّافعيّة : إن كان السّاعي جائرًا في أخذ الزّكاة أو صرفها لم يكن له تعزير من امتنع أو أخفى ماله أو غلب به ; لأنّ الممتنع أو المخفي يكون بذلك معذورًا . أمّا إن كان السّاعي عادلًا فإنّه يأخذها من الممتنع أو المخفي ، ويعزّره ما لم يكن له فيما فعله شبهة معتبرة . ولو خرج على الإمام قوم فلم يقدر السّاعي على أخذ الزّكاة منهم حتّى مضت أعوام ، ثمّ قدر عليهم ، يؤخذون بزكاة ما وجد معهم حال القدرة عليهم لماضي الأعوام ولعام القدرة ، وإن ادّعوا أنّهم أخرجوها يصدّقون ، لكن إن كان خروجهم لمنعها لا يصدّقون على ما صرّح به المالكيّة .
ما يصنع السّاعي عند اختلاف الحول على الملّاك :
149 - قال النّوويّ : إذا وصل السّاعي إلى أرباب الأموال ، فإن كان حول صاحب المال قد تمّ أخذ منه الزّكاة ، وإن كان حول بعضهم لم يتمّ سأله السّاعي تعجيل الزّكاة ، ويستحبّ للمالك إجابته ، فإن عجّلها برضاه أخذها منه ، وإلاّ لم يجبره ، ثمّ إن رأى السّاعي المصلحة في أن يوكّل من يأخذها عند حلولها ويفرّقها على أهلها فعل . وإن رأى أن يؤخّرها ليأخذها منه في العام المقبل فعل ، ويكتبها كي لا ينساها أو يموت فلا يعلمها السّاعي الّذي بعده ، وإن رأى أن يرجع في وقت حلولها ليأخذها فعل ، وإن وثق بصاحب المال جاز أن يفوّض إليه تفريقها . وتقدّم أنّ وصول السّاعي شرط في وجوب الزّكاة عند المالكيّة إن كان هناك ساعٍ ، فهو يحاسبهم على ما يملكونه يوم وصوله إليهم .
( حفظ الزّكاة ) :
150 - على السّاعي المحافظة على مال الزّكاة . وهو أمانة في يده حتّى يوصله إلى مستحقّيه ، أو يوصله إلى الإمام إن فضل منه شيء ، وله في سبيل ذلك أن يتّخذ حارسًا أو راعيًا ونحوهما . وممّا ذكره الفقهاء من وسائل الحفظ وسم بهائم الصّدقة من الإبل والبقر والغنم لتتميّز عن غيرها ; ولئلاّ تضيع ، ويسمها بالنّار بعلامةٍ خاصّةٍ ، كأن تكون علامة الوسم ( للّه ) لما ورد في الصّحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أنّه قال : { وافيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبيده الميسم يسم إبل الصّدقة } ولآثارٍ وردت من فعل عمر وغيره من الصّحابة رضوان اللّه عليهم .
بيت مال الزّكاة :
151 - على الإمام أن يتّخذ بيتًا لأموال الزّكاة تحفظ فيه وتضبط إلى أن يتمكّن من صرفها لأهلها . وتفصيل ذلك في مصطلح : بيت المال » .
تصرّفات السّاعي في الزّكاة :
152 - إذا قبض السّاعي الزّكاة يفرّقها على مستحقّيها من أهل البلد الّتي جمعها فيها إن كان الإمام أذن له في تفريقها ، فلا ينقلها إلى أبعد من مسافة القصر ، إلاّ أن يستغني عنها فقراء البلد ، وقد ورد أنّ عمر بعث معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن ، فبعث إليه من الصّدقة ، فقال له : إنّي لم أبعثك جابيًا ولا آخذ جزيةٍ ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء النّاس فتردّ في فقرائهم . فقال معاذ : أنا ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد أحدًا يأخذه منّي . فلو نقلها في غير تلك الحال ففيه خلاف يأتي . وليس للسّاعي أن يأخذ من الزّكاة لنفسه على أنّه أحد أصناف أهل الزّكاة ، كما لو كان غارمًا أو فقيرًا . ولا يأخذ إلاّ ما أعطاه الإمام على ما صرّح به المالكيّة ; لأنّه يقسم فلا يحكم لنفسه .(/37)
153 - وإذا تلف من مال الزّكاة شيء في يد الإمام أو السّاعي ضمنه إن كان ذلك بتفريطٍ منه بأن قصّر في حفظه ، وكذا لو عرف المستحقّين وأمكنه التّفريق عليهم فلم يفعل حتّى تلفت ; لأنّه متعدٍّ بذلك ، فإن لم يتعدّ ولم يفرّط لم يضمن . قال النّوويّ : ينبغي للإمام والسّاعي وكلّ من يفوّض إليه أمر تفريق الصّدقات أن يعتني بضبط المستحقّين ، ومعرفة أعدادهم ، وأقدار حاجاتهم ، بحيث يقع الفراغ من جمع الصّدقات بعد معرفتهم أو معها ، ليعجّل حقوقهم ، وليأمن هلاك المال عنده . وتصرف الزّكاة في الأصناف الثّمانية ، ولا يجوز صرفها إلاّ لمن جمع شروط الاستحقاق ، ويأتي بيان ذلك بالتّفصيل .
154 - وإذا أخذ الإمام أو السّاعي الزّكاة فاحتاج إلى بيعها لمصلحةٍ ، من كلفةٍ في نقلها ، أو مرض البهيمة أو نحو ذلك جاز ، أمّا إذا باعها لغير ذلك فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الجواز ، والبيع باطل ، وعليه الضّمان إن تلف ، وذلك لأنّ أهل الزّكاة أهل رشدٍ لا ولاية عليهم ، فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم . وفي احتمالٍ عند الحنابلة يجوز ذلك ، لما ورد عن قيس بن أبي حازمٍ { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى في إبل الصّدقة ناقةً كوماء ، فسأل عنها ، فقال المصدّق : إنّي ارتجعتها بإبلٍ ، فسكت } قال أبو عبيدٍ : الرّجعة أن يبيعها ويشتري بثمنها مثلها أو غيرها .
( نصب العشّارين ) :
155 - ينصب الإمام على المعابر في طرق الأسفار عشّارين للجباية ممّن يمرّ عليهم بالمال من المسلمين وأهل الذّمّة وأهل الحرب إذا أتوا بأموالهم إلى بلاد الإسلام ، فيأخذ من أهل الإسلام ما يجب عليهم من زكاةٍ ، ويأخذ من أهل الذّمّة نصف العشر ، ويأخذ من أهل الحرب العشر . والّذي يأخذه من أهل الذّمّة وأهل الحرب فيء حكمه حكم الجزية يصرف في مصارف الفيء ، وينظر تفصيله في مصطلح : ( عشر ) . أمّا ما يأخذه من أهل الإسلام فهو زكاة يشترط له ما يشترط في سائر الأموال الزّكويّة ويصرف في مصارف الزّكاة ، إلاّ أنّ هذا النّوع من المال وإن كان في الأصل مالًا باطنًا لكنّه لمّا انتقل صاحبه به في البلاد أصبح في حكم المال الظّاهر على ما صرّح به ابن عابدين ، ولذا كانت ولاية قبض زكاته إلى الإمام ، كالسّوائم والزّروع . وصرّح الحنفيّة بتحليف من يمرّ على العاشر إن أنكر تمام الحول على ما بيده ، أو ادّعى أنّ عليه دينًا يسقط الزّكاة ، فإن حلف فالقول قوله ، وكذا إن قال أدّيتها إلى عاشرٍ آخر وأخرج براءةً ( إيصالًا رسميًّا بها ) ، وكذا إن قال أدّيتها بنفسي إلى الفقراء في المصر . ويشترط أن يكون ما معه نصابًا فأكثر حتّى يجب الأخذ منه ، فإن كان معه أقلّ من نصابٍ وله في المصر ما يكمل به النّصاب فلا ولاية للعاشر على الأخذ منه ; لأنّ ولايته على الظّاهر فقط . ويشترط في العاشر ما يشترط في السّاعي كما تقدّم وأن يأمن المسافرون بحمايته من اللّصوص .
القسم الخامس : مصارف الزّكاة :
156 - مصارف الزّكاة محصورة في ثمانية أصنافٍ . والأصناف الثّمانية قد نصّ عليها القرآن الكريم في قوله تعالى : { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السّبيل فريضةً من اللّه واللّه عليم حكيم } . و " إنّما " الّتي صدّرت بها الآية أداة حصرٍ ، فلا يجوز صرف الزّكاة لأحدٍ أو في وجهٍ غير داخلٍ في هذه الأصناف ، وقد أكّد ذلك ما ورد { أنّ رسول اللّه أتاه رجل فقال : أعطني من الصّدقة ، فقال : إنّ اللّه تعالى لم يرض بحكم نبيٍّ ولا غيره في الصّدقات حتّى حكم فيها هو فجزّأها ثمانيةً ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك } . ومن كان داخلًا في هذه الأصناف فلا يستحقّ من الزّكاة إلاّ بأن تنطبق عليه شروط معيّنة تأتي بعد بيان الأصناف . بيان الأصناف الثّمانية : الصّنفان الأوّل والثّاني : الفقراء والمساكين :
157 - الفقراء والمساكين هم أهل الحاجة الّذين لا يجدون ما يكفيهم ، وإذا أطلق لفظ ( الفقراء ) وانفرد دخل فيهم ( المساكين ) ، وكذلك عكسه ، وإذا جمع بينهما في كلامٍ واحدٍ ، كما في آية مصارف الزّكاة ، تميّز كلّ منهما بمعنًى . وقد اختلف الفقهاء في أيّهما أشدّ حاجةً ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الفقير أشدّ حاجةً من المسكين ، واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى قدّم ذكرهم في الآية ، وذلك يدلّ على أنّهم أهمّ وبقوله تعالى : { أمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } . فأثبت لهم وصف المسكنة مع كونهم يملكون سفينةً ويحصّلون نولًا ، واستأنسوا لذلك أيضًا بالاشتقاق ، فالفقير لغةً : فعيل بمعنى مفعولٍ ، وهو من نزعت بعض فقار صلبه ، فانقطع ظهره ، والمسكين مفعيل من السّكون ، ومن كسر صلبه أشدّ حالًا من السّاكن . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ المسكين أشدّ حاجةً من الفقير ، واحتجّوا بأنّ اللّه تعالى قال : { أو مسكينًا ذا متربةٍ } . وهو المطروح على التّراب لشدّة جوعه ، وبأنّ أئمّة اللّغة قالوا ذلك ، منهم الفرّاء وثعلب وابن قتيبة ، وبالاشتقاق أيضًا ، فهو من السّكون ، كأنّه عجز عن الحركة فلا يبرح . ونقل الدّسوقيّ قولًا أنّ الفقير والمسكين صنف واحد ، وهو من لا يملك قوت عامه ، سواء كان لا يملك شيئًا أو يملك أقلّ من قوت العام .(/38)
158 - واختلف الفقهاء في حدّ كلٍّ من الصّنفين : فقال الشّافعيّة والحنابلة : الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته ، كمن حاجته عشرة فلا يجد شيئًا أصلًا ، أو يقدر بماله وكسبه وما يأتيه من غلّةٍ وغيرها على أقلّ من نصف كفايته . فإن كان يجد النّصف أو أكثر ولا يجد كلّ العشرة فمسكين . وقال الحنفيّة والمالكيّة : المسكين من لا يجد شيئًا أصلًا فيحتاج للمسألة وتحلّ له . واختلف قولهم في الفقير : فقال الحنفيّة : الفقير من له أدنى شيءٍ وهو ما دون النّصاب ، فإذا ملك نصابًا من أيّ مالٍ زكويٍّ فهو غنيّ لا يستحقّ شيئًا من الزّكاة ، فإن ملك أقلّ من نصابٍ فهو غير مستحقٍّ ، وكذا لو ملك نصابًا غير نامٍ وهو مستغرق في الحاجة الأصليّة ، فإن لم يكن مستغرقًا منع ، كمن عنده ثياب تساوي نصابًا لا يحتاجها ، فإنّ الزّكاة تكون حرامًا عليه ، ولو بلغت قيمة ما يملكه نصبًا فلا يمنع ذلك كونه من المستحقّين للزّكاة إن كانت مستغرقةً بالحاجة الأصليّة كمن عنده كتب يحتاجها للتّدريس ، أو آلات حرفةٍ ، أو نحو ذلك . وقال المالكيّة : الفقير من يملك شيئًا لا يكفيه لقوت عامه .
الغنى المانع من أخذ الزّكاة بوصف الفقر أو المسكنة :
159 - الأصل أنّ الغنيّ لا يجوز إعطاؤه من الزّكاة ، وهذا اتّفاقيّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا حظّ فيها لغنيٍّ } . ولكن اختلف في الغنى المانع من أخذ الزّكاة : فقال الجمهور من المالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن أحمد قدّمها المتأخّرون من أصحابه : إنّ الأمر معتبر بالكفاية ، فمن وجد من الأثمان أو غيرها ما يكفيه ويكفي من يموّنه فهو غنيّ لا تحلّ له الزّكاة ، فإن لم يجد ذلك حلّت له ولو كان ما عنده يبلغ نصبًا زكويّةً ، وعلى هذا ، فلا يمتنع أن يوجد من تجب عليه الزّكاة وهو مستحقّ للزّكاة . وقال الحنفيّة : هو الغنى الموجب للزّكاة ، فمن تجب عليه الزّكاة لا يحلّ له أن يأخذ الزّكاة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إنّ اللّه قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم } . ومن ملك نصابًا من أيّ مالٍ زكويٍّ كان فهو غنيّ ، فلا يجوز أن تدفع إليه الزّكاة ولو كان ما عنده لا يكفيه لعامه ، ومن لم يملك نصابًا كاملًا فهو فقير أو مسكين ، فيجوز أن تدفع إليه الزّكاة ، كما تقدّم . وفي روايةٍ أخرى عند الحنابلة عليها ظاهر المذهب : إن وجد كفايته ، فهو غنيّ ، وإن لم يجد وكان لديه خمسون درهمًا ، أو قيمتها من الذّهب خاصّةً ، فهو غنيّ كذلك ولو كانت لا تكفيه ، لحديث { من سأل النّاس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح . قالوا يا رسول اللّه وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهمًا أو قيمتها من الذّهب } . وإنّما فرّقوا بين الأثمان وغيرها اتّباعًا للحديث .
وفيما يلي تفصيل فروع هذه المسألة : إعطاء الزّكاة لمن لا يملك مالًا وله مورد رزقٍ :
160 - من لم يكن له مال أو له مال لا يكفيه فإنّه يستحقّ من الزّكاة عند الجمهور ، إلاّ أنّ من لزمت نفقته مليئًا من نحو والدٍ لا يعطى من الزّكاة ، وكذا لا تعطى الزّوجة لاستغنائها بإنفاق زوجها عليها . ومن له مرتّب يكفيه لم يجز إعطاؤه من الزّكاة . وكذا من كان له صنعة تكفيه وإن كان لا يملك في الحال مالًا . فإن كان واحد من هذه الأسباب يأتيه منه أقلّ من كفايته يجوز إعطاؤه تمام الكفاية . ونقل النّوويّ أنّ من له ضيعة تغلّ بعض كفايته أنّه لا يلزمه بيعها لتحلّ له الزّكاة ، وكذلك آلات المحترفين وكسب العالم . وقال الحنفيّة : يجوز دفع الزّكاة إلى من عنده دخل سنويّ أو شهريّ أو يوميّ من عقارٍ أو نحو ذلك ، إن لم يملك نصابًا زكويًّا ، ويجوز دفعها إلى الولد الّذي أبوه غنيّ إن كان الولد كبيرًا فقيرًا ، سواء كان ذكرًا أو أنثى ; لأنّه لا يعدّ غنيًّا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه ، أمّا الولد الصّغير الّذي أبوه غنيّ فلا تدفع إليه الزّكاة لأنّه يعدّ غنيًّا بيسار أبيه ، وسواء كان الصّغير في عيال أبيه أم لا . وكذا قال أبو حنيفة ومحمّد : يجوز دفع الزّكاة إلى رجلٍ فقيرٍ له ابن موسر . وقال أبو يوسف : إن كان الأب في عيال الابن الموسر لا يجوز ، وإن لم يكن جاز . قالوا : وكذلك المرأة الفقيرة إن كان لها زوج غنيّ يجوز إعطاؤها من الزّكاة ، لأنّها لا تعدّ غنيّةً بيسار زوجها ، وبقدر النّفقة لا تصير موسرةً ، واستيجابها النّفقة بمنزلة الأجرة . ومن كان مستغنيًا بأن تبرّع أحد من النّاس بأن ينفق عليه ، فالصّحيح عند الحنابلة أنّه يجوز إعطاؤه من الزّكاة ، ويجوز للمتبرّع بنفقته أن يدفع إليه من الزّكاة ولو كان في عياله ، لدخوله في أصناف الزّكاة ، وعدم وجود نصٍّ أو إجماعٍ يخرجه من العموم .
إعطاء الفقير والمسكين القادرين على الكسب :(/39)
161 - من كان من الفقراء والمساكين قادرًا على كسب كفايته وكفاية من يموّنه ، أو تمام الكفاية ، لم يحلّ له الأخذ من الزّكاة ، ولا يحلّ للمزكّي إعطاؤه منها ، ولا تجزئه لو أعطاه وهو يعلم بحاله ، لقول النّبيّ في الصّدقة : { لا حظّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسبٍ } . وفي لفظٍ { لا تحلّ الصّدقة لغنيٍّ ولا لذي مرّةٍ سويٍّ } . وهذا مذهب الشّافعيّة والحنابلة . وقال الحنفيّة : يجوز دفع الزّكاة إلى من يملك أقلّ من نصابٍ ، وإن كان صحيحًا مكتسبًا ، لأنّه فقير أو مسكين ، وهما من مصارف الزّكاة ; ولأنّ حقيقة الحاجة لا يوقف عليها ، فأدير الحكم على دليلها ، وهو فقد النّصاب . واحتجّوا بما في قصّة الحديث المذكور سابقًا ، وهي { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصّدقات فقام إليه رجلان يسألانه ، فنظر إليهما فرآهما جلدين فقال : إنّه لا حقّ لكما فيه وإن شئتما أعطيتكما } . لأنّه أجاز إعطاءهما ، وقوله : { لا حقّ لكما فيه } معناه لا حقّ لكما في السّؤال . ومثله قول المالكيّة المعتمد عندهم ، إلاّ أنّ الحدّ الأدنى الّذي يمنع الاستحقاق عندهم هو ملك الكفاية لا ملك النّصاب ، كما عند الحنفيّة .
إعطاء الزّكاة لمن له مال أو كسب وامتنع عنه ماله أو كسبه :
162 - من كان عنده مال يكفيه فلا يستحقّ من الزّكاة ، لكن إن كان ماله غائبًا أو كان دينًا مؤجّلًا ، فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لا يمنع ذلك من إعطائه ما يكفيه إلى أن يصل إلى ماله أو يحلّ الأجل . والقادر على الكسب إن شغله عن الكسب طلب العلم الشّرعيّ لم يمنع ذلك من إعطائه من الزّكاة ; لأنّ طلب العلم فرض كفايةٍ بخلاف التّفرّغ للعبادة . واشترط بعض الشّافعيّة في طالب العلم أن يكون نجيبًا يرجى نفع المسلمين بتفقّهه . ومن كان قادرًا على كسبٍ لكنّ ذلك الكسب لا يليق به ، أو يليق به لكن لم يجد من يستأجره ، لم يمنع ذلك استحقاقه من الزّكاة .
جنس الكفاية المعتبرة في استحقاق الزّكاة :
163 - الكفاية المعتبرة عند الجمهور هي للمطعم والمشرب والمسكن وسائر ما لا بدّ منه على ما يليق بالحال من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ ، للشّخص نفسه ولمن هو في نفقته . وصرّح المالكيّة وغيرهم بأنّ مال الزّكاة إن كان فيه سعة يجوز الإعانة به لمن أراد الزّواج .
القدر الّذي يعطاه الفقير والمسكين من الزّكاة :
164 - ذهب الجمهور ( المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة ) إلى أنّ الواحد من أهل الحاجة المستحقّ للزّكاة بالفقر أو المسكنة يعطى من الزّكاة الكفاية أو تمامها له ولمن يعوله عامًا كاملًا ، ولا يزاد عليه ، إنّما حدّدوا العام لأنّ الزّكاة تتكرّر كلّ عامٍ غالبًا ، ولأنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم ادّخر لأهله قوت سنةٍ } . وسواء كان ما يكفيه يساوي نصابًا أو نصبًا . وإن كان يملك أو يحصل له بعض الكفاية أعطي تمام الكفاية لعامٍ . وذهب الشّافعيّة في قولٍ منصوصٍ والحنابلة في روايةٍ إلى أنّ الفقير والمسكين يعطيان ما يخرجهما من الفاقة إلى الغنى وهو ما تحصل به الكفاية على الدّوام ، لحديث قبيصة مرفوعًا { إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثةٍ : رجلٍ أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيشٍ ، أو قال : سدادًا من عيشٍ .. } الحديث . قالوا : فإن كان من عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به أدوات حرفته قلّت قيمتها أو كثرت بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبًا تقريبًا ، وإن كان تاجرًا أعطي بنسبة ذلك ، وإن كان من أهل الضّياع يشترى له ضيعة تكفيه غلّتها على الدّوام . قال بعضهم : يشتريها له الإمام ويلزمه بعدم إخراجها عن ملكه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ من لا يملك نصابًا زكويًّا كاملًا يجوز أن يدفع إليه أقلّ من مائتي درهمٍ أو تمامها . ويكره أكثر من ذلك ، وقال زفر لا يجوز تمام المائتين أو أكثر . وهذا عند الحنفيّة لمن لم يكن له عيال ولا دين عليه ، فإن كان له عيال فلكلٍّ منهم مائتا درهمٍ ، والمدين يعطى لدينه ولو فوق المائتين كما يأتي في الغارمين .
( إثبات الفقر ) :
165 - إذا ادّعى رجل صحيح قويّ أنّه لا يجد مكسبًا يجوز أن يعطى من الزّكاة إن كان مستور الحال ، ويقبل قوله بغير يمينٍ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتقدّم : { إن شئتما أعطيتكما } لكن من علم كذبه بيقينٍ لم يصدّق ولم يجز إعطاؤه من الزّكاة . وإن ادّعى أنّ له عيالًا وطلب من الزّكاة لأجلهم ، فعند الشّافعيّة والحنابلة لا يقبل قوله إلاّ ببيّنةٍ ، لأنّ الأصل عدم العيال ، ولا تتعذّر إقامة البيّنة على ذلك . وكذا من كان معروفًا باليسار لا يعطى من الزّكاة ، لكن إن ادّعى أنّ ماله تلف أو فقد كلّف البيّنة على ذلك . واختلف قول الحنابلة في عدد البيّنة ، فقيل : لا بدّ من ثلاثةٍ ، لما ورد في حديث قبيصة أنّ النّبيّ قال له : { أقم حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها . ثمّ قال : يا قبيصة : إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لأحد ثلاثةٍ ... وذكر منهم : رجلٍ أصابته فاقة حتّى يقوم له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، لقد أصابت فلانًا فاقة ، فحلّت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيشٍ أو قال : سدادًا من عيشٍ } . وقيل عندهم : يقبل قول اثنين فقط كسائر الحقوق ، والحديث وارد في المسألة ، لا في الإعطاء دون مسألةٍ .
الصّنف الثّالث : العاملون على الزّكاة :(/40)
166 - يجوز إعطاء العاملين على الزّكاة منها . ويشترط في العامل الّذي يعطى من الزّكاة شروط تقدّم بيانها . ولا يشترط فيمن يأخذ من العاملين من الزّكاة الفقر ; لأنّه يأخذ بعمله لا لفقره . وقد قال النّبيّ : { لا تحلّ الصّدقة لغنيٍّ إلاّ لخمسةٍ .. فذكر منهم العامل عليها } . قال الحنفيّة : يدفع إلى العامل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه ويسع أعوانه غير مقدّرٍ بالثّمن ، ولا يزاد على نصف الزّكاة الّتي يجمعها وإن كان عمله أكثر . وقال الشّافعيّة والحنابلة : للإمام أن يستأجر العامل إجارةً صحيحةً بأجرٍ معلومٍ ، إمّا على مدّةٍ معلومةٍ ، أو عملٍ معلومٍ . ثمّ قال الشّافعيّة : لا يعطى العامل من الزّكاة أكثر من ثمن الزّكاة ، فإن زاد أجره على الثّمن أتمّ له من بيت المال . وقيل من باقي السّهام . ويجوز للإمام أن يعطيه أجره من بيت المال . وله أن يبعثه بغير إجارةٍ ثمّ يعطيه أجر المثل . وإن تولّى الإمام ، أو والي الإقليم أو القاضي من قبل الإمام أو نحوهم أخذ الزّكاة وقسمتها لم يجز أن يأخذ من الزّكاة شيئًا ; لأنّه يأخذ رزقه من بيت المال وعمله عامّ .
الصّنف الرّابع : المؤلّفة قلوبهم :
167 - اختلف الفقهاء في صنف المؤلّفة قلوبهم : فالمعتمد عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ سهم المؤلّفة قلوبهم باقٍ لم يسقط . وفي قولٍ عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة وروايةٍ عند الحنابلة : أنّ سهمهم انقطع لعزّ الإسلام ، فلا يعطون الآن ، لكن إن احتيج لاستئلافهم في بعض الأوقات أعطوا . قال ابن قدامة : لعلّ معنى قول أحمد : انقطع سهمهم ، أي لا يحتاج إليهم في الغالب ، أو أراد أنّ الأئمّة لا يعطونهم اليوم شيئًا ، فأمّا إن احتيج إلى إعطائهم جاز الدّفع إليهم ، فلا يجوز الدّفع إليهم إلاّ مع الحاجة . وقال الحنفيّة : انعقد الإجماع على سقوط سهمهم من الزّكاة لما ورد أنّ الأقرع بن حابسٍ وعيينة بن حصنٍ جاءا يطلبان من أبي بكرٍ أرضًا ، فكتب لهما بذلك ، فمرّا على عمر ، فرأى الكتاب فمزّقه ، وقال : هذا شيء كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألّفكم ، والآن قد أعزّ اللّه الإسلام وأغنى عنكم ، فإن ثبتّم على الإسلام ، وإلاّ فبيننا وبينكم السّيف ، فرجعا إلى أبي بكرٍ ، فقالا ، ما ندري : الخليفة أنت أم عمر ؟ فقال : هو إن شاء ، ووافقه . ولم ينكر أحد من الصّحابة ذلك .
168 - ثمّ اختلفوا : ففي قولٍ للمالكيّة : المؤلّفة قلوبهم كفّار يعطون ترغيبًا لهم في الإسلام لأجل أن يعينوا المسلمين ، فعليه لا تعطى الزّكاة لمن أسلم فعلًا . وقال الشّافعيّة : لا يعطى من هذا السّهم لكافرٍ أصلًا ، لأنّ الزّكاة لا تعطى لكافرٍ ، للحديث : { تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم } بل تعطى لمن أسلم فعلًا ، وهناك أقوال أخرى للشّافعيّة . وقال الحنابلة : يجوز الإعطاء من الزّكاة للمؤلّف مسلمًا كان أو كافرًا . وعند كلٍّ من الشّافعيّة والمالكيّة أقوال بمثل هذا . قال ابن قدامة : المؤلّفة قلوبهم ضربان : كفّار ومسلمون ، وهم جميعًا السّادة المطاعون في قومهم وعشائرهم . ثمّ ذكر المسلمين منهم فجعلهم أربعة أضربٍ :
1 - سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيّتهم ضعيفة فيعطون تثبيتًا لهم .
2 - قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفّار ليسلموا .
3 - صنف يراد بتألّفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفّار ، ويحموا من يليهم من المسلمين .
4 - صنف يراد بإعطائهم من الزّكاة أن يجبوا الزّكاة ممّن لا يعطيها . ثمّ ذكر ابن قدامة الكفّار فجعلهم ضربين :
1 - من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام .
2 - من يخشى شرّه ويرجى بعطيّته كفّ شرّه وكفّ غيره معه .
الصّنف الخامس : في الرّقاب :
169 - وهم ثلاثة أضربٍ : الأوّل : المكاتبون المسلمون : فيجوز عند الجمهور الصّرف من الزّكاة إليهم ، إعانةً لهم على فكّ رقابهم ولم يجز ذلك مالك ، كما لم يجز صرف شيءٍ من الزّكاة في إعتاق من انعقد له سبب حرّيّةٍ بغير الكتابة ، كالتّدبير والاستيلاد والتّبعيض . فعلى قول الجمهور : إنّما يعان المكاتب إن لم يكن قادرًا على الأداء لبعض ما وجب عليه ، فإن كان لا يجد شيئًا أصلًا دفع إليه جميع ما يحتاج إليه للوفاء . الثّاني : إعتاق الرّقيق المسلم ، وقد ذهب إلى جواز الصّرف من الزّكاة في ذلك المالكيّة وأحمد في روايةٍ ، وعليه فإن كانت الزّكاة بيد الإمام أو السّاعي جاز له أن يشتري رقبةً أو رقابًا فيعتقهم ، وولاؤهم للمسلمين . وكذا إن كانت الزّكاة بيد ربّ المال فأراد أن يعتق رقبةً تامّةً منها ، فيجوز ذلك لعموم الآية { وفي الرّقاب } ويكون ولاؤها عند المالكيّة للمسلمين أيضًا ، وعند الحنابلة : ما رجع من الولاء ردّ في مثله ، بمعنى أنّه يشترى بما تركه المعتق ولا وارث له رقاب تعتق . وعند أبي عبيدٍ : الولاء للمعتق . وذهب الحنفيّة والشّافعيّة وأحمد في روايةٍ أخرى إلى أنّه لا يعتق من الزّكاة ، لأنّ ذلك كدفع الزّكاة إلى القنّ ، والقنّ لا تدفع إليه الزّكاة ; ولأنّه دفع إلى السّيّد في الحقيقة ، وقال الحنفيّة : لأنّ العتق إسقاط ملكٍ ، وليس بتمليكٍ ، لكن إن أعان من زكاته في إعتاق رقبةٍ جاز عند أصحاب هذا القول من الحنابلة . الثّالث : أن يفتدي بالزّكاة أسيرًا مسلمًا من أيدي المشركين ، وقد صرّح الحنابلة وابن حبيبٍ وابن عبد الحكم من المالكيّة بجواز هذا النّوع ; لأنّه فكّ رقبةٍ من الأسر ، فيدخل في الآية بل هو أولى من فكّ رقبة من بأيدينا . وصرّح المالكيّة بمنعه .(/41)
الصّنف السّادس : الغارمون : والغارمون المستحقّون للزّكاة ثلاثة أضربٍ : الضّرب الأوّل : من كان عليه دين لمصلحة نفسه . وهذا متّفق عليه من حيث الجملة ، ويشترط لإعطائه من الزّكاة ما يلي :
1 - أن يكون مسلمًا .
2 - أن لا يكون من آل البيت ، وعند الحنابلة قول : بجواز إعطاء مدين آل البيت منها .
3 - واشترط المالكيّة أن لا يكون قد استدان ليأخذ من الزّكاة ، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسّع في الإنفاق بالدّين لأجل أن يأخذ منها ، بخلاف فقيرٍ استدان للضّرورة ناويًا الأخذ منها .
4 - وصرّح المالكيّة بأنّه يشترط أن يكون الدّين ممّا يحبس فيه ، فيدخل فيه دين الولد على والده ، والدّين على المعسر ، وخرج دين الكفّارات والزّكاة .
5- أن لا يكون دينه في معصيةٍ ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، كأن يكون بسبب خمرٍ ، أو قمارٍ ، أو زنًا ، لكن إن تاب يجوز الدّفع إليه ، وقيل : لا . ورجّح المالكيّة الأوّل ، وعدّ الشّافعيّة الإسراف في النّفقة من باب المعصية الّتي تمنع الإعطاء من الزّكاة .
6- أن يكون الدّين حالًّا ، صرّح بهذا الشّرط الشّافعيّة ، قالوا : إن كان الدّين مؤجّلًا ففي المسألة ثلاثة أقوالٍ ثالثها : إن كان الأجل تلك السّنة أعطي ، وإلاّ فلا يعطى من صدقات تلك السّنة .
7- أن لا يكون قادرًا على السّداد من مالٍ عنده زكويٍّ أو غير زكويٍّ زائدٍ عن كفايته ، فلو كان له دار يسكنها تساوي مائةً وعليه مائة ، وتكفيه دار بخمسين فلا يعطى حتّى تباع ، ويدفع الزّائد في دينه على ما صرّح به المالكيّة ، ولو وجد ما يقضي به بعض الدّين أعطي البقيّة فقط ، وإن كان قادرًا على وفاء الدّين بعد زمنٍ بالاكتساب ، فعند الشّافعيّة قولان في جواز إعطائه منها . الضّرب الثّاني : الغارم لإصلاح ذات البين :
171 - الأصل فيه حديث قبيصة المرفوع : { إنّ المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثةٍ . فذكر منهم ورجلٍ تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتّى يصيبها ثمّ يمسك } فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ هذا النّوع من الغارمين يعطى من الزّكاة سواء كان غنيًّا أو فقيرًا ; لأنّه لو اشترط الفقر فيه لقلّت الرّغبة في هذه المكرمة ، وصورتها أن يكون بين قبيلتين أو حيّين فتنة ، يكون فيها قتل نفسٍ أو إتلاف مالٍ ، فيتحمّله لأجل الإصلاح بينهم ، فيعطى من الزّكاة لتسديد حمالته ، وقيّد الحنابلة الإعطاء بما قبل الأداء الفعليّ ، ما لم يكن أدّى الحمالة من دينٍ استدانه ; لأنّ الغرم يبقى . وقال الحنفيّة : لا يعطى المتحمّل من الزّكاة إلاّ إن كان لا يملك نصابًا فاضلًا عن دينه كغيره من المدينين . ولم يصرّح المالكيّة بحكم هذا الضّرب فيما اطّلعنا عليه . الضّرب الثّالث : الغارم بسبب دين ضمانٍ وهذا الضّرب ذكره الشّافعيّة ، والمعتبر في ذلك أن يكون كلّ من الضّامن والمضمون عنه معسرين ، فإن كان أحدهما موسرًا ففي إعطاء الضّامن من الزّكاة خلاف عندهم وتفصيل .
( الدّين على الميّت ) :
171 م - إن مات المدين ولا وفاء في تركته لم يجز عند الجمهور سداد دينه من الزّكاة . وقال المالكيّة : يوفّى دينه منها ولو مات ، قال بعضهم : هو أحقّ بالقضاء لليأس من إمكان القضاء عنه ، وهو أحد قولين عند الشّافعيّة . ويأتي بيان ما يتعلّق بالميّت تفصيلًا .
الصّنف السّابع : في سبيل اللّه . وهذا الصّنف ثلاثة أضربٍ .
172 - الضّرب الأوّل : الغزاة في سبيل اللّه تعالى ، والّذين ليس لهم نصيب في الدّيوان ، بل هم متطوّعون للجهاد . وهذا الضّرب متّفق عليه عند الفقهاء من حيث الجملة ، فيجوز إعطاؤهم من الزّكاة قدر ما يتجهّزون به للغزو من مركبٍ وسلاحٍ ونفقةٍ وسائر ما يحتاج إليه الغازي لغزوه مدّة الغزو وإن طالت . ولا يشترط عند الجمهور في الغازي أن يكون فقيرًا ، بل يجوز إعطاء الغنيّ لذلك ، لأنّه لا يأخذ لمصلحة نفسه ، بل لحاجة عامّة المسلمين ، فلم يشترط فيه الفقر . وقال الحنفيّة : إن كان الغازي غنيًّا ، وهو من يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذّهب كما تقدّم في صنف الفقراء فلا يعطى من الزّكاة ، وإلاّ فيعطى ، وإن كان كاسبًا ; لأنّ الكسب يقعده عن الجهاد . وعند محمّدٍ الغازي منقطع الحاجّ لا منقطع الغزاة . وصرّح المالكيّة بأنّه يشترط في الغازي أن يكون ممّن يجب عليه الجهاد ، لكونه مسلمًا ذكرًا بالغًا قادرًا ، وأنّه يشترط أن يكون من غير آل البيت . وأمّا جنود الجيش الّذين لهم نصيب في الدّيوان فلا يعطون من الزّكاة ، وفي أحد قولين عند الشّافعيّة : إن امتنع إعطاؤهم من بيت المال لضعفه ، يجوز إعطاؤهم من الزّكاة . الضّرب الثّاني : مصالح الحرب 173 - وهذا الضّرب ذكره المالكيّة ، فالصّحيح عندهم أنّه يجوز الصّرف من الزّكاة في مصالح الجهاد الأخرى غير إعطاء الغزاة ، نحو بناء أسوارٍ للبلد لحفظها من غزو العدوّ ، ونحو بناء المراكب الحربيّة ، وإعطاء جاسوسٍ يتجسّس لنا على العدوّ ، مسلمًا كان أو كافرًا . وأجاز بعض الشّافعيّة أن يشترى من الزّكاة السّلاح وآلات الحرب وتجعل وقفًا يستعملها الغزاة ثمّ يردّونها ، ولم يجزه الحنابلة . وظاهر صنيع سائر الفقهاء - إذ قصروا سهم سبيل اللّه على الغزاة ، أو الغزاة والحجّاج ، أنّه لا يجوز الصّرف منه في هذا الضّرب ، ووجهه أنّه لا تمليك فيه ، أو فيه تمليك لغير أهل الزّكاة ، أو كما قال أحمد : لأنّه لم يؤت الزّكاة لأحدٍ ، وهو مأمور بإيتائها . ( الضّرب الثّالث : الحجّاج ) :(/42)
174 - ذهب جمهور العلماء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ وأبو ثورٍ وابن المنذر وهو رواية عن أحمد ، وقال ابن قدامة : إنّه الصّحيح ) إلى أنّه لا يجوز الصّرف في الحجّ من الزّكاة ; لأنّ سبيل اللّه في آية مصارف الزّكاة مطلق ، وهو عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى ، لأنّ الأكثر ممّا ورد من ذكره في كتاب اللّه تعالى قصد به الجهاد ، فتحمل الآية عليه . وذهب أحمد في روايةٍ ، إلى أنّ الحجّ في سبيل اللّه فيصرف فيه من الزّكاة ، لما روي { أنّ رجلًا جعل ناقته في سبيل اللّه ، فأرادت امرأته أن تحجّ ، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : فهلاّ خرجت عليه فإنّ الحجّ من سبيل اللّه } فعلى هذا القول لا يعطى من الزّكاة من كان له مال يحجّ به سواها ، ولا يعطى إلاّ لحجّ الفريضة خاصّةً ، وفي قولٍ عند الحنابلة : يجوز حتّى في حجّ التّطوّع . وينقل عن بعض فقهاء الحنفيّة أنّ مصرف في سبيل اللّه هو لمنقطع الحجّاج . إلاّ أنّ مريد الحجّ يعطى من الزّكاة عند الشّافعيّة على أنّه ابن سبيلٍ كما يأتي .
الصّنف الثّامن : ابن السّبيل : سمّي بذلك لملازمته الطّريق ، إذ ليس هو في وطنه ليأوي إلى سكنٍ . وهذا الصّنف ضربان :
175 - الضّرب الأوّل : المتغرّب عن وطنه الّذي ليس بيده ما يرجع به إلى بلده : وهذا الضّرب متّفق على أنّه من أصحاب الزّكاة ، فيعطى ما يوصله إلى بلده ، إلاّ في قولٍ ضعيفٍ عند الشّافعيّة : أنّه لا يعطى ; لأنّ ذلك يكون من باب نقل الزّكاة من بلدها . ولا يعطى من الزّكاة إلاّ بشروطٍ : الشّرط الأوّل : أن يكون مسلمًا ، من غير آل البيت . الشّرط الثّاني : أن لا يكون بيده في الحال مال يتمكّن به من الوصول إلى بلده وإن كان غنيًّا في بلده ، فلو كان له مال مؤجّل أو على غائبٍ ، أو معسرٍ ، أو جاحدٍ ، لم يمنع ذلك الأخذ من الزّكاة على ما صرّح به الحنفيّة . الشّرط الثّالث : أن لا يكون سفره لمعصيةٍ ، صرّح بهذا الشّرط المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فيجوز إعطاؤه إن كان سفره لطاعةٍ واجبةٍ كحجّ الفرض ، وبرّ الوالدين ، أو مستحبّةٍ كزيارة العلماء والصّالحين ، أو كان سفره لمباحٍ كالمعاشات والتّجارات ، فإن كان سفره لمعصيةٍ لم يجز إعطاؤه منها لأنّه إعانة عليها ، ما لم يتب ، وإن كان للنّزهة فقط ففيه وجهان عند الحنابلة : أقواهما : أنّه لا يجوز ; لعدم حاجته إلى هذا السّفر . الشّرط الرّابع : وهو للمالكيّة خاصّةً : أن لا يجد من يقرضه إن كان ببلده غنيًّا . ولا يعطى أهل هذا الضّرب من الزّكاة أكثر ممّا يكفيه للرّجوع إلى وطنه ، وفي قولٍ للحنابلة : إن كان قاصدًا بلدًا آخر يعطى ما يوصله إليه ثمّ يردّه إلى بلده . قال المالكيّة : فإن جلس ببلد الغربة بعد أخذه من الزّكاة نزعت منه ما لم يكن فقيرًا ببلده ، وإن فضل معه فضل بعد رجوعه إلى بلده نزع منه على قولٍ عند الحنابلة . ثمّ قد قال الحنفيّة : من كان قادرًا على السّداد فالأولى له أن يستقرض ولا يأخذ من الزّكاة . الضّرب الثّاني : من كان في بلده ويريد أن ينشئ سفرًا :
176 - فهذا الضّرب منع الجمهور إعطاءه ، وأجاز الشّافعيّة إعطاءه لذلك بشرط أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره ، وأن لا يكون في معصيةٍ ، فعلى هذا يجوز إعطاء من يريد الحجّ من الزّكاة إن كان لا يجد في البلد الّذي ينشئ منه سفر الحجّ ما لا يحجّ به . والحنفيّة لا يرون جواز الإعطاء في هذا الضّرب ، إلاّ أنّ من كان ببلده ، وليس له بيده مال ينفق منه وله مال في غير بلده ، لا يصل إليه ، رأوا أنّه ملحق بابن السّبيل .
أصناف الّذين لا يجوز إعطاؤهم من الزّكاة :
177 - 1 - آل النّبيّ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم لأنّ الزّكاة والصّدقة محرّمتان على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله ، وقد تقدّم بيان حكمهم في ( آل ) .
2 - الأغنياء ، وقد تقدّم بيان من هم في صنف الفقراء والمساكين . قال ابن قدامة : خمسة لا يعطون إلاّ مع الحاجة : الفقير ، والمسكين ، والمكاتب ، والغارم لمصلحة نفسه ، وابن السّبيل ، وخمسة يأخذون مع الغنى : العامل ، والمؤلّف قلبه ، والغازي ، والغارم لإصلاح ذات البين ، وابن السّبيل الّذي له اليسار في بلده . وخالف الحنفيّة في الغازي والغارم لإصلاح ذات البين ، فرأوا أنّهم لا يأخذون إلاّ مع الحاجة .
3 - الكفّار ولو كانوا أهل ذمّةٍ : لا يجوز إعطاؤهم من الزّكاة . نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك لحديث : { إنّ اللّه افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم } وأجاز الحنابلة في قولٍ إعطاءهم مع العاملين إن عملوا على الزّكاة . ويستثنى المؤلّف قلبه أيضًا على التّفصيل والخلاف المتقدّم في موضعه . ويشمل الكافر هنا الكافر الأصليّ والمرتدّ ، ومن كان متسمّيًا بالإسلام وأتى بمكفّرٍ نحو الاستخفاف بالقرآن ، أو سبّ اللّه أو رسوله ، أو دين الإسلام ، فهو كافر لا يجوز إعطاؤه من الزّكاة اتّفاقًا ، وانظر مصطلح : ( ردّة ) .(/43)
كلّ من انتسب إليه المزكّي أو انتسب إلى المزكّي بالولادة . ويشمل ذلك أصوله وهم أبواه وأجداده ، وجدّاته ، وارثين كانوا أو لا ، وكذا أولاده وأولاد أولاده ، وإن نزلوا ، قال الحنفيّة : لأنّ منافع الأملاك بينهم متّصلة ، وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة . أمّا سائر الأقارب ، وهم الحواشي كالإخوة والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات ، وأولادهم ، فلا يمتنع إعطاؤهم زكاته ولو كان بعضهم في عياله ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { الصّدقة على المسكين صدقة ، وهي على ذي الرّحم اثنتان : صدقة وصلة } وهذا مذهب الحنفيّة وهو القول المقدّم عند الحنابلة . وأمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فإنّ الأقارب الّذين تلزم نفقتهم المزكّي لا يجوز أن يعطيهم من الزّكاة ، والّذين تلزم نفقتهم عند المالكيّة الأب والأمّ دون الجدّ والجدّة ، والابن والبنت دون أولادهما ، واللّازم نفقة الابن ما دام في حدّ الصّغر ، والبنت إلى أن تتزوّج ويدخل بها زوجها . والّذين تلزم نفقتهم عند الشّافعيّة الأصول والفروع . وفي روايةٍ عند الحنابلة وهو قول الثّوريّ : يفرّق في غير الأصول والفروع بين الموروث منهم وغير الموروث ، فغير الموروث يجزئ إعطاؤه من الزّكاة ، والموروث لا يجزئ ، وعلى الوارث نفقته إن كان الموروث فقيرًا فيستغني بها عن الزّكاة ، إذ لو أعطاه من الزّكاة لعاد نفع زكاته إلى نفسه ، ويشترط هنا شروط الإرث ومنها : أن لا يكون الوارث محجوبًا عن الميراث وقت إعطاء الزّكاة واستثنى الحنفيّة في ظاهر الرّواية من فرض له القاضي النّفقة على المزكّي ، فلا يجزئ إعطاؤه الزّكاة ، لأنّه أداء واجبٍ في واجبٍ آخر ، على أنّهم نصّوا على أن يجوز أن يدفعها إلى زوجة أبيه وزوجة ابنه وزوج ابنته . وقيّد المالكيّة والشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة الإعطاء الممنوع بسهم الفقراء والمساكين ، أمّا لو أعطى والده أو ولده من سهم العاملين أو المكاتبين أو الغارمين أو الغزاة فلا بأس . وقالوا أيضًا : إن كان لا يلزمه نفقته جاز إعطاؤه .
دفع الزّوج زكاة ماله إلى زوجته وعكسه :
178 - لا يجزئ الرّجل إعطاء زكاة ماله إلى زوجته . قال ابن قدامة : هو إجماع ، قال الحنفيّة : لأنّ المنافع بين الزّوجين مشتركة ، وقال الجمهور : لأنّ نفقتها واجبة على الزّوج ، فيكون كالدّافع إلى نفسه ، ومحلّ المنع إعطاؤها الزّكاة لتنفقها على نفسها ، فأمّا لو أعطاها ما تدفعه في دينها ، أو لتنفقه على غيرها من المستحقّين ، فلا بأس ، على ما صرّح به المالكيّة وقريب منه ما قال الشّافعيّة : إنّ الممنوع إعطاؤها من سهم الفقراء أو المساكين ، أمّا من سهمٍ آخر هي مستحقّة له فلا بأس ، وهو ما يفهم أيضًا من كلام ابن تيميّة . وأمّا إعطاء المرأة زوجها زكاة مالها فقد اختلف فيه : فذهب الشّافعيّ وصاحبا أبي حنيفة وهو رواية عن أحمد واختيار ابن المنذر ، إلى جواز ذلك لحديث { زينب زوجة عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهما ، وفيه أنّها هي وامرأة أخرى سألتا النّبيّ صلى الله عليه وسلم : هل تجزئ الصّدقة عنهما على أزواجهما ، وعلى أيتامٍ في حجرهما ؟ فقال : لهما أجران أجر القرابة وأجر الصّدقة } . وقال ابن قدامة : ولأنّه لا تجب عليها نفقة الزّوج ، ولعموم آية مصارف الزّكاة ، إذ ليس في الزّوج إذا كان فقيرًا نصّ أو إجماع يمنع إعطاءه . وقال أبو حنيفة ، وهو رواية أخرى عن أحمد : لا يجزئ المرأة أن تعطي زوجها زكاتها ولو كانت في عدّتها من طلاقه البائن ولو بثلاث طلقاتٍ ; لأنّ المنافع بين الرّجل وبين امرأته مشتركة ، فهي تنتفع بتلك الزّكاة الّتي تعطيها لزوجها ; ولأنّ الزّوج لا يقطع بسرقة مال امرأته ، ولا تصحّ شهادته لها . وقال مالك : لا تعطي المرأة زوجها زكاة مالها . واختلف أصحابه في معنى كلامه ، فقال بعضهم : بأنّ مراده عدم الإجزاء ، وقال آخرون : بإجزائه مع الكراهة .
6 - ( الفاسق والمبتدع ) :
179 - ذكر الحافظ ابن حجرٍ في شرحه لحديث : { تصدّق اللّيلة على كافرٍ } أنّ في إعطاء الزّكاة للعاصي خلافًا ، وقد صرّح المالكيّة بأنّ الزّكاة لا تعطى لأهل المعاصي إن غلب على ظنّ المعطي أنّهم يصرفونها في المعصية ، فإن أعطاهم على ذلك لم تجزئه عن الزّكاة ، وفي غير تلك الحال تجوز ، وتجزئ . وعند الحنابلة قال ابن تيميّة : ينبغي للإنسان أن يتحرّى بزكاته المستحقّين من أهل الدّين المتّبعين للشّريعة ، فمن أظهر بدعةً أو فجورًا فإنّه يستحقّ العقوبة بالهجر وغيره والاستتابة فكيف يعان على ذلك ؟ ، وقال : من كان لا يصلّي يؤمر بالصّلاة ، فإن قال : أنا أصلّي ، أعطي ، وإلاّ لم يعط ، ومراده أنّه يعطى ما لم يكن معلومًا بالنّفاق . وعند الحنفيّة يجوز إعطاء الزّكاة للمنتسبين إلى الإسلام من أهل البدع إن كانوا من الأصناف الثّمانية ، ما لم تكن بدعتهم مكفّرةً مخرجةً لهم عن الإسلام . على أنّ الأولى تقديم أهل الدّين المستقيمين عليه في الاعتقاد ، والعمل على من عداهم عند الإعطاء من الزّكاة ، لحديث : { لا تصاحب إلاّ مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ } .
7 - ( الميّت ) :(/44)
180 - ذهب الحنفيّة وهو قول للشّافعيّة والحنابلة ( على المذهب ) والنّخعيّ : إلى أنّه لا تعطى الزّكاة في تجهيز ميّتٍ عند من قال بأنّ ركن الزّكاة تمليكها لمصرفها ، فإنّ الميّت لا يملك ، ومن شرط صحّة الزّكاة التّمليك ، قالوا : ولا يجوز أن يقضى بها دين الميّت الّذي لم يترك وفاءً ; لأنّ قضاء دين الغير بها لا يقتضي تمليكه إيّاها ، قال أحمد : لا يقضى من الزّكاة دين الميّت ، ويقضى منها دين الحيّ . وقال المالكيّة وهو قول للشّافعيّة ونقله في الفروع عن أبي ثورٍ ، وعن اختيار ابن تيميّة ، وأنّ في ذلك روايةً عن أحمد : أنّه لا بأس أن يقضى من الزّكاة دين الميّت الّذي لم يترك وفاءً إن تمّت فيه شروط الغارم ، قال بعض المالكيّة : بل هو أولى من دين الحيّ في أخذه من الزّكاة ، لأنّه لا يرجى قضاؤه بخلاف الحيّ ، واحتجّ النّوويّ لهذا القول بعموم الغارمين في آية مصارف الزّكاة ، وبأنّه يصحّ التّبرّع بقضاء دين الميّت كدين الحيّ .
8 - جهات الخير من غير الأصناف الثّمانية :
181 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز صرف الزّكاة في جهات الخير غير ما تقدّم بيانه ، فلا تنشأ بها طريق ، ولا يبنى بها مسجد ولا قنطرة ، ولا تشقّ بها ترعة ، ولا يعمل بها سقاية ، ولا يوسّع بها على الأصناف ، ولم يصحّ فيه نقل خلافٍ عن معيّنٍ يعتدّ به ، وظاهر كلام الرّمليّ أنّه إجماع ، واحتجّوا لذلك بأمرين : الأوّل : أنّه لا تمليك فيها ; لأنّ المسجد ونحوه لا يملك ، وهذا عند من يشترط في الزّكاة التّمليك . والثّاني : الحصر الّذي في الآية ، فإنّ المساجد ونحوها ليست من الأصناف الثّمانية ، وفي الحديث المتقدّم الّذي فيه : { إنّ اللّه جعل الزّكاة ثمانية أجزاءٍ } . ولا يثبت ممّا نقل عن أنسٍ وابن سيرين خلاف ذلك .
ما يراعى في قسمة الزّكاة بين الأصناف الثّمانية :
أ - ( تعميم الزّكاة على الأصناف ) :
182 - ذهب جمهور العلماء ( الحنفيّة والمالكيّة وهو المذهب عند الحنابلة وهو قول الثّوريّ وأبي عبيدٍ ) إلى أنّه لا يجب تعميم الزّكاة على الأصناف ، سواء كان الّذي يؤدّيها إليها ربّ المال أو السّاعي أو الإمام ، وسواء كان المال كثيرًا أو قليلًا ، بل يجوز أن تعطى لصنفٍ واحدٍ أو أكثر ، ويجوز أن تعطى لشخصٍ واحدٍ إن لم تزد عن كفايته ، وهو مرويّ عن عمر وابن عبّاسٍ ، قال ابن عبّاسٍ : في أيّ صنفٍ وضعته أجزأك .
183 - واحتجّوا بحديث : { تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم } قالوا : والفقراء صنف واحد من أصناف أهل الزّكاة الثّمانية ، وبوقائع أعطى فيها النّبيّ صلى الله عليه وسلم الزّكاة لفردٍ واحدٍ أو أفرادٍ ، منها : { أنّه أعطى سلمة بن صخرٍ البياضيّ صدقة قومه } . وقال لقبيصة : { أقم يا قبيصة حتّى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها } . قالوا : واللّام في آية الصّدقات بمعنى " أو " ، أو هي لبيان المصارف ، أو هي للاختصاص ، ومعنى الاختصاص عدم خروجها عنهم . وصرّح المالكيّة بأنّ التّعميم لا يندب إلاّ أن يقصد الخروج من الخلاف ، وكذا استحبّ الحنابلة التّعميم للخروج من الخلاف . وذهب الشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد وقول عكرمة ، إلى أنّه يجب تعميم الأصناف ، وإعطاء كلّ صنفٍ منهم الثّمن من الزّكاة المتجمّعة ، واستدلّوا بآية الصّدقات ، فإنّه تعالى أضاف الزّكاة إليهم فاللّام التّمليك ، وأشرك بينهم بواو التّشريك ، فدلّ على أنّها مملوكة لهم مشتركة بينهم ، فإنّه لو قال ربّ المال : هذا المال لزيدٍ وعمرٍو وبكرٍ قسمت بينهم ووجبت التّسوية ، فكذا هذا ، ولو أوصى لهم وجب التّعميم والتّسوية . وتفصيل مذهب الشّافعيّة في ذلك أنّه يجب استيعاب الأصناف الثّمانية في القسم إن قسم الإمام وهناك عامل ، فإن لم يكن عامل بأن قسم المالك ، أو حمل أصحاب الأموال زكاتهم إلى الإمام ، فالقسمة على سبعة أصنافٍ ، فإن فقد بعضهم فعلى الموجودين منهم ، ويستوعب الإمام من الزّكوات المجتمعة عنده آحاد كلّ صنفٍ وجوبًا ، إن كان المستحقّون في البلد ، ووفى بهم المال . وإلاّ فيجب إعطاء ثلاثةٍ من كلّ صنفٍ ; لأنّ الآية ذكرت الأصناف بصيغة الجمع . قالوا : وينبغي للإمام أو السّاعي أن يعتني بضبط المستحقّين ، ومعرفة أعدادهم ، وقدر حاجاتهم ، واستحقاقهم ، بحيث يقع الفراغ من جمع الزّكوات بعد معرفة ذلك أو معه ليتعجّل وصول حقّهم إليهم . قالوا : وتجب التّسوية بين الأصناف ، وإن كانت حاجة بعضهم أشدّ ، ولا تجب التّسوية بين أفراد كلّ صنفٍ إن قسم المالك ، بل يجوز تفضيل بعضهم على بعضٍ ، أمّا إن قسم الإمام فيحرم عليه التّفضيل مع تساوي الحاجات ، فإن فقد بعض الأصناف أعطى سهمه للأصناف الباقية ، وكذا إن اكتفى بعض الأصناف وفضل شيء ، فإن اكتفى جميع أفراد الأصناف جميعًا بالبلد ، جاز النّقل إلى أقرب البلاد إليه على الأظهر ، على ما يأتي بيانه . وقال النّخعيّ : إن كانت الزّكاة قليلةً جاز صرفها إلى صنفٍ واحدٍ ، وإلاّ وجب استيعاب الأصناف ، وقالا أبو ثورٍ وأبو عبيدٍ : إن أخرجها الإمام وجب استيعاب الأصناف ، وإن أخرجها المالك جاز أن يجعلها في صنفٍ واحدٍ .
التّرتيب بين المصارف :(/45)
184 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ العامل على الزّكاة يبدأ به قبل غيره في الإعطاء من الزّكاة ; لأنّه يأخذ على وجه العوض عن عمله ، وغيره يأخذ على سبيل المواساة ، قال الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة : فإن كان سهم العاملين وهو ثمن الزّكاة قدر حقّه أخذه ، وإن زاد عن حقّه ردّ الفاضل على سائر السّهام ، وإن كان أقلّ من حقّه تمّم له من سهم المصالح ، وقيل : من باقي السّهام . والمذهب عند الحنابلة أنّ العامل يقدّم بأجرته على سائر الأصناف ، أي من مجموع الزّكاة . أمّا ما بعد ذلك ، فقال الشّافعيّة : يقسم بين باقي الأصناف كما تقدّم . ونظر الحنفيّة والمالكيّة إلى الحاجة ، فقال الحنفيّة : يقدّم المدين على الفقير لأنّ حاجة المدين أشدّ ، وراعى الحنفيّة أمورًا أخرى تأتي في نقل الزّكاة . وقال المالكيّة : يندب إيثار المضطرّ على غيره بأن يزاد في إعطائه منها . ونظر الحنابلة إلى الحاجة مع القرابة فقالوا : يقدّم الأحوج فالأحوج استحبابًا ، فإن تساووا قدّم الأقرب إليه ، ثمّ من كان أقرب في الجوار وأكثر دينًا ، وكيف فرّقها جاز ، بعد أن يضعها في الأصناف الّذين سمّاهم اللّه تعالى .
نقل الزّكاة :
185 - إذا فاضت الزّكاة في بلدٍ عن حاجة أهلها جاز نقلها اتّفاقًا ، بل يجب ، وأمّا مع الحاجة فيرى الحنفيّة أنّه يكره تنزيهًا نقل الزّكاة من بلدٍ إلى بلدٍ ، وإنّما تفرّق صدقة كلّ أهل بلدٍ فيهم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم } . ولأنّ فيه رعاية حقّ الجوار ، والمعتبر بلد المال ، لا بلد المزكّي . واستثنى الحنفيّة أن ينقلها المزكّي إلى قرابته ، لما في إيصال الزّكاة إليهم من صلة الرّحم . قالوا : ويقدّم الأقرب فالأقرب . واستثنوا أيضًا أن ينقلها إلى قومٍ هم أحوج إليها من أهل بلده ، وكذا لأصلح ، أو أورع ، أو أنفع للمسلمين ، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام ، أو إلى طالب علمٍ . وذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الزّكاة إلى ما يزيد عن مسافة القصر ، لحديث معاذٍ المتقدّم ، ولما ورد أنّ عمر رضي الله عنه بعث معاذًا إلى اليمن ، فبعث إليه معاذ من الصّدقة ، فأنكر عليه عمر وقال : لم أبعثك جابيًا ولا آخذ جزيةٍ ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء النّاس فتردّ على فقرائهم ، فقال معاذ : ما بعثت إليك بشيءٍ وأنا أجد من يأخذه منّي . وروي أنّ عمر بن عبد العزيز أتي بزكاةٍ من خراسان إلى الشّام فردّها إلى خراسان . قالوا : والمعتبر بلد المال ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : المعتبر في الأموال الظّاهرة البلد الّذي فيه المال ، وفي النّقد وعروض التّجارة البلد الّذي فيه المالك . واستثنى المالكيّة أن يوجد من هو أحوج ممّن هو في البلد ، فيجب حينئذٍ النّقل منها ولو نقل أكثرها .
186 - ثمّ إن نقلت الزّكاة حيث لا مسوّغ لنقلها ممّا تقدّم ، فقد ذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، والحنابلة على المذهب ، إلى أنّها تجزئ عن صاحبها ; لأنّه لم يخرج عن الأصناف الثّمانية . وقال المالكيّة : إن نقلها لمثل من في بلده في الحاجة فتجزئه مع الحرمة ، وإن نقلها لأدون منهم في الحاجة لم تجزئه على ما ذكره خليل والدّردير ، وقال الدّسوقيّ : نقل الموّاق أنّ المذهب الإجزاء بكلّ حالٍ . وقال الحنابلة في روايةٍ : لا تجزئه بكلّ حالٍ . وحيث نقلت الزّكاة فأجرة النّقل عند المالكيّة تكون من بيت المال لا من الزّكاة نفسها . وقال الحنابلة : تكون على المزكّي .
حكم من أعطي من الزّكاة لوصفٍ فزال الوصف وهي في يده :
187 - من أهل الزّكاة من يأخذ أخذًا مستقرًّا فلا يستردّ منه شيء إن كان فيه سبب الاستحقاق بشروطه عند الأخذ ، وهم أربعة أصنافٍ : المسكين ، والفقير ، والعامل ، والمؤلّف قلبه . ومنهم من يأخذ أخذًا مراعًى ، فيستردّ منه إن لم ينفقه في وجهه ، أو تأدّى الغرض من بابٍ آخر ، أو زال الوصف والزّكاة في يده ، وهم أيضًا أربعة أصنافٍ ، على خلافٍ في بعضها :
1 - المكاتب ، فيستردّ من المعطى ما أخذ على الأصحّ عند الشّافعيّة ، وفي روايةٍ عند الحنابلة إن مات قبل أن يعتق ، أو عجز عن الوفاء فلم يعتق ، وقال الحنفيّة وهو رواية عند الحنابلة : يكون ما أخذه لسيّده ويحلّ له ، وفي روايةٍ عن أحمد : لا يستردّ ، ولا يكون لسيّده ، بل ينفق في المكاتبين . ولا ترد المسألة عند المالكيّة ; لأنّهم لا يرون صرف الزّكاة للمكاتبين كما تقدّم .
2 - الغارم : فإن استغنى المدين الّذي أخذ الزّكاة قبل دفعها في دينه تنزع منه ، وكذا لو أبرئ من الدّين ، أو قضاه من غير الزّكاة ، أو قضاه عنه غيره . وهذا عند المالكيّة ، وعلى الأصحّ عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة ، ما لم يكن فقيرًا .
3 - الغازي في سبيل اللّه : وقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّه إن أخذ الزّكاة للغزو ثمّ جلس فلم يخرج أخذت منه ، وقال الشّافعيّة والحنابلة أيضًا : لو خرج للغزو وعاد دون أن يقاتل مع قرب العدوّ تؤخذ منه كذلك . وحيث وجب الرّدّ تنزع منه إن كان باقيه في يده ، وإن أنفقها أتّبع بها ، أي طولب ببدلها إن كان غنيًّا ; لأنّها تكون دينًا في ذمّته .(/46)
4 - ابن السّبيل : ويستردّ منه ما أخذه إن لم يخرج ، ما لم يكن فقيرًا ببلده ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويعتبر له عند الشّافعيّة ثلاثة أيّامٍ ، وفي قولٍ : تمام السّنة . قالوا : ويردّ ما أخذ لو سافر ثمّ عاد ولم يصرف ما أخذه ، وقال المالكيّة : إنّما تنزع منه إن كانت باقيةً ، فإن كان أنفقها لم يطالب ببدلها . وظاهر كلام الحنفيّة أنّه لا يلزم بالرّدّ ; لأنّهم قالوا : لا يلزمه التّصدّق بما فضل في يده .
حكم من أخذ الزّكاة وليس من أهلها :
188 - لا يحلّ لمن ليس من أهل الزّكاة أخذها وهو يعلم أنّها زكاة ، إجماعًا . فإن أخذها فلم تستردّ منه فلا تطيب له ، بل يردّها أو يتصدّق بها ; لأنّها عليه حرام ، وعلى دافع الزّكاة أن يجتهد في تعرّف مستحقّي الزّكاة ، فإن دفعها بغير اجتهاده ، أو كان اجتهاده أنّه من غير أهلها وأعطاه لم تجزئ عنه ، إن تبيّن الآخذ من غير أهلها ، والمراد بالاجتهاد النّظر في أمارات الاستحقاق ، فلو شكّ في كون الآخذ فقيرًا فعليه الاجتهاد كذلك .
189 - أمّا إن اجتهد فدفع لمن غلب على ظنّه أنّه من أهل الزّكاة فتبيّن عدم كونه من أهلها ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال بعضهم : تجزئه ، وقال آخرون : لا تجزئه ، على تفصيلٍ يختلف من مذهبٍ إلى مذهبٍ . فعند أبي حنيفة ومحمّدٍ : إن دفع الزّكاة إلى من يظنّه فقيرًا ثمّ بان أنّه غنيّ أو هاشميّ أو كافر ، أو دفع في ظلمةٍ ، فبان أنّ الآخذ أبوه ، أو ابنه فلا إعادة عليه ، لحديث معن بن يزيد قال : { كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدّق بها فوضعها عند رجلٍ في المسجد ، فجئت فأخذتها فأتيته بها ، فقال : واللّه ما إيّاك أردت ، فخاصمته إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : لك ما نويت يا يزيد ، ولك ما أخذت يا معن } . ولأنّا لو أمرناه بالإعادة أفضى إلى الحرج ; لأنّه ربّما تكرّر خطؤه ، واستثنوا من هذا أن يتبيّن الآخذ غير أهلٍ للتّمليك أصلًا ، نحو أن يتبيّن أنّ الآخذ عبده أو مكاتبه ، فلا تجزئ في هذا الحال . وقال أبو يوسف : لا تجزئه إن تبيّن أنّ الآخذ ليس من المصارف ، لظهور خطئه بيقينٍ مع إمكان معرفة ذلك ، كما لو تحرّى في ثيابٍ فبان أنّه صلّى في ثوبٍ نجسٍ . وفصّل المالكيّة بين حالين : الأولى : أن يكون الدّافع الإمام أو مقدّم القاضي أو الوصيّ ، فيجب استردادها ، لكن إن تعذّر ردّها ، أجزأت ، لأنّ اجتهاد الإمام حكم لا يتعقّب . والثّانية : أن يكون الدّافع ربّ المال فلا تجزئه ، فإن استردّها وأعطاها في وجهها ، وإلاّ فعليه الإخراج مرّةً أخرى ، وإنّما يستحقّ استردادها إن فوّتها الآخذ بفعله ، بأن أكلها ، أو باعها ، أو وهبها ، أو نحو ذلك . أمّا إن فاتت بغير فعله بأن تلفت بأمرٍ سماويٍّ ، فإن كان غرّ الدّافع بأن أظهر له الفقر ، أو نحو ذلك فيجب عليه ردّها أيضًا ، أمّا إن لم يكن غرّه فلا يجب عليه الرّدّ . وقال الشّافعيّة : يجب الاسترداد ، وعلى الآخذ الرّدّ ، سواء علم أنّها زكاة أم لا ، فإن استردّت صرفت إلى المستحقّين ، وإن لم يمكن الاسترداد فإن كان الّذي دفعها الإمام لم يضمن ، وإن كان الّذي دفعها المالك ضمن ، وهذا هو المقدّم عندهم ، وفي بعض صور المسألة عندهم أقوال أخرى . وقال الحنابلة : إن بان الآخذ عبدًا أو كافرًا أو هاشميًّا ، أو قرابةً للمعطي ممّن لا يجوز الدّفع إليه ، فلا تجزئ الزّكاة عن دافعها روايةً واحدةً ; لأنّه ليس بمستحقٍّ ، ولا تخفى حاله غالبًا ، فلم يجزه الدّفع إليه ، كديون الآدميّين . أمّا إن كان ظنّه فقيرًا فبان غنيًّا فكذلك على روايةٍ ، والأخرى يجزئه ، لحديث معن بن يزيد المتقدّم ، وحديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { قال رجل : لأتصدّقنّ بصدقةٍ ، فخرج بصدقته فوضعها في يد غنيٍّ ، فأصبحوا يتحدّثون : تصدّق على غنيٍّ ... . الحديث وفيه : فأتي فقيل له : أمّا صدقتك فقد قبلت ، لعلّ الغنيّ يعتبر فينفق ممّا آتاه اللّه } . ولأنّ تخفى غالبًا .
من له حقّ طلب الزّكاة وهو من أهلها :
190 - فرّق الحنفيّة بين مستحقّي الزّكاة من الفقراء من حيث جواز طلبهم الزّكاة بالرّغم من استحقاقهم ، فقالوا : إنّ الّذي يحلّ له طلب الزّكاة هو من لا شيء له ليومه وليلته فيحتاج للسّؤال لقوته ، أو ما يواري بدنه ، وهو في اصطلاحهم المسمّى مسكينًا ، وكذا لا يحلّ السّؤال لمن لا يملك قوت يومه وليلته لكنّه قادر على الكسب ، أمّا الفقير وهو في اصطلاحهم من يملك قوته ليومه وليلته ، فلا يحلّ له سؤال الصّدقة ، وإن كان يحلّ له أخذها إن لم يكن مالكًا لخمسين درهمًا على ما تقدّم . وعند الحنابلة على المذهب : من أبيح له أخذ الزّكاة أبيح له طلبها ، وفي روايةٍ : يحرم طلبها على من له قوت يومه وليلته ، وقال ابن الجوزيّ : إن علم أنّه يجد من يسأله كلّ يومٍ لم يجز أن يسأل أكثر من قوت يومه وليلته ، وإن خاف أن لا يجد من يعطيه أبيح له السّؤال أكثر من ذلك .(/47)
زمان *
التّعريف :
1 - الزّمن والزّمان يطلقان على قليل الوقت وكثيره ، والجمع أزمان وأزمنة وأزمن ، والعرب تقول : لقيته ذات الزّمين : يريدون بذلك تراخي الوقت ، كما يقال : لقيته ذات العويم ، أي بين الأعوام ، ويقولون أيضاً : عاملته مزامنةً من الزّمن ، كما يقال : مشاهرةً من الشّهر ويسمّى الزّمان : العصر أيضاً .
والفقهاء يستعملون الزّمان بمعنى أجل الشّيء ، ومدّته ، ووقته ، كما يستعملونه بالمعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأجل :
2 - الأجل في اللّغة مدّة الشّيء ووقته الّذي يحلّ فيه ، وهو مصدر أجل الشّيء أجلاً من باب تعب ، أي تأخّر فهو آجل ، وأجّلته تأجيلاً جعلت له أجلاً ، والآجل على وزن فاعل خلاف العاجل .
والأجل في اصطلاح الفقهاء : المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور سواء كانت هذه الإضافة أجلاً للوفاء بالتزام ، أو أجلاً لإنهاء التزام ، وسواء أكانت هذه المدّة مقرّرةً بالشّرع ، أم بالقضاء ، أم بإرادة الملتزم ، فرداً أم أكثر . ( انظر : أجل ج 2 ف 5 ) .
ب - الحقب :
3 - الحقب في اللّغة المدّة الطّويلة من الدّهر ، هو بسكون القاف وضمّها ، والجمع أحقاب مثل قفل وأقفال ، ويقال الحقب ثمانون عاماً ، والحقبة بمعنى المدّة ، والجمع حقب مثل سورة وسور .
ج - الدّهر :
4 - الدّهر يطلق على الأبد ، وقيل هو الزّمان قلّ أو كثر ، وقال الأزهريّ : والدّهر عند العرب يطلق على الزّمان وعلى الفصل من فصول السّنة ، وعلى أقلّ من ذلك ، ويقع على مدّة الدّنيا كلّها .
د - المدّة :
5 - المدّة في اللّغة : البرهة من الزّمان تقع على القليل والكثير ، والجمع مدد مثل غرفة وغرف .
هـ - الوقت :
6 - الوقت في اللّغة مقدار من الزّمان مفروض لأمر ما ، وكلّ شيء قدّرت له حيناً فقد وقّتّه توقيتاً ، وكذلك ما قدّرت له غايةً ، والجمع أوقات .
مفردات الزّمان وأقسامه :
7 - الزّمن يشمل السّاعة واليوم والأسبوع والشّهر والسّنة وغيرها من أقسام الزّمان ، لأنّه يطلق على قليل الوقت وكثيره . هذا وقد خصّ اللّه سبحانه وتعالى بعض الأزمنة بأحكام ، ومثال ذلك الزّمن الواقع بين طلوع الفجر وطلوع الشّمس ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى جعله وقتاً لأداء فريضة الصّبح ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : « إنّ للصّلاة أوّلاً وآخراً ، وإنّ أوّل وقت الفجر حين يطلع الفجر ، وإن آخر وقتها حين تطلع الشّمس » ومن ذلك أيضاً الزّمن الواقع بين زوال الشّمس عن كبد السّماء وبين بلوغ ظلّ الشّيء مثله ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى جعله وقتاً لأداء فريضة الظّهر ، لحديث « إمامة جبريل عليه السلام للنّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث صلّى به الظّهر في اليوم الأوّل حين كان الفيء مثل الشّراك ،وصلّى به الظّهر في اليوم الثّاني حين كان ظلّ كلّ شيء مثله». وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة . وينظر في بحث أوقات الصّلوات .
هذا ومن الأزمنة الّتي خصّها اللّه ببعض الأحكام أيضًا شهر رمضان ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى جعله وقتًا لأداء فريضة الصّيام ، لقوله سبحانه وتعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . وأشهر الحجّ ، وهي الزّمن الواقع بعد رمضان إلى نهاية أيّام التّشريق ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى جعلها وقتاً لأداء فريضة الحجّ ، لقوله سبحانه وتعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } . ومن ذلك أيضاً زمن أداء زكاة الفطر ، والّذي يبدأ من غروب شمس آخر يوم من رمضان ويمتدّ إلى قبيل صلاة العيد . ومن ذلك أيضاً يوم عرفة فإنّ صومه مستحبّ لغير الحاجّ .
8 - وهناك أزمنة تخصّ بعض المكلّفين بحسب حالهم ، مثال ذلك زمن الطّهر وزمن الحيض بالنّسبة للمرأة ، وزمن الإحرام وزمن الحلّ بالنّسبة للحاجّ ، ويترتّب على ذلك أنّ المرأة في زمن الحيض يحرم عليها أمور لم تكن محرّمةً عليها في زمن الطّهر كالصّلاة والصّوم والطّواف وقراءة القرآن وغير ذلك ، ممّا سبق بيانه في مصطلح : ( حيض ) .
وكذا المحرم فإنّه في زمن الإحرام يمتنع عن بعض ما كان مباحاً له في زمن الحلّ ، كلبس المخيط أو المحيط من الثّياب في حقّ الرّجال ، والمرأة المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفّازين، إلى غير ذلك من الأحكام الّتي سبق بيانها في مصطلح : ( إحرام ) .
9 - ويعتبر الزّمان في المعاملات ، ومن ذلك ما لو باع شجرةً أو بناءً في أرض مؤجّرة لغير المشتري ، أو موصىً له بمنفعتها ، أو موقوفة عليه استحقّ إبقاءها بقيّة المدّة . وينظر مصطلح : ( بيع ) .
ومن ذلك الإجارة ، فتكون الإجارة مقيّدةً بمدّة محدّدة أو غير مقيّدة بها ، بل بالعمل .
وينظر مصطلح : ( إجارة ) .
وكذلك الوكالة فيما لو أمر الموكّل الوكيل أن يبيع في زمن معيّن ، كيوم الجمعة فليس للوكيل مخالفته لأنّه قد يكون له غرض في التّخصيص . والتّفصيل في مصطلح : ( وكالة )
ويعتبر الزّمان أيضاً في الطّلاق ، فإنّ الطّلاق من التّصرّفات الّتي تضاف إلى الزّمان ماضياً كان أم مستقبلاً ، ويخصّص به ويعلّق وقوعه على مجيئه .
والتّفصيل في مصطلح : ( طلاق ) .
وكذلك في الإيلاء كما إذا حلف أن لا يقربها لمدّة أربعة أشهر أو أكثر .
وينظر مصطلح : ( إيلاء ) .
وكذلك في اللّعان كما إذا جاءت المرأة بولد لا يحتمل كونه من الزّوج ، كأن ولدته لأقلّ من ستّة أشهر بعد العقد . والتّفصيل في مصطلح : ( لعان ) .(/1)
وكذلك في النّفقة فإنّها تسقط بمضيّ الزّمان بلا إنفاق ، إلاّ نفقة الزّوجة وخادمتها فإنّها لا تسقط بل تصير دينًا في ذمّته . والتّفصيل في مصطلح : ( نفقة ) .
ويعتبر الزّمان أيضاً في اليمين ، كما إذا حلف أن لا يفعل الشّيء حيناً أو زماناً أو دهراً . والتّفصيل في مصطلح : ( أيمان ) .
وفي الشّهادات فإنّ الزّمان يؤثّر في الشّهادة على القتل كما إذا اختلف الشّهود في زمان القتل أو مكانه فإنّه لا يثبت .
ويؤثّر أيضاً في الشّهادة على الزّنا ، كما إذا شهد أربعة أنّه زنى بامرأة بمكان عند طلوع الشّمس ، وشهد أربعة أنّه زنى بها بمكان آخر عند طلوع الشّمس درئ الحدّ عنهم جميعاً ، إذ لا يتصوّر من الشّخص الزّنى في ساعة واحدة في مكانين متباعدين .
هذا وقد سبق في مصطلح ( أجل ) وهو المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور أنّه باعتبار مصدره على ثلاثة أقسام : شرعيّ وقضائيّ ، واتّفاقيّ ، وتفصيله في مصطلح : ( أجل ) .
حكم سبّ الزّمان :
10 - لم يرد النّهي عن سبّ الزّمان ، وإنّما ورد النّهي عن سبّ الدّهر في حديث أخرجه مسلم في صحيحه بعدّة طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه منها : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبّوا الدّهر فإنّ اللّه هو الدّهر » .
وسبب النّهي عن سبّ الدّهر هو أنّ العرب كان شأنها أن تسبّ الدّهر عند النّوازل والحوادث والمصائب النّازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك ، فيقولون : يا خيبة الدّهر ونحو هذا من ألفاظ سبّ الدّهر ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تسبّوا الدّهر فإنّ اللّه هو الدّهر » أي لا تسبّوا فاعل النّوازل ، فإنّكم إذا سببتم فاعلها وقع السّبّ على اللّه تعالى ، لأنّه هو فاعلها ومنزلها ، وأمّا الدّهر الّذي هو الزّمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق اللّه تعالى ، ومعنى فإنّ اللّه هو الدّهر : أي فاعل النّوازل والحوادث وخالق الكائنات .
أثر الزّمان على العبادات والحقوق :
العبادات :
11 - العبادات باعتبار الزّمان الّذي تؤدّى فيه نوعان : مطلقة ومؤقّتة .
فالمطلقة : هي الّتي لم يقيّد أداؤها بزمن محدّد له طرفان ، لأنّ جميع العمر فيها بمنزلة الوقت فيما هو موقّت ، وسواء أكانت العبادة واجبةً كالكفّارات أم مندوبةً كالنّفل المطلق . وأمّا العبادات المقيّدة بزمان معيّن فهي ما حدّد الشّارع زماناً معيّناً لأدائها ، لا يجب الأداء قبله ولا يصحّ ، ويأثم بالتّأخير إن كان المطلوب واجباً ، وذلك كالصّلوات الخمس وصوم رمضان .
وزمن الأداء إمّا موسّع : وهو ما كان الزّمان فيه يفضل عن أدائه ، أي أنّه يتّسع لأداء الفعل وأداء غيره من جنسه ، وذلك كوقت الظّهر مثلاً فإنّه يسع أداء صلاة الظّهر وأداء صلوات أخرى ، ولذلك يسمّى ظرفاً .
وإمّا مضيّق : وهو ما كان الزّمان فيه يسع الفعل وحده ولا يسع غيره معه ، وذلك كرمضان فإنّ زمانه لا يتّسع لأداء صوم آخر فيه ، ويسمّى معياراً أو مساوياً ، والحجّ من العبادات الّتي يشتبه زمان أدائها بالموسّع والمضيّق لأنّ المكلّف لا يستطيع أن يؤدّي حجّتين في عام واحد ، فهو بهذا يشبه المضيّق ، ولكنّ أعمال الحجّ لا تستوعب زمانه ، فهو بهذا يشبه الموسّع ، هذا على اعتباره من الموقّت ، وقيل : إنّه من المطلق باعتبار أنّ العمر زمان للأداء كالزّكاة .
الحقوق :
أ - الإقرار بالحدود :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ مضيّ الزّمان لا أثر له على الإقرار بالحدود ، باستثناء الإقرار في حدّ الشّرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، لأنّ الإنسان غير متّهم في حقّ نفسه .
ب - الشّهادة في الحدود :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الشّهادة على الزّنى والقذف وشرب الخمر تقبل ولو بعد مضيّ زمان طويل من الواقعة ، وفرّق الحنفيّة بين الحدود الخالصة لحقّ اللّه تعالى ، فلا تقبل الشّهادة فيها بالتّقادم ، بخلاف ما هو حقّ للعباد .
وتفصيله في تقادم ( ف 13 /120 )
ج - سماع الدّعوى :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحقّ لا يسقط بالتّقادم ، ولم يفرّق جمهور الفقهاء في سماع الدّعوى بين ما تقادم منها وما لم يتقادم ، وفرّق الحنفيّة بينهما ، فقالوا : إنّ لوليّ الأمر منع القضاة من سماع الدّعوى في أحوال بشروط مخصوصة لتلافي التّزوير والتّحايل . واختلف فقهاء الحنفيّة في تعيين المدّة الّتي لا تسمع بعدها الدّعوى في الوقف ، ومال اليتيم، والغائب ، والإرث ، فجعلها بعضهم ستّاً وثلاثين سنةً ، وبعضهم ثلاثاً وثلاثين ، وبعضهم ثلاثين فقط ، إلاّ أنّه لمّا كانت هذه المدد طويلةً استحسن أحد السّلاطين فيما سوى ذلك جعلها خمس عشرة سنةً فقط . ومن ذلك يظهر أنّ التّقادم بمرور الزّمان مبنيّ على أمرين :
الأوّل : حكم اجتهاديّ نصّ عليه الفقهاء .
والثّاني : أمر سلطانيّ يجب على القضاة في زمنه اتّباعه ، لأنّهم بمقتضاه معزولون عن سماع دعوى مضى عليها خمس عشرة سنةً بدون عذر ، والقاضي وكيل عن السّلطان ، والوكيل يستمدّ التّصرّف من موكّله ، فإذا خصّص له تخصّص ، وإذا عمّم تعمّم .
وتفصيله في مصطلح : ( تقادم ) .
وأمّا التّقادم في وضع اليد وإثبات الملك بذلك فينظر في مصطلح : ( حيازة ) ومصطلح : ( تقادم ف /9 )(/2)
زمزم *
التّعريف :
1 - زمزم - بزايين مفتوحتين - اسم للبئر المشهورة في المسجد الحرام ، بينها وبين الكعبة المشرّفة ثمان وثلاثون ذراعاً .
وسمّيت زمزم لكثرة مائها ، يقال : ماء زمزم وزمزوم إذا كان كثيراً ، وقيل : لاجتماعها ، لأنّه لمّا فاض منها الماء على وجه الأرض قالت هاجر للماء : زمّ زمّ ، أي : اجتمع يا مبارك ، فاجتمع فسمّيت زمزم ، وقيل : لأنّها زمّت بالتّراب لئلاّ يأخذ الماء يميناً وشمالاً ، فقد ضمّت هاجر ماءها حين انفجرت وخرج منها الماء وساح يميناً وشمالاً فمنع بجمع التّراب حوله ، وروي : « لولا أمّكم هاجر حوّطت عليها لملأت أودية مكّة » .
وقيل : إنّ اسمها غير مشتقّ .
ولزمزم أسماء أخرى كثيرة ، منها : طيّبة ، وبرّة ، ومضنونة ، وسقيا اللّه إسماعيل ، وبركة ، وحفيرة عبد المطّلب ، ووصفت في الحديث « بأنّها طعام طعم ، وشفاء سقم » .
2 - وزمزم هي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، الّتي سقاه اللّه تعالى منها حين ظمئ وهو صغير ، فالتمست له أمّه ماءً فلم تجده ، فقامت إلى الصّفا تدعو اللّه تعالى وتستغيثه لإسماعيل ، ثمّ أتت المروة ففعلت مثل ذلك ، وبعث اللّه تعالى جبريل عليه السلام فهمز له بعقبه في الأرض فظهر الماء .
الأحكام المتعلّقة بزمزم :
أ - الشّرب من ماء زمزم :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للحاجّ والمعتمر أن يشرب من ماء زمزم ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم » ، ولما روى مسلم : « إنّها مباركة ، إنّها طعام طعم » زاد أبو داود الطّيالسيّ في مسنده : « وشفاء سقم » .
ويسنّ للشّارب أن يتضلّع من ماء زمزم ، أي يكثر من شربه حتّى يمتلئ ، ويرتوي منه حتّى يشبع ريّاً ، لخبر ابن ماجه :« آية ما بيننا وبين المنافقين أنّهم لا يتضلّعون من ماء زمزم». ونصّ الشّافعيّة على أنّه يسنّ شرب ماء زمزم في سائر الأحوال ، لا عقب الطّواف خاصّةً ، وأنّه يسنّ شرب ماء زمزم لكلّ أحد ولو لغير الحاجّ والمعتمر .
ب - آداب الشّرب من ماء زمزم :
4 - للشّرب من ماء زمزم آداب ، عدّها بعض الفقهاء من السّنن أو المندوبات أو المستحبّات ، منها : ما روى محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر قال : كنت عند ابن عبّاس رضي الله عنهما جالساً فجاءه رجل فقال : من أين جئت ؟ قال : من زمزم : قال : فشربت منها كما ينبغي ؟ قال : فكيف ؟ قال : إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم اللّه تعالى ، وتنفّس ثلاثاً من زمزم ، وتضلّع منها ، فإذا فرغت فاحمد اللّه تعالى .
ومنها : أن ينظر إلى البيت في كلّ مرّة يتنفّس من زمزم ، وينضح من الماء على رأسه ووجهه وصدره ، ويكثر من الدّعاء عند شربه ، ويشربه لمطلوبه في الدّنيا والآخرة ، ويقول عند شربه : اللّهمّ إنّه قد بلغني عن نبيّك محمّد صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ماء زمزم لما شرب له » وأنا أشربه لكذا - ويذكر ما يريد ديناً ودنيا - اللّهمّ فافعل ذلك بفضلك ، ويدعو بالدّعاء الّذي كان عبد اللّه بن عبّاس رضي الله عنهما يدعو به إذا شرب ماء زمزم وهو : اللّهمّ إنّي أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاءً من كلّ داء .
ونصّ بعض الفقهاء على أنّ شرب ماء زمزم لنيل المطلوب في الدّنيا والآخرة شامل لما لو شربه بغير محلّه ، وأنّه ليس خاصّاً بالشّارب نفسه وإن كان ظاهره كذلك ، بل يحتمل تعدّي ذلك إلى الغير ، فإذا شربه إنسان بقصد ولده أو أخيه مثلاً حصل له ذلك المطلوب إذا شرب بنيّة صادقة .
ونصّ بعض المحدّثين والفقهاء على أنّه يسنّ الجلوس عند شرب ماء زمزم كغيره ، وقالوا: إنّ ما روى الشّعبيّ عن « ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : سقيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من زمزم وهو قائم » محمول على أنّه لبيان الجواز ، ومعارض لما رواه ابن ماجه عن عاصم قال : « ذكرت ذلك لعكرمة فحلف باللّه ما فعل - أي ما شرب قائماً - لأنّه كان حينئذ راكباً » .
ج - نقل ماء زمزم :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز التّزوّد من ماء زمزم ونقله ، لأنّه يستخلف ، فهو كالثّمرة، وليس بشيء يزول فلا يعود .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ التّزوّد من ماء زمزم وحمله إلى البلاد فإنّه شفاء لمن استشفى ، وقد روى التّرمذيّ عن « عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها كانت تحمل من ماء زمزم ، وتخبر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يحمله » ، وروى غير التّرمذيّ « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يحمله وكان يصبّه على المرضى ويسقيهم » ، « وأنّه حنّك به الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما » ، وروى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما« أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم»، وفي تاريخ الأزرقيّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعجل سهيلاً في إرسال ذلك إليه ، وأنّه بعث إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم براويتين » .
د - استعمال ماء زمزم :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّطهير بماء زمزم صحيح ، ونقل الماورديّ في الحاوي ، والنّوويّ في المجموع الإجماع على ذلك . وفي استعمال ماء زمزم في رفع الحدث وفي إزالة الخبث تفصيل ينظر في مصطلح ( آبار ، الموسوعة الفقهيّة 1 /91 ) .
هـ - فضل ماء زمزم :(/1)
7 - في فضل ماء زمزم روى الطّبرانيّ عن عبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ، فيه طعام من الطّعم وشفاء من السّقم » أي أنّ شرب مائها يغني عن الطّعام ويشفي من السّقام ، لكن مع الصّدق ، كما وقع لأبي ذرّ الغفاريّ رضي الله تعالى عنه ، « ففي الصّحيح أنّه أقام شهراً بمكّة لا قوت له إلاّ ماء زمزم » ، وروى الأزرقيّ عن العبّاس بن عبد المطّلب رضي الله تعالى عنه قال : تنافس النّاس في زمزم في زمن الجاهليّة حتّى أن كان أهل العيال يفدون بعيالهم فيشربون فيكون صبوحاً لهم ، وقد كنّا نعدّها عوناً على العيال ، قال العبّاس : وكانت زمزم تسمّى في الجاهليّة شباعة .
قال الأبيّ : هو لما شرب له ، جعله اللّه تعالى لإسماعيل وأمّه هاجر طعاماً وشراباً ، وحكى الدّينوريّ عن الحميديّ قال : كنّا عند سفيان بن عيينة فحدّثنا بحديث « ماء زمزم لما شرب له » . فقام رجل من المجلس ثمّ عاد فقال : يا أبا محمّد ، أليس الحديث الّذي حدّثتنا في ماء زمزم صحيحاً ؟ قال : نعم ، قال الرّجل : فإنّي شربت الآن دلواً من زمزم على أنّك تحدّثني بمائة حديث ، فقال له سفيان : اقعد ، فقعد فحدّثه بمائة حديث .
ودخل ابن المبارك زمزم فقال : اللّهمّ إنّ ابن المؤمّل حدّثني عن أبي الزّبير عن جابر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ماء زمزم لما شرب له » اللّهمّ فإنّي أشربه لعطش يوم القيامة .
وماء زمزم شراب الأبرار ، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : صلّوا في مصلّى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار ، قيل : ما مصلّى الأخيار ؟ قال : تحت الميزاب ، قيل : وما شراب الأبرار ؟ قال : ماء زمزم وأكرم به من شراب .
وقال الحافظ العراقيّ : إنّ حكمة غسل صدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ليقوى به صلى الله عليه وسلم على رؤية ملكوت السّموات والأرض والجنّة والنّار ، لأنّه من خواصّ ماء زمزم أنّه يقوّي القلب ويسكن الرّوع . روى البخاريّ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : كان أبو ذرّ رضي الله تعالى عنه يحدّث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « فرّج سقفي وأنا بمكّة ، فنزل جبريل عليه السلام ففرّج صدري ، ثمّ غسله بماء زمزم ، ثمّ جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً ، فأفرغها في صدري ، ثمّ أطبقه ، ثمّ أخذ بيدي فبرح بي إلى السّماء الدّنيا » .(/2)
زوال *
التّعريف :
1 - الزّوال لغةً : الحركة والذّهاب والاستحالة والاضمحلال . وزال الشّيء عن مكانه ، وأزاله غيّره . ويقال : رأيت شبحاً ثمّ زال ، أي تحرّك . والزّوائل : النّجوم لزوالها من المشرق . والزّوال : زوال الشّمس ، وزوال الملك ونحو ذلك ممّا يزول عن حاله . وزالت الشّمس عن كبد السّماء ، وزال الظّلّ . ولا يخرج معناه الشّرعيّ عن معناه اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
وردت الأحكام المتعلّقة بالزّوال في أماكن متعدّدة من كتب الفقه منها :
أ - وقت صلاة الظّهر :
2 - أجمع العلماء على أنّ وقت صلاة الظّهر يدخل حين تزول الشّمس عن كبد السّماء ، وهو ميل الشّمس عن وسط السّماء إلى جهة المغرب .
فلو شرع المصلّي في التّكبير قبل ظهور الزّوال ثمّ ظهر الزّوال عقب التّكبير أو في أثنائه لم يصحّ الظّهر .
ويعرف الزّوال بزيادة الظّلّ بعد تناهي نقصانه لأنّ الشّمس إذا طلعت رفع لكلّ شاخص ظلّ طويل إلى جانب المغرب ، ثمّ كلّما دامت الشّمس في الارتفاع فالظّلّ ينتقص ، فإذا انتهت الشّمس إلى وسط السّماء - وهي حالة الاستواء وانتصاف النّهار - انتهى نقصان الظّلّ ووقف ، فإذا زاد الظّلّ أدنى زيادةً إلى الجهة الأخرى دلّ ذلك على الزّوال .
قال النّوويّ : إذا أردت معرفة زوال الشّمس فانصب عصا أو غيرها في الشّمس على أرض مستوية وعلّم على طرف ظلّها ثمّ راقبه فإن نقص الظّلّ علمت أنّ الشّمس لم تزل ، ولا تزال ترقبه حتّى يزيد فمتى زاد علمت الزّوال .
ويختلف قدر ما تزول عليه الشّمس من الظّلّ باختلاف الأزمان والأماكن ، فأقصر ما يكون الظّلّ عند الزّوال في الصّيف عند تناهي طول النّهار ، وأطول ما يكون في الشّتاء عند تناهي قصر النّهار .
وأمّا بالنّسبة للأماكن فكلّما قرب المكان من خطّ الاستواء نقص الظّلّ عند الزّوال .
والدّليل على أنّ وقت صلاة الظّهر يدخل عندما تزول الشّمس هو ما روي « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : أمّني جبريل عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثل ظلّه ثمّ قال : وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس قال : ثمّ التفت إليّ جبريل فقال : يا محمّد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين » . والتّفصيل في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ) .
ب - حكم السّواك للصّائم بعد الزّوال :
3 - اختلف الفقهاء في حكم السّواك للصّائم بعد الزّوال :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا بأس بالسّواك للصّائم في جميع نهاره أي قبل الزّوال وبعد الزّوال ، للأحاديث الصّحيحة الكثيرة في فضل السّواك .
وذهب الشّافعيّة في المشهور عندهم والحنابلة إلى أنّه يكره للصّائم التّسوّك بعد الزّوال سواء كان ذلك بسواك يابس أو رطب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لخلوف فم الصّائم أطيب عند اللّه من ريح المسك » . والخلوف إنّما يظهر غالباً بعد الزّوال . والتّفاصيل في مصطلح : ( سواك ، وصيام ) .(/1)
زيادة *
التّعريف :
1 - الزّيادة في اللّغة النّموّ ، تقول : زاد الشّيء يزيد زيداً وزيادةً ، وزائدة الكبد هنيّة من الكبد صغيرة إلى جنبها متنحّية عنها ، وجمعها زوائد .
وزوائد الأسد : أظفاره وأنيابه ، وزئيره وصولته .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّيع :
2 - الرّيع هو الزّيادة والنّماء ، والرّيع في الاصطلاح هو الغلّة كالأجرة والثّمر والدّخل .
ب - غلّة :
3 - الغلّة هي كلّ شيء محصّل من ريع الأرض أو أجرتها ونحو ذلك ، والجمع غلّات وغلال، والغلّة أخصّ من الزّيادة .
ج - نقص :
4 - النّقص والنّقصان مصدرا " نقص " يقال : نقص ينقص نقصاً من باب قتل ، وانتقص إذا ذهب منه شيء بعد تمامه ، ودرهم ناقص غير تامّ الوزن .
أقسام الزّيادة :
أ - أقسامها من حيث الاتّصال والانفصال :
5 - تنقسم الزّيادة من حيث الاتّصال والانفصال إلى قسمين :
أولاً- زيادة متّصلة بالأصل ، وهي إمّا متولّدة منه كالسّمن والجمال ، أو غير متولّدة منه كالغرس والبناء .
ثانياً - زيادة منفصلة عن الأصل كالولد والغلّة .
وهي إمّا متولّدة منه كالولد والثّمر ، أو غير متولّدة منه كالكسب والغلّة .
ب - أقسامها من حيث التّمييز وعدمه :
6 - تنقسم الزّيادة من حيث التّمييز وعدمه إلى ثلاثة أقسام :
زيادة متميّزة كالولد والغراس .
وزيادة غير متميّزة كخلط الحنطة بالحنطة ، أو السّمن بالسّمن .
وزيادة صفة كالطّحن .
ج - أقسامها من حيث كونها من جنس الأصل أو من غير جنسه :
7 - أ - زيادة من جنس الأصل كزيادة ركوع أو سجود في الصّلاة وتسمّى أيضاً زيادةً فعليّةً، وكزيادة سورة في الرّكعتين الثّالثة والرّابعة أي بعد قراءة الفاتحة في كلّ ركعة وتسمّى زيادةً قوليّةً .
ب - زيادة من غير جنس الأصل كالكلام الأجنبيّ في أثناء الصّلاة ، والأكل والشّرب فيها .
القواعد المتعلّقة بالزّيادة :
ذكر الزّركشيّ ثلاث قواعد تتعلّق بالزّيادة :
القاعدة الأولى :
8 - الزّيادة المتّصلة تتبع الأصل في سائر الأبواب من الرّدّ بالعيب والتّفليس وغيرهما ، إلاّ في الصّداق فإنّ الزّوج إذا طلّق قبل الدّخول لا يسترجع مع نصف المهر زيادته إلاّ برضا المرأة . والزّيادة المنفصلة لا تتبع الأصل في الكلّ .
القاعدة الثّانية :
9 - الزّيادة اليسيرة على ثمن المثل لا أثر لها وإن كان فيها غبن ما ، كما في الوكيل بالبيع والشّراء وعدل الرّهن ونحوه إلاّ في موضع واحد وهو ما كان شرعيّاً عامّاً ، كما في المتيمّم إذا وجد الماء يباع بزيادة يسيرة على ثمن المثل لا تلزمه في الأصحّ ، وقيل : إن كانت ممّا يتغابن بمثلها وجب ، والمذهب - أي عند الشّافعيّة - الأوّل ، والفرق بينه وبين غيره أنّ ما وضعه الشّارع وهو حقّ له بني على المسامحة .
أمّا وجدان الواجب بأكثر من المعتاد فينزل منزلة العدم ، كما لو وجد الغاصب المثل يباع بأكثر من ثمنه لا يكلّف تحصيله في الأصحّ .
القاعدة الثّالثة :
10 - الزّيادة على العدد إذا لم تكن شرطاً في الوجوب شرعاً لا يتأثّر بفقدها ، ولهذا لو شهد ثمانية على شخص بالزّنى ، فرجم ثمّ رجع أربعة عن الشّهادة لا شيء عليهم ، فلو رجع منهم خمسة ضمنوا ، لنقصان ما بقي من العدد المشروط .
الأحكام المتعلّقة بالزّيادة :
الزّيادة على الثّلاث في الوضوء :
11 - من سنن الوضوء التّثليث أي غسل الأعضاء الّتي فرضها الغسل ثلاثاً ، وفي تثليث مسح الرّأس ، وفي الزّيادة على الثّلاث في غسل الرّجلين بقصد الإنقاء خلاف ، وأمّا الزّيادة على الثّلاث في غسل الأعضاء فلا بأس به عند الحنفيّة إن كان الغرض من ذلك طمأنينة القلب لا الوسوسة ، والمعتمد عند المالكيّة كراهة الغسلة الرّابعة في غير الرّجلين ، وأمّا في الرّجلين فالمطلوب فيهما الإنقاء حتّى لو زاد على الثّلاث أو الاقتصار على الثّلاث على خلاف في ذلك .
والصّحيح عند الشّافعيّة كراهة الزّيادة على الثّلاث ، وقيل : تحرم ،وقيل : هي خلاف الأولى.
وذهب الحنابلة إلى الكراهة لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ أعرابيّاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء ، فأراه ثلاثاً ثلاثاً ، وقال : هذا الوضوء ، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدّى وظلم » .
الزّيادة في الأذان والإقامة :
12 - الزّيادة المشروعة في الأذان هي عبارة عن التّثويب في أذان الفجر ، والمراد بالتّثويب هو أن يزيد المؤذّن عبارة " الصّلاة خير من النّوم " مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الفجر أو بعد أذانه كما يقول بعض الحنفيّة ، وهو سنّة عند جميع الفقهاء لما ورد عن أنس بن مالك قال : من السّنّة إذا قال المؤذّن في أذان الفجر حيّ على الفلاح قال : الصّلاة خير من النّوم ، الصّلاة خير من النّوم .
وأصل التّثويب « أنّ بلالاً رضي الله عنه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر فقيل : هو نائم ، فقال : الصّلاة خير من النّوم الصّلاة خير من النّوم » ، فأقرّت في تأذين الفجر ، فثبت الأمر على ذلك .
وخصّ التّثويب بالصّبح لما يعرض للنّائم من التّكاسل بسبب النّوم ، واعتبار التّثويب زيادةً إنّما هو بالنّظر إلى أذان بقيّة الصّلوات ، ولا يجوز زيادة شيء في ألفاظ الأذان ، لأنّها توقيفيّة بنصّ الشّارع ، وقد تواتر النّقل على عدم زيادة شيء فيها ، والإقامة كالأذان ، إلاّ أنّه يزيد بعد قوله حيّ على الفلاح قد قامت الصّلاة مرّتين .
الزّيادة في الأذكار المسنونة :
13 - سبق في بحث ( ذكر ) حكم الزّيادة في الأذكار المسنونة فينظر هناك .
الزّيادة على الضّربتين في التّيمّم :
14 - التّيمّم عند الحنفيّة والشّافعيّة ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين .(/1)
وعند المالكيّة والحنابلة ضربة واحدة للوجه واليدين ، والأكمل عندهم ضربتان كالحنفيّة والشّافعيّة ، وأمّا الزّيادة على الضّربتين فلا بأس بها ما دام القصد استيعاب الوجه واليدين بالمسح ، سواء أحصل ذلك بضربتين أم أكثر ، والتّفصيل في مصطلح ( تيمّم ) .
الزّيادة في الفعل والقول في الصّلاة :
15 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ الزّيادة في الصّلاة إمّا أن تكون زيادة أفعال ، أو أقوال . فزيادة الأفعال قسمان :
أحدهما : ما كان من جنس الصّلاة ، فتبطل الصّلاة بعمده ، وإن كان ذلك سهواً فلا بطلان ، ويسجد للسّهو .
والآخر : إن كان من غير جنس الصّلاة ، فيبطل الصّلاة عمده وسهوه وجهله ، إن كان كثيرًا ولم تكن ضرورة . أمّا إن كان لحاجة ، أو كان يسيراً ، فلا يبطل .
والزّيادة القوليّة قسمان : أحدهما : ما يبطل عمده الصّلاة ، ككلام الآدميّين .
والآخر ، ما لا يبطل الصّلاة كالذّكر والدّعاء ، إلاّ أن يخاطب به كقوله لعاطس : يرحمك اللّه.
وأضاف الشّافعيّة أنّ الصّلاة تبطل بتعمّد النّطق بحرفين ، أفهما أم لم يفهما ، وبحرف مفهم كذلك . وقالوا : يعذر من تكلّم بيسير الكلام إن سبق لسانه أو نسي الصّلاة ، أو جهل تحريم الكلام فيها ، وقرب عهده بالإسلام ، ولا يعذر بالكثير من ذلك .
وتفصيل ذلك في مفسدات الصّلاة ، وسجود السّهو .
ومذهب الحنفيّة في الفعل ، أنّ الكثير منه يبطل الصّلاة .
وفي حدّه ثلاثة أقوال ، المختار عندهم : أنّه لو كان المصلّي بحال لو رآه إنسان من بعيد ، فتيقّن أنّه ليس في الصّلاة فهو كثير ، إن كان يشكّ أنّه فيها أو لم يشكّ أنّه فيها ، فهو قليل. وأمّا القول أو الكلام ، فمن تكلّم في صلاته عامداً أو ساهياً بطلت صلاته ، لحديث : « إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس » .
ومنه أيضاً : الأنين والتّأوّه ، وتشميت العاطس ، وكلّ ما هو من القرآن إذا قصد به الجواب، أمّا إذا لم يقصد به الجواب بل الإعلام أنّه في الصّلاة ، فلا تفسد بالاتّفاق عند الحنفيّة .
فلو كان الذّكر من غير القرآن ، كما لو ذكر الشّهادتين عند ذكر المؤذّن لهما ، أو سمع ذكر اللّه ، فقال : جلّ جلاله ، أو ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصلّى عليه تفسد صلاته .
الزّيادة على التّكبيرات الأربع في صلاة الجنازة وأثرها :
16 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ صلاة الجنازة أربع تكبيرات لا يجوز النّقص منها ، والأولى عدم الزّيادة عليها ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، ومقابله البطلان لزيادة ركن ، فإن زاد الإمام عليها تكبيرةً خامسةً ، ففي متابعة المأموم له في تلك الزّيادة أو عدم متابعته له فيها خلاف بين الفقهاء .
فذكر الحنفيّة سوى زفر أنّ الإمام إذا فعل ذلك لم يتابعه المؤتمّ في تلك التّكبيرة ، لأنّها منسوخة ، لما روي أنّه صلى الله عليه وسلم « كبّر أربعاً في آخر صلاة جنازة صلّاها » . وقال زفر : يتابعه لأنّه مجتهد فيه ، لما روي أنّ عليّاً رضي الله عنه كبّر خمساً .
وعند المالكيّة يسلّم المأموم ولا ينتظر إمامه في التّكبيرة الخامسة على رواية ابن القاسم ، ويفارق المأموم إمامه عند الشّافعيّة في التّكبيرة الخامسة بناءً على القول ببطلان الصّلاة بها، وعلى القول بعدم البطلان لا يفارقه ، ولكن لا يتابعه فيها على الأظهر ، وفي تسليمه في الحال أو انتظاره حتّى يسلّم إمامه وجهان أصحّهما الثّاني .
والأولى عند الحنابلة أن لا يزيد على أربع تكبيرات في صلاة الجنازة ، ولا خلاف عندهم أنّه لا تجوز الزّيادة على سبع تكبيرات ، ولا يجوز النّقص عن أربع تكبيرات ، واختلفت الرّواية عندهم فيما زاد على الأربع إلى السّبع ، فظاهر كلام الخرقيّ أنّ الإمام إذا كبّر خمساً تابعه المأموم ، ولا يتابعه في زيادة عليها رواه الأثرم عن أحمد ، لما روي عن « زيد بن أرقم أنّه كبّر على جنازة خمساً وقال : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكبّرها » .
وروى حرب عن أحمد إذا كبّر خمساً لا يكبّر معه ، ولا يسلّم إلاّ مع الإمام ، لأنّها زيادة غير مسنونة للإمام فلا يتابعه المأموم فيها ، كالقنوت في الرّكعة الأولى .
وفي رواية أخرى عن أحمد أنّ المأموم يكبّر مع الإمام إلى سبع ، قال الخلّال : ثبت القول عن أبي عبد اللّه أنّه يكبّر مع الإمام إلى سبع ثمّ لا يزاد على سبع ، ولا يسلّم إلاّ مع الإمام . وتفصيل ذلك في صلاة الجنازة .
الزّيادة في الزّكاة على المقدار الواجب إخراجه :
17 - الأصل أن يخرج المزكّي القدر الواجب عليه لإبراء ذمّته ، فإن زاد فذلك خير ، لقوله تعالى :{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } والزّيادة قد تكون في المقدار أو في الصّفة. فمن أمثلة الزّيادة في صفة الواجب إخراج بنت اللّبون عن بنت المخاض ، فإنّ بنت اللّبون تخرج عن ستّ وثلاثين من الإبل وبنت المخاض تخرج عن خمس وعشرين ، والحقّة عن بنت اللّبون فإنّ الحقّة تخرج عن ستّ وأربعين ، وإخراج الجذعة عن الحقّة فإنّ الجذعة تجب في إحدى وستّين . ومن أمثلة الزّيادة في المقدار إخراج أكثر من صاع في زكاة الفطر، لأنّ الواجب فيها صاع عن كلّ فرد . وتفصيل ذلك محلّه مصطلح : ( زكاة ) .
زيادة الوكيل عمّا حدّده له الموكّل :(/2)
18 - الوكيل لا يملك من التّصرّف إلاّ ما يقتضيه إذن موكّله من جهة النّطق أو جهة العرف، لأنّ تصرّفه بالإذن فاختصّ بما أذن فيه ، وهو مأمور بالاحتياط والغبطة ، فلو وكّله في التّصرّف في زمن مقيّد لم يملك التّصرّف قبله ولا بعده ، لأنّه لم يتناوله إذنه مطلقاً ، ولا عرفاً ، لأنّه قد يؤثّر التّصرّف في زمن الحاجة إليه دون غيره .
وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في الوكالة .
زيادة المبيع وأثرها في الرّدّ بالعيب :
19 - ذكر الحنفيّة أنّ زيادة المبيع المتّصلة المتولّدة كسمن وجمال لا تمنع الرّدّ قبل القبض، وكذا بعده في ظاهر الرّواية ، وللمشتري الرّجوع بالنّقصان ، وليس للبائع قبوله عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمّد له ذلك ،وأمّا غير المتولّدة كغرس وبناء فتمنع الرّدّ مطلقاً. وأمّا زيادة المبيع المنفصلة المتولّدة كالولد والثّمر والأرش فلا تمنع الرّدّ قبل القبض ، فإن شاء ردّهما أو رضي بهما بجميع الثّمن ، وبعد القبض يمتنع الرّدّ ويرجع بحصّة العيب ، وأمّا الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة ككسب ، وغلّة ، وهبة ، فقبل القبض لا تمنع الرّدّ ، فإذا ردّ فهي للمشتري بلا ثمن عند محمّد ولا تطيب له ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف للبائع ولا تطيب له ، وبعد القبض لا تمنع الرّدّ أيضًا ، وتطيب له الزّيادة .
وذكر المالكيّة أنّ المشتري في حالة ردّه المبيع بعيب قديم لبائعه ، يشترك مع البائع في المبيع بمثل نسبة ما زاد من قيمته ، بصبغه أو خياطته على قيمته خالياً عن ذلك معيباً ، فإن قوّم مصبوغاً بخمسة عشر وغير مصبوغ بعشرة شاركه بثلثه ، دلّس بائعه أم لا ، أو يتمسّك بالمبيع ويأخذ أرش العيب القديم ، وتعتبر القيمة يوم البيع على الأرجح .
هذا في الزّيادة المتّصلة ، وذكروا في الزّيادة المنفصلة أنّ المشتري لا يشترك مع البائع فيها عند الرّدّ .
وذكر الشّافعيّة أنّ الزّيادة المتّصلة في المبيع والثّمن تتبع الأصل في الرّدّ ، وهو ما ذكره الحنابلة في نماء المبيع المتّصل كالسّمن وكبر الشّجرة لعدم إمكان إفراد الزّيادة ، ولتعذّر الرّدّ بدونها ، ولأنّ الملك قد تجدّد بالفسخ فكانت الزّيادة المتّصلة فيه تابعةً للأصل كالعقد . وأمّا الزّيادة المنفصلة في المبيع والثّمن عيناً كالولد ، أو منفعةً كالأجرة ، فهي من المبيع للمشتري ، ومن الثّمن للبائع ، وهو مذهب الحنابلة في نماء المبيع المنفصل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الخراج بالضّمان » . والزّيادة المنفصلة في المبيع والثّمن لا تمنع الرّدّ عند الشّافعيّة بالعيب عملاً بمقتضى العيب . والتّفصيل في خيار العيب .
الزّيادة على الثّمن وأثرها :
20 - تتّضح آثار الزّيادة على الثّمن أو النّقص منه في الإقالة .
ينظر مصطلح : ( إقالة ، ف 5 /327 )
زيادة المشفوع فيه هل تكون للمشتري أو للشّفيع :
21 - اختلف الفقهاء في زيادة المشفوع فيه هل تكون للمشتري أو للشّفيع ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ زيادة المبيع الّتي حدثت في يد المشتري قبل الآخذ منه بالشّفعة ، إن كانت متّصلةً غير متميّزة كالشّجر إذا كبر فهي للشّفيع ، لعدم تميّزها فتبعت الأصل ، كما لو ردّ بعيب أو خيار أو إقالة ، وإن كانت تلك الزّيادة منفصلةً متميّزةً كالغلّة والأجرة والطّلع المؤبّر والثّمرة الظّاهرة ، فهي للمشتري لا حقّ للشّفيع فيها ، لأنّها حدثت في ملكه ، وتكون للمشتري مبقاةً في رءوس النّخل إلى الجذاذ .
وللشّافعيّة في الزّيادة المتميّزة غير الظّاهرة قولان :
أحدهما - وهو القديم - : تتبع الأصل كما في البيع .
والثّاني - وهو الجديد - : لا تتبع الأصل لأنّه استحقاق بغير تراض فلا يؤخذ به إلاّ ما دخل بالعقد ويخالف البيع ، لأنّه استحقاق عن تراض يقدر فيه على الاستثناء ، فإذا لم يستثن تبع الأصل .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ زيادة المشفوع فيه كالثّمر الّذي على النّخل للشّفيع إذا شرطه في البيع، لأنّه لا يدخل بدون الشّرط ، فإذا شرطه دخل في البيع واستحقّ بالشّفعة ، لأنّه باعتبار الاتّصال صار كالنّخل وهذا استحسان ، والقياس أن لا شفعة فيه لعدم التّبعيّة ، حتّى لا يدخل في البيع بدون الشّرط ، وإذا دخل في الشّفعة فإذا جذّه المشتري نقص حصّته من الثّمن لأنّه صار مقصوداً بالذّكر ، فقابله شيء من الثّمن ، وليس له أن يأخذ الثّمرة لأنّها نفليّة أي زيادة ، ولو لم يكن على النّخل ثمر وقت البيع فأثمر فللشّفيع أخذه بالثّمرة ، لأنّ البيع سرى إليها فكانت تبعاً ، فإذا جذّها المشتري فللشّفيع أن يأخذ النّخل بجميع الثّمن ، لأنّ الثّمرة لم تكن موجودةً وقت العقد ، فلم تكن مقصودةً فلا يقابلها شيء من الثّمن .
وعند المالكيّة أنّ للمشتري المأخوذ منه بالشّفعة غلّته ، أي غلّة الشّقص المشفوع فيه الّتي استغلّها قبل أخذه منه بالشّفعة ، لأنّه كان ضامناً له ، وفي الحديث « الخراج بالضّمان » . وتفصيل ذلك في ( شفعة ) .
زيادة المرهون :
22 - نصّ الكاسانيّ من الحنفيّة على أنّ زيادة المرهون إن لم تكن متولّدةً من الأصل ولا في حكم المتولّد منه كالكسب والهبة والصّدقة ، فإنّ تلك الزّيادة لا يثبت فيها حكم الرّهن ، لأنّها ليست مرهونةً بنفسها ، ولا هي بدل المرهون ، ولا جزء منه ، ولا بدل جزء منه . وإن كانت تلك الزّيادة متولّدةً من الأصل كالولد والثّمر واللّبن والصّوف ، أو في حكم المتولّدة منه كالأرش والعقر فهي مرهونة تبعاً للأصل ، لأنّ الرّهن حقّ لازم فيسري إلى التّبع .(/3)
وزيادة المرهون عند المالكيّة ، وهي الّتي يعبّرون عنها بالغلّة ، كاللّبن وما تولّد منه ، وعسل النّحل ، لا تدخل في الرّهن إذا لم يشترط المرتهن دخولها ، بخلاف الجنين في بطن الأمّ ، فإنّه يندرج في الرّهن ، سواء أحملت به قبل الرّهن أم بعده .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ زيادة المرهون إن كانت متّصلةً كسمن الدّابّة وكبر الشّجرة تبعت الأصل في الرّهن ، وإن كانت منفصلةً كالولد والثّمر لم تتبع .
وذهب الحنابلة إلى أنّ نماء الرّهن جميعه وغلّاته تكون رهناً في يد من الرّهن في يده كالأصل ، وإذا احتيج إلى بيعه في وفاء الدّين بيع مع الأصل ، سواء في ذلك المتّصل كالسّمن والتّعلّم ، والمنفصل كالكسب والأجرة والولد والثّمرة واللّبن والصّوف والشّعر .
لأنّه حكم يثبت في العين بعقد المالك فيدخل فيه النّماء والمنافع كالملك بالبيع وغيره .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( رهن ) .
زيادة الموهوب وأثرها في الرّجوع في الهبة :
23 - الزّيادة في الموهوب إمّا أن تكون متّصلةً ، وإمّا أن تكون منفصلةً .
فإن كانت منفصلةً كالثّمرة والولد فإنّها لا تؤثّر في الرّجوع فيها اتّفاقاً .
وإن كانت متّصلةً منعت من الرّجوع عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في إحدى الرّوايتين عن أحمد ، لأنّه لا يمكن الرّجوع فيها دون تلك الزّيادة ، ولا سبيل إلى الرّجوع بالهبة مع تلك الزّيادة لعدم ورود العقد عليها .
وعند الشّافعيّة لا تمنع من الرّجوع وهو ما ذهب إليه الحنابلة أيضاً في رواية أخرى عن أحمد لعدم تمييزها فتتبع الأصل . والتّفصيل في مصطلح : ( هبة ) .
زيادة الصّداق وحكمها في الطّلاق قبل الدّخول :
24 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، إلى أنّ الزّوج إذا طلّق زوجته قبل الدّخول تشطّر الصّداق سواء بقي على حاله أو حدثت فيه زيادة متّصلة أو منفصلة ، أي أنّ تلك الزّيادة تأخذ حكم الأصل ، فيرجع الزّوج عليها بنصف ما دفعه لها بزيادته المتّصلة أو المنفصلة ، لأنّ تلك الزّيادة في حكم جزء من العين ، والحادث منها بعد العقد قبل القبض كالموجود وقت العقد . وذهب الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ زيادة الصّداق المنفصلة تكون للمرأة ، ويرجع الزّوج بنصف الأصل فقط ، لأنّ تلك الزّيادة نماء ملكها ، والرّجوع بنصف الأصل لا يلحق الضّرر بواحد منهما .
وإن كانت تلك الزّيادة متّصلةً ، فإنّ الزّوج في هذه الحالة لا يستقلّ بالرّجوع إلى النّصف ذاته ، بل يخيّر الزّوجة بين ردّ نصفه زائداً ، وبين إعطاء نصف قيمته يوم العقد .
وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح ( صداق ) .
زيادة التّركة الحاصلة بعد الوفاة قبل أداء الدّين :
25 - اختلف الفقهاء في زيادة التّركة ونمائها الّذي حدث بعد وفاة المدين وقبل أداء الدّين ، كأجرة دار للسّكنى ، وكدابّة ولدت أو سمنت ، وكشجر صار له ثمر ، هل يضمّ إلى التّركة لمصلحة الدّائنين أو هو ملك للوارث .
وهذا الخلاف مترتّب على خلاف سابق بين الفقهاء في انتقال تركة من عليه دين إلى وارثه، وحاصل ما قالوه في ذلك أنّهم اتّفقوا على أنّ التّركة تنتقل إلى الوارث إذا لم يتعلّق بها ديون من حين وفاة الميّت ، فإن تعلّق بالتّركة دين فقد اختلفوا في انتقالها إلى الوارث بعد الوفاة على ثلاثة أقوال : أحدها : وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة في أشهر الرّوايتين ، أنّ أموال التّركة تنتقل إلى ملك الورثة بمجرّد موت المورّث مع تعلّق الدّين بها ، سواء أكان الدّين مستغرقًا للتّركة أم غير مستغرق لها .
والثّاني : وهو ما ذهب إليه الحنفيّة أنّه يميّز بين ما إذا كانت التّركة مستغرقةً بالدّين أو كانت غير مستغرقة به ، فإن استغرق الدّين أموال التّركة تبقى أموال التّركة على حكم ملك الميّت ولا تنتقل إلى ملك الورثة ، وإن كان الدّين غير مستغرق فالرّأي الرّاجح أنّ أموال التّركة تنتقل إلى الورثة بمجرّد موت المورّث ، مع تعلّق الدّين بهذه الأموال .
والثّالث : وهو قول المالكيّة أنّ أموال التّركة تبقى على حكم ملك الميّت بعد موته إلى أن يسدّد الدّين سواء أكان الدّين مستغرقاً لها أم غير مستغرق .
وعلى هذا فإنّ من قال بأنّ التّركة تنتقل إلى الورثة بعد الوفاة وقبل أداء الدّين قال : إنّ الزّيادة للوارث وليست للدّائن ، ومن قال بعدم انتقالها قال : تضمّ الزّيادة إلى التّركة لوفاء الدّين فإن فضل شيء انتقل إلى الورثة . والتّفصيل في مصطلح : ( تركة ) .
زيادة التّعزير عن أدنى الحدود :
26 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ التّعزير لا يبلغ الحدّ .
وذهب المالكيّة إلى أنّ للإمام أن يزيد على الحدّ مع مراعاة المصلحة الّتي لا يشوبها الهوى. وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كان بالجلد فإنّه يجب أن ينقص عن أقلّ حدود من يقع عليه التّعزير ، واختلفت الرّواية عن أحمد في قدر جلد التّعزير ، فروي أنّه لا يبلغ به الحدّ ، ونصّ مذهبه أن لا يزاد على عشر جلدات في التّعزير ، انظر مصطلح : ( تعزير ) .
الزّيادة على الفرائض والسّنن الرّاتبة " النّفل المطلّق " :
27 - قسّم الماورديّ الزّيادة على فعل الفرائض والسّنن الرّاتبة وهو ما يسمّى النّفل المطلق ثلاثة أقسام :(/4)
أحدها : أن تكون الزّيادة رياءً للنّاظرين وتصنّعاً للمخلوقين ، حتّى يستعطف بها القلوب النّافرة ويخدم بها العقول الواهية ، فيتبهرج بالصّلحاء وليس منهم ، ويتدلّس في الأخيار وهو ضدّهم ، وقد ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمرائي بعمله مثلاً فقال : « المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور » . يريد بالمتشبّع بما لا يملك : المتزيّن بما ليس فيه، وقوله : كلابس ثوبي زور : هو الّذي يلبس ثياب الصّلحاء ، فهو بريائه محروم الأجر، مذموم الذّكر ، لأنّه لم يقصد وجه اللّه تعالى .
والقسم الثّاني : أن يفعل الزّيادة اقتداءً بغيره ، وهذا قد تثمره مجالسة الأخيار الأفاضل ، وتحدثه مكاثرة الأتقياء الأماثل . ولذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل » .
فإذا كاثرهم المجالس وطاولهم المؤانس أحبّ أن يقتدي بهم في أفعالهم ، ويتأسّى بهم في أعمالهم ، ولا يرضى لنفسه أن يقصّر عنهم ، ولا أن يكون في الخير دونهم ، فتبعثه المنافسة على مساواتهم ، وربّما دعته الحميّة إلى الزّيادة عليهم ، والمكاثرة لهم ، فيصيرون سبباً لسعادته ، وباعثاً على استزادته .
والقسم الثّالث : أن يفعل الزّيادة ابتداءً من نفسه التماساً لثوابها ورغبةً في الزّلفة بها ، فهذا من نتائج النّفس الزّاكية ، ودواعي الرّغبة الواقية الدّالّين على خلوص الدّين وصحّة اليقين ، وذلك أفضل أحوال العاملين ، وأعلى منازل العابدين .
28 - ثمّ لما يفعله من الزّيادة حالتان :
إحداهما : أن يكون مقتصدًا فيها وقادراً على الدّوام عليها ، فهي أفضل الحالتين ، وأعلى المنزلتين ، عليها انقرض أخيار السّلف ، وتتبّعهم فيها فضلاء الخلف ، وقد روت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « عليكم بما تطيقون فواللّه لا يملّ اللّه حتّى تملّوا ، وكان أحبّ الدّين إليه ما دام عليه صاحبه » .
والحالة الثّانية : أن يستكثر منها استكثار من لا ينهض بدوامها ، ولا يقدر على اتّصالها ، فهذا ربّما كان بالمقصّر أشبه ، لأنّ الاستكثار من الزّيادة إمّا أن يمنع من أداء اللّازم فلا يكون إلاّ تقصيراً ، لأنّه تطوّع بزيادة أحدثت نقصاً ، وبنفل منع فرضاً ، وإمّا أن يعجز عن استدامة الزّيادة ويمنع من ملازمة الاستكثار ، من غير إخلال بلازم ولا تقصير في فرض ، فهي إذن قصيرة المدى قليلة اللّبث ، وقليل العمل في طويل الزّمان أفضل عند اللّه عزّ وجلّ من كثير العمل في قليل الزّمان ، لأنّ المستكثر من العمل في الزّمان القصير قد يعمل زماناً ويترك زماناً ، فربّما صار في زمان تركه لاهياً أو ساهياً ، والمقلّل في الزّمان الطّويل مستيقظ الأفكار مستديم التّذكار ، وقد روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ لكلّ شيء شرّةً ، ولكلّ شرّة فترةً ، فإن كان صاحبها سدّد وقارب فارجوه ، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدّوه » .
فجعل للإسلام شرّةً وهي الإيغال في الإكثار ، وجعل للشّرّة فترةً وهي الإهمال بعد الاستكثار ، فلم يخل بما أثبت من أن تكون هذه الزّيادة تقصيراً أو إخلالاً ، ولا خير في واحد منهما .
الزّيادة على القرآن الكريم :
29 - القرآن الكريم كلام اللّه المعجز الّذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وحفظه من الزّيادة والنّقص ، قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فالذّكر هو القرآن الكريم ، كما قال القرطبيّ ، ومعنى قوله تعالى { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي من أن يزاد فيه أو ينقص منه .
قال قتادة وثابت البنانيّ : حفظه اللّه من أن تزيد فيه الشّياطين باطلاً ، أو ينقص منه حقّاً ، فتولّى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظاً ، وقال في غيره { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ } فوكّل حفظه إليهم فبدّلوا وغيّروا . ثمّ إنّ اللّه سبحانه وتعالى وصف القرآن بأنّه عزيز ، أي ممتنع عن النّاس أن يقولوا مثله ، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ومعنى قوله تعالى : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } كما قال القرطبيّ نقلاً عن السّدّيّ وقتادة : أي أنّ الشّيطان لا يستطيع أن يغيّر فيه ولا يزيد ولا ينقص .
وذكر صاحب روح المعاني أنّ في قوله تعالى : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } تمثيلاً لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته ، فلا يمكن أعداؤه الوصول إليه ، لأنّه في حصن حصين من حماية الحقّ المبين .
مواطن البحث :
30 - يبحث عن الأحكام الخاصّة بمصطلح زيادة في الوضوء ، والتّيمّم ، والصّلاة ، والمبيع، والثّمن ، والغصب ، والشّفعة ، والرّهن ، والهبة ، والصّداق ، والتّركة ، والتّعزير، والحدّ ، والتّكليف .(/5)
زيارة القبور *
حكم زيارة القبور :
1 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه تندب للرّجال زيارة القبور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنّها تذكّر بالآخرة » .
ولأنّه صلى الله عليه وسلم « كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى ويقول : السّلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجّلون ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون » . وزاد في رواية : « أسأل اللّه لي ولكم العافية » .
أمّا النّساء ، فمذهب الجمهور أنّه تكره زيارتهنّ للقبور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لعن اللّه زوّارات القبور » . ولأنّ النّساء فيهنّ رقّة قلب ، وكثرة جزع ، وقلّة احتمال للمصائب ، وهذا مظنّة لطلب بكائهنّ ، ورفع أصواتهنّ .
وذهب الحنفيّة - في الأصحّ - إلى أنّه يندب للنّساء زيارة القبور كما يندب للرّجال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور » الحديث .
وقال الخير الرّمليّ : إن كان ذلك لتجديد الحزن والبكاء والنّدب وما جرت به عادتهنّ فلا تجوز ، وعليه حمل حديث « لعن اللّه زوّارات القبور » . وإن كان للاعتبار والتّرحّم من غير بكاء ، والتّبرّك بزيارة قبور الصّالحين فلا بأس - إذا كنّ عجائز - ويكره إذا كنّ شوابّ ، كحضور الجماعة في المساجد . قال ابن عابدين : وهو توفيق حسن .
وقال الحنابلة : تكره زيارة القبور للنّساء ، لحديث أمّ عطيّة رضي الله عنها « نهينا عن اتّباع الجنائز ولم يعزم علينا » فإن علم أنّه يقع منهنّ محرّم ، حرمت زيارتهنّ القبور ، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : « لعن اللّه زوّارات القبور » . قالوا : وإن اجتازت امرأة بقبر في طريقها فسلّمت عليه ودعت له فحسن ، لأنّها لم تخرج لذلك .
ويستثنى من الكراهة زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنّه يندب لهنّ زيارته ، وكذا قبور الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام ، لعموم الأدلّة في طلب زيارته صلى الله عليه وسلم .
زيارة قبر الكافر :
2 - ذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّ زيارة قبر الكافر جائزة .
وقال الماورديّ : تحرم زيارة قبر الكافر .
قال الحنابلة : ولا يسلّم من زار قبر كافر عليه ، ولا يدعو له بالمغفرة .
شدّ الرّحال لزيارة القبور :
3 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه يجوز شدّ الرّحل لزيارة القبور ، لعموم الأدلّة ، وخصوصاً قبور الأنبياء والصّالحين .
ومنع منه بعض الشّافعيّة ، وابن تيميّة - من الحنابلة - لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى » ، وأخرج أحمد في المسند عن عمر بن عبد الرّحمن بن الحارث قال : « لقي أبو بصرة الغفاريّ أبا هريرة ، وهو جاء من الطّور فقال : من أين أقبلت ؟ قال : من الطّور ، صلّيت فيه . قال : أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت ، إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى » . ونقل ابن تيميّة هذا المذهب عن بعض الصّحابة والتّابعين .
وحمل القائلون بالجواز الحديث على أنّه خاصّ بالمساجد ، فلا تشدّ الرّحال إلاّ لثلاثة منها . بدليل جواز شدّ الرّحال لطلب العلم وللتّجارة ، وفي رواية « لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصّلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا » .
زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
4 - لا خلاف بين العلماء في استحباب زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي زيارة قبور الأنبياء والأولياء تفصيل ينظر في ( زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ) .
آداب زيارة القبور :
5 - قال الحنفيّة : السّنّة زيارتها قائمًا ، والدّعاء عندها قائماً ، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع ، ويقول : « السّلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر اللّه لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر » .
- أو يقول : « السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون ، نسأل اللّه لنا ولكم العافية » ثمّ يدعو قائماً ، طويلاً .
وفي شرح المنية : يدعو قائماً مستقبل القبلة ، وقيل : يستقبل وجه الميّت .
وقال الشّافعيّة : يندب أن يقول الزّائر : سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، اللّهمّ لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنّا بعدهم ، وأن يقرأ ما تيسّر من القرآن ويدعو لهم ، وأن يسلّم على المزور من قبل وجهه ، وأن يتوجّه في الدّعاء إلى القبلة ، وعن الخراسانيّين إلى وجهه ، وعليه العمل .
وقال الحنابلة : سنّ وقوف زائر أمامه قريباً منه ، وقول السّلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أو أهل الدّيار من المؤمنين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون ، ويرحم اللّه المستقدمين منكم أخرين ، نسأل اللّه لنا ولكم العافية ، اللّهمّ لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنّا بعدهم ، واغفر لنا ولهم . وفي القنية من كتب الحنفيّة : قال أبو اللّيث : لا نعرف وضع اليد على القبر سنّةً ولا مستحبّاً ولا نرى بأساً ، وعن جار اللّه العلّامة : إنّ مشايخ مكّة ينكرون ذلك ، ويقولون : إنّه عادة أهل الكتاب ، وفي إحياء علوم الدّين : إنّه من عادة النّصارى .(/1)
قال شارح المنية : لا شكّ أنّه بدعة ، لا سنّة فيه ولا أثر عن صحابيّ ولا عن إمام ممّن يعتمد عليه فيكره ، ولم يعهد الاستلام في السّنّة إلاّ للحجر الأسود ، والرّكن اليمانيّ خاصّةً . وقال الحنابلة : لا بأس بلمس قبر بيد لا سيّما من ترجى بركته ، وقال ابن تيميّة : اتّفق السّلف على أنّه لا يستلم ولا يقبّل إلاّ الحجر الأسود ، والرّكن اليمانيّ يستلم ولا يقبّل .
بدع زيارة القبور :
6 - يقع لكثير من النّاس أمور مكروهة في زيارتهم للقبور ، ذكرها العلماء في مظانّها ، وفي كتب الآداب . وينظر ما تقدّم في زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حول منع اجتماع العامّة في بعض الأضرحة .(/2)
زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم *
التّعريف :
1 - الزّيارة : اسم من زاره يزوره زوراً وزيارةً ، قصده مكرماً له .
وزيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته تتحقّق بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم .
الحكم التّكليفيّ :
2 - أجمعت الأمّة الإسلاميّة سلفاً وخلفاً على مشروعيّة زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد ذهب جمهور العلماء من أهل الفتوى في المذاهب إلى أنّها سنّة مستحبّة ، وقالت طائفة من المحقّقين : هي سنّة مؤكّدة ، تقرب من درجة الواجبات ، وهو المفتى به عند طائفة من الحنفيّة . وذهب الفقيه المالكيّ أبو عمران موسى بن عيسى الفاسيّ إلى أنّها واجبة .
دليل مشروعيّة الزّيارة :
3 - من أدلّة مشروعيّة زيارته صلى الله عليه وسلم : قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } فإنّه صلى الله عليه وسلم حيّ في قبره بعد موته ، كما أنّ الشّهداء أحياء بنصّ القرآن ، وقد صحّ قوله صلى الله عليه وسلم : « الأنبياء أحياء في قبورهم » ، وإنّما قال : هم أحياء أي لأنّهم كالشّهداء بل أفضل ، والشّهداء أحياء عند ربّهم ، وفائدة التّقييد بالعنديّة الإشارة إلى أنّ حياتهم ليست بظاهرة عندنا وهي كحياة الملائكة .
وفي صحيح مسلم في حديث الإسراء « قال صلى الله عليه وسلم : مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلّي في قبره » .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « فزوروا القبور ، فإنّها تذكر الموت » فهو دليل على مشروعيّة زيارة القبور عامّةً ، وزيارته صلى الله عليه وسلم أولى ما يمتثل به هذا الأمر ، فتكون زيارته داخلةً في هذا الأمر النّبويّ الكريم .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي » .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » . فاستدلّ بعض الفقهاء بهذه الأدلّة على وجوب زيارته صلى الله عليه وسلم لما في الأحاديث الأخرى من الحضّ أيضاً .
وحملها الجمهور على الاستحباب ، ولعلّ ملحظهم في ذلك أنّ هذه الأدلّة ترغّب بتحصيل ثواب أو مغفرة أو فضيلة ، وذلك يحصل بوسائل أخر ، فلا تفيد هذه الأدلّة الوجوب .
قال القاضي عياض في كتاب الشّفاء : وزيارة قبره عليه الصلاة والسلام سنّة من سنن المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغّب فيها .
فضل زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
4 - دلّت الدّلائل السّابقة على عظمة فضل زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجزيل مثوبتها فإنّها من أهمّ المطالب العالية والقربات النّافعة المقبولة عند اللّه تعالى ، فبها يرجو المؤمن مغفرة اللّه تعالى ورحمته وتوبته عليه من ذنوبه ، وبها يحصل الزّائر على شفاعة خاصّة من النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، وما أعظمه من فوز .
وعلى ذلك انعقد إجماع المسلمين في كافّة العصور ، كما صرّح به عياض والنّوويّ والسّنديّ وابن الهمام .
قال الحافظ ابن حجر : إنّها من أفضل الأعمال وأجلّ القربات الموصّلة إلى ذي الجلال ، وإنّ مشروعيّتها محلّ إجماع بلا نزاع .
وكذلك قال القسطلّانيّ : اعلم أنّ زيارة قبره الشّريف من أعظم القربات وأرجى الطّاعات ، والسّبيل إلى أعلى الدّرجات .
آداب زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
5 - أ - أن ينوي زيارة المسجد النّبويّ أيضاً لتحصيل سنّة زيارة المسجد وثوابها لما في الحديث عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الأقصى » .
ب - الاغتسال لدخول المدينة المنوّرة ، ولبس أنظف الثّياب ، واستشعار شرف المدينة لتشرّفها به صلى الله عليه وسلم .
ج - المواظبة على صلاة الجماعة في المسجد النّبويّ مدّة الإقامة في المدينة ، عملاً بالحديث الثّابت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام » .
د - أن يتبع زيارته صلى الله عليه وسلم بزيارة صاحبيه شيخي الصّحابة رضي اللّه عنهما وعنهم جميعاً ، أبي بكر الصّدّيق ، وقبره إلى اليمين قدر ذراع ، وعمر يلي قبر أبي بكر إلى اليمين أيضاً .
ما يكره في زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
6 - يقع لكثير من النّاس أمور مكروهة في زيارتهم لقبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشير إلى أهمّها :
أ - التّزاحم عند الزّيارة ، وذلك أمر لا موجب له ، بل هو خلاف الأدب ، لا سيّما إذا أدّى إلى زحام النّساء فإنّ الأمر شديد .
ب - رفع الأصوات بالصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو بالدّعاء عند زيارته صلى الله عليه وسلم .
ج - التّمسّح بقبره الشّريف صلى الله عليه وسلم أو بشبّاك حجرته . أو إلصاق الظّهر أو البطن بجدار القبر .
