129 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه يجب الدّم على من ترك الرّمي كلّه أو ترك رمي يوم أو يومين أو ترك ثلاث حصيات من رمي أيّ جمرة . وعند الشّافعيّة في الحصاة يجب مدّ واحد ، وفي الحصاتين ضعف ذلك . وعند الحنابلة في الحصاة أو الحصاتين روايات . قال في المغني : الظّاهر عن أحمد أنّه لا شيء عليه في حصاة ولا حصاتين " وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب الدّم إن ترك الحاجّ رمي الجمار كلّها في الأيّام الأربعة ، أو ترك رمي يوم كامل ، ويلحق به ترك رمي أكثر حصيات يوم أيضا ، لأنّ للأكثر حكم الكلّ ، فيلزم فيه الدّم ، أمّا إن ترك الأقلّ من حصيات يوم فعليه صدقة ، لكلّ حصاة نصف صاع من برّ ، أو صاع من تمر أو شعير . ومذهب المالكيّة : يلزمه دم في ترك حصاة أو في ترك الجميع .
( ترك سنن الحجّ ) :
130 - ترك سنّة من سنن الحجّ لا يوجب إثما ولا جزاء . لكن يكون تاركها مسيئا على ما صرّح به الحنفيّة ، ويحرم نفسه من الثّواب الّذي أعدّه اللّه تعالى لمن عمل بالسّنن أو المستحبّات والنّوافل . ( انظر مصطلح : سنّة ) .
آداب الحاجّ : آداب الاستعداد للحجّ :
131 - أ - يستحبّ أن يشاور من يثق بدينه وخبرته في تدبير أموره ، ويتعلّم أحكام الحجّ وكيفيّته . قال الإمام النّوويّ : وهذا فرض عين ، إذ لا تصحّ العبادة ممّن لا يعرفها ، ويستحبّ أن يستصحب معه كتابا واضحا في المناسك جامعا لمقاصدها ، وأن يديم مطالعته ويكرّرها في جميع طريقه لتصير محقّقة عنده . ومن أخلّ بهذا خفنا عليه أن يرجع بغير حجّ ، لإخلاله بشرط من شروطه أو ركن من أركانه ، أو نحو ذلك ، وربّما قلّد كثير من النّاس بعض عوامّ مكّة وتوهّم أنّهم يعرفون المناسك فاغترّ بهم ، وذلك خطأ فاحش » .
ب - إذا عزم على الحجّ فيستحبّ له أن يستخير اللّه تعالى ، لكن ليس للحجّ نفسه ، فإنّه لا استخارة في فعل الطّاعات ، لكن للأداء هذا العام إن كانت الحجّة نافلة ، أو مع هذه القافلة ، وترد الاستخارة على الحجّ الفرض هذا العام لكن على القول بتراخي وجوبه .
ج - إذا استقرّ عزمه على الحجّ بدأ بالتّوبة من جميع المعاصي والمكروهات ، ويخرج من مظالم الخلق ، ويقضي ما أمكنه من ديونه ، ويردّ الودائع ، ويستحلّ كلّ من بينه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة ، ويكتب وصيّته ، ويشهد عليها ، ويوكّل من يقضي عنه ما لم يتمكّن من قضائه ، ويترك لأهله ومن تلزمه نفقته نفقتهم إلى حين رجوعه . ولا يتوهّم أحد الإفلات من حقوق النّاس بعباداته ، ما لم يؤدّ الحقوق إلى أهلها ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { يغفر للشّهيد كلّ شيء إلاّ الدّين } .
د - أن يجتهد في إرضاء والديه ، ومن يتوجّه عليه برّه وطاعته ، وإن كانت زوجة استرضت زوجها وأقاربها ، ويستحبّ للزّوج أن يحجّ بها ، فإن منعه أحد والديه من حجّ الإسلام لم يلتفت إلى منعه ، وإن منعه من حجّ التّطوّع لم يجز له الإحرام ، فإن أحرم فللوالد تحليله على الأصحّ عند الشّافعيّة ، خلافا للجمهور .
هـ - ليحرص أن تكون نفقته كثيرة وحلالا خالصة من الشّبهة ، فإن خالف وحجّ بمال فيه شبهة أو بمال مغصوب صحّ حجّه في ظاهر الحكم ، لكنّه عاص وليس حجّا مبرورا ، وهذا مذهب الشّافعيّ ومالك ، وأبي حنيفة رحمهم الله وجماهير العلماء من السّلف والخلف ، وقال أحمد بن حنبل : لا يجزيه الحجّ بمال حرام . وفي رواية أخرى يصحّ مع الحرمة . وفي الحديث الصّحيح : أنّه صلى الله عليه وسلم : { ذكر الرّجل يطيل السّفر ، أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء : يا ربّ ، يا ربّ ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، فأنّى يستجاب لذلك } .
و - الحرص على صحبة رفيق موافق صالح يعرف الحجّ ، وإن أمكن أن يصحب أحد العلماء العاملين فليتمسّك به ، فإنّه يعينه على مبارّ الحجّ ومكارم الأخلاق .
آداب السّفر للحجّ :
132 - نشير إلى نبذ هامة منها فيما يلي :
أ - يستحبّ أن يودّع أهله وجيرانه وأصدقاءه ، ويقول لمن يودّعه ما جاء في الحديث : { أستودعك اللّه الّذي لا تضيع ودائعه } ويسنّ للمقيم أن يقول للمسافر : { أستودع اللّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك } ب - أن يصلّي ركعتين قبل الخروج من منزله ، يقرأ في الأولى سورة { قل يا أيّها الكافرون } وفي الثّانية { قل هو اللّه أحد } وصحّ أنّه صلى الله عليه وسلم ما خرج من بيته قطّ إلاّ رفع طرفه إلى السّماء فقال : { اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ أو أضلّ ، أو أزلّ أو أزلّ ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل عليّ } .
ج - يستحبّ الإكثار من الدّعاء في جميع سفره ، وعلى آداب السّفر وأحكامه والتّقيّد برخصه من غير تجاوز لها ( انظر مصطلح : سفر ) آداب أداء مناسك الحجّ :
133 - أ - التّحلّي بمكارم الأخلاق ، والتّذرّع بالصّبر الجميل ، لما يعانيه الإنسان من مشقّات السّفر ، والزّحام ، والاحتكاك بالنّاس .
ب - استدامة حضور القلب والخشوع ، والإكثار من الذّكر والدّعاء وتلاوة القرآن ، وغير ذلك ، والمحافظة على أذكار مناسك الحجّ .
ج - الحرص على أداء أحكام الحجّ كاملة وعدم تضييع شيء من السّنن ، فضلا عن التّفريط بواجب ، إلاّ في مواضع العذر الشّرعيّة الّتي بيّنت في مناسباتها .
( آداب العود من الحجّ ) :
134 - من آداب العود من الحجّ ما يلي :
أ - أن يراعي آداب السّفر وأحكامه العامّة للذّهاب والإياب ، والخاصّة بالإياب ، مثل إخبار أهله إذا دنا من بلده ، وألاّ يطرقهم ليلا ، وإن يبدأ بصلاة ركعتين في المسجد إذا وصل منزله ، وأن يقول إذا دخل بيته : توبا توبا ، لربّنا أوبا ، لا يغادر حوبا " ( انظر مصطلح : سفر ) .(227/22)
ب - يستحبّ لمن يسلّم على الحاجّ أن يطلب من الحاجّ أن يستغفر له ، كما يستحبّ أن يدعو للحاجّ أيضا ويقول : { قبل اللّه حجّك وغفر ذنبك ، وأخلف نفقتك } . ويدعو الحاجّ لزوّاره بالمغفرة ، فإنّه مرجوّ الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم : { اللّهمّ اغفر للحاجّ ولمن . استغفر له الحاجّ } . ج - قال الإمام النّوويّ : ينبغي أن يكون بعد رجوعه خيرا ممّا كان ، فهذا من علامات قبول الحجّ ، وأن يكون خيره آخذا في ازدياد .(227/23)
حدث
التّعريف
1 - الحدث في اللّغة من الحدوث : وهو الوقوع والتّجدّد وكون الشّيء بعد أن لم يكن ، ومنه يقال : حدث به عيب إذا تجدّد وكان معدوما قبل ذلك . والحدث اسم من أحدث الإنسان إحداثا : بمعنى الحالة النّاقضة للوضوء . ويأتي بمعنى الأمر الحادث المنكر الّذي ليس بمعتاد ولا معروف ، ومنه محدثات الأمور . وفي الاصطلاح يطلق ويراد به أمور :
أ - الوصف الشّرعيّ ( أو الحكميّ ) الّذي يحلّ في الأعضاء ويزيل الطّهارة ويمنع من صحّة الصّلاة ونحوها ، وهذا الوصف يكون قائما بأعضاء الوضوء فقط في الحدث الأصغر ، وبجميع البدن في الحدث الأكبر ، وهو الغالب في إطلاقهم . كما سيأتي تفصيله . وقد ورد هذا التّعريف في كتب فقهاء المذاهب الأربعة باختلاف بسيط في العبارة . ب - الأسباب الّتي توجب الوضوء أو الغسل ، ولهذا نجد الحنفيّة يعرّفونه بأنّه : خروج النّجس من الآدميّ سواء أكان من السّبيلين أم من غيرهما معتادا كان أم غير معتاد . والمالكيّة يعرّفونه بأنّه الخارج المعتاد من المخرج المعتاد في حال الصّحّة ، والحنابلة يعرّفونه بما أوجب وضوءا أو غسلا ، كما وضع بعض الشّافعيّة بابا للأحداث ذكروا فيها أسباب نقض الوضوء .
ج - ويطلق الحدث على المنع المترتّب على المعنيين المذكورين د - وزاد المالكيّة إطلاقه على خروج الماء في المعتاد كما قال الدّسوقيّ . والمراد هنا من هذه الإطلاقات هو الأوّل ، أمّا المنع فإنّه حكم الحدث ، وهو الحرمة وليس نفس الحدث ، كما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - ( الطّهارة ) :
2 - الطّهارة في اللّغة النّزاهة والنّظافة والخلوص من الأدناس حسّيّة كانت كالأنجاس ، أم معنويّة كالعيوب من الحقد والحسد ونحوهما . وفي الشّرع رفع ما يمنع الصّلاة وما في معناها من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتّراب . فالطّهارة ضدّ الحدث ( ر : طهارة ) .
ب - ( الخبث ) :
3 - الخبث بفتحتين النّجس ، وإذا ذكر مع الحدث يراد منه النّجاسة الحقيقيّة أي العين المستقذرة شرعا ، ومن هنا عرّفوا الطّهارة بأنّها النّظافة من حدث أو خبث . والخبث بسكون الباء في اللّغة مصدر خبث الشّيء خبثا ضدّ طاب ، يقال : شيء خبيث أي نجس أو كريه الطّعم ، والخبث كذلك الشّرّ والوصف منه الخبث وجمعه الخبث ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث } أي ذكران الشّياطين وإناثهم ، واستعمل في كلّ حرام ج - النّجس :
4 - النّجس بفتحتين مصدر نجس الشّيء نجسا ، ثمّ استعمل اسما لكلّ مستقذر ، والنّجس بكسر الجيم ضدّ الطّاهر ، والنّجاسة ضدّ الطّهارة ، فالنّجس لغة يعمّ الحقيقيّ والحكميّ ، وعرفا يختصّ بالأوّل كالخبث . وإذا أحدث الإنسان ونقض وضوءه يقال له : محدث ، ولا يقال له نجس في عرف الشّارع . أمّا الخبث فيخصّ النّجاسة الحقيقيّة كما أنّ الحدث يخصّ الحكميّة ، والطّهارة ارتفاع كلّ واحد منهما .
أقسام الحدث :
5 - سبق في تعريف الحدث أنّه بالإطلاق الأوّل وصف يحلّ بالأعضاء ويمنع من صحّة الصّلاة ونحوها . فهذا الوصف إن كان قائما في جميع أعضاء البدن وأوجب غسلا يسمّى حدثا أكبر ، وإذا كان قائما بأعضاء الوضوء فقط وأوجب غسل تلك الأعضاء فقط يسمّى حدثا أصغر . والحدث بالإطلاق الثّاني أي الأسباب الّتي توجب الوضوء أو الغسل كذلك نوعان : حدث حقيقيّ ، وحدث حكميّ . والحدث الحكميّ : فهو نوعان : أحدهما : أن يوجد أمر يكون سببا لخروج النّجس الحقيقيّ غالبا فيقام السّبب مكان المسبّب احتياطا ، والثّاني : أن لا يوجد شيء من ذلك لكنّه جعل حدثا شرعا تعبّدا محضا . وهذا التّقسيم صرّح به الحنفيّة وتدلّ عليه تعليلات غيرهم . أسباب الحدث : أوّلا - خروج شيء من أحد السّبيلين :(228/1)
6 - قال الحنفيّة : ينتقض الوضوء بخروج النّجس من الآدميّ الحيّ من السّبيلين ( الدّبر والذّكر أو فرج المرأة ) معتادا كان كالبول والغائط والمنيّ والمذي والودّيّ ودم الحيض والنّفاس ، أم غير معتاد كدم الاستحاضة . أو من غير السّبيلين كالجرح والقرح والأنف والفم سواء كان الخارج دما أو قيحا أو قيئا . وقال المالكيّة : ينتقض الوضوء بالخارج المعتاد من المخرج المعتاد ، لا حصى ودود ولو ببلّة ، وهذا يشمل البول والغائط والمذي والمنيّ والودّيّ والرّيح ، سواء أكان خروجه في حال الصّحّة باختيار ، أم بغير اختيار ، كسلس فارق أكثر الزّمن ، أي ارتفع عن الشّخص ، زمانا يزيد على النّصف . فإن لازمه كلّ الزّمن أو أكثره أو نصفه فلا نقض ، ويشمل الحدث عندهم الخارج من ثقبة تحت المعدة إن انسدّ السّبيلان . وعلى ذلك فالخارج غير المعتاد ، والدّود ، والحصى ، والدّم ، والقيح ، والقيء ونحوها لا يعتبر حدثا ولو كان من المخرج المعتاد . وقال الشّافعيّة : ينتقض الوضوء بخروج شيء من قبله أو دبره عينا كان أو ريحا ، طاهرا أو نجسا ، جافّا أو رطبا ، معتادا كبول أو نادرا كدم ، قليلا أو كثيرا ، طوعا أو كرها . إلاّ المنيّ فليس خروجه ناقضا قالوا : لأنّه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل فلا يوجب أدونهما وهو الوضوء بعمومه ، وكذلك إذا انسدّ مخرجه وانفتح تحت معدته فخرج المعتاد . وقالا الحنابلة : النّاقض للوضوء هو الخارج من السّبيلين قليلا كان أو كثيرا ، نادرا كان كالدّود والدّم والحصى ، أو معتادا كالبول والغائط والودي والمذي والرّيح ، طاهرا أو نجسا ، وكذلك خروج النّجاسات من بقيّة البدن ، فإن كانت غائطا أو بولا نقض ولو قليلا من تحت المعدة أو فوقها ، سواء أكان السّبيلان مفتوحين أم مسدودين . وإن كانت النّجاسات الخارجة من غير السّبيلين غير الغائط والبول كالقيء والدّم والقيح ، ودون الجراح لم ينقض إلاّ كثيرها . وممّا سبق يظهر أنّ أسباب الحدث الحقيقيّ بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه :
أسباب الحدث المتّفق عليها :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخارج المعتاد من السّبيلين كالبول والغائط والمنيّ والمذي والودي والرّيح ، وأيضا دم الحيض والنّفاس يعتبر حدثا حقيقيّا قليلا كان الخارج أو كثيرا ، والدّليل على ذلك قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } فهو كناية عن الحدث من بول أو غائط ونحوهما . ولقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ، فلا يخرجنّ من المسجد حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا } . وهذه الأسباب بعضها حدث أكبر فيوجب الغسل كخروج المنيّ ، والحيض والنّفاس ، وبعضها حدث أصغر يوجب الوضوء فقط كالبول والغائط والمذي والودي والرّيح وسيأتي بيانه .
الأسباب المختلف فيها :
أ - ما يخرج من السّبيلين نادرا :
8 - ما يخرج من السّبيلين نادرا كالدّود والحصى والشّعر وقطعة اللّحم ونحوها تعتبر أحداثا تنقض الوضوء عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) ، وهو قول ابن عبد الحكم من المالكيّة . وبه قال الثّوريّ وإسحاق وعطاء والحسن ، لأنّها خارجة من السّبيلين فأشبهت المذي ، ولأنّها لا تخلو عن بلّة تتعلّق بها ، وقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء لكلّ صلاة ، ودمها خارج غير معتاد . وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى أنّ الخارج غير المعتاد من السّبيلين كحصى تولّد بالبطن ودود لا يعتبر حدثا ولو ببلّة من بول أو غائط غير متفاحش بحيث ينسب الخروج للحصى والدّود لا للبول والغائط . والقول الثّاني عندهم : أنّه لا وضوء عليه إلاّ أن تخرج الدّودة والحصى غير نقيّة .
9- واختلفوا في الرّيح الخارجة من الذّكر أو قبل المرأة : فقال الحنفيّة في الأصحّ والمالكيّة وهو رواية عند الحنابلة : لا تعتبر حدثا ، ولا ينتقض بها الوضوء ، لأنّها اختلاج وليس في الحقيقة ريحا منبعثة عن محلّ النّجاسة ، وهذا في غير المفضاة ، فإن كانت من المفضاة فصرّح الحنفيّة أنّه يندب لها الوضوء ، وقيل : يجب ، وقيل : لو منتنة ، لأنّ نتنها دليل خروجها من الدّبر . وقال الشّافعيّة وهو رواية أخرى عند الحنابلة : إنّ الخارجة من الذّكر أو قبل المرأة حدث يوجب الوضوء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا وضوء إلاّ من صوت أو ريح } .
ب - ما يخرج من غير السّبيلين :(228/2)
10 - الخارج من غير السّبيلين إذا لم يكن نجسا لا يعتبر حدثا باتّفاق الفقهاء . واختلفوا فيما إذا كان نجسا ، فقال الحنفيّة : ما يخرج من غير السّبيلين من النّجاسة حدث ينقض الوضوء بشرط أن يكون سائلا جاوز إلى محلّ يطلب تطهيره ولو ندبا ، كدم وقيح وصديد عن رأس جرح ، وكقيء ملأ الفم من مرّة أو علق أو طعام أو ماء ، لا بلغم ، وإن قاء دما أو قيحا نقض وإن لم يملأ الفم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمّد ، ويشترط عند الحنابلة أن يكون كثيرا إلاّ الغائط والبول فلا تشترط فيهما الكثرة عندهم . والقول بأنّ النّجس الخارج من غير السّبيلين حدث هو قول كثير من الصّحابة والتّابعين . منهم : ابن مسعود وابن عبّاس وزيد بن ثابت وابن عمر ، وسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وقتادة والثّوريّ وإسحاق . والدّليل على ذلك ما ورد في الأحاديث ، منها : قوله صلى الله عليه وسلم : { الوضوء من كلّ دم سائل } وقوله عليه الصلاة والسلام : { من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف ، فليتوضّأ ثمّ ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلّم } ولأنّ الدّم ونحوه نجاسة خارجة من البدن فأشبه الخارج من السّبيلين . ووجه ما اشترطه الحنابلة من الكثرة في غير الغائط والبول أنّ ابن عبّاس قال في الدّم : إذا كان فاحشا فعليه الإعادة ، ولما ورد أنّ ابن عمر رضي الله عنهما عصر بثرة فخرج دم فصلّى ولم يتوضّأ . وقال المالكيّة والشّافعيّة وهو قول ربيعة وأبي ثور وابن المنذر : الخارج من غير السّبيلين لا يعتبر حدثا ، لما روى أبو داود عن جابر قال : { خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - يعني في غزوة ذات الرّقاع - فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين ، فحلف أن لا أنتهي حتّى أهريق دما في أصحاب محمّد ، فخرج يتبع أثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل النّبيّ صلى الله عليه وسلم منزلا ، فقال : من رجل يكلؤنا ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ، فقال : كونا بفم الشّعب قال : فلمّا خرج الرّجلان إلى فم الشّعب اضطجع المهاجريّ وقام الأنصاريّ يصلّي ، وأتى الرّجل ، فلمّا رأى شخصه عرف أنّه ربيئة للقوم ، فرماه بسهم فوضعه فيه ، فنزعه حتّى رماه بثلاثة أسهم ثمّ ركع وسجد ، ثمّ انتبه صاحبه ، فلمّا عرف أنّهم قد نذروا به هرب ، ولمّا رأى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدّم : قال : سبحان اللّه ، ألا أنبهتني أوّل ما رمى ؟ قال : كنت في سورة أقرؤها ، فلم أحبّ أن أقطعها } . ولما روي أنّه عليه الصلاة والسلام : { قاء فلم يتوضّأ } . واستثنى المالكيّة والشّافعيّة من هذا الحكم ما خرج من ثقبة تحت المعدة إن انسدّ مخرجه ، وكذلك إذا لم ينسدّ في قول عند المالكيّة ، فينتقض الوضوء .
ثانيا - الحدث الحكميّ :(228/3)
11 - الحدث الحكميّ هو ما يكون سببا لخروج الحدث الحقيقيّ غالبا فيقام السّبب مقام المسبّب احتياطا . فيأخذ حكم الحدث الحقيقيّ شرعا ، ويدخل في هذا النّوع : - زوال العقل أو التّمييز وذلك بالنّوم أو السّكر أو الإغماء أو الجنون أو نحوها . وهذه الأسباب متّفق عليها بين المذاهب في الجملة . واستدلّ الفقهاء لنقض الوضوء بالنّوم بحديث صفوان بن عسّال قال : { كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنّا سفرا أن لا ننزع ثلاثة أيّام ولياليهنّ إلاّ من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم } . وبما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { العين وكاء السّه فمن نام فليتوضّأ } . واختلفت عباراتهم في كيفيّة النّوم النّاقض للوضوء : فقال الحنفيّة : النّوم النّاقض هو ما كان مضطجعا أو متّكئا أو مستندا إلى شيء لو أزيل منه لسقط ، لأنّ الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يعرى عن خروج شيء عادة ، والثّابت عادة كالمتيقّن . والاتّكاء يزيل مسكة اليقظة ، لزوال المقعدة عن الأرض . بخلاف النّوم حالة القيام والقعود والرّكوع والسّجود في الصّلاة وغيرها ، لأنّ بعض الاستمساك باق ، إذ لو زال لسقط ، فلم يتمّ الاسترخاء . وذهب المالكيّة إلى أنّ النّاقض هو النّوم الثّقيل بأن لم يشعر بالصّوت المرتفع ، بقربه ، أو بسقوط شيء من يده وهو لا يشعر ، طال النّوم أو قصر . ولا ينقض بالخفيف ولو طال ، ويندب الوضوء إن طال النّوم الخفيف . وعند الشّافعيّة خمسة أقوال : الصّحيح منها أنّ من نام ممكّنا مقعدته من الأرض أو نحوها لم ينقض وضوءه ، وإن لم يكن ممكّنا ينتقض على أيّة هيئة كان في الصّلاة وغيرها لحديث أنس قال : كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون ، أحسبه قال : قعودا حتّى تخفق رءوسهم ثمّ يصلّون ولا يتوضّئون . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { ليس على من نام قائما أو قاعدا وضوء حتّى يضع جنبه إلى الأرض } ويندب الوضوء عندهم إلاّ مع التّمكين خروجا من الخلاف . وأمّا الحنابلة فقسموا النّوم إلى ثلاثة أقسام : الأوّل : نوم المضطجع فينقض به الوضوء قليلا كان أو كثيرا أخذا لعموم الحديثين السّابقين . الثّاني : نوم القاعد ، فإن كان كثيرا نقض بناء على الحديثين ، وإن كان يسيرا لم ينقض لحديث أنس الّذي ذكره الشّافعيّة . الثّالث : ما عدا هاتين الحالتين ، وهو نوم القائم والرّاكع والسّاجد . وقد روي عن أحمد في هذه الحالات روايتان : إحداهما : ينقض مطلقا للعموم في الحديثين ، والثّانية : لا ينقض ، إلاّ إذا كثر ، لحديث ابن عبّاس { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام ثمّ يقوم فيصلّي فقلت له : صلّيت ولم تتوضّأ ، وقد نمت ، فقال إنّما الوضوء على من نام مضطجعا فإنّه إذا اضطجع استرخت مفاصله } . والعبرة في تحديد الكثير واليسير في الصّحيح عندهم العرف . أمّا السّكر والجنون والإغماء فدليل نقض الوضوء بها أنّها أبلغ في إزالة المسكة من النّوم ، لأنّ النّائم يستيقظ بالانتباه ، بخلاف المجنون والسّكران والمغمى عليه . ولتعريف هذه الأمور ومعرفة حكمها وأثرها على الوضوء يرجع إلى مصطلحاتها .
المباشرة الفاحشة دون الجماع :
12 - وتفسيرها ، كما قال الكاسانيّ من الحنفيّة : أن يباشر الرّجل المرأة بشهوة وينتشر لها وليس بينهما ثوب ولم ير بللا . وقال في الدّرّ : أن تكون بتماسّ الفرجين ولو بين المرأتين أو الرّجلين مع الانتشار ولو بلا بلل . فهذه تنقض الوضوء عند جمهور الفقهاء - إلاّ محمّدا من الحنفيّة - فعن أبي أمامة أنّه قال : { بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ونحن قعود معه ، إذ جاء رجل فقال : يا رسول اللّه : إنّي أصبت حدّا ، فأقمه عليّ ، فسكت عنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ أعاد فقال : يا رسول اللّه : إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ ، فسكت عنه . وأقيمت الصّلاة . فلمّا انصرف نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة : فاتّبع الرّجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين انصرف واتّبعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنظر ما يردّ على الرّجل فلحق الرّجل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : إنّي أصبت حدّا فأقمه عليّ . قال أبو أمامة : فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أرأيت حين خرجت من بيتك أليس قد توضّأت فأحسنت الوضوء ؟ قال : بلى يا رسول اللّه . قال : ثمّ شهدت الصّلاة معنا فقال : نعم يا رسول اللّه . قال : فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فإنّ اللّه قد غفر لك حدّك ، أو قال ذنبك } . ولأنّ المباشرة على الصّفة الّتي ذكرنا لا تخلو عن خروج المذي عادة إلاّ أنّه يحتمل أن جفّ بحرارة البدن فلم يقف عليه أو غفل عن نفسه لغلبة الشّبق فكانت سببا مفضيا إلى الخروج ، وهو المتحقّق في مقام وجوب الاحتياط .
التقاء بشرتي الرّجل والمرأة :(228/4)
13 - جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ لمس بشرتي الرّجل والمرأة حدث ينقض الوضوء في الجملة ، لكن تختلف عباراتهم في الشّروط والتّفصيل . فقال المالكيّة : الّذي ينقض الوضوء هو اللّمس بعضو أصليّ أو زائد يلتذّ صاحبه به عادة ، ولو لظفر أو شعر أو سنّ ، ولو بحائل خفيف يحسّ اللّامس فوقه بطراوة الجسد ، إن قصد اللّذّة أو وجدها بدون القصد ، قالوا : وممّن يلتذّ به عادة الأمرد والّذي لم تتمّ لحيته ، فلا نقض بلمس جسد أو فرج صغيرة لا تشتهى عادة ، ولو قصد . اللّذّة أو وجدها ، كما لا تنقض بلمس محرم بغير لذّة ، أمّا القبلة بفم فناقضة ولا تشترط فيها اللّذّة ولا وجودها . وقال الشّافعيّة : هو لمس بشرتي الذّكر والأنثى اللّذين بلغا حدّا يشتهى ، ولو لم يكونا بالغين ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بشهوة أو إكراه أو نسيان ، أو يكون الذّكر ممسوحا أو خصيّا أو عنّينا ، أو المرأة عجوزا شوهاء ، أو العضو زائدا أو أصليّا سليما أو أشلّ أو أحدهما ميّتا . والمراد بالبشرة ظاهر الجلد . وفي معناها اللّحم ، كلحم الأسنان واللّسان واللّثة وباطن العين ، فخرج ما إذا كان على البشرة حائل ولو رقيقا . والملموس في كلّ هذا كاللّامس في نقض وضوئه في الأظهر . ولا ينقض بلمس المحرم في الأظهر ، ولا صغيرة ، وشعر ، وسنّ ، وظفر في الأصحّ ، كما لا ينقض بلمس الرّجل الرّجل والمرأة المرأة والخنثى مع الخنثى أو مع الرّجل أو المرأة ولو بشهوة ، لانتفاء مظنّتها . وقال الحنابلة : مسّ بشرة الذّكر بشرة أنثى أو عكسه لشهوة من غير حائل غير طفلة وطفل ولو كان اللّمس بزائد أو لزائد أو شلل ، ولو كان الملموس ميّتا أو عجوزا أو محرما أو صغيرة تشتهى ، ولا ينقض وضوء الملموس بدنه ولو وجد منه شهوة ، ولا بلمس شعر وظفر وسنّ وعضو مقطوع وأمرد مسّه رجل ولا مسّ خنثى مشكل ، ولا بمسّه رجلا أو امرأة ، ولا بمسّ الرّجل رجلا ، ولا المرأة المرأة ولو بشهوة فيهم . هذا ، ويستدلّ الجمهور في اعتبارهم اللّمس من الأحداث بما ورد في الآية من قوله تعالى . { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء } أي لمستم كما قرئ به ، فعطف اللّمس على المجيء من الغائط ورتّب عليهما الأمر بالتّيمّم عند فقد الماء ، فدلّ على أنّه حدث كالمجيء من الغائط . وليس معناه ( أو جامعتم ) لأنّه خلاف الظّاهر ، إذ اللّمس لا يختصّ بالجماع . قال تعالى : { فلمسوه بأيديهم } وقال صلى الله عليه وسلم : { لعلّك لمست } . أمّا ما اشترطه المالكيّة من قصد اللّذّة أو وجودها والحنابلة من أن يكون اللّمس بالشّهوة فللجمع بين الآية وبين الأخبار الّتي تدلّ على عدم النّقض بمجرّد الالتقاء كما سيأتي . أمّا الحنفيّة فلا يعتبرون مسّ المرأة من الأحداث مطلقا ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما . وعنها أنّه صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثمّ خرج إلى الصّلاة ولم يتوضّأ .
مسّ فرج الآدميّ :
14 - ذكر الشّافعيّة والمالكيّة وهو رواية عند الحنابلة أنّ مسّ فرج الآدميّ حدث ينقض الوضوء في الجملة ، ولكن اختلفت عباراتهم في الشّروط والتّفصيل : فقال المالكيّة : ينقض الوضوء مطلق مسّ ذكر الماسّ البالغ المتّصل ولو كان خنثى مشكلا ببطن أو جنب لكفّ أو إصبع ولو كانت الإصبع زائدة وبها إحساس . ولا يشترط فيه التّعمّد أو الالتذاذ . أمّا مسّ ذكر غيره فيجري على حكم اللّمس من تقييده بالقصد أو وجدان اللّذّة . وقال الشّافعيّة : النّاقض مسّ قبل الآدميّ ذكرا كان أو أنثى من نفسه أو غيره متّصلا أو منفصلا ببطن الكفّ من غير حائل . وكذا ( في الجديد ) حلقة دبره ولو فرج الميّت والصّغير ومحلّ الجبّ والذّكر الأشلّ وباليد الشّلّاء على الأصحّ ، لا برأس الأصابع وما بينهما . وقال الحنابلة في الرّواية الّتي تجعل مسّه حدثا : النّاقض مسّ ذكر الآدميّ إلى أصول الأنثيين مطلقا سواء أكان الماسّ ذكرا أم أنثى ، صغيرا أو كبيرا بشهوة أو غيرها من نفسه أو غيره ، لا مسّ منقطع ولا محلّ القطع ، ويكون المسّ ببطن الكفّ أو بظهره أو بحرفه غير ظفر ، من غير حائل ، ولو بزائد . كما ينقض مسّ حلقة دبر منه أو من غيره ، ومسّ امرأة فرجها الّذي بين شفريها أو فرج امرأة أخرى ، ومسّ رجل فرجها ومسّها ذكره ولو من غير شهوة . والدّليل على أنّ مسّ الفرج حدث ما رواه بسر بن صفوان أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { من مسّ ذكره فلا يصلّ حتّى يتوضّأ } وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر وجب عليه الوضوء } وقوله صلى الله عليه وسلم : { أيّما امرأة مسّت فرجها فلتتوضّأ } . ونصّ الحنفيّة - وهو رواية أخرى عند الحنابلة أنّ مسّ الفرج لا يعتبر من الأحداث فلا ينقض الوضوء ، لحديث طلق بن عليّ عن أبيه { عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن الرّجل يمسّ ذكره في الصّلاة فقال : هل هو إلاّ بضعة منك } . قال الحنفيّة : يغسل يده ندبا لحديث { من مسّ ذكره فليتوضّأ } أي ليغسل يده جمعا بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم { هل هو إلاّ بضعة منك } حين سئل عن الرّجل يمسّ ذكره بعدما يتوضّأ وفي رواية في الصّلاة .
القهقهة في الصّلاة :(228/5)
15 - جمهور الفقهاء وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - لا يعتبرون القهقهة من الأحداث مطلقا ، فلا ينتقض الوضوء بها أصلا ولا يجعلون فيها وضوءا ، لأنّها لا تنقض الوضوء خارج الصّلاة فلا تنقضه داخلها ، ولأنّها ليست خارجا نجسا ، بل هي صوت كالكلام والبكاء . وذكر الحنفيّة في الأحداث الّتي تنقض الوضوء القهقهة في الصّلاة إذا حدثت من مصلّ بالغ يقظان في صلاة كاملة ذات ركوع وسجود ، سواء أكان متوضّئا أم متيمّما أم مغتسلا في الصّحيح ، وسواء أكانت القهقهة عمدا أم سهوا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { من ضحك في الصّلاة قهقهة فليعد الوضوء والصّلاة معا } . والقهقهة ما يكون مسموعا لجيرانه ، والضّحك ما يسمعه هو دون جيرانه ، والتّبسّم ما لا صوت فيه ولو بدت أسنانه . قالوا : القهقهة تنقض الوضوء وتبطل الصّلاة معا ، والضّحك يبطل الصّلاة خاصّة ، والتّبسّم لا يبطل شيئا . وعلى ذلك فلا يبطل وضوء صبيّ ونائم بالقهقهة في الصّلاة على الأصحّ عند الحنفيّة ، كما لا ينقض وضوء من قهقه خارج الصّلاة ، أو من كان في صلاة غير كاملة ، كصلاة الجنازة وسجدة التّلاوة . ثمّ قيل : إنّ القهقهة من الأحداث عندهم ، وقيل : لا بل وجب الوضوء بها عقوبة وزجرا ، لأنّ المقصود بالصّلاة إظهار الخشوع والخضوع والتّعظيم للّه تعالى ، والقهقهة تنافي ذلك فناسب انتقاض وضوئه زجرا له . والرّاجح أنّها ليست حدثا وإلاّ لاستوى فيها جميع الأحوال مع أنّها مخصوصة بأن تكون في الصّلاة الكاملة من مصلّ بالغ . قال ابن عابدين : ورجّح في البحر القول الثّاني لموافقته القياس ، لأنّها ليست خارجا نجسا بل هي صوت كالكلام والبكاء ، ولموافقته للأحاديث المرويّة فيها ، إذ ليس فيها إلاّ الأمر بإعادة الوضوء والصّلاة ولا يلزم منه كونها حدثا .
16 - وفائدة الخلاف في القولين تظهر في جواز مسّ المصحف وكتابة القرآن ، فمن جعلها حدثا منع كسائر الأحداث ، ومن أوجب الوضوء عقوبة وزجرا جوّز .
أكل لحم الجزور :
17 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء كأكل سائر الأطعمة لما روى ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { الوضوء ممّا يخرج وليس ممّا يدخل } ولما روى جابر قال : { كان آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ممّا مسّته النّار } ولأنّه مأكول أشبه سائر المأكولات في عدم النّقض ، والأمر بالوضوء فيه محمول على الاستحباب أو الوضوء اللّغويّ وهو غسل اليدين . وصرّح الحنابلة - وهو أحد قولي الشّافعيّ - بأن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كلّ حال نيئا ومطبوخا ، عالما كان الآكل أو جاهلا . لقوله عليه الصلاة والسلام : { توضّئوا من لحوم الإبل ولا تتوضّئوا من لحوم الغنم } . وقالوا : إنّ وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور تعبّديّ لا يعقل معناه فلا يتعدّى إلى غيره ، فلا يجب الوضوء بشرب لبنها ، ومرق لحمها ، وأكل كبدها وطحالها وسنامها وجلدها وكرشها ونحوه .
غسل الميّت :
18 - ذهب جمهور الفقهاء وهو قول بعض الحنابلة : إلى عدم وجوب الوضوء بتغسيل الميّت ، لأنّ الوجوب يكون من الشّرع ، ولم يرد في هذا نصّ فبقي على الأصل . ولأنّه غسل آدميّ فأشبه غسل الحيّ ، وما روي عن أحمد في هذا محمول على الاستحباب . ويرى أكثر الحنابلة أنّ من غسّل الميّت أو بعضه ولو في قميص يجب عليه الوضوء سواء أكان المغسول صغيرا أم كبيرا ، ذكرا أم أنثى ، مسلما أم كافرا . لما روي عن ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم أنّهما كانا يأمران غاسل . الميّت بالوضوء ، ولأنّ الغالب فيه أنّه لا يسلم أن تقع يده على فرج الميّت فتقام مظنّة ذلك مقام حقيقته كما أقيم النّوم مقام الحدث .
( الرّدّة ) :
19 - الرّدّة - وهي الإتيان بما يخرج من الإسلام بعد تقرّره - حدث حكميّ تنقض الوضوء عند الحنابلة وهو المشهور عند المالكيّة ، فالمرتدّ إذا عاد إلى الإسلام ورجع إلى دين الحقّ فليس له الصّلاة حتّى يتوضّأ وإن كان متوضّئا قبل ردّته ولم ينقض وضوءه بأسباب أخرى . لقوله تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك } والطّهارة عمل . ونقل عن ابن القاسم من المالكيّة استحباب الوضوء في هذه الحالة . ولم يعدّ الحنفيّة والشّافعيّة الرّدّة من أسباب الحدث فلا ينقض الوضوء بها عندهم لقوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة } فشرط الموت بعد الرّدّة لحبوط العمل - كما قال ابن قدامة . وتفصيله في مصطلح : ( ردّة )
الشّكّ في الحدث :(228/6)
20 - ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الشّكّ لا الوضوء . فلو أيقن بالطّهارة ( أي علم سبقها ) وشكّ في عروض الحدث بعدها فهو على الطّهارة ، ومن أيقن بالحدث وشكّ في الطّهارة فهو على الحدث ، لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ ، والأصل في ذلك ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لم يخرج فلا يخرجنّ من المسجد حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا } . ولو تيقّنهما ولم يعلم الآخر منهما ، مثل من تيقّن أنّه كان في وقت الظّهر متطهّرا مرّة ومحدثا أخرى ولا يعلم أيّهما كان لاحقا يأخذ بضدّ ما قبلهما عند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وذكره بعض الحنفيّة ، وعلى ذلك فإن كان قبلهما محدثا فهو الآن متطهّر لأنّه تيقّن الطّهارة وشكّ في تأخّر الحدث عنها والأصل عدم تأخّره ، وإن كان قبلهما متطهّرا فهو الآن محدث ، لأنّه تيقّن الحدث وشكّ في تأخّر الطّهارة عنه ، والأصل عدم تأخّرها ، فإن لم يعلم ما قبلهما لزمه الوضوء لتعارض الاحتمالين من غير مرجّح . والوجه الثّاني عند الشّافعيّة لا ينظر إلى ما قبلهما ويلزمه الوضوء . والمشهور عند الحنفيّة أنّه لو تيقّنهما وشكّ في السّابق فهو متطهّر . أمّا المالكيّة فقد صرّحوا بنقض الوضوء بشكّ في حدث بعد طهر علم ، فإن أيقن بالوضوء ثمّ شكّ فلم يدر أأحدث بعد الوضوء أم لا فليعد وضوءه إلاّ أن يكون الشّكّ مستنكحا . قال الحطّاب : هذا إذا شكّ قبل الصّلاة ، أمّا إذا صلّى ثمّ شكّ هل أحدث أم لا ففيه قولان . وذكر في التّاج والإكليل أنّ من شكّ أثناء صلاته هل هو على وضوء أم لا فتمادى على صلاته وهو على شكّه ذلك ، فلمّا فرغ من صلاته استيقن أنّه على وضوئه فإنّ صلاته مجزئة ، لأنّه دخل في الصّلاة بطهارة متيقّنة ، فلا يؤثّر فيها الشّكّ الطّارئ . أمّا إذا طرأ عليه الشّكّ في طهارته قبل دخوله في الصّلاة فوجب ألا يدخل في الصّلاة إلاّ على طهارة متيقّنة . وينتقض الوضوء عندهم أيضا بشكّ في السّابق من الوضوء والحدث سواء كانا محقّقين أو مظنونين أو مشكوكين أو أحدهما محقّقا أو مظنونا والآخر مشكوكا أو أحدهما محقّقا والآخر مظنونا . وقال في البدائع : لو شكّ في بعض وضوئه - وهو أوّل ما شكّ - غسل الموضع الّذي شكّ فيه لأنّه على يقين من الحدث فيه ، وإن صار الشّكّ في مثله عادة له بأن يعرض له كثيرا لم يلتفت إليه ، لأنّه من باب الوسوسة فيجب قطعها . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إنّ الشّيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليتيه فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرف حتّى يسمع صوتا أو يجد ريحا } . والتّفصيل في مصطلح ( شكّ ) ( ووسوسة ) .