قال ابن قدامة : ولا يستحبّ التّمسّح بحائط قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا تقبيله ، قال أحمد : ما أعرف هذا .
قال الأثرم : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسّون قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقومون من ناحية فيسلّمون . قال أبو عبد اللّه : وهكذا كان ابن عمر يفعل .(/1)
وقال النّوويّ منبّهًا محذّراً : ولا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم ، ويكره إلصاق الظّهر والبطن بجدار القبر . قالوا : ويكره مسحه باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد منه ، كما يبعد منه لو حضره في حياته صلى الله عليه وسلم هذا هو الصّواب الّذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ، ولا يغترّ بمخالفة كثيرين من العوّام وفعلهم ذلك ، فإنّ الاقتداء والعمل إنّما يكون بالأحاديث الصّحيحة وأقوال العلماء ، ولا يلتفت إلى محدثات العوّام وغيرهم وجهالاتهم . قال صلى الله عليه وسلم : « لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم » .
معنى الحديث لا تعطّلوا البيوت من الصّلاة فيها والدّعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور ، فأمر بتحرّي العبادة بالبيوت ونهى عن تحرّيها عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون من النّصارى ومن تشبّه بهم من هذه الأمّة . والعيد اسم ما يعود من الاجتماع العامّ على وجه معتاد عائداً ما يعود السّنة أو يعود الأسبوع أو الشّهر ونحو ذلك .
قال في عون المعبود : قال ابن القيّم : العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمن ومكان مأخوذ من المعاودة والاعتياد ، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الّذي يقصد فيه الاجتماع والانتياب بالعبادة وبغيرها كما أنّ المسجد الحرام ومنىً ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها اللّه تعالى عيداً للحنفاء ومثابةً للنّاس ، كما جعل أيّام العيد منها عيداً . وكان للمشركين أعياد زمانيّة ومكانيّة فلمّا جاء اللّه بالإسلام أبطلها وعوّض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النّحر ، كما عوّضهم عن أعياد المشركين المكانيّة بكعبة ومنىً ومزدلفة وسائر المشاعر .
قال المناويّ في فيض القدير : معناه النّهي عن الاجتماع لزيارته اجتماعهم للعيد ، إمّا لدفع المشقّة أو كراهة أن يتجاوزوا حدّ التّعظيم . وقيل : العيد ما يعاد إليه أي لا تجعلوا قبري عيداً تعودون إليه متى أردتم أن تصلّوا عليّ ، فظاهره منهيّ عن المعاودة والمراد المنع عمّا يوجبه ، وهو ظنّهم بأنّ دعاء الغائب لا يصل إليه ، ويؤيّده قوله : « وصلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم » أي لا تتكلّفوا المعاودة إليّ فقد استغنيتم بالصّلاة عليّ .
قال المناويّ : ويؤخذ منه أنّ اجتماع العامّة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السّنة ويقولون : هذا يوم مولد الشّيخ ، ويأكلون ويشربون وربّما يرقصون فيه منهيّ عنه شرعاً ، وعلى وليّ الشّرع ردعهم على ذلك ، وإنكاره عليهم وإبطاله .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة : الحديث يشير إلى أنّ ما ينالني منكم من الصّلاة والسّلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم عنه ، فلا حاجة بكم إلى اتّخاذه عيداً .
صفة زيارته صلى الله عليه وسلم :
7 - إذا أراد الزّائر زيارته صلى الله عليه وسلم فلينو زيارة مسجده الشّريف أيضاً ، لتحصل سنّة زيارة المسجد وثوابها .
وإذا عاين بساتين المدينة صلّى عليه صلى الله عليه وسلم وقال : اللّهمّ هذا حرم نبيّك فاجعله وقايةً لي من النّار وأماناً من العذاب وسوء الحساب .
وإذا وصل باب المسجد النّبويّ دخل وهو يقول الذّكر المعروف عند دخول المساجد : « اللّهمّ صلّ على محمّد ، ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك » .
وعند الخروج يقول ذلك ، لكن بلفظ " وافتح لي أبواب فضلك » .
ويصلّي ركعتي تحيّة المسجد ، ثمّ يقصد الحجرة الشّريفة الّتي فيها قبره عليه الصلاة والسلام فيستدبر القبلة ويستقبل القبر ويقف أمام النّافذة الدّائريّة اليسرى مبتعداً عنها قدر أربعة أذرع إجلالاً وتأدّباً مع المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو أمام وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيسلّم عليه دون أن يرفع صوته ، بأيّ صيغة تحضره من صيغ التّسليم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويردف ذلك بالصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم بما يحضره أيضاً
8- وقد أورد العلماء عبارات كثيرةً صاغوها لتعليم النّاس ، ضمّنوها ثناءً على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فيدعو الإنسان بدعاء زيارة القبور ويصلّي ويسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيدعو بما يفتح اللّه عليه .
9- وإن كان أحد قد أوصاه بالسّلام عليه صلى الله عليه وسلم فليقل : السّلام عليك يا رسول اللّه من فلان بن فلان ، أو فلان بن فلان يسلّم عليك يا رسول اللّه ، أو ما شابه ذلك .
10 - ثمّ يتأخّر إلى صوب اليمين قدر ذراع اليد للسّلام على الصّدّيق الأكبر سيّدنا أبي بكر رضي الله عنه ، لأنّ رأسه عند كتف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويسلّم عليه بما يحضره من الألفاظ الّتي تليق بمقام الصّدّيق رضي الله عنه .
11 - ثمّ يتنحّى صوب اليمين قدر ذراع للسّلام على الفاروق الّذي أعزّ اللّه به الإسلام سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، ويسلّم عليه بما يحضره من الألفاظ الّتي تليق بمقامه رضي الله عنه .
12 - ثمّ يرجع ليقف قبالة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كالأوّل ، ويدعو متشفّعاً به بما شاء من الخيرات له ولمن يحبّ وللمسلمين .
ويراعي في كلّ ذلك أحوال الزّحام بحيث لا يؤذي مسلماً .(/2)
زيارة *
التّعريف :
1 - الزّيارة في اللّغة : القصد ، يقال : زاره يزوره زوراً وزيارةً : قصده وعاده .
وفي العرف هي قصد المزور إكراماً له واستئناساً به .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
العيادة :
2 - هي من عاد المريض يعوده عيادةً : إذا زاره في مرضه . فالعيادة على هذا أخصّ من الزّيارة .
الحكم التّكليفيّ :
3 - تختلف أحكام الزّيارة باختلاف أسبابها ، والمزور ، والزّائر .
زيارة قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم :
4 - زيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أهمّ القربات وأفضل المندوبات ، وقد نقل صاحب فتح القدير عن مناسك الفارسيّ وشرح المختار : أنّ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قريبة من الوجوب . وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم : « من زار قبري وجبت له شفاعتي »، وروي عنه صلى الله عليه وسلم : « من جاءني زائراً لا يعلم له حاجةً إلاّ زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة » .
والتّفصيل في مصطلح : ( زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ) .
زيارة القبور :
5 - تسنّ زيارة قبور المسلمين للرّجال بدون سفر ، لخبر « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها » .
ويكره للنّساء لحديث أمّ عطيّة : « نهينا عن زيارة القبور ، ولم يعزم علينا » .
والتّفصيل في مصطلح : ( زيارة القبور ) .
زيارة الأماكن :
6 - وردت نصوص وآثار تدعو إلى زيارة أماكن بعينها .
ومنها ما ورد في مسجد قباء وهو قول اللّه تعالى : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } « وكان صلى الله عليه وسلم يزوره كلّ سبت » .
والمساجد الثّلاثة الّتي ورد الحديث بشدّ الرّحال إليها وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم :
« لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الأقصى » .
ومنها جبل أحد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « جبل يحبّنا ونحبّه » .
وغير ذلك من الأماكن الّتي ورد فيها نصّ بذلك فتستحبّ زيارتها .
زيارة الصّالحين ، والإخوان :
7 - تسنّ زيارة الصّالحين والإخوان ، والأصدقاء والجيران ، والأقارب وصلتهم ، وينبغي أن تكون زيارتهم على وجه يرتضونه ، وفي وقت لا يكرهونه .
كما يستحبّ أن يطلب من أخيه الصّالح أن يزوره ويكثر زيارته إذا لم يشقّ ذلك .
وقد جاء في الأثر : « أنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ، فأرصد اللّه تعالى له على مدرجته ملكاً ، فلمّا أتى عليه قال : أين تريد ؟ قال : أريد أخاً لي في هذه القرية ، قال : هل لك عليه من نعمة تربّها ، قال : لا ، غير أنّي أحببته في اللّه عزّ وجلّ ، قال : فإنّي رسول اللّه إليك ، بأنّ اللّه قد أحبّك كما أحببته فيه » .
وفي الحديث القدسيّ : « حقّت محبّتي للمتحابّين في ، وحقّت محبّتي للمتناصحين في ، وحقّت محبّتي للمتزاورين في » . وعن أنس رضي الله عنه : « إذا جاءكم الزّائر فأكرموه».
زيارة الزّوجة لأهلها ووالديها ، وزيارتهم لها :
8 - قال المالكيّة والحنفيّة في القول المفتى به عندهم : للمرأة الخروج لزيارة والديها كلّ جمعة ، ومحارمها كلّ سنة ولو بغير إذن الزّوج ، لأنّ ذلك من المصاحبة بالمعروف المأمور بها ، ومن صلة الرّحم . وقيّده المالكيّة بأن يكون الوالدان في البلد .
والصّحيح من مذهب الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة أنّ الزّوج لا يمنع أبوي الزّوجة من الدّخول عليها في كلّ جمعة ، ولا يمنع غيرهما من المحارم في كلّ سنة .
وكذا بالنّسبة لأولادها من غيره إن كانوا صغاراً ، لا يمنعهم الزّوج من الدّخول إليها كلّ يوم مرّةً ، وإن اتّهم والديها بإفسادها ، فيقضى لهما بالدّخول مع امرأة أمينة من جهة الزّوج وعليه أجرتها .
وذهب الشّافعيّة ، وهو قول للحنفيّة : إلى أنّ له المنع من الدّخول ، معلّلاً بأنّ المنزل ملكه وله حقّ المنع من دخول ملكه ، وهذا ظاهر الكنز ، وهو اختيار القدوريّ ، وجزم به في الذّخيرة . وقيل : لا منع من الدّخول بل من القرار ، لأنّ الفتنة في المكث وطول الكلام . ومذهب المالكيّة ، أنّه يقضى بزيارة والديها وأولادها الكبار من غيره لها في بيت الزّوجيّة كلّ جمعة مرّةً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ للمرأة الخروج من بيت الزّوجيّة لزيارة والديها ومحارمها في غيبة الزّوج إن لم ينهها عن الخروج . وجرت العادة بالتّسامح بذلك . أمّا إذا نهاها عن الخروج في غيبته فليس لها الخروج لزيارة ولا لغيرها .
وذهب الحنابلة إلى أنّه ليس للزّوج منع أبوها من زيارتها ، لما فيه من قطيعة الرّحم ، لكن إن عرف بقرائن الحال حدوث ضرر بزيارتهما ، أو زيارة أحدهما فله المنع .
زيارة المحضون :
9 - لكلّ من الأبوين زيارة أولاده إذا كانت الحضانة لغيره ، وليس لمن له حقّ الحضانة منع الزّيارة . والتّفصيل في مصطلح : ( حضانة ) .(/1)
سؤر *
التّعريف :س
1 - السّؤر لغةً : بقيّة الشّيء ، وجمعه أسآر ، وأسأر منه شيئاً أبقى ، وفي الحديث « إذا شربتم فأسئروا أي أبقوا شيئاً من الشّراب في قعر الإناء » ، وفي حديث الفضل بن عبّاس « ما كنت أوثر على سؤرك أحداً » . ورجل سأر أي يبقي في الإناء من الشّراب .
ويقال : سأر فلان من طعامه وشرابه سؤراً وذلك إذا أبقى بقيّةً . وبقيّة كلّ شيء سؤره . والسّؤر في الاصطلاح هو : فضلة الشّرب وبقيّة الماء الّتي يبقيها الشّارب في الإناء ، أو في الحوض ، ثمّ استعير لبقيّة الطّعام أو غيره .
قال النّوويّ : ومراد الفقهاء بقولهم : سؤر الحيوان طاهر أو نجس : لعابه ورطوبة فمه .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اختلف الفقهاء في أحكام الأسآر على اتّجاهين :
أحدها : يذهب إلى طهارة الأسآر ، وهو مذهب المالكيّة .
والآخر : مذهب الجمهور الّذين يرون طهارة بعض الأسآر ونجاسة بعضها . والتّفصيل كما يلي :
3 - ذهب الحنفيّة إلى تقسيم الأسآر إلى أربعة أنواع :
النّوع الأوّل : سور متّفق على طهارته وهو سؤر الآدميّ بجميع أحواله مسلماً كان أو كافراً، صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً أو أنثى ، طاهراً أو نجساً حائضاً أو نفساء أو جنباً . « وقد أتي عليه الصلاة والسلام بلبن فشرب بعضه وناول الباقي أعرابيّاً كان على يمينه فشرب ، ثمّ ناوله أبا بكر رضي الله عنه فشرب ، وقال : الأيمن فالأيمن » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أشرب وأنا حائض ، ثمّ أناوله النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في فيشرب » .
ولأنّ سؤر الآدميّ متحلّب من لحمه ، ولحمه طاهر ، فكان سؤره طاهراً ، إلاّ في حال شرب الخمر فيكون سؤره نجساً ، لنجاسة فمه بالخمر .
ومن النّوع الأوّل المتّفق على طهارته سؤر ما يؤكل لحمه من الأنعام والطّيور إلاّ الجلّالة والدّجاجة المخلّاة ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ بسؤر بعير أو شاة » ولأنّ سؤره متولّد من لحمه ولحمه طاهر .
أمّا سؤر الجلّالة والدّجاجة المخلّاة وهي الّتي تأكل النّجاسات حتّى أنتن لحمها فيكره استعماله لاحتمال نجاسة فمها ومنقارها . وإذا حبست حتّى يذهب نتن لحمها فلا كراهة في سؤرها . وأمّا سؤر الفرس فطاهر على قول أبي يوسف ومحمّد ، وظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ، وهو الصّحيح ، لأنّ سؤره متحلّب من لحمه ، ولحمه طاهر ، ولأنّ كراهة لحمه عنده ليست لنجاسته بل لاحترامه ، لأنّه آلة الجهاد وإرهاب العدوّ ، وذلك منعدم في سؤره فلا يؤثّر فيه . ويرى أبو حنيفة في رواية أخرى عنه أنّ سؤره نجس بناءً على الرّواية الأخرى عنه بنجاسة لحمه .
ومن هذا النّوع : ما ليس له نفس سائلة أي دم سائل ، سواء كان يعيش في الماء أو في غيره فسؤره طاهر .
النّوع الثّاني : السّؤر الطّاهر المكروه وهو سؤر سباع الطّير كالبازي والصّقر والحدأة ونحوها فسؤرها طاهر ، لأنّها تشرب بمنقارها وهو عظم جافّ فلم يختلط لعابها بسؤرها ، ولأنّ صيانة الأواني عنها متعذّرة ، لأنّها تنقضّ من الجوّ فتشرب ، إلاّ أنّه يكره سؤرها ، لأنّ الغالب أنّها تتناول الجيف والميتات فأصبح منقارها في معنى منقار الدّجاجة المخلّاة . وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّ سباع الطّير إن كان لا يتناول الميتات مثل البازي الأهليّ ونحوه فلا يكره الوضوء بسؤره .
ومن هذا النّوع سؤر سواكن البيوت كالفأرة والحيّة والوزغة والعقرب ونحوها من الحشرات الّتي لها دم سائل ، لأنّه يتعذّر صون الأواني منها .
ومن هذا النّوع أيضاً : سؤر الهرّة فهو طاهر ولكنّه مكروه لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « السّنّور سبع » .
ولقوله صلى الله عليه وسلم « يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرّات أولاهنّ أو آخرهنّ بالتّراب ، وإذا ولغت فيه الهرّة غسل مرّةً » .
والمعنى في كراهة سؤر الهرّة من وجهين :
أحدهما ما ذكره الطّحاويّ : وهو أنّ الهرّة نجسة لنجاسة لحمها ، وسؤرها نجس مختلط بلعابها المتولّد من لحمها النّجس ، ولكن سقطت نجاسة سؤرها اتّفاقاً ، لعلّة الطّواف المنصوصة في قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما هي من الطّوّافين عليكم أو الطّوّافات » . حيث إنّها تدخل المضائق وتعلو الغرف فيتعذّر صون الأواني منها .
ولمّا سقط حكم النّجاسة من سؤرها لضرورة الطّواف بقيت الكراهة ، لعدم تحاميها النّجاسة ولإمكان التّحرّز عنها في الجملة .
والثّاني : ما ذكره الكرخيّ وهو أنّ الهرّة ليست بنجسة - وإلى هذا ذهب أبو يوسف - لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفى عنها النّجاسة بقوله : « إنّها ليست بنجس » .
ولكن يكره سؤرها لتوهّم أخذها الفأرة فصار فمها كيد المستيقظ من نومه .
فلو أكلت الفأرة ثمّ شربت الماء قال أبو حنيفة : إن شربته على الفور تنجّس الماء ، وإن مكثت ساعةً ولحست فمها ثمّ شربت فلا يتنجّس بل يكره .
وقال أبو يوسف ومحمّد : يتنجّس الماء بناءً على ما ذكراه في سؤر شارب الخمر ، وهو أنّ صبّ الماء شرط في التّطهير عند أبي يوسف ولم يوجد ، وإنّ ما سوى الماء من المائعات ليس بطهور عند محمّد .(/1)
النّوع الثّالث : السّؤر النّجس المتّفق على نجاسته في المذهب وهو سؤر الكلب والخنزير وسائر سباع البهائم . أمّا الخنزير فلأنّه نجس العين لقوله تعالى : { فَإنَّهُ رِجْسٌ } الآية . ولعابه يتولّد من لحمه النّجس . وأمّا الكلب فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الإناء من ولوغه سبع مرّات ، ولسانه يلاقي الماء أو ما يشربه من المائعات الأخرى دون الإناء فكان أولى بالنّجاسة ، ولأنّه يمكن الاحتراز عن سؤرهما وصيانة الأواني عنهما ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الماء وما ينوبه من السّباع ؟ قال : إذا كان الماء قلّتين فإنّه لا ينجس » . ولو كانت طاهرةً لم يحدّه بالقلّتين .
ولما روي أنّ عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيه عمرو بن العاص حتّى وردا حوضاً فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السّباع ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبره فإنّنا نرد على السّباع وترد علينا . ولو لم يكن الماء يتنجّس بشربها منه لم يكن للسّؤال ولا للنّهي عن الجواب معنىً ، ولأنّ هذه الحيوانات غير مأكولة اللّحم ويمكن صون الأواني منها ، وعند شربها يختلط لعابها بالمشروب ولعابها نجس لتحلّبه من لحمها وهو نجس ، فكان سؤرها نجساً .
النّوع الرّابع : المشكوك في طهارة سؤره وهو الحمار الأهليّ والبغل فسؤرهما مشكوك في طهارته ونجاسته لتعارض الأدلّة ، فالأصل في سؤرهما النّجاسة ، لأنّه لا يخلو سؤرهما عن لعابهما ، ولعابهما متحلّب من لحمهما ولحمهما نجس ، ولأنّ عرقه طاهر لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار معرورياً والحرّ حرّ الحجاز ، ويصيب العرق ثوبه ، وكان يصلّي في ذلك الثّوب » . فإذا كان العرق طاهراً فالسّؤر أولى .
وقد تعارضت الآثار في طهارة سؤر الحمار ونجاسته ، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه كان يقول : الحمار يعتلف القتّ والتّبن فسؤره طاهر . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يقول : إنّه رجس ، وتعارضت الأخبار في أكل لحمه ولبنه كما تعارض تحقّق أصل الضّرورة فيه ، لأنّه ليس في المخالطة كالهرّة فلا يعلو الغرف ولا يدخل المضائق ، وليس في المجانبة كالكلب ، فوقع الشّكّ في وقوع حكم الأصل ، والتّوقّف في الحكم عند تعارض الأدلّة واجب ، ولذلك كان مشكوكاً فيه فلا ينجّس سؤره الأشياء الطّاهرة ، ولا يطهر به النّجس ، وعند عدم الماء يتوضّأ بسؤره ويتيمّم احتياطاً ، وأيّهما قدّم جاز ، لأنّ المطهّر منهما غير متيقّن ، فلا فائدة في التّرتيب .
وقال زفر : يبدأ بالوضوء بسؤر الحمار أو البغل ليصير عادماً للماء حقيقةً .
والتّفاصيل في مصطلح : ( نجاسة ، طعام ، طهارة ) .
4 - وذهب الشّافعيّة إلى أنّ سؤر جميع الحيوانات من الأنعام ، والخيل والبغال والحمير والسّباع والهرّة والفئران والطّيور والحيّات وسام أبرص ، وسائر الحيوانات المأكولة وغير المأكولة - سؤر هذه الحيوانات طاهر لا كراهة فيه إلاّ الكلب والخنزير وما تولّد منهما أو من أحدهما . فإذا ولغ أحد هذه الحيوانات في طعام جاز أكله بلا كراهة ، وإذا شرب من ماء جاز الوضوء به بلا كراهة .
واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } لأنّ في تنجيس سؤر هذه الحيوانات حرجاً ، ويعسر الاحتراز عن بعضها كالهرّة ونحوها من سواكن البيوت . ولما ورد عن كبشة زوجة أبي قتادة رضي الله عنهما « أنّ أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءً فجاءت هرّة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتّى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت : نعم . فقال إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إنّها ليست بنجس إنّما هي من الطّوّافين عليكم أو الطّوّافات » .
ولما روي عن جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له : أنتوضّأ بما فضلت الحمر ؟ قال : وبما أفضلت السّباع » .
وعن عمرو بن خارجة رضي الله عنه قال : « خطب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ناقته ، وإنّ لعابها يسيل بين كتفي » .
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض الّتي بين مكّة والمدينة تردها السّباع والكلاب والحمر ، وعن الطّهارة منها ، فقال صلى الله عليه وسلم : لها ما حملت في بطونها ، ولنا ما غبر طهور » ولقول عمر المتقدّم وفيه فإنّنا نرد على السّباع وترد علينا .
أمّا الكلب والخنزير وما تفرّع منهما أو من أحدهما فسؤره نجس ، لقوله تعالى في الخنزير : { فَإنَّهُ رِجْسٌ } الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات أولاهنّ بالتّراب » وفي رواية « فليرقه » أي الماء الّذي ولغ فيه . والإراقة للماء إضاعة مال ، فلو كان الماء طاهراً لما أمر بإراقته إذ قد نهى عن إضاعة المال .
وإن رأى شخص هرّةً أو نحوها تأكل نجاسةً ثمّ وردت على ماء قليل أي لا يبلغ قلّتين فشربت منه ففيه ثلاثة أوجه عند الشّافعيّة :
أصحّها : أنّه إن غابت ثمّ رجعت لم ينجس الماء لأنّه يجوز أن تكون قد وردت على ماء كثير فطهر فمها ولأنّا - في هذه الحالة - قد تيقّنّا طهارة الماء وشككنا في نجاسة فمها ، فلا ينجس الماء المتيقّن بالشّكّ .
والثّاني : ينجس الماء لأنّا تيقّنّا نجاسة فمها .(/2)
والثّالث : لا ينجس الماء بحال لأنّه لا يمكن الاحتراز منها فعفي عنه ، ودليل هذا الوجه حديث : « إنّما هي من الطّوّافين عليكم أو الطّوّافات » وهذا هو الأحسن عند الغزاليّ وغيره لعموم الحاجة وعسر الاحتراز فهي كاليهوديّ وشارب الخمر فإنّه لا يكره سؤرهما عند الشّافعيّة . والتّفاصيل في مصطلح : ( شكّ ، طهارة ، نجاسة ) .
5- وذهب الحنابلة إلى تقسيم الحيوان إلى قسمين قسم نجس وقسم طاهر .
ثمّ قسّموا النّجس إلى نوعين :
النّوع الأوّل : ما هو نجس روايةً واحدةً وهو الكلب والخنزير وما تولّد منهما أو من أحدهما، فهذا النّوع سؤره وعينه وجميع ما يخرج منه نجس ، لقوله تعالى في الخنزير : { فَإنَّهُ رِجْسٌ } الآية وقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب : « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثمّ ليغسله سبع مرّات » وفي رواية : « ليغسله سبع مرّات أولاهنّ بالتّراب » .
فإذا ولغ في ماء أو مائع آخر يجب إراقته ، وإذا أكل من طعام فلا يجوز أكله .
النّوع الثّاني : ما اختلف في نجاسته وهو سائر سباع البهائم وجوارح الطّير والحمار الأهليّ والبغل ، فعن أحمد أنّ سؤرها نجس إلاّ السّنّور وما يماثلها في الخلقة أو دونها فيها ، فإذا شربت من ماء قليل ولم يجد غيره تركه وتيمّم ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السّباع فقال : إذا كان الماء قلّتين فإنّه لا ينجس » فلو كانت طاهرةً لم يحدّه بالقلّتين . « ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهليّة يوم خيبر : إنّها رجس » ولأنّه حيوان حرم أكله ، لا لحرمته مثل الفرس - حيث يحرم أكله عند من يقول بحرمته - ويمكن التّحرّز منه غالباً فأشبه الكلب ، ولأنّ السّباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات ، والنّجاسات فتنجّس أفواهها ، ولا يتحقّق وجود مطهّر لها ، فينبغي أن يقضى بنجاستها كالكلاب .
وروي عن أحمد أنّه قال : في البغل والحمار إذا لم يجد غير سؤرها تيمّم معه وهو قول الثّوريّ .
قال ابن قدامة : وهذه الرّواية تدلّ على طهارة سؤرهما ، لأنّه لو كان نجساً لم تجز الطّهارة به . وروي عن إسماعيل بن سعيد : لا بأس بسؤر السّباع لأنّ عمر قال فيها : ترد علينا ونرد عليها ، ثمّ قال : والصّحيح عندي طهارة البغل والحمار ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمير والبغال » ، وتركب في زمنه ، وفي عصر الصّحابة ، فلو كانت نجسةً لبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، ولأنّه لا يمكن التّحرّز منها بالنّسبة لمقتنيها فأشبه الهرّة ، ومن هذا النّوع الجلّالة الّتي تأكل النّجاسات ففي رواية أنّ سؤرها نجس ، وفي أخرى أنّه طاهر .
القسم الثّاني : طاهر في نفسه ، وسؤره وعرقه طاهران وهو ثلاثة أضرب :
الأوّل : الآدميّ، فهو طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً ، رجلاً أو امرأةً ، وإن كانت حائضاً أو نفساء أو كان الرّجل جنباً لقوله صلى الله عليه وسلم:« المؤمن لا ينجس ». ولحديث « شرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم من سؤر عائشة » .
الضّرب الثّاني : ما يؤكل لحمه ، فسؤره طاهر يجوز شربه والوضوء به ، إلاّ إن كان جلّالاً يأكل النّجاسات ففي سؤره الرّوايتان السّابقتان .
ويكره سؤر الدّجاجة المخلّاة لأنّ الظّاهر نجاسته .
الضّرب الثّالث : الهرّة وما يماثلها من الخلقة أو دونها كالفأرة وابن عرس ونحو ذلك من حشرات الأرض ، فسؤره طاهر يجوز شربه والوضوء به ، ولا يكره ، لحديث عائشة رضي الله عنها « قالت : كنت أتوضّأ أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت منه الهرّة قبل ذلك قالت : وقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتوضّأ بفضل الهرّة » . ولحديث كبشة الّذي سبق ذكره .
إلاّ أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال : يغسل الإناء الّذي ولغت فيه الهرّة مرّةً أو مرّتين ، وبه قال ابن المنذر ، وقال الحسن وابن سيرين : مرّةً ، وقال طاوس : سبع مرّات كالكلب ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كره الوضوء بسؤر الهرّة والحمار .
وإذا أكلت الهرّة ونحوها نجاسةً ثمّ شربت من ماء يسير بعد أن غابت فالماء طاهر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نفى عنها النّجاسة ، وتوضّأ بفضلها مع علمه بأنّها تأكل النّجاسات . وكذا إن شربت قبل أن تغيب فسؤرها طاهر كذلك في الرّاجح ، لأنّ الشّارع عفا عنها مطلقًا لمشقّة التّحرّز .
وقال القاضي وابن عقيل : ينجس الماء ; لأنّه وردت عليه نجاسة متيقّنة ، وقال المجد ابن تيميّة : الأقوى عندي أنّها إن ولغت عقيب الأكل فسؤرها نجس ، وإن كان بعده بزمن يزول فيه أثر النّجاسة بالرّيق لم ينجس ، قال : وكذلك يقوى عندي جعل الرّيق مطهّراً أفواه الأطفال وبهيمة الأنعام ، وكلّ بهيمة أخرى طاهرة ، فإذا أكلوا نجاسةً وشربوا من ماء يسير أو أكلوا من طعام فسؤرهم طاهر ، وقيل : إن غابت الهرّة ونحوها بعد أن أكلت النّجاسة غيبةً يمكن ورودها على ما يطهّر فمها فسؤرها طاهر وإلاّ فنجس . وقيل : إن كانت الغيبة قدر ما يطهّر فمها فطاهر ، وإلاّ فنجس .(/3)
6- وذهب المالكيّة والأوزاعيّ إلى أنّ سؤر البهائم جميعاً طاهر ومطهّر إذا كان ماءً ، ولو كانت هذه البهيمة محرّمة اللّحم أو كانت جلّالةً ، ويدخل في ذلك الكلب والخنزير ، وما تولّد منها أو من أحدهما لقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } فأباح الانتفاع بالأشياء كلّها ، ولا يباح الانتفاع إلاّ بالطّاهر ، وحرمة الأكل لبعض الحيوانات لا تدلّ على النّجاسة ، فالآدميّ ومثله الذّباب والعقرب والزّنبور ونحوها طاهر ولا يباح أكلها ، إلاّ أنّه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب مع طهارته تعبّداً ، ولكن يكره الوضوء بسؤر الكلب والجلّالة والدّجاجة المخلّاة وشارب الخمر ، وكذا بقيّة الحيوانات الّتي لا تتوقّى النّجاسة كالهرّة ، إلاّ إذا لم يجد ماءً آخر يتوضّأ به ، أو عسر الاحتراز من الحيوانات الّتي لا تتّقي النّجاسة ، أو كان السّؤر طعامًا فلا يكره استعمال سؤر ما ذكر حينئذ .
ولم يفرّق بعضهم بين الماء والطّعام وذلك لمشقّة الاحتراز ، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الهرّة : « ليست بنجس إنّها من الطّوّافين عليكم أو الطّوّافات » .
كما ذهبوا إلى طهارة سؤر الحائض والنّفساء والجنب ولو كانوا كفّاراً .(/4)
سائبة *
التّعريف :
1 - السّائبة من السّيب ، ومن معانيه في اللّغة الجري بسرعة ، والإهمال والتّرك . وسيّب الشّيء : تركه . والسّائبة : العبد يعتق على أن لا ولاء لمعتقه عليه .
وكذلك السّائبة : البعير يدرك نتاج نتاجه فيسيّب ولا يركب ولا يحمل عليه عندهم .
والسّائبة أيضاً النّاقة الّتي كانت تسيّب في الجاهليّة لنذر ونحوه ، وكان الرّجل في الجاهليّة إذا قدم من سفر بعيد ، أو برئ من علّة ، أو نجّته دابّة من مشقّة أو حرب قال : ناقتي سائبة ، أي تسيّب ، فلا ينتفع بظهرها ، ولا تحلّأ ( لا تطرد ) عن ماء ، ولا تمنع من كلأ ولا تركب .
والفقهاء يستعملون اللّفظ بالمعنيين : عتق العبد ولا ولاء له .
وتسييب الدّابّة بمعنى رفع يده عنها وتركها على سبيل التّديّن .
الأحكام المتعلّقة بالسّائبة :
2 - تختلف الأحكام المتعلّقة بتسييب السّوائب باختلاف موضوعها .
فقد يكون التّسييب واجباً ، كما لو أحرم شخص وفي يده صيد فإنّه يجب عليه إرساله .
وقد يكون مباحاً ، كإرسال الصّيد عند من يقول بإباحة إرساله .
وقد يكون حراماً ، كتسييب الدّابّة .
وقد يكون مكروهاً ، كعتق العبد سائبةً كما يقول المالكيّة .
أوّلاً : عتق العبد سائبةً :
3 - من ألفاظ العتق ما هو صريح في العتق كقول السّيّد لعبده : أنت عتيق ، أو أعتقتك ، ومنها ما هو كناية يحتاج إلى نيّة ، ومن ذلك لفظ ( سائبة ) فمن قال لعبده : أنت سائبة ، فلا يعتق إلاّ إذا نوى العتق .
وقد اختلف الفقهاء إذا أعتق العبد سائبةً لمن يكون الولاء ؟
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة وابن نافع من المالكيّة ومال إليه ابن العربيّ إلى أنّ الولاء يكون لمعتقه ، حتّى ولو شرط أن لا ولاء له عليه فإنّ الشّرط باطل لأنّه مخالف للنّصّ . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الولاء لمن أعتق » . وقوله : « الولاء بمنزلة النّسب » .
فكما أنّه لا يزول نسب إنسان ولا ولد عن فراش بشرط ، لا يزول ولاء عن عتيق بالشّرط ، ولذلك « لمّا أراد أهل بريرة أن يشترطوا على عائشة رضي الله تعالى عنها ولاء بريرة إذا عتقت قال صلى الله عليه وسلم : اشتريها واشترطي لهم الولاء ، فإنّما الولاء لمن أعتق » ، وبهذا أيضاً قال النّخعيّ والشّعبيّ وابن سيرين وراشد بن سعد وضمرة بن حبيب ، وعلى هذا فإنّ معتقه . هو الّذي يرثه إن لم يكن له وارث ، قال سعيد : حدّثنا هشيم عن منصور أنّ عمر وابن مسعود قالا في ميراث السّائبة هو للّذي أعتقه .
وقال المالكيّة وهو المنصوص عن أحمد : إنّ من أعتق عبده سائبةً لا يكون لمعتقه الولاء ، قال المالكيّة : ويكون ولاؤه للمسلمين يرثونه ويعقلون عنه ، ويكون عقد نكاحها إن كانت أنثى - وهو قول عمر بن عبد العزيز والزّهريّ ومكحول وأبي العالية .
وقال أحمد : إن مات العتيق وخلّف مالاً ولم يدع وارثاً اشتري بماله رقاب فأعتقوا ، وقد أعتق ابن عمر عبداً سائبةً فمات فاشترى ابن عمر بماله رقاباً فأعتقهم .
وعن عطاء قال : كنّا نعلم أنّه إذا قال : أنت حرّ سائبة فهو يوالي من شاء .
ثانياً : تسييب الدّوابّ :
4 - الأصل أنّ تضييع المال حرام ، وقد أبطل اللّه سبحانه وتعالى ما كان يفعله أهل الجاهليّة من تسييب دوابّهم وتحريم الانتفاع بها وجعلها لآلهتهم ، وعاب عليهم ذلك ، قال اللّه تعالى : { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قصبه أمعاءه في النّار وكان أوّل من سيّب السّوائب » .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تسييب البهائم بمعنى تخليتها ورفع المالك يده عنها حرام ، لما فيه من تضييع المال والتّشبّه بأهل الجاهليّة ، والواجب على من ملك بهيمةً أن ينفق عليها ما تحتاجه من علف وسقي ، أو إقامة من يرعاها ، أو تخليتها لترعى حيث تجد ما يكفيها ، لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « دخلت امرأة النّار في هرّة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض » .
فإن امتنع من علفها أجبره الحاكم على ذلك ، فإن أبى أو عجز أجبر على بيعها أو ذبحها إن كانت ممّا تؤكل ، وهذا عند جمهور الفقهاء .
وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة يجبر على الإنفاق ديانةً ولا يجبر قضاءً .
ومن سيّب دابّته فلا يزول ملكه عنها . وهذا في الجملة .
ومن سيّب دابّته فأخذها إنسان فأصلحها ثمّ جاء صاحبها . قال الحنفيّة : هذا على وجهين :
أحدهما أن يقول عند التّسييب : جعلتها لمن أخذها ، فحينئذ لا سبيل لصاحبها عليها لأنّه أباح التّملّك ، وفي القياس تكون لصاحبها .
والثّاني : إن كان سيّبها ولم يقل شيئاً ، فإنّ صاحبها له أن يأخذها ممّن أصلحها ، لأنّه لو جاز تملّك من وجدها وأصلحها من غير قول المالك هي لمن أخذها ، لجاز ذلك في الجارية والعبد يتركه مريضاً في أرض مهلكة ، فيأخذه رجل فينفق عليه فيبرأ فيصير ملكاً له ، ويطأ الجارية ويعتق العبد بلا شراء ولا هبة ولا إرث ولا صدقة ، وهذا أمر قبيح .
وقال الحنابلة : من ترك دابّته بمهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلّصها ملكها ، وبهذا قال اللّيث وإسحاق ، وذلك لما روى الشّعبيّ مرفوعاً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له » .(/1)
قال الحنابلة : وهذا إذا لم يتركها ليرجع إليها أو ضلّت منه ، فحينئذ لا يملكها آخذها وتكون لربّها .
ثالثاً : تسييب الصّيد :
5 - من ملك صيدًا فإنّه يحرم عليه تسييبه وإرساله ، لأنّه يشبه السّوائب في الجاهليّة الّتي حرّمها اللّه سبحانه وتعالى ، وفيه تضييع للمال ، وهذا عند الشّافعيّة في الأصحّ وهو المذهب عند الحنابلة وهو قول الحنفيّة ، سواء أباحه لمن يأخذه أو لم يبحه .
وفي قول آخر عندهم أنّ حرمة الإرسال مقيّدة بما إذا كان الإرسال من غير إباحة لأحد ، أمّا إذا أباحه لمن يأخذه فيجوز إرساله .
قال ابن عابدين : والحاصل أنّ إطلاق الصّيد من يده جائز إن أباحه لمن يأخذه ، وقيل : لا يجوز إعتاقه مطلقاً " أي سواء أباحه لمن يأخذه أو لم يبحه " ، لأنّه وإن أباحه فالأغلب أنّه لا يبقى في يد أحد فيبقى سائبةً ، وفيه تضييع المال .
وفي القول الثّاني عند الشّافعيّة يجوز الإرسال ، وهو احتمال عند الحنابلة ذكره ابن قدامة في المغني ثمّ قال : والإرسال هنا يفيد ، وهو ردّ الصّيد إلى الخلاص من أيدي الآدميّين وحبسهم ، ولهذا روي عن أبي الدّرداء أنّه اشترى عصفوراً من صبيّ فأرسله .
هذا ويستثنى من حرمة الإرسال ما إذا خيف على ولد الصّيد بحبس ما صاده ، فحينئذ يجب إرساله صيانةً لروحه .
وتسييب الصّيد لا يزيل ملك صاحبه عنه ، ومن أخذه لزمه ردّه لأنّ رفع اليد لا يقتضي زوال الملك .
وذلك عند الحنفيّة وهو مذهب الحنابلة والأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة يزول ملكه عنه ويملكه من أخذه ،وزوال الملك هو احتمال ذكره صاحب المغني من الحنابلة.
أمّا لو قال عند إرساله : أبحته لمن يأخذه ، فإنّ ملك صاحبه يزول عنه ويباح لمن أخذه ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ، لكن قال الشّافعيّة : لو قال مطلق التّصرّف عند إرساله : أبحته لمن يأخذه أو أبحته فقط ، حلّ لمن أخذه أكله بلا ضمان ، وله إطعام غيره ، ولا ينفذ تصرّفه فيه ببيع ونحوه .
وقال المالكيّة : إن اصطاد شخص صيداً وأرسله باختياره وصاده آخر فهو للثّاني اتّفاقاً عندهم ، قاله اللّخميّ .
رابعاً : تسييب صيد الحرم :
6 - صيد الحرم حرام على الحلال والمحرم « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ولا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده » .
ومن ملك صيداً في الحلّ ثمّ أحرم أو دخل به الحرم وجب عليه إرساله ، أي يجب عليه أن يطلق الصّيد بمجرّد إحرامه أو دخوله الحرم ، لأنّ الحرم سبب محرّم للصّيد ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ، فإن لم يرسله وتلف فعليه جزاؤه وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة .
وقال الشّافعيّة على ما جاء في مغني المحتاج : لو أدخل الحلال معه إلى الحرم صيداً مملوكاً له لا يضمنه ، بل له إمساكه فيه وذبحه التّصرّف فيه كيف شاء لأنّه صيد حلّ ، ثمّ قال بعد ذلك : وإن كان في ملكه صيد فأحرم ، زال ملكه عنه ولزمه إرساله ، لأنّه يراد للدّوام فتحرم استدامته . وينظر تفصيل ذلك في : ( حرم ، صيد ، إحرام ) .(/2)
سبق الحدث *
التّعريف :
1 - السّبق مصدر سبق وهو في اللّغة : القدمة في الجري وفي كلّ شيء .
والحدث من حدث الشّيء حدوثاً : أي تجدّد ويتعدّى بالألف فيقال : أحدثه ، وأحدث الإنسان إحداثاً ، والاسم : الحدث ، ويطلق على الحالة النّاقضة للطّهارة ، وعلى الحادث المنكر الّذي ليس بمعتاد ، ولا معروف في السّنّة .
وسبق الحدث في الاصطلاح : خروج شيء مبطل للطّهارة من بدن المصلّي " من غير قصد " في أثناء الصّلاة .
الحكم التّكليفيّ :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الصّلاة لا تنعقد إن لم يكن متطهّراً عند إحرامه ، عامداً كان ، أم ساهياً ، كما لا خلاف بينهم في أنّ الصّلاة تبطل إذا أحرم متطهّراً ثمّ أحدث عمداً . واختلفوا في الحدث الّذي يسبق من غير قصد ممّا يخرج من بدن المصلّي : من غائط ، أو بول ، أو ريح ، وكذا الدّم السّائل من جرح أو دمّل به بغير صنعه عند من يرى أنّه حدث يفسد الطّهارة .
3 - فذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا سبق منه شيء من هذه الأحداث تفسد طهارته ، ولا تبطل صلاته فيجوز له البناء على ما مضى من صلاته بعد تطهّره استحساناً لا قياساً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف ، فليتوضّأ ، ثمّ ليبن على صلاته ، وهو في ذلك لا يتكلّم » .
ولأنّ الخلفاء الرّاشدين ، والعبادلة الثّلاثة ، وأنس بن مالك وسلمان الفارسيّ رضي الله عنهم ، قالوا بالبناء على ما مضى .
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنّه سبقه الحدث في الصّلاة فتوضّأ وبنى على صلاته . وروي عن عمر أنّه فعل ذلك فثبت البناء عن الصّحابة قولاً وفعلاً .
قالوا : وكان القياس أن تبطل صلاته أيضًا ويستأنف الصّلاة بعد التّطهّر ، لأنّ التّحريمة لا تبقى مع الحدث ، كما لا تنعقد معه ، لفوات أهليّة أداء الصّلاة في الحالين بفوات الطّهارة فيهما ، لأنّ الشّيء لا يبقى مع عدم الأهليّة ، كما لا ينعقد من غير أهليّة ، فلا تبقى التّحريمة، لأنّها شرعت لأداء أفعال الصّلاة ، ولهذا لا تبقى مع الحدث العمد بالاتّفاق ، ولأنّ صرف الوجه عن القبلة ، والمشي للطّهارة في الصّلاة مناف لها . ولكن عدل عن القياس للنّصّ والإجماع . وهذا هو القول القديم للشّافعيّ ، ورواية عن أحمد .
4 - وقال المالكيّة وهو القول الجديد للشّافعيّ وأصحّ الرّوايات عن أحمد : تبطل صلاته ويتوضّأ ، ويلزمه استئنافها ، وهو قول الحسن ، وعطاء ، والنّخعيّ ، ومكحول ، واستدلّوا بحديث : « إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف فليتوضّأ وليعد الصّلاة » .
وحديث عليّ رضي الله عنه : قال : « بينما نحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نصلّي إذ انصرف ونحن قيام ثمّ أقبل ورأسه يقطر ، فصلّى لنا الصّلاة ثمّ قال : إنّي ذكرت أنّي كنت جنباً حين قمت إلى الصّلاة لم أغتسل ، فمن وجد منكم في بطنه رِزّاً أو كان على مثل ما كنت عليه فلينصرف حتّى يفرغ من حاجته أو غسله ، ثمّ يعود إلى صلاته » .
ولأنّه فقد شرط الصّلاة - وهو الطّهارة عن الحدث - في أثنائها على وجه لا يعود إلاّ بعد زمن طويل وعمل كثير ، ففسدت صلاته ، كما لو تنجّس نجاسةً يحتاج في إزالتها إلى مثل ذلك . أو انكشفت عورته ، ولم يجد السّترة إلاّ بعيدةً منه ، أو تعمّد الحدث ، أو انقضت مدّة المسح على الخفّين وهو في أثناء الصّلاة .
وفي رواية أخرى عن أحمد : إن كان الحدث من السّبيلين ابتدأ الصّلاة ولا يبني ، أمّا إن كان من غيرهما بنى ، لأنّ نجاسة السّبيلين أغلظ ، ولأنّ الأثر إنّما ورد في الخارج من غير السّبيلين فلا يلحق به ما ليس في معناه .
شروط البناء عند من يقول به :
يشترط في جواز البناء :
5 - أ - كون السّبق بغير قصد منه ، فلا يجوز البناء إذا أحدث عمداً ، لأنّ جواز البناء ثبت معدولاً به عن القياس ، للنّصّ والإجماع ، فلا يلحق به إلاّ ما كان في معنى المنصوص ، والمجمع عليه ، والحدث العمد ليس كالحدث الّذي يسبق لأنّه ممّا يبتلى به الإنسان ، فلو جعل مانعاً من البناء لأدّى إلى حرج ، ولا حرج في الحدث العمد . ولأنّ الإنسان يحتاج إلى البناء في الجمع والأعياد لإحراز الفضيلة ، فنظر الشّرع له بجواز البناء صيانةً لهذه الفضيلة من الفوات عليه ، وهو مستحقّ للنّظر ، لحصول الحدث من غير قصد منه ، وبغير اختياره بخلاف الحدث العمد ، لأنّ متعمّد الحدث في الصّلاة جان ، فلا يستحقّ النّظر .
ب - ألا يأتي بعد الحدث بفعل مناف للصّلاة لو لم يكن قد أحدث ، إلاّ ما لا بدّ منه ، فيجب عليه تقليل الأفعال وتقريب المكان بحسب الإمكان ، ولا يتكلّم إلاّ ما يحتاج إليه في تحصيل الماء ونحوه . فإن تكلّم بعد الحدث بلا حاجة إليه ، أو ضحك أو أحدث حدثاً آخر عمداً ، أو أكل أو شرب فلا يبني ،لأنّ هذه الأفعال منافية للصّلاة في الأصل فلا يسقط المنافي للضّرورة.
عوده بعد التّطهّر إلى مصلّاه :
6 - إن كان المصلّي منفرداً فانصرف وتوضّأ فهو بالخيار إن شاء أتمّ صلاته في الموضع الّذي توضّأ فيه ، وإن شاء عاد إلى الموضع الّذي افتتح الصّلاة فيه ، لأنّه إذا أتمّ الصّلاة حيث هو فقد سلمت صلاته عن الحركة الكثيرة لكنّه صلّى صلاةً واحدةً في مكانين .
وإن عاد إلى مصلّاه فقد أدّى جميع الصّلاة في مكان واحد ولكن مع زيادة مشي فاستوى الوجهان فيتخيّر .(/1)
وقال بعض الحنفيّة : يصلّي في الموضع الّذي توضّأ فيه من غير خيار ، وهو القول القديم للشّافعيّ . وإن كان مقتدياً فانصرف وتوضّأ ، فإن لم يفرغ إمامه من الصّلاة فعليه أن يعود ، لأنّه في حكم المقتدي ، ولو لم يعد وأتمّ بقيّة صلاته في مكانه لم تصحّ صلاته ، لأنّه إن صلّى مقتدياً بإمامه لم يصحّ لانعدام شرط الاقتداء ، وهو اتّحاد البقعة ، وإن صلّى في مكانه منفرداً فسدت صلاته ، لأنّ الانفراد في حال وجوب الاقتداء يفسد صلاته ، لأنّ بين الصّلاتين تغايراً ، وقد ترك ما كان عليه وهو الصّلاة مقتدياً ، وما أدّى وهو الصّلاة منفرداً لم يوجد له ابتداءً تحريمة ، وهو بعض الصّلاة ، لأنّه صار منتقلاً عمّا كان فيه إلى هذا ، فتبطل .
وإن كان إماماً يستخلف ثمّ يتوضّأ ويبني على صلاته .
هذا كلّه في حدث الرّفاهية " أي من غير ضرورة " أمّا الحدث الدّائم كسلس البول فلا يضرّ . ( ر : حدث ، وعذر ) .
7- أمّا ما سوى الحدث من الأسباب النّاقضة للصّلاة إذا طرأ فيها أبطل الصّلاة قطعاً ، إن كان باختياره ، أو طرأ بغير اختياره إذا نسب إليه تقصير ، كمن مسح خفّه فانقضت المدّة في الصّلاة ، أو دخل الصّلاة وهو يدافع الحدث وهو يعلم أنّه لا يقدر على التّماسك إلى انتهائها . أمّا إذا طرأ ناقض للصّلاة لا باختياره ولا بتقصيره كمن انكشفت عورته فسترها في الحال ، أو وقعت عليه نجاسة يابسة فنفضها في الحال ، أو ألقى الثّوب الّذي وقعت عليه النّجاسة في الحال فصلاته صحيحة . ( ر : صلاة ، نجاسة ) .(/2)
سبيكة *
التّعريف :
1 - السّبيكة القطعة المستطيلة من الذّهب ، والجمع سبائك ، وربّما أطلقت على كلّ قطعة متطاولة من أيّ معدن كان ، وربّما أطلقت على القطعة المذوبة من المعدن ولو لم تكن متطاولةً ، وهي مأخوذة من سبكت الذّهب أو الفضّة سبكاً من باب قتل إذا أذبته وخلّصته من خبثه .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّبر :
2 - من معاني التّبر في اللّغة ما كان من الذّهب غير مضروب ، فإذا ضرب دنانير فهو عين، ولا يقال تبر إلاّ للذّهب . وبعضهم يقوله للفضّة أيضاً .
وقد يطلق التّبر على غير الذّهب والفضّة من المعادن .
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه اسم للذّهب والفضّة قبل ضربهما ، أو للذّهب فقط ، وهو تعريف للمالكيّة .
تراب الصّاغة :
3 - عرّفه المالكيّة بأنّه هو الرّماد الّذي يوجد في حوانيت الصّاغة ولا يدرى ما فيه .
انظر مصطلح : ( تراب الصّاغة : ف 1 / 11 / 145 ) .
الأحكام المتعلّقة بالسّبائك :
أ - الزّكاة في سبائك الذّهب والفضّة :
4 - الزّكاة واجبة في الذّهب والفضّة ولا فرق في ذلك بين أن يكونا مضروبين أو غير مضروبين إذا بلغ كلّ منهما نصاباً ، وحال عليه الحول . والتّفصيل في مصطلح ( زكاة ) . وأمّا السّبائك المستخرجة من الأرض فالزّكاة واجبة فيها أيضاص ، وفي مقدار الواجب إخراجه منها خلاف في كونه الخمس أو ربع العشر . انظر : ( ركاز ، ومعدن ، وزكاة ) .
ب - تحريم الرّبا في سبائك الذّهب والفضّة :
5 - أجمع العلماء على أنّ بيع الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة لا يجوز إلاّ مثلاً بمثل ، يداً بيد ، لما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: « لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز » .
ولا فرق في ذلك بين المصوغ منهما وغيره . والتّفصيل في مصطلح : ( رباً ) .
ج - جعل السّبيكة رأس مال في الشّركة :
6 - ذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والرّاجح عند الحنفيّة " إلى أنّه لا يجوز أن يكون رأس مال الشّركة سبائك .
ويجوز عند بعض الحنفيّة جعل السّبائك رأس مال في شركة المفاوضة إن جرى التّعامل بها، فينزل التّعامل حينئذ منزلة الضّرب ، فيكون ثمناً ، ويصلح أن يكون رأس مال .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( شركة ) .
أمّا التّبر والحليّ والسّبائك فأطلقوا منع الشّركة فيها ، ويجوز أن يبنى على أنّ التّبر مثليّ أم لا ؟ وفيه خلاف .
د - قطع يد سارق السّبيكة :
7 - تقطع يد السّارق إذا كان مكلّفاً ، وأخذ مالًا خلسةً لا شبهة له فيه ، وأخرجه من حرزه، وبلغ ذلك المال نصاباً .
والقول الرّاجح في قدر ذلك النّصاب هو ربع دينار ، وفي الاعتبار بذلك بالذّهب المضروب أو بغيره خلاف .
فعلى القول بأنّ الاعتبار بالذّهب المضروب فإنّه لا قطع بسرقة سبيكة أو حليّ لا تبلغ قيمتهما ربع دينار على وجه عند الشّافعيّة . والتّفصيل في : ( سرقة ) .(/1)
سبيل اللّه *
التّعريف :
1 - السّبيل هو الطّريق ، يذكّر ويؤنّث . قال اللّه تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } .
وسبيل اللّه في أصل الوضع هو : الطّريق الموصّلة إليه تعالى ، فيدخل فيه كلّ سعي في طاعة اللّه ، وفي سبيل الخير . وفي الاصطلاح هو الجهاد .
الحكم التّكليفيّ :
2 - قال جمهور الفقهاء وعامّة المفسّرين : سبيل اللّه وضعًا هو الطّريق الموصّلة إلى اللّه، ويشمل جميع القرب إلى اللّه ، إلاّ أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد لكثرة استعماله فيه في القرآن ، كقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } .
وما في القرآن من ذكر " سبيل اللّه " إنّما أريد به الجهاد إلاّ اليسير منه فيحمل عليه .
ولأنّ الجهاد هو سبب الشّهادة الموصّلة إلى اللّه ، " وسبيل اللّه " في مصارف الزّكاة يعطى للغزاة المتطوّعين الّذين ليس لهم سهم في ديوان الجند لفضلهم على غيرهم ، لأنّهم جاهدوا من غير أرزاق مرتّبة لهم . فيعطون ما يشترون به الدّوابّ والسّلاح ، وما ينفقون به على العدوّ إن كانوا أغنياء ، وبهذا قال مالك والشّافعيّ وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر ، واحتجّوا بما روى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تحلّ الصّدقة لغنيّ إلاّ لخمسة : لعامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل اللّه ، أو مسكين تصدّق عليه منها فأهدى منها لغنيّ » .
وقالوا : ولأنّ اللّه تعالى جعل الفقراء والمساكين صنفين ، وعدّ بعدهما ستّة أصناف فلا يلزم وجود صفة الصّنفين في بقيّة الأصناف كما لا يلزم صفة الأصناف فيهما .
وقال الحنفيّة : لا تدفع إلاّ لمن كان محتاجاً إليها ، وذلك لحديث ابن عبّاس في قصّة بعث الرّسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل إلى اليمن وفيه : « أخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم » .
فقد جعل النّاس قسمين : قسماً يؤخذ منهم ، وقسماً يصرف إليهم ، فلو جاز صرف الصّدقة إلى الغنيّ لبطل القسمة ، وهذا لا يجوز .
وقال محمّد بن الحسن : المراد من قوله تعالى : { وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } الحاجّ المنقطع ، لما روي « أنّ رجلاً جعل بعيراً له في سبيل اللّه فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أن يحمل عليه الحجّاج » وروي أيضاً « أنّ رجلاً جعل جملاً له في سبيل اللّه فأرادت امرأته الحجّ ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فهلاّ خرجت عليه ، فإنّ الحجّ في سبيل اللّه » . وعن« أبي طليق : قال : طلبت منّي أمّ طليق جملاً تحجّ عليه فقلت : قد جعلته في سبيل اللّه ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : صدقت ، لو أعطيتها كان في سبيل اللّه » . ويؤثر عن أحمد وإسحاق أنّهما قالا : سبيل اللّه : الحجّ ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : سبيل اللّه الحجّاج والعمّار .
وقال بعض الحنفيّة : سبيل اللّه طلبة العلم .
وقال الفخر الرّازيّ في تفسيره : ظاهر اللّفظ في قوله تعالى : { وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } لا يوجب القصر على الغزاة ، فلهذا نقل القفّال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنّهم أجازوا صرف الصّدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ، لأنّ سبيل اللّه عامّ في الكلّ .وتفصيل الكلام عن مصرف سبيل اللّه في ( زكاة : ف /172 ).(/1)
ستر العورة *
التّعريف :
1 - السّتر لغةً : ما يستر به ، وجمعه ستور ، والسّترة - بضمّ السّين - مثله .
قال ابن فارس : السّترة ما استترت به كائناً ما كان ، والسّتارة مثله ، وسترت الشّيء ستراً من باب قتل .
والعورة لغةً : الخلل في الثّغر وفي غيره ، قال الأزهريّ : العورة في الثّغور وفي الحرب خلل يتخوّف منه القتل ، والعورة كلّ مكمن للسّتر ، وعورة الرّجل والمرأة سوأتهما .
ويقول الفقهاء : ما يحرم كشفه من الرّجل والمرأة فهو عورة .
وفي المصباح : كلّ شيء يستره الإنسان أنفةً وحياءً فهو عورة .
وستر العورة في اصطلاح الفقهاء هو : تغطية الإنسان ما يقبح ظهوره ويستحى منه ، ذكراً كان أو أنثى أو خنثى على ما سيأتي تفصيله .
ما يتعلّق بستر العورة من أحكام :
أوّلاً - ستر العورة عمّن لا يحلّ له النّظر :
2 -اتّفق الفقهاء على أنّ ستر العورة من الرّجل والمرأة واجب عمّن لا يحلّ له النّظر إليها. وما يجب ستره في الجملة بالنّسبة للمرأة جميع جسدها عدا الوجه والكفّين ، وهذا بالنّسبة للأجنبيّ .
أمّا بالنّسبة لمحارمها من الرّجال فعورتها عند المالكيّة والحنابلة ما عدا الوجه والأطراف " الرّأس والعنق " . وضبط الحنابلة ذلك بأنّه ما يستتر غالباً وهو ما عدا الوجه والرّأس والرّقبة واليدين والقدمين والسّاقين . وقال الحنفيّة : ما عدا الصّدر أيضاً .
وقال الشّافعيّة : ما بين السّرّة والرّكبة ، كما أنّ عورة المرأة الّتي يجب سترها بالنّسبة لغيرها من النّساء هي ما بين السّرّة والرّكبة .
أمّا عورة الرّجل فهي ما بين السّرّة والرّكبة .
وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في مصطلح ( عورة ) .
والدّليل على وجوب ستر العورة قول اللّه تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لأسماء بنت أبي بكر : يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفّيه » ، وورد « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالنّسبة لعورة الرّجال أنّها ما بين السّرّة إلى الرّكبة » .
3 - ويشترط في السّاتر أن لا يكون رقيقاً يصف ما تحته بل يكون كثيفاً لا يرى منه لون البشرة ويشترط كذلك أن لا يكون مهلهلاً ترى منه أجزاء الجسم لأنّ مقصود السّتر لا يحصل بذلك .
ومن المعلوم أنّ ستر العورة غير واجب بين الرّجل وزوجته ، إذ كشف العورة مباح بينهما ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك » .
4 - والصّغيرة إن كانت كبنت سبع سنين إلى تسع فعورتها الّتي يجب سترها هي ما بين السّرّة والرّكبة ، وإن كانت أقلّ من سبع سنين فلا حكم لعورتها - وهذا كما يقول الحنابلة - وينظر تفصيل ذلك في : ( عورة ) .
والمراهق الّذي يميّز بين العورة وغيرها يجب على المرأة أن تستر عورتها عنه ، أمّا إن كان لا يميّز بين العورة وغيرها فلا بأس من إبداء مواضع الزّينة أمامه .
لقوله تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء } .
ويستثنى من وجوب ستر العورة ما كان لضرورة ، كعلاج وشهادة ، جاء في الشّرح الصّغير: يجب ستر العورة عمّن يحرم النّظر إليها من غير الزّوجة والأمة إلاّ لضرورة فلا يحرم بل قد يجب ، وإذا كشف للضّرورة كالطّبيب يبقر له ثوب على قدر موضع العلّة .
ستر العورة في الصّلاة :
5 - ستر العورة شرط من شروط صحّة الصّلاة لقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } والآية إن كانت نزلت بسبب خاصّ فالعبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد بالزّينة في الآية : الثّياب في الصّلاة ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » .
وقد أجمع الفقهاء على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلّى عرياناً . ويشترط في السّاتر أنّه يمنع إدراك لون البشرة .
ومن لم يجد إلاّ ثوباً نجساً أو ثوباً من الحرير صلّى به ولا يصلّي عرياناً ، لأنّ فرض السّتر أقوى من منع النّجس والحرير في هذه الحالة .
على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( صلاة ) .
هذا ويختلف الفقهاء في تحديد العورة الواجب سترها في الصّلاة .
وينظر تفصيل ذلك في ( عورة ) .
ثانياً : ستر العورة في الخلوة :
6 - كما يجب ستر العورة عن أعين النّاس يجب كذلك سترها ولو كان الإنسان في خلوة ، أي في مكان خال من النّاس . والقول بالوجوب هو مذهب الحنفيّة على الصّحيح ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وقال المالكيّة : يندب ستر العورة في الخلوة .(/1)
والسّتر في الخلوة مطلوب حياءً من اللّه تعالى وملائكته ، والقائلون بالوجوب قالوا : إنّما وجب لإطلاق الأمر بالسّتر ، ولأنّ اللّه تعالى أحقّ أن يستحيا منه ، وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه « قال : قلت : يا رسول اللّه ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ممّا ملكت يمينك ، فقال : الرّجل يكون مع الرّجل ؟ قال : إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل ، قلت : والرّجل يكون خالياً ؟ قال : فاللّه أحقّ أن يستحيا منه » . والسّتر في الخلوة مطلوب إلاّ لحاجة ، كاغتسال وتبرّد ونحوه .(/2)
سترة المصلّي *
التّعريف :
1 - السّترة بالضّمّ مأخوذة من السّتر ، وهي في اللّغة ما استترت به من شيء كائناً ما كان، وكذا السّتار والسّتارة ، والجمع : السّتائر والسّتر ، ويقال : ستره سَتْراً وسَتَراً : أخفاه . وسترة المصلّي في الاصطلاح : هي ما يغرز أو ينصب أمام المصلّي من عصا أو غير ذلك ، أو ما يجعله المصلّي أمامه لمنع المارّين بين يديه .
وعرّفها البهوتيّ : بأنّها ما يستتر به من جدار أو شيء شاخص ... أو غير ذلك يصلّى إليه. وجميع هذه التّعريفات متقاربة .
الحكم التّكليفيّ :
2 - يسنّ للمصلّي إذا كان فذّاً " منفرداً " أو إماماً أن يتّخذ أمامه سترةً تمنع المرور بين يديه ، وتمكّنه من الخشوع في أفعال الصّلاة ، وذلك لما ورد عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا صلّى أحدكم فليصلّ إلى سترة ، وليدن منها ، ولا يدع أحداً يمرّ بين يديه » . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم » ، وهذا يشمل السّفر والحضر ، كما يشمل الفرض والنّفل .
والمقصود منها كفّ بصر المصلّي عمّا وراءها ، وجمع الخاطر بربط خياله كي لا ينتشر ، ومنع المارّ كي لا يرتكب الإثم بالمرور بين يديه .
والأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب ، قال ابن عابدين : صرّح في المنية بكراهة تركها، وهي تنزيهيّة ، والصّارف للأمر عن حقيقته ما رواه أبو داود عن الفضل بن العبّاس رضي الله عنهما : قال « أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية لنا فصلّى في صحراء ليس بين يديه سترة » .
ومثله ما ذكره الحنابلة قال البهوتيّ : وليس ذلك بواجب لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في فضاء ليس بين يديه شيء » هذا ، ويستحبّ ذلك عند الحنفيّة والمالكيّة في المشهور ، للإمام والمنفرد إذا ظنّ مروراً بين يديه ، وإلاّ فلا تسنّ السّترة لهما . ونقل عن مالك الأمر بها مطلقاً ، وبه قال ابن حبيب واختاره اللّخميّ .
أمّا الشّافعيّة فأطلقوا القول بأنّها سنّة ، ولم يذكروا قيداً .
وقال الحنابلة : تسنّ السّترة للإمام والمنفرد ولو لم يخش مارّاً .
أمّا المأموم فلا يستحبّ له اتّخاذ السّترة اتّفاقاً ، لأنّ سترة الإمام سترة لمن خلفه ، أو لأنّ الإمام سترة له ، على اختلاف عند الفقهاء . وسيأتي تفصيله .
ما يجعل سترةً :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يصحّ أن يستتر المصلّي بكلّ ما انتصب من الأشياء كالجدار والشّجر والأسطوانة والعمود ، أو بما غرز كالعصا والرّمح والسّهم وما شاكلها ، وينبغي أن يكون ثابتًا غير شاغل للمصلّي عن الخشوع .
واستثنى المالكيّة الاستتار بحجر واحد وقالوا : يكره به مع وجود غيره لشبهه بعبادة الصّنم، فإن لم يجد غيره جاز ، كما يجوز بأكثر من واحد .
أمّا الاستتار بالآدميّ أو الدّابّة أو الخطّ أو نحوها فللفقهاء في ذلك تفصيل وخلاف ، وبيانه فيما يلي :
أ - الاستتار بالآدميّ :
4 - ذهب جمهور الفقهاء : الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة إلى صحّة الاستتار بالآدميّ في الصّلاة ، وذلك في الجملة ، لكنّهم اختلفوا في التّفاصيل .
فقال الحنفيّة والمالكيّة : يصحّ أن يستتر بظهر كلّ رجل قائم أو قاعد ، لا بوجهه ، ولا بنائم، ومنعوا الاستتار بالمرأة غير المحرم .
أمّا ظهر المرأة المحرم فاختلف الحنفيّة في جواز الاستتار به ، كما ذكر المالكيّة فيه قولين أرجحهما عند المتأخّرين الجواز .
والأوجه عند الشّافعيّة عدم الاكتفاء بالسّترة بالآدميّ ، ولهذا قرّروا أنّ بعض الصّفوف - لا يكون سترةً لبعض آخر .
وفصّل بعضهم فقالوا : لو كانت السّترة آدميّاً أو بهيمةً ولم يحصل بسبب ذلك اشتغال ينافي خشوعه فقيل يكفي ، وإن حصل له الاشتغال لا يعتدّ بتلك السّترة .
أمّا الحنابلة فقد أطلقوا جواز الاستتار بآدميّ غير كافر .
وأمّا الصّلاة إلى وجه الإنسان فتكره عند الجميع ، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي وسط السّرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة ، تكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فأستقبله ، فأنسلّ انسلالاً » .
وروي أنّ عمر رضي الله عنه أدّب على ذلك .
ب - الاستتار بالدّابّة :
5 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز الاستتار بالدّابّة مطلقاً ، قال المقدسيّ في الشّرح الكبير على المقنع : لا بأس أن يستتر ببعير أو حيوان ، فعله ابن عمر وأنس رضي الله تعالى عنهما ، لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى إلى بعير » .
ومنع المالكيّة الاستتار بالدّابّة ، إمّا لنجاسة فضلتها كالبغل والحمار ونحوهما ، وإمّا لعدم ثباتها كالشّاة ، وإمّا لكلتا العلّتين كالفرس .
وقالوا : إن كانت فضلتها طاهرةً وربطت جاز الاستتار بها .
أمّا الشّافعيّة فالأوجه عندهم أنّه لا يجوز الاستتار بالدّابّة كما لا يجوز بالإنسان .
ولأنّه لا يؤمن أن يشتغل به فيتغافل عن صلاته . وفي قول عندهم : يجوز الاستتار بالبهيمة.
قال محمّد الرّمليّ : أمّا الدّابّة ففي الصّحيحين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعله ، وكأنّه لم يبلغ الشّافعيّ ، ويتعيّن العمل به ، وحمل بعضهم المنع على غير البعير .
ج - التّستّر بالخطّ :(/1)
6 - إن لم يجد المصلّي ما ينصبه أمامه فليخطّ خطّاً ، وهذا عند جمهور الفقهاء : ( الشّافعيّة والحنابلة ، والرّاجح عند متأخّري الحنفيّة ) لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصا ، فإن لم يكن معه عصا فليخطّ خطّاً ، ثمّ لا يضرّه ما مرّ أمامه » .
ولأنّ المقصود جمع الخاطر بربط الخيال كي لا ينتشر ، وهو يحصل بالخطّ .
ورجّح الكمال بن الهمام من الحنفيّة صحّة التّستّر بالخطّ وقال : لأنّ السّنّة أولى بالاتّباع . وقاس الحنفيّة والشّافعيّة على الخطّ المصلّى ، كسجّادة مفروشة ، قال الطّحطاويّ : وهو قياس أولى ، لأنّ المصلّى أبلغ في دفع المارّ من الخطّ .
ولهذا قدّم الشّافعيّة المصلّى على الخطّ وقالوا : قدّم على الخطّ لأنّه أظهر في المراد .
وقال المالكيّة : لا يصحّ التّستّر بخطّ يخطّه في الأرض ، وهذا قول متقدّمي الحنفيّة أيضاً واختاره في الهداية ، لأنّه لا يحصل به المقصود ، إذ لا يظهر من بعيد .
التّرتيب فيما يجعل سترةً :
7 - ذكر الشّافعيّة لاتّخاذ السّترة أربع مراتب وقالوا : لو عدل إلى مرتبة وهو قادر على ما قبلها لم تحصل سنّة الاستتار . فيسنّ عندهم أوّلاً التّستّر بجدار أو سارية ، ثمّ إذا عجز عنها فإلى نحو عصا مغروزة ، وعند عجزه عنها يبسط مصلّى كسجّادة ، وإذا عجز عنها يخطّ قبالته خطّاً طولاً ، وذلك أخذاً بنصّ الحديث الّذي رواه أبو داود عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا صلّى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً فإن لم يجد فلينصب عصاً ، فإن لم يكن معه عصا فليخطّ خطّاً ، ثمّ لا يضرّه ما مرّ أمامه » وقالوا : المراد بالعجز عدم السّهولة .
وهذا هو المفهوم من كلام الحنفيّة والحنابلة أيضاً وإن لم يصرّحوا بالمراتب .
قال ابن عابدين : المفهوم من كلامهم أنّه عند إمكان الغرز لا يكفي الوضع ، وعند إمكان الوضع لا يكفي الخطّ .
وعبارة الحنابلة تفيد ذلك حيث قالوا : فإن لم يجد شاخصاً وتعذّر غرز عصا ونحوها ، وضعها بالأرض ، ويكفي خيط ونحوه .. فإن لم يجد خطّ خطّاً .
أمّا المالكيّة فقد تقدّم أنّهم لا يجيزون الخطّ .
مقدار السّترة وصفتها :
8 - يرى الحنفيّة والمالكيّة أنّه إذا صلّى في الصّحراء أو فيما يخشى المرور بين يديه يستحبّ له أن يغرز سترةً بطول ذراع فصاعداً .
قال الحنفيّة : في الاعتداد بأقلّ من الذّراع خلاف . والمراد بالذّراع ذراع اليد ، وهو شبران . وقال الشّافعيّة : طول السّترة يكون ثلثي ذراع فأكثر تقريباً .
وقال الحنابلة : إن كان في فضاء صلّى إلى سترة بين يديه مرتفعةً قدر ذراع فأقلّ .
والأصل في ذلك حديث طلحة بن عبيد اللّه رضي الله عنه مرفوعاً : « إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخّرة الرّحل فليصلّ ولا يبال من مرّ وراء ذلك » .
ومؤخّرة الرّحل هي العود الّذي في آخر الرّحل يحاذي رأس الرّاكب على البعير .
قال الحنفيّة : فسّرت بأنّها ذراع فما فوقه .
وقال الحنابلة : تختلف ، فتارةً تكون ذراعاً وتارةً تكون دونه .
وأمّا قدرها في الغلظ فلم يحدّده الشّافعيّة والحنابلة ، فقد تكون غليظةً كالحائط والبعير ، أو رقيقةً كالسّهم ، لأنّه صلى الله عليه وسلم صلّى إلى حربة وإلى بعير .
أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا في أكثر المتون بأن تكون السّترة بغلظ الأصبع ، وذلك أدناه لأنّ ما دونه ربّما لا يظهر للنّاظر فلا يحصل المقصود منها . لكن قال ابن عابدين : جعل في البدائع بيان الغلظ قولاً ضعيفاً ، وأنّه لا اعتبار بالعرض ، وظاهره أنّه المذهب . ويؤيّده ما ورد أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « يجزئ من السّترة قدر مؤخّرة الرّحل ولو بدقّة شعرة » .
وقال المالكيّة : يكون غلظها غلظ رمح على الأقلّ ، فلا يكفي أدقّ منه ، ونقل عن ابن حبيب أنّه قال : لا بأس أن تكون السّترة دون مؤخّرة الرّحل في الطّول ودون الرّمح في الغلظ .
كيفيّة نصب أو وضع السّترة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ في السّترة أن تنصب أو تغرز أمام المصلّي ، وتجعل على جهة أحد حاجبيه ، وهذا إذا كان غرزها ممكناً ، وإلاّ بأن كانت الأرض صلبةً مثلاً ، فهل يكفي وضع السّترة أمام المصلّي طولاً أو عرضاً ؟
اختلف الفقهاء في ذلك : فقال الحنفيّة : يلقي ما معه من عصاً أو غيرها طولاً ، كأنّه غرز ثمّ سقط ، وهذا اختيار الفقيه أبي جعفر ، واختار بعضهم أنّه لا يجزئ ، وإن لم يجد ما ينصبه فليخطّ خطّاً بالعرض مثل الهلال ، أو يجعله طولاً بمنزلة الخشبة المغروزة أمامه . فيصير شبه ظلّ العصا ، وهو اختيار المتأخّرين من الحنفيّة .
ومثله ما ذكره الشّافعيّة والحنابلة ، يقول الخطيب الشّربينيّ : إذا عجز عن غيره فليخطّ أمامه خطّاً طولاً . وفي حاشية الجمل : هذا هو الأكمل ويحصل أصل السّنّة بجعله عرضاً . وعبارة الحنابلة : إن تعذّر غرز عصاً ونحوها يكفي وضعها بالأرض .. ووضعها عرضاً أعجب إلى أحمد من الطّول .
فإن لم يجد خطّ خطّاً كالهلال لا طولاً . لكن نقل البهوتيّ عن الشّرح : وكيفما خطّ أجزأه .
أمّا المالكيّة فاشترطوا أن تكون السّترة ثابتةً ولا يجيزون الخطّ أصلاً .
موقف المصلّي من السّترة :(/2)
10 - يسنّ لمن أراد أن يصلّي إلى سترة أن يقرب منها نحو ثلاثة أذرع من قدميه ولا يزيد على ذلك . لحديث سهل بن أبي حثمة مرفوعاً : « إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن منها ، لا يقطع الشّيطان عليه صلاته » . وعن سهل بن سعد قال : « كان بين مصلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممرّ الشّاة » . وورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع » . وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وهو المفهوم من كلام المالكيّة لأنّ الفاصل بين المصلّي والسّترة يكون بمقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده ، لأنّ الأرجح عندهم أنّ حريم المصلّي هو هذا المقدار ، سواء أصلّى إلى سترة أم لا .
ويسنّ انحراف المصلّي عن السّترة يسيراً ، بأن يجعلها على جهة أحد حاجبيه ، ولا يصمد إليها صمدًا أي لا يقابلها مستوياً مستقيماً ، لما روي عن المقداد رضي الله عنه أنّه قال : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلاّ جعله على حاجبيه الأيمن أو الأيسر ، ولا يصمد له صمداً » .
وهذا إذا كانت السّترة نحو عصا منصوبة أو حجر بخلاف الجدار العريض ونحوه ، وبخلاف الصّلاة على السّجّادة ، لأنّ الصّلاة تكون عليها لا إليها .
سترة الإمام سترة للمأمومين :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ سترة الإمام تكفي المأمومين سواء أصلّوا خلفه أم بجانبيه .
فلا يستحبّ للمأموم أن يتّخذ سترةً . وذلك لما ورد في الحديث « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بالأبطح إلى عنزة ركزت له ولم يكن للقوم سترة » .
واختلفوا : هل سترة الإمام سترة لمن خلفه ، أو هي سترة له خاصّةً وهو سترة لمن خلفه ، ففي أكثر كتب الحنفيّة والحنابلة أنّ سترة الإمام سترة لمن خلفه .
وذكر المالكيّة وبعض الحنابلة الخلاف في ذلك . قال بعضهم : الخلاف لفظيّ والمعنى واحد . وقال آخرون : الخلاف حقيقيّ وله ثمرة ، فإن قلنا : الإمام سترة لمن خلفه كما نقل عن مالك وغيره يمتنع المرور بين الإمام وبين الصّفّ الّذي خلفه كما يمنع المرور بينه وبين سترته ، لأنّه مرور بين المصلّي وسترته فيهما ، ويجوز المرور بين الصّفّ الّذي خلفه والصّفّ الّذي بعده لأنّه قد حال بينهما حائل وهو الصّفّ الأوّل ، وإن قلنا : إنّ سترة الإمام سترة لهم كما يقول عبد الوهّاب من المالكيّة وغيره فيجوز المرور بين الصّفّ الأوّل والإمام لوجود الحائل وهو الإمام . قال الدّسوقيّ : والحقّ أنّ الخلاف حقيقيّ والمعتمد قول مالك .
المرور بين المصلّي والسّترة :
12 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المرور وراء السّترة لا يضرّ ، وأنّ المرور بين المصلّي وسترته منهيّ عنه ، فيأثم المارّ بين يديه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم المارّ بين يدي المصلّي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرّ بين يديه » . ويرى جمهور الفقهاء : الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : أنّ المارّ بين يدي المصلّي آثم ولو لم يصلّ إلى سترة . وذلك إذا مرّ قريباً منه ، واختلفوا في حدّ القرب .
قال بعضهم : ثلاثة أذرع فأقلّ . أو ما يحتاج له في ركوعه وسجوده .
والصّحيح عند الحنابلة تحديد ذلك بما إذا مشى إليه ودفع المارّ بين يديه لا تبطل صلاته . والأصحّ عند الحنفيّة أن يكون المرور من موضع قدمه إلى موضع سجوده ، وقال بعضهم : إنّه قدر ما يقع بصره على المارّ لو صلّى بخشوع ، أي رامياً ببصره إلى موضع سجوده . وقيّد المالكيّة الإثم بما إذا مرّ في حريم المصلّي من كانت له مندوحة أي سعة المرور بعيداً عن حريم المصلّي ، وإلاّ فلا إثم ، وكذا لو كان يصلّي بالمسجد الحرام فمرّ بين يديه من يطوف بالبيت وقالوا : يأثم مصلّ تعرّض بصلاته من غير سترة في محلّ يظنّ به المرور ، ومرّ بين يديه أحد .
ونقل ابن عابدين عن بعض الفقهاء أنّ هنا صوراً أربعاً :
الأولى : أن يكون للمارّ مندوحة عن المرور بين يدي المصلّي ولم يتعرّض المصلّي لذلك فيختصّ المارّ بالإثم إن مرّ .
الثّانية : أن يكون المصلّي تعرّض للمرور والمارّ ليس له مندوحة عن المرور ، فيختصّ المصلّي بالإثم دون المارّ .
الثّالثة : أن يتعرّض المصلّي للمرور ويكون للمارّ مندوحة ، فيأثمان معاً ، أمّا المصلّي فلتعرّضه ، وأمّا المارّ فلمروره مع إمكان أن لا يفعل .
الرّابعة : أن لا يتعرّض المصلّي ولا يكون للمارّ مندوحة ، فلا يأثم واحد منهما .
ومثله ما ذكره بعض المالكيّة .
أمّا الشّافعيّة فقد صرّحوا بحرمة المرور بين يدي المصلّي إذا صلّى إلى سترة وإن لم يجد المارّ سبيلاً آخر ، وهذا إذا لم يتعدّ المصلّي بصلاته في المكان ، وإلاّ كأن وقف بقارعة الطّريق أو استتر بسترة في مكان مغصوب فلا حرمة ولا كراهة .
ولو صلّى بلا سترة ، أو تباعد عنها ، أو لم تكن السّترة بالصّفة المذكورة فلا يحرم المرور بين يديه ، وليس له دفع المارّ لتعدّيه بصلاته في ذلك المكان .
هذا واستثنى الفقهاء من الإثم المرور بين يدي المصلّي للطّائف أو لسدّ فرجة في صفّ أو لغسل رعاف أو ما شاكل ذلك .
أثر المرور بين يدي المصلّي في قطع الصّلاة :
13 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ مرور شيء بين المصلّي والسّترة لا يقطع الصّلاة ولا يفسدها ، أيّاً كان ، ولو كان بالصّفة الّتي توجب الإثم على المارّ ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقطع الصّلاة شيء وادرءوا ما استطعتم » .
وقال الحنابلة مثل ذلك ، إلاّ أنّهم استثنوا الكلب الأسود البهيم فرأوا أنّه يقطع الصّلاة .
دفع المارّ بين المصلّي والسّترة :(/3)
14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ للمصلّي أن يدفع المارّ من إنسان أو بهيمة إذا مرّ بينه وبين سترته أو قريباً منه ، لما ورد فيه من أحاديث منها . ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره من النّاس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه ، فإن أبى فليقاتله فإنّما هو شيطان » .
قال الصّنعانيّ : أي فعله فعل الشّيطان في إرادة التّشويش على المصلّي ، وقيل : المراد بأنّ الحامل له على ذلك شيطان ، ويدلّ على ذلك ما في رواية مسلم : « فإنّ معه القرين » أي شيطان ، والحديث دالّ بمفهومه على أنّه إذا لم يكن للمصلّي سترة فليس له دفع المارّ بين يديه . ا هـ . وهو كذلك عند الشّافعيّة .
15 - واتّفق الفقهاء على أنّ الدّفع ليس واجباً ، وكأنّ الصّارف للحديث عن الوجوب شدّة منافاته مقصود الصّلاة من الخشوع والتّدبّر ، وأيضاً للاختلاف في تحريم المرور كما وجّهه الشّربينيّ من الشّافعيّة . ومثله ما في كتب الحنفيّة والمالكيّة .
ثمّ اختلفوا في أفضليّة الدّفع ، فقال الحنفيّة : رخّص للمصلّي الدّفع ، والأولى ترك الدّفع لأنّ مبنى الصّلاة على السّكون والخشوع ، والأمر بالدّرء لبيان الرّخصة ، كالأمر بقتل الأسودين ( الحيّة والعقرب ) في الصّلاة .
وقريب من الحنفيّة مذهب المالكيّة حيث قالوا : للمصلّي دفع ذلك المارّ بين يديه دفعاً خفيفاً لا يشغله .
أمّا الشّافعيّة فقالوا : يسنّ ذلك للمصلّي إذا صلّى إلى سترة من جدار أو سارية أو عصا أو نحوها ، لما ورد في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه المتقدّم نصّه .
وقال الحنابلة : يستحبّ أن يردّ ما مرّ بين يديه من كبير وصغير وبهيمة ، لما ورد « أنّه صلى الله عليه وسلم ردّ عمر بن أبي سلمة وزينب وهما صغيران » .
وفي حديث ابن عبّاس « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي فمرّت شاة بين يديه ، فساعاها إلى القبلة حتّى ألزق بطنه بالقبلة » .
كيفيّة دفع المارّ بين يدي المصلّي والسّترة :
16 - اختلفت عبارات الفقهاء في كيفيّة الدّفع وما ينشأ عنه من ضمان ، واتّفقوا على أن يكون دفع بالتّدريج ، ويراعى فيه الأسهل فالأسهل .
قال النّوويّ في المجموع : مذهب الشّافعيّة استحباب التّسبيح للرّجل والتّصفيق للمرأة ، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ، وقال مالك : تسبّح المرأة أيضاً . أ هـ .
وقال الحنفيّة : يدفعه بالإشارة أو التّسبيح ، وكره الجمع بينهما ، ويدفعه الرّجل برفع الصّوت بالقراءة ، وتدفعه المرأة بالإشارة أو التّصفيق بظهر أصابع اليمنى على صفحة كفّ اليسرى ولا ترفع صوتها ، لأنّه فتنة ، ولا يقاتل المارّ ، وما ورد فيه من الحديث مؤوّل بأنّه كان جواز مقاتلته في ابتداء الإسلام وقد نسخ . ولا يجوز له المشي من موضعه ليردّه ، وإنّما يدفعه ويردّه من موضعه ، لأنّ مفسدة المشي أعظم من مروره بين يديه .
وقريب من الحنفيّة مذهب المالكيّة حيث قالوا : للمصلّي دفع ذلك المارّ دفعاً خفيفاً لا يشغله عن الصّلاة . فإن كثر أبطل صلاته .(/4)
سجود التّلاوة *
التّعريف :
1 - السّجود لغةً : مصدر سجد ، وأصل السّجود التّطامن والخضوع والتّذلّل .
والسّجود في الاصطلاح : وضع الجبهة أو بعضها على الأرض أو ما اتّصل بها من ثابت مستقرّ على هيئة مخصوصة .
والتّلاوة : مصدر تلا يتلو ، يقال : تلوت القرآن تلاوةً إذا قرأته ، وعمّ بعضهم به كلّ كلام .
وسجود التّلاوة : هو الّذي سبب وجوبه - أو ندبه - تلاوة آية من آيات السّجود .
الحكم التّكليفي :
2 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة سجود التلاوة ، للآيات والأحاديث الواردة فيه ، لكنّهم اختلفوا في صفة مشروعيته أواجب هو أو مندوب .
فذهب الشّافعية و الحنابلة إلى أنّ سجود التّلاوة سنّة مؤكّدة عقب تلاوة آية السّجدة لقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ، وَيقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
ولما ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« إذا قرأ ابن آدم السّجدة فسجد ، اعتزل الشّيطان يبكي ، يقول يا ويلي ، وفي رواية ياويله - أمر ابن آدم بالسّجود فسجد فله الجنّة ، و أمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار » .
ولما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ علينا السّورة فيها السّجدة فيسجد ونسجد » .
وليس سجود التّلاوة بواجب - عندهم - لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم تركه ، وقد قرأت عليه سورة { وَالنَّجْمِ ... } وفيها سجدة ، روى زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : « قرأت على النّبي صلى الله عليه وسلّم وَالنَّجْمِ فلم يسجد فيها » وفي رواية : « فلم يسجد منّا أحد » وروى البخاري « أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النّحل حتّى إذا جاء السّجدة نزل فسجد ، فسجد النّاس ، حتّى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتّى إذا جاء السّجدة قال : " يا أيّها النّاس ، إنّا نمر بالسّجود ، فمن سجد فقد أصاب ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد عمر رضي الله تعالى عنه » ورواه مالك في الموطّأ وقال فيه : « على رسلكم ، إنّ الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ، فلم يسجد ، ومنعهم أن يسجدوا ، وكان بمحضر من الصحابة ، ولم ينكروا عليه فكان إجماعاً » .
واستدلوا أيضاً بما جاء في حديث الأعرابي من قوله صلى الله عليه وسلم « خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : هل عليّ غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تتطوع » . وبأنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يثبت صحيح صريح في الأمر به ولا معارض له ولم يثبت ، وبأنه يجوز سجود التّلاة على الراحلة بالاتّفاق في السّفر ولو كان واجباً لم يجز كسجود صلاة الفرض .
واختلف فقهاء المالكّية في حكم سجود التّلاوة ، هل هو سنّة غير مؤكّدة أو فضيلة ، والقول بالسّنية شهّره ابن عطاء الله وابن الفاكهاني وعليه الأكثر ، والقول بأنّه فضيلة هو قول الباجي وابن الكاتب وصدّر به ابن الحاجب ومن قاعدته تشهير ما صدّر به ، وهذا الخلاف في حق المكلّف . أما الصّبي فيندب له فقط ، وفائدة الخلاف كثرة الثّواب وقلّته ، وأما السّجود في الصّلاة ولو فرضاً فمطلوب على القولين ، وقال ابن العربي : وسجود التّلاوة واجب وجوب سنّة لا يأثم من تركه عامداً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ سجود التّلاوة أو بدله كالإيماء واجب لحديث : « السّجدة على من سمعها ...» وعلى للوجوب ، ولحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : « إذا قرأ ابن آدم السّجدة فسجد اعتزل الشّيطان يبكي ، يقول ياويله أمر ابن آدم بالسّجود فسجد فله الجنّة ، وأمرت بالسّجود فأبيت فلي النّار » .
شروط سجود التّلاوة :
الطّهارة من الحدث والخبث :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يشترط لصحّة سجود التّلاوة الطّهارة من الحدث والخبث في البدن والثّوب والمكان ، لكون سجود التّلاوة صلاةً أو جزءاً من الصّلاة أو في معنى الصّلاة ، فيشترط لصحّته الطّهارة الّتي شرطت لصحّة الصّلاة ، والّتي لا تقبل الصّلاة إلاّ بها ، لما روى عبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لا تقبل صلاة بغير طهور » فيدخل في عمومه سجود التّلاوة .
وقال ابن قدامة : يشترط لسجود التّلاوة ما يشترط لصلاة النّافلة من الطّهارتين من الحدث والنّجس ... ولا نعلم فيه خلافاً إلاّ ما روي عن عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه في الحائض تسمع السّجدة : تومئ برأسها ، وبه قال سعيد بن المسيّب قال : ويقول : اللّهمّ لك سجدت ، وعن الشّعبيّ فيمن سمع السّجدة على غير وضوء : يسجد حيث كان وجهه .
وقال القرطبيّ : لا خلاف في أنّ سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصّلاة من طهارة حدث ونجس .. إلاّ ما ذكر البخاريّ عن عبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّه كان يسجد على غير طهارة . وذكره ابن المنذر عن الشّعبيّ .
وعند المالكيّة في اشتراط الطّهارة لسجود التّلاوة خلافه للنّاصر اللّقانيّ .
قال أبو العبّاس : والّذي تبيّن لي أنّ سجود التّلاوة واجب مطلقاً في الصّلاة وغيرها .
وهو رواية عن أحمد ، ومذهب طائفة من العلماء ، ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل .
هذا هو السّنّة المعروفة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليها عامّة السّلف .(/1)
وعلى هذا فليس هو صلاةً . فلا يشترط له شروط الصّلاة . بل يجوز على غير طهارة . كان ابن عمر يسجد على غير طهارة . واختارها البخاريّ . لكنّ السّجود بشروط الصّلاة أفضل ، ولا ينبغي أن يخلّ بذلك إلاّ لعذر .
فالسّجود بلا طهارة خير من الإخلال به ، لكن قد يقال : إنّه لا يجب في هذه الحال كما لا يجب على السّامع إذا لم يسجد قارئ السّجود . وإن كان ذلك السّجود جائزاً عند جمهور العلماء .
وأمّا ستر العورة واستقبال القبلة والنّيّة فهي شروط لصحّة سجود التّلاوة على التّفصيل المبيّن في مصطلح : ( صلاة ، و عورة ) على أنّ الشّافعيّة اعتبروا النّيّة ركناً .
دخول الوقت :
4 - يشترط لصحّة سجود التّلاوة دخول وقت السّجود ، ويحصل ذلك عند جمهور الفقهاء بقراءة جميع آية السّجدة أو سماعها ، فلو سجد قبل الانتهاء إلى آخر الآية ولو بحرف واحد لم يصحّ السّجود ، لأنّه يكون قد سجد قبل دخول وقت السّجود فلا يصحّ ، كما لا تصحّ الصّلاة قبل دخول وقتها .
واختلف الحنفيّة فيما يجب به سجود التّلاوة ، فقال الحصكفيّ : يجب سجود التّلاوة بسبب تلاوة آية ، أي أكثرها مع حرف السّجدة .
وعقّب ابن عابدين على ذلك بقوله : هذا خلاف الصّحيح الّذي جزم به في نور الإيضاح .
الكفّ عن مفسدات الصّلاة :
5 - يشترط لصحّة سجود التّلاوة الكفّ عن كلّ ما يفسد الصّلاة من قول أو فعل ، لأنّ سجود التّلاوة صلاة أو في معنى الصّلاة .
واشترط بعض الفقهاء شروطاً أخرى لصحّة سجود التّلاوة ، منها : ما اشترطه الشّافعيّة من كون القراءة مقصودةً ومشروعةً ، وعدم الفصل الطّويل بين قراءة آخر آية السّجدة والسّجود .
ومن ذلك ما ذهب إليه الحنابلة من أنّه يشترط لسجود المستمع أن يكون التّالي ممّن يصلح أن يكون إماماً له ، وأن يسجد التّالي .
مواضع سجود التّلاوة :
6 - مواضع سجود التّلاوة في القرآن الكريم خمسة عشر ، بعضها متّفق عليه ، وبعضها مختلف فيه ، وقيل ستّ عشرة بزيادة سجدة عند آية الحجر : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ } . خلافاً لجماهير العلماء .
مواضع السّجود المتّفق عليها :
7 - اتّفق الفقهاء على سجود التّلاوة في عشرة مواضع من القرآن الكريم .
1 - سورة الأعراف : وهي آخر آية فيها { ... وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } .
2 - سورة الرّعد : عند قول اللّه تعالى : { ... وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } من الآية الخامسة عشر .
3 - سورة النّحل عند قول اللّه تعالى : { ... وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } من الآية الخمسين .
4 - سورة الإسراء : عند قول اللّه تعالى : { ... وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } من الآية التّاسعة بعد المائة .
5- سورة مريم : عند قول اللّه تعالى : { ... خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } من الآية الثّامنة والخمسين .
6- سورة الحجّ : عند قول اللّه تعالى :{ ... إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الآية الثّامنة عشر.
7- سورة النّمل : عند قول اللّه تعالى : { ... رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } من الآية السّابعة والعشرين .
8- سورة السّجدة { الم تَنْزِيلُ ... } عند قول اللّه تعالى : { وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } من الآية الخامسة عشر .
9- سورة الفرقان : عند قول اللّه تعالى : { ... وَزَادَهُمْ نُفُوراً } من الآية السّتّين .
10 - سورة حم السّجدة " فصّلت " . عند قول اللّه تعالى : { ... وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } من الآية الثّامنة والثّلاثين .
هذا على ما ذهب إليه الجمهور لفعل ابن عبّاس رضي الله عنهما ، وقيل : إنّ السّجود يكون عند قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } عند تمّام الآية السّابعة والثّلاثين ، وهو المشهور عند المالكيّة .
مواضع السّجود المختلف فيها :
اختلف الفقهاء في سجود التّلاوة عند خمسة مواضع من القرآن الكريم هي :
أ - السّجدة الثّانية في سورة الحجّ :
8 - اختلف الفقهاء في السّجود عند قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ... } إلخ .
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ في سورة الحجّ سجدتين ، إحداهما الّتي تقدّمت في المتّفق عليه ، والأخرى عند : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وهي الآية السّابعة والسّبعون.
لما روي عن « عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : قلت يا رسول اللّه : فضّلت سورة الحجّ بأنّ فيها سجدتين ؟ قال : نعم ، من لم يسجدهما فلا يقرأهما » ولأنّه قول عمر وعليّ وعبد اللّه بن عمر وأبي الدّرداء وأبي موسى رضي الله عنهم ، وأبي عبد الرّحمن السّلميّ ، وأبي العالية وزرّ بن حبيش ، قال ابن قدامة : لم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم ، وقد قال أبو إسحاق السّبيعيّ التّابعيّ الكبير : أدركت النّاس منذ سبعين سنةً يسجدون في الحجّ سجدتين ، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : لو كنت تاركاً إحداهما لتركت الأولى ، وذلك لأنّها إخبار ، والثّانية أمر .(/2)
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا سجود في هذا الموطن ، واستدلّوا بما روي عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه « أنّه عدّ السّجدات الّتي سمعها من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعدّ في الحجّ سجدةً واحدةً » . وعن عبد اللّه بن عبّاس وعبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا : سجدة التّلاوة في الحجّ هي الأولى ، والثّانية سجدة الصّلاة ، ولأنّ السّجدة متى قرنت الرّكوع كانت عبارةً عن سجدة الصّلاة كما في قول اللّه تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } ولعدم سجود فقهاء المدينة وقرّائهم فيها .
ب - سجدة سورة ( ص ) :
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى مشروعيّة السّجود للتّلاوة في سورة ( ص ) ، لكنّ الحنفيّة قالوا في الصّحيح عندهم : إنّ السّجود عند قول اللّه تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } .
وقال المالكيّة : السّجود عند قول اللّه عزّ وجلّ : ... { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } وهو المعتمد في المذهب خلافاً لمن قال السّجود عند قول اللّه تعالى : { وَحُسْنَ مَآبٍ } ، ومن المالكيّة من اختار السّجود في الأخير في كلّ موضع مختلف فيه ليخرج من الخلاف .
واستدلّ الحنفيّة لمذهبهم ، بما روى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سجد في ص » . وبما أخرجه أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : « رأيت رؤيا وأنا أكتب سورة ص فلمّا بلغت السّجدة رأيت الدّواة والقلم وكلّ شيء بحضرتي انقلب ساجداً ، فقصصتها على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها » .
قال الكمال بن الهمام في الاستدلال بالحديث : فأفاد أنّ الأمر صار إلى المواظبة عليها كغيرها من غير ترك .
واستدلّوا كذلك بما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنّه قرأ في الصّلاة سورة ( ص ) وسجد وسجد النّاس معه ، وكان ذلك بمحضر من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم ، ولم ينكر عليها أحد ، ولو لم تكن السّجدة واجبةً لما جاز إدخالها في الصّلاة .
وقالوا : كون سبب السّجود في حقّنا الشّكر لا ينافي الوجوب ، فكلّ الفرائض والواجبات إنّما وجبت شكراً لتوالي النّعم ، ونحن نسجد شكراً .
وذهب الشّافعيّة في المنصوص الّذي قطع به جمهورهم - والحنابلة - في المشهور في المذهب - إلى أنّ سجدة ( ص ) ليست من عزائم السّجود ، أي ليست من متأكّداته - فليست سجدة تلاوة ولكنّها سجدة شكر ، لما روى أبو داود عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: « قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص ، فلمّا بلغ السّجدة نزل فسجد ، وسجد النّاس معه ، فلمّا كان يوم آخر قرأها فلمّا بلغ السّجدة تشزّن النّاس للسّجود - أي تأهّبوا له - فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّما هي توبة نبيّ ، ولكنّي رأيتكم تشزّنتم للسّجود فنزل فسجد وسجدوا » ، وروى النّسائيّ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال : سجدها داود توبةً ، ونسجدها شكراً » . وروى البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : ( ص ) ليست من عزائم السّجود .
وقالوا : إذا قرأ ( ص ) من غير الصّلاة استحبّ أن يسجد لحديث أبي سعيد وابن عبّاس رضي الله تعالى عنهم ، وإن قرأها في الصّلاة ينبغي ألاّ يسجد ، فإن خالف وسجد ناسياً أو جاهلاً لم تبطل صلاته وسجد للسّهو ، وإن سجدها عامداً عالماً بتحريمها في الصّلاة بطلت صلاته على الأصحّ من الوجهين ، لأنّها سجدة شكر ، فبطلت بها الصّلاة كالسّجود في الصّلاة عند تجدّد نعمة ، ومقابل الأصحّ : لا تبطل لأنّها تتعلّق بالتّلاوة فهي كسائر سجدات التّلاوة ، ولو سجد إمامه في ( ص ) لكونه يعتقدها فثلاثة أوجه أصحّها : لا يتابعه بل إن شاء نوى مفارقته لأنّه معذور ، وإن شاء ينتظره قائماً كما لو قام إلى خامسة ، فإن انتظره لم يسجد للسّهو لأنّ المأموم لا سهو عليه ، والثّاني : لا يتابعه أيضاً ، وهو مخيّر في المفارقة والانتظار ، فإن انتظره سجد للسّهو بعد سلام الإمام ، لأنّه يعتقد أنّ إمامه زاد في صلاته جاهلاً ، وإنّ لسجود السّهو توجّهاً عليهما فإذا أخلّ به الإمام سجد المأموم ، والثّالث : يتابعه في سجوده في ( ص ) لتأكّد متابعة الإمام .
ومقابل المنصوص الّذي قطع به جمهور الشّافعيّة ومقابل المشهور في المذهب عند الحنابلة أنّ سجدة ( ص ) سجدة تلاوة من عزائم السّجود ، وهو قول أبي العبّاس بن سريج وأبي إسحاق المروزيّ من الشّافعيّة ، والرّواية الثّانية عن أحمد ، يسجد من تلاها أو سمعها وذلك لما رواه أبو موسى وأبو سعيد وعبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهم : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سجد فيها » .
وينظر حكم السّجود في الصّلاة من آية السّجدة في سورة( ص ) في بحث : ( سجود الشّكر).
ج - سجدات المفصّل :(/3)
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ في المفصّل ثلاث سجدات - المفصّل من أوّل سورة ( ق) إلى آخر المصحف - أحدها في آخر النّجم ، والثّانية في الآية الحادية والعشرين من سورة الانشقاق ، والثّالثة في آخر سورة العلق ، لما روي عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدةً منها ثلاث في المفصّل » . ولما روى أبو رافع قال : « صلّيت خلف أبي هريرة العتمة فقرأ { إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فسجد ، فقلت : ما هذه السّجدة ؟ فقال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتّى ألقاه » . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : « سجد نافع مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في { إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } » وعن عبد اللّه بن مسعود رضي الله تعالى عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النّجم فسجد بها ، وما بقي أحد من القوم إلاّ سجد » .
ولأنّ آية سورة النّجم : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } وآية آخر سورة العلق : { كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وكلتا الآيتين أمر بالسّجود .
ومشهور مذهب مالك أنّه لا سجود في شيء من المفصّل ، واستدلّوا بما روى زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : « قرأت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّجم فلم يسجد » وبما روي عن ابن عبّاس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا : ليس في المفصّل سجدة ، وبما أخرج ابن ماجه عن أبي الدّرداء رضي الله تعالى عنه قال : « سجدت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدةً ليس فيها من المفصّل شيء : الأعراف ، والرّعد ، والنّحل ، وبني إسرائيل ، ومريم ، والحجّ ، وسجدة الفرقان ، وسورة النّمل ، والسّجدة ، وفي ص وسجدة الحواميم » ، ولعمل أهل المدينة لعدم سجود فقهائها وقرّائها في النّجم والانشقاق . والمعتمد عند المالكيّة أنّ المصلّي إذا سجد للتّلاوة في ثانية الحجّ أو في سجدات المفصّل لم تبطل صلاته للخلاف فيها ، وقيل : تبطل صلاته إلاّ أن يكون مقتدياً بمن يسجدها فيسجد معه، فإن ترك اتّباعه أساء وصحّت صلاته ، ولو سجد دون إمامه بطلت صلاته .
ونقل الزّرقانيّ اتّجاهات المالكيّة في اعتبار الخلاف في مشروعيّة السّجود في ثانية الحجّ وسجدات المفصّل الثّلاث حقيقيّاً أو غير حقيقيّ ، فقال : جمهور المتأخّرين على أنّ هذا الخلاف حقيقيّ وهو ظاهر المصنّف خليل - وعليه فيمنع أن يسجدها في الصّلاة ، قال سند : لأنّه يزيد فيها فعلاً تبطل بمثله ، وسمّيت الإحدى عشرة عزائم مبالغةً في فعل السّجود مخافة أن تترك . وقيل : إنّ الخلاف غير حقيقيّ والسّجود في جميعها ، إلاّ أنّه في الإحدى عشرة آكد ، ويشهد له قول الموطّأ : عزائم السّجود إحدى عشرة أي المتأكّد منها .
كيفيّة سجود التّلاوة :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ سجود التّلاوة يحصل بسجدة واحدة ، وذهب جمهورهم إلى أنّ السّجدة للتّلاوة تكون بين تكبيرتين ، وأنّه يشترط فيها ويستحبّ لها ما يشترط ويستحبّ لسجدة الصّلاة من كشف الجبهة والمباشرة بها باليدين والرّكبتين والقدمين والأنف ، ومجافاة المرفقين من الجنبين والبطن عن الفخذين ، ورفع السّاجد أسافله عن أعاليه وتوجيه أصابعه إلى القبلة ، وغير ذلك .
لكنّهم اختلفوا في تفصيل كيفيّة أداء السّجود للتّلاوة اختلافاً يحسن معه إفراد أقوال كلّ مذهب ببيان :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ ركن سجدة التّلاوة السّجود أو بدله ممّا يقوم مقامه كركوع مصلّ وإيماء مريض وراكب .
وقالوا : إنّ سجود التّلاوة سجدة بين تكبيرتين مسنونتين جهراً ، واستحبّوا له الخرور له من قيام ، فمن أراد السّجود كبّر ولم يرفع يديه وسجد ثمّ كبّر ورفع رأسه اعتباراً بسجدة الصّلاة، لما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّه قال للتّالي : إذا قرأت سجدةً فكبّر واسجد وإذا رفعت رأسك فكبّر ، والتّكبيرتان عند الهويّ للسّجود وعند الرّفع منه مندوبتان لا واجبتان ، فلا يرفع السّاجد فيهما يديه ، لأنّ الرّفع للتّحريم ، ولا تحريم لسجود التّلاوة ، وقد اشترطت التّحريمة في الصّلاة لتوحيد الأفعال المختلفة فيها من قيام وقراءة وركوع وسجود ، وبالتّحريمة صارت فعلاً واحداً ، وأمّا سجدة التّلاوة فماهيّتها فعل واحد فاستغنت عن التّحريمة ، ولأنّ السّجود وجب تعظيماً للّه تعالى وخضوعاً له عزّ وجلّ . وتؤدّى سجدة التّلاوة - عند الحنفيّة - في الصّلاة بسجود أو ركوع غير ركوع الصّلاة وسجودها ، وتؤدّى بركوع الصّلاة إذا كان الرّكوع على الفور من قراءة آية أو آيتين وكذا الثّلاث على الظّاهر ، وكان المصلّي قد نوى كون الرّكوع لسجود التّلاوة على الرّاجح ، وتؤدّى بسجود الصّلاة على الفور وإن لم ينو ، ولو نواها الإمام في ركوعه ولم ينوها المؤتمّ لم تجزه ، ويسجد إذا سلّم الإمام ويعيد القعدة ، ولو تركها فسدت صلاته ، وذلك في الجهريّة ، والأصل في أدائها السّجود ، وهو أفضل ، ولو ركع المصلّي لها على الفور جاز ، وإن فات الفور لا يصحّ أن يركع لها ولو في حرمة الصّلاة ، فلا بدّ لها من سجود خاصّ بها ما دام في حرمة الصّلاة ، لأنّ سجدة التّلاوة صارت دينًا والدّين يقضى بما له لا بما عليه ، والرّكوع والسّجود عليه فلا يتأدّى به الدّين ، وإذا سجد للتّلاوة أو ركع لها على حدة فوراً يعود إلى القيام ، ويستحبّ أن لا يعقبه بالرّكوع بل يقرأ بعد قيامه آيتين أو ثلاثاً فصاعداً ثمّ يركع ، وإن كانت السّجدة من آخر السّورة يقرأ من سورة أخرى ثمّ يركع .(/4)
أمّا في خارج الصّلاة فلا يجزئ الرّكوع عن سجود التّلاوة لا قياساً ولا استحساناً كما في البدائع ، وهو المرويّ في الظّاهر .
وذهب المالكيّة إلى أنّ سجدة التّلاوة شابهت الصّلاة ، ولذا شرط لها ما شرط للصّلاة من الطّهارة وغيرها ، وشابهت القراءة لأنّها من توابعها ، ولذا تؤدّى - كالقراءة - بلا إحرام ، أي بغير تكبير للإحرام مع رفع اليدين عنده زيادةً على التّكبير للهويّ والرّفع ، وبلا سلام على المشهور .
وعدم مشروعيّة التّسليم في سجدة التّلاوة لا يعني عدم النّيّة لها ، لأنّ سجدة التّلاوة صلاة والنّيّة لا بدّ منها في الصّلاة بلا نزاع ، والنّيّة لسجدة التّلاوة هي أن ينوي أداء هذه السّنّة الّتي هي السّجدة ، قال الزّرقانيّ : ويكره الإحرام والسّلام ، لكن يبعد أو يمنع أن يتصوّر هويّه لسجدة التّلاوة من غير استحضار نيّة لتلك السّجدة .
وقالوا : وينحطّ السّاجد لسجدة التّلاوة من قيام ، ولا يجلس ليأتي بها منه ، وينزل الرّاكب ، ويكبّر لخفضه في سجوده والرّفع منه إذا كان بصلاة ، بل لو بغير صلاة ، خلافاً لمن قال : إنّ من سجد للتّلاوة بغير صلاة لا يكبّر لخفض ولا لرفع ، وقال بعض الشّرّاح : الظّاهر أنّ حكم هذا التّكبير السّنّيّة ، ويؤيّده أنّ سجدة التّلاوة في الصّلاة من جملة الصّلاة والتّكبير فيها سنّة ، وقال غيرهم : إنّه مستحبّ ، ولا يكفي عن سجدة التّلاوة - عندهم - ركوع ، أي لا يجعل الرّكوع بدلها أو عوضاً عنها ، سواء أكان في صلاة أم لا .
وإن ترك سجدة التّلاوة عمداً وقصد الرّكوع الرّكنيّ صحّ ركوعه وكره له ذلك ، وإن تركها سهواً عنها وركع قاصداً الرّكوع من أوّل الأمر فذكرها وهو راكع اعتدّ بركوعه فيمضي عليه ويرفع لركعته عند مالك من رواية أشهب ، لا عند ابن القاسم فيخرّ ساجداً ، ثمّ يقوم فيقرأ شيئاً ويركع ، ويسجد بعد السّلام إن كان قد اطمأنّ بركوعه الّذي تذكّر فيه تركها لزيادة الرّكوع .
وقال الشّافعيّة : السّاجد للتّلاوة إمّا أن يكون في الصّلاة أو في غير الصّلاة :
أ - في الصّلاة :
من أراد السّجود للتّلاوة وهو في الصّلاة ، إماماً كان أو منفرداً أو مأموماً ، نوى السّجود بالقلب من غير تلفّظ ولا تكبير للافتتاح لأنّه متحرّم بالصّلاة ، فإن تلفّظ بالنّيّة بطلت صلاته كما لو كبّر بقصد الإحرام ، والنّيّة واجبة في حقّ الإمام والمنفرد ومندوبة في حقّ المأموم لحديث : « إنّما الأعمال بالنّيّات » .
وقال ابن الرّفعة والخطيب " لعلّه الشّربينيّ " : لا يحتاج في هذا السّجود إلى نيّة ، لأنّ نيّة الصّلاة تنسحب عليه وتشمله بواسطة شمولها للقراءة .
ويستحبّ له أن يكبّر في الهويّ إلى السّجود ولا يرفع اليد ، لأنّ اليد لا ترفع في الهويّ إلى السّجود في الصّلاة ، ويكبّر عند رفعه رأسه من السّجود كما يفعل في سجدات الصّلاة .
وإذا رفع رأسه من السّجود قام ولا يجلس للاستراحة ، فإذا قام استحبّ أن يقرأ شيئاً ثمّ يركع ، فإن انتصب قائماً ثمّ ركع بلا قراءة جاز إذا كان قد قرأ الفاتحة قبل سجوده ، ولا خلاف في وجوب الانتصاب قائماً ، لأنّ الهويّ إلى الرّكوع من القيام واجب .
قال النّوويّ : وفي الإبانة والبيان وجه أنّه لو رفع من سجود التّلاوة إلى الرّكوع ولم ينتصب أجزأه الرّكوع ، وهو غلط نبّهت عليه لئلاّ يغترّ به .
ب - في غير الصّلاة :
من أراد السّجود للتّلاوة وهو في غير الصّلاة نوى السّجود ، لحديث : « إنّما الأعمال بالنّيّات» واستحبّ له التّلفّظ بالنّيّة ، ثمّ كبّر للإحرام رافعاً يديه حذو منكبيه كما يفعل في تكبيرة الإحرام في الصّلاة ، ثمّ كبّر للهويّ للسّجود بلا رفع ليديه ، وسجد سجدةً واحدةً كسجدة الصّلاة ، ورفع رأسه مكبّراً ، وجلس وسلّم من غير تشهّد كتسليم الصّلاة .
وقالوا : أركان السّجود للتّلاوة في غير الصّلاة أربعة : النّيّة ، وتكبيرة الإحرام ، والسّجدة ، والسّلام .
وقال الحنابلة : من أراد السّجود للتّلاوة يكبّر للهويّ لا للإحرام ولو خارج الصّلاة ، خلافاً لأبي الخطّاب ، لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : « كان صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسّجدة كبّر وسجد وسجدنا معه » .
وظاهره أنّه كبّر مرّةً واحدةً ، ويكبّر السّاجد للتّلاوة إذا رفع من السّجود لأنّه سجود مفرد فشرع التّكبير في ابتدائه وفي الرّفع منه كسجود السّهو وصلب الصّلاة ، ويجلس في غير الصّلاة إذا رفع رأسه من السّجود ، لأنّ السّلام يعقبه فشرع ليكون سلامه في حال جلوسه ، بخلاف ما إذا كان في الصّلاة ، ثمّ يسلّم تسليمةً واحدةً عن يمينه على الصّحيح من المذهب ، وعن أحمد أنّ التّسليم ركن .
القيام لسجود التّلاوة :
12 - اختلف الفقهاء فيما يستحبّ لمن أراد السّجود للتّلاوة في غير الصّلاة ، هل يقوم فيستوي قائمًا ثمّ يكبّر ويهوي للسّجود ، أم لا :
ذهب الحنابلة وبعض متأخّري الحنفيّة وهو وجه عند الشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ لمن أراد السّجود أن يقوم فيستوي ثمّ يكبّر ويخرّ ساجداً ، لأنّ الخرور سقوط من قيام ، والقرآن الكريم ورد به في قول اللّه تعالى : { ... إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } .
ولما ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها " أنّها كانت تقرأ في المصحف ، فإذا مرّت بالسّجدة قامت فسجدت وتشبيهًا لسجدة التّلاوة بصلاة النّفل .(/5)
والأصحّ من الوجهين عند الشّافعيّة أنّه لا يستحبّ لمن يريد السّجود للتّلاوة أن يقوم فيستوي ثمّ يكبّر ثمّ يهوي للسّجود ، وهو اختيار إمام الحرمين والمحقّقين ، قال الإمام : ولم أر لهذا القيام ذكراً ولا أصلاً ، وقال النّوويّ : لم يذكر الشّافعيّ وجمهور الأصحاب هذا القيام ولا ثبت فيه شيء يعتمد ممّا يحتجّ به ، فالاختيار تركه ، لأنّه من جملة المحدثات ، وقد تظاهرت الأحاديث الصّحيحة على النّهي عن المحدثات .
التّسبيح والدّعاء في سجود التّلاوة :
13 - من يسجد للتّلاوة إن قال في سجوده للتّلاوة ما يقوله في سجود الصّلاة جاز وكان حسناً ، وسواء فيه التّسبيح والدّعاء ، ويستحبّ أن يقول في سجوده ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول في سجود القرآن : سجد وجهي للّذي خلقه وشقّ سمعه وبصره بحوله وقوّته » وإن قال : اللّهمّ اكتب لي بها عندك أجراً واجعلها لي عندك ذخراً ، وضع عنّي بها وزراً ، واقبلها منّي كما قبلتها من عبدك داود عليه السلام فهو حسن لما روى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : إنّي رأيتني اللّيلة وأنا نائم كأنّي أصلّي خلف شجرة فسجدت ، فسجدت الشّجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول : اللّهمّ اكتب لي بها عندك أجراً ، وضع عنّي بها وزراً ، واجعلها لي عندك ذخراً ، وتقبّلها منّي كما تقبّلتها من عبدك داود ، قال ابن عبّاس : فقرأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سجدةً ثمّ سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما أخبره الرّجل عن قول الشّجرة » ، ونقل عن الشّافعيّ أنّ اختياره أن يقول السّاجد في سجود التّلاوة : { سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } قال النّوويّ : وظاهر القرآن يقتضي مدح هذا فهو حسن ، وقال المتولّي وغيره من الشّافعيّة : ويسنّ أن يدعو بعد التّسبيح .
التّسليم من سجود التّلاوة :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تسليم من سجود التّلاوة إذا كان في الصّلاة ، واختلفوا في التّسليم منه في غير الصّلاة .
فذهب الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، والقول المقابل للأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابل المختار عند الحنابلة ، إلى أنّه لا تسليم من سجود التّلاوة في غير الصّلاة ، كما لا يسلّم منه في الصّلاة ، ولأنّ التّسليم تحليل من التّحريم للصّلاة ، ولا تحريمة لها عند الحنفيّة ومن وافقهم ، فلا يعقل التّحليل بالتّسليم .
والأصحّ من القولين عند الشّافعيّة ، والمختار من الرّوايتين عند الحنابلة ، ومقابل المشهور عند المالكيّة : أنّه يجب التّسليم من سجود التّلاوة لأنّه صلاة ذات إحرام فافتقرت إلى السّلام كسائر الصّلوات لحديث : « مفتاح الصّلاة الطّهور وتحريمها التّكبير وتحليلها التّسليم » .
السّجود للتّلاوة خلف التّالي :
15 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا قرأ الرّجل في غير صلاة آية السّجدة ومعه قوم ، فالسّنّة في أداء سجدة التّلاوة أن يتقدّم التّالي ويصفّ السّامعون خلفه ، فيسجد التّالي ثمّ يسجد السّامعون ، لا يسبقونه بالوضع ولا بالرّفع ، لأنّ التّالي إمام السّامعين ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه تلا على المنبر سجدةً فنزل وسجد وسجد النّاس معه » وفيه دليل على أنّ السّامع يتبع التّالي في السّجدة ، ولما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّه قال للتّالي : كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا معك ، وليس هذا اقتداءً حقيقةً بل صورةً ، ولذا يستحبّ ألاّ يسبقوه بالوضع ولا بالرّفع ، فلو كان حقيقة ائتمام لوجب ذلك ، ولو تقدّم السّامعون على التّالي أو سبقوه بالوضع أو بالرّفع أجزأهم السّجود للتّلاوة لأنّه مشاركة بينه وبينهم في الحقيقة ، ولذا لو فسدت سجدة التّالي بسبب من الأسباب لا يتعدّى الفساد إلى الباقين .
وقال المالكيّة : يسنّ أن يسجد للتّلاوة القارئ مطلقاً سواء أصلح للإمامة أم لا ، وسواء أجلس ليسمع النّاس حسن قراءته أم لا .
ويسجد قاصد السّماع ذكراً أو أنثى ، فإن لم يقصد السّماع فلا يسجد .
ويشترط لسجود المستمع أن يجلس ليتعلّم من القارئ آيات القرآن الكريم ، أو أحكامه ومخارج حروفه ، فإن جلس المستمع لمجرّد الثّواب أو للتّدبّر والاتّعاظ ، أو السّجود فقط ، فلا يجب السّجود عليه .
كما يلزم السّامع السّجود ولو ترك القارئ السّجدة سهواً ، لأنّ تركه لا يسقط طلبه من الآخر، إلاّ أن يكون إماماً وتركه ، فيتّبعه مأمومه .
وسجود القارئ ليس شرطاً في سجود المستمع إن صلح القارئ ليؤمّ .
وقال الشّافعيّة : إذا سجد المستمع في غير صلاة مع القارئ لا يرتبط به ولا ينوي الاقتداء به وله الرّفع من السّجود قبله ، قال الزّركشيّ : وقضيّة ذلك منع الاقتداء به ، لكنّ قضيّة كلام القاضي والبغويّ جوازه ، وقال القليوبيّ : لا يتوقّف سجود أحدهما على سجود الآخر ، ولا يسنّ الاقتداء ولا يضرّ .
وقال الحنابلة : شرط لاستحباب السّجود أي في غير الصّلاة كون القارئ يصلح إماماً للمستمع فلا يسجد مستمع إن لم يسجد التّالي ولا قدّامه أو عن يساره مع خلوّ يمينه لعدم صحّة الائتمام به إذن ، ولا يسجد رجل بتلاوة امرأة وخنثى لعدم صحّة ائتمامه بهما ، ولا يضرّ رفع رأس مستمع قبل رأس قارئ ، وكذا لا يضرّ سلامه قبل سلام القارئ ، لأنّه ليس إماماً له حقيقةً بل بمنزلته وإلاّ لما صحّ ذلك ، وأمّا المأموم في الصّلاة فلا يرفع قبل إمامه كسجود الصّلب .
ما يقوم مقام سجود التّلاوة :(/6)
16 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجزئ حال القدرة والاختيار - عن السّجود للتّلاوة في غير صلاة ركوع أو نحوه . على تفصيل مرّ في كيفيّة سجود .
وقال القليوبيّ من الشّافعيّة : يقوم مقام السّجود للتّلاوة أو الشّكر ما يقوم مقام التّحيّة لمن لم يرد فعلها ولو متطهّراً وهو : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر .
ونقل ابن عابدين عن التتارخانية أنّه يستحبّ للتّالي أو السّامع إذا لم يمكنه السّجود أن يقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير .
قال الشّبراملّسي : سئل ابن حجر عن قول الشّخص : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } ، عند ترك السّجود لآية السّجدة لحدث أو عجز عن السّجود كما جرت به العادة عندنا هل يقوم الإتيان بها مقام السّجود كما قالوا بذلك في داخل المسجد بغير وضوء أنّه يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر .. إلخ . فإنّها تعدل ركعتين كما نقله الشّيخ زكريّا في شرح الرّوض عن الإحياء ، فأجاب بقوله : إنّ ذلك لا أصل له فلا يقوم مقام السّجدة بل يكره له ذلك إن قصد القراءة ولا يتمسّك بما في الإحياء . أمّا أوّلاً فلأنّه لم يرد فيه شيء وإنّما قال الغزاليّ : إنّه يقال : إنّ ذلك يعدل ركعتين في الفضل . وقال غيره : إنّ ذلك روي عن بعض السّلف ،ومثل هذا لا حجّة فيه بفرض صحّته فكيف مع عدم صحّته. وأمّا ثانياً فمثل ذلك لو صحّ عنه صلى الله عليه وسلم لم يكن للقياس فيه مساغ ، لأنّ قيام لفظ مفضول مقام فعل فاضل محض فضل ، فإذا صحّ في صورة لم يجز قياس غيرها عليها في ذلك ، وأمّا ثالثاً فلأنّ الألفاظ الّتي ذكروها في التّحيّة فيها فضائل وخصوصيّات لا توجد في غيرها . ا هـ . وهو يقتضي أنّ سبحان اللّه والحمد للّه .. إلخ . لا يقوم مقام السّجود وإن قيل به في التّحيّة لما ذكره .
سجود المريض والمسافر للتّلاوة :
17 - ذهب الفقهاء إلى أنّ المريض الّذي لا يستطيع السّجود يجزئه في سجود التّلاوة الإيماء بالسّجود لعذره . وقالوا : إنّ المسافر الّذي يسجد للتّلاوة في صلاته على الرّاحلة يجزئه الإيماء على الرّاحلة تبعاً للصّلاة .
أمّا المسافر الّذي يريد السّجود للتّلاوة على الرّاحلة في غير صلاة ففيه خلاف : ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يومئ بالسّجود حيث كان وجهه ، لما روى أبو داود عن عبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنهما : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدةً فسجد النّاس كلّهم ، منهم الرّاكب والسّاجد في الأرض حتّى إنّ الرّاكب ليسجد على يده » .
ولأنّ السّجود للتّلاوة أمر دائم بمنزلة التّطوّع ، وصلاة التّطوّع تؤدّى على الرّاحلة ، وقد روى الشّيخان « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسبّح يسجد على بعيره إلاّ الفرائض » وسومح فيها لمشقّة النّزول وإن أذهب الإيماء أظهر أركان السّجود وهو تمكين الجبهة .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وهو قول بشر من الحنفيّة أنّه لا يجزئ الإيماء على الرّاحلة لفوات أعظم أركان سجود التّلاوة وهو إلصاق الجبهة من موضع السّجود ، فإن كان في مرقد وأتمّ سجوده جاز .
والمسافر الّذي يقرأ آية السّجدة أو يسمعها وهو ماش لا يكفيه الإيماء بل يسجد على الأرض عند جمهور الفقهاء ، وروي عن بعضهم أنّه يومئ .
قراءة آية السّجدة للسّجود :
18 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يكره في الجملة الاقتصار على قراءة آية السّجدة وحدها دون ما قبلها وما بعدها بقصد السّجود فقط . وإنّما كره ذلك لأنّه قصد السّجدة لا التّلاوة وهو خلاف العمل ، وحيث كره الاقتصار لا يسجد .
ولو قرأ في الصّلاة لا بقصد السّجود فلا كراهة ، وكذا لو قرأ السّجدة في صبح يوم الجمعة ، وخصّ الرّمليّ القراءة لسجدة : { ألم تَنْزِيلُ } في صبح الجمعة ، فلو قرأ غيرها بطلت صلاته إن كان عالمًا بالتّحريم لأنّه كزيادة سجود في الصّلاة عمداً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا بأس بأن يقرأ آية السّجدة ويدع ما سواها ، لأنّه مبادرة إليها ، ولأنّها من القرآن وقراءة ما هو من القرآن طاعة كقراءة سورة من بين السّور ، والمستحبّ أن يقرأ معها آيات دفعاً لوهم تفضيل آي السّجدة على غيرها .
مجاوزة آية السّجدة :
19 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره للرّجل أن يقرأ السّورة أو الآيات في الصّلاة أو غيرها يدع آية السّجدة حتّى لا يسجدها ، لأنّه لم ينقل عن السّلف بل نقلت كراهته ، ولأنّه يشبه الاستنكاف ، لأنّه قطع لنظم القرآن وتغيير لتأليفه ، واتّباع النّظم والتّأليف مأمور به ، قال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } . أي تأليفه ، فكان التّغيير مكروهاً ، ولأنّه في صورة الفرار من العبادة والإعراض عن تحصيلها بالفعل وذلك مكروه ، وكذا فيه صورة هجر آية السّجدة وليس شيء من القرآن مهجوراً .
وقال المالكيّة : يكره مجاوزة محلّ السّجدة بلا سجود عنده لمتطهّر طهارة صغرى وقت جواز لها ، فإن لم يكن متطهّراً أو كان الوقت وقت نهي فالصّواب أن يجاوز الآية بتمامها لئلاّ يغيّر المعنى فيترك تلاوتها بلسانه ويستحضرها بقلبه مراعاةً لنظام التّلاوة .
سجود التّلاوة في أوقات النّهي عن الصّلاة :
20 - ذهب الحنفيّة - في ظاهر الرّواية - والمالكيّة والحنابلة - في رواية الأثرم عن أحمد - إلى أنّه لا سجود للتّلاوة في الأوقات المنهيّ عن صلاة التّطوّع فيها لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة بعد الصّبح حتّى ترتفع الشّمس ، ولا صلاة بعد العصر حتّى تغيب الشّمس » .(/7)
وعندهم بعد هذا القدر المتّفق عليه تفصيل : قال الحنفيّة : لو تلا شخص آية السّجدة أو سمعها في وقت غير مكروه فأدّاها في وقت مكروه لا تجزئه ، لأنّها وجبت كاملةً فلا تتأدّى بالنّاقص كالصّلاة ، ولو تلاها في وقت مكروه وسجدها فيه أجزأه لأنّه أدّاها كما وجبت ، وإن لم يسجدها في ذلك الوقت وسجدها في وقت آخر مكروه جاز أيضاً لأنّه أدّاها كما وجبت لأنّها وجبت ناقصةً وأدّاها ناقصةً .
وقال المالكيّة : يجاوز القارئ آية السّجدة إن كان يقرأ وقت النّهي - كوقت طلوع الشّمس أو غروبها أو خطبة جمعة - ولا يسجد - على الخلاف عندهم في المسألة السّابقة - ما لم يكن في صلاة فرض ، فإن كان في صلاة فرض قرأ وسجد قولاً واحداً بلا خلاف عندهم لأنّ السّجود تبع للفرض .
وقال الحنابلة : لا يسجد في الأوقات الّتي لا يجوز أن يصلّي فيها تطوّعاً ، قال الأثرم : سمعت أبا عبد اللّه يسأل عمّن قرأ سجود القرآن بعد الفجر وبعد العصر أيسجد ؟ قال : لا ، وعن أحمد رواية أخرى أنّه يسجد .
واستدلّوا للرّاجح - رواية الأثرم - بعموم الحديث السّابق ، وبما روى أبو داود عن أبي تميمة الهجيميّ قال : « كنت أقصّ " أغطّ " بعد صلاة الصّبح فأسجد فنهاني ابن عمر ، فلم أنته، ثلاث مرار ثمّ عاد فقال : إنّي صلّيت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم يسجدوا حتّى تطلع الشّمس »
وروى الأثرم عن عبد اللّه بن مقسم أن قاصّاً كان يقرأ السّجدة بعد العصر فيسجد فنهاه ابن عمر وقال : إنّهم لا يعقلون .
وقالوا : لا ينعقد السّجود للتّلاوة إن ابتدأه مصلّ في أوقات النّهي ولو كان جاهلاً بالحكم أو بكونه وقت نهي لأنّ النّهي في العبادات يقتضي الفساد .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجوز سجود التّلاوة في وقت الكراهة لأنّه من ذوات الأسباب ، قال النّوويّ : مذهبنا أنّه لا يكره سجود التّلاوة في أوقات النّهي عن الصّلاة .
تلاوة آية السّجدة في الخطبة :
21 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو تلا الإمام آية السّجدة على المنبر يوم الجمعة سجدها وسجد معه من سمعها . لما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلا سجدةً على المنبر فنزل وسجد وسجد النّاس معه » .
وقال المالكيّة : إن قرأ آية السّجدة في خطبة جمعة أو غيرها لا يسجد ، وهل يكره السّجود أو يحرم ، خلاف عندهم والظّاهر الكراهة .
وقال الشّافعيّة : يستحبّ تركها للخطيب إذا قرأ آيتها على المنبر ولم يمكنه السّجود مكانه لكلفة النّزول والصّعود ، فإن أمكنه ذلك سجد مكانه إن خشي طول الفصل ، وإلاّ نزل وسجد إن لم يكن فيه كلفة .
وقال الحنابلة : إن قرأ سجدةً في أثناء الخطبة ، فإن شاء نزل عن المنبر فسجد ، وإن أمكنه السّجود على المنبر سجد عليه استحباباً ، وإن ترك السّجود فلا حرج لأنّه سنّة لا واجب .
قراءة الإمام آية السّجدة في صلاة السّرّ :
22 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يكره للإمام أن يقرأ آية السّجدة في صلاة يخافت فيها بالقراءة ، لأنّ هذا لا ينفكّ عن أمر مكروه ، لأنّه إذا تلا آية السّجدة ولم يسجد فقد ترك الواجب عند الحنفيّة ، والسّنّة عند الحنابلة ، وإن سجد فقد لبّس على القوم لأنّهم يظنّون أنّه سها عن الرّكوع واشتغل بالسّجدة الصّلبيّة فيسبّحون ولا يتابعونه ، وذا مكروه ، وما لا ينفكّ عن مكروه كان مكروهاً ، وترك السّبب المفضي إلى ذلك أولى ، وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم محمول على بيان الجواز فلم يكن مكروهاً .
وقال الحنفيّة : إن تلاها مع ذلك سجد بها لتقرّر السّبب في حقّه وهو التّلاوة ، وسجد القوم معه لوجوب المتابعة عليهم .
وقال الحنابلة : يكره للإمام سجود لقراءة سجدة في صلاة سرّ لأنّه يخلط على المأمومين فإن سجد خيّر المأمومون بين المتابعة للإمام في سجوده وتركها لأنّهم ليسوا تالين ولا مستمعين، والأولى السّجود متابعةً للإمام ، لعموم الحديث : « ... وإذا سجد فاسجدوا » .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الإمام إن قرأ سورة سجدة في صلاة سرّيّة استحبّ له ترك قراءة آية السّجدة ، فإن قرأها جهر بها ندباً ، فيعلم المأمومون سبب سجوده ويتبعونه فيه ، فإن لم تجهر بقراءة آية السّجدة وسجد للتّلاوة اتّبع المأمومون الإمام في سجوده وجوباً غير شرط .. عند ابن القاسم ، لأنّ الأصل عدم سهو الإمام ، وعند سحنون : يمتنع أن يتّبعوه لاحتمال سهوه ، فإن لم يتبعوه صحّت صلاتهم ، لأنّ سجود التّلاوة ليس من الأفعال المقتدى به فيها أصالةً ، وترك الواجب الّذي ليس شرطاً لا يقتضي البطلان .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يكره للإمام قراءة آية السّجدة ولو في صلاة سرّيّة ، لكن يستحبّ له تأخير السّجود للتّلاوة إلى الفراغ من الصّلاة السّرّيّة لئلاّ يشوّش على المأمومين ، ومحلّه إن قصر الفصل ، قال الرّمليّ : ويؤخذ من التّعليل أنّ الجهريّة كذلك إذا بعد بعض المأمومين عن الإمام بحيث لا يسمعون قراءته ولا يشاهدون أفعاله ، أو أخفى جهره ، أو وجد حائل أو صمم أو نحو ذلك ، وهو ظاهر من جهة المعنى ، ولو ترك الإمام السّجود للتّلاوة سنّ للمأموم السّجود بعد السّلام إن قصر الفصل ، « وما صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سجد في صلاة الظّهر للتّلاوة » يحمل على أنّه كان يسمعهم أحياناً الآية ، فلعلّه أسمعهم آيتها مع قلّتهم فأمن عليهم التّشويش ، أو قصد بيان جواز ذلك .
وقت أداء سجود التّلاوة :(/8)
23 - قال الحنفيّة : سجدة التّلاوة إمّا أن تكون خارج الصّلاة أو في الصّلاة : فإن كانت خارج الصّلاة فإنّها تجب على سبيل التّراخي على المختار عندهم - لأنّ دلائل الوجوب - أي وجوب السّجدة - مطلقة عن تعيين الوقت فتجب في جزء من الوقت غير معيّن ، ويتعيّن ذلك بتعيينه فعلاً ، وإنّما يتضيّق عليه الوجوب في آخر عمره كما في سائر الواجبات الموسّعة ، ويكره تأخيرها تنزيهاً ، إلاّ إذا كان الوقت مكروهاً ، لأنّه بطول الزّمان قد ينساها ، وعندما يؤدّيها بعد وقت القراءة يكفيه أن يسجد عدد ما عليه دون تعيين ويكون مؤدّياً .
أمّا إن كانت في الصّلاة فإنّها تجب على سبيل التّضييق - أي على الفور - لقيام دليله وهو أنّها وجبت بما هو من أفعال الصّلاة وهو القراءة فالتحقت بأفعال الصّلاة وصارت جزءاً من أجزائها ، ولذا يجب أداؤها في الصّلاة مضيّقاً كسائر أفعال الصّلاة ، ومقتضى التّضييق في أدائها حال كونها في الصّلاة ألاّ تطول المدّة بين التّلاوة والسّجدة ، فإذا ما طالت فقد دخلت في حيّز القضاء وصار آثمًا بالتّفويت عن الوقت .
وكلّ سجدة وجبت في الصّلاة ولم تؤدّ فيها سقطت ولم يبق السّجود لها مشروعاً لفوات محلّه، وأثم من لم يسجد فتلزمه التّوبة ، وذلك إذا تركها عمداً حتّى سلّم وخرج من حرمة الصّلاة ، أمّا لو تركها سهواً وتذكّرها ولو بعد السّلام قبل أن يفعل منافياً فإنّه يأتي بها ويسجد للسّهو .
قال الزّرقانيّ : الظّاهر أنّ المتطهّر وقت جواز إذا قرأها ولم يسجدها يطالب بسجودها ما دام على طهارته وفي وقت الجواز ، وإلاّ لم يطالب بقضائها لأنّه من شعائر الفرائض .
وقال الشّافعيّة : ينبغي أن يسجد عقب قراءة آية السّجدة أو استماعها ، فإن أخّر وقصر الفصل سجد ، وإن طال فاتت ، وهل تقضى ؟ قولان : أظهرهما لا تقضى ، لأنّها تفعل لعارض فأشبهت صلاة الكسوف ، وضبط طول الفصل أو قصره بالعرف . ولو قرأ سجدةً في صلاته فلم يسجد فيها سجد بعد سلامه إن قصر الفصل ، فإن طال ففيه الخلاف ، ولو كان القارئ أو المستمع محدثاً حال القراءة فإن تطهّر عن قرب سجد ، وإلاّ فالقضاء على الخلاف، ولو كان يصلّي فقرأ قارئ السّجدة وسمعه فلا يسجد ، فإن سجد بطلت صلاته ، فإن لم يسجد وفرغ من صلاته فقد اختلفوا في سجوده ، والمذهب أنّه لا يسجد لأنّ قراءة غير إمامه لا تقتضي سجوده ، وإذا لم يحصل ما يقتضي السّجود أداءً فالقضاء بعيد .
وقال الحنابلة : يسنّ السّجود للقارئ والمستمع له ولو كان السّجود بعد التّلاوة والاستماع مع قصر فصل بين السّجود وسببه ، فإن طال الفصل لم يسجد لفوات محلّه ، ويتيمّم محدث ويسجد مع قصر الفصل .
تكرار سجود التّلاوة :
24 - اختلف الفقهاء في تكرار سجود التّلاوة بتكرار التّلاوة أو الاستماع أو عدم تكراره بتكرارهما .. وينظر مصطلح : ( تداخل ف /11 ، ج 11 / 86 ) .(/9)
سجود السّهو *
التّعريف :
1 - السّهو لغةً : نسيان الشّيء والغفلة عنه .
وسجود السّهو عند الفقهاء : هو ما يكون في آخر الصّلاة أو بعدها لجبر خلل ، بترك بعض مأمور به أو فعل بعض منهيّ عنه دون تعمّد .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب الحنفيّة والحنابلة في المعتمد عندهم إلى وجوب سجود السّهو .
قال الحنابلة : سجود السّهو لما يبطل عمده الصّلاة واجب ، ودليلهم حديث عبد اللّه بن مسعود قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمساً ، فلمّا انفتل توشوش القوم بينهم فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : يا رسول اللّه هل زيد في الصّلاة ؟ قال : لا ، قالوا : فإنّك قد صلّيت خمساً ، فانفتل ثمّ سجد سجدتين ثمّ سلّم ، ثمّ قال : إنّما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين » وفي رواية : « فإذا زاد الرّجل أو نقص فليسجد سجدتين » وحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ، أثلاثاً أم أربعاً ؟ فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن ، ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم ، فإن كان صلّى خمساً شفعن له صلاته ، وإن كان صلّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشّيطان » .
وجه الدّلالة في الحديثين أنّهما اشتملا على الأمر المقتضي للوجوب .
ومذهب المالكيّة : أنّ سجود السّهو سنّة سواء كان قبليّاً أم بعديّاً وهو المشهور من المذهب، وقيل : بوجوب القبليّ ، قال صاحب الشّامل : وهو مقتضى المذهب .
ومذهب الشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّه سنّة .
لقوله صلى الله عليه وسلم : « كانت الرّكعة نافلةً والسّجدتان » .
أسباب سجود السّهو :
أ - الزّيادة والنّقص :
3 - اتّفق الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا تعمّد المصلّي أن يزيد في صلاته قياماً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً ، أو ينقص من أركانها شيئاً ، بطلت صلاته . لأنّ السّجود يضاف إلى السّهو فيدلّ على اختصاصه به ، والشّرع إنّما ورد به في السّهو قال صلى الله عليه وسلم : « إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين » .
فإذا زاد المصلّي أو نقص لغفلة أو نسيان فقد اختلف العلماء في كيفيّة قضائه ، وتفصيل ذلك يأتي في ثنايا البحث .
ب - الشّكّ :
4 - إذا شكّ المصلّي في صلاته فلم يدر كم صلّى أثلاثاً أم أربعاً ، أو شكّ في سجدة فلم يدر أسجدها أم لا ، فإنّ الجمهور " المالكيّة والشّافعيّة وروايةً للحنابلة " ذهبوا إلى أنّه يبني على اليقين وهو الأقلّ ، ويأتي بما شكّ فيه ويسجد للسّهو . ودليلهم حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدةً صلّى أو ثنتين فليبن على واحدة ، فإن لم يدر ثنتين صلّى أو ثلاثًا فليبن على ثنتين ، فإن لم يدر ثلاثاً صلّى أو أربعاً فليبن على ثلاث ، وليسجد سجدتين قبل أن يسلّم » ولحديث « إذا شكّ أحدكم في صلاته فليلق الشّكّ ، وليبن على اليقين ، فإذا استيقن التّمام سجد سجدتين ، فإن كانت صلاته تامّةً كانت الرّكعة نافلةً والسّجدتان ، وإن كانت ناقصةً كانت الرّكعة تماماً لصلاته ، وكانت السّجدتان مرغمتي الشّيطان » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المصلّي إذا شكّ في صلاته ، فلم يدر أثلاثاً صلّى أم أربعاً وذلك أوّل ما عرض له استأنف ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا شكّ أحدكم في صلاته أنّه كم صلّى فليستقبل الصّلاة » . وإن كان يعرض له كثيراً بنى على أكبر رأيه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب » وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا سها أحدكم فلم يدر واحدةً صلّى أو ثنتين فليبن على واحدة ، فإن لم يدر ثنتين صلّى أو ثلاثاً فليبن على ثنتين ، فإن لم يدر ثلاثاً صلّى أو أربعاً فليبن على ثلاث ، وليسجد سجدتين قبل أن يسلّم » .
والاستقبال لا يكون إلاّ بعد الخروج من الصّلاة وذلك بالسّلام أو الكلام أو عمل آخر ممّا ينافي الصّلاة ، والخروج بالسّلام قاعداً أولى ، لأنّ السّلام عرف محلّلاً دون الكلام ، ولا يصحّ الخروج بمجرّد النّيّة بل يلغو ، ولا يخرج بذلك من الصّلاة ، وعند البناء على الأقلّ يقعد في كلّ موضع يحتمل أن يكون آخر الصّلاة تحرّزاً عن ترك فرض القعدة الأخيرة وهي ركن .
وذهب الحنابلة في رواية إلى البناء على غالب الظّنّ ، ويتمّ صلاته ، ويسجد بعد السّلام ، ودليلهم حديث عبد اللّه بن مسعود السّابق : « إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب ، فليتمّ عليه ، ثمّ ليسلّم ، ثمّ يسجد سجدتين » .
قال ابن قدامة : واختار الخرقيّ التّفريق بين الإمام والمنفرد . فجعل الإمام يبني على الظّنّ والمنفرد يبني على اليقين . وهو الظّاهر في المذهب نقله عن أحمد والأثرم وغيره . والمشهور عن أحمد : البناء على اليقين في حقّ المنفرد ، لأنّ الإمام له من ينبّهه ويذكّره إذا أخطأ الصّواب ، فليعمل بالأظهر عنده ، فإن أصاب أقرّه المأمومون ، فيتأكّد عنده صواب نفسه ، وإن أخطأ سبّحوا به ، فرجع إليهم فيحصل له الصّواب على كلتا الحالتين وليس كذلك المنفرد ، إذ ليس له من يذكّره فيبني على اليقين ، ليحصل له إتمام صلاته ولا يكون مغروراً بها . وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : « لا غرار في الصّلاة » .
فإن استوى الأمران عند الإمام بنى على اليقين أيضاً .
الأحكام المتعلّقة بسجود السّهو :(/1)
5 - مذهب الحنفيّة : جاء في الفتاوى الهنديّة نقلاً عن التتارخانية الأصل أنّ المتروك ثلاثة أنواع : فرض ، وسنّة ، وواجب ، ففي الفرض إن أمكنه التّدارك بالقضاء يقضي وإلاّ فسدت صلاته ، وفي السّنّة لا تفسد ، لأنّ قيام الصّلاة بأركانها وقد وجدت ، ولا يجبر ترك السّنّة بسجدتي السّهو ، وفي الواجب إن ترك ساهياً يجبر بسجدتي السّهو ، وإن ترك عامداً لا . ونقل عن البحر الرّائق أنّه لو ترك سجدةً من ركعة فتذكّرها في آخر الصّلاة سجدها وسجد للسّهو لترك التّرتيب فيه ، وليس عليه إعادة ما قبلها ، ولو قدّم الرّكوع على القراءة لزمه السّجود لكن لا يعتدّ بالرّكوع فيفرض إعادته بعد القراءة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ ترك الرّكن إن أمكنه تداركه وجب عليه التّدارك مع سجود السّهو وذلك إذا أتى به في الرّكعة نفسها إلى ما قبل عقد ركعة أخرى بالرّكوع لها ، فإن كان ترك الرّكن في الرّكعة الأخيرة ثمّ سلّم لم يمكنه التّدارك بأداء المتروك بل عليه الإتيان بركعة أخرى ما لم يطل الفصل أو يخرج من المسجد فعليه استئناف الصّلاة .
وقال الشّافعيّة : إن ترك ركناً سهواً لم يعتدّ بما فعله بعد المتروك حتّى يأتي بما تركه ، فإن تذكّر السّهو قبل فعل مثل المتروك اشتغل عند الذّكر بالمتروك ، وإن تذكّر بعد فعل مثله في ركعة أخرى تمّت الرّكعة السّابقة به ولغا ما بينهما .
فإن لم يعرف عين المتروك أخذ بأدنى الممكن وأتى بالباقي . وفي الأحوال كلّها سجد للسّهو.
وعند الحنابلة من نسي ركناً غير التّحريمة فذكره بعد شروعه في قراءة الرّكعة الّتي بعدها بطلت الرّكعة الّتي تركه منها فقط ، لأنّه ترك ركناً ولم يمكن استدراكه فصارت الّتي شرع فيها عوضاً عنها ، وإن ذكر الرّكن المنسيّ قبل شروعه في قراءة الرّكعة الّتي بعدها عاد لزوماً فأتى به وبما بعده .
الواجبات والسّنن الّتي يجب بتركها سجود السّهو :
6 - اختلف الفقهاء في فيما يطلب له سجود السّهو .
فذهب الحنفيّة إلى وجوب سجود السّهو بترك واجب من واجبات الصّلاة سهواً ، ويجب عليه قضاؤه إذا لم يسجد للسّهو . قال ابن عابدين : لا تفسد بتركها وتعاد وجوباً في العمد والسّهو إن لم يسجد له ، وإن لم يعدها يكون فاسقاً آثماً .
ومن واجبات الصّلاة عندهم القعدة الأولى من الصّلاة الرّباعيّة ، ودعاء القنوت في الوتر ، وتكبيرات العيدين وغيرها .
أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقد قسّموا الصّلاة إلى فرائض وسنن .
فالمالكيّة يسجد عندهم لسجود السّهو لثمانية من السّنن وهي : السّورة ، والجهر ، والإسرار، والتّكبير ، والتّحميد ، والتّشهّدان ، والجلوس لهما .
أمّا الشّافعيّة فالسّنّة عندهم نوعان : أبعاض وهيئات ، والأبعاض هي الّتي يجبر تركها بسجود السّهو ، فمنها التّشهّد الأوّل والقعود له ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد الأوّل ، والصّلاة على الآل في التّشهّد الأخير ، والقنوت الرّاتب في الصّبح ، ووتر النّصف الأخير من رمضان ، وقيامه ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في القنوت . وذهب الحنابلة إلى أنّ ما ليس بركن نوعان واجبات وسنن ، فالواجبات تبطل الصّلاة بتركها عمداً ، وتسقط سهواً أو جهلاً ، ويجبر تركها سهواً بسجود السّهو كالتّكبير ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكبّر كذلك ،« وقال صلى الله عليه وسلم : صلّوا كما رأيتموني أصلّي ». والتّسميع للإمام والمنفرد دون المأموم ، والتّحميد وغيرها .
موضع سجود السّهو :
7 - لم يتّفق الفقهاء على موضع سجود السّهو : فقد رأى الحنفيّة أنّ موضع سجود السّهو بعد التّسليم مطلقًا سواء في الزّيادة أو النّقصان ، أي أنّه يتشهّد ثمّ يسلّم تسليمةً واحدةً على الأصحّ ثمّ يسجد للسّهو ثمّ يتشهّد ثمّ يسلّم كذلك ، فإن سلّم تسليمتين سقط السّجود لحديث ثوبان رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لكلّ سهو سجدتان بعدما يسلّم». ويروى نحو ذلك عن عليّ وسعد بن أبي وقّاص وابن مسعود وعمّار وابن عبّاس وابن الزّبير وأنس .
وذهب المالكيّة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : إلى التّفريق بين الزّيادة والنّقصان فإن وقع السّهو بالنّقص في الصّلاة فالسّجود يكون قبل السّلام .
ودليلهم حديث عبد اللّه بن مالك بن بحينة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظّهر ، ولم يجلس بينهما ، فلمّا قضى صلاته سجد سجدتين » .
وأمّا الزّيادة فيسجد بعد السّلام لحديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه « قال : صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمساً فقلنا : يا رسول اللّه : أزيد في الصّلاة ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صلّيت خمساً ، إنّما أنا بشر مثلكم ، أذكر كما تذكرون ، وأنسى كما تنسون ، ثمّ سجد سجدتي السّهو » وروي عن ابن مسعود أنّه قال : كلّ شيء شككت فيه من صلاتك من نقصان من ركوع أو سجود أو غير ذلك ، فاستقبل أكثر ظنّك ، واجعل سجدتي السّهو من هذا النّحو قبل التّسليم ، فأمّا غير ذلك من السّهو فاجعله بعد التّسليم .
وإن جمع بين زيادة ونقص فيسجد قبل السّلام ترجيحًا لجانب النّقص .
والجديد وهو الأظهر عند الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد أنّه قبل السّلام ، وروي ذلك عن أبي هريرة ومكحول والزّهريّ ويحيى الأنصاريّ . ودليلهم حديث ابن بحينة وأبيّ - رضي الله عنه - « أنّه عليه الصلاة والسلام سجد قبل السّلام » . كما سبق ، ولأنّه يفعل لإصلاح الصّلاة ، فكان قبل السّلام كما لو نسي سجدةً من الصّلاة .(/2)
وأمّا الحنابلة فذهبوا في المعتمد إلى أنّ السّجود كلّه قبل السّلام ، إلاّ في الموضعين اللّذين ورد النّصّ بسجودهما بعد السّلام . وهما إذا سلّم من نقص ركعة فأكثر ، كما في حديث ذي اليدين « أنّه صلى الله عليه وسلم سلّم من ركعتين فسجد بعد السّلام » . وحديث عمران بن حصين « أنّه سلّم من ثلاث فسجد بعد السّلام » .
والثّاني إذا تحرّى الإمام فبنى على غالب ظنّه كما في حديث ابن مسعود عندما تحرّى « فسجد بعد السّلام » .
وفي قول ثالث عند الشّافعيّة : يتخيّر إن شاء قبل السّلام وإن شاء بعده .
تكرار السّهو في نفس الصّلاة :
8 - إذا تكرّر السّهو للمصلّي في الصّلاة ، لا يلزمه إلاّ سجدتان ، لأنّ تكراره غير مشروع ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ، وكلّم ذا اليدين » .
ولأنّه لو لم تتداخل لسجد عقب السّهو فلمّا أخّر إلى آخر صلاته دلّ على أنّه إنّما أخّر ليجمع كلّ سهو في الصّلاة . وهذا مذهب جمهور الفقهاء .
نسيان سجود السّهو :
9 - إذا سها المصلّي عن سجود السّهو فانصرف من الصّلاة دون سجود فإنّه يعود إليه ويؤدّيه على التّفصيل التّالي :
فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يسجد إن سلّم بنيّة القطع مع التّحوّل عن القبلة أو الكلام أو الخروج من المسجد ، لكن إن سلّم ناسياً السّهو سجد ما دام في المسجد ، لأنّ المسجد في حكم مكان واحد ، ولذا صحّ الاقتداء فيه وإن كان بينهما فرجة ، وأمّا إذا كان في الصّحراء فإن تذكّر قبل أن يجاوز الصّفوف من خلفه أو يمينه أو يساره أو يتقدّم على موضع سترته أو سجوده سجد للسّهو .
وأمّا المالكيّة : فقد فرّقوا بين السّجود القبليّ والبعديّ ، فإن ترك السّجود البعديّ يقضيه متى ذكره ، ولو بعد سنين ، ولا يسقط بطول الزّمان سواء تركه عمداً أو نسياناً ، لأنّ المقصود " ترغيم الشّيطان " كما في الحديث .
وأمّا السّجود القبليّ فإنّهم قيّدوه بعدم خروجه من المسجد ولم يطل الزّمان ، وهو في مكانه أو قربه .
وقال الشّافعيّة : إن سلّم سهواً أو طال الفصل بحسب العرف فإنّ سجود السّهو يسقط على المذهب الجديد لفوات المحلّ بالسّلام وتعذّر البناء بالطّول .
وذهب الحنابلة إلى أنّه إن نسي سجود السّهو الّذي قبل السّلام أو بعده أتى به ولو تكلّم ، إلاّ بطول الفصل " ويرجع فيه إلى العادة والعرف من غير تقدير بمدّة " أو بانتقاض الوضوء ، أو بالخروج من المسجد ، فإن حصل شيء من ذلك استأنف الصّلاة ، لأنّها صلاة واحدة لم يجز بناء بعضها على بعض مع طول الفصل ، كما لو انتقض وضوءه .
وإن سجد للسّهو ثمّ شكّ هل سجد أم لا ؟ فعند الحنفيّة يتحرّى ، ولكن لا يجب عليه السّجود .
وقال المالكيّة : إذا شكّ هل سجد سجدةً واحدةً أو اثنتين بنى على اليقين وأتى بالثّانية ولا سجود عليه ثانياً لهذا الشّكّ .
وكذلك لو شكّ هل سجد السّجدتين أو لا ، فيسجدهما ولا سهو عليه ، وإليه ذهب الحنابلة والشّافعيّة في وجه ، والوجه الثّاني وهو الأصحّ عندهم أنّه لا يعيده .
سهو الإمام والمأموم :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز تنبيه المأموم للإمام إذا سها في صلاته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان اللّه » .
وفرّق الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بين تنبيه الرّجال وتنبيه النّساء .
فالرّجال يسبّحون لسهو إمامهم ، والنّساء يصفّقن بضرب بطن كفّ على ظهر الأخرى . لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : التّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء » ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا نابكم أمر فليسبّح الرّجال وليصفح يعني ليصفّق النّساء » .
ولم يفرّق المالكيّة بين تنبيه الرّجال والنّساء فالجميع يسبّح لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: « من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان اللّه » .
ويكره عندهم تصفيق النّساء في الصّلاة .
استجابة الإمام لتنبيه المأمومين ومتابعتهم :
11 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإمام إذا زاد في صلاته وكان الإمام على يقين أو غلب على ظنّه أنّه مصيب ، حيث إنّه يرى أنّه في الرّابعة ، والمأمومون يرون أنّه في الخامسة لم يستجب لهم .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كثر عددهم بحيث يفيد عددهم العلم الضّروريّ فيترك يقينه ويرجع لهم فيما أخبروه به من نقص أو كمال ، وإلاّ لم يعد .
وهذا إذا كان الإمام على يقين من نفسه ، أمّا إذا شكّ ولم يغلب ظنّه على أمر عاد لقول المأمومين إذا كانوا ثقات أو كثر عددهم . لحديث « ذي اليدين عندما أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل الرّسول صلى الله عليه وسلم النّاس فأجابوه » .
وهذا قول جمهور العلماء إلاّ الشّافعيّة ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الإمام إذا شكّ أصلّى ثلاثاً أم أربعاً أتى بركعة ، لأنّ الأصل عدم إتيانه بها ولا يرجع لظنّه ولا لقول غيره أو فعله وإن كان جمعاً كثيراً ، إلاّ أن يبلغوا حدّ التّواتر بقرينة .
وحديث ذي اليدين محمول على تذكّره بعد مراجعته ، أو أنّهم بلغوا حدّ التّواتر .
سجود الإمام للسّهو :
12 - إذا سها الإمام في صلاته ثمّ سجد للسّهو فعلى المأموم متابعته في السّجود سواء سها معه أو انفرد الإمام بالسّهو . قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك سواء كان قبل السّلام أو بعد السّلام . لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ... وإذا سجد فاسجدوا » ولحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - « ليس على من خلف الإمام سهو ، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السّهو » .(/3)
ولأنّ المأموم تابع للإمام وحكمه حكمه إذا سها ، وكذلك إذا لم يسه .
أمّا إذا لم يسجد الإمام فذهب الحنفيّة وهو قول مخرّج عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة : إلى أنّه لا يسجد المأموم لأنّه يصير مخالفاً ، ولحديث ابن عمر « فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السّهو » وإلى هذا ذهب عطاء والحسن والنّخعيّ .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة على الصّحيح المنصوص عندهم وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّ المأموم يسجد للسّهو إذا لم يسجد الإمام ، لأنّه لمّا سها دخل النّقص على صلاته بالسّهو فإذا لم يجبر الإمام صلاته جبر المأموم صلاته .
وبه قال الأوزاعيّ واللّيث وأبو ثور ، وحكاه ابن المنذر عن ابن سيرين .
سجود المسبوق للسّهو :
13 - اتّفق الفقهاء على وجوب متابعة المسبوق لإمامه في سجود السّهو إذا سبقه في بعض الصّلاة ، ولكنّ الخلاف وقع في مقدار الإدراك من الصّلاة .
فذهب الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المصلّي إذا أدرك مع إمامه أيّ ركن من أركان الصّلاة قبل سجود السّهو وجب عليه متابعة إمامه في سجوده للسّهو ، وسواء كان هذا السّهو قبل الاقتداء أو بعده . لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به » ولقوله عليه الصلاة والسلام : « فما أدركتم فصلّوا وما فاتكم فأتمّوا » وإن اقتدى به بعد السّجدة الثّانية من السّهو فلا سجود عليه .
ولكنّهم اختلفوا فيما لو اقتدى المسبوق بالإمام بعد السّجدة الأولى هل يقضيها أم لا ؟ فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا قضاء عليه بل تكفيه السّجدة الثّانية .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة نصّاً إلى أنّه يقضي الأولى بعد أن يسلّم الإمام ، يسجدها ثمّ يقضي ما فاته . لقوله صلى الله عليه وسلم : « وما فاتكم فأتمّوا » .
وذهب المالكيّة على المشهور وهو رواية عن أحمد إلى أنّه إذا لم يدرك المسبوق مع الإمام ركعةً من الصّلاة فلا سجود عليه ، سواء أكان السّجود بعديّاً أو قبليّاً . وإذا سجد مع إمامه بطلت صلاته عامداً أو جاهلاً ، لأنّه غير مأموم حقيقةً ، لذا لا يسجد بعد تمام صلاته ، وأمّا البعديّ فتبطل بسجوده ولو لحق ركعةً . قال الخرشيّ من المالكيّة : وهو الصّواب .
سهو المأموم خلف الإمام :
14 - قال ابن المنذر : أجمعوا على أن ليس على من سها خلف الإمام سجود .
وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ليس على من خلف الإمام سهو ، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السّهو » ولأنّ المأموم تابع لإمامه ، فلزمه متابعته في السّجود وتركه .
سهو الإمام أو المنفرد عن التّشهّد الأوّل :
15 - من سها عن التّشهّد الأوّل ، فسبّح له المأمومون أو تذكّر قبل انتصابه قائماً لزمه الرّجوع ، وإن استتمّ قائماً لا يعود للتّشهّد لأنّه تلبّس بركن ويسجد للسّهو . لحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا قام الإمام في الرّكعتين ، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس ، فإن استوى قائماً فلا يجلس ، ويسجد سجدتي السّهو » . وعن عبد اللّه بن بحينة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى فقام في الرّكعتين فسبّحوا ، فمضى ، فلمّا فرغ من صلاته سجد سجدتين ، ثمّ سلّم » .
وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ولكنّ الخلاف وقع فيما لو عاد بعد أن استتمّ قائماً ، هل تبطل صلاته أم لا ؟
ذهب الحنفيّة والشّافعيّة على الصّحيح عندهم وسحنون من المالكيّة إلى أنّ المصلّي لو عاد إلى التّشهّد الأوّل بطلت صلاته . لحديث المغيرة الّذي فيه النّهي عن أن يعود وهو قوله : « وإذا استوى قائماً فلا يجلس » . ولأنّه تلبّس بفرض فلا يجوز تركه لواجب أو مسنون . وذهب المالكيّة على المشهور في المذهب والحنابلة على أنّ الأولى أن لا يعود لحديث المغيرة بن شعبة « وإذا استوى فلا يجلس » ولا تبطل صلاته إن عاد ولكنّه أساء ، وكره ، خروجاً من خلاف من أوجب المضيّ لظاهر الحديث .
واستثنى الحنابلة ما لو شرع الإمام في القراءة فإنّ صلاته تبطل إن عاد ، لأنّه شرع في ركن مقصود ، كما لو شرع في الرّكوع .
وذهب الجمهور إلى أنّ المصلّي إذا عاد للتّشهّد بعد أن استتمّ قائماً ناسياً أو جاهلاً من غير عمد فإنّ صلاته لا تبطل .
للحديث : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .(/4)
سجود الشّكر *
التّعريف :
1 - السّجود تقدّم بيانه ، والشّكر لغةً : هو الاعتراف بالمعروف المسدى إليك ، ونشره ، والثّناء على فاعله ، وضدّه الكفران ، قال تعالى : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } وحقيقة الشّكر : ظهور أثر النّعمة على اللّسان والقلب والجوارح ، بأن يكون اللّسان مقرّاً بالمعروف مثنياً به ، ويكون القلب معترفًا بالنّعمة ، وتكون الجوارح مستعملةً فيما يرضاه المشكور .
والشّكر للّه في الاصطلاح : صرف العبد النّعم الّتي أنعم اللّه بها عليه في طاعته .
وسجود الشّكر شرعاً : هو سجدة يفعلها الإنسان عند هجوم نعمة ، أو اندفاع نقمة .
مشروعيّة سجود الشّكر :
2 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة السّجود للشّكر ، فذهب الشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وأبو يوسف ومحمّد وعليه الفتوى ، وهو قول ابن حبيب من المالكيّة وعزاه ابن القصّار إلى مالك وصحّحه البنانيّ إلى أنّه مشروع . لما ورد من حديث أبي بكرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر سرور - أو : بشّر به - خرّ ساجداً شاكراً للّه » .
وسجد أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه حين فتح اليمامة حين جاءه خبر قتل مسيلمة الكذّاب. وسجد عليّ رضي الله عنه حين وجد ذا الثّديّة بين قتلى الخوارج ، وروي السّجود للشّكر عن جماعة من الصّحابة .
وروى أحمد في مسنده من حديث عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه « أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : يقول اللّه تعالى : من صلّى عليك صلّيت عليه ، ومن سلّم عليك سلّمت عليه فسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم شكراً للّه » . وذكر الحاكم « أنّه صلى الله عليه وسلم سجد لرؤية زمن ، وأخرى لرؤية قرد ، وأخرى لرؤية نغاشيّ » .
قال الحجّاويّ : النّغاشيّ قيل : هو ناقص الخلقة ، وقيل : هو المبتلى ، وقيل : مختلط العقل.
واستدلّوا أيضًا بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سجدة ص : سجدها داود توبةً ، وأسجدها شكراً » ، وبحديث كعب بن مالك رضي الله عنه عند البخاريّ أنّه « لمّا بشّر بتوبة اللّه عليه خرّ ساجداً » .
وذهب أبو حنيفة ومالك على المشهور عنه ، والنّخعيّ على ما حكاه عنه ابن المنذر إلى أنّ السّجود للشّكر غير مشروع .
قال البنانيّ : وجه المشهور عن مالك عمل أهل المدينة ، وذلك لما في العتبيّة أنّه قيل لمالك: إنّ أبا بكر الصّدّيق سجد في فتح اليمامة شكراً ، قال : ما سمعت ذلك ، وأرى أنّهم كذبوا على أبي بكر ، وقد فتح اللّه على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين فما سمعت أنّ أحداً منهم سجد .
واحتجّ ابن المنذر لأصحاب هذا القول بأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم شكا إليه رجل القحط وهو يخطب ، فرفع يديه ودعا ، فسقوا في الحال ودام المطر إلى الجمعة الأخرى ، فقال رجل يا رسول اللّه : تهدّمت البيوت وتقطّعت السّبل فادع اللّه يرفعه عنّا ، فدعا فرفعه في الحال » قال : فلم يسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لتجدّد نعمة المطر أوّلاً ، ولا لرفع نقمته آخراً . واحتجّ أيضاً بأنّ الإنسان لا يخلو من نعمة ، فإن كلّفه لزم الحرج .
الحكم التّكليفيّ :
3 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة في حكم سجود الشّكر عند وجود سببه أنّه سنّة ، لما ورد من الأحاديث الدّالّة على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعله .
وقد أفاد الزّرقانيّ - على القول بمشروعيّته عند المالكيّة - أنّه على هذا القول غير مطلوب، أي ليس مستحبّاً ، ولكنّه جائز فقط .
ومشهور مذهب المالكيّة أنّ سجود الشّكر مكروه ، وهو نصّ مالك ، والظّاهر أنّها عنده كراهة تحريم .
ومذهب أبي حنيفة الكراهة ، إلاّ أنّهم صرّحوا بما يدلّ على أنّها كراهة تنزيه ، فعبارة الفتاوى الهنديّة : سجدة الشّكر لا عبرة بها ، وهي مكروهة عند أبي حنيفة لا يثاب عليها ، وتركها أولى .
أسباب سجود الشّكر :
4 - يشرع سجود الشّكر عند من قال به لطروء نعمة ظاهرة ، كأن رزقه اللّه ولدًا بعد اليأس ، أو لاندفاع نقمة كأن شفي له مريض ، أو وجد ضالّةً ، أو نجا هو أو ماله من غرق أو حريق . أو لرؤية مبتلىً أو عاص أي شكراً للّه تعالى على سلامته هو من مثل ذلك البلاء وتلك المعصية .
وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يسنّ السّجود سواء كانت النّعمة الحاصلة أو النّقمة المندفعة خاصّةً ، به أو بنحو ولده ، أو عامّةً للمسلمين ، كالنّصر على الأعداء ، أو زوال طاعون ونحوه .
وفي قول عند الحنابلة : يسجد لنعمة عامّة ولا يسجد لنعمة خاصّة ، قدّمه ابن حمدان في الرّعاية الكبرى .
ثمّ إنّه عند الشّافعيّة والحنابلة : لا يشرع السّجود لاستمرار النّعم لأنّها لا تنقطع .
ولأنّ العقلاء يهنّئون بالسّلامة من الأمر العارض ولا يفعلونه كلّ ساعة .
قال الرّمليّ : وتفوت سجدة الشّكر بطول الفصل بينها وبين سببها .
شروط سجود الشّكر :
5 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ سجود الشّكر يشترط له ما يشترط للصّلاة ، أي من الطّهارة ، واستقبال القبلة ، وستر العورة ، واجتناب النّجاسة .
وعلى هذا فمن كان فاقد الطّهورين ليس له أن يسجد للشّكر كما صرّح به الشّرقاويّ .
وعلى القول بجواز سجود الشّكر عند المالكيّة فالمشهور أنّه يفتقر إلى طهارة على ظاهر المذهب ، واختار بعض المالكيّة عدم افتقاره إلى ذلك ، قال الحطّاب : لأنّ سرّ المعنى الّذي يؤتى بالسّجود لأجله يزول لو تراخى حتّى يتطهّر .
واختار ابن تيميّة أنّه لا يشترط الطّهارة لسجود الشّكر .
كيفيّة سجود الشّكر :(/1)
6 - يصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ سجود الشّكر تعتبر في صفاته صفات سجود التّلاوة خارج الصّلاة ، وإذا أراد أن يسجد للشّكر للّه تعالى يستقبل القبلة ويكبّر ويسجد سجدةً يحمد اللّه تعالى فيها ويسبّحه . ثمّ يكبّر تكبيرةً أخرى ويرفع رأسه .
قال في الفتاوى الهنديّة : كما في سجود التّلاوة ، وقد قال في سجود التّلاوة : يكبّر للسّجود ولا يرفع يديه . وإذا رفع من السّجود فلا تشهّد عليه ولا سلام .
غير أنّ في التّشهّد والتّسليم عند الشّافعيّة من سجود الشّكر بعد الرّفع ثلاثة أقوال أصحّها : أنّه يسلّم ولا يتشهّد .
وعند الحنابلة اختلاف في سجود التّلاوة هل يرفع يديه عند تكبيرتها الأولى أم لا ، ومقتضى ذلك جريان الخلاف في مثل ذلك في سجدة الشّكر ، ويسلّم ، ولا تشهّد عليه .
وصرّحوا أيضاً بأنّه يعتبر في سجود الشّكر السّجود على الأعضاء السّبعة ، وأنّ ذلك ركن فيه ، ويجب فيه التّكبير والتّسبيح ، إلاّ أنّه ليس فيه تشهّد ولا جلوس له ، وأنّه تجزئ فيه تسليمة واحدة .
سجود الشّكر في الصّلاة :
7 - يصرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يجوز أن يسجد للشّكر وهو في الصّلاة ، لأنّ سببها خارج عن الصّلاة ، فإن سجد في الصّلاة بطلت صلاته .
قالوا : إلاّ أن يكون جاهلاً أو ناسياً فلا تبطل ، كما لو زاد في الصّلاة سجدةً نسياناً .
وفي قول عند الحنابلة : لا بأس بسجود الشّكر في الصّلاة .
وقد اختلف في سجدة سورة ( ص ) فقيل : هي للشّكر ، وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة لما روى البخاريّ « عن ابن عبّاس أنّه قال : ص ليست من عزائم السّجود ، وقد رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد فيها » .
وروى النّسائيّ« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : سجدها داود توبةً ، ونسجدها شكراً ». وقيل : هي للتّلاوة وإليه ذهب الحنفيّة .
من أجل ذلك فلو سجد عند سجدة سورة ( ص ) في الصّلاة بطلت صلاته عند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ما لم يكن جاهلاً أو ناسياً .
أمّا عند الحنفيّة فلا تبطل ، وقد وافقهم على ذلك بعض الشّافعيّة من حيث إنّها وإن كانت للشّكر إلاّ أنّ لها تعلّقاً بالصّلاة ، فهي ليست لمحض الشّكر ، وهو وجه عند الحنابلة كما في المغني .
قال الرّمليّ من الشّافعيّة : إن كان ناسياً أو جاهلاً لا تبطل صلاته ، ويسجد للسّهو ، والعالم بحكمها لو سجد إمامه لم يجز له متابعته بل يتخيّر بين انتظاره ومفارقته ، وانتظاره أفضل .
سجود الشّكر في أوقات النّهي :
8 - يكره عند الحنفيّة أن يسجد للشّكر في الوقت الّذي يكره فيه النّفل .
وعند الحنابلة لا ينعقد في تلك الأوقات تطوّع وإن كان له سبب كسجود شكر .
ولا يسجد للشّكر أثناء استماعه لخطبة الجمعة .
إظهار سجود الشّكر وإخفاؤه :
9 - صرّح الشّافعيّة بأنّ من سجد لنعمة أو اندفاع نقمة لا تتعلّق بغير السّاجد يستحبّ إظهار السّجود ، وإن سجد لبليّة في غيره وصاحبها غير معذور كالفاسق ، يظهر السّجود فلعلّه يتوب ، وإن كان معذوراً كالزّمن ونحوه أخفاه لئلاّ يتأذّى به ، وعبّر عن ذلك الحنابلة بأنّ السّجود لرؤية المبتلى إن كان مبتلىً في دينه سجد بحضوره أو بغير حضوره ، وقال : الحمد للّه الّذي عافاني ممّا ابتلاك به . وإن كان البلاء في بدنه سجد وقال ذلك ، وكتمه عنه ، ويسأل اللّه العافية ، وقد قال إبراهيم النّخعيّ : كانوا يكرهون أن يسألوا اللّه العافية بحضرة المبتلى .(/2)
سجود *
التّعريف :
1 - السّجود لغةً : الخضوع والتّطامن والتّذلّل والميل ووضع الجبهة بالأرض ، وكلّ من تذلّل وخضع فقد سجد ، ويقال : سجد البعير إذا خفض رأسه ليركب ، وسجدت النّخلة إذا مالت من كثرة حملها ، وسجد الرّجل إذا طأطأ رأسه وانحنى ، ومنه سجود الصّلاة وهو وضع الجبهة على الأرض ، والاسم السّجدة .
والمسجد بيت الصّلاة الّذي يتعبّد فيه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » .
وجمعه مساجد ، والمسجد - بفتح الجيم - موضع السّجود من بدن الإنسان ، وجمعه كذلك مساجد ، وهي جبهته وأنفه ويداه وركبتاه وقدماه .
ومن هذا قولهم : ويجعل الكافور في مساجده : أي الميّت .
قال الرّاغب الأصفهانيّ : السّجود للّه عامّ في الإنسان ، والحيوانات ، والجمادات وذلك ضربان :
الأوّل : سجود باختيار وليس ذلك إلاّ للإنسان ، وبه يستحقّ الثّواب ، ومنه قوله تعالى : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } .
الثّاني : سجود تسخير ، وهو للإنسان والحيوانات والنّبات والجمادات ، وإليه يشير قوله تعالى : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } وقوله تعالى : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ } .
فهذا سجود تسخير ، وهو الدّلالة الصّامتة النّاطقة المنبّهة على كونها مخلوقةً ، وأنّها خلق فاعل حكيم ، وخصّ السّجود في الشّريعة بالرّكن المعروف من الصّلاة ، وما يجري مجرى ذلك من سجود القرآن وسجود الشّكر .
الحكم التّكليفيّ :
أوّلاً : سجود الصّلاة :
2 - أجمع الفقهاء على فرضيّة السّجود في الصّلاة وأنّه ركن من أركان الصّلاة بنصّ الكتاب والسّنّة والإجماع .
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وأمّا السّنّة فمنها حديث المسيء صلاته قال فيه صلى الله عليه وسلم : « ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أنّ أسجد على سبعة أعظم » .
كما أجمعوا على وجوب سجدتين في كلّ ركعة من ركعات الصّلاة ، سواء كانت هذه الصّلاة فرضاً أو سنّةً .
3 - واتّفقوا على أنّ أكمل السّجود هو أن يسجد المصلّي على سبعة أعضاء ، وهي الجبهة مع الأنف ، واليدان ، والرّكبتان ، والقدمان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - والرّجلين والرّكبتين وأطراف القدمين » .
وفي رواية : « أمرت بالسّجود على سبعة أعظم اليدين ، والرّكبتين ، والقدمين ، والجبهة». ومن كمال السّجود أن ترتفع أسافله على أعاليه كاشفاً وجهه ليباشر به الأرض .
وأن يطمئنّ ساجداً لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته : « ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً » وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجدت فأمكن وجهك من السّجود كلّه حتّى تطمئنّ ساجداً ولا تنقر نقراً » . لما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : « لمّا نزلت { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال : اجعلوها في سجودكم » .
وأن يعتدل في سجوده ويرفع ذراعيه عن الأرض ، ولا يفترشهما ، وينصب القدمين ويوجّه أصابع الرّجلين واليدين إلى القبلة ، لما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اعتدلوا في السّجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب » .
وعن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى أن يفترش الرّجل ذراعيه افتراش السّبع » . وعن أبي حميد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة » .
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب » .
وعن وائل بن حجر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كان إذا سجد ضمّ أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه » .
وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا سجد العبد سجد كلّ عضو منه فليوجّه من أعضائه إلى القبلة ما استطاع » .
وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه لما روى أحمر بن جزء « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتّى نأوي له » .
وروي « أنّه كان إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمرّ بين يديه لمرّت » .
وأن يرفع بطنه عن فخذيه لما رواه أبو حميد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كان إذا سجد فرّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه » .
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « أتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من خلفه فرأيت بياض بطنه وهو مجخّ ، قد فرّج بين يديه » .
وأن يفرّج بين رجليه أي بين قدميه وفخذيه وركبتيه ، لما رواه أبو حميد في وصف صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا سجد فرّج بين رجليه » .
وأن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين مضمومتي الأصابع بعضها إلى بعض مستقبلاً بهما القبلة ، ويضعهما حذو منكبيه ، لقول أبي حميد : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وضع كفّيه حذو منكبيه » .
وقال بعضهم : يضعهما بحذاء أذنيه ، لما رواه وائل بن حجر رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سجد فجعل كفّيه بحذاء أذنيه » وفي رواية : « ثمّ سجد ووضع وجهه بين كفّيه » .(/1)
وأن يعتمد على راحتيه « لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما : إذا سجدت فاعتمد على راحتيك » .
أمّا المرأة فتضمّ بعضها إلى بعض في سجودها فتلصق بطنها بفخذيها ، ومرفقيها بجنبيها ، وتفترش ذراعيها وتنخفض ، ولا تنتصب كانتصاب الرّجال ، ولا تفرّق بين رجليها .
قال بعض العلماء : مثل المرأة في ذلك الخنثى لأنّ ذلك أستر لها ، وأحوط له .
أحكام السّجود :
اختلف الفقهاء في مسائل من أحكام السّجود منها :
وضع الرّكبتين قبل اليدين أو عكسه :
4 - ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وجمع من علماء السّلف كالنّخعيّ وسفيان الثّوريّ وإسحاق ومسلم بن يسار وابن المنذر إلى أنّه من المستحبّ أن يضع ركبتيه ثمّ يديه ، ثمّ جبهته وأنفه ، فإن وضع يديه قبل ركبتيه أجزأه إلاّ أنّه ترك الاستحباب ، لما رواه وائل بن حجر رضي الله عنه قال : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه » .
وروى سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : « كنّا نضع اليدين قبل الرّكبتين فأمرنا بوضع الرّكبتين قبل اليدين » وقد روى الأثرم عن أبي هريرة : « إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك الجمل » .
وذهب المالكيّة والأوزاعيّ وهو رواية عن أحمد إلى أنّه يقدّم يديه قبل ركبتيه لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه » .
وروي عن مالك أنّ السّاجد له أن يقدّم أيّهما شاء من غير تفضيل بينهما ، لعدم ظهور ترجيح أحد المذهبين على الآخر .
السّجود على اليدين والرّكبتين والقدمين :
5 - ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفيّة والمالكيّة وأحد القولين لدى الشّافعيّة ورواية عن أحمد إلى أنّه لا يجب على السّاجد وضع يديه وركبتيه وقدميه ، وإنّما الواجب عليه هو السّجود على الجبهة - وهي من مستدير ما بين الحاجبين إلى النّاصية - لأنّ الأمر بالسّجود ورد مطلقًا من غير تعيين عضو ، ثمّ انعقد الإجماع على تعيين بعض الوجه ، فلا يجوز تعيين غيره - زاد الحنفيّة - ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب - وهو هنا قوله تعالى : { أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } - بخبر الواحد ، ولقوله تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجدت فمكّن جبهتك » فإفرادها بالذّكر دليل على مخالفتها لغيرها من الأعضاء الأخرى ، ولأنّ المقصود من السّجود وضع أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام ، وهو خصّيص بالجبهة ، ولأنّه لو كان وضع الأعضاء الأخرى واجبًا لوجب الإيماء بها عند العجز عن وضعها كالجبهة .
فإذا سجد على جبهته أو على شيء منها دون ما سواها من الأعضاء أجزأه ذلك .
وذهب بعض الفقهاء من الحنابلة وأحد القولين لدى الشّافعيّة وطاوس وإسحاق إلى وجوب السّجود على اليدين والرّكبتين والقدمين لما رواه ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أمرت بالسّجود على سبعة أعظم : اليدين والرّكبتين والقدمين والجبهة » وعن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه ، وإذا رفعه فليرفعهما » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب : وجهه وكفّاه وركبتاه وقدماه » .
ويكفي وضع جزء من كلّ واحد من هذه الأعضاء إلاّ أنّ الشّافعيّة يرون أنّ العبرة في اليدين ببطن الكفّ سواء الأصابع أو الرّاحة ، وفي القدمين ببطن الأصابع فلا تجزئ الظّهر منها ولا الحرف ، أمّا الحنابلة فيرون أنّ وضع بعض كلّ عضو من الأعضاء السّتّة المذكورة يجزئ سواء كان ظاهره أو باطنه ، لأنّ الأحاديث لم تفرّق بين باطن العضو وظاهره .
وضع الأنف على الأرض في السّجود :
6 - ذهب جمهور الفقهاء وهم المالكيّة والشّافعيّة ، وأبو يوسف ومحمّد صاحبا أبي حنيفة ، وعطاء وطاوس وعكرمة والحسن وابن سيرين وأبو ثور والثّوريّ ، وهو رواية عن أحمد ، إلى أنّه لا يجب السّجود على الأنف مع الجبهة لقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » . ولم يذكر الأنف فيه ، ولحديث جابر رضي الله عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشّعر » .
وإذا سجد بأعلى جبهته لم يسجد على الأنف ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجدت فمكّن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقراً » .
ويستحبّ عند هؤلاء السّجود على الأنف مع الجبهة للأحاديث الّتي تدلّ على ذلك .
وذهب الحنابلة وهو قول عند المالكيّة وسعيد بن جبير وإسحاق والنّخعيّ وأبو خيثمة وابن أبي شيبة : إلى وجوب السّجود على الأنف مع الجبهة ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين والرّكبتين ، وأطراف القدمين » . وفي رواية « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة والأنف » . الحديث .
وعن أبي حميد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض » .
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه رأى رجلاً يصلّي لا يصيب أنفه الأرض فقال : لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين » .(/2)
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه مخيّر بين السّجود ، على الجبهة وبين السّجود على الأنف ، وأنّ الواجب هو السّجود على أحدهما فلو وضع أحدهما في حالة الاختيار جاز ، غير أنّه لو وضع الجبهة وحدها جاز من غير كراهة ولو وضع الأنف وحده جاز مع الكراهة .
قال ابن المنذر : لا يحفظ أنّ أحداً سبقه إلى هذا القول ، ولعلّه ذهب إلى أنّ الجبهة والأنف عضو واحد ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر الجبهة أشار إلى أنفه . والعضو الواحد يجزئ السّجود على بعضه .
كشف الجبهة وغيرها من أعضاء السّجود :
7 - ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وجمع من علماء السّلف ، كعطاء وطاوس والنّخعيّ والشّعبيّ والأوزاعيّ إلى عدم وجوب كشف الجبهة واليدين والقدمين في السّجود ، ولا تجب مباشرة شيء من هذه الأعضاء بالمصلّى بل يجوز السّجود على كمّه وذيله ويده وكور عمامته وغير ذلك ممّا هو متّصل بالمصلّي في الحرّ أو في البرد ، لحديث أنس رضي الله عنه قال : « كنّا نصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شدّة الحرّ فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض يبسط ثوبه فيسجد عليه » . ولما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يوم مطير وهو يتّقي الطّين إذا سجد بكساء عليه يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سجد » . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه سجد على كور عمامته » .
وعن الحسن قال : كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسجدون وأيديهم في ثيابهم ويسجد الرّجل على عمامته ، وفي رواية : كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويده في كمّه .
وذهب الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى وجوب كشف الجبهة ومباشرتها بالمصلّى وعدم جواز السّجود على كمّه وذيله ويده وكور عمامته أو قلنسوته أو غير ذلك ممّا هو متّصل به ويتحرّك بحركته لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجدت فمكّن جبهتك من الأرض » الحديث ، ولما روي عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : « شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حرّ الرّمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا » وفي رواية : « فما أشكانا » .
الطّمأنينة في السّجود :
8 - الطّمأنينة في السّجود هي أن يستقرّ كلّ عضو في مكانه ، وقدّره بعض العلماء بزمن من يقول فيه : " سبحان ربّي الأعلى " مرّةً واحدةً وذلك بعد أن يهوي للسّجود مكبّراً .
وذهب الجمهور إلى فرضيّة الطّمأنينة خلافاً لأبي حنيفة ومحمّد ، فهي ليست فرضاً بل واجب يجبر تركه بسجود السّهو . وتفصيله في ( صلاة ، وفي طمأنينة ) .
التّكبير للسّجود والتّسبيح فيه :
9 - ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية عن أحمد إلى أنّ التّكبير والتّسبيح وسائر الأذكار والأدعية الواردة في السّجود سنّة ليست بواجبة ، فلو تركها المصلّي عمداً لم يأثم وصلاته صحيحة ، سواء تركها عمداً أو سهواً ، ولكن يكره تركها عمداً لحديث المسيء صلاته حيث إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عندما علّمه فروض الصّلاة لم يعلّمه هذه الأذكار ، ولو كانت واجبةً لعلّمه إيّاها ، وتحمل الأحاديث الواردة بهذه الأذكار على الاستحباب .
وذهب الحنابلة وإسحاق إلى وجوب التّكبير والتّسبيح في السّجود فإن ترك شيئاً منها عمداً بطلت صلاته ، وإن ترك نسياناً لم تبطل صلاته بل يسجد للسّهو ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به . وأمره للوجوب ، وقال صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تتمّ صلاة لأحد من النّاس حتّى يتوضّأ - إلى أن قال - : ثمّ يقول : اللّه أكبر ، ثمّ يسجد ، حتّى تطمئنّ مفاصله » .
وقد جرى خلاف بين الفقهاء في زيادة لفظ " وبحمده " بعد قوله : " سبحان ربّي الأعلى " ، وهل قول : " سبحان ربّي الأعلى " هو المتعيّن أم للمصلّي أن يختار ما شاء من ألفاظ التّسبيح ؟ وهل من المستحبّ أن يكرّرها ثلاث مرّات أو أكثر مع اعتبار حال المصلّي إذا كان منفرداً ، أو إماماً ، أو مأموماً ؟ وينظر مثل هذه التّفاصيل في مصطلح : ( ركوع ) حيث إنّ التّكبير والتّسبيح في الرّكوع والسّجود حكمها واحد لا يختلف .
قال بعض الفقهاء : يستحبّ أن يقول في سجوده بعد التّسبيح : « اللّهمّ لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت سجد وجهي للّذي خلقه وصوّره وشقّ سمعه وبصره تبارك اللّه أحسن الخالقين » ، كما يستحبّ الدّعاء فيه . ومن بين الأدعية الواردة : « اللّهمّ اغفر لي ذنبي كلّه دقّه وجلّه ، وأوّله وآخره ، وعلانيته وسرّه ، اللّهمّ إنّي أعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك » .
قراءة القرآن في السّجود :
10 - اتّفق الفقهاء على كراهة قراءة القرآن في السّجود ، لحديث عليّ رضي الله عنه قال: « نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد » .
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء ، فقمن أن يستجاب لكم » .
فإن قرأ غير الفاتحة في السّجود لم تبطل صلاته ، وإن قرأ الفاتحة فالجمهور على أنّها لا تبطل كذلك .
وفي وجه عند الشّافعيّة أنّها تبطل ، لأنّه نقل ركناً إلى غير موضعه كما لو ركع أو سجد في غير موضعه .
وسجود التّلاوة ، وسجود السّهو ، سجود الشّكر تفاصيلها في مصطلحاتها .
ثانياً : السّجود لغير اللّه :(/3)
11 - أجمع الفقهاء على أنّ السّجود للصّنم أو للشّمس أو نحوهما من المخلوقات كفر يخرج السّاجد به عن الملّة إذا كان عاقلاً بالغاً مختاراً ، سواء كان عامداً أو هازلاً .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه إن لم يسجد للصّنم أو للشّمس على سبيل التّعظيم واعتقاد الألوهيّة ، بل سجد لها وقلبه مطمئنّ بالإيمان يجري عليه حكم الكفّار في الظّاهر ، ولا يحكم بكفره فيما بينه وبين اللّه ، وإن دلّت قرينة قويّة على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف ، كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشيةً منه فلا يكفر .
12 - كما أجمعوا على أنّ السّجود لغير صنم نحوه ، كأحد الجبابرة أو المملوك أو أيّ مخلوق آخر هو من المحرّمات وكبيرة من كبائر الذّنوب ، فإن أراد السّاجد بسجوده عبادة ذلك المخلوق كفر وخرج عن الملّة بإجماع العلماء ، وإن لم يرد بها عبادةً فقد اختلف الفقهاء فقال بعض الحنفيّة : يكفر مطلقاً سواء كانت له إرادة أو لم تكن له إرادة ، وقال آخرون منهم : إذا أراد بها التّحيّة لم يكفر بها ،وإن لم تكن له إرادة كفر عند أكثر أهل العلم.(/4)
سحب *
التّعريف :
1 - السّحب في اللّغة : جرّك الشّيء على وجه الأرض كالثّوب وغيره .
والسّحب عند الشّافعيّة : أن يعطى النّقاء المتخلّل بين أيّام الحيض حكم الحيض ، قال الشّروانيّ : وإنّما سمّوه بذلك لأنّنا سحبنا الحكم بالحيض على النّقاء فجعلنا الكلّ حيضاً .
الحكم الإجماليّ :
2 - سبق أنّ السّحب يراد به الحكم على النّقاء المتخلّل في أيّام الحيض .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة على القول الرّاجح إلى أنّ أيّام الدّم وأيّام النّقاء كلاهما حيض بشرط إحاطة الدّم لطرفي النّقاء المتخلّل .
وزاد الشّافعيّة شرطين آخرين وهما : أن لا يجاوز ذلك خمسة عشر يوماً ، وأن لا تنقص الدّماء عن أقلّ الحيض .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة في قولهم الثّاني والحنابلة : إلى أنّ أيّام الدّم حيض ، وأيّام النّقاء طهر ، وتلفّق من أيّام الدّم حيضها . ويطلق الشّافعيّة على هذا القول " التّلفيق " أو" اللّقط " . وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( تلفيق 13 /286 ) .
3 - كما اختلف الفقهاء في حكم تقطّع دم الحيض ومجاوزته أكثر الحيض .
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى القول بالسّحب .
فمذهب الحنفيّة أنّ المبتدأة حيضها عشرة أيّام من أوّل ما ترى الدّم ، أمّا المعتادة فإنّ عادتها المعروفة في الحيض حيض ، وعادتها في الطّهر طهر .
وعند الشّافعيّة أنّ لذات التّقطّع أربعة أحوال : أحدها : أن تكون مميّزةً بأن ترى يوماً وليلةً دماً أسود ، ثمّ يوماً وليلةً نقاءً ، ثمّ يوماً وليلةً أسود ، ثمّ يوماً وليلةً نقاءً ، وكذا مرّة ثالثة ورابعة وخامسة ثمّ ترى بعد هذه العشرة يوماً وليلةً دماً أحمر ، ويوماً وليلةً نقاءً ، ثمّ مرّة ثانية وثالثة ، وتجاوز خمسة عشر متقطّعاً كذلك ، أو متّصلاً دماً أحمر .
فهذه المميّزة تردّ إلى التّمييز فيكون العاشر فما بعده طهراً . والتّسعة كلّها حيض على قول السّحب الرّاجح . وإنّما لم يدخل معها العاشر ، لأنّ النّقاء إنّما يكون حيضاً على قول السّحب إذا كان بين دمي الحيض . وهذا يجري في المبتدأة والمعتادة المميّزة .
الحال الثّاني : أن تكون ذات التّقطّع معتادةً غير مميّزة . وهي حافظة لعادتها ، وكانت عادتها أيّامها متّصلةً لا تقطّع فيها فتردّ إلى عادتها .
فيكون كلّ دم يقع في أيّام العادة مع النّقاء المتخلّل بين الدّمين يكون جميعه حيضاً .
فإن كانت عادتها من أوّل كلّ شهر خمسة أيّام فتقطّع دمها يوماً ويوماً وجاوز خمسة عشر فحيضها الخمسة الأولى دماً ونقاءً .
الحال الثّالث : أن تكون مبتدأةً لا تمييز لها .
وفيها قولان : أظهرهما : أنّها تردّ إلى أقلّ الحيض وهو يوم وليلة .
والثّاني أنّها تردّ إلى غالب الحيض وهو ستّة أو سبعة . وإن رددناها إلى يوم وليلة ، فحيضها يوم وليلة سواء سحبنا أو لقطنا .
الحال الرّابع : النّاسية ، وهي ضربان :
أحدها : من نسيت قدر عادتها ووقتها وهي المتحيّرة .
والثّاني : من نسيت قدر عادتها وذكرت وقتها ، أو نسيت الوقت وذكرت القدر .
والصّحيح من القولين فيهما : أنّه يلزمها الاحتياط ، فتحتاط في أزمنة الدّم ، وأزمنة النّقاء أيضاً . وسيأتي تفصيل ذلك في مصطلح ( متحيّرة ) .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى القول بالتّلفيق .
فعند المالكيّة تلفّق المبتدأة نصف شهر ، وتلفّق المعتادة عادتها واستظهارها .
وعند الحنابلة تلفّق المبتدأة أقلّ الحيض . والمعتادة عادتها ثمّ هي بعد أيّام التّلفيق مستحاضة . وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح : ( تلفيق ، 13 /288 ) .(/1)
سحور *
التّعريف :
1 - السّحور لغةً : طعام السّحر وشرابه ، قال ابن الأثير : هو بالفتح اسم ما يتسحّر به وقت السّحر من طعام وشراب ، وبالضّمّ المصدر والفعل نفسه ، أكثر ما روي بالفتح ، وقيل: إنّ الصّواب بالضّمّ ، لأنّه بالفتح الطّعام والبركة ، والأجر والثّواب في الفعل لا في الطّعام . والسَّحَر بفتحتين : آخر اللّيل قبيل الصّبح ، الجمع أسحار ، وقيل : هو من ثلث اللّيل الآخر إلى طلوع الفجر . ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ للسّحور عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - السّحور سنّة للصّائم ، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على كونه مندوباً ، لما روى أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : تسحّروا فإنّ في السّحور بركةً » .
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر » .
ولأنّه يستعان به على صيام النّهار ، وإليه أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّدب إلى السّحور فقال : « استعينوا بطعام السّحر على صيام النّهار وبالقيلولة على قيام اللّيل » .
وكلّ ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السّحور لحديث عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر » وعن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « السّحور أكله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماء فإنّ اللّه وملائكته يصلّون على المتسحّرين » وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « نعم سحور المؤمن التّمر » .
وقت السّحور :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ وقت السّحور ما بين نصف اللّيل الأخير إلى طلوع الفجر ، وقال بعض الحنفيّة والشّافعيّة : هو ما بين السّدس الأخير وطلوع الفجر .
ويسنّ تأخير السّحور عند جمهور الفقهاء ما لم يخش طلوع الفجر الثّاني لقوله تعالى : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } والمراد بالفجر في الآية الفجر الثّاني ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ولكنّ الفجر المستطير في الأفق » ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال أمّتي بخير ما أخّروا السّحور وعجّلوا الفطر » ولأنّ المقصود بالسّحور التّقوّي على الصّوم ، وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصّوم .
ونقل الحطّاب عن ابن شاس أنّ تأخير السّحور مستحبّ . وتفصيل ذلك في ( صوم ) .
تأخّر السّحور إلى وقت الشّكّ :
4 - قال الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن : إنّه لا يكره الأكل والشّرب مع الشّكّ في طلوع الفجر الثّاني ، قال أحمد في رواية أبي داود : إذا شكّ في طلوع الفجر يأكل حتّى يستيقن طلوعه ، لأنّ الأصل بقاء اللّيل ، قال الآجرّيّ من الحنابلة وغيره : لو قال لعالمين : ارقبا الفجر ، فقال أحدهما : طلع ، وقال الآخر : لم يطلع ، أكل حتّى يتّفقا على أنّه طلع . وقاله جمع من الصّحابة وغيرهم .
ويكره عند الحنابلة الجماع مع الشّكّ في طلوع الفجر الثّاني ، لما فيه من التّعرّض لوجوب الكفّارة ، ولأنّه ليس ممّا يتقوّى به .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو شكّ في طلوع الفجر فالمستحبّ له أن لا يأكل ، لأنّه يحتمل أنّ الفجر قد طلع ، فيكون الأكل إفسادًا للصّوم ، فيتحرّز عنه ، قال صاحب البدائع : والأصل فيه ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهة ... »
كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ولو أكل وهو شاكّ لا يحكم عليه بوجوب القضاء ، لأنّ فساد الصّوم مشكوك فيه لوقوع الشّكّ في طلوع الفجر ، مع أنّ الأصل هو بقاء اللّيل ، فلا يثبت النّهار بالشّكّ .
وفي الفتاوى الهنديّة : إن كان أكبر رأيه أنّه تسحّر والفجر طالع فعليه قضاؤه عملاً بغالب الرّأي وفيه الاحتياط ، وعلى ظاهر الرّواية لا قضاء عليه ، هذا إذا لم يظهر له شيء ، ولو ظهر أنّه أكل والفجر طالع يجب عليه القضاء ولا كفّارة عليه .
5- وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكيّة : إنّ الأكل والشّرب مع الشّكّ في طلوع الفجر الثّاني مكروه . ونقل الكاسانيّ عن هشام عن أبي يوسف أنّه يكره ، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنّه إذا شكّ فلا يأكل ، وإن أكل فقد أساء ، لما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإنّ لكلّ ملك حمىً ، ألا إنّ حمى اللّه في أرضه محارمه » والّذي يأكل مع الشّكّ في طلوع الفجر يحوم حول الحمى فيوشك أن يقع فيه ، فكان بالأكل معرّضاً صومه للفساد فيكره ذلك .
وذهب أكثر المالكيّة إلى أنّ من أكل مع الشّكّ في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة على المشهور ، إلاّ أن يتبيّن أنّ الأكل كان قبل الفجر ، وإن كان الأصل بقاء اللّيل ، وهذا بالنّسبة لصوم الفرض ، وأمّا في النّفل فلا قضاء فيه اتّفاقاً ، لأنّ أكله ليس من العمد الحرام ، ولا كفّارة فيمن أكل شاكّاً في الفجر اتّفاقاً ، ومن أكل معتقداً بقاء اللّيل ثمّ طرأ الشّكّ فعليه القضاء بلا حرمة ، ولو طلع الفجر وهو متلبّس بالفطر فالواجب عليه إلقاء ما في فمه . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( صوم ) .
السّحور بالتّحرّي وغيره :(/1)
6 - لو أراد أن يتسحّر فله ذلك إذا كان بحال لا يمكنه مطالعة الفجر بنفسه أو بغيره ، وذكر شمس الأئمّة الحلوانيّ أنّ من تسحّر بأكبر الرّأي لا بأس به ، إذا كان الرّجل ممّن لا يخفى عليه مثل ذلك ، وإن كان ممّن يخفى عليه فسبيله أن يدع الأكل ، وإن أراد أن يتسحّر بصوت الطّبل السّحريّ فإن كثر ذلك الصّوت من كلّ جانب وفي جميع أطراف البلدة فلا بأس به ، وإن كان يسمع صوتاً واحداً فإن علم عدالته يعتمد عليه ، وإن لم يعرف يحتاط ولا يأكل ، وإن أراد أن يعتمد بصياح الدّيك فقد أنكر ذلك بعض الحنفيّة ، وقال بعضهم : لا بأس به إذا كان قد جرّبه مراراً ، وظهر له أنّه يصيب الوقت .(/2)
سرر *
التّعريف :
1 - السّرر لغةً : اللّيلة الّتي يستسرّ فيها القمر ، ويقال فيها أيضاً السّرر ، والسّرار ، والسّرار ، وهو مشتقّ من قولهم : استسرّ القمر ، أي خفي ليلة السّرار ، فربّما كان ليلتين . وأصل السّرر الخفاء فنقول : أُسِرُّ الحديث إسراراً إذا أخفيته أو نسبته إلى السّرّ ، وأسررته أيضاً أظهرته فهو من الأضداد .
أمّا معناه اصطلاحاً فقد اختلف المراد من السّرر ، هل هو آخر الشّهر ، أم أوّله ، أم أوسطه، فذهب بعض العلماء وهم جمهور أهل اللّغة والحديث والغريب : إلى أنّ المراد من السّرر هو آخر الشّهر ، سمّي بذلك لاستسرار القمر .
وبعض العلماء ذهب إلى أنّ السّرر الوسط ، فسرارة الوادي وسطه وخياره ، وسرار الأرض أكرمها وأوسطها ، ويؤيّده النّدب إلى صيام البيض ، وهي وسط الشّهر ، وأنّه لم يرد في صيام آخر الشّهر ندب ، ورجّح هذا القول النّوويّ .
وذهب الأوزاعيّ وسعيد بن عبد العزيز إلى أنّ السّرر أوّل الشّهر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أيّام البيض :
2 - أيّام البيض : هي الثّالث عشر والرّابع عشر والخامس عشر من كلّ شهر ، وأصلها أيّام اللّيالي البيض . وهي ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة وليلة خمس عشرة ، وسمّيت هذه اللّيالي بالبيض لاستنارة جميعها بالقمر .
الحكم التّكليفيّ :
اختلاف الفقهاء في معنى السّرر اصطلاحاً يقتضي بيان الحكم التّكليفيّ للسّرر بشتّى المعاني:
3 - صيام أوّل الشّهر : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يصوم أوّل مطلع كلّ شهر ثلاثة أيّام ، فقد روى عنه عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه « أنّه كان صلى الله عليه وسلم يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيّام » . ( ر : مصطلح صوم التّطوّع ) .
4 - صوم يوم الشّكّ : وهو يوم الثّلاثين من شعبان إذا تردّد النّاس في كونه من رمضان ، للفقهاء عبارات متقاربة في تحديده ، واختلفوا في حكمه مع اتّفاقهم على عدم الكراهة وإباحة صومه إن صادف عادةً للمسلم بصوم تطوّع كيوم الاثنين أو الخميس ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تقدّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلاّ رجل كان يصوم صوماً فليصمه » .
ولقول عمّار رضي الله عنه : « من صام اليوم الّذي يشكّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم » ر : التّفصيل في مصطلح ( صوم التّطوّع ) .
صيام النّصف من شعبان :
5 - ذهب جمهور العلماء إلى جواز صيام النّصف من شعبان وما بعده ، لحديث عمران بن حصين « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : يا فلان أما صمت سرر هذا الشّهر ؟ قال الرّجل : لا يا رسول اللّه ، قال : فإذا أفطرت فصم يومين من سرر شعبان » ، وهذا على قول من فسّر السّرر بالوسط .
وذهب الحنابلة إلى كراهية صيام النّصف من شعبان لحديث أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا انتصف شعبان ، فلا تصوموا » .
وحرّمه الشّافعيّة لحديث النّهي عن صيام النّصف ، ولأنّه ربّما أضعف الصّائم عن صيام رمضان ، وجمع الطّحاويّ بين حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو النّهي ، وحديث النّهي عن تقدّم رمضان بالصّيام إلاّ إذا كان صوماً يصومه ، بأنّ الحديث الأوّل محمول على من يضعفه الصّوم ، والثّاني مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان ، وحسّن الجمع ابن حجر . ر : التّفصيل في مصطلحي : ( صوم ، وصوم التّطوّع ) .(/1)
سفينة *
التّعريف :
1 - السّفينة معروفة ، وتسمّى الفلك ، سمّيت سفينةً ، لأنّها تسفن وجه الماء أي : تقشره فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وقيل : إنّما سمّيت سفينةً لأنّها تسفن الرّمل إذا قلّ الماء .
وقيل : لأنّها تسفن على وجه الأرض أي : تلزق بها . والجمع سفائن وسفن وسفين .
ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللّغويّ نفسه ويشمل اسم السّفينة عندهم كلّ ما يركب به البحر ، كالزّورق والقارب والباخرة والبارجة والغوّاصة .
الأحكام المتعلّقة بالسّفينة :
استقبال القبلة في السّفينة :
2 - يجب استقبال القبلة على من يصلّي فرضًا في السّفينة ، فإن هبّت الرّيح وحوّلت السّفينة فتحوّل وجهه عن القبلة وجب ردّه إلى القبلة ويبني على صلاته ، لأنّ التّوجّه فرض عند القدرة وهذا قادر . بهذا قال جمهور الفقهاء .
ويرىالحنابلة في وجه أنّه لا يجب أن يدور المفترض إلى القبلة كلّما دارت السّفينة كالمتنفّل. هذا صرّح الحنابلة بأنّ الملّاح لا يلزمه الدّوران إلى القبلة إذا دارت السّفينة عنها وذلك لحاجته لتسيير السّفينة .
وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بالموضوع ،واستقبال المتنفّل على السّفينة( ر : صلاة . نفل).
القيام في الصّلاة في السّفينة :
3 - ذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة " إلى أنّه لا يجوز لمن يصلّي الفريضة في السّفينة ترك القيام مع القدرة كما لو كان في البرّ . ويستدلّون بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فإن لم يستطع فقاعداً » وهذا مستطيع للقيام، وبما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بعث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحبشة أمره أن يصلّي في السّفينة قائمًا إلاّ أن يخاف الغرق » ولأنّ القيام ركن في الصّلاة فلا يسقط إلاّ بعذر ولم يوجد .
ويقول أبو حنيفة : بصحّة صلاة من صلّى في السّفينة السّائرة قاعداً بركوع وسجود وإن كان قادراً على القيام أو على الخروج إلى الشّطّ ، وفي المضمرات والبحر عن البدائع : أنّ فيه إساءة أدب .
ويحتجّ لأبي حنيفة على ما ذهب إليه بما يأتي :
أ - روي عن ابن سيرين أنّه قال : صلّينا مع أنس في السّفينة قعوداً ولو شئنا لخرجنا إلى الجدّ .
ب - قال مجاهد : صلّينا مع جنادة رضي الله عنه في السّفينة قعوداً ولو شئنا لقمنا .
ج - ذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن عقلة أنّه قال : سألت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عن الصّلاة في السّفينة . فقالا : إن كانت جاريةً يصلّي قاعداً ، وإن كانت راسيةً يصلّي قائماً من غير فصل بين ما إذا قدر على القيام أو لا .
د - أنّ سير السّفينة سبب لدوران الرّأس غالباً ، والسّبب يقوم مقام المسبّب إذا كان في الوقوف على المسبّب حرج ، أو كان المسبّب بحال يكون عدمه مع وجود السّبب في غاية النّدرة فألحقوا النّادر بالعدم ، إذ لا عبرة بالنّادر ، وهاهنا عدم دوران الرّأس في غاية النّدرة فسقط اعتباره وصار كالرّاكب على الدّابّة وهي تسير أنّه يسقط القيام لتعذّر القيام عليها غالباً كذا هذا .
الاقتداء في السّفن :
4 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز أن يأتمّ رجل من أهل السّفينة بإمام في سفينة أخرى ، لأنّ بينهما طائفةً من النّهر أو البحر إلاّ أن تكونا مقرونتين فحينئذ يصحّ الاقتداء لأنّه ليس بينهما ما يمنع ذلك ، فكأنّهما في سفينة واحدة لأنّ السّفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة .
والمراد بالاقتران المماسّة بين السّفينتين مدّة الصّلاة ولو من غير ربط . وهذا ما استظهره الطّحطاويّ . وقيل : المراد بالاقتران ربطهما بنحو حبل .
ومحلّ عدم صحّة الاقتداء عند الحنابلة كون الإمام والمأموم في غير شدّة خوف ، وأمّا في شدّة الخوف فيصحّ الاقتداء للحاجة .
ويرى المالكيّة جواز اقتداء ذوي سفن متقاربة بإمام واحد يسمعون تكبيره أو يرون أفعاله أو من يسمع عنده ، ويستحبّ أن يكون الإمام في السّفينة الّتي تلي القبلة .
وقال الشّافعيّة : لو كان الإمام والمأموم في سفينتين مكشوفتين في البحر فكالفضاء فيصحّ اقتداء أحدهما بالآخر وإن لم تشدّ إحداهما إلى الأخرى بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع ، وإن كانتا مسقّفتين أو إحداهما فقط فكالبيتين في اشتراط قدر المسافة وعدم الحائل ووجود الواقف بالمنفذ إن كان بينهما منفذ .
التّطوّع في السّفينة بالإيماء :
5 - يرى الحنفيّة والحنابلة - وهو المعوّل عليه عند المالكيّة - أنّه لا يجوز للمسافر أن يتطوّع في السّفينة بالإيماء بخلاف راكب الدّابّة فيجوز له ذلك لورود النّصّ به وهذا ليس في معناه لأنّ راكب الدّابّة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السّفينة له فيها قرار على الأرض فالسّفينة في حقّه كالبيت .
هذا ولم نجد للشّافعيّة تصريحاً في مسألة التّطوّع بالإيماء في السّفينة .
التّعاقد على ظهر السّفينة :
6 - إذا تعاقد شخصان على ظهر سفينة انعقد العقد سواء أكانت السّفينة واقفةً أم جاريةً . قال الكاسانيّ : لو تبايعا وهما في سفينة ينعقد سواء كانت واقفةً أو جاريةً .
وعلّل ابن الهمام عدم تبدّل مجلس العقد بجريان السّفينة بقوله : السّفينة كالبيت فلو عقدا وهي تجري فأجاب الآخر لا ينقطع المجلس بجريانها لأنّهما لا يملكان إيقافها .
وللتّفصيل ( ر : اتّحاد المجلس ، صيغة ، عقد ، مجلس ) .
الشّفعة في السّفن :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من شروط وجوب الشّفعة أن يكون المبيع عقاراً أو ما هو بمعناه ، فالشّفعة لا تثبت عندهم في السّفن .(/1)
ونقل عن مالك أنّه يقول : بثبوت الشّفعة في السّفن ، وهذا مقتضى إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد وهو قول أهل مكّة . وللتّفصيل ( ر : شفعة ) .
انتهاء خيار المجلس في السّفينة :
8 - يعتبر القائلون بخيار المجلس التّفرّق سبباً من أسباب انتهاء خيار المجلس والمرجع في التّفرّق إلى عرف النّاس وعادتهم فيما يعدّونه تفرّقاً ، لأنّ الشّارع علّق عليه حكماً ولم يبيّنه فدلّ ذلك على أنّه أراد ما يعرفه النّاس فلو كان العاقدان في سفينة كبيرة فالنّزول إلى الطّبقة التّحتانيّة تفرّق كالصّعود إلى الفوقانيّة .
أمّا لو كانا في سفينة صغيرة فالتّفرّق يحصل بخروج أحدهما منها .
والتّفصيل في مصطلح ( خيار المجلس ) .
اصطدام السّفينتين :
9 - إن اصطدمت سفينتان بتفريط من مجرييهما فغرقتا ضمن كلّ واحد من المجريين سفينة الآخر وما فيها من نفس ومال ، لأنّ التّلف حصل بسبب فعليهما فوجب على كلّ منهما ضمان ما تلف بسبب فعله كالفارسين إذا اصطدما . بهذا قال جمهور الفقهاء .
ويرى الشّافعيّة أنّه يلزم كلّاً من المجريين للآخر نصف بدل سفينته ونصف ما فيها . وللفقهاء في المسألة تفاصيل تنظر في ( إتلاف ، قتل ، قصاص ، ضمان ) .
إنقاذ السّفينة بإتلاف الأمتعة :
10 - إذا أشرفت السّفينة على الغرق جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر ، ويجب الإلقاء رجاء نجاة الرّاكبين إذا خيف الهلاك ، ويجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي الرّوح .
ولا يجوز إلقاء الدّوابّ إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان وإذا مسّت الحاجة إلى إلقاء الدّوابّ ألقيت لإبقاء الآدميّين ولا سبيل لطرح الآدميّ بحال ذكراً كان أو أنثى ، مسلماً أو كافراً . وفي بعض فروع المسألة خلاف وتفصيل ينظر في ( إتلاف ، ضمان ) .
الامتناع عن إنقاذ السّفينة من الغرق :
11 - اتّفق الفقهاء على وجوب إعانة الغريق على النّجاة من الغرق ، فإن كان قادراً ولم يوجد غيره تعيّن عليه ذلك ، وإن كان ثمّ غيره كان ذلك واجبًا كفائيّاً على القادرين . فإن قام به أحد سقط عن الباقين ، وإلاّ أثموا جميعاً . ( ر : إعانة ج 5 / ف 5 /196 ) .
قال الحصكفيّ : يجب قطع الصّلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق .
يقول ابن عابدين : المصلّي متى سمع أحداً يستغيث وإن لم يقصده بالنّداء أو كان أجنبيّاً وإن لم يعلم ما حلّ به أو علم وكان له قدرة على إغاثته وتخليصه وجب عليه إغاثته وقطع الصّلاة فرضاً كان أو غيره . فتبيّن ممّا ذكر أنّ من رأى سفينةً مشرفةً على الغرق وهو قادر على إنقاذها يجب عليه القيام بذلك .
وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، وإنّما اختلفوا في تضمين من أمكنه إنقاذ السّفينة من الغرق فلم يفعل .
بتتبّع آراء أكثر الفقهاء في مسألة الامتناع من إغاثة الملهوف ونجدة الغريق وإطعام المضطرّ حتّى يهلكوا يتبيّن أنّهم لا يرتّبون الضّمان على الامتناع من إنقاذ سفينة مشرفة على الغرق مع القدرة على ذلك وإنّما يرون التّأثيم فيه ديانةً .
ويعلّل عدم تضمين الممتنع عندهم بأنّه لم يهلك أهل السّفينة ولم يكن سبباً في غرقهم فلم يضمنهم كما لو لم يعلم بحالهم .
ويرى المالكيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة أنّ الممتنع مع القدرة يلزمه الضّمان لأنّه لم ينج أهل السّفينة من الهلاك مع إمكانه فيضمنهم . ( ر : ترك ف /14 ، ج 11 / 204 ) .(/2)
سَعْي *
التّعريف :
1 - السّعي لغةً : من سعى يسعى سعياً : أي : قصد أو عمل أو مشى ، أو عدا .
ويستعمل كثيراً في المشي .
ووردت المادّة في القرآن بما يفيد معنى الجدّ في المشي ، كقوله تعالى في صلاة الجمعة :
{ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .
وقال تعالى : { وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } .
2 - والسّعي في الاصطلاح : قطع المسافة الكائنة بين الصّفا والمروة سبع مرّات ذهاباً وإياباً بعد طواف في نسك حجّ أو عمرة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الطّواف :
3 - الطّواف هو الدّوران حول الكعبة على الصّفة المعروفة . واستعمل أيضاً بمعنى السّعي في نصّ القرآن : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . أي : يسعى .
وفي الأحاديث كحديث جابر : « حتّى إذا كان آخر طوافه على المروة » أي : آخر سعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وتقدّم الطّواف شرط لصحّة السّعي . أصل السّعي :
4 - الأصل في مشروعيّة السّعي الكتاب والسّنّة . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } الآية .
وأمّا السّنّة فما ورد من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سعى في حجّه بين الصّفا والمروة وقال : اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السّعي » .
وقد وضعت الشّريعة السّعي على مثال « سعي السّيّدة هاجر عندما سعت بينهما سبع مرّات لطلب الماء لابنها » كما في حديث البخاريّ عن ابن عبّاس مرفوعاً ، وفي آخره قال ابن عبّاس : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فذلك سعي النّاس بينهما » .
الحكم التّكليفيّ :
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في المعتمد عندهم إلى أنّ السّعي ركن من أركان الحجّ والعمرة ، لا يصحّان بدونه . وهو قول عائشة وعروة بن الزّبير .
وذهب الحنفيّة والحنابلة في رواية إلى أنّ السّعي واجب في الحجّ والعمرة ، وليس بركن فيهما ، فمن تركه لغير عذر وجب عليه الدّم ، وإن تركه لعذر فلا شيء عليه ، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ وسفيان الثّوريّ .
وروي عن أحمد بن حنبل أنّه سنّة لا يجب بتركه دم ، وروي ذلك عن ابن عبّاس وأنس ، وابن الزّبير وابن سيرين .
وسبب الخلاف أنّ الآية الكريمة : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ ... } لم تصرّح بحكم السّعي ، فآل الحكم إلى الاستدلال بالسّنّة وبحديث : « اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السّعي » . وفي الصّحيحين عن « أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : قدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالبطحاء فقال : بما أهللت ؟ قلت : أهللت بإهلال النّبيّ صلى الله عليه وسلم . قال : هل سقت من هدي ؟ قلت : لا قال : فطف بالبيت وبالصّفا والمروة ، ثمّ حلّ » . فاستدلّ بذلك المالكيّة والشّافعيّة ومن وافقهم على الفرضيّة ، لأنّ " كتب " بمعنى فرض ، ولأنّه صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى بالسّعي ورتّب عليه الحلّ فيكون فرضاً .
واستدلّ به الحنفيّة على الوجوب ، لأنّه كما قال الكمال بن الهمام : " مثله لا يزيد على إفادة الوجوب ، وقد قلنا به . أمّا الرّكن فإنّما يثبت عندنا بدليل مقطوع به . فإثباته بهذا الحديث إثبات بغير دليل " . يعني بغير دليل يصلح لإثبات الرّكنيّة . واستدلّ للقول بالسّنّيّة بقوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه ، فإنّ هذا رتبة المباح ، وإنّما تثبت سنّيّته بقوله تعالى : { مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } .
صفة السّعي :
6 - بعد انتهاء الحاجّ أو المعتمر من الطّواف يتوجّه إلى الصّفا ليبدأ السّعي منها ، فيرقى على الصّفا ، ويستقبل الكعبة المشرّفة ، ويوحّد اللّه ويكبّره ، ويأتي بالذّكر الوارد ، ثمّ يسير متوجّهاً إلى المروة ، فإذا حاذى الميلين " العمودين " الأخضرين اللّذين في جدار المسعى اشتدّ وأسرع ما استطاع ، وهكذا إلى العمودين التّاليين الأخضرين ، ثمّ يمشي المشي المعتاد حتّى يصل إلى المروة فيصعد عليها . ويوحّد ويكبّر كما فعل على الصّفا ، وهذا شوط واحد . ثمّ يشرع في الشّوط الثّاني فيتوجّه من المروة إلى الصّفا ، حتّى إذا حاذى العمودين الأخضرين اشتدّ وأسرع كثيراً حتّى يصل إلى العمودين التّاليين ، ثمّ يمشي المشي المعتاد ، إلى أن يصل إلى الصّفا فيرقى عليها ، ويستقبل الكعبة ، ويوحّد اللّه ويكبّره ، يدعو كما فعل أوّلاً ، وهذا شوط ثان ، ثمّ يعود إلى المروة وهكذا حتّى يعدّ سبعة أشواط ينتهي آخرها عند المروة . فإن كان معتمراً فقط أو متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ ، فقد قضى عمرته ويحلق أو يقصّر ، ويتحلّل التّحلّل الكامل . وإن كان مفرداً للحجّ أو قارناً فلا يحلق ولا يقصّر ، بل يظلّ محرماً ، حتّى يتحلّل بأعمال يوم النّحر .( ر : إحرام ف /123 - 126 وحجّ ،ف /82 ) .
ركن السّعي :
7 - ذهب الجمهور إلى أنّ السّعي ركن في الحجّ أو العمرة ، قالوا : إنّ القدر الّذي لا يتحقّق السّعي بدونه : سبعة أشواط يقطعها بين الصّفا والمروة ، لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمّة سلفاً فخلفاً على السّعي كذلك .(/1)
وقال الحنفيّة : يكفي لإسقاط الواجب أربعة أشواط ، لأنّها أكثر السّعي ، وللأكثر حكم الكلّ ، فلو سعى أقلّ من أربعة أشواط فعليه دم عند الحنفيّة ، لأنّه لم يؤدّ الواجب ، أمّا عند الجمهور فيجب عليه العود لأداء ما نقص ولو كان خطوةً ، ولا يتحلّل من إحرامه إلاّ بذلك . ويحصل الرّكن بكون السّعي بين الصّفا والمروة في الأشواط المفروضة ، سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره ، ولا يشترط الرّقيّ عليهما . بل يكفي أن يلصق عقبيه بهما ، وكذا عقبي حافر دابّته إذا كان راكباً ، وهذا هو الأحوط ، أو يلصق عقبيه في الابتداء بالصّفا وأصابع رجليه بالمروة ، وفي الرّجوع عكسه ، وهذا هو الأظهر .
لكن تصويرهما إنّما كان يتصوّر في العهد الأوّل ، حيث يوجد كلّ من الصّفا والمروة مرتفعًا عن الأرض ، وأمّا في هذا الزّمان فلكونه قد دفن كثير من أجزائهما لا يمكن حصول ما ذكر فيهما ، فيكفي المرور فوق أوائلهما .
ثمّ هذا فرض عند الجميع ، وهو الظّاهر في تحقيق مذهب الحنفيّة في الأشواط الأربعة الّتي هي ركن الطّواف الواجب عندهم .
شروط السّعي :
8 - أ - أن يكون السّعي بعد طواف صحيح : ولو نفلاً عند الحنفيّة . وكذا المالكيّة . وسمّوا ذلك ترتيباً للسّعي .
لكن المالكيّة فصلوا بين الشّرط والواجب في سبق الطّواف للسّعي ، فقالوا : يشترط سبق الطّواف أيّ طواف ولو نفلاً ، لصحّة السّعي ، لكن يجب في هذا السّبق أن يكون الطّواف فرضاً " ومثله الواجب " ونوى فرضيّته أو اعتقدها .
وطواف القدوم واجب عندهم فيصحّ تقديم السّعي على الوقوف بعد طواف القدوم .
فلو سعى بعد طواف نفل فلا شيء عليه عند الحنفيّة .
أمّا عند المالكيّة فلو كان الطّواف نفلًا أو نوى سنّيّته ، أو أطلق الطّواف ولم يستحضر شيئاً، أو كان يعتقد عدم وجوبه لجهله ، فإنّه يعيد الطّواف وينوي فرضيّته أو وجوبه إن كان واجباً ثمّ يعيد السّعي ما دام بمكّة ، أمّا إذا سافر إلى بلده فعليه دم .
ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه يشترط أن يكون السّعي بعد طواف ركن أو قدوم ، ولا يخلّ الفصل بينهما ، لكن بحيث لا يتخلّل بين طواف القدوم والسّعي الوقوف بعرفة ، فإن تخلّل بينهما الوقوف بعرفة لم يجزه السّعي إلاّ بعد طواف الإفاضة .
دليل الجميع « فعله صلى الله عليه وسلم فإنّه قد سعى بعد الطّواف » ، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لتأخذوا مناسككم » ، وبإجماع المسلمين .
وروي عن عطاء عدم اشتراط تقدّم الطّواف . وفي رواية عن أحمد : لو سعى قبل الطّواف ناسياً أجزأه .
9 - ب - التّرتيب بين الصّفا والمروة بأن يبدأ بالصّفا فالمروة ، حتّى يختم سعيه بالمروة ، اتّفاقاً بينهم .
فلو بدأ بالمروة لغا هذا الشّوط واحتسب الأشواط ابتداءً من الصّفا ، وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم كما سبق في حديث جابر ، وقوله : « أبدأ بما بدأ اللّه به ، فبدأ بالصّفا » ، وروي الحديث بصيغة الأمر « ابدءوا بما بدأ اللّه به » .
10 - ج - النّيّة عند الحنابلة خاصّة ، على ما في المذهب والمقرّر ، وصوّبه المرداويّ ، وظاهر كلام الأكثر خلافهما كما في الفروع .
وقت السّعي الأصليّ :
11 - وقت السّعي الأصليّ هو يوم النّحر بعد طواف الزّيارة لا بعد طواف القدوم ، لأنّ ذلك سنّة ، والسّعي واجب ، فلا ينبغي أن يجعل الواجب تبعاً للسّنّة ، فأمّا طواف الزّيارة ففرض ، والواجب يجوز أن يجعل تبعاً للفرض . إلاّ أنّه خصّ في السّعي بعد طواف القدوم ، جعل ذلك وقتًا له ترفيهًا للحاجّ وتيسيراً عليه ، لازدحام الاشتعال له يوم النّحر .
فأمّا وقته الأصليّ فيوم النّحر عقيب طواف الزّيارة ، وتقدّم طواف القدوم ليس شرطاً عند الحنفيّة ، بل الشّرط سبق السّعي بالطّواف ولو نفلاً .
وقريب من ذلك مذهب الجمهور . إلاّ أنّ المالكيّة شرطوا لعدم وجوب الدّم أن يكون بعد طواف واجب ونوى وجوبه ، وطواف القدوم عندهم واجب .
وخصّ الشّافعيّة والحنابلة وقت السّعي أنّه بعد طواف ركن أو قدوم .
هذا كلّه بالنّسبة للحاجّ المفرد الآفاقيّ ، فإنّه يشرع له طواف القدوم .
أمّا المكّيّ المفرد ومثله المتمتّع الآفاقيّ فليس لهما طواف قدوم ، لأنّهما يحرمان بالحجّ من مكّة ، فلا يقدّمان السّعي عند الجمهور ، إلاّ عند المالكيّة فيمكن لهما أن يطوفا نفلاً ويسعيا بعده ويلزمهما دم .
أمّا عند الحنفيّة فيمكن لهما أن يفعلا ذلك ولا شيء عليهما .
تكرّر السّعي للقارن :
12 - القارن عند الحنفيّة يطوف طوافين ويسعى سعيين . فيبدأ بطواف العمرة ثمّ سعيها ، ثمّ يطوف للقدوم ويسعى للحجّ إن أراد تقديم سعي الحجّ عندهم .
أمّا عند الجمهور فحكمه كالمفرد ، لأنّه يطوف طوافاً واحداً ، ويسعى سعياً واحداً يجزئان لحجّه وعمرته . واستدلّوا « بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة الّذين كانوا قارنين معه في حجّته حيث إنّهم سعوا سعياً واحداً » .
حكم تأخّر السّعي عن طواف الزّيارة :
13 - ذهب الجمهور إلى أنّه لا يتحلّل المحرم من إحرامه إلاّ بالعود للسّعي ولو نقص خطوةً واحدةً ، ويظلّ محرماً في حقّ النّساء حتّى يرجع ويسعى مهما بعد مكانه ، وذلك لقولهم بركنيّة السّعي . ( ر : مصطلح حجّ ف /56 و 125 ) . ولا شيء عليه بتأخير السّعي مهما طال الأمد . ويرجع بإحرامه المتبقّي ، دون حاجة لإحرام جديد .(/2)
وقال الحنفيّة : إذا تأخّر السّعي عن وقته الأصليّ - وهو أيّام النّحر بعد طواف الزّيارة - فإن كان لم يرجع إلى أهله فإنّه يسعى ولا شيء عليه ، لأنّه أتى بما وجب عليه ، ولا يلزمه بالتّأخير شيء ، لأنّه فعله في وقته الأصليّ وهو ما بعد طواف الزّيارة . ولا يضرّه إن كان قد جامع ، لوقوع التّحلّل الأكبر عند الحنفيّة بطواف الزّيارة ، إذ السّعي ليس بركن حتّى يمنع التّحلّل ، وإذا صار حلالاً بالطّواف فلا فرق بين أن يسعى قبل الجماع أو بعده ، غير أنّه لو كان بمكّة يسعى ولا شيء عليه لما قلنا ، وإن كان رجع إلى أهله فعليه دم لتركه السّعي بغير عذر . وإن أراد أن يعود إلى مكّة فإنّه يعود بإحرام جديد ، لأنّ إحرامه الأوّل قد ارتفع بطواف الزّيارة ، لوقوع التّحلّل الأكبر به ، فيحتاج إلى تجديد الإحرام ، إذا عاد وسعى يسقط عنه الدّم لأنّه تدارك التّرك .
قال محمّد بن الحسن : الدّم أحبّ إليّ من الرّجوع ، لأنّ فيه منفعة الفقراء ، والنّقصان ليس بفاحش .
وهذا المذكور عن الحنفيّة ينطبق على القول بالوجوب عند الحنابلة .
واجبات السّعي :
14 - أ - المشي بنفسه للقادر عليه ، وهذا عند المالكيّة والحنفيّة ، وعند الشّافعيّة والحنابلة هو سنّة . فلو سعى راكباً أو محمولاً أو زحفاً بغير عذر صحّ سعيه باتّفاقهم جميعاً، لكن عليه الدّم عند الحنفيّة والمالكيّة ، لتركه المشي في السّعي بغير عذر ، وهو واجب عندهم ، أو إعادة السّعي .
ولا يلزمه شيء عند الشّافعيّة والحنابلة ولو مشى بغير عذر ، لأنّ المشي في السّعي سنّة عندهم .
بل صرّح الشّافعيّة بأنّ الأفضل أن لا يركب في سعيه إلاّ لعذر كما سبق في الطّواف ، لأنّ المشي أشبه بالتّواضع . واتّفقوا على أنّ السّعي راكبًا ليس بمكروه لكنّه خلاف الأفضل . ولو سعى به غيره محمولاً جاز ، لكن الأولى سعيه بنفسه إن لم يكن صبيّاً صغيراً أو له عذر كمرض ونحوه .
15 - ب - إكمال الأشواط الثّلاثة الأخيرة عند الحنفيّة ، لأنّ الأقلّ من السّبعة واجب عند الحنفيّة ، فلو ترك الأقلّ وهو ثلاثة أشواط فما دون ذلك صحّ سعيه وعليه صدقة لكلّ شوط عندهم . أمّا الجمهور فكلّ هذه الأشواط السّبعة ركن عندهم لا يجوز أن تنقص ولو خطوةً .
سنن السّعي ومستحبّاته :
16 - أ - الموالاة بين الطّواف والسّعي : فلو فصل بينهما بفاصل طويل بغير عذر فقد أساء ويسنّ له الإعادة ، ولو لم يعد لا شيء عليه اتّفاقاً .
ودليل الفقهاء على ذلك الاعتبار بتأخير الطّواف الرّكن عن الوقوف ، فإنّه يجوز تأخيره عنه سنين كثيرةً ولا آخر له ما دام حيًّا بلا خلاف فيه عند الحنفيّة . ( ر : طواف ف /9 ، وحجّ ف /140 - 142 ) .
وملحظهم فيه أنّه أدّاه في وقته الأصليّ ، وهو ما بعد طواف الإفاضة .
17 - ب - النّيّة : هي سنّة في السّعي عند الجمهور ، والرّاجح عند الحنفيّة ، وقيل عند الحنفيّة إنّها مستحبّة . خلافاً للحنابلة القائلين باشتراطها .
قال عليّ القاريّ :ولعلّهم أدرجوا فيه السّعي في ضمن التزام الإحرام بجميع أفعال المحرم به. فلو مشى من الصّفا إلى المروة هارباً أو بائعاً أو متنزّهاً أو لم يدر أنّه سعى جاز سعيه . وهذه توسعة عظيمة ، كعدم شرط نيّة الوقوف بعرفة .
18 - ج - أن يستلم الحجر الأسود بعد ركعتي الطّواف قبل الذّهاب إلى السّعي ، إن تيسّر له استلام الحجر ، وإلاّ أشار إليه ، فيكون الاستلام بمثابة وصلة بين الطّواف والسّعي .
19 - د - يستحبّ أن يسعى على طهارة من الحدث الأصغر والأكبر والنّجاسة ، ولو خالف صحّ سعيه . ففي الحديث الصّحيح عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها لمّا حاضت : افعلي كما يفعل الحاجّ ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتّى تطهري » متّفق عليه . وهو يدلّ دلالةً صريحةً على جواز السّعي بغير طهارة .
20 - هـ - أن يصعد على الصّفا والمروة كلّما بلغهما في سعيه بحيث يستقبل الكعبة ، وقدّره النّوويّ في المجموع بقدر قامة .
وهذا الصّعود مستحبّ عند الشّافعيّة والحنابلة وخصّوا به الرّجال دون النّساء .
21 - و - الدّعاء : عند صعود الصّفا والمروة وفي السّعي بينهما ، جعله الحنفيّة من المستحبّات . على تفصيل سيأتي .
22 - ز - السّعي الشّديد بين الميلين الأخضرين : وهما العمودان الأخضران اللّذان في جدار المسعى الآن ، وهو سنّة في الأشواط السّبعة ، ويستحبّ أن يكون فوق الرّمَل ودون العدْو . والسّنّة أن يمشي فيما سوى ذلك . فقد « كان صلى الله عليه وسلم يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصّفا والمروة » . متّفق عليه .
وقال المالكيّة : يسنّ الخبب في الذّهاب من الصّفا إلى المروة فقط ، ولا يسنّ في الإياب . وسنّيّة السّعي الشّديد هذه تختصّ بالرّجال دون النّساء ، لأنّ مبنى حالهنّ على السّتر ، فالسّنّة في حقّهنّ المشي فقط .
23 - ح - الموالاة بين أشواط السّعي : وسنّيّتها مذهب الجمهور ، خلافاً للمالكيّة والحنابلة في المعتمد ، قد جعلوا الموالاة بين أشواط السّعي شرطاً لصحّة السّعي .
وبناءً على ذلك فصّل المالكيّة فقالوا :
أولاً : إن جلس في سعيه وكان شيئاً خفيفاً أجزأه ، وإن كان لا ينبغي له ذلك .
وإن طال جلوسه وصار كالتّارك بأن كثر التّفريق ابتدأ السّعي من جديد .
ثانياً : لا ينبغي له أن يبيع أو يشتري أو يقف مع أحد ويحدّثه ، فإن فعل وكان خفيفاً لم يضرّ وإن كان مكروهاً ، فإن كثر ابتدأ السّعي من جديد .
ثالثاً : إن أصابه حقن توضّأ وبنى على ما سبق ولم يعد .
رابعاً : إن أقيمت عليه الصّلاة تمادى إلاّ أن يضيق وقت الصّلاة فليصلّ ، ثمّ يبني على ما مضى له .(/3)
وكلّ ذلك لا يضرّ عند الجمهور قلّ أو كثر ، لكنّه يكره ، ويستثنى من الكراهة أن يقطع السّعي لإقامة الصّلاة المكتوبة بالجماعة ، ولصلاة الجنازة ، كما في الطّواف ، بل هو هنا أولى .
24 - ط - ذهب الشّافعيّة إلى سنّيّة الاضطباع في السّعي قياساً على الطّواف .
25 - ي - استحبّ الحنفيّة إذا فرغ من السّعي أن يدخل المسجد فيصلّي ركعتين ، ليكون ختم السّعي كختم الطّواف ، كما ثبت أنّ مبدأه بالاستلام كمبدئه .
وللشّافعيّة قولان في هاتين الرّكعتين . قال الجوينيّ : " حسن وزيادة طاعة " .
وقال ابن الصّلاح : " ينبغي أن يكره ذلك لأنّه ابتداع شعار " .
قال النّوويّ : " وهذا الّذي قاله ابن الصّلاح أظهر واللّه أعلم " .
مباحات السّعي :
26 - يباح في السّعي ما يباح في الطّواف ، بل هو أولى . ومن ذلك :
أ - الكلام المباح الّذي لا يشغله .
ب - الأكل والشّرب .
ج - الخروج منه لأداء مكتوبة ، أو صلاة جنازة ، على خلاف للمالكيّة .
مكروهات السّعي :
27 - أ - البيع والشّراء والحديث ، إذا كان شيء منها على وجه يشغله عن الحضور ، ويدفعه عن الذّكر والدّعاء ، أو يمنعه عن الموالاة .
28 - ب - تأخير السّعي عن وقته المختار تأخيراً كثيراً من غير عذر ، بإبعاده كثيراً من الطّواف .
ووردت جملة من الأدعية والأذكار المأثورة في السّعي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعن بعض الصّحابة منها ما يلي :
29 - أ - عند التّوجّه إلى الصّفا للسّعي يذهب من أيّ باب يتيسّر له ، ويقرأ هذه الآية :
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } وكذلك عندما يبلغ المروة آخر كلّ شوط .
« لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك » .
30 - ب - إذا صعد على الصّفا وقف عليه بحيث يرى الكعبة المعظّمة ، وكذلك إذا صعد على المروة توجّه إلى القبلة وذكر ودعا كما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويسنّ أن يطيل القيام ، ويقول كما ورد في صحيح مسلم عن جابر : « فاستقبل القبلة فوحّد اللّه وكبّره ، وقال : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير ، لا إله إلاّ اللّه وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . ثمّ دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرّات ... حتّى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصّفا » .
31 - ج - ورد من الدّعاء على الصّفا : « اللّهمّ إنّك قلت { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وإنّك لا تخلف الميعاد ، وإنّي أسألك كما هديتني للإسلام ألاّ تنزعه منّي حتّى تتوفّاني وأنا مسلم ». « اللّهمّ اعصمنا بدينك وطواعيتك ، وطواعية رسولك ، وجنّبنا حدودك . اللّهمّ اجعلنا نحبّك ونحبّ ملائكتك وأنبياءك ورسلك ، ونحبّ عبادك الصّالحين . اللّهمّ يسّرنا لليسرى وجنّبنا العسرى ، واغفر لنا في الآخرة والأولى ، واجعلنا من أئمّة المتّقين » .
32 - د - عند الهبوط من الصّفا ورد هذا الدّعاء : « اللّهمّ أحيني على سنّة نبيّك ، وتوفّني على ملّته ، وأعذني من مضلّات الفتن برحمتك يا أرحم الرّاحمين » .
33 - هـ - عند السّعي الشّديد بين الميلين الأخضرين : « ربّ اغفر وارحم ، إنّك أنت الأعزّ الأكرم » .
34 - و - عند الاقتراب من المروة يقرأ { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } .
ثمّ يرقى على المروة ويقف مستقبل القبلة ويأتي من الذّكر والدّعاء كما عند الصّفا ، وكذلك عندما يهبط من المروة يدعو بما سبق عند الهبوط من الصّفا ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل على المروة كما فعل على الصّفا » . كما سبق في الحديث .
ولم يثبت في الحديث شيء من الأدعية والأذكار يوزّع على أشواط السّعي ويخصّ كلّ شوط بدعاء ، إنّما وزّع العلماء عليها أدعيةً من المأثور في السّعي ومن غيره إرشاداً للنّاس ، وتسهيلاً عليهم لإحصاء أشواط السّعي .
وهو سنّة بغير تحديد عند المالكيّة ، وجعل الحنفيّة الدّعاء في السّعي من المستحبّات .
ويجتهد في الذّكر والدّعاء بأنواع الأذكار والأدعية في السّعي كلّه ، فإنّ ذلك مقصود عظيم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل رمي الجمار والسّعي بين الصّفا والمروة لإقامة ذكر اللّه » .(/4)
سَفَر *
التّعريف :
1 - السّفر لغةً قطع المسافة البعيدة . يقال ذلك إذا خرج للارتحال .
قال الفيّوميّ : وقال بعض المصنّفين أقلّ السّفر يوم .
والجمع أسفار ، ورجل مسافر ، وقوم سفر وأسفار وسفّار ، وأصل المادّة الكشف .
وسمّي السّفر سفراً لأنّه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافياً .
وفي الاصطلاح : السّفر هو الخروج على قصد قطع مسافة القصر الشّرعيّة فما فوقها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحضر :
2 - الحضر بفتحتين والحضرة والحاضرة خلاف البادية ، وهي المدن والقرى والرّيف ، سمّيت بذلك لأنّ أهلها حضروا الأمصار ومساكن الدّيار الّتي يكون لهم بها قرار والحضر من النّاس ساكنو الحضر ، والحاضر خلاف البادي والحضر من لا يصلح للسّفر .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
ب - الإقامة :
3 - من معاني الإقامة ، الثّبوت في المكان ، واتّخاذه وطناً ، وهي ضدّ السّفر .
الحكم التّكليفيّ :
4 - قسّم الحنفيّة السّفر من حيث حكمه إلى ثلاثة أقسام : سفر طاعة كالحجّ والجهاد ، وسفر مباح كالتّجارة ، وسفر معصية كقطع الطّريق وحجّ المرأة بلا محرم .
وقال المالكيّة : السّفر على قسمين : سفر طلب ، وسفر هرب . فسفر الهرب واجب .
وهو إذا كان في بلد يكثر فيه الحرام ويقلّ فيه الحلال فإنّه يجب عليه السّفر منه إلى بلد يكثر فيه الحلال . وكذلك يجب الهروب من موضع يشاهد فيه المنكر من شرب خمر وغير ذلك من سائر المحرّمات إلى موضع لا يشهد فيه ذلك . وكذلك يجب عليه الهرب من بلد أو موضع يذلّ فيه نفسه إلى موضع يعزّ فيه نفسه ، لأنّ المؤمن عزيز لا يذلّ نفسه . وكذلك يجب الهروب من بلد لا علم فيه إلى بلد فيه العلم . وكذلك يجب الهروب من بلد يسمع فيه سبّ الصّحابة رضوان الله عليهم ، ولا يخفى أنّ ذلك كلّه حيث لم يمكن الإنسان التّغيير والإصلاح. وأمّا سفر الطّلب فهو على أقسام - ويوافقهم الشّافعيّة والحنابلة عليها - واجب كسفر حجّ الفريضة والجهاد إذا تعيّن .
ومندوب وهو ما يتعلّق بالطّاعة قربةً للّه سبحانه كالسّفر لبرّ الوالدين أو لصلة الرّحم أو طلب العلم أو للتّفكّر في الخلق ، ومباح وهو سفر التّجارة ، وممنوع وهو السّفر لمعصية اللّه تعالى .
ومثّل الشّافعيّة للسّفر المكروه بالّذي يسافر وحده ، وسفر الاثنين أخفّ كراهةً وذلك لخبر أحمد وغيره « كره النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوحدة في السّفر » .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « الرّاكب شيطان والرّاكبان شيطانان والثّلاثة ركب » .
وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ السّفر لرؤية البلاد والتّنزّه فيها مباح .
وقال الحنابلة : إنّ السّياحة لغير موضع معيّن مكروه .
السّفر من عوارض الأهليّة :
5 - السّفر من عوارض الأهليّة المكتسبة ، وهو لا ينافي شيئاً من أهليّة الأحكام وجوباً وأداءً من العبادات وغيرها . فلا يمنع وجوب شيء من الأحكام نحو الصّلاة والزّكاة والحجّ لبقاء القدرة الظّاهرة والباطنة بكمالها . لكنّه جعل في الشّرع من أسباب التّخفيف بنفسه مطلقاً - يعني من غير نظر إلى كونه موجباً للمشقّة أو غير موجب لها ، لأنّ السّفر من أسباب المشقّة في الغالب . فلذلك اعتبر نفس السّفر سبباً للرّخص وأقيم مقام المشقّة . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
شروط السّفر :
6 - يشترط في السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام ، ما يلي :
أ - أن يبلغ المسافة المحدّدة شرعاً :
7 - اختلف الفقهاء في مسافة السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام ، فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ مسافة السّفر الّتي تتغيّر بها الأحكام أربعة برد .
لما روى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا أهل مكّة لا تقصروا في أقلّ من أربعة برد من مكّة إلى عسفان » وكان ابن عمر وابن عبّاس - رضي الله عنهم - يقصران ويفطران في أربعة برد . ذلك إنّما يفعل عن توقيف . وكلّ بريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال هاشميّة . فهي ثمانية وأربعون ميلاً ، والفرسخ بأميال بنى أميّة ميلان ونصف ، فالمسافة على هذا أربعون ميلاً .
والتّقدير بثمانية وأربعين ميلاً هو المشهور عند المالكيّة والشّافعيّة وعندهم أقوال ضعيفة بغير ذلك ولا تحسب من هذه المسافة مدّة الرّجوع اتّفاقاً .
فلو كانت ملفّقةً من الذّهاب والرّجوع لم تتغيّر الأحكام . وهي باعتبار الزّمان مرحلتان ، وهما سير يومين معتدلين أو يوم وليلة بسير الإبل المثقلة بالأحمال على المعتاد ، مع النّزول المعتاد لنحو استراحة وأكل وصلاة . قال الأثرم : قيل لأبي عبد اللّه . في كم تقصر الصّلاة ؟ قال : في أربعة برد . قيل له : مسيرة يوم تامّ ؟ قال : لا : أربعة برد ، ستّة عشر فرسخاً ، مسيرة يومين . قال البهوتيّ : وقد قدّره ابن عبّاس - رضي الله عنهما - من عسفان إلى مكّة ، ومن الطّائف إلى مكّة ، ومن جدّة إلى مكّة .
وقد صرّح المالكيّة بأنّ اليوم يعتبر من طلوع الشّمس لأنّه المعتاد للسّير غالباً لا من طلوع الفجر ، وأنّ البحر كالبرّ في اشتراط المسافة المذكورة .
قال الدّسوقيّ : إنّ البحر لا تعتبر فيه المسافة بل الزّمان وهو يوم وليلة ، وقيل باعتبارها فيه كالبرّ وهو المعتمد ، وعليه إذا سافر وبعض سفره في البرّ وبعض سفره في البحر فقيل يلفّق مسافة أحدهما لمسافة الآخر مطلقاً من غير تفصيل . وقيل : لا بدّ فيه من التّفصيل على ما مرّ وهو المعتمد .(/1)
وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يضرّ قطع المسافة في زمن يسير ، فلو قطع الأميال في ساعة مثلاً لشدّة جري السّفينة بالهواء ونحوه أو قطعها في البرّ في بعض يوم على مركوب جواد تغيّرت الأحكام في حقّه لوجود المسافة الصّالحة لتغيّر الأحكام ، ولأنّه صدق عليه أنّه سافر أربعة برد .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ مسافة السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام هو مسيرة ثلاثة أيّام ، وقدّرها بعض مشايخ الحنفيّة بأقصر أيّام السّنة .
قال ابن عابدين نقلاً عن الحلية : الظّاهر إبقاؤها على إطلاقها بحسب ما يصادفه من الوقوع فيها طولاً وقصراً واعتدالاً إن لم تقدّر بالمعتدلة الّتي هي الوسط . ولا اعتبار عندهم بالفراسخ على المذهب . قال في الهداية هو الصّحيح ، احترازاً عن قول عامّة المشايخ في تقديرها بالفراسخ . ثمّ اختلفوا ، فقيل واحد وعشرون ، وقيل ثمانية عشر ، وقيل خمسة عشر والفتوى على الثّاني ، لأنّه الأوسط ، وفي المجتبى فتوى أئمّة خوارزم على الثّالث .
ثمّ إنّه لا يشترط سفر كلّ يوم إلى اللّيل بل يكفي إلى الزّوال ، والمعتبر السّير الوسط .
قالوا : ويعتبر في الجبل بما يناسبه من السّير ، لأنّه يكون صعوداً وهبوطاً مضيقاً ووعراً فيكون مشي الإبل والأقدام فيه دون سيرها في السّهل . وفي البحر يعتبر اعتدال الرّيح على المضيّ به ، فيعتبر في كلّ ذلك السّير المعتاد فيه وذلك معلوم عند النّاس فيرجع إليهم عند الاشتباه . وخرج سير البقر يجرّ العجلة ونحوه لأنّه أبطأ السّير ، كما أنّ أسرعه سير الفرس والبريد ، حتّى لو كانت المسافة ثلاثاً بالسّير المعتاد فسار إليها على الفرس جرياً حثيثاً فوصل في يومين أو أقلّ قصر .
ب - القصد :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام قصد موضع معيّن عند ابتداء السّفر ، فلا قصر ولا فطر لهائم على وجهه لا يدري أين يتوجّه ، ولا لتائه ضالّ الطّريق ، ولا لسائح لا يقصد مكاناً معيّناً .
وكذا لو خرج أمير مع جيشه في طلب العدوّ ولم يعلم أين يدركهم فإنّه يتمّ وإن طالت المدّة أو المكث ومثله طالب غريم وآبق يرجع متى وجده ولا يعلم موضعه وإن طال سفره .
وهذا فيمن كان مستقلّاً برأيه أمّا التّابع لغيره كالزّوجة مع زوجها ، والجنديّ مع الأمير . ففيه خلاف وتفصيل ينظر في ( صلاة المسافر ) .
ج - مفارقة محلّ الإقامة :
9 - يشترط في السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام مفارقة بيوت المصر فلا يصير مسافراً قبل المفارقة .
قال الحنفيّة : ويشترط مفارقة ما كان من توابع موضع الإقامة كربض المصر . وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن فإنّه في حكم المصر . وكذا القرى المتّصلة بالرّبض في الصّحيح، بخلاف البساتين ولو متّصلةً بالبناء لأنّها ليست من البلدة .
ولو سكنها أهل البلدة في جميع السّنة أو بعضها ، كما أنّه لا يعتبر سكنى الحفظة والأكرة اتّفاقاً . وأمّا الفناء وهو المكان المعدّ لمصالح البلد كركض الدّوابّ ، ودفن الموتى وإلقاء التّراب فإن اتّصل بالمصر اعتبرت مجاوزته لا إن انفصل بمزرعة بقدر ثلاثمائة إلى أربعمائة ذراع ، والقرية المتّصلة بالفناء دون الرّبض لا تعتبر مجاوزتها على الصّحيح .
والمعتبر المجاوزة من الجانب الّذي خرج منه حتّى لو جاوز عمران المصر قصر ، وإن كان بحذائه من جانب آخر أبنية .
واشترط المالكيّة مجاوزة البساتين إذا سافر من ناحيتها أو من غير ناحيتها وإن محاذياً لها، وإلاّ فيقصر بمجرّد مجاوزة البيوت .
وقال البنانيّ : لا يشترط مجاوزة البساتين إلاّ إذا سافر من ناحيتها ، وإن سافر من غير ناحيتها فلا تشترط مجاوزتها ولو كان محاذيًا لها إذ غاية البساتين أن تكون كجزء من البلد. قال الدّسوقيّ : مثل البساتين المسكونة القريتان اللّتان يرتفق أهل أحدهما بأهل الأخرى بالفعل . وإلاّ فكلّ قرية تعتبر بمفردها . وإذا كان بعض ساكنيها يرتفق بالبلد الأخرى كالجانب الأيمن دون الآخر فالظّاهر أنّ حكمها كلّها كحكم المتّصلة .
ثمّ إنّ العبرة عندهم بالبساتين المتّصلة ولو حكماً بأن يرتفق سكّانها بالبلد المسكونة بالأهل ولو في بعضه العامّ ارتفاق الاتّصال من نار وطبخ وخبز .
أمّا البساتين المنفصلة أو غير المسكونة فلا عبرة بها ، ولا عبرة أيضًا بالحارس والعامل فيها .(/2)
ومذهب الشّافعيّة أنّه إذا كان للبلد سور فأوّل سفره مجاوزة سورها ولو متعدّدًا أو كان داخله مزارع أو خراب ، إذ ما في داخل السّور معدود من نفس البلد محسوب من موضع الإقامة . وإن كان لها بعضه سور وهو صوب مقصده اشترطت مجاوزته ، ولو كان السّور متهدّماً وبقيت له بقايا اشترطت مجاوزته أيضاً وإلاّ فلا . والخندق في البلدة الّتي لا سور لها كالسّور ، وبعضه كبعضه ، ولا أثر له مع وجود السّور . ويلحق بالسّور تحويطة أهل القرى عليها بتراب ونحوه . ولا تشترط مجاوزة العمارة وراء السّور في الأصحّ لعدم عدّها من البلد . وإن لم يكن للبلد سور أصلاً ، أو في جهة مقصده أو كان لها سور غير خاصّ بها وكقرى متفاصلة جمعها سور ولو مع التّقارب فأوّل سفره مجاوزة العمران ولو تخلّله خراب لا أصول أبنية به أو نهر وإن كان كبيراً فإنّه يشترط مجاوزته لكونه محلّ الإقامة ، أمّا الخراب خارج العمران الّذي لم تبق أصوله أو هجروه بالتّحويط عليه أو اتّخذوه مزارع فلا تشترط مجاوزته ، كما لا تشترط مجاوزة البساتين والمزارع على المعتمد وإن اتّصلت بما سافر منه ، أو كانت محوطةً لأنّها لا تتّخذ للإقامة وسواء أكان بها قصور أم دور تسكن في بعض فصول السّنة أو لا . وقد صرّحوا بأنّ القريتين المتّصلتين عرفاً كبلدة واحدة وإن اختلف اسمهما وإلاّ اكتفى بمجاوزة قرية المسافر .
ومذهب الحنابلة أنّه تشترط مفارقة بيوت قريته العامرة سواء كانت داخل السّور أو خارجه ، فيقصر إذا فارقها بما يقع عليه اسم المفارقة بنوع البعد عرفاً ، لأنّ اللّه تعالى إنّما أباح القصر لمن ضرب في الأرض . وقبل مفارقته ما ذكر لا يكون ضارباً فيها ولا مسافراً ، ولأنّ ذلك أحد طرفي السّفر أشبه حالة الانتهاء .
ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما كان يقصر إذا ارتحل » ، ولا تعتبر مفارقة الخراب وإن كانت حيطانه قائمةً إن لم يله عامر فإن وليه عامر اعتبرت مفارقة الجميع . وكذا لو جعل الخراب مزارع وبساتين يسكنه أهله ولو في فصل النّزهة فلا يقصر حتّى يفارقه .
ولو كانت قريتان متدانيتين واتّصل بناء إحداهما بالأخرى فهما كالواحدة وإن لم يتّصل فلكلّ قرية حكم نفسها .
وأمّا مساكن الخيام فقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ أوّل سفره مجاوزة حلّته . قال الشّافعيّة الحلّة بيوت مجتمعة أو متفرّقة بحيث يجتمع أهلها للسّمر في ناد واحد ، ويستعير بعضهم من بعض .
وقال المالكيّة : الحلّة منزل قومه ، فالحلّة والمنزل بمعنًى واحد ومذهبهم أنّه تشترط مفارقة بيوت الحلّة ولو تفرّقت حيث جمعهم اسم الحيّ والدّار أو الدّار فقط بمعنى أنّه إذا جمعهم اسم الحيّ والدّار أو الدّار فقط فإنّه لا يقصر في هاتين الحالتين إلاّ إذا جاوز جميع البيوت .
وأمّا لو جمعهم اسم الحيّ فقط دون الدّار بأن كانت كلّ فرقة في دار فإنّها تعتبر كلّ دار على حدتها حيث كان لا يرتفق بعضهم ببعض وإلاّ فهم كأهل الدّار الواحدة . وكذا إذا لم يجمعهم اسم الحيّ والدّار فإنّه يقصر إذا جاوز بيوت حلّته هو . والمراد بالحيّ عندهم القبيلة ، وبالدّار المنزل الّذي ينزلون فيه . ومحلّ مجاوزة الحلّة عند الشّافعيّة حيث كان بمستو .
فإن كانت بواد ومسافر في عرضه أو بربوة أو وحدة اشترطت مجاوزة العرض ومحلّ الصّعود والهبوط إن كانت الثّلاثة معتدلةً ، وإلاّ بأن أفرطت سعتها أو كانت ببعض العرض اكتفي بمجاوزة الحلّة . قالوا : ولا بدّ من مجاوزة مرافقها أيضًا كملعب صبيان وناد ومطرح رماد ومعطن إبل وكذا ماء وحطب اختصّا بها .
وأمّا ساكن الجبال ، ومن نزل بمحلّ في بادية وحده ، فإنّه يشترط في سفره مجاوزة محلّه . وقد صرّح المالكيّة والحنابلة بأنّ سكّان البساتين ونحوهم كأهل العزب يشترط في سفرهم الانفصال عن مساكنهم .
قال المالكيّة : سواء أكانت تلك البساتين متّصلةً بالبلد أم منفصلةً عنها .
واعتبر الحنابلة العرف في ذلك فقالوا : ليصيروا مسافرين لا بدّ من مفارقة ما نسبوا إليه بما يعدّ مفارقةً عرفاً .
وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه يعتبر في سفر البحر المتّصل ساحله بالبلد جري السّفين أو الزّورق إليها . قال ابن حجر : وإن كان في هواء العمران كما اقتضاه إطلاقهم .
د - ألاّ يكون سفر معصية :
10 - اشترط جمهور الفقهاء - المالكيّة على الرّاجح والشّافعيّة والحنابلة - في السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام ألاّ يكون المسافر عاصياً بسفره كقاطع طريق وناشزة وعاقّ ومسافر عليه دين حالّ قادر على وفائه من غير إذن غريمه .
إذ مشروعيّة التّرخّص في السّفر للإعانة . والعاصي لا يعان ، لأنّ الرّخص لا تناط بالمعاصي، ومثله ما إذا انتقل من سفره المباح إلى سفر المعصية بأن أنشأ سفراً مباحاً ثمّ قصد سفراً محرّماً .
والمراد بالمسافر العاصي بسفره أو سفر المعصية أن يكون الحامل على السّفر نفس المعصية كما في الأمثلة السّابقة .
وقد ألحق الحنابلة بسفر المعصية السّفر المكروه فلا يترخّص المسافر عندهم إذا كان مسافراً لفعل مكروه ، وفي مذهب المالكيّة خلاف في التّرخّص في السّفر المكروه فقيل بالمنع وقيل بالجواز . قال ابن شعبان : إن قصر لم يعد للاختلاف فيه .
ثمّ إنّه متى تاب العاصي بسفره في أثنائه فإنّه يترخّص بسفره كما لو لم يتقدّمه معصية . ويكون أوّل سفره من حين التّوبة .
وعلى هذا فإن كان بين محلّ التّوبة ومقصده مرحلتان قصر .وإن كان الباقي دونها فلا قصر. وقد صرّح بهذا الشّافعيّة والحنابلة ، ولم يتعرّض المالكيّة لذكر المسافة في حال التّوبة . وعند بعض المالكيّة يجوز التّرخّص في سفر المعصية مع الكراهة .(/3)
ولم يشترط الحنفيّة هذا الشّرط فللمسافر العاصي بسفره أن يترخّص برخص السّفر كلّها لإطلاق نصوص الرّخص كقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « فرض اللّه الصّلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربع ركعات وفي السّفر ركعتين » قالوا : ولأنّ القبيح المجاور - أي : المعصية - لا يعدم المشروعيّة بخلاف القبيح لعينه وضعاً كالكفر ، أو شرعاً كبيع الحرّ فإنّه يعدم المشروعيّة .
كما أنّ المعصية ليست سبباً للرّخصة والسّبب هو السّفر ، والمعصية ليست عين السّفر ، وقد وجد السّفر الّذي هو سبب الرّخصة .
وأمّا العاصي في سفره وهو من يقصد سفراً مباحاً ثمّ تطرأ عليه معصية يرتكبها فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يترخّص في سفره ، لأنّه لم يقصد السّفر للمعصية ولأنّ سبب ترخّصه - وهو السّفر - مباح قبلها وبعدها .
الأحكام الّتي تتغيّر في السّفر :
الأحكام الّتي تتغيّر في السّفر منها ما يكون للتّخفيف عن المسافر ، ومنها ما لا يكون كذلك .
أوّلاً : ما يكون للتّخفيف عن المسافر :
أ - امتداد مدّة المسح على الخفّين :
11 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ السّفر يمدّ مدّة المسح على الخفّين إلى ثلاثة أيّام بلياليها بعد أن كانت يوماً وليلةً للمقيم .
لما روى شريح بن هانئ قال : « سألت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن المسح على الخفّين . فقالت : سل عليّاً فإنّه كان يسافر مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فسألته فقال : جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم » . وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ المسافر العاصي بسفره يمسح مدّة المقيم يوماً وليلةً ، لأنّه مقيم حكماً .
وأجاز الحنفيّة المسح ثلاثة أيّام ولياليها في سفر المعصية .
ومذهب المالكيّة أنّه يجوز المسح على الخفّين في الحضر والسّفر من غير تحديد بمدّة معلومة من الزّمن ما لم يخلعه أو يحدث له ما يوجب الغسل ونحوه اختيار ابن تيميّة في المسافر الّذي يشقّ اشتغاله بالخلع واللّبس كالبريد المجهّز في مصلحة المسلمين .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( مسح على الخفّين ) .
ب - قصر الصّلاة وجمعها :
12 - أجمع الفقهاء على مشروعيّة قصر الصّلاة في السّفر . لقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } .
ولما روى يعلى بن أميّة قال : « قلت لعمر بن الخطّاب : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فقد أمن النّاس . قال : عجبت ممّا عجبت منه . فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » .
وذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ السّفر من الأعذار المبيحة لجمع الصّلوات .
وعند الحنفيّة لا يجوز الجمع بين فريضتين إلاّ في عرفة ومزدلفة . فيجمع بين الظّهر والعصر في وقت الظّهر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة المسافر ) .
ج - سقوط وجوب الجمعة :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإقامة من شروط وجوب الجمعة . وعلى هذا فلا تجب الجمعة على المسافر لقول النّبيّ : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلاّ مريض أو مسافر أو امرأة أو صبيّ أو مملوك » ولأنّ النّبيّ وأصحابه كانوا يسافرون في الجمع وغيره فلم يصلّ أحد منهم الجمعة فيه مع اجتماع الخلق الكثير ، ولأنّ المسافر يحرج في حضور الجمعة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة الجمعة ) .
د - التّنفّل على الرّاحلة :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّنفّل على الرّاحلة في السّفر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير » .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( تطوّع ) .
هـ - جواز الفطر في رمضان :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ السّفر بشروطه السّابقة هو من الأعذار المبيحة للفطر في رمضان ، فيجوز للمسافر أن يفطر في رمضان لقوله تعالى : « ومن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أخر » وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس من البرّ الصّوم في السّفر » وتفصيل ذلك في مصطلح ( صوم ) .
ثانياً : أحكام السّفر لغير التّخفيف :
أ - حكم انعقاد الجمعة بالمسافر :
16 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ من شروط صحّة صلاة الجمعة الاستيطان ، فلا تصحّ الجمعة بالمسافر ولا تنعقد به ، أي لا يكمل به نصابها . وذهب الحنفيّة إلى انعقاد الجمعة بالمسافر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة الجمعة ) .
ب - تحريم السّفر على المرأة إلاّ مع زوج أو محرم :
17 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم على المرأة أن تسافر بمفردها ، وأنّه لا بدّ من وجود محرم أو زوج معها .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة » ، ولحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : « لا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم ، ولا يدخل عليها رجل إلاّ ومعها محرم ، فقال رجل : يا رسول اللّه إنّي أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا ، وامرأتي تريد الحجّ . قال : اخرج معها » .
18 - ويستثنى من منع سفر المرأة بدون زوج أو محرم المهاجرة والأسيرة .(/4)
فقد اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة إذا أسلمت في دار الحرب لزمها الخروج منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم ، وكذا إذا أسرها الكفّار وأمكنها أن تهرب منهم فلها أن تخرج مع غير ذي محرم ، ولا يعتبر الحنفيّة خروج المرأة في هذه الحالة سفراً .
قال الكمال بن الهمام : لأنّها لا تقصد مكاناً معيّناً بل النّجاة خوفًا من الفتنة ، فقطعها المسافة كقطع السّائح .
ولذا إذا وجدت مأمناً كعسكر من المسلمين وجب أن تقرّ ولا تسافر إلاّ بزوج أو محرم . على أنّها لو قصدت مكاناً معيّناً لا يعتبر قصدها ولا يثبت السّفر به ، لأنّ حالها وهو ظاهر قصد مجرّد التّخلّص يبطل تحريمتها .
قال الدّسوقيّ : إن كان يحصل لها ضرر بكلّ من إقامتها وخروجها دون رفقة مأمونة خيّرت إن تساوى الضّرران .
كما أجاز المالكيّة والشّافعيّة للمرأة أن تسافر للحجّ الواجب مع الرّفقة المأمونة .
ولم يقل بذلك الحنفيّة والحنابلة ، وقد سبق تفصيله في مصطلح ( رفقة ف 9 / 22 /299 ) وألحق المالكيّة بالحجّ سفرها الواجب ، فيجوز لها أن تسافر مع الرّفقة المأمونة من النّساء الثّقات في كلّ سفر يجب عليها .
قال الباجيّ : ولعلّ هذا الّذي ذكره بعض أصحابنا إنّما هو في الانفراد والعدد اليسير ، فأمّا في القوافل العظيمة والطّرق المشتركة العامرة المأمونة فإنّها عندي مثل البلاد الّتي يكون فيها الأسواق والتّجّار فإنّ الأمن يحصل لها دون ذي محرم ولا امرأة وقد روي هذا عن الأوزاعيّ . قال الحطّاب : وذكره الزّناتيّ في شرح الرّسالة على أنّه المذهب فيقيّد به كلام غيره . أمّا سفرها في التّطوّع فلا يجوز إلاّ مع زوج أو محرم .
كما أجاز الفقهاء للمرأة الّتي وجبت عليها العدّة في سفرها أن تسافر بغير محرم .
قال الحنفيّة : إن لزمتها العدّة في السّفر ، فإن كان الطّلاق رجعيّاً فإنّها تتبع زوجها حيث مضى لأنّ النّكاح قائم وإن كان بائناً أو مات عنها وبينها وبين كلّ من مصرها ومقصدها أقلّ من السّفر ، فإن شاءت مضت إلى المقصد وإن شاءت رجعت سواء كانت في مصر أو لا ، معها محرم أو لا ، لأنّه ليس في ذلك إنشاء سفر ، وخروج المطلّقة والمتوفّى عنها زوجها ما دون السّفر مباح إذا مسّت الحاجة إليه بمحرم وبغيره ، إلاّ أنّ الرّجوع أولى ليكون الاعتداد في منزل الزّوج . فإن كانت مسافة أحدهما أقلّ تعيّن ، ونحوه مذهب الحنابلة إلاّ أنّهم قالوا : إنّ مضيّها في سفرها لا يجوز إلاّ إذا كان معها محرم ، لكن إن كان في رجوعها خوف أو ضرر فلها المضيّ في سفرها .
وأوجب المالكيّة عليها في تلك الحالة أن ترجع إلى منزلها إن بقي شيء من العدّة ولكن مع ثقة ولو غير محرم وقال الشّافعيّة الأفضل عود المرأة إلى بيتها ولا يلزمها ذلك إن مات زوجها وهما في السّفر .
حكم السّفر في يوم الجمعة :
19 - اتّفق الفقهاء على حرمة السّفر في يوم الجمعة بعد الزّوال لمن تلزمه الجمعة ، لأنّ وجوبها تعلّق به بمجرّد دخول الوقت ، فلا يجوز له تفويته .
والحكم عند الحنفيّة الكراهة التّحريميّة ، وحدّدوا ذلك بالنّداء الأوّل .
واستثنوا من ذلك ما إذا تمكّن المسافر من أداء الجمعة في طريقه أو مقصده ، فلا يحرم حينئذ لحصول المقصود بذلك .
كما استثنى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة التّضرّر من فوت الرّفقة ، فلا يحرم دفعاً للضّرر عنه .
وأمّا السّفر قبل الزّوال ، فهو محلّ خلاف بين الفقهاء ، فذهب المالكيّة والحنابلة إلى كراهة السّفر قبل الزّوال ، لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره ، ولا يعان في حاجته » .
قال المالكيّة : بعد فجر يومها على المشهور خلافاً لما رواه عليّ بن زياد وابن وهب عن مالك بإباحته .
وقال الحنابلة : بعد طلوع الفجر قبل الزّوال إلاّ إذا أتى بها في طريقه فلا يكره .
وذهب الحنفيّة إلى جواز السّفر قبل الزّوال بلا خلاف عندهم ، وكذا بعد الفراع منها وإن لم يدركها .
وذهب الشّافعيّة إلى تحريم السّفر قبل الزّوال أيضاً - وأوّله الفجر - لوجوب السّعي على بعيد المنزل قبله ، والجمعة مضافة إلى اليوم . فإن أمكنه الجمعة في طريقه أو تضرّر بتخلّفه جاز وإلاّ فلا . ولا فرق في ذلك بين أن يكون السّفر مباحاً أو طاعةً في الأصحّ .
كما يكره عند الشّافعيّة السّفر ليلة الجمعة لخبر « من سافر ليلة الجمعة دعا عليه ملكاه » .
سفر المدين :
20 - اتّفق الفقهاء - في الجملة - على أنّه ليس لمن عليه دين حالّ أن يسافر بغير إذن دائنه .
وقد صرّح الحنفيّة بأنّ للدّائن أن يمنع المدين من السّفر إذا كان الدّين حالّاً ، وليس له ذلك في الدّين المؤجّل إلاّ إذا كان سفره طويلاً ويحلّ الدّين في أثنائه .
وهذا هو مذهب المالكيّة ، إلاّ أنّهم أجازوا له السّفر إذا كان الدّين حالّاً ولم يكن قادراً على الوفاء .
وأجاز الشّافعيّة السّفر إن كان الدّين مؤجّلاً مطلقاً سواء أكان الأجل قريباً أم بعيداً .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( غريم ، ودين ) .
آداب السّفر :
21 - للسّفر آداب كثيرة منها :
أ - إذا استقرّ عزم المسافر على السّفر ، لحجّ أو غزو أو غيرهما ، فينبغي أن يبدأ بالتّوبة من جميع المعاصي ، ويخرج من مظالم الخلق ، ويقضي ما أمكنه من ديونهم ، ويردّ الودائع ، ويستحلّ كلّ من بينه وبينه معاملة في شيء ، أو مصاحبة ويكتب وصيّته ، ويشهد عليها ، ويوكّل من يقضي ما لم يتمكّن من قضائه من ديونه ، ويترك نفقةً لأهله ومن تلزمه نفقتهم إلى حين رجوعه .(/5)
ومن السّنّة أن يستخير اللّه تعالى فيصلّي ركعتين غير الفريضة ثمّ يدعو بدعاء الاستخارة ينظر ( استخارة ) وينبغي إرضاء والديه ومن يتوجّه عليه برّه وطاعته .
ب - يستحبّ أن يرافق في سفره من هو موافق راغب في الخير كارهاً للشّرّ إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه ، ويستحبّ أن يرافق في سفره جماعةً لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لو أنّ النّاس يعلمون ما أعلم من الوحدة ما سرى راكب بليل يعني وحده » .
ج - يستحبّ أن يكون سفره يوم الخميس فإن فاته فيوم الاثنين وأن يكون باكراً ودليل الخميس ما أخرجه البخاريّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يحبّ أن يخرج يوم الخميس » وفي رواية : « أقلّ ما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخرج إلاّ يوم الخميس » ودليل يوم الاثنين « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هاجر من مكّة يوم الاثنين » ودليل البكور حديث صخر الغامديّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اللّهمّ بارك لأمّتي في بكورها قال وكان إذا بعث جيشاً أو سريّةً بعثهم أوّل النّهار ، وكان صخر تاجراً وكان إذا بعث تجّاره بعثهم أوّل النّهار فأثرى وكثر ماله » .
ويستحبّ السُّرَى في آخر اللّيل لحديث أنس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « عليكم بالدُّلْجة فإنّ الأرض تطوى باللّيل » .
د - ويستحبّ للمسافر إذا أراد الخروج من منزله أن يصلّي ركعتين يقرأ في الأولى { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وفي الثّانية { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ففي الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما خلّف عبد على أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السّفر » .
وعن أنس قال « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينزل منزلاً إلاّ ودّعه بركعتين » .
هـ - يستحبّ أن يودّع أهله وجيرانه وأصدقاءه وسائر أحبابه وأن يودّعوه ويقول كلّ واحد لصاحبه أستودعك اللّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك زوّدك اللّه التّقوى وغفر لك ذنبك ويسّر الخير لك حيثما كنت لحديث « ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول للرّجل إذا أراد سفراً : هلمّ أودّعك كما ودّعني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أستودع اللّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك » وعن عبد اللّه بن يزيد الخطميّ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودّع الجيش قال أستودع اللّه دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم » . وعن أنس رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّي أريد سفراً فزوّدني . فقال : زوّدك اللّه التّقوى . فقال : زدني فقال : وغفر ذنبك . قال زدني : قال ويسّر لك الخير حيثما كنت » .
و - يستحبّ أن يؤمّر الرّفقة على أنفسهم أفضلهم وأجودهم رأياً ويطيعونه لحديث أبي سعيد وأبي هريرة قالا " قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم » .
ز - يستحبّ للمسافر أن يكبّر إذا صعد الثّنايا وشبهها ويسبّح إذا هبط الأودية ونحوها ويكره رفع الصّوت لحديث جابر قال « كنّا إذا صعدنا كبّرنا وإذا نزلنا سبّحنا » وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : « كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكنّا إذا أشرفنا على واد هلّلنا وكبّرنا ارتفعت أصواتنا . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يا أيّها النّاس اربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً إنّه معكم سميع قريب » .
ويستحبّ إذا أشرف على قرية يريد دخولها أو منزل أن يقول اللّهمّ إنّي أسألك خيرها وخير أهلها وخير ما فيها وأعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها . لحديث صهيب رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم ير قريةً يريد دخولها إلاّ قال حين يراها اللّهمّ ربّ السّموات السّبع وما أظللن وربّ الأرضين السّبع وما أقللن وربّ الشّياطين وما أضللن ، وربّ الرّياح وما أذرين فإنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها » .
ح - يستحبّ للمسافر أن يدعو في سفره في كثير من الأوقات لأنّ دعوته مجابة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « ثلاث دعوات مستجابات دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده » .
ط - السّنّة للمسافر إذا قضى حاجته أن يعجّل الرّجوع إلى أهله لحديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال « السّفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجّل إلى أهله »
ويكره أن يطرق أهله طروقاً بغير عذر وهو أن يقدم عليهم في اللّيل .
بل السّنّة أن يقدم أوّل النّهار وإلاّ ففي آخره لحديث أنس قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله وكان لا يدخل إلاّ غدوةً أو عشيّةً » .
وقد أوصل النّوويّ آداب السّفر إلى اثنين وستّين أدبًا فصّلها في كتابه المجموع .(/6)
سَلاَم *
التّعريف :
1 - السَّلام - بفتح السّين - اسم مصدر سلّم أي : ألقى السّلام ، ومن معاني السّلام السّلامة والأمن والتّحيّة ، ولذلك قيل للجنّة : دار السّلام لأنّها دار السّلامة من الآفات كالهرم والأسقام والموت . قال تعالى : { لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ } .
والسّلام اسم من أسماء اللّه تعالى .
2 - والسّلام يطلق عند الفقهاء على أمور : منها : التّحيّة الّتي يحيّي بها المسلمون بعضهم بعضاً ، والّتي أمر اللّه سبحانه وتعالى بها في كتابه حيث قال : { وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وقوله تعالى { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ذلك أنّ للعرب وغيرهم تحيّات خاصّةً بهم ، فلمّا جاء الإسلام دعا المؤمنين إلى التّحيّة الخاصّة ، وهي قول : " السّلام عليكم " ، وقصرهم عليه ، وأمرهم بإفشائه .
والسّلام أيضاً تحيّة أهل الجنّة . قال سبحانه : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ، سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } .
وقد اختير هذا اللّفظ دون غيره ، لأنّ معناه الدّعاء بالسّلامة من الآفات في الدّين والنّفس ، ولأنّ في تحيّة المسلمين بعضهم لبعض بهذا اللّفظ عهداً بينهم على صيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّحيّة :
3 - التّحيّة في اللّغة مصدر حيّاه يحيّيه تحيّةً ، وأصله في اللّغة : الدّعاء بالحياة ، ومنه " التّحيّات للّه " . أي : البقاء وقيل : الملك ، ثمّ كثر حتّى استعمل في ما يحيّا به من سلام ونحوه .
فهي أعمّ من السّلام فتشمل السّلام والتّقبيل والمصافحة والمعانقة ونحو ذلك على ما سيأتي.
ب - التّقبيل :
4 - التّقبيل في اللّغة مصدر قبّل ، والاسم منه القُبلة ، والجمع القُبَل .
والتّقبيل صورة من صور التّحيّة .
ج - المصافحة :
5 - المصافحة كما في المصباح : الإفضاء باليد إلى اليد ، وذكر ابن عابدين أنّ المصافحة إلصاق صفحة الكفّ بالكفّ ، وإقبال الوجه بالوجه . فأخذ الأصابع ليس بمصافحة ، خلافاً للرّوافض .
والسّنّة أن تكون بكلتا يديه بغير حائل ، من ثوب أو غيره وعند اللّقاء وبعد السّلام ، وأن يأخذ الإبهام ، فإنّ فيه عرقاً ينبت المحبّة ، وقد تحرم كمصافحة الأمرد .
وقد تكره كمصافحة ذي عاهة ، من برص وجذام .
وتسنّ في غير ذلك مع اتّحاد الجنس خصوصاً لنحو قدوم سفر .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( مصافحة ) .
د - المعانقة :
6 - المعانقة في اللّغة : الضّمّ والالتزام واعتنقت الأمر أخذته بجدّ .
وذكر صاحب الفواكه الدّواني أنّ المعانقة هي جعل الرّجل عنقه على عنق صاحبه .
وقد كرهها مالك كراهة تنزيه لأنّها من فعل الأعاجم .
قال القرافيّ في الذّخيرة : كره مالك المعانقة ، لأنّه لم يرد عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنّه فعلها إلاّ مع جعفر بن أبي طالب لمّا رجع من الحبشة ، ولم يصحبها العمل من الصّحابة بعده .
وأمّا غير المالكيّة من الفقهاء ، كالحنابلة فقالوا بجوازها ، ففي الآداب الشّرعيّة لابن مفلح إباحة المعانقة . ومثلها تقبيل اليد والرّأس تديّناً وإكراماً واحتراماً مع أمن الشّهوة .
لحديث « أبي ذرّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عانقه » .