حكم الحدث :
21 - الحدث إمّا أن يكون أكبر فيوجب الغسل ، أو أصغر فيوجب الوضوء فقط ، أمّا أحكام الحدث الأكبر وأسبابه من الجنابة والحيض والنّفاس فينظر تفصيله في مصطلحاتها ومصطلح : ( غسل ) . وفيما يأتي أحكام الحدث الأصغر : أوّلا : ما لا يجوز بالحدث الأصغر :
أ - ( الصّلاة ) :(228/7)
22 - يحرم بالمحدث ( حيث لا عذر ) الصّلاة بأنواعها بالإجماع لحديث الصّحيحين : { لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتّى يتوضّأ } وقوله عليه الصلاة والسلام : { لا صلاة لمن لا وضوء له } وقوله صلى الله عليه وسلم : { لا تقبل صلاة بغير طهور } وهو يعمّ الفرض والنّفل ، ومنها صلاة الجنازة باتّفاق الفقهاء . وفي معنى الصّلاة سجدتا التّلاوة والشّكر وخطبة الجمعة عند بعض الفقهاء ، وحكي عن الشّعبيّ وابن جرير الطّبريّ جواز الصّلاة على الجنائز بغير وضوء ولا تيمّم . وإذا كان هناك عذر كمن قطعت يداه ورجلاه وبوجهه جراحة - كما ذكره الحنفيّة أو لم يجد ماء ولا ترابا مع ضيق الوقت كما قال الشّافعيّة - صلّى وجوبا بغير طهارة وتفصيله في مصطلح ( فقد الطّهورين ) هذا إذا كان محدثا قبل دخوله في الصّلاة . 23 - أمّا إذا طرأ عليه الحدث وهو في الصّلاة ، فجمهور الفقهاء ، وهم المالكيّة والشّافعيّة وهو الصّحيح عند الحنابلة يرون بطلان الصّلاة ، غلبة كان الحدث أو نسيانا ، سواء أكان المصلّي فذّا أم مأموما أم إماما ، لكن لا يسري بطلان صلاة الإمام على صلاة المأمومين عند من يجيزون الاستخلاف كما سيأتي في الفقرة التّالية . وعلى ذلك فمن سبقه الحدث في الصّلاة تبطل صلاته ويلزمه استئنافها ، لما روى عليّ بن طلق قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { إذا فسا أحدكم في الصّلاة فلينصرف فليتوضّأ وليعد الصّلاة } ولأنّه فقد شرطا من شروط الصّلاة في أثنائها على وجه لا يعود إلاّ بعد زمن طويل وعمل كثير ففسدت صلاته . وقال الحنفيّة : إن سبق المصلّي حدث توضّأ وبنى لقوله عليه الصلاة والسلام : { من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي ، فلينصرف ، فليتوضّأ ثمّ ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلّم } لأنّ البلوى فيما سبق فلا يلحق به ما يتعمّده . والاستئناف أفضل تحرّزا عن شبهة الخلاف . وقد فصّل الكاسانيّ ذلك فقال : إذا سبقه الحدث ثمّ تكلّم أو أحدث متعمّدا أو ضحك أو قهقه أو أكل أو شرب أو نحو ذلك لا يجوز له البناء لأنّ هذه الأفعال منافية للصّلاة في الأصل فلا يسقط اعتبار المنافي إلاّ لضرورة ولا ضرورة ، وكذا إذا جنّ أو أغمي عليه أو أجنب لأنّه لا يكثر وقوعه فكان للبناء منه بدّ وكذا لو أدّى ركنا من أركان الصّلاة مع الحدث أو مكث بقدر ما يتمكّن فيه من أداء ركن لأنّه عمل كثير ليس من أعمال الصّلاة وله منه بدّ ، وكذا لو استقى من البئر وهو لا يحتاج إليه ولو مشى إلى الوضوء فاغترف الماء من الإناء أو استقى من البئر وهو محتاج إليه فتوضّأ جاز له البناء لأنّ الوضوء أمر لا بدّ للبناء منه والمشي والاغتراف والاستقاء عند الحاجة من ضرورات الوضوء ، ولو افتتح الصّلاة بالوضوء ثمّ سبقه الحدث فلم يجد ماء تيمّم وبنى لأنّ ابتداء الصّلاة بالتّيمّم عند فقد الماء جائز فالبناء أولى ، وفي بيان كيفيّة البناء قال الكاسانيّ : المصلّي لا يخلو إمّا أن كان منفردا أو مقتديا أو إماما . فإن كان منفردا فانصرف وتوضّأ فهو بالخيار إن شاء أتمّ صلاته في الموضع الّذي توضّأ فيه وإن شاء عاد إلى الموضع الّذي افتتح الصّلاة فيه ، لأنّه إذا أتمّ الصّلاة حيث هو فقد سلمت صلاته عن المشي لكنّه صلّى صلاة واحدة في مكانين ، وإن عاد إلى مصلّاه فقد أدّى جميع الصّلاة في مكان واحد لكن مع زيادة مشي فاستوى الوجهان فيخيّر ، وإن كان مقتديا فانصرف وتوضّأ فإن لم يفرغ من الصّلاة فعليه أن يعود لأنّه في حكم المقتدي بعد ولو لم يعد وأتمّ بقيّة صلاته في بيته لا يجزيه . ثمّ إذا عاد ينبغي أن يشتغل أوّلا بقضاء ما سبق به في حال تشاغله بالوضوء ، لأنّه لاحق فكأنّه خلف الإمام فيقوم مقدار قيام الإمام من غير قراءة ، ومقدار ركوعه وسجوده ، ولا يضرّه إن زاد أو نقص ، ولو تابع إمامه أوّلا ثمّ اشتغل بقضاء ما سبق به بعد تسليم الإمام جازت صلاته خلافا لزفر ، وإن كان إماما يستخلف ثمّ يتوضّأ ويبني على صلاته ، والأمر في موضع البناء وكيفيّته على نحو ما سبق في المقتدي ، لأنّه بالاستخلاف تحوّلت الإمامة إلى الثّاني وصار هو كواحد من المقتدين به .
استخلاف الإمام في حالة الحدث :
24 - للإمام إذا سبقه الحدث أن يستخلف من يتمّ بهم الصّلاة عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة ، لأنّ عمر رضي الله عنه لمّا طعن أخذ بيد عبد الرّحمن بن عوف فقدّمه فأتمّ بهم الصّلاة ، وكان ذلك بمحضر الصّحابة وغيرهم ولم ينكره منكر فكان إجماعا ، ومثله عند الشّافعيّة ما لو تعمّد الحدث أو أبطل الصّلاة . وفي مقابل الأظهر عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية للحنابلة لا يجوز الاستخلاف قال الشّافعيّة : لأنّها صلاة واحدة فلا تصحّ بإمامين معا ، وقال الحنابلة : لأنّه فقد شرط صحّة الصّلاة فتبطل صلاة المأمومين ببطلان صلاته كما لو تعمّد الحدث . ولجواز الاستخلاف شروط وتفصيل ينظر في مصطلح ( استخلاف ) .
ب - الطّواف :(228/8)
25 - جمهور الفقهاء على عدم جواز الطّواف للمحدث ، سواء أكان الطّواف فرضا أم واجبا أم نفلا ، في نسك أم في غيره ، ويعتبرون الطّهارة شرطا لصحّة الطّواف ، لأنّه في حكم الصّلاة لقوله صلى الله عليه وسلم : { الطّواف حول البيت مثل الصّلاة ، إلاّ أنّكم تتكلّمون فيه ، فمن تكلّم فيه فلا يتكلّمنّ إلاّ بخير } . والحنفيّة في الصّحيح عندهم عدّوا الطّهارة في الطّواف من الواجبات ، وبعض الحنفيّة وهو قول عند الحنابلة على أنّها من السّنن . قال في البدائع : فإن طاف محدثا جاز مع النّقصان ، لأنّ الطّواف بالبيت شبيه بالصّلاة ، ومعلوم أنّه ليس بصلاة حقيقة ، فلكونه طوافا حقيقة يحكم بالجواز ، ولكونه شبيها بالصّلاة يحكم بالكراهة . وتفصيله في مصطلح ( طواف ) .
ج - مسّ المصحف :
26 - لا يجوز للمحدث مسّ المصحف كلّه أو بعضه عند فقهاء المذاهب الأربعة ، لقوله تعالى : { لا يمسّه إلاّ المطهّرون } ولقوله عليه الصلاة والسلام : { لا تمسّ القرآن إلاّ وأنت طاهر } واتّفقوا على جواز تلاوته لمن كان محدثا حدثا أصغر بغير لمس . واستثنى بعضهم من المنع مسّه في حالات خاصّة كما إذا كان بحائل أو عود طاهرين أو في وعائه وعلاقته ، أو لمعلّم ومتعلّم لغرض التّعليم ، أو كان حمله في حال الحدث غير مقصود ، كأن كان في صندوق ضمن الأمتعة ، ويكون القصد حمل الأمتعة وفي داخلها قرآن . ولتفصيل كلّ هذه المسائل مع آراء الفقهاء راجع مصطلح ( مصحف ) . 27 - ويجوز مسّ وحمل كتب التّفسير ورسائل فيها قرآن في حالة الحدث إذا كان التّفسير أكثر من القرآن عند جمهور الفقهاء . أمّا إذا كان القرآن أكثر أو مساويا للتّفسير أو يكون القرآن مكتوبا على الدّراهم والدّنانير ففي مسّه للمحدث تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح ( مصحف ) . 28 - هذا وما يحرم على المحدث حدثا أصغر يحرم على المحدث حدثا أكبر ( الجنب والحائض والنّفساء ) بطريق الأولى ، لأنّ الحدث الأكبر أغلظ من الحدث الأصغر . وزيادة على ذلك يحرم على المحدث حدثا أكبر ما يأتي :
1 - تلاوة القرآن الكريم بقصد التّلاوة . ( ر : تلاوة ) .
2 - الاعتكاف : كما فصّل في مصطلح ( اعتكاف ) .
3 - المكث في المسجد باتّفاق الفقهاء . أمّا دخول المسجد عبورا أو مجتازا ، فأجازه الشّافعيّة والحنابلة ومنعه الحنفيّة والمالكيّة إلاّ لضرورة . لقوله صلى الله عليه وسلم : { إنّ المسجد لا يحلّ لجنب ولا لحائض } . وتفصيله في مصطلح : ( مسجد ) . ويحرم بالحيض والنّفاس علاوة على ذلك الصّيام . ( ر : حيض ، ونفاس ) .
ثانيا - ما يرفع به الحدث :
29 - يرفع الحدث الأكبر بالغسل ، والأصغر بالغسل وبالوضوء باتّفاق الفقهاء . وينظر تفصيلهما في مصطلحي : ( غسل ، ووضوء ) . أمّا التّيمّم فهو بدل من الغسل والوضوء ، وجمهور الفقهاء على أنّه بدل ضروريّ لا يرفع الحدث لكنّه يباح للمتيمّم الصّلاة به ونحوها للضّرورة مع قيام الحدث حقيقة . وقال الحنفيّة : إنّ التّيمّم بدل مطلق للوضوء والغسل ، فيرفع الحدث إلى وقت وجود الماء ، فيجوز به ما يجوز بالوضوء والغسل مطلقا . وتفصيله في مصطلح : ( تيمّم ) .(228/9)
حرفة
التّعريف
1 - الحرفة اسم من الاحتراف وهو الاكتساب ، يقال : هو يحرف لعياله ويحترف . والمحترف : الصّانع ، وفلان حريفيّ ، أي معامليّ ، وجمعه حرفاء . والمحرّف : الّذي نما ماله وصلح ، والاسم : الحرفة . والحرفة : الصّناعة وجهة الكسب . وفي حديث عائشة : لمّا استخلف أبو بكر رضي الله عنهما قال : لقد علم قومي أنّ حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي ، وشغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ، واحترف للمسلمين فيه . أراد باحترافه للمسلمين نظره في أمورهم وتثمير مكاسبهم وأرزاقهم . ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الحرفة عن المعنى اللّغويّ فهم يعتبرون كلّ ما كان طريقا للاكتساب حرفة ومن ذلك الوظائف . يقول ابن عابدين : الوظائف تعتبر من الحرف ، لأنّها صارت طريقا للاكتساب . وفي نهاية المحتاج : الحرفة هي ما يتحرّف به لطلب الرّزق من الصّنائع وغيرها .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - صنعة - كسب - عمل - مهنة : هذه الألفاظ ترادف الحرفة بمعنى الطّريقة الّتي يكتسب بها . وقد يكون الكسب والعمل والمهنة أعمّ من الحرفة إذ قد يكون كلّ منها حرفة وقد لا يكون . والحرفة أعمّ من الصّنعة . إذ الصّنعة تكون في العمل باليد في حين أنّ الحرفة قد تكون باليد قد تكون بالعقل والتّفكير . وينظر تفصيل معاني هذه الألفاظ في أبحاث ( احتراف - اكتساب - امتهان ) . الحكم التّكليفيّ للقيام بالحرف :
3 - القيام بالحرف في الجملة فرض كفاية وقد ينقلب إلى فرض عين ، وتفصيل ذلك في مصطلح : احتراف فقرة 10 .
ما يتعلّق بالحرفة من أحكام : أوّلا : الصّلاة بثياب الحرفة :
4 - طهارة الثّوب والبدن والمكان شرط من شروط الصّلاة . ومن كانت حرفته تصيب النّجاسة بسببها ثوبه ، أو بدنه كالجزّار والكنّاس فإنّه يجعل لنفسه ثوبا طاهرا للصّلاة فيه ، أو يجتهد في إبعاد ثوبه عن النّجاسة . فإن تعذّر إعداد ثوب آخر ، وتعذّر إبعاد ثوبه عن النّجاسة . وغلب وصول النّجاسة للثّوب فإنّه يصلّي فيه ، ويعفى عن النّجاسة بالنّسبة إليه لدفع الحاجة . بهذا صرّح المالكيّة . وقال ابن قدامة : من لم يجد إلاّ ثوبا نجسا قال أحمد : يصلّي فيه ولا يصلّي عريانا وهو قول المزنيّ . وقال الشّافعيّ وأبو ثور : يصلّي عريانا ولا يعيد لأنّها سترة نجسة فلم تجز له الصّلاة فيها كما لو قدر على غيرها ، وقال أبو حنيفة : إن كان جميع الثّوب نجسا فهو مخيّر في الفعلين ، لأنّه لا بدّ من ترك واجب في كلا الفعلين ، وإن كان صلاته في الثّوب النّجس أولى ، لأنّه بالصّلاة في الثّوب النّجس يستر عورته وستر العورة واجب في الصّلاة وخارجها .
ثانيا : وقت الصّلاة للمحترف :
5 - الصّلاة في أوقاتها واجبة على كلّ مسلم مكلّف . وصاحب الحرفة إذا كان أجيرا خاصّا لمدّة معيّنة فإنّ الإجارة لا تمنعه من أداء المفروض عليه من الصّلاة ولا يحتاج لإذن المستأجر في ذلك ، ولا ينقص ذلك من أجره . وفي أداء السّنن خلاف . وينظر تفصيل ذلك في ( إجارة ، صلاة ) .
ثالثا : صيام أصحاب الحرف :(229/1)
6 - صيام رمضان فرض على كلّ مسلم مكلّف ، ولا يعفى من أداء الصّيام في وقته إلاّ أصحاب الأعذار المرخّص لهم في الفطر كالمريض والمسافر . أمّا بالنّسبة لأصحاب الحرف فمفاد نصوص الفقهاء أنّه إن كان هناك حاجة شديدة لعمله في نهار رمضان ، أو خشي تلف المال إن لم يعالجه ، أو سرقة الزّرع إن لم يبادر لحصاده ، فله أن يعمل مع الصّوم ولو أدّاه العمل إلى الفطر حين يخاف الجهد . وليس عليه ترك العمل ليقدر على إتمام الصّوم ، وإذا أفطر فعليه القضاء فقط . وفيما يلي بعض النّصوص في ذلك : فقد نقل ابن عابدين عن الفتاوى : سئل عليّ بن أحمد عن المحترف إذا كان يعلم أنّه لو اشتغل بحرفته يلحقه مرض يبيح الفطر وهو محتاج للنّفقة هل يباح له الأكل قبل أن يمرض فمنع من ذلك أشدّ المنع ، وهكذا حكاه عن أستاذه الوبريّ . وسئل أبو حامد عن خبّاز يضعف في آخر النّهار هل له أن يعمل هذا العمل قال : لا ، ولكن يخبز نصف النّهار ويستريح الباقي ، فإن قال لا يكفيه كذّب بأيّام الشّتاء فإنّها أقصر فما يفعله فيها يفعله اليوم . وقال الرّمليّ في جامع الفتاوى : لو ضعف عن الصّوم لاشتغاله بالمعيشة ، فله أن يفطر ويطعم لكلّ يوم نصف صاع إذا لم يدرك عدّة من أيّام أخر يمكنه الصّوم فيها وإلاّ وجب عليه القضاء . وعلى هذا الحصاد إذا لم يقدر عليه مع الصّوم ويهلك الزّرع بالتّأخير ، لا شكّ في جواز الفطر والقضاء ، وكذا الخبّاز وفي تكذيبه نظر ، فإنّ طول النّهار وقصره لا دخل له في الكفاية . قال ابن عابدين : والّذي ينبغي في مسألة المحترف - حيث كان الظّاهر أنّ ما مرّ من تفقّهات المشايخ لا من منقول المذهب - أن يقال : إذا كان عنده ما يكفيه وعياله لا يحلّ له الفطر ، لأنّه يحرم عليه السّؤال من النّاس فالفطر أولى ، وإلاّ فله العمل بقدر ما يكفيه ، كأن يعلم أنّ صيامه مع العمل سيؤدّيه إلى الفطر يحلّ له إذا لم يمكنه العمل في غير ذلك ممّا لا يؤدّيه إلى الفطر ، وكذا لو خاف هلاك زرعه أو سرقته ولم يجد من يعمل له بأجرة المثل وهو يقدر عليها . ولو آجر نفسه في العمل مدّة معلومة فجاء رمضان فالظّاهر أنّ له الفطر ، وإن كان عنده ما يكفيه إذا لم يرض المستأجر بفسخ الإجارة ، كما في الظّئر فإنّه يجب عليها الإرضاع بالعقد ، ويحلّ لها الإفطار إذا خافت على الولد فيكون خوفه على نفسه أولى . وفي التّاج والإكليل من كتب المالكيّة : نقل ابن محرز عن مالك في الّذي يعالج من صنعته فيعطش فيفطر ، فقال : لا ينبغي للنّاس أن يتكلّفوا من علاج الصّنعة ما يمنعهم من الفرائض وشدّد في ذلك . فقال ابن محرز : يحتمل أن يكون إنّما شدّد في ذلك لمن كان في كفاية من عيشه أو كان يمكنه من التّسبّب ما لا يحتاج معه إلى الفطر ، وإلاّ كره له . بخلاف ربّ الزّرع فلا حرج عليه . وفي نوازل البرزليّ : الفتوى عندنا أنّ الحصاد المحتاج له الحصاد ، أي ولو أدّى به إلى الفطر وإلاّ كره له ، بخلاف ربّ الزّرع فلا حرج عليه مطلقا لحراسة ماله ، وقد نهى عن إضاعة المال . وفي حاشية الجمل من كتب الشّافعيّة : يباح ترك الصّوم لنحو حصاد ، أو بناء لنفسه أو لغيره تبرّعا أو بأجرة ، وإن لم ينحصر الأمر فيه وقد خاف على المال إن صام وتعذّر العمل ليلا ، أو لم يكفه فيؤدّي لتلفه أو نقصه نقصا لا يتغابن بمثله . هذا هو الظّاهر من كلامهم ، ويؤيّده إباحة الفطر لإنقاذ محترم ، خلافا لمن أطلق في نحو الحصاد المنع ، ولمن أطلق الجواز . ولو توقّف كسبه لنحو قوته المضطرّ إليه هو أو مموّنه على فطره ، فظاهر أنّ له الفطر لكن بقدر الضّرورة . وفي كشّاف القناع : قال أبو بكر الآجرّيّ : من صنعته شاقّة فإن خاف بالصّوم تلفا أفطر وقضى إن ضرّه ترك الصّنعة ، فإن لم يضرّه تركها أثم بالفطر ويتركها ، وإن لم ينتف التّضرّر بتركها فلا إثم عليه بالفطر للعذر .
رابعا : ما يتعلّق بالزّكاة :
7 - أ - يرى الفقهاء أنّه لا زكاة في آلات العمل للمحترفين ، لأنّها من الحاجات الأصليّة الّتي لا تجب فيها الزّكاة . يقول ابن عابدين : سبب وجوب الزّكاة ملك نصاب فارغ عن دين وعن حاجته الأصليّة ، لأنّ المشغول بها كالمعدوم ، والحاجة الأصليّة هي ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقا كالنّفقة ، ودور السّكنى ، وآلات الحرب ، وكآلات الحرفة ، وكتب العلم لأهلها .. هذا إذا كانت آلات الحرف لم تقتن بنيّة التّجارة وإلاّ ففيها الزّكاة كباقي عروض التّجارة وينظر تفصيل ذلك في ( زكاة ) .
ب - من المعلوم أنّ الفقير من الأصناف المستحقّة للزّكاة . ويرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، أنّ من له حرفة يكسب منها ما يكفيه فلا يعتبر فقيرا ولا يستحقّ الزّكاة . أمّا إن كان ما يكسبه من حرفته لا يكفيه فإنّه يعطى من الزّكاة تمّام كفايته ، ويصدّق إن ادّعى كساد الحرفة . وإن كان يحسن حرفة ويحتاج إلى الآلة فإنّه يعطى من الزّكاة ثمن آلة حرفته وإن كثرت ، وكذا إن كان يحسن تجارة فيعطى رأس مال يكفيه ربحه غالبا باعتبار عادة بلده . ويعتبر الحنفيّة أنّ الفقير الّذي يستحقّ الزّكاة من كان يملك أقلّ من نصاب ، وإن كان مكتسبا ، لأنّه فقير ، والفقراء هم من المصارف ، ولأنّ حقيقة الحاجة لا يوقف عليها ، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النّصاب . وتفصيل ذلك في ( زكاة ) .
خامسا : الحجّ بالنّسبة لأصحاب الحرف :(229/2)
8 - من شروط وجوب الحجّ الاستطاعة بالزّاد والرّاحلة ، ومن لم يجد زادا وراحلة لا يجب عليه الحجّ ، وهذا باتّفاق الفقهاء . لكن من كان صاحب حرفة يمكنه أن يكتسب منها أثناء سفره للحجّ ما يكفيه فهل يعتبر مستطيعا ويجب عليه الحجّ ؟ ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يعتبر مستطيعا ويجب عليه الحجّ إذا كانت الحرفة لا تزري به ويكتسب منها ، أثناء سفره وعودته ما يكفيه وعلم أو ظنّ عدم كسادها . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يعتبر مستطيعا ولا يجب عليه الحجّ ، لأنّ الاستطاعة ملك الزّاد والرّاحلة . لكن يستحبّ أن يحجّ لأنّه يقدر على إسقاط الفرض بمشقّة لا يكره تحمّلها ، فاستحبّ له إسقاط الفرض كالمسافر إذا قدر على الصّوم كما يقول الشّافعيّة . وخروجا من الخلاف كما يقول الحنابلة . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( حجّ ) .
سادسا : القيام بالحرف في المساجد :
9 - للمساجد حرمة لأنّها بيوت اللّه أقيمت للعبادة والذّكر والتّسبيح ، ويجب صيانتها عن كلّ ما يشغل عن ذلك . لكن هل يعتبر القيام بالحرف سواء أكانت تجارة أم صناعة في المساجد منافيا لحرمتها ؟ أمّا بالنّسبة للبيع والشّراء فقد اتّفق الفقهاء على منعه . واستدلّوا جميعا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : { نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن البيع والاشتراء في المسجد } . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح اللّه تجارتك . وإذا رأيتم من ينشد ضالّة في المسجد فقولوا : لا ردّ اللّه عليك } وقد رأى عمر رضي الله عنه رجلا ( يسمّى القصير ) يبيع في المسجد فقال له : يا هذا إنّ هذا سوق الآخرة فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدّنيا . واختلفوا في صفة المنع ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى الكراهة ، وذهب الحنابلة إلى التّحريم . وهذا بالنّسبة لغير المعتكف . أمّا بالنّسبة للمعتكف فعند الحنفيّة والشّافعيّة يجوز له من ذلك ما يحتاج إليه لنفسه وعياله ، فإن كان لتجارة كره ، وقيّد الحنفيّة جواز ما يحتاج إليه من البيع والشّراء أثناء الاعتكاف بعدم إحضار السّلعة إلى المسجد وإلاّ كره ، لأنّ المسجد محرز عن حقوق العباد وفيه شغله بها . ولم يفرّق المالكيّة والحنابلة بين المعتكف وغيره .
10 - أمّا بالنّسبة للقيام بالصّنعة فيه ، فإنّه يكره عند الحنفيّة والمالكيّة ، لكن قال المالكيّة : إنّما يمنع في المساجد من عمل الصّناعات ما يختصّ بنفعه آحاد النّاس ممّا يتكسّب به ، فأمّا إن كان يشمل المسلمين في دينهم مثل إصلاح آلات الجهاد ممّا لا امتهان للمسجد في عمله فيه فلا بأس به . وقال الشّافعيّة : لا يكره للمعتكف الصّنائع في المسجد كالخياطة والكتابة ما لم يكثر ، فإن أكثر منها كرهت لحرمته ، إلاّ كتابة العلم ثمّ قالوا : تكره الحرفة كخياطة ونحوها في المسجد كالمعاوضة من بيع وشراء بلا حاجة وإن قلّت صيانة له . وقال الحنابلة : لا يجوز التّكسّب في المسجد بالصّنعة كخياطة وغيرها قليلا كان ذلك أو كثيرا لحاجة وغيرها ، وفي المستوعب : سواء كان الصّانع يراعي المسجد بكنس أو رشّ ونحوه أم لم يكن ، لأنّه بمنزلة التّجارة بالبيع والشّراء فلا يجوز أن يتّخذ المسجد مكانا للمعايش ، لأنّه لم يبن لذلك . وقعود الصّنّاع والفعلة فيه ينتظرون من يكريهم بمنزلة وضع البضائع فيه ينتظرون من يشتريها ، وعلى وليّ الأمر منعهم من ذلك كسائر المحرّمات ، والمساجد إنّما بنيت للذّكر والتّسبيح والصّلاة فإذا فرغ من ذلك خرج إلى معاشه لقوله تعالى : { فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه } . ويجب أن يصان المسجد عن عمل صنعة لتحريمها فيه . ولا يكره اليسير من العمل في المسجد لغير التّكسّب كرقع ثوبه وخصف نعله ومثل أن ينحلّ شيء يحتاج إلى ربط فيربطه ، أو أن ينشقّ قميصه فيخيطه . ويحرم فعل ذلك للتّكسّب .
سابعا : اعتبار الحرفة في النّكاح :
11 - الكفاءة في الحرفة معتبرة في النّكاح عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في رواية ، وهي معتبرة في حقّ الرّجال للنّساء ، لأنّ المرأة الشّريفة تعيّر بذلك ، ولا تعتبر الكفاءة في حقّ المرأة للرّجل ، لأنّ الولد يشرف بشرف أبيه لا أمّه فلم يعتبر ذلك في الأمّ . وقد بنى الفقهاء اعتبار الكفاءة في الحرفة على العرف وعادة أهل البلاد . هذا والمعتبر في الحرفة هو عرف بلد الزّوجة لا بلد العقد ، لأنّ المدار على عارها وعدمه ، وذلك إنّما يعرف بالنّسبة لعرف بلدها ، أي الّتي هي بها حالة العقد . واعتبار الحرفة في الكفاءة عند القائلين بذلك إنّما هو عند ابتداء العقد ولا يضرّ زوالها بعد العقد ، فلو كان الزّوج كفئا وقت العقد ثمّ زالت الكفاءة لم يفسخ العقد . لكن لو بقي أثر الحرفة لم يكن كفئا . أمّا لو كان الزّوج حال العقد غير كفء في حرفته فقد اختلف الفقهاء في بطلان النّكاح أو ثبوت الخيار وينظر تفصيل ذلك في ( نكاح - كفاءة ) .
كون الانتفاع بالحرفة مهرا :(229/3)
12 - يجوز عند الشّافعيّة والحنابلة أن يكون الانتفاع بالحرفة مهرا ، فيصحّ أن يتزوّج الرّجل المرأة على عمل معلوم كخياطة ثوب معيّن ، وبناء دار وتعليم صنعة وغير ذلك من كلّ ما هو مباح ، ويجوز أخذ الأجرة عليه لقوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما الصلاة والسلام : { إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } . ولأنّ منفعة الحرّ يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقا وعند الحنفيّة خلاف ملخّصه أنّ ما هو مال أو منفعة يمكن تسليمها يجوز التّزوّج عليها ، وما لا يمكن تسليمه لا يجوز ولذلك لا يجوز أن يتزوّج الحرّ على خدمته إيّاها سنة ، لأنّ موضوع الزّوجيّة أن تكون هي خادمة له لا بالعكس . لأنّ خدمة الزّوج لزوجته - كما قيل قلب للأوضاع - لأنّ المفروض أن تخدمه هي لا العكس . وأمّا إذا سمّى إيجار بيت أو غير ذلك من منافع الأعيان فإنّ هذا جائز عندهم . وأمّا ما تردّد بين أن يكون خدمة أو لا كرعي غنمها أو زراعة أرضها ، فإنّ الرّوايات قد اختلفت في ذلك ، كما اختلفوا فيما هو الأرجح . وقالوا : إذا تزوّج الحرّ امرأة على أن يخدمها هو سنة مثلا فهذه التّسمية عند الشّيخين فاسدة والعقد صحيح ووجب عليه إمّا مهر المثل في بعض الرّوايات ، أو قيمة خدمته المدّة المنصوص عليها في عقد الزّواج . كذلك اختلف المالكيّة في جعل الصّداق خدمته لها في زرع أو في بناء دار أو تعليمها فمنعه مالك وهو المعتمد في المذهب ، وكرهه ابن القاسم وأجازه أصبغ . قال اللّخميّ : وعلى قول مالك يفسخ النّكاح قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل . وقال ابن الحاجب على القول بالمنع : النّكاح صحيح قبل البناء وبعده ، ويمضي بما وقع به من المنافع للاختلاف فيه . وهذا هو المشهور .
ثامنا : شهادة أهل الحرف :
13 - اتّفق الفقهاء على ردّ شهادة صاحب الحرفة المحرّمة كالمنجّم والعرّاف ، وكذلك صاحب الحرفة الّتي يكثر فيها الرّبا كالصّائغ والصّيرفيّ إذا لم يتوقّيا ذلك . واختلفوا في قبول شهادة أصحاب الحرف الدّنيئة ، كالحائك ، والحجّام ، والزّبّال . فالأصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة وهو مذهب المالكيّة وفي وجه عند الحنابلة أنّه تقبل شهادتهم ، لأنّه قد تولّى هذه الحرف قوم صالحون فما لم يعلم القادح لا يبنى على ظاهر الصّناعة ، فالعبرة للعدالة لا للحرفة ، فكم من دنيء الصّناعة أتقى من ذي منصب ووجاهة ، وقد قال اللّه تعالى : { إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم } . لكن يقول المالكيّة والشّافعيّة : إذا كان من يقوم بهذه الحرف ممّن لا تليق به ، ورضيها اختيارا بأن كان من غير أهلها ولم يتوقّف قوته وقوت عياله عليها لم تقبل شهادته ، لأنّ ذلك يدلّ على قلّة المبالاة وعلى خبل في عقله ، وتقبل إن كان من أهلها أو اضطرّ إليها . ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والوجه الآخر عند الحنابلة أنّه لا تقبل شهادتهم ، لأنّ القيام بهذه الحرف يسقط المروءة وخاصّة إذا كان في الحرفة مباشرة النّجاسة . كما أنّ شهادة الأجير الخاصّ لمستأجره لا تقبل ، لأنّ المنافع بينهم متّصلة ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا تجوز شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا المرأة لزوجها ، ولا الزّوج لامرأته ، ولا العبد لسيّده ، ولا السّيّد لعبده ، ولا الشّريك لشريكه ، ولا الأجير لمن استأجره } . ولأنّ الأجير يستحقّ الأجرة في مدّة أداء الشّهادة ، فصار كالمستأجر لأداء الشّهادة . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة . وتقبل شهادته لمستأجره عند المالكيّة إن كان الأجير مبرّزا في العدالة ولم يكن في عيال المشهود له .
تاسعا : بيع آلة الحرفة على المفلس وإجباره على الاحتراف :
14 - من الأحكام الّتي تتعلّق بالحجر على المفلس بيع ماله لسداد ديون الغرماء . وقد اختلف الفقهاء في بيع آلة الحرفة للمحترف . فعند الشّافعيّة تباع آلة حرفته لسداد ديونه . وهو رأي المالكيّة إن كثرت قيمتها أو لم يحتج إليها . فإن كان محتاجا لها أو قلّت قيمتها فلا تباع . وقال الحنابلة : تترك له آلة حرفته ولا تباع . ولم يعثر على نصّ في ذلك عند الحنفيّة . وإذا فرّق مال المفلس على الغرماء وبقيت عليه ديون ، وكانت له صنعة فهل يجبره الحاكم على التّكسّب أو إيجار نفسه ليقضي دينه ؟ ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّه لا يجبر على ذلك ، ولا يلزم بتجر أو عمل أو إيجار نفسه لتوفية ما بقي عليه لغرمائه من ديونهم ، لأنّ الدّيون إنّما تعلّقت بذمّته لا ببدنه لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ، ولما روى أبو سعيد { أنّ رجلا أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : تصدّقوا عليه فتصدّق النّاس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاّ ذلك } ، ولأنّ هذا تكسّب للمال ، فلا يجبره عليه الحاكم ، كقبول الهبة والصّدقة . وقال اللّخميّ من المالكيّة : يجبر الصّانع - لا التّاجر - على العمل إن كان غرماؤه قد عاملوه على ذلك . والرّواية الثّانية للحنابلة أنّ الحاكم يجبره على الكسب .
عاشرا : تضمين أصحاب الحرف :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ صاحب الحرفة يضمن ما هلك في يده من مال ، أو ما هلك بعمله إذا كان الهلاك بسبب إهمال منه أو تعدّ ، وسواء أكان أجيرا خاصّا أم أجيرا مشتركا ، أمّا ما هلك بغير تعدّ أو تفريط فلا ضمان عليه في الجملة . وينظر تفصيل ذلك في مصطلحي ( إجارة ف 107 - 133 وضمان )
حادي عشر : التّسعير على أهل الحرف :(229/4)
16 - لا يجوز التّسعير على أهل الحرف والصّنائع إلاّ إذا احتاج النّاس إلى حرفة طائفة كالفلاحة ، والنّساجة ، والبناء وغيرها . فإنّ وليّ الأمر يجبرهم على ذلك بأجرة المثل ، وهذا من التّسعير الواجب كما يقول ابن القيّم . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( تسعير ف 14 ) .(229/5)
حرم
التّعريف
1 - الحرم بفتحتين من حرم الشّيء حرما وحراما وحرم حرما وحراما أي امتنع فعله . ومنه الحرام بمعنى الممنوع . والحرمة ما لا يحلّ انتهاكه . والحرمة أيضا المهابة ، وهي اسم بمعنى الاحترام ، مثل الفرقة والافتراق ، والجمع حرمات . وفي الاصطلاح يطلق الحرم على أمور :
أ - مكّة وما حولها ، وهذا المعنى هو المراد عند إطلاق كلمة الحرم يقول الماورديّ : ( أمّا الحرم فمكّة وما طاف بها من جوانبها إلى أنصاب الحرم ) وعلى ذلك فمكّة جزء من الحرم . قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى : { أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف النّاس من حولهم } هي مكّة ، وهم قريش . أمّنهم اللّه تعالى فيها . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { إنّ اللّه حرّم مكّة فلا تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي } . وجه تسمية الحرم هو أنّ اللّه سبحانه وتعالى حرّم فيه كثيرا ممّا ليس بمحرّم في غيره ، كالصّيد وقطع النّبات ونحوهما .
ب - المدينة وما حولها ، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث . من أحدث حدثا فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين } . وسيأتي بيان حدوده . أوّلا : حرم مكّة :
أ - ( دليل تحريمه ) :
2 - صرّح الفقهاء بأنّ مكّة وما حولها أي الحرم المكّيّ حرام بتحريم اللّه تعالى إيّاه . وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث منها : قوله تعالى : { أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف النّاس من حولهم } قال القرطبيّ : أي جعلت لهم حرما آمنا أمنوا فيه من السّبي والغارة والقتل . ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إنّ هذا البلد حرّمه اللّه تعالى يوم خلق السّماوات والأرض } وقوله صلى الله عليه وسلم : { إنّ اللّه حرّم مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي ، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار } . وذكر الزّركشيّ في حكمته وجوها منها : التزام ما ثبت له من أحكام ، وتبيين ما اختصّ به من البركات .
ب - تحديد حرم مكّة :
3 - حدّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة عند التّنعيم وهو على ثلاثة أميال . وفي كتب المالكيّة أنّه أربعة أو خمسة أميال . ومبدأ التّنعيم من جهة مكّة عند بيوت السّقيا ، ويقال لها بيوت نفار ، ويعرف الآن بمسجد عائشة ، فما بين الكعبة المشرّفة والتّنعيم حرم . والتّنعيم من الحلّ . ومن جهة اليمن سبعة أميال عند أضاة لبن ( بكسر فسكون كما في القاموس وشفاء الغرام ) ومن جهة جدّة عشرة أميال عند منقطع الأعشاش لآخر الحديبية ، فهي من الحرم . ومن جهة الجعرانة تسعة أميال في شعب عبد اللّه بن خالد . ومن جهة العراق سبعة أميال على ثنيّة بطرف جبل المقطّع ، وذكر في كتب المالكيّة أنّه ثمانية أميال . ومن جهة الطّائف على عرفات من بطن نمرة سبعة أميال عند طرف عرنة . ولعلّ الاختلاف في تحديد الأميال يرجع إلى الاختلاف في تحديد أذرع الميل وأنواعها . وابتداء الأميال من الحجر الأسود . هذا وقد حدّد الحرم المكّيّ الآن من مختلف الجهات بأعلام بيّنة مبيّنة على أطرافه مثل المنار مكتوب عليها اسم العلم باللّغات العربيّة والأعجميّة . وانظر مصطلح ( أعلام الحرم ) .
دخول الحرم المكّيّ :
أ - الدّخول بقصد الحجّ أو العمرة :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أراد دخول الحرم بقصد الحجّ أو العمرة فعليه أن يحرم من المواقيت المحدّدة أو قبلها . ومن جاوز الميقات بغير إحرام فعليه أن يعود إليه ويحرم منه . فإن لم يرجع فعليه دم سواء أترك العود بعذر أم بغير عذر ، عامدا كان أم ناسيا . إلاّ أنّه إذا خاف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت أو المرض الشّاقّ فيحرم من مكانه وعليه الدّم . وتفصيله في مصطلح : ( إحرام ) .
ب - الدّخول لأغراض أخرى :(230/1)
5 - يجوز لمن كان داخل المواقيت ( بين الميقات والحرم ) أن يدخل الحرم بغير إحرام لحاجته ، لأنّه يتكرّر دخوله لحوائجه فيحرج في ذلك ، والحرج مرفوع ، فصار كالمكّيّ إذا خرج ثمّ دخل ، بخلاف ما إذا دخل للحجّ لأنّه لا يتكرّر ، فإنّه لا يكون في السّنة إلاّ مرّة . وكذا لأداء العمرة لأنّه التزمها لنفسه . كما يجوز لمن يخرج من الحرم إلى الحلّ ( داخل المواقيت ) أن يدخل الحرم بغير إحرام ، ولو لم يكن من أهل الحرم ، كالآفاقيّ المفرد بالعمرة ، والمتمتّع ، وهذا باتّفاق الفقهاء . كذلك يجوز دخول الحرم لقتال مباح أو خوف من ظالم أو لحاجة متكرّرة كالحطّابين والصّيّادين ونحوهما بغير إحرام ، { لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكّة يوم الفتح بغير إحرام } ، وفي وجوب الإحرام على من تتكرّر حاجته مشقّة . 6 - أمّا الآفاقيّ ومن في حكمه - غير من تقدّم ذكره - ممّن يمرّون على المواقيت إذا أرادوا دخول الحرم لحاجة أخرى غير النّسك فجمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة ) يرون وجوب الإحرام عليهم بأحد النّسكين ، ولا يجوز لهم مجاوزة الميقات بغير إحرام . وفي قول آخر للشّافعيّة وهو المشهور عندهم : أنّه يجوز دخول الحرم للآفاقيّ أيضا بغير إحرام لكنّه يستحبّ له أن يحرم . وهذا في الجملة ، وتفصيله كالتّالي : قال الحنفيّة : الآفاقيّ إذا أراد دخول الحرم بغير النّسك كمجرّد الرّؤية أو النّزهة أو التّجارة لا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلاّ محرما ، لأنّ فائدة التّأقيت هذا ، لأنّه يجوز تقديم الإحرام على المواقيت . لما روي أنّ النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : { لا تجاوز الموقّت إلاّ بإحرام } فإن جاوزها الآفاقيّ بغير إحرام فعليه شاة . فإن عاد فأحرم منه سقط الدّم . أمّا لو قصد موضعا من الحلّ ، كخليص وجدّة حلّ له مجاوزته بلا إحرام . فإذا حلّ به التحق بأهله فله دخول الحرم بلا إحرام . قالوا : وهو الحيلة لمريد ذلك بقصد أولى ، كما إذا كان قصده لجدّة مثلا لبيع أو شراء ، وإذا فرغ منه يدخل مكّة ثانيا ، إذ لو كان قصده الأوّليّ دخول مكّة ومن ضرورته أن يمرّ بالحلّ فلا يحلّ له تجاوز الميقات بدون إحرام . وقال المالكيّة : إنّ كلّ مكلّف حرّ أراد دخول مكّة فلا يدخلها إلاّ بإحرام بأحد النّسكين وجوبا ، ولا يجوز له تعدّي الميقات بلا إحرام ، إلاّ أن يكون من المتردّدين أو يعود إلى مكّة بعد خروجه منها من مكان قريب ( أي دون مسافة القصر ) لم يمكث فيه كثيرا فلا يجب عليه ، وكذلك لا يجب على غير المكلّف كصبيّ ومجنون . وقال الحنابلة : لا يجوز لمن أراد دخول مكّة أو الحرم أو أراد نسكا تجاوز الميقات .. إلاّ لقتال مباح لدخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة وعلى رأسه المغفر . أو لخوف ، أو حاجة متكرّرة كحطّاب ، وناقل الميرة ، ولصيد ، واحتشاش ، ونحو ذلك ، ومكّيّ يتردّد إلى قريته بالحلّ . وقال الشّافعيّة - كما نصّ عليه النّوويّ - : إنّ من أراد دخول مكّة لحاجة لا تتكرّر كزيارة ، أو تجارة ، أو رسالة ، أو كان مكّيّا عائدا من سفره يستحبّ له أن يحرم . وفي قول : يجب عليه الإحرام . وعلى كلّ فقد نصّوا أنّه لو جاوز الميقات بغير إحرام ثمّ أراد النّسك فميقاته موضعه ولا يكلّف العود إلى الميقات .
دخول الكافر للحرم :(230/2)
7 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز لغير المسلم السّكنى والإقامة في الحرم لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمراد بالمسجد الحرام الحرم بدليل قوله سبحانه وتعالى بعده : { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله } أي إن خفتم فقرا وضررا بمنعهم من الحرم وانقطاع ما كان يحصل لكم بما يجلبونه إليكم من المكاسب فسوف يغنيكم اللّه من فضله . ومعلوم أنّ الجلب إنّما يجلب إلى البلد والحرم ، لا إلى المسجد نفسه . والمعنى في ذلك أنّهم أخرجوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه ، فعوقبوا بالمنع من دخوله بكلّ حال . صلى الله عليه وسلم واختلفوا في اجتياز الكافر الحرم بصفة مؤقّتة ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو قول عند المالكيّة : إلى منع دخول الكفّار إلى الحرم مطلقا ، لعموم الآية . فإن أراد كافر الدّخول إلى الحرم منع منه . فإن كانت معه ميرة أو تجارة خرج إليه من يشتري منه ولم يترك هو يدخل . وإن كان رسولا إلى إمام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته ويبلّغها إيّاه . فإن قال : لا بدّ لي من لقاء الإمام وكانت المصلحة في ذلك خرج إليه الإمام ، ولم يأذن له بالدّخول . وإذا أراد مشرك دخول الحرم ليسلم فيه منع منه حتّى يسلم قبله . قال الشّافعيّة والحنابلة : وإذا دخل المشرك الحرم بغير إذن عزّر ولم يستبح به قتله ، وإن دخله بإذن لم يعزّر وينكر على من أذن له . وقال الحنفيّة : لا يمنع الذّمّيّ من دخول الحرم ، ولا يتوقّف جواز دخوله على إذن مسلم ولو كان المسجد الحرام . يقول الجصّاص في تفسير قوله تعالى : { إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام } : يجوز للذّمّيّ دخول سائر المساجد ، وإنّما معنى الآية على أحد الوجهين : إمّا أن يكون النّهي خاصّا في المشركين الّذين كانوا ممنوعين من دخول مكّة وسائر المساجد ، لأنّهم لم تكن لهم ذمّة ، وكان لا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السّيف وهم مشركو العرب . أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكّة للحجّ ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } الآية ، وإنّما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحجّ ، لأنّهم كانوا ينتفعون بالتّجارات الّتي كانت في مواسم الحجّ .
مرض الكافر في الحرم وموته :
8 - تقدّم أنّ الكافر لا يجوز له الدّخول إلى الحرم عند الجمهور . فلو دخل مستورا ومرض أخرج إلى الحلّ . وإذا مات في الحرم حرم دفنه فيه ، فإن دفن نبش قبره ونقل إلى الحلّ ، إلاّ أن يكون قد بلي فيترك كما ترك أموات الجاهليّة .
القتال في الحرم :(230/3)
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من دخل الحرم مقاتلا وبدأ القتال فيه ، يقاتل ، لقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } . وكذلك من ارتكب في الحرم جريمة من جرائم الحدود أو القصاص ممّا يوجب القتل فإنّه يقتل فيه اتّفاقا لاستخفافه بالحرم ، كما سيأتي في الفقرة التّالية . واختلفوا في قتال الكفّار والبغاة على أهل العدل في الحرم إذا لم يبدءوا بالقتال . فذهب طاووس والحنفيّة ، وهو قول ابن شاس وابن الحاجب من المالكيّة ، وصحّحه القرطبيّ ، وقول القفّال والماورديّ من الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة إلى أنّه يحرم قتالهم في الحرم مع بغيهم . ولكنّهم لا يطعمون ولا يسقون ولا يؤوون ولا يبايعون حتّى يخرجوا من الحرم ، لقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه } قال مجاهد : الآية محكمة ، فلا يجوز قتال أحد إلاّ بعد أن يقاتل . لقوله تعالى : { أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا } . ولقوله صلى الله عليه وسلم : { إنّ هذا البلد حرّمه اللّه تعالى يوم خلق السّموات والأرض ، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة ، وإنّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحلّ لي إلاّ ساعة من نهار } . وقال الشّافعيّة في المشهور عندهم وصوّبه النّوويّ : إنّه إذا التجأ إلى الحرم طائفة من الكفّار والعياذ باللّه ، أو طائفة من البغاة ، أو قطّاع الطّريق يجوز قتالهم في الحرم فقد ورد عن أبي شريح العدويّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة . فإن أحد ترخّص لقتال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقولوا له : إنّ اللّه أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم ، وإنّما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس } . وهذا قول سند وابن عبد البرّ من المالكيّة ، وصوّبه ابن هارون في الحاصر من الحجّ ، وحكى الحطّاب عن مالك جواز قتال أهل مكّة إذا بغوا على أهل العدل ، قال : وهو قول عكرمة وعطاء . وهذا قول للحنابلة أيضا ، فقد جاء في تحفة الرّاكع والسّاجد : فإن بغوا على أهل العدل قاتلهم على بغيهم إذا لم يمكن ردّهم عن البغي إلاّ بالقتال . واستدلّ من أجاز القتال في الحرم بقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقالوا : إنّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } . وقالوا أيضا : { إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل مكّة وعليه المغفر ، فقيل : إنّ ابن خطل متعلّق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه } . وأجابوا عن الأحاديث الواردة في تحريم القتال بمكّة أنّ معناها تحريم نصب القتال عليهم بما يعمّ كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك . ولأنّ قتال أهل البغي من حقوق اللّه تعالى الّتي لا يجوز أن تضاع ، ولأن تكون محفوظة في حرمه أولى من أن تكون مضاعة فيه .
ج - قطع نبات الحرم :(230/4)
10 - واتّفق الفقهاء على تحريم قطع أو قلع نبات الحرم إذا كان ممّا لا يستنبته النّاس عادة وهو رطب ، كالطّرفاء ، والسّلم ، والبقل ، البرّيّ ، ونحوها ، سواء أكان شجرا أم غيره ، والأصل فيه قوله تعالى : { أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا } . ولما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { حرّم اللّه مكّة } إلى قوله : { لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها } . ويستوي في الحرمة المحرّم وغيره ، لأنّه لا تفصيل في النّصوص المقتضية للأمن . ولأنّ حرمة التّعرّض لأجل الحرم ، فيستوي فيه المحرّم وغيره باتّفاق الفقهاء . واستثني من ذلك الإذخر ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قال في الحديث السّابق : { لا يعضد شجرها قال العبّاس رضي الله عنه إلاّ الإذخر يا رسول اللّه فإنّه متاع لأهل مكّة لحيّهم وميّتهم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إلاّ الإذخر } . والمعنى فيه ما أشار إليه العبّاس رضي الله عنه وهو حاجة أهل مكّة إلى ذلك في حياتهم ومماتهم . وألحق بعض الفقهاء ( المالكيّة ) بالإذخر السّنّا والسّواك والعصا وما أزيل من النّبات بقصد السّكنى بموضعه للضّرورة . كما ألحق به جمهور الشّافعيّة والقاضي وأبو الخطّاب من الحنابلة الشّوك كالعوسج وغيره من كلّ ما هو مؤذ . وأطلق غيرهم القول بالحرمة ليشمل سائر الأشجار والحشيش إلاّ ما ورد النّصّ باستثنائه وهو الإذخر ، وذلك لما جاء في حديث أبي هريرة : { ولا يختلى شوكها } أي مكّة . ولأنّ الغالب في شجر الحرم الشّوك ، فلمّا حرّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قطع شجره والشّوك غالبه كان ظاهرا في تحريمه . ولا بأس بأخذ الكمأة ( الفقع ) لأنّهما لا أصل لهما فليسا بشجر ولا حشيش . أمّا اليابس من شجر الحرم وحشيشه فلا يحرم الانتفاع به عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) ، لأنّه بمنزلة الميّت لخروجه عن حدّ النّموّ . وقال المالكيّة : لا فرق بين أخضره ويابسه . ويجوز قطع وقلع ما يستنبته النّاس عادة كخسّ ، وبقل ، وكرّات ، وحنطة ، وبطّيخ ، وقثّاء ونخل وعنب ، وإن لم يعالج بأن نبت بنفسه ، اعتبارا بأصله ، فإنّ النّاس من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يزرعونه في الحرم ويحصدونه من غير نكير من أحد . ولا فرق في الجواز بين الشّجر وغيره عند جمهور الفقهاء . والمذهب عند الشّافعيّة أنّ ما استنبته الآدميّ من الشّجر كغير المستنبت في الحرمة والضّمان ، لعموم الحديث المانع من قطع الشّجر . والقول الثّاني عندهم : قياسه بالزّرع كالحنطة والشّعير والخضراوات ، فإنّه يجوز قطعه ولا ضمان فيه بلا خلاف . وإذا كان أصل الشّجرة في الحرم وأغصانها في الحلّ فهي من شجر الحرم ، وإن كان أصلها في الحلّ وأغصانها في الحرم فهي من الحلّ اعتبارا للأصل .
رعي حشيش الحرم والاحتشاش فيه 11 - يجوز رعي حشيش الحرم عند جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة ، وهو وجه عند الحنابلة ، وقول أبي يوسف من الحنفيّة ) لأنّ الهدي كان يدخل إلى الحرم فيكثر فيه فلم ينقل أنّهم كانوا يكمّون أفواهه ، ولأنّ بهم حاجة إلى ذلك أشبه الإذخر . ولا يجوز ذلك عند أبي حنيفة ومحمّد ، وفي رواية عند الحنابلة ، لأنّه لمّا منع من التّعرّض لحشيش الحرم استوى فيه التّعرّض بنفسه وبإرسال البهيمة عليه ، لأنّ فعل البهيمة يضاف إلى صاحبها ، كما في الصّيد فإنّه لمّا حرم عليه التّعرّض استوى فيه اصطياده بنفسه ، وبإرسال الكلب ، كذا هذا . أمّا الاحتشاش أي قطع نبات الحرم للبهائم فمنعه الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو رواية عند الشّافعيّة ) لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يختلى خلاها } وفي الأصحّ عند الشّافعيّة حلّ أخذ نباته من حشيش أو نحوه بالقطع لا بالقلع لعلف البهائم للحاجة إليه كالإذخر . والخلاف فيما لا يستنبته النّاس عادة : أمّا ما يستنبته النّاس عادة فيجوز فيه الاحتشاش اتّفاقا .
ضمان قطع النّبات في الحرم :
12 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ من قطع ما يحرم من نبات الحرم فعليه ضمانه محرما كان أو حلالا . واستدلّوا بفعل عمر ، وعبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنهما فقد أمر عمر بشجر كان في المسجد يضمر بأهل الطّواف فقطع وفداه . ويقول ابن عبّاس : في الدّوحة بقرة ، وفي الجزلة شاة . والدّوحة الشّجرة العظيمة ، والجزلة الصّغيرة . ثمّ اختلفوا في نوع الضّمان : فقال الشّافعيّة والحنابلة : تضمن الشّجرة الكبيرة والمتوسّطة عرفا ببقرة ، والصّغيرة بشاة ، لما تقدّم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما . ويضمن الغصن بما نقص . وإن قلع شجرا من الحرم فغرسه في الحلّ لزمه ردّه ، فإن تعذّر أو يبست وجب الضّمان . وقال الحنفيّة : الضّمان في جميع الصّور بالقيمة . واتّفق الجمهور على أنّه لا يكون للصّوم في جزاء قطع نبات الحرم مدخل ، لأنّ حرمته بسبب الحرم لا بالإحرام ، ولهذا يجب على المحرم والحلال على السّواء . أمّا المالكيّة فمع قولهم بحرمة قطع نبات الحرم الّذي يحرم قطعه . قالوا : إن فعل فليستغفر اللّه ، ولا جزاء عليه .
صيد الحرم :(230/5)
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم في الحرم صيد الحيوان البرّيّ ، وهو ما يكون توالده وتناسله في البرّ دون البحريّ وهو ما يكون توالده في البحر . والمراد بصيد الحيوان البرّيّ أن يكون الحيوان متوحّشا في أصل الخلقة ، ولو صار مستأنسا ، نحو الظّبي المستأنس . ويستوي عند الحنفيّة والمالكيّة أن يكون مأكول اللّحم أو غير مأكول اللّحم . وقيّده الشّافعيّة والحنابلة بأن يكون مأكول اللّحم ، فلا يحرم صيد الحيوان البرّيّ غير مأكول اللّحم عندهم . ودليل حرمة صيد الحرم قوله صلى الله عليه وسلم : { إنّ هذا البلد حرّمه اللّه تعالى يوم خلق السّموات والأرض } إلى قوله : { لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفّر صيدها } . وحرمة صيد الحرم تشمل المحرم والحلال ، كما تشمل الحرمة إيذاء الصّيد أو الاستيلاء عليه وتنفيره أو المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه ، مثل الدّلالة عليه ، أو الإشارة إليه أو الأمر بقتله . ومن ملك صيدا في الحلّ فأراد أن يدخل به الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ الحرم سبب محرّم للصّيد ويوجب ضمانه ، فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ، فإن لم يرسله وتلف فعليه ضمانه ، فإن باعه ردّ البيع إن بقي ، وإن فات فعليه الجزاء . وقال الشّافعيّة : لو أدخل الحلال معه إلى الحرم صيدا مملوكا له لا يضمنه ، بل له إمساكه فيه والتّصرّف فيه كيف شاء ، لأنّه صيد حلّ . ولو رمى من الحلّ صيدا في الحرم ضمنه عند جمهور الفقهاء ، لأنّه صيد الحرم . وكذا لو رمى من الحرم صيدا في الحلّ عند الجمهور ، لأنّ بداية الرّمي من الحرم . وقال أشهب من المالكيّة وهو رواية عند الحنابلة : لا يضمن نظرا لانتهاء الرّمية . وضمان الصّيد يكون بالمثل فيما له مثل من النّعم ، أو القيمة فيه ، وفيما لا مثل له بتقويم رجلين عدلين يتصدّق بها على المساكين على النّحو المبيّن في جزاء الإحرام . ينظر في مصطلح ( إحرام : ف 160 - 164 ) . وفي الزّيلعيّ ولا يجزيه الصّوم لأنّه غرامة كغرامة الأموال وشجر الحرم . والجامع أنّهما ضمان المحلّ لا جزاء الفعل .
14 - ولا يجوز للمحرم ولا للحلال أكل لحم صيد الحرم البرّيّ ، ولا الانتفاع به بأيّ وجه من الوجوه . أمّا صيد البحر فحلال أكله للمحرم والحلال لقوله تعالى : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسّيّارة ، وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرما } . أمّا إذا صاد الحلال صيدا خارج الحرم فهل يحلّ للمحرم أكله أم لا ؟ فيه خلاف وتفصيل سبق في مصطلح : ( إحرام ) وتفصيل أحكام الصّيد في مصطلح : ( صيد ) .
ما يجوز قتله في الحرم :
15 - اتّفق الفقهاء على جواز قتل الغراب والحدأة ، والعقرب ، والحيّة ، والفأرة ، والكلب العقور ، والذّئب في الحلّ والحرم ، لما ورد في الحديث المتّفق عليه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور } وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم : الحيّة ، والغراب الأبقع ، والفأرة ، والكلب العقور ، والحديّا } . والغراب الأبقع هو الّذي يأكل الجيف ، فلا يجوز صيد الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ . وفي قول عند المالكيّة : لا يجوز قتل الحدأة الصّغيرة أيضا لانتفاء الإيذاء منها . وأجاز جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) قتل كلّ مؤذ بطبعه كالأسد والنّمر والفهد وسائر السّباع ، خلافا للحنفيّة في السّباع غير الصّائلة ونحوها كالبازي والصّقر . كما أجاز الجمهور قتل سائر الهوامّ والحشرات . واستثنى المالكيّة من الجواز قتل ما لا يكون مؤذيا منها . وقد سبق تفصيله في مصطلح ( إحرام ) .
نقل تراب الحرم :
16 - صرّح الشّافعيّة بحرمة نقل تراب الحرم وأحجاره وما عمل من طينه - كالأباريق وغيرها - إلى الحلّ ، فيجب ردّه إلى الحرم ، ونقل عن بعض الشّافعيّة كراهته . قال الزّركشيّ في إعلام السّاجد : يحرم نقل تراب الحرم وأحجاره عنه إلى جميع البلدان ، وهذا هو الأصحّ والّذي أورده الرّافعيّ كراهته . وعند الحنفيّة أنّه لا بأس بإخراج أحجار الحرم وترابه ، نقله الشّافعيّ في الأمّ ، وهو المنقول عن عمر وابن عبّاس ، لكنّهما كرهاه . وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يخرج من تراب الحرم ، ولا يدخل إليه من الحلّ ، ولا يخرج من حجارة مكّة إلى الحلّ ، والإخراج أشدّ في الكراهة . أمّا نقل تراب الحلّ إلى الحرم فجوّزه الفقهاء ، لكنّه قال بعضهم : مكروه . وقال بعضهم : خلاف الأولى ، لئلاّ يحدث لها حرمة لم تكن . ولا خلاف في جواز نقل ماء زمزم إلى الحلّ لأنّه يستخلف ، فهو كالثّمرة . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تحمل ماء زمزم وتخبر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحمله . ولم نعثر في كتب الحنفيّة والمالكيّة على نصّ في الموضوع .
بيع رباع الحرم وكراؤها :(230/6)
17 - يرى الحنفيّة وهو المشهور عن مالك ورواية عن أحمد ، أنّه لا يجوز بيع رباع الحرم وبقاع المناسك ولا كراؤها ، لحديث : { مكّة حرام وحرام بيع رباعها وحرام أجر بيوتها } وروي عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة قال : { توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ودور مكّة كانت تدعى السّوائب ، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن } . قال في البدائع : ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله : { إنّ مكّة حرام } وهي اسم للبقعة ، والحرام لا يكون محلّا للتّمليك . وعلّل البهوتيّ التّحريم بأنّ مكّة فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين فصارت وقفا على المسلمين . وقال الشّافعيّة ، وهو رواية عن مالك وأحمد وهو غير المشهور ، عن أبي حنيفة إنّه يجوز بيع وإجارة دور الحرم ، لأنّها على ملك أربابها ، يجوز لهم التّصرّف فيها ببيع ، ورهن ، وإجارة . قال اللّه تعالى : { للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم } فنسب الدّيار إلى المالكين . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { من دخل دار أبي سفيان فهو آمن } نسب الدّار إلى مالكها . وقال صلى الله عليه وسلم أيضا : « وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور » . واستدلّوا للجواز أيضا بعموم النّصوص الواردة في جواز البيع من غير فصل . ولأنّ الأصل في الأراضي أن تكون محلّا للتّمليك ، إلاّ أنّه امتنع تملّك بعضها شرعا لعارض الوقف كالمساجد ، ولم يوجد في الحرم . وقال بعض الفقهاء : بالجواز مع الكراهة . وقيّد بعض الفقهاء ، منهم أبو حنيفة ومحمّد وهو رواية عن مالك - كراهة إجارة بيوت مكّة بالموسم من الحاجّ والمعتمر ، لكثرة احتياج النّاس إليها - أمّا من المقيم والمجاور فلا بأس بها . هذا ، وقد بحث الزّركشيّ هذا الموضوع مع اتّجاهات الفقهاء وأدلّتهم بإسهاب . وينظر تفصيله أيضا في مصطلح : ( رباع ) .
ما اختصّ به الحرم من أحكام أخرى :
أ - نذر المشي إلى الحرم والصّلاة فيه :
18 - جمهور الفقهاء على أنّه لو نذر المشي إلى بيت اللّه أو إتيانه ولم ينو شيئا آخر ولم يعيّنه فعليه أحد النّسكين : ( الحجّ أو العمرة ) لأنّه قد تعورف إيجاب النّسك بهذا اللّفظ فكان كقوله : عليّ أحد النّسكين . ولما ورد من حديث { أخت عقبة أنّها نذرت أن تمشي إلى بيت اللّه فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تمشي وتركب } . وكذا إذا نذر المشي إلى مكّة أو إلى الكعبة فهو كقوله إلى بيت اللّه . أمّا إذا نذر الإتيان أو المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام أو غير ذلك ، أو نوى ببيت اللّه مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ، أو سائر المساجد فاختلفت عبارات الفقهاء : قال الحنفيّة : لو قال : عليّ المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام لا شيء عليه عند أبي حنيفة لعدم العرف في التزام النّسك به . وقال الصّاحبان : يلزمه النّسك أخذا بالاحتياط لأنّه لا يتوصّل إلى الحرم ولا المسجد الحرام إلاّ بالإحرام فكان بذلك ملتزما للإحرام ، ولو نوى بقوله ( بيت اللّه ) مسجد المدينة المنوّرة أو بيت المقدس أو مسجدا غيرهما لم يلزمه شيء ، لأنّ النّذر إنّما يجب وفاؤه - عند الحنفيّة - إذا كان من جنسه واجب ، إذ المساجد كلّها بيوت اللّه ، وسائر المساجد يجوز الدّخول فيها بلا إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام . وذهب المالكيّة إلى أنّه لو نذر المشي إلى مسجد مكّة ولو لصلاة يلزمه ، كما يلزم ناذر المشي إلى مكّة أو البيت الحرام أو جزئه المتّصل به كبابه ، وركنه ، وملتزمه ، وشاذروانه وحجره . ولا يلزم المشي لغير ذلك ، سواء أكان في المسجد الحرام والحرم ، كزمزم والمقام ، والصّفا والمروة ، أو خارجا عن الحرم كعرفة . وقال الشّافعيّة : إذا نذر المشي إلى بيت اللّه أو إتيانه وقصد البيت الحرام ، أو صرّح بلفظ الحرام ، فالمذهب وجوب إتيانه بحجّ أو عمرة . أمّا إذا لم يقل البيت الحرام ولا نواه ، أو نذر أن يأتي عرفات ولم ينو الحجّ لم ينعقد نذره ، لأنّ بيت اللّه تعالى يصدق على بيته الحرام وعلى سائر المساجد ، ولم يقيّده بلفظ ولا نيّة . ولو نذر إتيان مكان من الحرم كالصّفا أو المروة ، أو مسجد الخيف ، أو منى ، أو مزدلفة ، لزمه إتيان الحرم بحجّ أو عمرة ، لأنّ القربة إنّما تتمّ في إتيان بنسكه ، والنّذر محمول على الواجب . وحرمة الحرم شاملة لجميع ما ذكر من الأمكنة ونحوها في تنفير الصّيد وغيره . وتفصيل المسألة في مصطلح ; ( نذر ) وانظر أيضا مصطلح : ( المسجد الحرام ) .
ب - لقطة الحرم :(230/7)
19 - اللّقطة هي المال الضّائع من ربّه يلتقطه غيره . ولا فرق عند جمهور الفقهاء بين لقطة الحرم والحلّ في الأحكام الفقهيّة من أنّ أخذها من غير نيّة التّملّك مأذون فيه شرعا ، وصرّح بعضهم بوجوب الأخذ إذا خاف الضّياع ، وهي أمانة في يد الآخذ ( الملتقط ) ويشهد على أخذها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ، ولا يكتم ، ولا يغيّب ، فإن وجد صاحبها فليردّها عليه ، وإلاّ فهو مال اللّه عزّ وجلّ يؤتيه من يشاء } . ويجب تعريف اللّقطة إلى سنة أو إلى أن يغلب على ظنّه أنّ صاحبها لا يطلبها . وتختلف بعض أحكامها على حسب اختلاف نوعيّة اللّقطة وقيمتها ، وهل يملكها بعد التّعريف أو يتصدّق بها أو يحبسها في ذلك خلاف وتفصيل ، ينظر في مصطلح : ( لقطة ) . وفي الصّحيح عند الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد وقول الباجيّ وابن رشد وابن العربيّ من المالكيّة : إنّه لا تحلّ لقطة الحرم للتّملّك بل تؤخذ للحفظ ويجب تعريفها أبدا ، لحديث : { فإنّ هذا بلد حرّم اللّه ، لا يلتقط لقطته إلاّ من عرّفها } ففرّق بينها وبين لقطة غير الحرم ، وأخبر أنّها لا تحلّ إلاّ للتّعريف ، ولم يوقّت التّعريف بسنة كغيرها . فدلّ على أنّه أراد التّعريف على الدّوام . والمعنى فيه أنّ حرم مكّة شرّفها اللّه تعالى مثابة للنّاس يعودون إليه المرّة بعد الأخرى ، فربّما يعود مالكها أو يبعث في طلبها بعد السّنة .
الغسل لدخول الحرم :
20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يسنّ الغسل لدخول الحرم ، وذلك تعظيما لحرمته ، قال الزّركشيّ : ويستحبّ الغسل لدخول مكّة اتّفاقا لما في الصّحيحين عن { ابن عمر أنّه كان لا يقدم مكّة إلاّ بات بذي طوى حتّى يصبح ويغتسل ثمّ يدخل مكّة نهارا ، ويذكر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه فعله } . ولا فرق بين أن يكون الدّاخل محرما أو حلالا .
المؤاخذة بالهمّ :
21 - من اختصاصات الحرم أنّ الإنسان إذا همّ بسيّئة فيه يؤاخذ به وإن لم يفعلها ، بخلاف سائر البلدان فإنّه إذا همّ الإنسان فيها بسيّئة لا يؤاخذ بهمّه ما لم يفعلها . ووجه المؤاخذة بالهمّ في الحرم قوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } . وروى أحمد من حديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه في الآية قال : ( لو أنّ رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه اللّه عذابا أليما ) وذلك تعظيما لحرمة الحرم - وكذلك فعل اللّه بأصحاب الفيل .
المجاورة بمكّة والحرم :
22 - تستحبّ المجاورة بمكّة والحرم عند جمهور الفقهاء ( الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد وهو قول ابن القاسم من المالكيّة ) وذلك لما يحصل من الطّاعات الّتي لا تحصل في غيرها من الطّواف وتضعيف الصّلوات والحسنات . وحكي عن بعض الفقهاء منهم أبو حنيفة كراهة المجاورة بالحرم خوفا من التّقصير في حرمته والتّبرّم واعتياد المكان . ولما يحصل بالمفارقة من تهييج الشّوق وانبعاث داعية العود . قال تعالى : { وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا } أي يثوبون إليه ، ويتردّدون إليه مرّة بعد أخرى . وعلّل بعضهم الكراهة بالخوف من ركوب الخطايا والذّنوب فيه .
تضاعف الصّلاة والحسنات في الحرم :
23 - اتّفق الفقهاء على أنّ صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، لما ورد فيها من أحاديث : منها قوله صلى الله عليه وسلم : { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام } والمعنى أنّ الصّلاة فيه تفضل على مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم . وذكر بعض الفقهاء أنّ حرم مكّة كالمسجد الحرام في المضاعفة المذكورة بناء على أنّ المسجد الحرام في الخبر المراد به جميع الحرم ، ويتأيّد بقوله تعالى : { والمسجد الحرام الّذي جعلناه للنّاس سواء العاكف فيه والبّاد } وقوله تعالى : { سبحان الّذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } ، وكان ذلك من بيت أمّ هانئ . وقيل : المراد به مسجد الجماعة الّذي يحرم على الجنب الإقامة فيه . وقد ذكر في رواية النّسائيّ في سننه من حديث ميمونة : { إلاّ المسجد الكعبة } ورواه مسلم عنها : { إلاّ مسجد الكعبة } . ورجّح المحبّ الطّبريّ أنّ المضاعفة تختصّ بمسجد الجماعة بالنّسبة إلى الصّلاة . هذا وقد ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { من حجّ من مكّة ماشيا حتّى يرجع إلى مكّة كتب اللّه له بكلّ خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم } فقال بعضهم لابن عبّاس : وما حسنات الحرم ؟ قال : بكلّ حسنة مائة ألف حسنة ، وهذا الحديث يدلّ على أنّ المراد بالمسجد الحرام في تضعيف الصّلاة الحرم جميعه ، قال الزّركشيّ نقلا عن المحبّ الطّبريّ : نقول بموجبه إنّ حسنة الحرم مطلقا بمائة ألف لكنّ الصّلاة في مسجد الجماعة تزيد على ذلك . ولهذا قال : بمائة صلاة في مسجدي ولم يقل حسنة . وصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة ، كلّ صلاة بعشر حسنات ، فتكون الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف حسنة ، وتكون في المسجد الحرام بألف ألف حسنة إمّا مسجد الجماعة وإمّا الكعبة على اختلاف القولين . ومثله ما ورد في شفاء الغرام . وتفصيل الموضوع في مصطلح : المسجد الحرام "
مضاعفة السّيّئات بالحرم :(230/8)
24 - ذهب جماعة من العلماء إلى أنّ السّيّئات تضاعف بمكّة كما تضاعف الحسنات . ممّن قال ذلك ابن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وأحمد بن حنبل وغيرهم لتعظيم البلد . وسئل ابن عبّاس عن مقامه بغير مكّة فقال : مالي ولبلد تضاعف فيه السّيّئات كما تضاعف الحسنات ؟ فحمل ذلك منه على مضاعفة السّيّئات بالحرم ، ثمّ قيل : تضعيفها كمضاعفة الحسنات بالحرم . وقيل : بل كخارجه ، ومن أخذ بالعمومات لم يحكم بالمضاعفة قال تعالى : { ومن جاء بالسّيّئة فلا يجزى إلاّ مثلها } . وقال الفاسيّ : والصّحيح من مذاهب العلماء أنّ السّيّئة بمكّة كغيرها .
لا تمتّع ولا قران على أهل مكّة :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تمتّع ولا قران على أهل مكّة ، فالمكّيّ يحرم بالحجّ مفردا فقط ولا دم عليه . لقوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } . وهل يجوز لأهل الحرم أن يحرم بالتّمتّع أو القران أو لا يجوز ؟ خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحي : ( تمتّع وقران ) .
ذبح الهدي والفدية في الحرم :
26 - الهدي هو ما يهدى إلى البيت من بهيمة الأنعام ، سواء أكان تطوّعا أم هدي تمتّع ، أم قران أم جزاء صيد . وقد ذهب الفقهاء إلى أنّ ذبحه يختصّ بالحرم لقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } وقوله : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } وقوله : { ثمّ محلّها إلى البيت العتيق } . ويجوز الذّبح في أيّ موضع شاء من الحرم ولا يختصّ بمنى { لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : نحرت هاهنا ومنى كلّها منحر وكلّ فجاج مكّة طريق ومنحر } والأفضل للحاجّ أن يذبح بمنى ، وللمعتمر أن يذبح بمكّة . وهذا في غير المحصر ، أمّا المحصر ففي ذبحه خارج الحرم أو داخله خلاف ينظر في ( إحصار ) . وأمّا ما يذبح في فدية الأذى فقد اختلف فيه الفقهاء ، ففي قول الحنفيّة والمالكيّة : يجب ذبحه بمكّة وهو الأظهر عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد . وحكم الطّعام كحكم الفدية في أنّه يوزّع على مساكين الحرم . وأمّا الصّيام فيجوز فعله في الحرم وخارجه . وللتّفصيل انظر ( فدية ) ( وصيام ) . وفي بيان أنواع الهدي ووقت ذبحه ، ومن يتصدّق عليهم بالهدي تفصيل وخلاف ينظر في مصطلحات : ( حجّ ، هدي ، فدية ، نذر ) ، ويراجع أيضا مصطلح : ( إحصار ف 38 ، 39 ) .
تغليظ الدّية في الحرم :
27 - يرى بعض الفقهاء تغليظ الدّية على الجناية الّتي ترتكب في الحرم ، فقد قضى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فيمن قتل في الحرم بالدّية وثلث الدّية . وقال بعضهم لا تغلّظ الدّية في الحرم . وفي كيفيّة تغليظها خلاف ، تفصيله في مصطلح : ( دية ) . هذا ، وهناك أحكام أخرى بعضها يختصّ بالمسجد الحرام ، كجواز قصده بالزّيارة وشدّ الرّحال إليه ، وتقدّم الإمام على المأموم ، وعدم كراهة الصّلاة فيه في الأوقات المكروهة ، فصّلها الزّركشيّ في إعلام السّاجد . وينظر تفصيلها أيضا في مصطلح : ( المسجد الحرام ) .
ثانيا : حرم المدينة :
28 - ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ المدينة المنوّرة حرم ، له حدود وأحكام ، تختلف عن سائر البقاع ، كما تختلف عن الحرم المكّيّ في بعض الأحكام ، وذلك لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة ، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة } وعلى ذلك فلا يحلّ صيدها ولا يعضد شجرها . أمّا الحنفيّة فقالوا : ليس للمدينة المنوّرة حرم ، ولا يمنع أحد من أخذ صيدها وشجرها . وإنّما أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحديثه المتقدّم بقاء زينتها ، كما ورد في حديث آخر من قوله صلى الله عليه وسلم : { لا تهدموا الآطام فإنّها زينة المدينة } . ويدلّ على حلّ صيدها حديث أنس قال : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس خلقا ، وكان لي أخ يقال له أبو عمير ، قال أحسبه فطيما ، وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النّغير ؟ } ونغير بالغين المعجمة طائر صغير كان يلعب به .
حدود الحرم المدنيّ :
29 - يرى الجمهور أنّ حدّ حرم المدينة ما بين ثور إلى عير ، لما ورد من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعا : { حرم المدينة ما بين ثور إلى عير } . وورد في حديث آخر { أنّ الحرم ما بين لابتي المدينة } ، ففي حديث أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { ما بين لابتيها حرام } ، واللّابة الحرّة ، وهي أرض تركبها حجارة سود . وورد في رواية : { ما بين جبليه } .. وقدره بريد في بريد أي اثنا عشر ميلا من كلّ جهة .
ما يختلف فيه الحرم المدنيّ عن الحرم المكّيّ :
30 - يختلف الحرم المدنيّ عن الحرم المكّيّ عند من يقول بوجود حرم للمدينة في بعض الأحكام منها ما يلي :
أ - يجوز أخذ ما تدعو إليه الحاجة من شجر المدينة للرّحل ، وآلة الحرث ، كآلة الدّياس والجذاذ ، والحصاد ، والعارضة لسقف المحمل ، والمساند من القائمتين ، والعارضة بينهما ونحو ذلك ، لما روى جابر رضي الله عنه { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا حرّم المدينة قالوا : يا رسول اللّه إنّا أصحاب عمل ، وأصحاب نضح ، وإنّا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخّص لنا ، فقال : القائمتان والوسادة والعارضة والمسند ، أمّا غير ذلك فلا يعضد } .
ب - يجوز أخذ ما تدعو الحاجة إليه من حشيشها للعلف ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عليّ : { ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلاّ أن يعلف رجل بعيره } . ولأنّ المدينة يقرب منها شجر وزرع ، فلو منعنا من احتشاشها أفضى إلى الحرج ، بخلاف حرم مكّة ففيه تفصيل تقدّم بيانه .(230/9)
ج - من أدخل إليها صيدا فله إمساكه وذبحه ، وخصّه المالكيّة بساكني المدينة .
د - لا جزاء فيما حرم من صيدها وشجرها وحشيشها عند جمهور الفقهاء ، بخلاف حرم مكّة . وفي القول القديم للشّافعيّ ، وهو رواية عند الحنابلة فيه الجزاء .
هـ - يجوز دخول المدينة بغير إحرام بلا خلاف . - ولا يمنع الكافر من دخول المدينة من أجل المصلحة مؤقّتا من غير استيطان باتّفاق الفقهاء ، بخلاف حرم مكّة المكرمة .
ز - لا يختصّ حرم المدينة بالنّسك وذبح الهدايا ، كما هو الحكم في حرم مكّة . ح - ليس للقطة الحرم المدنيّ حكم خاصّ كالحرم المكّيّ من عدم تملّكها ووجوب تعريفها للأبد ، كما ذهب إليه الشّافعيّة . هذا ، وقد ذكر الزّركشيّ في أعلام السّاجد سائر خصائص الحرم المدنيّ وأحكامه بإسهاب . وبعض هذه الأحكام تختصّ بمسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم كمضاعفة الثّواب ، والعقاب ، وجواز شدّ الرّحال إليه ونحوهما . وينظر التّفصيل هناك وفي مصطلح : ( مسجد ) ومصطلح : ( المسجد الحرام ) .(230/10)
حشفة
التّعريف
1 - الحشفة في اللّغة : ما فوق الختان من الذّكر ، ويقال لها الكمرة أيضا . والحشفة أيضا واحدة الحشف ، وهو أردأ التّمر الّذي يجفّ من غير نضج ولا إدراك ، فلا يكون له لحم . وفي عرف الفقهاء : هي ما تحت الجلدة المقطوعة من الذّكر في الختان .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الختان :
2 - الختان موضع قطع جلد القلفة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { إذا التقى الختانان ، أو مسّ الختان الختان فقد وجب الغسل } فموضع القطع غير داخل في الحشفة .
أحكام تتعلّق بالحشفة :
أ - أحكام تتعلّق بإيلاج الحشفة :
3 - تترتّب أحكام كثيرة على إيلاج الحشفة في القبل أو في الدّبر ( مع حرمة الوطء في الدّبر ) . وذكر منها ابن جزيّ : خمسين حكما ، والسّيوطيّ : مائة وخمسين حكما ، وقال صاحب كفاية الطّالب : إنّه يوجب نحو ستّين حكما ، ذكر منها سبعة وهي :
1 - وجوب الغسل :
4 - أجمع الفقهاء على أنّه يجب الغسل بغيبوبة الحشفة كلّها في فرج آدميّ حيّ - على التّفصيل الّذي ذكر في باب الغسل - لقوله عليه الصلاة والسلام : { إذا التقى الختانان ، وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل } . وكذا في الدّبر ( مع حرمته ) لقول عليّ رضي الله عنه : توجبون فيه الحدّ ، ولا توجبون فيه صاعا من ماء ؟ ولا غسل بتغييب بعض الحشفة . ولتغييب قدر الحشفة من مقطوعها حكم تغييب الحشفة عند الجمهور . وذهب الشّافعيّة في قول : إلى أنّ تغييب قدر الحشفة من ذكر مقطوع الحشفة لا يوجب الغسل ، وإنّما يوجبه تغييب جميع الباقي إن كان قدر الحشفة فصاعدا . قال النّوويّ : هذا الوجه مشهور ، ولكنّ الأوّل أصحّ . واختلفوا في وجوب الغسل بوطء البهيمة والميّتة : فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا فرق بين آدميّة وبهيمة ، ولا بين حيّة وميّتة . وقال الحنفيّة : لا يجب الغسل بوطء البهيمة والميّتة - إلاّ أن يحصل إنزال - لأنّه ليس بمقصود ، وأيضا لأنّه ليس بمنصوص ولا في معنى المنصوص . واختلفوا أيضا فيما إذا لفّ على الحشفة خرقة : فذهب الحنفيّة في الأصحّ والمالكيّة وهو وجه لدى الشّافعيّة إلى أنّه يجب الغسل إذا كانت الخرقة خفيفة يجد معها حرارة الفرج واللّذّة ، وإلاّ فلا يجب ، إلاّ أن يحصل إنزال . وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى وجوب الغسل مطلقا : أي سواء أكانت الخرقة خفيفة أم غليظة ، وهذا جار في سائر الأحكام كإفساد الصّوم ، والحجّ ، والعمرة . ويرى الحنابلة ، وهو قول آخر لدى الشّافعيّة عدم وجوب الغسل في هذه الحالة . وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأن تكون الحشفة أصليّة ، فلا غسل بتغييب حشفة زائدة أو من خنثى مشكل لاحتمال الزّيادة . وأمّا المالكيّة فلا فرق عندهم بين أن يكون ذلك التّغييب من ذكر محقّق أو خنثى مشكل ، فيجب عليه الغسل بتغييب حشفته ، قياسا على من تيقّن الطّهارة ، وشكّ في الحدث .
2 - فساد الصّوم :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ تغييب الحشفة في أحد السّبيلين في صوم رمضان مفسد للصّوم إذا كان عامدا ، ويلزمه القضاء والكفّارة ، ولا يشترط الإنزال ، لأنّ الإنزال شبع ، وقضاء الشّهوة يتحقّق بدونه ، وقد وجب به الحدّ وهو عقوبة محضة ، فالكفّارة الّتي فيها معنى العبادة أولى . ولا كفّارة في غير رمضان ، بل فيه قضاء فقط ، لأنّ الكفّارة إنّما وجبت لهتك حرمة شهر رمضان ، فلا تجب بإفساد قضائه ، ولا بإفساد صوم غيره . والأصل في ذلك { قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ حين قال : واقعت أهلي نهار رمضان متعمّدا ، اعتق رقبة } . واختلفوا فيما إذا كان إيلاج الحشفة نسيانا : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب إلى عدم وجوب القضاء والكفّارة ، ويرى المالكيّة والشّافعيّة في قول : وجوب القضاء دون الكفّارة . وصرّح الحنابلة بوجوب القضاء والكفّارة ولو كان ناسيا للصّوم . وكذلك اختلفوا في الميّتة والبهيمة ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا فرق بين آدميّة وبهيمة ، ولا بين حيّة وميّتة . أمّا عند الحنفيّة فلا كفّارة بجماع بهيمة أو ميّتة ولو أنزل ، بل لا قضاء ما لم ينزل . وتفصيل ذلك في مصطلح ( صوم )
3 - فساد الحجّ :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ تغييب الحشفة في الفرج قبل الوقوف بعرفة مفسد للحجّ . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ الحجّ لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلاّ الجماع . والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : أنّ رجلا سأله ، فقال : إنّي واقعت امرأتي ونحن محرمان ، فقال : أفسدت حجّك وكذلك قال ابن عبّاس ، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه أيضا . وبه قال ابن المسيّب وعطاء والنّخعيّ ، والثّوريّ وإسحاق وأبو ثور . ثمّ لا فرق عند الجمهور بين ما قبل الوقوف ، وكذا بعده قبل التّحلّل الأوّل ، لأنّه جماع صادف إحراما تامّا ، ولأنّ الصّحابة لم يفرّقوا بين ما قبل الوقوف وما بعده . وقال الحنفيّة : إن جامع قبل الوقوف فسد حجّه وعليه شاة ، ويمضي في حجّه ويقضيه ، وإذا جامع بعد الوقوف لم يفسد حجّه وعليه بدنة ، وأمّا بعد الحلق فعليه شاة لبقاء الإحرام في حقّ النّساء . واختلفوا في تغييب الحشفة في البهيمة والدّبر : فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الحجّ لا يفسد بوطء البهيمة ، لأنّه لا يوجب الحدّ ، فأشبه الوطء فيما دون الفرج . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا فرق بين القبل والدّبر من آدميّ أو بهيمة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( حجّ ، وعمرة ، وإحرام )
4 - وجوب كمال الصّداق :(231/1)
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إيلاج الحشفة في قبل المرأة الحيّة ، يوجب كمال الصّداق إذا كانا بالغين ، أو كان الزّوج بالغا ، والمرأة ممّن يوطأ مثلها . واختلفوا في تكميل الصّداق بإيلاج الحشفة في دبر الزّوجة ( مع اتّفاقهم على حرمة ذلك ) : فذهب الجمهور إلى إيجاب كمال الصّداق ولو كان الإيلاج في الدّبر ، لأنّه قد وجد استيفاء المقصود باستقرار العوض . ويرى الحنفيّة أنّه لا يلزمه كمال المهر بالوطء في الدّبر لأنّه ليس بمحلّ النّسل . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نكاح ومهر ) .
5 - التّحليل للزّوج الأوّل :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ تحليل المطلّقة ثلاثا لا يحصل إلاّ بشروط : منها إيلاج الحشفة في قبل امرأة بلا حائل يمنع الحرارة واللّذّة . ثمّ اختلفوا في اشتراط الإنزال مع الإيلاج : فذهب الجمهور إلى عدم اشتراطه ، لأنّ الشّرط الذّوق لا الشّبع . ويرى المالكيّة اشتراطه . والأصل في هذا الباب أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّق الحلّ على ذوق العسيلة منهما ، ولا يحصل إلاّ بالوطء في الفرج ، وأدناه تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها ، لأنّ أحكام الوطء تتعلّق به . ولو أولج الحشفة من غير انتشار لم تحلّ له ، لأنّ الحكم يتعلّق بذوق العسيلة ، ولا تحصل من غير انتشار . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( طلاق ) .
6 - تحصين الزّوجين :
9 - اتّفق الأئمّة على أنّه يثبت الإحصان بغيبوبة الحشفة في القبل على وجه يوجب الغسل سواء أنزل أم لم ينزل بشرط الحرّيّة والتّكليف وغيرهما من الشّروط المذكورة في موضعها . والظّاهر أنّه لا يحصل تحصين الزّوجين بتغييبها ملفوفا عليها حائل كثيف ، وفي الخفيف خلاف . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( إحصان ) .
7 - وجوب الحدّ :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من شروط وجوب الحدّ في الزّنى تغييب حشفة أصليّة أو قدرها من مقطوعها في فرج أصليّ ولو لم ينزل . فإن لم يغيّب أو غيّب بعضها فلا حدّ . لأنّ ذلك لا يسمّى زنى ، إذ الوطء لا يتمّ بدون تغييب جميع الحشفة ، لأنّه القدر الّذي تثبت به أحكام الوطء ، ولذا لم يجب الغسل ولم يفسد الحجّ . واختلفوا في إيلاجها في الدّبر من ذكر أو أنثى - مع حرمته - : فذهب الجمهور إلى أنّه لا فرق بين القبل والدّبر في وجوب الحدّ بتغييب الحشفة ، ويرى أبو حنيفة أنّه لا بدّ من إيلاج الحشفة في القبل . وإن لفّ عليها خرقة كثيفة فذهب الحنفيّة في الأصحّ والمالكيّة ، والحنابلة إلى عدم وجوب الحدّ قياسا على مسألة الغسل بل أولى . وأمّا بحائل خفيف لا يمنع اللّذّة فيجب الحدّ ، وفي قول عند المالكيّة لا يجب ، لأنّ الحدود تدرأ بالشّبهات . ويرى الشّافعيّة وجوب الحدّ ، ولو كان الحائل غليظا . ويشترط الحنفيّة والحنابلة الانتشار أثناء تغييب الحشفة في وجوب الحدّ ، وهو غير شرط عند المالكيّة والشّافعيّة . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( زنى ) .