قال إسحاق بن إبراهيم سألت أبا عبد اللّه عن الرّجل يلقى الرّجل يعانقه قال : نعم فعله أبو الدّرداء .
ومعانقة الأجنبيّة والأمرد حرام ، كما ذكر الشّافعيّة ومعانقة الرّجل زوجته مكروهة في الصّوم ، وكذا معانقة ذوي العاهات من برص وجذام أي : مكروهة .
وأمّا المعانقة فيما سوى ذلك ، كمعانقة الرّجل للرّجل فهي سنّة حسنة خاصّةً عند القدوم من السّفر . وتفصيل ذلك محلّه مصطلح ( معانقة ) .
صيغة السّلام وصيغة الرّدّ :
7 - صيغة السّلام وصفته الكاملة أن يقول المسلم : " السّلام عليكم " بالتّعريف وبالجمع . سواء كان المسلَّمُ عليه واحداً أو جماعةً ، لأنّ الواحد معه الحفظة كالجمع من الآدميّين وهذه الصّيغة هي المرويّة عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعن السّلف الصّالح .
ويجوز أن يقول : سلام عليكم بالتّنكير ، إلاّ أنّ التّعريف أفضل ، لأنّه تحيّة أهل الدّنيا فأمّا " سلام " بالتّنكير فتحيّة أهل الجنّة . كما في قوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } .
8- والأكمل أن يقول : السّلام عليكم ، بتأخير الجارّ والمجرور ، فلو قال : عليكم السّلام ، أو عليك السّلام ، كان مخالفًا للأكمل ، لما روي عن « جابر بن سليم قال : لقيت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت : عليك السّلام يا رسول اللّه فقال لا تقل عليك السّلام ، فإنّ عليك السّلام تحيّة الميّت ولكن قل : السّلام عليك »
قال القرطبيّ : لمّا جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعوّ عليه في الشّرّ كقولهم " عليه لعنة اللّه ، وغضب اللّه " نهاه عن ذلك ، لا أنّ ذاك هو اللّفظ المشروع في حقّ الموتى ، لأنّه عليه السلام ثبت عنه « أنّه سلّم على الموتى ، كما سلّم على الأحياء فقال : السّلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون » .
وهذا ليس على سبيل التّحريم ، بل هو خلاف الأكمل أو مكروه كما قال الغزاليّ . وعلى كلّ حال فيجب ردّ السّلام .(/1)
ثمّ إنّ أكثر ما ينتهي إليه السّلام إلى البركة فتقول : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، وهو الّذي عليه العمل ، لما روي عن عروة بن الزّبير أنّ رجلاً سلّم عليه فقال : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فقال عروة : ما ترك لنا فضلاً ، إنّ السّلام قد انتهى إلى وبركاته . وذلك كما في روح المعاني ، لانتظام تلك التّحيّة لجميع فنون المطالب الّتي هي السّلامة عن المضارّ ، ونيل المنافع ودوامها ونماؤها .
وقيل : يزيد المحيّي إذا جمع المحيّي الثّلاثة له وهي السّلام والرّحمة والبركة ، لما روي عن سالم مولى عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهم جميعاً قال : كان ابن عمر إذا سلّم عليه فردّ زاد فأتيته فقلت : السّلام عليكم فقال السّلام عليكم ورحمة اللّه تعالى ، ثمّ أتيته مرّةً أخرى فقلت : السّلام عليكم ورحمة اللّه تعالى وبركاته فقال : السّلام عليكم ورحمة اللّه تعالى وبركاته وطيّب صلواته . ولا يتعيّن ما ذكر للزّيادة لما روي عن معاذ زيادة ومغفرته .
صيغة ردّ السّلام :
9 - صيغة الرّدّ أن يقول المسلَّم عليه " وعليكم السّلام " بتقديم الخبر وبالواو ، ويصحّ أن يقول : سلام عليكم . بتنكير السّلام تقديمه ، وبدون واو ، لكن الأفضل بالواو لصيرورة الكلام بها جملتين ، فيكون التّقدير : عليّ السّلام وعليكم ، فيصير الرّادّ مسلّماً على نفسه مرّتين : الأولى من المبتدئ والثّانية من نفس الرّادّ ، بخلاف ما إذا ترك الواو ، فإنّ الكلام حينئذ يصير جملةً واحدةً تخصّ المسلّم وحده .
والأصل في صيغة الرّدّ أن تنتهي إلى البركة فتقول : وعليكم السّلام ورحمة اللّه وبركاته ، وإذا قال المسلِّم : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فإنّ الزّيادة تكون واجبةً ، فلو اقتصر المسلِّم على لفظ : السّلام عليكم كانت الزّيادة مستحبّةً لقوله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } .
السّلام أو ردّه بالإشارة :
10 - يكره السّلام أو ردّه بالإشارة بالرّدّ باليد أو بالرّأس بغير نطق بالسّلام مع القدرة وقرب المسلّم عليه ، لأنّ ذلك من عمل أهل الكتاب : اليهود والنّصارى لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « ليس منّا من تشبّه بغيرنا ، لا تشبّهوا باليهود ولا بالنّصارى ، فإنّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع ، وتسليم النّصارى الإشارة بالأكفّ » .
فإن كانت الإشارة مقرونةً بالنّطق ، بحيث وقع التّسليم أو الرّدّ باللّسان مع الإشارة ، أو كان المسلّم عليه بعيداً عن المسلّم ، بحيث لا يسمع صوته فيشير إليه بالسّلام بيده أو رأسه ليعلمه أنّه يسلّم فلا كراهة .
وتكفي الإشارة في السّلام على أصمّ أو أخرس أو الرّدّ على سلامه ، خلافاً لما ذكره النّوويّ في الأذكار عن المتولّي حيث قال : إذا سلّم على أصمّ لا يسمع ، فينبغي أن يتلفّظ بلفظ السّلام لقدرته عليه ، ويشير باليد حتّى يحصل الإفهام ويستحقّ الجواب ، فلو لم يجمع بينهما لا يستحقّ الجواب قال : وكذا لو سلّم عليه أصمّ وأراد الرّدّ فيتلفّظ باللّسان ويشير بالجواب ليحصل به الإفهام ويسقط عنه فرض الجواب . قال : ولو سلّم على أخرس فأشار الأخرس باليد سقط عنه الفرض ، لأنّ إشارته قائمة مقام العبارة . وكذا لو سلّم عليه أخرس بالإشارة يستحقّ الجواب مع العبارة .
السّلام بوساطة الرّسول أو الكتاب :
11 - السّلام بواسطة الرّسول أو الكتاب كالسّلام مشافهةً ، فقد ذكر النّوويّ في كتابه الأذكار عن أبي سعد المتولّي وغيره : فيما إذا نادى إنسان إنساناً من خلف ستر أو حائط فقال : السّلام عليك يا فلان ، أو كتب كتاباً فيه : السّلام عليك يا فلان : أو السّلام على فلان، أو أرسل رسولاً وقال : سلّم على فلان ، فبلغه الكتاب أو الرّسول وجب عليه أن يردّ السّلام . صرّح بذلك الشّافعيّة والحنابلة قال النّوويّ : قال أصحابنا : وهذا الرّدّ واجب على الفور ، وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب وجب عليه أن يردّ السّلام باللّفظ على الفور إذا قرأه . وقد ورد في الصّحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : قال لي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم : « هذا جبريل يقرأ عليك السّلام قالت : قلت : وعليه السّلام ورحمة اللّه » .
ويستحبّ أن يردّ على المبلّغ أيضاً بأن يقول : وعليك وعليه السّلام .
السّلام وردّه بغير العربيّة :
12 - السّلام وردّه بالعجميّة كالسّلام وردّه بالعربيّة ، لأنّ الغرض من السّلام التّأمين والدّعاء بالسّلامة والتّحيّة ، فيحصل ذلك بغير العربيّة ، كما يحصل بها .
وهذا في السّلام خارج الصّلاة ، إذ السّلام في الصّلاة لا يجزئ بغير العربيّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وعند المالكيّة على قول . ولا يكفيه الخروج منها بالنّيّة .
فإن أتى بالسّلام بالعجميّة فإنّ الصّلاة تبطل على قول عند المالكيّة ، واستظهر بعض أشياخهم الصّحّة ، قياساً على الدّعاء بالعجميّة للقادر على العربيّة .
هذا وجميع أذكار الصّلاة تصحّ بالعجميّة عند أبي حنيفة مطلقاً خلافاً للصّاحبين ، وتفصيل ذلك يذكر في ( صلاة ) .
حكم البدء بالسّلام وحكم الرّدّ :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ السّلام سنّة مستحبّة ، وليس بواجب .
وهو سنّة على الكفاية إن كان المسلمون جماعةً بحيث يكفي سلام واحد منهم ، ولو سلّموا كلّهم كان أفضل .(/2)
وذهب الحنفيّة - وهو رواية عن أحمد وقول مقابل للمشهور عند المالكيّة - إلى أنّ الابتداء بالسّلام واجب . لحديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « حقّ المسلم على المسلم ستّ قيل : ما هنّ يا رسول اللّه ؟ قال : إذا لقيته فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد اللّه فشمّته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه » .
14 - وأمّا ردّ السّلام فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعيّن عليه الرّدّ ، وإن كانوا جماعةً كان ردّ السّلام فرض كفاية عليهم ، فإن ردّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين ، وإن تركوه كلّهم أثموا كلّهم ، وإن ردّوا كلّهم فهو النّهاية في الكمال والفضيلة ، فلو ردّ غيرهم لم يسقط الرّدّ عنهم ، بل يجب عليهم أن يردّوا ، فإن اقتصروا على ردّ ذلك الأجنبيّ أثموا .
هذا والأمر بالسّلام على هذا النّحو ثابت بالكتاب والسّنّة وبفعل الصّحابة فمن الكتاب قوله تعالى : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وقوله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } .
ومن السّنّة ما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما « أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم - أيّ الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطّعام وتقرأ السّلام على من عرفت وعلى من لم تعرف » .
وما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « خلق اللّه آدم على صورته ، طوله ستّون ذراعاً ، فلمّا خلقه قال : اذهب فسلّم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيّونك ، فإنّها تحيّتك وتحيّة ذرّيّتك ، فقال السّلام عليكم ، فقالوا السّلام عليك ورحمة اللّه ، فزادوه ورحمة اللّه » .
وما روي عن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : « أمرنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بسبع : بعيادة المريض ، واتّباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، ونصر الضّعيف ، وعون المظلوم ، وإفشاء السّلام وإبرار المقسم » .
وما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم » .
ومن فعل الصّحابة ما روي عن الطّفيل بن أبيّ بن كعب أنّه كان يأتي عبد اللّه بن عمر ، فيغدو معه إلى السّوق قال : فإذا غدونا إلى السّوق لم يمرّ عبد اللّه على سقاط ، ولا صاحب بيعة ، ولا مسكين ولا أحد إلاّ سلّم عليه ، قال الطّفيل : فجئت عبد اللّه بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السّوق ، فقلت له : ما تصنع بالسّوق وأنت لا تقف على البيع ، ولا تسأل عن السّلع ، ولا تسوم بها ، ولا تجلس في مجالس السّوق ، وأقول اجلس بنا هاهنا نتحدّث فقال يا أبطن - وكان الطّفيل ذا بطن - إنّما نغدو من أجل السّلام نسلّم على من لقيناه .
وما تقدّم من حكم السّلام والرّدّ خاصّ بالمسلّم الّذي لم ينشغل بالأذان أو الصّلاة أو قراءة القرآن ، أو بتلبية حجّ أو عمرة ، أو بالأكل أو بالشّرب ، أو قضاء حاجة وغيرها ، إذ السّلام على المنشغل بما ذكر ليس كالسّلام على غيره ، وبيان ذلك في ما يلي :
أ - السّلام على من يؤذّن أو يقيم :
15 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ حكم ردّ السّلام من المؤذّن الكراهة ، لأنّ الفصل بين جمل الأذان عندهم مكروهة ، ولو كان ذلك الفصل بإشارة عند المالكيّة ، خلافاً للشّافعيّة ، فله الرّدّ بالإشارة ، ويكره السّلام أيضاً عندهم على الملبّي بحجّ أو عمرة لنفس العلّة .
ويكره عند الشّافعيّة السّلام على المؤذّن والمقيم لانشغالهم بالأذان والإقامة .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يسنّ السّلام على من يؤذّن أو يقيم ، ولا يجب عليه الرّدّ ، بل يجوز بالكلام ولا يبطل الأذان أو الإقامة .
ب - السّلام على المصلّي وردّه السّلام :
16 - السّلام على المصلّي سنّة عند المالكيّة جائز عند الحنابلة ، فقد سئل أحمد عن الرّجل يدخل على القوم وهم يصلّون أيسلّم عليهم ؟ قال : نعم .
وأمّا ردّ السّلام من المصلّي فقد ذكر الحنفيّة - كما في الهداية - أن لا يردّ السّلام بلسانه ، لأنّه كلام ، ولا بيده ، لأنّه سلام معنىً ، حتّى لو صافح بنيّة التّسليم تفسد صلاته .
وذكر صاحب فتح القدير أنّ ردّ المصلّي السّلام بالإشارة مكروه وبالمصافحة مفسد .
ثمّ إنّ المصلّي لا يلزمه ردّ السّلام لفظاً بعد الفراغ من الصّلاة ، بل يردّ في نفسه في رواية عن أبي حنيفة . في رواية أخرى عنه أنّه يردّ بعد الفراغ ، إلاّ أنّ أبا جعفر قال : تأويله إذا لم يعلم أنّه في الصّلاة .
وعند محمّد يردّ بعد الفراغ ، وعن أبي يوسف لا يردّ ، لا قبل الفراغ ولا بعده في نفسه . وذكر المالكيّة أنّ المصلّي لا يردّ السّلام باللّفظ ، فإن ردّ عمداً أو جهلاً بطل .
وردّه باللّفظ سهواً يقتضي سجود السّهو ، بل يجب عليه أن يردّ السّلام بالإشارة ، خلافاً للشّافعيّة القائلين بعدم وجوب الرّدّ عليه .
وذهب الحنابلة إلى أنّ ردّ المصلّي السّلام بالكلام عمداً يبطل الصّلاة .
وردّ المصلّي السّلام بالإشارة مشروع عند الحنابلة .
وأمّا ابتداء المصلّي السّلام على غيره وهو في الصّلاة بالإشارة بيد أو رأس فيجوز عند المالكيّة فقط ، ولا يلزمه السّجود لذلك .
ج - السّلام على المنشغل بالقراءة والذّكر والتّلبية والأكل ، وعلى قاضي الحاجة وعلى من في الحمّام ونحو ذلك :(/3)
17 - الأولى ترك السّلام على المنشغل بقراءة القرآن ، فإن سلّم كفاه الرّدّ بالإشارة ، وإن ردّ باللّفظ استأنف الاستعاذة ثمّ يقرأ ،واختار النّوويّ أنّه يسلّم عليه ، ويجب عليه الرّدّ لفظاً. وأمّا السّلام على المنشغل بالذّكر من دعاء وتدبّر فهو كالسّلام على المنشغل بالقراءة والأظهر كما ذكر النّوويّ أنّه إن كان مستغرقاً بالدّعاء مجمع القلب عليه فالسّلام عليه مكروه ، للمشقّة الّتي تلحقه من الرّدّ ، والّتي تقطعه عن الاستغراق بالدّعاء ، وهي أكثر من المشقّة الّتي تلحق الآكل إذا سلّم عليه وردّ في حال أكله .
وأمّا الملبّي في الإحرام فيكره السّلام عليه ولو سلّم ردّ عليه باللّفظ .
وأمّا السّلام في حال خطبة الجمعة فيكره الابتداء به لأنّهم مأمورون بالإنصات للخطبة ، فإن سلّم لم يردّوا عليه لتقصيره ، وقيل : إن كان الإنصات واجباً لم يردّ عليه ، وإن كان سنّةً ردّ عليه ، ولا يردّ عليه أكثر من واحد على كلّ وجه .
ولا يسلّم على من كان منشغلاً بالأكل واللّقمة في فمه ، فإن سلّم لم يستحقّ الجواب ، أمّا إذا سلّم عليه بعد البلع أو قبل وضع اللّقمة في فمه فلا يتوجّه المنع ويجب الجواب ، ويسلّم في حال البيع وسائر المعاملات ويجب الجواب .
وأمّا السّلام على قاضي الحاجة ونحوه كالمجامع وعلى من في الحمّام والنّائم والغائب خلف جدار فحكمه الكراهة .
ومن سلّم عليهم لم يستحقّ الجواب لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ رجلاً مرّ ، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم - يبول ، فسلّم فلم يردّ عليه » .
وما روي عن جابر - رضي الله عنه - « أنّ رجلاً مرّ ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم - يبول ، فسلّم عليه فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتني على مثل هذه الحال فلا تسلّم عليّ . فإنّك إن فعلت ذلك لم أردّ عليك » .
وأمّا حكم الرّدّ منهم فهو الكراهة من قاضي الحاجة والمجامع ، وأمّا من في الحمّام فيستحبّ له الرّدّ ، كما ذكر النّوويّ في الرّوضة .
أحكام أخرى للسّلام :
السّلام على الصّبيّ :
18 - السّلام على الصّبيّ أفضل من تركه عند الحنفيّة ، وذهب المالكيّة إلى أنّه مشروع وذكر النّوويّ في الرّوضة أنّه سنّة ، وذكر ابن مفلح في الآداب الشّرعيّة أنّه جائز لتأديبهم ، وهو معنى كلام ابن عقيل ، وذكر القاضي في المجرّد وصاحب عيون المسائل والشّيخ عبد القادر أنّه يستحبّ . لما ورد عن « أنس رضي الله عنه أنّه مرّ على صبيان ، فسلّم عليهم ، وقال : كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يفعله » .
وأمّا جواب السّلام من الصّبيّ فغير واجب ، لعدم تكليفه ، كما ذكر المالكيّة والشّافعيّة ، ويسقط ردّ السّلام بردّه عن الباقين إن كان عاقلاً عند الحنفيّة ، لأنّه من أهل الفرض في الجملة ، بدليل حلّ ذبيحته مع أنّ التّسمية فيها فرض عندهم .
وقد ذهب إلى ذلك أيضاً الأجهوريّ من المالكيّة والشّاشيّ من الشّافعيّة ، قياساً على أذانه للرّجال .
والأصحّ عند الشّافعيّة عدم سقوط فرض ردّ السّلام عن الجماعة بردّ الصّبيّ ، وبه قطع القاضي والمتولّي من الشّافعيّة ، وقد توقّف في الاكتفاء بردّ الصّبيّ عن الجماعة صاحب الفواكه الدّواني من المالكيّة ، حيث قال : ولنا فيه وقفة ، لأنّ الرّدّ فرض على البالغين ، وردّ الصّبيّ غير فرض عليه فكيف يكفي عن الفرض الواجب على المكلّفين ؟ فلعلّ الأظهر عدم الاكتفاء بردّه عن البالغين .
ثمّ ذكر الشّافعيّة وجهين في ردّ السّلام من البالغ على سلام الصّبيّ ، بناءً على صحّة إسلامه أي : الصّبيّ ، وصحّح النّوويّ وجوب الرّدّ .
السّلام على النّساء :
19 - سلام المرأة على المرأة يسنّ كسلام الرّجل على الرّجل ، وردّ السّلام من المرأة على مثلها كالرّدّ من الرّجل على سلام الرّجل .
وأمّا سلام الرّجل على المرأة ، فإن كانت تلك المرأة زوجةً أو أمةً أو من المحارم فسلامه عليها سنّة ، وردّ السّلام منها عليه واجب ،بل يسنّ أن يسلّم الرّجل على أهل بيته ومحارمه، وإن كانت تلك المرأة أجنبيّةً فإن كانت عجوزاً أو امرأةً لا تشتهى فالسّلام عليها سنّة ، وردّ السّلام منها على من سلّم عليها لفظًا واجب .
وأمّا إن كانت تلك المرأة شابّةً يخشى الافتتان بها ، أو يخشى افتتانها هي أيضاً بمن سلّم عليها فالسّلام عليها وجواب السّلام منها حكمه الكراهة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وذكر الحنفيّة أنّ الرّجل يردّ على سلام المرأة في نفسه إن سلّمت هي عليه ، وتردّ هي أيضاً في نفسها إن سلّم هو عليها ، وصرّح الشّافعيّة بحرمة ردّها عليه .
وأمّا سلام الرّجل على جماعة النّساء فجائز ، وكذا سلام الرّجال على المرأة الواحدة عند أمن الفتنة .
وممّا يدلّ على جواز سلام الرّجل على جماعة النّساء ما روي عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : « مرّ علينا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في نسوة فسلّم علينا » .
وممّا يدلّ على جواز السّلام على المرأة العجوز ما أخرجه البخاريّ عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : « كانت لنا عجوز ترسل إليّ بضاعة نخل بالمدينة فتأخذ من أصول السّلق فتطرحه في قدر ، وتكركر حبّات من شعير ، فإذا صلّينا الجمعة انصرفنا ونسلّم عليها فتقدّمه إلينا » ، ومعنى تكركر أي : تطحن .
السّلام على الفسّاق وأرباب المعاصي :(/4)
20 - ذكر ابن عابدين أنّ السّلام على الفاسق المجاهر بفسقه مكروه وإلاّ فلا ، ومثل الفاسق في هذا لاعب القمار وشارب الخمر مطيّر الحمام والمغنّي والمغتاب حال تلبّسهم بذلك، نقل عن فصول العلّاميّ أنّه لا يسلّم ، ويسلّم على قوم في معصية وعلى من يلعب بالشّطرنج ناوياً أن يشغلهم عمّا هم فيه عند أبي حنيفة ، وكره عندهما تحقيراً لهما .
وذكر المالكيّة أنّ ابتداء السّلام على أهل الأهواء مكروه ، كابتدائه على اليهود والنّصارى . وذكر النّوويّ في الرّوضة وجهين في استحباب السّلام على الفسّاق وفي وجوب الرّدّ على المجنون والسّكران إذا سلّما .
وذكر في الأذكار أنّ المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه ينبغي أن لا يسلّم عليهم ولا يردّ عليهم السّلام . محتجّاً بما رواه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما من قصّة « كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلّف عن غزوة تبوك هو ورفيقان له فقال : ونهى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا . قال : وكنت آتي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فأسلّم عليه فأقول : هل حرّك شفتيه بردّ السّلام أم لا ؟ » . وبما رواه البخاريّ أيضاً في الأدب المفرد عن عبد اللّه بن عمرو قال : " لا تسلّموا على شرّاب الخمر " .
قال النّوويّ : فإن اضطرّ إلى السّلام على الظّلمة ، بأن دخل عليهم وخاف ترتّب مفسدة في دينه أو دنياه أو غيرهما إن لم يسلّم سلّم عليهم ، وذكر عن أبي بكر بن العربيّ أنّه يسلّم وينوي أنّ السّلام اسم من أسماء اللّه تعالى ، فيكون المعنى اللّه عليكم رقيب .
وذكر ابن مفلح في الآداب الشّرعيّة أنّه : يكره لكلّ مسلم مكلّف أن يسلّم على من يلعب النّرد أو الشّطرنج ، وكذا مجالسته لإظهاره المعصية ، وقال أحمد فيمن يلعب بالشّطرنج ما هو أهل أن يسلّم عليه ، كما لا يسلّم على المتلبّسين بالمعاصي ، ويردّ عليهم إن سلّموا إلاّ أن يغلب على ظنّه انزجارهم بترك الرّدّ .
قال أبو داود : قلت لأحمد : أمرّ بالقوم يتقاذفون أسلّم عليهم ؟ قال هؤلاء قوم سفهاء ، والسّلام اسم من أسماء اللّه تعالى ، قلت لأحمد أسلّم على المخنّث ؟ قال لا أدري السّلام اسم من أسماء اللّه عزّ جلّ .
وأمّا ردّ السّلام على الفاسق أو المبتدع فلا يجب زجراً لهما كما في روح المعاني .
السّلام على أهل الذّمّة وغيرهم من الكفّار :
21 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ السّلام على أهل الذّمّة مكروه لما فيه من تعظيمهم ، ولا بأس أن يسلّم على الذّمّيّ إن كانت له عنده حاجة ، لأنّ السّلام حينئذ لأجل الحاجة لا لتعظيمه ، ويجوز أن يقول : السّلام على من اتّبع الهدى .
وذهب المالكيّة أيضاً إلى أنّ ابتداء اليهود والنّصارى وسائر فرق الضّلال بالسّلام مكروه ، لأنّ السّلام تحيّة والكافر ليس من أهلها .
ويحرم عند الشّافعيّة بداءة الذّمّيّ بالسّلام ، وله أن يحيّيه بغير السّلام بأن يقول : هداك اللّه أو أنعم اللّه صباحك إن كانت له عنده حاجة ، وإلاّ فلا يبتدئه بشيء من الإكرام أصلاً ، لأنّ ذلك بسط له وإيناس وإظهار ودّ . وقد قال اللّه تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
وقال النّوويّ في الأذكار : اختلف أصحابنا في أهل الذّمّة ، فقطع الأكثرون بأنّه لا يجوز ابتداؤهم بالسّلام ، وقال آخرون ليس هو بحرام بل هو مكروه .
وحكى الماورديّ وجهاً لبعض أصحابنا ، أنّه يجوز ابتداؤه بالسّلام ، ولكن يقتصر المسلّم على قوله : السّلام عليك ولا يذكره بلفظ الجمع ، إلاّ أنّ النّوويّ وصف هذا الوجه بأنّه شاذّ . وبداءة أهل الذّمّة بالسّلام لا تجوز أيضاً عند الحنابلة ، كما لا يجوز أن نحيّيهم بتحيّة أخرى غير السّلام . قال أبو داود : قلت لأبي عبد اللّه : تكره أن يقول الرّجل للذّمّيّ كيف أصبحت ؟ أو كيف حالك ؟ أو كيف أنت ؟ أو نحو هذا ؟ قال : نعم هذا عندي أكثر من السّلام .
وذكر الحنفيّة أنّه لو قال للذّمّيّ : أطال اللّه بقاءك جاز إن نوى أنّه يطيله ليسلم أو ليؤدّي الجزية لأنّه دعاء بالإسلام وإلاّ فلا يجوز .
ودليل كراهة البداءة بالسّلام قول رسول - صلى الله عليه وسلم - « لا تبدءوا اليهود ولا النّصارى بالسّلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطرّوه إلى أضيقه » .
والاستقالة أن يقول له : ردّ سلامي الّذي سلّمته عليك ، لأنّي لو علمت أنّك كافر ما سلّمت عليك .
ويستحبّ له عند الشّافعيّة والحنابلة إن سلّم على من يظنّه مسلماً فبان ذمّيّاً أن يستقيله بأن يقول له : ردّ سلامي الّذي سلّمته عليك ، لما روي عن ابن عمر " أنّه مرّ على رجل فسلّم عليه فقيل : إنّه كافر فقال : ردّ عليّ ما سلّمت عليك فردّ عليه ، فقال أكثر اللّه مالك وولدك، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : أكثر للجزية " . وقال المالكيّة : لا يستقيله .
وإذا كتب إلى الذّمّيّ كتاباً اقتصر على قوله فيه : السّلام على من اتّبع الهدى ، اقتداءً برسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في اقتصاره على ذلك حين كتب إلى هرقل ملك الرّوم. وإذا مرّ واحد على جماعة فيهم مسلمون ولو واحداً وكفّار فالسّنّة أن يسلّم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم . لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما . « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلّم عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم » .
ردّ السّلام على أهل الذّمّة :(/5)
22 - وأمّا ردّ السّلام على أهل الذّمّة فلا بأس به عند الحنفيّة ، وهو جائز أيضاً عند المالكيّة ولا يجب إلاّ إذا تحقّق المسلم من لفظ السّلام من الذّمّيّ ، وهو واجب عند الشّافعيّة والحنابلة .
ويقتصر في الرّدّ على قوله : وعليكم ، بالواو والجمع ، أو وعليك بالواو دون الجمع عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لكثرة الأخبار في ذلك .
فمنها ما روي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليكم » .
ومنها ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا سلّم عليكم اليهود فإنّما يقول أحدهم : السّام عليكم فقل وعليك » .
وعند المالكيّة يقول في الرّدّ : عليك ، بغير واو بالإفراد أو الجمع . لما ورد عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « إنّ اليهود إذا سلّموا عليكم يقول أحدهم السّام عليكم فقل عليك » وفي رواية أخرى له قال : « عليكم » . بالجمع وبغير واو .
ونقل النّفراويّ عن الأجهوريّ قوله : إن تحقّق المسلم أنّ الذّمّيّ نطق بالسّلام بفتح السّين ، فالظّاهر أنّه يجب الرّدّ عليه ، لاحتمال أن يقصد به الدّعاء .
من يبدأ بالسّلام :
23 - يسلّم الرّاكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير ، والصّغير على الكبير . لما ورد في الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « يسلّم الرّاكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير » وفي رواية للبخاريّ زيادة « الصّغير على الكبير » وهذا المذكور هو السّنّة ، فلو خالفوا فسلّم الماشي على الرّاكب ، أو الجالس عليهما لم يكره ، وعلى مقتضى هذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسّلام على القليل ، والكبير على الصّغير ، ويكون هذا تركاً لما يستحقّه من سلام غيره عليه ، وهذا فيما إذا تلاقى الاثنان في طريق ، أمّا إذا ورد على قعود أو قاعد ، فإنّ الوارد يبدأ بالسّلام على كلّ حال ، سواء كان صغيراً أو كان كبيراً ، قليلاً أو كثيراً .
وإذا لقي رجل جماعةً فأراد أن يخصّ طائفةً منهم بالسّلام كره ، لأنّ القصد من السّلام المؤانسة والألفة ، وفي تخصيص البعض إيحاش للباقين ، وربّما صار سبباً للعداوة ، وإذا مشى في السّوق أو الشّوارع المطروقة كثيراً ونحو ذلك ممّا يكثر فيه المتلاقون ، فقد ذكر الماورديّ أنّ السّلام هنا إنّما يكون لبعض النّاس دون بعض . قال : لأنّه لو سلّم على كلّ من لقي لتشاغل به عن كلّ منهم ، ولخرج به عن العرف .
استحباب السّلام عند دخول بيت أو مسجد وإن لم يكن فيه أحد :
24 - يستحبّ إذا دخل بيته أن يسلّم وإن لم يكن فيه أحد وليقل : السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين . وكذا إذا دخل مسجداً ، أو بيتاً لغيره فيه أحد يستحبّ أن يسلّم وأن يقول : السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، السّلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته .
السّلام عند مفارقة المجلس :
25 - إذا كان جالسًا مع قوم ثمّ قام ليفارقهم ، فالسّنّة أن يسلّم عليهم ، لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلّم ، فإن بدا له أن يجلس فليجلس ، ثمّ إذا قام فليسلّم ، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة » .
إلقاء السّلام على من يظنّ أنّه لا يردّ السّلام :
26 - قال النّوويّ : إذا مرّ على واحد أو أكثر وغلب على ظنّه أنّه إذا سلّم لا يردّ عليه إمّا لتكبّر الممرور عليه ، وإمّا لإهماله المارّ أو السّلام ، وإمّا لغير ذلك فينبغي أن يسلّم ولا يتركه لهذا الظّنّ ، فإنّ السّلام مأمور به ، والّذي أمر به المارّ أن يسلّم ولم يؤمر بأن يحصّل الرّدّ ، مع أنّ الممرور عليه قد يخطئ الظّنّ فيه ويردّ .
ثمّ قال النّوويّ : ويستحبّ لمن سلّم على إنسان وأسمعه سلامه وتوجّه عليه الرّدّ بشروطه فلم يردّ ، أن يحلّله من ذلك فيقول : أبرأته من حقّي في ردّ السّلام أو جعلته في حلّ منه ونحو ذلك ، ويلفظ بهذا ، فإنّه يسقط به حقّ هذا الآدميّ .
ويستحبّ لمن سلّم على إنسان فلم يردّ عليه أن يقول له بعبارة لطيفة : ردّ السّلام واجب ، فينبغي لك أن تردّ عليّ ليسقط عنك فرض الرّدّ .
السّلام عند زيارة الموتى :
أ - السّلام عند زيارة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه :
27 - يندب لكلّ حاجّ زيارة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فإنّ زيارته - صلى الله عليه وسلم - من أعظم القربات ، وأهمّها وأربح المساعي وأفضل الطّلبات ، وانظر بحث ( زيارة ) .
وإذا أتى الزّائر المسجد صلّى تحيّة المسجد ثمّ أتى القبر الكريم ، فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من جدار القبر وسلّم ، ويستحبّ أن يقول : " السّلام عليك يا رسول اللّه ، السّلام عليك يا خيرة اللّه من خلقه ، السّلام عليك يا حبيب اللّه ، السّلام عليكم يا سيّد المرسلين ، وخاتم النّبيّين ، السّلام عليك وعلى آلك وأصحابك وأهل بيتك وعلى النّبيّين وسائر الصّالحين ، أشهد أنّك بلّغت الرّسالة وأدّيت الأمانة ، ونصحت الأمّة ، فجزاك اللّه عنّا أفضل ما جزى رسولاً عن أمّته " ولا يرفع صوته بذلك .
وإن كان قد أوصاه أحد بالسّلام على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : " السّلام عليك يا رسول اللّه من فلان بن فلان " .(/6)
ثمّ يتأخّر قدر ذراع إلى جهة يمينه فيسلّم على أبي بكر رضي الله عنه ويقول : " السّلام عليك يا خليفة رسول اللّه ، السّلام عليك يا صدّيق رسول اللّه ، أشهد أنّك جاهدت في اللّه حقّ جهاده ، جزاك اللّه عن أمّة محمّد خيراً رضي اللّه عنك وأرضاك وجعل الجنّة متقلّبك ومثواك ، ورضي اللّه عن كلّ الصّحابة أجمعين " .
ثمّ يتأخّر ذراعاً للسّلام على عمر رضي الله عنه ويقول : " السّلام عليك يا صاحب رسول اللّه ، السّلام عليك يا أمير المؤمنين عمر الفاروق ، أشهد أنّك جاهدت في اللّه حقّ جهاده ، جزاك اللّه عن أمّة محمّد خيراً ، رضي اللّه عنك وأرضاك وجعل الجنّة متقلّبك ومثواك ، ورضي اللّه عن كلّ الصّحابة أجمعين " ثمّ يرجع إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم .
السّلام عند زيارة القبور :
28 - قال القرطبيّ : زيارة القبور من أعظم الدّواء للقلب القاسي ، لأنّها تذكّر الموت والآخرة . وذلك يحمل على قِصَر الأمل والزّهد في الدّنيا ، ترك الرّغبة فيها .
وتذكر كتب السّنّة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - كان يزور القبور ويسلّم على ساكنيها ، ويعلّم أصحابه ذلك .
فعن بريدة - رضي الله عنه - قال : « كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر ، فكان قائلهم يقول : السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم للاحقون ، وأسأل اللّه لنا ولكم العافية » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كلّما كان ليلتها من رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر اللّيل إلى البقيع فيقول : السّلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجّلون ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد » .
قول : " عليه السلام " عند ذكر نبيّ أو رجل من الصّالحين :
29 - السّلام على من ذكر في الغيبة مقصور على الأنبياء والملائكة عند ذكرهم ، مثل قولك نوح عليه السلام أو إبراهيم عليه السلام أو جبريل عليه السلام ، وذلك تأسّياً بقوله تعالى : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } وقوله : { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } وقوله : { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } وقوله : { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } نعم يجوز السّلام على آلهم وأصحابهم تبعاً لهم دون استقلال .
30 - وأمّا السّلام على غيرهم من المؤمنين الصّالحين استقلالاً فمنعه الشّيخ أبو محمّد الجوينيّ من الشّافعيّة ، وقال : بأنّ السّلام هو في معنى الصّلاة فلا يستعمل في الغائب ، فلا يفرد به غير الأنبياء ، فلا يقال أبو بكر عليه السلام ولا عليّ عليه السلام ، وسواء في هذا الأحياء والأموات وأمّا الحاضر فيخاطب به فيقال : سلام عليك أو سلام عليكم أو السّلام عليك أو عليكم .
وفرّق آخرون بينه وبين الصّلاة بأنّ السّلام يشرع في حقّ كلّ مؤمن من حيّ وميّت وغائب وحاضر ، وهو تحيّة أهل الإسلام بخلاف الصّلاة ، فإنّها من حقوق الرّسول - صلى الله عليه وسلم وآله - ولهذا يقول المصلّي : السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، ولا يقول الصّلاة علينا .
السّلام الّذي يخرج به من الصّلاة :
31 - الخروج من الصّلاة لا يكون إلاّ بالسّلام عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ السّلام ركن من أركان الصّلاة عندهم - لقوله - صلى الله عليه وسلم - « مفتاح الصّلاة الطّهور وتحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم » .
أمّا الحنفيّة فالسّلام عندهم ليس ركناً بل هو واجب ، لأنّ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلّمه المسيء صلاته ، ولو كان فرضاً لأمر به ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فالخروج من الصّلاة عندهم يكون بالسّلام ، ويكون بغيره من كلّ عمل أو قول مناف للصّلاة ، وقد تمّت صلاته ، ولا يحتاج إلى سلام . وتفصيله في ( تسليم ) .
هذا والسّلام الّذي يخرج به من صلاة الجنازة يكون بعد آخر تكبيرة .
وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في ( صلاة الجنازة )(/7)
سَلَس *
التّعريف :
1 - السّلس في اللّغة : السّهولة واللّيونة ، والانقياد والاسترسال ، وعدم الاستمساك قال في المصباح : سلس سلساً من باب تعب سهل وَلاَنَ فهو سلس ، ورجل سلس بالكسر بيّن السّلس بالفتح ، والسّلاسة أيضاً سهولة الخلق ، وسلس البول استرساله ، وعدم استمساكه، لحدوث مرض بصاحبه ، وصاحبه سلس بالكسر .
والسّلس عند الفقهاء : استرسال الخارج بدون اختيار من بول ، أو مذي ، أو منيّ ،أو ودي، أو غائط ، أو ريح ، وقد يطلق السّلس ، على : الخارج نفسه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستحاضة :
2 - الاستحاضة : هي سيلان الدّم من المرأة في غير أيّام حيضها وهو دم فساد .
ب - المرض :
3 - المرض في الاصطلاح : ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ .
ج - النّجاسة :
4 - النّجاسة : إمّا عينيّة ، وهي : مستقذر يمنع صحّة الصّلاة حيث لا مرخّص ، أو حكميّة وهي وصف يقوم بالمحلّ ، يمنع صحّة الصّلاة حيث لا مرخّص .
الحكم الإجماليّ :
أ - الوضوء والصّلاة ممّن به سلس :
5 - السّلس : حدث دائم ، صاحبه معذور ، فيعامل في وضوئه وعبادته ، معاملةً خاصّةً تختلف عن معاملة غيره من الأصحّاء ، فقد ذكر الحنفيّة أنّ المستحاضة ، ومن به سلس البول ، أو استطلاق البطن ، أو انفلات الرّيح ، أو رعاف دائم ، أو جرح لا يرقأ ، يتوضّئون لوقت كلّ صلاة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المستحاضة تتوضّأ لوقت كلّ صلاة » ويقاس عليها غيرها من أصحاب الأعذار ، ويصلّون بذلك الوضوء في الوقت ما شاءوا من الفرائض ، والنّوافل ، وإن توضّأ على السّيلان ، وصلّى على الانقطاع ، وتمّ الانقطاع باستيعاب الوقت الثّاني أعاد ، وكذا إذا انقطع في خلال الصّلاة وتمّ الانقطاع .
ويبطل الوضوء عند خروج وقت المفروضة ، بالحدث السّابق وهو الصّحيح وهو قول أبي حنيفة .
وقال زفر : يبطل بدخول الوقت ، وقال أبو يوسف ومحمّد : يبطل بهما .
ويبقى الوضوء ما دام الوقت باقياً بشرطين : أن يتوضّأ لعذره وأن لا يطرأ عليه حدث آخر كخروج ريح أو سيلان دم من موضع آخر .
وذهب المالكيّة إلى أنّ السّلس إن فارق أكثر الزّمان ولازم أقلّه فإنّه ينقض الوضوء فإن لازم النّصف وأولى الجلّ أو الكلّ فلا ينقض هذا إذا لم يقدر على رفعه فإن قدر على رفعه فإنّه ينقض مطلقاً كسلس مذي لطول عزوبة أو مرض يخرج من غير تذكّر أو تفكّر أمكنه رفعه بتداو أو صوم أو تزوّج ويغتفر له زمن التّداوي والتّزوّج وندب الوضوء عندهم إن لازم السّلس أكثر الزّمن وأولى نصفه لا إن عمّه فلا يندب ، محلّ النّدب في ملازمة الأكثر إن لم يشقّ ، لا إن شقّ الوضوء ببرد ونحوه فلا يندب وقد تردّد متأخّرو المالكيّة في اعتبار الملازمة من دوام وكثرة ومساواة وقلّة في وقت الصّلاة خاصّةً وهو من الزّوال إلى طلوع الشّمس من اليوم الثّاني أو اعتبارها مطلقاً لا بقيد وقت الصّلاة فيعتبر حتّى من الطّلوع إلى الزّوال ، وفي قول العراقيّين من المالكيّة لا ينقض السّلس مطلقاً غير أنّه يندب الوضوء منه إن لم يلازم كلّ الزّمان فلا يندب .
وذكر الشّافعيّة ستّة شروط يختصّ بها من به حدث دائم كسلس واستحاضة وهي : الشّدّ ، والعصب ، والوضوء لكلّ فريضة بعد دخول الوقت على الصّحيح كما في الرّوضة وتجزئ قبله على وجه شاذّ ، وتجديد العصابة لكلّ فريضة ، ونيّة الاستباحة على المذهب والمبادرة إلى الصّلاة في الأصحّ .
فلو أخّر لمصلحة الصّلاة كستر العورة والأذان والإقامة وانتظار الجماعة والاجتهاد في قبلته والذّهاب إلى مسجد وتحصيل السّترة لم يضرّ لأنّه لا يعدّ بذلك مقصّراً ، ويتوضّأ لكلّ فرض ولو منذوراً كالمتيمّم لبقاء الحدث« لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: توضّئي لكلّ صلاة » ويصلّي به ما شاء من النّوافل فقط ، وصلاة الجنازة لها حكم النّافلة ، ولو زال العذر وقتاً يسع الوضوء والصّلاة كانقطاع الدّم مثلاً وجب الوضوء وإزالة ما على الفرج من الدّم ونحوه .
ومن أصابه سلس منيّ يلزمه الغسل لكلّ فرض ، ولو استمسك الحدث بالجلوس في الصّلاة وجب بلا إعادة ، وينوي المعذور استباحة الصّلاة لا رفع الحدث لأنّه دائم الحدث لا يرفعه وضوءه وإنّما يبيح له العبادة .
والحنابلة في هذا كلّه كالشّافعيّة إلاّ في مسألة الوضوء لكلّ فرض فإنّهم ذهبوا إلى أنّ صاحب الحدث الدّائم يتوضّأ لكلّ وقت ، ويصلّي به ما شاء من الفرائض والنّوافل كما ذكر الحنفيّة والفقهاء سوى المالكيّة متّفقون على وجوب تجديد الوضوء للمعذور وقال المالكيّة باستحبابه كما سبق ، والوضوء يكون بعد دخول الوقت عند الشّافعيّة والحنابلة .
وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في الوضوء والصّلاة .
إمامة من به سلس :
اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان الإمام مريضاً بالسّلس والمأموم كذلك فالصّلاة جائزة ، وأمّا إذا كان الإمام مريضاً بالسّلس والمأموم سليماً فقد اختلف الفقهاء في جواز إمامة المريض لصلاة غيره من الأصحّاء على قولين :
القول الأوّل : وهو قول الحنفيّة والحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة عدم الجواز لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً ، لكن جعل الحدث الموجود في حقّهم كالمعدوم ، للحاجة إلى الأداء فلا يتعدّاهم ، لأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها ولأنّ الصّحيح أقوى حالاً من المعذور ولا يجوز بناء القويّ على الضّعيف .(/1)
والقول الثّاني : وهو قول المالكيّة في المشهور والشّافعيّة في الأصحّ الجواز لصحّة صلاتهم من غير إعادة ولأنّه إذا عفي عن الأعذار في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره ولأنّ عمر رضي الله عنه كان إماماً وأخبر أنّه يجد ذلك " أي سلس المذي " ولا ينصرف ، إلاّ أنّ المالكيّة صرّحوا بكراهة إمامة أصحاب الأعذار للأصحّاء . والتّفصيل في مصطلح ( عذر ) .(/2)
سَماع *
التّعريف :
1 - السّماع : مصدر سمع ، وسمع له يسمع سَمعاً وسِمعاً وسماعاً ومن معانيه :
أ - الإدراك : يقال : سمع الصّوت سماعاً إذا أدركه بحاسّة السّمع فهو سامع ، ومنه السّماع بمعنى استماع الغناء والآلات المطربة وقد يطلق على الغناء ذاته .
ب - ومنها الإجابة : كما في أدعية الصّلاة : " سمع اللّه لمن حمده " أي : أجاب من حمده وتقبّله منه .
ج - ومنها الفهم : يقال : " سمعت كلامه إذا فهمت معنى لفظه " .
د - القبول : مثل سمع عذره إذا قبل ، وسمع القاضي البيّنة قبلها ،وسمع الدّعوى لم يردّها. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذه المعاني اللّغويّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستماع :
2 - السّماع يكون بقصد وبغير قصد في حين لا يكون الاستماع إلاّ بقصد ، ويكون السّماع اسمًا للمسموع فيقال للغناء سماع .
ب - الإنصات :
3 - الإنصات هو السّكوت وترك اللّغو من أجل السّماع والاستماع ( ر : استماع ) ، وقد أورد اللّه تعالى الكلمتين بهذا المعنى في قوله - جلّ ذكره - : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } والمعنى حسبما نصّ على ذلك أهل اللّغة والتّفسير - : " إذا قرأ الإمام فاستمعوا إلى قراءته ولا تتكلّموا " كما وردتا معاً في أحاديث نبويّة كثيرة ، ووردتا كذلك في قول عثمان بن عفّان - فيما رواه مالك - إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا .
ج - الإصغاء :
4 - هو أن يجمع إلى حسن السّماع الاستماع مبالغةً في الإنصات ، لما تتضمّنه هذه الصّيغة من دلالة على أنّ المستمع قد أمال سمعه أو أذنه إلى المتكلّم أو مصدر الصّوت حتّى ينقطع عن كلّ شيء يشغله عنه .
د - الغناء :
5 - الغناء بالمدّ - لغةً : صوت مرتفع متوال ، وقال ابن سيده : الغناء - من الصّوت ما طرب به .
واصطلاحاً : عرّفه القرطبيّ في كتابه : كشّاف القناع : أنّه رفع الصّوت بالشّعر وما يقاربه من الرّجز على نحو مخصوص . فالغناء نوع من السّماع .
والتّغبير : ضرب من الغناء يذكّر بالغابرة وهي الآخرة . والمُغبِّرة قوم يُغَبِّرون بذكر اللّه تعالى بدعاء وتضرّع ، وقد أطلق عليهم هذا الاسم لتزهيدهم النّاس في الفانية وهي الدّنيا وترغيبهم في الباقية وهي الآخرة ، وهو من ( غَبَرَ ) الّذي يستعمل للباقي كما يستعمل للماضي ، وقد كرهه الإمام الشّافعيّ لأنّه يلهي عن القرآن واعتبره من عمل الزّنادقة ، وقال فيه الشّيخ ابن تيميّة : إنّه من أمثل أنواع السّماع ومع ذلك كرهه الأئمّة فكيف بغيره .
الحكم الإجماليّ :
حكم صلاة الجماعة والجمعة في حقّ من يسمع الأذان :
6 - اختلف الفقهاء فيمن سمع الأذان للصّلوات الخمس ، ما عدا الجمعة فذهب بعضهم : إلى وجوب حضورها ، وذهب آخرون إلى أنّ ذلك غير متعيّن بل هي فرض على الكفاية وذهب غيرهما إلى أنّها سنّة مؤكّدة وأمّا الجمعة فحضورها فرض عين بشروطه ، وينظر التّفصيل في ( صلاة الجماعة ، وصلاة الجمعة ) .
ما يقوله سامع الأذان :
7 - يسنّ لمن سمع الأذان أن يقول مثلما يقول المؤذّن للأحاديث الصّحيحة الواردة في ذلك ومنها قوله - عليه الصلاة والسلام - « إذا سمعتم النّداء فقولوا مثل ما يقول المؤذّن » . وفي رواية :« إلاّ في حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح فقولوا : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه». فإذا تمّ الأذان يسنّ للسّامع أن يطلب الوسيلة والفضيلة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من قال حين يسمع النّداء : اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته - حلّت له شفاعتي يوم القيامة » .
وانظر ( أذان ) .
إسماع المصلّي قراءة نفسه :
8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أقلّ ما يجزئ في حالة الإسرار قراءة مسموعة يسمعها نفسه لو كان سميعاً مثلما هو مقرّر في التّكبير لأنّ ما دون ذلك ليس عندهم بقراءة .
ونصّ المالكيّة على أنّ المطلوب في حالة الإسرار أن يسمع المصلّي قراءته نفسه دون غيره ويمكن أن يكتفي فيها - عندهم - بتحريك اللّسان بالقرآن دون أن يلزم بإسماع نفسه ، قال ابن القاسم : " تحريك لسان المسرّ فقط يجزئه ولو أسمع أذنيه كان أحبّ إليّ . ولا يجزئ ما دون ذلك كالقراءة بالقلب ، لأنّ تحريك اللّسان شرط أدنى في صحّة القراءة .
قال ابن القاسم : كان مالك لا يرى ما قرأ به الرّجل في الصّلاة في نفسه ما لم يحرّك به لسانه قراءةً وبناءً على ذلك نقل عن شيوخ المالكيّة أنّ من حلف أن لا يقرأ فقرأ بقلبه لم يحنث . وأنّ الجنب يجوز له أن يقرأ القرآن بقلبه ما لم يحرّك به لسانه " .
أمّا حالة الجهر - فإنّ أدنى ما يطلب من المصلّي فيها أن يسمع نفسه ومن يليه ولا حدّ لأعلاه خاصّةً إذا كان إماماً إذ عليه أن يبالغ في رفع صوته بقدر ما يسمع المأمومين لأنّهم مطالبون بالاستماع والإنصات له دون القراءة . وينظر مصطلح ( صلاة الجماعة ) .
أمّا المرأة فدون الرّجل في الجهر إذ عليها أن تسمع نفسها خاصّةً مثلما هو مقرّر في حقّها بالنّسبة للتّلبية وبذلك يكون أعلى جهرها وأدناه واحدًا فيستوي في حقّها الحالتان .
سماع خطبة الجمعة لمن تنعقد بهم :
9 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، والأوزاعيّ ، إلى وجوب سماع الخطبة لمن تنعقد بهم .
ومذهب الشّافعيّة ، وعروة بن الزّبير ، وسعيد بن جبير ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والثّوريّ ، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد إلى أنّ ذلك سنّة .
انظر : مصطلحي ( استماع ، وصلاة الجمعة ) .(/1)
السّجود لسماع : آي السّجدة :
10 - يترتّب سجود التّلاوة على استماع آية من آياته على خلاف بين الأئمّة في حكمه . وينظر التّفصيل في مصطلح ( سجود التّلاوة ) .
سماع الدّعوى :
11 - سماع الدّعوى - في عرف الفقهاء - لا يكون إلاّ من القاضي أو ممّن يقوم مقامه . وهم يريدون بهذا السّماع أمرين متتاليين :
الأوّل : الإنصات والإصغاء إليها لاستيعابها وإدراك خفاياها عند رفعها إليه من المدّعي أو وكيله حيث نصّوا على أنّ السّماع هنا يجب أن يكون كاملاً شاملاً محصّلاً للفهم الصّحيح الّذي أمر به عمر بن الخطّاب أبا موسى الأشعريّ في رسالة القضاء المشهورة ، حين قال : " فافهم إذا أدلي إليك إذ لا يتمكّن أيّ حاكم مهما كانت درجته من الحكم بالحقّ إلاّ بنوعين من الفهم " .
النّوع الأوّل : فهم الدّعوى الّتي عرضت عليه ، وقد عبّر عنه ابن القيّم بفهم الواقع والفقه فيه .
الثّاني : فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم اللّه الّذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الواقع المتقدّم ذكره .
وقد حرص الفقهاء على توفير كلّ ما من شأنه أن يساعد على سلامة هذه المرحلة مرحلة سماع الدّعوى وفهمها فنبّهوا :
أوّلاً : إلى أنّ سلامة السّمع والنّطق من الشّروط الّتي ينبغي أن تتوافر في القاضي لاستمرار ولايته ، وهذا قول جمهور الفقهاء .
وثانياً : إلى أنّه مأمور - إذا لم يدرك كلام أحد الخصمين - أن يطالبه بالإعادة حتّى يفهم عنه ما يقول فهماً كافياً .
وأخيراً أكّدوا على تجنّب ما من شأنه أن يشغل السّامع عن المتابعة والانتباه وحضور القلب واستصفاء الفكر كالغضب والجوع المفرط والعطش الشّديد والألم المزعج ومدافعة أحد الأخبثين ، وشدّة النّعاس ، والحزن والفرح وما إليها .
والأصل في ذلك كلّه قوله عليه الصلاة والسلام : « لا يقضي القاضي أو لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان » وقول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في رسالته المذكورة : " إيّاك والغضب والقلق والضّجر والتّأذّي بالنّاس والتّنكّر لهم عند الخصومة " .
الأمر الثّاني : قبول الدّعوى من المدّعي يقال : سمع القاضي دعوى فلان إذا قبلها ، ويقال لم يسمعها إذا ردّها ، كما يقال : هذه دعوى مسموعة أي : مستجمعة لشروط القبول ، وتلك دعوى غير مسموعة أي : أنّها لم تستكمل ما يطلب لسماعها .
وقد عرّف الفقهاء الدّعوى بتعريفات متقاربة يدعم بعضها البعض ويشرحه .
والّذي يتعيّن ذكره هنا أنّ الدّعوى - مهما كان نوعها - لا يتّجه سماعها ولا يتحتّم إلاّ في حالتين : الأولى : أن تكون صحيحةً مستجمعةً لشروطها .
والثّانية : أن تكون مدعومةً ببيّنة شرعيّة تشهد بصدق دعوى المدّعي .
وانظر مصطلح ( دعوى ) .
فسماع الدّعوى في الحالة الأولى يوجب للمدّعي طلب الجواب من المدّعى عليه مع حمله على اليمين إن أنكر ، وفي الحالة الثّانية يوجب سماعها الحكم للمدّعي بمقتضى الحجّة الشّرعيّة الّتي أقامها .
سماع الشّهادة :
12 - الشّهادة لا تجوز إلاّ بما علمه الشّاهد لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } . وقوله - جلّ ذكره - : { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقوله سبحانه حكايةً عن قول إخوة يوسف : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا علمت مثل الشّمس فاشهد وإلاّ فدع » . والعلم الّذي تقع به الشّهادة يحصل بطريقتين :
أ - الرّؤية :
وتكون في الأفعال كالغصب والإتلاف والزّنا وشرب الخمر والسّرقة والإكراه ونحوها ، كما تكون في الصّفات المرئيّة مثل العيوب في المبيع والمؤجّر وأحد الزّوجين .
ب - السّماع : وهو نوعان :
أحدهما : سماع الصّوت من المشهود عليه في الأقوال سواء أكان السّامع مبصراً أم غير مبصر مثل ما يقع به إبرام العقود كالبيع والإجارة والسّلم والرّهن وغيرها ممّا يحتاج فيه إلى سماع كلام المتعاقدين ، إذا عرفها السّامع وتيقّن أنّها مصدر ما سمع .
والتّفصيل في مصطلح ( شهادة ) .
الشّهادة بالسّماع " التّسامع " :
13 - وهي : الشّهادة الّتي يكون طريقها حاسّة السّمع بما فيه الكفاية .
وينظر التّفصيل في مصطلح ( شهادة ) .
سماع الغناء والموسيقى :
14 - اختلف العلماء في حكم سماع الغناء والموسيقى على مذاهب تنظر في ( استماع ، غناء ، معازف ) .
حكم سماع صوت المرأة :
15 - سامع صوت المرأة إن كان يتلذّذ به أو خاف على نفسه فتنةً حرم عليه استماعه وإلاّ فلا . وينظر التّفصيل في ( استماع ) .
حكم سماع القرآن :
16 - استماع القرآن عند تلاوته مطلوب شرعاً لقوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ولاستماع القرآن آداب وأحكام مبيّنة تفصيلاً في مصطلح ( استماع ، تلاوة ، قرآن ) .
حكم سماع الحديث :
17 - إنّ سماع الحديث النّبويّ وطلب السّنن والآثار وإتقان ذلك وضبطه وحفظه ووعيه هو من فروض الكفاية لأنّ الشّريعة الّتي تعبّدنا اللّه بها متلقّاة من نبيّنا صلى الله عليه وسلم بصفته مبلّغاً ما نزّله اللّه عليه من وحي متلوّ معجز النّظام وهو القرآن الكريم ، ووحي مرويّ ليس بمعجز ولا متلوّ ولكنّه مقروء مسموع وهو ما ورد عنه في الأحاديث والأخبار . ومهمّة جمعه وتحصيله قد ألقيت على كواهل الأمّة وخاصّةً أعلامها وذوي القدرة من أبنائها، ولا يتمّ لهم ذلك إلاّ بالسّماع والتّقييد والحفظ والتّدوين .(/2)
وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نضّر اللّه امرأً سمع منّا حديثاً فحفظه حتّى يبلّغه غيره ، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وربّ حامل فقه ليس بفقيه » .
وفي رواية ثانية للتّرمذيّ عن ابن مسعود قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « نضّر اللّه امرأً سمع منّا شيئاً فبلَّغه كما سمع فربّ مبلّغ أوعى من سامع » .
وحثّ عليه الصلاة والسلام على اعتماد هذا الطّريق أخذًا وعطاءً فقال : فيما رواه عنه ابن عبّاس : « تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممّن سمع منكم » .
ولا يخفى أنّ في الحديثين إشارةً إلى أنّه يراد للعلم الاستماع والإنصات والحفظ والعمل والنّشر .
وقد نصّ العلماء على اعتبار التّمييز في سماع الحديث فإن فهم الخطاب وردّ الجواب كان مميّزاً صحيح السّماع وإلاّ فلا ، وهو رأي أغلب أهل العلم منهم موسى بن هارون وأحمد بن حنبل .
ونقل القاضي عياض أنّ أهل الصّنعة حدّدوا أوّل زمن يصحّ فيه السّماع بخمس سنين ، وعلى هذا استقرّ العمل . اعتماداً على ما رواه البخاريّ ومسلم عن محمود بن الرّبيع قال : « عقلت من النّبيّ صلى الله عليه وسلم مجَّةً مجَّها في وجهي من دلو من بئر كانت في دارنا وأنا ابن خمس سنين » . ولعلّهم رأوا هذا التّحديد بناءً على أنّه أدنى ما يحصل فيه ضبط ما يسمع وإلاّ فمردّ ذلك للعادة وحدها إذ الأمر يختلف باختلاف استعداد الأشخاص للأخذ والتّلقّي كما يختلف باختلاف طرق التّحمّل ، وهي أنواع كثيرة ضبطها أهل الرّواية في ثمانية أقسام أوّلها : سماع الحديث من لفظ الشّيخ وهو أرفع الأقسام عند جمهور أهل العلم وأدناها الوجادة .
أمّا السّنّ الّذي يستحبّ فيه أن يبتدئ الطّالب لسماع الحديث فقيل ثلاثون سنةً وقيل عشرون، وعليه قبل الشّروع في سماع الحديث أن يتخلّق بأخلاق أهله وأن يلتزم بزيّهم ويتأدّب بأدبهم وأن يلزم الوقار والسّكينة والمواظبة في طلبه وإخلاص النّيّة فيه والتّواضع لمن يأخذ عنه والصّبر على ما يلقاه في سبيله ونحو هذا ممّا يساعد على الاستفادة والإفادة وييسّر التّحمّل والتّحميل .
سماع اللّغو :
18 - اللّغو من الكلام : - ما لا يعتدّ به إمّا لأنّه يورد ارتجالاً عن غير رويّة ودون تثبّت وتفكير فيجري مجرى اللّغا الّذي يطلق على صوت العصافير ونحوها من الطّيور .
وإمّا لأنّه يورد في غير موضعه فيخرجه ذلك عن الصّواب كمن قال لصاحبه : أنصت والإمام يخطب . أو كمن دعا لأهل الدّنيا في خطبة الجمعة .
وقد يطلق اللّغو على كلّ كلام قبيح باطل، كالخوض في المعاصي ، والسّبّ ، والشّتم ، والرّفث ، وما إليها . قال اللّه تعالى - في صفة المؤمنين - : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } . أي : كنّوا عن القبيح ، وتعفّفوا عن التّصريح به ، وقيل معناه : إذا صادفوا أهل اللّغو لم يخوضوا معهم في باطلهم أو في سقط كلامهم .
وما دام اللّغو بهذا المعنى الّذي لا يجلب نفعاً ، ولا يدفع إثماً ، ولا يتّصل بقصد صحيح ، فإنّ سماعه كالخوض فيه لا يخرج حكمه عن الحظر والكراهة ، تبعاً لشدّة اتّصاله بالمفاسد ، وانفكاكه عنها .
والمؤمنون مطالبون بالإعراض عنه ، والإحجام عن سماعه ، والخوض فيه إطلاقاً لأنّه ليس من أخلاقهم ولا يتناسب - في أقلّ صوره - مع جدّهم وكمال نفوسهم .
قال اللّه تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } .
وقال جلّ ذكره - في صفتهم - : { وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً }. وقال : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .(/3)
سُورة *
التّعريف :
1 - السّورة لغةً : السّورة بالضّمّ : المنزلة وخصّها ابن السّعيد بالرّفعة ، وعرّفها بعضهم بالشّرف . وقيل : الدّرجة ، قيل : ما طال من البناء وحسن وقيل : هي العلامة .
واصطلاحاً : عرّفها بعض العلماء بأنّها : طائفة متميّزة من آيات القرآن ذات مطلع وخاتمة . وقيل : السّورة تمام جملة من المسموع تحيط بمعنىً تامّ بمنزلة إحاطة السّور بالمدينة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القرآن :
2 - القرآن : هو المنزّل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . المكتوب في المصاحف ، المنقول عنه نقلاً متواتراً بلا شبهة .
ب - الآيات :
3 - الآيات : جمع آية : وهي لغةً العلامة والعبرة .
واصطلاحاً : هي جزء من سورة من القرآن تبيّن أوّله وآخره توقيفاً .
والفرق بينها وبين السّورة : أنّ السّورة لا بدّ أن يكون لها اسم خاصّ بها ، ولا تقلّ عن ثلاث آيات ، وأمّا الآية : فقد يكون لها اسم كآية الكرسيّ ، وقد لا يكون ، وهو الأكثر .
ر : التّفصيل في مصطلح ( آية ) .
الحكم الإجماليّ :
تنكيس السّور عند القراءة :
4 - مذهب الجمهور أنّ القرآن الكريم يستحبّ قراءة سُوَرِهِ مرتّبةً كما هي في المصحف الكريم ، وكرهوا للقارئ في الصّلاة وخارج الصّلاة أن ينكّس السّور كأن يقرأ { أَلَمْ نَشْرَحْ } ثمّ يقرأ { وَالضُّحَى } ، فقد سئل عبد اللّه بن مسعود - رضي الله عنه - عمّن يقرأ القرآن منكوساً . قال : ذلك منكوس القلب . ولكن أجاز بعض الفقهاء هذا التّنكيس إذا كان على وجه التّعليم ، كتعليم الصّبيان لحفظ القرآن . أو على وجه الذّكر ، ولكن يرى المالكيّة أنّ ذلك خلاف الأولى . ( ر : قرآن ومصحف ) .
حكم قراءة سورة الفاتحة في الصّلاة :
5 - ذهب الجمهور من المالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ قراءة الفاتحة ركن في كلّ ركعة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا صلاة لمن لَمْ يقرأ بفاتحة الكتاب » .
إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا : هي ركن مطلقاً ، والرّاجح عند المالكيّة : أنّها فرض لغير المأموم في صلاة جهريّة وفي المذهب عدّة أقوال .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ قراءة الفاتحة في الصّلاة ليست بركن ، ولكن الفرض في الصّلاة عندهم قراءة ما تيسّر من القرآن . لقوله تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } .
ووجه الاستدلال بهذه الآية أنّ اللّه تعالى أمر بقراءة ما تيسّر من القرآن مطلقاً ، وتقييده بفاتحة الكتاب زيادة على مطلق النّصّ ، وهذا لا يجوز ، لأنّه نسخ فيكون أدنى ما يطلق عليه القرآن فرضاً لكونه مأموراً به .
ترك السّورة بعد الفاتحة عمداً في الصّلاة :
6 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في سنّيّة السّورة الّتي بعد الفاتحة ، ولكن الخلاف وقع فيمن تركها ناسياً أو متعمّداً . ر : التّفصيل في مصطلح ( سهو ، صلاة ) .
قراءة السّورة في الرّكعتين الأخريين من الصّلاة :
7 - ذهب الجمهور من المالكيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة : إلى أنّه لا يسنّ قراءة سورة بعد الفاتحة في الرّكعتين الأخريين ، لأنّ عامّة صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه لا يقرأ فيها شيئاً ، وذهب الحنفيّة إلى أنّ المصلّي في الرّكعة الثّالثة لا يجب عليه شيء إن شاء سكت وإن شاء قرأ وإن شاء سبّح ، وإن قرأ يقرأ الفاتحة على وجه الثّناء والذّكر .
( ر : التّفصيل في مصطلح صلاة ) .
تكرار السّورة بعد الفاتحة في الرّكعتين الأوليين :
8 - ذهب الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا بأس للمصلّي أن يكرّر السّورة من القرآن الّتي قرأها في الرّكعة الأولى فعن رجل من جهينة « سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصّبح { إِذَا زُلْزِلَت } في الرّكعتين كلتيهما فلا أدري أنسي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمداً » .
وحديث « الرّجل الّذي كان يصلّي بالنّاس فكان يقرأ قبل كلّ سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فقال : إنّي أحبّها . فقال له الرّسول صلى الله عليه وسلم : حبّك إيّاها أدخلك الجنّة » .
وذهب المالكيّة إلى كراهية تكرار السّورة ، وقال بعضهم : هو خلاف الأولى . فقد قال ابن عمر - رضي الله عنهما - " لكلّ سورة حظّها من الرّكوع والسّجود
جمع السّورتين من القرآن في ركعة واحدة :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع بين السّورتين في الرّكعة الواحدة واستدلّوا على ذلك بما ثبت عن حذيفة رضي الله عنه قال : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعة سورة البقرة والنّساء وآل عمران » وقال ابن مسعود : - رضي الله عنه - « لقد عرفت النّظائر الّتي كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرن بينهنّ - فذكر عشرين سورةً من المفصّل سورتين من آل حاميم في كلّ ركعة » .
وفرّق الحنابلة بين النّافلة والفريضة في الجمع بين السّور في الرّكعة الواحدة فقالوا : لا بأس أن يكون في النّوافل لما ثبت في الرّوايات السّابقة حيث إنّها كانت في النّافلة ، كقيام اللّيل وغيره ، واستحبّوا في الفريضة أن يقتصر على سورة بعد الفاتحة .
لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم - هكذا كان يصلّي أكثر صلاته ، وهي رواية عندهم ، وأمّا الرّواية الأخرى فهي كمذهب المالكيّة وهي الكراهية « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن يقرأ بسورة في صلاته » . ولقول عبد اللّه بن عمر - رضي الله عنهما - عندما قال له رجل : إنّي قرأت المفصّل في ركعة قال : إنّ اللّه تعالى لو شاء لأنزله جملةً واحدةً ولكن فصّله ، لتعطى كلّ سورة حظّها من الرّكوع والسّجود .
قراءة السّورة في صلاة الجنازة :(/1)
10 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة : إلى أنّه ليس في صلاة الجنازة قراءة ، وما ثبت عنه في قراءتها إنّما كان يقرأ في سبيل الثّناء لا على وجه القراءة . ولقول ابن مسعود رضي الله عنه : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوقّت فيها قولاً ، ولا قراءةً » ولأنّ ما لا ركوع فيه ، لا قراءة فيه ، كسجود التّلاوة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب قراءة سورة الفاتحة في صلاة الجنازة فقد ثبت عن ابن عبّاس رضي الله عنهما - « أنّه صلّى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال : إنّه من السّنّة أو من تمام السّنّة » فعن أمّ شريك قالت : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب » . وأيضاً هو داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن » .
ولأنّها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصّلوات .
أمّا بالنّسبة لقراءة السّورة الّتي بعد الفاتحة فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم قراءتها ، لأنّ صلاة الجنازة شرع فيها التّخفيف ولهذا لا يقرأ فيها بعد الفاتحة شيء .
والتّفصيل في مصطلح ( جنائز ) .(/2)
شروع *
التّعريف :
1 - الشّروع مصدر شرع . يقال : شرعت في الأمر أشرع شروعاً ، أخذت فيه ، وشرعت في الماء شروعاً شربت بكفّيك أو دخلت فيه ، وشرعت المال - أي الإبل - أشرعه : أوردته الشّريعة ، وشرع الباب إلى الطّابق شروعاً : اتّصل به ، وطريق شارع يسلكه النّاس عامّةً ، وأشرعت الجناح إلى الطّريق : وضعته .
ومنه : شرع اللّه الدّين ، أي سنّه وبيّنه ، ومنه الشّريعة وهي ما شرعه اللّه لعباده من العقائد والأحكام .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالشّروع :
الشّروع في العبادات :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الشّروع في العبادات يتحقّق بالفعل مقروناً بالنّيّة حقيقةً أو حكماً بحسب كلّ عبادة ، فعلى سبيل المثال يكون الشّروع في الصّلاة بتكبيرة الإحرام مقرونةً بالنّيّة ، والصّوم يكون الشّروع فيه بالنّيّة والإمساك .
( انظر مصطلح : عبادة ، نيّة ، صلاة ، صوم ، حجّ ، جهاد ، ذكر ) .
الشّروع في المعاملات :
3 - يتحقّق الشّروع في المعاملات : بالقول ، أو ما يقوم مقامه وينوب عنه من : المعاطاة عند من يقول بها ، أو الكتابة ، أو الإشارة .
ولا تعدّ النّيّة هنا شروعاً في البيع ، أو النّكاح ، أو الإجارة ، أو الهبة ، أو الوقف ، أو الوصيّة ، أو العاريّة ، أو غيرها من أصناف المعاملات ، لأنّنا لا نعلم القصد المنويّ . فهذه المعاملات مبنيّة على الإيجاب والقبول ، فإيجاب الموجب بقوله : " بعتك كذا وكذا " شروع في البيع ، فإذا قبل البائع هذا الإيجاب تمّ البيع .
الشّروع في الجنايات :
4 - يتحقّق الشّروع في الجنايات والحدود : بالفعل لا بالقول ، ولا بالنّيّة .
ما يجب إتمامه بالشّروع :
4 م - ما أوجبه اللّه - سبحانه وتعالى - على المكلّف ، إذا شرع فيه وجب عليه إتمامه باتّفاق، ولا يجوز له قطعه أو الانصراف عنه إلاّ بعد إتمامه .
ويستثنى من ذلك حالة الضّرورة الّتي تمنع من إتمامه ، كأن ينتقض وضوء المصلّي ، أو يغمى عليه ، أو تحيض المرأة أثناء الصّلاة ، أو غير ذلك ممّا يعوق المكلّف عن الإتمام .
انظر مصطلح ( استئناف ، حيض ، صلاة ) .
ومثل الصّلاة كلّ مفروض من : صيام أو زكاة ، أو حجّ ، إذا شرع فيه وجب إتمامه ، ويأثم بتركه ، وقد يجلب عليه العقاب في الدّنيا ، كالكفّارة لمن أفطر متعمّداً في رمضان بدون عذر ، ولزوم الهدي لمن أفسد حجّه أو عمرته ، وإعادتهما في العام القابل أمر لازم متعلّق بذمّته .
قال الزّركشيّ : أمّا الشّارع في فرض الكفاية ، إذا أراد قطعه فإن كان يلزم من قطعه بطلان ما مضى من الفعل حرم كصلاة الجنازة ، وإلاّ فإن لم تفت بقطعه المصلحة المقصودة للشّارع ، بل حصلت بتمامها ، كما إذا شرع في إنقاذ غريق ثمّ حضر آخر لإنقاذه جاز قطعاً .
نعم ذكروا في اللّقيط أنّ من التقط ليس له نقله إلى غيره ، وإن حصل المقصود ، لكن لا على التّمام ، والأصحّ أنّ له القطع أيضاً ، كالمصلّي في جماعة ينفرد ، وإن قلنا الجماعة فرض كفاية، والشّارع في العلم فإنّ قطعه له لا يجب به بطلان ما عرفه أوّلاً ، لأنّ بعضه لا يرتبط ببعض ، وفرض الكفاية قائم بغيره ، فالصّور ثلاثة :
قطع يبطل الماضي فيبطل قطعاً ، وقطع لا يبطله ولا يفوّت الشّاهد فيجوز قطعاً ، وقطع لا يبطل أصل المقصود ، ولكن يبطل أمراً مقصوداً على الجملة ، ففيه خلاف .
قال الفتوحيّ من الحنابلة : يتعيّن فرض الكفاية بالشّروع فيه ، ويجب إتمامه على الأظهر ويؤخذ لزومه بالشّروع من مسألة حفظ القرآن ، فإنّه يحرم ترك الحفظ بعد الشّروع فيه على الصّحيح من المذهب ، وفي وجه يكره .
5- أمّا ما ندب إليه الشّارع من السّنن فإن كان حجّاً أو عمرةً وشرع فيهما وجب عليه الإتمام باتّفاق ، لقوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } . وإن كان غيرهما فإتمامه بعد الشّروع فيه محلّ خلاف :
فذهب الحنفيّة إلى أنّ من شرع في نفل لزمه إتمامه لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فما أدّاه وجب صيانته وحفظه عن الإبطال ، لأنّ العمل صار حقّاً للّه ، ولا سبيل إلى حفظه إلاّ بالتزام الباقي ، فوجب الإتمام ضرورةً .
فإن خرج منه بدون عذر ، لزمه القضاء ، وعليه الإثم ، والعقاب على تركه ، وإن خرج منه لعذر لزمه القضاء . فأصبحت النّافلة عندهم واجباً بعد الشّروع .
وذهب المالكيّة إلى أنّ من خرج من النّفل بعذر ، فلا قضاء عليه ، ومن خرج من غير عذر ، فعليه القضاء .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا شرع في النّفل لم يلزمه المضيّ فيه ، ولا يجب عليه القضاء إذا لم يتمّه ، لأنّ النّفل لمّا شرع غير لازم قبل الشّروع ، وجب أن يبقى كذلك بعد الشّروع ، لأنّ حقيقة الشّرع لا تتغيّر بالشّروع ولو أتمّه صار مؤدّياً للنّفل ، لا مسقطاً للوجوب . أمّا لو شرع في صوم نفل فنذر إتمامه ، لزمه على الصّحيح .
وذهب الحنابلة إلى أنّ من شرع في النّفل يستحبّ له البقاء فيه ، وإن خرج منه لا إثم عليه ، ولا يجب عليه القضاء .
6 - أمّا قراءة القرآن الكريم : إذا شرع المكلّف فيها ، فيكره قطعها لمكالمة النّاس ، فلا ينبغي أن يؤثر كلامه على قراءة القرآن .
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : » أنّه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرغ منه«.
وأمّا الحائض والنّفساء فإنّهما إذا شرعتا في قراءة القرآن الكريم ، ناسيةً إحداهما أنّها حائض ، والأخرى أنّها نفساء ، فلا يجب عليهما الاستمرار في القراءة ، بل يجب عليهما القطع .(/1)
أمّا المستحاضة ، ومن به عذر ، كسلس البول وغيره ، فإنّه إذا توضّأ أحدهما للصّلاة ، فيجوز له أن يقرأ القرآن ، فإذا شرع في قراءة متوضّئاً ، فلا يقطع ندباً ، ولا يجب عليه إتمام السّورة أو الحزب من القرآن الكريم .
أمّا إذا شرع المكلّف الّذي لا يمنعه مانع من قراءة القرآن الكريم ، ثمّ ترك القراءة لضرورة طرأت عليه - كخروج ريح ، أو حصر بول - فله عدم إتمام ما قرأ وينتهي إلى حيث يقف ، وإذا تركه لا لضرورة ، فلا عليه إلاّ أن يتخيّر الوقف ، بانتهاء ما يتعلّق بما يقرأ ، فلو كان يقرأ في قصّة موسى ، أو هود أو أهل الكهف ، فليتمّها ندباً حتّى لا يكون كلامه مبتوراً ، وحتّى تكتمل في رأسه الموعظة .
أمّا إذا شرع في غير قراءة القرآن الكريم - كورد من الأوراد ، أو ما يسمّى بالذّكر الجماعيّ أو الفرديّ - فلا يطالب بإتمامه ، لأنّه غير ملزم به .
7 - وأمّا المباح : إذا شرع فيه المكلّف فإتمامه وعدمه سواء ، لأنّ اللّه - سبحانه وتعالى - خيّر المكلّف بين فعله وتركه .
الشّروع في العقود :
أوّلاً : عقد البيع :
8 - البيع إيجاب وقبول ، فإن حصل الإيجاب كان شروعاً في البيع ، فإن وافقه القبول كان إتماماً للبيع . فإن رجع الموجب في إيجابه ، قبل صدور القبول ، يكون رجوعاً عن الشّروع في البيع فإن صدر القبول قبل عود الموجب تمّ البيع .
انظر مصطلح ( إيجاب ، وبيع ) .
ثانياً : الهبة :
9 - يكون الشّروع في الهبة بلفظ : وهبت ، وأعطيت ، ونحلت ، ولا تتمّ إلاّ بالقبض عند جمهور الفقهاء ولا تلزم بالشّروع .
وانظر مصطلح ( هبة ) .
ثالثاً : الوقف :
10 - الشّروع في الوقف يكون بلفظ : وقفت ، وحبست ، فمن أتى بكلمة منهما ، كان شارعاً في الوقف ، ولزمه لعدم احتمال غيرهما عند جمهور الفقهاء .
وذهب أبو حنيفة : إلى أنّ الوقف لا يلزم بمجرّده ، وللواقف الرّجوع فيه ، إلاّ أن يوصي به بعد موته فيلزم ، أو يحكم بلزومه حاكم .
وخالفه صاحباه ، فقالا بلزومه ، وأنّه ينقل الملك ، ولا يقف لزومه على القبض .
وقال أبو حنيفة ، وهو رواية عن أحمد : إنّه لا يلزم إلاّ بالقبض ، وإخراج الوقف له عن يده . انظر مصطلح ( وقف ) .
رابعاً : الوصيّة :
11 - الشّروع في الوصيّة يقع بالقول أو الكتابة ، كأن يوصي لشخص معيّن أو غير معيّن وتتمّ ويلزم بقبول الموصى له المعيّن بعد وفاة الموصي .
انظر مصطلح ( وصيّة ) .
خامساً : العاريّة :
12 - يكون الشّروع فيها كسائر العقود المنضبطة بالإيجاب والقبول ، فيكون الإيجاب بقوله : أعرتك كذا شروعاً في الإعارة ، ويكون القبول فيها إتماماً لعقد العاريّة ، فبه يتمّ العقد ، ولكلّ من المعير والمستعير الرّجوع قبل صدور القبول ، وقبل القبض أيضاً برفض أخذها ، وله الرّجوع بعد ذلك لأنّها عقد جائز من الطّرفين عند الجمهور .
( ر : إعارة ) .
الشّروع بدون إذن فيما يحتاج إلى إذن :
13 - الشّروع في العبادات المفروضة لا يحتاج إلى إذن ، إذ إنّ فرضيّتها على المكلّفين لا يقتضي إذناً من أحد .
أمّا العبادات غير المفروضة ، والمعاملات ، فقد أوجب الشّارع الإذن فيها لحقّ من له الحقّ على المكلّف ، كحقّ الزّوج على زوجته ، وحقّ الوليّ على الصّغير والسّفيه .
فأعطى للزّوج أن تستأذنه زوجته في فعل بعض النّوافل من العبادات فإذا لم يأذن لها ، ولم تطعه، كان له منعها ، فإذا شرعت المرأة في الحجّ تطوّعاً ، بدون إذن زوجها ، فللزّوج أن يحلّلها ، وعليها القضاء .
وكذا إذا شرعت في صيام نفل بدون إذنه ، له أن يفطّرها ، لخبر الصّحيحين : » لا يحلّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلاّ بإذنه « .(/2)
شَحم *
التّعريف اللّغويّ :
1 - الشّحم في الحيوان : هو جوهر السّمن ، والعرب تسمّي سنام البعير شحماً وبياض البطن شحماً . والجمع شحوم ، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
والشّحم عند أكثر الفقهاء : هو الّذي يكون في الجوف من شحم الكلى أو غيره .
ويقول البعض : الشّحم كلّ ما يذوب بالنّار ممّا في الحيوان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّهن :
2 - الدّهن : ما يدهن به من زيت وغيره ، وجمعه دهان .
والدّهن أعمّ من الشّحم لأنّه يكون من الحيوان والنّبات ، والشّحم لا يكون إلاّ من الحيوان .
ب - الدّسم :
3 - الدّسم : هو الودك ، ويتناول الألية والسّنام وشحم البطن والظّهر والجنب كما يتناول الدّهن المأكول . فهو أعمّ من الشّحم .
الأحكام المتعلّقة بالشّحم :
4 - شحم الحيوان المذكّى حلال من أيّ مكان أخذ . وأمّا الحيوانات غير المأكولة كالخنزير فشحمها حرام كغيره . وكذلك يحرم أكل شحوم الميتة فلا تؤثّر التّذكية فيه .
أمّا الانتفاع بشحم الميتة في غير الأكل فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جوازه في شيء أصلاً لحديث جابر بن عبد اللّه « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، قيل : يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السّفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس ؟ قال : لا هو حرام » .
ويرى الشّافعيّة : جواز الانتفاع بشحم الميتة في طلي السّفن والاستصباح بها وغير ذلك ممّا ليس بأكل ولا في بدن الآدميّ .
وبهذا قال أيضاً عطاء بن أبي رباح ومحمّد بن جرير الطّبريّ ورأوا أنّ الضّمير في « هو حرام » يرجع إلى البيع لا إلى مطلق الانتفاع . وللتّفصيل ( ر : استصباح وميتة ) .
شحوم ذبائح أهل الكتاب :
5 - اختلف الفقهاء في شحوم ذبائح أهل الكتاب المحرّمة عليهم في قوله تعالى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... } الآية .
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في المذهب ومالك في قول : إلى حلّ هذه الشّحوم ويقولون : إنّها حلال ليست مكروهةً .
واستدلّوا بقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } ، فقد أحلّ اللّه تعالى طعام أهل الكتاب وهو ذبائحهم لم يستثن منها شيئاً لا شحماً ولا غيره فدلّ على جواز أكل جميع الشّحوم من ذبائحهم وذبائح المسلمين .
وبحديث عبد اللّه بن مغفّل « أنّ جراباً من شحم يوم خيبر دلّي من الحصن فأخذه عبد اللّه بن مغفّل وقال : واللّه لا أعطي أحداً منه شيئاً . فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأقرّه على ذلك » .
كما استدلّوا بما ثبت « أنّ يهوديّةً أهدت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم شاةً فأكل منها ولم يحرّم شحم بطنها ولا غيره » .
وذهب ابن القاسم وأشهب وأبو الحسن التّميميّ والقاضي من الحنابلة - وهو مرويّ عن مالك وحكاه التّميميّ عن الضّحّاك ومجاهد وسوّار - إلى تحريم شحوم ذبائح أهل الكتاب ، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أباح لنا طعام الّذين أوتوا الكتاب ، والشّحوم المحرّمة عليهم ليست من طعامهم فلا تكون لنا مباحةً .
وحكى القاضي أبو محمّد عن مالك كراهة شحوم اليهود المحرّمة عليهم وهي عنده مرتبة بين الحظر والإباحة .(/1)
شَعَائر *
التّعريف :
1 - الشّعائر : جمع شعيرة : وهي العلامة : مأخوذ من الإشعار الّذي هو الإعلام ، ومنه شعار الحرب وهو ما يسم العساكر علامةً ينصبونها ليعرف الرّجل رفقته .
وإذا أضيفت شعائر إلى اللّه تعالى فهي : أعلام دينه الّتي شرعها اللّه فكلّ شيء كان علماً من أعلام طاعته فهو من شعائر اللّه .
والاصطلاح الشّرعيّ في شعائر اللّه لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
فكلّ ما كان من أعلام دين اللّه وطاعته تعالى فهو من شعائر اللّه ، فالصّلاة ، والصّوم والزّكاة والحجّ ومناسكه ومواقيته ، وإقامة الجماعة والجمعة في مجاميع المسلمين في البلدان والقرى من شعائر اللّه ، ومن أعلام طاعته . والأذان وإقامة المساجد والدّفاع عن بيضة المسلمين بالجهاد في سبيل اللّه من شعائر اللّه . قال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ } . والآية بعد الأمر بالصّلاة ، والزّكاة في أكثر من آية من السّورة وبعد ذكر الصّبر والقتل في سبيل اللّه - وهو الجهاد لإقامة دين اللّه - تفيد أنّ السّعي بين الصّفا والمروة من جملة شعائر اللّه ، أي أعلام دينه .
وكذلك قوله تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } .
وكذلك المراد في قوله تعالى : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } ، أي معالم دين اللّه ، وطاعته . وتعظيمها : أداؤها على الوجه المطلوب شرعاً .
وقيل : المراد منها العبادات المتعلّقة بأعمال النّسك ، ومواضعها ، وزمنها .
وقيل : المراد منها الهدي خاصّةً . وتعظيمها : استسمانها . قاله ابن عبّاس . والإشعار عليها : جعل علامة على سنامها ، بأن يعلّم بالمدية ليعرف أنّها هدي فيكون ذلك علماً على إحرام صاحبها وعلى أنّه قد جعلها هدياً لبيت اللّه الحرام فلا يتعرّض لها .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } .
الحكم التّكليفيّ :
2 - يجب على المسلمين إقامة شعائر الإسلام الظّاهرة ، وإظهارها ، فرضاً كانت الشّعيرة أم غير فرض .
وعلى هذا إن اتّفق أهل محلّة أو بلد أو قرية من المسلمين على ترك شعيرة من شعائر الإسلام الظّاهرة قوتلوا ، فرضاً كانت الشّعيرة أو سنّةً مؤكّدةً ، كالجماعة في الصّلاة المفروضة والأذان لها . وصلاة العيدين وغير ذلك من شعائر الإسلام الظّاهرة .
لأنّ ترك شعائر اللّه يدلّ على التّهاون في طاعة اللّه ، واتّباع أوامره .
هذا ومن شعائر الإسلام مناسك الحجّ كالإحرام والطّواف والسّعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ومنىً وذبح الهدي وغير ذلك من أعمال الحجّ الظّاهرة ، ومن الشّعائر في غير الحجّ : الأذان ، والإقامة ، وصلاة الجماعة ، والجمعة والعيدين ، والجهاد وغير ذلك .
وتنظر أحكام كلّ منها في مصطلحه من الموسوعة .(/1)
شَعِير *
التّعريف :
1 - الشّعير جنس من الحبوب معروف واحدته شعيرة ، وهو نبات عشبيّ حبّيّ دون البرّ في الغذاء .
الأحكام الّتي تتعلّق بالشّعير :
وردت أحكام الشّعير في مواضع مختلفة منها :
الزّكاة :
2 - فالشّعير من الحبوب الّتي تجب فيها الزّكاة إذا بلغت النّصاب بإجماع الفقهاء لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } . الآية .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : » لا تأخذوا الصّدقة إلاّ من هذه الأربعة : الشّعير والحنطة والزّبيب والتّمر « .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : » فيما سقت السّماء والعيون أو كان عثريّاً العشر وما سقي بالنّضح نصف العشر « .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يضمّ الشّعير إلى غيره كالقمح والسّلت لأنّها أجناس ثلاثة مختلفة . وذهب الحنابلة إلى أنّ الشّعير يضمّ إلى السّلت ، فهما عندهم صنفان من جنس واحد ولا يضمّ إلى القمح .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الشّعير والسّلت والقمح أصناف من جنس واحد يضمّ بعضه إلى بعض لتكميل النّصاب .
ولا ترد هذه المسألة عند أبي حنيفة لأنّه لا يشترط النّصاب في الخارج من الأرض لوجوب الزّكاة، بل تجب الزّكاة عنده في القليل والكثير .
راجع التّفاصيل في مصطلح : ( زكاة ف 102 ) .
زكاة الفطر :
3 - أجمع الفقهاء على أنّ الشّعير من الحبوب الّتي يجوز أن تؤدّى منها زكاة الفطر وأنّ المجزئ منه هو صاع لقول ابن عمر رضي الله عنهما : » فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحرّ والذّكر والأنثى والصّغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة « .
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : » كنّا نعطيها - أي زكاة الفطر - في زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام ، أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من زبيب « . الحديث .
راجع التّفصيل في مصطلح : ( زكاة الفطر ) .
في البيع :
4 - لا يدخل في مطلق بيع الأرض ما هو مزروع فيها من الشّعير والحنطة وسائر الزّروع وكلّ ما يؤخذ بقلع أو قطع دفعةً واحدةً ، لأنّه ليس للدّوام فأشبه منقولات الدّار .
التّفاصيل في مصطلح : ( بيع ) .
في الرّبا :
5 - أجمع الفقهاء على أنّ الشّعير من الأموال الرّبويّة الّتي يحرم بيعها بمثلها إلاّ بشرط الحلول والمماثلة والتّقابض قبل التّفرّق .
وإذا بيعت بجنس آخر كالتّمر مثلاً جاز التّفاضل ، واشترط الحلول والتّقابض قبل التّفرّق لقوله صلى الله عليه وسلم : » الذّهب بالذّهب مثلاً بمثل ، والفضّة بالفضّة مثلاً بمثل ، والتّمر بالتّمر مثلاً بمثل ، والبرّ بالبرّ مثلاً بمثل والملح بالملح مثلاً بمثل ، والشّعير بالشّعير مثلاً بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيد ، وبيعوا البرّ بالتّمر كيف شئتم يداً بيد ، وبيعوا الشّعير بالتّمر كيف شئتم يداً بيد « .
وقوله صلى الله عليه وسلم : » الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد « .(/1)
شَعْر وصُوف ووَبَر *
التّعريف :
1 - الشّعر لغةً : نبتة الجسم ممّا ليس بصوف ولا وبر للإنسان وغيره ، وفي المعجم الوسيط الشّعر زوائد خيطيّة تظهر على جلد الإنسان وغيره من الثّدييّات ويقابله الرّيش في الطّيور والخراشيف في الزّواحف ، والقشور في الأسماك ، وجمعه أشعار وشعور .
ويقال : رجل أشعر وشعر وشعرانيّ إذا كان كثير شعر الرّأس والجسد .
والصّوف ما يكون للضّأن وما أشبهه أخصّ منه ، والصّوف للضّأن ، كالشّعر للمعز ، والوبر للإبل .
والوبر ما ينبت على جلود الإبل والأرانب ونحوها ، والجمع أوبار ، ويقال جمل وبر وأوبر إذا كان كثير الوبر ، والنّاقة وبرة ووبراء .
والرّيش ما يكون على أجسام الطّيور وأجنحتها . وقد يخصّ الجناح من بين سائره .
والفرو : جلود بعض الحيوان كالدّببة والثّعالب تدبغ ويتّخذ منها ملابس للدّفء وللزّينة وجمعه فراء .
حكم شعر الإنسان :
2 - شعر الإنسان طاهر حيّاً أو ميّتاً ، سواء أكان الشّعر متّصلاً أم منفصلاً ، واستدلّوا لطهارته بأنّ :» النّبيّ صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين النّاس « .
واتّفق الفقهاء على عدم جواز الانتفاع بشعر الآدميّ بيعاً واستعمالاً ، لأنّ الآدميّ مكرّم لقوله سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } .
فلا يجوز أن يكون شيء من أجزائه مهاناً مبتذلاً .
شعر الحيوان الميّت :
3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى طهارة شعر الميتة إذا كانت طاهرةً حال الحياة . وانفرد المالكيّة بالقول بطهارة شعر الخنزير لأنّه طاهر حال الحياة ، وهذا إذا جزّ جزّاً ولم ينتف. فإن نتف فإنّ أصوله نجسة ، وأعلاه طاهر .
واستدلّوا بقوله سبحانه وتعالى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } . والآية سيقت للامتنان ، فالظّاهر شمولها الموت والحياة .
وبحديث ميمونة - رضي الله عنها - : » أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة حين مرّ بها : إنّما حرم أكلها « . وفي لفظ : » إنّما حرم عليكم لحمها ورخّص لكم في مسكها « أي جلدها .
واستدلّوا من المعقول بأنّ المعهود في الميتة حال الحياة الطّهارة ، وإنّما يؤثّر الموت النّجاسة فيما تحلّه الحياة ، والشّعور لا تحلّها الحياة . فلا يحلّها الموت ، وإذا لم يحلّها وجب الحكم ببقاء الوصف الشّرعيّ المعهود لعدم المزيل .
فالأصل في طهارة شعر الميتة أنّ ما لا تحلّه الحياة - لأنّه لا يحسّ ولا يتألّم - لا تلحقه النّجاسة بالموت .
وذهب الشّافعيّة إلى نجاسة شعر الميتة إلاّ ما يطهر جلده بالدّباغ ودبغ ، وكذلك الشّعر المنفصل من الحيوان غير المأكول وهو حيّ .
واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } . وهو عامّ في الشّعر وغيره . والميتة اسم لما فارقته الرّوح بجميع أجزائه بدون تذكية شرعيّة ، وهذه الآية خاصّة في تحريم الميتة وعامّة في الشّعر وغيره ، وهي راجحة في دلالتها على الآية الأولى وهو قوله تعالى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } . لأنّ قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ورد لبيان المحرّمات والآية الأولى وردت للامتنان .
واستدلّوا من المعقول بأنّ كلّ حيوان ينجس بالموت ينجس شعره وصوفه .
شعر الميت :
أوّلاً : شعر رأس الرّجل الميت :
4 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى عدم جواز حلق شعر رأس الميت ولا تسريحه ، لأنّ حلق الشّعر يكون للزّينة أو للنّسك والميت لا نسك عليه ولا يزيّن .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنّها مرّت بقوم يسرّحون شعر ميت فنهتهم عن ذلك وقالت : علام تنصّون ميّتكم . أي : لا تسرّحوا رأسه بالمشط ، لأنّه يقطع الشّعر وينتفه ، وعبّرت بتنصّون وهو الأخذ بالنّاصية ، أي منها ، تنفيراً عنه ويدلّ لعدم الجواز القياس على الختان حيث يختن الحيّ ولا يختن الميّت .
وذهب الشّافعيّة في المختار والمالكيّة إلى جواز حلق شعر رأس الميت مع الكراهة وقيّد الشّافعيّة في المشهور عندهم الجواز بما إذا كان من عادة الميّت حلقه أمّا إذا كان لا يعتاد ذلك بأن كان ذا جمّة فلا يحلق بلا خلاف عندهم ، واستدلّوا لما ذهبوا إليه بأنّ الشّعر من أجزاء الميّت ، وأجزاؤه محترمة ، فلا تنتهك بهذا ، ولم يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة في هذا شيء فكره فعله .
وللشّافعيّة قولان آخران :
الأوّل : أنّه لا يكره ولا يستحبّ ، والثّاني : أنّه يستحبّ ، وفي اللّحية والشّارب تفصيل ينظر في ( شارب ، ولحية ) .
ثانياً : شعر رأس المرأة الميّتة :
5 - اتّفق جمهور الفقهاء على استحباب ضفر شعر المرأة ثلاث ضفائر ، قرنيها وناصيتها ، ويسدل خلفها عند الجمهور ، وعند الحنفيّة يجعل على صدرها ويجعل ضفيرتين فوق القميص تحت اللّفافة ، لأنّه في حال حياتها يجعل وراء ظهرها للزّينة ، وبعد الموت ربّما انتشر الكفن ، فيجعل على صدرها .
ودليل استحباب ضفر شعر المرأة ما روت أمّ عطيّة - رضي الله عنها - » أنّهنّ جعلن رأس بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون ، نقضنه ثمّ غسلنه ثمّ جعلنه ثلاثة قرون « ، وورد في رواية أخرى : » أنّهنّ ألقينها خلفها « .
والأصل أن لا يفعل في الميّت شيء من جنس القرب إلاّ بإذن من الشّرع محقّق ، فالظّاهر إطلاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ما فعلت وتقريره له .
وجاء في رواية : » اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك « .
ثالثاً : شعر سائر البدن من الميّت كاللّحية والشّارب وشعر الإبط والعانة :(/1)
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في المختار إلى كراهة حلق غير ما يحرم حلقه حال الحياة . وللشّافعيّة قولان آخران :
الأوّل : أنّه لا يكره ولا يستحبّ ، والثّاني : أنّه يستحبّ . ودليل الكراهة ما تقدّم في كراهة حلق شعر الرّأس .
وذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ هذه الشّعور إذا أزيلت أنّها تصرّ وتضمّ مع الميّت في كفنه ويدفن .
وللشّافعيّة في قول آخر : أنّ المستحبّ أن لا تدفن معه بل توارى في الأرض في غير القبر . وذهب الحنابلة إلى تحريم حلق اللّحية وكذا تحريم حلق شعر العانة من الميّت لما فيه من لمس العورة وربّما احتاج إلى نظرها ، والنّظر محرّم فلا يرتكب من أجل مندوب ، ويسنّ أخذ شعر الإبط وقصّ الشّارب .
مسح الشّعر في الوضوء :
7 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى وجوب مسح جميع شعر الرّأس في الوضوء وحده من منابت الشّعر المعتاد من المقدّم إلى نقرة القفا مع مسح شعر صدغيه فما فوق العظم النّاشئ من الوجه. وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الواجب أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح ولو قلّ فلا يتقدّر وجوبه بشيء بل يكفي فيه ما يمكن .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المفروض في المسح هو مسح مقدار النّاصية وهو ربع الرّأس لما روى المغيرة بن شعبة : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ ومسح على ناصيته وخفّيه « . وتفصيل ذلك وبيان الأدلّة ينظر في مصطلح ( وضوء ) .
نقض الوضوء بلمس الشّعر :
8 - ذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّ الوضوء لا ينقض بلمس الشّعر ، لأنّه لا يقصد ذلك للشّهوة غالباً ، وإنّما تحصل اللّذّة وتثور الشّهوة عند التقاء البشرتين للإحساس .
ويستحبّ أن يتوضّأ من لمس الشّعر والسّنّ والظّفر وفي قول عند الشّافعيّة مقابل الأصحّ : ينتقض وضوء الرّجل بلمس شعر المرأة لأنّ الشّعر له حكم البدن في الحلّ بالنّكاح ووجوب غسله بالجنابة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الوضوء ينتقض بلمس الشّعر لمن يلتذّ به إن قصد اللّذّة من ذكر أو أنثى . ولا ينتقض الوضوء إذا كان اللّمس بحائل خفيف أو كثيف .
وذهب الحنفيّة إلى عدم نقص الوضوء بلمس الشّعر بناءً على أصلهم في عدم النّقض بالمسّ مطلقاً ما لم ينزل .
غسل شعر الرّأس من الجناية :
9 - اتّفق الفقهاء على وجوب تعميم شعر الرّأس بالماء ظاهره وباطنه للذّكر والأنثى مسترسلاً كان أو غيره .
لقوله صلى الله عليه وسلم : » إنّ تحت كلّ شعرة جنابةً فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشر « .
وعن عليّ - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النّار « قال عليّ : فمن ثمّ عاديت رأسي ، وكان يجزّ شعره .
واختلف الفقهاء في حكم نقض ضفائر المرأة في الغسل :
فذهب الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو قول بعض الحنابلة : إلى أنّه لا يجب على المرأة نقض الضّفر إن كان الماء يصل إلى أصول شعرها من غير نقض ، فإن لم يصل إلاّ بالنّقض لزمها نقضه ، وسواء في ذلك غسل الجنابة وغسل الحيض والنّفاس .
واستدلّوا بما جاء في بعض ألفاظ حديث أمّ سلمة أنّها قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّي امرأة أشدّ ضفر رأسي ، أفأنقضه للحيض وللجنابة ؟ قال : » لا . إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثمّ تفيضين عليك الماء فتطهرين « .
وهو صريح في نفي الوجوب وقد أخرج مسلم في صحيحه حديث أمّ سلمة - بثلاثة ألفاظ : إفراد ذكر الجنابة وإفراد ذكر الحيض ، والجمع بينهما .
وحمل الجمهور هذه الأحاديث على وصول الماء إلى أصول الشّعر بدليل ما ثبت من وجوب إيصال الماء إلى أصول الشّعر والبشرة جمعاً بين الأدلّة .
وذهب الحنابلة إلى وجوب نقض المرأة شعرها في غسل الحيض والنّفاس . ولا يجب في غسل الجنابة إذا روت أصول شعرها ، ولم يكن مشدوداً بخيوط كثيرة تمنع وصول الماء إلى البشرة أو إلى باطن الشّعر ، والنّقض مطلقاً مستحبّ عن بعض الحنابلة .
واستدلّ الحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها : » إذا كنت حائضاً خذي ماءك وسدرك وامتشطي « . ولا يكون المشط إلاّ في شعر غير مضفور . وللبخاريّ : » انفضي شعرك وامتشطي « .
وعند ابن ماجه : » انفضي شعرك واغتسلي « لأنّ الأصل وجوب نقض الشّعر لتحقّق وصول الماء إلى ما يجب غسله وعفي عنه في غسل الجنابة لأنّه يكثر فيشقّ نقض الشّعر .
حلق شعر المولود :
10 - ذهب الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى استحباب حلق شعر رأس المولود يوم السّابع ، والتّصدّق بزنة شعره ذهباً أو فضّةً عند المالكيّة والشّافعيّة ، وفضّةً عند الحنابلة . وإن لم يحلق تحرّى وتصدّق به . ويكون الحلق بعد ذبح العقيقة .
كما ورد : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة لمّا ولدت الحسن : احلقي رأسه وتصدّقي بزنة شعره فضّةً على المساكين والأوفاض « .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ حلق شعر المولود مباح ، ليس بسنّة ولا واجب ، وذلك على أصلهم في أنّ العقيقة مباحة ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال : » لا يحبّ اللّه العقوق . من أحبّ أن ينسك عن ولده فلينسك عنه عن الغلام شاتين مكافأتاه وعن الجارية شاةً « وهذا ينفي كون العقيقة سنّةً لأنّه صلى الله عليه وسلم علّق العقّ بالمشيئة وهذا أمارة الإباحة . وفي قول للحنفيّة أنّها مكروهة لأنّها نسخت بالأضحيّة ، لأنّ العقيقة كانت من الفضائل فعلها المسلمون في أوّل الإسلام فنسخت بالأضحيّة ، فمتى نسخ الفضل لا يبقى إلاّ الكراهة .
النّظر إلى شعر المرأة الأجنبيّة :(/2)
11 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز النّظر إلى شعر المرأة الأجنبيّة ، كما لا يجوز لها إبداؤه للأجانب عنها .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى القول بعدم جواز النّظر إليه وإن كان منفصلاً .
بيع الشّعر والصّوف :
12 - ذهب الجمهور - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى عدم جواز بيع الصّوف على ظهر الغنم ، لحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - : » نهي أن تباع ثمرة حتّى تطعم ولا صوف على ظهر ولا لبن في ضرع « .
ولأنّ الصّوف متّصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع كأعضائه، ولأنّ الصّوف على الظّهر قبل الجزّ ليس بمال متقوّم في نفسه لأنّه بمنزلة وصف الحيوان لقيامه به كسائر أوصافه . وهو غير مقصود من الشّاة فلا يفرد بالبيع ، ولأنّه ينبت من أسفل ساعةً فساعةً فيختلط المبيع بغيره بحيث يتعذّر التّمييز .
وذهب المالكيّة إلى جواز بيع الصّوف على ظهر الغنم بالجزز تحرّياً ، وبالوزن مع رؤية الغنم على أن لا يتأخّر الجزّ أكثر من نصف شهر .
السّلم في الصّوف :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز بيع الصّوف سلماً بالوزن لا بالجزز وذلك لاختلاف الجزز بالصّغر والكبر - عند المالكيّة - ويجب بيان نوع الصّوف وأصله من ذكر أو أنثى لأنّ صوف الإناث أنعم ، ويذكر لونه ووقته هل هو خريفيّ أو ربيعيّ ، وطوله وقصره ووزنه ولا يقبل إلاّ منقّىً من الشّعر ونحوه ، كالشّوك ويجوز اشتراط غسله .
وصل الشّعر :
14 - يحرم وصل شعر المرأة بشعر نجس أو بشعر آدميّ . سواء في ذلك المزوّجة وغيرها وسواء بإذن الزّوج أو بغير إذنه . وللحنفيّة قول بالكراهة .
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : » لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة «. واللّعنة على الشّيء تدلّ على تحريمه ، وعلّة التّحريم ما فيه من التّدليس والتّلبيس بتغيّر خلق اللّه .
والواصلة الّتي تصل شعرها بشعر من امرأة أخرى والّتي يوصل شعرها بشعر آخر زوراً ، والمستوصلة الّتي يوصل لها ذلك بطلبها . لحرمة الانتفاع بشعر الآدميّ لكرامته ، والأصل أن يدفن شعره إذا انفصل .
أمّا إذا كان الوصل بغير شعر الآدميّ وهو طاهر :
فذهب الشّافعيّة على الصّحيح إلى حرمة الوصل إن لم تكن ذات زوج وعلى القول الثّاني يكره . أمّا إن كانت ذات زوج فثلاثة أوجه :
أصحّها : إن وصلت بإذنه جاز وإلاّ حرم .
الثّاني : يحرم مطلقاً .
الثّالث : لا يحرم ولا يكره مطلقاً .
وذهب الحنفيّة وهو المنقول عن أبي يوسف إلى أنّه يرخّص للمرأة في غير شعر الآدميّ تتّخذه لتزيد قرونها .
واستدلّوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : ليست الواصلة بالّتي تعنون ، ولا بأس أن تعرى المرأة عن الشّعر فتصل قرناً من قرونها بصوف أسود وإنّما الواصلة الّتي تكون بغيّاً في شبيبتها فإذا أسنّت وصلتها بالقيادة .
وذهب المالكيّة إلى عدم التّفريق في التّحريم بين الوصل بالشّعر وبغيره .
ويرى الحنابلة تحريم وصل الشّعر بشعر سواء كان شعر آدميّ أو شعر غيره . وسواء كان بإذن الزّوج أو من غير إذنه . قالوا ولا بأس بما تشدّ به المرأة شعرها أي من غير الشّعر للحاجة ، وفي رواية : لا تصل المرأة برأسها الشّعر ولا القرامل ولا الصّوف .
عقص الشّعر :
15 - اتّفق الفقهاء على كراهة عقص الشّعر في الصّلاة .
والعقص هو شدّ ضفيرة الشّعر حول الرّأس كما تفعله النّساء أو يجمع الشّعر فيعقد في مؤخّرة الرّأس .
وهو مكروه كراهة تنزيه . فلو صلّى كذلك فصلاته صحيحة ، حكى ابن المنذر وجوب الإعادة فيه عن الحسن البصريّ .
ودليل الكراهة ما رواه مسلم من حديث ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه رأى عبد اللّه بن الحارث يصلّي ورأسه معقوص من ورائه فقام وجعل يحلّه ، فلمّا انصرف أقبل إلى ابن عبّاس فقال : مالك ورأسي ؟ فقال : إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : » إنّما مثل هذا مثل الّذي يصلّي وهو مكتوف « وفي حديث آخر : » ذاك كفل الشّيطان « .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : » أمرت أن أسجد على سبعة أعظم .. ولا نكفت الثّياب والشّعر «. والحكمة في النّهي عنه ، أنّ الشّعر يسجد مع المصلّي ولهذا مثّله في الحديث بالّذي يصلّي وهو مكتوف .
والجمهور على أنّ النّهي شامل لكلّ من صلّى كذلك ، سواء تعمّده للصّلاة أم كان كذلك قبل الصّلاة وفعلها لمعنىً آخر وصلّى على حاله بغير ضرورة .
ويدلّ له إطلاق الأحاديث الصّحيحة وهو ظاهر المنقول عن الصّحابة ، وقال مالك : النّهي مختصّ بمن فعل ذلك للصّلاة .
وينظر بقيّة الأحكام المتعلّقة بالشّعر في المصطلحات الآتية : ( إحرام ، وترجيل ، وتنمّص ، وإحداد ، واختضاب ، وتسويد ، حلق ، وديات ) .
العناية بشعر الإنسان الحيّ :
16 - يستحبّ ترجيل الشّعر لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : » من كان له شعر فليكرمه « .
ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّرجيل فقد روت عائشة رضي الله عنها : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصغي إليّ رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجّله وأنا حائض «. ويستحبّ التّيامن في التّرجيل ، ويسنّ الإغباب فيه ، والإكثار منه مكروه .
كما يستحبّ دهن الشّعر غبّاً وهو أن يدهن ثمّ يترك حتّى يجفّ الدّهن ثمّ يدهن ثانياً ، وقيل يدهن يوماً ويوماً لا .
وللتّفصيل انظر مصطلحات : ( إدهان ، وامتشاط ، وترجيل ) .
حكم شعر الحيوان الحيّ :
17 - شعر الحيوان الحيّ إمّا أن يكون من مأكول اللّحم أو غير مأكول اللّحم ، وفي كلّ حالة إمّا أن يكون متّصلاً به أو منفصلاً عنه .(/3)
18 - أمّا شعر الحيوان المأكول اللّحم المتّصل به إذا أخذ منه وهو حيّ فقد اتّفق الفقهاء على طهارته ، ومثله الصّوف والوبر لقوله تعالى : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } والآية سيقت للامتنان وهي عامّة في المتّصل والمنفصل ويأتي الخلاف في شمولها بشعر الحيوان الميّت .
وأجمعت الأمّة على طهارة شعر الحيوان المأكول اللّحم إذا جزّ منه وهو حيّ لمسيس الحاجة إليه في الملابس والمفارش لأنّه ليس في شعر المذكّيات كفاية لحاجة النّاس .
أمّا شعر الحيوان المأكول اللّحم المنفصل عنه في الحياة :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى طهارته إذا جزّ جزّاً . أمّا إذا نتف فأصوله الّتي فيها الدّسومة نجسة، والأصل عندهم أنّ ما أبين من حيّ فهو ميّت إلاّ إذا كان لا تحلّه الحياة كالشّعر والصّوف والوبر فهو طاهر .
واشترط المالكيّة أن يجزّ جزّاً بخلاف ما نتف نتفاً فإنّ أصوله تكون نجسةً .
وذهب الشّافعيّة إلى طهارته إذا جزّ واستدلّوا بالآية والإجماع المتقدّمين .
قال إمام الحرمين وغيره : وكان القياس نجاسته كسائر أجزاء الحيوان المنفصلة في الحياة ولكن أجمعت الأمّة على طهارتها .
أمّا إذا انفصل شعر الحيوان المأكول اللّحم في حياته بنفسه أو نتف ففيه أوجه :
الصّحيح منها أنّه طاهر لأنّه في معنى الجزّ ، وإن كان مكروهاً ، والجزّ في الشّعر كالذّبح ، في الحيوان ولو ذبح الحيوان لم ينجس ، فكذلك إذا جزّ شعره .
والثّاني : إنّه نجس سواء انفصل بنفسه أو بنتف لأنّ ما أبين من حيّ فهو ميّت .
ودليل هذه القاعدة : حديث أبي واقد اللّيثيّ رضي الله عنه قال : قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم . المدينة وهم يجبّون أسنمة الإبل ويقطعون أليات الغنم ، فقال : » ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهو ميتة « .
غير أنّ الشّافعيّة استثنوا الشّعر للإجماع على طهارته لحاجة النّاس إليه وقصر الحنفيّة والمالكيّة الحديث على ما تحلّه الحياة ولذا استثنوا الشّعر .
وعند الحنابلة على المذهب أنّ شعر كلّ حيوان كبقيّة أجزائه ما كان طاهراً فشعره طاهر ، وما كان نجساً فشعره نجس ، لا فرق بين حالة الحياة وحالة الموت .
وفي رواية أنّه نجس ، وفي أخرى طاهر .
19 - أمّا شعر الحيوان غير مأكول اللّحم المتّصل به فاتّفق الفقهاء على طهارته ، واستثنى الحنفيّة الخنزير واستثنى الشّافعيّة والحنابلة الخنزير والكلب لأنّ عينهما نجسة .
أمّا المالكيّة فذهبوا إلى طهارة الكلب والخنزير لأنّ الأصل عندهم أنّ كلّ حيّ طاهر .
أمّا شعر المنفصل عنه ، فعند الحنفيّة والمالكيّة هو طاهر بناءً على ما تقدّم من أنّ ما أبين من حيّ فهو ميّت ، إلاّ ما لا تحلّه الحياة كالشّعر . ويستثنى من ذلك ما كان نجس العين كالخنزير عند الحنفيّة .
أمّا المالكيّة فهو طاهر عندهم إذا جزّ ، لا إذا نتف .
ينظر في تفصيل أحكام شعر الخنزير مصطلح : ( خنزير ف 7 ) .
وذهب الشّافعيّة إلى نجاسته لأنّ ما أبين من حيّ فهو ميّت .
وعند الحنابلة على المذهب أنّ حكمه حكم بقيّة أجزائه ، فما كان طاهراً فشعره طاهر وما كان نجساً فشعره نجس .
وفي رواية عن أحمد اختارها ابن تيميّة أنّ شعر الكلب والخنزير وما تولّد منهما طاهر .(/4)
شَكّ *
تعريفه :
1 - الشّكّ لغةً : نقيض اليقين وجمعه شكوك . يقال شكّ في الأمر وتشكّك إذا تردّد فيه بين شيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر .
قال اللّه تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } أي غير مستيقن ، وهو يعمّ حالتي الاستواء والرّجحان .
وفي الحديث الشّريف : » نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم « قيل : إنّ مناسبته ترجع إلى وقت نزول قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } . حيث قال قوم - إذ ذاك - شكّ إبراهيم ولم يشكّ نبيّنا ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه - : » نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم « أي أنا لم أشكّ مع أنّني دونه فكيف يشكّ هو ؟ .
والشّكّ في اصطلاح الفقهاء : استعمل في حالتي الاستواء والرّجحان على النّحو الّذي استعملت فيه هذه الكلمة لغةً فقالوا : من شكّ في الصّلاة ، ومن شكّ في الطّلاق ، أي من لم يستيقن ، بقطع النّظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما . ومع هذا فقد فرّقوا بين الحالتين في جزئيّات كثيرة .
والشّكّ في اصطلاح الأصوليّين : هو استواء الطّرفين المتقابلين لوجود أمارتين متكافئتين في الطّرفين أو لعدم الأمارة فيهما .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اليقين :
2 - اليقين مصدر يقن الأمر ييقن إذا ثبت ووضح ، ويستعمل متعدّياً بنفسه وبالياء ، ويطلق - لغةً - على العلم الحاصل عن نظر واستدلال ولهذا لا يسمّى علم اللّه يقيناً .
وهو عند علماء الأصول : الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثّابت . فاليقين ضدّ الشّكّ . فيقال شكّ وتيقّن ولا يقال شكّ وعلم لأنّ العلم اعتقاد الشّيء على ما هو به على سبيل الثّقة .
ب - الاشتباه :
3 - الاشتباه هو مصدر اشتبه ، يقال : اشتبه الشّيئان وتشابها ، إذا أشبه كلّ واحد منهما الآخر، كما يقال : اشتبه عليه الأمر أي اختلط والتبس لسبب من الأسباب أهمّها الشّكّ ، فالعلاقة بينهما - إذاً - سببيّة حيث يعدّ الشّكّ سبباً هامّاً من أسباب الاشتباه .
كما قد يكون الاشتباه سبباً للشّكّ .
ج - الظّنّ :
4 - الظّنّ مصدر ظنّ من باب قتل وهو خلاف اليقين ، ويطلق عند الأصوليّين على الطّرف الرّاجح من الطّرفين .
وقد يستعمل مجازاً بمعنى اليقين كقوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ } .
وقد تقدّم أنّ الفقهاء لا يفرّقون غالباً بين الظّنّ والشّكّ .
د - الوهم :
5 - الوهم مصدر وهم وهو عند الأصوليّين طرف المرجوح من طرفي الشّكّ .
وهو ما عبّر عنه الحمويّ - نقلاً عن متأخّري الأصوليّين - حيث قال : الوهم تجويز أمرين أحدهما أضعف من الآخر .
والمتأكّد أنّه لا يرتقي لإحداث اشتباه إذ " لا عبرة للتّوهّم " . وبناءً على ذلك ذكر الفقهاء أنّه لا يثبت حكم شرعيّ استناداً على وهم ، ولا يجوز تأخير الشّيء الثّابت بصورة قطعيّة بوهم طارئ.
أقسام الشّكّ باعتبار حكم الأصل الّذي طرأ عليه :
6 - ينقسم الشّكّ - إجمالاً - بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : شكّ طرأ على أصل حرام مثل أن يجد المسلم شاةً مذبوحةً في بلد يقطنه مسلمون ومجوس فلا يحلّ له الأكل منها حتّى يعلم أنّها ذكاة مسلم ، لأنّ الأصل فيها الحرمة ووقع الشّكّ في الذّكاة المطلوبة شرعاً ، فلو كان معظم سكّان البلد مسلمين جاز الإقدام عليها والأكل منها عملاً بالغالب المفيد للحلّيّة .
القسم الثّاني : شكّ طرأ على أصل مباح كما لو وجد المسلم ماءً متغيّراً فله أن يتطهّر منه مع احتمال أن يكون تغيّر بنجاسة ، أو طول مكث ، أو كثرة ورود السّباع عليه ونحو ذلك استناداً إلى أنّ الأصل طهارة المياه . مع العلم أنّ اللّه تعالى لم يكلّف المؤمنين تجشّم البحث للكشف عن طهارته أو نجاسته تيسيراً عليهم ، حيث ورد في الأثر أنّ عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حتّى وردوا حوضاً فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السّباع ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ، فإنّا نرد على السّباع ، وترد علينا .
وفيه أيضاً : أنّ عمر بن الخطّاب نفسه كان مارّاً مع صاحب له فسقط عليهما شيء من ميزاب ، فقال صاحبه : يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس ؟ فقال عمر : يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ، ومضى .
فإن اشتبه عليه ماء طاهر وماء نجس تحرّى ، فما أدّاه اجتهاده إلى طهارته توضّأ به .
القسم الثّالث : شكّ لا يعرف أصله مثل التّعامل مع شخص أكثر ماله حرام دون تمييز لهذا من ذاك لاختلاط النّوعين معاً اختلاطاً يصعب تحديده ، فمثل هذا الشّخص لا تحرم مبايعته ولا التّعامل معه لإمكان أن يكون المقابل حلالاً طيّباً ، ولكن رغم هذا الاحتمال فقد نصّ الفقهاء على كراهة التّعامل معه خوفاً من الوقوع في الحرام .
كما نصّوا على أنّ " المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا يستحبّ تركه بل يستحبّ فعله احتياطاً " .
أقسام الشّكّ بحسب الإجماع على اعتباره وإلغائه :
7 - ذكر القرافيّ أنّ الشّكّ بهذا الاعتبار ينقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : مجمع على اعتباره كالشّكّ في المذكّاة والميتة ، فالحكم تحريمهما معاً .
القسم الثّاني : مجمع على إلغائه ، كمن شكّ هل طلّق أم لا ؟ فلا شيء عليه ، وشكّه يعتبر لغواً. القسم الثّالث : اختلف العلماء في جعله سبباً ، كمن شك هل أحدث أم لا ؟ فقد اعتبره مالك دون الشّافعيّ .(/1)
ومن شكّ هل طلّق ثلاثاً أم اثنتين ؟ ألزمه مالك الطّلقة المشكوك فيها خلافاً للشّافعيّ وسيأتي تفصيله .
الشّكّ لا يزيل اليقين ، أو " اليقين لا يزول بالشّكّ " أو " لا شكّ مع اليقين " :
8 - هذه القاعدة - على اختلاف تراكيبها - من أمّهات القواعد الّتي عليها مدار الأحكام الفقهيّة وقد قيل : إنّها تدخل في جميع أبواب الفقه ، والمسائل المخرّجة عنها من عبادات ومعاملات تبلغ ثلاثة أرباع علم الفقه .
الشّكّ في الميراث :
9 - الميراث استحقاق وكلّ استحقاق لا يثبت إلاّ بثبوت أسبابه وتوفّر شروطه وانتفاء موانعه ، وهذه لا تثبت إلاّ بيقين ، فلا يتصوّر مثلاً ثبوت الاستحقاق بالشّكّ في طريقه وبالتّالي لا يتصوّر ثبوت الميراث بالشّكّ .
الشّكّ في الأركان :
10 - أركان الشّيء هي أجزاء ماهيّته الّتي يتكوّن منها ، وهي الّتي تتوقّف صحّتها على توفّر شروطها .
وأركان أيّ عبادة من العبادات يراد بها فرائضها الّتي لا بدّ منها إذ لا فرق بين الرّكن والفرض إلاّ في الحجّ حيث تتميّز الأركان فيه على الواجبات والفروض بعدم جبرها بالدّم .
فمن شكّ في ركن من أركان العبادة أو في فرض من فرائضها ، هل أتى به أم لا ؟ فإنّه يبني على اليقين المحقّق عنده ، ويأتي بما شكّ فيه ، ويسجد بعد السّلام سجدتين لاحتمال أن يكون قد فعل ما شكّ فيه ، فيكون ما أتى به بعد ذلك محض زيادة ، وقال ابن لبابة : يسجد قبل السّلام ، وفي غلبة الظّنّ هنا قولان داخل المذهب المالكيّ : منهم من اعتبرها كالشّكّ ومنهم من اعتبرها كاليقين .
وفيما تقدّم يقول الشّيخ ابن عاشر - صاحب المرشد المعين - :
من شكّ في ركن بنى على اليقين
وليسجدوا البعديّ لكن قد يبين .
قال الشّيخ محمّد بن أحمد ميّارة : ويقيّد كلام صاحب هذا النّظم بغير الموسوس أو كالمستنكح لأنّ هذا لا يعتدّ بما شكّ فيه ، وشكّه كالعدم ويسجد بعد السّلام ، فإذا شكّ هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً بنى على الأربع وسجد بعد السّلام .
وإجمالاً فإنّ الشّكّ على قسمين :
مستنكح : أي يعتري صاحبه كثيراً وهو كالعدم لكنّه يسجد له بعد السّلام ، وغير مستنكح : وهو الّذي يأتي بعد مدّة وحكمه وجوب البناء على اليقين ، وأنّ السّهو أيضاً على قسمين : مستنكح وغير مستنكح .
راجع مصطلح : ( سهو ) من الموسوعة الفقهيّة .
وإنّ من شكّ في جلوسه هل كان في الشّفع أو في الوتر ؟ فإنّ المنصوص لمالك أنّه يسلّم ويسجد لسهوه ، ثمّ يوتر بواحدة لاحتمال أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى ركعتي الشّفع من غير سلام فيصير قد صلّى الشّفع ثلاثاً ، ومن هنا طولب بالسّجود بعد السّلام ، وأنّ هذه المسألة – أي مسألة الشّكّ في الرّكن – تتّفق في الحكم مع مسألة التّحقّق من الإخلال بركن ففي الأولى يلغى الشّكّ ويبنى على اليقين مع السّجود بعد السّلام ، وفي الثّانية يجبر الرّكن ويقع السّجود بعد السّلام .
وإنّ الّذي يجمع هذا كلّه هو قولهم : الشّكّ في النّقصان كتحقّقه . ولذلك قال الونشريسيّ في شرح هذه القاعدة : ومن ثمّ لو شكّ أصلّى ثلاثاً أم أربعاً ؟ أتى برابعة أو شكّ في بعض أشواط الطّواف أو السّعي أو شكّ هل أتى بالثّالثة أم لا ؟ بنى في جميع ذلك على اليقين .
وتتمّم هذه القاعدة قاعدة أخرى نصّها : الشّكّ في الزّيادة كتحقّقها . كالشّكّ في حصول التّفاضل في عقود الرّبا ، والشّكّ في عدد الطّلاق ونحو ذلك .
الشّكّ في السّبب :
11 - السّبب لغةً : هو الحبل أو الطّريق ثمّ استعير من الحبل ليدلّ على كلّ ما يتوصّل به إلى شيء ، كقوله جلّ ذكره : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } أي العلائق الّتي ظنّوا أنّها ستوصّلهم إلى النّعيم ، ومنه الحديث الشّريف : » وإن كان رزقه في الأسباب « أي في طرق السّماء وأبوابها . وهو - في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين - الأمر الّذي جعله الشّرع أمارةً لوجود الحكم وجعل انتفاءه أمارةً على عدم الحكم .
وبناءً على هذا فإنّ السّبب لا ينعقد إلاّ بجعل المشرّع له كذلك .
وحتّى يكون السّبب واضح التّأثير - بجعل اللّه - ينبغي أن يكون متيقّناً إذ لا تأثير ولا أثر لسبب مشكوك فيه ، وذلك كالشّكّ في أسباب الميراث بأنواعها . فإنّه مانع من حصول الميراث بالفعل إذ لا ميراث مع الشّكّ في سببه كما هو مقرّر . شأنه في ذلك شأن الشّكّ في دخول وقت الظّهر أو وقت العصر ونحوهما من أسباب العبادات .
وقد خصّص القرافيّ فرقاً هامّاً ميّز فيه بين قاعدة الشّكّ في السّبب وبين قاعدة السّبب في الشّكّ، أشار في بدايته إلى أنّ هذا الموضوع قد أشكل أمره على جميع الفضلاء ، وانبنى على عدم تحريره إشكال آخر في مواضع ومسائل كثيرة حتّى خرق بعضهم الإجماع فيها .
والقول الفصل في هذا الموضوع حسب رأي القرافيّ : أنّ الشّارع شرع الأحكام وشرع لها أسباباً وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشّكّ ، فشرعه - حيث شاء - في صور عديدة : فإذا شكّ في الشّاة والميتة حرمتا معاً ، وسبب التّحريم هو الشّكّ ، وإذا شكّ في الأجنبيّة وأخته من الرّضاعة حرمتا معاً ، وسبب التّحريم هو الشّكّ ، وإذا شكّ في عين الصّلاة المنسيّة وجب عليه خمس صلوات ، وسبب وجوب الخمس هو الشّكّ ، وإذا شكّ هل تطهّر أم لا ؟ وجب الوضوء ، وسبب وجوبه هو الشّكّ ، وكذلك بقيّة النّظائر .
فالشّكّ في السّبب غير السّبب في الشّكّ : فالأوّل يمنع التّقرّب ولا يتقرّر معه حكم ، والثّاني لا يمنع التّقرّب وتتقرّر معه الأحكام كما هو الحال في النّظائر السّابقة .(/2)
ولا ندّعي أنّ صاحب الشّرع نصب الشّكّ سبباً في جميع صوره بل في بعض الصّور بحسب ما يدلّ عليه الإجماع أو النّصّ ، وقد يلغي صاحب الشّرع الشّكّ فلا يجعل فيه شيئاً : كمن شكّ هل طلّق أم لا . فلا شيء عليه ، والشّكّ لغو ، ومن شكّ في صلاته هل سها أم لا ؟ فلا شيء عليه والشّكّ لغو . فهذه صور من الشّكّ أجمع النّاس على عدم اعتباره فيها ، كما أجمعوا على اعتباره فيما تقدّم ذكره من تلك الصّور .
وقسم ثالث اختلف العلماء في نصبه سبباً : كمن شكّ هل أحدث أم لا ؟ فقد اعتبره مالك خلافاً للشّافعيّ ، ومن شكّ هل طلّق ثلاثاً أم اثنتين ؟ ألزمه مالك الطّلقة المشكوك فيها خلافاً للشّافعيّ ، ومن حلف يميناً وشكّ ما هي ؟ ألزمه مالك جميع الأيمان .
الشّكّ في الشّرط :
12 - الشَّرَط - بفتحتين - : العلامة والجمع أشراط مثل سبب وأسباب ، ومنه أشراط السّاعة ، أي علاماتها ودلائلها .
والشّرْط - بسكون الرّاء - يجمع على شروط . تقول : شرط عليه شرطاً واشترطت عليه ، بمعنىً واحد عند أهل اللّغة .
أمّا الشّرط عند الفقهاء والأصوليّين : فهو ما جعله الشّارع مكمّلاً لأمر شرعيّ لا يتحقّق إلاّ بوجوده : كالطّهارة ، جعلها اللّه تعالى مكمّلةً للصّلاة فيما يقصد منها من تعظيمه سبحانه وتعالى إذ الوقوف بين يديه تعالى مع الطّهارة الشّاملة للبدن والثّياب والمكان أكمل في معنى الاحترام والتّعظيم ، وبهذا الوضع لا تتحقّق الصّلاة الشّرعيّة إلاّ بها ، فالشّرط بهذا الاعتبار يتوقّف عليه وجود الحكم وهو خارج عن المشروط ، ويلزم من عدمه عدم الحكم ، ولا يلزم من وجوده وجود الحكم ولا عدمه .
والشّكّ في الشّرط مانع من ترتّب المشروط ، وهو كذلك يوجب الشّكّ في المشروط . وبناءً على ذلك وجب الوضوء على من تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث على المشهور عند المالكيّة ، وامتنع القصاص من الأب في قتل ابنه . وامتنع الإرث بالشّكّ في موت المورّث أو حياة الوارث ، وبالشّكّ في انتفاء المانع من الميراث .
الشّكّ في المانع :
13 - المانع لغةً : الحائل .
أمّا المانع في الاصطلاح فقد عرّف بقولهم : هو ما يلزم من أجل وجوده العدم - أي عدم الحكم- ولا يلزم من أجل عدمه وجود ولا عدم . كقتل الوارث لمورّثه عمداً وعدواناً فإنّه يعدّ مانعاً من الميراث ، وإن تحقّق سببه وهو القرابة أو الزّوجيّة أو غيرهما .
فإذا وقع الشّكّ في المانع فهل يؤثّر ذلك في الحكم ؟ انعقد الإجماع على أنّ " الشّكّ في المانع لا أثر له " أي إنّ الشّكّ ملغىً بالإجماع . ومن ثمّ ألغي الشّكّ الحاصل في ارتداد زيد قبل وفاته أم لا؟ وصحّ الإرث منه استصحاباً للأصل الّذي هو الإسلام . كما ألغي الشّكّ في الطّلاق ، بمعنى شكّ الزّوج هل حصل منه الطّلاق أم لا ؟ وقد سبق أنّ الشّكّ هنا لا تأثير له وأنّ الواجب استصحاب العصمة الثّابتة قبل الشّكّ ، لأنّ الشّكّ هنا كان من قبيل الشّكّ في حصول المانع وهو ملغىً وسيأتي التّفريق بين هذه المسألة وبين مسألة الشّكّ في الحدث عند تناول الشّكّ في الطّهارة .
وعلى هذا النّحو أيضاً ألغي الشّكّ في العتاق والظّهار وحرمة الرّضاع وما إليها .
قال الخطّابيّ - في خصوص الرّضاع - : هو من الموانع الّتي يمنع وجودها وجود الحكم ابتداءً وانتهاءً ، فهو يمنع ابتداء النّكاح ويقطع استمراره - إذا طرأ عليه - فإذا وقع الشّكّ في حصوله لم يؤثّر بناءً على قاعدة " الشّكّ ملغىً " وقد يقال : إنّ الأحوط التّنزّه عن ذلك وقد ذكروا أنّه لا ينبغي للشّخص أن يقدم إلاّ على فرج مقطوع بحلّيّته .
الشّكّ في الطّهارة :
14 - أجمع الفقهاء على أنّ من تيقّن الحدث وشكّ في الطّهارة يجبّ عليه الوضوء ، وإعادة الصّلاة إن صلّى لأنّ الذّمّة مشغولة فلا تبرأ إلاّ بيقين ، فإن تيقّن الطّهارة وشكّ في الحدث فلا وضوء عليه عند جمهور الفقهاء لأنّ الوضوء لا ينقض بالشّكّ عندهم لحديث عبد اللّه بن زيد قال : » شكي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّجل يخيّل إليه أنّه يجد الشّيء في الصّلاة ؟ فقال – صلى الله عليه وسلم - : لا ينصرف حتّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً « .
وقال المالكيّة - في المشهور من المذهب - : من تيقّن الطّهارة ثمّ شكّ في الحدث فعليه الوضوء وجوباً - وقيل : استحباباً - لما تقرّر من أنّ الشّكّ في أحد المتقابلين يوجب الشّكّ في الآخر ، إلاّ أن يكون مستنكحاً ، وعلى هذا يحمل الحديث .
وذكر الفقهاء في هذا الباب أيضاً أنّ من تيقّن الطّهارة والحدث معاً وشكّ في السّابق منهما فعليه أن يعمل بضدّ ما قبلهما : فإن كان قبل ذلك محدثاً فهو الآن متطهّر ، لأنّه تيقّن الطّهارة بعد ذلك الحدث وشكّ في انتقاضها ، حيث لا يدري هل الحدث الثّاني قبلها أو بعدها ؟ وإن كان متطهّراً وكان يعتاد التّجديد فهو الآن محدث لأنّه متيقّن حدثاً بعد تلك الطّهارة وشكّ في زواله حيث لا يدري هل الطّهارة الثّانية متأخّرة عنه أم لا ؟ .(/3)
قال ابن عبد البرّ : مذهب الثّوريّ وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعيّ والشّافعيّ ومن سلك سبيله البناء على الأصل حدثاً كان أو طهارةً ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق وأبي ثور والطّبريّ، وقال مالك : إن عرض له ذلك كثيراً فهو على وضوئه ، وأجمع العلماء أنّ من أيقن بالحدث وشكّ في الوضوء فإنّ شكّه لا يفيد فائدةً وأنّ عليه الوضوء فرضاً وهذا يدلّ على أنّ الشّكّ عندهم ملغىً ، وأنّ العمل عندهم على اليقين ، وهذا أصل كبير في الفقه فتدبّره وقف عليه . ومن هذا القبيل ما جاء عن الفقهاء من أنّ المرأة إذا رأت دم الحيض ولم تدر وقت حصوله فإنّ حكمها حكم من رأى منيّاً في ثوبه ولم يعلم وقت حصوله ، أي عليها أن تغتسل وتعيد الصّلاة من آخر نومة ، وهذا أقلّ الأقوال تعقيداً وأكثرها وضوحاً .
وضابطه ما قاله ابن قدامة من أنّ حكم الحيض المشكوك فيه كحكم الحيض المتيقّن في ترك العبادات .
والمراد بالشّكّ في هذا الموضع - مطلق التّردّد - كما سبق في مفهومه عند الفقهاء سواء أكان على السّواء أم كان أحد طرفيه أرجح .
الشّكّ في الصّلاة :
أ - الشّكّ في القبلة :
15 - من شكّ في جهة الكعبة فعليه أن يسأل عنها العالمين بها من أهل المكان إن وجدوا وإلاّ فعليه بالتّحرّي والاجتهاد لما رواه عامر بن ربيعة - رضي الله تعالى عنه - قال : » كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجل منّا على حياله فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } « . وقبلة المتحرّي - كما ورد عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه - هي جهة قصده .
والصّلاة الواحدة لجهة القصد هذه تجزئ المصلّي وتسقط عنه الطّلب لعجزه ، ويرى ابن عبد الحكم أنّ الأفضل له أن يصلّي لكلّ جهة من الجهات الأربع أخذاً بالأحوط ، وذلك إذا كان شكّه دائراً بينها أمّا إذا انحصر شكّه في ثلاث جهات فقط مثلاً فإنّ الرّابعة لا يصلّي إليها ، وقد اختار اللّخميّ ما فضّله ابن عبد الحكم ، ولكنّ المعتمد الأوّل عند جمهور المالكيّة وغيرهم .
ب - الشّكّ في دخول الوقت :
16 - من شكّ في دخول الوقت لم يصلّ حتّى يغلب على ظنّه دخوله لأنّ الأصل عدم دخوله ، فإن صلّى مع الشّكّ فعليه الإعادة وإن وافق الوقت ، لعدم صحّة صلاته مثلما هو الأمر فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلّى من غير اجتهاد .
ج - الشّكّ في الصّلاة الفائتة :
17 - من فاتته صلاة من يوم ما ، ولا يدري أيّ صلاة هي فعليه أن يعيد صلاة يوم وليلة حتّى يخرج من عهدة الواجب بيقين لا بشكّ .
د - الشّكّ في ركعة من ركعات الصّلاة :
18 - اختلف الفقهاء فيمن شكّ في صلاته فلم يدر أواحدةً صلّى أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ؟ وقال مالك والشّافعيّ : يبني على اليقين ولا يجزئه التّحرّي ، وروي مثل ذلك عن الثّوريّ والطّبريّ ، واحتجّوا لذلك :
أوّلاً : بحديث أبي سعيد الخدريّ : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى أثلاثاً أم أربعاً ؟ فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم . فإن كان صلّى خمساً ، شفعن له صلاته ، وإن كان صلّى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشّيطان « .
وثانياً : بالقاعدتين الفقهيّتين اللّتين في معنى الأحاديث المشار إليها وغيرها ممّا يوجب البناء على اليقين . وهما :
القاعدة الأولى : " اليقين لا يزيله الشّكّ " .
والثّانية : " والشّكّ في النّقصان كتحقّقه " .
وقال أبو حنيفة إذا كان الشّكّ يحدث له لأوّل مرّة بطلت صلاته ولم يتحرّ وعليه أن يستقبل صلاةً جديدةً . وإن كان الشّكّ يعتاده ويتكرّر له يبني على غالب ظنّه بحكم التّحرّي ويقعد ويتشهّد بعد كلّ ركعة يظنّها آخر صلاته لئلاّ يصير تاركاً فرض القعدة ، فإن لم يقع له ظنّ بنى على الأقلّ ، وقال الثّوريّ - في رواية عنه - : يتحرّى سواء كان ذلك أوّل مرّة أو لم يكن .
وقال الأوزاعيّ : يتحرّى ، قال : وإن نام في صلاته فلم يدر كم صلّى ؟ استأنف .