ب - ما يترتّب على قطع الحشفة :
1 - وجوب القصاص :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب القصاص بقطع جميع الحشفة عمدا إذ لها حدّ معلوم كالمفصل . واختلفوا في قطع بعضها : فذهب الجمهور إلى وجوب القصاص في قطع بعضها أيضا ، ويقدّر بالأجزاء كنصف وثلث ، وربع ، ويؤخذ من المقتصّ منه مثل ذلك ، ولا يؤخذ بالمساحة لئلاّ يفضي إلى أخذ جميع عضو الجاني ببعض عضو المجنيّ عليه . لقوله تعالى : { والجروح قصاص } . ولا قصاص في قطع بعضها عند الحنفيّة ، لتعذّر المساواة وتجب الدّية ، لأنّه متى تعذّر القصاص ، تجب الدّية كاملة ، لئلاّ تخلو الجناية عن موجب .
2 - وجوب الدّية :
12 - أجمع الفقهاء على أنّ في قطع الحشفة خطأ دية كاملة ، لأنّها أصل في منفعة الإيلاج والدّفق ، والقصبة كالتّابع لها كالكفّ مع الأصابع . ولأنّ فيه إزالة الجمال على وجه الكمال ، وتفويت جنس المنفعة ، ولأنّ معظم منافع الذّكر وهو لذّة المباشرة تتعلّق بها . وفي قطع بعضها قسطه من الدّية عند الجمهور ، ويكون التّقسيط على الحشفة فقط ، لأنّ الدّية تكمل بقطعها ، فقسّطت على أبعاضها . وفي قول عند الشّافعيّة : يكون التّقسيط على جملة الذّكر . هذا إذا لم يختلّ مجرى البول ، فإن اختلّ فعليه أكثر الأمرين من قسطه من الدّية وحكومة فساد المجرى . وأمّا الحنفيّة فلم يفرّقوا في وجوب الدّية بين قطع الكلّ والبعض .(231/2)
حقوق الميت وذويه الكفائية
(1) على الأهل، والجيران، والمعارف
حقوق للميت
حقوق لأهل الميت وذويه
صيغة التعزية
حكم التعزية
وقت التعزية
الجلوس للتعزية
مخالفات تحدث في التشييع وبعد الدفن
الحمد لله الحي الذي لا يموت، ونعوذ بالله من اجتماع حسرتي الموت والفوت، وصلى الله وسلم وبارك على المنعوت بخير النعوت، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد..
إذا مات المسلم فمن حقه على ذويه، وأهله، وإخوانه المسلمين، سيما الأقارب، والجيران، والمعارف، ونحوهم ما يأتي:
أ . للميت
1. أن يترحموا عليه ويدعوا ويستغفروا له ساعة سماع الوفاة.
2. أن يصلوا عليه.
o ودليل الصلاة على الميت الكتاب: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً"، أي المنافقين نفاق الاعتقاد الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فهي دليل على أن المؤمن يُصلى عليه، حتى قاتل نفسه ومن قتِل في قصاص، ولكن يعتزل أهل الفضل والصلاح الصلاة على أمثال هؤلاء، وكذلك أهل البدع الكبيرة الداعين لبدعتهم، وأهل الفجور المجاهرين بذلك.
o والسنة، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "صلوا على صاحبكم"، وصح2 عنه أنه قال: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أربعين إلا شُفِّعوا فيه".
o وأجمع المسلمون على أن صلاة الجنازة من فروض الكفاية.
وهي من خصائص هذه الأمة دون غيرها من الأمم، قال الفاكهي: "الصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة".
فعليك أخي المسلم أن لا تتهاون في الصلاة على ميت شهدت جنازته بحجة أنها فرض كفاية كما يفعل البعض، فالصلاة على الميت فيها أجر جزيل وثواب عظيم لك وللميت، فقد صح3 عنه صلى الله عليه وسلم: "أن من شهد الجنازة حتى يصلي عليها له قيراط من الأجر، ومن شهدها حتى تدفن له قيراطان"، وكان ابن عمر يصلي على الجنازة وينصرف قبل سماع هذا الحديث، وبعدما سمعه أسف على عدم تشييعه لبعض الجنائز، فقال: "لقد ضيعنا قراريط كثيرة"، وقد مُثل القيراط بالجبل العظيم، أوجبل أحُد.
3. أن تشيع جنازته، وتشهد دفنه، إذا تيسر لك ذلك، فقد ورد في التشييع وشهود الدفن الحديث السابق.
4. أن تدعو له بعد الدفن بالثبات والمغفرة، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل".
5. زيارة المقابر والسلام على الموتى.
ب . لأهل الميت وذويه
أما حقوق أهل الميت وذويه فهي:
1. تعزيتهم
صيغة التعزية
التعزية ليس لها لفظ محدد، لكن الأفضل والأحسن أن يقول ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح:
أ. المسلم بالمسلم:
o أحسن الله عزاءك، وأعظم الله أجرك، وغفر لميتك.
o أو: لله ما أخذ، وله ماأعطى، ولتصبر ولتحتسب.
ب. المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك.
ج. الكافر بالمسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك.
د. الكافر بالكافر: أخلف الله عليك.
تنبيه
ما يُعزي به في السودان – الفاتحة – ليس له أصل في السنة، ومن انقلاب الموازين واختلال المفاهيم، التثريب على من يعزي من غير أن يقول الفاتحة أويرفع يديه.
حكم التعزية
مستحبة، ويعزي جميع أهل الميت، الصغار، والكبار، والنساء الصغار من غير مصافحة، والمتجالات، وتكون قبل الدفن وبعده، وقد ورد في فضل التعزية حديث ولكنه ليس بصحيح.
وقت التعزية
أقوال لأهل العلم:
1. تكره التعزية بعد ثلاثة أيام.
2. لا بأس بها بعد الثلاثة.
3. لا حد لها
قال النووي رحمه الله: (والمختار انها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين استثناهما أصحابنا أوجماعة منهم، وهما إذا كان المعزَّى أوصاحب المصيبة غائباً حال الدفن، واتفق رجوعه بعد الثلاثة).4
ولم يذكر الصورة الثانية، ولعلها أن يكون المعزِّي غائباً، والله أعلم.
الجلوس للتعزية
من البدع التي عمت بها البلوى عندنا في السودان جلوس النساء والرجال للتعزية، وإن اختصرت المدة الآن إلى يوم أويومين، بسبب ظروف الحياة، ونصب الصيوانات لذلك، وقفل الطرق.
قال النووي رحمه الله: (قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله: يكره الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم؛ ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي رضي الله عنه، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها مُحدَث آخر، فإن ضُمَّ إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات، فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح أن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة).5
قلت: ليس في جلوسه صلى الله عليه وسلم في المسجد عندما جاءه خبر استشهاد الأبطال: زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، في المسجد يُعرَف الحزن في وجهه كما صح عن عائشة، دليل على ما يفعله الناس الآن، فهو لم يجلس ليأتيه الناس للتعزية، وإنما جلس متصبراً، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وإلى المسجد.
أما جلوس بعض الأقارب والجيران، رجالاً كانوا أم نساء، للتسلية على المصابين خاصة عند موت الفجاءة ونحوه، من غير نصب صيوانات، فربما يكون فيه تخلص من تلك البدعة وتخفيف على أهل الميت.
ومن البدع المنكرة التي فيها مشقة على الناس السفر من الأماكن البعيدة للتعزية، ولأعداد كبيرة من الأهل والمجاملين لهم، ولو اقتصر ذلك على الأقربين لكان خيراً للجميع، وفيه مفاداة لأخطار الحوادث المرورية المتكررة، مع العلم أن الجميع يشكون من ذلك ويتضررون منه ومع ذلك يصرون عليه، وهو لا شك داخل في نطاق منافقة بعضنا لبعض، الجالبة للأضرار، الماحقة للأجور.
2. التعاون على الحفر والتشييع والدفن(232/1)
من حقوق أهل الميت الكفائية على أهلهم، وجيرانهم، ومعارفهم، أن يعينوهم على ذلك.
3. صنع الأهل والجيران الطعام لأهل الميت
هذه من السنن الحميدة والعادات الفاضلة، ولكنها اندثرت، واستعاض الناس عنها ببدعة صنع أهل الميت الطعام للمعزين، والمبالغة والمفاخرة فيه.
عندما استشهد جعفر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله وجيرانه: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، أوكما قال.
وتزداد حرمة هذا الصنيع إذا كان من مال المتوَفى، حيث أضحى ماله مِلْكاً للورثة، ولا يستحق صاحبه منه إلا سداد دين، أونفاذ وصية، أوتجهيزه.
البدعة دائماً تجر إلى بدع أخر، ففي الغالب لا يفي "الكشف"6 بتكاليف تلك الذبائح والولائم وما يتبع ذلك، فيضطر أقارب المتوفى لتغطية ما تبقى منها، وقد يتكلفون ما لا طاقة لهم به.
لوكانت هذه الاموال التي تبذل في "الفراش" تعطى لأولاد الميت ليستعينوا بها في معاشهم لكان أفضل وأحسن، أوأن يسدد بها ما على الميت من ديون لكان أولى.
مخالفات تحدث في التشييع وبعد الدفن
1. رفع الصوت بالتهليل والتسبيح ونحو ذلك، أوقراءة "البراق" ونحوه في المقبرة.
2. التأذين والإقامة داخل القبر، وهذا لا أصل له ويفعله البعض.
3. التلقين بعد الدفن لم يصح فيه خبر كما صح في التلقين عند الاحتضار، وقد استحبه بعض أهل العلم من أهل الشام وخالفهم فيه العامة، فالأولى تركه.
4. الخطب والتأبين الذي يُفعل بعد الدفن، وبعد الأربعين يوماً، أوبعد عام، وأقبح من ذلك وأكثر حرمة حوليات المشايخ.
5. تجصيص القبر، أوالبناء عليه والكتابة، كل هذا ليس من السنة.
6. رفع الصوت بكلام الدنيا، والضحك، والتدخين، والتحدث بالجوالات، وعقد الصفقات، ونحو ذلك في أثناء التشييع، أوساعة الدفن، وقد رأى ابن مسعود رجلاً يضحك في مقبرة فقال له: أتضحك في هذا الموقف؟ والله لا أكلمك أبداً؛ فهجره حتى الممات.(232/2)
حلق *
التّعريف :
1 - الحلق في اللّغة إزالة الشّعر . يقال حلق رأسه ، أي : أزال شعره .
ومن معانيه أيضاً : الحلقوم وهو مساغ الطّعام والشّراب في المريء .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة الحلق عن هذين المعنيين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستحداد :
2 - الاستحداد حلق العانة . وسمّي استحداداً لاستعمال الحديدة وهي الموسى .
فالاستحداد نوع من الحلق .
ب - النّتف :
3 - النّتف لغةً نزع الشّعر والرّيش ونحوه .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة النّتف عن هذا المعنى اللّغويّ .
والوجه المشترك بين الحلق والنّتف : أنّ كلًّا منهما إزالة للشّعر إلاّ أنّ الحلق بالموسى ونحوه ، والنّتف بنزعه من جذوره .
أحكام الحلق بالمعنى الأوّل " حلق الشّعر " :
حلق الرّأس :
4 - اختلف الفقهاء في حلق الرّأس : فذهب الحنفيّة إلى أنّ السّنّة في شعر الرّأس بالنّسبة للرّجل إمّا الفرق أو الحلق ، وذكر الطّحاويّ أنّ الحلق سنّة .
وذهب المالكيّة كما جاء في الفواكه الدّواني إلى أنّ حلق شعر الرّأس بدعة غير محرّمة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم « لم يحلق رأسه إلاّ في التّحلّل من الحجّ » ، قال القرطبيّ : كره مالك حلق الرّأس لغير المتحلّل من الإحرام ، وقال الأجهوريّ : إنّ القول بجواز حلقه ولو لغير المتعمّم أولى بالاتّباع فهو من البدع الحسنة حيث لم يفعله لهوى نفسه وإلاّ كره أوحرم. وصرّح ابن العربيّ من المالكيّة بأنّ الشّعر على الرّأس زينة ، وحلقه بدعة ، ويجوز أن يتّخذ جمّةً وهي ما أحاط بمنابت الشّعر ، ووفرةً وهو ما زاد على ذلك إلى شحمة الأذنين ، وأن يكون أطول من ذلك .
ويرى الشّافعيّة أنّه لا بأس بحلق جميع الرّأس لمن أراد التّنظيف .
واختلفت الرّواية عن أحمد في حلق الرّأس : فعنه أنّه مكروه ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في الخوارج : « سيماهم التّحليق » فجعله علامةً لهم .
وروي عنه أنّه لا يكره ذلك ، لكن تركه أفضل ، قال حنبل : كنت أنا وأبي نحلق رءوسنا في حياة أبي عبد اللّه ، فيرانا ونحن نحلق فلا ينهانا .
واتّفق الفقهاء على أنّه يكره القزع ، وهو أن يحلق بعض الرّأس دون بعض .
وقيل : أن يحلق مواضع متفرّقةً منه . لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً قد حلق بعض رأسه ، وترك بعضه فنهى عن ذلك » . وفي لفظ قال : « احلقه كلّه أو دعه كلّه » .
وفي رواية عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن القزع » .
هذا بالنّسبة للرّجل ، أمّا المرأة فلا يجوز لها حلق رأسها من غير ضرورة عند الحنفيّة والمالكيّة لقول أبي موسى : « برئ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الصّالقة ، والحالقة » وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها » ، قال الحسن : هي مثلة .
وأمّا إذا كان حلق المرأة شعر رأسها لعذر أو وجع فلا بأس به عند الحنفيّة والحنابلة . ويرى الشّافعيّة والحنابلة الكراهة . قال الأثرم : سمعت أبا عبد اللّه يسأل عن المرأة تعجز عن شعرها وعن معالجته ، وتقع فيه الدّوابّ ، قال : إذا كان لضرورة فأرجو أن لا يكون به بأس . وأمّا حلق القفا - وهو مؤخّر العنق - فقد صرّح الحنابلة بأنّه يكره لمن لم يحلق رأسه ، ولم يحتج إليه لحجامة أو غيرها .
قال المروزيّ : سألت أبا عبد اللّه عن حلق القفا فقال : هو من فعل المجوس ، ومن تشبّه بقوم فهو منهم ، وقال : لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة .
حلق رأس المولود :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحبّ حلق رأس المولود في اليوم السّابع ، ويتصدّق بوزن الشّعر ورقًا ( فضّةً ) ثمّ اختلفوا في حلق شعر المولود الأنثى ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا فرق في ذلك بين الذّكر والأنثى ، لما روي ، أنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم ، وتصدّقت بزنة ذلك فضّةً . ولأنّ هذا حلق فيه مصلحة من حيث التّصدّق ، ومن حيث حسن الشّعر بعده ، وعلّة الكراهة من تشويه الخلق غير موجودة هنا .
وأمّا الحنابلة فيرون عدم حلق شعر المولود الأنثى لحديث سمرة بن جندب مرفوعاً : « كلّ غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السّابع ، ويحلق رأسه » وعن أبي هريرة مثله .
ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة لمّا ولدت الحسن : « احلقي رأسه ، وتصدّقي بوزن شعره فضّةً على المساكين والأوفاض » يعني أهل الصّفّة .
أمّا الحنفيّة فذهبوا إلى أنّ حلق شعر المولود في سابع الولادة مباح لا سنّة ولا واجب .
حلق الشّارب :
6 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ حلق الشّارب سنّة وقصّه أحسن ، وقال الطّحاويّ : حلقه أحسن من القصّ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أحفوا الشّوارب ، وأعفوا اللّحى » .
والإحفاء : الاستئصال ، وهو قول لدى الشّافعيّة .
ويرى الغزاليّ من الشّافعيّة أنّه بدعة . وهو رواية عند الحنفيّة أيضاً .
ويرى المالكيّة أنّ الشّارب لا يحلق ، بل يقصّ .
وذهب الشّافعيّة إلى كراهة حلق الشّارب واستحباب قصّه عند الحاجة حتّى يبين طرف الشّفة بياناً ظاهراً .
وعند الحنابلة يسنّ حفّ الشّارب أو قصّ طرفه ، والحفّ أولى نصّاً ، وفسّروا الحفّ بالاستقصاء أي المبالغة في القصّ . وتفصيله في مصطلح ( شارب ) .
وأمّا حلق اللّحية فمنهيّ عنه ، وفيه خلاف ينظر في مصطلح ( لحية ) .
حلق شعر المحرم :
7 - يحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره ، ما لم يفرغ الحالق والمحلوق له من أداء نسكهما . وكذا لو حلق له غيره حلالاً أو محرماً يحظر عليه تمكينه من ذلك .(233/1)
وفي الموضوع خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( إحرام ) .
الحلق للتّحلّل من الإحرام :
8 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في أظهر القولين والحنابلة على ظاهر المذهب أنّ الحلق أو التّقصير نسك في الحجّ والعمرة ، فلا يحصل التّحلّل في العمرة والتّحلّل الأكبر في الحجّ إلاّ مع الحلق .
وقال الشّافعيّة في أحد القولين - وهو خلاف الأظهر - وأحمد في قول : إنّ الحلق أو التّقصير ليس بنسك ، وإنّما هو إطلاق من محظور كان محرّماً عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحلّ ، كاللّباس والطّيّب وسائر محظورات الإحرام ، وهذا ما حكاه القاضي عياض عن عطاء وأبي ثور وأبي يوسف أيضاً .
فعلى هذا الاتّجاه لا شيء على تارك الحلق ويحصل التّحلّل بدونه .
هذا ولا تؤمر المرأة بالحلق بل تقصّر لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ليس على النّساء حلق وإنّما عليهنّ التّقصير » . وروى عليّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تحلق رأسها » ولأنّ الحلق للتّحلّل في حقّ النّساء بدعة وفيه مثلة ، ولهذا لم تفعله واحدة من نساء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
مقدار الواجب حلقه للتّحلّل :
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أفضليّة حلق جميع الرّأس على التّقصير لقوله عزّ وجلّ : { مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } والرّأس اسم للجميع ، وكذا روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه » .
وإنّما اختلفوا في أقلّ ما يجزئ من الحلق : فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجزئ حلق بعض الرّأس ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه » فكان تفسيراً لمطلق الأمر بالحلق . فوجب الرّجوع إليه .
ويرى الحنفيّة أنّ من حلق أقلّ من ربع الرّأس لم يجزه ، وإن حلق ربع الرّأس أجزأه ويكره. أمّا الجواز فلأنّ ربع الرّأس يقوم مقام كلّه في القرب المتعلّقة بالرّأس كمسح ربع الرّأس في باب الوضوء . وأمّا الكراهة فلأنّ المسنون هو حلق جميع الرّأس وترك المسنون مكروه . وقال الشّافعيّة : أقلّ ما يجزئ ثلاث شعرات حلقاً أو تقصيراً من شعر الرّأس .
وقال النّوويّ : فتجزئ الثّلاث بلا خلاف عندنا ولا يجزئ أقلّ منها .
وحكى إمام الحرمين ومن تابعه وجهاً أنّه يجزئ شعرة واحدة . قال النّوويّ وهو غلط .
المفاضلة بين الحلق والتّقصير للتّحلّل :
10 - قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ التّقصير يجزئ في حقّ من لم يوجد منه معنًى يقتضي وجوب الحلق عليه . كما أجمعوا على أنّ الحلق أفضل من التّقصير في حقّ الرّجل ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اللّهمّ ارحم المحلّقين . قالوا : والمقصّرين يا رسول اللّه . قال : اللّهمّ ارحم المحلّقين . قالوا : والمقصّرين يا رسول اللّه . قال : اللّهمّ ارحم المحلّقين والمقصّرين » . فقد دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمحلّقين ثلاثاً وللمقصّرين مرّةً ، ولأنّ ذكر المحلّقين في القرآن قبل المقصّرين ، ولأنّ الحلق أكمل في قضاء التّفث ، وفي التّقصير بعض تقصير فأشبه الاغتسال مع الوضوء .
وأمّا النّساء فليس عليهنّ الحلق بالإجماع وإنّما عليهنّ التّقصير كما تقدّم .
هذا وللتّفصيل في آداب الحلق للتّحلّل وزمانه ومكانه ، وحكم تأخيره عن زمانه ومكانه ، تنظر أبواب الحجّ من كتب الفقه ومصطلحات ( إحرام ، إحصار ، تحلّل ، وتحليق ) .
حلق العانة والإبط :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ حلق العانة بالنّسبة للرّجل ، لأنّه من الفطرة ، كما جاء في الحديث : « الفطرة خمس » ، وذكر منها الاستحداد وهو حلق العانة .
وأمّا المرأة فيستحبّ لها النّتف عند الجمهور . وتفصيل ذلك في مصطلح ( استحداد ) .
وأمّا حلق شعر الإبط فجائز لمن شقّ عليه النّتف ، والأفضل فيه النّتف .
حلق شعر سائر الجسد :
12 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لو نبتت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة كان لها إزالتها بالحلق . وذهب المالكيّة إلى أنّه يجب عليها إزالتها .
وقال ابن جرير : لا يجوز للمرأة حلق لحيتها ولا عنفقتها ولا شاربها ، ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص منه ، قصدت به التّزيّن لزوج أو غيره ، لأنّها في جميع ذلك مغيّرة خلق اللّه ومتعدّية على ما نهى عنه .
وأمّا حلق شعر سائر الجسد كشعر اليدين والرّجلين فقد صرّح المالكيّة بوجوبه في حقّ النّساء وقالوا : يجب عليها إزالة ما في إزالته جمال لها ولو شعر اللّحية إن نبتت لها لحية ، ويجب عليهنّ إبقاء ما في إبقائه جمال لها فيحرم عليها حلق شعرها .
وأمّا حلق شعر الجسد في حقّ الرّجال فمباح عند المالكيّة ، وقيل : سنّة ، والمراد بالجسد ما عدا الرّأس .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحلق الرّجل شعر حلقه ، وعن أبي يوسف لا بأس بذلك . وفي حلق شعر الصّدر والظّهر ترك الأدب .
ولم يستدلّ على نصّ للشّافعيّة والحنابلة في المسألة .
هذا وللفقهاء خلاف وتفصيل في حلق شعر الحاجبين ينظر في ( تنمّص ) .
حلق شعر الكافر إذا أسلم :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الكافر إذا أسلم يسنّ حلق رأسه ، لما روي « عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : ألق عنك شعر الكفر » . قال الرّمليّ : وظاهر إطلاقهم أي الشّافعيّة عدم الفرق هنا في استحباب الحلق بين الذّكر وغيره وهو محتمل .(233/2)
ويحتمل أنّ محلّ ندبه الذّكر ، وأنّ السّنّة للمرأة والخنثى التّقصير كما في التّحلّل في الحجّ . وقيّد المالكيّة الأمر بحلق شعر من أسلم بما إذا كان شعره على غير زيّ العرب - أي المسلمين - كالقزعة وشبهها ، لما روي في سنن أبي داود عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جدّه أنّه « جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : قد أسلمت ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ألق عنك شعر الكفر » يقول : احلق قال : وأخبرني آخر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه : « ألق عنك شعر الكفر واختتن » .
وقوله صلى الله عليه وسلم « شعر الكفر » أي الشّعر الّذي من زيّ الكفر .
وقد كانت العرب تدخل في دين اللّه أفواجاً ، ولم يروا في ذلك أنّهم كانوا يحلقون .
واستحبّ مالك أن يحلق على عموم الأحوال .
واشترط الحنابلة في حلق الرّأس أن يكون رجلاً ، وأطلقوا في حلق العانة والإبطين .
حلق شعر الميّت :
14 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم حلق شعر رأس الميّت ، لأنّ ذلك إنّما يكون لزينة أو نسك ، والميّت لا نسك عليه ولا يزيّن .
وكذلك يحرم حلق عانته لما فيه من لمس عورته ، وربّما احتاج إلى نظرها وهو محرّم ، فلا يرتكب من أجل مندوب أي في حال الحياة .
ويرى المالكيّة أنّه يكره حلق شعر الميّت الّذي لا يحرم على الحيّ حلقه وإلاّ حرم حلقه من ميّت .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه لا يحلق شعر رأس الميّت ، وقيل إن كان له عادة بحلقه ففيه الخلاف ، وكذلك لا يحلق شعر عانته وإبطيه في القديم وهو الأصحّ والمختار ، لأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة رضي الله عنهم فيه شيء معتمد ، وأجزاء الميّت محترمة ، فلا تنتهك بذلك . ثمّ محلّ كراهة إزالة شعره ما لم تدع حاجة إليه ، وإلاّ كأن لبّد شعر رأسه أو لحيته بصبغ أو نحوه ، أو كان به قروح وجمد دمها ، بحيث لا يصل الماء إلى أصوله إلاّ بإزالته وجب كما صرّح به الأذرعيّ .
أحكام الحلق " بمعنى مساغ الطّعام والشّراب " :
15 - يتعلّق بالحلق أحكام كذهاب بعض حروف الحلق لجناية ووصول اللّبن إلى جوف الرّضيع من الحلق ، ووصول شيء لحلق الصّائم من عين أو أذن ووصول غير متحلّل للحلق في الصّيام ، وغير ذلك من الأحكام ينظر تفصيلها في مواطنها ، وفي مصطلح ( بلعوم ) .(233/3)
حليّ *
التّعريف :
1 - الحليّ لغةً : جمع الحلي وهو ما يتزيّن به من مصوغ المعدنيّات أو الأحجار الكريمة . وحليت المرأة حلياً لبست الحليّ ، فهي حال وحالية . وتحلّى بالحليّ أي تزيّن .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عند الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الزّينة :
2 - الزّينة اسم جامع لكلّ ما يتزيّن به .
والزّينة أعمّ من الحليّ لأنّها تكون بغير الحليّ أيضاً.
الأحكام المتعلّقة بالحليّ :
أوّلاً : حلية الذّهب :
أ - حلية الذّهب للرّجال :
3 - يحرم على الرّجل اتّخاذ حليّ الذّهب بجميع أشكالها . وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أحلّ الذّهب والحرير لإناث أمّتي وحرم على ذكورها » .
ويستثنى من التّحريم حالتان :
الحالة الأولى : اتّخاذه للحاجة . ذهب الجمهور إلى جواز اتّخاذ أنف أو سنّ من الذّهب للحاجة إليه . لحديث « عرفجة بن أسعد الّذي قلع أنفه يوم الكلاب ، فاتّخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه ، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتّخذ أنفًا من ذهب » .
وذهب أبو حنيفة وهو قول لأبي يوسف إلى عدم جواز اتّخاذ السّنّ أو شدّه بالذّهب للرّجال دون الفضّة ، لأنّ النّصّ ورد في الأنف دون غيره ولضرورة النّتن بالفضّة .
الحالة الثّانية : تحلية آلات القتال بالذّهب . ذهب الشّافعيّة والحنفيّة إلى عدم جواز تحلية آلات القتال بالذّهب ، لأنّ الأصل أنّ التّحلّي بالذّهب حرام على الرّجال إلاّ ما خصّه الدّليل ولم يثبت ما يدلّ على الجواز . ولأنّ فيه زيادة إسراف وخيلاء .
وذهب المالكيّة والحنابلة : إلى جواز تحلية السّيف بالذّهب سواء ما اتّصل به كالقبيعة والمقبض ، أو ما انفصل عنه كالغمد ، وقصر الحنابلة الجواز على القبيعة لأنّ عمر - رضي الله عنه - كان له سيف فيه سبائك من ذهب ، وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب . « وكانت قبيعة سيف النّبيّ صلى الله عليه وسلم من فضّة » .
ب - حلية الفضّة للرّجال :
5 - اتّفق الفقهاء من حيث الجملة على جواز لبس الرّجل خاتماً من فضّة ، وعلى جواز اتّخاذ سنّ أو أنف من فضّة ، وعلى جواز تحلية آلات الحرب بالفضّة .
وللمذاهب تفصيل في ذلك ينظر في مصطلح ( تختّم من الموسوعة ، ج /11 ) .
وقيّد المالكيّة الخاتم بأن لا يزيد على درهمين شرعيّين .
وقيّده الشّافعيّة والحنابلة بأن لا يبلغ به حدّ الإسراف فلا يتجاوز به عادةً أمثال اللّابس . وللحنابلة ثلاثة أقوال في تحلّي الرّجال بالفضّة فيما عدا الخاتم وحلية السّلاح أحدها : الحرمة . والثّاني : الكراهة ، والثّالث ما قاله صاحب الفروع : لا أعرف على تحريم لبس الفضّة نصًّا عن أحمد وكلام شيخنا ( يعني ابن تيميّة ) يدلّ على إباحة لبسها للرّجال إلاّ ما دلّ الشّرع على تحريمه ، أي ممّا فيه تشبّه أو إسراف أو ما كان على شكل صليب ونحوه . واستدلّوا لذلك بالقياس على خاتم الفضّة فإنّه يدلّ على إباحة ما هو في معناه ، وما هو أولى منه ، والتّحريم يفتقر إلى دليل والأصل عدمه .
وذهب المالكيّة إلى تحريم حليّ الفضّة للرّجال عدا الخاتم وحلية السّيف والمصحف ولم نجد للحنفيّة تصريحاً في هذه المسألة .
وذهب الحنفيّة وهو المرجّح عند الحنابلة إلى إباحة يسير الذّهب في خاتم الفضّة للرّجال شريطة أن يقلّ الذّهب عن الفضّة وأن يكون تابعاً للفضّة ، وذلك كالمسمار يجعل في حجر الفصّ . والمعتمد عند المالكيّة أنّه يكره .
أمّا فيما عدا خاتم الفضّة من الحليّ للرّجال كالدّملج ، والسّوار ، والطّوق ، والتّاج ، فللشّافعيّة فيه وجهان : الأوّل التّحريم ، والثّاني الجواز ما لم يتشبّه بالنّساء . لأنّه لم يثبت في الفضّة إلاّ تحريم الأواني ، وتحريم الحليّ على وجه يتضمّن التّشبّه بالنّساء .
واتّفق الفقهاء على جواز اتّخاذ أنف أو سنّ من فضّة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز تحلية آلات الحرب بالفضّة عدا السّرج واللّجام والثّغر للدّابّة فهو حرام ، لأنّه حلية للدّابّة لا للرّجل .
واستدلّوا بالحديث السّابق ، وقصر الحنفيّة والمالكيّة الجواز على حلية السّيف فقط .
حلية الذّهب والفضّة للنّساء :
6 - أجمع الفقهاء على جواز اتّخاذ المرأة أنواع حليّ الذّهب والفضّة جميعًا كالطّوق ، والعقد ، والخاتم ، والسّوار ، والخلخال ، والتّعاويذ ، والدّملج ، والقلائد ، والمخانق ، وكلّ ما يتّخذ في العنق ، وكلّ ما يعتدن لبسه ولم يبلغ حدّ الإسراف أو التّشبّه بالرّجال .
وفي لبس المرأة نعال الذّهب والفضّة وجهان للشّافعيّة : أحدهما التّحريم وهو مذهب الحنابلة لما فيه من السّرف الظّاهر ، وأصحّهما الإباحة كسائر الملبوسات .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز تحلية المرأة آلات الحرب بالذّهب أو بالفضّة لما فيه من التّشبّه بالرّجال . وجاء في الحديث الصّحيح عن ابن عبّاس قال : « لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » . وخالف في هذا الشّاشيّ والرّافعيّ من الشّافعيّة فقالا : بجواز التّحلية بناءً على جواز لبس آلة الحرب واستعمالها للنّساء غير محلّاة فتجوز مع التّحلية ، لأنّ التّحلية للنّساء أولى بالجواز من الرّجال . ولم نقف على نصّ للحنفيّة في هذه المسألة .
حكم المموّه بذهب أو فضّة :(234/1)
7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ إلى جواز استعمال الرّجل ما موّه بذهب أو فضّة ممّا يجوز له استعماله من الحليّ كالخاتم ، إذا لم يخلص منه شيء بالإذابة والعرض على النّار ، لأنّ الذّهب والفضّة على هذه الصّفة مستهلك فصار كالعدم وهو تابع للمموّه . وذهب الحنابلة وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة إلى عدم جواز استعمال الأواني المموّهة بذهب أو فضّة وإلى حرمة التّمويه بهما .
ويجوز عند الحنابلة تمويه غير الأواني بالذّهب أو الفضّة بحيث يتغيّر اللّون ولا يحصل من الذّهب أو الفضّة شيء إن عرض على النّار .
الحليّ من غير الذّهب والفضّة :
8 - اتّفق الفقهاء على جواز تحلّي المرأة بأنواع الجواهر النّفيسة كالياقوت والعقيق واللّؤلؤ. كما ذهب الأئمّة الثّلاثة إلى جوازه للرّجال .
وكرهه الشّافعيّة وبعض الحنابلة من جهة الأدب ، لأنّه من زيّ النّساء أو من جهة السّرف . واختلف الحنفيّة في حكم تحلّي الرّجل بالأحجار الكريمة .
واختار شمس الأئمّة وقاضي خان من الحنفيّة الحلّ قياسًا على العقيق .
واتّفق الفقهاء على كراهة خاتم الحديد والصّفر والشّبه " وهو ضرب من النّحاس " والقصدير للرّجل والمرأة . وورد النّهي عن ذلك في حديث بريدة رضي الله عنه قال : « إنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه ، فقال له : ما لي أجد منك ريح الأصنام ؟ فطرحه ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار . فطرحه ، فقال : يا رسول اللّه ، من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » . واختار النّوويّ في المجموع عدم الكراهة مستدلّاً بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال للّذي خطب الواهبة نفسها « اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد » ولو كان مكروهًا لم يأذن فيه . كما استدلّ بحديث معيقيب رضي الله عنه وكان على خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« كان خاتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديد ملويّ عليه فضّة » .
ثمّ قال النّوويّ : " والمختار أنّه لا يكره لهذين الحديثين " .
زكاة الحليّ :
9 - اتّفق الفقهاء على وجوب الزّكاة في الحلي المستعمل استعمالاً محرّماً ، كأن يتّخذ الرّجل حلي الذّهب للاستعمال ، لأنّه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله وهو صياغته صياغةً محرّمةً ، وبقي على حكم الأصل من وجوب الزّكاة فيه .
كما اتّفقوا على وجوبها في الحلي المكنوز المقتنى الّذي لم يقصد به مقتنيه استعمالاً محرماً ولا مكروهاً ولا مباحاً ، لأنّه مرصد للنّماء فصار كغير المصوغ ، ولا يخرج عن التّنمية إلاّ بالصّياغة المباحة ونيّة اللّبس .
واختلفوا في الحلي المستعمل استعمالاً مباحاً كحلي الذّهب للمرأة وخاتم الفضّة للرّجل . فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّ في القديم وأحد القولين في الجديد وهو المفتى به في المذهب إلى عدم وجوب الزّكاة في الحلي المباح المستعمل .
وروي هذا القول عن ابن عمر وجابر وعائشة وابن عبّاس وأنس بن مالك وأسماء - رضي الله عنهم - والقاسم والشّعبيّ وقتادة ومحمّد بن عليّ وعمرة وأبي عبيد وإسحاق وأبي ثور. واستدلّوا بما ورد من آثار عن عائشة وابن عمر وأسماء وجابر رضي الله عنهم ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تلي بنات أخيها في حجرها لهنّ الحليّ فلا تخرج منه الزّكاة . وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يحلّي بناته وجواريه الذّهب ثمّ لا يخرج من حليّهنّ الزّكاة . وروي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنّها كانت تحلّي ثيابها الذّهب ، ولا تزكّيه نحوًا من خمسين ألفاً . وروي أنّ رجلاً سأل جابراً رضي الله عنه عن الحلي أفيه زكاة ؟ فقال جابر لا ، فقال : وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر كثير . والمأثور عن عائشة رضي الله عنها يخالف ما روته عن الرّسول صلى الله عليه وسلم فيحمل على أنّها لم تخالفه إلاّ فيما علمته منسوخاً ، فإنّها زوجه وأعلم النّاس به ، وكذلك ابن عمر فإنّ أخته حفصة كانت زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحكم حليّها لا يخفى عليه ولا يخفى عنها حكمه فيه . كما استدلّوا بقياس الحلي المباح على ثياب البدن والأثاث وعوامل البقر في أنّها مرصدة في استعمال مباح فسقط وجوب الزّكاة فيها .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّ في القول الآخر في الجديد إلى وجوب الزّكاة في الحلي المباح المستعمل ، وهو مرويّ عن عمر بن الخطّاب وابن عمر ، وابن عبّاس ، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص ، وأبي موسى الأشعريّ ، وسعيد بن جبير وعطاء ، وطاوس ، وابن مهران ومجاهد ، وجابر بن زيد ، وعمر بن عبد العزيز ، والزّهريّ ، وابن حبيب .
واستدلّوا بحديث عبد اللّه بن عمرو « أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها : أتعطين زكاة هذا ؟ قالت : لا . قال : أيسرّك أن يسوّرك اللّه بهما سوارين من نار ؟ قال : فخلعتهما فألقتهما إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت : هما للّه ورسوله » .
كما استدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : ما هذا يا عائشة ، فقلت : صنعتهنّ أتزيّن لك يا رسول اللّه . قال : أتؤتين زكاتهنّ ؟ قلت : لا ، أو ما شاء اللّه قال : هذا حسبك من النّار » . والحلي مال نام ودليل النّماء الإعداد للتّجارة خلقةً .
حكم انكسار الحلي :(234/2)
10 - فصّل القائلون بعدم وجوب الزّكاة في الحلي ما إذا انكسر الحلي ، فله حينئذ أحوال : الأوّل : أن لا يمنع الانكسار استعماله ولبسه فلا أثر للانكسار ولا زكاة فيه .
وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة . وقيّده الحنابلة بأن لا ينوي ترك لبسه .
الثّاني : أن يمنع الانكسار استعماله فيحتاج إلى سبك وصوغ .
فتجب زكاته ، وأوّل الحول وقت الانكسار ، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة .
الثّالث : أن يمنع الانكسار الاستعمال ولكن لا يحتاج إلى سبك وصوغ ويقبل الإصلاح بالإلحام وهذا على أحوال :
أ - إن قصد جعله تبرًا أو دراهم ، أو كنزه وجبت زكاته وانعقد حوله من يوم الانكسار . وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة .
ب - أن يقصد إصلاحه فلا زكاة فيه وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ج - إن لم يقصد شيئاً وجبت زكاته عند الشّافعيّة ولا تجب عند المالكيّة .
والمذهب عند الحنابلة أنّ الانكسار إذا منع الاستعمال مطلقًا فلا زكاة في الحلي .
إجارة الحلي :
11 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز إجارة الحلي بأجرة من جنسه أو من غير جنسه . لأنّه عين ينتفع بها منفعةً مباحةً مقصودةً مع بقائها فجازت إجارتها كالأراضي .
وكره المالكيّة إجارة الحلي لأنّه ليس من شأن النّاس ، والأولى إعارته لأنّها من المعروف . ولم نقف على رأي الحنفيّة في المسألة .
وقف الحلي :
12 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى صحّة وقف الحلي لما روى نافع أنّ حفصة ابتاعت حليّاً بعشرين ألفاً حبسته على نساء آل الخطّاب فكانت لا تخرج زكاته .
وظاهر مذهب المالكيّة الجواز بناءً على جواز وقف المملوك مطلقاً : العقار والمقوّم والمثليّ والحيوان . ولا يجوز وقف الحليّ عند الحنفيّة بناءً على أنّ الأصل عندهم عدم جواز الوقف في غير العقار لأنّ حكم الوقف الشّرعيّ التّأبيد ، ولا يتأبّد غير العقار .
وللتّفصيل ينظر مصطلح ( وقف ) .(234/3)
حلّ *
التّعريف :
1 - الحلّ لغةً وصف ، أو تسمية بالمصدر من قولك : الحلّ ما عدا الحرم ، والحلّ أيضاً الرّجل الحلال الّذي خرج من إحرامه ، والحلّ مقابل الحرام . وورد أنّ عبد المطّلب لمّا حفر زمزم قال : لا أحلّها لمغتسل وهي لشارب حلّ وبلّ ، وروي من كلام العبّاس وابن عبّاس أيضاً : ومعنى بل : مباح في لغة حمير . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
أ - الحلّ ضدّ الحرمة :
2 - الحلّ بمعنى الحلال ، وهو ما أطلق الشّرع فعله ، وكلّ شيء لا يعاقب عليه باستعماله . والأصل هو الحلّ ، وقد اشتهر قول الأصوليّين الأصل في الأشياء الإباحة ، وهذا قبل ورود الشّرع ، أمّا بعد وروده فالحلال ما أحلّه الشّرع ، والحرام ما حرّمه الشّرع ، وما سكت عنه الشّرع فهو عفو ، وانظر مصطلح ( حلال ) .
ب - الحلّ المقابل للحرم المكّيّ :
3 - هو ما وراء أعلام الحرم ، فما كان دون الأعلام فهو حرم لا يحلّ صيده ولا يقطع شجره وما كان وراء المنار ( الأعلام ) فهو من الحلّ يحلّ صيده إذا لم يكن صائده محرماً . فكلّ الدّنيا حلّ ما عدا الحرم .
وأعلام الحرم وتسمّى أيضاً المنار هي الّتي ضربها إبراهيم الخليل على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام على أقطار الحرم ونواحيه وبها تعرف حدود الحرم من الحلّ . ( ر : أعلام الحرم ).
ج - أفضل بقاع الحلّ للإحرام بالعمرة :
4 - من كان في الحرم من مكّيّ وغيره وأراد العمرة خرج إلى الحلّ فيحرم من أدناه ، وإحرامه من التّنعيم أفضل ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التّنعيم » .
وقال ابن سيرين : « وقّت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأهل مكّة التّنعيم » ، وإنّما لزم الإحرام من الحلّ ليجمع في النّسك بين الحلّ والحرم ، ولذلك لا يجب على المكّيّ والمتمتّع الخروج إلى الحلّ لأجل الإحرام بالحجّ ، لأنّه سيذهب إلى عرفة ، وهي من الحلّ .
واختلف الفقهاء في أفضل البقاع للحلّ على قولين ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى تفضيل التّنعيم ، وهو الموضع الّذي عنده المسجد المعروف الآن بمسجد عائشة بينه وبين مكّة فرسخ ، فهو أقرب الحلّ إلى مكّة ، سمّي بذلك لأنّ على يمينه جبلاً يقال له نعيم ، وعلى شماله حبلًا يقال له ناعم ، والوادي نعمان .
ثمّ الجعرانة بكسر الجيم وإسكان العين - وقد تكسر العين وتشدّد الرّاء - .
وقال الشّافعيّ : التّشديد خطأ . وهي موضع بين مكّة والطّائف .
ثمّ الحديبية ( مصغّرة وقد تشدّد ) ، وهي بئر قرب مكّة ، بين مكّة وجدّة ، حدث عندها صلح الحديبية المشهور .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة ، إلى تفضيل الجعرانة ، ثمّ التّنعيم ، ثمّ الحديبية « لاعتماره صلى الله عليه وسلم منها في ذي القعدة عام الفتح حين قسم غنائم حنين » .
وأصل الخلاف في التّفضيل كما وضّحه ابن عابدين بقوله : التّنعيم موضع قريب من مكّة عند مسجد عائشة وهو أقرب موضع من الحلّ ، الإحرام منه للعمرة أفضل من الإحرام لها من الجعرانة وغيرها من الحلّ عندنا ، وإن كان صلى الله عليه وسلم لم يحرم منها « لأمره عليه الصلاة والسلام عبد الرّحمن بأن يذهب بأخته عائشة إلى التّنعيم لتحرم منه » والدّليل القوليّ مقدّم عندنا على الفعليّ .
قال ابن حجر : ولكن لا يلزم من ذلك - أي إذنه لعائشة بالاعتمار من التّنعيم - تعيّن التّنعيم للفضل لما دلّ عليه حديث إبراهيم عن الأسود قالا : « قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول اللّه يصدر النّاس بنسكين وأصدر بنسك فقيل لها : انتظري : فإذا طهرت فاخرجي إلى التّنعيم فأهلّي ، ثمّ ائتينا بمكان كذا ، ولكنّها على قدر نفقتك أو نصبك » .
أي أنّ الفضل في زيادة التّعب والنّفقة ، وإنّما يكون التّنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحلّ لا من جهة أبعد منه ، واللّه أعلم .
د - الأحكام المتعلّقة بالحلّ :
5 - للحلّ أحكام تتعلّق بالحجّ والعمرة ففيه المواقيت المكانيّة للإحرام ، والّتي جاء ذكرها في حديث ابن عبّاس . ( ر : إحرام - ف /55 ) والأصل في صيد البرّ الحلّ ، فحرم صيد الحرم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في مكّة : « لا ينفّر صيدها » وبالإجماع ، فبقي ما عداه على الأصل . ثمّ هل العبرة بمكان الصّيد أم بمكان الصّائد ؟ خلاف ، الجمهور على أنّ العبرة بمكان الصّيد ، إلاّ ما روي عن الإمام أحمد أنّ العبرة بمكان الصّائد . ( ر : مصطلح حرم ) .
هـ - الحلّ المقابل لحرم المدينة :
6 - اختلف الفقهاء في المدينة هل هي حلّ أو حرم كمكّة يحرم فيه ما يحرم في حرم مكّة . فذهب الجمهور من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى تحريم صيدها لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : « ما بين لابتيها حرام » وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ إبراهيم حرّم مكّة ، وإنّي حرّمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ، ولا يصاد صيدها » . وحديث عليّ مرفوعاً : « المدينة حرم ما بين عير إلى ثور » .
ولا جزاء على من صاد فيها بل يستغفر اللّه . ولا يضمن القيمة .
وهذا مذهب مالك والشّافعيّ في الجديد والرّواية المعتمدة عن أحمد ، وقال الشّافعيّ في القديم وابن المنذر وهو رواية أخرى عن أحمد : يجب فيه الجزاء ، وجزاؤه إباحة سلب الصّائد وعاضد الشّجر لمن أخذه . لحديث سعد رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه » .(235/1)
وعند الحنفيّة لا حرم للمدينة فلا يحرم فيها الصّيد ولا قطع الشّجر لحديث : « يا أبا عمير ما فعل النّغير » وقالوا : لو حرم لما جاز صيده . وعلى مذهب الجمهور ينتهي حرم المدينة المنوّرة ، ويبدأ الحلّ من خارج الحدود الّتي حدّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والّتي هي جبل عير وثور ، أو اللّابتان ، كما في الحديثين المتقدّمين ، وانظر ( المدينة المنوّرة ) .
و - أشهر الحلّ :
7 - الأشهر الحرم أربعة وهي ذو القعدة وذو الحجّة ، والمحرّم ، ورجب مضر ، لقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : « خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم النّحر بمنًى فقال : إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض ، السّنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان » . وعليه فالثّمانية الأشهر الباقية هي ما يطلق عليها أشهر الحلّ .
وقد كان القتال محرّماً في الأشهر الحرم مباحاً في أشهر الحلّ في الجاهليّة واستمرّ في صدر الإسلام ، وقد أحدث الجاهليّون فيها النّسيء وهو إبدال موضع شهر حرام مكان آخر حلال ، وقد أبطله الإسلام بقوله تعالى : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } ( ر : مصطلح : إحرام . نسيء . الأشهر الحرم ) .
ز - الحلّ مقابل الإحرام :
8 - يكون الحلّ بفعل الإنسان ما يخرج به من الإحرام فيحلّ له ما كان محظوراً على المحرم بالحجّ أو العمرة . ( ر : مصطلح تحلّل ) .(235/2)
حمد *
التّعريف :
1 - الحمد لغةً : نقيض الذّمّ ، ومنه المحمدة خلاف المذمّة .
وهو الشّكر والرّضا والجزاء وقضاء الحقّ ، أو : الثّناء الكامل ، أو : الثّناء بالكلام أو باللّسان على جميل اختياريّ على جهة التّعظيم ، كان نعمةً كالعطايا أو لا ، كالعبادات ، أو هو : الثّناء على المحمود بجمال صفاته وأفعاله .
قال الجرجانيّ : الحمد هو الثّناء على الجميل من جهة التّعظيم من نعمة وغيرها وقسّمه - كما فعل أبو البقاء وغيره - خمسة أقسام .
- 1 - الحمد اللّغويّ : وهو الوصف بالجميل على جهة التّعظيم والتّبجيل باللّسان وحده .
- 2 - الحمد العرفيّ : وهو فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وهو أعمّ من أن يكون فعل اللّسان أو الأركان أو الجنان .
- 3 - الحمد القوليّ : وهو حمد اللّسان وثناؤه على الحقّ بما أثنى به على نفسه على لسان أنبيائه .
- 4 - الحمد الفعليّ : وهو الإتيان بالأعمال البدنيّة ابتغاء وجه اللّه تعالى .
- 5 - الحمد الحاليّ : وهو الّذي يكون بحسب الرّوح والقلب ، كالاتّصاف بالكمالات العلميّة والعمليّة والتّخلّق بالأخلاق الإلهيّة .
2 - والحمد على الإطلاق يكون للّه تعالى فهو سبحانه يستحقّ الحمد بأجمعه ، إذ له الأسماء الحسنى والصّفات العلا ، ولا يجوز الحمد على الإطلاق إلاّ للّه تعالى ، لأنّ كلّ إحسان هو منه في الفعل أو التّسبّب .
وحمد اللّه تعالى عبارة عن تعريفه وتوصيفه بنعوت جلاله وصفات جماله وسمات كماله الجامع لها ، سواء كان بالحال أو بالمقال ، وهو معنًى يعمّ الثّناء بأسمائه فهي جليلة ، والشّكر على نعمائه فهي جزيلة ، والرّضا بأقضيته فهي حميدة ، والمدح بأفعاله فهي جميلة. والتّحميد : حمد اللّه تعالى مرّةً بعد مرّة ، أو كما قال الأزهريّ : كثرة حمد اللّه سبحانه بالمحامد الحسنة ، والتّحميد أبلغ من الحمد .
3 - والمقام المحمود الّذي ورد في حديث : « اللّهمّ آت محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً » هو المقام الّذي يحمده فيه جميع الخلق لشفاعته لتعجيل الحساب والإراحة من طول الوقوف .
ولواء الحمد الّذي ورد في حديث : « إنّي لأوّل النّاس تنشقّ الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر ، وأعطى لواء الحمد ولا فخر » المراد به انفراده صلى الله عليه وسلم بالحمد على رؤوس الخلق يوم القيامة وشهرته به ، والعرب تضع اللّواء في موضع الشّهرة ، وقال الطّيبيّ : ويحتمل أن يكون لحمده يوم القيامة لواء حقيقةً يسمّى لواء الحمد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ أو العرفيّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الثّناء :
4 - هو ما يوصف به الإنسان من مدح أو ذمّ ، وخصّ بعضهم به المدح ، وقال الفيروزآبادي : هو وصف بمدح أو ذمّ ، أو خاصّ بالمدح ، وقال أبو البقاء : هو الكلام الجميل ، وقيل : هو الذّكر بالخير ، وقيل . يستعمل في الخير والشّرّ على سبيل الحقيقة ، وهو في عرف الجمهور حقيقة في الخير ومجاز في الشّرّ . وقيل : هو الإتيان بما يشعر التّعظيم مطلقًا ، سواء كان باللّسان أو بالجنان أو بالأركان ، وسواء أكان في مقابلة شيء أم لا فيشمل الحمد والشّكر والمدح وهو المشهور بين الجمهور .
الشّكر :
5 - هو في اللّغة : عرفان الإحسان ونشره ، أو هو : الاعتراف بالنّعمة على جهة التّعظيم للمنعم ، أو هو : الثّناء على المحسن بما قدّم من المعروف ، أو هو : الاعتراف بالنّعمة وفعل ما يجب لها ، يقال : شكرت للّه أي اعترفت بنعمته وفعلت ما يجب من الطّاعة وترك المعصية ، أو هو : مقابلة النّعمة بالقول والفعل والنّيّة ، فيثني على المنعم بلسانه ، وينيب نفسه في طاعته ، ويعتقد أنّه مولّيها . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
واختلف في الصّلة بين الشّكر والحمد ، فقيل : إنّهما بمعنًى واحد ، وقيل : إنّ الشّكر أعمّ من الحمد ، لأنّه باللّسان وبالجوارح وبالقلب ، والحمد إنّما يكون باللّسان خاصّةً ، وقيل : الحمد أعمّ . قال القرطبيّ : الصّحيح أنّ الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشّكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان ، وعلى هذا الحدّ قال علماؤنا : الحمد أعمّ من الشّكر .
المدح :
6 - هو في اللّغة : الثّناء الحسن ، أو الثّناء على الممدوح بما فيه من الصّفات الجميلة خلقيّةً كانت أو اختياريّةً . وفي الاصطلاح : هو الثّناء باللّسان على الجميل الاختياريّ قصداً. قال الرّاغب : والحمد أخصّ من المدح وأعمّ من الشّكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، وممّا يقال منه وفيه بالتّسخير فقد يمدح الإنسان بطول قامة وصباحة وجهه كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه . و
الحمد يكون في الثّاني دون الأوّل ، والشّكر لا يقال إلاّ في مقابلة نعمة . فكلّ شكر حمد ، وليس كلّ حمد شكرًا ، وكلّ حمد مدح وليس كلّ مدح حمداً .
الحكم التّكليفيّ :
7 - الحمد يكون للّه عزّ وجلّ ، وهو كلّه وبإطلاق له سبحانه ، لأنّه تعالى المستحقّ للحمد ذاتًا وصفات ولا شيء منه لغيره في الحقيقة .
وقد يحمد الإنسان نفسه فيثني عليها ويزكّيها ، وقد يحمد غيره فيثني عليه ويمدحه .
حمد الإنسان نفسه :(236/1)
8 - نهى اللّه تعالى أن يحمد الإنسان نفسه في قوله تعالى : { فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وقوله عزّ وجلّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تزكّوا أنفسكم ، اللّه أعلم بأهل البرّ منكم » . لكن إن احتاج الإنسان إلى بيان فضله والتّعريف بما عنده من القدرات فلا بأس بذلك . كما قال يوسف عليه السلام : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } . وانظر مصطلح ( مدح - تزكية ) .
حمد الإنسان غيره :
حمد الإنسان غيره وثناؤه عليه ومدحه إيّاه منهيّ عنه شرعاً من حيث الجملة ، وبخاصّة إذا كان بما ليس فيه ، ففي البخاريّ من حديث أبي بكرة « أنّ رجلًا ذكر عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيراً ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مراراً - إن كان أحدكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل : أحسب فلاناً كذا وكذا إن كان يرى أنّه كذلك ، ولا أزكّي على اللّه أحداً » . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( مدح ) .
حمد اللّه تعالى :
9 - حمد اللّه تعالى مطلوب شرعاً ، ورد بذلك الكتاب والسّنّة ، ومنه قول اللّه تعالى : للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : { قُل الحَمدُ لِلَّهِ } وقوله صلى الله عليه وسلم : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع » . وقد حمد اللّه تعالى نفسه وافتتح كتابه بحمده فقال عزّ وجلّ : { الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } . وحكم حمد اللّه تعالى يتعدّد بتعدّد مواطنه على النّحو التّالي :
أوّلاً : الابتداء بالحمد :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الابتداء بحمد اللّه تعالى في الأمور المهمّة مندوب اقتداءً بكتاب اللّه تعالى ، وعملاً بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد اللّه تعالى فهو أقطع » فيستحبّ البداءة بالحمد لكلّ مصنّف ، ودارس ، ومدرّس ، وخطيب ، وخاطب ، وبين يدي سائر الأمور المهمّة ، قال الشّافعيّ : أحبّ أن يقدّم المرء بين يدي خطبته وكلّ أمر طلبه حمد اللّه تعالى والثّناء عليه سبحانه وتعالى والصّلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عابدين : الحمدلة تجب في الصّلاة ، وتسنّ في الخطب ، وقبل الدّعاء ، وبعد الأكل ، وتباح بلا سبب ، وتكره في الأماكن المستقذرة ، وتحرم بعد أكل الحرام .
وفي فتح الباري أنّ البسملة للكتب والوثائق والرّسائل ، كما في كتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وما كتبه في صلح الحديبية ، وأنّ الحمد للخطب .
ثانياً : الحمد في دعاء الاستفتاح :
11 - ورد الحمد في دعاء الاستفتاح الّذي جاءت فيه - كما قال النّوويّ - أحاديث كثيرة يقتضي مجموعها أن يقول المصلّي في استفتاح الصّلاة : « اللّه أكبر كبيراً ، والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً . . . الخ » .
وكلّ هذا ثابت في الصّحيح عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وقال البيهقيّ : أصحّ ما روي فيه عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه : أنّه كبّر ثمّ قال : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك .
وروي مرفوعاً بأسانيد ضعيفة . وتفصيل المأثور في دعاء الاستفتاح ، وحكمه ، وموضعه من الصّلوات ينظر في ( استفتاح ، وتحميد ) .
ثالثاً : قراءة سورة الحمد في الصّلاة :
12 - سورة الحمد - كما تقدّم - هي سورة الفاتحة ، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ قراءتها في الصّلاة فرض ، وقال أبو حنيفة : لا تتعيّن قراءة الفاتحة بل تستحبّ ، وفي رواية عنه تجب ولو قرأ غيرها من القرآن أجزأه .
وفي المسألة تفصيل ينظر في ( صلاة ، وفاتحة ) .
رابعاً : الحمد في الرّكوع والسّجود :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الأولى أن يقول المصلّي في التّسبيح المندوب في الرّكوع : سبحان ربّي العظيم وبحمده ، وفي السّجود ، سبحان ربّي الأعلى وبحمده .
وفي الصّحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللّهمّ ربّنا وبحمدك اللّهمّ اغفر لي » .
والأفضل عند الحنابلة الاقتصار على " سبحان ربّي العظيم " في الرّكوع وعلى " سبحان ربّي الأعلى " في السّجود من غير زيادة وبحمده .
ولم يتعرّض الحنفيّة لزيادة لفظ ( وبحمده ) في أيّ من الرّكوع أو السّجود .
وفي تفصيل مذاهب الفقهاء في حكم التّسبيح في الرّكوع والسّجود ينظر مصطلح ( تسبيح ).
خامساً : الحمد في الرّفع بعد الرّكوع :
14 - ذهب المالكيّة وأبو حنيفة إلى من كان إماماً يقول في الرّفع بعد الرّكوع : سمع اللّه لمن حمده ولا يقول ربّنا لك الحمد .(236/2)
وقال أبو يوسف ومحمّد : يجمع بين التّسميع والتّحميد ، وروي عن أبي حنيفة مثل قولهما . احتجّ أبو حنيفة بما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا ، وإذا قال : ولا الضّالّين فقولوا : آمين ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع اللّه لمن حمده فقولوا : ربّنا لك الحمد » قسم التّحميد والتّسميع بين الإمام والقوم فجعل التّحميد لهم والتّسميع له ، وفي الجمع بين الذّكرين من أحد الجانبين إبطال هذه القسمة ، ولأنّ إتيان الإمام بالحمد يؤدّي إلى جعل التّابع متبوعاً تابعاً ، وهذا لا يجوز ، بيان ذلك أنّ الذّكر يقارن الانتقال ، فإذا قال الإمام : سمع اللّه لمن حمده ، يقول المقتدي مقارناً له : ربّنا لك الحمد ، فلو قالها الإمام بعد ذلك لوقع قوله بعد قول المقتدي ، فينقلب المتبوع تابعاً والتّابع متبوعاً ، ومراعاة التّبعيّة في جميع أجزاء الصّلاة واجبة بقدر الإمكان .
وإن كان المصلّي مقتدياً يأتي بالحمد لا غير . وإن كان منفردًا يجمع بينهما على المعتمد من أقوال ثلاثة مصحّحة ، أحدها هذا ، والثّاني أنّه كالمؤتمّ ، والثّالث أنّه كالإمام .
15 - واختلف في المختار من ألفاظ الحمد عند الحنفيّة : قال الحصكفيّ : أفضله : اللّهمّ ربّنا ولك الحمد ، ثمّ حذف الواو ، ثمّ حذف اللّهمّ فقط ، وأضاف ابن عابدين : وبقي رابعة هي : حذف اللّهمّ والواو ، ثمّ قال : الأربعة في الأفضليّة على هذا التّرتيب كما أفاده بالعطف بثمّ . قال الكاسانيّ : والأشهر ربّنا لك الحمد .
16 - وأمّا المقتدي فيندب له أن يقول : ربّنا ولك الحمد بعد قول الإمام : سمع اللّه لمن حمده . والفذّ ( المنفرد ) يجمع بينهما ، فهو مخاطب بسنّة ومندوب والتّرتيب بينهما مستحبّ على الظّاهر ، فيسنّ له أن يقول : سمع اللّه لمن حمده ، ويندب له أن يقول بعد ذلك : ربّنا ولك الحمد .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المصلّي إذا استوى قائماً من ركوعه استحبّ له أن يقول : ربّنا لك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه ملء السّموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثّناء والمجد ، أحقّ ما قال العبد وكلّنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ ، قال الشّافعيّ والأصحاب : يستوي في استحباب هذه الأذكار كلّها الإمام والمأموم والمنفرد ، يجمع كلّ واحد منهم بين قوله بسمع اللّه لمن حمده وربّنا لك الحمد إلى آخره . والجمع بين التّسميع والتّحميد للإمام والمنفرد هو قول لأبي يوسف ومحمّد ، واحتجّ أبو يوسف ومحمّد بما ورد « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الرّكوع قال : سمع اللّه لمن حمده ، ربّنا لك الحمد » وغالب أحواله صلى الله عليه وسلم أنّه كان هو الإمام ، ولأنّ الإمام منفرد في حقّ نفسه ، والمنفرد يجمع بين هذين الذّكرين فكذا الإمام ، ولأنّ التّسميع تحريض على الحمد فلا ينبغي أن يأمر غيره بالبرّ وينسى نفسه كي لا يدخل تحت قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وَتَنْسَونَ أَنْفُسَكُمْ } قال ابن عابدين : لكن المتون على قول الإمام .
وقال النّوويّ : وهذا لا خلاف فيه عندنا ، لكن قال الأصحاب : إنّما يأتي الإمام بهذا كلّه إذا رضي المأمومون بالتّطويل وكانوا محصورين ، فإن لم يكن كذلك اقتصر على قوله : سمع اللّه لمن حمده ربّنا لك الحمد .
قال الشّافعيّ والأصحاب : ولو قال : ولك الحمد ربّنا أجزأه ، لأنّه أتى باللّفظ والمعنى ، ولكن الأفضل قوله : ربّنا لك الحمد على التّرتيب الّذي وردت به السّنّة .
وقال صاحب الحاوي وغيره : يستحبّ للإمام أن يجهر بقوله سمع اللّه لمن حمده ليسمع المأمومون ويعلموا انتقاله كما يجهر بالتّكبير ، ويسرّ بقوله ربّنا لك الحمد لأنّه يفعله في الاعتدال فيسرّ به كالتّسبيح في الرّكوع والسّجود ، وأمّا المأموم فيسرّ بهما كما يسرّ بالتّكبير ، فإن أراد تبليغ غيره انتقال الإمام كما يبلّغ التّكبير جهر بقوله سمع اللّه لمن حمده ، لأنّه المشروع في حال الارتفاع .
ولا يجهر بقوله ربّنا لك الحمد ، لأنّه إنّما يشرع في حال الاعتدال .
وقال الحنابلة : إذا استتمّ المصلّي قائمًا من ركوعه قال : ربّنا ولك الحمد ملء السّموات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : سمع اللّه لمن حمده حين يرفع صلبه من الرّكوع ثمّ يقول وهو قائم : ربّنا ولك الحمد » متّفق عليه ، ولما روى عليّ رضي الله تعالى عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الرّكوع قال : اللّهمّ ربّنا لك الحمد ملء السّموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد » .
ونقل عن أحمد أنّ المصلّي إن شاء زاد على ذلك قوله : « أهل الثّناء والمجد ، أحقّ ما قال العبد ، وكلّنا لك عبد ، اللّهمّ لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوله ، أو يقول المصلّي غير ذلك ممّا ورد .(236/3)
والصّحيح - عند الحنابلة - أنّ المنفرد يقول كما يقول الإمام ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم روي عنه أنّه قال لبريدة : « إذا رفعت رأسك في الرّكوع فقل : سمع اللّه لمن حمده ، اللّهمّ ربّنا ولك الحمد ، ملء السّماء وملء الأرض وملء ما شئت بعد » وهذا عامّ في جميع أحواله ، وقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك ولم تفرّق الرّواية بين كونه إماماً ومنفرداً ، ولأنّ ما شرع من القراءة والذّكر في حقّ الإمام شرع في حقّ المنفرد ، كسائر الأذكار . والمأموم يحمد - أي يقول : ربّنا ولك الحمد - فقط في حال رفعه من الرّكوع ، لما روى أنس وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا قال الإمام : سمع اللّه لمن حمده فقولوا : ربّنا ولك الحمد » .
فأمّا قول « ملء السّموات . . . » وما بعده فلا يسنّ للمأموم لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اقتصر على أمرهم بقول : « ربّنا ولك الحمد » فدلّ على أنّه لا يشرع لهم سواه .
وللمصلّي - إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً - قول " ربّنا لك الحمد " بلا واو لورود الخبر بذلك ، وبالواو أفضل للاتّفاق عليه من حديث ابن عمر وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ولكونه أكثر حروفاً ، ويتضمّن الحمد مقدّراً ومظهراً ، فإنّ التّقدير ربّنا حمدناك ولك الحمد ، لأنّ الواو للعطف ، ولمّا لم يكن في الظّاهر ما يعطف عليه دلّ على أنّ في الكلام مقدّراً .
وإن شاء المصلّي قال : " اللّهمّ ربّنا لك الحمد " بلا واو ، وهو أفضل منه مع الواو وإن شاء قاله بواو . وذلك بحسب الرّوايات صحّةً وكثرةً وضدّهما .
وإذا رفع المصلّي رأسه من الرّكوع فعطس فقال : ربّنا ولك الحمد ، ينوي بذلك لما عطس وللرّفع ، فروي عن أحمد أنّه لا يجزئه ، لأنّه لم يخلصه للرّفع من الرّكوع . وقال ابن قدامة : والصّحيح أنّ هذا يجزئه ، لأنّه ذكر لا تعتبر له النّيّة وقد أتى به فأجزأه ، كما لو قاله ذاهلًا وقلبه غير حاضر ، وقول أحمد يحمل على الاستحباب لا على نفي الإجزاء حقيقةً .
ويسنّ جهر الإمام بالتّسميع ليحمد المأموم عقبه ، ولا يسنّ جهر الإمام بالتّحميد ، لأنّه لا يعقبه من المأموم شيء فلا فائدة في الجهر به . ( ر : مصطلح تحميد ) .
سادساً : الحمد بعد الصّلاة :
17 - اتّفق الفقهاء على استحباب الحمد بعد الصّلاة ، وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة منها : ما رواه الشّيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصّلاة وسلّم قال : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، اللّهمّ لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » وما رواه الشّيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : « أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أصحاب الدّثور بالدّرجات العلى والنّعيم المقيم ، يصلّون كما نصلّي ، ويصومون كما نصوم ، ولهم فضل من أموال يحجّون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدّقون ، قال صلى الله عليه وسلم : ألا أعلّمكم شيئاً تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلاّ من صنع ما صنعتم ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : تسبّحون وتحمدون وتكبّرون خلف كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين » . وتفصيل هذا في مصطلح ( تحميد ) .
سابعاً : الحمد في الخطب المشروعة :
18 - الحمد مطلوب في الخطب المشروعة ، وهي عشر أو ثمان أو أدنى من ذلك أو أكثر ، على تفصيل يذكر في موطنه ، ومن ذلك :
أ - الحمد في خطبتي الجمعة :
19 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ لفظ الحمد لا يشترط في خطبة الجمعة ، فلو ذكر الخطيب اللّه تعالى على قصد الخطبة بقوله : الحمد للّه أو سبحان اللّه أو لا إله إلاّ اللّه جاز عنده في أركان الخطبة ، أمّا إذا قال ذلك لعطاس أو تعجّب فلا يجوز ، واستدلّ بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } . من غير فصل ، فكان الشّرط الذّكر الأعمّ . وذهب المالكيّة إلى أنّ الحمد في خطبة الجمعة مندوب .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : من أركان خطبتي الجمعة حمد اللّه تعالى للاتّباع ، روى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : « كانت خطبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد اللّه ويثني عليه » . الحديث ، ولفظ الحمد متعيّن للتّعبّد به ، فلا يكفي نحو : لا إله إلاّ اللّه ولا نحو : الشّكر للّه ، ولا غير لفظ اللّه كالرّحمن ، ويكفي مصدر الحمد وما اشتقّ منه وإن تأخّر كـ " للّه الحمد " . والتّفصيل في صلاة الجمعة .
ب - الحمد في خطبتي العيدين :
20 - خطبتا العيدين كخطبتي الجمعة ، لكنّهما بعد الصّلاة في العيدين ، ويبدأ فيهما بالتّكبير ، وحكم الحمد فيهما كحكمه في خطبتي الجمعة على الخلاف والتّفصيل السّابقين .
وتفصيله في صلاة العيد .
ج - الحمد في خطبتي الاستسقاء :
21 - اختلف الحنفيّة في خطبتي الاستسقاء ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا خطبة في الاستسقاء ، وذهب أبو يوسف إلى أنّ فيه خطبتين ، وذهب محمّد إلى أنّ فيه خطبةً واحدةً . وعندهما أنّه يبدأ بالتّحميد في الخطبة .
والحمد في خطبتي الاستسقاء عند المالكيّة كالحمد في خطبتي العيد .
وقال الشّافعيّة : إنّ الحمد ركن من أركان خطبتي الاستسقاء .(236/4)
وعند الحنابلة : اختلفت الرّواية في الخطبة للاستسقاء وفي وقتها ، والمشهور أنّ في صلاة الاستسقاء خطبةً واحدةً بعد الصّلاة كالعيدين لقول ابن عبّاس في وصف صلاة الاستسقاء :
« صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين كما كان يصلّي في العيد » . وعلى ذلك يكون الحمد في خطبة الاستسقاء عندهم كالحمد في خطبة العيدين . والتّفصيل في استسقاء .
د - الحمد في خطبتي الكسوف :
22 - خطبة الكسوف مستحبّة عند الشّافعيّة والحمد فيها ركن عندهم لفعله صلى الله عليه وسلم خلافاً لجمهور الفقهاء الّذين يقولون : إنّه لا خطبة في كسوف الشّمس ، ولا في خسوف القمر بل صلاة ودعاء وتكبير وصدقة . كما ورد في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها : « إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه ، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه ، وكبّروا ، وصلّوا ، وتصدّقوا » .
هـ - الحمد في خطب النّكاح :
23 - اتّفق الفقهاء على ندب الحمد في خطب النّكاح " عند التماس الخطبة ، وعند الإجابة إليها ، وعند الإيجاب في عقد النّكاح ، وعند القبول فيه " لحديث : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد اللّه تعالى فهو أقطع » وخصّ بعضهم لخطبة النّكاح لفظ خطبة ابن مسعود الّذي فيه : إنّ الحمد للّه ، نحمده ونستعينه ونستغفره .
و - الحمد في خطب الحجّ :
24 - اتّفق جمهور الفقهاء على ندب الحمد في خطب الحجّ " وهي : يوم السّابع بمكّة ، ويوم عرفة ، ويوم العيد بمنًى ، وثاني أيّام التّشريق بمنىً " .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الحمد في هذه الخطب ركن من أركانها يأتي به الخطيب وجوباً .
ثامناً : الحمد في بدء الدّعاء وختمه :
25 - قال النّوويّ : أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدّعاء بالحمد للّه تعالى والثّناء عليه ، ثمّ الصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك يختم الدّعاء بهما ، والآثار في هذا الباب كثيرة معروفة ، منها ما روي عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال : « سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد اللّه تعالى ولم يصلّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : عجّل هذا ثمّ دعاه فقال له أو لغيره : إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربّه عزّ وجلّ والثّناء عليه ، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يدعو بعد بما شاء » .
وقال القرطبيّ : يستحبّ للدّاعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنّة : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
تاسعاً : الحمد عند حصول نعمة أو اندفاع مكروه :
26 - قال النّوويّ : يستحبّ لمن تجدّدت له نعمة ظاهرة ، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة ، أن يسجد شكراً للّه تعالى ، وأن يحمد اللّه تعالى أو يثني عليه بما هو أهله ، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة ، منها « ما روي عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ عمر أرسل ابنه عبد اللّه إلى عائشة رضي الله عنهما يستأذنها أن يدفن مع صاحبيه ، فلمّا أقبل عبد اللّه قال عمر : ما لديك ؟ قال : الّذي تحبّ يا أمير المؤمنين ، أذنت ، قال : الحمد للّه ، ما كان من شيء أهمّ إليّ من ذلك » .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من رأى مبتلىً فقال : الحمد للّه الّذي عافاني ممّا ابتلاك به وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلاً ، لم يصبه ذلك البلاء » قال النّوويّ : قال العلماء من أصحابنا وغيرهم : ينبغي أن يقول هذا الذّكر ( سرّاً ) بحيث يسمع نفسه ولا يسمعه المبتلى لئلاّ يتألّم قلبه بذلك إلاّ أن تكون بليّته معصيةً فلا بأس أن يسمعه ذلك إن لم يخف من ذلك مفسدةً .
عاشراً : الحمد بعد العطاس :
27 - قال النّوويّ : اتّفق العلماء على أنّه يستحبّ للعاطس أن يقول عقب عطاسه : الحمد للّه ، ثمّ قال النّوويّ : فلو قال : الحمد للّه ربّ العالمين كان أحسن ، ولو قال : الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل . لما روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنهما « أنّ رجلاً عطس إلى جنبه فقال : الحمد للّه والسّلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر : وأنا أقول : الحمد للّه والسّلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وليس هكذا علّمنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علّمنا أن نقول : الحمد للّه على كلّ حال » .
ويستحبّ لمن سمعه أن يشمّته . وأقلّ الحمد والتّشميت وجوابه أن يرفع صوته بحيث يسمعه صاحبه ، وإذا قال العاطس لفظاً آخر غير الحمد للّه لم يستحقّ التّشميت .
هذا في العاطس غير المصلّي .
أمّا العاطس أثناء الصّلاة ففي حمده تفصيل ينظر في ( تحميد ، و تشميت ) .
حادي عشر : الحمد عند الصّباح والمساء
28 - الحمد عند الصّباح وعند المساء مطلوب ومرغّب فيه شرعاً ، لقول اللّه عزّ وجلّ :
{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } وقوله سبحانه وتعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان اللّه وبحمده مائة مرّة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به إلاّ أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه » رواه مسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « من قال حين يصبح : اللّهمّ ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشّكر ، فقد أدّى شكر يومه ، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدّى شكر ليلته » .(236/5)
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من قال إذا أصبح : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير ، كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل ، وكتب له عشر حسنات ، وحطّ عنه عشر سيّئات ، ورفع له عشر درجات ، وكان في حرز من الشّيطان حتّى يمسي ، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتّى يصبح » .
ثاني عشر : الحمد عند موت الولد :
29 - الحمد عند فقد الولد مطلوب ومرغّب فيه شرعًا لما ورد عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول اللّه تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة وسمّوه بيت الحمد » .
ثالث عشر : الحمد إذا رأى ما يحبّ وما يكره :
30 - إذا رأى الشّخص شيئاً يحبّه أو شيئاً يكرهه حمد بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبّ قال : الحمد للّه الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات وإذا رأى ما يكره قال : الحمد للّه على كلّ حال » .
رابع عشر : الحمد إذا دخل السّوق :
31 - عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من دخل السّوق فقال : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير ، كتب اللّه له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيّئة ، ورفع له ألف ألف درجة » رواه التّرمذيّ ، ورواه الحاكم من طرق كثيرة ، وزاد فيه في رواية التّرمذيّ « وبنى له بيتًا في الجنّة » وفيه من الزّيادة : قال الرّاوي : فقدمت خراسان ، فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت له : أتيتك بهديّة فحدّثته بالحديث فكان قتيبة يركب في موكبه حتّى يأتي السّوق فيقولها ثمّ ينصرف .
خامس عشر : الحمد إذا نظر في المرآة :
32 - يشرع لمن نظر في المرآة أن يحمد اللّه تعالى ، فعن عليّ رضي الله تعالى عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نظر وجهه في المرآة قال : الحمد للّه ، اللّهمّ كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي » وفي حديث أنس : « الحمد للّه الّذي سوّى خلقي فعدله ، وكرّم صورة وجهي فحسّنها ، وجعلني من المسلمين » .
سادس عشر : الحمد إذا ركب دابّته ونحوها :
33 - حمد اللّه تعالى عند ركوب الدّابّة ونحوها مطلوب شرعاً ، لقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ولما روي عن عليّ بن ربيعة قال : « شهدت عليّاً أتي بدابّة ليركبها ، فلمّا وضع رجله في الرّكاب قال : بسم اللّه ثلاثاً ، فلمّا استوى على ظهرها قال : الحمد للّه ، ثمّ قال : { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ثمّ قال : الحمد للّه ثلاث مرّات ، ثمّ قال : اللّه أكبر ثلاث مرّات ، ثمّ قال : سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت . ثمّ ضحك ، فقيل : يا أمير المؤمنين من أيّ شيء ضحكت ؟ قال : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثمّ ضحك ، فقلت : يا رسول اللّه من أيّ شيء ضحكت ؟ قال : إنّ ربّك يعجب من عبده إذا قال اغفر لي ذنوبي يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب غيري » .
سابع عشر : الحمد لمن أكل أو شرب ، أو لبس جديدًا ، أو قام من المجلس ، أو خرج من الخلاء ، أو استيقظ من نومه ، أو أوى إلى فراشه ، أو سئل عن حاله أو حال غيره :
34 - الحمد مشروع لكلّ واحد من هؤلاء . وقد سبق بيان ذلك في ( تحميد ) .
ثامن عشر : فضل الحمد وأفضل ألفاظه :
35 - حمد اللّه تعالى مشروع في المواطن الّتي سبق ذكرها ، ومستحبّ في كلّ أمر ذي بال ، والحمد لا تكاد تحصى مواطنه فهو مطلوب على كلّ حال وفي كلّ موطن . إلاّ المواطن الّتي ينزّه الذّكر عنها . وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الحمد منها ما روى أبو هريرة وأبو سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال العبد لا إله إلاّ اللّه ، الحمد للّه ، قال : صدق عبدي ، الحمد لي » .
ومنها ما روى جابر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من قال سبحان اللّه وبحمده غرست له نخلة في الجنّة » . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي ، فقال : يا محمّد أقرئ أمّتك منّي السّلام ، وأخبرهم أنّ الجنّة طيّبة التّربة عذبة الماء ، وأنّها قيعان ، وأنّ غرسها : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر » .
ومنها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلمتان حبيبتان إلى الرّحمن خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان : سبحان اللّه وبحمده ، سبحان اللّه العظيم » ومنها ما روى أبو مالك الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الطّهور شطر الإيمان ، والحمد للّه تملأ الميزان ، وسبحان اللّه والحمد للّه تملآن - أو تملأ - ما بين السّموات والأرض » .(236/6)
ومنها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لأن أقول : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر ، أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشّمس » . ومنها ما روى أبو ذرّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ أحبّ الكلام إلى اللّه : سبحان اللّه وبحمده » .
36 - وأحسن العبارات في الحمد : الحمد للّه ربّ العالمين ، إذ هي فاتحة الكتاب العزيز ، وآخر دعوى أهل الجنّة ، وهي لكونها جملةً اسميّةً دالّةً على ثبوت ذلك للّه تعالى والدّوام له سبحانه وتعالى ، وهذا أبلغ من الجملة الفعليّة الدّالّة على التّجدّد والحدوث ، وهذا من حكم افتتاح الكتاب العزيز بذلك ، أي الإشارة إلى أنّه المحمود في الأزل وفيما لا يزال ، وفي قوله : ربّ العالمين - أي مربّيهم بنعمة الإيجاد ثمّ بنعمة التّنمية والإمداد - تحريض وحثّ على القيام بحمده وشكره في كلّ وقت وحين .
37 - ومجامع الحمد : الحمد للّه حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده ، قال النّوويّ : قال المتأخّرون من أصحابنا الخراسانيّين : لو حلف إنسان ليحمدن اللّه تعالى بمجامع الحمد ، ومنهم من قال بأجلّ التّحاميد ، فطريقه في برّ يمينه أن يقول : الحمد للّه حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده . " واحتجّوا لهذه المسألة بحديث منقطع ولذلك قال النّوويّ في الرّوضة : ليس لهذه المسألة دليل معتمد " وفي التّحفة : لو قيل : يبرّ بقوله " ربّنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك " لكان أقرب بل ينبغي أن يتعيّن لأنّه أبلغ معنًى وصحّ به الخبر » . قالوا : ولو حلف ليثنين على اللّه تعالى أحسن الثّناء فطريق البرّ أن يقول : لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، وزاد بعضهم في آخره : فلك الحمد حتّى ترضى ، وصوّر أبو سعد المتولّي المسألة فيمن حلف ليثنين على اللّه تعالى بأجلّ الثّناء وأعظمه .(236/7)
حمّام *
التّعريف :
1 - الحمّام مشدّداً والمستحمّ في الأصل الموضع الّذي يغتسل فيه بالحميم وهو الماء الحارّ ، ثمّ قيل للاغتسال بأيّ ماء كان " استحمام " .
والعرب تذكّر الحمّام وتؤنّثه ، والحمّاميّ صاحبه ، واستحمّ فلان : دخل الحمّام .
وفي الحديث : « لا يبولن أحدكم في مستحمّه ، ثمّ يتوضّأ فيه » .
ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
أحكام تتعلّق بالحمّام :
بناء الحمّام ، وبيعه ، وإجارته والكسب الحاصل منه :
2 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح من المذهب والمالكيّة والشّافعيّة إلى جواز بناء الحمّام للرّجال والنّساء ، إذا لم يكن فيه كشف العورة ، ويكره إذا كان فيه ذلك .
ويجوز أيضاً بيعه وشراؤه ، وإجارته وذلك لحاجة النّاس إليه . ويجوز أخذ أجرة الحمّام ، ولم تعتبر الجهالة في قدر المكث وغيره ، لتعارف النّاس ، وإجماع المسلمين من لدن الصّحابة والتّابعين ، لما ورد : « ما رأى المسلمون حسنًا فهو عند اللّه حسن » .
ولا فرق بين اتّخاذ الحمّام للرّجال والنّساء ، إذ الحاجة في حقّ النّساء أظهر ، لأنّهنّ يحتجن إلى الاغتسال عن الجنابة والحيض والنّفاس ، ولا يتمكّن من ذلك في الأنهار والحياض تمكّن الرّجال . وقال اللّخميّ من المالكيّة : إجارة الحمّام للنّساء على ثلاثة أوجه : جائزة إن كانت عادتهنّ ستر جميع الجسد ، وغير جائزة إذا كانت عادتهنّ عدم السّتر ، واختلف إذا كانت عادتهنّ الدّخول بالمآزر .
ويرى الحنابلة وهو قول بعض الحنفيّة : أنّ إجارة الحمّام وبيعه وشراءه مكروه .
قال أبو داود : سألت أحمد عن كري الحمّام ؟ قال : أخشى ، كأنّه كرهه . وقيل له : فإن اشترط على المكتري أن لا يدخله أحد بغير إزار ، فقال : ويضبط هذا ؟ وكأنّه لم يعجبه ، لما فيه من فعل المنكرات من كشف العورة ، والنّظر إليها ، ودخول النّساء إليه .
ولما روي عن عمارة بن عقبة أنّه قال : قدمت على عثمان بن عفّان فسألني عن مالي فأخبرته أنّ لي غلماناً وحمّاماً له غلّة : فكره له غلّة الحجّامين ، وغلّة الحمّام ، وقال : إنّه بيت الشّياطين ، « وسمّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شرّ بيت » .
وكسب الحمّاميّ مكروه ، وحمّاميّة النّساء أشدّ كراهةً . قال أحمد في الّذي يبني حمّاماً للنّساء : ليس بعدل ، وحمله ابن تيميّة على غير البلاد الباردة ، كما ذكر ابن عابدين نقلاً عن الزّيلعيّ : أنّ من العلماء من فصّل بين حمّام الرّجل وحمّام النّساء .
الشّفعة في الحمّام :
3 - لا تثبت الشّفعة في الحمّام الّذي لا يقبل القسمة عند جمهور الفقهاء ، لأنّ من أصلهم : أنّ الأخذ بالشّفعة لدفع ضرر القسمة ، وهذا لا يتحقّق فيما لا يحتملها وتثبت في الكبير الّذي يقبل القسمة بشرط أن يتأتّى الانتفاع بالمأخوذ بالشّفعة .
قال المحلّيّ : كلّ ما لو قسم بطلب منفعته المقصودة كحمّام ورحىً صغيرين لا شفعة فيه في الأصحّ . ومقابله عند الشّافعيّة - ومثله عند المالكيّة - ثبوت الشّفعة بناءً على أنّ العلّة دفع ضرر الشّركة فيما يدوم ، وكلّ من الضّررين حاصل قبل البيع ، ومن حقّ الرّاغب فيه من الشّريكين أن يخلّص صاحبه بالبيع له ، فإذا باع لغيره سلّطه الشّرع على أخذه منه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الشّفعة تثبت في الحمّام فيأخذه الشّفيع بقدره ، لأنّ الأخذ بالشّفعة عندهم لدفع ضرر التّأذّي بسوء المجاورة على الدّوام .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( شفعة ) .
قسمة الحمّام :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من شروط القسمة جبراً عدم فوت المنفعة المقصودة بالقسمة ، ولذا لا يقسم حمّام ونحوه عند عدم الرّضا ، أمّا عند رضا الجميع فتجوز قسمته ، لوجود التّراضي منهم بالتزام الضّرر ، فكلّ واحد ينتفع بنصيبه فيما شاء كأن يجعله بيتاً . وقيّد بعض الفقهاء عدم جواز قسمة الحمّام بأن يكون صغيراً .
ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح ( قسمة ) .
دخول الحمّام :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ دخول الحمّام مشروع للرّجال والنّساء .
وقد دخل خالد بن الوليد حمّام حمص ، ودخل ابن عبّاس حمّام الجحفة . وكان الحسن وابن سيرين يدخلان الحمّام . ولكنّه مقيّد بما إذا لم يكن فيه كشف العورة ، مع مراعاة ما يلي :
6 - إذا كان الدّاخل رجلًا فيباح له دخوله إذا أمن وقوع محرّم : بأن يسلم من النّظر إلى عورات النّاس ومسّها ، ويسلم من نظرهم إلى عورته ومسّها ، وإن خشي أن لا يسلم من ذلك كره له ذلك ، لأنّه لا يأمن وقوعه في المحظور ، فإنّ كشف العورة ومشاهدتها حرام ، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جدّه قال « : قلت : يا رسول اللّه ، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك . قال : قلت : يا رسول اللّه ، إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : إن استطعت أن لا يرينّها أحد فلا يرينّها . قال : قلت : يا رسول اللّه . إذا كان أحدنا خالياً . قال : اللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » . وأن يعلم أنّ كلّ من في الحمّام عليه إزار ، قال أحمد : إن علمت أنّ كلّ من في الحمّام عليه إزار فادخله ، وإلاّ فلا تدخل .