وقال اللّيث بن سعد : إن كان هذا شيئاً يلزمه ولا يزال يشكّ أجزأه سجدتا السّهو عن التّحرّي ، وعن البناء على اليقين ، وإن لم يكن شيئاً يلزمه استأنف تلك الرّكعة بسجدتيها .
وقال أحمد بن حنبل : الشّكّ على وجهين : اليقين والتّحرّي ، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشّكّ وسجد سجدتي السّهو قبل السّلام ، وإذا رجع إلى التّحرّي سجد سجدتي السّهو بعد السّلام . ودليله حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ أحدكم إذا قام يصلّي جاء الشّيطان فلبّس عليه حتّى لا يدري كم صلّى ، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس « .
وحجّة من قال بالتّحرّي في هذا الموضوع حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الّذي يرى أنّه الصّواب « ثمّ - يعني - يسجد سجدتين .
الشّكّ في الزّكاة :
أ - الشّكّ في تأديتها :
19 - لو شكّ رجل في الزّكاة فلم يدر أزكّى أم لا ؟ فالواجب عليه إخراجها لأنّ العمر كلّه وقت لأدائها ، ومن هنا يظهر الفرق بين صاحب هذه الحالة وبين من شكّ في الصّلاة بعد خروج الوقت أصلّى أم لا ؟ حيث ذكروا - كما تقدّم - إعفاءه من الإعادة لأنّها مؤقّتة والزّكاة بخلافها .
ب - الشّكّ في تأدية كلّ الزّكاة أو بعضها :(/4)
20 - ذكر ابن نجيم أنّ حادثةً وقعت مفادها : أنّ رجلاً شكّ هل أدّى جميع ما عليه من الزّكاة أو لا ؟ حيث كان يؤدّي ما عليه متفرّقاً من غير ضبط ، فتمّ إفتاؤه بلزوم الإعادة حيث لم يغلب على ظنّه دفع قدر معيّن ، وهذا الحكم هو مقتضى القواعد لأنّ الزّكاة ثابتة في ذمّته بيقين فلا يخرج عن العهدة بالشّكّ .
ج - الشّكّ في مصرف الزّكاة :
21 - إذا دفع المزكّي الزّكاة وهو شاكّ في أنّ من دفعت إليه مصرف من مصارفها ولم يتحرّ ، أو تحرّى ولم يظهر له أنّه مصرف ، فهو على الفساد إلاّ إذا تبيّن له أنّه مصرف . بخلاف ما إذا دفعت باجتهاد وتحرّ لغير مستحقّ في الواقع كالغنيّ والكافر .
ففيه تفصيل ينظر في مصطلح : ( زكاة ف 188 - 189 ج 23 /233 ) .
الشّكّ في الصّيام :
أ - الشّكّ في دخول رمضان :
22 - إذا شكّ المسلم في دخول رمضان في اليوم الموالي ليومه ولم يكن له أصل يبني عليه مثل أن يكون ليلة الثّلاثين من شعبان ولم يحل دون رؤية الهلال سحب ولا غيوم ومع ذلك عزم أن يصوم غداً باعتباره أوّل يوم من رمضان لم تصحّ نيّته ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأنّ النّيّة قصد تابع للعلم الحاصل بطرقه الشّرعيّة وحيث انتفى ذلك فلا يصحّ قصده وهو رأي حمّاد وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وابن المنذر لأنّ الصّائم لم يجزم النّيّة بصومه من رمضان فلم يصحّ كما لو لم يعلم إلاّ بعد خروجه .
وكذلك لو بنى على قول المنجّمين وأهل المعرفة بالحساب لم يصحّ صومه وإن كثرت إصابتهم لأنّه ليس بدليل شرعيّ يجوز البناء عليه فكان وجوده كعدمه .
وقال الثّوريّ والأوزاعيّ : يصحّ إذا نواه من اللّيل - وكان الأمر كما قصد - لأنّه نوى الصّيام من اللّيل فصحّ كاليوم الثّاني .
وروي عن الشّافعيّ ما يوافق المذهبين .
ب الشّكّ في دخول شوّال :
23 - تصحّ النّيّة ليلة الثّلاثين من رمضان رغم أنّ هناك احتمالاً في أن يكون من شوّال ، لأنّ الأصل بقاء رمضان وقد أمرنا بصومه بالقرآن والسّنّة لكن إذا قال المكلّف : إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإن كان من شوّال فأنا مفطر فلا يصحّ صومه على رأي بعضهم لأنّه لم يجزم بنيّة الصّيام والنّيّة قصد جازم ، وقيل : تصحّ نيّته لأنّ هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان .
ج - الشّكّ في طلوع الفجر :
24 - إذا شكّ الصّائم في طلوع الفجر فالمستحبّ ألاّ يأكل لاحتمال أن يكون الفجر قد طلع ، فيكون الأكل إفساداً للصّوم ولذلك كان مدعوّاً للأخذ بالأحوط لقوله صلى الله عليه وسلم : » دع ما يريبك إلى ما لا يريبك « .
ولو أكل وهو شاكّ ، فلا قضاء عليه عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ فساد الصّوم محلّ شكّ والأصل استصحاب اللّيل حتّى يثبت النّهار وهذا لا يثبت بالشّكّ .
وقال المالكيّة : من أكل شاكّاً في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة رغم أنّ الأصل بقاء اللّيل ، هذا بالنّسبة لصوم الفرض ، أمّا صوم النّفل فقد سوّى بعضهم بينه وبين الفرض في القضاء والحرمة وفرّق بينهما جماعة في الحرمة حيث قالوا بالكراهية .
د - الشّكّ في غروب الشّمس :
25 - لو شكّ الصّائم في غروب الشّمس لا يصحّ له أن يفطر مع الشّكّ لأنّ الأصل بقاء النّهار ، ولو أفطر على شكّه دون أن يتبيّن الحال بعد ذلك فعليه القضاء اتّفاقاً . والحرمة متّفق عليها كذلك .
وعدم الكفّارة في الأكل مع الشّكّ في الفجر متّفق عليه ، أمّا الأكل مع الشّكّ في الغروب فمختلف في وجوب الكفّارة فيه ، والمشهور عدمها ، فإن أفطر معتقداً بقاء اللّيل أو حصول الغروب ثمّ طرأ الشّكّ فعليه القضاء بلا حرمة .
الشّكّ في الحجّ :
أ - الشّكّ في نوع الإحرام :
26 - إذا شكّ الحاجّ هل أحرم بالإفراد أو بالتّمتّع أو بالقران وكلّ ذلك قبل الطّواف فعند أبي حنيفة ومالك يصرفه إلى القران لجمعه بين النّسكين وهو مذهب الشّافعيّ في الجديد .
وعند الحنابلة له صرفه إلى أيّ نوع من أنواع الإحرام المذكورة ، والمنصوص عن أحمد جعله عمرةً على سبيل الاستحباب ، وقال الشّافعيّ في القديم : يتحرّى فيبني على غالب ظنّه لأنّه من شرائط العبادة فيدخله التّحرّي كالقبلة .
وسبب الخلاف مواقف الأئمّة من فسخ الحجّ إلى العمرة ، فهو جائز عند الحنابلة ، وغير جائز عند غيرهم .
وأمّا إن شكّ بعد الطّواف فإنّ صرفه لا يجوز إلاّ إلى العمرة لأنّ إدخال الحجّ على العمرة بعد الطّواف مع ركعتيه غير جائز .
ب - الشّكّ في دخول ذي الحجّة :
27 - لو شكّ النّاس في هلال ذي الحجّة فوقفوا بعرفة إن أكملوا عدّة ذي القعدة ثلاثين يوماً ثمّ شهد الشّهود أنّهم رأوا الهلال ليلة كذا ، وتبيّن أن يوم وقوفهم كان يوم النّحر فوقوفهم صحيح وحجّتهم تامّة عند الأئمّة الأربعة .
وذلك لما ورد أنّه - عليه الصلاة والسلام - قال : » الصّوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحّون « .
وأضاف الحنفيّة أنّ الحكم المذكور المتمثّل في صحّة الوقوف كان استحساناً لا قياساً . أمّا إذا تبيّن أنّهم وقفوا في اليوم الثّامن فلا يجزيهم وقوفهم عند أكثر أهل العلم ، وهو قول مالك واللّيث والأوزاعيّ وأبي حنيفة وصاحبيه .
والفرق بين الصّورتين : أنّ الّذين وقفوا يوم النّحر فعلوا ما تعبّدهم اللّه به على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم من إكمال العدّة دون اجتهاد بخلاف الّذين وقفوا في الثّامن فإنّ ذلك باجتهادهم وقبولهم شهادة من لا يوثق به .
الشّكّ في الطّواف :(/5)
28 - إذا شكّ الحاجّ في عدد أشواط الطّواف بنى على اليقين ، قال ابن المنذر : وعلى هذا أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم لأنّها عبادة متى شكّ فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصّلاة . ولأنّ الشّكّ في النّقصان كتحقّقه . وإن أخبره ثقة بعد طوافه رجع إليه إذا كان عدلاً ، وإن شكّ في ذلك بعد فراغه من الطّواف لم يلتفت إليه كما لو شكّ في عدد الرّكعات بعد فراغه من الصّلاة .
وفي الموطّأ : من شكّ في طوافه بعد ما ركع ركعتي الطّواف فليعد ليتمّ طوافه على اليقين ثمّ ليعد الرّكعتين لأنّه لا صلاة لطواف إلاّ بعد إكمال السّبع .
وإذا شكّ في الطّهارة وهو في الطّواف لم يصحّ طوافه ذلك لأنّه شكّ في شرط العبادة قبل الفراغ منها فأشبه ما لو شكّ في الطّهارة أثناء الصّلاة .
الشّكّ في الذّبائح :
29 - من التبست عليه المذكّاة بالميتة حرمتا معاً لحصول سبب التّحريم الّذي هو الشّكّ .
وكذلك لو رمى المسلم طريدةً بآلة صيد فسقطت في ماء وماتت والتبس عليه أمرها ، فلا تؤكل للشّكّ في المبيح .
ولو وجدت شاة مذبوحة ببلد فيه من تحلّ ذبيحته ومن لا تحلّ ذبيحته ووقع الشّكّ في ذابحها لا تحلّ إلاّ إذا غلب على أهل البلد من تحلّ ذبيحتهم .
الشّكّ في الطّلاق :
30 - شكّ الزّوج في الطّلاق لا يخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون الشّكّ في وقوع أصل التّطليق ، أي شكّ هل طلّقها أم لا ؟ فلا يقع الطّلاق في هذه الحالة بإجماع الأمّة ، واستدلّوا لذلك بأنّ النّكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشّكّ لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
الحالة الثّانية : أن يقع الشّكّ في عدد الطّلاق - مع تحقّق وقوعه - هل طلّقها واحدةً أو اثنتين أو ثلاثاً ؟ لم تحلّ له – عند المالكيّة ، والخرقيّ من الحنابلة ، وبعض الشّافعيّة – إلاّ بعد زوج آخر لاحتمال كونه ثلاثاً . عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام : » دع ما يريبك إلى ما لا يريبك « ويحكم بالأقلّ عند أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد ، فإذا راجعها حلّت له على رأي هؤلاء .
الحالة الثّالثة : أن يقع الشّكّ في صفة الطّلاق كأن يتردّد مثلاً في كونها بائنةً أو رجعيّةً ، وفي هذه الحالة يحكم بالرّجعيّة لأنّها أضعف الطّلاقين فكان متيقّناً بها .
وذكر الكاسانيّ - في هذا المعنى - أنّ الرّجل لو قال لزوجته : أنت طالق أقبح طلاق فهو رجعيّ عند أبي يوسف لأنّ قوله : أقبح طلاق يحتمل القبح الشّرعيّ وهو الكراهية الشّرعيّة ، ويحتمل القبح الطّبيعيّ وهو الكراهية الطّبيعيّة ، والمراد بها أن يطلّقها في وقت يكره الطّلاق فيه طبعاً ، فلا تثبت البينونة فيه بالشّكّ ، وهو بائن عند محمّد بن الحسن الشّيبانيّ لأنّ المطلّق قد وصف الطّلاق بالقبح ، والطّلاق القبيح هو الطّلاق المنهيّ عنه ، وهو البائن ، ولذلك يقع بائناً .
الشّكّ في الرّضاع :
31 - الاحتياط لنفي الرّيبة في الأبضاع متأكّد ويزداد الأمر تأكيداً إذا كان مختصّاً بالمحارم .
فلو شكّ في وجود الرّضاع أو في عدده بنى على اليقين ، لأنّ الأصل عدم الرّضاع في الصّورة الأولى وعدم حصول المقدار المحرّم في الصّورة الثّانية إلاّ أنّها تكون من الشّبهات وتركها أولى لقوله - عليه الصلاة والسلام - : » من اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه « .
ويرى القرافيّ أنّ الشّكّ فيما يقرب من هذا الموضوع وما ناظره قد يعدّ - في بعض الحالات - من الأسباب الّتي تدعو إلى الحكم بالتّحريم ، من ذلك مثلاً ما لو شكّ الرّجل في أجنبيّة وأخته من الرّضاع حرمتا عليه معاً .
الشّكّ في اليمين :
32 - إمّا أن يكون الشّكّ في أصل اليمين هل وقعت أو لا : كشكّه في وقوع الحلف أو الحلف والحنث ، فلا شيء على الشّاكّ في هذه الصّورة لأنّ الأصل براءة الذّمّة واليقين لا يزول بالشّكّ . وإمّا أن يكون الشّكّ في المحلوف به كما إذا حلف وحنث ، وشكّ هل حلف بطلاق أو عتق أو مشي إلى بيت اللّه تعالى ، أو صدقة ، فالواجب عليه في هذه الحالة وما ماثلها - عند المالكيّة- طلاق نسائه وعتق رقيقه والمشي إلى مكّة والتّصدّق بثلث ماله ، وهو مأمور بذلك كلّه على وجه الإفتاء لا على وجه القضاء إذ الحالف - في رأيهم - يؤمر بإنفاذ الأيمان المشكوك فيها من غير قضاء .
ويرى الحنفيّة أنّ الشّاكّ في هذه الصّورة لا شيء عليه لأنّ الطّلاق والعتاق لا يقعان بالشّكّ ، ولأنّ الكفّارة المترتّبة على الحلف باللّه لا تجب مع الشّكّ أيضاً إذ الأصل براءة الذّمّة .
ويضيفون إلى هذا الحلف إذا كان معلّقاً بشرط معلوم مع الشّكّ في القسم هل كان باللّه إذا تحقّق الشّرط وكان الحالف مسلماً ، لأنّ الحلف بالطّلاق والعتاق غير مشروع فيجب حمل المسلم على الإتيان بالمشروع دون المحظور .
الشّكّ في النّذر :
33 - لو شكّ النّاذر في نوع المنذور هل هو صلاة أو صيام أو صدقة أو عتق ؟ تلزمه - عند جمهور الأئمّة - كفّارة يمين ، لأنّ الشّكّ في المنذور كعدم تسميته .
الشّكّ في الوصيّة :
34 - قال أبو حنيفة - في رجل أوصى بثلث ماله لرجل مسمّىً وأخبر أنّ ثلث ماله ألف مثلاً فإذا ثلث ماله أكثر ممّا ذكر - : إنّ له الثّلث من جميع المال والتّسمية الّتي سمّى باطلة لأنّها خطأ ، والخطأ لا ينقض الوصيّة ولا يكون رجوعاً فيها ، ووافقه أبو يوسف في هذا الرّأي لأنّه لمّا أوصى بثلث ماله فقد أتى بوصيّة صحيحة حيث إنّ صحّتها لا تتوقّف على بيان المقدار الموصى به فتقع الوصيّة صحيحةً بدونه .
الشّكّ في الدّعوى ، أو محلّها ، أو محلّ الشّهادة :(/6)
35 - أ - لو ادّعى شخص ديناً على آخر وشكّ المدين في قدره ينبغي لزوم إخراج القدر المتيقّن .
قال الحمويّ : قيل : الظّاهر أنّه ليس على سبيل الوجوب وإنّما هو على سبيل التّورّع والأخذ بالأحوط لأنّ الأصل براءة الذّمّة .
والمراد بالقدر المتيقّن - في هذه الحالة وما ماثلها - هو أكثر المبلغين : فإذا كان الشّكّ دائراً بين عشرة وخمسة فالمتيقّن العشرة لدخول الخمسة فيها ، وبهذا الاعتبار يكون الأكثر بالنّسبة إلى الأقلّ متيقّنًا دائماً رغم وقوع الشّكّ فيهما .
وذكر بعض الفقهاء : أنّ المدين في هذه الحالة عليه أن يرضي خصمه ولا يحلف خشية أن يقع في الحرام ، وإن أصرّ خصمه على إحلافه حلف إن كان أكبر ظنّه أنّه مبطل ، أمّا إذا ترجّح عنده أنّ صاحب الدّعوى محقّ فإنّه لا يحلف .
ب - لو اشترى أحد حيواناً أو متاعاً ثمّ ادّعى أنّ به عيباً وأراد ردّه واختلف أهل الخبرة فقال بعضهم : هو عيب وقال بعضهم : ليس بعيب ، فليس للمشتري الرّدّ لأنّ السّلامة هي الأصل المتيقّن فلا يثبت العيب بالشّكّ .
ج - لو ادّعت المرأة عدم وصول النّفقة والكسوة المقرّرتين لها في مدّة معيّنة فالقول لها ، لأنّ الأصل المتيقّن بقاؤها في ذمّة الزّوج وأمّا دعواه فمشكوك فيها ولا يزول يقين بشكّ .
د - إذا كان إنسان يعلم أنّ عليّاً مدين لعمر بألف دينار مثلاً فإنّه يجوز له أن يشهد على عليّ ، وإن خامره الشّكّ في وفائها أو في الإبراء عنها إذ لا عبرة بالشّكّ في جانب اليقين السّابق .
الشّكّ في الشّهادة :
36 - لو قال الشّاهد : أشهد بأنّ لفلان على فلان مائة دينار - مثلاً - فيما أعلم أو فيما أظنّ ، أو حسب ظنّي لم تقبل شهادته للشّكّ الّذي داخلها من الزّيادة على لفظها ، لأنّ ركن الشّهادة لفظ أشهد لا غير لتضمّنه معنى الشّهادة والقسم والإخبار للحال فكأنّه يقول : أقسم باللّه لقد اطّلعت على ذلك وأنا أخبر به ، ومن أجل ذلك تعيّن لفظ أشهد .
وقد بيّن سحنون - من المالكيّة - أنّ الشّهود لو شهدوا على امرأة بنكاح أو إقرار أو إبراء وسأل الخصم إدخالها في نساء للتّعرّف عليها من بينهنّ فقالوا : شهدنا عليها عن معرفتها بعينها ونسبها ولا ندري هل نعرفها اليوم وقد تغيّرت حالها فلا نتكلّف ذلك ، فلا بدّ والحالة هذه من التّعرّف عليها وإلاّ ردّت شهادتهم للشّكّ ، أمّا لو قالوا : نخاف أن تكون تغيّرت ، فالواجب أن يقال لهم : إن شككتم وقد أيقنتم أنّها ابنة فلان وليس لفلان هذا إلاّ بنت واحدة من حين شهدوا عليها إلى اليوم جازت الشّهادة - في هذه الحالة - وقبلت .
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المالكيّة يرون أنّ الشّهادة مع الشّكّ تسلب صفة العدالة للشّاهد . ومن أجل ذلك وغيره أكّد جميع الفقهاء أنّ المعاوضة لا تثبت بالشّكّ . ووضعوا قيوداً لقبول شهادة السّماع للشّكّ الّذي يمكن أن يداخلها .
الشّكّ في النّسب :
37 - أ - كلّ مطلّقة عليها العدّة فنسب ولدها يثبت من الزّوج إلاّ إذا علم يقيناً أنّه ليس منه ، وهو أن تجيء به لأكثر من سنتين وإنّما كان كذلك لأنّ الطّلاق قبل الدّخول يوجب انقطاع النّكاح بجميع علائقه فكان النّكاح من كلّ وجه زائلاً بيقين وما زال بيقين لا يثبت إلاّ بيقين مثله فإذا جاءت بولد لأقلّ من ستّة أشهر من يوم الطّلاق فقد تيقّنّا أنّ العلوق وجد في حال الفراش وإنّه وطئها وهي حامل منه إذ لا يحتمل أن يكون بوطء بعد الطّلاق لأنّ المرأة لا تلد لأقلّ من ستّة أشهر فكان من وطء وجد على فراش الزّوج وكون العلوق في فراشه يوجب ثبوت النّسب منه . فإذا جاءت بولد لستّة أشهر فصاعداً لم يستيقن بكونه مولوداً على الفراش لاحتمال أن يكون بوطء بعد الطّلاق والفراش كان زائلاً بيقين فلا يثبت مع الشّكّ .
ب - إذا ادّعى إنسان نسب لقيط ألحق به ، لانفراده بالدّعوى ، فإذا جاء آخر بعد ذلك وادّعاه فلم يزل نسبه عن الأوّل - رغم الشّكّ الّذي أحدثته دعوى الثّاني - لأنّه حكم له به فلا يزول بمجرّد الدّعوى ، إلاّ إذا شهد القائفون بأنّه للثّاني فالقول قولهم لأنّ القيافة تعتبر بيّنةً في إلحاق النّسب. وإذا ادّعى اللّقيط اثنان فألحقه القائفون بهما صحّ ذلك شرعاً وكان ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه ميراث أب واحد ، وهذا الرّأي يروى عن عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالب وهو قول أبي ثور .
وقال أصحاب الرّأي يلحق بهما بمجرّد الدّعوى للآثار الكثيرة الواردة في ذلك .
الشّكّ ينتفع به المتّهم :
38 - اتّفق الفقهاء على أنّه : تدرأ الحدود بالشّبهات . والأصل في ذلك عن عائشة أمّ المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة « ، وفي حديث آخر : » ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً « .
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدّ فقد وجب « .
وهذه القاعدة توجب أوّلاً : اعتماد اليقين - ما أمكن - في نسبة الجريمة إلى المتّهم .
وثانياً : أنّ الشّكّ - مهما كانت نسبته ومهما كان محلّه ومهما كان طريقه - ينتفع به المتّهم فيدرأ عنه الحدّ ، يقول الشّاطبيّ : فإنّ الدّليل يقوم - هناك - مفيداً للظّنّ في إقامة الحدّ ، ومع ذلك فإذا عارضته شبهة وإن ضعفت - غلب - حكمها ودخل صاحبها في مرتبة العفو .
وثالثاً : الخطأ في العفو أفضل شرعاً من الخطأ في العقوبة حيث إنّ تبرئة المجرم فعلاً أحبّ إلى اللّه ورسوله من معاقبة البريء .(/7)
وهذا المبدأ نجد تطبيقاته مبثوثةً في أقضية الصّحابة - رضي الله عنهم - وأقضية التّابعين وفتاوى المجتهدين ، من ذلك ما حكم به عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - في قضيّة المغيرة بن شعبة والي البصرة الّذي اتّهم بالزّنا مع امرأة أرملة كان يحسن إليها ، فاستدعى الخليفة الوالي وشهود التّهمة فشهد ثلاثة برؤية تنفيذ الجريمة ، ولكنّ الشّاهد الرّابع الّذي يكتمل به النّصاب قال : لم أر ما قال هؤلاء بل رأيت ريبةً وسمعت نفساً عالياً ، ولا أعرف ما وراء ذلك، فأسقط عمر التّهمة عن المغيرة وحفظ له براءته وطهارته ، وعاقب الشّهود الثّلاثة عقوبة القذف .
وعمر نفسه لم يقم حدّ السّرقة عام الرّمادة لأنّه جعل من المجاعة العامّة قرينةً على الاضطرار ، والاضطرار شبهة في السّرقة تمنع الحدّ عن السّارق بل تبيح له السّرقة في حدود الضّرورة . وقد ذكر الأئمّة أنّ من أخذ من مال أبيه خفيةً ظنّاً منه أنّه يباح له ذلك لا حدّ عليه ، وأنّ من جامع المطلّقة ثلاثاً في العدّة ظنّاً منه أنّ ذلك يباح له لا حدّ عليه أيضاً .
ونقل عن أبي حنيفة القول بأنّ ما يعرف بشبهة العقد يدرأ الحدّ بها ، فلا حدّ - في رأيه - على من وطئ محرّمةً بعد العقد عليها وإن كان عالماً بالحرمة : كوطء امرأة تزوّجها بلا شهود مثلاً، وفي رأي الصّاحبين عليه الحدّ - إذا كان عالماً بالحرمة - وهو المعتمد .
الشّكّ لا تناط به الرّخص : أو الرّخص لا تناط بالشّكّ :
39 - هو لفظ قاعدة فقهيّة ذكرها السّيوطيّ نقلاً عن تقيّ الدّين السّبكيّ فرّعوا عليها الفروع التّالية :
أ - وجوب غسل القدمين لمن شكّ في جواز المسح على الخفّين أو على الجوربين وما إلى ذلك.
ب - من شكّ في غسل إحدى رجليه وأدخلهما في الخفّين - مع ذلك - لا يباح له المسح عليهما.
ج - وجوب الإتمام لمن شكّ في جواز القصر . ويمكن أن يكون ذلك في صور عديدة .(/8)
شَمّ *
التّعريف :
1 - الشّمّ في اللّغة : مصدر شممته أشمّه ، وشممته أشمّه شمّاً .
والشّمّ : حسّ الأنف ، وإدراك الرّوائح .
وقال أبو حنيفة : تشمّم الشّيء واشتمّه : أدناه من أنفه ليجتذب رائحته .
ولا يخرج معنى اللّفظ في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستنكاه :
2 - جاء في اللّسان : استنكهه : شمّ رائحة فمه ، والاسم : النّكهة . ونكهته : شممت ريحه ، وفي حديث قصّة ماعز الأسلميّ : » فقام رجل فاستنكهه « : أي شمّ نكهته ورائحة فمه .
الحكم التّكليفيّ :
3 - الشّمّ قد يكون واجباً وذلك في حقّ الشّهود المأمورين بالشّمّ لأجل الخصومات الواقعة في روائح المشموم حيث يقصد الرّدّ بالعيب أو يقصد منع الرّدّ إذا حدث العيب عند المشتري .
وكما في شمّ الشّهود فم السّكران لمعرفة رائحة الخمر .
وقد يكون الشّمّ حراماً أو مكروهاً كشمّ الطّيب للمحرم بالحجّ أو العمرة عند من يقولون بذلك . وقد يكون مباحاً كشمّ الزّهور والرّياحين المباحة والطّيب المباح . إلاّ إذا كان طيباً تطيّبت به امرأة أجنبيّة فيحرم تعمّد شمّه .
شمّ الصّائم الطّيب ونحوه :
4 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لو أدخل الصّائم إلى حلقه البخور وشمّ رائحته أفطر لإمكان التّحرّز عنه . وإذا لم يصل إلى حلقه لا يفطر . أمّا لو شمّ هواءً فيه رائحة الورد ونحوه ممّا لا جسم له فلا يفطر عند الحنفيّة .
وكرهه المالكيّة .
كما يكره عند الشّافعيّة شمّ الرّياحين ونحوها نهاراً للصّائم لأنّه من التّرفّه ولذلك يسنّ له تركه . وعند الحنابلة إذا كان الطّيب مسحوقاً كره شمّه لأنّه لا يؤمن من شمّه أن يجذبه نفسه للحلق ، ولذلك لا يكره شمّ الورد والعنبر والمسك غير المسحوق .
شمّ المحرم الطّيب :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة شمّ الطّيب للمحرم . ولا فرق عند المالكيّة بين الطّيب المذكّر والمؤنّث . وهو مذهب المدوّنة ، وقال الباجيّ من المالكيّة : يحرم شمّ الطّيب المؤنّث . كذلك يكره عند الشّافعيّة شمّ الطّيب للمحرم ، لكن يؤخذ ممّا جاء في المهذّب وشرحه المجموع أنّه يحرم شمّ ما يعتبر طيباً كالورد والمسك والكافور .
واختلف في الرّيحان الفارسيّ والنّرجس والنّيلوفر ونحوه وفيه قولان :
أحدهما : يجوز شمّها لما روي عن عثمان - رضي الله تعالى عنه - أنّه سئل عن المحرم : يدخل البستان ؟ فقال : نعم ويشمّ الرّيحان ، ولأنّ هذه الأشياء لها رائحة إذا كانت رطبةً فإذا جفّت لم يكن لها رائحة .
والثّاني : لا يجوز ، لأنّه يراد للرّائحة فهو كالورد والزّعفران .
وروى البيهقيّ بإسناده عن ابن عبّاس أنّه كان لا يرى بأساً للمحرم بشمّ الرّيحان ، وروى البيهقيّ عكسه عن ابن عمر وجابر فروى بإسنادين صحيحين أحدهما عن ابن عمر أنّه كان يكره شمّ الرّيحان للمحرم ، والثّاني عن أبي الزّبير أنّه سمع جابراً يسأل عن الرّيحان أيشمّه المحرم ، والطّيب والدّهن فقال : لا .
وأمّا ما يطلب للأكل والتّداوي غالباً كالقرنفل والدّارصينيّ والفواكه كالتّفّاح والمشمش فيجوز أكله وشمّه لأنّه ليس بطيب .
ويجوز للمحرم عند الشّافعيّة الجلوس عند العطّار وفي موضع يبخّر لأنّ في المنع من ذلك مشقّةً ولأنّ ذلك ليس بتطيّب مقصود والمستحبّ أن يتوقّى ذلك إلاّ أن يكون في موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهي تجمّر ، فلا يكره ذلك لأنّ الجلوس عندها قربة .
وفصّل الحنابلة فقالوا : النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما لا ينبت للطّيب ولا يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم والخزامى والفواكه كلّها من الأترجّ والتّفّاح ، وما ينبته الآدميّون لغير قصد الطّيب كالحنّاء والعصفر فمباح شمّه ولا فدية فيه ولا نعلم فيه خلافاً إلاّ ما روي عن ابن عمر أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ شيئاً من نبات الأرض .
الثّاني : ما ينبته الآدميّون للطّيب ولا يتّخذ منه طيب كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس ففيه وجهان : أحدهما يباح بغير فدية ، قاله عثمان بن عفّان وابن عبّاس والحسن ومجاهد وإسحاق رضي الله عنهم . والآخر يحرم شمّه ، فإن فعل فعليه الفدية ، وهو قول جابر وابن عمر وأبي ثور رضي الله عنهم لأنّه يتّخذ للطّيب فأشبه الورد وكلام أحمد يحتمل أنّه يكره ولا يجب فيه شيء .
الثّالث : ما ينبت للطّيب ويتّخذ منه طيب كالورد والبنفسج ففي شمّه الفدية ، وعن أحمد رواية أخرى في الورد أنّه لا فدية عليه في شمّه لأنّه زهر فشمّه كشمّ زهر سائر الشّجر .
الإجارة للشّمّ :
6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم جواز إجارة الشّيء كالتّفّاح مثلاً لشمّه لأنّ الرّائحة عند الحنفيّة منفعة غير مقصودة .
وقال المالكيّة : لأنّها لا قيمة لها شرعاً .
وأجاز الشّافعيّة استئجار المسك والرّياحين للشّمّ لأنّ المنفعة متقوّمة .
وفرّق الحنابلة بين ما تتلف عينه وما لا تتلف .
قال ابن قدامة : يجوز استئجار ما يبقى من الطّيب والصّندل وقطع الكافور والنّدّ لتشمّه المرضى وغيرهم مدّةً ثمّ يردّها ، لأنّها منفعة مباحة فأشبهت الوزن والتّحلّي . ثمّ قال : ولا يصحّ استئجار ما لا يبقى من الرّياحين كالورد والبنفسج والرّيحان الفارسيّ وأشباهه لشمّها ، لأنّها تتلف عن قرب فأشبهت المطعومات .
الجناية على حاسّة الشّمّ :(/1)
7 - الجناية على حاسّة الشّمّ إمّا أن تكون عمداً أو خطأً . فإن كان عمداً كمن شجّ إنساناً فذهب شمّه فإنّه يقتصّ من الجاني بمثل ما فعل ، فإن ذهب بذلك شمّه فقد استوفى المجنيّ عليه حقّه ، وإن لم يذهب الشّمّ فعل بالجاني ما يذهب الشّمّ بواسطة أهل الخبرة في ذلك ، فإن لم يمكن إذهاب الشّمّ إلاّ بجناية سقط القود ووجبت الدّية .
وهذا عند المالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة .
وعند الحنفيّة تجب الدّية لأنّه لا يمكن أن يضرب الجاني ضرباً يذهب به حاسّة الشّمّ فلم يكن استيفاء المثل ممكناً فلا يجب القصاص وتجب الدّية . وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة .
وإن كان إبطال حاسّة الشّمّ نتيجة ضرب أو جرح وقع خطأً ، أو كان الضّرب عمداً لكن كان الجرح ممّا لا يمكن القصاص فيه فتجب الدّية كاملةً إذا كان إبطال الشّمّ من المنخرين ، لأنّه حاسّة تختصّ بمنفعة فكان فيها الدّية كسائر الحواسّ ، قال ابن قدامة : ولا نعلم في هذا خلافاً ولأنّ في كتاب عمرو بن حزم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » وفي المشامّ الدّية « . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة . ومقابل الصّحيح عند الشّافعيّة : تجب فيه حكومة لأنّه ضعيف النّفع .
وإذا زال الشّمّ من أحد المنخرين ففيه نصف الدّية . وإن نقص الشّمّ وجب بقسطه من الدّية إذا أمكن معرفته وإلاّ فحكومة يقدّرها الحاكم بالاجتهاد .
ومن ادّعى زوال الشّمّ امتحن في غفلاته بالرّوائح الحادّة الطّيّبة والمنتنة ، فإن هشّ للطّيّب وعبس لغيره فالقول قول الجاني بيمينه لظهور كذب المجنيّ عليه . وإن لم يتأثّر بالرّوائح الحادّة ولم يبن منه ذلك ، فالقول قول المجنيّ عليه .
زاد الشّافعيّة : ويحلف لظهور صدقه ، ولا يعرف إلاّ من قبله .
وإن ادّعى المجنيّ عليه نقص شمّه فالقول قوله مع يمينه عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّه لا يتوصّل إلى معرفة ذلك إلاّ من جهته فقبل قوله فيه ، ويجب له من الدّية ما تخرجه الحكومة .
وإن ذهب شمّه ثمّ عاد قبل أخذ الدّية سقطت وإن كان بعد أخذها ردّها لأنّا تبيّنّا أنّه لم يكن ذهب. وإن رجي عود شمّه إلى مدّة انتظر إليها .
هذا إذا ذهب الشّمّ وحده .
أمّا إن قطع أنفه فذهب بذلك شمّه فعليه ديتان كما نصّ عليه الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الشّمّ في غير الأنف فلا تدخل أحدهما في الآخر .
وقال المالكيّة : فيهما دية واحدة فيندرج الشّمّ في الأنف كالبصر مع العين .
إثبات شرب المسكر بشمّ الرّائحة :
8 - اختلف الفقهاء في إثبات الشّرب الّذي يجب به الحدّ بشمّ رائحة الخمر في فم الشّارب . وتفصيل ذلك في ( أشربة ) .(/2)
شَهِيد *
التّعريف :
1 - الشّهيد لغةً : الحاضر . والشّاهد ، العالم الّذي يبيّن ما علمه ، ومنه قوله تعالى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ } .
والشّهيد من أسماء اللّه تعالى ، ومعناه الأمين في شهادته والحاضر .
والشّهيد المقتول في سبيل اللّه ، والجمع شهداء .
قال ابن الأنباريّ سمّي الشّهيد شهيداً لأنّ اللّه وملائكته شهدوا له بالجنّة . وقيل : لأنّه يكون شهيداً على النّاس بأعمالهم .
والشّهيد في اصطلاح الفقهاء : من مات من المسلمين في قتال الكفّار وبسببه .
ويلحق به في أمور الآخرة أنواع يأتي بيانها .
منزلة الشّهيد :
2 - الشّهيد له منزلة عالية عند اللّه - سبحانه وتعالى - يشهد بها القرآن الكريم في عدد من الآيات منها : قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } . وقوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .
ويشهد بهذه المنزلة الأحاديث الصّحيحة منها : ما روى أنس بن مالك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدّنيا وله ما على الأرض من شيء إلاّ الشّهيد يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل عشر مرّات لما يرى من الكرامة « .
وما روى أبو الدّرداء - رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » يشفع الشّهيد في سبعين من أهل بيته « .
وفي حديث آخر : » للشّهيد عند اللّه ستّ خصال ، يغفر له في أوّل دفعة ، ويرى مقعده من الجنّة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها ، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور ، ويشفع في سبعين من أقاربه « .
أقسام الشّهيد :
3 - الشّهيد على ثلاثة أقسام :
الأوّل شهيد الدّنيا والآخرة ، والثّاني شهيد الدّنيا ، والثّالث شهيد الآخرة .
فشهيد الدّنيا والآخرة هو الّذي يقتل في قتال مع الكفّار ، مقبلاً غير مدبر ، لتكون كلمة اللّه هي العليا ، وكلمة الّذين كفروا هي السّفلى ، دون غرض من أغراض الدّنيا .
ففي الحديث عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : » إنّ رجلاً أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً : الرّجل يقاتل للمغنم ، والرّجل يقاتل للذّكر ، والرّجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل اللّه ؟ قال عليه الصلاة والسلام : من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا ، فهو في سبيل اللّه « .
أمّا شهيد الدّنيا : فهو من قتل في قتال مع الكفّار وقد غلّ في الغنيمة ، أو قاتل رياءً ، أو لغرض من أغراض الدّنيا .
وأمّا شهيد الآخرة : فهو المقتول ظلماً من غير قتال ، وكالميّت بداء البطن ، أو بالطّاعون ، أو بالغرق ، وكالميّت في الغربة ، وكطالب العلم إذا مات في طلبه ، والنّفساء الّتي تموت في طلقها، ونحو ذلك .
واستثني من الغريب العاصي بغربته ، ومن الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السّلامة ، أو ركوبه لإتيان معصية من المعاصي ، ومن الطّلق الحامل بزنىً .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » الشّهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغرق ، وصاحب الهدم ، والشّهيد في سبيل اللّه « .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » الطّاعون شهادة لكلّ مسلم « .
وفي حديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » من قتل دون ماله فهو شهيد « .
غسل الشّهيد والصّلاة عليه :
4 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ شهيد المعترك لا يغسّل ، خلافاً لما ذهب إليه الحسن البصريّ ، وسعيد بن المسيّب ، إذ قالا بغسله .
أمّا الصّلاة عليه فيرى الحنفيّة وجوبها وهو ما قال به الخلال والثّوريّ ، وروي عن أحمد بن حنبل القول باستحبابها .
ويستدلّ الحنفيّة للزوم الصّلاة بما روى ابن عبّاس وابن الزّبير : » أنّه عليه الصلاة والسلام صلّى على شهداء أحد ، وكان يؤتى بتسعة تسعة ، وحمزة عاشرهم ، فيصلّي عليهم . وقالوا : إنّه صلى الله عليه وسلم صلّى على غيرهم « .(/1)
وعن شدّاد بن الهاد : » أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فآمن به واتّبعه ثمّ قال : أهاجر معك . فأوصى به النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ، فلمّا كانت غزوة ، غنم النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له ، فأعطى أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم . فلمّا جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا ؟ قال : قسمته لك ، قال: ما على هذا اتّبعتك ، ولكنّي اتّبعتك على أن أرمى إلى ههنا ، وأشار إلى حلقه ، بسهم فأموت فأدخل الجنّة . فقال : إن تصدق اللّه يصدقك . فلبثوا قليلاً ثمّ نهضوا في قتال العدوّ فأتي به النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أهو هو ؟ قالوا : نعم ، قال : صدق اللّه فصدقه . ثمّ كفّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جبّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قدّمه فصلّى عليه فكان فيما ظهر من صلاته : اللّهمّ هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً ، أنا شهيد على ذلك « .
وبما روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : » إنّه عليه السلام خرج يوماً فصلّى على أهل أحد صلاته على الميّت ثمّ انصرف إلى المنبر « .
وقالوا : إنّ الصّلاة على الميّت شرعت إكراماً له ، والطّاهر من الذّنب لا يستغني عنها ، كالنّبيّ والصّبيّ .
أمّا المالكيّة فيرون عدم غسله والصّلاة عليه ، ونصّ بعضهم على تحريمهما .
قال الشّافعيّة : يحرم غسل الشّهيد والصّلاة عليه لأنّه حيّ بنصّ القرآن ، ولما ورد عن جابر : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم ، ولم يغسّلوا ولم يصلّ عليهم « . وجاء من وجوه متواترة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ عليهم وقال في قتلى أحد : » زمّلوهم بدمائهم « .
ولعلّ ترك الغسل والصّلاة على من قتله جماعة المشركين إرادة أن يلقوا اللّه جلّ وعزّ بكلومهم لما جاء فيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أنّ ريح الكلم ريح المسك واللّون لون الدّم « واستغنوا بكرامة اللّه جلّ وعزّ عن الصّلاة لهم مع التّخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل بالزّحف من المشركين من الجراح وخوف عودة العدوّ ورجاء طلبهم وهمّهم بأهليهم وهمّ أهليهم بهم .
والحكمة في ذلك إبقاء أثر الشّهادة عليهم والتّعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم .
وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » ليس شيء أحبّ إلى اللّه من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية اللّه ، وقطرة دم تهراق في سبيل اللّه ، أمّا الأثران فأثر في سبيل اللّه، وأثر في فريضة من فرائض اللّه « .
وجمهور الحنابلة يرون حرمة غسله ، وهي رواية عن الإمام أحمد ، غير أنّ منهم من يرى كراهته ، أمّا الصّلاة فلا يصلّى عليه في أصحّ الرّوايتين لديهم . وفي رواية عندهم تجب الصّلاة عليه ، ومال إلى هذا بعض علمائهم منهم الخلال ، وأبو الخطّاب وأبو بكر بن عبد العزيز في التّنبيه .
ضابط الشّهيد الّذي لا يغسّل ولا يصلّى عليه :
5 - ذهب الفقهاء إلى أنّ : من قتله المشركون في القتال ، أو وجد ميّتاً في مكان المعركة وبه أثر جراحة أو دم ، لا يغسّل لقوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد : » زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسّلوهم « ، ولم ينقل خلاف في هذا إلاّ ما روي عن الحسن ، وسعيد بن المسيّب . واختلفوا في غير من ذكر ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى : أنّ كلّ مسلم مات بسبب قتال الكفّار حال قيام القتال لا يغسّل ، سواء قتله كافر ، أو أصابه سلاح مسلم خطأً ، أو عاد إليه سلاحه ، أو سقط عن دابّته ، أو رمحته دابّة فمات ، أو وجد قتيلاً بعد المعركة ولم يعلم سبب موته ، سواء كان عليه أثر دم أم لا ، ولا فرق في ذلك بين الرّجل والمرأة ، والحرّ والعبد ، والبالغ والصّبيّ .
وقال الحنفيّة : يغسّل كلّ مسلم قتل بالحديد ظلماً وهو طاهر بالغ ، ولم يجب عوض ماليّ في قتله، فإن كان جنباً أو صبيّاً ، أو وجب في قتله قصاص ، فإنّه يغسّل ، وإن وجد قتيلاً في مكان المعركة ، فإن ظهر فيه أثر لجراحة ، أو دم في موضع غير معتاد كالعين فلا يغسّل .
ولو خرج الدّم من موضع يخرج الدّم عادةً منه بغير آفة في الغالب كالأنف ، والدّبر والذّكر فيغسّل .
والأصل عندهم في غسل الشّهيد : أنّ كلّ من صار مقتولاً في قتال أهل الحرب أو البغاة ، أو قطّاع الطّريق ، بمعنىً مضاف إلى العدوّ كان شهيداً ، سواء بالمباشرة أو التّسبّب ، وكلّ من صار مقتولاً بمعنىً غير مضاف إلى العدوّ لا يكون شهيداً . فإن سقط من دابّته من غير تنفير من العدوّ أو انفلتت دابّة مشرك وليس عليها أحد فوطئت مسلماً ، أو رمى مسلم إلى العدوّ فأصاب مسلماً ، أو هرب المسلمون فألجأهم العدوّ إلى خندق ، أو نار ، أو جعل المسلمون الحسك حولهم، فمشوا عليها ، في فرارهم ، أو هجومهم على الكفّار فماتوا يغسّلون ، وكذا إن صعد مسلم حصناً للعدوّ ليفتح الباب للمسلمين ، فزلّت رجله فمات ، يغسّل .(/2)
وقال الحنابلة : لا يغسّل الشّهيد سواء كان مكلّفاً أو غيره إلاّ إن كان جنباً أو امرأةً حائضاً أو نفساء طهرت من حيضها ، أو نفاسها ، وإن سقط من دابّته أو وجد ميّتاً ولا أثر به ، أو سقط من شاهق في القتال أو رفسته دابّة فمات منها ، أو عاد إليه سهمه فيها ، فالصّحيح في المذهب في ذلك كلّه أنّه : يغسّل ، إذا لم يكن ذلك من فعل العدوّ ، ومن قتل مظلوماً ، بأيّ سلاح قتل ، كقتيل اللّصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة ، فلا يغسّل في أصحّ الرّوايتين عن أحمد .
وقال الشّافعيّة ، والمالكيّة : يغسّل من قتله اللّصوص أو البغاة . أمّا من مات في غير ما ذكر من الّذين ورد فيهم أنّهم شهداء : كالغريق ، والمبطون ، والمرأة الّتي ماتت في الولادة ، وغير ذلك فإنّهم شهداء في الآخرة ، ولكنّهم يغسّلون باتّفاق الفقهاء .
إزالة النّجاسة عن الشّهيد :
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّه إذا كان على الشّهيد نجاسة غير دم الشّهادة تغسل عنه ، وإن أدّى ذلك إلى إزالة دم الشّهادة ، لأنّها ليست من أثر العبادة ، وفي قول عند الشّافعيّة ، ولا تغسل النّجاسة إذا كانت تؤدّي إلى إزالة دم الشّهادة .
وسبق أنّ النّجاسة تغسل عن الشّهيد عند الحنفيّة .
موت الشّهيد بجراحه في المعركة :
7 - المُرْتَثُّ : وهو من جرح في القتال ، وقد بقيت فيه حياة مستقرّة ثمّ مات يغسّل وإن قطع أنّ جراحته ستؤدّي إلى موته .
وينظر التّفصيل في : ( ارتثاث 3 /9 ) .
تكفين الشّهيد :
8 - شهيد القتال مع الكفّار لا يكفّن كسائر الموتى بل يدفن في ثيابه الّتي كانت عليه في المعركة بعد نزع آلة الحرب عنه .
لحديث : » زمّلوهم بدمائهم « ، وفي رواية : » في ثيابهم « .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تكفين ف 14 ) .
دفن الشّهيد :
9 - من السّنّة أن يدفن الشّهداء في مصارعهم ، ولا ينقلون إلى مكان آخر ، فإنّ قوماً من الصّحابة نقلوا قتلاهم في واقعة أحد إلى المدينة ، فنادى منادي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأمر بردّ القتلى إلى مصارعهم .
فقد قال جابر : » فبينما أنا في النّظّارين إذ جاءت عمّتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح ، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا ، إذ لحق رجل ينادي ، ألا إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت : فرجعنا بهما فدفنّاهما حيث قتلا .. « .
دفن أكثر من شهيد في قبر واحد :
10 - يجوز دفن الرّجلين أو الثّلاثة في القبر الواحد ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرّجلين من قتلى أحد في قبر واحد ، ثمّ يقول : » أيّهم أكثر أخذًا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللّحد ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم في دمائهم ، ولم يصلّ عليهم ولم يغسّلهم « .
ودفن عبد اللّه بن عمرو بن حرام وعمرو بن جموح في قبر واحد ، لما كان بينهما من المحبّة ، إذ قال عليه الصلاة والسلام : » ادفنوا هذين المتحابّين في الدّنيا في قبر واحد « .
وتفصيله في مصطلح ( دفن ف 14 ) .(/3)
شَهْر *
التّعريف :
1 - الشّهر : الهلال ، سمّي به لشهرته ووضوحه ، ثمّ سمّيت الأيّام به . وجمعه : شهور وأشهر ، وهو مأخوذ من الشّهرة وهي : الانتشار ووضوح الأمر ، ومنه شهرت الأمر أشهره شهراً وشهرةً فاشتهر أي : وضح ، وكذلك أشهرته وشهّرته تشهيراً .
وأوّل الشّهر : من اليوم الأوّل إلى السّادس عشر . وآخر الشّهر منه إلى الآخر إلاّ إذا كان تسعةً وعشرين يوماً ، فإنّ أوّله حينئذ إلى وقت الزّوال من الخامس عشر ، وما بعده آخر الشّهر . ورأس الشّهر : اللّيلة الأولى مع اليوم .
وغرّة الشّهر : إلى انقضاء ثلاثة أيّام .
واختلفوا في الهلال فقيل : إنّه كالغرّة ، والصّحيح أنّه أوّل يوم ، وإن خفي فالثّاني .
وسلخ الشّهر : اليوم الأخير منه .
وفي الشّرع : المراد بالشّهر عند الإطلاق : الشّهر الهلاليّ . قال اللّه تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } .
ولم يختلف النّاس في أنّ الأشهر الحرم معتبرة بالأهلّة .
قال القرطبيّ : هذه الآية تدلّ على أنّ الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها ، إنّما يكون بالشّهور والسّنين الّتي تعرفها العرب ، دون الشّهور الّتي تعتبرها العجم والرّوم والقبط ، وإن لم تزد - شهور سنواتهم - على اثني عشر شهراً لأنّها مختلفة الأعداد : منها ما يزيد على ثلاثين يوماً ، ومنها ما ينقص . وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين يوماً ، وإن كان منها ما ينقص . والّذي ينقص ليس يتعيّن له شهر ، وإنّما تفاوتها في النّقصان والتّمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج . وورد في كتب الشّافعيّة استثناء من هذا الأصل في بعض المسائل ، كالأشهر السّتّة المعتبرة في أقلّ الحمل ، يريدون بالشّهر فيها ثلاثين يوماً ولا يعنون به الشّهر الهلاليّ .
الأحكام المتعلّقة بالشّهر :
أشهر الحجّ :
2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ أشهر الحجّ هي : شوّال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجّة . وذهب المالكيّة إلى أنّ أشهر الحجّ هي : شوّال وذو القعدة وذو الحجّة .
وللتّفصيل ر : ( أشهر الحجّ ف 1 - 4 ج 5 /49 ) .
الأشهر الحرم :
3 - الأشهر الحرم : هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } والمراد بها : رجب مضر ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم .
وللتّفصيل ينظر : ( الأشهر الحرم ف 1 - 6 ج 5 /50 ) .
العدّة بالشّهور :
4 - إذا لم تكن من وجبت عليها العدّة ذات قرء لصغر أو يأس ، فإنّها تعتدّ بالشّهور ، لقول اللّه تعالى : { وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ } .
وذات القرء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدّت بالأشهر .
والآيسة ، وكلّ من توفّي عنها زوجها ولا حمل بها قبل الدّخول أو بعده حرّةً أو أمةً عدّتها بالشّهور ، لقول اللّه تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } .
وللفقهاء تفصيل في عدّة المطلّقة بالأشهر ، وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، وانتقال العدّة من الأشهر إلى الأقراء ، وانتقالها من الأقراء إلى الأشهر : ينظر في ( عدّة ) .
الإجارة مشاهرةً :
5 - إذا قال المؤجّر : آجرتك داري عشرين شهراً كلّ شهر بدرهم مثلاً جاز العقد بغير خلاف ، لأنّ المدّة معلومة وأجرها معلوم وليس لواحد من المؤجّر والمستأجر حقّ الفسخ بحال ، لأنّها مدّة واحدة فأشبه ما لو قال : آجرتك عشرين شهراً بعشرين درهماً .
أمّا إذا قال المؤجّر : آجرتك هذا كلّ شهر بدرهم . فقد اختلف الفقهاء في صحّة الإجارة حسب الاتّجاهات التّالية :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة وأبو ثور إلى : أنّ الإجارة صحيحة إلاّ أنّ الشّهر الأوّل تلزم الإجارة فيه بإطلاق العقد ، وما بعده من الشّهور يلزم العقد فيه بالتّلبّس به ، وهو السّكنى في الدّار .
واستدلّوا بأنّ عليّاً - رضي الله عنه - استقى لرجل من اليهود كلّ دلو بتمرة ، وجاء بالتّمر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل منه ، قال عليّ : كنت أدلو الدّلو وأشترطها جلدةً .
وعن أبي هريرة : » أنّ رجلاً من الأنصار قال ليهوديّ : أسقي نخلك ؟ قال : كلّ دلو بتمرة . واشترط الأنصاريّ أن لا يأخذها خدرةً – عفنةً – ولا تارزةً – يابسةً- ولا حشفةً . ولا يأخذ إلاّ جلدةً فاستقى بنحو من صاعين ، فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم « .
قال ابن قدامة : وهو نظير مسألتنا ، ولأنّ شروعه في كلّ شهر مع ما تقدّم في العقد من الاتّفاق على تقدير أجره والرّضا ببذله به جرى مجرى ابتداء العقد عليه وصار كالبيع بالمعاطاة . والمالكيّة وإن كانوا يقولون بصحّة الإجارة في هذه الحالة إلاّ أنّهم لا يعتبرون الإجارة لازمةً فلكلّ من المؤجّر والمستأجر عندهم حلّ العقد عن نفسه متى شاء ، ولا كلام للآخر .
والقول الصّحيح للشّافعيّة ولأبي بكر عبد العزيز بن جعفر وأبي عبد اللّه بن حامد من الحنابلة : أنّ العقد باطل لأنّ " كلّ " اسم للعدد ، فإذا لم يقدّره كان مبهماً مجهولاً فيكون فاسداً كما لو قال : آجرتك مدّةً أو شهراً .(/1)
قال في الإملاء - وهو القول المقابل للصّحيح للشّافعيّة - : تصحّ الإجارة في الشّهر الأوّل ، وتبطل فيما زاد ، لأنّ الشّهر الأوّل معلوم وما زاد مجهول ، فصحّ في المعلوم وبطل في المجهول، كما لو قال : آجرتك هذا الشّهر بدينار وما زاد بحسابه .
المراد بالشّهر في الإجارة :
6 - لا خلاف بين الفقهاء أنّ عقد الإجارة إذا انطبق على أوّل الشّهر كان ذلك الشّهر وما بعده بالأهلّة .
وإن لم ينطبق العقد على أوّل الشّهر تمّم المنكسر بالعدد من الأخير ، ويحسب الثّاني بالأهلّة . بهذا يقول الشّافعيّة والصّاحبان من الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، وهو ما يؤخذ من عبارات المالكيّة في باب العدّة .
ويرى أبو حنيفة والشّافعيّ في رواية - نقلها عنه ابن قدامة - وأحمد في رواية : أنّه يستوفى الجميع بالعدد ، لأنّ الشّهر الأوّل يكمل بالأيّام من الثّاني ، فيصير أوّل الثّاني بالأيّام ، فيكمل بالثّالث وهكذا .
والظّاهر أنّ هذا الخلاف يجري في كلّ ما يعتبر بالأشهر ، كعدّة وفاة ، وصوم شهري كفّارة ، ومدّة خيار ، وأجل ثمن وسلم لأنّ هذه المسائل تساوي ما تقدّم معنىً .(/2)
شَهْوَة *
التّعريف :
1 - الشّهوة لغةً : اشتياق النّفس إلى الشّيء ، والجمع : شهوات . وشيء شهيّ ، مثل لذيذ ، وزناً ومعنىً .
واشتهاه وتشهّاه : أحبّه ورغب فيه .
وفي الاصطلاح : توقان النّفس إلى المستلذّات .
وقال القرطبيّ : الشّهوات عبارة عمّا يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتّقيه .
وفي إعطاء النّفس حظّها من الشّهوات المباحة مذاهب حكاها الماورديّ :
أحدها : منعها وقهرها كي لا تطغى .
والثّاني : إعطاؤها تحيّلاً على نشاطها وبعثاً لروحانيّتها .
والثّالث : قال - وهو الأشبه - : التّوسّط ، لأنّ في إعطاء الكلّ سلاطةً ، وفي المنع بلادةً .
الأحكام المتعلّقة بالشّهوة :
نقض الوضوء باللّمس بشهوة :
2 - ذهب الحنفيّة إلى : أنّ لمس المرأة غير المحرم بشهوة أو بغير شهوة غير ناقض للوضوء، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى : أنّه ينتقض الوضوء بمباشرة فاحشة استحساناً ، وهي مسّ فرج أو دبر بذكر منتصب بلا حائل يمنع حرارة الجسد ، أو مع وجود حائل رقيق لا يمنع الحرارة.
وكما ينتقض وضوء الرّجل ينتقض وضوء المرأة كما في القنية .
وقال محمّد بن الحسن : لا ينتقض الوضوء إلاّ بخروج المذي ، وهو القياس .
ووجه الاستحسان : أنّ المباشرة الفاحشة لا تخلو عن خروج المذي غالباً ، والغالب كالمتحقّق . وفي مجمع الأنهر : قوله : - أي محمّد - : أقيس ، وقولهما : أحوط .
3 - وذهب المالكيّة إلى : أنّ لمس المتوضّئ البالغ لشخص يلتذّ بمثله عادةً - من ذكر أو أنثى- ينقض الوضوء ولو كان الملموس غير بالغ ، أو كان اللّمس لظفر أو شعر أو من فوق حائل كثوب ، وظاهر المدوّنة سواء كان الحائل خفيفاً يحسّ اللامس معه بطراوة البدن ، أم كان كثيفاً، وتأوّلها بعض المالكيّة بالخفيف ، ومحلّ الخلاف بين الخفيف والكثيف ما لم يقبض ، فإن قبض على شيء من الجسم نقض اتّفاقاً .
ومحلّ النّقض : إن قصد التّلذّذ بلمسه ، وإن لم تحصل له لذّة حال لمسه ، أو وجدها حال اللّمس وإن لم يكن قاصداً لها ابتداءً . فإن لم يقصد ولم تحصل له لذّة فلا نقض ولو وجدها بعد اللّمس . والملموس - إن بلغ ووجد اللّذّة أو قصدها - بأن مالت نفسه لأن يلمسه غيره فلمسه : انتقض وضوءه ، لأنّه صار في الحقيقة لامساً وملموساً ، فإن لم يكن بالغاً فلا نقض ، ولو قصد ووجد . وأمّا القبلة في الفم فتنقض الوضوء مطلقاً ، سواء قصد المقبّل اللّذّة أو وجدها ، أم لا ، لأنّها مظنّة اللّذّة بخلافها في غير الفم . وسواء في النّقض : المقبّل والمقبّل ، ولو وقعت بإكراه أو استغفال .
ولا ينتقض الوضوء بلذّة من نظر أو فكر ولو أنعظ ، ولا بلمس صغيرة لا تشتهى أو بهيمة .
4 - وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التقاء بشرتي الرّجل والمرأة ينقض الوضوء ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بشهوة أو إكراه ، أو نسيان ، أو يكون الرّجل ممسوح الذّكر ، أو خصيّاً ، أو عنّيناً ، أو المرأة عجوزاً شوهاء أو كافرةً .
واللّمس عندهم : الحسّ باليد ، والمعنى فيه أنّه مظنّة ثوران الشّهوة ، ومثله في ذلك باقي صور الالتقاء فألحقت به ، بخلاف نقض الوضوء بمسّ الفرج ، فإنّه يختصّ ببطن الكفّ لأنّ المسّ إنّما يثير الشّهوة ببطن الكفّ ، واللّمس يثيرها به وبغيره .
والمراد بالرّجل : الذّكر إذا بلغ حدّاً يشتهي لا البالغ .
وبالمرأة : الأنثى إذا صارت مشتهاةً لا البالغة .
ولا ينتقض الوضوء بلمس المحرم له بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، ولو بشهوة في الأظهر ، لأنّها ليست مظنّة الشّهوة بالنّسبة إليه ، كالرّجل . ومقابل الأظهر ينتقض الوضوء لعموم قوله تعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } .
والملموس رجلاً كان أو امرأةً كاللامس في نقض وضوئه في الأظهر ، لاستوائهما في لذّة اللّمس.
ولا نقض بلمس الصّغيرة أو الصّغير إذا لم يبلغ كلّ منهما حدّاً يشتهى عرفاً . ولا بلمس الشّعر أو السّنّ أو الظّفر في الأصحّ .
5- وذهب الحنابلة إلى أنّ من النّواقض للوضوء مسّ بشرة الذّكر بشرة أنثى لشهوة ، لقوله تعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } .
وأمّا كون اللّمس لا ينقض إلاّ إذا كان لشهوة فللجمع بين الآية والأخبار . لأنّه روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : » فقدت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش فالتمسته ، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان « . ونصبهما دليل على أنّه كان يصلّي ، وروي عنها أيضاً أنّها قالت : » كنت أنام بين يدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي « .
والظّاهر أنّ غمزه رجليها كان من غير حائل . ولأنّ المسّ ليس بحدث في نفسه ، وإنّما هو داع إلى الحدث ، فاعتبرت الحالة الّتي يدعو فيها إلى الحدث ، وهي حالة الشّهوة .
وينقض الوضوء مسّ بشرتها بشرته لشهوة ، لأنّها ملامسة تنقض الوضوء فاستوى فيها الذّكر والأنثى كالجماع .
ويشترط في المسّ النّاقض للوضوء : أن يكون من غير حائل ، لأنّه مع الحائل لم يلمس بشرتها، أشبه ما لو لمس ثيابها لشهوة ، والشّهوة لا توجب الوضوء بمجرّدها .
ولا ينقض مسّ الرّجل الطّفلة ، ولا مسّ المرأة الطّفل . أي : من دون سبع سنوات ، ولا ينتقض وضوء ملموس بدنه ولو وجد منه شهوةً ، لأنّه لا نصّ فيه .
وقال ابن قدامة : وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشّهوة ، لأنّ ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس .(/1)
ولا ينتقض وضوء بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر ، ولا بلمس شعر وظفر وسنّ ولا المسّ به، لأنّه في حكم المنفصل ، ولا مسّ عضو مقطوع لزوال حرمته ، ولا ينتقض وضوء رجل مسّ أمرد ولو بشهوة ، لعدم تناول الآية له . ولأنّه ليس محلاً للشّهوة شرعاً .
ولا ينتقض الوضوء بمسّ الرّجلِ الرّجلَ ، ولا بمسّ المرأةِ المرأةَ ولو بشهوة .
وتفصيل ما تقدّم في مصطلح : ( وضوء ) .
الشّهوة وأثرها في الصّوم :
أ - الإنزال بنظر أو فكر :
6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى : أنّ إنزال المنيّ أو المذي عن نظر وفكر لا يبطل الصّيام ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه : إذا اعتاد الإنزال بالنّظر ، أو كرّر النّظر فأنزل يفسد الصّيام . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى : أنّ إنزال المنيّ بالنّظر المستديم يفسد الصّوم ، لأنّه إنزال بفعل يتلذّذ به ، ويمكن التّحرّز منه .
وأمّا الإنزال عن فكر فيفسد الصّوم عند المالكيّة ، وعند الحنابلة لا يفسده لأنّه لا يمكنه التّحرّز عنه .
ب - الإنزال عن قبلة أو مسّ أو معانقة :
7- لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إنزال المنيّ باللّمس أو المعانقة أو القبلة يفسد الصّوم ، لأنّه إنزال بمباشرة فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج .
أمّا إذا حصل من القبلة والمعانقة واللّمس إنزال مذي فلا يفسد الصّوم عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ويفسده عند المالكيّة والحنابلة ، لأنّه خارج تخلّله الشّهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصّوم كالمنيّ. وتفصيله في مصطلح : ( صوم ) .
الشّهوة وأثرها في الحجّ والعمرة :
أ - الجماع :
8 - إذا وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء وإذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة وقبل التّحلّل الأوّل فسد حجّه وعليه بدنة عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - .
وذهب الحنفيّة إلى عدم فساد الحجّ وعليه أن يهدي بدنةً .
واتّفق الفقهاء على أنّ الجماع إذا وقع بعد التّحلّل الأوّل لا يفسد الحجّ .
وقد سبق تفصيله في مصطلح ( إحرام : الموسوعة 2 /191 - 193 ) .
ب - مقدّمات الجماع :
9 - اللّمس بشهوة والتّقبيل والمباشرة بغير جماع ، يجب على من فعل شيئاً منها الدّم ، سواء أنزل أم لم ينزل ، وحجّه صحيح على تفصيل وخلاف سبق في مصطلح : ( إحرام : الموسوعة 2 /192 - 193 ) .
ج - النّظر والتّفكّر :
10 - النّظر أو التّفكّر بشهوة إذا أدّى إلى الإنزال لا يجب عليه شيء عند الحنفيّة والشّافعيّة خلافاً للمالكيّة والحنابلة .
وتفصيل الخلاف فيه سبق في مصطلح : ( إحرام : الموسوعة 2 /193 ) .
النّظر بشهوة :
نظر الرّجل للمرأة :
11 - أ - إذا كانت زوجةً جاز للزّوج النّظر إلى جميع جسدها بشهوة :
ب - إذا كانت المرأة ذات محرم فقد اختلف الفقهاء فيما يجوز نظر البالغ بلا شهوة من محرمه الأنثى :
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز النّظر إلى ما يظهر غالباً كالرّقبة والرّأس والكفّين والقدمين ، ولم يجز الحنابلة النّظر إلى ما زاد على ذلك .
وزاد الحنفيّة جواز النّظر إلى الصّدر والسّاقين والعضدين ، ولم يجيزوا النّظر إلى ظهرها وبطنها، لأنّه أدعى للشّهوة .
وتوسّع الشّافعيّة فأجازوا النّظر إلى جميع جسدها إلاّ ما بين سرّتها وركبتها ، وأجازوا النّظر إلى السّرّة والرّكبة ، لأنّهما ليستا بعورة بالنّسبة لنظر المحرم .
أمّا المالكيّة فلم يجيزوا النّظر إلاّ إلى وجهها ويديها دون سائر جسدها .
هذا وقد اتّفقوا على حرمة النّظر بشهوة إلى محرمه الأنثى .
ج - إذا كانت المرأة أجنبيّةً حرّةً فلا يجوز النّظر إليها بشهوة مطلقاً ، أو مع خوف الفتنة بلا خلاف بين الفقهاء .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز نظر الأجنبيّ إلى سائر بدن الأجنبيّة الحرّة إلاّ الوجه والكفّين لقوله تبارك وتعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . إلاّ أنّ النّظر إلى مواضع الزّينة الظّاهرة وهي الوجه والكفّان خصّ فيه بقوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } والمراد من الزّينة مواضعها ، ومواضع الزّينة الظّاهرة : الوجه والكفّان ، فالكحل زينة الوجه والخاتم زينة الكفّ ، ولأنّها تحتاج إلى البيع والشّراء والأخذ والعطاء ، ولا يمكنها ذلك عادةً إلاّ بكشف الوجه والكفّين ، فيحلّ لها الكشف ، وهذا قول أبي حنيفة ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه يحلّ النّظر إلى القدمين .
والمالكيّة كالحنفيّة في جواز النّظر إلى وجه الأجنبيّة وكفّيها . أمّا النّظر إلى القدمين فلا يجوز عندهم .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يحرم نظر بالغ عاقل مختار ، ولو شيخاً أو عاجزاً عن الوطء أو مخنّثاً - وهو المتشبّه بالنّساء - إلى عورة أجنبيّة حرّة كبيرة - وهي من بلغت حدّاً تشتهى فيه للنّاظر بلا خلاف لقوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } والمراد بالعورة : ما عدا الوجه والكفّين .
وكذا يحرم عندهم : النّظر إلى الوجه والكفّين عند خوف فتنة تدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدّماته بالإجماع كما قال إمام الحرمين .
وكذا يحرم عند الشّافعيّة النّظر إلى الوجه والكفّين عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصّحيح ، كذا في المنهاج للنّوويّ .
ووجّهه إمام الحرمين باتّفاق المسلمين على منع النّساء من الخروج سافرات الوجوه ، وبأنّ النّظر مظنّة الفتنة ومحرّك للشّهوة ، وقد قال تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } واللائق بمحاسن الشّريعة سدّ الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبيّة .(/2)
والوجه الثّاني عند الشّافعيّة : أنّه لا يحرم ، ونسبه إمام الحرمين لجمهور الشّافعيّة ، ونسبه الشّيخان للأكثرين ، وقال الإسنويّ في المهمّات : إنّه الصّواب لكون الأكثرين عليه ، وقال البلقينيّ : التّرجيح بقوّة المدرك ، والفتوى على ما في المنهاج .
وذهب الحنابلة إلى تحريم نظر الرّجل إلى جميع بدن الأجنبيّة من غير سبب في ظاهر كلام أحمد. وقال القاضي : يحرم عليه النّظر إلى ما عدا الوجه والكفّين ، لأنّه عورة ، ويباح له النّظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة ونظر لغير شهوة .
هذا وقد اتّفق الفقهاء على أنّ النّظر إلى المرأة بشهوة حرام ، سواء أكانت محرماً أم أجنبيّةً عدا زوجته ومن تحلّ له .
وكذا يحرم نظر الأجنبيّة إلى الأجنبيّ إذا كان بشهوة .
اللّمس بشهوة :
12 - متى حرم النّظر حرم المسّ بشهوة ، لأنّ المسّ أبلغ من النّظر في إثارة الشّهوة ، وما حلّ نظره من ذكر أو أنثى حلّ لمسه إذا أمن الشّهوة على نفسه وعليها ، وإن لم يأمن ذلك أو شكّ فلا يحلّ له النّظر واللّمس .
أمّا الأجنبيّة فلا يحلّ مسّ وجهها وكفّيها وإن أمن الشّهوة ، لأنّه أغلظ من النّظر .
وتفصيله في مصطلح : ( لمس ومسّ ) .
أثر الشّهوة في النّكاح :
13 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى : أنّ حرمة المصاهرة تثبت بالزّنى .
وزاد الحنابلة اللّواط في رواية . والصّحيح عندهم أنّ اللّواط لا ينشر الحرمة ، لأنّ المحرّمات باللّواط غير منصوص عليهنّ في التّحريم ، فيدخلن في عموم قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } .
وذهب الحنفيّة إلى : أنّ حرمة المصاهرة كما تثبت بالزّنى تثبت بالمسّ والنّظر بشهوة . فيحرم أصل ممسوسة بشهوة ولو لشعر على الرّأس بحائل لا يمنع الحرارة ، وكذا يحرم أصل ما مسّته. ويحرم أيضاً نكاح أصل النّاظرة بشهوة إلى ذكر ، وأصل المنظور إلى فرجها بشهوة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( زنىً ، لواط ، نظر ، نكاح ) والعبرة للشّهوة عند المسّ والنّظر لا بعدهما .
حدّ الشّهوة :
14 - حدّ الشّهوة في النّظر والمسّ تحرّك الآلة أو زيادة التّحرّك إن كان موجوداً قبلها ، وبه يفتى عند الحنفيّة .
والتّفصيل في مصطلح : ( لواط ، ونكاح ) .
أثر الشّهوة في الرّجعة :
15 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ الرّجعة تحصل بالقول والفعل ، ويقصدون بالفعل : الوطء ومقدّماته ، ومقدّمات الوطء لا تخلو عن مسّ بشهوة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الرّجعة لا تحصل بالفعل كالوطء ومقدّماته . بل لا بدّ فيها من القول قياساً على عقد الزّواج فإنّه لا يصحّ إلاّ بالقول الدّالّ عليه .
وتفصيل الخلاف فيه في مصطلح : ( رجعة ) .
كسر الشّهوة :
16 - من أراد الزّواج ولم يستطع ، يكسر شهوته بالصّوم لقوله عليه الصلاة والسلام : » يا معشر الشّباب من استطاع الباءة فليتزوّج ، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم ، فإنّه له وجاء « .
فمن لم يجد أهبة النّكاح يكسرها بالصّوم ، ولا يكسرها بنحو كافور بل يكره له ذلك ويكره أن يحتال في قطع شهوته ، لأنّه نوع من الخصاء ، إن غلب على الظّنّ أنّه لا يقطع الشّهوة بالكلّيّة بل يفتّرها في الحال ، ولو أراد إعادتها باستعمال ضدّ الأدوية لأمكنه ذلك ، فإن كان يقطع الشّهوة حرم .
وتفصيله في مصطلح : ( نكاح ) .(/3)
شَوَّال *
التّعريف :
1 - شوّال ، ويقال : الشّوَّال : هو أحد شهور السّنة القمريّة العربيّة ، الّذي يلي رمضان ، وهو شهر عيد الفطر ، وأوّل أشهر الحجّ المذكورة في قوله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } . الأحكام المتعلّقة بشوّال :
صيام السّتّ من شوّال :
2 - ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ صيام ستّة أيّام من شوّال سنّة لحديث : » من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال ، كان كصيام الدّهر « .
وذهب آخرون إلى كراهة ذلك لئلاّ يلحق العامّة برمضان ما ليس منه .
وانظر التّفصيل في مصطلح : ( صوم التّطوّع ) .
ما تثبت به رؤية هلال شوّال :
3 - يثبت هلال شوّال بإكمال عدّة رمضان ، واختلف العلماء في ما يثبت به هلال شوّال بغير ذلك :
فذهب الأكثرون : إلى أنّه لا يثبت بأقلّ من شاهدين عدلين ، وقال آخرون : يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وقال البعض : يثبت بشهادة رجل واحد .
وإذا كانت السّماء مصحيةً فقد رأى البعض أنّه لا بدّ من الرّؤية المستفيضة .
وانظر مصطلح : ( رويّة الهلال ) .
المنفرد برؤية هلال شوّال :
4 - إذا انفرد واحد برؤية هلال شوّال ، لم يجز له الفطر إلاّ أن يحصل له عذر يبيح الإفطار كالسّفر ، أو المرض ، أو الحيض ، لحديث أبي هريرة يرفعه : » الصّوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون ، والأضحى يوم تضحّون « .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الفطر يوم يفطر النّاس ، والأضحى يوم يضحّي النّاس « .
وقال الحنفيّة : فإن أفطر فعليه قضاء اليوم بلا كفّارة ، وإن كان الرّائي الإمام أو القاضي ، لا يخرج إلى المصلّى ، ولا يأمر النّاس بالخروج ، ولا يفطر الرّائي سرّاً ولا جهراً .
وقال المالكيّة والحنابلة : إن كان بمفازة ليس بقربه بلد وليس في جماعة : يبني على يقين رؤيته فيفطر ، لأنّه لا يتيقّن مخالفة الجماعة .
وقال الشّافعيّة : إذا رأى شخص هلال شوّال وحده لزمه الفطر ، ويندب أن يكون سرّاً لقوله صلى الله عليه وسلم : » وأفطروا لرؤيته « .(/1)
شُرب *
التّعريف :
1 - الشُّرب - بالضّمّ - لغةً : تناول كلّ مائع ماءً كان أو غيره .
ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بنفس المعنى اللّغويّ .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الأصل جواز شرب المشروبات كلّها إلاّ ما قامت دلالة تحريمه .
وإذا كان ترك الشّرب يتلف نفس الإنسان أو بعض أعضائه أو يضعفه عن أداء الواجبات فواجب عليه أن يشرب ما يزول معه خوف الضّرر .
وقال القرطبيّ : أمّا ما تدعو الحاجة إليه وهو ما سكّن الظّمأ فمندوب إليه عقلاً وشرعاً لما فيه من حفظ النّفس وحراسة الحواسّ .
وقال الجصّاص : أمّا الحال الّتي لا يخاف الإنسان ضررًا فيها بترك الشّرب فالشّرب مباح . وقد اختلف في شرب الزّائد على قدر الحاجة على قولين : فقيل حرام . وقيل مكروه .
قال ابن العربيّ : وهو الصّحيح .
آداب الشّرب :
أ - التّسمية على الشّرب :
3 - تستحبّ التّسمية في أوّل الشّرب .
قال صاحب غاية المنتهى : يسمّي الشّارب عند كلّ ابتداء ويحمد عند كلّ قطع .
وقال العلماء : يستحبّ أن يجهر بالتّسمية ليسمع غيره وينبّهه عليها . ولو ترك التّسمية في أوّل الشّرب عامداً أو ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً أو عاجزاً لعارض آخر ، ثمّ تمكّن أثناء شربه أو بعده منها ، يستحبّ أن يسمّي ويقول : " بسم اللّه أوّله وآخره " لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللّه فإن نسي أن يذكر اللّه في أوّله فليقل بسم اللّه أوّله وآخره » .
وتحصل التّسمية بقوله : " بسم اللّه " فإن قال : " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم " كان حسناً .
ب - الشّرب باليمين :
4 - يستحبّ الشّرب باليمين ، ويكره الشّرب بالشّمال إذا لم يكن عذر لخبر « إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ، وإذا شرب فليشرب بيمينه ، فإنّ الشّيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله » . فإن كان عذر يمنع الشّرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشّمال .
ج - الشّرب ثلاثة أنفاس :
5 - السّنّة : أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس ، فقد ورد من حديث أنس - رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتنفّس في الإناء ثلاثاً » وفي لفظ « كان يتنفّس ثلاثاً ، ويقول : إنّه أروى وأبرأ وأمرأ » . ومعنى أروى أي : أكثر ريّاً ، وأبرأ أي : أسلم من مرض أو أذىً يحصل بسبب الشّرب في نفس واحد ، وأمرأ أي أكمل انسياغاً .
قال الشّوكانيّ في تعليقه على الحديث : هذه الأمور الثّلاثة إنّما تحصل بأن يشرب ثلاثة أنفاس خارج القدح .
ثمّ اختلف العلماء في الشّرب بنفس واحد فروي عن ابن المسيّب وعطاء بن أبي رباح أنّهما أجازاه بنفس واحد . وروي عن ابن عبّاس وطاوس وعكرمة كراهة الشّرب بنفس واحد ، وقال ابن عبّاس هو شرب الشّيطان .
د - عدم التّنفّس في الإناء :
6 - يندب إبعاد القدح حين التّنفّس حالة الشّرب ، ويكره التّنفّس في الإناء كما يكره النّفخ فيه ، لحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفّس في الإناء أو ينفخ فيه » .
قال أبو الوليد الباجيّ : في حكمة النّهي عن النّفخ في الإناء : نهى صلى الله عليه وسلم عن النّفخ في الشّراب حملاً لأمّته على مكارم الأخلاق ، لأنّ النّافخ في آنية الماء يجوز أن يقع من ريقه فيها شيء مع النّفخ فيتقذّره النّاظر ويفسده عليه .
وقال الشّوكانيّ : النّهي عن التّنفّس في " الإناء " الّذي يشرب منه لئلاّ يخرج من الفم بزاق يستقذره من شرب بعده منه ، أو تحصل فيه رائحة كريهة تتعلّق بالماء أو بالإناء .
هـ – عدم الشّرب قائماً :
7 - كان من هديه صلى الله عليه وسلم الشّرب قاعداً ، هذا كان هديه المعتاد ، وصحّ عنه « أنّه نهى عن الشّرب قائماً ، وصحّ عنه أنّه أمر الّذي شرب قائماً أن يستقئ ، وصحّ عنه أنّه شرب قائماً » .
قال النّوويّ : الصّواب أنّ النّهي محمول على كراهة التّنزيه . أمّا شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فبيان للجواز ، فلا إشكال ولا تعارض . وهذا الّذي ذكرناه يتعيّن المصير إليه .
ثمّ قال : فإن قيل : كيف يكون الشّرب قائماً مكروهاً وقد فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فالجواب أنّ فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً للجواز لا يكون مكروهاً بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت « أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ مرّةً مرّةً ، وطاف على بعير » ، مع أنّ الإجماع على أنّ الوضوء ثلاثاً ثلاثاً والطّواف ماشياً أكمل .
ونظائر هذا غير منحصرة ، فكان صلى الله عليه وسلم ينبّه على جواز الشّيء مرّةً أو مرّات ويواظب على الأفضل منه . وهكذا كان أكثر وضوئه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثلاثاً والطّواف ماشياً وأكثر شربه جالساً .
وقال النّوويّ في الرّوضة تبعاً للرّافعيّ : لا يكره الشّرب قائماً . وأضاف : والمختار أنّ الشّرب قائماً بلا عذر خلاف الأولى للأحاديث الصّريحة بالنّهي عنه في صحيح مسلم . وقد ضعّف بعض المالكيّة أحاديث النّهي وقيل : إنّها منسوخة .
و - مصّ الماء :
8 - يندب مصّ الماء ويكره عبّه لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا شرب أحدكم فليمصّ مصّاً ولا يعبّ عبّاً فإنّ الكباد من العبّ » . والكباد وجع الكبد ، ومثل الماء كلّ مائع كاللّبن . وقال الرّحيبانيّ : يعبّ اللّبن لأنّه طعام .
ز - تقليل الشّراب :
9 - يطلب تخفيف المعدة بتقليل الطّعام والشّراب على قدر لا يترتّب عليه ضرر ولا كسل عن العبادة .(/1)
قال ابن مفلح : اعلم أنّه متى بالغ في تقليل الغذاء أو الشّراب فأضرّ ببدنه أو شيء منه ، أو قصّر عن فعل واجب لحقّ اللّه أو لحقّ آدميّ ، كالتّكسّب لمن يلزمه مؤنته ، فإنّ ذلك محرّم وإلاّ كره ذلك إذا خرج عن الأمر الشّرعيّ .
ح - الشّرب من فم السّقاء :
10 - يكره الشّرب من فم السّقاء ، وكذا اختناث الأسقية ، لحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الشّرب من في السّقاء » .
وحديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية » يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها .
ويرى جمهور الفقهاء : أنّ الكراهة هنا للتّنزيه لا للتّحريم . ونقل النّوويّ الاتّفاق على هذا . وهناك أحاديث تدلّ على جواز الشّرب من فم السّقاء .
قال العراقيّ في الجمع بين الأحاديث الّتي تدلّ على الجواز وبين الأحاديث الّتي تدلّ على المنع : إنّه لو فرّق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلّقةً ولم يجد المحتاج إلى الشّرب إناءً متيسّراً ولم يتمكّن من التّناول بكفّه فلا كراهة حينئذ ، وعلى هذا تحمل الأحاديث الّتي تدلّ على جواز الشّرب من في السّقاء ، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النّهي.
وقيل : لم يرد حديث من الأحاديث الّتي تدلّ على الجواز إلاّ بفعله صلى الله عليه وسلم وأحاديث النّهي كلّها من قوله فهي أرجح .
ووجه الحكمة في النّهي ما قاله البعض من أنّه لا يؤمن من دخول شيء من الهوامّ مع الماء في جوف السّقاء ، فيدخل فم الشّارب ولا يدري . فعلى هذا لو ملأ السّقاء وهو يشاهد الماء الّذي يدخل فيه ثمّ ربطه ربطاً محكماً ، ثمّ لمّا أراد أن يشرب حلّه فشرب منه لا يتناوله النّهي، وقيل ما ورد من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ : « نهى أن يشرب من في السّقاء لأنّ ذلك ينتنه » وهذا عامّ . وقيل : إنّ الّذي يشرب من في السّقاء قد يغلبه الماء فينصبّ منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتلّ ثيابه .
ط - الشّرب من ثلمة الإناء :
11 - يكره الشّرب من ثلمة الإناء لحديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الشّرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشّراب » .
قال الخطّابيّ : إنّما نهى عن الشّرب من ثلمة القدح لأنّه إذا شرب منها تصبّب الماء ، وسال قطره على وجهه وثوبه ، لأنّ الثّلمة لا تتماسك عليها شفة الشّارب ، كما تتماسك على الموضع الصّحيح من الكوز والقدح .
ي - الحمد عقب الشّرب :
12 - يسنّ للشّارب أن يحمد اللّه عقب الشّرب . لما ورد أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشّربة فيحمده عليها » .
وروى أبو داود من حديث أبي أيّوب « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أو شرب قال : الحمد للّه الّذي أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجاً » .
وعن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال : الحمد للّه الّذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين » .
قال زكريّا الأنصاريّ : " يندب أن يشرب في ثلاثة أنفاس ، بالتّسمية في أوائلها وبالحمد في أواخرها " .
ك - التّيامن في مناولة الشّراب :
13 - يسنّ التّيامن في مناولة الشّراب والطّعام وما جرى مجراهما .
قال الرّحيبانيّ : إذا شرب لبناً أو غيره سنّ أن يناول الأيمن ولو صغيراً أو مفضولاً ، ويتوجّه أن يستأذنه في مناولته الأكبر فإن لم يأذن ناوله له .
فقد ورد من حديث أنس بن مالك « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابيّ وعن شماله أبو بكر ، فشرب ثمّ أعطى الأعرابيّ ، وقال : الأيمن الأيمن » .
ومن حديث سهل بن سعد الأنصاريّ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال : واللّه يا رسول اللّه ، لا أؤثر بنصيبي منك أحداً . قال : فتلّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يده » .
قال الشّيخ أبو القاسم : وهذا يقتضي أنّ حكم التّيامن في المناولة آكد من حكم السّنّ .
الشّرب في آنية الذّهب والفضّة :
14 - يرى جمهور الفقهاء تحريم الأكل والشّرب في إناء الذّهب وإناء الفضّة ، ويستوي في التّحريم الرّجل والمرأة .
ونقل ابن المنذر الإجماع عليه ، إلاّ ما نقل عن التّابعيّ معاوية بن قرّة ، ونقل عن نصّ الشّافعيّ : في سماع حرملة أنّ النّهي فيه للتّنزيه لأنّ فيه تشبّهاً بالأعاجم .
شرب الجنب :
15 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه يسنّ لمن عليه غسل أن يتوضّأ لإرادة أكل أو شرب لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : « رخّص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أن يتوضّأ وضوءه للصّلاة » .
قال أبو عليّ الطّبريّ : ولا يستحبّ ذلك للحائض لأنّ الوضوء لا يؤثّر في حدثها ، ويؤثّر في حدث الجنابة ، لأنّه يخفّفه ويزيله عن أعضاء الوضوء .
ويؤخذ من عبارات المالكيّة : أنّ الجنب لم يؤمر بالوضوء للأكل والشّرب .
قال مالك : لا يتوضّأ إلاّ من أراد أن ينام فقط - وهو جنب - وأمّا من أراد أن يطعم أو يعاود الجماع فلم يؤمر بالوضوء .
الشّرب في الصّلاة :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ المصلّي ممنوع من الشّرب ، وأنّه إذا شرب في صلاة الفرض عامداً لزمه الإعادة .(/2)
واختلفوا فيما إذا كان ساهياً : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تبطل صلاته ويشرع له سجود السّهو . وقيّد الشّافعيّة والحنابلة عدم بطلان الصّلاة في هذه الحالة بما إذا كان الشّرب يسيراً ، أمّا كثير الشّرب فيبطل الصّلاة مطلقاً .
ويرى الحنفيّة والأوزاعيّ أنّ الصّلاة يفسدها الشّرب مطلقاً ولا فرق بين العمد والنّسيان ، لأنّه فعل مبطل من غير جنس الصّلاة ، فاستوى عمده وسهوه كالعمل الكثير .
وأمّا التّطوّع : فيبطله الشّرب المتعمّد عند أكثر الفقهاء ، لأنّ ما أبطل الفرض أبطل التّطوّع كسائر مبطلاته .
وعن أحمد رواية أنّه لا يبطله . ويروى عن ابن الزّبير وسعيد بن جبير أنّهما شربا في التّطوّع . وعن طاوس أنّه لا بأس به ، وكذلك قال إسحاق ،لأنّه عمل يسير فأشبه غير الأكل. فأمّا إن كثر فلا خلاف في أنّه يفسدها ، لأنّ غير الأكل من الأعمال يفسد إذا كثر ، فالأكل والشّرب أولى . وللتّفصيل ( ر : صلاة ) .
شرب الصّائم :
17 - يحرم على الصّائم الأكل والشّرب لقوله سبحانه وتعالى : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } .
فإن شرب وهو ذاكر للصّوم عالم بتحريمه مختار بطل صومه ، لما روى لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أسبغ الوضوء ، وخلّل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائماً » . فدلّ على أنّه إذا وصل إلى الدّماغ شيء بطل صومه .
ونقل ابن المنذر الإجماع على تحريم الطّعام والشّراب على الصّائم .وللتّفصيل ( ر : صوم ).
الشّرب من زمزم :
18 - يستحبّ للحاجّ والمعتمر أن يشرب من ماء زمزم وأن يتضلّع منه .
وينظر التّفصيل في بحث زمزم من الموسوعة ( ج / 24 ف /3 ) .(/3)
صفّ *
التّعريف :
1 - الصّفّ في اللّغة : السّطر المستقيم من كلّ شيء ، والقوم المصطفّون وجعل الشّيء - كالنّاس والأشجار ونحو ذلك - على خطّ مستو ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } وصافّ الجيش عدوّه : قاتله صفوفاً ، وتصافّ القوم : وقفوا صفوفاً متقابلةً . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالصّفّ :
أوّلاً : تسوية الصّفّ في صلاة الجماعة :
2 - ذهب الجمهور إلى أنّه يستحبّ تسوية الصّفوف في صلاة الجماعة بحيث لا يتقدّم بعض المصلّين على البعض الآخر ، ويعتدل القائمون في الصّفّ على سمت واحد مع التّراصّ ، وهو تلاصق المنكب بالمنكب ، والقدم بالقدم ، والكعب بالكعب حتّى لا يكون في الصّفّ خلل ولا فرجة ، ويستحبّ للإمام أن يأمر بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « سوّوا صفوفكم فإنّ تسوية الصّفّ من تمام الصّلاة » . وفي رواية : « فإنّ تسوية الصّفوف من إقامة الصّلاة » وفي رواية : « وأقيموا الصّفّ فإنّ إقامة الصّفّ من حسن الصّلاة » .
ولما رواه أنس رضي الله عنه قال : « أقيمت الصّلاة فأقبل علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم ، وتراصّوا فإنّي أراكم من وراء ظهري » .
وفي رواية : « وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه » .
وذهب بعض العلماء - منهم ابن حجر وبعض المحدّثين - إلى وجوب تسوية الصّفوف لقوله صلى الله عليه وسلم : « لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ اللّه بين وجوهكم » فإنّ ورود هذا الوعيد دليل على وجوب التّسوية ، والتّفريط فيها حرام ، ولأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وأمره للوجوب ما لم يصرفه صارف ، ولا صارف هنا .
قال ابن حجر العسقلانيّ : ومع القول بأنّ تسوية الصّفّ واجبة فصلاة من خالف ولم يسوّ صحيحة ، ويؤيّد ذلك : أنّ أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصّلاة .
3 - ومن تسوية الصّفوف إكمال الصّفّ الأوّل فالأوّل ، وأن لا يشرع في إنشاء الصّفّ الثّاني إلاّ بعد كمال الأوّل ، وهكذا . وهذا موضع اتّفاق الفقهاء لقوله صلى الله عليه وسلم : « أتمّوا الصّفّ المقدّم ثمّ الّذي يليه ، فما كان من نقص فليكن في الصّفّ المؤخّر » .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من وصل صفّاً وصله اللّه ومن قطع صفّاً قطعه اللّه » .
وعليه فلا يقف في صفّ وأمامه صفّ آخر ناقص أو فيه فرجة ، بل يشقّ الصّفوف لسدّ الخلل أو الفرجة الموجودة في الصّفوف الّتي أمامه ، للأحاديث السّابقة .
فإذا حضر مع الإمام رجلان أو أكثر ، أو رجل وصبيّ اصطفّا خلفه .
ولو حضر معه رجلان وامرأة اصطفّ الرّجلان خلفه والمرأة خلفهما ، ولو اجتمع الرّجال والنّساء والصّبيان والصّبيّات المراهقات وأرادوا أن يصطفّوا للجماعة وقف الرّجال في صفّ أو صفّين أو صفوف ممّا يلي الإمام ، ثمّ الصّبيان بعدهم ، وفي وجه عند الشّافعيّة يقف بين كلّ رجلين صبيّ ليتعلّم أفعال الصّلاة .
ثمّ يقف النّساء ولا فرق عند المالكيّة والشّافعيّة بين الكبيرة والصّبيّة المراهقة .
أمّا الحنفيّة والحنابلة فيرون أنّ الصّبيّات المراهقات يقفن وراء النّساء الكبيرات .
ويتقدّم بالنّسبة لهؤلاء جميعاً في الصّفوف الأول الأفضل فالأفضل لما رواه أبو مسعود رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يمسح مناكبنا في الصّلاة ويقول : استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ليلينّي منكم أولو الأحلام والنّهى ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم » . ولما رواه عبد الرّحمن بن غنم من حديث أبي مالك الأشعريّ قال : « ألا أحدّثكم بصلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فأقام الصّلاة وصفّ الرّجال وصفّ خلفهم الغلمان ثمّ صلّى بهم ، فذكر صلاته ثمّ قال : هكذا صلاة . قال عبد الأعلى - راوي الحديث- : لا أحسبه إلاّ قال : صلاة أمّتي » .
وإن لم يحضر مع الإمام إلاّ جمع من النّساء صفّهنّ خلفه ، وكذا الاثنتان والواحدة .
ومن أدب الصّفّ أن تسدّ الفرج والخلل ، وأن لا يشرع في صفّ حتّى يتمّ الأوّل ، وأن يفسح لمن يريد دخول الصّفّ إذا كانت هناك سعة ، ويقف الإمام وسط الصّفّ والمصلّون خلفه لقوله صلى الله عليه وسلم : « وسّطوا الإمام وسدّوا الخلل » .
ومقابل الإمام أفضل من الجوانب ، وجهة يمين الإمام أفضل من جهة يساره لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وملائكته يصلّون على ميامن الصّفوف » .
فضل الصّفّ الأوّل :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أفضل صفوف الرّجال - سواء كانوا يصلّون وحدهم أو مع غيرهم من الصّبيان والنّساء - هو الصّفّ الأوّل ، ثمّ الّذي يليه ، ثمّ الأقرب فالأقرب ، وكذا أفضل صفوف النّساء إذا لم يكن معهنّ رجال .
أمّا النّساء مع الرّجال فأفضل صفوفهنّ آخرها ، لأنّ ذلك أليق وأستر لقوله صلى الله عليه وسلم : « خير صفوف الرّجال أوّلها وشرّها آخرها ، وخير صفوف النّساء آخرها وشرّها أوّلها » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا » .(/1)
5- قال العلماء : من فوائد الحثّ على الصّفّ الأوّل المسارعة إلى خلاص الذّمّة والسّبق لدخول المسجد ، والفرار من مشابهة المنافقين ، والقرب من الإمام ، واستماع قراءته والتّعلّم منه والفتح عليه والتّبليغ عنه ومشاهدة أحواله ، والسّلامة من اختراق المارّة بين يديه ، وسلامة البال من رؤية من يكون أمامه وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلّين ، والتّعرّض لصلاة اللّه وملائكته ، ودعاء نبيّه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك .
6- ولكن العلماء اختلفوا في المراد من الصّفّ الأوّل فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّفّ الأوّل الممدوح الّذي وردت الأحاديث بفضله هو الصّفّ الّذي يلي الإمام سواء تخلّله منبر أو مقصورة أو أعمدة أو نحوها ، وسواء جاء صاحبه مقدّماً أو مؤخّراً لقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعلمون ما في الصّفّ المقدّم لكانت قرعة » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم عندما رأى في أصحابه تأخّراً : « تقدّموا فائتمّوا بي وليأتمّ بكم من بعدكم ، لا يزال قوم يتأخّرون حتّى يؤخّرهم اللّه » .
وذهب بعض العلماء ومنهم الغزاليّ إلى أنّ الصّفّ الأوّل الفاضل هو أوّل صفّ تامّ يلي الإمام ولا يتخلّله شيء ممّا ذكر ، لأنّ ما فيه خلل فهو ناقص .
قال ابن حجر العسقلانيّ : وكأنّ صاحب هذا القول لحظ أنّ المطلق ينصرف إلى الكامل ، واستدلّ أصحاب هذا القول بما رواه أصحاب السّنن من حديث عبد الحميد بن محمود قال : { « صلّينا خلف أمير من الأمراء فاضطرّنا النّاس فصلّينا بين السّاريتين ، فلمّا صلّينا قال أنس بن مالك كنّا نتّقي هذا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » .
وذهب بعض العلماء الآخرين ومنهم بشر بن الحارث وابن عبد البرّ إلى أنّ المراد بالصّفّ الأوّل هو من سبق إلى مكان الصّلاة وجاء أوّلاً وإن صلّى في آخر الصّفوف ، واحتجّوا باتّفاق العلماء على أنّ من جاء أوّل الوقت ولم يدخل في الصّفّ الأوّل أفضل ممّن جاء في آخر الوقت وزاحم إلى الصّفّ الأوّل .
قال ابن حجر العسقلانيّ - أيضاً - : وكأنّ صاحب هذا القول لاحظ المعنى في تفضيل الصّفّ الأوّل دون مراعاة لفظه .
الفرار من الصّفّ في القتال مع الكفّار :
7 - اتّفق العلماء على أنّه يحرم على من لزمه الجهاد - وهو المسلم الذّكر الحرّ المكلّف المستطيع - الانصراف عن الصّفّ عند التقاء صفوف المسلمين والكفّار ، وإن غلب على ظنّه أنّه إن ثبت قتل لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } الآية ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم عدّ التّولّي يوم الزّحف من السّبع الموبقات » .
وذلك بشرط أن لا يزيد عدد الكفّار على مثلي المسلمين ، بأن كانوا مثلهم أو أقلّ لقوله تعالى: { فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } ، إلاّ أن يكون متحرّفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة من المسلمين ينضمّ إليهم محارباً لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
فإن زاد عدد الكفّار عن مثلي المسلمين جاز الانصراف عن الصّفّ .
الصّفّ في صلاة الجنازة :
8 - قال الفقهاء : يستحبّ تسوية الصّفّ في الصّلاة على الجنازة ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم نعى النّجاشيّ في اليوم الّذي مات فيه وخرج إلى المصلّى فصفّ بهم وكبّر أربعاً».
وورد أنّ أبا بكّار الحكم بن فرّوخ قال : صلّى بنا أبو المليح على جنازة فظننّا أنّه قد كبّر فأقبل علينا بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم ولتحسن شفاعتكم .
كما يستحبّ أن لا تنقص الصّفوف عن ثلاثة لقوله صلى الله عليه وسلم : « من صلّى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب » وقوله صلى الله عليه وسلم : « ما من ميّت يصلّى عليه أمّة من المسلمين يبلغون مائةً كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه » .
فإن كان وراء الإمام أربعة جعلهم صفّين في كلّ صفّ رجلين ، وإذا كانوا سبعةً أقاموا ثلاثة صفوف يتقدّم واحد منهم إماماً وثلاثة بعده واثنان بعدهم وواحد بعدهما ، لما روي من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازة فكانوا سبعةً فجعل الصّفّ الأوّل ثلاثةً والثّاني اثنين والثّالث واحداً » . إلاّ أنّ بعض العلماء كره أن يكون الواحد صفّاً ، كما كرهوا إذا كانوا ثلاثةً أن يجعلوا ثلاثة صفوف بحيث يكون كلّ صفّ رجلاً واحداً .
أمّا مسألة صفّ الموتى إذا اجتمعوا فينظر في مصطلح : ( جنائز ) .(/2)
الخلاصة في أحكام صلاة التراويح
ففي الموسوعة الفقهية :
إلْزَامٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْإِلْزَامُ مَصْدَرُ أَلْزَمَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ , وَهُوَ مِنْ لَزِمَ , يُقَالُ : لَزِمَ يَلْزَمُ لُزُومًا : ثَبَتَ وَدَامَ , وَأَلْزَمْته : أَثْبَتّه وَأَدَمْته , وَأَلْزَمْته الْمَالَ وَالْعَمَلَ وَغَيْرَهُ فَالْتَزَمَهُ , وَلَزِمَهُ الْمَالُ : وَجَبَ عَلَيْهِ , وَأَلْزَمَهُ إيَّاهُ فَالْتَزَمَهُ . وَيَقُولُ الرَّاغِبُ : الْإِلْزَامُ ضَرْبَانِ : إلْزَامٌ بِالتَّسْخِيرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ الْإِنْسَانِ , وَإِلْزَامٌ بِالْحُكْمِ وَالْأَمْرِ , نَحْوُ قوله تعالى : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } وَقَوْلُهُ { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } . فَيَكُونُ مَعْنَى الْإِلْزَامِ : الْإِيجَابَ عَلَى الْغَيْرِ . وَلَا يَخْرُجُ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الْإِيجَابُ : 2 - وَجَبَ الشَّيْءُ يَجِبُ وُجُوبًا أَيْ : لَزِمَ , وَأَوْجَبَهُ هُوَ وَأَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَوْجَبَ نَجِيبًا , أَيْ أَهْدَاهُ فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ كَأَنَّهُ أَلْزَم نَفْسَهُ بِهِ , وَأَوْجَبَهُ إيجَابًا أَيْ أَلْزَمَهُ . وَقَدْ فَرَّقَ أَبُو هِلَالٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ فَقَالَ : الْإِلْزَامُ يَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ , يُقَالُ : أَلْزَمْته الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ . وَالْإِيجَابُ لَا يَسْتَعْمِلُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقٌّ , فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ , وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِلْزَامُ . الْإِجْبَارُ وَالْإِكْرَاهُ : 3 - الْإِجْبَارُ وَالْإِكْرَاهُ هُمَا الْحَمْلُ عَلَى الشَّيْءِ قَهْرًا , وَالْإِلْزَامُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَهْرِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْإِلْزَامِ الْحِسِّيِّ , وَقَدْ يَكُونُ بِدُونِهِ . الِالْتِزَامُ : 4 - الِالْتِزَامُ هُوَ : إلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَعْرُوفِ . فَالِالْتِزَامُ يَكُونُ مِنْ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ وَالْوَعْدِ , وَالْإِلْزَامِ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى الْغَيْرِ كَإِنْشَاءِ الْإِلْزَامِ مِنْ الْقَاضِي . وَالِالْتِزَامُ يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى الشَّيْءِ , يُقَالُ : الْتَزَمْت الْعَمَلَ , وَالْإِلْزَامُ يَقَعُ عَلَى الشَّخْصِ , يُقَالُ : أَلْزَمْت فُلَانًا الْمَالَ .
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ :(/1)
5 - الْأَصْلُ امْتِنَاعُ الْإِلْزَامِ مِنْ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسَلُّطِ , وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِلْزَامُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ , إمَّا بِطَرِيقِ التَّسْخِيرِ , وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْأَمْرِ . وَقَدْ يَقَعُ الْإِلْزَامُ مِنْ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِتَسْلِيطِ اللَّهِ تَعَالَى , وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَاصَّةً أَمْ عَامَّةً , وَحِينَئِذٍ قَدْ يَكُونُ الْإِلْزَامُ وَاجِبًا , فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ إلْزَامُ النَّاسِ بِالْأَخْذِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ , وَلَهُ سُلْطَةُ إلْزَامِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَحَمْلِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ , ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ , ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ , ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } . وَقَدْ قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه مَانِعِي الزَّكَاةِ . وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ دُيُونِ وَغَيْرِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ جَبْرًا إذَا أَمْكَنَ , وَيُحْبَسُ بِهَا إذَا تَعَذَّرَتْ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَيُنْظَرَ إلَى مَيْسَرَتِهِ . بَلْ إنَّ الشَّعَائِرَ الَّتِي لَيْسَتْ بِفَرْضٍ , فَإِنَّ لِلْإِمَامِ إلْزَامَ النَّاسِ بِهَا كَمَا إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ , فَإِنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ يُقَاتِلُهُمْ , لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَالْمُحْتَسِبُ لَهُمْ هَذَا الْحَقُّ فِيمَا وُكِّلَ إلَيْهِمْ . وَقَدْ يَكُونُ الْإِلْزَامُ حَرَامًا , وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالظُّلْمِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } , وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ أَمَرَهُ الْوَالِي بِقَتْلِ رَجُلٍ ظُلْمًا أَوْ قَطْعِهِ أَوْ جَلْدِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ بَيْعِ مَتَاعِهِ فَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يَكُونُ الْإِلْزَامُ جَائِزًا كَإِلْزَامِ الْوَالِي بَعْضَ النَّاسِ بِالْمُبَاحَاتِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا , وَإِلْزَامِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ مُبَاحٍ . وَقَدْ يَكُونُ الْإِلْزَامُ مُسْتَحَبًّا , وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ مَوْضُوعُهُ مُسْتَحَبًّا , كَإِلْزَامِ الْإِمَامِ رَعِيَّتَهُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسَاجِدِ .
---------------------
بِدْعَةٌ التَّعْرِيفُ :(/2)
1 - الْبِدْعَةُ لُغَةً : مِنْ بَدَعَ الشَّيْءَ يَبْدَعُهُ بِدْعًا , وَابْتَدَعَهُ : إذَا أَنْشَأَهُ وَبَدَأَهُ . وَالْبِدْعُ : الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا , وَمِنْهُ قوله تعالى : { قُلْ : مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ } أَيْ لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى النَّاسِ , بَلْ قَدْ جَاءَتْ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ , فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي . وَالْبِدْعَةُ : الْحَدَثُ , وَمَا اُبْتُدِعَ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِكْمَالِ . وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ : الْمُبْتَدِعُ الَّذِي يَأْتِي أَمْرًا عَلَى شَبَهٍ لَمْ يَكُنْ , بَلْ ابْتَدَأَهُ هُوَ . وَأَبْدَعَ وَابْتَدَعَ وَتَبَدَّعَ : أَتَى بِبِدْعَةٍ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } وَبَدَّعَهُ : نَسَبَهُ إلَى الْبِدْعَةِ , وَالْبَدِيعُ : الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ , وَأَبْدَعْت الشَّيْءَ : اخْتَرَعْته لَا عَلَى مِثَالٍ , وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى , وَمَعْنَاهُ : الْمُبْدِعُ , لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إيَّاهَا . أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ , فَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْبِدْعَةِ وَتَنَوَّعَتْ ; لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِ الْعُلَمَاءِ فِي مَفْهُومِهَا وَمَدْلُولِهَا . فَمِنْهُمْ مَنْ وَسَّعَ مَدْلُولَهَا , حَتَّى أَطْلَقَهَا عَلَى كُلِّ مُسْتَحْدَثٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ , وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّقَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ , فَتَقَلَّصَ بِذَلِكَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مِنْ الْأَحْكَامِ . وَسَنُوجِزُ هَذَا فِي اتِّجَاهَيْنِ . الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ : 2 - أَطْلَقَ أَصْحَابُ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ الْبِدْعَةَ عَلَى كُلِّ حَادِثٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْعِبَادَاتِ أَمْ الْعَادَاتِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَذْمُومًا أَمْ غَيْرَ مَذْمُومٍ . وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ , وَمِنْ أَتْبَاعِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ , وَالنَّوَوِيُّ , وَأَبُو شَامَةَ . وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ : الْقَرَافِيُّ , وَالزَّرْقَانِيُّ . وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ : ابْنُ عَابِدِينَ . وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : ابْنُ الْجَوْزِيِّ . وَمِنْ الظَّاهِرِيَّةِ : ابْنُ حَزْمٍ . وَيَتَمَثَّلُ هَذَا الِاتِّجَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِلْبِدْعَةِ وَهُوَ : أَنَّهَا فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى بِدْعَةٍ وَاجِبَةٍ , وَبِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٍ , وَبِدْعَةٍ مَنْدُوبَةٍ , وَبِدْعَةٍ مَكْرُوهَةٍ , وَبِدْعَةٍ مُبَاحَةٍ . وَضَرَبُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً : فَالْبِدْعَةُ الْوَاجِبَةُ : كَالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَذَلِكَ وَاجِبٌ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ , وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَالْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ أَمْثِلَتِهَا : مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ , وَالْجَبْرِيَّةِ , وَالْمُرْجِئَةِ , وَالْخَوَارِجِ . وَالْبِدْعَةُ الْمَنْدُوبَةُ : مِثْلُ إحْدَاثِ الْمَدَارِسِ , وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ , وَمِنْهَا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ . وَالْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ : مِثْلُ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ , وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ . وَالْبِدْعَةُ الْمُبَاحَةُ : مِثْلُ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ , وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ . وَاسْتَدَلُّوا لِرَأْيِهِمْ فِي تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : ( أ ) قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيّ أَنَّهُ قَالَ : خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إلَى الْمَسْجِدِ , فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ , يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ , وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ . فَقَالَ عُمَرُ : إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْت هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ , ثُمَّ عَزَمَ , فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى , وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ , قَالَ عُمَرُ : نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ , وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخَرَ اللَّيْلِ . وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ . ( ب ) تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةِ الضُّحَى جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً , وَهِيَ مِنْ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ . رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : دَخَلْت أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ , فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ , وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى , فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ - فَقَالَ : بِدْعَةٌ . ( ج )(/3)
الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُفِيدُ انْقِسَامَ الْبِدْعَةِ إلَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ , وَمِنْهَا مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً , فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً , فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } الِاتِّجَاهُ الثَّانِي : 3 - اتَّجَهَ فَرِيقٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ , وَقَرَّرُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّهَا ضَلَالَةٌ , سَوَاءٌ فِي الْعَادَاتِ أَوْ الْعِبَادَاتِ . وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّاطِبِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ . وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الْإِمَامُ الشُّمُنِّيُّ , وَالْعَيْنِيُّ . وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ : الْبَيْهَقِيُّ , وَابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ , وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ . وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ : ابْنُ رَجَبٍ , وَابْنُ تَيْمِيَّةَ . وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ يُمَثِّلُ هَذَا الِاتِّجَاهَ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّاطِبِيِّ , حَيْثُ عَرَّفَ الْبِدْعَةَ بِتَعْرِيفَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّهَا : طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ , تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ , يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُدْخِلْ الْعَادَاتِ فِي الْبِدْعَةِ , بَلْ خَصَّهَا بِالْعِبَادَاتِ , بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا . الثَّانِي أَنَّهَا : طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ تَدْخُلُ الْعَادَاتُ فِي الْبِدَعِ إذَا ضَاهَتْ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ , كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ مُتَعَرِّضًا لِلشَّمْسِ لَا يَسْتَظِلُّ , وَالِاقْتِصَارِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَمِّ الْبِدْعَةِ مُطْلَقًا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : ( أ ) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِيءَ إنْسَانٌ وَيَخْتَرِعَ فِيهَا شَيْئًا ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا تُعْتَبَرُ اسْتِدْرَاكًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَتُوحِي بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ نَاقِصَةٌ , وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ . ( ب ) وَرَدَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ تَذُمُّ الْمُبْتَدِعَةَ فِي الْجُمْلَةِ , مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } ( ج ) كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِدْعَةِ جَاءَ بِذَمِّهَا , مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ : { وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً , ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ , وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ . فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إلَيْنَا . فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ , وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا , فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا , فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ , تَمَسَّكُوا بِهَا , وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ , وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ . فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ , وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } ( د ) أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ , مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : دَخَلْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَسْجِدًا , وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ , وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ , فَثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ , فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ , وَقَالَ : " اُخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ " وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْمُحْدَثَاتُ : 4 - الْحَدِيثُ نَقِيضُ الْقَدِيمِ , وَالْحُدُوثُ : كَوْنُ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ : مَا ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى غَيْرِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ : { إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ } وَالْمُحْدَثَاتُ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ بِالْفَتْحِ , وَهِيَ : مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَلْتَقِي الْمُحْدَثَاتُ مَعَ الْبِدْعَةِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي . ب - الْفِطْرَةُ : 5 - الْفِطْرَةِ : الِابْتِدَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ . وَفَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ : خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُمْ , وَيُقَالُ : أَنَا فَطَرْت الشَّيْءَ أَيْ : أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَأَهُ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَلْتَقِي مَعَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ(/4)
مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ . ج - السُّنَّةُ : 6 - السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ : الطَّرِيقَةُ , حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً . قَالَ عليه الصلاة والسلام : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ الْجَارِيَةُ فِي الدِّينِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ صَحْبِهِ . لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي } وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقَابِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَمُضَادَّةٌ لَهَا تَمَامًا . وَلِلسُّنَّةِ إطْلَاقَاتٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ اُشْتُهِرَتْ بِهَا , مِنْهَا : أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا , كَقَوْلِهِمْ : الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ . وَمِنْهَا : مَا هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ , وَهُوَ مَا صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - غَيْرُ الْقُرْآنِ - مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ . وَمِنْهَا : مَا يَعُمُّ النَّفَلَ , وَهُوَ مَا فَعْلُهُ خَيْرُ مِنْ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ . د - الْمَعْصِيَةُ : 7 - الْعِصْيَانُ : خِلَافُ الطَّاعَةِ يُقَالُ : عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ إذَا خَالَفَ أَمْرَهُ , وَعَصَى فُلَانٌ أَمِيرَهُ : إذَا خَالَفَ أَمْرَهُ . وَشَرْعًا : عِصْيَانُ أَمْرِ الشَّارِعِ قَصْدًا , وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ . فَهِيَ إمَّا كَبَائِرُ وَهِيَ : مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ , أَوْ وَعِيدٌ بِالنَّارِ أَوْ اللَّعْنَةِ أَوْ الْغَضَبِ , أَوْ مَا اتَّفَقَتْ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ , عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِهَا . وَإِمَّا صَغَائِرُ وَهِيَ : مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إذَا اُجْتُنِبَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهَا , لقوله تعالى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ أَعَمَّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ , حَيْثُ تَشْمَلُ الْمَعْصِيَةَ , كَالْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ , وَغَيْرَ الْمَعْصِيَةِ كَالْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ . هـ - الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ : 8 - الْمَصْلَحَةُ لُغَةً كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى , فَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ , أَوْ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ مِنْ الْمَصَالِحِ . وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ اصْطِلَاحًا هِيَ : الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ الْمُنْحَصِرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ . الْخَمْسِ , كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ رحمه الله , أَوْ هِيَ اعْتِبَارُ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الشَّاطِبِيِّ , أَوْ هِيَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ . أَوْ هِيَ أَنْ يُنَاطَ الْأَمْرُ بِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ لَمْ يَدُلَّ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلَا إلْغَائِهِ إلَّا أَنَّهُ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّعْرِيفَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي يُرْجَعُ لِتَفَاصِيلِهَا إلَى مُصْطَلَحِ ( مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ ) . حُكْمُ الْبِدْعَةِ التَّكْلِيفِيِّ : 9 - ذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَبُو شَامَةَ , وَالنَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ وَالزَّرْقَانِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , وَابْنُ عَابِدِينَ مِنْ الْحَنِيفَةِ إلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ تَبَعًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ إلَى : وَاجِبَةٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَنْدُوبَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ . وَضَرَبُوا لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً : فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ : الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ , الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ , وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ , وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . وَتَدْوِينُ الْكَلَامِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ ; لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيِّنِ , وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ : مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُجَسِّمَةِ . وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ : إحْدَاثُ الْمَدَارِسِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً . وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَكْرُوهَةِ : زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ . وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدْعَةِ(/5)
الْمُبَاحَةِ فَمِنْهَا : الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ , وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ . هَذَا وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ إلَى بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ , وَصَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
----------------------
الْجُلُوسُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ :
14 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ بَيْنَ الْجُلُوسِ ذَاكِرًا أَوْ سَاكِتًا , وَبَيْنَ صَلَاتِهِ نَافِلَةً مُنْفَرِدًا , وَهَذَا الْجُلُوسُ سُنَّةٌ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْكَنْزِ , وَمُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَرِيحَ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِجَلْسَةٍ يَسِيرَةٍ , قَالَ الْحَنَابِلَةُ : وَهُوَ فِعْلُ السَّلَفِ , وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ , وَلَا يَدْعُو الْإِمَامُ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
----------------
ذُكُورَةٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الذُّكُورَةُ لُغَةً خِلَافُ الْأُنُوثَةِ , وَالتَّذْكِيرُ خِلَافُ التَّأْنِيثِ , وَجَمْعُ الذَّكَرِ ذُكُورٌ , وَذُكُورَةٌ , وَذُكْرَانٌ , وَذِكَارَةٌ , وَمِنْهُ قوله تعالى { : أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } . وَمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ هُوَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : 2 - الْخُنُوثَةُ : حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ( اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : خُنْثَى ) . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذُّكُورَةِ : تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالذُّكُورَةِ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا : فِي الصَّلَاةِ : أ - ( الْإِمَامَةُ ) : 3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ لِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ , وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً مِثْلَهَا , سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً , وَسَوَاءٌ عُدِمَتْ الرِّجَالُ أَوْ وَجَدَتْ لِحَدِيثِ : { لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } . وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَلَّتْ إمَامًا فَتَصِحُّ صَلَاتُهَا . وَوَافَقَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ - مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ - فِي مَنْعِ إمَامَتِهَا لِلرِّجَالِ , لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا } , إلَّا أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْمَالِكِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ إمَامَةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّسَاءِ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ , وَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ إمَامَتِهَا لِلنِّسَاءِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَمَّتْ نِسْوَةً فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسْطَهُنَّ وَكَذَا أُمُّ سَلَمَةَ . كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرِّجَالَ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَتَكُونُ وَرَاءَهُمْ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنها { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا } . وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ إلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الرِّجَالِ وَرَاءَ الْمَرْأَةِ
---------------------(/6)
خَصَائِصُ شَهْرِ رَمَضَانَ : يَخْتَصُّ شَهْرُ رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ بِجُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ : الْأُولَى : نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهِ : 5 - نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا , وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ , وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ عَلَى التَّعْيِينِ . ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً . كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } . وَقَدْ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مُجَاهِدٍ - رضي الله عنه - قَوْلُهُ : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } , لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ " . وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا , وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ . الثَّانِيَةُ : وُجُوبُ صَوْمِهِ : 6 - صَوْمُ رَمَضَانَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَإِقَامُ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ , وَحَجُّ الْبَيْتِ , وَصَوْمُ رَمَضَانَ } . وَدَلَّ الْكِتَابُ الْكَرِيمُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِهِ , كَمَا فِي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . الْآيَةَ . وَفَرْضِيَّةُ صَوْمِهِ مِمَّا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( صَوْمٌ ) . الثَّالِثَةُ : فَضْلُ الصَّدَقَةِ فِيهِ : 7 - دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ , مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ , وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ , يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ , فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ } . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَالْجُودُ فِي الشَّرْعِ إعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي , وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الصَّدَقَةِ , وَأَيْضًا رَمَضَانُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ , لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ زَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِهِ , فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ مُتَابَعَةَ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ . الرَّابِعَةُ : أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ : 8 - فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى رَمَضَانَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ , وَفِي بَيَانِ مَنْزِلَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ نَزَلَتْ سُورَةُ الْقَدْرِ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ , تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ , وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ , وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ , لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ , مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ } . وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } " . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) . الْخَامِسَةُ : صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ : 9 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ , وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِيَامِ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ . وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِ قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إحْيَاءُ اللَّيْلِ ) وَمُصْطَلَحِ : ( صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ ) . السَّادِسَةُ : الِاعْتِكَافُ فِيهِ : 10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ , لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ , كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - {(/7)
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى , ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ , فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ قَالَ : مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ } . الْحَدِيثَ . وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( اعْتِكَافٌ 5 207 ) . السَّابِعَةُ : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي رَمَضَانَ وَالذِّكْرُ : 11 - يُسْتَحَبُّ فِي رَمَضَانَ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ وَكَثْرَةُ تِلَاوَتِهِ , وَتَكُونُ مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ , وَدَلِيلُ الِاسْتِحْبَابِ { أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ } . وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبَّةٌ مُطْلَقًا , وَلَكِنَّهَا فِي رَمَضَانَ آكَدُ . الثَّامِنَةُ : مُضَاعَفَةُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي رَمَضَانَ : 12 - تَتَأَكَّدُ الصَّدَقَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ , لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ ; لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ ; وَلِأَنَّ النَّاسَ فِيهِ مَشْغُولُونَ بِالطَّاعَةِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِمَكَاسِبِهِمْ , فَتَكُونُ الْحَاجَةُ فِيهِ أَشَدُّ , وَلِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ بِهِ . قَالَ إبْرَاهِيمُ : تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ فِيمَا سِوَاهُ . التَّاسِعَةُ : تَفْطِيرُ الصَّائِمِ : 13 - لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ , غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا } . الْعَاشِرَةُ : فَضْلُ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ : 14 - الْعُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً } .
-----------------------
قِيَامُ رَمَضَانَ :
8 - أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ قِيَامَ رَمَضَانَ , فَقَدْ { سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِيَامَ رَمَضَانَ } . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إلَى أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ عِشْرُونَ رَكْعَةً تُؤَدَّى بَعْدَ سُنَّةِ الْعِشَاءِ , وَتُعْتَبَرُ مِنْ الرَّوَاتِبِ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرِيضَةِ , يُسَلَّمُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ , وَيُتَرَوَّحُ كُلَّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يُذْكَرُ فِيهَا اللَّهُ تَعَالَى , ثُمَّ تُصَلَّى الْوِتْرُ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ . وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً يُسَلَّمُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ , وَيُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ , كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ ) .
------------------------(/8)
وَقْتُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ : 9 - السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مُقْتَرِنَةٌ بِالْفَرَائِضِ , فَمِنْهَا مَا يُصَلَّى قَبْلَ الْفَرِيضَةِ , مِثْلُ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةِ , وَمِنْهَا مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْفَرِيضَةِ مِثْلُ سُنَّةِ الظُّهْرِ الْبَعْدِيَّةِ , وَسُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ , وَالْوِتْرِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَفْسِيرًا لَطِيفًا فِي تَقْدِيمِ النَّوَافِلِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا فَقَالَ : " أَمَّا فِي التَّقْدِيمِ فَلِأَنَّ النُّفُوسَ لِاشْتِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ عَنْ حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ , فَإِذَا قُدِّمَتْ النَّوَافِلُ عَلَى الْفَرَائِضِ أَنْسَتْ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ , وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تَقْرُبُ مِنْ الْخُشُوعِ , وَأَمَّا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْهَا , فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ { النَّوَافِلَ جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ } , فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَلَ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ . وَلَكِنْ لَا يَنْوِي فِيهِ نِيَّةَ الْجَبْرِ " وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ دُخُولِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ وَيَنْتَهِي بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ ; لِأَنَّهُ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ , حَيْثُ إنَّ الْفَرَائِضَ تُقَدَّمُ عَلَى النَّوَافِلِ دَائِمًا عِنْدَ التَّعَارُضِ , إلَّا إذَا أَيْقَنَ الْمَرْءُ أَنَّ بِإِمْكَانِهِ أَدَاءَ النَّافِلَةِ , وَإِدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ عِنْدَئِذٍ مِنْ أَدَائِهَا , أَمَّا إذَا كَانَ الْمَرْءُ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا فَوَقْتُ السُّنَّةِ يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ . وَالْأَوْلَى لِلْمَرْءِ إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الدُّخُولُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْفَرِيضَةِ , وَتُدْرَكُ النَّافِلَةُ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْ الْفَرِيضَةِ , وَيَظْهَرُ هَذَا فِي كُلٍّ مِنْ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةِ . أَمَّا السُّنَنُ الْبَعْدِيَّةُ : مِثْلُ سُنَّةِ الظُّهْرِ الْبَعْدِيَّةِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ , فَوَقْتُ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ بَعْدِ الِانْتِهَاءِ مِنْ الْفَرِيضَةِ إلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْأُخْرَى , فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يُؤَدِّ السُّنَنَ الْبَعْدِيَّةَ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ فَائِتَةً . وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ الْبَعْدِيَّةِ , وَأَمَّا صَلَاةُ الْوِتْرِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الِانْتِهَاءِ مِنْ سُنَّةِ الْعِشَاءِ الْبَعْدِيَّةِ , وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى قُبَيْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ , وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَهَا إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ . وَأَمَّا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الِانْتِهَاءِ مِنْ سُنَّةِ الْعِشَاءِ , وَيَسْتَمِرُّ إلَى قُبَيْلِ الْفَجْرِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ صَلَاةَ الْوِتْرِ بَعْدَهَا , وَيُفَضَّلُ أَنْ لَا يُؤَخِّرَهَا إذَا كَانَ فِي التَّأْخِيرِ فَوَاتُ الْجَمَاعَةِ ; إذْ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كَمَا مَرَّ آنِفًا , وَبَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنْهَا تُصَلَّى الْوِتْرُ فِي جَمَاعَةٍ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ . وَتُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ لِلْوِتْرِ فِي غَيْرِهِ .
------------------(/9)
( 2 ) فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ : 11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَدَاءُ النَّوَافِلِ فِي الْبَيْتِ , وَهُنَاكَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إنَّ أَدَاءَ الرَّوَاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ . وَذَلِكَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم : كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا , ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ , ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ , وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ , ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ } . وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَسَاجِدِ الْأَمْصَارِ الْمُخْتَلِفَةِ , وَالْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إلَيْهَا الرِّحَالُ : وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ , وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ , وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى , وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ يَتَضَاعَفُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إلَّا فِي الْمَكْتُوبَةِ } . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ : إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَدَاءُ عَامَّةِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْبَيْتِ , إلَّا أَنْ يَخْشَى أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهَا إذَا رَجَعَ . وَيَجُوزُ أَدَاءُ النَّوَافِلِ فِي الْمَسْجِدِ , سَوَاءٌ كَانَتْ رَاتِبَةً أَمْ غَيْرَ رَاتِبَةٍ , وَالْأَفْضَلُ أَدَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَتْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَالْوِتْرِ بَعْدَهَا , وَذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الْمَرْءُ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَدَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْبَيْتِ .
---------------------
صَلاَةُ التَّراوِيح *
التّعريف :
1 - تقدّم تعريف الصّلاة لغةً واصطلاحًا في مصطلح : ( صلاة ) .
والتّراويح : جمع ترويحة ، أي ترويحة للنّفس ، أي استراحة ، من الرّاحة وهي زوال المشقّة والتّعب ، والتّرويحة في الأصل اسم للجلسة مطلقةً ، وسمّيت الجلسة الّتي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالتّرويحة للاستراحة ، ثمّ سمّيت كلّ أربع ركعات ترويحةً مجازاً ، وسمّيت هذه الصّلاة بالتّراويح ، لأنّهم كانوا يطيلون القيام فيها ويجلسون بعد كلّ أربع ركعات للاستراحة .
وصلاة التّراويح : هي قيام شهر رمضان ، مثنى مثنى ، على اختلاف بين الفقهاء في عدد ركعاتها ، وفي غير ذلك من مسائلها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - إحياء اللّيل :
2 - إحياء اللّيل ، ويطلق عليه بعض الفقهاء أيضًا قيام اللّيل ، هو : إمضاء اللّيل ، أو أكثره في العبادة كالصّلاة والذِّكْر وقراءة القرآن الكريم ، ونحو ذلك . ( ر : إحياء اللّيل ) . وإحياء اللّيل : يكون في كلّ ليلة من ليالي العام ، ويكون بأيّ من العبادات المذكورة أو نحوها وليس بخصوص الصّلاة .
أمّا صلاة التّراويح فتكون في ليالي رمضان خاصّةً .
ب - التّهجّد :
3 - التّهجّد في اللّغة : من الهجود ، ويطلق الهجود على النّوم وعلى السّهر ، يقال : هجد إذا نام باللّيل ، ويقال أيضاً هجد : إذا صلّى اللّيل ، فهو من الأضداد ، ويقال : تهجّد إذا أزال النّوم بالتّكلّف .
وهو في الاصطلاح : صلاة التّطوّع في اللّيل بعد النّوم .
والتّهجّد - عند جمهور الفقهاء - صلاة التّطوّع في اللّيل بعد النّوم ، في أيّ ليلة من ليالي العام .
أمّا صلاة التّراويح فلا يشترط لها أن تكون بعد النّوم ، وهي في ليالي رمضان خاصّةً .
ج - التّطوّع :
4 - التّطوّع هو : ما شُرع زيادةً على الفرائض والواجبات من الصّلاة وغيرها ، وسمّي بذلك ، لأنّه زائد على ما فرضه اللّه تعالى ، وصلاة التّطوّع أو النّافلة تنقسم إلى نفل مقيّد ومنه صلاة التّراويح ، وإلى نفل مطلق أي غير مقيّد بوقت .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( تطوّع ) .
د - الوتر :
5 - الوتر هو : الصّلاة المخصوصة بعد فريضة العشاء ، سمّيت بذلك لأنّ عدد ركعاتها وتر لا شفع .
الحكم التّكليفيّ :
6 - اتّفق الفقهاء على سُنِّيَّةِ صلاة التّراويح ، وهي عند الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة سنّة مؤكّدة ، وهي سنّة للرّجال والنّساء ، وهي من أعلام الدّين الظّاهرة .
وقد سنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة التّراويح ورغّب فيها ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه فرض صيام رمضان عليكم ، وسننت لكم قيامه ... » .
وروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرغّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدّم من ذنبه » قال الخطيب الشّربينيّ وغيره : اتّفقوا على أنّ صلاة التّراويح هي المرادة بالحديث المذكور .(/10)
وقد صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة التّراويح في بعض اللّيالي ، ولم يواظب عليها ، وبيّن العذر في ترك المواظبة وهو خشية أن تكتب فيعجزوا عنها ، فعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد ، فصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر النّاس ، ثمّ اجتمعوا من الثّالثة فلم يخرج إليهم ، فلمّا أصبح قال : قد رأيت الّذي صنعتم ،فلم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أنّي خشيت أن تفرض عليكم »، وذلك في رمضان زاد البخاريّ فيه : « فتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك » .
وفي تعيين اللّيالي الّتي قامها النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه روى أبو ذرّ - رضي الله تعالى عنه - قال : « صمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشّهر حتّى بقي سبع ، فقام بنا حتّى ذهب ثلث اللّيل ، فلمّا كانت السّادسة لم يقم بنا ، فلمّا كانت الخامسة قام بنا حتّى ذهب شطر اللّيل ، فقلت : يا رسول اللّه لو نفلتنا قيام هذه اللّيلة؟ قال : فقال : إنّ الرّجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف حسب له قيام ليلة قال : فلمّا كانت الرّابعة لم يقم ، فلمّا كانت الثّالثة جمع أهله ونساءه والنّاس فقام بنا حتّى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال : قلت : وما الفلاح ؟ قال : السّحور ، ثمّ لم يقم بنا بقيّة الشّهر » .
وعن النّعمان بن بشير - رضي الله تعالى عنهما - قال : « قمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث اللّيل الأوّل ، ثمّ قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف اللّيل ، ثمّ قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتّى ظننّا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمّونه السّحور » .
وقد واظب الخلفاء الرّاشدون والمسلمون من زمن عمر - رضي الله تعالى عنه - على صلاة التّراويح جماعةً ، وكان عمر - رضي الله تعالى عنه - هو الّذي جمع النّاس فيها على إمام واحد .
عن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ ، قال : خرجت مع عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - ليلةً في رمضان إلى المسجد ، فإذا النّاس أوزاع متفرّقون ، يصلّي الرّجل لنفسه ، ويصلّي الرّجل فيصلّي بصلاته الرّهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلةً أخرى والنّاس يصلّون بصلاة قارئهم ، فقال : نعمت البدعة هذه ، والّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون . يريد آخر اللّيل ، وكان النّاس يقومون أوّله .
وروى أسد بن عمرو عن أبي يوسف قال : سألت أبا حنيفة عن التّراويح وما فعله عمر ، فقال : التّراويح سنّة مؤكّدة ، ولم يتخرّص عمر من تلقاء نفسه ، ولم يكن فيه مبتدعاً ، ولم يأمر به إلاّ عن أصل لديه وعهد من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولقد سنّ عمر هذا وجمع النّاس على أبيّ بن كعب فصلّاها جماعةً والصّحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار وما ردّ عليه واحد منهم ، بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك .
فضل صلاة التّراويح :
7 - بيَّن الفقهاء منزلة التّراويح بين نوافل الصّلاة .
قال المالكيّة : التّراويح من النّوافل المؤكّدة ،حيث قالوا : وتأكّد تراويح ، وهو قيام رمضان. وقال الشّافعيّة : التّطوّع قسمان :
قسم تسنّ له الجماعة وهو أفضل ممّا لا تسنّ له الجماعة لتأكّده بسنّها له ، وله مراتب :
فأفضله العيدان ثمّ الكسوف للشّمس ، ثمّ الخسوف للقمر ، ثمّ الاستسقاء ، ثمّ التّراويح ... وقالوا : الأصحّ أنّ الرّواتب وهي التّابعة للفرائض أفضل من التّراويح وإن سنّ لها الجماعة، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم واظب على الرّواتب دون التّراويح .
قال شمس الدّين الرّمليّ : والمراد تفضيل الجنس على الجنس من غير نظر لعدد .
وقال الحنابلة : أفضل صلاة تطوّع ما سنّ أن يصلّى جماعةً ، لأنّه أشبه بالفرائض ثمّ الرّواتب ، وآكد ما يسنّ جماعةً : كسوف فاستسقاء فتراويح .
تاريخ مشروعيّة صلاة التّراويح والجماعة فيها :
8 - روى الشّيخان عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من جوف اللّيل ليالي من رمضان وصلّى في المسجد ، وصلّى النّاس بصلاته ، وتكاثروا فلم يخرج إليهم في الرّابعة ، وقال لهم : خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ». قال القليوبيّ : هذا يشعر أنّ صلاة التّراويح لم تشرع إلاّ في آخر سني الهجرة لأنّه لم يرد أنّه صلّاها مرّةً ثانيةً ولا وقع عنها سؤال .
وجمع عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - النّاس في التّراويح على إمام واحد في السّنة الرّابعة عشرة من الهجرة ، لنحو سنتين خلتا من خلافته ، وفي رمضان الثّاني من خلافته .
النّداء لصلاة التّراويح :
9 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا أذان ولا إقامة لغير الصّلوات المفروضة ، لما ثبت « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أذّن للصّلوات الخمس والجمعة دون ما سواها من الوتر ، والعيدين، والكسوف ، والخسوف ، والاستسقاء ، وصلاة الجنازة ، والسّنن والنّوافل » .
وقال الشّافعيّة : ينادى لجماعة غير الصّلوات المفروضة : الصّلاة جامعة ، ونقل النّوويّ عن الشّافعيّ قوله : لا أذان ولا إقامة لغير المكتوبة ، فأمّا الأعياد والكسوف وقيام شهر رمضان فأحبّ أن يقال : الصّلاة جامعةً .(/11)
واستدلّوا بما روى الشّيخان « أنّه لمّا كسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نودي : إنّ الصّلاة جامعة » وقيس بالكسوف غيره ممّا تشرع فيه الجماعة ومنها التّراويح . وكالصّلاة جامعةً : الصّلاة الصّلاة ، أو هلمّوا إلى الصّلاة ،أو الصّلاة رحمكم اللّه، أو حيّ على الصّلاة خلافاً لبعضهم .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا ينادى على التّراويح " الصّلاة جامعة " لأنّه محدث .
تعيين النّيّة في صلاة التّراويح :
10 - ذهب الشّافعيّة وبعض الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى اشتراط تعيين النّيّة في التّراويح ، فلا تصحّ التّراويح بنيّة مطلقة ، بل ينوي صلاة ركعتين من قيام رمضان أو من التّراويح لحديث : « إنّما الأعمال بالنّيّات » وليتميّز إحرامه بهما عن غيره .
وعلَّل الحنفيّة القائلون بذلك قولهم بأنّ التّراويح سنّة ، والسّنّة عندهم لا تتأدّى بنيّة مطلق الصّلاة أو نيّة التّطوّع ، واستدلّوا بما روى الحسن عن أبي حنيفة أنّه : لا تتأدّى ركعتا الفجر إلاّ بنيّة السّنّة .
لكنّهم اختلفوا في تجديد النّيّة لكلّ ركعتين من التّراويح ، قال ابن عابدين في الخلاصة : الصّحيح نعم ،لأنّه صلاة على حدة ، وفي الخانيّة : الأصحّ لا ، فإنّ الكلّ بمنزلة صلاة واحدة، ثمّ قال ويظهر لي " ترجيح " التّصحيح الأوّل ، لأنّه بالسّلام خرج من الصّلاة حقيقةً ، فلا بدّ من دخوله فيها بالنّيّة ، ولا شكّ أنّه الأحوط خروجاً من الخلاف .
وقال عامّة مشايخ الحنفيّة : إنّ التّراويح وسائر السّنن تتأدّى بنيّة مطلقة ، لأنّها وإن كانت سنّةً لا تخرج عن كونها نافلةً ، والنّوافل تتأدّى بمطلق النّيّة ، إلاّ أنّ الاحتياط أن ينوي التّراويح أو سنّة الوقت أو قيام رمضان احترازاً عن موضع الخلاف .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يندب في كلّ ركعتين من التّراويح أن ينوي فيقول سرّاً : أصلّي ركعتين من التّراويح المسنونة أو من قيام رمضان .
عدد ركعات التّراويح :
11 - قال السّيوطيّ : الّذي وردت به الأحاديث الصّحيحة والحسان الأمر بقيام رمضان والتّرغيب فيه من غير تخصيص بعدد ، ولم يثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى التّراويح عشرين ركعةً ، وإنّما صلّى ليالي صلاةً لم يذكر عددها ، ثمّ تأخّر في اللّيلة الرّابعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها .
وقال ابن حجر الهيثميّ : لم يصحّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلَّى التّراويح عشرين ركعةً ، وما ورد « أنّه كان يصلّي عشرين ركعةً » فهو شديد الضّعف .
واختلفت الرّواية فيما كان يصلّى به في رمضان في زمان عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه :
فذهب جمهور الفقهاء - من الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وبعض المالكيّة - إلى أنّ التّراويح عشرون ركعةً ، لما رواه مالك عن يزيد بن رومان والبيهقيّ عن السّائب بن يزيد من قيام النّاس في زمان عمر - رضي الله تعالى عنه - بعشرين ركعةً ، وجمع عمر النّاس على هذا العدد من الرّكعات جمعاً مستمرّاً ، قال الكاسانيّ : جمع عمر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان على أبيّ بن كعب - رضي الله تعالى عنه - فصلّى بهم عشرين ركعةً ، ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعاً منهم على ذلك .