وقال سعيد بن جبير : دخول الحمّام بغير إزار حرام . لحديث جابر بن عبد اللّه : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام بغير إزار ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمّام » .(237/1)
وأيضاً روي « من دخل الحمّام بغير مئزر لعنه الملكان » قال ابن ناجي من المالكيّة : دخول الرّجل الحمّام على ثلاثة أوجه : الأوّل : دخوله مع زوجته ، أو وحده فمباح ، الثّاني : دخوله مع قوم لا يستترون فممنوع ، الثّالث : دخوله مع قوم مستترين فمكروه ، إذ لا يؤمن أن ينكشف بعضهم فيقع بصره على ما لا يحلّ . وقيل في هذا الوجه : إنّه جائز .
7- إذا كان الدّاخل امرأةً فيباح لها دخوله مع مراعاة ما سبق ، وبوجود عذر من حيض أو نفاس ، أو جنابة أو مرض ، أو حاجة إلى الغسل ، وأن لا يمكنها أن تغتسل في بيتها لخوفها من مرض أو ضرر ، لما روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إنّها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتًا يقال لها الحمّامات ، فلا يدخلنها الرّجال إلاّ بالأزر ، وامنعوها النّساء إلاّ مريضةً أو نفساء » .
ولخبر « ما من امرأة تضع أثيابها في غير بيت زوجها إلاّ هتكت السّتر بينها وبين ربّها » . ولأنّ أمر النّساء مبنيّ على المبالغة في السّتر ، ولما في خروجهنّ واجتماعهنّ من الفتنة . فإن لم يكن لها عذر كره لها دخول الحمّام .
وذكر ابن عابدين نقلاً عن إحكامات الأشباه : أنّ المعتمد أن لا كراهة مطلقاً ، ثمّ قال ابن عابدين : وفي زماننا لا شكّ في الكراهة لتحقّق كشف العورة .
وفي قول عند المالكيّة : إنّما منع دخولهنّ حين لم يكن لهنّ حمّامات منفردة ، فأمّا مع انفرادهنّ عن الرّجال فلا بأس ، وقال ابن الجوزيّ ، وابن تيميّة : إنّ المرأة إذا اعتادت الحمّام وشقّ عليها تركت دخوله إلاّ لعذر أنّه يجوز لها دخوله .
دخول الذّمّيّة الحمّام مع المسلمات :
8 - يرى جمهور الفقهاء خلافًا للحنابلة في المعتمد أنّ للمرأة المسلمة إذا كانت في الحمّام مع النّساء المسلمات أن تكشف عن بدنها ما ليس بعورة بالنّسبة إلى النّساء المسلمات ، وهو ما عدا ما بين السّرّة والرّكبة .
وعند بعض الفقهاء يجب عليها في الحمّام أن تستر جميع بدنها لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أيّما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ستر ما بينها وبين اللّه » . أمّا الذّمّيّة فليس لها عند الجمهور أن تنظر من المسلمة إلاّ ما يراه الرّجل الأجنبيّ منها ، ولهذا نصّ الشّافعيّة على أنّ المرأة الذّمّيّة تمنع من دخول الحمّام مع النّساء ، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجرّاح أنّه بلغني أنّ نساء أهل الذّمّة يدخلن الحمّامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك . وحل دونه فإنّه لا يجوز أن ترى الذّمّيّة عريّة المسلمة . وقال ابن عبّاس : لا يحلّ للمسلمة أن تراها يهوديّة أو نصرانيّة لئلاّ تصفها لزوجها .
آداب الدّخول إلى الحمّام والخروج منه :
9 - من آدابه : - أن يسلّم الأجرة أوّلًا أي قبل دخوله ، ذكر هذا الشّافعيّة .
- وأن يقصد بدخوله التّنظيف والتّطهير لا التّرفّه والتّنعّم .
- وأن يقدّم رجله اليسرى في دخوله ، واليمنى في خروجه .
- ويقصد موضعًا خاليًا ، لأنّه أبعد من أن يقع في محظور .
- ويقلّل الالتفات تجنّبًا لرؤية عورة .
- ولا يكثر الكلام ، ويتحيّن بدخوله وقت الفراغ أو الخلوة إن قدر على ذلك .
- ولا يطيل المقام ، ويمكث فيه مكثاً متعارفاً ، وأن يصبّ صبّاً متعارفاً من غير إسراف .
طهارة ماء الحمّام :
10 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يجزئ الغسل والوضوء بماء الحمّام ، ويجعل بمنزلة الماء الجاري ، لأنّ الأصل الطّهارة فلا تزول بالشّكّ .
وصرّح الحنفيّة بأنّ من أدخل يده في حوض الحمّام وعليها نجاسة ، فإن كان الماء ساكناً لا يدخل فيه شيء من الأنبوب ، ولا يغترف النّاس بالقصعة ، يتنجّس ماء الحوض ، وإن كانوا يغترفون من الحوض ، بقصاعهم ، ولا يدخل من الأنبوب ماء أو على العكس اختلفوا فيه ، وأكثرهم على أنّه ينجّس ماء الحوض .
وإن كان النّاس يغترفون بقصاعهم ، ويدخل الماء من الأنبوب ، اختلفوا فيه : وأكثرهم على أنّه لا ينجّس . وأمّا الماء الّذي صبّ على وجه الحمّام ( أي أرضه ) فالأصحّ أنّ ذلك الماء طاهر ما لم يعلم أنّ فيه خبثاً ، حتّى لو خرج إنسان من الحمّام وقد أدخل رجليه في ذلك الماء ، ولم يغسلهما بعد الخروج وصلّى جاز .
وإذا تنجّس حوض الحمّام فدخل فيه الماء فقد صرّح الحنفيّة أنّه لا يطهر ما لم يخرج منه مثل ما كان فيه ثلاث مرّات ، وقال بعضهم : إذا خرج منه مثل ما كان فيه مرّةً واحدةً يطهر ، لغلبة الماء الجاري عليه ، والأوّل أحوط .
السّلام في الحمّام :
11 - لا يستحبّ أن يسلّم على من في الحمّام لأنّ أحواله لا تناسب ذلك ، وإذا سلّم عليه فلا يجب الرّدّ ، وقيل : لا يردّ . وقال أحمد : لا أعلم أنّني سمعت فيه شيئاً ، ويرى بعض الحنابلة أنّ الأولى جوازه من غير كراهة ، لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أفشوا السّلام بينكم » ولأنّه لم يرد فيه نصّ ، والأصل في الأشياء الإباحة .
قراءة القرآن والذكر في الحمّام :
12 - ذهب الحنفيّة ، والحنابلة إلى أنّ قراءة القرآن في الحمّام تكره ، لأنه محل لكشف العورة ، ويفعل فيه مالا يحسن في غيره ، فيصان القرآن عنه .
إلا أنّ الحنفيّة قيدوا الكراهة برفع الصّوت ، فإن لم يرفع لا يكره وهو المختار عندهم ، وحكى ابن عقيل الكراهية عن علي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ، وبه قال أبو وائل ، والشعبي ومكحول ، وقبيصة بن ذؤيب ، وأما إذا قرأ القرآن خارج الحمّام في موضع ليس فيه غسالة الناس نحو مجلس الحمّامي والثيابي فقال أبو حنيفة : لا يكره. ويكره عند محمد.(237/2)
ويرى المالكية والشّافعية عدم كراهية قراءة القرآن في الحمّام وبه قال النخعي .
13 - وأمّا الذّكر والتّسبيح في الحمّام فلا بأس للمستتر فيه ، فإنّ ذكر اللّه حسن في كلّ مكان ما لم يرد المنع منه ، ولما روي أنّ أبا هريرة رضي الله عنه دخل الحمّام فقال : لا إله إلاّ اللّه . وروي عن النّبيّ « أنّه كان يذكر اللّه على كلّ أحيانه » .
الصّلاة في الحمّام وعليه وإليه :
14 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية إلى أنّ الصّلاة في الحمّام صحيحة ما لم يكن نجساً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» وفي لفظ : « أينما أدركتك الصّلاة فصلّ فهو مسجد » .
ولأنّه موضع طاهر فصحّت الصّلاة فيه كالصّحراء .
ويرى الحنابلة في رواية أخرى وهي المعتمد عندهم أنّ الصّلاة في الحمّام لا تصحّ بحال ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « الأرض كلّها مسجد إلاّ الحمّام والمقبرة » ، ولأنّه مظنّة النّجاسات ، فعلّق الحكم عليه دون حقيقته . ويصلّى فيه لعذر ، كأن حبس فيه ، ولم يمكنه الخروج ، ثمّ لا يعيد صلاته ولو زال العذر في الوقت وخرج منها ، لصحّة صلاته . ولا فرق عندهم في الحمّام بين مكان الغسل وصبّ الماء وبين البيت الّذي تنزع فيه الثّياب والأتون ، وكلّ ما يغلق عليه باب الحمّام ، لتناول الاسم له .
وعلى هذا الخلاف الصّلاة على سطح الحمّام ، لأنّ الهواء تابع للقرار فيثبت فيه حكمه .
15 - وفي الصّلاة إلى الحمّام قال محمّد : أكره أن تكون قبلة المسجد إلى الحمّام ، ثمّ تكلّم فقهاء الحنفيّة في معنى قول محمّد هذا فقال بعضهم : ليس المراد به حائط الحمّام ، وإنّما المراد به المحمّ وهو الموضع الّذي يصبّ فيه الحميم ، وهو الماء الحارّ ، لأنّ ذلك موضع الأنجاس . واستقبال الأنجاس في الصّلاة مكروه .
وأمّا إن استقبل حائط الحمّام فلم يستقبل الأنجاس وإنّما استقبل الحجر والمدر ، فلا يكره .
قطع من سرق من حمّام :
16 - فرّق الحنفيّة بين اللّيل والنّهار : فإذا سرق من الحمّام ليلًا قطع ، لأنّه بني للحرز ، وإذا سرق منه نهاراً لا يقطع ، وإن كان صاحبه عنده ، لأنّه مأذون بالدّخول فيه نهارًا ، فاختلّ الحرز ، وما اعتاد النّاس من دخول الحمّام بعض اللّيل فهو كالنّهار .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ من سرق من حمّام نصابًا من آلاته أو من ثياب الدّاخلين يقطع : إن كان دخله للسّرقة لا للاستحمام ، أو نقب حائطه ودخل من النّقب أو تسوّر وسرق منه سواء كان للحمّام حارس أم لا .
أمّا إن سرق الحمّام من بابه أو دخله مغتسلاً فسرق لم يقطع لأنّه خائن .
وعند الحنابلة يقطع سارق الحمّام إن كان للمتاع حافظ ، سواء كان صاحب الثّياب المسروقة أو غيره . فإن لم يكن لها حافظ فلا يقطع ، لأنّه مأذون للنّاس في دخوله ، فجرى مجرى سرقة الضّيف من البيت المأذون له في دخوله . وإليه ذهب إسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر لأنّه متاع له حافظ . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( سرقة ) .(237/3)
حوقلة *
التّعريف :
1 - من معاني الحوقلة في اللّغة : سرعة المشي ، ومقاربة الخطو .
وأمّا في العرف فهي : قول : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، كما عبّر عنها الأزهريّ والأكثرون ، قال ابن السّكّيت : يقال : قد أكثرت من الحولقة : إذا أكثرت من قول : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . وقال الجوهريّ : الحولقة لا الحوقلة ، واختاره الحريريّ .
فعلى الأوّل " الحوقلة " وهو المشهور : الحاء والواو من الحول . والقاف من القوّة ، واللّام من اسم اللّه تعالى . قال الإسنويّ : وهذا أحسن ، لتضمينه جميع الألفاظ .
وعلى الثّاني : " الحولقة " الحاء واللّام من الحول ، والقاف من القوّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحيعلة :
1 م - الحيعلة قول حيّ على الصّلاة ، أو حيّ على الفلاح والبسملة قول بسم اللّه ، والحمدلة قول الحمد للّه ، والهيللة قول لا إله إلاّ اللّه ، والسّبحلة قول سبحان اللّه .
معنى الحوقلة :
2 - قال النّوويّ في شرح مسلم : قال أبو الهيثم : الحول : الحركة من حال الشّيء إذا تحرّك ، أي لا حركة ولا استطاعة إلاّ بمشيئة اللّه ، وبه قال ثعلب وآخرون .
وقال ابن مسعود : معناه : لا حول عن معصية اللّه إلاّ بعصمته ، ولا قوّة على طاعته إلاّ بمعونته ، قال الخطّابيّ : هذا أحسن ما جاء فيه .
وفي أسنى المطالب : لا حول لي عن المعصية ، ولا قوّة لي على ما دعوتني إليه إلاّ بك .
أحكام الحوقلة :
أ - عند سماع المؤذّن :
3 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة كما قال الأمير ، بأنّه يستحبّ لسامع الآذان أن يحوقل عند قول المؤذّن : حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، أي أن يقول : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .
والقول الآخر المشهور للمالكيّة ، أنّه لا يحوقل ولا يحكي عند الحيعلتين .
وقد روى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال المؤذّن : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، فقال أحدكم : اللّه أكبر ، اللّه أكبر . ثمّ قال : حيّ على الصّلاة فقال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، ثمّ قال : حيّ على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، مخلصاً من قلبه ، دخل الجنّة » رواه مسلم .
فهذا الحديث مقيّد لإطلاق حديث أبي سعيد الخدريّ الّذي جاء فيه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا سمعتم النّداء فقولوا مثل ما يقول المؤذّن » . متّفق عليه .
ولأنّ المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السّامع بالحوقلة ، فإنّه لمّا دعي إلى ما فيه الفوز والفلاح والنّجاة ، وإصابة الخير ، ناسب أن يقول : هذا أمر عظيم ، لا أستطيع مع ضعفي القيام به ، إلاّ إذا وفّقني اللّه بحوله وقوّته ، ولأنّ ألفاظ الأذان ذكر اللّه ، فناسب أن يجيب بها ، إذ هو ذكر اللّه تعالى ، وأمّا الحيعلة فإنّما هي دعاء إلى الصّلاة ، والّذي يدعو إليها هو المؤذّن ، وأمّا السّامع فإنّما عليه الامتثال والإقبال على ما دعي إليه ، وإجابته في ذكر اللّه لا فيما عداه . وقيل يجمع السّامع بين الحيعلتين والحوقلة عملاً بالحديثين .
ويرى الخرقيّ من الحنابلة أنّه يستحبّ لمن سمع المؤذّن أن يقول كما يقول ، واستدلّ في ذلك بظاهر ما رواه أبو سعيد الخدريّ السّابق ذكره .
وصرّح في المجموع أنّه يحوقل أربعةً ، ونقل عن ابن الرّفعة أنّه يحوقل مرّتين .
وكذلك بالنّسبة للمقيم فقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أن يستحبّ أن يقول في الإقامة: مثل ما يقول في الأذان ، لما روى أبو داود بإسناده عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّ بلالاً أخذ في الإقامة ، فلمّا أن قال : قد قامت الصّلاة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أقامها اللّه وأدامها » وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان .
ب - الحوقلة في الصّلاة :
4 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المصلّي لو حوقل في الصّلاة لأمور الدّنيا تفسد الصّلاة ، وإن كان لأمور الآخرة ، أو لدفع الوسوسة لا تفسد .
ويرى المالكيّة أنّه إن قالها في الصّلاة لحاجة فلا حرج .
والمتبادر من كلام الشّافعيّة - وكذا الحنابلة - أنّ الحوقلة في الصّلاة غير مبطلة إذا قصد بها الذّكر ، لأنّ الأذكار والتّسبيحات والأدعية بالعربيّة لا يضرّ عندهم سواء المسنون وغيره.
موارد ذكر الحوقلة :
5 - الحوقلة من الأذكار الّتي ورد ذكرها في مواضع كثيرة منها : إذا وقع الشّخص في هلكة ، أو إذا مرض ، أو أعجبه شيء وخاف أن يصيبه بعينه .
وإذا تطيّر بشيء وأثناء خروجه من بيته ، وإذا استيقظ من اللّيل ، وإذا استيقظ في اللّيل وأراد النّوم بعده ، وبعد كلّ صلاة ففي جميع هذه الحالات وغيرها ورد ذكر الحوقلة ضمن أدعية أخرى ، ذكرها الإمام النّوويّ في كتابه الأذكار ، مستدلّاً بالأحاديث النّبويّة الشّريفة ، وكذلك ورد ذكر الحوقلة ضمن أذكار الصّباح والمساء وضمن دعوات مستحبّة في جميع الأوقاف غير مختصّة بوقت ، أو حال مخصوص .
كما روي عن أبي موسى الأشعريّ قال : « قال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ألا أدلّك على كنز من كنوز الجنّة ؟ فقلت : بلى يا رسول اللّه ، قال : قل : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه » .(238/1)
حوْل *
التّعريف :
1 - الحول في اللّغة : السّنة ، ويأتي بمعنى القوّة والتّغيّر ، والانقلاب ، وبمعنى الإقامة ، والحول من حال الشّيء حولاً : إذا دار . وسمّيت السّنة حولاً لانقلابها ودوران الشّمس في مطالعها ، ومغاربها ، وهو تسمية بالمصدر ، والجمع : أحوال ، وحؤول ، وحوول ، بالهمزة، وبغير الهمزة ، والحوليّ : كلّ ما أتى عليه حول من ذي حافر وغيره .
يقال جمل حوليّ ، ونبت حوليّ . وأحول الصّبيّ ، فهو محول : أتى عليه حول من مولده . والاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن هذا المعنى .
الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بالحول :
أ - الحول في الزّكاة :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحول شرط لوجوب الزّكاة في نصاب السّائمة من بهيمة الأنعام ، وفي الأثمان ، وهي الذّهب ، والفضّة ، وفي عروض التّجارة لحديث : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » . قالوا : لأنّ هذه الأموال مرصدة للنّماء ، فالماشية مرصدة للدّرّ والنّسل ، وعروض التّجارة مرصدة للرّبح وكذا الأثمان ، فاعتبر في الكلّ الحول ، لأنّ النّماء شرط لوجوب الزّكاة في المال ، وهو لا يحصل إلاّ بالاستنماء ، ولا بدّ لذلك من مدّة ، وأقلّ مدّة يستنمى المال فيها بالتّجارة والإسامة عادةً : الحول ، فصار مظنّة النّماء فاعتبر في وجوب الزّكاة ، وإنّما لم يعتبر حقيقة النّماء ، لأنّه غير منضبط ، ولكثرة اختلافه ، وكلّ ما اعتبر مظنّته ، لم يلتفت إلى حقيقته كالحكم مع الأسباب . ولأنّ الزّكاة في هذه الأموال تتكرّر فلا بدّ من ضابط كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزّمن الواحد مرّات فينفد مال المالك . أمّا الزّرع والثّمار فلا يشترط فيها حول لقوله تعالى : { وآتُوا حَقَّهُ يَومَ حَصَادِهِ } .
ولأنّها نماء بنفسها متكاملة عند إخراج الزّكاة منها ، فتؤخذ زكاتها حينئذ ، ثمّ تأخذ في النّقص لا في النّماء ، فلا تجب فيها زكاة ثانية ، لعدم إرصادها للنّماء .
والمعدن المستخرج من الأرض كالزّرع لا يشترط فيه حول فيما يجب فيه من زكاة أو خمس باتّفاق الفقهاء . فيؤخذ زكاته عند حصوله ، قالوا : إلاّ أنّه إن كان من جنس الأثمان ففيه الزّكاة عند كلّ حول ، لأنّه مظنّة النّماء من حيث إنّ الأثمان قيم الأموال ، ورأس مال التّجارة ، وبها تحصل المضاربة والشّركة . والتّفصيل ، في مصطلحات ( زكاة ، ركاز ، معدن ) .
ابتداء الحول :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إن ملك نصابًا من مال الزّكاة ممّا يعتبر له الحول ، ولا مال له سواه : انعقد حوله من حين حصول الملك باتّفاق الفقهاء .
وإن كان له مال لا يبلغ نصاباً ، فملك مالاً آخر بلغ به نصاباً ، ابتدأ الحول من حين بلوغ النّصاب . وإن كان عنده نصاب فاستفاد في خلال الحول مالاً من جنس ما عنده ، فإن كان المستفاد من نماء ما عنده كربح التّجارة ، ونتاج السّائمة فإنّه يضمّ في الحول إلى ما عنده من أصله ، فيزكّى بحول الأصل باتّفاق الفقهاء ، لأنّه متولّد من ماله فيتبعه في الحول ، ولأنّه ملك بملك الأصل وتولّد منه فيتبعه في الحول . أمّا إذا استفاد بعد الحول والتّمكّن من أداء الزّكاة من الأصل لم يضمّ في الحول الأوّل ويضمّ في الحول الثّاني .
وإن كان المستفاد من جنس ما عنده ، ولم يكن من نمائه كالمشترى ، والمتّهب والموصى به فقد اختلف الفقهاء في ضمّه إلى الأصل في الحول .
فذهب الحنفيّة إلى أنّه يضمّ إلى ما عنده في الحول فيزكّي بحول الأصل عيناً كان أو ماشيةً . وقالوا : إنّ عمومات الزّكاة تقتضي الوجوب مطلقًا عن شرط الحول إلاّ ما خصّ بدليل ، ولأنّ المستفاد من جنس الأصل تبع له ، لأنّه زيادة عليه ، إذ الأصل يزداد به .
والزّيادة تبع للمزيد عليه ، والتّبع لا ينفرد بالشّرط كما لا ينفرد بالسّبب لئلاّ ينقلب التّبع أصلاً ، فتجب فيه الزّكاة بحول الأصل .
وقال المالكيّة : لا يضمّ إلى الأصل في الحول إن كان المال عيناً ، أمّا إن كان ماشيةً فيضمّ . وقال الشّافعيّة ، والحنابلة : لا يضمّ الثّانية إلى الأولى ، بل ينعقد لها حول بسبب مستقلّ . لخبر : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » .
والمستفاد مال لم يحل عليه الحول فلا زكاة فيه . ولأنّ المستفاد ملك بملك جديد فليس مملوكاً بما ملك به ما عنده ، ولا تفرّع عنه ، فلم يضمّ إليه في الحول .
وإن كان المستفاد من غير جنس ما عنده ، كأن تكون عنده أربعون من الغنم ، فاستفاد في الحول خمساً من الإبل ، فللمستفاد حكم نفسه ، ولا يضمّ إلى ما عنده في الحول ، بل إن كان نصاباً استقبل به حولاً ، وإلاّ فلا شيء عليه عند جمهور الفقهاء .
ما يقطع حكم الحول :
4 - مذهب الجمهور من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة - من غير عروض التّجارة - أنّه يشترط في وجوب الزّكاة وجود النّصاب في جميع الحول ، فإن نقص في أثناء الحول انقطع الحول . أمّا في عروض التّجارة فإن نقص في أثناء الحول انقطع الحول عند الحنابلة ، وفي قول عند الشّافعيّة .
ولا ينقطع عند المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر عندهم ، وقول زفر من الحنفيّة بل الشّرط وجود النّصاب في آخر الحول فقط ،إذ هو حال الوجوب فلا يعتبر غيره لكثرة اضطراب القيم. وللشّافعيّة قول ثالث في عروض التّجارة : إنّ المعتبر طرفا الحول ، كغير عروض التّجارة . ولا يعتبر ما بينهما إذ تقويم العروض في كلّ لحظة يشقّ ويحوج إلى ملازمة السّوق ومراقبة دائمة .(239/1)
وقال الحنفيّة : يشترط وجود النّصاب ، في أوّل الحول وفي آخره ، حتّى لو انتقص النّصاب في أثناء الحول ثمّ كمل في آخره تجب الزّكاة ، سواء أكان من السّوائم أو من الذّهب ، والفضّة ، أو مال التّجارة . أمّا إذا هلك كلّه في أثناء الحول ، ينقطع الحول عند الجميع .
استبدال مال الزّكاة في الحول بمثله :
5 - إذا باع نصابًا للزّكاة ممّا يعتبر فيه الحول بجنسه كالإبل بالإبل ، أو البقر بالبقر ، أو الغنم بالغنم ، أو الثّمن بالثّمن لم ينقطع الحول ، وبنى حول الثّاني على حول الأوّل ، وإلى هذا ذهب المالكيّة والحنابلة وقالوا : إنّه نصاب يضمّ إليه نماؤه في الحول ، فيبنى حول بدله من جنسه على حوله كالعروض ، وحديث : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » مخصوص بالنّماء والرّبح ، وعروض التّجارة ، فتقيس عليه محلّ النّزاع .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، إلى أنّ الحول الأوّل ينقطع فيستأنف كلّ من المتبايعين الحول على ما أخذه من حين المبادلة في السّائمة .
أمّا الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة فكذلك عند الشّافعيّة يستأنف الحول إن لم يكن صيرفيّاً يبدّلها للتّجارة ، وكذا إن كان صيرفيّاً على الأصحّ .
وقال الحنفيّة : إنّ استبدال الدّنانير بالدّنانير ، أو بالدّراهم ، لا يقطع الحول . قالوا : لأنّ الوجوب في الدّراهم والدّنانير متعلّق بالمعنى لا بالعين ، والمعنى قائم بعد الاستبدال فلا يبطل حكم الحول كعروض التّجارة ، بخلاف السّائمة ، لأنّ الحكم فيها متعلّق بالعين ، وقد تبدّلت العين ، فبطل الحول على الأوّل ، فيستأنف للثّاني حولاً . والتّفصيل في باب ( الزّكاة ) .
أمّا إذا استبدل نصاب الزّكاة بغير جنسه ، بأن يبيع نصاب السّائمة بدنانير أو بدراهم ، أو بادل الإبل ببقر ، أو غنم ، في خلال الحول ، فإنّ حكم الحول ينقطع ويستأنف حولاً آخر باتّفاق الفقهاء .
هذا إذا لم يفعل ذلك فراراً من الزّكاة ، أمّا إذا فعل ذلك فراراً منها ، لم تسقط الزّكاة ، وتؤخذ في آخر الحول إذا كان الإبدال عند قرب الوجوب ، وإلى هذا ذهب المالكيّة والحنابلة ، وقالوا : إنّه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه ، فلم يسقط كما لو طلّق امرأته في مرض موته ، ولأنّه قصد قصدًا فاسداً فاقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده .
وقال الحنفيّة والشّافعيّة : لا فرق في انقطاع الحول بالمبادلة في أثناء الحول بين من يفعله محتاجًا إليه ، وبين من قصد الفرار من الزّكاة ، وفي الصّورتين ينقطع الحول . هذا في المبادلة الصّحيحة . أمّا المبادلة الفاسدة فلا تقطع الحول ، وإن اتّصلت بالقبض ويبنى على الحول الأوّل ، لأنّها لا تزيل الملك .
وإن باع النّصاب قبل تمام الحول ، وردّت عليه بعيب أو إقالة ، استأنف الحول من حين الرّدّ لانقطاع الحول الأوّل بالبيع ، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وقال المالكيّة : يبني على الحول الأوّل . والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ) .
علف السّائمة في خلال الحول :
6 - يرى جمهور الفقهاء أنّه إذا أعلف السّائمة في معظم الحول ينقطع الحول .
وقال المالكيّة لا يقطع الحول ، بناءً على ما ذهبوا إليه من عدم اشتراط السّوم في وجوب الزّكاة على بهيمة الأنعام . والتّفصيل في باب ( زكاة ) .
الحول في مدّة الرّضاع :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مدّة الرّضاع حولان كاملان ، وبناءً على ذلك فإنّ فطام الصّبيّ قبل تمام الحولين حقّ للأبوين معاً ، بشرط عدم الإضرار بالرّضيع وليس لأحدهما الاستقلال بالفطام قبل تمام الحولين لقوله تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
والتّفاصيل في مصطلحي ( رضاع ، وحضانة ) .
اشتراط الحولين في الرّضاع المؤثّر في التّحريم :
8 - اختلف الفقهاء في تحديد مدّة الرّضاع المؤثّر في تحريم النّكاح وثبوت المحرميّة المفيدة لجواز النّظر والخلوة : فقال الشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان : أبو يوسف ، ومحمّد : يشترط ألاّ يبلغ المرتضع حولين ، فمتى بلغ حولين فلا أثر لارتضاعه . لخبر : « لا رضاع إلاّ ما فتق الأمعاء ، وكان قبل حولين » . وقال المالكيّة : لا يضرّ زيادة شهرين .
وقال أبو حنيفة : هو حولان ، ونصف . والتّفصيل في مصطلح : ( رضاع ) .(239/2)
حيض *
التّعريف :
1 - الحيض لغةً مصدر حاض ، يقال حاض السّيل إذا فاض ، وحاضت السّمرة إذا سال صمغها ، وحاضت المرأة : سال دمها .
والمرأة حيضة ، والجمع حيض ، والقياس حيضات . والحياض : دم الحيضة .
والحيضة بالكسر : الاسم ، وخرقة الحيض ، هي الخرقة الّتي تستثفر بها المرأة .
وكذلك المحيضة ، والجمع المحايض . وفي حديث بئر بضاعة : « تلقى فيها المحايض » . والمرأة حائض ، لأنّه وصف خاصّ . وجاء حائضة أيضاً بناءً له على حاضت ، وجمع الحائض حيّض وحوائض ، وجمع الحائضة حائضات .
وتحيّضت المرأة قعدت عن الصّلاة أيّام حيضها . وللحيض في الاصطلاح تعريفات كثيرة ، وهي متقاربة في الغالب . وفيما يلي المشهور منها في كلّ مذهب .
فقد عرّفه صاحب الكنز من الحنفيّة بقوله : هو دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر.
وقال ابن عرفة من المالكيّة : الحيض دم يلقيه رحم معتاد حملها دون ولادة .
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : دم جبلّة يخرج من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصّحّة من غير سبب في أوقات معلومة .
وقال الحنابلة : دم طبيعة يخرج مع الصّحّة من غير سبب ولادة من قعر الرّحم يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة . وللحيض أسماء منها : الطّمث ، والعراك ، والنّفاس .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الطّهر :
2 - الطّهر لغةً : النّقاء من الدّنس والنّجس فهو نقيض النّجاسة ونقيض الحيض والجمع أطهار . وطهرت المرأة ، وهي طاهر : انقطع عنها الدّم ورأت الطّهر ، فإذا اغتسلت قيل : تطهّرت واطّهرت . والمرأة طاهر من الحيض ، وطاهرة من النّجاسة ومن العيوب .
والطّهر شرعاً خلاف الحيض . قال البركويّ : الطّهر المطلق ما لا يكون حيضاً ولا نفاساً . فالطّهر في باب الحيض أخصّ من الطّهر في اللّغة .
ب - القرء :
3 - القرء والقرء : الحيض ، والطّهر ، فهو من الأضداد . والجمع أقراء وقروء وأقرؤ وهو في الأصل اسم للوقت . قال الشّافعيّ : القرء اسم للوقت . فلمّا كان الحيض يجيء لوقت ، والطّهر يجيء لوقت ، جاز أن يكون الأقراء حيضاً وأطهاراً .
والقرء عند أهل الحجاز الطّهر . وعند أهل العراق الحيض .
ج - الاستحاضة :
4 - الاستحاضة استفعال من الحيض ، وهي لغةً : أن يستمرّ بالمرأة خروج الدّم بعد أيّام حيضها المعتاد ، يقال : استحيضت المرأة أي استمرّ بها الدّم بعد أيّامها ، فهي مستحاضة . وشرعاً : سيلان الدّم في غير أوقاته المعتادة من مرض ، وفساد من عرق يسمّى " العاذل . قال البركويّ في رسالة الحيض : الاستحاضة : دم ولو حكماً - ليدخل الألوان - خارج من فرج داخل لا عن رحم ، قال ابن عابدين : وعلامته أن لا رائحة له ، ودم الحيض منتن الرّائحة . ويسمّون دم الاستحاضة دماً فاسداً ، ودم الحيض دماً صحيحاً .
د - النّفاس :
5 - النّفاس لغةً : ولادة المرأة إذا وضعت ، فهي نفساء ، ونفست المرأة ، ونفست بالكسر، نفاساً ونفاسةً ونفاساً ولدت فهي نفساء ونفساء ونفساء .
قال ثعلب : النّفساء الوالدة والحامل والحائض . يقال : نفست المرأة تنفس ، بالفتح : إذا حاضت . ومنه حديث « أمّ سلمة قالت : بينا أنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم مضطجعة في خميصة إذ حضت ، فانسللت ، فأخذت ثياب حيضتي ، قال : أنفست ؟ أراد : أحضت ؟ » ونقل عن الأصمعيّ نفست بالبناء للمفعول أيضاً . قال صاحب المصباح : وليس بمشهور في الكتب في الحيض ، ولا يقال في الحيض ، نفست بالبناء للمفعول .
والنّفاس شرعاً : هو الدّم الخارج عقب الولد . وقال المالكيّة والحنابلة : هو الدّم الخارج بسبب الولادة . قال النّوويّ : النّفاس ، عند الفقهاء الدّم الخارج بعد الولد .
وأمّا أهل اللّغة فقالوا : النّفاس الولادة . فالمعنى الشّرعيّ مغاير للمعنى اللّغويّ . كما أنّ النّفاس بمعنى الحيض هو تعريف لغويّ لا شرعيّ . فالحيض والنّفاس مختلفان في المفهوم.
الحكم التّكليفيّ لتعلّم أحكام الحيض :
5 م - يجب على المرأة تعلّم ما تحتاج إليه من أحكام الحيض . وعلى زوجها أو وليّها أن يعلّمها ما تحتاج إليه منها إن علم ، وإلاّ أذن لها بالخروج لسؤال العلماء ، ويحرم عليه منعها إلاّ أن يسأل هو ويخبرها فتستغني بذلك . ولها أن تخرج بغير إذنه إن لم يأذن لها . وهو من علم الحال المتّفق على فرضيّة تعلّمه .
قال ابن نجيم : ومعرفة مسائله من أعظم المهمّات لما يترتّب عليها ممّا لا يحصى من الأحكام ، كالطّهارة ، والصّلاة ، وقراءة القرآن ، والصّوم والاعتكاف ، والحجّ ، والبلوغ ، والوطء ، والطّلاق والعدّة والاستبراء وغير ذلك من الأحكام . وكان من أعظم الواجبات ، لأنّ عظم منزلة العلم بالشّيء بحسب منزلة ضرر الجهل به ، وضرر الجهل بمسائل الحيض أشدّ من ضرر الجهل بغيرها فيجب الاعتناء بمعرفتها .
أثر الحيض على الأهليّة :
6 - صرّح الأصوليّون بأنّ الحيض لا يعدم أهليّة الوجوب ، ولا أهليّة الأداء ، لعدم إخلاله بالذّمّة ، ولا بالعقل ، والتّمييز ، وقدرة البدن . فالمرأة الحائض كاملة الأهليّة ، وإن كان الشّارع قد رتّب على الحيض بعض الأحكام الخاصّة الّتي تتناسب وحالة المرأة
ركن الحيض :(240/1)
7 - صرّح فقهاء الحنفيّة بأنّ للحيض ركناً ، وهو بروز الدّم من الرّحم ، أي ظهور الدّم بأن يخرج من الفرج الدّاخل إلى الفرج الخارج ، فلو نزل إلى الفرج الدّاخل فليس بحيض وبه يفتى . وعن محمّد يكفي الإحساس به . فلو أحسّت به في رمضان قبيل الغروب ، ثمّ خرج بعده تقضي صوم اليوم عنده ، لا عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وكذا إذا حاذى الدّم حرف الفرج الدّاخل ولم ينفصل عنه ثبت به الحيض . أمّا إذا أحسّت بنزوله ، ولم يظهر إلى حرف المخرج فليس له حكم الحيض حتّى لو منعت ظهوره بالشّدّ والاحتشاء .
وما صرّح به الحنفيّة لا يأباه فقهاء المذاهب الأخرى حيث إنّهم يعرّفون الحيض بأنّه : دم يخرج ... لكن نصّ الحنابلة على أنّه يثبت بانتقال الحيض ما يثبت بخروجه .
شروط الحيض :
8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ليس كلّ دم يخرج من المرأة يكون حيضاً ، بل لا بدّ من شروط تتحقّق فيه حتّى يكون الدّم الخارج حيضاً ، وتترتّب عليه أحكام الحائض ، وهذه الشّروط هي :
أ - أن يكون من رحم امرأة لا داء بها . فالخارج من الدّبر ليس بحيض ، وكذا الخارج من رحم البالغة بسبب داء يقتضي خروج دم بسببه . وقد زاد الحنفيّة والحنابلة على هذا الشّرط كلمة " ولا حبل " حيث إنّ الحامل عندهم لا تحيض .
ب - ألا يكون بسبب الولادة ، فالخارج بسبب الولادة دم نفاس لا حيض .
ج - أن يتقدّمه نصاب الطّهر ولو حكماً . ونصاب الطّهر مختلف فيه فهو خمسة عشر يوماً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وثلاثة عشر يوماً عند الحنابلة ، وهو أقلّ مدّة فاصلة بين حيضتين أي يجب أن تكون المرأة قبله طاهرةً خمسة عشر يوماً فأكثر عند الجمهور ، وثلاثة عشر يوماً عند الحنابلة حتّى يعتبر الدّم بعده حيضاً ، ولو كان هذا الطّهر حكميّاً ، كما إذا كانت المرأة بين الحيضتين مشغولةً بدم الاستحاضة فإنّها طاهرة حكماً .
د - ألاّ ينقص الدّم عن أقلّ الحيض ، حيث إنّ للحيض مدّةً لا ينقص عنها ، فإذا نقص علمنا أنّه ليس بدم حيض . هذا على مذهب الجمهور ، وعند المالكيّة لا حدّ لأقلّه بالزّمان ، وأقلّه دفعة بالمقدار وسيأتي تفصيل ذلك .
هـ - أن يكون في أوانه ، وهو تسع سنين قمريّة ، فمتى رأت دماً قبل بلوغ تلك السّنّ لم يكن حيضاً ، وإذا رأت دما بعد سنّ الإياس لم يكن حيضاً أيضاً .
ألوان دم الحيض :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّفرة والكدرة في أيّام الحيض حيض ، لأنّه الأصل فيما تراه المرأة في زمن الإمكان ، ولأنّ عائشة رضي الله عنها كان النّساء يبعثن إليها بالدّرجة فيها الكرسف فيه الصّفرة والكدرة : فتقول لهنّ : « لا تعجلن حتّى ترين القصّة البيضاء » .
تريد بذلك الطّهر من الحيض .
والصّفرة والكدرة : هما شيء كالصّديد . قال الرّمليّ : وهما ليس من ألوان الدّم ، وإنّما هما كالصّديد . وقد صرّح ابن حجر الهيتميّ بأنّهما ماءان لا دمان .
وعند الشّافعيّة وجه أنّ الصّفرة والكدرة ليستا بحيض ، لأنّهما ليستا على لون ، ولقول أمّ عطيّة « كنّا لا نعدّ الصّفرة والكدرة شيئاً » وهذا قول ابن الماجشون أيضاً .
قال الدّسوقيّ : وجعله المازريّ والباجيّ هو المذهب .
واختلف الفقهاء في الصّفرة والكدرة في غير أيّام الحيض .
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّهما ليسا بحيض في غير أيّام الحيض ، لقول أمّ عطيّة كنّا لا نعدّ الصّفرة والكدرة بعد الطّهر شيئًا . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّهما حيض .
إذا رأتهما المعتادة بعد عادتها ، فإنّها تجلس أيّامهما عند الشّافعيّة .
وتستظهر بثلاثة أيّام عند المالكيّة . وقد صرّح الحنفيّة بأنّ ألوان دم الحيضة ستّة ، وهي السّواد والحمرة ، والصّفرة ، والخضرة ، والكدرة ، والتّربيّة قالوا : والكدرة ما هو كالماء الكدر ، التّربيّة نوع من الكدرة على لون التّراب ، والصّفرة كصفره القزّ ، والتّبن ، والسّدر على الاختلاف ، ثمّ إنّ المعتبر حال الرّؤية لا حالة التّغيّر ، كما لو رأت بياضاً فاصفرّ باليبس ، أو رأت حمرةً أو صفرةً فابيضّت باليبس ، وأنكر أبو يوسف الكدرة في أوّل الحيض دون آخره ، ومنهم من أنكر الخضرة .
قال ابن عابدين : والصّحيح أنّها حيض من ذوات الأقراء دون الآيسة . وزاد المالكيّة على الصّفرة والكدرة التّربيّة - وهو الماء المتغيّر دون الصّفرة - والتّربيّة عند المالكيّة تساوي التّربيّة عند الحنفيّة ، حيث إنّهم وصفوا التّربيّة بأنّها دم فيه غبرة تشبه لون التّراب .
مدّة الحيض :
السّنّ الّتي تحيض فيها المرأة :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أقلّ سنّ تحيض له المرأة تسع سنين قمريّة ، لأنّه لم يثبت في الوجود والعادة لأنثى حيض قبلها ، ولأنّ ما ورد في الشّرع ولا ضابط له شرعيًّا ولا لغويًّا يتبع فيه الوجود ، قال الشّافعيّ : أعجل من سمعت من النّساء تحيض نساء تهامة ، يحضن لتسع سنين - هكذا سمعت - ورأيت جدّةً لها إحدى وعشرون سنةً . ولا فرق في ذلك بين البلاد الحارّة والبلاد الباردة .
ثمّ إنّ الفقهاء قد اختلفوا في أنّه هل العبرة بأوّل التّاسعة ، أو وسطها ، أو آخرها .
فذهب الشّافعيّة إلى أنّ المعتبر في التّسع التّقريب لا التّحديد ، فيغتفر قبل تمامها بما لا يسع حيضاً وطهراً دون ما يسعهما . فيكون الدّم المرئيّ فيه حيضاً . بخلاف المرئيّ في زمن يسعهما . أي إن رأت الدّم قبل تمام التّسع بأقلّ من ستّة عشر يوماً بلياليها فهو حيض ، وإن رأته قبل تمام التّسع بستّة عشر يومًا بلياليها أو أكثر فهو ليس بحيض .
وعند الشّافعيّة قول بدخول التّاسعة ، وآخر بمضيّ نصفها .(240/2)
وذهب الحنابلة إلى أنّ العبرة بتمام تسع سنين . فإن رأت من الدّم ما يصلح أن يكون حيضًا وقد بلغت هذه السّنّ حكم بكونه حيضًا . وثبتت في حقّها أحكام الحيض كلّها .
قالت عائشة رضي الله عنها : « إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة » . « وروي مرفوعاً من رواية ابن عمر » .
وهناك أقوال أخرى في أقلّ سنّ تحيض له المرأة فقيل ستّ ، وقيل سبع . وقيل اثنتا عشرة . وقيل لا يحكم للدّم بأنّه حيض إلاّ إذا كان في أوان البلوغ بمقدّمات وأمارات من نفور الثّدي ونبات شعر العانة ، وشعر الإبط وشبهه . وكلّها أقوال ضعيفة .
كما اختلف الفقهاء في أكبر سنّ تحيض فيه المرأة - ويسمّى بسنّ الإياس ، وتسمّى المرأة آيسةً - فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يحدّ بمدّة .
قال الحنفيّة : بل هو أن تبلغ من السّنّ ما لا تحيض مثلها فيه ، فإذا بلغت هذه السّنّ وانقطع دمها حكم بإياسها . فإذا لم تبلغها وانقطع دمها ، أو بلغتها والدّم يأتيها على العادة فليست بآيسة ، لأنّه حينئذ ظاهر في أنّه ذلك المعتاد ، وعود العادة يبطل الإياسة .
وقد فسّر بعضهم هذا بأنّه تراه سائلاً كثيراً احترازاً عمّا إذا رأت بلّةً يسيرةً ونحوها .