وقال الدّسوقيّ وغيره : كان عليه عمل الصّحابة والتّابعين .
وقال ابن عابدين : عليه عمل النّاس شرقاً وغرباً .
وقال عليّ السّنهوريّ : هو الّذي عليه عمل النّاس واستمرّ إلى زماننا في سائر الأمصار وقال الحنابلة : وهذا في مظنّة الشّهرة بحضرة الصّحابة فكان إجماعاً والنّصوص في ذلك كثيرة .
وروى مالك عن السّائب بن يزيد قال : أمر عمر بن الخطّاب أبيّ بن كعب وتميماً الدّاريّ أن يقوما للنّاس بإحدى عشرة ركعةً ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين ، حتّى كنّا نعتمد على العصيّ من طول القيام ، وما كنّا ننصرف إلاّ في فروع الفجر . وروى مالك عن يزيد بن رومان أنّه قال : كان النّاس يقومون في زمان عمر بن الخطّاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعةً ، قال البيهقيّ والباجيّ وغيرهما : أي بعشرين ركعةً غير الوتر ثلاث ركعات ، ويؤيّده ما رواه البيهقيّ وغيره عن السّائب بن يزيد - رضي الله تعالى عنه - قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - في شهر رمضان بعشرين ركعةً .
قال الباجيّ : يحتمل أن يكون عمر أمرهم بإحدى عشرة ركعةً ، وأمرهم مع ذلك بطول القراءة ، يقرأ القارئ بالمئين في الرّكعة ، لأنّ التّطويل في القراءة أفضل الصّلاة ، فلمّا ضعف النّاس عن ذلك أمرهم بثلاث وعشرين ركعةً على وجه التّخفيف عنهم من طول القيام، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الرّكعات .
وقال العدويّ : الإحدى عشرة كانت مبدأ الأمر ، ثمّ انتقل إلى العشرين .
وقال ابن حبيب : رجع عمر إلى ثلاث وعشرين ركعةً .(/12)
وخالف الكمال بن الهمام مشايخ الحنفيّة القائلين بأنّ العشرين سنّة في التّراويح فقال : قيام رمضان سنّة إحدى عشرة ركعةً بالوتر في جماعة ، فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ تركه لعذر ، أفاد أنّه لولا خشية فرضه عليهم لواظب بهم ، ولا شكّ في تحقّق الأمن من ذلك بوفاته صلى الله عليه وسلم فيكون سنّةً ، وكونها عشرين سنّة الخلفاء الرّاشدين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين » ندب إلى سنّتهم ، ولا يستلزم كون ذلك سنّته ، إذ سنّته بمواظبته بنفسه أو إلاّ لعذر ، وبتقدير عدم ذلك العذر كان يواظب على ما وقع منه ، فتكون العشرون مستحبّاً ، وذلك القدر منها هو السّنّة ، كالأربع بعد العشاء مستحبّة وركعتان منها هي السّنّة ، وظاهر كلام المشايخ أنّ السّنّة عشرون ، ومقتضى الدّليل ما قلنا فيكون هو المسنون ، أي فيكون المسنون منها ثماني ركعات والباقي مستحبّاً .
وقال المالكيّة : القيام في رمضان بعشرين ركعةً أو بستّ وثلاثين واسع أي جائز ، فقد كان السّلف من الصّحابة - رضوان الله عليهم - يقومون في رمضان في زمن عمر بن الخطّاب - رضي الله تعالى عنه - في المساجد بعشرين ركعةً ، ثمّ يوترون بثلاث ، ثمّ صلّوا في زمن عمر بن عبد العزيز ستّاً وثلاثين ركعةً غير الشّفع والوتر .
قال المالكيّة : وهو اختيار مالك في المدوّنة ، قال : هو الّذي لم يزل عليه عمل النّاس أي بالمدينة بعد عمر بن الخطّاب ، وقالوا : كره مالك نقصها عمّا جعلت بالمدينة .
وعن مالك - أي في غير المدوّنة - قال : الّذي يأخذ بنفسي في ذلك الّذي جمع عمر عليه النّاس ، إحدى عشرة ركعةً منها الوتر ، وهي صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي المذهب أقوال وترجيحات أخرى .
وقال الشّافعيّة : ولأهل المدينة فعلها ستّاً وثلاثين ، لأنّ العشرين خمس ترويحات ، وكان أهل مكّة يطوفون بين كلّ ترويحتين سبعة أشواط ، فحمل أهل المدينة بدل كلّ أسبوع ترويحةً ليساووهم ، قال الشّيخان : ولا يجوز ذلك لغيرهم .. وهو الأصحّ كما قال الرّمليّ لأنّ لأهل المدينة شرفاً بهجرته صلى الله عليه وسلم ومدفنه ، وخالف الحليميّ فقال : ومن اقتدى بأهل المدينة فقام بستّ وثلاثين فحسن أيضاً .
وقال الحنابلة : لا ينقص من العشرين ركعةً ، ولا بأس بالزّيادة عليها نصّاً ، قال عبد اللّه بن أحمد : رأيت أبي يصلّي في رمضان ما لا أحصي ، وكان عبد الرّحمن بن الأسود يقوم بأربعين ركعةً ويوتر بعدها بسبع .
قال ابن تيميّة : والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلّين ، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام ، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها ، كما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل . وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل . وهو الّذي يعمل به أكثر المسلمين ، فإنّه وسط بين العشر وبين الأربعين ، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك . وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمّة كأحمد وغيره .
قال : ومن ظنّ أنّ قيام رمضان فيه عدد موقّت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ .
الاستراحة بين كلّ ترويحتين :
12 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة الاستراحة بعد كلّ أربع ركعات ، لأنّه المتوارث عن السّلف ، فقد كانوا يطيلون القيام في التّراويح ويجلس الإمام والمأمومون بعد كلّ أربع ركعات للاستراحة .
وقال الحنفيّة : يندب الانتظار بين كلّ ترويحتين ، ويكون قدر ترويحة ، ويشغل هذا الانتظار بالسّكوت أو الصّلاة فرادى أو القراءة أو التّسبيح .
وقال الحنابلة : لا بأس بترك الاستراحة بين كلّ ترويحتين ، ولا يسنّ دعاء معيّن إذا استراح لعدم وروده .
التّسليم في صلاة التّراويح :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من يصلّي التّراويح يسلّم من كلّ ركعتين ، لأنّ التّراويح من صلاة اللّيل فتكون مثنى مثنى ، لحديث : « صلاة اللّيل مثنى مثنى » ولأنّ التّراويح تؤدّى بجماعة فيراعى فيها التّيسير بالقطع بالتّسليم على رأس الرّكعتين لأنّ ما كان أدوم تحريمةً كان أشقّ على النّاس .
واختلفوا فيمن صلّى التّراويح ولم يسلّم من كلّ ركعتين :
فقال الحنفيّة : لو صلّى التّراويح كلّها بتسليمة وقعد في كلّ ركعتين فالصّحيح أنّه تصحّ صلاته عن الكلّ ، لأنّه قد أتى بجميع أركان الصّلاة وشرائطها ، لأنّ تجديد التّحريمة لكلّ ركعتين ليس بشرط عندهم ، لكنّه يكره إن تعمّد على الصّحيح عندهم ، لمخالفته المتوارث ، وتصريحهم بكراهة الزّيادة على ثمانٍ في صلاة مطلق التّطوّع فهنا أولى .
وقالوا : إذا لم يقعد في كلّ ركعتين وسلّم تسليمةً واحدةً فإنّ صلاته تفسد عند محمّد ، ولا تفسد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، والأصحّ أنّها تجوز عن تسليمة واحدة ، لأنّ السّنّة أن يكون الشّفع الأوّل كاملاً ، وكماله بالقعدة ولم توجد ، والكامل لا يتأدّى بالنّاقص .
وقال المالكيّة : يندب لمن صلّى التّراويح التّسليم من كلّ ركعتين ، ويكره تأخير التّسليم بعد كلّ أربع ، حتّى لو دخل على أربع ركعات بتسليمة واحدة فالأفضل له السّلام بعد كلّ ركعتين . وقال الشّافعيّة : لو صلّى في التّراويح أربعاً بتسليمة واحدة لم يصحّ ، فتبطل إن كان عامداً عالماً ، وإلاّ صارت نفلاً مطلقاً ، وذلك لأنّ التّراويح أشبهت الفرائض في طلب الجماعة فلا تغيّر عمّا ورد . ولم نجد للحنابلة كلاماً في هذه المسألة .
القعود في صلاة التّراويح :
14 - جاء في مذهب الحنفيّة أنّ من يصلّي التّراويح قاعداً فإنّه يجوز مع الكراهة تنزيهاً لأنّه خلاف السّنّة المتوارثة .(/13)
وصرّح الحنفيّة بأنّه : يكره للمقتدي أن يقعد في صلاة التّراويح ، فإذا أراد الإمام أن يركع قام ، واستظهر ابن عابدين أنّه يكره تحريماً ، لأنّ في ذلك إظهار التّكاسل في الصّلاة والتّشبّه بالمنافقين ، قال اللّه تعالى : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } فإذا لم يكن ذلك لكسل بل لكبر ونحوه لا يكره ، ولم نجد مثل هذا لغير الحنفيّة .
وقت صلاة التّراويح :
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ وقت صلاة التّراويح من بعد صلاة العشاء ، وقبل الوتر إلى طلوع الفجر ، لنقل الخلف عن السّلف ، ولأنّها عرفت بفعل الصّحابة فكان وقتها ما صلّوا فيه ، وهم صلّوا بعد العشاء قبل الوتر ، ولأنّها سنّة تبع للعشاء فكان وقتها قبل الوتر. ولو صلّاها بعد المغرب وقبل العشاء فجمهور الفقهاء وهو الأصحّ عند الحنفيّة على أنّها لا تجزئ عن التّراويح ، وتكون نافلةً عند المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة أنّها تصحّ ، لأنّ جميع اللّيل إلى طلوع الفجر قبل العشاء وبعدها وقت للتّراويح ، لأنّها سمّيت قيام اللّيل فكان وقتها اللّيل .
وعلّل الحنابلة عدم الصّحّة بأنّها تفعل بعد مكتوبة وهي العشاء فلم تصحّ قبلها كسنّة العشاء، وقالوا : إنّ التّراويح تصلّى بعد صلاة العشاء وبعد سنّتها ، قال المجد : لأنّ سنّة العشاء يكره تأخيرها عن وقت العشاء المختار ، فكان إتباعها لها أولى .
ولو صلّاها بعد العشاء وبعد الوتر فالأصحّ عند الحنفيّة أنّها تجزئ .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ تأخير التّراويح إلى ثلث اللّيل أو نصفه ، واختلف الحنفيّة في أدائها بعد نصف اللّيل ، فقيل يكره ، لأنّها تبع للعشاء كسنّتها ، والصّحيح لا يكره لأنّها من صلاة اللّيل والأفضل فيها آخره .
وذهب الحنابلة إلى أنّ صلاتها أوّل اللّيل أفضل ، لأنّ النّاس كانوا يقومون على عهد عمر - رضي الله تعالى عنه - أوّله ، وقد قيل لأحمد : يؤخّر القيام أي في التّراويح إلى آخر اللّيل ؟ قال : سنّة المسلمين أحبّ إليّ .
الجماعة في صلاة التّراويح :
16 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة الجماعة في صلاة التّراويح ، لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما سبق ، ولفعل الصّحابة - رضوان اللّه تعالى عليهم - ومن تبعهم منذ زمن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - ; ولاستمرار العمل عليه حتّى الآن .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الجماعة في صلاة التّراويح سنّة .
قال الحنفيّة : صلاة التّراويح بالجماعة سنّة على الكفاية في الأصحّ ، فلو تركها الكلّ أساءوا، أمّا لو تخلّف عنها رجل من أفراد النّاس وصلّى في بيته فقد ترك الفضيلة ، وإن صلّى في البيت بالجماعة لم ينل فضل جماعة المسجد .
وقال المالكيّة : تندب صلاة التّراويح في البيوت إن لم تعطّل المساجد ، وذلك لخبر : « عليكم بالصّلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصّلاة المكتوبة » ولخوف الرّياء وهو حرام ، واختلفوا فيما إذا صلّاها في بيته ، هل يصلّيها وحده أو مع أهل بيته ؟ قولان ، قال الزّرقانيّ : لعلّهما في الأفضليّة سواء .
وندب صلاة التّراويح - في البيوت عندهم - مشروط بثلاثة أمور : أن لا تعطّل المساجد ، وأن ينشط لفعلها في بيته ، ولا يقعد عنها ، وأن يكون غير آفاقيّ بالحرمين ، فإن تخلّف شرط كان فعلها في المسجد أفضل ، وقال الزّرقانيّ : يكره لمن في المسجد الانفراد بها عن الجماعة الّتي يصلّونها فيه ، وأولى إذا كان انفراده يعطّل جماعة المسجد .
وقال الشّافعيّة : تسنّ الجماعة في التّراويح على الأصحّ ، لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - الّذي سبق ذكره ،وللأثر عن عمر - رضي الله تعالى عنه - ولعمل النّاس على ذلك. ومقابل الأصحّ عندهم أنّ الانفراد بصلاة التّراويح أفضل كغيرها من صلاة اللّيل لبعده عن الرّياء .
وقال الحنابلة : صلاة التّراويح جماعةً أفضل من صلاتها فرادى ، قال أحمد : كان عليّ وجابر وعبد اللّه - رضي الله عنهم - يصلّونها في الجماعة .
وفي حديث أبي ذرّ - رضي الله تعالى عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمع أهله ونساءه ، وقال : إنّ الرّجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف كتب له قيام ليلة » .
وقالوا : إن تعذّرت الجماعة صلّى وحده لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » .
القراءة وختم القرآن الكريم في التّراويح :
17 - ذهب الحنابلة وأكثر المشايخ من الحنفيّة وهو ما رواه الحسن عن أبي حنيفة إلى أنّ السّنّة أن يختم القرآن الكريم في صلاة التّراويح ليسمع النّاس جميع القرآن في تلك الصّلاة . وقال الحنفيّة : السّنّة الختم مرّةً ، فلا يترك الإمام الختم لكسل القوم ، بل يقرأ في كلّ ركعة عشر آيات أو نحوها ، فيحصل بذلك الختم ، لأنّ عدد ركعات التّراويح في شهر رمضان ستّمائة ركعة ، أو خمسمائة وثمانون ، وآي القرآن الكريم ستّ آلاف وشيء .
ويقابل قول هؤلاء ما قيل : الأفضل أن يقرأ قدر قراءة المغرب لأنّ النّوافل مبنيّة على التّخفيف خصوصاً بالجماعة ، وما قيل : يقرأ في كلّ ركعة ثلاثين آيةً لأنّ عمر - رضي الله تعالى عنه - أمر بذلك ، فيقع الختم ثلاث مرّات في رمضان ، لأنّ لكلّ عشر فضيلةً كما جاءت به السّنّة ، « أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار » .(/14)
وقال الكاسانيّ : ما أمر به عمر - رضي الله تعالى عنه - هو من باب الفضيلة ، وهو أن يختم القرآن أكثر من مرّة ، وهذا في زمانهم ، وأمّا في زماننا فالأفضل أن يقرأ الإمام على حسب حال القوم ، فيقرأ قدر ما لا ينفّرهم عن الجماعة ، لأنّ تكثير الجماعة أفضل من تطويل القراءة .
ومن الحنفيّة من استحبّ الختم ليلة السّابع والعشرين رجاء أن ينالوا ليلة القدر ، وإذا ختم قبل آخره .. قيل : لا يكره له التّراويح فيما بقي ، قيل : يصلّيها ويقرأ فيها ما يشاء . وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّه يندب للإمام الختم لجميع القرآن في التّراويح في الشّهر كلّه، وقراءة سورة في تراويح جميع الشّهر تجزئ ، وكذلك قراءة سورة في كلّ ركعة ، أو كلّ ركعتين من تراويح كلّ ليلة في جميع الشّهر تجزئ وإن كان خلاف الأولى إذا كان يحفظ غيرها أو كان هناك من يحفظ القرآن غيره ، قال ابن عرفة : في المدوّنة لمالك : وليس الختم بسنّة .
وقال الحنابلة : يستحبّ أن يبتدئ التّراويح في أوّل ليلة بسورة القلم : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } بعد الفاتحة لأنّها أوّل ما نزل من القرآن ، فإذا سجد للتّلاوة قام فقرأ من البقرة نصّ عليه أحمد ، والظّاهر أنّه قد بلغه في ذلك أثر ، وعنه : أنّه يقرأ بسورة القلم في عشاء الآخرة من اللّيلة الأولى من رمضان .
قال الشّيخ : وهو أحسن ممّا نقل عنه أنّه يبتدئ بها التّراويح ويختم آخر ركعة من التّراويح قبل ركوعه ويدعو ، نصّ عليه .
المسبوق في التّراويح :
18 - قال الحنفيّة : من فاته بعض التّراويح وقام الإمام إلى الوتر أوتر معه ثمّ صلّى ما فاته .
وقال المالكيّة : من أدرك مع الإمام ركعةً فلا يخلو أن تكون من الرّكعتين الأخيرتين من التّرويحة أو من الأوليين ، فإن كانت من الأخيرتين فإنّه يقضي الرّكعة الّتي فاتته بعد سلام الإمام في أثناء فترة الرّاحة ، وإن كانت من الرّكعتين الأوليين فقد روى ابن القاسم عن مالك أنّه لا يسلّم سلامه ولكن يقوم فيصحب الإمام فإذا قام الإمام من الرّكعة الأولى من الأخريين تشهّد وسلّم ثمّ دخل معه في الرّكعتين الأخريين فصلّى منهما ركعةً ثمّ قضى الثّانية منهما حين انفراده بالتّنفّل .
وعند الحنابلة : سئل أحمد عمّن أدرك من ترويحة ركعتين يصلّي إليها ركعتين ؟ فلم ير ذلك، وقال : هي تطوّع .
قضاء التّراويح :
19 - إذا فاتت صلاة التّراويح عن وقتها بطلوع الفجر ، فقد ذهب الحنفيّة في الأصحّ عندهم، والحنابلة في ظاهر كلامهم إلى أنّها لا تقضى ; لأنّها ليست بآكد من سنّة المغرب والعشاء ، وتلك لا تقضى فكذلك هذه .
وقال الحنفيّة : إن قضاها كانت نفلًا مستحبًّا لا تراويح كرواتب اللّيل ، لأنّها منها ، والقضاء عندهم من خواصّ الفرض وسنّة الفجر بشرطها .
ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة أنّ من لم يؤدّ التّراويح في وقتها فإنّه يقضيها وحده ما لم يدخل وقت تراويح أخرى ، وقيل : ما لم يمض الشّهر .
ولم نجد تصريحاً للمالكيّة والشّافعيّة في هذه المسألة .
لكن قال النّوويّ : لو فات النّفل المؤقّت ندب قضاؤه في الأظهر .
-----------------------
الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ : 18 - الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهِيَ لَيْسَتْ بِتَطَوُّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . ( ر : صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ) . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ , وَكَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا جَمَاعَةَ فِيهَا عِنْدَهُ ; لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِيهَا . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . أَمَّا مَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِمَّا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُصَلَّى عَلَى انْفِرَادٍ لَكِنْ لَوْ صَلَّى جَمَاعَةً جَازَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا وَصَلَّى بِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ .
---------------------(/15)
الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ : 8 - الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ شَرْطُ صِحَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ . وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فِي سُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِمَا , أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَرَوْنَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَمُحَمَّدٍ , وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ , فَإِنَّهُ لَا يَرَى فِيهَا صَلَاةً أَصْلًا . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَتَجُوزُ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا : يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا , وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا , وَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً , وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً , وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً كَذَلِكَ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - { أَنَّهُ أَمَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم } . وَالْمَالِكِيَّةُ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً , وَكَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُشْتَهِرٍ , فَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ كُرِهَتْ الْجَمَاعَةُ , وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ لَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً وَالْمَكَانُ مُشْتَهِرًا . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّفْلِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مَكْرُوهَةٌ .(/16)
صلاة التّوبة *
التّعريف :
1 - الصّلاة تقدّم تعريفها ( ر : صلاة ) .
والتّوبة لغةً : مطلق الرّجوع ، والرّجوع عن الذّنب .
وفي الاصطلاح : الرّجوع من أفعال مذمومة إلى أفعال محمودة شرعاً .
الحكم التّكليفيّ :
2 - صلاة التّوبة مستحبّة باتّفاق المذاهب الأربعة .
وذلك لما رواه أبو بكر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من رجل يذنب ذنبًا ثمّ يقوم فيتطهّر ثمّ يصلّي ثمّ يستغفر اللّه إلاّ غفر اللّه له .. ثمّ قرأ هذه الآية : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ... إلخ } » .(/1)
صلاة الجمعة *
زمن مشروعيّتها :
1 - شرعت صلاة الجمعة في أوّل الهجرة عند قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، قال الحافظ ابن حجر : الأكثر على أنّها فرضت بالمدينة . وهو مقتضى أنّ فرضيّتها ثبتت بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وهي مدنيّة ، وقال الشّيخ أبو حامد : فرضت بمكّة ، وهو غريب .
ومن المتّفق عليه : « أنّ أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، كانت في قبيلة بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتّخذ القوم لهم في ذلك الموضع مسجداً ، وذلك عندما قدم إلى المدينة مهاجراً » .
غير أنّه ثبت أيضاً « أنّ أسعد بن زرارة أوّل من جمع النّاس لصلاة الجمعة في المدينة ، وكان ذلك بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم له قبل أن يهاجر من مكّة » ، فقد ورد عن كعب بن مالك أنّه « كان إذا سمع النّداء ترحّم لأسعد بن زرارة ، وكان يقول : إنّه أوّل من جمّع بنا في هزم النّبيت من حرّة بني بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات » .
فمن رجّح أنّها فرضت بالمدينة بعد الهجرة ، استدلّ بأنّه صلى الله عليه وسلم لم يقم أيّ جمعة في مكّة قبل الهجرة ، ومن قال : إنّها فرضت بمكّة قبل الهجرة استدلّ بأنّ الصّحابة قد صلّوها في المدينة قبل هجرته - عليه الصلاة والسلام - فلا بدّ أن تكون واجبةً إذ ذاك على المسلمين كلّهم سواء من كان منهم في مكّة وفي المدينة ، إلاّ أنّ الّذي منع من أدائها في مكّة عدم توافر كثير من شرائطها . قال البكريّ : فرضت بمكّة ولم تقم بها ؛ لفقد العدد ، أو لأنّ شعارها الإظهار ، وكان صلى الله عليه وسلم مستخفياً فيها . وأوّل من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة .
الحكمة من مشروعيّتها :
2 - قال الدّهلويّ : إنّه لمّا كانت إشاعة الصّلاة في البلد بحيث يجتمع لها أهلها متعذّرةً كلّ يوم ، وجب أن يعيّن لها ميقات لا يتكرّر دورانه بسرعة حتّى لا تعسر عليهم المواظبة على الاجتماع لها ، ولا يبطؤ دورانه بأن يطول الزّمن الفاصل بين المرّة والأخرى ، كي لا يفوت المقصود وهو تلاقي المسلمين واجتماعهم بين الحين والآخر . ولمّا كان الأسبوع قدراً زمنيّاً مستعملاً لدى العرب والعجم وأكثر الملل ، - وهو قدر متوسّط الدّوران والتّكرار بين السّرعة والبطء - وجب جعل الأسبوع ميقاتاً لهذا الواجب .
فرضيّتها :
دليل الفرضيّة :
3 - صلاة الجمعة من الفرائض المعلوم فرضيّتها بالضّرورة ، وبدلالة الكتاب والسّنّة ؛ فيكفر جاحدها . قال الكاسانيّ : الجمعة فرض لا يسع تركها ، ويكفر جاحدها والدّليل على فرضيّتها : الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } قيل : " ذكر اللّه " هو صلاة الجمعة ، وقيل : هو الخطبة ، وكلّ ذلك حجّة ؛ لأنّ السّعي إلى الخطبة إنّما يجب لأجل الصّلاة ، بدليل أنّ من سقطت عنه الصّلاة لا يجب عليه السّعي إلى الخطبة ، فكان فرض السّعي إلى الخطبة فرضاً للصّلاة ؛ ولأنّ ذكر اللّه يتناول الصّلاة ويتناول الخطبة من حيث إنّ كلّ واحد منهما ذكر اللّه تعالى .
وقد استدلّ الإمام السّرخسيّ - أيضاً - بالآية المذكورة من وجهين :
الوجه السّابق ، ووجه آخر حيث قال : اعلم أنّ الجمعة فريضة بالكتاب والسّنّة ، أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } والأمر بالسّعي إلى الشّيء لا يكون إلاّ لوجوبه ، والأمر بترك البيع المباح لأجله دليل على وجوبه أيضاً .
وحكى الخطّابيّ عن بعض الفقهاء : أنّ صلاة الجمعة فرض على الكفاية ، وقال القرافيّ : هو وجه لبعض أصحاب الشّافعيّة .
وأمّا السّنّة : فالحديث المشهور ، وهو ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه تعالى قد فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، في شهري هذا ، من عامي هذا إلى يوم القيامة ، فمن تركها في حياتي ، أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بها أو جحوداً لها بحقّها فلا جمع اللّه له شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حجّ له ، ولا صوم له ، ولا برّ له حتّى يتوب فمن تاب تاب اللّه عليه» وحديث : « الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلاّ أربعةً : عبد مملوك ، أو امرأة ، أو صبيّ ، أو مريض » وحديث : « رواح الجمعة واجب على كلّ محتلم » .
فرض وقت الجمعة :
4 - ذهب الأئمّة الثّلاثة - مالك والشّافعيّ في مذهبه الجديد وأحمد - إلى أنّ الجمعة فرض مستقلّ ، فليست بدلاً من الظّهر ، وليست ظهراً مقصوراً . واستدلّ الرّمليّ لكونها صلاةً مستقلّةً : بأنّه لا يغني الظّهر عنها ولقول عمر - رضي الله عنه - : « الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر على لسان نبيّكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى » .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنّ فرض وقت الجمعة في الأصل إنّما هو الظّهر ، إلاّ أنّ من تكاملت فيه شرائط الجمعة الآتي ذكرها فإنّه مأمور بإسقاطه وإقامة الجمعة في مكانه على سبيل الحتم ، أمّا من لم تتكامل فيه شرائطها ، فيبقى على أصل الظّهر إلاّ أنّه يخاطب بأداء الجمعة في مكانها على سبيل التّرخيص ، أي فإذا أدّى الجمعة رغم عدم تكامل شروط وجوبها عليه سقط عنه الظّهر بذلك . على أنّ لكلّ من محمّد وزفر أقوالاً أخرى في كيفيّة فرضيّة الجمعة .(/1)
5- وفائدة الخلاف تظهر فيما لو صلّى الظّهر في بيته وحده قبل فوات الجمعة - وهو غير معذور ، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصحّ ظهره ويقع فرضاً ؛ لأنّه أدّى فرض الوقت الأصليّ فيجزئه .
قال السّمرقنديّ : من صلّى الظّهر في بيته وحده - وهو غير معذور - فإنّه يقع فرضاً في قول أصحابنا الثّلاثة - أبي حنيفة وصاحبيه - خلافاً لزفر فإنّ عنده لا يجوز الظّهر .
وفي المذاهب الأخرى لا تجزئه صلاة الظّهر ويلزمه حضور الجمعة ، فإن حضرها فذاك وإلاّ بأن فاتته لزمه قضاء الظّهر حينئذ . قال أبو إسحاق الشّيرازيّ في المهذّب : وأمّا من تجب عليه الجمعة ، ولا يجوز له أن يصلّي الظّهر قبل فوات الجمعة ، فإنّه مخاطب بالسّعي إلى الجمعة ، فإن صلّى الظّهر قبل صلاة الإمام ففيه قولان : قال في القديم : يجزئه ؛ لأنّ الفرض هو الظّهر ... وقال في الجديد : لا تجزئه ، ويلزمه إعادتها وهو الصّحيح .
وقال ابن قدامة في المغني : من وجبت عليه الجمعة إذا صلّى الظّهر قبل أن يصلّي الإمام الجمعة لم يصحّ ، ويلزمه السّعي إلى الجمعة إن ظنّ أنّه يدركها ؛ لأنّها المفروضة عليه .
شروط صلاة الجمعة :
6 - لصلاة الجمعة ثلاثة أنواع من الشّروط .
النّوع الأوّل : شروط للصّحّة والوجوب معاً، والثّاني : للوجوب فقط ، والثّالث : للصّحّة فقط. والفرق بين هذه الأنواع الثّلاثة من الشّروط ، أنّ ما يعتبر شرطاً لصحّة صلاة الجمعة ووجوبها معاً ، يلزم من فقده أمران اثنان : بطلانها ، وعدم تعلّق الطّلب بها .
وما يعتبر شرطاً للوجوب - فقط - يلزم من فقده عدم تعلّق الطّلب وحده ، مع ثبوت صحّة الفعل ، وما يعتبر شرطاً للصّحّة فقط يلزم من فقده البطلان مع استمرار المطالبة به .
النّوع الأوّل شروط الصّحّة والوجوب معاً وتنحصر في ثلاثة :
7 - الشّرط الأوّل : اشترطه الحنفيّة ، وهو أن يكون المكان الّذي تقام فيه " مصراً " والمقصود بالمصر كلّ بلدة نصب فيها قاض ترفع إليه الدّعاوى والخصومات .
قال في المبسوط : وظاهر المذهب في بيان حدّ المصر الجامع : أن يكون فيه سلطان ، أو قاض لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام .
ويلحق بالمصر ضاحيته أو فناؤه ، وضواحي المصر هي القرى المنتشرة من حوله والمتّصلة به والمعدودة من مصالحه ، بشرط أن يكون بينها وبينه من القرب ما يمكّن أهلها من حضور الجمعة ، ثمّ الرّجوع إلى منازلهم في نفس اليوم بدون تكلّف .
وعلى هذا ، فمن كانوا يقيمون في قرية نائية ، لا يكلّفون بإقامة الجمعة ، وإذا أقاموها لم تصحّ منهم . قال صاحب البدائع : المصر الجامع شرط وجوب الجمعة ، وشرط صحّة أدائها عند أصحابنا ، حتّى لا تجب الجمعة إلاّ على أهل المصر ومن كان ساكناً في توابعه ، وكذا لا يصحّ أداء الجمعة إلاّ في المصر وتوابعه .
فلا تجب على أهل القرى الّتي ليست من توابع المصر ، ولا يصحّ أداء الجمعة فيها .
ولم تشترط المذاهب الأخرى هذا الشّرط .
فأمّا الشّافعيّة : فاكتفوا باشتراط إقامتها في خطّة أبنية سواء كانت من بلدة أو قرية ، قال صاحب المهذّب : لا تصحّ الجمعة إلاّ في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية .
وأمّا الحنابلة : فلم يشترطوا ذلك أيضاً ، وصحّحوا إقامتها في الصّحاري ، وبين مضارب الخيام . قال صاحب المغني : ولا يشترط لصحّة الجمعة إقامتها في البنيان ويجوز إقامتها فيما قاربه من الصّحراء .
وأمّا المالكيّة : فإنّما شرطوا أن تقام في مكان صالح للاستيطان . فتصحّ إقامتها في الأبنية ، أو الأخصاص ؛ لصلاحها للاستيطان فيها مدّةً طويلةً . ولا تصحّ في الخِيَم لعدم صلاحيّتها لذلك في الغالب .
قال في الجواهر الزّكيّة في تعداد شروطها : موضع الاستيطان ، ولو كان بأخصاص لا خيم ، فلا تقام الجمعة إلاّ في موضع يستوطن فيه بأن يقيم فيه صيفًا وشتاءً .
8 - ويترتّب على هذا الخلاف : أنّ أصحاب القرى الّتي لا تعتبر تابعةً لمصر إلى جانبها يجب عليهم - عند غير الحنفيّة - إقامة الجمعة في أماكنهم ، ولا يكلّفون بالانتقال لها إلى أيّ بلدة كبيرة أخرى من حولهم .
أمّا في المذهب الحنفيّ : فلا يكلّفون بإقامة الجمعة في مثل هذه الحال ، وإذا أقاموها لم تصحّ منهم . ويجب عليهم الانتقال إلى البلدة المجاورة إذا سمع منها الأذان .
9 - الشّرط الثّاني : واشترطه الحنفيّة ، إذن السّلطان بذلك ، أو حضوره ، أو حضور نائب رسميّ عنه ، إذ هكذا كان شأنها على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي عهود الخلفاء الرّاشدين .
هذا إذا كان ثمّة إمام أو نائب عنه في البلدة الّتي تقام فيها الجمعة ، فإذا لم يوجد أحدهما ، لموت أو فتنة أو ما شابه ذلك ، وحضر وقت الجمعة كان للنّاس حينئذ أن يجتمعوا على رجل منهم ليتقدّمهم فيصلّي بهم الجمعة .
أمّا أصحاب المذاهب الأخرى فلم يشترطوا لصحّة الجمعة أو وجوبها شيئاً ممّا يتعلّق بالسّلطان ، إذناً أو حضوراً أو إنابةً .
10 - الشّرط الثّالث من شروط صحّة الجمعة ووجوبها معاً : دخول الوقت ، ووقتها عند الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - هو وقت الظّهر ، فلا يثبت وجوبها ، ولا يصحّ أداؤها إلاّ بدخول وقت الظّهر ، ويستمرّ وقتها إلى دخول وقت العصر ، فإذا خرج وقت الظّهر سقطت الجمعة واستبدل بها الظّهر ؛ لأنّ الجمعة صلاة لا تقضى بالتّفويت . ويشترط دخول وقت الظّهر من ابتداء الخطبة ، فلو ابتدأ الخطيب الخطبة قبله لم تصحّ الجمعة ، وإن وقعت الصّلاة داخل الوقت .(/2)
وذهب الحنابلة إلى أنّ أوّل وقت صلاة الجمعة هو أوّل وقت صلاة العيد لحديث عبد اللّه بن سيدان : « شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النّهار » ، ولحديث جابر : « كان يصلّي الجمعة ثمّ نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشّمس » وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعد ومعاوية - رضي الله عنهم - أنّهم صلّوا قبل الزّوال ولم ينكر عليهم ، وفعلها بعد الزّوال أفضل .
النّوع الثّاني من الشّروط وهي :
شروط الوجوب فقط :
تتلخّص جملة هذه الشّروط في خمسة أمور ، وذلك بعد اعتبار الشّروط الّتي تتوقّف عليها أهليّة التّكليف بصورة عامّة ، من عقل وبلوغ :
11 - الأوّل : الإقامة بمصر : فلا تجب على مسافر . ثمّ لا فرق في الإقامة بين أن تكون على سبيل الاستيطان أو دون ذلك ، فمن تجاوزت أيّام إقامته في بلدة ما الفترة الّتي يشرع له فيها قصر الصّلاة وجبت عليه صلاة الجمعة وإلاّ فلا على التّفصيل المبيّن في ( صلاة المسافر ) .
ودليل ذلك ما رواه جابر - رضي الله عنه - : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلاّ مريض ، أو مسافر ، أو امرأة ، أو صبيّ ، أو مملوك ، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى اللّه عنه واللّه غنيّ حميد » . قال السّرخسيّ : والمعنى : أنّ المسافر تلحقه المشقّة بدخول المصر وحضور الجمعة ، وربّما لا يجد أحداً يحفظ رحله ، وربّما ينقطع عن أصحابه ، فلدفع الحرج أسقطها الشّرع عنه .
أمّا من كان مقيماً في غير مصر ، كالقرى والبوادي ، فإن كان مكانه قريباً من بلدة هناك وجب عليه الذّهاب إليها وإقامة الجمعة فيها ، وإلاّ لم تجب عليه .
والمفتى به في ضابط القرب : أن تصل أصوات المؤذّنين إلى ذلك المكان عندما يؤذّنون في أماكن مرتفعة وبأصوات عالية مع توسّط حالة الجوّ من حيث الهدوء والضّجيج .
وهذا على ما سبق بيانه في الفقرة من اشتراط الحنفيّة المصر خلافاً لغيرهم .
12 - الشّرط الثّاني : الذّكورة : فلا تجب صلاة الجمعة على النّساء .
وذكر صاحب البدائع حكمة ذلك فقال : وأمّا المرأة فلأنّها مشغولة بخدمة الزّوج ، ممنوعة من الخروج إلى محافل الرّجال ، لكون الخروج سبباً للفتنة ولهذا لا جماعة عليهنّ أيضاً .
13 - الشّرط الثّالث : الصّحّة : ويقصد بها خلوّ البدن عمّا يتعسّر معه - عرفاً - الخروج لشهود الجمعة في المسجد ، كمرض وألم شديد ؛ فلا تجب صلاة الجمعة على من اتّصف بشيء من ذلك .
وألحق بالمريض ممرّضه الّذي يقوم بأمر تمريضه وخدمته ، بشرط أن لا يوجد من يقوم مقامه في ذلك لو تركه .
14 - الشّرط الرّابع : الحرّيّة : فلا تجب على العبد المملوك ، لانشغاله بخدمة المولى .
غير أنّها تجب على المكاتب والمبعّض وتجب على الأجير ، بمعنى أنّه لا يجوز للمستأجر منعه منها ، فإذا ترك العمل لصلاتها ، وكان المسجد بعيداً عن مكان عمله في - العرف - سقط من أجرته ما يقابل الزّمن الّذي ترك فيه العمل من أجلها بما في ذلك مدّة الصّلاة نفسها، وإلاّ لم يسقط شيء .
وهذه الشّريطة - أيضاً - محلّ اتّفاق لدى مختلف المذاهب ، ثمّ إنّ السّيّد إذا أذن لعبده في الخروج لصلاة الجمعة وجبت عليه حينئذ .
15 - الشّرط الخامس : السّلامة : والمقصود بها سلامة المصلّي من العاهات المقعدة ، أو المتعبة له في الخروج إلى صلاة الجمعة ، كالشّيخوخة المقعدة والعمى ، فإن وجد الأعمى قائدًا متبرّعاً أو بأجرة معتدلة ، وجبت عليه عند الجمهور - أبي يوسف ومحمّد والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - ؛لأنّ الأعمى بواسطة القائد يعتبر قادراً على السّعي خلافاً لأبي حنيفة. وهناك صورتان أخريان تجب فيهما على الأعمى صلاة الجمعة :
الصّورة الأولى : أن تقام الصّلاة وهو في المسجد متطهّر متهيّئ للصّلاة .
الصّورة الثّانية : أن يكون ممّن أوتوا مهارةً في المشي في الأسواق دون الاحتياج إلى أيّ كلفة أو قيادة أو سؤال أحد . إذ لا حرج حينئذ عليه في حضور صلاة الجمعة .
ولا تجب - أيضاً - في حالة خوف من عدوّ أو سبع أو لصّ ، أو سلطان ، ولا في حالة مطر شديد ، أو وحل ، أو ثلج ، يتعسّر معها الخروج إليها . إذ لا تعتبر السّلامة متوفّرةً في مثل هذه الحالات .
16 - ثمّ إنّ مَنْ حضر صلاة الجمعة ممّن لم تتوفّر فيه هذه الشّروط الخمسة ينظر في أمره: فإن كان فاقداً أهليّة التّكليف نفسها ، كالصّبيّ والمجنون ، صحّت صلاة الصّبيّ واعتبرت له تطوّعاً ، وبطلت صلاة المجنون ؛ لعدم توفّر الإدراك المصحّح لأصل العبادة .
أمّا إن تكاملت لديه أهليّة التّكليف ، كالمريض والمسافر والعبد والمرأة ، فمثل هؤلاء إن حضروا الجمعة وصلّوها أجزأتهم عن فرض الظّهر ؛ لأنّ امتناع الوجوب في حقّهم إنّما كان للعذر ، وقد زال بحضورهم لكن صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ لهم الانصراف ؛ إذ المانع من وجوبها عليهم لا يرتفع بحضورهم إلاّ المريض ونحوه كالأعمى فيحرم انصرافهما إن دخل الوقت قبل انصرافهما ؛ لأنّ المانع في حقّهما مشقّة الحضور وقد زالت .
17 - ويصحّ أن يؤمّ القوم من هؤلاء كلّ من صحّت إمامته المطلقة في باب صلاة الجماعة فتصحّ إمامة المريض والمسافر والعبد ، دون المرأة قال في تنوير الأبصار : ويصلح للإمامة فيها من صلح لغيرها ؛ فجازت لمسافر وعبد ومريض .
وأمّا صفة الّذين تنعقد بهم الجمعة فهي : أنّ كلّ من يصلح إماماً للرّجال في الصّلوات المكتوبة تنعقد بهم الجمعة ، فيشترط صفة الذّكورة والعقل والبلوغ لا غير ، فتنعقد الجمعة بعبيد ومسافرين . وهذا عند الحنفيّة .(/3)
ومذهب الحنابلة : أنّه لا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ، ولا تصحّ إمامته .
أمّا الشّافعيّة : فصحّحوا الإمامة من هؤلاء دون الانعقاد به . فلو أمّ المصلّين مسافر وكان عددهم لا يتجاوز مع إمامهم المسافر أربعين رجلاً ، لم تنعقد صلاتهم .
18 - فمن توفّرت فيه هذه الشّروط ، حرّم عليه صلاة الظّهر قبل فوات الجمعة ، لما في ذلك من مخالفة الأمر بإسقاط صلاة الظّهر وأداء الجمعة في مكانها . أمّا بعد فواتها عليه فلا مناص حينئذ من أداء الظّهر ، بل يجب عليه ذلك ، غير أنّه يعتبر آثماً بسبب تفويت الجمعة بدون عذر .
فإن سعى إليها بعد أدائه الظّهر والإمام في الصّلاة بطلت صلاته الّتي كان قد أدّاها بمجرّد انفصاله عن داره واتّجاهه إليها سواء أدركها أم لا . وذلك لأنّ السّعي إلى صلاة الجمعة معدود من مقدّماتها وخصائصها المأمور بها بنصّ كتاب اللّه تعالى ، والاشتغال بفرائض الجمعة الخاصّة بها يبطل الظّهر وهذا عند أبي حنيفة ، أمّا عند الصّاحبين فلا يبطل ظهره بمجرّد السّعي ، بل لا بدّ لذلك من إدراكه الجمعة وشروعه فيها .
وقال المالكيّة والحنابلة : من وجبت عليه الجمعة إذا صلّى الظّهر قبل أن يصلّي الإمام الجمعة لم يصحّ ويلزمه السّعي إلى الجمعة إن ظنّ أنّه يدركها .
النّوع الثّالث : شروط الصّحّة فقط :
وهي أربعة شروط :
19 - الأوّل الخطبة : ويشترط تقدّمها على الصّلاة ، وهي كلّ ذكر يسمّى في عرف النّاس خطبةً ، فمتى جاء الإمام بذلك بعد دخول الوقت ، فقد تأدّى الشّرط وصحّت الخطبة ، سواء كان قائماً ، أو قاعداً أتى بخطبتين أو خطبة واحدة ، تلا فيها قرآناً أم لا ، عربيّةً كانت أو عجميّةً ، إلاّ أنّها ينبغي أن تكون قبل الصّلاة ، إذ هي شرط ، وشرط الشّيء لا بدّ أن يكون سابقاً عليه وهذا عند الحنفيّة .
واشترط لها المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة خطبتين مستدلّين على ذلك بمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
واعتبر الشّافعيّة للخطبة أركاناً خمسةً لا بدّ من توافرها وهي : حمد اللّه ، والصّلاة على رسوله ، والوصيّة بالتّقوى . وهذه الثّلاثة أركان في كلّ من الخطبتين ، والرّابع : قراءة آية من القرآن في إحداهما ، والخامس : ما يقع عليه اسم الدّعاء للمؤمّنين في الخطبة الثّانية . واشترط الحنابلة من هذه الأركان قراءة آية من القرآن . قال ابن قدامة ... قال أصحابنا : ولا يكفي في القراءة أقلّ من آية ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على أقلّ من ذلك وما عدا ذلك مستحبّ . وتفصيله في مصطلح ( خطبة ) .
20 - الثّاني : الجماعة : قال في البدائع : ودليل شرطيّتها ، أنّ هذه الصّلاة تسمّى جمعةً ، فلا بدّ من لزوم معنى الجمعة فيها ، اعتبارًا للمعنى الّذي أخذ اللّفظ منه ... ولهذا لم يؤدّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الجمعة إلاّ جماعةً ، وعليه إجماع العلماء .
ويتعلّق ببيان كيفيّة هذا الشّرط ثلاثة أبحاث :
21 - أوّلها : حضور واحد سوى الإمام - على الصّحيح من مذهب الحنفيّة - وقيل : ثلاثة سوى الإمام ، قال في مجمع الأنهر : لأنّها أقلّ الجمع ، وقد ورد الخطاب للجمع ، وهو قوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فإنّه يقتضي ثلاثةً سوى الخطيب ، هذا مذهب أبي حنيفة ومحمّد .
واشترط الشّافعيّة والحنابلة أن لا يقلّ المجمعون عن أربعين رجلاً تجب في حقّهم الجمعة . قال صاحب المغني : أمّا الأربعون فالمشهور في المذهب أنّه شرط لوجوب الجمعة وصحّتها ، ويشترط حضورهم الخطبتين .
وقال المالكيّة : يشترط حضور اثني عشر من أهل الجمعة .
22 - ثانيها : يجب حضور ما لا يقلّ عن هذا العدد من أوّل الخطبة .
قال في البدائع : لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب وحده ، ثمّ حضروا فصلّى بهم الجمعة لا يجوز ؛ لأنّ الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشّروع في الصّلاة ، فهي شرط حال سماع الخطبة ؛ لأنّ الخطبة بمنزلة شفع من الصّلاة ، قالت عائشة - رضي الله عنها : إنّما قصرت الجمعة لأجل الخطبة ، وجاء مثله عن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد فتشترط الجماعة حال سماع الخطبة ، كما تشترط حال الشّروع في الصّلاة .
23 - ثالثها : الجماعة في صلاة الجمعة شرط أداء عند الحنفيّة ، وهو الصّحيح عند المالكيّة والشّافعيّة ، ولا يتحقّق الأداء إلاّ بوجود تمام الأركان ، وهي : القيام ، والقراءة ، والرّكوع ، والسّجود . وعلى هذا فلو تفرّقت الجماعة قبل سجود الإمام بطلت الجمعة ويستأنف الظّهر ، والجماعة شرط انعقاد عند الصّاحبين ، والانعقاد يتمّ بدخول صحيح في الصّلاة ، وعلى هذا فلو تفرّقت الجماعة عن الإمام قبل السّجود وبعد الانعقاد صحّت جمعة كلّ منهم وقد صحّح صاحب " تنوير الأبصار " ما ذهب إليه أبو حنيفة .
أمّا الحنابلة : فظاهر كلام أحمد أنّهم إن انفضّوا قبل كمالها لم يجز إتمامها جمعةً ، وقياس قول الخرقيّ أنّهم إن انفضّوا بعد ركعة أتمّوها جمعةً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن إلى أنّ من أدرك مع الإمام أقلّ من ركعة ، فإنّه لا يكون مدركاً للجمعة ويصلّيها ظهراً .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : صلاة المقتدي صحيحة على أنّها جمعة إذا أدرك جزءاً منها مع الإمام ، وإن قلّ . قال في المبسوط : ومن أدرك الإمام في التّشهّد في الجمعة أو في سجدتي السّهو فاقتدى به فقد أدركها ويصلّيها ركعتين .(/4)
24 - الثّالث من شروط الصّحّة : واشترط الحنفيّة أن تؤدّى بإذن عامّ يستلزم الاشتهار ، وهو يحصل بإقامة الجمعة في مكان بارز معلوم لمختلف فئات النّاس ، مع فتح الأبواب للقادمين إليه ، قال في تنوير الأبصار : فلو دخل أمير حصناً أو قصره وأغلق بابه ، وصلّى بأصحابه لم تنعقد .
والحكمة من هذا الشّرط ما قاله صاحب البدائع : وإنّما كان هذا شرطاً ؛ لأنّ اللّه تعالى شرع النّداء لصلاة الجمعة بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
والنّداء للاشتهار ؛ ولذا يسمّى جمعةً ، لاجتماع الجماعات فيها فاقتضى أن تكون الجماعات كلّها مأذونين بالحضور إذناً عامّاً تحقيقاً لمعنى الاسم .
25 - الشّرط الرّابع : أن لا تتعدّد الجمعة في المصر الواحد مطلقاً :
ذهب الجمهور إلى منع التّعدّد في أعمّ الأحوال على اختلاف يسير بينهم في ضابط المكان الّذي لا يجوز التّعدّد فيه .
فمذهب الشّافعيّ وأحمد والمشهور من مذهب مالك هو منع التّعدّد في البلدة الواحدة كبيرةً كانت أو صغيرةً إلاّ لحاجة .
وهذا - أيضاً - مذهب أبي حنيفة ، وصحّحه ابن عابدين وذكر أنّه اختيار الطّحاويّ والتّمرتاشيّ ، ونقل عن شرح المنية أنّه أظهر الرّوايتين عن الإمام ، ونقل عن النّهر والتّكملة : أنّ الفتوى عليه . قالوا : لأنّ الحكمة من مشروعيّتها هي الاجتماع والتّلاقي ، وينافيه التّفرّق بدون حاجة في عدّة مساجد ، ولأنّه لم يحفظ عن صحابيّ ولا تابعيّ تجويز تعدّدها .
ومقابله ما رواه في البدائع عن الكرخيّ : أنّه لا بأس بأن يجمعوا في موضعين أو ثلاثة عند محمّد ، وعن أبي يوسف روايتان :
إحداهما : لا يجوز إلاّ إذا كان بين موضعي الإقامة نهر عظيم كدجلة ونحوها فيصير بمنزلة مصرين .
والثّانية : يجوز في موضعين إذا كان المصر عظيماً .
26 - فهذه الشّروط الأربعة إذا فقد واحد منها ، بطلت الصّلاة ، مع استمرار تعلّق الوجوب بها ، حتّى إنّه يجب إعادتها إذا بقي وقت وأمكن تدارك الشّرط الفائت .
وهذا معنى أنّها شروط للصّحّة فقط ، إلاّ ما يتعلّق بفقد الشّرط الأخير ، فسنذكر حكم ذلك عند البحث عن مفسدات صلاة الجمعة وما يترتّب على فسادها .
الإنصات للخطبة :
27 - إذا صعد الإمام المنبر للخطبة ، يجب على الحاضرين أن لا يشتغلوا عندئذ بصلاة ولا كلام إلى أن يفرغ من الخطبة . فإذا بدأ الخطيب بالخطبة تأكّد وجوب ذلك أكثر .
قال في تنوير الأبصار : كلّ ما حرّم في الصّلاة حرّم في الخطبة ، وسواء أكان الجالس في المسجد يسمع الخطبة أم لا ، اللّهمّ إلاّ أن يشتغل بقضاء فائتة لم يسقط التّرتيب بينها وبين الصّلاة الوقتيّة فلا تكره ، بل يجب فعلها .
فلو خرج الخطيب ، وقد بدأ المصلّي بصلاة نافلة ، كان عليه أن يخفّفها ويسلّم على رأس ركعتين ، وهذا محلّ اتّفاق بين الأئمّة الأربعة .
غير أنّه جرى الخلاف فيما إذا دخل الرّجل والخطيب يخطب فقد ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، إلى أنّه يجلس ولا يصلّي ، شأنه في ذلك كالجالسين دون أيّ فرق .
وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه يصلّي ركعتين خفيفتين ما لم يجلس ، تحيّةً للمسجد وقال الشّافعيّة : إن غلب على ظنّه أنّه إن صلّاها فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصلّها .
الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة :
28 - ذهب الجمهور إلى أنّه يسنّ للإمام الجهر في قراءة صلاة الجمعة ، وعند الحنفيّة يجب الجهر فيها بالقراءة ، قال في البدائع : وذلك لورود الأثر فيها بالجهر وهو ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنه - أنّه قال : « سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة في الرّكعة الأولى سورة الجمعة وفي الثّانية سورة المنافقين » ولو لم يجهر لما سمع ولأنّ النّاس يوم الجمعة فرّغوا قلوبهم ، عن الاهتمام بأمور التّجارة لعظم ذلك الجمع فيتأمّلون قراءة الإمام فتحصل لهم ثمرات القراءة ، فيجهر بها كما في صلاة اللّيل ، وخالف بقيّة الأئمّة في وجوب الجهر فذهبوا إلى استحبابه .
السّعي لصلاة الجمعة :
29 - من الواجبات المتعلّقة بهذه الشّعيرة : وجوب السّعي إليها ، وترك معاملات البيع والشّراء عند الأذان الثّاني ، وهو قول الجمهور ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .
وقال الحنفيّة في الأصحّ عندهم : إنّما يجب ذلك عند الأذان الأوّل ، ويترتّب على تأخير هذا السّعي الواجب عند سماع النّداء ما يترتّب على ترك الواجبات من الحرمة بسبب المعصية .
أمّا حكم العقد الّذي يباشره من بيع ، ونحوه بدلاً من المبادرة إلى السّعي ففي بطلانه ، أو كراهته اختلاف الفقهاء ويعرف ذلك بالرّجوع إلى أحكام البيع . ( ر : بيع منهيّ عنه ج /9 ف / 133 ) .
المستحبّات من كيفيّة أداء الجمعة :
30 - أ - الأذان بين يدي المنبر قبل البدء بالخطبة إذا جلس الخطيب على المنبر ، وهذا الأذان هو الّذي كان يؤذّن لكلّ من الوقت والخطبة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثمّ رأى عثمان - رضي الله عنه - أن يؤذّن أذاناً أوّل للإعلام بدخول الوقت ، وذلك بسبب كثرة النّاس . وأبقى الأذان الثّاني بين يدي المنبر التزاماً للسّنّة .
ب - أن يخطب الخطيب خطبتين قائماً ، يفصل بينهما بجلسة خفيفة يفتتحها بحمد اللّه والثّناء عليه ، والتّشهّد ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويزيد على ذلك في الخطبة الثّانية الدّعاء للمؤمنين والمؤمنات .(/5)
31 - وقد اختلف الفقهاء في حكم الطّهارة في الخطبة ، فذهب - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ الطّهارة سنّة في الخطبة ، وذهبت الشّافعيّة إلى اعتبارها شرطاً فيها . ودليل الّذين لم يشترطوا الطّهارة فيها : أنّ الخطبة من باب الذّكر ، والمحدث والجنب لا يمنعان من ذكر اللّه تعالى ، أمّا دليل الآخرين : فهو مواظبة السّلف على الطّهارة فيها ، والقياس على الصّلاة .
استحباب كون الخطيب والإمام واحداً :
32 - يستحبّ أن لا يؤمّ القوم إلاّ من خطب فيهم ؛ لأنّ الصّلاة والخطبة كشيء واحد ، قال في تنوير الأبصار : فإن فعل بأن خطب صبيّ بإذن السّلطان وصلّى بالغ جاز ، غير أنّه يشترط في الإمام حينئذ أن يكون ممّن قد شهد الخطبة .
قال في البدائع : ولو أحدث الإمام بعد الخطبة قبل الشّروع في الصّلاة فقدّم رجلاً يصلّي بالنّاس : إن كان ممّن شهد الخطبة أو شيئاً منها جاز ، وإن لم يشهد شيئاً من الخطبة لم يجز ، ويصلّي بهم الظّهر ، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء .
وخالف في ذلك المالكيّة ، فذهبوا إلى وجوب كون الخطيب والإمام واحداً إلاّ لعذر كمرض ، وكأن لا يقدر الإمام على الخطبة ، أو لا يحسنها .
ما يقرأ في صلاة الجمعة :
33 - اتّفق الفقهاء على أنّه : يستحبّ للإمام أن يقرأ في الرّكعة الأولى " سورة الجمعة " ، وفي الرّكعة الثّانية " سورة المنافقين " . لما روى عبيد اللّه بن أبي رافع قال : « صلّى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الرّكعة الأولى ، وفي الرّكعة الآخرة { إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ } فلمّا قضى أبو هريرة الصّلاة أدركته فقلت : يا أبا هريرة إنّك قرأت بسورتين ، كان عليّ بن أبي طالب يقرأ بهما بالكوفة فقال أبو هريرة : إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة » .
كما استحبّ جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أيضاً قراءة سورة { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } في الرّكعة الأولى و { هَلْ أَتَاكَ } في الرّكعة الثّانية . لما روى النّعمان بن بشير قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } » .
قال الكاسانيّ : لكن لا يواظب على قراءتها بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات حتّى لا يؤدّي إلى هجر بعض القرآن ، ولئلاّ تظنّه العامّة حتماً .
وصرّح الماورديّ من الشّافعيّة بأنّ قراءة " الجمعة ، والمنافقين " أولى .
قال النّوويّ : كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين في وقت ، وهاتين في آخر فهما سنّتان، وصرّح المحلّيّ من الشّافعيّة : بأنّه لو ترك قراءة " سورة الجمعة " في الأولى قرأها مع " المنافقين " في الثّانية ، ولو قرأ " المنافقين " في الأولى قرأ " الجمعة " في الثّانية . كي لا تخلو صلاته عن هاتين السّورتين .
ويندب عند المالكيّة أن يقرأ في الرّكعة الثّانية - أيضاً - بسورة { هَلْ أَتَاكَ } ، أو { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } .
قال الدّسوقيّ : إنّه مخيّر في القراءة في الرّكعة الثّانية بين الثّلاث - { هَلْ أَتَاكَ } أو { سَبِّحِ} أو " المنافقون " - وأنّ كلّاً يحصل به النّدب ، لكن { هَلْ أَتَاكَ } أقوى في النّدب ، وهذا ما اعتمده مصطفى الرّماصيّ . وفي كلام بعضهم ما يفيد أنّ المسألة ذات قولين ، وأنّ الاقتصار على { هَلْ أَتَاكَ } مذهب المدوّنة ، وأنّ التّخيير بين الثّلاث قول الكافي .
مفسدات الجمعة :
تنقسم إلى نوعين :
مفسدات مشتركة ، ومفسدات خاصّة :
34 - فأمّا المفسدات المشتركة : فهي كلّ ما يفسد سائر الصّلوات ( ر . صلاة )
35 - وأمّا مفسداتها الخاصّة بها فتنحصر في الأمور التّالية :
أوّلها : خروج وقت الظّهر قبل الفراغ منها فيصلّيها ظهراً ، ويستوي في الفساد خروج الوقت قبل المباشرة بها ، وخروجه بعد المباشرة بها وقبل الانتهاء منها هذا عند الحنفيّة ، ونحوه للشّافعيّة فإنّها تنقلب ظهراً ولا تكون جمعةً ، وقال الحنابلة : إن أحرموا بها في الوقت فهي جمعة .
وهذا يعني : أنّ اشتراط وقت الظّهر لها مستمرّ في الاعتبار إلى لحظة الفراغ منها قال في تنوير الأبصار : لأنّ الوقت شرط الأداء لا شرط الافتتاح .
وقال المالكيّة : شرط الجمعة وقوع كلّها بالخطبة وقت الظّهر للغروب .
ثانيها : انفضاض الجماعة أثناء أدائها ، قبل أن تقيّد الرّكعة الأولى بالسّجدة فيصلّيها ظهراً. وذلك على ما ذهب إليه الأئمّة القائلون : بأنّ الجماعة شرط أداءً ، وأمّا على ما رجّحه الآخرون ، فلا أثر لانفساخها بعد الانعقاد وإن لم تقيّد الرّكعة الأولى جماعةً .
وللشّافعيّة ثلاثة أقوال : الأظهر : يتمّها ظهراً ، والثّاني : إن بقي معه اثنان يتمّها جمعةً ، والثّالث : إن بقي معه واحد يتمّها جمعةً .
وسبب هذا الخلاف : أنّ الجماعة شرط أداءً لصحّة الجمعة عند بعض الأئمّة ، وهي عند بعضهم شرط انعقاد .
قضاء صلاة الجمعة :
36 - صلاة الجمعة لا تقضى بالفوات ، وإنّما تعاد الظّهر في مكانها . قال في البدائع : وأمّا إذا فاتت عن وقتها ، وهو وقت الظّهر ، سقطت عند عامّة العلماء ; لأنّ صلاة الجمعة لا تقضى ؛ لأنّ القضاء على حسب الأداء ، والأداء فات بشرائط مخصوصة يتعذّر تحصيلها على كلّ فرد ، فتسقط ، بخلاف سائر المكتوبات إذا فاتت عن أوقاتها وهذا محلّ اتّفاق .
اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد :(/6)
37 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه إذا وافق العيد يوم الجمعة فلا يباح لمن شهد العيد التّخلّف عن الجمعة . قال الدّسوقيّ : وسواء من شهد العيد بمنزله في البلد ، أو خارجها . وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد فصلّوا العيد والظّهر جاز وسقطت الجمعة عمّن حضر العيد ؛ لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى العيد ، وقال : من شاء أن يجمّع فليجمّع » وصرّحوا بأنّ إسقاط الجمعة حينئذ إسقاط حضور لا إسقاط وجوب ، فيكون حكمه كمريض ونحوه ممّن له عذر أو شغل يبيح ترك الجمعة ، ولا يسقط عنه وجوبها فتنعقد به الجمعة ويصحّ أن يؤمّ فيها .
والأفضل له حضورها خروجاً من الخلاف . ويستثنى من ذلك الإمام فلا يسقط عنه حضور الجمعة ، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنّا مجمّعون » .
ولأنّه لو تركها لامتنع فعلها في حقّ من تجب عليه ، ومن يريدها ممّن سقطت عنه ، وقالوا: إن قدّم الجمعة فصلّاها في وقت العيد ، فقد روي عن أحمد قال : تجزئ الأولى منهما .
فعلى هذا : تجزيه عن العيد والظّهر ، ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جوّز الجمعة في وقت العيد .
وأجاز الشّافعيّة في اليوم الّذي يوافق فيه العيد يوم الجمعة لأهل القرية الّذين يبلغهم النّداء لصلاة العيد : الرّجوع وترك الجمعة ، وذلك فيما لو حضروا لصلاة العيد ولو رجعوا إلى أهليهم فاتتهم الجمعة ؛ فيرخّص لهم في ترك الجمعة تخفيفاً عليهم . ومن ثمّ لو تركوا المجيء للعيد وجب عليهم الحضور للجمعة ، ويشترط - أيضاً - لترك الجمعة أن ينصرفوا قبل دخول وقت الجمعة .
آداب صلاة الجمعة ويومها :
اختصّ يوم الجمعة واختصّت صلاتها بآداب تشمل مجموعة أفعال وتروك، مجملها فيما يلي:
أوّلاً : ما يسنّ فعله :
38 - يسنّ له أن يغتسل ، وأن يمسّ طيباً ويتجمّل ، ويلبس أحسن ثيابه ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً : « لو أنّكم تطهّرتم ليومكم هذا » ، وفي رواية عن أحمد : الغسل لها واجب .
قال صاحب البدائع في بيان علّة ذلك : لأنّ الجمعة من أعظم شعائر الإسلام ، فيستحبّ أن يكون المقيم لها على أحسن وصف كما يسنّ التّبكير في الخروج إلى الجامع والاشتغال بالعبادة إلى أن يخرج الخطيب .
وهذا كلّه ممّا اتّفقت الأئمّة على ندبه ، وانفرد المالكيّة - أيضاً - فاشترطوا في الغسل أن يكون متّصلاً بوقت الذّهاب إلى الجامع ، قال في الجواهر الزّكيّة : فإن اغتسل واشتغل بغذاء أو نوم أعاد الغسل على المشهور ، فإذا خفّ الأكل ، أو النّوم فلا شيء عليه في ذلك .
ثانياً : ما يسنّ تركه :
39 - أوّلاً : أكل كلّ ذي ريح كريهة : كثوم وبصل ونحوهما .
40 - ثانياً : تخطّي الرّقاب في المسجد ، وهو محرّم إذا كان الخطيب قد أخذ في الخطبة ، إلاّ أن لا يجد إلاّ فرجةً أمامه ولا سبيل إليها إلاّ بتخطّي الرّقاب ، فيرخّص في ذلك للضّرورة . 41 - ثالثاً : تجنّب الاحتباء والإمام يخطب .
وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة ، حيث صرّحوا بكراهته . قال النّوويّ : والصّحيح أنّه مكروه ؛ فقد صحّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب » وقال الخطّابيّ من أصحابنا : نهى عنه لأنّه يجلب النّوم ، فيعرّض طهارته للنّقض ويمنعه من استماع الخطبة .
ولم ير جمهور الفقهاء به بأساً حيث صرّحوا بجوازه ( ر : احتباء ) .
كما صرّح الشّافعيّة بكراهة تشبيك الأصابع . قال النّوويّ : يكره أن يشبّك بين أصابعه أو يعبث حال ذهابه إلى الجمعة وانتظاره لها .
42 - يحرم عند الجمهور إنشاء سفر بعد الزّوال " وهو أوّل وقت الجمعة " من المصر الّذي هو فيه ، إذا كان ممّن تجب عليه الجمعة ، وعلم أنّه لن يدرك أداءها في مصر آخر .
فإن فعل ذلك فهو آثم على الرّاجح ما لم يتضرّر بتخلّفه عن رفقته .
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - حيث صرّحوا بحرمة السّفر بعد الزّوال .
كما صرّح المالكيّة والحنابلة بكراهة السّفر بعد طلوع فجر يوم الجمعة .
وذهب الشّافعيّ في الجديد : إلى أنّ حرمة السّفر تبدأ من وقت الفجر وهو المفتى به في المذهب ، ودليله : أنّ مشروعيّة الجمعة مضافة إلى اليوم كلّه لا إلى خصوص وقت الظّهر ، بدليل وجوب السّعي إليها قبل الزّوال على بعيد الدّار .(/7)
الخلاصة في أحكام الصلاة
وفي الموسوعة الفقهية :
صَلاَة *
التّعريف :
1 - الصّلاة أصلها في اللّغة : الدّعاء ، لقوله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي ادع لهم .
وفي الحديث قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصلّ، وإن كان مفطراً فليطعم » أي ليدع لأرباب الطّعام .
وفي الاصطلاح : قال الجمهور : هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتّكبير مختتمة بالتّسليم مع النّيّة بشرائط مخصوصة .
وقال الحنفيّة : هي اسم لهذه الأفعال المعلومة من القيام والرّكوع والسّجود .
مكانة الصّلاة في الإسلام :
2 - للصّلاة مكانة عظيمة في الإسلام . فهي آكد الفروض بعد الشّهادتين وأفضلها ، وأحد أركان الإسلام الخمسة . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » وقد نسب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تاركها إلى الكفر فقال : « إنّ بين الرّجل وبين الشّرك والكفر ترك الصّلاة » وعن عبد اللّه شقيق العقيليّ قال : كان أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصّلاة .
فالصّلاة عمود الدّين الّذي لا يقوم إلاّ به ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصّلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه » وهي أوّل ما يحاسب العبد عليه . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أوّل ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصّلاة ، فإن صلحت فقد أفلح ونجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر » ، كما أنّها آخر وصيّة وصَّى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّته عند مفارقته الدّنيا فقال صلى الله عليه وسلم : « الصّلاة وما ملكت أيمانكم »
وهي آخر ما يفقد من الدّين ، فإن ضاعت ضاع الدّين كلّه . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لتنقضنّ عرى الإسلام عروةً عروةً ، فكلّما انتقضت عروة تشبّث النّاس بالّتي تليها. فأوّلهنّ نقضاً الحكم ، وآخرهنّ الصّلاة » .
كما أنّها العبادة الوحيدة الّتي لا تنفكّ عن المكلّف ، وتبقى ملازمةً له طول حياته لا تسقط عنه بحال .
وقد ورد في فضلها والحثّ على إقامتها ، والمحافظة عليها ، ومراعاة حدودها آيات وأحاديث كثيرة مشهورة .
فرض الصّلوات الخمس وعدد ركعاتها :
3 - أصل وجوب الصّلاة كان في مكّة في أوّل الإسلام ، لوجود الآيات المكّيّة الّتي نزلت في بداية الرّسالة تحثّ عليها .
وأمّا الصّلوات الخمس بالصّورة المعهودة فإنّها فرضت ليلة الإسراء والمعراج على خلاف بينهم في تحديد زمنه .
4 - وقد ثبتت فرضيّة الصّلوات الخمس بالكتاب والسّنّة والإجماع :
أمّا الكتاب فقوله تعالى في غير موضع من القرآن . { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } ، وقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتاً } أي فرضاً مؤقّتاً . وقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } ومطلق اسم الصّلاة ينصرف إلى الصّلوات المعهودة ، وهي الّتي تؤدّى في كلّ يوم وليلة . وقوله تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ } يجمع الصّلوات الخمس ، لأنّ صلاة الفجر تؤدّى في أحد طرفي النّهار ، وصلاة الظّهر والعصر يؤدّيان في الطّرف الآخر ، إذ النّهار قسمان غداة وعشيّ ، والغداة اسم لأوّل النّهار إلى وقت الزّوال ، وما بعده العشيّ ، فدخل في طرفي النّهار ثلاث صلوات ودخل في قوله : { وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ } المغرب والعشاء ، لأنّهما يؤدّيان في زلف من اللّيل وهي ساعاته. وقوله تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قيل : دلوك الشّمس زوالها وغسق اللّيل أوّل ظلمته ، فيدخل فيه صلاة الظّهر والعصر ، وقوله : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } أي وأقم قرآن الفجر وهو صلاة الفجر .
فثبتت فرضيّة ثلاث صلوات بهذه الآية وفرضيّة صلاتي المغرب والعشاء ثبتت بدليل آخر .
وقيل : دلوك الشّمس غروبها فيدخل فيها صلاة المغرب والعشاء ، وفرضيّة الظّهر والعصر ثبتت بدليل آخر .
وأمّا السّنّة فما روي عن « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال عام حجّة الوداع : اعبدوا ربّكم ، وصلّوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وحجّوا بيتكم ، وأدّوا زكاة أموالكم طيّبةً بها أنفسكم تدخلوا جنّة ربّكم » .
وقد انعقد إجماع الأمّة على فرضيّة هذه الصّلوات الخمس وتكفير منكرها .
حكم تارك الصّلاة :
5 - لتارك الصّلاة حالتان : إمّا أن يتركها جحوداً لفرضيّتها ، أو تهاوناً وكسلاً لا جحوداً . فأمّا الحالة الأولى : فقد أجمع العلماء على أنّ تارك الصّلاة جحوداً لفرضيّتها كافر مرتدّ يستتاب ، فإن تاب وإلاّ قتل كفراً كجاحد كلّ معلوم من الدّين بالضّرورة ، ومثل ذلك ما لو جحد ركناً أو شرطاً مجمعاً عليه .
واستثنى الشّافعيّة والحنابلة من ذلك من أنكرها جاهلاً لقرب عهده بالإسلام أو نحوه فليس مرتدّاً ، بل يعرف الوجوب ، فإن عاد بعد ذلك صار مرتدّاً .(/1)
وأمّا الحالة الثّانية : فقد اختلف الفقهاء فيها - وهي : ترك الصّلاة تهاوناً وكسلاً لا جحوداً- فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يقتل حدّاً أي أنّ حكمه بعد الموت حكم المسلم فيغسّل ، ويصلّى عليه ، ويدفن مع المسلمين ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة ، فإن فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام وحسابهم على اللّه » ولأنّه تعالى أمر بقتل المشركين ثمّ قال : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } وقال صلى الله عليه وسلم : « خمس صلوات كتبهنّ اللّه على العباد فمن جاء بهنّ لم يضيّع منهنّ شيئاً استخفافاً بحقّهنّ كان له عند اللّه عهد أن يدخله الجنّة ، ومن لم يأت بهنّ فليس له عند اللّه عهد إن شاء عذّبه وإن شاء أدخله الجنّة » فلو كفر لم يدخل تحت المشيئة . وذهب الحنفيّة إلى أنّ تارك الصّلاة تكاسلاً عمداً فاسق لا يقتل بل يعزّر ويحبس حتّى يموت أو يتوب .
وذهب الحنابلة : إلى أنّ تارك الصّلاة تكاسلاً يدعى إلى فعلها ويقال له : إن صلّيت وإلاّ قتلناك ، فإن صلّى وإلاّ وجب قتله ولا يقتل حتّى يحبس ثلاثاً ويدعى في وقت كلّ صلاة ، فإن صلّى وإلاّ قتل حدّاً ، وقيل كفراً ، أي لا يغسّل ولا يصلّى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين . لكن لا يرقّ ولا يسبى له أهل ولا ولد كسائر المرتدّين . لما روى جابر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ بين الرّجل وبين الشّرك والكفر ترك الصّلاة » وروى بريدة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : من تركها فقد كفر » وروى عبادة مرفوعاً « من ترك الصّلاة متعمّداً فقد خرج من الملّة » وكلّ شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء .
ولأنّه يدخل بفعلها في الإسلام ، فيخرج بتركها منه كالشّهادتين .
وقال عمر رضي الله عنه : " لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصّلاة " ، وكذا عندهم لو ترك ركناً أو شرطاً مجمعاً عليه كالطّهارة والرّكوع والسّجود ، ولا يقتل بترك صلاة فائتة .
كما اختلف القائلون بالقتل في محلّه .
فمحلّه عند المالكيّة هو بقاء ركعة بسجدتيها من الوقت الضّروريّ إن كان عليه فرض واحد فقط . قال مالك : إن قال : أصلّي ولم يفعل قتل بقدر ركعة قبل طلوع الشّمس للصّبح ، وغروبها للعصر ، وطلوع الفجر للعشاء ، فلو كان عليه فرضان مشتركان أخّر لخمس ركعات في الظّهرين ، ولأربع في العشاءين .
وهذا في الحضر ، أمّا في السّفر فيؤخّر لثلاث في الظّهرين وأربع في العشاءين .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ محلّ القتل هو إخراجها عن وقتها الضّروريّ فيما له وقت ضرورة - بأن يجمع مع الثّانية في وقتها - فلا يقتل بترك الظّهر حتّى تغرب الشّمس ، ولا بترك المغرب حتّى يطلع الفجر ، ويقتل في الصّبح بطلوع الشّمس ، وفي العصر بغروبها ، وفي العشاء بطلوع الفجر ، فيطالب بأدائها إذا ضاق الوقت ويتوعّد بالقتل إن أخّرها عن الوقت ، فإن أخّر وخرج الوقت استوجب القتل ، وصرّحوا بأنّه يقتل بعد الاستتابة ، لأنّه ليس أسوأ حالاً من المرتدّ .
والاستتابة تكون في الحال ، لأنّ تأخيرها يفوّت صلوات ، وقيل : يمهل ثلاثة أيّام . والقولان في النّدب ، وقيل في الوجوب .
شروط الصّلاة :
تقسيمات الشّروط عند الفقهاء :
6 - قسّم الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة شروط الصّلاة إلى : شروط وجوب ، وشروط صحّة ، وزاد المالكيّة قسماً ثالثاً هو : شروط وجوب وصحّة معاً .
شروط وجوب الصّلاة :
أ - الإسلام :
7 - تجب الصّلاة على كلّ مسلم ذكر أو أنثى . ولا تجب على الكافر الأصليّ ، لأنّها لو وجبت عليه حال كفره لوجب عليه قضاؤها ، لأنّ وجوب الأداء يقتضي وجوب القضاء ، واللّازم منتف ، ويترتّب على هذا أنّا لا نأمر الكافر بالصّلاة في كفره ولا بقضائها إذا أسلم ، لأنّه أسلم خلق كثير في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده فلم يؤمر أحد بقضاء الصّلاة ، ولما فيه من التّنفير عن الإسلام ، ولقول اللّه تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } قال الشّيخ العدويّ : هذا بناءً على أنّ الكفّار غير مكلّفين . وعلى القول بتكليفهم وهو المعتمد فهو شرط صحّة .
وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ الصّلاة لا تجب على الكافر الأصليّ وجوب مطالبة بها في الدّنيا ، لعدم صحّتها منه ، لكن يعاقب على تركها في الآخرة زيادةً على كفره ، لتمكّنه من فعلها بالإسلام .
واختلف الفقهاء في وجوب الصّلاة على المرتدّ .
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : - إلى أنّ الصّلاة لا تجب على المرتدّ فلا يقضي ما فاته إذا رجع إلى الإسلام ، لأنّه بالرّدّة يصير كالكافر الأصليّ .
وذهب الشّافعيّة إلى وجوب الصّلاة على المرتدّ على معنى أنّه يجب عليه قضاء ما فاته زمن الرّدّة بعد رجوعه إلى الإسلام تغليظاً عليه ، ولأنّه التزمها بالإسلام فلا تسقط عنه بالجحود كحقّ الآدميّ .
ب - العقل :
8 - يشترط لوجوب الصّلاة على المرء أن يكون عاقلاً ، فلا تجب على المجنون باتّفاق الفقهاء . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن المبتلى وفي رواية : المعتوه حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » .
واختلفوا فيمن تغطّى عقله أو ستر بمرض أو إغماء أو دواء مباح .
فذهب الحنفيّة : إلى التّفريق بين أن يكون زوال العقل بآفة سماويّة ، أو بصنع العبد .(/2)
فإن كان بآفة سماويّة كأن جنّ أو أغمي عليه ولو بفزع من سبع أو آدميّ نظر ، فإن كانت فترة الإغماء يوماً وليلةً فإنّه يجب عليه قضاء الخمس ، وإن زادت عن ذلك فلا قضاء عليه للحرج ، ولو أفاق في زمن السّادسة إلاّ أن تكون إفاقته في وقت معلوم فيجب عليه قضاء ما فات إن كان أقلّ من يوم وليلة مثل أن يخفّ عنه المرض عند الصّبح مثلاً فيفيق قليلاً ثمّ يعاوده فيغمى عليه ، فتعتبر هذه الإفاقة ، ويبطل ما قبلها من حكم الإغماء إذا كان أقلّ من يوم وليلة ، وإن لم يكن لإفاقته وقت معلوم لكنّه يفيق بغتةً فيتكلّم بكلام الأصحّاء ثمّ يغمى عليه فلا عبرة بهذه الإفاقة .
وإن كان زوال العقل بصنع الآدميّ كما لو زال عقله ببنج أو خمر أو دواء لزمه قضاء ما فاته وإن طالت المدّة ، وقال محمّد : يسقط القضاء بالبنج والدّواء ، لأنّه مباح فصار كالمريض .
وقال ابن عابدين : إنّ المراد شرب البنج لأجل الدّواء ، أمّا لو شربه للسّكر فيكون معصيةً بصنعه كالخمر . ومثل ذلك النّوم فإنّه لا يسقط القضاء ، لأنّه لا يمتدّ يوماً وليلةً غالباً ، فلا حرج في القضاء .
وذهب المالكيّة : إلى سقوط وجوب الصّلاة على من زال عقله بجنون أو إغماء ونحوه ، إلاّ إذا زال العذر وقد بقي من الوقت الضّروريّ ما يسع ركعةً بعد تقدير تحصيل الطّهارة المائيّة أو التّرابيّة ، فإذا كان الباقي لا يسع ركعةً سقطت عنه الصّلاة .
ويستثنى من ذلك من زال عقله بسكر حرام فإنّه تجب عليه الصّلاة مطلقاً ، وكذا النّائم والسّاهي تجب عليهما الصّلاة ، فمتى تنبّه السّاهي أو استيقظ النّائم وجبت عليهما الصّلاة على كلّ حال سواء أكان الباقي يسع ركعةً مع فعل ما يحتاج إليه من الطّهر أم لا ، بل ولو خرج الوقت ولم يبق منه شيء .
وعند الشّافعيّة : لا تجب الصّلاة على من زال عقله بالجنون أو الإغماء أو العته أو السّكر بلا تعدّ في الجميع ، لحديث عائشة : « رفع القلم عن ثلاث : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المعتوه حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » .
فورد النّصّ في المجنون ، وقيس عليه من زال عقله بسبب يعذر فيه ، وسواء قلّ زمن ذلك أو طال . إلاّ إذا زالت هذه الأسباب وقد بقي من الوقت الضّروريّ قدر زمن تكبيرة فأكثر ، لأنّ القدر الّذي يتعلّق به الإيجاب يستوي فيه الرّكعة وما دونها ، ولا تلزمه بإدراك دون تكبيرة . وهذا بخلاف السّكر أو الجنون أو الإغماء المتعدِّى به إذا أفاق فإنّه يجب عليه قضاء ما فاته من الصّلوات زمن ذلك لتعدّيه .
قالوا : وأمّا النّاسي للصّلاة أو النّائم عنها والجاهل لوجوبها فلا يجب عليهم الأداء ، لعدم تكليفهم ، ويجب عليهم القضاء ، لحديث : « من نسي صلاةً أو نام عنها فكفّارتها أن يصلّيها إذا ذكرها » ويقاس على النّاسي والنّائم : الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام .
وقصر الحنابلة عدم وجوب الصّلاة على المجنون الّذي لا يفيق ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً : « رفع القلم عن ثلاث : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المعتوه حتّى يفيق ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » ولأنّه ليس من أهل التّكليف أشبه الطّفل ، ومثله الأبله الّذي لا يفيق .
وأمّا من تغطّى عقله بمرض أو إغماء أو دواء مباح فيجب عليه الصّلوات الخمس ، لأنّ ذلك لا يسقط الصّوم ، فكذا الصّلاة ، ولأنّ عمّاراً - رضي الله عنه - " غشي عليه ثلاثاً ، ثمّ أفاق فقال : هل صلّيت ؟ فقالوا : ما صلّيت منذ ثلاث ، ثمّ توضّأ وصلّى تلك الثّلاث " ، وعن عمران بن حصين وسمرة بن جندب نحوه ، ولم يعرف لهم مخالف ، فكان كالإجماع ، ولأنّ مدّة الإغماء لا تطول - غالباً - ولا تثبت عليه الولاية ، وكذا من تغطّى عقله بمحرّم - كمسكر - فيقضي ، لأنّ سكره معصية فلا يناسب إسقاط الواجب عنه .
وكذا تجب الصّلوات الخمس على النّائم : بمعنى يجب عليه قضاؤها إذا استيقظ لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نسي صلاةً أو نام عنها فكفّارتها أن يصلّيها إذا ذكرها » ولو لم تجب عليه حال نومه لم يجب عليه قضاؤها كالمجنون ، ومثله السّاهي .
ج - البلوغ :
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ البلوغ شرط من شروط وجوب الصّلاة ، فلا تجب الصّلاة على الصّبيّ حتّى يبلغ ، للخبر الآتي ، ولأنّها عبادة بدنيّة ، فلم تلزمه كالحجّ ، لكن على وليّه أن يأمره بالصّلاة إذا بلغ سبع سنوات ، ويضربه على تركها إذا بلغ عشر سنوات ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » .
وقد حمل جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - الأمر في الحديث على الوجوب ، وحمله المالكيّة على النّدب .
وقد صرّح الحنفيّة بأنّ الضّرب يكون باليد لا بغيرها كالعصا والسّوط ، وأن لا يجاوز الثّلاث، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمرداس المعلّم : إيّاك أن تضرب فوق ثلاث ، فإنّك إذا ضربت فوق الثّلاث اقتصّ اللّه منك » .
ويفهم من كلام المالكيّة جوازه بغير اليد ، قال الشّيخ الدّسوقيّ : ولا يحدّ بعدد كثلاثة أسواط بل يختلف باختلاف حال الصّبيان .
ومحلّ الضّرب عند المالكيّة إن ظنّ إفادته ، قالوا : الضّرب يكون مؤلماً غير مبرّح إن ظنّ إفادته وإلاّ فلا .
وقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ وجوب الأمر بها يكون بعد استكمال السّبع والأمر بالضّرب يكون بعد العشر بأن يكون الأمر في أوّل الثّامنة وبالضّرب في أوّل الحادية عشرة . وقال المالكيّة : يكون الأمر عند الدّخول في السّبع والضّرب عند الدّخول في العشر .(/3)
وقال الشّافعيّة : يضرب في أثناء العشر ، ولو عقب استكمال التّسع .
قال الشّربينيّ الخطيب : وصحّحه الإسنويّ ، وجزم به ابن المقري ، وينبغي اعتماده ، لأنّ ذلك مظنّة البلوغ . وأمّا الأمر بها فلا يكون إلاّ بعد تمام السّبع .
شروط صحّة الصّلاة :
أ - الطّهارة الحقيقيّة :
10 - وهي طهارة البدن والثّوب والمكان عن النّجاسة الحقيقيّة ، لقوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وإذا وجب تطهير الثّوب فتطهير البدن أولى ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« تنزّهوا من البول ، فإنّ عامّة عذاب القبر منه » وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أقبلت الحيضة فدعي الصّلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي » فثبت الأمر باجتناب النّجاسة، والأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، والنّهي في العبادات يقتضي الفساد .
وأمّا طهارة مكان الصّلاة فلقوله تعالى : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وقوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } فهي تدلّ بدلالة النّصّ على وجوب طهارة المكان كما استدلّ بها على وجوب طهارة البدن كما سبق .
ولما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه نهى عن الصّلاة في المزبلة والمجزرة ومعاطن الإبل وقوارع الطّريق والحمّام والمقبرة ... إلخ » .
ومعنى النّهي عن الصّلاة في المزبلة والمجزرة كونهما موضع النّجاسة .
ب - الطّهارة الحكميّة :
11 - وهي طهارة أعضاء الوضوء عن الحدث ، وطهارة جميع الأعضاء عن الجنابة ، لقول اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طهور » وقوله صلى الله عليه وسلم : « مفتاح الصّلاة الطّهور ، وتحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم » ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « تحت كلّ شعرة جنابة فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشرة » والإنقاء هو التّطهير .
وتفصيل ذلك في المصطلحات : ( طهارة ، ووضوء ، وغسل ) .
ج - ستر العورة :
12 - لقول اللّه تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قال ابن عبّاس - رضي الله عنهما - : المراد به الثّياب في الصّلاة .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » ، ولأنّ ستر العورة حال القيام بين يدي اللّه تعالى من باب التّعظيم .
د - استقبال القبلة :
13 - لقوله تعالى :{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - « بينما النّاس بقباء في صلاة الصّبح ، إذ جاءهم آت فقال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه اللّيلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها . وكان وجوههم إلى الشّام فاستداروا إلى الكعبة » .
وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( استقبال ) .
هـ – العلم بدخول الوقت :
14 – لقول اللّه تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أمّني جبريل عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ، ثمّ صلّى العصر حين كان كلّ شيء مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق ، ثمّ صلّى الفجر ، حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم . وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل ، ثمّ صلّى الصّبح حين أسفرت الأرض ، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال : يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين » .
وقد اتّفق الفقهاء على أنّه يكفي في العلم بدخول الوقت غلبة الظّنّ .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ) .
تقسيم أقوال وأفعال الصّلاة :
15 - قسّم الحنفيّة والحنابلة أقوال الصّلاة وأفعالها إلى أركان ، وواجبات ، وسنن . فالأركان هي الّتي لا تصحّ الصّلاة بدونها بلا عذر ، وتركها يوجب البطلان سواء كان عمداً أو سهواً .
والواجبات عند الحنفيّة هي ما لا تفسد الصّلاة بتركه ، وتعاد وجوباً إن تركه عمداً بلا عذر ، أو سهواً ولم يسجد للسّهو .
فترك الواجب عمداً يوجب الإعادة ، وسهواً يوجب سجود السّهو ، وإن لم يعدها يكن آثماً فاسقاً ، ويستحقّ تارك الواجب العقاب بتركه ولكن لا يكفر جاحده .
ومذهب الحنابلة كمذهب الحنفيّة في حالة ترك الواجب سهواً ، حيث إنّ تركه سهواً أو جهلاً يوجب سجود السّهو عندهم ، ويخالفونهم في حالة التّرك عمداً حيث إنّ ترك الواجب عمداً يوجب بطلان الصّلاة عندهم .
والسّنن ، وهي الّتي لا يوجب تركها البطلان ولو عمداً قال الحنفيّة : السّنّة : هي الّتي لا يوجب تركها فساداً ولا سجوداً للسّهو ، بل يوجب تركها عمداً إساءةً ، وأمّا إن كان غير عامد فلا إساءة أيضاً ، وتندب إعادة الصّلاة .(/4)
والإساءة هنا أفحش من الكراهة ، وصرّحوا بأنّه لو ترك السّنّة استخفافًا فإنّه يكفر . ويأثم لو ترك السّنّة بلا عذر على سبيل الإصرار ، وقال محمّد : في المصرّين على ترك السّنّة القتال ، وأبو يوسف بالتّأديب ، وعند الحنابلة يباح السّجود للسّهو عند ترك السّنّة سهواً من غير وجوب ولا استحباب .
وزاد الحنفيّة قسماً رابعاً هو الآداب ، وهو في الصّلاة : ما فعله الرّسول صلى الله عليه وسلم مرّةً أو مرّتين ولم يواظب عليه كالزّيادة على الثّلاث في تسبيحات الرّكوع والسّجود . كما قسّم الحنابلة السّنن إلى ضربين : سنن أقوال ، وسنن أفعال وتسمّى هيئات .
وقسّم المالكيّة والشّافعيّة أقوال وأفعال الصّلاة إلى أركان وسنن من حيث الجملة .
وزاد المالكيّة الفضائل ( المندوبات ) .
والسّنن عند الشّافعيّة على ضربين : أبعاض : وهي السّنن المجبورة بسجود السّهو ، سواء تركها عمداً أو سهواً ، سمّيت أبعاضاً لتأكّد شأنها بالجبر تشبيهاً بالبعض حقيقةً .
وهيئات : وهي السّنن الّتي لا تجبر بسجود السّهو .
أركان الصّلاة عند الفقهاء :
ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ أركان الصّلاة هي :
أ - النّيّة :
16 - النّيّة وهي العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى اللّه تعالى ، فلا تصحّ الصّلاة بدونها بحال، والأصل فيها قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » .
وقد انعقد الإجماع على اعتبارها في الصّلاة . ولا بدّ في النّيّة من تعيين الفرضيّة ونوعيّة الصّلاة ، هل هي ظهر أم عصر ؟ وتفصيل الكلام عن النّيّة في مصطلح ( نيّة ) .
ب - تكبيرة الإحرام :
17 - ودليل فرضيّتها حديث عائشة : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستفتح الصّلاة بالتّكبير » وحديث المسيء صلاته « إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر » .
وحديث عليّ - رضي الله عنه - يرفعه قال : « مفتاح الصّلاة الطّهور ، وتحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم » .
وقد سبق تفصيل الكلام على تكبيرة الإحرام في مصطلح ( تكبيرة الإحرام 13 /217 ) .
ج - القيام للقادر في الفرض :
18 - لقوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } ولخبر البخاريّ عن عمران بن حصين « كانت بي بواسير ، فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة ؟ فقال : صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » .
وقد أجمعت الأمّة على ذلك ، وهو معلوم من الدّين بالضّرورة .
قال الشّافعيّة : من أركان الصّلاة القيام في فرض القادر عليه ولو بمعين بأجرة فاضلة عن مؤنته ومؤنة من يعوله يومه وليلته .
ويقسّم المالكيّة ركن القيام إلى ركنين : القيام لتكبيرة الإحرام ، والقيام لقراءة الفاتحة . قالوا : والمراد بالقيام القيام استقلالاً ، فلا يجزئ إيقاع تكبيرة الإحرام في الفرض للقادر على القيام جالساً أو منحنياً ، ولا قائماً مستنداً لعماد ، بحيث لو أزيل العماد لسقط .
وقال الشّافعيّة : شرطه نصب فقاره للقادر على ذلك ، فإن وقف منحنياً أو مائلاً بحيث لا يسمّى قائماً لم يصحّ ، والانحناء السّالب للاسم : أن يصير إلى الرّكوع أقرب .
قالوا : لو استند إلى شيء كجدار أجزأه مع الكراهة . وكذا لو تحامل عليه بحيث لو رفع ما استند إليه لسقط ، لوجود اسم القيام ، وإن كان بحيث يرفع قدميه إن شاء وهو مستند لم يصحّ ، لأنّه لا يسمّى قائماً بل معلّقاً نفسه . ولو أمكنه القيام متّكئاً على شيء أو القيام على ركبتيه لزمه ذلك لأنّه ميسوره .
وقال الحنابلة : حدّ القيام ما لم يصر راكعاً ، وركنه الانتصاب بقدر تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة في الرّكعة الأولى ، وفيما بعدها بقدر قراءة الفاتحة فقط .
وركن القيام خاصّ بالفرض من الصّلوات دون النّوافل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« من صلّى قائماً فهو أفضل ، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم » .
وقد سبق في مصطلح تطوّع ( ف /16 ، 12 / 157 ) وأمّا بقيّة تفصيلات القيام في الصّلاة فتأتي في مصطلح ( قيام ) .
د - قراءة الفاتحة :
19 - وهي ركن في كلّ ركعة من كلّ صلاة فرضاً أو نفلاً جهريّةً كانت أو سرّيّةً .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » وفي رواية « لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرّجل فيها بفاتحة الكتاب » ، « ولفعله صلى الله عليه وسلم » ، ولخبر البخاريّ: « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » .
وقراءة الفاتحة فرض في صلاة الإمام والفذّ دون المأموم عند المالكيّة ، والحنابلة .
وقال الشّافعيّة بفرضيّتها في الجميع . تفصيل ذلك في مصطلح ( قراءة ) .
هـ – الرّكوع :(/5)
20 – وقد انعقد الإجماع على ركنيّته ، وسنده قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا } . وحديث المسيء صلاته ، وهو ما رواه أبو هريرة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلّى ثمّ جاء فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه السّلام ثمّ قال : ارجع فصلّ ، فإنّك لم تصلّ . فعل ذلك ثلاثاً . ثمّ قال : والّذي بعثك بالحقّ فما أحسن غيره ، فعلّمني . فقال : إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر ، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن . ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعاً ، ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائماً ، ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً ، ثمّ ارفع حتّى تطمئنّ جالساً ، ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً ، ثمّ افعل ذلك في صلاتك كلّها » . فدلّ على أنّ الأفعال المسمّاة في الحديث لا تسقط بحال ، فإنّها لو سقطت لسقطت عن الأعرابيّ لجهله بها .
وتفصيل مباحث الرّكوع في مصطلح : ( ركوع ) .
و - الاعتدال :
21 - هو القيام مع الطّمأنينة بعد الرّفع من الرّكوع ، وهو ركن في الفرض والنّافلة ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائماً » ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم داوم عليه . لقول أبي حميد في « صفة صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم : فإذا رفع رأسه استوى حتّى يعود كلّ فقار مكانه » ولقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » .
ويدخل في ركن الاعتدال الرّفع منه لاستلزامه له ، وفرّق المالكيّة وبعض الحنابلة بينهما فعدّوا كلّاً منهما ركناً .
قال المالكيّة : وتبطل الصّلاة بتعمّد ترك الرّفع من الرّكوع ، وأمّا إن تركه سهواً فيرجع محدودباً حتّى يصل لحالة الرّكوع ثمّ يرفع ، ويسجد بعد السّلام إلاّ المأموم فلا يسجد لحمل الإمام لسهوه ، فإن لم يرجع محدودباً ورجع قائماً لم تبطل صلاته مراعاةً لقول ابن حبيب : إنّ تارك الرّفع من الرّكوع سهواً يرجع قائماً لا محدودباً كتارك الرّكوع .
ثمّ إنّ أكثر المالكيّة على نفي ركنيّة الاعتدال ، وأنّه سنّة . قالوا : فيسجد لتركه سهواً ، وتبطل الصّلاة بتركه عمداً قطعاً ، لأنّه سنّة شهرت فرضيّتها .
قال الدّسوقيّ : قال شيخنا أبو الحسن العدويّ - هذا هو الرّاجح كما يستفاد من كلام الحطّاب ، وحدّ الاعتدال عند المالكيّة : أن لا يكون منحنياً ، وعند الحنابلة : ما لم يصر راكعاً ، قالوا : والكمال منه الاستقامة حتّى يعود كلّ عضو إلى محلّه ، وعلى هذا فلا يضرّ بقاؤه منحنياً يسيراً حال اعتداله واطمئنانه ، لأنّ هذه الهيئة لا تخرجه عن كونه قائماً ، وسبق حدّه عند الشّافعيّة في ركن القيام .
وقد صرّح الفقهاء بأنّه لا بدّ من الطّمأنينة في الاعتدال .
وقال الشّافعيّة : الطّمأنينة في الاعتدال : أن تستقرّ أعضاؤه على ما كان قبل ركوعه ، بحيث ينفصل ارتفاعه عن عوده إلى ما كان عليه .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه يجب أن لا يقصد غير الاعتدال ، فلو رفع فزعاً من شيء كحيّة لم يحسب رفعه اعتدالاً لوجود الصّارف ، فالواجب أن لا يقصد برفعه شيئاً آخر .
ز - السّجود :
22 - من أركان الصّلاة السّجود في كلّ ركعة مرّتين . وقد انعقد الإجماع على ذلك لقوله تعالى : { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } ولحديث المسيء صلاته « ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجداً » ، وحدّ المالكيّة السّجود بأنّه مسّ الأرض ، أو ما اتّصل بها من ثابت بالجبهة ، فلا يجزئ السّجود على نحو السّرير المعلّق ، ويتحقّق السّجود عندهم بوضع أيسر جزء من الجبهة بالأرض أو ما اتّصل بها ، ويشترط استقرارها على ما يسجد عليه ، فلا يصحّ على تبن أو قطن . وأمّا وضع الأنف فهو مستحبّ ، لكن تعاد الصّلاة لتركه عمداً أو سهواً في الظّهرين للاصفرار ، وفي غيرهما للطّلوع مراعاةً للقول بوجوبه . ووضع بقيّة الأعضاء - اليدين والرّكبتين والقدمين - فهو سنّة . قال الدّسوقيّ . قال في التّوضيح : وكون السّجود عليها سنّةً ليس بصريح في المذهب . غايته أنّ ابن القصّار قال : الّذي يقوى في نفسي أنّه سنّة في المذهب . وقيل : إنّ السّجود عليها واجب ، وصرّحوا بعدم اشتراط ارتفاع العجيزة عن الرّأس بل يندب ذلك .
وذهب الشّافعيّة : إلى أنّ أقلّ السّجود يتحقّق بمباشرة بعض جبهته مكشوفة مصلّاه ، لحديث خبّاب بن الأرتّ قال : « شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شدّة الرّمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا » أي لم يزل شكوانا .
ووجه الدّلالة من الحديث : أنّه لو لم يجب كشف الجبهة لأرشدهم إلى سترها ، وإنّما اعتبر كشفها دون بقيّة الأعضاء لسهولته فيها دون البقيّة ، ولحصول مقصود السّجود وهو غاية التّواضع بكشفها . ويجب - أيضاً - وضع جزء من الرّكبتين ، ومن باطن الكفّين ، ومن باطن القدمين على مصلّاه لخبر الصّحيحين : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين ، والرّكبتين ، وأطراف القدمين » .
ولا يجب كشف هذه الأعضاء ، بل يكره كشف الرّكبتين ، لأنّه قد يفضي إلى كشف العورة . وقيل : يجب كشف باطن الكفّين .
ثمّ إنّ محلّ وجوب الوضع إذا لم يتعذّر وضع شيء منها ، وإلاّ فيسقط الفرض ، فلو قطعت يده من الزّند لم يجب وضعه ، لفوت محلّ الفرض .
ويجب - أيضاً - أن ينال محلّ سجوده ثقل رأسه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا سجدت فأمكن جبهتك » قالوا : ومعنى الثّقل أن يتحامل بحيث لو فرض تحته قطن أو حشيش لانكبس وظهر أثره في يده لو فرضت تحت ذلك ، ولا يشترط التّحامل في غير الجبهة من الأعضاء .(/6)
ويجب كذلك أن لا يهوي لغير السّجود ، فلو سقط لوجهه من الاعتدال وجب العود إلى الاعتدال ليهوي منه ، لانتفاء الهويّ في السّقوط . وإن سقط من الهويّ لم يلزمه العود بل يحسب ذلك سجوداً .
ويجب أيضاً أن ترتفع أسافله - عجيزته وما حولها - على أعاليه لخبر « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » فلا يكتفي برفع أعاليه على أسافله ولا بتساويهما ، لعدم اسم السّجود كما لو أكبّ ومدّ رجليه ، إلاّ إن كان به علّة لا يمكنه السّجود إلاّ كذلك فيصحّ ، فإن أمكنه السّجود على وسادة بتنكيس لزمه ، لحصول هيئة السّجود بذلك ، ولا يلزمه بلا تنكيس . وإذا صلّى في سفينة مثلاً ولم يتمكّن من ارتفاع ذلك لميلانها صلّى على حاله ولزمه الإعادة، لأنّ هذا عذر نادر .
وذهب الحنابلة إلى أنّ السّجود على الأعضاء السّبعة : الجبهة مع الأنف ، واليدين ، والرّكبتين ، والقدمين ، ركن مع القدرة ، لحديث ابن عبّاس مرفوعاً « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين ، والرّكبتين ، وأطراف القدمين » ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب : وجهه ، وكفّاه ، وركبتاه ، وقدماه » .
ثمّ إنّه يجزئ بعض كلّ عضو في السّجود عليه ، لأنّه لم يقيّد في الحديث الكلّ ، ولو كان سجوده على ظهر كفّ ، وظهر قدم ، وأطراف أصابع يدين ، ولا يجزئه إن كان بعضها فوق بعض كوضع جبهته على يديه ، لأنّه يفضي إلى تداخل أعضاء السّجود .
ومتى عجز المصلّي عن السّجود بجبهته سقط عنه لزوم باقي الأعضاء ، لأنّ الجبهة هي الأصل في السّجود ، وغيرها تبع لها ، فإذا سقط الأصل سقط التّبع ، ودليل التّبعيّة ، ما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اليدين تسجدان كما يسجد الوجه ، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه ، وإذا رفعه فليرفعهما » وباقي الأعضاء مثلهما في ذلك لعدم الفارق ، وأمّا إن قدر على السّجود بالجبهة فإنّه يتبعها الباقي من الأعضاء ، وصرّحوا بأنّه لا يجزئ السّجود مع عدم استعلاء الأسافل إن خرج عن صفة السّجود ، لأنّه لا يعدّ ساجداً ، وأمّا الاستعلاء اليسير فلا بأس به - بأن علا موضع رأسه على موضع قدميه بلا حاجة يسيراً - ويكره الكثير .
ح - الجلوس بين السّجدتين :
23 - من أركان الصّلاة الجلوس بين السّجدتين ، سواء أكان في صلاة الفرض أم النّفل ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته : ثمّ ارفع حتّى تطمئنّ جالساً » ولحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السّجدة لم يسجد حتّى يستوي جالساً » .
وزاد المالكيّة والحنابلة قبل هذا الرّكن ركناً آخر وهو الرّفع من السّجود .
وما سبق من نفي أكثر المالكيّة الاعتدال من الرّكوع يجري أيضاً في الاعتدال من السّجود .
وقد صرّح المالكيّة بصحّة صلاة من لم يرفع يديه عن الأرض حال الجلوس بين السّجدتين .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب أن لا يقصد برفعه غير الجلوس ، كما في الرّكوع . فلو رفع فزعاً من شيء لم يكف ، ويجب أن يعود إلى السّجود .
وهذا هو مذهب الحنابلة أيضاً ، قالوا : ويشترط في نحو ركوع وسجود ورفع منهما : أن لا يقصد غيره ، فلو ركع أو سجد ، أو رفع خوفاً من شيء لم يجزئه ، كما لا يشترط أن يقصده، اكتفاءً بنيّة الصّلاة المستصحب حكمها .
قال الشّيخ الرّحيبانيّ : بل لا بدّ من قصد ذلك وجوباً .
ط - الجلوس للتّشهّد الأخير :
24 - وهو ركن عند الشّافعيّة والحنابلة ، لمداومة الرّسول صلى الله عليه وسلم عليه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ولأنّ التّشهّد فرض والجلوس له محلّه فيتبعه .
وذهب المالكيّة : إلى أنّ الرّكن هو الجلوس للسّلام فقط . فالجزء الأخير من الجلوس الّذي يوقع فيه السّلام فرض ، وما قبله سنّة ، وعليه فلو رفع رأسه من السّجود واعتدل جالساً وسلّم كان ذلك الجلوس هو الواجب ، وفاتته السّنّة ، ولو جلس ثمّ تشهّد ، ثمّ سلّم كان آتياً بالفرض والسّنّة ، ولو جلس وتشهّد ثمّ استقلّ قائماً وسلّم كان آتياً بالسّنّة تاركاً للفرض .
ى - التّشهّد الأخير :
25 - ويقول بركنيّته الشّافعيّة والحنابلة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا قعد أحدكم في الصّلاة فليقل : التّحيّات للّه ... » .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « كنّا نقول في الصّلاة قبل أن يفرض التّشهّد : السّلام على اللّه السّلام على جبريل وميكائيل . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا هذا . فإنّ اللّه هو السّلام ، ولكن قولوا : التّحيّات للّه ... » الحديث ، وقال عمر - رضي الله عنه - لا تجزئ صلاة إلاّ بتشهّد .
وأقلّ التّشهّد عند الشّافعيّة : التّحيّات للّه . سلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته . سلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه . وهو أقلّه عند الحنابلة - أيضاً - بدون لفظ : " وبركاته " . مع التّخيير بين " وأنّ محمّداً رسول اللّه " " وأنّ محمّداً عبده ورسوله " لاتّفاق الرّوايات على ذلك .
والتّشهّد الأخير عند المالكيّة سنّة وليس بركن .
ك - الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد الأخير :(/7)
26 - هي ركن عند الشّافعيّة والحنابلة ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ، ولحديث : « قد علمنا كيف نسلّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ فقال : قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد » .
وقد « صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه في الوتر » . وقال : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » .
وأقلّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم : " اللّهمّ صلّ على محمّد " .
قال الشّافعيّة : ونحوه كصلّى اللّه على محمّد أو على رسوله أو على النّبيّ أو عليه ، وصرّحوا بأنّه لا بدّ من أن تكون الصّلاة على النّبيّ بعد التّشهّد ، فلو صلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل التّشهّد لم تجزئه .
وبعض الحنابلة يعدّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ركناً مستقلّاً ، وبعضهم يجعلها من جملة التّشهّد الأخير .
ل - السّلام :
27 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على ركنيّته ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم » وقالت عائشة - رضي الله عنها - : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يختم الصّلاة بالتّسليم » .
ولفظه المجزئ عند المالكيّة والشّافعيّة " السّلام عليكم " .
قال المالكيّة : فلا يجزئ سلام اللّه ، أو سلامي ، أو سلام عليكم ، ولا بدّ - أيضاً - من تأخّر " عليكم " وأن يكون بالعربيّة .
وأجاز الشّافعيّة تقدّم " عليكم " فيجزئ عندهم " عليكم السّلام " مع الكراهة .
قالوا : ولا يجزئ السّلام عليهم ، ولا تبطل به الصّلاة ، لأنّه دعاء للغائب ، ولا عليك ولا عليكما ، ولا سلامي عليكم ، ولا سلام اللّه عليكم . فإن تعمّد ذلك مع علمه بالتّحريم بطلت صلاته ، ولا تجزئ - أيضاً - سلام عليكم .
وذهب الحنابلة إلى أنّ صيغته المجزئة : السّلام عليكم ورحمة اللّه فإن لم يقل " ورحمة اللّه " في غير صلاة الجنازة لم يجزئه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوله . وقال : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » وهو سلام في صلاة ورد مقروناً بالرّحمة فلم يجزئه بدونها كالسّلام في التّشهّد . فإن نكّر السّلام ، كقوله : سلام عليكم ، أو عرّفه بغير اللّام ، كسلامي ، أو سلام اللّه عليكم ، أو نكّسه فقال عليكم سلام أو عليكم السّلام ، أو قال : السّلام عليك لم يجزئه لمخالفته لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ومن تعمّد ذلك بطلت صلاته ، لأنّه يغيّر السّلام الوارد ، ويخلّ بحرف يقتضي الاستغراق .
والواجب تسليمة واحدة عند المالكيّة والشّافعيّة ، وقال الحنابلة : بوجوب التّسليمتين . واستحبّ الشّافعيّة والحنابلة أن ينوي بالسّلام الخروج من الصّلاة ، فلا تجب نيّة الخروج من الصّلاة ، قياساً على سائر العبادات ، ولأنّ النّيّة السّابقة منسحبة على جميع الصّلاة . واختلف المالكيّة في اشتراط نيّة الخروج على قولين :
الأوّل : أنّه يشترط أن يجدّد نيّة الخروج من الصّلاة بالسّلام لأجل أن يتميّز عن جنسه كافتقار تكبيرة الإحرام إليها لتميّزها عن غيرها ، فلو سلّم من غير تجديد نيّة لم يجزه ، قال سند : وهو ظاهر المذهب .
الثّاني : لا يشترط ذلك وإنّما يندب فقط ، لانسحاب النّيّة الأولى . قال ابن الفاكهانيّ : هو المشهور ، وكلام ابن عرفة يفيد أنّه المعتمد .
م - الطّمأنينة :
28 - هي : استقرار الأعضاء زمناً ما . قال الشّافعيّة : أقلّها أن تستقرّ الأعضاء .
وعند الحنابلة وجهان : أحدهما : حصول السّكون وإن قلّ . وهو الصّحيح في المذهب .
والثّاني : بقدر الذّكر الواجب .
وفائدة الوجهين : إذا نسي التّسبيح في ركوعه أو سجوده ، أو التّحميد في اعتداله ، أو سؤال المغفرة في جلوسه ، أو عجز عنه لعجمة أو خرس ، أو تعمّد تركه وقلنا هو سنّة واطمأنّ قدراً لا يتّسع له ، فصلاته صحيحة على الوجه الأوّل ، ولا تصحّ على الثّاني .
وهي ركن عند الشّافعيّة والحنابلة ، وصحّح ابن الحاجب من المالكيّة فرضيّتها .
والمشهور من مذهب المالكيّة أنّها سنّة ، ولذا قال زرّوق : من ترك الطّمأنينة أعاد في الوقت على المشهور . وقيل : إنّها فضيلة .
ودليل ركنيّة الطّمأنينة حديث المسيء صلاته المتقدّم . وحديث حذيفة : « أنّه رأى رجلاً لا يتمّ الرّكوع ولا السّجود فقال له : ما صلّيت ، ولو متّ متّ على غير الفطرة الّتي فطر اللّه عليها محمّداً صلى الله عليه وسلم » وهي ركن في جميع الأركان .
ن - ترتيب الأركان :
29 - لمّا ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّيها مرتّبةً ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » وعلّمها للمسيء صلاته مرتّبةً " بثمّ " ولأنّها عبادة تبطل بالحدث كان التّرتيب فيها ركناً كغيره . والتّرتيب واجب في الفرائض في أنفسها فقط . وأمّا ترتيب السّنن في أنفسها ، أو مع الفرائض فليس بواجب .
أركان الصّلاة عند الحنفيّة :
أركان الصّلاة عند الحنفيّة ستّة :
أ - القيام :
30 - وهو ركن في فرض للقادر عليه ، ويشمل التّامّ منه وهو : الانتصاب مع الاعتدال ، وغير التّامّ وهو : الانحناء القليل بحيث لا تنال يداه ركبتيه ، ويسقط عن العاجز عنه حقيقةً أو حكماً ، والعجز الحكميّ هو : كما لو حصل له به ألم شديد ، أو خاف زيادة المرض .(/8)
ومن العجز الحكمي أيضاً : كمن يسيل أو جرحه إذا قام ، أو يسلس بوله ، أو يبدو ربع عورته ، أو يضعف عن القراءة أصلاً - أمّا لو قدر على بعض القراءة إذا قام فإنّه يلزمه أن يقرأ مقدار قدرته ، والباقي قاعداً ، أو عن صوم رمضان ، فيتحتّم القعود عليه في هذه المسائل لعجزه عن القيام حكماً إذ لو قام لزم فوت الطّهارة أو السّتر أو القراءة أو الصّوم بلا خلف .
ب - القراءة :
31 - ويتحقّق ركن القراءة بقراءة آية من القرآن ، ومحلّها ركعتان في الفرض وجميع ركعات النّفل والوتر .
قال الكاسانيّ : عن أبي حنيفة في قدر القراءة ثلاث روايات . في ظاهر الرّواية قدّر أدنى المفروض بالآية التّامّة طويلةً كانت أو قصيرةً كقوله تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } وقوله : { ثُمَّ نَظَرَ } وقوله : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } .
وفي رواية : الفرض غير مقدّر ، بل هو على أدنى ما يتناوله الاسم سواء كانت آيةً أو ما دونها بعد أن قرأها على قصد القراءة .
وفي رواية : قدر الفرض بآية طويلة كآية الكرسيّ وآية الدّين ، أو ثلاث آيات قصار ، وبه أخذ أبو يوسف .
وأصله قوله تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } فهما يعتبران العرف، ويقولان : مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف ، وأدنى ما يسمّى المرء به قارئاً في العرف أن يقرأ آيةً طويلةً، أو ثلاث آيات قصار ، وأبو حنيفة يحتجّ بالآية من وجهين :
أحدهما : أنّه أمر بمطلق القراءة ، وقراءة آية قصيرة قراءة .
والثّاني : أنّه أمر بقراءة ما تيسّر من القرآن ، وعسى أن لا يتيسّر إلاّ هذا القدر .
وقد أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسيّة سواء كان يحسن القراءة بالعربيّة أو لا يحسن .
وقال أبو يوسف ومحمّد : إن كان يحسن لا يجوز ، وإن كان لا يحسن يجوز ، وإلى قولهما رجع أبو حنيفة كما جاء في ابن عابدين ، وأمّا قراءة الفاتحة فسيأتي أنّها واجبة وليست بركن .
ج - الرّكوع :
32 - وأقلّه طأطأة الرّأس مع انحناء الظّهر ، لأنّه هو المفهوم من موضوع اللّغة فيصدق عليه قوله تعالى : { ارْكَعُوا } ، وفي السّراج الوهّاج : هو بحيث لو مدّ يديه نال ركبتيه .
د - السّجود :
33 - ويتحقّق بوضع جزء من جبهته وإن قلّ ، ووضع أكثرها واجب للمواظبة ، كما يجب وضع الأنف مع الجبهة ، وفي وضع القدمين ثلاث روايات : الأولى : فرضيّة وضعهما . والثّانية : فرضيّة إحداهما . والثّالثة : عدم الفرضيّة : أي أنّه سنّة .
قال ابن عابدين : إنّ المشهور في كتب المذهب اعتماد الفرضيّة ، والأرجح من حيث الدّليل والقواعد عدم الفرضيّة ، ولذا قال في العناية والدّرر : إنّه الحقّ ، ثمّ الأوجه حمل عدم الفرضيّة على الوجوب .
هـ - القعدة الأخيرة قدر التّشهّد :
34 - وهي محلّ خلاف عندهم . فقال بعضهم : هي ركن أصليّ .
وقال بعضهم : إنّها واجبة لا فرض ،لكن الواجب - هنا - في قوّة الفرض في العمل كالوتر. وعند بعضهم : إنّها فرض وليست بركن أصليّ بل هي شرط للتّحليل .
و - الخروج بصنعه :
35 - أي بصنع المصلّي - فعله الاختياريّ - بأيّ وجه كان من قول أو فعل ، والواجب الخروج بلفظ السّلام ويكره تحريماً الخروج بغيره كأن يضحك قهقهةً ، أو يحدث عمداً ، أو يتكلّم ، أو يذهب ، واحترز ( بصنعه ) عمّا لو كان سماويّاً كأن سبقه الحدث .
36 - قال الحصكفيّ شارح تنوير الأبصار : وبقي من الفروض : تمييز المفروض ، وترتيب القيام على الرّكوع ، والرّكوع على السّجود ، والقعود الأخير على ما قبله ، وإتمام الصّلاة ، والانتقال من ركن إلى آخر ، ومتابعته لإمامه في الفروض ، وصحّة صلاة إمامه في رأيه ، وعدم تقدّمه عليه ، وعدم مخالفته في الجهة ، وعدم تذكّر فائتة ، وعدم محاذاة امرأة بشرطهما ، وتعديل الأركان عند الثّاني " وهو أبو يوسف " .
واختلفوا في تفسير تمييز المفروض ، ففسّره بعضهم : بأن يميّز السّجدة الثّانية عن الأولى، بأن يرفع ولو قليلاً أو يكون إلى القعود أقرب ، وذهب آخرون إلى أنّ المراد بالتّمييز تمييز ما فرض عليه من الصّلوات عمّا لم يفرض عليه ، حتّى لو لم يعلم فرضيّة الخمس ، إلاّ أنّه كان يصلّيها في وقتها لا يجزيه .
ولو علم أنّ البعض فرض والبعض سنّة ونوى الفرض في الكلّ ، أو لم يعلم ونوى صلاة الإمام عند اقتدائه في الفرض جاز ، ولو علم الفرض دون ما فيه من فرائض وسنن جازت صلاته أيضاً ، فليس المراد المفروض من أجزاء كلّ صلاة ، أي كأن يعلم أنّ القراءة فيها فرض وأنّ التّسبيح سنّة وهكذا . والمراد بترتيب القيام على الرّكوع ،والرّكوع على السّجود، والقعود الأخير على ما قبله ، تقديمه عليه حتّى لو ركع ثمّ قام لم يعتبر ذلك الرّكوع ، فإن ركع ثانياً صحّت صلاته ، لوجود التّرتيب المفروض ، ولزمه سجود السّهو لتقديمه الرّكوع المفروض ، وكذا تقديم الرّكوع على السّجود ، وأمّا القعود الأخير فيفترض إيقاعه بعد جميع الأركان ، حتّى لو تذكّر بعده سجدةً صلبيّةً سجدها وأعاد القعود وسجد للسّهو ، ولو تذكّر ركوعاً قضاه مع ما بعده من السّجود ، أو قياماً أو قراءةً صلّى ركعةً .
37 - ومن الفرائض - أيضاً - إتمام الصّلاة ، والانتقال من ركن إلى ركن ، لأنّ النّصّ الموجب للصّلاة يوجب ذلك ، إذ لا وجود للصّلاة بدون إتمامها وذلك يستدعي الأمرين .(/9)
قال ابن عابدين : والظّاهر أنّ المراد بالإتمام عدم القطع . وبالانتقال الانتقال عن الرّكن للإتيان بركن بعده إذ لا يتحقّق ما بعده إلاّ بذلك ، وأمّا الانتقال من ركن إلى آخر بلا فاصل بينهما فواجب حتّى لو ركع ثمّ ركع يجب عليه سجود السّهو ، لأنّه لم ينتقل من الفرض وهو الرّكوع إلى السّجود ، بل أدخل بينهما أجنبيّاً ، وهو الرّكوع الثّاني .
والنّيّة عندهم شرط وليست بركن . وتفصيله في مصطلح : ( نيّة ) .
وكذا تكبيرة الإحرام ، فهي عندهم شرط في الصّلاة عمومًا غير صلاة الجنازة ، أمّا في الجنازة فهي ركن اتّفاقاً .
تفصيل ذلك في مصطلح : ( تكبيرة الإحرام ، ف / 3 ، 13 / 218 ) .
واجبات الصّلاة :
قد سبق أنّه لم يقل بواجبات الصّلاة سوى الحنفيّة والحنابلة ، وواجبات الصّلاة عند الحنفيّة تختلف عن واجبات الصّلاة عند الحنابلة .
أ - واجبات الصّلاة عند الحنفيّة :
38 - قراءة الفاتحة . وهي من واجبات الصّلاة لثبوتها بخبر الواحد الزّائد على قوله تعالى { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } والزّيادة وإن كانت لا تجوز لكن يجب العمل بها .
ومن أجل ذلك قالوا بوجوبها . ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا قمت إلى الصّلاة فأسبغ الوضوء ثمّ استقبل القبلة ، فكبّر ، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن » ولو كانت قراءة الفاتحة ركناً لعلّمه إيّاها لجهله بالأحكام وحاجته إليه ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » محمول على نفي الفضيلة .
ثمّ إنّ كلّ آية منها واجبة ، ويسجد للسّهو بتركها . وهذا على قول الإمام القائل إنّها واجبة بتمامها ، وأمّا عند الصّاحبين : فالواجب أكثرها ، فيسجد للسّهو بترك أكثرها لا أقلّها .
قال الحصكفيّ : وهو - أي قول الإمام - أولى ، وعليه فكلّ آية واجبة .
39 - ضمّ أقصر سورة إلى الفاتحة - كسورة الكوثر - أو ما يقوم مقامها من ثلاث آيات قصار نحو قوله تعالى : { ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } أو آية طويلة تعدل ثلاث آيات قصار ، وقدّروها بثلاثين حرفاً .
ومحلّ هذا الضّمّ في الأوليين من الفرض ، وجميع ركعات النّفل والوتر .
40 - ويجب تعيين القراءة في الأوليين عيناً من الفرض من الثّلاثيّة والرّباعيّة .
قال ابن عابدين : وهو المشهور في المذهب الّذي عليه المتون ، وهو المصحّح .
وقيل : إنّ محلّ القراءة ركعتان من الفرض غير عين ، وكونهما في الأوليين أفضل .
وثمرة الخلاف تظهر في وجوب سجود السّهو إذا تركها في الأوليين أو في إحداهما سهواً لتأخير الواجب سهواً عن محلّه ، وعلى القول بالسّنّيّة لا يجب .
41 - ويجب تقديم الفاتحة على كلّ السّورة ، حتّى قالوا : لو قرأ حرفاً من السّورة ساهياً ثمّ تذكّر يقرأ الفاتحة ثمّ السّورة ويلزمه سجود السّهو ، وقيّده في فتح القدير بأن يكون مقدار ما يتأدّى به ركن . وهو ما مال إليه ابن عابدين قال : لأنّ الظّاهر أنّ العلّة هي تأخير الابتداء بالفاتحة ، والتّأخير اليسير وهو ما دون ركن معفوّ عنه .
وكذا يجب ترك تكريرها قبل سورة الأوليين ، فلو قرأها في ركعة من الأوليين مرّتين وجب سجود السّهو ، لتأخير الواجب وهو السّورة ، ومثله ما لو قرأ أكثرها ثمّ أعادها . أمّا لو قرأها قبل السّورة مرّةً وبعدها مرّةً فلا تجب ، لعدم التّأخير ، لأنّ الرّكوع ليس واجباً بإثر السّورة ، فإنّه لو جمع بين سور بعد الفاتحة لا يجب عليه شيء .
ولا يجب ترك التّكرار في الأخريين ، لأنّ الاقتصار على مرّة في الأخريين ليس بواجب حتّى لا يلزمه - سجود السّهو بتكرار الفاتحة فيها سهواً ، ولو تعمّده لا يكره ما لم يؤدّ إلى التّطويل على الجماعة ، أو إطالة الرّكعة على ما قبلها .
42 - رعاية التّرتيب بين القراءة والرّكوع وفيما يتكرّر ، ومعنى كونه واجباً : أنّه لو ركع قبل القراءة صحّ ركوع هذه الرّكعة ، لأنّه لا يشترط في الرّكوع أن يكون مترتّباً على قراءة في كلّ ركعة ، بخلاف التّرتيب بين الرّكوع والسّجود مثلاً فإنّه فرض حتّى لو سجد قبل الرّكوع لم يصحّ سجود هذه الرّكعة ، لأنّ أصل السّجود يشترط ترتّبه على الرّكوع في كلّ ركعة كترتّب الرّكوع على القيام كذلك ، لأنّ القراءة لم تفرض في جميع ركعات الفرض بل في ركعتين منه بلا تعيين . أمّا القيام والرّكوع والسّجود فإنّها معيّنة في كلّ ركعة .
والمراد بقوله فيما يتكرّر : السّجدة الثّانية من كلّ ركعة وعدد الرّكعات . أمّا السّجدة الثّانية من كلّ ركعة : فالتّرتيب بينها وبين ما بعدها واجب ، حتّى لو ترك سجدةً من ركعة ثمّ تذكّرها فيما بعدها من قيام أو ركوع أو سجود فإنّه يقضيها ، ولا يقضي ما فعله قبل قضائها ممّا هو بعد ركعتها من قيام أو ركوع أو سجود ، بل يلزمه سجود السّهو فقط ، لكن اختلف في لزوم قضاء ما إذا تذكّرها فقضاها فيه ، كما لو تذكّر وهو راكع أو ساجد أنّه لم يسجد في الرّكعة الّتي قبلها فإنّه يسجدها ، وهل يعيد الرّكوع أو السّجود المتذكّر فيه ؟ .
ففي الهداية أنّه لا تجب إعادته بل تستحبّ معلّلاً بأنّ التّرتيب ليس بفرض بين ما يتكرّر من الأفعال ، وفي الخانيّة أنّه يعيده وإلاّ فسدت صلاته ، معلّلاً بأنّه ارتفض بالعود إلى ما قبله من الأركان ، لأنّه قبل الرّفع منه يقبل الرّفض ، بخلاف ما لو تذكّر السّجدة بعدما رفع من الرّكوع ، لأنّه بعدما تمّ بالرّفع لا يقبل الرّفض .(/10)
قال ابن عابدين : والمعتمد ما في الهداية ، ولو نسي سجدةً من الرّكعة الأولى قضاها ولو بعد السّلام قبل إتيانه بمفسد ، لكنّه يتشهّد ، ثمّ يسجد للسّهو ، ثمّ يتشهّد ، لبطلان التّشهّد والقعدة الأخيرة بالعود إلى السّجدة ، لاشتراطها التّرتيب ، والتّقييد بالتّرتيب بينها وبين ما بعدها للاحتراز عمّا قبلها من ركعتها ، فإنّ التّرتيب بين الرّكوع والسّجود من ركعة واحدة شرط .
وأمّا الرّكعات فإنّ التّرتيب فيها واجب إلاّ لضرورة الاقتداء حيث يسقط به التّرتيب ، فإنّ المسبوق يصلّي آخر الرّكعات قبل أوّلها .
قال ابن عابدين : فإن قلت وجوب الشّيء إنّما يصحّ إذا أمكن ضدّه ، وعدم التّرتيب بين الرّكعات غير ممكن فإنّ المصلّي كلّ ركعة أتى بها أوّلاً فهي الأولى ، وثانياً فهي الثّانية وهكذا . فإنّه يمكن ذلك لأنّه من الأمور الاعتباريّة الّتي يبتنى عليها أحكام شرعيّة إذا وجد معها ما يقتضيها ، فإذا صلّى من الفرض الرّباعيّ ركعتين ، وقصد أن يجعلهما الأخيرتين فهو لغو ، إلاّ إذا حقّق قصده بأن ترك فيهما القراءة ، وقرأ فيما بعدهما فحينئذ يبتنى عليه أحكام شرعيّة وهي وجوب الإعادة والإثم ، لوجود ما يقتضي تلك الأحكام ولهذا اعتبر الشّارع صلاة المسبوق غير مرتّبة من حيث الأقوال ، فأوجب عليه عكس التّرتيب بأن أمره بأن يفعل ما يبتنى على ذلك من قراءة وجهر .
كذلك أمر غيره بالتّرتيب بأن يفعل ما يقتضيه بأن يقرأ أوّلاً ويجهر أو يسرّ ، وإذا خالف يكون قد عكس التّرتيب حكماً .
تعديل الأركان :
43 - وهو : تسكين الجوارح في الرّكوع والسّجود حتّى تطمئنّ مفاصله ، وأدناه قدر تسبيحة ، وهو واجب في تخريج الكرخيّ ، ووجهه أنّه شرع لتكميل ركن فيكون واجباً كقراءة الفاتحة .
وفي تخريج الجرجانيّ أنّه سنّة لأنّه شرع لتكميل الأركان وليس بمقصود لذاته .
وذهب أبو يوسف إلى أنّه فرض « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن أخفّ الصّلاة : صلّ فإنّك لم تصلّ » وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة بن رافع : « إنّها لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه عزّ وجلّ : فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثمّ يكبّر اللّه عزّ وجلّ ويحمده ، ثمّ يقرأ من القرآن ما أذن له فيه وتيسّر ، ثمّ يقول : اللّه أكبر ثمّ يركع حتّى تطمئنّ مفاصله ثمّ يقول : سمع اللّه لمن حمده حتّى يستوي قائماً ثمّ يقول : اللّه أكبر . قال : ثمّ يكبّر فيسجد فيمكّن وجهه - أو جبهته - من الأرض حتّى تطمئنّ مفاصله وتسترخي ، ثمّ يكبّر فيستوي قاعداً على مقعده ، ويقيم صلبه » فوصف الصّلاة هكذا أربع ركعات حتّى فرغ « لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يفعل ذلك » .
واستدلّ على الوجوب بقوله تعالى : { وَارْكَعُوا واسْجُدُوا } حيث أمر بالرّكوع ، وهو : الانحناء لغةً ، وبالسّجود ، وهو : الانخفاض لغةً ، فتتعلّق الرّكنيّة بالأدنى منهما .
وفي آخر الحديث الّذي روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه صلاةً . فقال له : « إذا فعلت ذلك فقد تمّت صلاتك ، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك » ولا حجّة في الحديث الثّاني - أيضاً - لأنّ فيه وضع اليدين على الرّكبتين والثّناء والتّسميع وليست هذه الأشياء فرضاً بالإجماع .
وكذا تجب الطّمأنينة في الرّفع من الرّكوع والسّجود ، وكذا نفس الرّفع من الرّكوع والجلوس بين السّجدتين ، وهو اختيار المحقّق ابن الهمام وتلميذه ابن أمير حاجّ حتّى قال : إنّه الصّواب ، للمواظبة على ذلك كلّه ، وللأمر في حديث المسيء صلاته ، ولما ذكره قاضي خان من لزوم سجود السّهو بترك الرّفع من الرّكوع ساهياً .
قال ابن عابدين : والحاصل أنّ الأصحّ روايةً ودرايةً وجوب تعديل الأركان ، وأمّا القومة والجلسة وتعديلها فالمشهور في المذهب السّنّيّة ، وروي وجوبها ، وهو الموافق للأدلّة وعليه الكمال بن الهمام ومن بعده من المتأخّرين . وقال أبو يوسف بفرضيّة الكلّ ، واختاره في المجمع والعينيّ ورواه الطّحاويّ عن أئمّتنا الثّلاثة . وقال في الفيض : إنّه الأحوط .
44 - القعود الأوّل : يجب القعود الأوّل قدر التّشهّد إذا رفع رأسه من السّجدة الثّانية في الرّكعة الثّانية في ذوات الأربع والثّلاث ، ولو في النّفل في الأصحّ خلافاً لمحمّد في افتراضه قعدة كلّ شفع نفلاً ، وللطّحاويّ والكرخيّ أنّها في غير النّفل سنّة .
قال ابن عابدين : قال في البدائع : وأكثر مشايخنا يطلقون عليه اسم السّنّة ، إمّا لأنّ وجوبه عرف بها ، أو لأنّ المؤكّدة في معنى الواجب ، وهذا يقتضي رفع الخلاف .
45 - التّشهّدان : أي تشهّد القعدة الأولى وتشهّد الأخيرة ، ويجب سجود السّهو بترك بعضه، لأنّه ذكر واحد منظوم فترك بعضه كترك كلّه ، وأفضل صيغ التّشهّد هي المرويّة عن ابن مسعود ، وستأتي في سنن الصّلاة .
46 - السّلام : واستدلّوا على وجوبه وعدم فرضيّته بحديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّه عليه الصلاة والسلام « قال له حين علّمه التّشهّد : إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك » .
وعن عبد اللّه بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أحدث الرّجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلّم فقد جازت صلاته » .(/11)
وعن عليّ - رضي الله تعالى عنهما - : « إذا قعد قدر التّشهّد ثمّ أحدث فقد تمّت صلاته » وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم : « تحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم » فإنّه إن صحّ لا يفيد الفرضيّة ، لأنّها لا تثبت بخبر الواحد ، وإنّما يفيد الوجوب . ثمّ إنّه يجب مرّتين ، والواجب منه لفظ " السّلام " فقط دون " عليكم " .
47 - إتيان كلّ فرض أو واجب في محلّه ، فلو أخّره عن محلّه سهواً سجد للسّهو .
ومثال تأخير الفرض : ما لو أتمّ الفاتحة ثمّ مكث متفكّراً سهواً ثمّ ركع .
ومثال تأخير الواجب : ما لو تذكّر السّورة وهو راكع فضمّها قائماً وأعاد الرّكوع سجد للسّهو . وكذا يجب ترك تكرير الرّكوع وتثليث السّجود - لأنّ في زيادة ركوع أو سجود تغيير المشروع ، لأنّ الواجب في كلّ ركعة ركوع واحد وسجدتان فقط ، فإذا زاد على ذلك فقد ترك الواجب ، ويلزم منه أيضًا ترك واجب آخر ، وهو إتيان الفرض في غير محلّه ، لأنّ تكرير الرّكوع فيه تأخير السّجود عن محلّه وتثليث السّجود فيه تأخير القيام أو القعدة ، وكذا القعدة في آخر الرّكعة الأولى أو الثّالثة فيجب تركها ، ويلزم من فعلها - أيضاً - تأخير القيام إلى الثّانية أو الرّابعة عن محلّه .
وهذا إذا كانت القعدة طويلةً ، أمّا الجلسة الخفيفة الّتي استحبّها الشّافعيّة فتركها غير واجب، بل هو الأفضل . وهكذا كلّ زيادة بين فرضين أو بين فرض وواجب يكون فيها ترك واجب بسبب تلك الزّيادة ، ويلزم منها ترك واجب آخر ، وهو تأخير الفرض الثّاني عن محلّه . ويدخل في الزّيادة السّكوت ، حتّى لو شكّ فتفكّر سجد للسّهو .
قال ابن عابدين : إنّ ترك هذه المذكورات واجب لغيره ، وهو إتيان كلّ واجب أو فرض في محلّه ، فإنّ ذلك الواجب لا يتحقّق إلاّ بترك هذه المذكورات ، فكان تركها واجباً لغيره ، لأنّه يلزم من الإخلال بهذا الواجب الإخلال بذاك الواجب فهو نظير عدّهم من الفرائض الانتقال من ركن إلى ركن فإنّه فرض لغيره .
وبقي من واجبات الصّلاة : قراءة قنوت الوتر ، وتكبيرات العيدين ، والجهر والإسرار فيما يجهر فيه ويسرّ . وتنظر في مصطلحاتها .
ب - واجبات الصّلاة عند الحنابلة :
48 - تكبيرات الانتقال في محلّها : ومحلّها ما بين بدء الانتقال وانتهائه لحديث أبي موسى الأشعريّ : « فإذا كبّر يعني الإمام وركع ، فكبّروا واركعوا ... ، وإذا كبّر وسجد ، فكبّروا واسجدوا » وهذا أمر ، وهو يقتضي الوجوب ، ولو شرع المصلّي في التّكبير قبل انتقاله كأن يكبّر للرّكوع أو السّجود قبل هويّه إليه ، أو كمّله بعد انتهائه بأن كبّر وهو راكع أو وهو ساجد بعد انتهاء هويّه ، فإنّه لا يجزئه ذلك التّكبير ، لأنّه لم يأت به في محلّه .
وإن شرع فيه قبله أو كمّله بعده فوقع بعضه خارجاً منه فهو كتركه ، لأنّه لم يكمله في محلّه فأشبه من تعمّد قراءته راكعاً أو أخذ في التّشهّد قبل قعوده .
قال البهوتيّ : هذا قياس المذهب ، ويحتمل أن يعفى عن ذلك ، لأنّ التّحرّز يعسر ، والسّهو به يكثر ففي الإبطال به والسّجود له مشقّة .
ويستثنى من ذلك تكبيرة ركوع مسبوق أدرك إمامه راكعاً ، فكبّر للإحرام ثمّ ركع معه فإنّ تكبيرة الإحرام ركن ، وتكبيرة الرّكوع هنا سنّة للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام . قالوا : وإن نوى تكبيرة الرّكوع مع تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته .
التّسميع :
49 - وهو قول : " سمع اللّه لمن حمده " ، وهو واجب للإمام والمنفرد دون المأموم ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك . ولقوله صلى الله عليه وسلم لبريدة « يا بريدة ، إذا رفعت رأسك من الرّكوع فقل : سمع اللّه لمن حمده ، اللّهمّ ربّنا لك الحمد » .
ويجب أن يأتي بها مرتّبةً ، فلو قال : من حمد اللّه سمع له ، لم يجزئه .
وأمّا المأموم فإنّه يحمد فقط في حال رفعه من الرّكوع ولا يسمع ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال يعني الإمام سمع اللّه لمن حمده ، فقولوا : ربّنا ولك الحمد » .
التّحميد :
50 - وهو قول : " ربّنا ولك الحمد " وهو واجب على الإمام والمأموم والمنفرد . لحديث أنس وأبي هريرة المتقدّم ، ويجزئه أن يقول : ربّنا لك الحمد بلا واو .
وبالواو أفضل ، كما يجزئه أن يقول : " اللّهمّ ربّنا لك الحمد " بلا واو .
وأفضل منه مع الواو ، فيقول : " اللّهمّ ربّنا ولك الحمد " .
التّسبيح في الرّكوع :
51 - وهو قول : « سبحان ربّي العظيم " والواجب منه مرّة واحدة ، لما روى حذيفة « أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه : سبحان ربّي العظيم . وفي سجوده : سبحان ربّي الأعلى » .
وعن عقبة بن عامر قال : « لمّا نزلت { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم . فلمّا نزلت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال : اجعلوها في سجودكم » .
التّسبيح في السّجود :
52 - وهو قول : " سبحان ربّي الأعلى " ، والواجب منه مرّة واحدة لحديث حذيفة وعقبة بن عامر المتقدّمين .
قول : " ربّ اغفر لي "
53 - في الجلوس بين السّجدتين : وهو واجب مرّةً واحدةً على الإمام والمأموم والمنفرد ، لما روى حذيفة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السّجدتين : ربّ اغفر لي » قالوا : وإن قال : " ربّ اغفر لنا " أو " اللّهمّ اغفر لنا " فلا بأس.
التّشهّد الأوّل :(/12)
54 - لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعله وداوم على فعله وأمر به وسجد للسّهو حين نسيه . قالوا : وهذا هو الأصل المعتمد عليه في سائر الواجبات ، لسقوطها بالسّهو وانجبارها بالسّجود ، والمجزئ من التّشهّد الأوّل " التّحيّات للّه ، سلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه ، سلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، أو أنّ محمّداً عبده ورسوله " فمن ترك حرفاً من ذلك عمداً لم تصحّ صلاته ، للاتّفاق عليه في كلّ الأحاديث .
الجلوس للتّشهّد الأوّل :
55 - وهو واجب على غير من قام إمامه سهواً ولم ينبّه ، فيسقط عنه حينئذ التّشهّد الأوّل، ويتابع إمامه وجوباً .