وقيّدوه بأن يكون أحمر ، أو أسود ، فلو كان أصفر أو أخضر أو تربيّةً لا يكون حيضاً . وبعضهم قال : إنّها إذا كانت عادتها قبل الإياس أن يكون دمها أصفر فرأته كذلك ، أو علقاً فرأته كذلك كان حيضاً . واستظهر ابن عابدين هذا القول . وحدّ التّمرتاشيّ سنّ الإياس بخمسين سنةً ، وقال : وعليه المعوّل .
وقال الحصكفيّ : وعليه الفتوى في زماننا . وحدّه كثير منهم بخمس وخمسين سنةً .
وقد صرّح الحنفيّة بأنّ المرأة إذا رأت الدّم الخالص بعد تلك المدّة فإنّه حيض ، وكذا لو لم يكن خالصًا وكانت عادتها كذلك . وقال الشّافعيّة وابن تيميّة من الحنابلة : لا حدّ لآخر سنّ الحيض بل هو ممكن ما دامت المرأة حيّةً . وقال المحامليّ : آخره ستّون سنةً .
قال الرّمليّ : ولا منافاة بين القول بأنّه لا حدّ لآخره ، والقول بتحديده باثنتين وستّين سنةً لأنّه باعتبار الغالب حتّى لا يعتبر النّقص عنه .
وعند المالكيّة أقوال لخصّها العدويّ بقوله : بنت سبعين سنةً ليس دمها بحيض ، وبنت خمسين يسأل النّساء ، فإن جزمن بأنّه حيض أو شككن فهو حيض وإلاّ فلا ، والمراهقة وما بعدها للخمسين يجزم بأنّه حيض ولا سؤال ، والمرجع في ذلك العرف والعادة .
وذهب الحنابلة إلى أنّ أكثر سنّ تحيض فيه المرأة خمسون سنةً ، لقول عائشة رضي الله عنها : " إذا بلغت المرأة خمسين سنةً خرجت من حدّ الحيض " وقالت أيضاً : " لن ترى في بطنها ولداً بعد الخمسين ". وجاء في الإنصاف نقلاً عن المغني في العدد : وإن رأت الدّم بعد الخمسين على العادة الّتي كانت تراه فيها فهو حيض في الصّحيح .وينظر مصطلح ( إياس ).
فترة الحيض :
11 - اختلف الفقهاء في أقلّ فترة الحيض وأكثرها .
فذهب الحنفيّة إلى أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام بلياليها - وقدّروها باثنتين وسبعين ساعةً ، وأكثره عشرة أيّام بلياليها . قال ابن عابدين : وقد روي ذلك عن ستّة من الصّحابة بطرق متعدّدة فيها مقال يرتفع بها الضّعيف إلى الحسن . وقال الكمال بن الهمام : والمقدّرات الشّرعيّة ممّا لا تدرك بالرّأي ، فالموقوف فيها حكمه الرّفع .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا حدّ لأقلّه بالزّمان ، ولذلك بيّنوا أقلّه في المقدار وهو دفعة ، قالوا : وهذا بالنّسبة إلى العبادة ، وأمّا في العدّة والاستبراء فلا بدّ من يوم أو بعضه .
وأمّا أكثره فإنّه يختلف عندهم بوجود الحمل وعدمه . فأكثر الحيض لغير الحامل خمسة عشر يوماً سواء كانت مبتدأةً أو معتادةً ، غير أنّ المعتادة - وهي الّتي سبق لها حيض ولو مرّةً - تستظهر ثلاثة أيّام على أكثر عادتها إن تمادى بها . فإذا اعتادت خمسةً ثمّ تمادى مكثت ثمانيةً ، فإن تمادى في المرّة الثّالثة مكثت أحد عشر . فإن تمادى في الرّابعة مكثت أربعة عشر ، فإن تمادى في مرّة أخرى مكثت يوماً ولا تزيد على الخمسة عشر .
وأمّا الحامل - وهي عندهم تحيض - فأكثر حيضها يختلف باختلاف الأشهر سواء كانت مبتدأةً أو معتادةً .
قال مالك : ليس أوّل الحمل كآخره ، ولذلك كثرت الدّماء بكثرة أشهر الحمل .
فإذا حاضت الحامل في الشّهر الثّالث من حملها ، أو الرّابع ، أو الخامس واستمرّ الدّم نازلاً عليها كان أكثر الحيض في حقّها عشرين يوماً ، وما زاد على ذلك فهو دم علّة وفساد .
وإذا حاضت في الشّهر السّابع من حملها ، أو الثّامن ، أو التّاسع منه واستمرّ الدّم نازلاً عليها كان أكثر الحيض في حقّها ثلاثين يوماً . وأمّا إذا حاضت في الشّهر السّادس فحكمه حكم ما بعده من الأشهر لا ما قبله وعلى هذا جميع شيوخ أفريقيّة وهو المعتمد . وظاهر المدوّنة أنّ حكمه حكم ما قبله وهو خلاف المعتمد .
وإذا حاضت في الشّهر الأوّل أو الثّاني فهي كالمعتادة غير الحامل تمكث عادتها ، والاستظهار وهو قول مالك المرجوع إليه وهو الرّاجح .
قال ابن يونس : الّذي ينبغي على قول مالك الّذي رجع إليه أن تجلس في الشّهر والشّهرين قدر أيّامها والاستظهار ، لأنّ الحمل لا يظهر في شهر ولا في شهرين فهي محمولة على أنّها حائل حتّى يظهر الحمل ولا يظهر إلاّ في ثلاثة أشهر .
والقول الثّاني هو أنّ حكم الحيض في الشّهر الأوّل والثّاني حكم ما بعده أي الشّهر الثّالث وهو قول مالك المرجوع عنه .(240/3)
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ أقلّ الحيض يوم وليلة لقول عليّ رضي الله عنه : وأقلّ الحيض يوم وليلة ولأنّ الشّرع علّق على الحيض أحكاماً ، ولم يبيّنه فعلم أنّه ردّه إلى العرف كالقبض والحرز ، وقد وجد حيض معتاد يومًا ، ولم يوجد أقلّ منه قال عطاء : رأيت من تحيض يوماً . وقال الشّافعيّ : رأيت امرأةً قالت : إنّها لم تزل تحيض يوماً لا تزيد .
وقال أبو عبد اللّه الزّبيريّ : كان في نسائنا من تحيض يوماً أي بليلته ، لأنّه المفهوم من إطلاق اليوم ، وهما أربع وعشرون ساعةً .
وأكثره خمسة عشر يوماً بلياليهنّ ، لقول عليّ رضي الله عنه : ما زاد على الخمسة عشر استحاضة ، وأقلّ الحيض يوم وليلة . وقال عطاء : " رأيت من تحيض خمسة عشر يوماً " ويؤيّده ما رواه عبد الرّحمن بن أبي حاتم في سننه عن ابن عمر مرفوعاً : « النّساء ناقصات عقل ودين . قيل ما نقصان دينهنّ ؟ قال : تمكث إحداهنّ شطر عمرها لا تصلّي » .
وقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ غالب الحيض ستّ أو سبع ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش لمّا سألته تحيضي ستّة أيّام ، أو سبعة أيّام في علم اللّه ، ثمّ اغتسلي ، فإذا رأيت أن قد طهرت واستنقأت فصلّي أربعاً وعشرين ليلةً ، أو ثلاثاً وعشرين ليلةً وأيّامها ، وصومي وصلّي ، فإنّ ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي كما تحيض النّساء وكما يطهرن لميقات حيضهنّ وطهرهنّ » .
أحوال الحائض :
12 - الحائض إمّا أن تكون مبتدأةً ، أو معتادةً ، أو متحيّرةً .
فالمبتدأة : هي من كانت في أوّل حيض أو نفاس ، أو هي الّتي لم يتقدّم لها حيض قبل ذلك . والمعتادة : عند الحنفيّة هي من سبق منها دم وطهر صحيحان أو أحدهما .
وقال المالكيّة : هي الّتي سبق لها حيض ولو مرّةً .
وهي عند الشّافعيّة من سبق لها حيض وطهر وهي تعلمهما قدراً ووقتاً . ومذهب الحنابلة أنّ العادة لا تثبت إلاّ في ثلاثة أشهر - في كلّ شهر مرّةً - ولا يشترطون فيها التّوالي .
والمتحيّرة : من نسيت عادتها عدداً أو مكاناً . وقال الشّافعيّة : هي المستحاضة غير المميّزة النّاسية للعادة . وتسمّى الضّالّة والمضلّة والمحيّرة أيضاً بالكسر لأنّها حيّرت الفقيه .
أ - المبتدأة :
13 - إذا رأت المبتدأة الدّم وكان في زمن إمكان الحيض - أي في سنّ تسع سنوات فأكثر - ولم يكن الدّم ناقصًا عن أقلّ الحيض ولا زائدًا على أكثره - على خلاف بين الفقهاء في أقلّ الحيض وأكثره كما سبق - فإنّه دم حيض ، ويلزمها أحكام الحائض ، لأنّ دم الحيض جبلّة وعادة ، ودم الاستحاضة لعارض من مرض ونحوه ، والأصل عدمه .
وسواء أكان ما رأته دماً أسود أم لا ، ولو كان صفرةً وكدرةً فإنّه حيض ، لأنّه الأصل فيما تراه المرأة في زمن الإمكان ، ولقول عائشة رضي الله عنها لمّا كانت النّساء يبعثن إليها بالدّرجة فيها الكرسف فيه الصّفرة من دم الحيض : لا تعجلن حتّى ترين القصّة البيضاء تريد بذلك الطّهر من الحيضة .
فإذا انقطع الدّم لدون أقلّ الحيض فليس بحيض لعدم صلاحيّته له ، بل هو دم فساد .
ثمّ إنّ للمبتدأة أحوالاً ، بحسب انقطاع الدّم واستمراره .
الحالة الأولى : انقطاع الدّم لتمام أكثر الحيض فما دون :
14 - إذا انقطع الدّم دون أكثر الحيض أو لأكثره ولم يجاوز ورأت الطّهر ، طهرت ، ويكون الدّم بين أوّل ما تراه إلى رؤية الطّهر حيضاً ، يجب عليها خلاله ما يجب على الحائض ، وهو ما ذهب إليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
وذهب الحنابلة إلى أنّ الدّم إن جاوز أقلّ الحيض ولم يعبر أكثره ، فإنّ المبتدأة لا تجلس المجاوز لأنّه مشكوك فيه ، بل تغتسل عقب أقلّ الحيض وتصوم وتصلّي فيما جاوزه ، لأنّ المانع منهما هو الحيض وقد حكم بانقطاعه ، وهو آخر الحيض حكماً ، أشبه آخره حسّاً . وقد صرّحوا بحرمة وطئها في الزّمن المجاوز لأقلّ الحيض قبل تكراره ، لأنّ الظّاهر أنّه حيض ، وإنّما أمرت بالعبادة احتياطاً لبراءة ذمّتها ، فتعيّن ترك وطئها احتياطاً . ثمّ إنّه متى انقطع الدّم يومًا فأكثر أو أقلّ قبل مجاوزة أكثر الحيض ، اغتسلت عند انقطاعه ، لاحتمال أن يكون آخر حيضها ، ولا تطهر بيقين إلاّ بالغسل ثمّ حكمها حكم الطّاهرات ، فإن عاد الدّم فكما لو لم ينقطع على ما تقدّم تفصيله . هذا هو ظاهر المذهب عند الحنابلة وهو المعتمد . وعندهم رواية توافق ما ذهب إليه الجمهور .
الحالة الثّانية : استمرار الدّم وعبوره أكثر مدّة الحيض :
15 - اختلف الفقهاء فيما إذا استمرّ دم المبتدأة وجاوز أكثر الحيض ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ حيضها أكثر فترة الحيض وطهرها ما جاوزه . فمذهب الحنفيّة أنّ حيضها في كلّ شهر عشرة ، وطهرها عشرون . قالوا : لأنّ هذا دم في أيّام الحيض وأمكن جعله حيضًا فيجعل حيضًا . وما زاد على العشرة يكون استحاضةً لأنّه لا مزيد للحيض على العشرة ، وهكذا في كلّ شهر . هذا مذهب الحنفيّة في الجملة . وقد ذكر البركويّ للمبتدأة الّتي استمرّ دمها أربعة وجوه سبق تفصيلها في مصطلح ( استحاضة ) من الموسوعة ( 3 /198 ) . والمشهور عند المالكيّة أنّها تمكث خمسة عشر يوماً - أكثر فترة الحيض عندهم - أخذًا بالأحوط ثمّ هي مستحاضة . وتفصيل أحكام استمرار الدّم في ( استحاضة ) من الموسوعة
( 3 / 200 وما بعدها ) .
ب - المعتادة : ثبوت العادة :(240/4)
16 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى أنّ العادة تثبت بمرّة في المبتدأة ، لحديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ امرأةً كانت تهراق الدّم على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستفتيت لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : لتنظر عدد الأيّام واللّيالي الّتي كانت تحيضهنّ من الشّهر قبل أن يصيبها الّذي أصابها ، فلتدع الصّلاة قدر ذلك من الشّهر ،فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثمّ لتستثفر بثوب ثمّ لتصلّ فيه ». فالحديث قد دلّ على اعتبار الشّهر الّذي قبل الاستحاضة ، ولأنّ الظّاهر أنّها فيه كالّذي يليه لقربه إليها فهو أولى ممّا انقضى . واستدلّ المالكيّة على ذلك بقوله تعالى { كما بدأكم تعودون } حيث شبّه العود بالبدء فيفيد إطلاق العود على ما فعل مرّةً واحدةً .
وذهب الحنابلة إلى أنّها لا تثبت إلاّ بثلاث مرّات في كلّ شهر مرّة ، وهو قول عند الشّافعيّة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « دعي الصّلاة قدر الأيّام الّتي كنت تحيضين فيها » وهي صيغة جمع وأقلّه ثلاث ، ولأنّ ما اعتبر له التّكرار اعتبر فيه الثّلاث كالأقراء والشّهور في عدّة الحرّة ، وخيار المصرّاة ، ومهلة المرتدّ . ولأنّ العادة مأخوذة من المعاودة ولا تحصل المعاودة بمرّة واحدة . ثمّ إنّ الدّم عندهم إمّا أن يأتي في الثّلاث متساوياً أو مختلفاً .
فإن كان الدّم في الثّلاث متساوياً ابتداءً وانتهاءً ، ولم يختلف تيقّن أنّه حيض وصار عادةً . وإن كان الدّم على أعداد مختلفة فما تكون منه ثلاثاً صار عادةً لها دون ما لم يتكرّر مرتّباً ، كان كخمسة في أوّل شهر ، وستّة في شهر ثان ، وسبعة في شهر ثالث ، فتجلس الخمسة لتكرارها ثلاثاً ، كما لو لم يختلف . أو غير مرتّب كأن ترى في الشّهر الأوّل خمسةً ، وفي الشّهر الثّاني أربعةً ، وفي الشّهر الثّالث ستّةً ، فتجلس الأربعة لتكرّرها .
وفي رواية عن أحمد وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّها تثبت بمرّتين .
وقد نصّ الحنابلة على أنّ نقص العادة لا يحتاج إلى تكرار ، لأنّه رجوع إلى الأصل وهو العدم . فلو نقصت عادتها ثمّ استحيضت بعده . فإن كانت عادتها عشرة أيّام فرأت الدّم سبعةً ثمّ استحيضت في الشّهر الآخر جلست السّبعة لأنّها الّتي استقرّت عليها عادتها .
واختلف الحنفيّة في المعتادة إذا رأت ما يخالف عادتها مرّةً واحدةً ، هل يصير ذلك المخالف عادةً لها أم لا بدّ من تكراره ؟ فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يصير ذلك عادةً بمرّة واحدة . وذهب محمّد إلى أنّه لا يصير عادةً إلاّ بتكراره .
بيان ذلك لو كانت عادتها خمسةً من أوّل الشّهر فرأت ستّةً فهي حيض اتّفاقاً ، لكن عندهما يصير ذلك عادةً ، فإذا استمرّ بها الدّم في الشّهر الثّاني تردّ إلى آخر ما رأت ، وعند محمّد تردّ إلى العادة القديمة . ولو رأت السّتّة مرّتين تردّ إليها عند الاستمرار اتّفاقاً .
والخلاف في العادة الأصليّة وهي أن ترى دمين متّفقين وطهرين متّفقين على الولاء أو أكثر لا الجعليّة . أمّا الجعليّة فإنّها تنتقض برؤية المخالف مرّةً بالاتّفاق . وصورة الجعليّة أن ترى أطهارًا مختلفةً ، ودماءً مختلفةً فتبني على أوسط الأعداد على قول محمّد بن إبراهيم . وعلى الأقلّ من المرّتين الأخيرتين على قول أبي عثمان سعيد بن مزاحم .
أحوال المعتادة :
المعتادة إمّا أن ترى من الدّم ما يوافق عادتها . أو ينقطع الدّم دون عادتها ، أو يجاوز عادتها .
موافقة الدّم للعادة :
17 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا رأت المعتادة ما يوافق عادتها بأن انقطع دمها ولم ينقص أو يزد على عادتها ، فأيّام الدّم حيض وما بعدها طهر .
فإن كانت عادتها خمسة أيّام حيضًا . وخمسةً وعشرين طهراً ورأت ما يوافق ذلك ، فحيضها خمسة أيّام ، وطهرها خمسة وعشرون كعادتها .
انقطاع الدّم دون العادة :
18 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا انقطع دم المعتادة دون عادتها ، فإنّها تطهر بذلك ولا تتمّم عادتها ، بشرط أن لا يكون انقطاع الدّم دون أقلّ الحيض . ومنع الحنفيّة وطأها حينئذ حتّى تمضي عادتها وإن اغتسلت . قالوا : لأنّ العود في العادة غالب فكان الاحتياط في الاجتناب . ومذهب الجمهور أنّه يجوز وطؤها .
وقد صرّح الحنابلة بعدم كراهته كسائر الطّاهرات ومتى كان انقطاع الدّم دون أقلّ الحيض - على الخلاف المتقدّم فيه - فليس ذلك الدّم بحيض في حقّها لتبيّن أنّه دم فساد لا حيض ومن ثمّ فإنّها تقضي الصّلاة والصّوم .
وقد صرّح الحنفيّة بأنّها تصلّي كلّما انقطع الدّم ، لكن تنتظر إلى آخر الوقت المستحبّ وجوبًا فإن لم يعد في الوقت تتوضّأ فتصلّي وكذا تصوم إن انقطع ليلاً ، فإن عاد في الوقت أو بعده في العشرة الأيّام بعد الحكم بطهارتها فتقعد عن الصّوم والصّلاة .
والفرق عندهم بين انقطاع الدّم قبل العادة وبعد الثّلاث - وهو أقلّ الحيض عندهم - وانقطاعه قبل الثّلاث أنّها تصلّي ، بالغسل كلّما انقطع قبل العادة وبعد الثّلاث لا بالوضوء . لأنّه تحقّق كونها حائضًا برؤية الدّم ثلاثةً فأكثر ، بخلاف انقطاعه قبل الثّلاث ، فإنّها تصلّي بالوضوء لأنّه تبيّن أنّ الدّم دم فساد لا دم حيض .
وإن عاد الدّم بعد انقطاعه ، فمذهب الحنفيّة أنّه يبطل الحكم بطهارتها بشرط أن يعود في مدّة أكثر الحيض - عشرة أيّام - ولم يتجاوزها .(240/5)
وأن تبقى بعد ذلك طاهراً أقلّ الطّهر - خمسة عشر يوماً - فلو تجاوز أكثر الحيض أو نقص الطّهر عن ذلك فحيضها أيّام عادتها فقط . ولو اعتادت في الحيض يوماً دماً ويوماً طهراً هكذا إلى العشرة ، فإذا رأت الدّم في اليوم الأوّل تترك الصّلاة والصّوم .
وإذا طهرت في الثّاني توضّأت وصلّت وفي الثّالث تترك الصّلاة والصّوم . وفي الرّابع تغتسل وتصلّي وهكذا إلى العشرة .
ومذهب المالكيّة فيما لو عاد الدّم بعد انقطاعه ، فإن كان مقدار الانقطاع لا يبلغ أقلّ الطّهر ألغي ولم يحتسب به ، وأضيف الدّم الأوّل إلى الثّاني ، وجعل حيضةً منقطعةً تغتسل منها المرأة عند إدبار الدّم وإقبال الطّهر ، يومًا كان أو أكثر ، وتصلّي فإذا عاد الدّم إليها كفّت عن الصّلاة وضمّته إلى أيّام دمها ، وعدّته من حيضتها .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا عاد الدّم بعد النّقاء ، فالكلّ حيض - الدّم والنّقاء - بشروط : وهي أن لا يجاوز ذلك خمسة عشر يوماً ، ولم تنقص الدّماء من أقلّ الحيض ، وأن يكون النّقاء محتوشاً بين دمي الحيض . وهذا القول يسمّى عندهم قول السّحب وهو المعتمد . والقول الثّاني عندهم هو أنّ النّقاء طهر ، لأنّ الدّم إذا دلّ على الحيض وجب أن يدلّ النّقاء على الطّهر ويسمّى هذا القول قول اللّقط وقول التّلفيق . ومحلّ التّلفيق عندهم في الصّلاة والصّوم ونحوهما بخلاف العدّة ، فلا يجعل النّقاء طهراً في انقضاء العدّة بإجماعهم .
وذهب الحنابلة إلى أنّها إن طهرت في أثناء عادتها طهراً خالصاً ولو أقلّ مدّة فهي طاهر تغتسل وتصلّي وتفعل ما تفعله الطّاهرات ، ولا يكره وطء الزّوج لها بعد الاغتسال ، فإن عاودها الدّم في أثناء العادة ولم يجاوزها ، فإنّها تجلس زمن الدّم من العادة كما لو لم ينقطع، لأنّه صادف زمن العادة .
مجاوزة الدّم للعادة :
19 - اختلف الفقهاء فيما إذا جاوز دم المعتادة عادتها .
فذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا رأت المعتادة ما يخالف عادتها ، فإمّا أن تنتقل عادتها أو لا ، فإن لم تنتقل ردّت إلى عادتها ، فيجعل المرئيّ فيها حيضًا وما جاوز العادة استحاضةً ، وإن انتقلت فالكلّ حيض - وسيأتي تفصيل قاعدة انتقال العادة - فإذا استمرّ دم المعتادة وزاد على أكثر الحيض فطهرها وحيضها ما اعتادت فتردّ إليها فيهما في جميع الأحكام إن كان طهرها أقلّ من ستّة أشهر ، فإن كان طهرها ستّة أشهر فأكثر فإنّه لا يقدّر حينئذ بذلك ، لأنّ الطّهر بين الدّمين أقلّ من أدنى مدّة الحمل عادةً فيردّ إلى ستّة أشهر إلاّ ساعةً تحقيقاً للتّفاوت بين طهر الحيض وطهر الحمل وحيضها بحاله .
وهذا قول محمّد بن إبراهيم الميدانيّ . قال في العناية وغيرها : وعليه الأكثر .
وفي التتارخانية : وعليه الاعتماد ، وهناك قول عن محمّد أنّه مقدّر بشهرين واختاره الحاكم.
قال صاحب العناية : قيل والفتوى على قول الحاكم واخترنا قول الميدانيّ لقوّة قوله روايةً ودرايةً . قال ابن عابدين : إنّ ما اختاره الحاكم الشّهيد عليه الفتوى ، لأنّه أيسر على المفتي والنّساء ومشى عليه في الدّرّ المختار .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا تمادى دم الحيض على المعتادة ، فإنّها تستظهر ثلاثة أيّام من أيّام الدّم الزّائد على أكثر عادتها ، ثمّ هي طاهر بشرط أن لا تجاوز خمسة عشر يوماً ، فإذا اعتادت خمسة أيّام أوّلاً ، ثمّ تمادى ، مكثت ثمانيةً ، فإن تمادى في المرّة الثّالثة مكثت أحد عشر ، فإن تمادى في الرّابعة مكثت أربعة عشر . فإن تمادى في مرّة أخرى فلا تزيد على الخمسة عشر . ومن كانت عادتها ثلاثة عشر فتستظهر يومين . ومن عادتها خمسة عشر فلا استظهار عليها ، وقاعدة ذلك أنّ الّتي أيّام عادتها اثنا عشر يومًا فدون ذلك تستظهر بثلاثة أيّام وثلاثة عشر بيومين ، وأربعة عشر بيوم ، وخمسة عشر لا تستظهر بشيء . وأمّا الّتي عادتها غير ثابتة تحيض في شهر خمسة أيّام وفي آخر أقلّ أو أكثر إذا تمادى بها الدّم فإنّها تستظهر على أكثر أيّامها على المشهور .
وقال ابن حبيب تستظهر على أقلّ العادة . وأيّام الاستظهار كأيّام الحيض ، والدّم بعد الاستظهار فيما بين عادتها ونصف شهر استحاضة .
وتغتسل بعد الاستظهار وتصلّي وتصوم وتوطأ وإن كان ذلك قبل الخمسة عشر يوماً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن جاوز الدّم عادتها ولم يعبر أكثر الحيض فالجميع حيض ، لأنّ الأصل استمرار الحيض .
والمذهب عند الحنابلة أنّها لا تلتفت إلى ما خرج عن عادتها قبل تكرّره ، فما تكرّر من ذلك ثلاثًا أو مرّتين على اختلاف في ذلك فهو حيض ، وإلاّ فلا ، فتصوم وتصلّي قبل التّكرار . وتغتسل عند انقطاعه ثانياً . فإذا تكرّر ثلاثاً أو مرّتين صار عادةً فتعيد ما صامته ونحوه من فرض . ويرى ابن قدامة أنّها تصير إليه من غير تكرار « لقول عائشة رضي الله عنها للنّساء : لا تعجلن حتّى ترين القصّة البيضاء » ، ولأنّ الشّارع ردّ النّاس إلى العرف في مثل هذه الحالة والعرف بين النّساء أنّ المرأة متى رأت دماً يصلح لأن يكون حيضاً اعتقدته حيضاً ، وإن عبر الدّم أكثر الحيض فهو استحاضة . وقد سبق تفصيل أحكامها في مصطلح استحاضة .
مذهب الحنفيّة في انتقال العادة :
20 - إذا رأت المعتادة ما يخالف عادتها في الحيض . فإذا لم يجاوز الدّم العشرة الأيّام ، فالكلّ حيض ، وانتقلت العادة عدداً فقط إن طهرت بعده طهراً صحيحاً خمسة عشر يوماً ، وإن جاوز العشرة الأيّام ردّت إلى عادتها ، لأنّه صار كالدّم المتوالي .(240/6)
وهذا فيما إذا لم تتساو العادة والمخالفة حيث يصير الثّاني عادةً لها . فإن تساوت العادة والمخالفة فالعدد بحاله ، سواء رأت نصاباً " ثلاثة أيّام " في أيّام عادتها ، أو قبلها ، أو بعدها ، أو بعضه في أيّامها ، وبعضه قبلها أو بعدها ، لكن إن وافق زماناً وعدداً فلا انتقال أصلاً . وإلاّ فالانتقال ثابت على حسب المخالف .
فإذا جاوز الدّم العشرة ووقع نصاب في زمان العادة . فالواقع في زمان العادة فقط حيض والباقي استحاضة . ثمّ إنّه متى كان الواقع في زمان العادة مساوياً لعادتها عدداً ، فالعادة باقية في حقّ العدد والزّمان معاً . فإن لم يكن مساوياً لعادتها انتقلت العادة عدداً إلى ما رأته ناقصاً . وإنّما قيّد بالنّاقص لأنّه لا احتمال لكون الواقع في العادة زائداً عليها .
وإذا جاوز الدّم العشرة ولم يقع في زمان العادة نصاب بأن لم تر شيئاً ، أو رأت أقلّ من ثلاثة أيّام انتقلت العادة زمانًا ، والعدد بحاله يعتبر من أوّل ما رأت .
انتقال العادة عند غير الحنفيّة :
21 - صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ العادة قد تنتقل ، فتتقدّم أو تتأخّر ، أو يزيد قدر الحيض أو ينقص . ومن أمثلة انتقال العادة عند المالكيّة ما إذا تمادى دم المعتادة وزاد على عادتها فإنّها تستظهر بثلاثة أيّام على عادتها ، ويصير الاستظهار عادةً لها .
وقد ذكر الشّافعيّة أمثلةً كثيرةً على انتقال العادة ، نذكر منها ما يلي : إذا كانت عادتها الأيّام الخمسة الثّانية من الشّهر ، فرأت في بعض الشّهور ، الأيّام الخمسة الأولى دماً وانقطع ، فقد تقدّمت عادتها ، ولم يزد حيضها ، ولم ينقص ولكن نقص طهرها فصار عشرين بعد أن كان خمسةً وعشرين . وإن رأته في الخمسة الثّالثة ، أو الرّابعة ، أو الخامسة أو السّادسة ، فقد تأخّرت عادتها ، ولم يزد حيضها ، ولم ينقص ، ولكن زاد طهرها .
وإن رأته في الخمسة الثّانية مع الثّالثة فقد زاد حيضها ، وتأخّرت عادتها .
وإن رأته في الخمسة الأولى والثّانية ، فقد زاد حيضها وتقدّمت عادتها . وإن رأته في الخمسة الأولى والثّانية والثّالثة فقد زاد حيضها ، فصار خمسة عشر وتقدّمت عادتها وتأخّرت . وإن رأته في أربعة أيّام أو ثلاثة ، أو يومين ، أو يوم من الخمسة المعتادة ، فقد نقص حيضها ولم تنتقل عادتها . وإن رأته في يوم أو يومين ، أو ثلاثة ، أو أربعة من الخمسة الأولى فقد نقص حيضها وتقدّمت عادتها . وإن رأت ذلك في الخمسة الثّالثة ، أو الرّابعة ، أو ما بعد ذلك فقد نقص حيضها وتأخّرت عادتها .
والأمثلة الّتي ذكرها الحنابلة في انتقال العادة لا تخرج عن الأمثلة الّتي ذكرها الشّافعيّة .
وقد صرّح الشّافعيّة بأنّ العمل بالعادة المنتقلة متّفق عليه في الجملة عندهم ، وانتقال العادة يثبت بمرّة في الأصحّ . وهذا إن كانت متّفقةً غير مختلفة .
وذهب الحنابلة إلى أنّ المرأة إذا كانت لها عادة مستقرّة في الحيض ، فرأت الدّم في غير عادتها لم تعتبر ما خرج عن العادة حيضًا حتّى يتكرّر ثلاثًا في أكثر الرّوايات ، أو مرّتين في رواية . وسواء رأت الدّم قبل عادتها أو بعدها ، مع بقاء العادة ، أو انقطاع الدّم فيها ، أو في بعضها ، فإنّها لا تجلس في غير أيّامها حتّى يتكرّر مرّتين أو ثلاثاً ، فإذا تكرّر علمنا أنّه حيض متنقّل فتصير إليه ، أي تترك الصّلاة والصّوم فيه ، ويصير عادةً لها ، وتترك العادة الأولى . ويجب عليها قضاء ما صامته من الفرض في هذه المرّات الثّلاث الّتي أمرناها بالصّيام فيها ، لأنّنا تبيّنّا أنّها صامته في حيض ، والصّوم في الحيض غير صحيح . ولا تقضي الصّلاة . وقيل : لا حاجة إلى التّكرار ، وتنتقل بمجرّد رؤيتها دمًا يصلح أن يكون حيضاً . فعليه : تجلس ما تراه من الدّم قبل عادتها وبعدها ما لم يزد عن أكثر الحيض ، ورجّحه صاحب المغني . وعلى كلّ حال فإن تجاوزت الزّيادة أكثر الحيض فهي استحاضة ونردّها إلى عادتها ، ويلزمها قضاء ما تركته من الصّلاة والصّيام فيما زاد عن عادتها . وإن كانت لها عادة فرأت الدّم أكثر منها وجاوز أكثر الحيض فهي مستحاضة ، وحيضها منه قدر العادة لا غير . ولا تجلس بعد ذلك من الشّهور المستقبلة إلاّ قدر العادة بلا خلاف عند من اعتبر العادة .
أنواع العادة :
22 - العادة ضربان : متّفقة ، ومختلفة . فالمتّفقة ما كانت أيّاماً متساويةً ، كسبعة من كلّ شهر ، فهذه تجلس أيّام عادتها ولا تلتفت إلى ما زاد عليها .
والمختلفة هي ما كانت أيّاماً مختلفةً ، وهي قسمان مرتّبة ، بأن ترى في شهر ثلاثةً ، وفي الثّاني أربعة ، وفي الثّالث خمسةً ، ثمّ تعود إلى مثل ذلك . فهذه ، إذا استحيضت في شهر وعرفت نوبته عملت عليه . وإن نسيت نوبته جلست الأقلّ ، وهو ثلاثة لأنّه المتيقّن .
وغير مرتّبة : بأن تتقدّم هذه مرّةً ، وهذه أخرى كأن تحيض في شهر ثلاثةً ، وفي الثّاني خمسةً ، وفي الثّالث أربعةً . فإن أمكن ضبطه بحيث لا يختلف هو ، فالّتي قبلها ، وإن لم يمكن ضبطه ردّت إلى ما قبل شهر الاستحاضة عند الشّافعيّة بناءً على ثبوت العادة بمرّة . وعند الحنابلة تجلس الأقلّ في كلّ شهر .
وتلفيق الحيض :
23 - اختلف الفقهاء فيما إذا رأت المرأة الدّم يوماً أو أيّاماً ، والطّهر يوماً أو أيّاماً ، بحيث لا يحصل لها طهر كامل ، اختلافًا يرجع حاصله إلى قولين :
الأوّل : ويسمّى قول التّلفيق أو اللّقط ، وهو أن تلفّق حيضها من أيّام الدّم فقط ، وتلغي أيّام الطّهر فتكون فيها طاهراً ، تصلّي وتصوم .(240/7)
والقول الثّاني ويسمّيه الشّافعيّة قول السّحب ، وهو أن تجعل أيّام الدّم ، وأيّام الطّهر كلّها أيّام حيض . وذلك بشروط ذكروها ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( تلفيق ) .
الطّهر من الحيض :
أ - أقلّ الطّهر وأكثره :
24 - أجمع الفقهاء على أنّه لا حدّ لأكثر الطّهر ، لأنّ المرأة قد لا تحيض أصلاً .
وقد تحيض في السّنة مرّةً واحدةً . حكى أبو الطّيّب من الشّافعيّة ، أنّ امرأةً في زمنه كانت تحيض في كلّ سنة يوماً وليلةً . واختلفوا في أقلّ الطّهر .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة على المشهور ، والشّافعيّة إلى أنّ أقلّ طهر بين حيضتين خمسة عشر يوماً بلياليها ، لأنّ الشّهر غالباً لا يخلو من حيض وطهر ، وإذا كان أكثر الحيض خمسة عشر لزم أن يكون أقلّ الطّهر كذلك . واستدلّ الحنفيّة على ذلك بإجماع الصّحابة .
وذهب الحنابلة إلى أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً . لما روى أحمد واحتجّ به عن عليّ رضي الله عنه " أنّ امرأةً جاءته - قد طلّقها زوجها - فزعمت أنّها حاضت في شهر ثلاث حيض . فقال عليّ لشريح . قل فيها . فقال شريح : إن جاءت ببيّنة من بطانة أهلها ممّن يرجى دينه وأمانته فشهدت بذلك . وإلاّ فهي كاذبة . فقال عليّ : قالون - أي جيّد بالرّوميّة - قالوا : وهذا لا يقوله إلاّ توقيفاً ، وهو قول صحابيّ اشتهر ، ولم يعلم خلافه . ووجود ثلاث حيض في شهر دليل على أنّ الثّلاثة عشر طهر صحيح يقيناً .
قال أحمد : لا يختلف أنّ العدّة يصحّ أن تنقضي في شهر إذا قامت به البيّنة .
وغالب الطّهر باقي الشّهر الهلاليّ بعد غالب الحيض ، وهو عند الشّافعيّة والحنابلة أربع وعشرون ، أو ثلاثة وعشرون ، وعند الحنفيّة خمس وعشرون .
ب - علامة الطّهر :
25 - الطّهر من الحيض يتحقّق بأحد أمرين ، إمّا انقطاع الدّم ، أو رؤية القصّة . والمقصود بانقطاع الدّم الجفاف بحيث تخرج الخرقة غير الملوّثة بدم ، أو كدرة ، أو صفرة. فتكون جافّةً من كلّ ذلك ، ولا يضرّ بللها بغير ذلك من رطوبة الفرج .
والقصّة ماء أبيض يخرج من فرج المرأة يأتي في آخر الحيض . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : « لمّا كانت النّساء يبعثن إليها بالدّرجة " اللّفافة " فيها الكرسف " القطن " فيه الصّفرة من دم الحيض . لا تعجلن حتّى ترين القصّة البيضاء » .
وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّ الغاية الانقطاع ، فإذا انقطع طهرت ، سواء خرجت بعده رطوبة بيضاء أم لا .
وفرّق المالكيّة بين معتادة الجفوف ، ومعتادة القصّة ، ومعتادة القصّة مع الجفوف . فمعتادة الجفوف إذا رأت القصّة أوّلاً ، لا تنتظر الجفوف وإذا رأت الجفوف أوّلاً ، لا تنتظر القصّة . وأمّا معتادة القصّة فقط ، أو مع الجفوف إذا رأت الجفوف أوّلاً ، ندب لها انتظار القصّة لآخر الوقت المختار . وإن رأت القصّة أوّلاً فلا تنتظر شيئاً بعد ذلك . فالقصّة أبلغ لمعتادتها ، ولمعتادتها مع الجفوف أيضاً .
ج - حكم الطّهر المتخلّل بين أيّام الحيض :
26 - اختلف الفقهاء في النّقاء المتخلّل بين أيّام الحيض ، هل هو حيض أو طهر ؟ .
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه حيض . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه طهر .
وهناك تفصيل في بعض المذاهب بيانه في مصطلح : ( تلفيق ) .
د - دم الحامل :
27 - اختلف الفقهاء في دم الحامل هل هو دم حيض ، أو علّة وفساد ؟ .
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ دم الحامل دم علّة وفساد ، وليس بحيض ، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاس : لا توطأ حامل حتّى تضع ، ولا غير ذات حمل حتّى تحيض » فجعل الحيض علماً على براءة الرّحم ، فدلّ على أنّه لا يجتمع معه .
وقال صلى الله عليه وسلم في حقّ ابن عمر - لمّا طلّق زوجته وهي حائض - « مره فليراجعها ثمّ ليطلّقها طاهراً أو حاملاً » . فجعل الحمل علماً على عدم الحيض كالطّهر .
وقد استحبّ الحنابلة للحامل أن تغتسل عند انقطاع الدّم عنها احتياطاً ، وخروجاً من الخلاف.
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ دم الحامل حيض ، إن توافرت شروطه لعموم الأدلّة لخبر: « دم الحيض أسود يعرف » وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت في الحامل ترى الدّم : أنّها تترك الصّلاة ، من غير نكير ، فكان إجماعاً . وإجماع أهل المدينة عليه ، ولأنّه دم متردّد بين دمي الجبلّة والعلّة ، والأصل السّلامة من العلّة ، ولأنّه دم لا يمنعه الرّضاع بل إذا وجد معه حكم بكونه حيضاً ، وإن ندر فكذا لا يمنعه الحيض .
وأكثر الحيض للحامل عند المالكيّة يختلف عن غيرها ، وقد سبق بيانه في فترة الحيض .
هـ – أنواع الطّهر :
28 - قسّم الحنفيّة الطّهر إلى صحيح ، وفاسد ، وإلى تامّ ، وناقص .
فالطّهر الصّحيح : هو النّقاء خمسة عشر يومًا فأكثر لا يشوبه خلالها دم مطلقاً لا في أوّله ، ولا في وسطه ، ولا في آخره ، ويكون بين دمين صحيحين ، والطّهر الفاسد ما خالف الصّحيح في أحد أوصافه ، بأن كان أقلّ من خمسة عشر ، أو خالطه دم أو لم يقع بين دمين صحيحين .
فإذا كان الطّهر أقلّ من خمسة عشر يوماً ، فإنّه طهر فاسد ، ويجعل كالدّم المتوالي . ولو كان خمسة عشر يوماً ، لكن خالطه دم صار طهراً فاسداً ، كما لو رأت المبتدأة أحد عشر يوماً دماً ، وخمسة عشر طهراً ، ثمّ استمرّ بها الدّم ، فالطّهر هنا صحيح ظاهر ، لأنّه استكمل خمسة عشر ، لكنّه فاسد معنىً ، لأنّ اليوم الحادي عشر تصلّي فيه فهو من جملة الطّهر . فقد خالط هذا الطّهر دم في أوّله ففسد .(240/8)
وإذا كان الطّهر خمسة عشر يوماً ، ولكن كان بين استحاضتين ، أو بين حيضين ونفاس ، أو بين نفاس واستحاضة ، أو بين طرفي نفاس واحد ، فإنّه يكون طهراً فاسداً .
والطّهر التّامّ ما كان خمسة عشر يوماً فأكثر سواء أكان صحيحاً ، أم فاسداً .
والطّهر النّاقص : ما نقص عن خمسة عشر يوماً ، وهو نوع من الطّهر الفاسد .
ما يترتّب على الحيض :
أولاً - البلوغ :
29 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحيض علامة من علامات البلوغ الّتي يحصل بها التّكليف ، فإذا رأت المرأة الدّم في زمن الإمكان ، أصبحت بالغةً مكلّفةً يجب عليها ما يجب على البالغات المكلّفات ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » . فأوجب عليها أن تستتر لبلوغها بالحيض . فدلّ على أنّ التّكليف حصل به .
وقيّد المالكيّة ذلك بالحيض الّذي ينزل بنفسه ، أمّا إذا تسبّب في جلبه ، فلا يكون علامةً .
ثانياً - التّطهّر :
30 - صرّح الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة بأنّه لا تصحّ طهارة الحائض ، فإذا اغتسلت الحائض لرفع حدث الجنابة ، فلا يصحّ غسلها ، وذهب الحنابلة إلى أنّ الحائض ، إن اغتسلت للجنابة زمن حيضها صحّ غسلها ، واستحبّ تخفيفاً للحدث ، ويزول حكم الجنابة . لأنّ بقاء أحد الحدثين لا يمنع ارتفاع الآخر . كما لو اغتسل المحدث حدثاً أصغر .
ونصّوا على أنّه ليس عليها أن تغتسل للجنابة حتّى ينقطع حيضها لعدم الفائدة .
أ - غسل الحائض :
31 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحيض موجب من موجبات الغسل ، فإذا انقطع الدّم وجب على المرأة أن تغتسل لاستباحة ما كانت ممنوعةً منه بالحيض ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : دعي الصّلاة قدر الأيّام الّتي كنت تحيضين فيها ثمّ اغتسلي وصلّي » وأمر به أمّ حبيبة وسهلة بنت سهيل وغيرهنّ .
ويؤيّده قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } أي إذا اغتسلن ، فمنع الزّوج من وطئها قبل غسلها فدلّ على وجوبه عليها لإباحة الوطء ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الانقطاع شرط لصحّة الغسل ، وزاد الشّافعيّة القيام إلى الصّلاة ونحوها ، والمراد بالقيام إلى الصّلاة ، إمّا حقيقةً ، بأن أرادت صلاة ما قبل دخول الوقت من نافلة أو مقضيّة ، أو حكماً بأن دخل وقت الصّلاة ، إذ بدخوله تجب الصّلاة ويجب تحصيل شروطها وإن لم ترد الفعل فهي مريدة حكماً لكون الشّارع ألجأها إلى الفعل المستلزم للإرادة فهي مريدة بالقوّة .