أنواع السّنن في الصّلاة :
56 - قسّم جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - سنن الصّلاة باعتبار تأكّدها وعدمه وما يترتّب على تركها إلى نوعين :
فقسّمها الحنفيّة إلى : سنن وآداب ، والمقصود بالسّنن : هي السّنن المؤكّدة الّتي واظب عليها الرّسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الرّاشدون من بعده ، وتركها يوجب الإساءة ، والإثم إذا أصرّ على التّرك .
والآداب : وهي السّنن غير المؤكّدة ، وتركها لا يوجب إساءةً ولا عتاباً لكن فعلها أفضل .
كما قسّمها المالكيّة إلى : سنن ومندوبات . فالسّنن : هي السّنن المؤكّدة .
والمندوبات : هي السّنن غير المؤكّدة ويسمّونها - أيضاً - نوافل وفضائل ومستحبّات . وعند الشّافعيّة تنقسم إلى : أبعاض ، وهيئات .
فالأبعاض : هي السّنن المجبورة بسجود السّهو ، سواء تركها عمداً أو سهواً ، وسمّيت أبعاضاً لتأكّد شأنها بالجبر تشبيهاً بالبعض حقيقةً ، والهيئات : هي السّنن الّتي لا تجبر .
ولم يقسّمها الحنابلة بهذا الاعتبار وإنّما قسّموها باعتبار القول والفعل ، فهي تنقسم عندهم إلى : سنن أقوال ، وسنن أفعال وهيئات .
سنن الصّلاة :
أ - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام :
57 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ للمصلّي عند تكبيرة الإحرام أن يرفع يديه ، لما روى ابن عمر : « أنّ رسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصّلاة » .
وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك . واختلفوا في كيفيّة الرّفع .
58 - فذهب الحنفيّة إلى أنّه يرفع يديه حذاء أذنيه حتّى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه ، وبرءوس الأصابع فروع أذنيه ، ويستقبل ببطون كفّيه القبلة ، وينشر أصابعه ويرفعهما ، فإذا استقرّتا في موضع محاذاة الإبهامين شحمتي الأذنين يكبّر ، فالرّفع يكون قبل التّكبير . وهذا في الرّجل ، أمّا المرأة فإنّها ترفع يديها حذاء المنكبين ، قالوا : ولا يطأطئ المصلّي رأسه عند التّكبير ، فإنّه بدعة .
ولو رفع المصلّي يديه فإنّه لا يضمّ أصابعه كلّ الضّمّ ، ولا يفرّج كلّ التّفريج بل يتركها على ما كانت عليه بين الضّمّ والتّفريج .
وصرّحوا بأنّه لو كبّر ولم يرفع يديه حتّى فرغ من التّكبير لم يأت به ، وإن ذكره في أثناء التّكبير رفع ، وإن لم يمكنه الرّفع إلى الموضع المسنون رفعهما قدر ما يمكن ، وإن أمكنه رفع إحداهما دون الأخرى رفعها وإن لم يمكنه الرّفع إلاّ بزيادة على المسنون رفعهما .
كما صرّحوا بأنّه لو اعتاد المصلّي ترك رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام فإنّه يأثم ، وإثمه لا لنفس التّرك ، بل لأنّه استخفاف وعدم مبالاة بسنّة واظب عليها النّبيّ صلى الله عليه وسلم مدّة عمره . قال ابن عابدين : الاستخفاف بمعنى التّهاون وعدم المبالاة ، لا بمعنى الاستهانة والاحتقار ، وإلاّ كان كفراً .
59 - وذهب المالكيّة إلى أنّ المصلّي يرفع يديه عند شروعه في الإحرام ، فيكره رفعهما قبل التّكبير أو بعده ، والرّفع يكون بحيث تكون ظهور يديه إلى السّماء وبطونهما إلى الأرض وبحيث ينتهي رفعهما إلى حذو المنكبين على المشهور ، وقيل : انتهاؤها إلى الصّدر ، وقيل: يرفعهما حذو الأذنين ، وهما مقابلان للمشهور .
وتسمّى صفة هذا الرّفع عندهم صفة الرّاهب - وهي المذهب - ومقابله صفتان : صفة الرّاغب : وهي بأن يجعل بطون يديه للسّماء ، وصفة النّابذ : وهي أن يحاذي بكفّيه منكبيه قائمتين ورءوس أصابعهما ممّا يلي السّماء على صورة النّابذ للشّيء .
والدّليل على أنّ اليدين تكون حذو المنكبين في الرّفع ما في حديث ابن عمر : « من أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصّلاة .
والدّليل على أنّها تكون حذو الصّدر ما في حديث وائل بن حجر قال : « رأيت أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصّلاة » .
والدّليل على كونها حذو الأذنين حديث مالك بن الحويرث : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتّى حاذى بهما أذنيه » وهذا في رفع الرّجل ، أمّا المرأة فدون ذلك إجماعاً عندهم، قالوا : ويستحبّ كشفهما عند الإحرام وإرسالهما بوقار فلا يدفع بهما أمامه .
ورفع اليدين عند المالكيّة من الفضائل على المعتمد وليس من السّنن .
60 - وعند الشّافعيّة يكون الرّفع حذو المنكبين ، لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصّلاة » قالوا : ومعنى حذو منكبيه : أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه ، وإبهاماه شحمتي أذنيه ، وراحتاه منكبيه ، وقال الأذرعيّ : بل معناه كون رءوس أصابعه حذو منكبيه ، فإن لم يمكن الرّفع إلاّ بزيادة على المشروع أو نقص منه أتى بالممكن منهما ، فإن أمكنه الإتيان بكلّ منهما فالزّيادة أولى ، لأنّه أتى بالمأمور وزيادة .(/13)
فإن لم يمكنه رفع إحدى يديه رفع الأخرى ، وأقطع الكفّين يرفع ساعديه ، وأقطع المرفقين يرفع عضديه تشبيهاً برفع اليدين ، وزمن الرّفع يكون مع ابتداء التّكبير في الأصحّ للاتّباع كما في الصّحيحين ، سواء انتهى التّكبير مع الحطّ أو لا .
وفي وجه : يرفع يديه قبل التّكبير ويكبّر مع ابتداء الإرسال وينهيه مع انتهائه ، وقيل : يرفع غير مكبّر ، ثمّ يكبّر ويداه مرتفعتان ، فإذا فرغ أرسلهما من غير تكبير .
وإن ترك الرّفع حتّى شرع في التّكبير أتى به في أثنائه لا بعده لزوال سببه .
61 - ومذهب الحنابلة : يرفع المصلّي يديه حذو منكبيه برءوسهما ، ويستقبل ببطونهما القبلة ، وهذا إذا لم يكن للمصلّي عذر يمنعه من رفعهما ، أو رفع إحداهما إلى حذو المنكبين، لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصّلاة رفع يديه حتّى يكونا حذو منكبيه ثمّ يكبّر » وتكون اليدان حال الرّفع ممدودتي الأصابع ، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصّلاة يرفع يديه مدّاً » مضمومةً ، لأنّ الأصابع إذا ضمّت تمتدّ ، ويكون ابتداء الرّفع مع ابتداء التّكبير وانتهاؤه مع انتهائه ، لما روى وائل بن حجر أنّه : « رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التّكبير » ولأنّ الرّفع للتّكبير فكان معه ، وإذا عجز عن رفع إحداهما رفع اليد الأخرى . وللمصلّي أن يرفعهما أقلّ من حذو المنكبين ، أو أكثر منه لعذر يمنعه لحديث : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » .
ويسقط ندب رفع اليدين مع فراغ التّكبير كلّه ، لأنّه سنّة فات محلّها ، وإن نسيه في ابتداء التّكبير ثمّ ذكره في أثنائه أتى به فيما بقي لبقاء محلّ الاستحباب .
والأفضل أن تكون يداه مكشوفتين ، لأنّ كشفهما أدلّ على المقصود ، وأظهر في الخضوع .
ب - القبض " وضع اليد اليمنى على اليسرى " :
62 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ من سنن الصّلاة القبض ، وهو : وضع اليد اليمنى على اليسرى .
وخالف في ذلك المالكيّة فقالوا : يندب الإرسال وكراهة القبض في صلاة الفرض .
وجوّزوه في النّفل وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح : ( إرسال ، ف /4 ، 3 /94 ) .
وقد اختلف الفقهاء في كيفيّة القبض ، ومكان وضع اليدين .
كيفيّة القبض :
63 - فرّق الحنفيّة في كيفيّة القبض بين الرّجل والمرأة ، فذهبوا إلى أنّ الرّجل يأخذ بيده اليمنى رسغ اليسرى بحيث يحلّق الخنصر والإبهام على الرّسغ ويبسط الأصابع الثّلاث .
وقال الكاسانيّ : يحلّق إبهامه وخنصره وبنصره ويضع الوسطى والمسبّحة على معصمه ، وأمّا المرأة فإنّها تضع الكفّ على الكفّ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يقبض بيده اليمنى على كوع اليسرى ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وضع اليمنى على اليسرى » .
وقال الشّافعيّة : يقبض بكفّه اليمنى على كوع اليسرى والرّسغ وبعض السّاعد ، ويبسط أصابعها في عرض المفصل أو ينشرها صوب السّاعد ، لما روى وائل بن حجر قال : « قلت لأنظرنّ إلى صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كيف يصلّي فنظرت إليه وضع يده اليمنى على ظهر كفّه اليسرى والرّسغ والسّاعد » .
مكان الوضع :
64 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ مكان وضع اليدين تحت السّرّة ، فيسنّ للمصلّي أن يضعهما تحت سرّته ، لقول عليّ - رضي الله عنه - : « من السّنّة وضع الكفّ على الكفّ تحت السّرّة » .
قال الحنابلة : ومعنى وضع كفّه الأيمن على كوعه الأيسر وجعلها تحت سرّته أنّ فاعل ذلك ذو ذلّ بين يدي ذي عزّ ، ونقلوا نصّ الإمام أحمد على كراهة جعل يديه على صدره .
لكن الحنفيّة خصّوا هذا بالرّجل ، أمّا المرأة فتضع يدها على صدرها عندهم .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يسنّ وضع اليدين تحت الصّدر وفوق السّرّة ، وهو مذهب المالكيّة في القبض في النّفل ، لحديث وائل بن حجر : « صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره » .
قالوا : أي آخره فتكون اليد تحته بقرينة رواية « تحت صدره » ، والحكمة في جعلهما تحت صدره : أن يكون فوق أشرف الأعضاء وهو القلب ، فإنّه تحت الصّدر .
قال الإمام : والقصد من القبض المذكور تسكين الجوارح ، فإن أرسلهما ولم يعبث بهما فلا بأس ، كما نصّ عليه في الأمّ .
ج - دعاء الاستفتاح والتّعوّذ والبسملة :
65 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ من سنن الصّلاة دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام . لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصّلاة قال : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ولا إله غيرك » ، ولما رواه عليّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّه كان إذا قام للصّلاة قال : وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين . إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين . اللّهمّ أنت الملك لا إله إلاّ أنت . أنتَ ربّي وأنا عبدُك . ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً ، إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت . واصرف عنّي سيّئها لا يصرف عنّي سيّئها إلاّ أنت . لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك ، والشّرّ ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت وأستغفرك وأتوب إليك » .
وقد ورد في السّنّة الصّحيحة صيغ كثيرة في دعاء الاستفتاح غير هاتين الصّيغتين .(/14)
وذهب المالكيّة إلى كراهة دعاء الاستفتاح ، لحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - يفتتحون الصّلاة بالحمد للّه ربّ العالمين » وحديث : « المسيء صلاته » وليس فيه استفتاح .
وتفصيل الكلام على دعاء الاستفتاح في مصطلح : استفتاح ( 4 / 46 ) .
أمّا التّعوّذ بعد دعاء الاستفتاح وقبل القراءة فهو سنّة عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - لقوله تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }. وذهب المالكيّة إلى كراهته في الفرض دون النّفل وتفصيله في مصطلح : ( استعاذة ، ف /18 وما بعدها 4 /11 ) .
أمّا البسملة فللفقهاء في حكمها خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : بسملة( ف 5 / 8 /86).
د - قراءة شيء من القرآن بعد الفاتحة :
66 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه يسنّ للمصلّي أن يقرأ شيئاً من القرآن بعد الفاتحة .
وقد اختلفوا في القراءة الّتي يحصل بها أصل السّنّة ، فذهب المالكيّة إلى حصول السّنّة بقراءة ما زاد على الفاتحة ، ولو آيةً - سواء كانت طويلةً أم قصيرةً ك { مُدْهَامَّتَانِ } - كما تحصل السّنّة بقراءة بعض آية على أن يكون لها معنىً تامّ في كلّ ركعة بانفرادها ، والمستحبّ أن يقرأ سورةً كاملةً .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى حصول السّنّة بقراءة آية واحدة ، واستحبّ الإمام أحمد أن تكون الآية طويلةً : كآية الدّين وآية الكرسيّ لتشبه بعض السّور القصار .
قال البهوتيّ : والظّاهر عدم إجزاء آية لا تستقلّ بمعنىً أو حكم نحو { ثُمَّ نَظَرَ } ، أو { مُدْهَامَّتَانِ } .
قال الشّافعيّة : والأولى أن تكون ثلاث آيات لتكون قدر أقصر سورة .
ولا خلاف بينهم في أنّ السّورة الكاملة أفضل ، وأنّه لا تجزئه السّورة ما لو قرأها قبل الفاتحة ، لعدم وقوعها موقعها .
وصرّح الشّافعيّة : بأنّه لا يجزئه تكرار الفاتحة عن السّورة ، لأنّه خلاف ما ورد في السّنّة ، ولأنّ الشّيء الواحد لا يؤدّى به فرض ونفل في محلّ واحد ، إلاّ إذا كان لا يحسن غير الفاتحة وأعادها فإنّه يتّجه - كما قال الأذرعيّ - الإجزاء .
وقد اتّفق الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - على أنّه يسنّ للمصلّي أن يقرأ في صلاة الصّبح بطوال المفصّل . لحديث جابر بن سمرة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } ونحوها ، وكانت صلاته بعد تخفيفاً » .
وهو مذهب الحنفيّة في الظّهر فيسنّ عندهم للمصلّي أن يقرأ في الظّهر بطوال المفصّل ، لحديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله تعالى عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظّهر في الرّكعتين الأوليين في كلّ ركعة قدر ثلاثين » .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ القراءة في الظّهر تكون دون قراءة الفجر قليلاً .
قال الدّسوقيّ : يقرأ في الصّبح من أطول طوال المفصّل ، وفي الظّهر من أقصر طوال المفصّل .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يقرأ في الظّهر من أوساط المفصّل ، لما روي أنّ عمر كتب إلى أبي موسى " أن اقرأ في الصّبح بطوال المفصّل ، واقرأ في الظّهر بأوساط المفصّل ، واقرأ في المغرب بقصار المفصّل . وأمّا صلاة العصر ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يقرأ فيها بأوساط المفصّل . وقال المالكيّة : يقرأ فيها بقصار المفصّل .
واتّفقوا على أنّه يقرأ في المغرب بقصار المفصّل وفي العشاء بأوساطه ، لما روى سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال : « ما صلّيت وراء أحد أشبه صلاةً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من فلان . قال سليمان : كان يطيل الرّكعتين الأوليين في الظّهر ، ويخفّف الأخريين ، ويخفّف العصر ، ويقرأ في المغرب بقصار المفصّل ، ويقرأ في العشاء بأوساط المفصّل ، ويقرأ في الصّبح بطوال المفصّل » .
واختلف في بيان المفصّل طواله وأوساطه وقصاره .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( سورة ، وقراءة )
محلّ القراءة :
67 - اتّفق الفقهاء على أنّ محلّ القراءة المسنونة هو الرّكعتان الأوليان من صلاة الفرض، لحديث أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الرّكعتين الأوليين من الظّهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ، ويسمعنا الآية أحياناً ، ويقرأ في الرّكعتين الأخريين بفاتحة الكتاب » .
قال المالكيّة : وإنّما تسنّ السّورة في الفرض الوقتيّ المتّسع وقته ، أمّا إذا ضاق الوقت بحيث يخشى خروجه بقراءتها فإنّه يجب عليه ترك القراءة محافظةً على الوقت .
وانظر تفصيل محلّ القراءة في صلاة النّفل في مصطلح : ( صلاة التّطوّع ) وقراءة المأموم في ( صلاة الجماعة ) .
كما يسنّ تطويل القراءة في الرّكعة الأولى على الثّانية في الصّلوات المفروضة عند جمهور الفقهاء " المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، ومحمّد بن الحسن " .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إنّما تسنّ إطالة الرّكعة الأولى على الرّكعة الثّانية في صلاة الفجر فقط دون بقيّة الصّلوات المفروضة ، فلا تسنّ إطالتها .
هـ – التّأمين :
68 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّأمين بعد قراءة الفاتحة سنّة ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً :
« إذا قال الإمام : { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } فقولوا آمين . فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر ما تقدّم له من ذنبه » .(/15)
وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ المصلّي يأتي بالتّأمين بعد سكتة لطيفة ليتميّز عن القراءة، فيعلم أنّها ليست من القرآن ، وإنّما هي طابع الدّعاء .
وقالوا : لا يفوت التّأمين إلاّ بالشّروع في غيره ، فإن ترك المصلّي التّأمين حتّى شرع في قراءة السّورة لم يعد إليه ، لأنّه سنّة فات محلّها ، وعند الشّافعيّة قول بفواته بالرّكوع .
ثمّ إنّ التّأمين سنّة للمصلّي - عموماً - سواء كان إماماً أو مأموماً أو منفرداً ، واستثنى المالكيّة من ذلك الإمام في الصّلاة الجهريّة ، فإنّه لا يندب له التّأمين ، وكذا المأموم إن لم يسمع إمامه يقول : { وَلاَ الضَّالِّينَ } وإن سمع ما قبله ، ونصّوا على كراهته حينئذ ولا يتحرّى على الأظهر ، لأنّه لو تحرّى لربّما أوقعه في غير موضعه ، ولربّما صادف آية عذاب، ومقابله يتحرّى ، وهو قول ابن عبدوس .
والسّنّة عند الحنفيّة والمالكيّة أن يأتي المصلّي بالتّأمين سرّاً سواء كان إماماً أم مأموماً أم منفرداً ، فالإتيان بالتّأمين سنّة ، والإسرار بها سنّة أخرى ، قال الحنفيّة : وعلى هذا فتحصل سنّيّة الإتيان بها ولو مع الجهر بها .
قال المالكيّة : لأنّه دعاء ، والأصل فيه الإخفاء .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الإمام والمأموم والمنفرد يجهرون بالتّأمين في الصّلاة الجهريّة ويسرّون به في الصّلاة السّرّيّة .
وصرّحوا : بأنّه إذا ترك الإمام التّأمين ، أو أسرّه عمداً أو سهواً أتى به المأموم ليذكّره فيأتي به .
و - تكبيرات الانتقال :
69 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى أنّ تكبيرات الانتقال سنّة من سنن الصّلاة ، لحديث : « المسيء صلاته » فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمره بتكبيرات الانتقالات وأمره بتكبيرة الإحرام .
أمّا الحنابلة فيرون أنّ تكبيرات الانتقال من الواجبات . وينظر مصطلح : ( تكبير ) .
ز - هيئة الرّكوع المسنونة :
70 - أقلّ الواجب في الرّكوع : أن ينحني قدر بلوغ راحتيه ركبتيه ، وكمال السّنّة فيه : أن يسوّي ظهره وعنقه وعجزه ، وينصب ساقيه وفخذيه ، ويأخذ ركبتيه بيديه معتمداً باليدين على الرّكبتين ، مفرّقاً أصابعه ، ويجافي مرفقيه عن جنبيه .
لحديث عقبة بن عمرو : « أنّه ركع فجافى يديه ، ووضع يديه على ركبتيه ، وفرّج بين أصابعه من وراء ركبتيه وقال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي » .
وزاد الحنفيّة : إلصاق الكعبين ، ثمّ إنّهم خصّوا هذه الهيئة بالرّجل ، أمّا المرأة فتنحني في الرّكوع يسيراً ، ولا تفرّج ، ولكن تضمّ وتضع يديها على ركبتيها وضعاً ، وتحني ركبتيها ، ولا تجافي عضديها ، لأنّ ذلك أستر لها .
وهو واجب عند الحنابلة ، وسبق تفصيل هيئات الرّكوع وأذكاره في مصطلح : ( ركوع ) .
ح - التّسميع والتّحميد :
71 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى سنّيّة التّسميع عند الرّفع من الرّكوع ، والتّحميد عند الاستواء قائماً .
والسّنّة عند المالكيّة التّسميع فقط ، أمّا التّحميد فهو مندوب عندهم .
وذهب الحنابلة إلى وجوب التّسميع والتّحميد ، كما سبق بيانه في واجبات الصّلاة .
ثمّ إنّ الفقهاء اختلفوا في المصلّي الّذي يسنّ له التّسميع والتّحميد .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الإمام يسمّع فقط ، والمأموم يحمد فقط ، والمنفرد يجمع بينهما ، فلا يحمد الإمام ولا يسمّع المأموم ، لما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال الإمام : سمع اللّه لمن حمده ، فقولوا : ربّنا لك الحمد » فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم قسم بينهما ، والقسمة تنافي الشّركة .
قال المالكيّة : فالإمام مخاطب بسنّة فقط ، والمأموم مخاطب بمندوب فقط ، والفذّ مخاطب بسنّة ومندوب وخالف صاحبا أبي حنيفة ، فذهبا إلى أنّ الإمام يجمع بين التّسميع والتّحميد لحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما » ، ولأنّه حرّض غيره فلا ينسى نفسه ، قال ابن عابدين : المتون على قول الإمام . وصرّحوا بأنّ أفضل صيغ التّحميد : اللّهمّ ربّنا ولك الحمد ، قال الحنفيّة : ثمّ اللّهمّ ربّنا لك الحمد ، ثمّ ربّنا ولك الحمد ، ثمّ ربّنا لك الحمد .
وصيغة اللّهمّ ربّنا ولك الحمد هي ما اختاره الإمام مالك وابن القاسم ، وروى أشهب عن مالك : اللّهمّ ربّنا لك الحمد ، وعنده رواية ثالثة : ربّنا ولك الحمد ، ورابعة : ربّنا لك الحمد. وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّسميع والتّحميد سنّة للجميع : الإمام والمأموم والمنفرد .
وصرّحوا بأنّ أفضل صيغ التّحميد ربّنا لك الحمد ، لورود السّنّة به .
قال الشّربينيّ الخطيب : لكن قال في الأمّ : ربّنا ولك الحمد أحبّ إليّ ، أي لأنّه جمع معنيين : الدّعاء والاعتراف . أي ربّنا استجب لنا ، ولك الحمد على هدايتك إيّانا .
قالوا : ولو قال : من حمد اللّه سمع له كفى في تأدية أصل السّنّة ، لأنّه أتى باللّفظ والمعنى، لكن التّرتيب أفضل .
ومذهب الحنابلة أنّ التّسميع واجب على الإمام والمنفرد دون المأموم ، والتّحميد واجب على الجميع - إمام ومأموم ومنفرد - وأفضل صيغ التّحميد عندهم : ربّنا ولك الحمد ، ثمّ ربّنا لك الحمد . قالوا : وإن شاء قال : اللّهمّ ربّنا لك الحمد ، وأفضل منه : اللّهمّ ربّنا ولك الحمد ، ولو قال : من حمد اللّه سمع له لم يجزئه ، لتغيير المعنى .
الأذكار الواردة في الاستواء بعد الرّفع من الرّكوع :(/16)
72 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يسنّ للمصلّي بعد التّحميد أن يقول : " ملء السّموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " لما روى عبد اللّه بن أبي أوفى قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الرّكوع قال : سمع اللّه لمن حمده ، اللّهمّ ربّنا لك الحمد ، ملء السّموات ، وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد » .
وله أن يزيد : " أهل الثّناء والمجد أحقّ ما قال العبد ، وكلّنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ " ، لما روى أبو سعيد الخدريّ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الرّكوع . قال اللّهمّ ربّنا لك الحمد ملء السّموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثّناء والمجد . أحقّ ما قال العبد - وكلّنا لك عبد - اللّهمّ لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .
ونصّ الحنابلة بأنّ له أن يقول غير ذلك ممّا ورد ، كما جاء في حديث عبد اللّه بن أبي أوفى « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول ، وفي لفظ : يدعو إذا رفع رأسه من الرّكوع اللّهمّ لك الحمد ملء السّماء وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد . اللّهمّ طهّرني بالثّلج والبرد والماء البارد . اللّهمّ طهّرني من الذّنوب والخطايا ، كما ينقّى الثّوب الأبيض من الوسخ » .
وصرّح الشّافعيّة باستحباب زيادة : حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه . لحديث رفاعة بن رافع قال: « كنّا نصلّي يوماً وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا رفع رأسه من الرّكعة قال : سمع اللّه لمن حمده ، قال رجل وراءه : ربّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه . فلمّا انصرف قال : من المتكلّم ؟ قال : أنا ، قال : لقد رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّل » .
ح م - رفع اليدين عند الرّكوع والرّفع منه ، والقيام للرّكعة الثّالثة :
73 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة رفع اليدين عند الرّكوع والرّفع منه ، وعند القيام من التّشهّد الأوّل للرّكعة الثّالثة ، فاتّفق الشّافعيّة والحنابلة على مشروعيّة رفع اليدين عند الرّكوع والرّفع منه ، وأنّه من سنن الصّلاة ، لما روى ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصّلاة رفع يديه حتّى يكونا حذو منكبيه ، وكان يفعل ذلك حين يكبّر للرّكوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الرّكوع » .
وعن الحسن : « أنّ أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك » .
وكان عمر " إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه حصّبه ، وأمره أن يرفع .
قال البخاريّ : رواه سبعة عشر من الصّحابة ، ولم يثبت عن أحد منهم عدم الرّفع .
وقال السّيوطيّ : الرّفع ثابت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رواية خمسين صحابيّاً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يندب رفع اليدين عند القيام من التّشهّد للرّكعة الثّالثة ، وهي رواية عن الإمام أحمد ، لما روى نافع : « أنّ ابن عمر كان إذا دخل في الصّلاة كبّر ورفع يديه ، وإذا ركع رفع يديه ، وإذا قال سمع اللّه لمن حمده رفع يديه ، وإذا قام من الرّكعتين رفع يديه . ورفع ذلك ابن عمر إلى نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم » .
والرّواية الثّانية عن أحمد هي عدم الرّفع . قال في الإنصاف : وهو المذهب ، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم مشروعيّة رفع اليدين إلاّ عند تكبيرة الإحرام ، فلا يشرع رفعهما عند الرّكوع أو الرّفع منه ، أو القيام للثّالثة . لحديث البراء - رضي الله تعالى عنه- أنّه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين افتتح الصّلاة ، ثمّ لم يرفعهما حتّى انصرف » وعن جابر بن سمرة قال : « خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : مالي أراكم رافعي أيديكم كأنّها أذناب خيل شمس ، اسكنوا في الصّلاة » وقال عبد اللّه بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - : « ألا أصلّي بكم صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصلّى ولم يرفع يديه إلاّ في أوّل مرّة » .
ط - كيفيّة الهُوِيّ للسّجود والنّهوض منه :
74 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه يسنّ عند الهويّ إلى السّجود أن يضع المصلّي ركبتيه أوّلاً ، ثمّ يديه ، ثمّ جبهته وأنفه ، لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه » قال التّرمذيّ : والعمل عليه عند أكثرهم .
ولأنّ هذه الكيفيّة أرفق بالمصلّي . وأحسن في الشّكل ورأي العين .
والمعتمد عند الحنفيّة أنّه يضع جبهته ثمّ أنفه ، وقال بعضهم : أنفه ثمّ جبهته .
وعند النّهوض من السّجود يسنّ العكس عند الحنفيّة والحنابلة ، وذلك بأن يرفع جبهته أوّلاً ثمّ يديه ثمّ ركبتيه لحديث وائل بن حجر المتقدّم .
قال الحنابلة : إلاّ أن يشقّ عليه الاعتماد على ركبتيه ، لِكِبَر أو ضَعْفٍ أو مرض ، أو سِمَنٍ ونحوه ، فيعتمد بالأرض ، لما روى الأثرم عن عليّ قال : « من السّنّة في الصّلاة المكتوبة إذا نهض أن لا يعتمد بيديه على الأرض إلاّ أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع » .(/17)
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يسنّ أن يعتمد في قيامه من السّجود على يديه ، مبسوطتين على الأرض ، لأنّه أبلغ خشوعاً وتواضعاً ، وأعون للمصلّي ، وسواء في ذلك القويّ والضّعيف . وذهب المالكيّة إلى ندب تقديم اليدين عند الهُويِّ إلى السّجود ، وتأخيرهما عند القيام ، لما روى أبو هريرة مرفوعاً : « إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه » .
قالوا : ومعناه أنّ المصلّي لا يقدّم ركبتيه عند هويّه للسّجود كما يقدّمهما البعير عند بروكه ، ولا يؤخّرهما في القيام كما يؤخّرهما البعير في قيامه .
ى - هيئة السّجود المسنونة :
75 - كيفيّة السّجود المسنونة : أن يسجد المصلّي على الأعضاء السّبعة : الجبهة مع الأنف، واليدين والرّكبتين ، والقدمين - ممكّناً جبهته وأنفه من الأرض ، وينشر أصابع يديه مضمومةً للقبلة ، ويفرّق ركبتيه ، ويرفع بطنه عن فخذيه ، وفخذيه عن ساقيه ، ويجافي عضديه عن جنبيه ، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة .
وقد تقدّم بيان ذلك عند الكلام على الأركان .
ك - التّشهّد الأوّل وقعوده :
76 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى سنّيّة التّشهّد الأوّل وقعوده لخبر الصّحيحين : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين من الظّهر ولم يجلس ، فلمّا قضى صلاته كبّر وهو جالس فسجد سجدتين قبل السّلام ثمّ سلّم » فدلّ عدم تداركهما على عدم وجوبها .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى وجوبهما كما سبق في واجبات الصّلاة .
ل - صيغة التّشهّد :
77 - سبق خلاف الفقهاء في التّشهّد الأخير ، فهو عند الشّافعيّة والحنابلة ركن ، وعند الحنفيّة واجب ، وعند المالكيّة سنّة .
واختلفوا - أيضاً - في صيغته المسنونة . ( ر : تشهّد ) .
م - الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد " الصّلاة الإبراهيميّة "
78 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد الأخير سنّة ، وعند المالكيّة خلاف في أنّ المشهور : هل هي سنّة أو فضيلة ؟
وأفضل صيغ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند الحنفيّة هي : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنّك حميد مجيد .
وهي - أيضاً - أفضل صيغ الصّلاة عند المالكيّة لكن بحذف ( إنّك حميد مجيد ) الأولى . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد الأخير ركن كما سبق بيانه .
وقد أخذ الحنابلة بصيغة « حديث كعب بن عجرة » ، وهي أفضل الصّيغ عندهم .
ولكن يتحقّق ركن الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقول : " اللّهمّ صلّ على محمّد " .
وصرّحوا بأنّه لا يجوز إبدال آل بأهل ، لأنّ أهل الرّجل أقاربه أو زوجته ، وآله أتباعه على دينه .
وقال الشّافعيّة : أقلّ الصّلاة على النّبيّ : اللّهمّ صلّ على محمّد وآله في التّشهّد الأخير ، والسّنّة : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد . وقد وردت الأحاديث بكلّ هذه الصّيغ .
وقد سبق حكم تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مصطلح : ( تسويد ف / 7 / 11 / 346 ) .
ن - الدّعاء بعد التّشهّد الأخير :
79 - يسنّ للمصلّي بعد التّشهّد الأخير أن يدعو بما شاء لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا قعد أحدكم في الصّلاة فليقل : التّحيّات للّه - إلى آخره ، ثمّ يتخيّر من المسألة ما شاء، أو ما أحبّ » . وفي رواية للبخاريّ : « ثمّ يتخيّر من الدّعاء أعجبه إليه فيدعو به » .
وفي رواية أخرى لمسلم « ثمّ ليتخيّر بعد من المسألة ما شاء » .
وهو عند المالكيّة مندوب وليس بسنّة .
وصرّح الحنفيّة بأنّ المصلّي يدعو بالأدعية المذكورة في الكتاب والسّنّة ، على أنّه لا ينوي القراءة إذا دعا بأدعية القرآن لكراهة قراءة القرآن في الرّكوع والسّجود والتّشهّد . ولا يدعو بما يشبه كلام النّاس .
والأفضل الدّعاء بالمأثور ، ومن ذلك ما روي عن أبي بكر - رضي الله تعالى عنه أنّه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « علّمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال : قل : اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت . فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم » .
وما روى أبو هريرة مرفوعاً : « إذا فرغ أحدكم من التّشهّد الآخر فليتعوّذ باللّه من أربع ، من عذاب جهنّم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شرّ المسيح الدّجّال».
س - كيفيّة الجلوس :
80 - اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس المسنونة في الصّلاة . فذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين الرّجل والمرأة ، فالرّجل يسنّ له الافتراش ، والمرأة يسنّ لها التّورّك .
لا فرق في ذلك بين التّشهّد الأوّل أو الأخير ، أو الجلسة بين السّجدتين .
وذهب المالكيّة إلى أنّ هيئة الجلوس المسنونة في جميع جلسات الصّلاة هي التّورّك سواء في ذلك الرّجل أو المرأة .(/18)
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يسنّ التّورّك في التّشهّد الأخير ، والافتراش في بقيّة جلسات الصّلاة ، لحديث أبي حميد : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الرّكعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ، وإذا جلس في الرّكعة الآخرة قدّم رجله اليسرى ونصب الأخرى ، وقعد على مقعدته » وفي رواية « فإذا كانت الرّابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض ، وأخرج قدميه من ناحية واحدة » .
والحكمة في المخالفة بين الأخير وغيره من بقيّة الجلسات : أنّ المصلّي مستوفز فيها للحركة ، بخلافه في الأخير ، والحركة عن الافتراش أهون .
والافتراش : أن ينصب قدمه اليمنى قائمةً على أطراف الأصابع بحيث تكون متوجّهةً نحو القبلة ، ويفرش رجله اليسرى بحيث يلي ظهرها الأرض ، جالساً على بطنها .
والتّورّك : كالافتراش . لكن يخرج يسراه من جهة يمينه ، ويلصق وركه بالأرض .
انظر مصطلح تورّك ( 14 / 148 ) ومصطلح : جلوس ( ف 11 - 13 ، 15 / 267 ) .
ع - جلسة الاستراحة :
81 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يسنّ بعد السّجدة الثّانية جلسة للاستراحة في كلّ ركعة يقوم منها ، لما روى مالك بن الحويرث : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السّجود قبل أن ينهض في الرّكعة الأولى » .
وذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى كراهة فعلها تنزيهاً لمن ليس به عذر ، وقد سبق تفصيل الكلام عليها في مصطلح : ( جلوس ف /12 ، 15 /266 ) .
ف - كيفيّة وضع اليدين أثناء الجلوس :
82 - يسنّ للمصلّي أثناء الجلوس أن يضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، ويده اليسرى على فخذه اليسرى بحيث تساوي رءوس أصابعه ركبتيه ،وتكون أصابعه منشورةً إلى القبلة. قال الحنفيّة : مفرّجةً قليلاً ، وقال الحنابلة : مضمومةً .
وقد اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ للمصلّي أن يشير بسبّابته أثناء التّشهّد ، وإن اختلفوا في كيفيّة قبض اليد والإشارة .
قال ابن عابدين : ليس لنا سوى قولين : الأوّل : وهو المشهور في المذهب بسط الأصابع بدون إشارة . الثّاني : بسط الأصابع إلى حين الشّهادة فيعقد عندها ويرفع السّبّابة عند النّفي ويضعها عند الإثبات .
ويرى الشّافعيّة أن يقبض المصلّي أصابع يده اليمنى ويضعها على طرف ركبته إلاّ المسبّحة فيرسلها ، ويقبض الإبهام بجنبها بحيث يكون تحتها على حرف راحته ، لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قعد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ،ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثةً وخمسين وأشار بالسّبّابة».
وذهب الحنابلة - وهو قول عند الشّافعيّة - إلى أنّ المصلّي يحلّق بين الوسطى والسّبّابة لما روى وائل بن حجر : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وضع حدّ مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ، وعقد ثلاثين ، وحلّق واحدةً ، أشار بأصبعه بالسّبّابة » .
ومحلّ الرّفع عند الشّافعيّة عند قوله : إلاّ اللّه ، فيرفع المسبّحة عند ذلك للاتّباع كما في صحيح مسلم ، ويميلها قليلاً كما قاله المحامليّ وغيره . ويقيمها ولا يضعها .
ويسنّ - أيضاً - أن يكون رفعها إلى القبلة ناوياً بذلك التّوحيد والإخلاص ، وفي تحريكها عندهم روايتان .
وقال الحنابلة : يشير بسبّابته مراراً ، كلّ مرّة عند ذكر لفظ ( اللّه ) تنبيهاً على التّوحيد ، ولا يحرّكها لفعله صلى الله عليه وسلم قالوا : ولا يشير بغير سبّابة اليمنى ولو عدمت . وقال الشّافعيّة : بكراهة الإشارة بسبّابة اليسرى ولو من مقطوع اليمنى .
وعدّ المالكيّة الإشارة بالسّبّابة من المندوبات .
ويندب تحريك السّبّابة يميناً وشمالاً دائماً - لا لأعلى ولا لأسفل - في جميع التّشهّد . وأمّا اليسرى فيبسطها مقرونة الأصابع على فخذه .
سنن السّلام :
83 - سبق في أركان الصّلاة أنّ السّلام ركن عند جمهور الفقهاء . واجب عند الحنفيّة ، وقد ذكر الفقهاء للسّلام سنناً منها :
أن يسلّم مرّتين : مرّةً عن يمينه ومرّةً عن يساره ، ويسلّم عن يمينه أوّلاً ، بحيث يرى بياض خدّه الأيمن ، وعن يساره ثانياً ، بحيث يرى بياض خدّه الأيسر ، يراه من خلفه .
وقد قال الحنابلة : بفرضيّة التّسليمتين ، وقال الحنفيّة : بوجوبهما ، وذهب المالكيّة ، والشّافعيّة إلى أنّه يتأدّى الفرض بتسليمة واحدة .
والسّنّة أن يقول : " السّلام عليكم ورحمة اللّه " مرّتين .
وقد صرّح الحنفيّة بكراهة كلّ صيغة تخالف هذه الصّيغة ، وزاد بعضهم لفظ " وبركاته " .
وقال الشّافعيّة : لا تسنّ زيادة " وبركاته " .
وقال الحنفيّة : الأولى تركه ، لحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلّم عن يمينه وعن يساره : السّلام عليكم ورحمة اللّه ، السّلام عليكم ورحمة اللّه ، حتّى يرى بياض خدّيه » .
ولحديث ابن أبي وقّاص - رضي الله تعالى عنه عنه - قال : « كنت أرى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسلّم عن يمينه ويساره ، حتّى أرى بياض خدّه » .
وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّه يبتدئ السّلام مستقبل القبلة ، ثمّ يلتفت ويتمّ سلامه بتمام التفاته .
القنوت في صلاة الفجر :
84 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة القنوت في صلاة الفجر .
انظر تفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة الفجر : قنوت ) .
مكروهات الصّلاة :(/19)
85 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة السّدل في الصّلاة ، لما روى أبو هريرة قال :« نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن السّدل في الصّلاة ، وأن يغطّي الرّجل فاه». واختلفوا في تفسير السّدل . فقال الحنفيّة : هو إرسال الثّوب بلا لبس معتاد ، وفسّره الكرخيّ بأن يجعل ثوبه على رأسه أو على كتفيه ، ويرسل أطرافه من جانبه إذا لم يكن عليه سراويل ، فكراهته لاحتمال كشف العورة ، والكراهة تحريميّة .
وقال الشّافعيّة : السّدل : هو أن يرسل الثّوب حتّى يصيب الأرض ، وهو قول ابن عقيل من الحنابلة .
وقال الحنابلة : السّدل : هو أن يطرح ثوباً على كتفيه ، ولا يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى .
وقيل : وضع الرّداء على رأسه وإرساله من ورائه على ظهره .
كما يكره اشتمال الصّمّاء لما روى أبو سعيد الخدريّ - رضي الله تعالى عنه - « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نهى عن اشتمال الصّمّاء ، وأن يحتبي الرّجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء » .
وصرّح المالكيّة بأنّ محلّ الكراهة إن كان معها ستر كإزار تحتها وإلاّ منعت لحصول كشف العورة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( اشتمال الصّمّاء ) .
86 - ويكره التّلثّم ، لما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يغطّي الرّجل فاه في الصّلاة » .
قال المالكيّة : هو ما يصل لآخر الشّفة السّفلى . وقال الشّافعيّة : هو تغطية الفم .
وقال الحنابلة : التّلثّم على الفم والأنف ، والمرأة كالرّجل في هذا . كما يكره كفّ الكمّ والثّوب والعبث فيه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكفّ ثوباً ولا شعراً » .
87 - وصرّح الحنفيّة بكراهة صلاة حاسر رأسه تكاسلاً ، وأجازوه للتّذلّل . قالوا : وإن سقطت قلنسوته فالأفضل إعادتها إلاّ إذا احتاجت لتكوير أو عمل كثير .
ويكره تنزيهاً : الصّلاة في ثياب بذلة ومهنة ، إن كان له غيرها .
كما يكره الاعتجار ، وهو : شدّ الرّأس بالمنديل ، أو تكوير عمامته على رأسه وترك وسطها مكشوفاً « لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الاعتجار في الصّلاة » . وقيل : الاعتجار : أن ينتقب بعمامته فيغطّي أنفه .
88 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الاقتصار على الفاتحة في الرّكعتين الأوليين من المكتوبة . وقال الحنفيّة : يكره تحريماً أن ينقص شيئاً من القراءة الواجبة .
وقد ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى كراهة تنكيس السّور - أي أن يقرأ في الثّانية سورةً أعلى ممّا قرأ في الأولى - لما روي عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنّه سئل عمّن يقرأ القرآن منكوساً فقال : " ذلك منكوس القلب " .
قال ابن عابدين : لأنّ ترتيب السّور في القراءة من واجبات التّلاوة ، وإنّما جوّز للصّغار تسهيلاً لضرورة التّعليم .
واستثنى الحنفيّة والمالكيّة من قرأ في الرّكعة الأولى بسورة النّاس ، فإنّه يقرأ في الثّانية أوّل سورة البقرة . لكن الحنفيّة خصّوا ذلك بمن يختم القرآن في الصّلاة ، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خير النّاس الحالّ والمرتحل » أي الخاتم والمفتتح .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ تنكيس السّور خلاف الأولى ، وصرّح المالكيّة بحرمة تنكيس الآيات المتلاصقة في ركعة واحدة ، وأنّه يبطل الصّلاة .
وقال الحنابلة : بحرمة تنكيس الكلمات ، وأنّه يبطل الصّلاة . أمّا تنكيس الآيات فقيل : مكروه ، وقال الشّيخ تقيّ الدّين : ترتيب الآيات واجب ، لأنّ ترتيبها بالنّصّ إجماعاً ، وترتيب السّور بالاجتهاد لا بالنّصّ في قول جمهور الفقهاء .
وصرّح الحنابلة : بأنّه لا يكره جمع سورتين فأكثر في ركعة ، ولو في فرض . روي عن أنس بن مالك : « أنّ رجلاً من الأنصار كان يؤمّهم ، فكان يقرأ قبل كلّ سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، ثمّ يقرأ سورةً أخرى معها ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على لزوم هذه السّورة ؟ فقال : إنّي أحبّها . فقال : حبّك إيّاها أدخلك الجنّة » .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة قراءة سورتين في ركعة واحدة .
وقيّد الحنفيّة الكراهة بما إذا كان بين السّورتين سور أو سورة واحدة .
ومحلّ الكراهة عندهما - الحنفيّة والمالكيّة - صلاة الفرض . أمّا في صلاة النّفل فجائز من غير كراهة . واستثنى المالكيّة من ذلك المأموم إذا خشي من سكوته تفكّراً مكروهاً ، فلا كراهة في حقّه إذا قرأ سورتين في ركعة .
كما نصّ المالكيّة والحنابلة على أنّه لا يكره التزام سورة مخصوصة . لما تقدّم من ملازمة الأنصاريّ على { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قال الحنابلة : مع اعتقاده جواز غيرها .
وصرّح الحنفيّة بكراهة تعيين شيء من القرآن . وقيّد الطّحاويّ الكراهة بما إذا رأى ذلك حتماً لا يجوز غيره ، أمّا لو قرأه للتّيسير عليه أو تبرّكاً بقراءته - عليه الصلاة والسلام - فلا كراهة ، لكن بشرط أن يقرأ غيرها أحياناً لئلاّ يظنّ الجاهل أنّ غيرها لا يجوز ، ومال إلى هذا القيد ابن عابدين .
ولا يكره - أيضاً - عند الحنابلة تكرار سورة في ركعتين ، لما روى زيد بن ثابت : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الرّكعتين كلتيهما » .
كما لا يكره تفريقها في الرّكعتين ، لما روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كان يقسم البقرة في الرّكعتين » .
وقال الحنفيّة : لا ينبغي تفريق السّورة ، ولو فعل لا بأس به ، ولا يكره على الصّحيح . وقيل : يكره .(/20)
وذهب المالكيّة إلى كراهة تكرير السّورة في الرّكعتين . ( ر : قراءة )
89 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة - إلى كراهة تغميض العينين في الصّلاة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا قام أحدكم في الصّلاة فلا يغمض عينيه » .
واحتجّ له - أيضاً - بأنّه فعل اليهود ، ومظنّة النّوم . وعلّل في البدائع : بأنّ السّنّة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده وفي التّغميض تركها . والكراهة عند الحنفيّة تنزيهيّة . واستثنوا من ذلك التّغميض لكمال الخشوع ، بأن خاف فوت الخشوع بسبب رؤية ما يفرّق الخاطر فلا يكره حينئذ ، بل قال بعضهم : إنّه الأولى . قال ابن عابدين : وليس ببعيد .
قال المالكيّة : ومحلّ كراهة التّغميض ما لم يخف النّظر لمحرّم ،أو يكون فتح بصره يشوّشه، وإلاّ فلا يكره التّغميض حينئذ .
واختار النّوويّ : أنّه لا يكره - أي تغميض العينين - إن لم يخف منه ضرراً على نفسه ، أو غيره فإن خاف منه ضرراً كره .
كما صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة رفع البصر إلى السّماء أثناء الصّلاة لحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السّماء في صلاتهم . فاشتدّ قوله في ذلك حتّى قال : لينتهنّ عن ذلك، أو لتخطفنّ أبصارهم » .
قال الأذرعيّ : والوجه تحريمه على العامد العالم بالنّهي المستحضر له .
وروي « أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلّى رفع بصره إلى السّماء - فنزلت { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } فطأطأ رأسه » .
قال الحنابلة : ولا يكره رفع بصره إلى السّماء حال التّجشّي إذا كان في جماعة لئلاّ يؤذي من حوله بالرّائحة .
ويكره - أيضاً - النّظر إلى ما يلهي عن الصّلاة ، لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : صلّى في خميصة لها أعلام ، فنظر إلى أعلامها نظرةً ، فلمّا انصرف قال : اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانيّة أبي جهم ، فإنّها ألهتني آنفاً عن صلاتي » ، ولأنّه يشغله عن إكمال الصّلاة .
90 - اتّفق الفقهاء على كراهة التّخصّر - وهو أن يضع يده على خاصرته في القيام - لقول أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلّي الرّجل متخصّراً » .
قال الدّسوقيّ : الخصر : هو موضع الحزام من جنبه ، وإنّما كره ذلك لأنّ هذه الهيئة تنافي هيئة الصّلاة .
قال ابن عابدين : والّذي يظهر أنّ الكراهة تحريميّة في الصّلاة للنّهي المذكور .
وصرّح الشّافعيّة بجواز ذلك عند الضّرورة والحاجة .
91 - كما اتّفق الفقهاء على كراهة ما كان من العبث واللّهو كفرقعة الأصابع وتشبيكها لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تُفَقِّع أصابعك وأنت تصلّي » .
ولحديث أبي هريرة : « إذا توضّأ أحدكم في بيته ثمّ أتى المسجد كان في صلاة حتّى يرجع فلا يقل هكذا ، وشبّك بين أصابعه » .
قال ابن عابدين : وينبغي أن تكون الكراهة تحريميّةً للنّهي المذكور .
92 - واتّفق الفقهاء - أيضاً - على كراهة العبث باللّحية أو غيرها من جسده ، لما روي : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث في الصّلاة ، فقال : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه » .
واستثني من ذلك ما كان لحاجة : كحكّ بدنه لشيء أكله وأضرّه ، وسلت عرق يؤذيه ويشغل قلبه ، وهذا إذا كان العمل يسيراً .
93 - وصرّح الشّافعيّة بأنّه لو سقط رداؤه أو طرف عمامته كره له تسويته إلاّ لضرورة .
94 - وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة تقليب الحصى ومسّه ، لحديث أبي ذرّ - رضي الله تعالى عنه - مرفوعاً : « إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فإنّ الرّحمة تواجهه فلا يمسح الحصى » كما يكره مسح الحصى ونحوه حيث يسجد ، لحديث معيقيب « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الرّجل يسوّي التّراب حيث يسجد : إن كنت فاعلاً فواحدةً » .
وقيّد الحنابلة الكراهة بعدم العذر .
ورخّص الحنفيّة تسوية الحصى مرّةً للسّجود التّامّ ، بأن كان لا يمكنه تمكين جبهته على وجه السّنّة إلاّ بذلك .
قالوا : وتركها أولى . وصرّحوا بأنّه لو كان لا يمكنه وضع القدر الواجب من الجبهة إلاّ به تعيّن ولو أكثر من مرّة .
ونصّ الشّافعيّة على كراهة وضع اليد على الفم في الصّلاة من غير حاجة ، لثبوت النّهي عنه ، ولمنافاته لهيئة الخشوع .
95 - وصرّح الحنفيّة بكراهة عدّ الآي والسّور ، والتّسبيح بأصابع اليد أو بسبحة يمسكها في الصّلاة مطلقاً ولو كانت نفلاً .
قال ابن عابدين : وهذا باتّفاق أصحابنا في ظاهر الرّواية ، وعن الصّاحبين في غير ظاهر الرّواية عنهما أنّه لا بأس به .
وقيل : الخلاف في الفرائض ولا كراهة في النّوافل اتّفاقاً . وقيل : في النّوافل ولا خلاف في الكراهة في الفرائض . والكراهة عندهم تنزيهيّة وعلّلوها بأنّه ليس من أفعال الصّلاة . وذهب الحنابلة إلى جواز عدّ الآي والتّسبيح بأصابعه من غير كراهة ، لما روى أنس - رضي الله تعالى عنه - قال : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعقد الآي بأصابعه » . وعدّ التّسبيح في معنى عدّ الآي .
قال البهوتيّ : وتوقّف أحمد في عدّ التّسبيح لأنّه يتوالى لقصره ، فيتوالى حسابه فيكثر العمل بخلاف عدّ الآي .
96 - وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة تروّحه - جلب نسيم الرّيح - بمروحة ونحوها ، لأنّه من العبث .
قال الحنابلة : إلاّ لحاجة كغمّ شديد فلا يكره ما لم يكثر من التّروّح ، فيبطل الصّلاة إن توالى.(/21)
وفي الهنديّة عن التّتارخانيّة يكره أن يذبّ بيده الذّباب أو البعوض إلاّ عند الحاجة بعمل قليل.
97 - وصرّح الشّافعيّة بكراهة القيام على رجل واحدة ، لأنّه تكلّف ينافي الخشوع ، إلاّ إن كان لعذر كوجع الأخرى فلا كراهة .
كما نصّ المالكيّة على كراهة رفع الرّجل عن الأرض إلاّ لضرورة كطول القيام ، كما يكره عندهم وضع قدم على أخرى لأنّه من العبث ، ويكره أيضا إقرانهما .
ونصّ الحنابلة على كراهة كثرة المراوحة بين القدمين ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قام أحدكم في صلاته فليسكن أطرافه ، ولا يتميّل كما يتميّل اليهود » .
قال في شرح المنتهى : وهو محمول على ما إذا لم يطل قيامه ، أمّا قلّة المراوحة فتستحبّ عندهم ولا تكره . لما روى الأثرم عن أبي عبادة قال : « رأى عبد اللّه رجلاً يصلّي صافّاً بين قدميه فقال : لو راوح هذا بين قدميه كان أفضل » ، وفي رواية : « أخطأ السّنّة ، ولو راوح بينهما كان أعجب » .
98 - اتّفق الفقهاء على كراهة الإقعاء في جلسات الصّلاة . انظر مصطلح : ( إقعاء ) .
99 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الالتفات في الصّلاة ، لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصّلاة ؟ فقال : هو اختلاس يختلسه الشّيطان من صلاة العبد » .
والكراهة مقيّدة بعدم الحاجة أو العذر ، أمّا إن كانت هناك حاجة : كخوف على نفسه أو ماله لم يكره ، لحديث سهل بن الحنظليّة قال : « ثُوّب بالصّلاة يعني صلاة الصّبح فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي وهو يلتفت إلى الشّعب . قال : وكان أرسل فارساً إلى الشّعب يحرس » .
وعليه يحمل ما روى ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - : « كان صلى الله عليه وسلم يلتفت في صلاته يميناً وشمالاً ، ولا يلوي عنقه خلف ظهره » .
وهناك تفصيل في المذاهب نذكره فيما يلي :
قال الحنفيّة : الالتفاف بالوجه كلّه أو بعضه مكروه تحريماً ، وبالبصر - أي من غير تحويل الوجه أصلاً - مكروه تنزيهاً . وعن الزّيلعيّ والباقانيّ : أنّه مباح ، « لأنّه صلى الله عليه وسلم كان يلاحظ أصحابه في صلاته بموق عينيه » ، أمّا الالتفات بالصّدر فإنّه مفسد للصّلاة وسيأتي .
وعند المالكيّة : الالتفات مكروه في جميع صوره ، ولو بجميع جسده ، ولا يبطل الصّلاة ما بقيت رجلاه للقبلة ، وبعضه أخفّ بالكراهة من بعض ، فالالتفات بالخدّ أخفّ من ليّ العنق ، وليّ العنق أخفّ من ليّ الصّدر ، والصّدر أخفّ من ليّ البدن كلّه ، وقريب من هذا مذهب الحنابلة حيث صرّحوا بعدم بطلان الصّلاة لو التفت بصدره ووجهه ، وذلك لأنّه لم يستدر بجملته .
وقال المتولّي من الشّافعيّة : بحرمة الالتفات بالوجه ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا يزال اللّه عزّ وجلّ مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت . فإذا التفت انصرف عنه » .
قال الأذرعيّ : والمختار : أنّه إن تعمّد مع علمه بالخبر حرم ، بل تبطل إن فعله لعباً .
وقد صرّح الشّافعيّة بجواز اللّمح بالعين دون الالتفات فإنّه لا بأس به ، لحديث عليّ بن شيبان قال :« خرجنا حتّى قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلّينا خلفه. فلمح بمؤخّر عينه رجلاً لا يقيم صلاته - يعني صلبه - في الرّكوع والسّجود ، فلمّا قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الرّكوع والسّجود » .
أمّا إن حوّل صدره عن القبلة فإنّه تبطل صلاته .
100 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الصّلاة مع مدافعة الأخبثين ، لما روت عائشة - رضي الله تعالى عنها - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة طعام ، ولا هو يدافع الأخبثين » . ويسمّى مدافع البول حاقناً ، ومدافع الغائط حاقباً .
وألحق الشّافعيّة والحنابلة بذلك من تاقت نفسه إلى طعام أو شراب ، لأنّه في معناه . قالوا : فيبدأ بالخلاء ليزيل ما يدافعه من بول أو غائط أو ريح ، ويبدأ - أيضاً - بما تاق إليه من طعام أو شراب ، ولو فاتته الجماعة ، لما روى البخاريّ : كان ابن عمر يوضع له الطّعام ، وتقام الصّلاة ، فلا يأتيها حتّى يفرغ ، وإنّه ليسمع قراءة الإمام .
إلاّ إذا ضاق الوقت فلا تكره الصّلاة على هذه الحال ، بل يجب فعلها قبل خروج وقتها في جميع الأحوال .
وصرّح الحنفيّة بأنّ الكراهة ليست مختصّةً بالابتداء ، بل تكره صلاة الحاقن مطلقاً ، سواء كان قبل شروعه أو بعده . قالوا : فإن شغله قطعها إن لم يخف فوت الوقت ، وإن أتمّها أثم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لرجل يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يصلّي وهو حقن حتّى يتخفّف » .
ويقطعها - أيضاً - ولو خشي فوت الجماعة ، ولا يجد جماعةً أخرى ، لأنّ ترك سنّة الجماعة أولى من الإتيان بالكراهة .
وصرّح المالكيّة : بأنّه إذا وصل الحقن إلى حدّ لا يقدر معه الإتيان بالفرض أصلاً ، أو يأتي به معه لكن بمشقّة ، فإنّه يبطل الصّلاة .
قال العدويّ : أو أتى به على حالة غير مرضيّة ، بأن يضمّ وركيه أو فخذيه ، ومحلّ البطلان إذا دام ذلك الحقن ، وأمّا إن حصل ثمّ زال فلا إعادة . ( ر : حاقن ) .(/22)
101 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى كراهة السّجود على كور العمامة من حيث الجملة . وقيّدوا الكراهة بما إذا كان السّجود على كور العمامة بدون عذر من حرّ أو برد أو مرض . قال البهوتيّ : ليخرج من الخلاف ويأتي بالعزيمة . ودليل ذلك ما روى أنس - رضي الله تعالى عنه - قال : « كنّا نصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه » . والكراهة عند الحنفيّة تنزيهيّة ، وشرط الحنفيّة لصحّة السّجود على المكوّر كون الكور الّذي يسجد عليه على الجبهة أو بعضها ، أمّا إذا كان على الرّأس - فقط - وسجد عليه ولم تصب جبهته الأرض فإنّه لا يصحّ سجوده ، لعدم السّجود على محلّه .
وقال المالكيّة : إذا كان كور العمامة فوق الجبهة ومنعت لصوق الجبهة بالأرض فباطلة ، وإن كان الكور أكثر من الطّاقتين أعاد في الوقت .
وألحق المالكيّة والحنابلة بكور العمامة كلّ ما اتّصل بالمصلّي من غير أعضاء السّجود كطرف كمّه وملبوسه .
وعند الحنفيّة يجوز السّجود على كمّه وفاضل ثوبه لو كان المكان المبسوط عليه ذلك طاهراً، وإلاّ لا .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن حال دون الجبهة حائل متّصل به ككور عمامته ، أو طرف كمّه ، وهما يتحرّكان بحركته في القيام والقعود ، أو غيرهما لم تصحّ صلاته بلا خلاف عندهم ، لما روى خبّاب بن الأرتّ - رضي الله تعالى عنه - قال : « شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حرّ الرّمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا » ، وفي رواية قال : « فما أشكانا ، وقال : إذا زالت الشّمس فصلّوا » . وإن سجد على ذيله أو كمّه أو طرف عمامته ، وهو طويل لا يتحرّك بحركته فوجهان : الصّحيح أنّه تصحّ صلاته ، لأنّ هذا الطّرف في معنى المنفصل ، والثّاني : لا تصحّ به كما لو كان على ذلك الطّرف نجاسة ، فإنّه لا تصحّ صلاته وإن كان لا يتحرّك بحركته ، ثمّ إنّه إن سجد على كور عمامته أو كمّه ونحوهما متعمّداً عالماً بالتّحريم بطلت صلاته ، وإن كان ساهياً لم تبطل ، لكن يجب إعادة السّجود .
وهناك مكروهات كثيرة للسّجود تنظر في مصطلح : ( سجود ) .
102 - واتّفق الفقهاء على أنّه يكره للمصلّي أن يصلّي مستقبلاً لرجل أو امرأة . قال البخاريّ في صحيحه : كره عثمان - رضي الله تعالى عنه - أن يستقبل الرّجل وهو يصلّي . وحكاه القاضي عياض عن عامّة العلماء ، وروى البزّار عن عليّ - رضي الله تعالى عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي إلى رجل فأمره أن يعيد الصّلاة » .
قال ابن عابدين : والظّاهر أنّها كراهة تحريميّة ، ويكون الأمر بالإعادة لإزالة الكراهة ، لأنّه الحكم في كلّ صلاة أدّيت مع الكراهة وليس للفساد .
وعن أبي يوسف قال : إن كان جاهلاً علّمته ، وإن كان عالماً أدّبته .
كما صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة الصّلاة إلى متحدّث ، لأنّه يشغله عن حضور قلبه في الصّلاة ، لكن الحنفيّة قيّدوا الكراهة بما إذا خيف الغلط بحديثه .
وزاد الحنابلة : النّائم ، فتكره الصّلاة إليه لحديث ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تصلّوا خلف النّائم ولا المتحدّث » .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى عدم الكراهة لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي وأنا راقدة معترضة على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت » . وهو يقتضي أنّها كانت نائمةً .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا تكره الصّلاة إلى ظهر إنسان ، واستثنى الحنابلة من ذلك الكافر .
وفصّل المالكيّة فقالوا : إن كانت امرأةً أجنبيّةً أو كافراً فالكراهة ، وإن كان رجلاً غير كافر جاز من غير كراهة ، وإن كانت امرأةً محرماً فقولان : والرّاجح الجواز .
103 - وصرّح المالكيّة والحنابلة بكراهة استقبال شيء من النّار في الصّلاة - ولو سراجاً أو قنديلاً أو شمعةً موقدةً - لأنّ فيه تشبيهاً بعبدة النّار .
وذهب الحنفيّة إلى عدم كراهة استقبال هذه الأشياء ، قالوا : لأنّ المجوس تعبد الجمر لا النّار الموقدة ، ولذا قالوا بكراهة الصّلاة إلى تنّور أو كانون فيه جمر .
104 - كما يكره أن يكتب في القبلة شيء ، أو يعلّق فيها شيء ، لأنّه يشغل المصلّي . ويكره - أيضاً - تزويق المسجد .
قال الإمام أحمد : كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئاً ، قال البهوتيّ : حتّى المصحف .
قال المالكيّة : يكره أن يتعمّد جعل المصحف في قبلته ليصلّي إليه ، أمّا إذا كان هذا مكانه الّذي يعلّق فيه فإنّه لا يكره .
الأماكن الّتي تكره الصّلاة فيها :
105 - اختلف الفقهاء في الأماكن الّتي تكره الصّلاة فيها ، وإليك تفصيل أقوالهم :
ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى كراهة الصّلاة في الطّريق ، والحمّام ، والمزبلة ، والمجزرة ، والكنيسة ، وعطن الإبل ، والمقبرة ، لما روى ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : نهى أن يصلّى في سبعة مواطن : في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطّريق وفي الحمّام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت اللّه » .
قال الخطيب الشّربينيّ : قارعة الطّريق هي أعلاه ، وقيل : صدره ، وقيل : ما برز منه ، والكلّ متقارب ، والمراد هنا نفس الطّريق ، والعلّة في النّهي عن الصّلاة في قارعة الطّريق هي لشغله حقّ العامّة ، ومنعهم من المرور ، ولشغل البال عن الخشوع فيشتغل بالخلق عن الحقّ . قال الخطيب الشّربينيّ : المعتمد أنّ الكراهة في البنيان دون البرّيّة .(/23)
وتكره الصّلاة - أيضاً - في معاطن الإبل ولو طاهرةً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّوا في مرابض الغنم ولا تصلّوا في أعطان الإبل » . والمراد بالمعاطن - هنا - مباركها مطلقاً . قال الخطيب الشّربينيّ : ولا تختصّ الكراهة بالعطن ، بل مأواها ومقيلها ومباركها ، بل مواضعها كلّها كذلك .
ولا تكره الصّلاة في مرابض الغنم للحديث المتقدّم ، « وسئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في مرابض الغنم ، فقال : صلّوا فيها فإنّها خلقت بركةً » . وألحقوا مرابض البقر بمرابض الغنم فلا تكره الصّلاة فيها ، قال الخطيب الشّربينيّ : ومعلوم أنّ أماكن المواشي مطلقاً إن تنجّست لم تصحّ الصّلاة فيها بلا حائل ، وتصحّ بالحائل مع الكراهة .
ووافق المالكيّة الحنفيّة والشّافعيّة في حكم الصّلاة في الكنيسة ومعطن الإبل ، فكرهوا الصّلاة فيهما . وألحقوا بالكنيسة كلّ متعبّد للكفّار كالبيعة وبيت النّار ، وخصّوا كراهة الصّلاة في الكنيسة بما إذا دخلها مختاراً سواء كانت عامرةً أم دارسةً ، أمّا إن دخلها مضطرّاً فلا كراهة، عامرةً كانت أم دارسةً . وقالوا بإعادة الصّلاة في الوقت إذا نزلها باختياره وصلّى على أرضها أو على فرشها .
وتكره الصّلاة في معطن الإبل ولو مع أمن النّجاسة . وعندهم في إعادة الصّلاة قولان : قول يعيد في الوقت مطلقاً عامداً كان أو جاهلاً أو ناسياً ، وقول يعيد النّاسي في الوقت ، والعامد والجاهل بالحكم أبداً ندباً .
وأجازوا الصّلاة بلا كراهة بمربض الغنم والبقر من غير فرش يصلّى عليه ، وبالمقبرة بلا حائل ولو على القبر ، ولو لمشرك ، وسواء كانت المقبرة عامرةً أم دارسةً منبوشةً ، وبالمزبلة والمجزرة والحال أنّه لم يصلّ على الزّبل أو الدّم ، بل في محلّ لا زبل فيه ، أو لا دم فيه من غير أن يفرش شيئاً طاهراً يصلّي عليه . وبالمحجّة " وسط الطّريق " وبقارعة الطّريق " جانبه " .
وقيّدوا جواز الصّلاة في المقبرة والمزبلة والمجزرة والمحجّة بأمن النّجاسة .
أمّا مربض البقر والغنم فدائماً مأمون النّجاسة ، لأنّ بولها ورجيعها طاهران .
ثمّ إنّه متى أمنت هذه الأماكن من النّجس - بأن جزم أو ظنّ طهارتها - كانت الصّلاة جائزةً ولا إعادة أصلاً وإن تحقّقت نجاستها أو ظنّت فلا تجوز الصّلاة فيها ، وإذا صلّى أعاد أبداً .
وإن شكّ في نجاستها وطهارتها أعاد في الوقت على الرّاجح ، بناءً على ترجيح الأصل على الغالب ، وهو قول مالك . وقال ابن حبيب : يعيد أبداً إن كان عامداً أو جاهلاً ترجيحاً للغالب على الأصل . وهذا في غير محجّة الطّريق إذا صلّى فيها لضيق المسجد ، فإنّ الصّلاة فيها حينئذ جائزة . ولا إعادة مع الشّكّ في الطّهارة وعدمها .
وخالف الحنابلة في كلّ ذلك فقالوا بعدم صحّة الصّلاة في المقبرة مطلقاً ، لحديث جندب مرفوعاً : « لا تتّخذوا القبور مساجد ، فإنّي أنهاكم عن ذلك » . والمقبرة ثلاثة قبور فصاعداً، فلا يعتبر قبر ولا قبران مقبرة .
ولا تصحّ الصّلاة في الحمّام ، داخله وخارجه وأتونه " موقد النّار " وكلّ ما يغلق عليه الباب ويدخل في البيع ، لشمول الاسم لذلك كلّه ، لحديث أبي سعيد مرفوعاً : « الأرض كلّها مسجد إلاّ الحمّام والمقبرة » . ومثله الحشّ - وهو ما أعدّ لقضاء الحاجة - ولو مع طهارته من النّجاسة .
ولا تصحّ الصّلاة عندهم في أعطان الإبل - وهي ما تقيم فيه وتأوي إليه - ، لما روى البراء بن عازب أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « صلّوا في مرابض الغنم ولا تصلّوا في مبارك الإبل » ولا تدخل في النّهي المواضع الّتي تناخ فيها الإبل لعلفها ، أو ورودها الماء ، ومواضع نزولها في سيرها ، لعدم تناول اسم الأعطان لها .
ولا تصحّ الصّلاة - أيضاً - في المجزرة والمزبلة وقارعة الطّريق ، سواء كان فيه سالك أو لا ، لحديث ابن عمر المتقدّم .
ونصّ أحمد على جواز الصّلاة بلا كراهة بطريق البيوت القليلة ، وبما علا عن جادّة الطّريق يمنةً ويسرةً .
قال البهوتيّ : فتصحّ الصّلاة فيه بلا كراهة ، لأنّه ليس بمحجّة ، وصرّحوا بأنّ كلّ مكان لا تصحّ الصّلاة فيه ، فكذا لا تصحّ على سطحه ، لأنّ الهواء تابع للقرار ، دليل أنّ الجنب يمنع من اللّبث على سطح المسجد ، وأنّ من حلف لا يدخل داراً يحنث بدخول سطحها .
ويستثنى من ذلك وجود عذر : كأن حبس بحمّام ، أو حشّ فإنّه يصلّي في تلك الأماكن من غير إعادة ، وانفرد الحنابلة بعدم صحّة الصّلاة في الأرض المغصوبة ، لأنّها عبادة أتي بها على الوجه المنهيّ عنه ، فلم تصحّ ، كصلاة الحائض .
106 - وصرّح فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة التّثاؤب في الصّلاة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يحبّ العطاس ، ويكره التّثاوب .. ، فإذا تثاءب أحدكم فليردّه ما استطاع ، فإنّ أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشّيطان » . وفي رواية : « فليمسك بيده على فمه فإنّ الشّيطان يدخل » . ولأنّه من التّكاسل والامتلاء .
قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : فإن غلبه فليكظم ما استطاع ولو بأخذ شفته بسنّه ، وبوضع يده أو كمّه على فمه .
ويكره - أيضاً - عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وضع شيء في فمه لا يمنعه من القراءة ; لأنّه يشغل باله ، وصرّح الحنفيّة بأن يكون هذا الشّيء لا يذوب ، فإن كان يذوب كالسّكّر يكون في فيه ، فإنّه تفسد صلاته إذا ابتلع ذوبه .(/24)
ويكره - كذلك - عند الشّافعيّة والحنابلة النّفخ . هذا إذا لم يظهر به حرفان ، فإن ظهر به حرفان بطلت الصّلاة . قالوا : لأنّه عبث ، كما صرّحوا بكراهة البصق في الصّلاة قبل وجهه أو عن يمينه ، لحديث أنس : « إذا كان أحدكم في الصّلاة فإنّه يناجي ربّه فلا يبزقنّ بين يديه ، ولا عن يمينه ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى » .
وصرّح الحنفيّة بأنّه يكره في الصّلاة شمّ طيب قصداً ، كأن يدلّك موضع سجوده بطيب ، أو يضع ذا رائحة طيّبة عند أنفه في موضع سجوده ليستنشقه ، لأنّه ليس من فعل الصّلاة ، أمّا لو دخلت الرّائحة أنفه بغير قصد فلا كراهة . قال الطّحطاويّ : أمّا إذا أمسكه بيده وشمّه فالظّاهر الفساد ، لأنّ من رآه يجزم أنّه في غير الصّلاة ، وأفاد بعض شرّاح المنية : أنّها لا تفسد بذلك أي : إذا لم يكن العمل كثيراً .
مبطلات الصّلاة :
أ - الكلام :
107 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّلاة تبطل بالكلام ، لما روى زيد بن أرقم - رضي الله تعالى عنه - قال : « كنّا نتكلّم في الصّلاة ، يكلّم الرّجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصّلاة حتّى نزلت { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسّكوت ونهينا عن الكلام » .
وعن معاوية بن الحكم السُّلميّ - رضي الله تعالى عنه - قال : « بينا أنا أصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك اللّه . فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت: واثكل أُمِّياه ما شأنكم تنظرون إليّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلمّا رأيتهم يصمّتونني لكنّي سكتّ ، فلمّا صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه . فواللّه ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس إنّما هو التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » .
وذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ الكلام المبطل للصّلاة ما انتظم منه حرفان فصاعداً ، لأنّ الحرفين يكونان كلمةً كأب وأخ ، وكذلك الأفعال والحروف ، ولا تنتظم كلمة في أقلّ من حرفين ، قال الخطيب الشّربينيّ : الحرفان من جنس الكلام ، لأنّ أقلّ ما يبنى عليه الكلام حرفان للابتداء والوقف ، أو حرف مفهم نحو " ق " من الوقاية ، و " ع " من الوعي و " ف " من الوفاء ، وزاد الشّافعيّة مدّةً بعد حرف وإن لم يفهم نحو " آ " لأنّ الممدود في الحقيقة حرفان وهذا على الأصحّ عندهم . ومقابل الأصحّ أنّها لا تبطل ، لأنّ المدّة قد تتّفق لإشباع الحركة ولا تعدّ حرفاً .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الكلام المبطل للصّلاة هو حرف أو صوت ساذج ، سواء صدر من المصلّي بالاختيار أم بالإكراه ، وسواء وجب عليه هذا الصّوت كإنقاذ أعمى أو لم يجب ، واستثنوا من ذلك الكلام لإصلاح الصّلاة فلا تبطل به إلاّ إذا كان كثيراً ، وكذا استثنوا الكلام حالة السّهو إذا كان كثيراً فإنّه تبطل به الصّلاة أيضاً .
ولم يفرّق الحنفيّة ببطلان الصّلاة بالكلام بين أن يكون المصلّي ناسياً أو نائماً أو جاهلاً ، أو مخطئاً أو مُكرهاً ، فتبطل الصّلاة بكلام هؤلاء جميعاً . قالوا : وأمّا حديث : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » . فمحمول على رفع الإثم .
واستثنوا من ذلك السّلام ساهياً للتّحليل قبل إتمامها على ظنّ إكمالها فلا يفسد ، وأمّا إن كان عمداً فإنّه مفسد . وكذا نصّوا على بطلان الصّلاة بالسّلام على إنسان للتّحيّة ، وإن لم يقل : عليكم ، ولو كان ساهياً . وبردّ السّلام بلسانه أيضاً .
وذهب الشّافعيّة إلى عدم بطلان الصّلاة بكلام النّاسي ، والجاهل بالتّحريم إن قرب عهده بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء ، ومن سبق لسانه ،إن كان الكلام يسيراً عرفاً ، فيعذر به، واستدلّوا للنّاسي بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الظّهر أو العصر فسلّم من ركعتين ، ثمّ أتى خشبة المسجد واتّكأ عليها كأنّه غضبان ، فقال له ذو اليدين : أقصرت الصّلاة أم نسيت يا رسول اللّه ؟ فقال لأصحابه : أحقّ ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم . فصلّى ركعتين أخريين ثمّ سجد سجدتين
» .
ووجه الدّلالة : أنّه تكلّم معتقداً أنّه ليس في الصّلاة ، وهم تكلّموا مجوّزين النّسخ ثمّ بنى هو وهم عليها . ولا يعذر في كثير الكلام ، لأنّه يقطع نظم الصّلاة وهيئتها ، والقليل يحتمل لقلّته ولأنّ السّبق والنّسيان في كثير نادر .
قال الخطيب الشّربينيّ : ومرجع القليل والكثير إلى العرف على الأصحّ . وأمّا المكره على الكلام فإنّه تبطل صلاته على الأظهر ولو كان كلامه يسيراً ، ومقابل الأظهر لا تبطل كالنّاسي. وأمّا إن كان كلامه كثيراً فتبطل به جزماً .
وذهب الحنابلة إلى بطلان الصّلاة بكلام السّاهي والمكره ، وبالكلام لمصلحة الصّلاة ، والكلام لتحذير نحو ضرير . ولا تبطل عندهم بكلام النّائم إذا كان النّوم يسيراً ، فإذا نام المصلّي قائماً أو جالساً ، فتكلّم فلا تبطل صلاته ، وكذا إذا سبق الكلام على لسانه حال القراءة فلا تبطل صلاته ، لأنّه مغلوب عليه فأشبه ما لو غلط في القراءة فأتى بكلمة من غيره .
وقال ابن قدامة : إن تكلّم ظانّاً أنّ صلاته تمّت ،فإن كان سلاماً لم تبطل الصّلاة رواية واحدة، أمّا إن تكلّم بشيء ممّا تكمل به الصّلاة أو شيء من شأن الصّلاة مثل كلام النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذا اليدين لم تفسد صلاته .
ب - الخطاب بنظم القرآن والذّكر :(/25)
108 - اختلف الفقهاء في بطلان صلاة من خاطب أحداً بشيء من القرآن وهو يصلّي ، كقوله لمن اسمه يحيى أو موسى : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أو { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ، أو لمن بالباب { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } . فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى بطلان الصّلاة بكلّ ما قصد به الخطاب من القرآن ، قال ابن عابدين : والظّاهر أنّها تفسد وإن لم يكن المخاطب مسمّىً بهذا الاسم إذا قصد خطابه .
وقيّد المالكيّة بطلان الصّلاة بالخطاب بالقرآن بما إن قصد به التّفهيم بغير محلّه . وذلك كما لو كان في الفاتحة أو غيرها فاستؤذن عليه فقطعها إلى آية { ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ } ، أمّا إن قصد التّفهيم به بمحلّه فلا تبطل به الصّلاة كأن يستأذن عليه شخص وهو يقرأ { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } فيرفع صوته بقوله : { ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ } لقصد الإذن في الدّخول ، أو يبتدئ ذلك بعد الفراغ من الفاتحة .
وقيّد الشّافعيّة بطلان الصّلاة بالخطاب بالقرآن بما إذا قصد التّفهيم فقط ، أو لم يقصد شيئاً ، لأنّه فيهما يشبه كلام الآدميّين فلا يكون قرآناً إلاّ بالقصد ، وأمّا إن قصد مع التّفهيم القراءة لم تبطل الصّلاة ، لأنّه قرآن فصار كما لو قصد القرآن وحده ، ولأنّ عليّاً - رضي الله تعالى عنه - كان يصلّي فدخل رجل من الخوارج فقال : لا حكم إلاّ للّه ولرسوله ، فتلا عليّ { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } .
قال الخطيب الشّربينيّ : وهذا التّفصيل يجري في الفتح على الإمام بالقرآن ، والجهر بالتّكبير أو التّسميع ، فإنّه إن قصد الرّدّ مع القراءة أو القراءة - فقط - أو قصد التّكبير أو التّسميع - فقط - مع الإعلام لم تبطل وإلاّ بطلت ، وإن كان في كلام بعض المتأخّرين ما يوهم خلاف ذلك .
وذهب الحنابلة إلى صحّة صلاة من خاطب بشيء من القرآن ، لما روى الخلّال عن عطاء بن السّائب قال : استأذنّا على عبد الرّحمن بن أبي ليلى وهو يصلّي فقال { ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } فقلنا : كيف صنعت ؟ قال : استأذنّا على عبد اللّه بن مسعود وهو يصلّي فقال : { ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ } ، ولأنّه قرآن فلم تفسد به الصّلاة ، كما لو لم يقصد التّنبيه . وقال القاضي : إذا قصد بالحمد الذّكر أو القرآن لم تبطل ، وإن قصد خطاب آدميّ بطلت ، وإن قصدهما فوجهان ، فأمّا إن أتى بما لا يتميّز به القرآن من غيره كقوله لرجل اسمه إبراهيم : يا إبراهيم ونحوه فسدت صلاته ، لأنّ هذا كلام النّاس ، ولم يتميّز عن كلامهم بما يتميّز به القرآن ، أشبه ما لو جمع بين كلمات مفرّقة من القرآن فقال : يا إبراهيم خذ الكتاب الكبير .
كما ذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى بطلان الصّلاة بكلّ ما قصد به الجواب من الذّكر والثّناء خلافاً لأبي يوسف ، كأن قيل : أمع اللّه إله ؟ فقال : لا إله إلاّ اللّه . أو ما مالك ؟ فقال : الخيل والبغال والحمير ، وأمّا إن كان الجواب بما ليس بثناء فإنّها تفسد اتّفاقاً ، كأن قيل : ما مالك ؟ فقال : الإبل والبقر والعبيد مثلاً ، لأنّه ليس بثناء ، ومثله ما لو أخبر بخبر سوء فاسترجع وهو في الصّلاة فإنّها تفسد عند أبي حنيفة ومحمّد خلافاً لأبي يوسف ، قال ابن عابدين : لأنّ الأصل عنده أنّ ما كان ثناءً أو قرآنًا لا يتغيّر بالنّيّة ، وعندهما يتغيّر ، وذكر في البحر : أنّه لو أخبر بخبر يسرّه فقال : الحمد للّه فهو على الخلاف ، وصرّحوا بأنّ تشميت العاطس في الصّلاة لغيره يفسد الصّلاة . فلو عطس شخص فقال له المصلّي : يرحمك اللّه فسدت صلاته ، لأنّه يجري في مخاطبات النّاس فكان من كلامهم ، بخلاف ما إذا قال العاطس أو السّامع : الحمد للّه فإنّه لا تفسد صلاته ، لأنّه لم يتعارف جواباً إلاّ إذا أراد التّعليم فإنّ صلاته تفسد ، وأمّا إذا عطس فشمّت نفسه فقال : يرحمك اللّه يا نفسي لا تفسد صلاته ، لأنّه لمّا لم يكن خطاباً لغيره لم يعتبر من كلام النّاس كما إذا قال : يرحمني اللّه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تبطل الصّلاة بالذّكر والدّعاء إلاّ أن يخاطب كقوله لعاطس : يرحمك اللّه ويستثنى من ذلك الخطاب للّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلا تبطل به الصّلاة . وأمّا إذا كان الذّكر لا خطاب فيه فلا تبطل به الصّلاة ، كما لو عطس فقال: الحمد للّه . أو سمع ما يغمّه فقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، أو رأى ما يعجبه فقال : سبحان اللّه ، أو قيل له : ولد لك غلام فقال : الحمد للّه .
وصرّح الحنابلة بكراهة ذلك ، للاختلاف في إبطاله الصّلاة .
وذهب المالكيّة إلى جواز الحمد للعاطس ، والاسترجاع من مصيبة أخبر بها ونحوه إلاّ أنّه يندب تركه كما صرّحوا بجواز التّسبيح والتّهليل والحوقلة بقصد التّفهيم في أيّ محلّ من الصّلاة ، لأنّ الصّلاة كلّها محلّ لذلك .
ج - التّأوّه والأنين والتّأفيف والبكاء والنّفخ والتّنحنح :
109 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ الأنين " وهو قول : أه بالقصر " والتّأوّه " وهو قول: آه بالمدّ " والبكاء ونحوه إن ظهر به حرفان بطلت الصّلاة .
واستثنى الحنفيّة المريض الّذي لا يملك نفسه فلا تبطل صلاته بالأنين والتّأوّه والتّأفيف والبكاء ، وإن حصل حروف للضّرورة .
قال أبو يوسف : إن كان الأنين من وجع ، ممّا يمكن الامتناع عنه يقطع الصّلاة ، وإن كان ممّا لا يمكن لا يقطع ، وعن محمّد إن كان المرض خفيفاً يقطع ، وإلاّ فلا ، لأنّه لا يمكنه القعود إلاّ بالأنين .(/26)
قال ابن عابدين : لكن ينبغي تقييده بما إذا لم يتكلّف إخراج حروف زائدة ، كما استثنى الحنفيّة البكاء من خوف الآخرة وذكر الجنّة والنّار فإنّه لا تفسد به الصّلاة ، لدلالته على الخشوع . فلو أعجبته قراءة الإمام فجعل يبكي ويقول : بلى أو نعم لا تفسد صلاته ، قال ابن عابدين نقلاً عن الكافي : لأنّ الأنين ونحوه إذا كان بذكرهما صار كأنّه قال : اللّهمّ إنّي أسألك الجنّة وأعوذ بك من النّار ، ولو صرّح به لا تفسد صلاته ، وإن كان من وجع أو مصيبة صار كأنّه يقول : أنا مصاب فعزّوني ولو صرّح به تفسد .
ولم يفرّق الشّافعيّة بين أن يكون البكاء من خوف الآخرة أم لا في بطلان الصّلاة .
وذهب المالكيّة إلى جواز الأنين لأجل وجع غلبه ، والبكاء لأجل الخشوع ، سواء كان قليلاً أو كثيراً ، فإن لم يكن الأنين والبكاء من غلبة فيفرّق بين عمده وسهوه ، قليله وكثيره ، فالعمد مبطل مطلقاً قلّ أو كثر ، والسّهو يبطل إن كان كثيراً ويسجد له إن قلّ .
قال الدّردير : وهذا في البكاء الممدود وهو ما كان بصوت ، وأمّا المقصور ، وهو ما كان بلا صوت فلا يضرّ ولو اختياراً ما لم يكثر .
ومثل المالكيّة مذهب الحنابلة فصرّحوا بعدم بطلان الصّلاة بالبكاء خشيةً من اللّه تعالى ، لكونه غير داخل في وسعه ، ومثله ما لو غلبه نحو سعال وعطاس وتثاؤب وبكاء ، ولو بان منه حرفان ، قال مهنّا : صلّيت إلى جنب أبي عبد اللّه فتثاءب خمس مرّات وسمعت لتثاؤبه: هاه ، هاه . وذلك لأنّه لا ينسب إليه ولا يتعلّق به حكم من أحكام الكلام . تقول : تثاءبت ، على تفاعلت ، ولا تقل : تثاوبت ، إلاّ أنّه يكره استدعاء بكاء وضحك لئلاّ يظهر حرفان فتبطل صلاته .
110 - وذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التّنحنح " هو أن يقول أح بالفتح والضّمّ " لغير عذر مبطل للصّلاة إن ظهر حرفان ، فإن كان لعذر نشأ من طبعه ، أو غلبه فلا تفسد صلاته . قال الحنفيّة : ومثله ما لو فعله لغرض صحيح ، كتحسين الصّوت ، لأنّه يفعله لإصلاح القراءة ، ومن الغرض الصّحيح ما لو فعله ليهتدي إمامه إلى الصّواب ، أو للإعلام أنّه في الصّلاة ، قال ابن عابدين : والقياس الفساد في الكلّ إلاّ في المدفوع إليه كما هو قول أبي حنيفة ومحمّد ، لأنّه كلام ، والكلام مفسد على كلّ حال ، وكأنّهم عدلوا بذلك عن القياس وصحّحوا عدم الفساد به إذا كان لغرض صحيح لوجود نصّ، ولعلّه ما في الحلية من سنن ابن ماجه عن عليّ - رضي الله تعالى عنه - قال : « كان لي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مدخلان : مدخل باللّيل ومدخل بالنّهار ، فكنت إذا أتيته وهو يصلّي يتنحنح لي » .
وبمثل هذا صرّح الحنابلة فأجازوا النّحنحة لحاجة ولو بان حرفان . قال المرّوذيّ : كنت آتي أبا عبد اللّه فيتنحنح في صلاته لأعلم أنّه يصلّي .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إنّما يعذر من التّنحنح وغيره : كالسّعال والعطاس اليسير عرفاً للغلبة ، وإن ظهر به حرفان لعدم التّقصير ، وكذا التّنحنح لتعذّر القراءة الواجبة وغيرها من الأركان القوليّة للضّرورة ، أمّا إذا كثر التّنحنح ونحوه للغلبة كأن ظهر منه حرفان من ذلك وكثر فإنّ صلاته تبطل ، وصوّب الإسنويّ عدم البطلان في التّنحنح والسّعال والعطاس للغلبة وإن كثرت إذ لا يمكن الاحتراز عنها .
قال الخطيب الشّربينيّ : وينبغي أن يكون محلّ الأوّل ما إذا لم يصر السّعال ونحوه مرضاً ملازماً له ،أمّا إذا صار السّعال ونحوه كذلك فإنّه لا يضرّ كمن به سلس بول ونحوه بل أولى. ولا يعذر لو تنحنح للجهر وإن كان يسيراً ، لأنّ الجهر سنّة ، لا ضرورة إلى التّنحنح له . وفي معنى الجهر سائر السّنن .
قال الخطيب الشّربينيّ : لو جهل بطلانها بالتّنحنح مع علمه بتحريم الكلام فمعذور لخفاء حكمه على العوّام .
وذهب المالكيّة إلى أنّ التّنحنح لحاجة لا يبطل الصّلاة ، ولا سجود فيه من غير خلاف ، وأمّا التّنحنح لغير حاجة ، بل عبثاً ففيه خلاف ، والصّحيح أنّه لا تبطل به الصّلاة - أيضاً - ولا سجود فيه ، وهو أحد قولي مالك وأخذ به ابن القاسم واختاره الأبهريّ واللّخميّ وخليل . والقول الثّاني لمالك : أنّه كالكلام ، فيفرّق بين العمد والسّهو . وفسّر ابن عاشر الحاجة بضرورة الطّبع ، وقيّدوا عدم بطلان الصّلاة بالتّنحنح لغير الحاجة بما إذا قلّ وإلاّ أبطل ، لأنّه فعل كثير من غير جنس الصّلاة .
111 - وصرّح المالكيّة ببطلان الصّلاة بتعمّد النّفخ بالفم وإن لم يظهر منه حرف . قال الدّسوقيّ : وسواء كان كثيراً أو قليلاً ، ظهر معه حرف أم لا ، لأنّه كالكلام في الصّلاة . وهذا هو المشهور . وقيل : إنّه لا يبطل مطلقاً . وقيل : إن ظهر منه حرف أبطل وإلاّ فلا . أمّا النّفخ بالأنف فلا تبطل به الصّلاة ما لم يكثر أو يقصد عبثاً .
قال الدّسوقيّ : فإن كان عبثاً جرى على الأفعال الكثيرة ، لأنّه فعل من غير جنس الصّلاة .
وقيّد الحنابلة بطلان الصّلاة بالنّفخ فيما إذا بان حرفان لقول ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - " من نفخ في صلاته فقد تكلّم وروي نحوه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
د - الضّحك :
112 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى بطلان الصّلاة بالضّحك إن كان قهقهةً ، ولو لم تَبِن حروف ، لما روى جابر - رضي الله تعالى عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « القهقهة تنقض الصّلاة ولا تنقض الوضوء » ولأنّه تعمّد فيها ما ينافيها ، أشبه خطاب الآدميّ .(/27)
قال المالكيّة : وسواء قلّت أم كثرت ، وسواء وقعت عمداً أم نسياناً - لكونه في الصّلاة - أو غلبةً ، كأن يتعمّد النّظر في صلاته أو الاستماع لما يضحك فيغلبه الضّحك فيها .
قال الحنفيّة : والقهقهة اصطلاحاً : ما يكون مسموعاً له ولجيرانه بدت أسنانه أو لا ، وإن عري عن ظهور القاف والهاء أو أحدهما ، كما صرّحوا ببطلان الصّلاة بالضّحك دون قهقهة، وهو ما كان مسموعاً له فقط .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن ظهر بالضّحك حرفان بطلت الصّلاة وإلاّ فلا ، وأمّا التّبسّم فلا تبطل الصّلاة به « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تبسّم فيها فلمّا سلّم قال : مرّ بي ميكائيل فضحك لي فتبسّمت له » .
هـ - الأكل والشّرب :
113 - اتّفق الفقهاء على بطلان الصّلاة بالأكل والشّرب من حيث الجملة .
قال الحنفيّة : ولو سمسمةً ناسياً . واستثنوا من ذلك ما كان بين أسنانه وكان دون الحمّصة فإنّه لا تفسد به الصّلاة إذا ابتلعه ، وصرّحوا بفساد الصّلاة بالمضغ إن كثر ، وتقديره بالثّلاث المتواليات. وكذا تفسد بالسّكّر إذا كان في فيه يبتلع ذوبه .
قال ابن عابدين : إنّ المفسد : إمّا المضغ ، أو وصول عين المأكول إلى الجوف بخلاف الطّعم . قال في البحر عن الخلاصة : ولو أكل شيئاً من الحلاوة وابتلع عينها فدخل في الصّلاة فوجد حلاوتها في فيه وابتلعها لا تفسد صلاته ، ولو أدخل الفاينذ أو السّكّر في فيه ، ولم يمضغه ، لكن يصلّي والحلاوة تصل إلى جوفه تفسد صلاته .
وفرّق المالكيّة بين عمد الأكل والشّرب وسهوه ، فإن أكل أو شرب المصلّي عمداً بطلت صلاته اتّفاقاً ، وأمّا إن أكل أو شرب سهواً لم تبطل صلاته ، وانجبر بسجود السّهو .
وذهب الشّافعيّة إلى بطلان الصّلاة بالأكل ولو كان قليلاً ، وإن كان مكرهاً عليه ، لشدّة منافاته للصّلاة مع ندرته ، واستثنوا من ذلك : النّاسي أنّه في الصّلاة ، والجاهل بالتّحريم لقرب عهده بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء فلا تبطل صلاته بالأكل إلاّ إذا كثر عرفاً ، ولا تبطل ما لو جرى ريقه بباقي طعام بين أسنانه وعجز عن تمييزه ومجّه كما في الصّوم .
وصرّحوا : بأنّه لو كان بفمه سكّرة فذابت فبلع ذوبها عمداً ، مع علمه بالتّحريم ، أو تقصيره في التّعلّم فإنّ صلاته تبطل . كما صرّحوا ببطلان الصّلاة بالمضغ إن كثر ، وإن لم يصل إلى جوفه شيء .
وفرّق الحنابلة في ذلك بين صلاة الفرض والنّفل ، فصلاة الفرض تبطل بالأكل والشّرب عمداً، قلّ الأكل أو الشّرب أو كثر ، لأنّه ينافي الصّلاة . وأمّا صلاة النّفل فلا تبطل بالأكل والشّراب إلاّ إذا كثر عرفاً لقطع الموالاة بين الأركان .
قال البهوتيّ : وهذا رواية ، وعنه أنّ النّفل كالفرض ، قال في المبدع وبه قال أكثرهم ، لأنّ ما أبطل الفرض أبطل النّفل ، كسائر المبطلات .
وكلّ ما سبق فيما إذا كان الأكل والشّرب عمداً ، فإن كان سهواً أو جهلاً فإنّه لا يبطل الصّلاة فرضاً كانت أو نفلاً إذا كان يسيراً ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » ولأنّ تركهما عماد الصّوم ، وركنه الأصليّ ، فإذا لم يؤثّر في حالة السّهو في الصّيام فالصّلاة أولى .
قالوا : ولا بأس ببلع ما بقي في فيه من بقايا الطّعام من غير مضغ ، أو بقي بين أسنانه من بقايا الطّعام بلا مضغ ممّا يجري به ريقه وهو اليسير ، لأنّ ذلك لا يسمّى أكلاً ، وأمّا ما لا يجري به ريقه بل يجري بنفسه - وهو ما له جرم - فإنّ الصّلاة تبطل ببلعه لعدم مشقّة الاحتراز .
قال المجد : إذا اقتلع من بين أسنانه ما له جرم وابتلعه بطلت صلاته عندنا ، وصرّحوا بأنّ بلع ما ذاب بفيه من سكّر ونحوه كالأكل .
و - العمل الكثير :
114 - اتّفق الفقهاء على بطلان الصّلاة بالعمل الكثير ، واختلفوا في حدّه .
فذهب الحنفيّة إلى أنّ العمل الكثير الّذي تبطل الصّلاة به هو ما لا يشكّ النّاظر في فاعله أنّه ليس في الصّلاة . قالوا : فإن شكّ أنّه فيها أم لا فقليل ، وهذا هو الأصحّ عندهم ، وقيّدوا العمل الكثير ألاّ يكون لإصلاحها ليخرج به الوضوء والمشي لسبق الحدث فإنّهما لا يفسدانها
قال ابن عابدين : وينبغي أن يزاد : ولا فعل لعذر احترازاً عن قتل الحيّة والعقرب بعمل كثير على قول ، إلاّ أن يقال : إنّه لإصلاحها ، لأنّ تركه قد يؤدّي إلى إفسادها .
ومذهب المالكيّة قريب من مذهب الحنفيّة ، فالعمل الكثير عندهم هو ما يخيّل للنّاظر أنّه ليس في صلاة ، والسّهو في ذلك كالعمد .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المرجع في معرفة القلّة والكثرة هو العرف ، فما يعدّه النّاس قليلاً فقليل ، وما يعدّونه كثيراً فكثير ، قال الشّافعيّة : فالخطوتان المتوّسّطتان ، والضّربتان ، ونحوهما قليل ، والثّلاث من ذلك أو غيره كثير إن توالت . سواء أكانت من جنس الخطوات ، أم أجناس : كخطوة ، وضربة ، وخلع نعل . وسواء أكانت الخطوات الثّلاث بقدر خطوة واحدة أم لا .
وصرّحوا ببطلان الصّلاة بالفعلة الفاحشة ، كالوثبة الفاحشة لمنافاتها للصّلاة ، وعلى ذلك فالأفعال العمديّة عندهم تبطل الصّلاة ولو كانت قليلةً ، سواء أكانت من جنس أفعال الصّلاة أم من غير جنسها . أمّا السّهو فإن كانت الأفعال من غير جنس الصّلاة فتبطل بكثيرها ، لأنّ الحاجة لا تدعو إليها ، أمّا إذا دعت الحاجة إليها كصلاة شدّة الخوف فلا تضرّ ولو كثرت . أمّا إذا كانت الأفعال من جنسها - كزيادة ركوع أو سجود سهواً - فلا تبطل ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الظّهر خمساً وسجد للسّهو ، ولم يعدها » .(/28)
وقال الحنابلة : لا يتقدّر اليسير بثلاث ولا لغيرها من العدد ، بل اليسير ما عدّه العرف يسيراً، لأنّه لا توقيف فيه فيرجع للعرف كالقبض والحرز . فإن طال عرفاً ما فعل فيها ، وكان ذلك الفعل من غير جنسها غير متفرّق أبطلها عمداً كان أو سهواً أو جهلاً ما لم تكن ضرورة ، فإن كانت ضرورةً ، كحالة خوف ، وهرب من عدوّ ونحوه كسيل لم تبطل ، وعدّ ابن الجوزيّ من الضّرورة الحكّة الّتي لا يصبر عليها ، وأمّا العمل المتفرّق فلا يبطل الصّلاة لما ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ النّاس في المسجد ، فكان إذا قام حمل أمامة بنت زينب ، وإذا سجد وضعها » ، « وصلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر وتكرّر صعوده ونزوله عنه » .
ز - تخلّف شرط من شروط صحّة الصّلاة :
115 - لا تصحّ الصّلاة إلاّ إذا كانت مستوفيةً شروطها . فإذا تخلّف شرط من شروط صحّتها : كالطّهارة ، وستر العورة بطلت ، وكذلك لو طرأ ما ينافيها كما لو نزلت على ثوبه نجاسة وهو يصلّي ، أو تذكّر وهو في الصّلاة أنّه على غير طهارة ... والتّفصيل كما يلي :
أوّلاً : تخلّف شرط طهارة الحدث :
116 - إذا أحدث المصلّي أثناء الصّلاة ، أو كان محدثاً قبل الصّلاة وتذكّر ذلك في الصّلاة فإنّ صلاته لا تصحّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طهور » . وتفصيل ذلك في ( حدث ف / 23 ، 17 /124 ، ورعاف ف / 5 ، 22 /265 ) .
ثانياً : تخلّف شرط الطّهارة من النّجاسة :
117 - طهارة بدن المصلّي وثوبه ومكانه شرط لصحّة الصّلاة .
وسبق تفصيل ذلك في فقرة ( 10 ) .
صلاة فاقد الطّهورين :
118 - الطّهوران هما : الماء والصّعيد ، واختلف الفقهاء في حكم فاقدهما .
فذهب الجمهور - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة - إلى وجوب أداء الفرض عليه فقط .
وذهب المالكيّة إلى سقوط الصّلاة على فاقد الطّهورين .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( فاقد الطّهورين ) .
صلاة العاجز عن ثوب طاهر ومكان طاهر :
119 - اختلف الفقهاء في صلاة العاجز عن ثوب طاهر .
فذهب الحنفيّة إلى أنّه يتخيّر بين أن يصلّي بالثّوب النّجس أو عاريّاً من غير إعادة ، والصّلاة بالثّوب النّجس حينئذ أفضل ، لأنّ كلّ واحد منهما مانع من جواز الصّلاة حالة الاختيار . فيستويان في حكم الصّلاة . وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف .
وعند محمّد لا تجزئه الصّلاة إلاّ في الثّوب النّجس ، لأنّ الصّلاة فيه أقرب إلى الجواز من الصّلاة عرياناً ، فإنّ القليل من النّجاسة لا يمنع الجواز ،وكذلك الكثير في قول بعض العلماء. قال عطاء - رحمه الله - : من صلّى وفي ثوبه سبعون قطرةً من دم جازت صلاته . ولم يقل أحد بجواز الصّلاة عرياناً في حال الاختيار . قال في الأسرار : وقول محمّد - رحمه الله - أفضل .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ العاجز عن ثوب طاهر يصلّي في ثوبه النّجس ، وعند الحنابلة يعيد الصّلاة إذا وجد غيره أو ما يطهّر به أبداً . وعند المالكيّة يعيد في الوقت فقط .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب عليه أن يصلّي عرياناً ولا إعادة عليه .
وكذلك اختلف الفقهاء في العاجز عن مكان طاهر ، كأن يحبس في مكان نجس .
فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه يجب عليه أن يصلّي مع وجود النّجاسة ولا يترك الصّلاة ، لما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » .
قال الشّافعيّة والحنابلة : ويجب أن يتجافى عن النّجاسة بيديه وركبتيه وغيرهما القدر الممكن ، ويجب أن ينحني للسّجود إلى القدر الّذي لو زاد عليه لاقى النّجاسة .
زاد الحنابلة : أنّه يجلس على قدميه . ومذهب المالكيّة : أنّه يعيد في الوقت .
وقال الشّافعيّة : بوجوب الإعادة عليه أبداً . وعند الحنابلة : لا إعادة عليه .
وقال الحنفيّة : إن وجد مكاناً يابساً سجد عليه وإلاّ فيومئ قائماً .
ثالثاً : تخلّف شرط ستر العورة :
120 - ستر العورة شرط من شروط صحّة الصّلاة كما تقدّم ، فلا تصحّ الصّلاة إلاّ بسترها ، وقد اتّفق الفقهاء على بطلان صلاة من كشف عورته فيها قصداً ، واختلفوا فيما لو انكشفت بلا قصد متى تبطل صلاته ؟
فذهب الحنفيّة إلى أنّ الصّلاة تبطل لو انكشف ربع عضو قدر أداء ركن بلا صنعه .
ويدخل في أداء الرّكن سنّته أيضاً . وهذا قول أبي يوسف . واعتبر محمّد أداء الرّكن حقيقةً.
قال ابن عابدين : والأوّل المختار للاحتياط . وعليه لو انكشف ربع عضو - أقلّ من أداء ركن - فلا يفسد باتّفاق الحنفيّة . قال ابن عابدين : لأنّ الانكشاف الكثير في الزّمان القليل عفو كالانكشاف القليل في الزّمن الكثير . وأمّا إذا أدّى مع الانكشاف ركناً فإنّها تفسد باتّفاق الحنفيّة ، وهذا كلّه في الانكشاف الحادث في أثناء الصّلاة . أمّا المقارن لابتدائها فإنّه يمنع انعقادها مطلقاً اتّفاقاً بعد أن يكون المكشوف ربع العضو .
ولم يقيّد المالكيّة والشّافعيّة البطلان بقيود ، وعندهم أنّ مطلق الانكشاف يبطل الصّلاة .
قال النّوويّ : فإن انكشف شيء من عورة المصلّي لم تصحّ صلاته سواء أكثر المنكشف أم قلّ ، ولو كان أدنى جزء ، وهذا إذا لم يسترها في الحال .(/29)
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يضرّ انكشاف يسير من العورة بلا قصد ، ولو كان زمن الانكشاف طويلًا لحديث عمرو بن سلمة الجرميّ قال : « انطلق أبي وافداً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلّمهم الصّلاة ، فقال : يؤمّكم أقرؤكم ، وكنت أقرأهم لما كنت أحفظ ، فقدّموني ، فكنت أؤمّهم وعليّ بردة لي صغيرة صفراء ، فكنت إذا سجدت انكشفت عنّي . فقالت امرأة من النّساء : واروا عنّا عورة قارئكم . فاشتروا لي قميصاً عمّانيّاً فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به » ولم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك ولا أحد من الصّحابة .
واليسير هو الّذي لا يفحش في النّظر عرفاً . قال البهوتيّ : ويختلف الفحش بحسب المنكشف ، فيفحش من السّوأة ما لا يفحش من غيرها . وكذا لا تبطل الصّلاة إن انكشف من العورة شيء كثير في زمن قصير ، فلو أطارت الرّيح ثوبه عن عورته ، فبدا منها ما لم يعف عنه لم تبطل صلاته ، وكذا لو بدت العورة كلّها فأعاد الثّوب سريعاً بلا عمل كثير فإنّها لا تبطل ، لقصر مدّته أشبه اليسير في الزّمن الطّويل . وكذا تبطل لو فحش وطال الزّمن ، ولو بلا قصد .
صلاة العاجز عن ساتر للعورة :
121 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّلاة لا تسقط عمّن عدم السّاتر للعورة ، واختلفوا في كيفيّة صلاته ؟ فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه مخيّر بين أن يصلّي قاعداً أو قائماً ، فإن صلّى قاعداً فالأفضل أن يومئ بالرّكوع والسّجود ، لما روى ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما : أنّ قوماً انكسرت بهم مركبهم ، فخرجوا عراةً . قال : يصلّون جلوساً ، يومئون إيماءً برءوسهم فإن ركع وسجد جاز له ذلك .
وعند الحنفيّة يكون قعوده كما في الصّلاة فيفترش الرّجل وتتورّك المرأة .
وعند الحنابلة يتضامّ ، وذلك بأن يقيم إحدى فخذيه على الأخرى ، لأنّه أقلّ كشفاً .
وإن صلّى قائماً فإنّه يومئ كذلك بالرّكوع والسّجود عند الحنفيّة ، لأنّ السّتر أهمّ من أداء الأركان ، لأنّه فرض في الصّلاة وخارجها ، والأركان فرائض الصّلاة لا غير ، وقد أتى ببدلها ، وقال الحنابلة : إذا صلّى قائماً لزمه أن يركع ويسجد بالأرض .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يصلّي قائماً ، ولا يجوز له أن يجلس .
وتجب عليه الإعادة في الوقت عند المالكيّة ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا إعادة عليه .
وذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّه إذا لم يجد عادم السّتر إلاّ ثوب حرير ، أو ثوباً نجساً وجب عليه لبسه ، ولا يصلّي عاريّاً ، لأنّ فرض السّتر أقوى من منع لبس الحرير والنّجس في هذه الحالة ، ويعيد في الوقت عند المالكيّة .
وقال الحنابلة : لا يعيد إذا صلّى في ثوب حرير ، لأنّه مأذون في لبسه في بعض الأحوال كالحكّة والبرد ، ويعيد إذا صلّى في ثوب نجس .
وفرّق الشّافعيّة بين الثّوب الحرير والثّوب النّجس ، فإذا لم يجد المصلّي إلاّ ثوباً نجساً ، ولم يقدر على غسله فإنّه يصلّي عاريّاً ولا يلبسه ، وإذا وجد حريراً وجب عليه أن يصلّي فيه ، لأنّه طاهر يسقط الفرض به ، وإنّما يحرم في غير محلّ الضّرورة ، وتجب عليه الإعادة إذا صلّى في ثوب نجس .
واختلفوا في وجوب التّطيّن إذا لم يجد إلاّ الطّين ، كما أنّ عند الفقهاء تفصيلاً فيما إذا لم يجد إلاّ ما يستر به أحد فرجيه أيّهما يستر ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( عورة ) .
رابعاً : تخلّف شرط الوقت :
122 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من صلّى قبل دخول الوقت فإنّ صلاته غير صحيحة ، ويجب عليه أن يصلّي إذا دخل الوقت . أمّا لو خرج وقت الصّلاة من غير أن يصلّي ، فإنّه يجب عليه أن يصلّي ولا تسقط الصّلاة بخروج وقتها ، وتكون صلاته حينئذ قضاءً . مع ترتّب الإثم عليه لو ترك الصّلاة حتّى خرج وقتها عمداً .
وقد أجاز الشّارع أداء الصّلاة في غير وقتها في حالات معيّنة : كالجمع في السّفر والمطر والمرض ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلحاتها .
واختلفوا في صحّة الصّلاة لو وقع بعضها في الوقت وبعضها خارجه ، وذلك كما لو دخل في صلاة الصّبح أو العصر أو غيرها وخرج الوقت وهو فيها هل تبطل صلاته أم لا ؟
فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ صلاته صحيحة سواء صلّى في الوقت ركعةً أو أقلّ أو أكثر ، على خلاف بينهم ، هل تكون أداءً أم قضاءً ؟ لحديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أدرك من الصّبح ركعةً قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصّبح ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر »
ووافق الحنفيّة الجمهور فيما تقدّم فيما سوى صلاة الصّبح وحدها فإنّها لا تدرك عندهم إلاّ بأدائها كلّها قبل طلوع الشّمس ، وعلّلوا ذلك بطروء الوقت النّاقص على الوقت الكامل ولذا عدّوا ذلك من مبطلات الصّلاة .
خامساً : تخلّف شرط الاستقبال :
123 - سبق تفصيل ذلك في مصطلح : ( استقبال ف10 / 11 ، 4 /63 ) .
ح - ترك ركن من أركان الصّلاة :(/30)
124 - ترك الرّكن في الصّلاة : إمّا أن يكون عمداً ،أو سهواً ، أو جهلاً ، ويختلف حكم كلّ. أمّا تركه عمداً : فقد اتّفق الفقهاء على أنّ من ترك ركناً من أركان الصّلاة عمداً فإنّ صلاته تبطل ولا تصحّ منه . وأمّا تركه سهواً أو جهلاً فقد اتّفقوا على أنّه يجب عليه أن يأتي به إن أمكن تداركه ، فإن لم يمكن تداركه فإنّ صلاته تفسد عند الحنفيّة ، أمّا الجمهور فقالوا : تلغى الرّكعة الّتي ترك منها الرّكن فقط وذلك إذا كان الرّكن المتروك غير النّيّة وتكبيرة الإحرام ، فإن كانا هما استأنف الصّلاة ، لأنّه غير مصلّ . ( ر : سجود السّهو ) .
صَلاَةُ الاسْتِخَارة *
انظر : استخارة .
صَلاَةُ الاسْتِسْقَاء *
انظر : استسقاء .
صَلاَةُ الطَّوَاف *
انظر : طواف .
صَلاَةُ الظُّهْر *
انظر : الصّلوات الخمس المفروضة .
صَلاَةُ الْمرأَة *
انظر : ستر العورة ، صلاة .
صَلاَةُ الْعِشَاء *
انظر : الصّلوات الخمس المفروضة .
صَلاَةُ الْعَصْر *
انظر : الصّلوات الخمس المفروضة .
الصَّلاَةُ على الغَائب *
انظر : جنائز .
صَلاَةُ الفَجر *
انظر : الصّلوات الخمس المفروضة .
صَلاَةُ الفَوائت *
انظر : قضاء الفوائت .
الصَّلاَةُ في السَّفينة *
انظر : سفينة .
الصَّلاَةُ في الكَعبة *
انظر : كعبة .
صَلاَةُ قيام اللَّيل *
انظر : قيام اللّيل .
صَلاَةُ المَغْرب *
انظر : الصّلوات الخمس المفروضة .
الصَّلاةُ على الميّت *
انظر : جنائز .
صَلاَةُ النّافلة *
انظر : صلاة التّطوّع .
صَلاَةُ النّفل *
انظر : صلاة التّطوّع .(/31)
الخلاصة في حكم صوم رجب
وفي الموسوعة الفقهية :
ح - ( صَوْمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ) :
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرَّمُ , ثُمَّ رَجَبٌ , ثُمَّ بَاقِيهَا : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ , وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ } . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَصُومَ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ فَقَطْ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ . وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ اسْتِحْبَابَ صَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ , لَكِنْ الْأَكْثَرُ لَمْ يَذْكُرُوا اسْتِحْبَابَهُ , بَلْ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ إفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ , لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - : أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ } . وَلِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِشِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَعْظِيمِهِ . وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِفِطْرِهِ فِيهِ وَلَوْ يَوْمًا , أَوْ بِصَوْمِهِ شَهْرًا آخَرَ مِنْ السَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَلِ رَجَبًا .
**************
وفي الفروع :
فَصْلٌ يُكْرَهُ إفْرَادُ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ ( خ ) نَقَلَ حَنْبَلٌ : يُكْرَهُ , وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَأَبِي بَكْرَةَ , قَالَ أَحْمَدُ : يُرْوَى فِيهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى صَوْمِهِ , وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : يَصُومُهُ إلَّا يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ } , رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ عَطَاءٍ , ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ , وَلِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءً لِشِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَعْظِيمِهِ , وَلِهَذَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ فِيهِ وَيَقُولُ : كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتْ تُعَظِّمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ . وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِالْفِطْرِ أَوْ بِصَوْمِ شَهْرٍ آخَرَ مِنْ السَّنَةِ , قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ : وَإِنْ لَمْ يَلِهِ . قَالَ شَيْخُنَا : مَنْ نَذَرَ صَوْمَهُ كُلَّ سَنَةٍ أَفْطَرَ بَعْضَهُ وَقَضَاهُ . وَفِي الْكَفَّارَةِ الْخِلَافُ , قَالَ : وَمَنْ صَامَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْهُرِ أَثِمَ وَعُزِّرَ , وَحُمِلَ عَلَيْهِ فِعْلُ عُمَرَ . وَقَالَ أَيْضًا : فِي تَحْرِيمِ إفْرَادِهِ وَجْهَانِ , وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَرَاهَةِ أَحْمَدَ . وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيِّ : لَمْ يُؤَثِّمْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِيمَا نَعْلَمُهُ .
وفي حاشية العدوي :(/1)
( وَالتَّنَفُّلُ بِالصَّوْمِ ) فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا نَهْيَ فِيهَا ( مُرَغَّبٌ فِيهِ ) لقوله تعالى : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قِيلَ هُمْ الصَّائِمُونَ , وَلِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَمَّا يَرْوِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ : " { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } " . فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : هَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ وَأَحْكَمِهَا إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَظَالِمِ مِنْ سَائِرِ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى إلَّا الصَّوْمُ يَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ ( وَكَذَلِكَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ) بِالْمَدِّ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ مُرَغَّبٌ فِيهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْقَابِلَةَ . وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ : يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ } " . ( وَ ) كَذَلِكَ صَوْمُ شَهْرِ ( رَجَبٍ ) مُرَغَّبٌ فِيهِ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ فَقَالَ : أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ } ( وَ ) كَذَلِكَ صَوْمُ شَهْرِ ( شَعْبَانَ ) مُرَغَّبٌ فِيهِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ , وَمَا رَأَيْته فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ } , وَفِي رِوَايَةٍ لَهَا { كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا } ( وَ ) كَذَلِكَ صَوْمُ ( يَوْمِ عَرَفَةَ ) وَهُوَ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُرَغَّبٌ فِيهِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ ( وَ ) كَذَلِكَ صَوْمُ ( يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ) وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُرَغَّبٌ فِيهِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " { مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي هَذِهِ } " يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ . ( وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ أَفْضَلُ ) وَفِي نُسْخَةٍ أَحْسَنُ ( مِنْهُ لِلْحَاجِّ ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ , وَأَمَّا الْحَاجُّ فَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ لِمَا فِي أَبِي دَاوُد { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ } .(/2)
[ قَوْلُهُ : الَّتِي لَا نَهْيَ فِيهَا ] أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ , أَوْ كَرَاهَةٍ [ قَوْلُهُ : بِغَيْرِ حِسَابٍ ] حَالٌ مِنْ الْأَجْرِ أَيْ لَا يُهْتَدَى إلَيْهِ حِسَابُ الْحِسَابِ . [ قَوْلُهُ : قِيلَ هُمْ الصَّائِمُونَ ] أَيْ قَالَ : بَعْضُهُمْ هُمْ الصَّائِمُونَ . وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ بِهِمْ الصَّابِرُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ أَوْطَانِهِمْ وَغَيْرِهَا . [ قَوْلُهُ : أَنَّ رَجُلًا ] بَدَلٌ مِنْ مَا أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ , فَأَنَّ مَفْتُوحَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ الرَّجُلَ . [ قَوْلُهُ : عَمَّا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ] لَيْسَ الْقَصْدُ كُلَّ مَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ وَلَا جِنْسَ مَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ , بَلْ الْقَصْدُ الْجِنْسُ فِي تَحَقُّقِهِ فِي فَرَدَّ الْمُبَيِّنَ بَعْدُ بِقَوْلِهِ كُلُّ عَمَلِ فَهُوَ بَدَلٌ , أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ , أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ . وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ مَا مَاثَلَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ , وَالظَّاهِرُ أَنَّ السُّؤَالَ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ فَقَطْ لَا مِنْ حَيْثُ ذَلِكَ وَجَوْدَتِهِ وَإِحْكَامِهِ , وَإِنْ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ : هَذَا أَجْوَدُ الْأَحَادِيثِ وَأَحْكَمُهَا وَالْأَحْكَامُ الْخُلُوُّ عَنْ الِاشْتِبَاهِ وَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لِلْجَوَابِ الْمَقْصُودِ . [ قَوْلُهُ : ابْنِ آدَمَ ] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ كَذَلِكَ . [ قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ لِي ] قَالَ فِي التَّحْقِيقِ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لِي أَيْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرِي , وَقِيلَ : تَشَبَّهَ بِوَصْفِي ا هـ . [ قَوْلُهُ : وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ] بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيْ أَقْضِي دَيْنَهُ بِسَبَبِهِ . [ قَوْلُهُ : وَأَحْكَمِهَا ] عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ أَتْقَنَهَا أَيْ الَّذِي مَعْنَاهُ بَيِّنٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ . [ قَوْلُهُ : حَتَّى لَا يَبْقَى إلَخْ ] حَاصِلُهُ أَنَّ ثَوَابَهُ لَا يُؤْخَذُ فِي الْمَظَالِمِ بِخِلَافِ ثَوَابِ غَيْرِهِ , وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ , الْأَوَّلُ : أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَهُ كَثَوَابِ غَيْرِهِ يُؤْخَذُ بِالْمَظَالِمِ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ . الثَّانِي : أَنَّ تَضْعِيفَ الْحَسَنَةِ غَيْرَ الصَّوْمِ لَا يُؤْخَذُ فِي الْمَظَالِمِ أَيْضًا , وَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ إنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ بِهِ غَيْرِي بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ عُبِدَ بِهِ غَيْرُهُ . [ قَوْلُهُ : عَبْدَهُ ] أَيْ جِنْسَ عَبْدِهِ [ قَوْلُهُ : بِالْمَدِّ ] وَحُكِيَ فِيهِ الْقَصْرُ وَهُوَ اسْمٌ إسْلَامِيٌّ لَا يُعْرَفُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا أَفَادَهُ فِي التَّحْقِيقِ [ قَوْلُهُ : وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ ] أَيْ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ عَاشُورَاءَ أَفَادَهُ تت بِقَوْلِهِ : وَسُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ . [ قَوْلُهُ : بِمَا رَوَاهُ ] أَيْ بِسَبَبِ . [ قَوْلُهُ : فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ إلَخْ ] هَلْ صُورَةُ السُّؤَالِ مَا الَّذِي يُكَفِّرُهُ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ , أَوْ شَيْءٌ آخَرُ اُنْظُرْهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ يَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ; ; لِأَنَّ التَّكْفِيرَ مَنُوطٌ بِالْأَفْضَلِيَّةِ كَمَا أَفَادَهُ فِي التَّحْقِيقِ . [ قَوْلُهُ : وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ] هَذَا مَحَلُّ الشَّاهِدِ [ قَوْلُهُ : رَجَبٍ ] سُمِّيَ رَجَبًا مِنْ التَّرْجِيبِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ . [ قَوْلهُ : حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ ] أَيْ بِحَيْثُ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَصُومُهُ كُلَّهُ , وَالشَّاهِدُ فِي هَذَا الطَّرَفِ دُونَ الطَّرَفِ الَّذِي بَعْدَهُ . تَنْبِيهٌ : ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ ثَوَابَ صَوْمِهِ يَفْضُلُ ثَوَابَ صَوْمِ غَيْرِهِ , وَلَوْ مِنْ بَاقِي الْحُرُمِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ دُونَ بَاقِيهَا وَجْهٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا أَشَارَ لَهُ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ بَلْ وَرَدَ أَنَّ صَوْمَ الْمُحَرَّمِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ رَجَبٍ , أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْحُرُمِ عج . قَوْلُهُ : شَعْبَانَ ] قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : سُمِّيَ شَعْبَانَ لِتَشَعُّبِ الْقَبَائِلِ فِيهِ لِلْقِتَالِ . [ قَوْلُهُ : مِنْهُ ] أَيْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَقَوْلُهُ : فِي شَعْبَانَ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي مِنْهُ أَيْ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ صِيَامًا حَالَةَ كَوْنِهِ كَائِنًا فِي شَعْبَانَ . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَإِنْ صَدَقَتْ بِمُسَاوَاةِ شَعْبَانَ لِغَيْرِهِ وَبِزِيَادَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهَا تُعُورِفَتْ فِي زِيَادَةِ شَعْبَانَ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا أَيْ إلَّا زَمَنًا قَلِيلًا مِنْهُ أَيْ مِنْ شَعْبَانَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْقِلَّةِ . [ قَوْلُهُ : يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ] سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَحْمِلُ الْمَاءَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى لِحُجَّاجِ الْعَرَبِ يَسْقُونَهُمْ , وَقِيلَ : لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام أَصْبَحَ يَتَرَوَّى فِي(/3)
أَمْرِ الرُّؤْيَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ . [ قَوْلُهُ : مُرَغَّبٌ فِيهِ إلَخْ ] أَيْ وَهُوَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ [ قَوْلُهُ : الْعَمَلُ ] مُبْتَدَأٌ , وَقَوْلُهُ : الصَّالِحُ صِفَتُهُ . وَقَوْلُهُ : أَفْضَلُ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ . وَقَوْلُهُ : مِنْهُ أَيْ مِنْ نَفْسِهِ أَيْ لَيْسَ أَيَّامٌ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ , وَهِيَ وَإِنْ صَدَقَتْ بِالْمُسَاوَاةِ إلَّا أَنَّهَا تُعُورِفَتْ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَ فِي غَيْرِهَا . [ قَوْلُهُ : الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ] فِي الْعِبَارَةِ تَغْلِيبٌ لِظُهُورِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْعَشْرِ يَوْمُ الْعِيدِ وَهُوَ لَيْسَ يَوْمَ صِيَامٍ , أَقُولُ : وَقَضِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى صَوْمِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ . [ قَوْلُهُ : وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ ] لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوَّلًا وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَجِّ لَأَغْنَاهُ عَنْ هَذَا . [ قَوْلُهُ : فَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ ] أَيْ لِيَتَقَوَّى عَلَى الْوُقُوفِ [ قَوْلُهُ : نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ] أَيْ نَهْيَ كَرَاهَةٍ .
**************8
وفي المجموع للنووي :
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى ( وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ . لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { كَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَ : إنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ } ) .(/4)
( فَرْعٌ ) قَالَ أَصْحَابُنَا : وَمِنْ الصَّوْمِ الْمُسْتَحَبِّ صَوْمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ , وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ , وَأَفْضَلُهَا الْمُحَرَّمُ , قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ : أَفْضَلُهَا رَجَبٌ , وَهَذَا غَلَطٌ ; لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى { أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ } وَمِنْ الْمَسْنُونِ صَوْمُ شَعْبَانَ , وَمِنْهُ صَوْمُ الْأَيَّامِ التِّسْعَةِ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ , وَجَاءَتْ فِي هَذَا كُلِّهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ , مِنْهَا حَدِيثُ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا أَنَّهُ { أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَهَيْئَتُهُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا الْبَاهِلِيُّ الَّذِي جِئْتُكَ عَامَ الْأَوَّلِ , قَالَ : فَمَا غَيَّرَكَ وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ ؟ قَالَ : مَا أَكَلْتُ طَعَامًا مُنْذُ فَارَقْتُكَ إلَّا بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لِمَا عَذَّبْتَ نَفْسَكَ ؟ ثُمَّ قَالَ : صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ , قَالَ : زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً , قَالَ : صُمْ يَوْمَيْنِ قَالَ : زِدْنِي , قَالَ : صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , قَالَ زِدْنِي , قَالَ : صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ , صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ , صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ , وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ , ثُمَّ أَرْسَلَهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ } إنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّرْكِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ إكْثَارُ الصَّوْمِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ فَصَوْمُ جَمِيعِهَا فَضِيلَةٌ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ : لَا يُفْطِرُ , وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ : لَا يَصُومُ . وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ , وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا مِنْ شَعْبَانَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ , كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : اللَّفْظُ الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ وَبَيَانٌ ; لِأَنَّ مُرَادَهَا بِكُلِّهِ غَالِبُهُ وَقِيلَ : كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَصُومُ بَعْضَهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى , وَقِيلَ : كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ وَلَا يُخَلِّي مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَامٍ , لَكِنْ فِي سِنِينَ . وَقِيلَ فِي تَخْصِيصِهِ شَعْبَانَ بِكَثْرَةِ الصِّيَامِ : لِأَنَّهُ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي سَنَتِهِمْ . وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ , فَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ الْمُحَرَّمُ , فَكَيْفَ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي شَعْبَانَ دُونَ الْمُحَرَّمِ . فَالْجَوَابُ : لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إلَّا فِي آخِرِ الْحَيَاةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ . أَوْ لَعَلَّهُ كَانَتْ تَعْرِضُ فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَعُ مِنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ ؟ كَسَفَرٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِهِمَا . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَهْرًا غَيْرَ رَمَضَانَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ . وَعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ , وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَأَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ , وَالْخَمِيسَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَا : وَخَمِيسَيْنِ . وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ : { مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ } وَفِي رِوَايَةٍ { لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي(/5)
صَحِيحِهِ , فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : وَهُوَ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ , وَالْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهن , أَوْ لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَكُلَّهُ فِي بَعْضِهَا , وَيَتْرُكُهُ فِي بَعْضِهَا لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ .
وفي الفتاوى الفقهية الكبرى :(/6)
كِتَابُ الصَّوْمِ ( وَسُئِلَ ) رضي الله عنه قَالَ فِي طَهَارَةِ الْقُلُوبِ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ : شَهْرُ رَجَبٍ شَهْرُ الْحَرْثِ فَاتَّجِرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ فِي رَجَب فَإِنَّهُ مَوْسِمُ التِّجَارَةِ وَاعْمُرُوا أَوْقَاتَكُمْ فِيهِ فَهُوَ أَوَانُ الْعِمَارَةِ . رُوِيَ أَنَّهُ مَنْ صَامَ مِنْ رَجَب سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُغْلِقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ , وَمَنْ صَامَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ , وَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا الدُّنْيَا فِيهِ كَمَفْحَصِ الْقَطَاةِ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا صَوَّامُ رَجَب وَقَالَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : جَمِيعُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ تَزُورُ زَمْزَمَ فِي رَجَب تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ قَالَ وَقَرَأْت فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي رَجَبٍ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَتُبْ عَلَيَّ سَبْعِينَ مَرَّةٍ لَمْ تَمَسَّ النَّارُ جِلْدَهُ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ بَعْد ذَلِكَ بِأَوْرَاقٍ كَثِيرَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ فَصَلَّاهُ قَبْلَ الظُّهْرِ فَكَأَنَّمَا صَلَّاهُ فِي وَقْتِهِ } ا هـ وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْنَا جَوَابُكُمْ الشَّرِيفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَهُوَ جَوَابٌ شَافٍ وَقَدْ حَصَلَ بِهِ النَّفْعُ لِي وَلِمَنْ سَمِعَهُ لَكِنَّ الْفَقِيهَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ فِي السُّؤَالِ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِهِ وَيَقُولُ : أَحَادِيثُ صَوْمِ رَجَب مَوْضُوعَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ الْحَدِيثُ الْمَوْضُوعُ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ . ا هـ فَالْمَسْئُولُ مِنْكُمْ زَجْرُ هَذَا النَّاهِي حَتَّى يَتْرُكَ النَّهْيَ وَيُفْتِيَ بِالْحَقِّ , وَاذْكُرُوا لَنَا مَا يَحْضُركُمْ مِنْ كَلَام الْأَئِمَّةِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ ؟ ( فَأَجَابَ ) رضي الله عنه بِأَنِّي قَدَّمْت لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَة , وَأَمَّا اسْتِمْرَارُ هَذَا الْفَقِيهِ عَلَى نَهْيِ النَّاسِ عَنْ صَوْمِ رَجَب فَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُ وَجُزَافٌ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ ذَلِكَ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى حُكَّامِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ زَجْرُهُ وَتَعْزِيرُهُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الْمَانِعَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُجَازَفَةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّ هَذَا الْجَاهِلَ يَغْتَرُّ بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ جَهَنَّمَ تُسَعَّرُ مِنْ الْحَوْلِ إلَى الْحَوْلِ لِصَوَّامِ رَجَب وَمَا دَرَى هَذَا الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ كَذِبٌ لَا تَحِلُّ رِوَايَتُهُ كَمَا ذَكَرُهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ وَنَاهِيكَ بِهِ حِفْظًا لِلسُّنَّةِ وَجَلَالَةً فِي الْعُلُومِ وَيُوَافِقهُ إفْتَاءُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ مَنْعِ صَوْمِ رَجَب وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَهَلْ يَصِحُّ نَذْرُ صَوْمِ جَمِيعِهِ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ نَذْرُ صَوْمِهِ صَحِيحٌ لَازِمٌ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ جَاهِلٌ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَكَيْف يَكُونُ مُنْهَيَا عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ دَوَّنُوا الشَّرِيعَةَ لَمْ يَذْكُر أَحَدٌ مِنْهُمْ انْدِرَاجَهُ فِيمَا يُكْرَه صَوْمُهُ بَلْ يَكُونُ صَوْمُهُ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي الصَّوْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { يَقُولُ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ } , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } , وَقَوْلُهُ { إنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صِيَامُ أَخِي دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا } وَكَانَ دَاوُد يَصُومُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا عَدَا رَجَبًا مِنْ الشُّهُورِ وَمَنْ عَظَّمَ رَجَبًا بِجِهَةٍ غَيْرِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ يُعَظِّمُونَهُ بِهِ فَلَيْسَ مُقْتَدِيًا بِهِمْ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلُوهُ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِهِ إلَّا إذَا نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ أَوْ دَلَّتْ الْقَوَاعِدُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُتْرَكُ الْحَقُّ لِكَوْنِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَعَلُوهُ وَاَلَّذِي يَنْهَى عَنْ صَوْمِهِ جَاهِلٌ مَعْرُوفٌ بِالْجَهْلِ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي دِينِهِ إذْ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ إلَّا لِمَنْ اُشْتُهِرَ بِالْمَعْرِفَةِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَآخِذِهَا وَاَلَّذِي يُضَاف إلَيْهِ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَلِّد فِيهِ وَمَنْ قَلَّدَهُ غُرَّ بِدِينِهِ ا هـ جَوَابُهُ فَتَأَمَّلْ كَلَامَ هَذَا الْإِمَامِ تَجِدهُ مُطَابِقًا لِهَذَا الْجَاهِل الَّذِي يَنْهَى أَهْلَ نَاحِيَتِكُمْ عَنْ صَوْمِ رَجَب وَمُنْطَبِقًا عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُقْصَدُ بِمِثْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ بَعْضَ(/7)
الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِمَّنْ زَلَّ قَلَمُهُ وَطَغَى فَهْمُهُ فَقَصْد هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي فَضْلِ صَوْمِ رَجَب مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ وَخُصُوصِهِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَيْ كَحَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الْبَاهِلِيِّ { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتُك عَامَ الْأَوَّلِ قَالَ : فَمَا لِي أَرَى جِسْمَك نَاحِلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكَلْت طَعَامًا بِالنَّهَارِ مَا أَكَلْته إلَّا بِاللَّيْلِ قَالَ مَنْ أَمَرَك أَنْ تُعَذِّبَ نَفْسَك قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَقْوَى قَالَ صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَصُمْ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ } وَفِي رِوَايَةٍ { صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَ زِدْنِي فَإِنَّ لِي قُوَّةً قَالَ صُمْ يَوْمَيْنِ قَالَ زِدْنِي فَإِنَّ لِي قُوَّةً قَالَ : صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَصُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ , صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الثَّلَاثِ يَضُمُّهَا ثُمَّ يُرْسِلُهَا } قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّرْكِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ إكْثَارُ الصَّوْمِ كَمَا ذَكَره فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَشُقّ عَلَيْهِ فَصَوْمُ جَمِيعِهَا فَضِيلَةٌ . فَتَأَمَّلْ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَبِالصَّوْمِ مِنْهَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ تَجِدهُ نَصًّا فِي الْأَمْرِ بِصَوْمِ رَجَب أَوْ بِالصَّوْمِ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِهَا فَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ إنَّ أَحَادِيثَ صَوْمِ رَجَب مَوْضُوعَةٌ إنْ أَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى صَوْمِهِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَكِذْبٌ مِنْهُ وَبُهْتَان فَلْيَتُبْ عَنْ ذَلِكَ , وَإِلَّا عُزِّرَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ نَعَمْ . رُوِيَ فِي فَضْلِ صَوْمِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ , وَأَئِمَّتُنَا وَغَيْرُهُمْ لَمْ يُعَوِّلُوا فِي نَدْبِ صَوْمِهِ عَلَيْهَا حَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى مَا قَدَّمْته وَغَيْره وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعهُ { أَنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ رَجَبٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ , مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ يَوْمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ } وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعهُ { مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ كَانَ كَصِيَامِ سَنَةٍ وَمَنْ صَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ غُلِّقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ , وَمَنْ صَامَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ , وَمَنْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ , وَمَنْ صَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا نَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ قَدْ غُفِرَ لَك مَا سَلَفَ فَاسْتَأْنِفْ الْعَمَلَ وَقَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُك حَسَنَاتٍ , وَمَنْ زَادَ زَادَهُ اللَّهُ } . ثُمَّ نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ فَمِثْلُهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا عَنْ بَلَاغٍ عَمَّنْ قَوْلُهُ مِمَّا يَأْتِيه الْوَحْيُ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ بَعْدَ رَمَضَانَ إلَّا رَجَبَ وَشَعْبَانَ } ثُمَّ قَالَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ ا هـ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وَالْمُرْسَلَ وَالْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضِلَ , وَالْمَوْقُوفَ يُعْمَلُ بِهَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إجْمَاعًا وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْمَ رَجَبٍ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ مَغْرُورٌ وَرَوَى الْأَزْدِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ السُّنَنِ { مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرٍ حَرَامٍ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ } وَلِلْحَلِيمِيِّ فِي صَوْمِ رَجَب كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ فَلَا تَغْتَرُّ بِهِ فَإِنَّ الْأَصْحَابَ عَلَى خِلَافِ مَا قَدْ يُوهِمهُ كَلَامُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
وفي تحفة المحتاج :(/8)
( وَمَنْ تَلَبَّسَ بِقَضَاءٍ لِوَاجِبٍ حَرُمَ عَلَيْهِ قَطْعُهُ إنْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ صَوْمُ مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ ) أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ كَمَا مَرَّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ وَلَوْ بِعُذْرٍ كَسَفَرٍ تَدَارُكًا لِوَرْطَةِ الْإِثْمِ أَوْ التَّقْصِيرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ ( وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْأَصَحِّ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ ) ; لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ كَمَنْ شَرَعَ فِي أَدَاءِ فَرْضِ أَوَّلِ وَقْتِهِ نَعَمْ مَرَّ أَنَّهُ مَتَى ضَاقَ الْوَقْتُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إلَّا مَا يَسَعُ الْفَرْضَ وَجَبَ الْفَوْرُ وَإِنْ فَاتَ بِعُذْرٍ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ هُنَا نَظِيرُ وَجْهٍ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْفَوْرُ فِي قَضَائِهَا مُطْلَقًا ; لِأَنَّ قَضَاءَ الصَّوْمِ يَنْتَهِي إلَى حَالَةٍ يَتَضَيَّقُ فِيهَا وَيَجِبُ فِعْلُهُ فِيهَا فَوْرًا كَمَا تَقَرَّرَ فَصَارَ مُؤَقَّتًا كَالْأَدَاءِ بِخِلَافِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا أَمَدَ لَهُ وَأَيْضًا الصَّلَاةُ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا أَدَاءً بِعُذْرٍ نَحْوِ مَرَضٍ وَسَفَرٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَضُيِّقَ فِي قَضَائِهَا مَا لَمْ يُضَيَّقْ فِي قَضَائِهِ وَكَالْقَضَاءِ فِي حُرْمَةِ الْقَطْعِ كُلُّ فَرْضٍ عَيْنِيٍّ يُبْطِلُهُ الْقَطْعُ أَوْ يَفُوتُ وُجُوبُهُ الْفَوْرِيُّ بِخِلَافِ نَحْوِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ هُوَ جِهَادٌ أَوْ نُسُكٌ أَوْ صَلَاةُ جِنَازَةٍ وَحَرَّمَ جَمْعٌ قَطْعَهُ مُطْلَقًا إلَّا الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ ; لِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ بِرَأْسِهَا وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ صِفَةً تَابِعَةً وَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ أَطَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ وَإِلَّا لَزِمَ حُرْمَةُ قَطْعِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَلَا قَائِلَ بِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا أَوْ قَضَاءً مُوَسَّعًا وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ عَلِمَ رِضَاهُ كَمَا يَأْتِي .(/9)
. ( قَوْلُهُ لِوَاجِبٍ ) إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْرِ فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي . ( قَوْلُهُ أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَخْ ) بِخِلَافِ مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ فَإِنَّ الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَى التَّرَاخِي بِلَا خِلَافٍ نِهَايَةٌ وَمُغْنِي وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي شَرْحٍ ثُمَّ ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ . ( قَوْلُهُ تَدَارُكًا لِوَرْطَةِ الْإِثْمِ ) أَيْ وَبِهِ يُفَارِقُ جَوَازَ قَطْعِ أَدَاءِ رَمَضَانَ بِالسَّفَرِ وَمِثْلُهُ أَدَاءُ النَّذْرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ سم . ( قَوْلُهُ أَوْ التَّقْصِيرِ إلَخْ ) رَاجِعٌ لِيَوْمِ الشَّكِّ . ( قَوْلُهُ وَإِنْ فَاتَ بِعُذْرٍ ) أَيْ : فَيُسْتَثْنَى مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ إلَخْ مِنْ أَنَّ مَا لَمْ يَتَعَدَّ بِفِطْرِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْفَوْرُ سم ( قَوْلُهُ هُنَا ) أَيْ : فِي الصَّوْمِ ( قَوْلُهُ مُطْلَقًا ) أَيْ : تَعَدَّى بِفَوْتِهَا أَوْ لَا . ( قَوْلُهُ كَمَا تَقَرَّرَ ) أَيْ : بِقَوْلِهِ نَعَمْ مَرَّ إلَخْ . ( قَوْلُهُ كُلُّ فَرْضٍ إلَخْ ) أَيْ : كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ع ش . ( قَوْلُهُ أَوْ يَفُوتُ وُجُوبُهُ إلَخْ ) أَيْ : كَاعْتِكَافٍ مَنْذُورٍ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ . ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ نَحْوِ قِرَاءَةٍ إلَخْ ) فِيهِ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ كُلُّ فَرْضٍ عَيْنِيٍّ إلَخْ . ( قَوْلُهُ وَكَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ إلَخْ ) أَيْ : يَحْرُمُ قَطْعُهُ . ( قَوْلُهُ أَوْ صَلَاةُ جِنَازَةٍ ) قَالَ فِي الْإِمْدَادِ لِمَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الصَّلَاةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَحَمْلِهِ وَدَفْنِهِ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَيُمْتَنَعُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بَعْدَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ نَعَمْ يُتَّجَهُ جَوَازُ الْإِعْرَاضِ بِعُذْرٍ نَحْوِ تَعَبِ الْحَامِلِ أَوْ الْحَافِرِ فَتَرْكُهُ لِغَيْرِهِ وَنَحْوُ تَرْكِهِ لِمَنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمُخْرِجَةِ لِلتَّرْكِ عَنْ هَتْكٍ لِحُرْمَةٍ فَتَأَمَّلْ شَوْبَرِيٌّ ا هـ بُجَيْرِمِيٌّ . ( قَوْلُهُ قَطَعَهُ ) أَيْ : فَرْضَ الْكِفَايَةِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ ) أَيْ : مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجَمْعُ . ( قَوْلُهُ وَيَحْرُمُ ) إلَى الْكِتَابِ فِي النِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي إلَّا قَوْلَهُ أَوْ قَضَاءً مُوَسَّعًا . ( قَوْلُهُ وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ إلَخْ ) فَلَوْ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا كَالصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ وَسَيَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ عَدَمُ حُرْمَةِ صَوْمِ نَحْوِ عَاشُورَاءَ عَلَيْهَا أَمَّا صَوْمُهَا فِي غَيْبَةِ زَوْجِهَا عَنْ بَلَدِهَا فَجَائِزٌ قَطْعًا وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ مَعَ حُضُورِهِ نَظَرًا لِجَوَازِ إفْسَادِهِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الصَّوْمَ يُهَابُ عَادَةً فَيَمْنَعُهُ التَّمَتُّعُ وَلَا يُلْحَقُ بِالصَّوْمِ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ لِقِصَرِ زَمَنِهَا وَالْأَمَةُ الْمُبَاحَةُ لِلسَّيِّدِ كَالزَّوْجَةِ وَغَيْرُ الْمُبَاحَةِ كَأُخْتِهِ وَالْعَبْدُ إنْ تَضَرَّرَ بِصَوْمِ التَّطَوُّعِ لِضَعْفٍ أَوْ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَإِلَّا جَازَ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرُهُ نِهَايَةٌ وَمُغْنِي وَإِيعَابٌ قَالَ ع ش قَوْلُهُ م ر صَحَّ أَيْ : وَتُثَابُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ م ر عَدَمُ حُرْمَةِ صَوْمٍ إلَخْ أَيْ : بِغَيْرِ إذْنِهِ وَقَوْلُهُ م ر نَحْوُ عَاشُورَاءَ أَيْ : مِمَّا لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ كَعَرَفَةَ وَقَوْلُهُ م ر مَعَ حُضُورِهِ أَيْ : وَلَوْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِأَنْ يَغِيبَ عَنْهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَطْرَأَ لَهُ قَضَاءُ وَطَرِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ وَقَوْلُهُ م ر صَلَاةُ التَّطَوُّعِ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَثُرَ مَا نَوَتْهُ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَأْنِهَا قِصَرُ زَمَنِهَا وَقَوْلُهُ م ر وَالْأَمَةُ الْمُبَاحَةُ إلَخْ أَيْ : الَّتِي أَعَدَّهَا لِلتَّمَتُّعِ بِأَنْ تَسَرَّى بِهَا أَمَّا أَمَةُ الْخِدْمَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لِلسَّيِّدِ تَمَتُّعٌ بِهَا وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهَا إرَادَتُهُ مِنْهَا فَلَا يَنْبَغِي مَنْعُهَا مِنْ الصَّوْمِ ا هـ ع ش . ( قَوْلُهُ أَوْ قَضَاءً مُوَسَّعًا ) سَكَتَ عَنْهُ النِّهَايَةُ وَالْمُغْنِي وَقَالَ ع ش قَوْلُهُ م ر أَنْ تَصُومَ تَطَوُّعًا خَرَجَ بِهِ الْفَرْضُ فَلَا يَحْرُمُ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ قَطْعُهُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لِنَذْرٍ مُطْلَقٍ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ ا هـ . ( قَوْلُهُ وَزَوْجُهَا إلَخْ ) أَيْ الَّذِي يَتَأَتَّى بِهِ اسْتِمْتَاعٌ وَلَوْ بِغَيْرِ وَطْءٍ وَمَرَّ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَمَرَ بِصَوْمِ الِاسْتِسْقَاءِ وَجَبَ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وُجُوبُهُ حَتَّى عَلَى النِّسَاءِ وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ الْمَنْعُ حِينَئِذٍ إيعَابٌ . ( قَوْلُهُ كَمَا يَأْتِي ) أَيْ : فِي النَّفَقَاتِ(/10)
( خَاتِمَةٌ ) أَفْضَلُ الشُّهُورِ لِلصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَهِيَ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ وَأَفْضَلُهَا الْمُحَرَّمُ ثُمَّ رَجَبٌ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ بَاقِيهَا وَظَاهِرُهُ الِاسْتِوَاءُ ثُمَّ شَعْبَانُ لِخَبَرِ { كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ } وَخَبَرِ { كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا } قَالَ الْعُلَمَاءُ اللَّفْظُ الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِكُلِّهِ غَالِبُهُ وَإِنَّمَا أَكْثَرَ صلى الله عليه وسلم مِنْ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ مَعَ كَوْنِ الْمُحَرَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ كَانَتْ تَعْرِضُ لَهُ فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَعُهُ مِنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إلَّا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ نِهَايَةٌ وَمُغْنِي وَكَذَا فِي الْإِيعَابِ إلَّا أَنَّهُ مَالَ إلَى تَقْدِيمِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى رَجَبٍ وَفِيهِ أَيْضًا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ } وَإِنَّمَا أَمَرَ الْمُخَاطَبَ بِالتَّرْكِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ إكْثَارُ الصَّوْمِ كَمَا جَاءَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَمَّا مَنْ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ فَصَوْمُ جَمِيعِهَا لَهُ فَضِيلَةٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ يُنْدَبُ صَوْمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كُلِّهَا ا هـ
وفي نيل الأوطار :
بَابُ مَا جَاءَ فِي صَوْمِ شَعْبَانَ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ 1722 - ( عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إلَّا شَعْبَانَ يَصِلُ بِهِ رَمَضَانَ } . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ : { كَانَ يَصُومُ شَهْرَيْ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ } ) . 1723 - ( وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ } . وَفِي لَفْظٍ { مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ , مَا كَانَ يَصُومُ فِي شَعْبَانَ , كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا , بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ } . وَفِي لَفْظٍ : { مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ , وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ } . مُتَّفَقٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ) .(/11)
حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ قَوْلُهُ : ( شَهْرًا تَامًّا إلَّا شَعْبَانَ ) وَكَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ " فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ " . وَقَوْلُهَا : " بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ " ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ قَوْلَ عَائِشَةَ " كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا " وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ وَالتَّمَامِ الْأَكْثَرُ . وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ : جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ : صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ , وَيُقَالُ : قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ , وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : كَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ . وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْكُلِّ وَالتَّمَامِ مُفَسَّرَةٌ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ وَمُخَصَّصَةٌ بِهَا , وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ , وَهُوَ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ وَاسْتَبْعَدَهُ الطِّيبِيُّ قَالَ : لِأَنَّ لَفْظَ كُلٍّ تَأْكِيدٌ لَإِرَادَةِ الشُّمُولِ وَرَفْعِ التَّجَوُّزِ , فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ , قَالَ : فَيُحْمَلُ عَلَى . أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ تَارَةً , وَيَصُومُ مُعْظَمَهُ أُخْرَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ وَاجِبٌ كُلَّهُ كَرَمَضَانَ , وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا : " كُلَّهُ " أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ أَوَّلِهِ تَارَةً وَمِنْ آخِرِهِ أُخْرَى , وَمِنْ أَثْنَائِهِ طَوْرًا فَلَا يُخَلِّي شَيْئًا مِنْهُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا يَخُصُّ بَعْضًا مِنْهُ بِصِيَامٍ دُونَ بَعْضٍ . وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ : إمَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عَائِشَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ , وَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ , وَإِمَّا أَنْ يُجْمَعَ بِأَنَّ قَوْلَهَا : " إنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ " مُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهَا : " إنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ " وَأَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ أَخْبَرَتْ عَنْ آخِرِهِ , وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهَا : { وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا قَطُّ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ رَمَضَانَ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ . وَاخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي إكْثَارِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ فَقِيلَ : كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرِ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتَجْتَمِعُ فَيَقْضِيَهَا فِي شَعْبَانَ , أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ . وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَرُبَّمَا أَخَّرَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ صَوْمُ السَّنَةِ فَيَصُومَ شَعْبَانَ } , وَلَكِنَّ فِي إسْنَادِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَقِيلَ : كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ , وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ ؟ فَقَالَ : شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ } وَلَكِنَّ إسْنَادَهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ فِيهِ صَدَقَةَ بْنَ مُوسَى وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَقِيلَ : الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ نِسَاءَهُ كُنَّ يَقْضِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ , فَكَانَ يَصُومُ مَعَهُنَّ . وَقِيلَ : الْحِكْمَةُ أَنَّهُ يَتَعَقَّبُهُ رَمَضَانُ وَصَوْمُهُ مُفْتَرَضٌ , فَكَانَ يُكْثِرُ مِنْ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ قَدْرَ مَا يَصُومُ شَهْرَيْنِ غَيْرَهُ لِمَا يَفُوتُهُ مِنْ التَّطَوُّعِ الَّذِي يَعْتَادُهُ بِسَبَبِ صَوْمِ رَمَضَانَ . وَالْأَوْلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ غَفْلَةُ النَّاسِ عَنْهُ لِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ قَالَ : { قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ , قَالَ : ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ , وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ } وَنَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي يَعْلَى , وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ أَوْ أَكْثَرِهِ وَوَصْلِهِ بِرَمَضَانَ وَبَيْنَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ , وَكَذَا مَا جَاءَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ نِصْفِ شَعْبَانَ الثَّانِي فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهَا ظَاهِرٌ بِأَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تِلْكَ الْأَيَّامَ فِي صِيَامٍ يَعْتَادُهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْيِيدُ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ التَّقَدُّمِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ . } . فَائِدَةٌ : ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُسَامَةَ : " إنَّ شَعْبَانَ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ(/12)
النَّاسُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ رَجَبٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَغْفُلُونَ عَنْ تَعْظِيمِ شَعْبَانَ بِالصَّوْمِ كَمَا يُعَظِّمُونَ رَمَضَانَ وَرَجَبًا بِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ غَفْلَتُهُمْ عَنْ تَعْظِيمِ شَعْبَانَ بِصَوْمِهِ كَمَا يُعَظِّمُونَ رَجَبًا بِنَحْرِ النَّحَائِرِ فِيهِ , فَإِنَّهُ كَانَ يُعَظَّمُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ وَيَنْحَرُونَ فِيهِ الْعَتِيرَةَ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ , وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ .
الْمُرَادُ بِالنَّاسِ : الصَّحَابَةُ , فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ كَانَ إذْ ذَاكَ مَحَا آثَارَ الْجَاهِلِيَّةِ , وَلَكِنَّ غَايَتَهُ التَّقْرِيرُ لَهُمْ عَلَى صَوْمِهِ , وَهُوَ لَا يُفِيدُ زِيَادَةً عَلَى الْجَوَازِ . و
َقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَوْمِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ .
أَمَّا الْعُمُومُ فَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّرْغِيبِ فِي صَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهُوَ مِنْهَا بِالْإِجْمَاعِ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ . وَأَمَّا عَلَى الْخُصُوصِ فَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : { مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ سَنَةً , وَمَنْ صَامَ مِنْهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ غُلِّقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ , وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ , وَمَنْ صَامَ مِنْهُ عَشَرَةً لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ , وَمَنْ صَامَ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا نَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ قَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى فَاسْتَأْنِفْ الْعَمَلَ , وَمَنْ زَادَ زَادَهُ اللَّهُ } ثُمَّ سَاقَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِي فَضْلِهِ . وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ عَدَلَ صِيَامَ شَهْرٍ } وَذَكَرَ . نَحْوَ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا . وَأَخْرَجَ أَيْضًا نَحْوَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا . وَأَخْرَجَ الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا { رَجَبٌ مِنْ شُهُورِ الْحُرُمِ , وَأَيَّامُهُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى أَبْوَابِ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَإِذَا صَامَ الرَّجُلُ مِنْهُ يَوْمًا وَجَدَّدَ صَوْمَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ نَطَقَ الْبَابُ وَنَطَقَ الْيَوْمُ وَقَالَا : يَا رَبِّ اغْفِرْ لَهُ , وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ صَوْمَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ لَمْ يُسْتَغْفَرْ لَهُ , وَقِيلَ : خَدَعَتْكَ نَفْسُكَ } وَأَخْرَجَ أَبُو الْفُتُوحِ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ فِي أَمَالِيهِ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { رَجَبٌ شَهْرُ اللَّهِ , وَشَعْبَانُ شَهْرِي , وَرَمَضَانُ شَهْرُ أُمَّتِي } .
وَحَكَى ابْنُ السُّبْكِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَرِدْ فِي اسْتِحْبَابِ صَوْمِ رَجَبٍ عَلَى الْخُصُوصِ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ , وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِيهِ وَاهِيَةٌ لَا يَفْرَحُ بِهَا عَالِمٌ . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الْجِفَانِ وَيَقُولُ : كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ تُعَظِّمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ . وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ فَقَالَ : أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ شَعْبَانَ } ؟ . وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ صَوْمَ رَجَبٍ .
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْخُصُوصَاتِ إذَا لَمْ تَنْتَهِضْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِهَا انْتَهَضَتْ الْعُمُومَاتُ , وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَكُونَ مُخَصِّصًا لَهَا .
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ : إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ } فَفِيهِ ضَعِيفَانِ : زَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ , وَدَاوُد بْنُ عَطَاءٍ .(/13)
1724 - ( وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَاهِلَةَ قَالَ : { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتُكَ عَامَ الْأَوَّلِ , فَقَالَ : فَمَا لِي أَرَى جِسْمَكَ نَاحِلًا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكَلْتُ طَعَامًا بِالنَّهَارِ , مَا أَكَلْتُهُ إلَّا بِاللَّيْلِ , قَالَ : مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تُعَذِّبَ نَفْسَكَ ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَقْوَى , قَالَ : صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا بَعْدَهُ , قُلْت : إنِّي أَقْوَى , قَالَ : صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ , قُلْت : إنِّي أَقْوَى , قَالَ : صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ , وَصُمْ أَشْهُرَ الْحُرُمِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهَذَا لَفْظُهُ ) . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ , وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اسْمِ الرَّجُلِ الَّذِي مِنْ بَاهِلَةَ , فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ : إنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ , وَقَالَ : سَكَنَ الْبَصْرَةَ وَرَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا وَلَمْ يُسَمِّهِ , وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذَا الْحَدِيثَ , وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ : إنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ , وَالرَّاوِي عَنْهُ مُجِيبَةُ الْبَاهِلِيَّةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ; وَسُكُونِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَتَاءُ تَأْنِيثٍ , فَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا : يَعْنِي هَذَا الرَّجُلَ , وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ أَنَّهَا قَالَتْ : حَدَّثَنِي أَبِي أَوْ عَمِّي . وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ مُجِيبَةُ الْبَاهِلِيُّ عَنْ عَمِّهِ , وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الِاخْتِلَافِ . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَهُوَ مُتَوَجَّهٌ وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ قَادِحًا فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ : ( صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ ) يَعْنِي رَمَضَانَ , قَوْلُهُ : ( وَيَوْمًا بَعْدَهُ ) إلَى قَوْلِهِ : " وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلَا مُنَافَاةَ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَقْبُولَةٌ . قَوْلُهُ : ( وَصُمْ أَشْهُرَ الْحُرُمِ ) هِيَ شَهْرُ الْقِعْدَةِ وَالْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٍ وَرَجَبٍ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَوْمِهَا . أَمَّا شَهْرُ مُحَرَّمٍ وَرَجَبٍ فَقَدْ قَدَّمْنَا مَا وَرَدَ فِيهِمَا عَلَى الْخُصُوصِ , وَكَذَلِكَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ . وَأَمَّا شَهْرُ ذِي الْقِعْدَةِ وَبَقِيَّةُ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَلِهَذَا الْعُمُومِ , وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْتَكْمَلَ صَوْمُ شَهْرٍ مِنْهَا وَلَا صَوْمُ جَمِيعِهَا , وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ : { صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ , صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ , صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ } .
**************
شهر رجب عنوان الفتوى
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19409 رقم الفتوى
13/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
اتخذ كثير من الناس فضل شهر رجب ذريعة للصيام والصلاة وزيارة المقابر وأوردوا فى ذلك أحاديث كثيرة، فما هو الرأى الصحيح فى ذلك ؟ .
نص الفتوى
الحافظ أحمد بن على بن محمد بن حجر العسقلانى وضع رسالة بعنوان : تبيين العجب بما ورد فى فضل رجب ، جمع فيها جمهرة الأحاديث الواردة فى فضائل شهر رجب وصيامه والصلاة فيه .
وقسمها إلى ضعيفة وموضوعة .
وذكر له ثمانية عشر اسما ، من أشهرها "الأصم " لعدم سماع قعقعة السلاح فيه لأنه من الأشهر الحرم التى حرم فيها القتال ، و "الأصب " لانصباب الرحمة فيه ، و "منصل الأسنة" كما ذكره البخارى عن أبى رجاء العطاردى قال : كنا نعبد الحجر ، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا الشاء - الشياة- فحلبنا عليه ثم طفنا به ، فإذا دخل شهر رجب قلنا :
منصل الأسنة فلم ندع رمحا فيه حديدة ، ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه .
وفضل رجب داخل فى عموم فضل الأشهر الحرم التى قال الله فيها{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } التوبة : 36، وعينها حديث الصحيحين فى حجة الوداع بأنها ثلاثة سَرْد " أى متتالية "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد ، وهو رجب "مضر" الذى بين جمادى الآخرة وشعبان ، وليس رجب "ربيعة" وهو رمضان .
ومن عدم الظلم فيه عدم القتال ، وذلك لتأمين الطريق لزائرى، المسجد الحرام ، كما قال تعالى : بعد هذه الآية {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } التوبة : 5، ومن عدم الظلم أيضا عدم معصية الله ، واستنبط بعض العلماء من ذلك -دون دليل مباشر من القرآن والسنة نص عليه - جواز تغليظ الدية على القتل فى الأشهر الحرم بزيادة الثلث .(/14)
ومن مظاهر تفضيل الأشهر الحرم -بما فيها رجب -ندب الصيام فيها . كما جاء فى حديث رواه أبو داود عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له - بعد كلام طويل - " صم من الحرم واترك " ثلاث مرات ، وأشار بأصابعه الثلاثة ، حيث ضمها وأرسلها والظاهر أن الإشارة كانت لعدد المرات لا لعدد الأيام . فالعمل الصالح فى شهر رجب كالأشهر الحرم له ثوابه العظيم ، ومنه الصيام يستوى فى ذلك أول يوم مع آخره ، وقد قال ابن حجر: إن شهر رجب لم يرد حديث خاص بفضل الصيام فيه ، لا صحيح ولا حسن .
ومن أشهر الأحاديث الضعيفة فى صيامه "إن فى الجنة نهرا يقال له رجب ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر "وحديث "من صام من رجب يوما كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلَّقت عنه أبواب الجحيم السبعة ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، ومن صام منه عشرة أيام بدلت سيئاته حسنات " ومنها حديث طويل جاء فى فضل صيام أيام منه ، وفى أثناء الحديث "رجب شهر الله وشعبان شهرى ورمضان شهر أمتى" وقيل إنه موضوع وجاء فى الجامع الكبير للسيوطى أنه من رواية أبى الفتح بن أبى الفوارس فى أماليه عن الحسن مرسلا .
ومن الأحاديث غير المقبولة فى فضل صلاة مخصوصة فيه "من صلى المغرب فى أول ليلة من رجب ثم صلى بعدها عشرين ركعة، يقرأ فى كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد مرة ويسلم فيهن عشر تسليمات حفظه الله فى نفسه وأهله وماله وولده ، وأجير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب " وهو حديث موضوع ، ومثلها صلاة الرغائب .
وقد عقد ابن حجر فى هذه الرسالة فصلا ذكر فيه أحاديث تتضمن النهى عن صوم رجب كله ، ثم قال : هذا النهى منصرف إلى من يصومه معظما لأمر الجاهلية ، أما إن صامه لقصد الصوم فى الجملة من غير أن يجعله حتما أو يخص منه أياما معينة يواظب على صومها ، أو ليالى معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة، فهذا من فعله مع السلامة مما استثنى فلا بأس به . فإن خص ذلك أو جعله حتما فهذا محظور، وهو فى المنع بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام "رواه مسلم . وإن صامه معتقدا أن صيامه أو صيام شيء منه أفضل من صيام غيره ففى هذا نظر، ومال ابن حجر إلى المنع . ونقل عن أبى بكر الطرطوشى فى كتاب "البدع والحوادث " أن صوم رجب يكره على ثلاثة أوجه أحدها أنه إذا خصه المسلمون بالصوم فى كل عام حسب العوام ، إما أنه فرض كشهر رمضان وإما سنة ثابتة كالسنن الثابتة، وإما لأن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على صيام باقى الشهور، ولو كان من هذا شيء لبينه النبى صلى الله عليه وسلم قال ابن دحية : الصيام عمل بر، لا لفضل صوم شهر رجب فقد كان عمر ينهى عنه . انتهى ما نقل عن ابن حجر .
هذا، وحرص الناس -والنساء بوجه خاص ، على زيارة القبور فى أول جمعة من شهر رجب ليس له أصل من الدين -ولا ثواب لها أكثر من ثواب الزيارة فى غير هذا اليوم .
والأولى فى شهر رجب أن نتذكر الأحداث التاريخية التى وقعت فيه مثل غزوة تبوك لنأخذ منها العبرة ، ونتذكر تخليص صلاح الدين الأيوبى للقدس من أيدى الصليبيين (فى رجب 583هـ 1187 م ) ليتوحد العرب والمسلمون لتطهير المسجد الأقصى من رأس الغاصبين .
كما نتذكر حادث الإسراء والمعراج ونستفيد منه ، على ما ارتضاه المسلمون فى كونه حدث فى شهر رجب .
**************
الصيام فى رجب
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19432 رقم الفتوى
13/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
يحرص الكثيرون على صيام أول يوم من رجب ، أو صيام أيام معينة منه ، وبعضهم يصومه ويصوم شعبان ورمضان ثلاثة أشهر متواليات ، فهل هذا مشروع ؟ .
نص الفتوى
شهر رجب من الأشهر الحرم ، والصيام فيها مندوب ، كما ورد فى حديث الباهلى الذى قال له النبى صلى الله عليه وسلم "صم من الحرم واترك " كما رواه أبو داود . والنبى عليه الصلاة والسلام كان يرغب فى صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما فى الصحيحين ، بل كان يرغب فى الصيام مطلقا . فصيام أيام من رجب مندوب بدليل هذه الأحاديث العامة ولكن لم يرد نص صحيح خاص بفضل الصيام فى أولى يوم منه أو غيره من أيامه ، ومن غير الصحيح الوارد فى ذلك حديث أنس "إن فى الجنة نهرا يقال له رجب ، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر" وهو حديث ضعيف .
وحديث ابن عباس "من صام من رجب يوما كان كصيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، ومن صام منه عشرة أيام بدلت سيئاته حسنات " وهو ضعيف أيضا كما ذكره السيوطى فى " الحاوى للفتاوى " .
وصيام رجب كله مع شعبان ليكمل بهما مع رمضان ثلاثة أشهر لم يرد ما يمنعه . وإن قال بعض العلماء : إن التزام ذلك لم يكن على عهد السلف فهو مبتدع ، فالأولى الصيام بقدر المستطاع مع عدم الالتزام بنذر ونحوه حتى لا يقع الصائم فى محظور .
****************
شهر رجب الأصم عنوان الفتوى
دار الإفتاء المصرية اسم المفتى
19434 رقم الفتوى
13/07/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
سمعنا من بعض المتحدثين انهم يصفون شهر رجب بالأصم فما معنا هذه الكلمة ؟ .
نص الفتوى(/15)
العرب فى زمانهم القديم كانوا يسمون أيام الأسبوع وشهور السنة بأسماء تختلف عن المعهود لنا عند مجىء الإسلام ، وكان للجو الطبيعى والنظام القبلى دخل فى تعيين هذه الأسماء. وشهر رجب كان يسمى قديما "أحلك"-كما يقول المسعودى فى كتابه "مروج الذهب " ويقول البيرونى: إن رجب كان يسمى بالأصم ، وهو أحد الأشهر الأربعة التى قال الله فيها {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } التوبة : 16 ، وهذه الأشهر الحرم قد عينها النبى صلى الله عليه وسلم بأسمائها فى خطبته فى حجة الوداع ، وقال عنها : ثلاثة سرد وواحد فرد : والثلاثة السرد هى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، والفرد هو رجب .
ولفظ رجب فيه معنى التعظيم ، حيث كان العرب فى الجاهلية يعظمونه ولا يستحلون فيه القتال ، كما لا يستحلونه فى الأشهر الثلاثة الأخرى، غير أنه لما كان وحده بعيدا عن أشهر الحج أعطوه اسما فيه معنى التعظيم حتى يتذكره الناس ولا ينسوه ، وكان الكثيرون يعتمرون فيه قبل دخول موسم الحج .
ولعل وصف رجب بالأصم مأخوذ من السكوت حيث لا تُسمع فيه قعقعة السلاح بالقتال ولا الصيحة بالاستنفار إليه ، يقول القرطبى فى تفسيره : كانت العرب تسميه -أى رجب -منصل الأسنة، أى مخرجها من أماكنها ، كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالا للقتال فيه وقطعا لأسباب الفتن لحرمته ، وقد ورد ذكر ذلك فى البخارى عن أبى رجاء العطاردى، واسمه عمران بن ملحان ، قال :
كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاء فحلبنا عليه ثم طفنا به ، فإذا دخل شهر رجب قلنا : منصل الأسنة فلم ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه .
وكان من عادة العرب النسىء ، وهو تأخير بعض الأشهر الحرم إلى غير موعدها استعجالا للقتال ، وكان للقلمس وأولاده زعامة النسىء لا يرد كلامهم وكانت ربيعة بن نزار تؤخر رجب وتجعل بدله رمضان ، وكان من العرب من يحلون رجبا ويحرمون شعبان ، لكن "مضر" كانت تحافظ على حرمة شهر رجب لا تستحله أبدا، وجاء ذلك فى قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع كما رواه الشيخان ، وهو يخبر أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض ، وعين الأشهر الحرم ، وعند ذكر رجب قال "ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان " فأضافه إلى مضر لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب .
قال ابن حجر فى فتح البارى : أضافه إليهم لأنهم كانوا يتمسكون بتعظيمه بخلاف غيرهم ، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم موضع رجب بأنه هو ما بين جمادى وشعبان ، وليس هو ما كان فى نسيئهم الذى يؤخرونه به عن موضعه الحقيقى .
هذا هو شهر رجب الأصم الذى ندب الرسول صلى الله عليه وسلم صيام ما يستطاع منه ومن غيره من الأشهر الحرم ، ولم يرد فيه بخصوصه حديث باستحباب الصيام يرتقى إلى درجة الصحة .
***************
بدع في شهر رجب
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز اسم المفتى
11537 رقم الفتوى
07/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة ( 27 ) منه فهل ذلك أصل في الشرع؟ جزاكم الله خيرا .
نص الفتوى
الحمد لله
تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة (27) منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز ، وليس له أصل في الشرع ، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم ، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة ، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب ، وهكذا الاحتفال بليلة (27) اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج ، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع ، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها ، ولو علمت لم يجز الاحتفال بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها ، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم ، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها .
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز ول : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). متفق على صحته ، وقال عليه الصلاة والسلام : (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). أخرجه مسلم في صحيحه ومعنى فهو رد أي مردود على صاحبه ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه : (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة). أخرجه مسلم أيضا .
فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها والتواصي بها والحذر من البدع كلها عملا بقول الله عز وجل : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقوله سبحانه : {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). أخرجه مسلم في صحيحه .(/16)
أما العمرة فلا بأس بها في رجب لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وكان السلف يعتمرون في رجب ، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه : (اللطائف) عن عمر وابنه وعائشة رضي الله عنهم ونقل عن ابن سيرين أن السلف كانوا يفعلون ذلك . والله ولي التوفيق.
**************
تخصيص أيام من رجب بالصوم عنوان الفتوى
فضيلة الشيخ صالح الفوزان اسم المفتى
21300 رقم الفتوى
12/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هناك أيام تصام تطوعا في شهر رجب ، فهل تكون في أوله أو وسطه أو آخره ؟
نص الفتوى
جواب : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد : لم تثبت أحاديث خاصة بفضيلة الصوم في شهر رجب سوى ما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث أسامه قال : قلت : يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال ( ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم )،وإنما وردت أحاديث عامة في الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر ،والحث على صوم أيام البيض من كل شهر وهو الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والحث على صوم الأشهر الحرم وصوم الاثنين والخميس ويدخل رجب في عموم ذلك ، فإن كنت حريصا على اختيار أيام من الشهر فاختر أيام البيض الثلاثة أو يوم الاثنين والخميس وإلا فالأمر واسع ، أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلا في الشرع.
**************
صوم أول يوم من رجب عنوان الفتوى
فضيلة الشيخ صالح الفوزان اسم المفتى
21301 رقم الفتوى
12/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
ما حكم صوم أول يوم من رجب؟
نص الفتوى
صوم أول يوم من رجب بدعة ليس من الشريعة ولم يثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ،في خصوص رجب صيام . فصيام أول يوم من رجب واعتقاد أنه سنة هذا خطأ وبدعة.
*************
هل صحيح أن شهر رجب يُفرَدُ بعبادةٍ معينة عنوان الفتوى
فضيلة الشيخ صالح الفوزان اسم المفتى
16480 رقم الفتوى
06/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل صحيح أن شهر رجب يُفرَدُ بعبادةٍ معينة أو بخصوصية؟ أرجو إفادتنا؛ حيث إن هذا الأمر مُلتبسٌ علينا، وهل يُفرَدُ أيضًا زيارة للمسجد النبوي فيه؟
نص الفتوى
الحمد لله
شهر رجب كغيره من الشهور، لا يُخصَّص بعبادة دون غيره من الشهور؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه لا بصلاة ولا صيام ولا بعمرة ولا بذبيحة ولا غير ذلك، وإنما كانت هذه الأمور تُفعل في الجاهلية فأبطلها الإسلام؛ فشهر رجب كغيره من الشهور، لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيصه بشيء من العبادات؛ فمن أحدث فيه عبادة من العبادات وخصه بها؛ فإنه يكون مبتدعًا؛ لأنه أحدث في الدين ما ليس منه، والعبادة توقيفية؛ لا يقدم على شيء منها؛ إلا إذا كان له دليل من الكتاب والسنة، ولم يرد في شهر رجب بخصوصيته دليل يُعتمد عليه، وكل ما ورد فيه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الصحابة ينهون عن ذلك ويُحذِّرون من صيام شيء من رجب خاصة.
أما الإنسان الذي له صلاة مستمر عليها، وله صيام مستمر عليه؛ فهذا لا مانع من استمراره في رجب كغيره، ويدخل تبعًا.
***********
نذرت صيام شهر رجب طول عمرها ثم عجزت عن الوفاء عنوان الفتوى
فضيلة الشيخ صالح الفوزان اسم المفتى
16937 رقم الفتوى
27/05/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
نذرت جدتي أن تصوم شهر رجب مدى الحياة نذرًا خالصًا لله إن تحققت أمانيها، وبعد أن تحققت صامت كما نذرت إلى أن بلغت سنًّا يصعب معها الصيام ويشق عليها للمرض والكبر، فما الحكم في هذه الحالة؟ وهل يلزمها الاستمرار أم تكفر وتعفى من هذا النذر؟
نص الفتوى
الحمد لله
يكره إفراد رجب بالصيام، فهذه المرأة التي نذرت أن تصوم شهر رجب نذرت نذرًا مكروهًا، وإذا نذر الإنسان شيئًا مكروهًا فالأولى أن لا يفعله، وأن يكفر كفارة يمين، بأن تعتق رقبة، أو تطعم عشرة مساكين، أو تكسو عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام أو ثوب يجزيه في صلاته، فإن لم تقدر على واحدة من الثلاثة الخصال المذكورة فإنها تصوم ثلاثة أيام، هذا هو الأحسن لها من فعل النذر المكروه.
*************(/17)
صُوْم *
التّعريف :
1 - الصّوم في اللّغة : الإمساك مطلقاً عن الطّعام والشّراب والكلام والنّكاح والسّير .
قال تعالى - حكايةً عن مريم عليها السلام - : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } .
والصّوم : مصدر صام يصوم صوماً وصياماً .
وفي الاصطلاح : هو الإمساك عن المفطر على وجه مخصوص .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإمساك :
2 - الإمساك لغةً : هو حبس الشّيء والاعتصام به ، وأخذه وقبضه ، والإمساك عن الكلام هو : السّكوت ، والإمساك : البخل .
وقوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أمر بحبسهنّ وهو بذلك أعمّ من الصّوم .
ب - الكفّ :
3 - الكفّ عن الشّيء لغةً : تركه ، وإذا ذكر المتعلّق من الطّعام والشّراب كان مساوياً للصّوم .
ج - الصّمت :
4 - الصّمت وكذا السّكوت لغةً : الإمساك عن النّطق ، وهما أخصّ من الصّوم لغةً ، لا شرعاً ، لأنّ بينهما وبينه تبايناً .
الحكم التّكليفيّ :
5 - أجمعت الأمّة على أنّ صوم شهر رمضان فرض .
والدّليل على الفرضيّة الكتاب والسّنّة والإجماع .
أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } : أي فرض .
وقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
وأمّا السّنّة : فحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان « .
كما انعقد الإجماع على فرضيّة صوم شهر رمضان ، لا يجحدها إلاّ كافر .
فضل الصّوم :
6 - وردت في فضل الصّوم أحاديث كثيرة ، نذكر منها ما يلي :
أ - عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من صام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدّم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه « .
ب - وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم رمضان ، يقول : قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، كتب اللّه عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنّة ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغلّ فيه الشّياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر « .
ج - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ في الجنّة باباً ، يقال له : الرّيّان ، يدخل منه الصّائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال : أين الصّائمون ؟ فيقومون ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد « .
د - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثمّ انسلخ قبل أن يغفر له « .
حكمة الصّوم :
7 - تتجلّى حكمة الصّوم فيما يلي :
أ - أنّ الصّوم وسيلة إلى شكر النّعمة ، إذ هو كفّ النّفس عن الأكل والشّرب والجماع ، وإنّها من أجلّ النّعم وأعلاها ، والامتناع عنها زماناً معتبراً يعرّف قدرها ، إذ النّعم مجهولة، فإذا فقدت عرفت ، فيحمله ذلك على قضاء حقّها بالشّكر ، وشكر النّعم فرض عقلاً وشرعاً، وإليه أشار الرّبّ سبحانه وتعالى بقوله في آية الصّيام : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
ب - أنّ الصّوم وسيلة إلى التّقوى ، لأنّه إذا انقادت نفس للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة اللّه تعالى ، وخوفاً من أليم عقابه ، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام ، فكان الصّوم سبباً لاتّقاء محارم اللّه تعالى ، وإنّه فرض ، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصّوم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
ج - أنّ في الصّوم قهر الطّبع وكسر الشّهوة ، لأنّ النّفس إذا شبعت تمنّت الشّهوات ، وإذا جاعت امتنعت عمّا تهوى ، ولذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » يا معشر الشّباب : من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنّه أغضّ للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم ، فإنّه له وجاء « فكان الصّوم ذريعةً إلى الامتناع عن المعاصي .
د - أنّ الصّوم موجب للرّحمة والعطف على المساكين ، فإنّ الصّائم إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ، ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات ، فتسارع إليه الرّقّة عليه ، والرّحمة به ، بالإحسان إليه ، فينال بذلك ما عند اللّه تعالى من حسن الجزاء .
هـ - في الصّوم موافقة الفقراء ، بتحمّل ما يتحمّلون أحياناً ، وفي ذلك رفع حاله عند اللّه تعالى .
و - في الصّوم قهر للشّيطان ، فإنّ وسيلته إلى الإضلال والإغواء : الشّهوات ، وإنّما تقوى الشّهوات بالأكل والشّرب ، ولذلك جاء في حديث صفيّة رضي الله عنها قوله - عليه الصلاة والسلام - : » إنّ الشّيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدّم ، فضيّقوا مجاريه بالجوع « .
أنواع الصّوم :
8 - ينقسم الصّوم إلى صوم عين ، وصوم دين .
وصوم العين : ماله وقت معيّن :
أ - إمّا بتعيين اللّه تعالى ، كصوم رمضان ، وصوم التّطوّع خارج رمضان ، لأنّ خارج رمضان متعيّن للنّفل شرعاً .
ب - وإمّا بتعيين العبد ، كالصّوم المنذور به في وقت بعينه .
وأمّا صوم الدّين ، فما ليس له وقت معيّن ، كصوم قضاء رمضان ، وصوم كفّارة القتل والظّهار واليمين والإفطار في رمضان ، وصوم متعة الحجّ ، وصوم فدية الحلق ، وصوم جزاء الصّيد ، وصوم النّذر المطلق عن الوقت ، وصوم اليمين ، بأن قال : واللّه لأصومنّ شهراً .
الصّوم المفروض :(/1)
ينقسم الصّوم المفروض من العين والدّين ، إلى قسمين :
منه ما هو متتابع ، ومنه ما هو غير متتابع ، بل صاحبه بالخيار : إن شاء تابع ، وإن شاء فرّق .
أوّلاً : ما يجب فيه التّتابع ، ويشمل ما يلي :
9 - أ - صوم رمضان ، فقد أمر اللّه تعالى بصوم الشّهر بقوله سبحانه : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } والشّهر متتابع ، لتتابع أيّامه ، فيكون صومه متتابعا ضرورةً .
ب - صوم كفّارة القتل الخطأ ، وصوم كفّارة الظّهار ، والصّوم المنذور به في وقت بعينه ، وصوم كفّارة الجماع في نهار رمضان .
وتفصيله في مصطلح : ( تتابع ) .
ثانياً : ما لا يجب فيه التّتابع ، ويشمل ما يلي :
10 - أ - قضاء رمضان ، فمذهب الجمهور عدم اشتراط التّتابع فيه ، لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإنّه ذكر الصّوم مطلقاً عن التّتابع .
ويروى عن جماعة من الصّحابة ، منهم : عليّ ، وابن عبّاس ، وأبو سعيد ، وعائشة ، رضي الله تعالى عنهم أنّهم قالوا : إن شاء تابع ، وإن شاء فرّق .
ولو كان التّتابع شرطاً ، لما احتمل الخفاء على هؤلاء الصّحابة ، ولما احتمل مخالفتهم إيّاه. ومذهب الجمهور هو : ندب التّتابع أو استحبابه للمسارعة إلى إسقاط الفرض .
وروي عن مجاهد أنّه يشترط تتابعه لأنّ القضاء يكون على حسب الأداء ، والأداء وجب متتابعاً ، فكذا القضاء .
ب - الصّوم في كفّارة اليمين ، وفي تتابعه خلاف ، وتفصيله في مصطلح : ( تتابع ) .
ج - صوم المتعة في الحجّ ، وصوم كفّارة الحلق ، وصوم جزاء الصّيد ، وصوم النّذر المطلق ، وصوم اليمين المطلقة .
قال اللّه - عزّ وجلّ - في صوم المتعة : { فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ } .
وقال في كفّارة الحلق : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
وقال في جزاء الصّيد : { أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } .
فذكر الصّوم في هذه الآيات مطلقاً عن شرط التّتابع .
وكذا : النّاذر ، والحالف في النّذر المطلق ، واليمين المطلقة ، ذكر الصّوم فيها مطلقاً عن شرط التّتابع .
وللتّفصيل انظر مصطلح : ( نذر ، وأيمان ) .
الصّوم المختلف في وجوبه ، ويشمل ما يلي :
الأوّل : وهو قضاء ما أفسده من صوم النّفل :
11 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ قضاء نفل الصّوم إذا أفسده واجب ، واستدلّ له الحنفيّة : بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » كنت أنا وحفصة صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه ، فأكلنا منه . فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة - وكانت ابنة أبيها - فقالت يا رسول اللّه : إنّا كنّا صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه قال : اقضيا يوماً آخر مكانه « .
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه خرج يوماً على أصحابه ، فقال : إنّي أصبحت صائماً ، فمرّت بي جارية لي ، فوقعت عليها ، فما ترون ؟ فقال عليّ : أصبت حلالاً ، وتقضي يوماً مكانه ، كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . قال عمر : أنت أحسنهم فتيا .
ولأنّ ما أتى به قربةً ، فيجب صيانته وحفظه عن البطلان ، وقضاؤه عند الإفساد ، لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ولا يمكن ذلك إلاّ بإتيان الباقي ، فيجب إتمامه وقضاؤه عند الإفساد ضرورةً ، فصار كالحجّ والعمرة المتطوّعين .
والحنفيّة لا يختلفون في وجوب القضاء إذا فسد صوم النّافلة عن قصد ، أو غير قصد بأن عرض الحيض للصّائمة المتطوّعة .
وإنّما اختلفوا في الإفساد نفسه ، هل يباح أو لا ؟ فظاهر الرّواية ، أنّه لا يباح إلاّ بعذر ، وهذه الرّواية الصّحيحة .
وفي رواية أخرى ، هي رواية المنتقى : يباح بلا عذر ، واستوجهها الكمال إذ قال : واعتقادي أنّ رواية المنتقى أوجه لكن قيّدت بشرط أن يكون من نيّته القضاء .
واختلفوا - على ظاهر الرّواية - هل الضّيافة عذر أو لا ؟ .
قال في الدّرّ : والضّيافة عذر ، إن كان صاحبها ممّن لا يرضى بمجرّد حضوره ، ويتأذّى بترك الإفطار ، فيفطر ، وإلاّ لا ، هذا هو الصّحيح من المذهب ، حتّى لو حلف عليه رجل بالطّلاق الثّلاث ، أفطر ولو كان صومه قضاءً ، ولا يحنّثه على المعتمد .
وقيل : إن كان صاحب الطّعام يرضى بمجرّد حضوره ، وإن لم يأكل ، لا يباح له الفطر . وإن كان يتأذّى بذلك يفطر .
وهذا إذا كان قبل الزّوال ، أمّا بعده فلا ، إلاّ لأحد أبويه إلى العصر ، لا بعده .
والمالكيّة أوجبوا القضاء بالفطر العمد الحرام ، احترازاً عن الفطر نسياناً أو إكراهاً ، أو بسبب الحيض والنّفاس ، أو خوف مرض أو زيادته ، أو شدّة جوع أو عطش ، حتّى لو أفطر لحلف شخص عليه بطلاق باتّ ، فلا يجوز الفطر ، وإن أفطر قضى .
واستثنوا ما إذا كان لفطره وجه :
كأن حلف بطلاقها ، ويخشى أن لا يتركها إن حنث ، فيجوز الفطر ولا قضاء .
أو أن يأمره أبوه أو أمّه بالفطر ، حناناً وإشفاقاً عليه من إدامة الصّوم ، فيجوز له الفطر ، ولا قضاء عليه .
أو يأمره أستاذه أو مربّيه بالإفطار ، وإن لم يحلف الوالدان أو الشّيخ .(/2)
12 - والشّافعيّة والحنابلة ، لا يوجبون إتمام نافلة الصّوم ، ولا يوجبون قضاءها إن فسدت، وذلك لقول عائشة رضي الله تعالى عنها : » يا رسول اللّه ، أهدي إلينا حيس فقال: أرنيه فلقد أصبحت صائماً . فأكل « وزاد النّسائيّ : » إنّما مثل صوم المتطوّع مثل الرّجل يخرج من ماله الصّدقة ، فإن شاء أمضاها ، وإن شاء حبسها « .
ولحديث أمّ هانئ رضي الله تعالى عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل عليها ، فدعا بشراب فشرب ، ثمّ ناولها فشربت ، فقالت : يا رسول اللّه ، أما إنّي كنت صائمةً ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » الصّائم المتطوّع أمين نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر « وفي رواية : » أمير نفسه « .
ولحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال : صنعت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم طعاماً ، فأتاني هو وأصحابه ، فلمّا وضع الطّعام قال رجل من القوم : إنّي صائم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » دعاكم أخوكم ، وتكلّف لكم . ثمّ قال له : أفطر ، وصم مكانه يوماً إن شئت « .
ولأنّ القضاء يتبع المقضيّ عنه ، فإذا لم يكن واجباً ، لم يكن القضاء واجباً ، بل يستحبّ . ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ من شرع في نافلة صوم لم يلزمه الإتمام ، لكن يستحبّ ، ولا كراهة ولا قضاء في قطع صوم التّطوّع مع العذر .
أمّا مع عدم العذر فيكره ، لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
ومن العذر أن يعزّ على من ضيّفه امتناعه من الأكل .
وإذا أفطر فإنّه لا يثاب على ما مضى إن أفطر بغير عذر ، وإلاّ أثيب .
الثّاني : صوم الاعتكاف ، وفيه خلاف ، وتفصيله في مصطلح : ( اعتكاف ج 5 ف 17 ) .
صوم التّطوّع :
13 - وهو :
أ - صوم يوم عاشوراء .
ب - صوم يوم عرفة .
ج - صوم يوم الاثنين والخميس من كلّ أسبوع .
د - صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وهي الأيّام البيض .
هـ- صيام ستّة أيّام من شوّال .
و- صوم شهر شعبان .
ز- صوم شهر المحرّم .
ح- صوم شهر رجب .
ط- صيام ما ثبت طلبه والوعد عليه في السّنّة الشّريفة .
وتفصيل أحكام هذا الصّوم في مصطلح : ( صوم التّطوّع ) .
الصّوم المكروه ، ويشمل ما يلي :
أ - إفراد يوم الجمعة بالصّوم :
14 - نصّ على كراهته الجمهور ، وقد ورد فيه حديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - : » لا تصوموا يوم الجمعة ، إلاّ وقبله يوم ، أو بعده يوم « ، وفي رواية : » إنّ يوم الجمعة يوم عيد ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم ، إلاّ أن تصوموا قبله أو بعده « .
وورد في حديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » لا تصوموا يوم الجمعة وحده « .
وذكر في الخانيّة أنّه لا بأس بصوم يوم الجمعة عند أبي حنيفة ومحمّد ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه كان يصومه ولا يفطر ، وظاهر هذا أنّ المراد - بلا بأس- الاستحباب ، وقد صرّح الحصكفيّ بندب صومه ، ولو منفرداً .
وكذا الدّردير صرّح بندب صومه وحده فقط ، لا قبله ولا بعده وهو المذهب عند المالكيّة ، وقال : فإن ضمّ إليه آخر فلا خلاف في ندبه .
وقال الطّحطاويّ : ثبت في السّنّة طلب صومه، والنّهي عنه ، والأخير منهما : النّهي .
وقال أبو يوسف : جاء حديث في كراهة صومه ، إلاّ أن يصوم قبله أو بعده ، فكان الاحتياط في أن يضمّ إليه يوماً آخر .
قال الشّوكانيّ : فمطلق النّهي عن صومه مقيّد بالإفراد .
وتنتفي الكراهة بضمّ يوم آخر إليه ، لحديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة ، وهي صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا . قال : تريدين أن تصومي غداً ؟ قالت : لا . قال : فأفطري « .
ب – صوم يوم السّبت وحده خصوصاً :
15 - وهو متّفق على كراهته ، وقد ورد فيه حديث عبد اللّه بن بسر ، عن أخته ، واسمها الصّمّاء رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » لا تصوموا يوم السّبت إلاّ فيما افترض عليكم ، فإن لم يجد أحدكم إلاّ لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه « ووجه الكراهة أنّه يوم تعظّمه اليهود ، ففي إفراده بالصّوم تشبّه بهم ، إلاّ أن يوافق صومه بخصوصه يوماً اعتاد صومه ، كيوم عرفة أو عاشوراء .
ج - صوم يوم الأحد بخصوصه :
16 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ تعمّد صوم يوم الأحد بخصوصه مكروه ، إلاّ إذا وافق يوماً كان يصومه ، واستظهر ابن عابدين أنّ صوم السّبت والأحد معاً ليس فيه تشبّه باليهود والنّصارى ، لأنّه لم تتّفق طائفة منهم على تعظيمهما ، كما لو صام الأحد مع الاثنين، فإنّه تزول الكراهة ، ويستظهر من نصّ الحنابلة أنّه يكره صيام كلّ عيد لليهود والنّصارى أو يوم يفردونه بالتّعظيم إلاّ أن يوافق عادةً للصّائم .
د - إفراد يوم النّيروز بالصّوم :
17 - يكره إفراد يوم النّيروز ، ويوم المهرجان بالصّوم ، وذلك لأنّهما يومان يعظّمهما الكفّار ، وهما عيدان للفرس ، فيكون تخصيصهما بالصّوم - دون غيرهما - موافقةً لهم في تعظيمهما ، فكره ، كيوم السّبت .
وعلى قياس هذا كلّ عيد للكفّار ، أو يوم يفردونه بالتّعظيم ونصّ ابن عابدين على أنّ الصّائم إذا قصد بصومه التّشبّه ، كانت الكراهة تحريميّةً .
هـ – صوم الوصال :(/3)
18 – ذهب جمهور الفقهاء – الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول – إلى كراهة صوم الوصال ، وهو : أن لا يفطر بعد الغروب أصلاً ، حتّى يتّصل صوم الغد بالأمس ، فلا يفطر بين يومين ، وفسّره بعض الحنفيّة بأن يصوم السّنة ولا يفطر في الأيّام المنهيّة . وإنّما كره ، لما روي عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – قال : » واصل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فواصل النّاس .. فنهاهم ، قيل له : إنّك تواصل ، قال : إنّي لست مثلكم ، إنّي أطعم وأسقى « .
والنّهي وقع رفقاً ورحمةً ، ولهذا واصل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها ، وكذا بمجرّد الشّرب لانتفاء الوصال .
ولا يكره الوصال إلى السّحر عند الحنابلة ، لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - مرفوعاً : » فأيّكم إذا أراد أن يواصل ، فليواصل حتّى السّحر « ولكنّه ترك سنّةً ، وهي : تعجيل الفطر ، فترك ذلك أولى محافظةً على السّنّة .
وعند الشّافعيّة قولان : الأوّل وهو الصّحيح : بأنّ الوصال مكروه كراهة تحريم ، وهو ظاهر نصّ الشّافعيّ رحمه الله ، والثّاني : يكره كراهة تنزيه .
و - صوم الدّهر - صوم العمر - :
19 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة - على وجه العموم إلى كراهة صوم الدّهر ، وعلّلت الكراهة بأنّه يضعف الصّائم عن الفرائص والواجبات والكسب الّذي لا بدّ منه ، أو بأنّه يصير الصّوم طبعاً له ، ومبنى العبادة على مخالفة العادة. واستدلّ للكراهة ، بحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » لا صام من صام الأبد « .
وفي حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : » قال عمر : يا رسول اللّه ، كيف بمن يصوم الدّهر كلّه ؟ قال : لا صام ولا أفطر ، أو لم يصم ولم يفطر « أي : لم يحصّل أجر الصّوم لمخالفته ، ولم يفطر لأنّه أمسك .
وقال الغزاليّ : هو مسنون .
وقال الأكثرون من الشّافعيّة : إن خاف منه ضرراً ، أو فوّت به حقّاً كره ، وإلاّ فلا .
والمراد بصوم الدّهر عند الشّافعيّة : سرد الصّوم في جميع الأيّام إلاّ الأيّام الّتي لا يصحّ صومها وهي : العيدان وأيّام التّشريق .
الصّوم المحرّم :
20 - ذهب الجمهور إلى تحريم صوم الأيّام التّالية :
أ - صوم يوم عيد الفطر ، ويوم عيد الأضحى ، وأيّام التّشريق ، وهي : ثلاثة أيّام بعد يوم النّحر .
وذلك لأنّ هذه الأيّام منع صومها لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ، ويوم النّحر « .
وحديث نبيشة الهذليّ - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: » أيّام التّشريق أيّام أكل وشرب ، وذكر اللّه - عزّ وجلّ - « .
وذهب الحنفيّة إلى جواز الصّوم فيها مع الكراهة التّحريميّة ، لما في صومها من الإعراض عن ضيافة اللّه تعالى ، فالكراهة ليست لذات اليوم ، بل لمعنىً خارج مجاور ، كالبيع عند الأذان يوم الجمعة ، حتّى لو نذر صومها صحّ ، ويفطر وجوباً تحامياً عن المعصية ، ويقضيها إسقاطاً للواجب ، ولو صامها خرج عن العهدة ، مع الحرمة .
وصرّح الحنابلة بأنّ صومها لا يصحّ فرضاً ولا نفلاً ، وفي رواية عن أحمد أنّه يصومها عن الفرض .
واستثنى المالكيّة والحنابلة في رواية : صوم أيّام التّشريق عن دم المتعة والقران ، ونقل المرداويّ أنّها المذهب ، لقول ابن عمر وعائشة - رضي الله تعالى عنهم - لم يرخّص في أيّام التّشريق أن يصمن إلاّ لمن لم يجد الهدي .
وهذا هو القديم عند الشّافعيّة ، والأصحّ الّذي اختاره النّوويّ ما في الجديد وهو : عدم صحّة الصّوم فيها مطلقاً .
قال الغزاليّ : وأمّا صوم يوم النّحر ، فقطع الشّافعيّ - رحمه الله تعالى - ببطلانه ، لأنّه لم يظهر انصراف النّهي عن عينه ووصفه ، ولم يرتض قولهم : إنّه نهى عنه ، لما فيه من ترك إجابة الدّعوة بالأكل .
ب - ويحرم صيام الحائض والنّفساء ، وصيام من يخاف على نفسه الهلاك بصومه .
ثبوت هلال شهر رمضان :
21 - يجب صوم رمضان بإكمال شعبان ثلاثين يوماً اتّفاقاً ، أو رؤية الهلال ليلة الثّلاثين ، وفي ثبوت الرّؤية خلاف بين الفقهاء ينظر في مصطلح : ( رؤية ف 2 ، ورمضان ف 2 ).
صوم من رأى الهلال وحده :
22 - من رأى هلال رمضان وحده ، وردّت شهادته ، لزمه الصّوم وجوباً ، عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو مشهور مذهب أحمد ، وذلك : للآية الكريمة، وهي قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
ولحديث : » صوموا لرؤيته « .
وحديث : » الصّوم يوم تصومون ، والفطر يوم تفطرون « .
ولأنّه تيقّن أنّه من رمضان ، فلزمه صومه ، كما لو حكم به الحاكم .
وروي عن أحمد : أنّه لا يصوم إلاّ في جماعة من النّاس .
وقيل : يصوم ندباً احتياطاً ، كما ذكره الكاسانيّ .
وقال المالكيّة : إن أفطر فعليه القضاء ، وإذا اعتقد عدم وجوب الصّوم عليه كغيره لجهله فقولان عندهم في وجوب الكفّارة ، لأنّه ليس بعد العيان بيان ، أو عدم وجوب الكفّارة ، بسبب عدم وجوب الصّوم على غيره .
23 - وإن رأى هلال شوّال وحده ، لم يفطر عند الجمهور ، خوف التّهمة وسدّاً للذّريعة ، وقيل : يفطر إن خفي له ذلك ، وقال أشهب : ينوي الفطر بقلبه ، وعلى المذهب - وقول الجمهور الّذين منهم المالكيّة - إن أفطر فليس عليه شيء فيما بينه وبين اللّه تعالى ، فإن عثر عليه عوقب إن اتّهم ، ولا كفّارة ، كما نصّ عليه الحنفيّة ، لشبهة الرّدّ .(/4)
وقال الشّافعيّ : له أن يفطر ، لأنّه تيقّن من شوّال ، فجاز له الأكل كما لو قامت بيّنة لكن يفطر سرّاً ، بحيث لا يراه أحد ، لأنّه إذا أظهر الفطر عرّض نفسه للتّهمة ، وعقوبة السّلطان .
وقال الحنفيّة : لو أفطر من رأى الهلال وحده في الوقتين : رمضان وشوّال قضى ولا كفّارة عليه ، لأنّه بردّ شهادته في رمضان ، صار مكذّباً شرعاً ، ولو كان فطره قبل ما ردّ القاضي شهادته لا كفّارة عليه في الصّحيح الرّاجح ، لقيام الشّبهة ، لأنّ ما رآه يحتمل أن يكون خيالاً ، لا هلالاً - كما يقول الحصكفيّ - .
وقيل : تجب الكفّارة فيهما - أي في الفطر وفي رمضان - وذلك للظّاهر بين النّاس في الفطر ، وللحقيقة الّتي عنده في رمضان .
ركن الصّوم :
24 - ركن الصّوم باتّفاق الفقهاء هو : الإمساك عن المفطرات ، وذلك من طلوع الفجر الصّادق ، حتّى غروب الشّمس .
ودليله قوله تعالى : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } .
والمراد من النّصّ : بياض النّهار وظلمة اللّيل ، لا حقيقة الخيطين ، فقد أباح اللّه تعالى هذه الجملة من المفطرات ليالي الصّيام ، ثمّ أمر بالإمساك عنهنّ في النّهار ، فدلّ على أنّ حقيقة الصّوم وقوامه هو ذلك الإمساك .
شروط وجوب الصّوم :
25 - شروط وجوب الصّوم ، أي : اشتغال الذّمّة بالواجب - كما يقول الكاسانيّ - هي شروط افتراضه والخطاب به . وهي :
أ - الإسلام ، وهو شرط عامّ للخطاب بفروع الشّريعة .
ب - العقل ، إذ لا فائدة من توجّه الخطاب بدونه ، فلا يجب الصّوم على مجنون إلاّ إذا أثم بزوال عقله ، في شراب أو غيره ، ويلزمه قضاؤه بعد الإفاقة .
وعبّر الحنفيّة بالإفاقة بدلاً من العقل ، أي الإفاقة من الجنون والإغماء أو النّوم ، وهي اليقظة .
ج - البلوغ ، ولا تكليف إلاّ به ، لأنّ الغرض من التّكليف هو الامتثال ، وذلك بالإدراك والقدرة على الفعل - كما هو معلوم في الأصول - والصّبا والطّفولة عجز .
ونصّ الفقهاء على أنّه يؤمر به الصّبيّ لسبع - كالصّلاة - إن أطاقه ، ويضرب على تركه لعشر .
والحنابلة قالوا : يجب على وليّه أمره بالصّوم إذا أطاقه ، وضربه حينئذ إذا تركه ليعتاده ، كالصّلاة ، إلاّ أنّ الصّوم أشقّ ، فاعتبرت له الطّاقة ، لأنّه قد يطيق الصّلاة من لا يطيق الصّوم .
د - العلم بالوجوب ، فمن أسلم في دار الحرب ، يحصل له العلم الموجب ، بإخبار رجلين عدلين ، أو رجل مستور وامرأتين مستورتين ، أو واحد عدل ، ومن كان مقيماً في دار الإسلام ، يحصل له العلم بنشأته في دار الإسلام ، ولا عذر له بالجهل .
شروط وجوب أدائه :
26 - شروط وجوب الأداء الّذي هو تفريغ ذمّة المكلّف عن الواجب في وقته المعيّن له هي:
أ - الصّحّة والسّلامة من المرض ، لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
ب - الإقامة ، للآية نفسها . قال ابن جزيّ : وأمّا الصّحّة والإقامة ، فشرطان في وجوب الصّيام ، لا في صحّته ، ولا في وجوب القضاء ، فإنّ وجوب الصّوم يسقط عن المريض والمسافر ، ويجب عليهما القضاء ، إن أفطرا إجماعاً ، ويصحّ صومهما إن صاما .
ج - خلوّ المرأة من الحيض والنّفاس ، لأنّ الحائض والنّفساء ليستا أهلاً للصّوم ، ولحديث عائشة رضي الله تعالى عنها لمّا سألتها معاذة : » ما بال الحائض ، تقضي الصّوم ولا تقضي الصّلاة ؟ فقالت : أحروريّة أنت ؟ قلت : لست بحروريّة ، ولكنّي أسأل ، قالت : كان يصيبنا ذلك ، فنؤمر بقضاء الصّوم ، ولا نؤمر بقضاء الصّلاة « .
فالأمر بالقضاء فرع وجوب الأداء .
والإجماع منعقد على منعهما من الصّوم ، وعلى وجوب القضاء عليهما .
شروط صحّة الصّوم :
27 - شروط صحّة الصّوم هي :
أ - الطّهارة من الحيض والنّفاس ، وقد عدّها بعض الفقهاء من شروط الصّحّة ، كالكمال من الحنفيّة ، وابن جزيّ من المالكيّة .
وعدّها بعضهم من شروط وجوب الأداء ، وشروط الصّحّة معاً .
ب - خلوّه عمّا يفسد الصّوم بطروّه عليه كالجماع .
ج - النّيّة . وذلك لأنّ صوم رمضان عبادة ، فلا يجوز إلاّ بالنّيّة ، كسائر العبادات . ولحديث : » إنّما الأعمال بالنّيّات « .
والإمساك قد يكون للعادة ، أو لعدم الاشتهاء ، أو للمرض ، أو للرّياضة ، فلا يتعيّن إلاّ بالنّيّة ، كالقيام إلى الصّلاة والحجّ .
قال النّوويّ : لا يصحّ الصّوم إلاّ بنيّة ، ومحلّها القلب ، ولا يشترط النّطق بها ، بلا خلاف . وقال الحنفيّة : التّلفّظ بها سنّة .
صفة النّيّة :
صفة النّيّة ، أن تكون جازمةً ، معيّنةً ، مبيّتةً ، مجدّدةً ، على ما يلي :
28 - أوّلاً : الجزم ، فقد اشترط في نيّة الصّوم ، قطعاً للتّردّد ، حتّى لو نوى ليلة الشّكّ ، صيام غد ، إن كان من رمضان لم يجزه ، ولا يصير صائماً لعدم الجزم ، فصار كما إذا نوى أنّه إن وجد غداءً غداً يفطر ، وإن لم يجد يصوم .
ونصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إن قال : إن كان غداً من رمضان فهو فرضي ، وإلاّ فهو نفل ، أو فأنا مفطر ، لم يصحّ صومه ، إن ظهر أنّه من رمضان ، لعدم جزمه بالنّيّة .
وإن قال ذلك ليلة الثّلاثين من رمضان ، صحّ صومه إن بان منه ، لأنّه مبنيّ على أصل لم يثبت زواله ، ولا يقدح تردّده ، لأنّه حكم صومه مع الجزم . بخلاف ما إذا قاله ليلة الثّلاثين من شعبان ، لأنّه لا أصل معه يبني عليه ، بل الأصل بقاء شعبان .(/5)
29 - ثانياً : التّعيين ، والجمهور من الفقهاء ذهبوا إلى أنّه لا بدّ من تعيين النّيّة في صوم رمضان ، وصوم الفرض والواجب ، ولا يكفي تعيين مطلق الصّوم ، ولا تعيين صوم معيّن غير رمضان .
وكمال النّيّة - كما قال النّوويّ - : أن ينوي صوم غد ، عن أداء فرض رمضان هذه السّنة للّه تعالى .
وإنّما اشترط التّعيين في ذلك ، لأنّ الصّوم عبادة مضافة إلى وقت ، فيجب التّعيين في نيّتها، كالصّلوات الخمس ، ولأنّ التّعيين مقصود في نفسه ، فيجزئ التّعيين عن نيّة الفريضة في الفرض ، والوجوب في الواجب .
وذهب الحنفيّة في التّعيين إلى تقسيم الصّيام إلى قسمين :
القسم الآول : لا يشترط فيه التّعيين ، وهو : أداء رمضان ، والنّذر المعيّن زمانه ، وكذا النّفل ، فإنّه يصحّ بمطلق نيّة الصّوم ، من غير تعيين .
وذلك لأنّ رمضان معيار - كما يقول الأصوليّون - وهو مضيق ، لا يسع غيره من جنسه وهو الصّوم ، فلم يشرع فيه صوم آخر ، فكان متعيّناً للفرض ، والمتعيّن لا يحتاج إلى تعيين ، والنّذر المعيّن معتبر بإيجاب اللّه تعالى ، فيصاب كلّ منهما بمطلق النّيّة ، وبأصلها، وبنيّة نفل ، لعدم المزاحم كما يقول الحصكفيّ .
وكلّ يوم معيّن للنّفل - كما سيأتي - ما عدا رمضان ، والأيّام المحرّم صومها ، وما يعيّنه المكلّف بنفسه ، فكلّ ذلك متعيّن ، ولا يحتاج إلى التّعيين .
والقسم الثّاني : يشترط فيه التّعيين ، وهو : قضاء رمضان ، وقضاء ما أفسده من النّفل ، وصوم الكفّارات بأنواعها ، والنّذر المطلق عن التّقييد بزمان ، سواء أكان معلّقاً بشرط ، أم كان مطلقاً ، لأنّه ليس له وقت معيّن ، فلم يتّأد إلاّ بنيّة مخصوصة ، قطعاً للمزاحمة .
30 - ثالثاً - التّبييت : وهو شرط في صوم الفرض عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والتّبييت : إيقاع النّيّة في اللّيل ، ما بين غروب الشّمس إلى طلوع الفجر ، فلو قارن الغروب أو الفجر أو شكّ ، لم يصحّ ، كما هو قضيّة التّبييت .
وفي قول للمالكيّة ، يصحّ لو قارنت الفجر ، كما في تكبيرة الإحرام ، لأنّ الأصل في النّيّة المقارنة للمنويّ .
ويجوز أن تقدّم من أوّل اللّيل ، ولا تجوز قبل اللّيل .
وذلك لحديث ابن عمر ، عن حفصة رضي الله تعالى عنهم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من لم يجمع الصّيام قبل الفجر ، فلا صيام له « .
ولأنّ صوم القضاء والكفّارات ، لا بدّ لها من تبييت النّيّة ، فكذا كلّ صوم فرض معيّن .
ولا تجزئ بعد الفجر ويجزئ مع طلوع الفجر إن اتّفق ذلك ، وإن روى ابن عبد الحكم أنّها لا تجزئ مع الفجر ، وكلام القرافيّ وآخرين يفيد أنّ الأصل كونها مقارنةً للفجر ، ورخّص تقدّمها عليه للمشقّة في مقارنتها له .
والصّحيح عند الشّافعيّة والحنابلة : أنّه لا يشترط في التّبييت النّصف الآخر من اللّيل ، لإطلاقه في الحديث ، ولأنّ تخصيص النّيّة بالنّصف الأخير يفضي إلى تفويت الصّوم ، لأنّه وقت النّوم ، وكثير من النّاس لا ينتبه فيه ، ولا يذكر الصّوم ، والشّارع إنّما رخّص في تقديم النّيّة على ابتدائه ، لحرج اعتبارها عنده ، فلا يخصّها بمحلّ لا تندفع المشقّة بتخصيصها به ، ولأنّ تخصيصها بالنّصف الأخير تحكّم من غير دليل ، بل تقرّب النّيّة من العبادة ، لمّا تعذّر اقترانها بها .
والصّحيح أيضاً : أنّه لا يضرّ الأكل والجماع بعد النّيّة ما دام في اللّيل ، لأنّه لم يلتبس بالعبادة ، وقيل : يضرّ فتحتاج إلى تجديدها ، تحرّزاً عن تخلّل المناقض بينها وبين العبادة ، لمّا تعذّر اقترانها بها .
والصّحيح أيضاً : أنّه لا يجب التّجديد لها إذا نام بعدها ، ثمّ تنبّه قبل الفجر ، وقيل : يجب ، تقريباً للنّيّة من العبادة بقدر الوسع .
والحنفيّة لم يشترطوا التّبييت في رمضان . ولمّا لم يشترطوا تبييت النّيّة في ليل رمضان ، أجازوا النّيّة بعد الفجر دفعاً للحرج أيضاً ، حتّى الضّحوة الكبرى ، فينوي قبلها ليكون الأكثر منويّاً ، فيكون له حكم الكلّ ، حتّى لو نوى بعد ذلك لا يجوز ، لخلوّ الأكثر عن النّيّة ، تغليباً للأكثر .
والضّحوة الكبرى : نصف النّهار الشّرعيّ ، وهو من وقت طلوع الفجر إلى غروب الشّمس. وقال الحنفيّة ، منهم الموصليّ : والأفضل الصّوم بنيّة معيّنة مبيّتة للخروج عن الخلاف . ودليل الحنفيّة على ما ذهبوا إليه ، من صحّة النّيّة حتّى الضّحوة الكبرى ، وعدم شرطيّة التّبييت : حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : » أنّ النّاس أصبحوا يوم الشّكّ ، فقدم أعرابيّ ، وشهد برؤية الهلال ، فقال صلى الله عليه وسلم : أتشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّي رسول اللّه ؟ فقال : نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام : اللّه أكبر ، يكفي المسلمين أحدهم ، فصام وأمر بالصّيام ، وأمر منادياً فنادى : ألا من أكل فلا يأكل بقيّة يومه ، ومن لم يأكل فليصم « .
فقد أمر بالصّوم ، وأنّه يقتضي القدرة على الصّوم الشّرعيّ ، ولو شرطت النّيّة من اللّيل لما كان قادراً عليه ، فدلّ على عدم اشتراطها .
واستدلّوا أيضاً ، بما ورد في الحديث : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار : من أصبح مفطراً فليتمّ بقيّة يومه ، ومن أصبح صائماً فليصم« . وكان صوم عاشوراء واجباً ، ثمّ نسخ بفرض رمضان .
واشترط الحنفيّة تبييت النّيّة في صوم الكفّارات والنّذور المطلقة وقضاء رمضان .(/6)
31 - أمّا النّفل فيجوز صومه عند الجمهور - خلافاً للمالكيّة - بنيّة قبل الزّوال ، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : » دخل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فقال: هل عندكم شيء ؟ ، فقلنا : لا فقال : فإنّي إذن صائم « .
ولأنّ النّفل أخفّ من الفرض ، والدّليل عليه : أنّه يجوز ترك القيام في النّفل مع القدرة ، ولا يجوز في الفرض .
وعند بعض الشّافعيّة يجوز بنيّة بعد الزّوال ، والمذهب في القديم والجديد : لا يجوز ، لأنّ النّيّة لم تصحب معظم العبادة .
ومذهب المالكيّة : أنّه يشترط في صحّة الصّوم مطلقاً ، فرضاً أو نفلاً ، نيّة مبيّتة ، وذلك لإطلاق الحديث المتقدّم : » من لم يجمع الصّيام من اللّيل ، فلا صيام له « .
ومذهب الحنابلة جواز النّيّة في النّفل ، قبل الزّوال وبعده ، واستدلّوا بحديث عائشة ، وحديث صوم يوم عاشوراء ، وأنّه قول معاذ وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم وأنّه لم ينقل عن أحد من الصّحابة ما يخالفه صريحاً ، والنّيّة وجدت في جزء من النّهار ، فأشبه وجودها قبل الزّوال بلحظه .
ويشترط لجواز نيّة النّفل في النّهار عند الحنابلة : أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النّيّة ، فإن فعل فلا يجزئه الصّوم ، قال البهوتيّ : بغير خلاف نعلمه ، قاله في الشّرح ، لكن خالف فيه أبو زيد الشّافعيّ .
وعند الشّافعيّة وجهان في اعتبار الثّواب : من أوّل النّهار ، أم من وقت النّيّة ؟ أصحّهما عند الأكثرين : أنّه صائم من أوّل النّهار ، كما إذا أدرك الإمام في الرّكوع ، يكون مدركاً لثواب جميع الرّكعة ، فعلى هذا يشترط جميع شروط الصّوم من أوّل النّهار .
32 - رابعاً : تجديد النّيّة : ذهب الجمهور إلى تجديد النّيّة في كلّ يوم من رمضان ، من اللّيل أو قبل الزّوال - على الخلاف السّابق - وذلك : لكي يتميّز الإمساك عبادةً ، عن الإمساك عادةً أو حميةً .
ولأنّ كلّ يوم عبادة مستقلّة ، لا يرتبط بعضه ببعض ، ولا يفسد بفساد بعض ، ويتخلّلها ما ينافيها ، وهو اللّيالي الّتي يحلّ فيها ما يحرّم في النّهار ، فأشبهت القضاء ، بخلاف الحجّ وركعات الصّلاة .
وذهب زفر ومالك - وهو رواية عن أحمد - أنّه تكفي نيّة واحدة عن الشّهر كلّه في أوّله ، كالصّلاة . وكذلك في كلّ صوم متتابع ، ككفّارة الصّوم والظّهار ، ما لم يقطعه أو يكن على حاله يجوز له الفطر فيها ، فيلزمه استئناف النّيّة ، وذلك لارتباط بعضها ببعض ، وعدم جواز التّفريق ، فكفت نيّة واحدة ، وإن كانت لا تبطل ببطلان بعضها ، كالصّلاة .
فعلى ذلك لو أفطر يوماً لعذر أو غيره ، لم يصحّ صيام الباقي بتلك النّيّة ، كما جزم به بعضهم ، وقيل : يصحّ ، وقدّمه بعضهم .
ويقاس على ذلك النّذر المعيّن ومع ذلك ، فقد قال ابن عبد الحكم - من المالكيّة - : لا بدّ في الصّوم الواجب المتتابع من النّيّة كلّ يوم ، نظراً إلى أنّه كالعبادات المتعدّدة ، من حيث عدم فساد ما مضى منه بفساد ما بعده .
بل روي عن زفر أنّ المقيم الصّحيح ، لا يحتاج إلى نيّة ، لأنّ الإمساك متردّد بين العادة والعبادة ، فكان متردّداً بأصله متعيّناً بوصفه ، فعلى أيّ وجه أتى به وقع عنه .
استمرار النّيّة :
33 - اشترط الفقهاء الدّوام على النّيّة ، فلو نوى الصّيام من اللّيل ثمّ رجع عن نيّته قبل طلوع الفجر لا يصير صائماً .
قال الطّحطاويّ : ويشترط الدّوام عليها .
فلو نوى من اللّيل ، ثمّ رجع عن نيّته قبل طلوع الفجر ، صحّ رجوعه ولا يصير صائماً ، ولو أفطر لا شيء عليه إلاّ القضاء ، بانقطاع النّيّة بالرّجوع ، فلا كفّارة عليه في رمضان ، لشبهة خلاف من اشترط التّبييت ، إلاّ إذا جدّد النّيّة ، بأن ينوي الصّوم في وقت النّيّة ، تحصيلاً لها ، لأنّ الأولى غير معتبرة ، بسبب الرّجوع عنها .
ولا تبطل النّيّة بقوله : أصوم غداً إن شاء اللّه ، لأنّه بمعنى الاستعانة ، وطلب التّوفيق والتّيسير . والمشيئة إنّما تبطل اللّفظ ، والنّيّة فعل القلب .
قال البهوتيّ : وكذا سائر العبادات ، لا تبطل بذكر المشيئة في نيّتها .
ولا تبطل النّيّة بأكله أو شربه أو جماعه بعدها عند جمهور الفقهاء ،وحكي عن أبي إسحاق بطلانها ، ولو رجع عن نيّته قبل طلوع الفجر صحّ رجوعه .
ولو نوى الإفطار في أثناء النّهار فمذهب الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يفطر ، كما لو نوى التّكلّم في صلاته ولم يتكلّم ، قال البيجوريّ : ويضرّ رفض النّيّة ليلاً ، ولا يضرّ نهاراً .
وقال المالكيّة والحنابلة : يفطر ، لأنّه قطع نيّة الصّوم بنيّة الإفطار ، فكأنّه لم يأت بها ابتداءً.
الإغماء والجنون والسّكر بعد النّيّة :
34 - اختلف الفقهاء فيما إذا نوى الصّيام من اللّيل ، ثمّ طرأ عليه إغماء أو جنون أو سكر، فإن لم يفق إلاّ بعد غروب الشّمس ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم صحّة صومه ، لأنّ الصّوم هو الإمساك مع النّيّة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » قال اللّه : كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم ، فإنّه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي « فأضاف ترك الطّعام والشّراب إليه ، فإذا كان مغمىً عليه فلا يضاف الإمساك إليه ، فلم يجزئه .
وذهب الحنفيّة إلى صحّة صومه ، لأنّ نيّته قد صحّت ، وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحّة الصّوم ، كالنّوم .
أمّا إذا أفاق أثناء النّهار ، فذهب الحنفيّة إلى تجديد النّيّة إذا أفاق قبل الزّوال ، وذهب المالكيّة إلى عدم صحّة صومه ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أفاق في أيّ جزء من النّهار صحّ صومه ، سواء أكان في أوّله أم في آخره .(/7)
وفرّق الشّافعيّة بين الجنون والإغماء ، فالمذهب : أنّه لو جنّ في أثناء النّهار بطل صومه ، وقيل : هو كالإغماء .
وأمّا الرّدّة بعد نيّة الصّوم فتبطل الصّوم بلا خلاف .
سنن الصّوم ومستحبّاته :
35 - سنن الصّوم ومستحبّاته كثيرة ، أهمّها :
أ - السّحور ، وقد ورد فيه حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » تسحّروا فإنّ في السّحور بركةً « .
ب - تأخير السّحور ، وتعجيل الفطر ، وممّا ورد فيه حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر « .
وحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - : » تسحّرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قام إلى الصّلاة . قلت : كم كان بين الأذان والسّحور ؟ قال : قدر خمسين آيةً « .
ج – ويستحبّ أن يكون الإفطار على رطبات ، فإن لم تكن فعلى تمرات ، وفي هذا ورد حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال : » كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلّي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء « .
وورد فيه حديث عن سلمان بن عامر الضّبّيّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ، فإنّه بركة ، فمن لم يجد فليفطر على ماء، فإنّه طهور « .
د - ويستحبّ أن يدعو عند الإفطار ، فقد ورد عن عبد اللّه بن عمرو رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً : » إنّ للصّائم دعوةً لا تردّ « .
وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: » ذهب الظّمأ ، وابتلّت العروق ، وثبت الأجر إن شاء اللّه تعالى « .
وهناك فضائل من خصائص شهر رمضان كالتّراويح ، والإكثار من الصّدقات ، والاعتكاف ، وغيرها تنظر في مصطلحاتها .
36 - ومن أهمّ ما ينبغي أن يترفّع عنه الصّائم ويحذره : ما يحبط صومه من المعاصي الظّاهرة والباطنة ، فيصون لسانه عن اللّغو والهذيان والكذب ، والغيبة والنّميمة ، والفحش والجفاء ، والخصومة والمراء ، ويكفّ جوارحه عن جميع الشّهوات والمحرّمات ، ويشتغل بالعبادة ، وذكر اللّه ، وتلاوة القرآن وهذا كما يقول الغزاليّ : هو سرّ الصّوم .
وفي الصّحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » قال اللّه تعالى : كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام ، فإنّه لي وأنا أجزي به ، والصّيام جنّة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابّه أحد أو قاتله ، فليقل : إنّي امرؤ صائم « ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » الصّيام جنّة ، ما لم يخرقها بكذب أو غيبة « .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » من لم يدع قول الزّور ، والعمل به ، فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه « .
مفسدات الصّوم :
37 - يفسد الصّوم - بوجه عامّ - كلّما انتفى شرط من شروطه ، أو اختلّ أحد أركانه ، كالرّدّة ، وكطروء الحيض والنّفاس ، وكلّ ما ينافيه من أكل وشرب ونحوهما ، ودخول شيء من خارج البدن إلى جوف الصّائم .
38 - ويشترط في فساد الصّوم بما يدخل إلى الجوف ما يلي :
أ - أن يكون الدّاخل إلى الجوف ، من المنافذ الواسعة - كما قيّده بذلك المالكيّة - والمفتوحة - كما قال الشّافعيّة - أي : المخارق الطّبيعيّة الأصليّة في الجسم ، والّتي تعتبر موصّلةً للمادّة من الخارج إلى الدّاخل ، كالفم والأنف والأذن .
وقد استدلّ لذلك ، بالاتّفاق على أنّ من اغتسل في ماء ، فوجد برده في باطنه لا يفطر ، ومن طلى بطنه بدهن لا يضرّ ، لأنّ وصوله إلى الجوف بتشرّب .
ولم يشترط الحنابلة ذلك ، بل اكتفوا بتحقّق وصوله إلى الحلق والجوف ، والدّماغ جوف .
ب - أن يكون الدّاخل إلى الجوف ممّا يمكن الاحتراز عنه ، كدخول المطر والثّلج بنفسه حلق الصّائم إذا لم يبتلعه بصنعه ، فإن لم يمكن الاحتراز عنه - كالذّباب يطير إلى الحلق ، وغبار الطّريق - لم يفطر إجماعاً .
وهذا استحسان ، والقياس : الفساد ، لوصول المفطر إلى جوفه .
وجه الاستحسان ، أنّه لا يستطاع الاحتراز عنه ، فأشبه الدّخان .
والجوف هو : الباطن ، سواء أكان ممّا يحيل الغذاء والدّواء ، أي يغيّرهما كالبطن والأمعاء، أم كان ممّا يحيل الدّواء فقط كباطن الرّأس أو الأذن ، أم كان ممّا لا يحيل شيئاً كباطن الحلق.
قال النّوويّ : جعلوا الحلق كالجوف ، في بطلان الصّوم بوصول الواصل إليه ، وقال الإمام : إذا جاوز الشّيء الحلقوم أفطر .
قال : وعلى الوجهين جميعاً : باطن الدّماغ والأمعاء والمثانة ممّا يفطر الوصول إليه .
ج - والجمهور على أنّه لا يشترط أن يكون الدّاخل إلى الجوف مغذّياً ، فيفسد الصّوم بالدّاخل إلى الجوف ، ممّا يغذّي أو لا يغذّي ، كابتلاع التّراب ونحوه ، وإن فرّق بينهما بعض المالكيّة ، قال ابن رشد : وتحصيل مذهب مالك ، أنّه يجب الإمساك عمّا يصل إلى الحلق ، من أيّ المنافذ وصل ، مغذّياً كان أو غير مغذّ .
د - وشرط كون الصّائم قاصداً ذاكراً لصومه ، أمّا لو كان ناسياً أنّه صائم ، فلا يفسد صومه عند الجمهور ، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » من نسي وهو صائم ، فأكل أو شرب ، فليتمّ صومه ، فإنّما أطعمه اللّه وسقاه« .
ويستوي في ذلك الفرض والنّفل لعموم الأدلّة .(/8)
وخالف مالك في صوم رمضان فذهب إلى أنّ من نسي في رمضان ، فأكل أو شرب ، عليه القضاء ، أمّا لو نسي في غير رمضان ، فأكل أو شرب ، فإنّه يتمّ صومه ، ولا قضاء عليه. هـ – وشرط الحنفيّة والمالكيّة استقرار المادّة في الجوف ، وعلّلوه بأنّ الحصاة – مثلاً – تشغل المعدة شغلاً ما وتنقص الجوع .
ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة استقرار المادّة في الجوف إذا كان باختياره .
وعلى قول الحنفيّة والمالكيّة : لو لم تستقرّ المادّة ، بأن خرجت من الجوف لساعتها لا يفسد الصّوم ، كما لو أصابته سهام فاخترقت بطنه ونفذت من ظهره ، ولو بقي النّصل في جوفه فسد صومه ، ولو كان ذلك بفعله يفسد صومه ، قال الغزاليّ : ولو كان بعض السّكّين خارجاً .
و - وشرط الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة ، أن يكون الصّائم مختاراً فيما يتناوله ، من طعام أو شراب أو دواء ، فلو أوجر الماء ، أو صبّ الدّواء في حلقه مكرهاً ، لم يفسد صومه عندهم ، لأنّه لم يفعل ولم يقصد .
ولو أكره على الإفطار ، فأكل أو شرب ، فللشّافعيّة قولان مشهوران في الفطر وعدمه . أصحّهما : عدم الفطر ، وعلّلوا عدم الإفطار بأنّ الحكم الّذي ينبني على اختياره ساقط ، لعدم وجود الاختيار .
ومذهب الحنابلة : أنّه لا يفسد صومه قولاً واحداً ، وهو كالإيجار ، وذلك لحديث : » إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه « . فإنّه عامّ .
ومذهب الحنفيّة والمالكيّة : أنّ الإكراه على الإفطار يفسد الصّوم ، ويستوجب القضاء ، وذلك لأنّ المراد من حديث : » إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان ، وما استكرهوا عليه « رفع الحكم ، لتصحيح الكلام اقتضاءً ، والمقتضي لا عموم له ، والإثم مراد إجماعاً ، فلا تصحّ إرادة الحكم الآخر - وهو الدّنيويّ - بالفساد .
ما يفسد الصّوم ، ويوجب القضاء :
39 - وذلك يرجع إلى الإخلال بأركانه وشروطه ، ويمكن حصره فيما يلي :
أ - تناول ما لا يؤكل في العادة .
ب - قضاء الوطر قاصراً .
ج - شئون المعالجة والمداواة .
د - التّقصير في حفظ الصّوم والجهل بأحكامه .
هـ- الإفطار بسبب العوارض .
أوّلاً : تناول ما لا يؤكل عادةً :
40 - تناول ما لا يؤكل عادةً كالتّراب والحصى ، والدّقيق غير المخلوط - على الصّحيح - والحبوب النّيئة ، كالقمح والشّعير والحمّص والعدس ، والثّمار الفجّة الّتي لا تؤكل قبل النّضج ، كالسّفرجل والجوز ، وكذا تناول ملح كثير دفعةً واحدةً يوجب القضاء دون الكفّارة، أمّا إذا أكله على دفعات ، بتناول دفعة قليلة ، في كلّ مرّة ، فيجب القضاء والكفّارة عند الحنفيّة .
أمّا في أكل نواة أو قطن أو ورق ، أو ابتلاع حصاة ، أو حديد أو ذهب أو فضّة ، وكذا شرب ما لا يشرب من السّوائل كالبترول فالقضاء دون كفّارة لقصور الجناية بسبب الاستقذار والعيافة ومنافاة الطّبع ، فانعدم معنى الفطر ، وهو بإيصال ما فيه نفع البدن إلى الجوف ، سواء أكان ممّا يتغذّى به أم يتداوى به . ولأنّ هذه المذكورات ليست غذائيّةً ، ولا في معنى الغذاء - كما يقول الطّحاويّ - ولتحقّق الإفطار في الصّورة ، وهو الابتلاع .
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : الفطر ممّا دخل .
وقال الزّيلعيّ : كلّ ما لا يتغذّى به ، ولا يتداوى به عادةً ، لا يوجب الكفّارة .
ثانياً : قضاء الوطر أو الشّهوة على وجه القصور :
وذلك في الصّور الآتية :
41 - أ - تعمّد إنزال المنيّ بلا جماع ، وذلك كالاستمناء بالكفّ أو بالتّبطين والتّفخيذ ، أو باللّمس والتّقبيل ونحوهما فإنّه يوجب القضاء دون الكفّارة عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - وعند المالكيّة يوجب القضاء والكفّارة معاً .
ب - الإنزال بوطء ميّتة أو بهيمة ، أو صغيرة لا تشتهى :
42 - وهو يفسد الصّوم ، لأنّ فيه قضاء إحدى الشّهوتين ، وأنّه ينافي الصّوم ، ولا يوجب الكفّارة ، لتمكّن النّقصان في قضاء الشّهوة ، فليس بجماع خلافاً للحنابلة ، فإنّه لا فرق عندهم بين كون الموطوءة كبيرةً أو صغيرةً ، ولا بين العمد والسّهو ، ولا بين الجهل والخطأ ، وفي كلّ ذلك القضاء والكفّارة ، لإطلاق حديث الأعرابيّ .
والمالكيّة يوجبون في ذلك الكفّارة ، لتعمّد إخراج المنيّ .
ج - المساحقة بين المرأتين إذا أنزلت :
43 - عمل المرأتين ، كعمل الرّجال ، جماع فيما دون الفرج ، ولا قضاء على واحدة منهما، إلاّ إذا أنزلت ، ولا كفّارة مع الإنزال ، وهذا عند الحنفيّة وهو وجه عند الحنابلة ، وعلّله الحنابلة بأنّه ، لا نصّ في الكفّارة ، ولا يصحّ قياسه على الجماع .
قال ابن قدامة : وأصحّ الوجهين أنّهما لا كفّارة عليهما ، لأنّ ذلك ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص عليه ، فيبقى على الأصل .
د - الإنزال بالفكر والنّظر :
44 - إنزال المنيّ بالنّظر أو الفكر ، فيه التّفصيل الآتي :
مذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلاّ قليلاً منهم أنّ الإنزال بالفكر - وإن طال - وبالنّظر بشهوة ، ولو إلى فرج المرأة مراراً ، لا يفسد الصّوم ، وإن علم أنّه ينزل به ، لأنّه إنزال من غير مباشرة ، فأشبه الاحتلام .
قال القليوبيّ : النّظر والفكر المحرّك للشّهوة ، كالقبلة ، فيحرم وإن لم يفطر به .
ومذهب المالكيّة أنّه إن أمنى بمجرّد الفكر أو النّظر ، من غير استدامة لهما ، يفسد صومه ويجب القضاء دون الكفّارة . وإن استدامهما حتّى أنزل فإن كانت عادته الإنزال بهما عند الاستدامة ، فالكفّارة قطعاً ، وإن كانت عادته عدم الإنزال بهما عند الاستدامة ، فخالف عادته وأمنى ، فقولان في لزوم الكفّارة ، واختار اللّخميّ عدم اللّزوم .(/9)
ولو أمنى في أداء رمضان بتعمّد نظرة واحدة يفسد صومه ويجب القضاء ، وفي وجوب الكفّارة وعدمه تأويلان ، محلّهما إذا كانت عادته الإنزال بمجرّد النّظر ، وإلاّ فلا كفّارة اتّفاقاً.
وقال الأذرعيّ من الشّافعيّة ، وتبعه شيخ القليوبيّ ، والرّمليّ : يفطر إذا علم الإنزال بالفكر والنّظر ، وإن لم يكرّره .
ومذهب الحنابلة ، التّفرقة بين النّظر وبين الفكر ، ففي النّظر ، إذا أمنى يفسد الصّوم ، لأنّه أنزل بفعل يتلذّذ به ، ويمكن التّحرّز منه ، فأفسد الصّوم ، كالإنزال باللّمس ، والفكر لا يمكن التّحرّز منه ، بخلاف النّظر .
ولو أمذى بتكرار النّظر ، فظاهر كلام أحمد لا يفطر به ، لأنّه لا نصّ في الفطر به ، ولا يمكن قياسه على إنزال المنيّ ، لمخالفته إيّاه في الأحكام ، فيبقى على الأصل .
وإذا لم يكرّر النّظر لا يفطر ، سواء أمنى أو أمذى ، وهو المذهب ، لعدم إمكان التّحرّز ، ونصّ أحمد : يفطر بالمنيّ لا بالمذي .
أمّا الفكر ، فإنّ الإنزال به لا يفسد الصّوم . واختار ابن عقيل : الإفساد به ، لأنّ الفكر يدخل تحت الاختيار ، لكن جمهورهم استدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه : » إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ، ما لم تعمل به أو تكلّم « .
ولأنّه لا نصّ في الفطر به ولا إجماع ، ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النّظر ، لأنّه دونهما في استدعاء الشّهوة ، وإفضائه إلى الإنزال .
ثالثاً : المعالجات ونحوها ، وهي أنواع أهمّها :
أ - الاستعاط :
45 - الاستعاط : افتعال من السّعوط ، مثال رسول : دواء يصبّ في الأنف ، والاستعاط والإسعاط عند الفقهاء : إيصال الشّيء إلى الدّماغ من الأنف .
وإنّما يفسد الاستعاط الصّوم ، بشرط أن يصل الدّواء إلى الدّماغ ، والأنف منفذ إلى الجوف ، فلو لم يصل إلى الدّماغ لم يضرّ ، بأن لم يجاوز الخيشوم ، فلو وضع دواءً في أنفه ليلاً ، وهبط نهاراً ، فلا شيء عليه .
ولو وضعه في النّهار ، ووصل إلى دماغه أفطر ، لأنّه واصل إلى جوف الصّائم باختياره فيفطّره كالواصل إلى الحلق ، والدّماغ جوف - كما قرّروا - والواصل إليه يغذّيه ، فيفطّره، كجوف البدن .
والواجب فيه القضاء لا الكفّارة ، هذا هو الأصحّ ، لأنّ الكفّارة موجب الإفطار صورةً ومعنىً، والصّورة هي الابتلاع ، وهي منعدمة ، والنّفع المجرّد عنها يوجب القضاء فقط . وهذا الحكم لا يخصّ صبّ الدّواء ، بل لو استنشق الماء ، فوصل إلى دماغه أفطر عند الحنفيّة .
ب - استعمال البخور :
46 - ويكون بإيصال الدّخان إلى الحلق ، فيفطر ، أمّا شمّ رائحة البخور ونحوه بلا وصول دخانه إلى الحلق فلا يفطر ولو جاءته الرّائحة واستنشقها ، لأنّ الرّائحة لا جسم لها .
فمن أدخل بصنعه دخاناً حلقه ، بأيّة صورة كان الإدخال ، فسد صومه ، سواء أكان دخان عنبر أم عود أم غيرهما ، حتّى من تبخّر بعود ، فآواه إلى نفسه ، واشتمّ دخانه ، ذاكراً لصومه ، أفطر ، لإمكان التّحرّز من إدخال المفطر جوفه ودماغه .
قال الشرنبلالي : هذا ممّا يغفل عنه كثير من النّاس ، فلينبّه له ، ولا يتوهّم أنّه كشمّ الورد والمسك ، لوضوح الفرق بين هواء تطيّب بريح المسك وشبهه ، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله
ج - بخار القدر :
47 - بخار القدر ، متى وصل للحلق باستنشاق أوجب القضاء ، لأنّ دخان البخور وبخار القدر كلّ منهما جسم يتكيّف به الدّماغ ، ويتقوّى به ، أي تحصل له قوّة كالّتي تحصل من الأكل ، أمّا لو وصل واحد منهما للحلق بغير اختياره فلا قضاء عليه .
هذا بخلاف دخان الحطب ، فإنّه لا قضاء في وصوله للحلق ، ولو تعمّد استنشاقه ، لأنّه لا يحصل للدّماغ به قوّة كالّتي تحصل له من الأكل .
وقال الشّافعيّة : لو فتح فاه عمداً حتّى دخل الغبار في جوفه ، لم يفطر على الأصحّ . ومذهب الحنابلة الإفطار بابتلاع غربلة الدّقيق وغبار الطّريق ، إن تعمّده .
د - التّدخين :
48 - اتّفق الفقهاء على أنّ شرب الدّخان المعروف أثناء الصّوم يفسد الصّيام ، لأنّه من المفطرات .
وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح : ( تبغ ، الموسوعة الفقهيّة 10 فقرة 30 ) .
هـ – التّقطير في الأذن :
49 – ذهب جمهور الفقهاء ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة إلى فساد الصّوم بتقطير الدّواء أو الدّهن أو الماء في الأذن .
فقال المالكيّة : يجب الإمساك عمّا يصل إلى الحلق ، ممّا ينماع أو لا ينماع .
والمذهب : أنّ الواصل إلى الحلق مفطّر ولو لم يجاوزه ، إن وصل إليه ، ولو من أنف أو أذن أو عين نهاراً .
وتوجيهه عندهم : أنّه واصل من أحد المنافذ الواسعة في البدن ، وهي : الفم والأنف والأذن، وأنّ كلّ ما وصل إلى المعدة من منفذ عال ، موجب للقضاء ، سواء أكان ذلك المنفذ واسعاً أم ضيّقاً . وأنّه لا تفرقة عندهم ، بين المائع وبين غيره في الواصل إلى المعدة من الحلق . وقال النّوويّ : لو صبّ الماء أو غيره في أذنيه ، فوصل دماغه أفطر على الأصحّ عندنا ، ولم ير الغزاليّ الإفطار بالتّقطير في الأذنين .
وقال البهوتيّ : إذا قطّر في أذنه فوصل إلى دماغه فسد صومه ، لأنّ الدّماغ أحد الجوفين ، فالواصل إليه يغذّيه ، فأفسد الصّوم .
والحنفيّة قالوا : بفساد الصّوم بتقطير الدّواء والدّهن في الأذن ، لأنّ فيه صلاحاً لجزء من البدن ، فوجد إفساد الصّوم معنىً .
واختلف الحنفيّة في تقطير الماء في الأذن : فاختار المرغينانيّ في الهداية - وهو الّذي صحّحه غيره - عدم الإفطار به مطلقاً ، دخل بنفسه أو أدخله .(/10)
وفرّق قاضي خان ، بين الإدخال قصداً فأفسد به الصّوم ، وبين الدّخول فلم يفسده به ، وهذا الّذي صحّحوه ، لأنّ الماء يضرّ الدّماغ ، فانعدم الإفساد صورةً ومعنىً .
فالاتّفاق عند الحنفيّة على الفطر بصبّ الدّهن ، وعلى عدمه بدخول الماء ، والاختلاف في التّصحيح في إدخاله .
و - مداواة الآمّة والجائفة والجراح :
50 - الآمّة : جراحة في الرّأس ، والجائفة : جراحة في البطن .
والمراد بهذا - كما يقول الكاسانيّ - ما يصل إلى الجوف من غير المخارق الأصليّة .
فإذا داوى الصّائم الآمّة أو الجراح ، فمذهب الجمهور - بوجه عامّ - فساد الصّوم ، إذا وصل الدّواء إلى الجوف .
قال النّوويّ : لو داوى جرحه فوصل الدّواء إلى جوفه أو دماغه أفطر عندنا سواء أكان الدّواء رطباً أم يابساً .
وعلّله الحنابلة بأنّه أوصل إلى جوفه شيئاً باختياره ، فأشبه ما لو أكل .
قال المرداويّ : وهذا هو المذهب ، وعليه الأصحاب .
وعلّله الحنفيّة - مع نصّهم على عدم التّفرقة بين الدّواء الرّطب وبين الدّواء اليابس - بأنّ بين جوف الرّأس وجوف المعدة منفذاً أصليّاً ، فمتى وصل إلى جوف الرّأس ، يصل إلى جوف البطن .
أمّا إذا شكّ في وصول الدّواء إلى الجوف ، فعند الحنفيّة بعض التّفصيل والخلاف : فإن كان الدّواء رطباً ، فعند أبي حنيفة الظّاهر هو الوصول ، لوجود المنفذ إلى الجوف ، وهو السّبب، فيبنى الحكم على الظّاهر ، وهو الوصول عادةً ، وقال الصّاحبان : لا يفطر ، لعدم العلم به ، فلا يفطر بالشّكّ ، فهما يعتبران المخارق الأصليّة ، لأنّ الوصول إلى الجوف من المخارق الأصليّة متيقّن به ، ومن غيرها مشكوك به ، فلا نحكم بالفساد مع الشّكّ .
وأمّا إذا كان الدّواء يابساً ، فلا فطر اتّفاقاً ، لأنّه لم يصل إلى الجوف ولا إلى الدّماغ .
لكن قال البابرتيّ : وأكثر مشايخنا على أنّ العبرة بالوصول ، حتّى إذا علم أنّ الدّواء اليابس وصل إلى جوفه ، فسد صومه ، وإن علم أنّ الرّطب لم يصل إلى جوفه ، لم يفسد صومه عنده ، إلاّ أنّه ذكر الرّطب واليابس بناءً على العادة .
وإذا لم يعلم يقيناً فسد عند أبي حنيفة ، نظراً إلى العادة ، لا عندهما .
ومذهب المالكيّة عدم الإفطار بمداواة الجراح ، وهو اختيار الشّيح تقيّ الدّين .
قال المرداويّ : واختار الشّيخ تقيّ الدّين عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة .
قال ابن جزيّ : أمّا دواء الجرح بما يصل إلى الجوف ، فلا يفطر .
وقال الدّردير ، معلّلاً عدم الإفطار بوضع الدّهن على الجائفة ، والجرح الكائن في البطن الواصل للجوف : لأنّه لا يصل لمحلّ الطّعام والشّراب ، وإلاّ لمات من ساعته .
ز - الاحتقان :
51 - الاحتقان : صبّ الدّواء أو إدخال نحوه في الدّبر .
وقد يكون بمائع أو بغيره : فالاحتقان بالمائع من الماء - وهو الغالب - أو غير الماء ، يفسد الصّوم ويوجب القضاء ، فيما ذهب إليه الجمهور ، وهو مشهور مذهب المالكيّة ، ومنصوص خليل ، وهو معلّل بأنّه يصل به الماء إلى الجوف من منفذ مفتوح ، وبأنّ غير المعتاد كالمعتاد في الواصل ، وبأنّه أبلغ وأولى بوجوب القضاء من الاستعاط استدراكاً للفريضة الفاسدة .
ولا تجب الكفّارة ، لعدم استكمال الجناية على الصّوم صورةً ومعنىً ، كما هو سبب الكفّارة ، بل هو لوجود معنى الفطر ، وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف ، دون صورته ، وهو الوصول من الفم دون ما سواه .
واستدلّ المرغينانيّ وغيره للإفطار بالاحتقان وغيره ، كالاستعاط والإفطار ، بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها : إنّما الإفطار ممّا دخل ، وليس ممّا خرج .
وقول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : الفطر ممّا دخل ، وليس ممّا يخرج .
أمّا الاحتقان بالجامد ، ففيه بعض الخلاف :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ ما يدخل إلى الجوف من الدّبر بالحقنة يفطر ، لأنّه واصل إلى الجوف باختياره ، فأشبه الأكل .
كذلك دخول طرف أصبع في المخرج حال الاستنجاء يفطر ، قال النّوويّ : لو أدخل الرّجل أصبعه أو غيرها دبره ، وبقي البعض خارجاً ، بطل الصّوم ، باتّفاق أصحابنا .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ تغييب القطن ونحوه من الجوامد الجافّة ، يفسد الصّوم ، وعدم التّغييب لا يفسده ، كما لو بقي طرفه خارجاً ، لأنّ عدم تمام الدّخول كعدم دخول شيء بالمرّة ، كإدخال الأصبع غير المبلولة ، أمّا المبلولة بالماء والدّهن فيفسده .
وخصّ المالكيّة الإفطار وإبطال الصّوم ، بالحقنة المائعة نصّاً .
وقالوا : احترز " خليل " بالمائع عن الحقنة بالجامد ، فلا قضاء فيها ، ولا في فتائل عليها دهن لخفّتها .
وفي المدوّنة ، قال ابن القاسم : سئل مالك عن الفتائل تجعل للحقنة ؟ قال مالك : أرى ذلك خفيفاً ، ولا أرى عليه فيه شيئاً ، قال مالك : وإن احتقن بشيء يصل إلى جوفه ، فأرى عليه القضاء ، قال ابن القاسم : ولا كفّارة عليه .
ويبدو مع ذلك تلخيصاً ، أنّ للمالكيّة في الحقنة أربعة أقوال :
أحدها : وهو المشهور المنصوص عليه في مختصر خليل : الإفطار بالحقنة المائعة .
الثّاني : أنّ الحقنة تفطر مطلقاً .
الثّالث : أنّها لا تفطر ، واستحسنه اللّخميّ ، لأنّ ذلك لا يصل إلى المعدة ، ولا موضع يتصرّف منه ما يغذّي الجسم بحال .
الرّابع : أنّ استعمال الحقنة مكروه .
قال ابن حبيب : وكان من مضى من السّلف وأهل العلم يكرهون التّعالج بالحقن إلاّ من ضرورة غالبة ، لا توجد عن التّعالج بها مندوحة ، فلهذا استحبّ قضاء الصّوم باستعمالها . ح - الحقنة المتّخذة في مسالك البول :
ويعبّر عن هذا الشّافعيّة بالتّقطير ، ولا يسمّونه احتقاناً وفيه هذا التّفصيل :(/11)
الأوّل : التّقطير في الإحليل ، أي الذّكر :
52 - في التّقطير أقوال : فذهب أبو حنيفة ومحمّد ومالك وأحمد ، وهو وجه عند الشّافعيّة، إلى أنّه لا يفطر ، سواء أوصل إلى المثانة أم لم يصل ، لأنّه ليس بين باطن الذّكر وبين الجوف منفذ ، وإنّما يمرّ البول رشحاً ، فالّذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف ، فلا يفطر ، كالّذي يتركه في فيه ولا يبتلعه ، وقال الموّاق : هو أخفّ من الحقنة .
وقال البهوتيّ : لو قطّر فيه ، أو غيّب فيه شيئاً فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه . وللشّافعيّة - مع ذلك - في المسألة أقوال :
أحدها : إذا قطّر فيه شيئاً لم يصل إلى المثانة لم يفطر ، وهذا أصحّها ، لأنّه - كما قال المحلّيّ - في جوف غير محيل .
الثّاني : لا يفطر .
الثّالث : إن جاوز الحشفة أفطر ، وإلاّ لا .
وذهب أبو يوسف إلى أنّه يفطر إذا وصل إلى المثانة ، أمّا ما دام في قصبة الذّكر فلا يفسد. الثّاني : التّقطير في فرج المرأة :
53 - الأصحّ عند الحنفيّة ، والمنصوص في مذهب المالكيّة ، والّذي يؤخذ من مذهب الشّافعيّة والحنابلة - الّذين نصّوا على الإحليل فقط - هو فساد الصّوم به ، وعلّله الحنفيّة بأنّه شبيه بالحقنة .
ووجهه عند المالكيّة ، استجماع شرطين :
أحدهما : أنّه من المنفذ السّافل الواسع ، والآخر : الاحتقان بالمائع .
وقد نصّ الدّردير على الإفطار به ، ونصّ الدّسوقيّ على وجوب القضاء على المشهور ، ومقابله ما لابن حبيب من استحباب القضاء ، بسبب الحقنة من المائع الواصلة إلى المعدة ، من الدّبر أو فرج المرأة ، كما نصّ الدّردير على أنّ الاحتقان بالجامد لا قضاء فيه ، ولا في الفتائل الّتي عليها دهن .
رابعاً : التّقصير في حفظ الصّوم والجهل به :
الأوّل : التّقصير :
54 - أ - من صور التّقصير ما لو تسحّر أو جامع ، ظانّاً عدم طلوع الفجر ، والحال أنّ الفجر طالع ، فإنّه يفطر ويجب عليه القضاء دون الكفّارة ، وهذا مذهب الحنفيّة ، ومشهور مذهب المالكيّة ، والصّحيح من مذهب الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، وذلك للشّبهة، لأنّ الأصل بقاء اللّيل ، والجناية قاصرة ، وهي جناية عدم التّثبّت ، لا جناية الإفطار ، لأنّه لم يقصده ، ولهذا صرّحوا بعدم الإثم عليه .
واختار الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة - أنّه لا قضاء عليه .
وإذا لم يتبيّن له شيء ، لا يجب عليه القضاء في ظاهر الرّواية - عند الحنفيّة - وقيل : يقضي احتياطاً وكذلك الحكم إذا أفطر بظنّ الغروب ، والحال أنّ الشّمس لم تغرب ، عليه القضاء ولا كفّارة عليه ، لأنّ الأصل بقاء النّهار ، وابن نجيم فرّع هذين الحكمين على قاعدة: اليقين لا يزول بالشّكّ .
قال ابن جزيّ : من شكّ في طلوع الفجر ، حرّم عليه الأكل ، وقيل : يكره .
فإن أكل فعليه القضاء وجوباً - على المشهور - وقيل : استحباباً ، وإن شكّ في الغروب ، لم يأكل اتّفاقاً ، فإن أكل فعليه القضاء والكفّارة ، وقيل : القضاء فقط ، وقال الدّسوقيّ : المشهور عدمها .
ومن المالكيّة من خصّ القضاء بصيام الفرض في الشّكّ في الفجر ، دون صيام النّفل ، ومنهم من سوّى بينهما .
وقيل عند الشّافعيّة : لا يفطر في صورتي الشّكّ في الغروب والفجر ، وقيل : يفطر في الأولى ، دون الثّانية .
ومن ظنّ أو اشتبه في الفطر ، كمن أكل ناسياً فظنّ أنّه أفطر ، فأكل عامداً ، فإنّه لا تجب عليه الكفّارة ، لقيام الشّبهة الشّرعيّة .
والقضاء هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة وهو الأصحّ .
أمّا لو فعل ما لا يظنّ به الفطر ، كالفصد والحجامة والاكتحال واللّمس والتّقبيل بشهوة ونحو ذلك ، فظنّ أنّه أفطر بذلك ، فأكل عمداً ، فإنّه يقضي في تلك الصّور ويكفّر لأنّه ظنّ في غير محلّه .
فلو كان ظنّه في محلّه فلا كفّارة ، كما لو أفتاه مفت - يعتمد على قوله ويؤخذ بفتواه في البلد - بالإفطار في الحجامة فأكل عامداً ، بعدما احتجم لا يكفّر .
والمالكيّة قسّموا الظّنّ في الفطر إلى قسمين :
أ - تأويل قريب ، وهو الّذي يستند فيه المفطر إلى أمر موجود ، يعذر به شرعاً ، فلا كفّارة عليه ، كما في هذه الصّور :
لو أفطر ناسياً ، فظنّ لفساد صومه إباحة الفطر ، فأفطر ثانياً عامداً ، فلا كفّارة عليه .
أو لزمه الغسل ليلاً لجنابة أو حيض ، ولم يغتسل إلاّ بعد الفجر ، فظنّ الإباحة ، فأفطر عمداً.
أو تسحّر قرب الفجر ، فظنّ بطلان صومه ، فأفطر .
أو قدم المسافر ليلاً ، فظنّ أنّه لا يلزمه صوم صبيحة قدومه ، فأفطر مستنداً إلى هذا التّأويل، لا تلزمه الكفّارة .
أو سافر دون مسافة القصر ، فظنّ إباحة الفطر فبيّت الفطر ، فلا كفّارة عليه .
أو رأى هلال شوّال نهاراً ، يوم ثلاثين من رمضان ، فاعتقد أنّه يوم عيد ، فأفطر .
فهؤلاء إذا ظنّوا إباحة الفطر فأفطروا ، فعليهم القضاء ولا كفّارة عليهم ، وإن علموا الحرمة ، أو شكّوا فيها فعليهم الكفّارة .
ب - تأويل بعيد ، وهو المستند فيه إلى أمر معدوم ، أو موجود لكنّه لم يعذر به شرعاً ، فلا ينفعه ، وعرّفه الأبيّ بأنّه : ما لم يستند لموجود غالباً ، مثال ذلك .
من رأى هلال رمضان ، فشهد عند حاكم ، فردّ ولم يقبل لمانع ، فظنّ إباحة الفطر ، فأفطر، فعليه الكفّارة لبعد تأويله .
وقال أشهب : لا كفّارة عليه لقرب تأويله لاستناده لموجود ، وهو ردّ الحاكم شهادته . والتّحقيق : أنّه استند لمعدوم ، وهو أنّ اليوم ليس من رمضان ، مع أنّه منه برؤية عينه . أو بيّت الفطر وأصبح مفطراً ، في يوم لحمّى تأتيه فيه عادةً ، ثمّ حمّ في ذلك اليوم ، وأولى إن لم يحمّ .(/12)
أو بيّتت الفطر امرأة لحيض اعتادته في يومها ، ثمّ حصل الحيض بعد فطرها ، وأولى إن لم يحصل .
أو أفطر لحجّامة فعلها بغيره ، أو فعلت به ، فظنّ الإباحة ، فإنّه يكفّر .
لكن قال الدّردير : المعتمد في هذا عدم الكفّارة ، لأنّه من القريب ، لاستناده لموجود ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : » أفطر الحاجم والمحجوم « .
أو اغتاب شخصاً في نهار رمضان ، فظنّ إباحة الفطر فأفطر ، فعليه الكفّارة .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ من جامع عامداً ، بعد الأكل ناسياً ، وظنّ أنّه أفطر به ، لا كفّارة عليه ، وإن كان الأصحّ بطلان صومه بالجماع ، لأنّه جامع وهو يعتقد أنّه غير صائم ، فلم يأثم به ، لذلك قيل : لا يبطل صومه ، وبطلانه مقيس على من ظنّ اللّيل وقت الجماع ، فبان خلافه .
وعند القاضي أبي الطّيّب ، أنّه يحتمل أن تجب به الكفّارة ، لأنّ هذا الظّنّ لا يبيح الوطء . وأمّا لو قال : علمت تحريمه ، وجهلت وجوب الكفّارة ، لزمته الكفّارة بلا خلاف .
ونصّ الحنابلة على أنّه لو جامع في يوم رأى الهلال في ليلته ، وردّت شهادته لفسقه أو غيره ، فعليه القضاء والكفّارة ، لأنّه أفطر يوماً من رمضان بجماع ، فلزمته كما لو قبلت شهادته .
وإذا لم يعلم برؤية الهلال إلاّ بعد طلوع الفجر ، أو نسي النّيّة ، أو أكل عامداً ، ثمّ جامع تجب عليه الكفّارة ، لهتكه حرمة الزّمن به ، ولأنّها تجب على المستديم للوطء ، ولا صوم هناك ، فكذا هنا .
الثّاني : الجهل :
54 - ب - الجهل : عدم العلم بما من شأنه أن يعلم .
فالجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو مشهور مذهب المالكيّة ، على إعذار حديث العهد بالإسلام ، إذا جهل الصّوم في رمضان .
قال الحنفيّة : يعذر من أسلم بدار الحرب فلم يصم ، ولم يصلّ ، ولم يزكّ بجهله بالشّرائع ، مدّة جهله ، لأنّ الخطاب إنّما يلزم بالعلم به أو بدليله ، ولم يوجد ، إذ لا دليل عنده على فرض الصّلاة والصّوم .
وقال الشّافعيّة : لو جهل تحريم الطّعام أو الوطء ، بأن كان قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ بعيداً عن العلماء ، لم يفطر ، كما لو غلب عليه القيء .
والمعتمد عند المالكيّة : أنّ الجاهل بأحكام الصّيام لا كفّارة عليه ، وليس هو كالعامد .
وقسّم الدّسوقيّ الجاهل إلى ثلاثة :
فجاهل حرمة الوطء ، وجاهل رمضان ، لا كفّارة عليهما ، وجاهل وجوب الكفّارة - مع علمه بحرمة الفعل - تلزمه الكفّارة .
وأطلق الحنابلة وجوب الكفّارة ، كما قرّر بعض من المالكيّة ، وصرّحوا بالتّسوية بين العامد والجاهل والمكره والسّاهي والمخطئ .
خامساً : عوارض الإفطار :
55 - المراد بالعوارض : ما يبيح عدم الصّوم .
وهي : المرض ، والسّفر ، والحمل ، والرّضاع ، والهرم ، وإرهاق الجوع والعطش ، والإكراه .
أوّلاً : المرض :
56 - المرض هو : كلّ ما خرج به الإنسان عن حدّ الصّحّة من علّة .
قال ابن قدامة : أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة .
والأصل فيه قول اللّه تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال : » لمّا نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ، يفطر ويفتدي ، حتّى أنزلت الآية الّتي بعدها يعني قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فنسختها « .
فالمريض الّذي يخاف زيادة مرضه بالصّوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو ، له أن يفطر ، بل يسنّ فطره ، ويكره إتمامه ، لأنّه قد يفضي إلى الهلاك ، فيجب الاحتراز عنه .
ثمّ إنّ شدّة المرض تجيز الفطر للمريض .
أمّا الصّحيح إذا خاف الشّدّة أو التّعب ، فإنّه لا يجوز له الفطر ، إذا حصل له بالصّوم مجرّد شدّة تعب ، هذا هو المشهور عند المالكيّة ، وإن قيل بجواز فطره .
وقال الحنفيّة : إذا خاف الصّحيح المرض بغلبة الظّنّ فله الفطر ، فإن خافه بمجرّد الوهم ، فليس له الفطر .
وقال المالكيّة : إذا خاف حصول أصل المرض بصومه ، فإنّه لا يجوز له الفطر - على المشهور - إذ لعلّه لا ينزل به المرض إذا صام . وقيل : يجوز له الفطر .
فإن خاف كلّ من المريض والصّحيح الهلاك على نفسه بصومه ، وجب الفطر .
وكذا لو خاف أذىً شديداً ، كتعطيل منفعة ، من سمع أو بصر أو غيرهما ، لأنّ حفظ النّفس والمنافع واجب ، وهذا بخلاف الجهد الشّديد ، فإنّه يبيح الفطر للمريض ، قيل : والصّحيح أيضاً .
وقال الشّافعيّة : إنّ المريض - وإن تعدّى بفعل ما أمرضه - يباح له ترك الصّوم ، إذا وجد به ضرراً شديداً ، لكنّهم شرطوا لجواز فطره نيّة التّرخّص - كما قال الرّمليّ واعتمده - وفرّقوا بين المرض المطبق ، وبين المرض المتقطّع : فإن كان المرض مطبقاً ، فله ترك النّيّة في اللّيل .
وإن كان يحمّ وينقطع ، نظر : فإن كان محموماً وقت الشّروع في الصّوم ، فله ترك النّيّة ، وإلاّ فعليه أن ينوي من اللّيل ، فإن احتاج إلى الإفطار أفطر .
ومثل ذلك الحصّاد والبنّاء والحارس - ولو متبرّعاً - فتجب عليهم النّيّة ليلاً ، ثمّ إن لحقتهم مشقّة أفطروا .(/13)
قال النّوويّ : ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصّوم ، بل قال أصحابنا : شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصّوم مشقّة يشقّ احتمالها ، وأمّا المرض اليسير الّذي لا يلحق به مشقّة ظاهره فلم يجز له الفطر ، بلا خلاف عندنا ، خلافاً لأهل الظّاهر .
وخوف الضّرر هو المعتبر عند الحنابلة ، أمّا خوف التّلف بسبب الصّوم فإنّه يجعل الصّوم مكروهاً ، وجزم جماعة بحرمته ، ولا خلاف في الإجزاء ، لصدوره من أهله في محلّه ، كما لو أتمّ المسافر .
قالوا : ولو تحمّل المريض الضّرر ، وصام معه ، فقد فعل مكروهاً ، لما يتضمّنه من الإضرار بنفسه ، وتركه تخفيفاً من اللّه وقبول رخصته ، لكن يصحّ صومه ويجزئه ، لأنّه عزيمة أبيح تركها رخصةً ، فإذا تحمّله أجزأه ، لصدوره من أهله في محلّه ، كما أتمّ المسافر ، وكالمريض الّذي يباح له ترك الجمعة ، إذا حضرها .
قال في المبدع : فلو خاف تلفاً بصومه ، كره ، وجزم جماعة بأنّه يحرم . ولم يذكروا خلافاً في الإجزاء .
ولخصّ ابن جزيّ من المالكيّة أحوال المريض بالنّسبة إلى الصّوم ، وقال : للمريض أحوال: الأولى : أن لا يقدر على الصّوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضّعف إن صام ، فالفطر عليه واجب .
الثّانية : أن يقدر على الصّوم بمشقّة ، فالفطر له جائز ، وقال ابن العربيّ : مستحبّ . الثّالثة : أن يقدر بمشقّة ، ويخاف زيادة المرض ، ففي وجوب فطره قولان .
الرّابعة : أن لا يشقّ عليه ، ولا يخاف زيادة المرض ، فلا يفطر عند الجمهور ، خلافاً لابن سيرين .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه إذا أصبح الصّحيح صائماً ، ثمّ مرض ، جاز له الفطر بلا خلاف ، لأنّه أبيح له الفطر للضّرورة ، والضّرورة موجودة ، فجاز له الفطر .
ثانياً : السّفر :
57 - يشترط في السّفر المرخّص في الفطر ما يلي :
أ - أن يكون السّفر طويلاً ممّا تقصر فيه الصّلاة قال ابن رشد : وأمّا المعنى المعقول من إجازة الفطر في السّفر فهو المشقّة ، ولمّا كانت لا توجد في كلّ سفر ، وجب أن يجوز الفطر في السّفر الّذي فيه المشقّة ، ولمّا كان الصّحابة كأنّهم مجمعون على الحدّ في ذلك ، وجب أن يقاس ذلك على الحدّ في تقصير الصّلاة .
ب - أن لا يعزم المسافر الإقامة خلال سفره مدّة أربعة أيّام بلياليها عند المالكيّة والشّافعيّة، وأكثر من أربعة أيّام عند الحنابلة ، وهي نصف شهر أو خمسة عشر يوماً عند الحنفيّة .
ج - أن لا يكون سفره في معصية ، بل في غرض صحيح عند الجمهور ، وذلك : لأنّ الفطر رخصة وتخفيف ، فلا يستحقّها عاص بسفره ، بأن كان مبنى سفره على المعصية ، كما لو سافر لقطع طريق مثلاً .
والحنفيّة يجيزون الفطر للمسافر ، ولو كان عاصياً بسفره ، عملاً بإطلاق النّصوص المرخّصة ، ولأنّ نفس السّفر ليس بمعصية ، وإنّما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره ، والرّخصة تتعلّق بالسّفر لا بالمعصية .
د - أن يجاوز المدينة وما يتّصل بها ، والبناءات والأفنية والأخبية .
وذهب عامّة الصّحابة والفقهاء ، إلى أنّ من أدرك هلال رمضان وهو مقيم ، ثمّ سافر ، جاز له الفطر ، لأنّ اللّه تعالى جعل مطلق السّفر سبب الرّخصة ، بقوله : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، ولما ثبت من » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح في رمضان مسافرًا ، وأفطر « .
ولأنّ السّفر إنّما كان سبب الرّخصة لمكان المشقّة .
وحكى النّوويّ عن أبي مخلد التّابعيّ أنّه لا يسافر ، فإن سافر لزمه الصّوم وحرّم الفطر وعن سويد بن غفلة التّابعيّ : أنّه يلزمه الصّوم بقيّة الشّهر ، ولا يمتنع السّفر ، واستدلّ لهما بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
حكى الكاسانيّ عن عليّ وابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهم - أنّه إذا أهلّ في المصر ، ثمّ سافر ، لا يجوز له أن يفطر .
واستدلّ لهم بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
ولأنّه لمّا استهلّ في الحضر لزمه صوم الإقامة ، وهو صوم الشّهر حتماً ، فهو بالسّفر يريد إسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك ، كاليوم الّذي سافر فيه ، فإنّه لا يجوز له أن يفطر فيه . 58 - وفي وقت جواز الفطر للمسافر ثلاث أحوال :
الأولى : أن يبدأ السّفر قبل الفجر ، أو يطلع الفجر وهو مسافر ، وينوي الفطر ، فيجوز له الفطر إجماعاً - كما قال ابن جزيّ - لأنّه متّصف بالسّفر ، عند وجود سبب الوجوب . الثّانية : أن يبدأ السّفر بعد الفجر ، بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده ، ثمّ يسافر بعد طلوع الفجر ، أو خلال النّهار ، فإنّه لا يحلّ له الفطر بإنشاء السّفر بعدما أصبح صائماً ، ويجب عليه إتمام ذلك اليوم ، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّة ، ورواية عن أحمد . وذلك تغليباً لحكم الحضر .
ومع ذلك لا كفّارة عليه في إفطاره عند الحنفيّة ، وفي المشهور من مذهب المالكيّة ، خلافاً لابن كنانة ، وذلك للشّبهة في آخر الوقت . ولأنّه لمّا سافر بعد الفجر صار من أهل الفطر ، فسقطت عنه الكفّارة .
والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه يحرم عليه الفطر حتّى لو أفطر بالجماع لزمته الكفّارة . والمذهب عند الحنابلة وهو أصحّ الرّوايتين عن أحمد ، وهو ما ذهب إليه المزنيّ وغيره من الشّافعيّة : أنّ من نوى الصّوم في الحضر ، ثمّ سافر في أثناء اليوم ، طوعاً أو كرهاً ، فله الفطر بعد خروجه ومفارقته بيوت قريته العامرة ، وخروجه من بين بنيانها ، واستدلّوا بما يلي :
ظاهر قوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .(/14)
وحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكّة عام الفتح فصام حتّى بلغ كراع الغميم ، وصام النّاس معه ، فقيل له : إنّ النّاس قد شقّ عليهم الصّيام ، وإنّ النّاس ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر ، فشرب - والنّاس ينظرون إليه - فأفطر بعضهم ، وصام بعضهم ، فبلغه أنّ ناساً صاموا ، فقال : أولئك العصاة « .
وحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال : » خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكّة ، في شهر رمضان ، فصام حتّى مرّ بغدير في الطّريق ، وذلك في نحر الظّهيرة . قال : فعطش النّاس ، وجعلوا يمدّون أعناقهم ، وتتوق أنفسهم إليه . قال : فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ، فأمسكه على يده ، حتّى رآه النّاس ، ثمّ شرب ، فشرب النّاس « .
وقالوا : إنّ السّفر مبيح للفطر ، فإباحته في أثناء النّهار كالمرض الطّارئ ولو كان بفعله . وقال الّذين أباحوه من الشّافعيّة : إنّه تغليب لحكم السّفر .
وقد نصّ الحنابلة ، المؤيّدون لهذا الرّأي على أنّ الأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم ، خروجاً من خلاف من لم يبح له الفطر ، وهو قول أكثر العلماء ، تغليباً لحكم الحضر ، كالصّلاة .
الثّالثة : أن يفطر قبل مغادرة بلده .
وقد منع من ذلك الجمهور ، وقالوا : إنّ رخصة السّفر لا تتحقّق بدونه ، كما لا تبقى بدونه، ولمّا يتحقّق السّفر بعد ، بل هو مقيم وشاهد ، وقد قال تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ولا يوصف بكونه مسافراً حتّى يخرج من البلد ، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ، ولذلك لا يقصر الصّلاة .
والجمهور الّذين قالوا بعدم جواز الإفطار في هذه الصّورة ، اختلفوا فيما إذا أكل ، هل عليه كفّارة ؟ فقال مالك : لا . وقال أشهب : هو متأوّل وقال غيرهما : يكفّر .
وقال ابن جزيّ : فإن أفطر قبل الخروج ، ففي وجوب الكفّارة عليه ثلاثة أقوال : يفرّق في الثّالث بين أن يسافر فتسقط ، أو لا ، فتجب .
59 - ويتّصل بهذه المسائل في إفطار المسافر : ما لو نوى في سفره الصّوم ليلاً ، وأصبح صائماً ، من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر ، لا يحلّ فطره في ذلك اليوم عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو وجه محتمل عند الشّافعيّة ، ولو أفطر لا كفّارة عليه للشّبهة .
قال ابن عابدين : وكذا لا كفّارة عليه بالأولى ، لو نوى نهاراً .
وقال ابن جزيّ : من كان في سفر ، فأصبح على نيّة الصّوم ، لم يجز له الفطر إلاّ بعذر ، كالتّغذّي للقاء العدوّ ، وأجازه مطرّف من غير عذر ، وعلى المشهور : إن أفطر ، ففي وجوب الكفّارة ثلاثة أقوال : يفرّق في الثّالث بين أن يفطر بجماع فتجب ، أو بغيره فلا تجب.
لكن الّذي في شروح خليل ، وفي حاشية الدّسوقيّ : أنّه إذا بيّت نيّة الصّوم في السّفر وأصبح صائماً فيه ثمّ أفطر ، لزمته الكفّارة سواء أفطر متأوّلاً أم لا . فسأل سحنون ابن القاسم ، عن الفرق بين من بيّت الصّوم في الحضر ثمّ أفطر بعد أن سافر بعد الفجر من غير أن ينويه فلا كفّارة عليه ، وبين من نوى الصّوم في السّفر ثمّ أفطر فعليه الكفّارة ؟ فقال : لأنّ الحاضر من أهل الصّوم ، فسافر فصار من أهل الفطر ، فسقطت عنه الكفّارة ، والمسافر مخيّر فيهما ، فاختار الصّوم وترك الرّخصة ، فصار من أهل الصّيام ، فعليه ما عليهم من الكفّارة .
والشّافعيّة في المذهب ، والحنابلة قالوا : لو أصبح صائماً في السّفر ، ثمّ أراد الفطر ، جاز من غير عذر ، لأنّ العذر قائم - وهو السّفر - أو لدوام العذر - كما يقول المحلّيّ .
وممّا استدلّوا به حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : » ... فصام حتّى مرّ بغدير في الطّريق « .
وحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - » ... فصام حتّى بلغ كراع الغميم « .
قال ابن قدامة : وهذا نصّ صريح ، لا يعرج على ما خالفه .
قال النّوويّ : وفيه احتمال لإمام الحرمين ، وصاحب المهذّب : أنّه لا يجوز ، لأنّه دخل في فرض المقيم ، فلا يجوز له التّرخّص برخصة المسافر ، كما لو دخل في الصّلاة بنيّة الإتمام، ثمّ أراد أن يقصر ، وإذا قلنا بالمذهب ، ففي كراهة الفطر وجهان ، وأصحّهما أنّه لا يلزمه ذلك ، للحديث الصّحيح ، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك .
وزاد الحنابلة أنّ له الفطر بما شاء ، من جماع وغيره ، كأكل وشرب ، لأنّ من أبيح له الأكل أبيح له الجماع ، كمن لم ينو ، ولا كفّارة عليه بالوطء ، لحصول الفطر بالنّيّة قبل الجماع ، فيقع الجماع بعده .
صحّة الصّوم في السّفر :
60 - ذهب الأئمّة الأربعة ، وجماهير الصّحابة والتّابعين إلى أنّ الصّوم في السّفر جائز صحيح منعقد ، وإذا صام وقع صيامه وأجزأه .
وروي عن ابن عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنّه غير صحيح ، ويجب القضاء على المسافر إن صام في سفر . وروي القول بكراهته .
والجمهور من الصّحابة والسّلف ، والأئمّة الأربعة ، الّذين ذهبوا إلى صحّة الصّوم في السّفر، اختلفوا بعد ذلك في أيّهما أفضل ، الصّوم أم الفطر ، أو هما متساويان ؟
فمذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو وجه عند الحنابلة ، أنّ الصّوم أفضل ، إذا لم يجهده الصّوم ولم يضعفه ، وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه مندوب .
قال الغزاليّ : والصّوم أحبّ من الفطر في السّفر ، لتبرئة الذّمّة ، إلاّ إذا كان يتضرّر به . وقيّد القليوبيّ الضّرر بضرر لا يوجب الفطر .(/15)
واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلى قوله { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ } . فقد دلّت الآيات على أنّ الصّوم عزيمة والإفطار رخصة ، ولا شكّ في أنّ العزيمة أفضل ، كما تقرّر في الأصول ، قال ابن رشد : ما كان رخصةً ، فالأفضل ترك الرّخصة . وبحديث أبي الدّرداء المتقدّم قال : » خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ، في حرّ شديد ... ما فينا صائم إلاّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعبد اللّه بن رواحة « .
وقيّد الحدّاديّ ، صاحب الجوهرة من الحنفيّة ، أفضليّة الصّوم - أيضاً - بما إذا لم تكن عامّة رفقته مفطرين ، ولا مشتركين في النّفقة ، فإن كانوا كذلك ، فالأفضل فطره موافقةً للجماعة .
ومذهب الحنابلة ، أنّ الفطر في السّفر أفضل ، بل قال الخرقيّ : والمسافر يستحبّ له الفطر قال المرداويّ : وهذا هو المذهب .
وفي الإقناع : والمسافر سفر قصر يسنّ له الفطر . ويكره صومه ، ولو لم يجد مشقّةً . وعليه الأصحاب ، ونصّ عليه ، سواء وجد مشقّةً أو لا ، وهذا مذهب ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم وسعيد والشّعبيّ والأوزاعيّ .
واستدلّ هؤلاء بحديث جابر رضي الله تعالى عنه : » ليس من البرّ الصّوم في السّفر « وزاد في رواية : » عليكم برخصة اللّه الّذي رخّص لكم فاقبلوها « .
قال المجد : وعندي لا يكره لمن قوي ، واختاره الآجرّيّ .
قال النّوويّ والكمال بن الهمام : إنّ الأحاديث الّتي تدلّ على أفضليّة الفطر ، محمولة على من يتضرّر بالصّوم ، وفي بعضها التّصريح بذلك ، ولا بدّ من هذا التّأويل ، ليجمح بين الأحاديث ، وذلك أولى من إهمال بعضها ، أو ادّعاء النّسخ ، من غير دليل قاطع .
والّذين سوّوا بين الصّوم وبين الفطر ، استدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها : » أنّ حمزة بن عمرو الأسلميّ رضي الله تعالى عنه قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أأصوم في السّفر ؟ - وكان كثير الصّيام – فقال : إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر « .
انقطاع رخصة السّفر :
61 - تسقط رخصة السّفر بأمرين اتّفاقاً :
الأوّل : إذا عاد المسافر إلى بلده ، ودخل وطنه ، وهو محلّ إقامته ، ولو كان دخوله بشيء نسيه ، يجب عليه الصّوم ، كما لو قدم ليلاً ، أو قدم قبل نصف النّهار عند الحنفيّة .
أمّا لو قدم نهاراً ، ولم ينو الصّوم ليلاً ، أو قدم بعد نصف النّهار - عند الحنفيّة ، ولم يكن نوى الصّوم قبلاً - فإنّه يمسك بقيّة النّهار ، على خلاف وتفصيل في وجوب إمساكه . الثّاني : إذا نوى المسافر الإقامة مطلقاً ، أو مدّة الإقامة الّتي تقدّمت في شروط جواز فطر المسافر في مكان واحد ، وكان المكان صالحاً للإقامة ، لا كالسّفينة والمفازة ودار الحرب ، فإنّه يصير مقيماً بذلك ، فيتمّ الصّلاة ، ويصوم ولا يفطر في رمضان ، لانقطاع حكم السّفر . وصرّحوا بأنّه يحرم عليه الفطر - على الصّحيح - لزوال العذر ، وفي قول يجوز له الفطر، اعتباراً بأوّل اليوم .
قال ابن جزيّ : إنّ السّفر لا يبيح قصراً ولا فطراً إلاّ بالنّيّة والفعل ، بخلاف الإقامة ، فإنّها توجب الصّوم والإتمام بالنّيّة دون الفعل .
وإذا لم ينو الإقامة لكنّه أقام لقضاء حاجة له ، بلا نيّة إقامة ، ولا يدري متى تنقضي ، أو كان يتوقّع انقضاءها في كلّ وقت ، فإنّه يجوز له أن يفطر ، كما يقصر الصّلاة .
قال الحنفيّة : ولو بقي على ذلك سنين .
فإن ظنّ أنّها لا تنقضي إلاّ فوق أربعة أيّام عند الجمهور ، أو خمسة عشر يوماً عند الحنفيّة، فإنّه يعتبر مقيماً ، فلا يفطر ولا يقصر ، إلاّ إذا كان الفرض قتالاً - كما قال الغزاليّ- فإنّه يترخّص على أظهر القولين ، أو دخل المسلمون أرض الحرب أو حاصروا حصناً فيها ، أو كانت المحاصرة للمصر على سطح البحر ، فإنّ لسطح البحر حكم دار الحرب .
ودليل هذا : » أنّه - صلى الله عليه وسلم - أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصّلاة « ويلاحظ أنّ الفطر كالقصر الّذي نصّوا عليه في صلاة المسافر ، من حيث التّرخّص ، فإنّ المسافر له سائر رخص السّفر .
ثالثاً : الحمل والرّضاع :
62 - الفقهاء متّفقون على أنّ الحامل والمرضع لهما أن تفطرا في رمضان ، بشرط أن تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته ، أو الضّرر أو الهلاك ، فالولد من الحامل بمنزلة عضو منها ، فالإشفاق عليه من ذلك كالإشفاق منه على بعض أعضائها . قال الدّردير : ويجب - يعني الفطر - إن خافتا هلاكاً أو شديد أذىً ، ويجوز إن خافتا عليه المرض أو زيادته .
ونصّ الحنابلة على كراهة صومهما ، كالمريض .
ودليل ترخيص الفطر لهما : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وليس المراد من المرض صورته ، أو عين المرض ، فإنّ المريض الّذي لا يضرّه الصّوم ليس له أن يفطر ، فكان ذكر المرض كنايةً عن أمر يضرّ الصّوم معه ، وهو معنى المرض ، وقد وجد هاهنا ، فيدخلان تحت رخصة الإفطار .
وصرّح المالكيّة بأنّ الحمل مرض حقيقةً ، والرّضاع في حكم المرض ، وليس مرضاً حقيقةً. وكذلك ، من أدلّة ترخيص الفطر لهما ، حديث أنس بن مالك الكعبيّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال : » إنّ اللّه وضع عن المسافر الصّوم وشطر الصّلاة ، وعن الحامل أو المرضع الصّوم أو الصّيام « وفي لفظ بعضهم : » عن الحبلى والمرضع « .(/16)