وغسل الحيض كغسل الجنابة ، ويستحبّ للمغتسلة من الحيض ، غير المحرمة والمحدّة تطييب موضع الدّم . لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها « أنّ أسماء رضي الله عنها، سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ؟ فقال : تأخذ إحداكنّ ماءها وسدرتها فتطهّر فتحسن الطّهور . ثمّ تصبّ على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً ، حتّى تبلغ شؤون رأسها ، ثمّ تصبّ عليها الماء . ثمّ تأخذ فرصةً ممسّكةً فتطهّر بها فقالت أسماء : وكيف تطهّر بها . فقال : سبحان اللّه . تطهّرين بها . فقالت عائشة . كأنّها تخفي ذلك تتبّعين أثر الدّم . وسألته عن غسل الجنابة ؟ فقال : تأخذ ماءً فتطهّر ، فتحسن الطّهور ، أو تبلغ الطّهور . ثمّ تصبّ على رأسها فتدلكه . حتّى تبلغ شؤون رأسها . ثمّ تفيض عليها الماء . فقالت عائشة : نعم النّساء نساء الأنصار ، لم يكن يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدّين » .
ب - طهارة الحائض :
32 - لا خلاف بين الفقهاء في طهارة جسد الحائض ، وعرقها ، وسؤرها ، وجواز أكل طبخها وعجنها ، وما مسّته من المائعات ، والأكل معها ومساكنتها ، من غير كراهة ، لما روي « أنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولا يجامعوهنّ في البيوت ، فسأل أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل اللّه تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } الآية . فقال صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح ، فأنكرت اليهود ذلك . فجاء أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر فقالا يا رسول اللّه : إنّ اليهود تقول : كذا كذا ، فلا نجامعهنّ ؟ فتغيّر وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى ظننّا أن قد وجد عليهما » . ولما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : ناوليني الخمرة من المسجد فقالت: إنّي حائض . قال : إنّ حيضتك ليست في يدك » . « وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يشرب من سؤر عائشة وهي حائض ، ويضع فاه على موضع فيها » .
« وكانت تغسل رأس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهي حائض » .
وقد نقل ابن جرير وغيره الإجماع على ذلك .
ثالثاً - الصّلاة :
33 - اتّفق الفقهاء على عدم صحّة الصّلاة من الحائض إذ الحيض مانع لصحّتها . كما أنّه يمنع وجوبها ، ويحرم عليها أداؤها . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إسقاط فرض الصّلاة عنها في أيّام حيضها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : « إذا أقبلت الحيضة فدعي الصّلاة » كما نقل النّوويّ الإجماع على سقوط وجوب الصّلاة عنها. وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ سجود التّلاوة والشّكر في معنى الصّلاة فيحرمان على الحائض .
كما اتّفق الفقهاء على أنّ قضاء ما فات الحائض في أيّام حيضها ليس بواجب ، لما روت معاذة قالت : « سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصّوم ، ولا تقضي الصّلاة ؟ فقالت : أحروريّة أنت ؟ فقلت : لست بحروريّة . ولكن أسأل . فقالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصّوم ، ولا نؤمر بقضاء الصّلاة » .
ثمّ إنّ الفقهاء اختلفوا في حكم قضائها للصّلاة إذا أرادت قضاءها .(240/9)
فذهب الحنفيّة إلى أنّه خلاف الأولى . وذهب الشّافعيّة إلى كراهة قضائها ، وتنعقد نفلاً مطلقاً لا ثواب فيه ، لأنّها منهيّة عن الصّلاة ، لذات الصّلاة ، والمنهيّ عنه لذاته لا ثواب فيه . وقال أبو بكر البيضاويّ بحرمتها . وخالف الرّمليّ فقال بصحّتها وانعقادها على قول الكراهة المعتمد ، إذ لا يلزم من عدم طلب العبادة عدم انعقادها . وقيل لأحمد في رواية الأثرم : فإن أحبّت أن تقضيها ؟ قال : لا ، هذا خلاف السّنّة ، قال في الفروع : فظاهر النّهي التّحريم . ويتوجّه احتمال أنّه يكره لكنّه بدعة ، ولعلّ المراد إلاّ ركعتي الطّواف ، لأنّها نسك لا آخر لوقته .
إدراك وقت الصّلاة :
الحائض إمّا أن تدرك أوّل وقت الصّلاة بأن تكون طاهرًا ثمّ يطرأ الحيض ، أو تدرك آخر الوقت بأن تكون حائضاً ثمّ تطهر .
أ - إدراك أوّل الوقت :
34 - اختلف الفقهاء فيما إذا أدركت الحائض أوّل الوقت ، بأن كانت طاهراً ثمّ حاضت هل تجب عليها تلك الصّلاة أو لا ؟ :
فذهب الحنفيّة إلى أنّه إن طرأ الحيض في أثناء الوقت سقطت تلك الصّلاة ، ولو بعد ما افتتحت الفرض . أمّا لو طرأ وهي في التّطوّع ، فإنّه يلزمها قضاء تلك الصّلاة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إن حدث الحيض في وقت مشترك بين الصّلاتين سقطت الصّلاتان ، وإن حدث في وقت مختصّ بإحداهما ، سقطت المختصّة بالوقت وقضيت الأخرى .
فمثلاً إنّ أوّل الزّوال مختصّ بالظّهر إلى أربع ركعات في الحضر ، وركعتين في السّفر ، ثمّ تشترك الصّلاتان إلى أن تختصّ العصر بأربع قبل الغروب في الحضر ، وركعتين في السّفر . فلو حاضت المرأة في وقت الاشتراك سقطت الظّهر والعصر ، ولو حاضت في وقت الاختصاص بالعصر وكانت لم تصلّ الظّهر ولا العصر سقط عنها قضاء العصر وحدها ، ولو حاضت في وقت الاختصاص بالظّهر سقطت ، وإن تمادى الحيض إلى وقت الاشتراك سقطت العصر ، فإن ارتفع قبله وجبت ، ومثل ذلك في المغرب والعشاء .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن طرأ الحيض في أوّل الوقت ، فإنّه تجب عليها تلك الصّلاة فقط إن أدركت قدر الفرض ، ولا تجب معها الصّلاة الّتي تجمع معها بعدها ، ويجب الفرض الّذي قبلها أيضاً ، إن كانت تجمع معها وأدركت قدره ولم تكن قد صلّته لتمكّنها من فعل ذلك . وذهب الحنابلة إلى أنّه إن أدركت المرأة من أوّل الوقت قدر تكبيرة ، ثمّ طرأ الحيض لزمها قضاء تلك الصّلاة الّتي أدركت التّكبيرة من وقتها فقط ، لأنّ الصّلاة تجب بدخول أوّل الوقت على مكلّف ، لم يقم به مانع وجوبًا مستقرًّا ، فإذا قام به مانع بعد ذلك لم يسقطها .
فيجب قضاها عند زوال المانع . ولا تلزمها غير الّتي دخل وقتها قبل طروء الحيض ، لأنّها لم تدرك جزءاً من وقتها ، ولا من وقت تبعها فلم تجب .
ب - إدراك آخر الوقت :
35 - اختلف الفقهاء في مقدار الوقت الّذي تدرك فيه الحائض الصّلاة إن طهرت ، فذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين انقطاع الدّم لأكثر الحيض ، وانقطاعه قبل أكثر الحيض بالنّسبة للمبتدأة ، وانقطاع دم المعتادة في أيّام عادتها أو بعدها ، أو قبلها بالنّسبة للمعتادة .
فإن كان انقطاع الدّم لأكثر الحيض في المبتدأة ، فإنّه تجب عليها الصّلاة لو بقي من الوقت مقدار تحريمة ، وإن بقي من الوقت ما يمكنها الاغتسال فيه أيضاً ، فإنّه يجب أداء الصّلاة. فإن لم يبق من الوقت هذا المقدار فلا قضاء ولا أداء . فالمعتبر عندهم الجزء الأخير من الوقت بقدر التّحريمة . فلو كانت فيه طاهرةً وجبت الصّلاة وإلاّ فلا .
وإن كان انقطاع الدّم قبل أكثر مدّة الحيض بالنّسبة للمبتدأة ، أو كان انقطاعه في أيّام عادتها أو بعدها - قبل تمام أكثر المدّة - أو قبلها بالنّسبة للمعتادة ، فإنّه يلزمها القضاء إن بقي من الوقت قدر التّحريمة ، والغسل أو التّيمّم عند العجز عن الماء . ولا بدّ هنا من بقاء قدر الغسل أو التّيمّم زيادةً على قدر التّحريمة ، لأنّ زمان الغسل أو التّيمّم حيض ، فلا يحكم بطهارتها قبل الغسل أو التّيمّم ، فلا بدّ أن يبقى من الوقت زمن يسعه ويسع التّحريمة ، حتّى إذا لم يبق بعد زمان الغسل أو التّيمّم من الوقت مقدار التّحريمة لا يجب القضاء ، وذلك بخلاف ما لو انقطع الدّم لأكثر المدّة في المبتدأة ، فإنّه يكفي قدر التّحريمة فقط ، لأنّ زمان الغسل أو التّيمّم من الطّهر ، لئلاّ يزيد الحيض عن العشرة ، فبمجرّد الانقطاع تخرج من الحيض ، فإذا أدركت بعده قدر التّحريمة تحقّق طهرها فيه ، وإن لم تغتسل فيلزمها القضاء ، والمقصود بالغسل هنا الغسل مع مقدّماته ، كالاستقاء ، وخلع الثّياب ، والتّستّر عن الأعين ، كما أنّ المراد به الغسل الفرض لا المسنون ، لأنّه الّذي يثبت به رجحان جانب الطّهارة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الحائض تدرك الصّلاة إذا بقي من الوقت ما يسع ركعةً تامّةً ، وذلك في صلاة الصّبح والعصر والعشاء ، فإذا طهرت الحائض قبل الطّلوع ، أو الغروب ، أو الفجر بقدر ركعة ، فإنّها تجب عليها تلك الصّلاة ، ولا تدرك بأقلّ من ركعة على المشهور ، وتدرك الظّهر والمغرب إذا بقي من وقتهما الضّروريّ ما يسع فضل ركعة على الصّلاة الأولى لا الثّانية ، فإذا طهرت الحائض وقد بقي من اللّيل قدر أربع ركعات صلّت المغرب والعشاء ، لأنّه إذا صلّت المغرب بقيت ركعة للعشاء .(240/10)
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الصّلاة تجب على الحائض إذا طهرت وقد أدركت من آخر الوقت قدر تكبيرة ، فيجب قضاؤها فقط إن لم تجمع مع الّتي قبلها ، وقضاؤها وقضاء ما قبلها إن كانت تجمع ، فإذا طهرت قبل طلوع الشّمس ، وبقي من الوقت ما يسع تكبيرةً لزمها قضاء الصّبح فقط ، لأنّ الّتي قبلها لا تجمع إليها . وإن طهرت قبل غروب الشّمس بمقدار تكبيرة لزمها قضاء الظّهر والعصر ، وكذا إن طهرت قبل طلوع الفجر بمقدار تكبيرة لزمها قضاء المغرب والعشاء ، لما روي عن عبد الرّحمن بن عوف وابن عبّاس أنّهما قالا : في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة " تصلّي المغرب والعشاء ، فإذا طهرت قبل غروب الشّمس صلّت الظّهر والعصر جميعاً " لأنّ وقت الثّانية وقت للأولى في حالة العذر ، ففي حالة الضّرورة أولى ، لأنّها فوق العذر ، وإنّما تعلّق الوجوب بقدر تكبيرة لأنّه إدراك .
رابعاً - الصّوم :
36 - اتّفق الفقهاء على تحريم الصّوم على الحائض مطلقاً فرضاً أو نفلاً ، وعدم صحّته منها لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد : « أليس إذا حاضت لم تصلّ ، ولم تصم ؟ قلن : بلى ، قال : فذلك من نقصان دينها » فإذا رأت المرأة الدّم ساعةً من نهار، فسد صومها ، وقد نقل ابن جرير والنّوويّ وغيرهما الإجماع على ذلك ، قال إمام الحرمين : وكون الصّوم لا يصحّ منها لا يدرك معناه ، لأنّ الطّهارة ليست مشروطةً فيه .
كما اتّفق الفقهاء على وجوب قضاء رمضان عليها ، لقول عائشة رضي الله عنها في الحيض : كان يصيبنا ذلك ، فنؤمر بقضاء الصّوم ولا نؤمر بقضاء الصّلاة .
ونقل التّرمذيّ وابن المنذر وابن جرير وغيرهم الإجماع على ذلك .
واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ الحيض لا يقطع التّتابع في صوم الكفّارات ، لأنّه ينافي الصّوم ولا تخلو عنه ذات الأقراء في الشّهر غالباً ، والتّأخير إلى سنّ اليأس فيه خطر ، واستثنى الحنفيّة من ذلك كفّارة اليمين ونحوها . وتفصيل ذلك في مصطلح ( كفّارة ) .
إدراك الصّوم :
لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا انقطع دم الحيض بعد الفجر ، فإنّه لا يجزيها صوم ذلك اليوم ويجب عليها قضاؤه ، ويجب عليها الإمساك حينئذ عند الحنفيّة والحنابلة ، وعند المالكيّة يجوز لها التّمادي على تعاطي المفطر ولا يستحبّ لها الإمساك ، وعند الشّافعيّة لا يلزمها الإمساك .
كما اتّفق الفقهاء على أنّه إذا طهرت المرأة قبل الفجر ، فإنّه يجب عليها صوم ذلك اليوم . لكن اختلفوا في الفترة الّتي إذا انقطع فيها الدّم فإنّه يجزيها صوم ذلك اليوم .
فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجزيها صوم ذلك إذا لم يبق من الوقت قدر الاغتسال والتّحريمة ، لأنّه لا يحكم بطهارتها إلاّ بهذا ، وإن بقي قدرهما يجزيها ، لأنّ العشاء صارت ديناً عليها ، وأنّه من حكم الطّاهرات فحكم بطهارتها ضرورةً . والمراد بالغسل هنا ما يشمل مقدّماته كما في غسل الحائض للصّلاة .
وذهب المالكيّة إلى أنّها إن رأت الطّهر قبل الفجر بلحظة وجب الصّوم ، بأن رأت علامة الطّهر مقارنةً للفجر ونوت الصّوم حينئذ .
وقد صرّحوا بأنّ معتادة القصّة لا تنتظرها هنا ، بل متى رأت أيّ علامة جفوفاً كانت أو قصّةً ، وجب عليها الصّوم ، ويصحّ صومها حينئذ ، وإن لم تغتسل إلاّ بعد الفجر ، بل إن لم تغتسل أصلاً ، لأنّ الطّهارة ليست شرطاً في الصّوم .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه متى انقطع دم الحيض وجب عليها الصّوم ، ولم يذكروا فترةً معيّنةً كالحنفيّة والمالكيّة .
قال النّوويّ : وإذا انقطع الحيض ارتفع تحريم الصّوم وإن لم تغتسل .
وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه إذا نوت الحائض صوم غد قبل انقطاع دمها ، ثمّ انقطع ليلاً صحّ إن تمّ لها في اللّيل أكثر الحيض ، وكذا قدر العادة في الأصحّ . كما صرّح الحنابلة بمثل هذا ، فنصّوا على أنّه لو نوت الحائض صوم غد وقد عرفت أنّها تطهر ليلاً صحّ .
خامساً - الحجّ :
أ - أغسال الحجّ :
37 - اتّفق الفقهاء على سنّيّة أغسال الحجّ للحائض ، لحديث « عائشة : قالت : قدمت مكّة وأنا حائض ، ولم أطف بالبيت ولا بين الصّفا والمروة . قالت : فشكوت ذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : افعلي كما يفعل الحاجّ ،غير أن لا تطوفي بالبيت حتّى تطهري ». فيسنّ لها أن تغتسل للإحرام ، ولدخول مكّة .وللوقوف بعرفة وغيرها من الأغسال المسنونة. واستثنى المالكيّة الاغتسال لدخول مكّة فلم يستحبّوه للحائض ، قالوا : لأنّه في الحقيقة للطّواف ، فلذا لا يطلب من الحائض لمنعها من دخول المسجد .
ب - الطّواف :
38 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الحيض لا يمنع شيئاً من أعمال الحجّ إلاّ الطّواف ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة حين حاضت : افعلي ما يفعل الحاجّ غير أن لا تطوفي بالبيت » . ثمّ إنّ الأطوفة المشروعة في الحجّ ثلاثة : طواف القدوم ، وهو سنّة عند الفقهاء عدا المالكيّة حيث قالوا بوجوبه ، وطواف الإفاضة ، وهو ركن من أركان الحجّ بالاتّفاق ، وطواف الوداع وهو واجب عند الفقهاء عدا المالكيّة حيث قالوا بسنّيّته .
فإذا حاضت المرأة قبل أن تطوف طواف القدوم سقط عنها ولا شيء عليها وذلك عند القائلين بسنّيّته .(240/11)
وعند المالكيّة لا يجب عليها حيث بقي عذرها بحيث لا يمكنها الإتيان به قبل الوقوف بعرفة ، وإذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة ، فإنّها تبقى على إحرامها حتّى تطهر ثمّ تطوف . فإن طافت وهي حائض فلا يصحّ طوافها عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - وذهب الحنفيّة إلى صحّته مع الكراهة التّحريميّة ، لأنّ الطّهارة له واجبة ، وهي غير طاهرة ، وتأثم وعليها بدنة .
واتّفق الفقهاء على أنّ للحائض أن تنفر بلا طواف وداع ، تخفيفاً عليها لحديث عائشة رضي الله عنها « أنّ صفيّة رضي الله عنها حاضت فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تنصرف بلا وداع » . وعن طاوس قال : « كنت مع ابن عبّاس إذ قال زيد بن ثابت : تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت . فقال له ابن عبّاس : أما لا . فسل فلانة الأنصاريّة ، هل أمرها بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عبّاس يضحك ، وهو يقول : ما أراك إلاّ قد صدقت » .
وقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّها إن طهرت قبل مفارقة بنيان مكّة لزمها العود فتغتسل وتطوف ، فإن لم تفعل فعليها دم بخلاف ما إذا طهرت خارج مكّة فلا شيء عليها .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حجّ ) .
سادساً : - أ - قراءة القرآن :
39 - اختلف الفقهاء في حكم قراءة الحائض للقرآن ، فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى حرمة قراءتها للقرآن لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن » . وهناك تفصيلات بيانها فيما يلي :
فمذهب الحنفيّة حرمة قراءتها للقرآن ولو دون آية من المركّبات لا المفردات ، وذلك إذا قصدت القراءة ، فإن لم تقصد القراءة بل قصدت الثّناء أو الذّكر فلا بأس به .
قال ابن عابدين : فلو قرأت الفاتحة على وجه الدّعاء ، أو شيئاً من الآيات الّتي فيها معنى الدّعاء ، ولم ترد القراءة لا بأس به ، وصرّحوا أنّ ما ليس فيه معنى الدّعاء كسورة المسد، لا تؤثّر فيه نيّة الدّعاء فيحرم ، وقد أجازوا للمعلّمة الحائض تعليم القرآن كلمةً كلمةً ، وذلك بأن تقطّع بين كلّ كلمتين ، لأنّها لا تعدّ بالكلمة قارئةً . كما أجازوا للحائض أن تتهجّى بالقرآن حرفاً حرفاً ، أو كلمةً كلمةً مع القطع ، من غير كراهة ، وكرهوا لها قراءة ما نسخت تلاوته من القرآن ، ولا يكره لها قراءة القنوت ، ولا سائر الأذكار والدّعوات . ومذهب الشّافعيّة حرمة قراءة القرآن للحائض ولو بعض آية ، كحرف للإخلال بالتّعظيم سواء أقصدت مع ذلك غيرها أم لا ، وصرّحوا بجواز إجراء القرآن على قلبها من غير تحريك اللّسان ، وجواز النّظر في المصحف ، وإمرار ما فيه في القلب ، وكذا تحريك لسانها وهمسها بحيث لا تسمع نفسها ، لأنّها ليست بقراءة قرآن . ويجوز لها قراءة ما نسخت تلاوته . ومذهب الحنابلة أنّه يحرم عليها قراءة آية فصاعداً ، ولا يحرم عليها قراءة بعض آية ، لأنّه لا إعجاز فيه ، وذلك ما لم تكن طويلةً ، كما لا يحرم عليها تكرير بعض آية ما لم تتحيّل على القراءة فتحرم عليها . ولها تهجية آي القرآن لأنّه ليس بقراءة له ، ولها التّفكّر فيه وتحريك شفتيها به ما لم تبيّن الحروف ، ولها قراءة أبعاض آية متوالية ، أو آيات سكتت بينها سكوتاً طويلاً . ولها قول ما وافق القرآن ولم تقصده ، كالبسملة ، وقول الحمد للّه ربّ العالمين ، وكآية الاسترجاع { إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إليهِ رَاجِعُون } وآية الرّكوب ، ولها أيضاً أن يقرأ عليها وهي ساكتة ، لأنّها في هذه الحالة لا تنسب إلى القراءة ، ولها أن تذكر اللّه تعالى ، واختار ابن تيميّة أنّه يباح للحائض أن تقرأ القرآن إذا خافت نسيانه ، بل يجب لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الحائض يجوز لها قراءة القرآن في حال استرسال الدّم مطلقاً ، كانت جنباً أم لا ، خافت النّسيان أم لا . وأمّا إذا انقطع حيضها ، فلا تجوز لها القراءة حتّى تغتسل جنبًا كانت أم لا ، إلاّ أن تخاف النّسيان . هذا هو المعتمد عندهم ، لأنّها قادرة على التّطهّر في هذه الحالة ، وهناك قول ضعيف هو أنّ المرأة إذا انقطع حيضها جاز لها القراءة إن لم تكن جنبًا قبل الحيض . فإن كانت جنباً قبله فلا تجوز لها القراءة .
ب - مسّ المصحف وحمله :
40 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم على الحائض مسّ المصحف من حيث الجملة لقوله تعالى : { لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } ولما روى عبد اللّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كتب إلى أهل اليمن كتاباً ، وكان فيه : لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر » واستثنى المالكيّة من ذلك المعلّمة والمتعلّمة فإنّه يجوز لهما مسّ المصحف . وهناك تفصيلات في بعض المذاهب تنظر في مصطلح : ( مصحف ) .
يرى المالكيّة أنّه يجوز للمرأة الحائض الّتي تتعلّم القرآن , أو تعلّمه حال التّعليم مسّ المصحف سواء كان كاملاً أو جزءاً منه أو اللّوح الّذي كتب فيه القرآن , قال بعضهم : وليس ذلك للجنب , لأنّ رفع حدثه بيده ولا يشق , كالوضوء , بخلاف الحائض فإنّ رفع حدثها ليس بيدها , لكنّ المعتمد عندهم أنّ الجنب رجلاً كان أو امرأةً , صغيراً كان أو بالغاً يجوز له المس والحمل حال التّعلم والتّعليم للمشقّة .
وسواء كانت الحاجة إلى المصحف للمطالعة , أو كانت للتّذكر بنيّة الحفظ .
دخول المسجد :(240/12)
41 - اتّفق الفقهاء على حرمة اللّبث في المسجد للحائض ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب » ويندرج فيه الاعتكاف كما صرّح الفقهاء بذلك. واتّفقوا على جواز عبورها للمسجد دون لبث في حالة الضّرورة والعذر ، كالخوف من السّبع قياسًا على الجنب لقوله تعالى : { وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } واللّصّ والبرد والعطش ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تناوله الخمرة من المسجد فقالت إنّها حائض فقال حيضتك ليست بيدك » ، وزاد الحنفيّة أنّ الأولى لها عند الضّرورة أن تتيمّم ثمّ تدخل . ويرى الحنفيّة والمالكيّة حرمة دخولها المسجد مطلقاً سواء للمكث أو للعبور ، واستثنى الحنفيّة من ذلك دخولها للطّواف .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى حرمة مرورها في المسجد إن خافت تلويثه ، لأنّ تلويثه بالنّجاسة محرّم ، والوسائل لها حكم المقاصد . فإن أمنت تلويثه فذهب الشّافعيّة إلى كراهة عبورها المسجد ، ومحلّ الكراهة إذا عبرت لغير حاجة ، ومن الحاجة المرور من المسجد ، لبعد بيتها من طريق خارج المسجد وقربه من المسجد .
وذهب الحنابلة إلى أنّها لا تمنع من مرورها في المسجد حينئذ . قال أحمد - في رواية ابن إبراهيم - تمرّ ولا تقعد .
كما اختلف الفقهاء في دخول الحائض مصلّى العيد . فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى جواز ذلك، قال الحنفيّة : وكذا مصلّى الجنازة إذ ليس لهما حكم المسجد في الأصحّ ، وذهب الحنابلة إلى حرمة مصلّى العيد عليها ، لأنّه مسجد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ويعتزل الحيّض المصلّى » ، وأجازوا مصلّى الجنائز لها لأنّه ليس بمسجد .
الاستمتاع بالحائض :
42 - اتّفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض في الفرج لقوله تعالى : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح » وحكى النّوويّ الإجماع على ذلك ، واستثنى الحنابلة من به شبق لا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج ، ويخاف تشقّق أنثييه إن لم يطأ ، ولا يجد غير الحائض ، بأن لا يقدر على مهر امرأة أخرى .
واختلف الفقهاء في الاستمتاع بما بين السّرّة والرّكبة ، فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى حرمة الاستمتاع بما بين السّرّة والرّكبة ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتّزر ثمّ يباشرها . قالت : وأيّكم يملك إربه كما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يملك إربه » وعن ميمونة رضي الله عنها نحوه . وفي رواية « كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار » ولأنّ ما بين السّرّة والرّكبة حريم للفرج ، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى .
وقد أجاز الحنفيّة والشّافعيّة الاستمتاع بما بين السّرّة والرّكبة ، من وراء حائل . ومنعه المالكيّة .
كما منع الحنفيّة النّظر إلى ما تحت الإزار ، وصرّح المالكيّة والشّافعيّة بجوازه ولو بشهوة .
ونصّ الحنفيّة على عدم جواز الاستمتاع بالرّكبة لاستدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم : « ما دون الإزار » ومحلّه العورة الّتي يدخل فيها الرّكبة . وأجاز المالكيّة والشّافعيّة الاستمتاع بالسّرّة والرّكبة . وقد ذكر الحنفيّة والشّافعيّة حكم مباشرة الحائض لزوجها ، وقرّروا أنّه يحرم عليها مباشرتها له بشيء ممّا بين سرّتها وركبتها في جميع بدنه .
وذهب الحنابلة إلى جواز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج ، فله أن يستمتع بما بين السّرّة والرّكبة ، وهذا من مفردات المذهب .
ويستحبّ له حينئذ ستر الفرج عند المباشرة ، ولا يجب على الصّحيح من المذهب ، قال في النّكت : وظاهر كلام إمامنا وأصحابنا أنّه لا فرق بين أن يأمن على نفسه مواقعة المحظور أو يخاف ، وصوّب المرداويّ أنّه إذا لم يأمن على نفسه من ذلك حرم عليه لئلاّ يكون طريقاً إلى مواقعة المحظور .
كفّارة وطء الحائض :
43 - نصّ الشّافعيّة على أنّ وطء الحائض في الفرج كبيرة من العامد المختار العالم بالتّحريم ، ويكفر مستحلّه ، وعند الحنفيّة لا يكفر مستحلّه لأنّه حرام لغيره .
وقد أوجب الحنابلة نصف دينار ذهباً كفّارةً في وطء الحائض ، وهو من مفردات المذهب . واستحبّ الحنفيّة والشّافعيّة أن يتصدّق بدينار إن كان الجماع في أوّل الحيض وبنصفه إن كان في آخره . قال الحنفيّة : أو وسطه . لحديث : « إذا واقع الرّجل أهله وهي حائض إن كان دماً أحمر فدينار ، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار » وعند المالكيّة لا كفّارة عليه .
وطء الحائض بعد انقطاع الحيض :
44 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه لا يحلّ وطء الحائض حتّى تطهر - ينقطع الدّم - وتغتسل . فلا يباح وطؤها قبل الغسل ، قالوا : لأنّ اللّه تعالى شرط لحلّ الوطء شرطين : انقطاع الدّم ، والغسل ، فقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ } أي يقطع دمهنّ . { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي اغتسلن بالماء { فَأْتُوهُنَّ } . وقد صرّح المالكيّة بأنّه لا يكفي التّيمّم لعذر بعد انقطاع الدّم في حلّ الوطء فلا بدّ من الغسل حتّى يحلّ وطؤها . وفرّق الحنفيّة بين أن ينقطع الدّم لأكثر مدّة الحيض وبين أن ينقطع لأقلّه ، وكذا بين أن ينقطع لتمام عادتها ، وبين أن ينقطع قبل عادتها .(240/13)
فذهبوا إلى أنّه إذا انقطع الدّم على أكثر المدّة في الحيض ولو حكماً بأن زاد على أكثر المدّة ، فإنّه يجوز وطؤها بدون غسل ، لكن يستحبّ تأخير الوطء لما بعد الغسل .
وإن انقطع دمها قبل أكثر مدّة الحيض أو لتمام العادة في المعتادة بأن لم ينقص عن العادة ، فإنّه لا يجوز وطؤها حتّى تغتسل أو تتيمّم ، أو أن تصير الصّلاة ديناً في ذمّتها ، وذلك بأن يبقى من الوقت بعد الانقطاع مقدار الغسل والتّحريمة فإنّه يحكم بطهارتها بمضيّ ذلك الوقت، ولزوجها وطؤها بعده ولو قبل الغسل .
وإذا انقطع الدّم قبل العادة وفوق الثّلاث ، فإنّه لا يجوز وطؤها حتّى تمضي عادتها وإن اغتسلت ، لأنّ العود في العادة غالب ، فكان الاحتياط في الاجتناب ، فلو كان حيضها المعتاد لها عشرةً فحاضت ثلاثةً وطهرت ستّةً لا يحلّ وطؤها ما لم تمض العادة .
طلاق الحائض :
45 - اتّفق الفقهاء على أنّ إيقاع الطّلاق في فترة الحيض حرام ، وهو أحد أقسام الطّلاق البدعيّ لنهي الشّارع عنه ، لما روي عن « ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّه طلّق امرأته وهي حائض فذكر عمر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : مره فليراجعها ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض فتطهر ثمّ إن شاء طلّقها طاهراً قبل أن يمسّ » ولمخالفته قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي في الوقت الّذي يشرعن فيه في العدّة ، وزمن الحيض لا يحسب من العدّة ، ولأنّ في إيقاع الطّلاق في زمن الحيض ضرراً بالمرأة لتطويل العدّة عليها حيث إنّ بقيّة الحيض لا تحسب منها .
كما ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع الطّلاق في زمن الحيض ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عبد اللّه بن عمر رضي الله عنه بالمراجعة ، وهي لا تكون إلاّ بعد وقوع الطّلاق ، وفي لفظ الدّارقطنيّ ، « قال : قلت يا رسول اللّه أرأيت لو أنّي طلّقتها ثلاثًا . قال : كانت تبين منك وتكون معصيةً » قال نافع وكان عبد اللّه طلّقها تطليقةً فحسبت من طلاقه ، راجعها كما أمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ولأنّه طلاق من مكلّف في محلّه فوقع كطلاق الحامل ، ولأنّه ليس بقربة فيعتبر لوقوعه موافقة السّنّة بل هو إزالة عصمة وقطع ملك ، فإيقاعه في زمن البدعة أولى تغليظاً عليه وعقوبةً له .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب مراجعتها ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ مراجعتها سنّة . وما سبق من أحكام إنّما هو في طلاق الحائض المدخول بها أو من في حكمها . ولمزيد من التّفصيل انظر مصطلح ( طلاق ) .
خلع الحائض :
46 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى جواز الخلع في زمن الحيض لإطلاق قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ولحاجتها إلى الخلاص بالمفارقة حيث افتدت بالمال . وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى منع الخلع في الحيض وتفصيل ذلك في مصطلح ( خلع ) .
ما يحلّ بانقطاع الدّم :
47 - إذا انقطع دم الحيض لم يحلّ ممّا حرم غير الصّوم والطّلاق ، ولم يبح غيرهما حتّى تغتسل وإنّما أبيح الصّوم والطّلاق بالانقطاع دون الغسل ، أمّا الصّوم فلأنّ تحريمه بالحيض لا بالحدث بدليل صحّته من الجنب ، وقد زال ، وأمّا بالطّلاق فلزوال المعنى المقتضي للتّحريم وهو تطويل العدّة .
أحكام عامّة :
أولاً - إنزال ورفع الحيض بالدّواء :
48 - صرّح الحنابلة بأنّه يجوز للمرأة شرب دواء مباح لقطع الحيض إن أمن الضّرر ، وذلك مقيّد بإذن الزّوج . لأنّ له حقّاً في الولد ، وكرهه مالك مخافة أن تدخل على نفسها ضررًا بذلك في جسمها . كما صرّحوا بأنّه يجوز للمرأة أن تشرب دواءً مباحاً لحصول الحيض ، إلاّ أن يكون لها غرض محرّم شرعاً كفطر رمضان فلا يجوز .
ثمّ إنّ المرأة متى شربت دواءً وارتفع حيضها فإنّه يحكم لها بالطّهارة ، وأمّا إن شربت دواءً ونزل الحيض قبل وقته فقد صرّح المالكيّة بأنّ النّازل غير حيض وأنّها طاهر . فلا تنقضي به العدّة ، ولا تحلّ للأزواج ، وتصلّي وتصوم لاحتمال كونه غير حيض ، وتقضي الصّوم دون الصّلاة احتياطاً لاحتمال أنّه حيض .
وقد صرّح الحنفيّة بأنّه إذا شربت المرأة دواءً فنزل الدّم في أيّام الحيض فإنّه حيض وتنقضي به العدّة .
ثانياً - ادّعاء الحيض :
49 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه إذا ادّعت المرأة الحيض وأمكن ذلك قبل قولها وجوباً، لأنّها مؤتمنة فيحرم وطؤها حينئذ وإن كذّبها ، وقيّد الحنفيّة ذلك ممّا إذا كانت عفيفةً أو غلب على الظّنّ صدقها ، أمّا لو كانت فاسقةً ولم يغلب على الظّنّ صدقها بأن كانت في غير أوان الحيض فلا يقبل قولها اتّفاقاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّها إن أخبرته بالحيض فإنّه يحرم عليه مباشرتها إن صدّقها وإلاّ فلا ، وإذا صدّقها وادّعت دوامه صدّقت .
ثالثاً - ما يتّفق فيه الحيض والنّفاس من أحكام وما يختلفان فيه :
50 - حكم النّفاس حكم الحيض في سائر أحكامه إلاّ في مسائل :
- أ - الاعتداد بالحيض دون النّفاس ، لأنّ انقضاء العدّة بالقروء ، والنّفاس ليس بقرء ، ولأنّ العدّة تنقضي بوضع الحمل .
- ب - حصول البلوغ بالحيض دون النّفاس حيث إنّ البلوغ يحصل قبله بالحمل ، لأنّ الولد ينعقد من مائهما لقوله تعالى : { خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } .
- ج - الحيض يكون استبراءً ، بخلاف النّفاس .
- هـ - الحيض لا يقطع التّتابع في صوم الكفّارة ، بخلاف النّفاس .
- و- احتساب الحيض في مدّة الإيلاء دون النّفاس .
- ز- يحصل بالحيض الفصل بين طلاقي السّنّة والبدعة بخلاف النّفاس .(240/14)
- ح - أقلّ الحيض محدود ، ولا حدّ لأقلّ النّفاس ، وأكثر الحيض عشرة ، أو ثلاثة عشر ، أو خمسة عشر وأكثر النّفاس أربعون ، أوستّون .(240/15)
حيوان *
التّعريف :
1 - الحيوان نقيض الموتان وفي القرآن الكريم : { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } أي : الحياة الّتي لا يعقبها موت .وقيل الحيوان في الآية مبالغة في الحياة كالموتان للموت الكثير. ويطلق على كلّ ذي روح ، ناطقاً كان أو غير ناطق ، مأخوذ من الحياة ويستوي في لفظ " الحيوان " الواحد والجمع ، لأنّه مصدر في الأصل . وقيل الحيوان بمعنى الحياة ضدّ الموت . والحيوان في الاصطلاح : هو الجسم النّامي الحسّاس المتحرّك بالإرادة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّابّة :
2 - الدّابّة كلّ ما دبّ على الأرض . وخالف فيه بعضهم ، فأخرج الطّير من الدّوابّ ، وأمّا تخصيص الفرس والبغل والحمار بالدّابّة عند الإطلاق فعرف طارئ . وغلب اسم الدّابّة على ما يركب . فالدّابّة أخصّ من الحيوان على القول المشهور .
ب - البهيمة :
3 - البهيمة كلّ ذات أربع من دوابّ البرّ والبحر ، وكلّ حيوان لا يميّز فهو بهيمة ، والجمع " بهائم " . فالبهيمة أخصّ من الحيوان ومن الدّابّة .
ج - النّعم :
4 - النّعم جمع لا واحد له من لفظه بمعنى : المال الرّاعي ، وأكثر ما يقع على الإبل . قال أبو عبيد : النّعم : الجمال فقط ، ويؤنّث ويذكّر ، وجمعه نعمان ، وجمع الأنعام " أناعيم " . وقيل الأنعام : ذوات الخفّ والظّلف ، وهي الإبل والبقر والغنم .
فالأنعام أخصّ الجميع بالمقارنة مع الحيوان والبهيمة .
الأحكام الّتي تتعلّق بالحيوان :
أ - أكل الحيوان :
5 - ما يتأتّى أكله من الحيوان يصعب حصره ، والأصل في الجميع الحلّ في الجملة إلاّ ما استثني فيما يلي :
الأوّل الخنزير : فهو محرّم بنصّ الكتاب والسّنّة وعليه الإجماع .
واختلفوا فيما عداه من الحيوان : فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يحلّ أكل كلّ ذي ناب من السّباع : كالأسد ، والنّمر ، والفهد ، والذّئب ، والكلب وغيرها ، ولا ذي مخلب من الطّير كالصّقر ، والبازي . والنّسر ، والعقاب والشّاهين وغيرها . لأنّه عليه الصلاة والسلام « نهى عن كلّ ذي ناب من السّباع ، وعن كلّ ذي مخلب من الطّير » .
ثمّ اختلفوا في تحليل وتحريم بعض آحاد الحيوان ، كالخيل ، والضّبع ، والثّعلب ، وأنواع الغراب وغيرها . ينظر تفصيلها في مصطلح ( أطعمة ) .
وانعقد المذهب عند المالكيّة في رواية ، أنّه يؤكل جميع الحيوان من الفيل إلى النّمل والدّود، وما بين ذلك إلاّ الآدميّ والخنزير فهما محرّمان إجماعاً .
وكذلك لا يحرم عندهم شيء من الطّير في رواية ، وبه قال اللّيث والأوزاعيّ ، ويحيى بن سعيد . واحتجّوا بعموم الآيات المبيحة ، وقول أبي الدّرداء وابن عبّاس : ما سكت اللّه عنه فهو ممّا عفا عنه .
الثّاني : ما أمر بقتله كالحيّة ، والعقرب ، والفأرة ، وكلّ سبع ضار كالأسد ، والذّئب ، وغيرهما ممّا سبق .
الثّالث : المستخبثات : فإنّ من الأصول المعتبرة في التّحليل والتّحريم الاستطابة ، والاستخباث ، ورآه الشّافعيّ رحمه الله الأصل الأعظم والأعمّ . والأصل في ذلك قوله تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } ، وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } وتفصيل الموضوع في مصطلح ( أطعمة ) .
ب - ذكاة الحيوان :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المأكول من الحيوان لا يحلّ إلاّ بالذّبح المعتبر ، وهو ما كان بين الحلق واللّبّة حال الاختيار . وذكاة الضّرورة : جرح وطعن وإنهار دم في أيّ موضع وقع من البدن . ويستثنى السّمك والجراد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فأمّا الميتتان . فالحوت والجراد ، وأمّا الدّمان : فالكبد والطّحال » .
وأمّا ما لا يؤكل لحمه ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ذبحه كموته ، وقال الحنفيّة : يطهر لحمه وشحمه وجلده ، حتّى لو وقع في الماء القليل لا يفسده إلاّ أنّه لا يحلّ أكله .
وهذا بالنّسبة لغير الخنزير . أمّا الخنزير فإنّه رجس .
وفي الموضوع خلاف وتفصيل ينظر في ( ذبائح ) .
ج - زكاة الحيوان :
7 - أجمع الفقهاء على أنّه لا تجب الزّكاة إلاّ في النّعم ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم ، واختلفوا في الخيل ، ينظر تفصيله في مصطلح : ( زكاة ) .
د - الإنفاق على الحيوان والرّفق به :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجب على المالك إطعام بهائمه ، وسقيها ، وريّها ولو كانت مريضةً لا ينتفع بها ، لحديث ابن عمر مرفوعاً قال : « عذّبت امرأة في هرّة سجنتها حتّى ماتت فدخلت النّار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض » متّفق عليه . كما يحرم أن يحمّله ما لا يطيق ، لأنّ فيه تعذيباً له .
وإن امتنع المالك من الإنفاق على بهيمته أجبر عليه عند الجمهور ديانةً وقضاءً ، وقال الحنفيّة : لا يجبر على نفقة البهائم قضاءً في ظاهر الرّواية ، ويجبر ديانةً وعليه الفتوى . وفي الموضوع تفصيل ينظر في مصطلح : ( نفقة ) .
هـ - جناية الحيوان والجناية عليه :
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّ راكب الدّابّة يضمن ما وطئته بيدها أو رجلها ، ولا يضمن ما نفحت بذنبها أو رجلها .
والأصل في ذلك أنّ المرور في طريق المسلمين مباح بشرط السّلامة فيما يمكن الاحتراز عنه، وأنّ المتسبّب ضامن إذا كان متعدّيًا ، والمباشر يضمن مطلقًا .
وكذلك يضمن الحيوان ، والنّقصان فيه ، في الجناية عليه ، لما روي أنّ عمر رضي الله عنه قضى في عين الدّابّة ربع القيمة . والمراد بالعين ، العين الباصرة ، وإنّما كان ضمان العين ربع القيمة ، لأنّها تعمل بعينيها وعيني قائدها .
وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( جناية وضمان ) .(241/1)
مواطن البحث :
10 - تكلّم الفقهاء عن الحيوان بالإضافة إلى ما سبق في مواطن أخرى منها : بيع الحيوان، وما يعتبر فيه عيباً ، في كتاب البيع ، وخيار العيب ، وعن السّلم فيه في السّلم ، وعن ثبوت الشّفعة فيه في الشّفعة وعن استئجاره في الإجارة ، وعن التقاطه في اللّقطة ، وعن صيده والصّيد به في الصّيد والإحرام .(241/2)
حُقّة *
التّعريف :
1 - الحقّة والحقّ من الإبل لغةً : ما طعن في السّنة الرّابعة ، والجمع حقاق وحقق . وأحقّ البعير إحقاقاً صار حقّاً . وإنّما سمّيت بذلك لأنّها استحقّت أن تركب ويحمل عليها ، ولأنّها استحقّت أن يطرقها الفحل ، واستحقّ الفحل أن يطرق .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذه الكلمة عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - ابن المخاض وبنت المخاض :
2 - ولد النّاقة إذا طعن في السّنة الثّانية سمّي ابن مخاض ، والأنثى بنت مخاض ، سمّيت به ، لأنّ أمّها غالباً تكون مخاضاً أي حاملاً .
ب - ابن اللّبون وبنت اللّبون :
3 - ابن اللّبون من الإبل هو ما طعن في الثّالثة ، والأنثى بنت لبون ، لأنّ أمّهما آن لها أن تلد فتصير لبوناً أي ذات لبن لأخرى غالباً .
ج - الجذع والجذعة :
4 - الجذع من الإبل ما طعن في الخامسة ، والأنثى جذعة . وذلك آخر أسنان الإبل في الزّكاة .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
5 - أجمع الفقهاء على أنّه تجب حقّة في ستّ وأربعين من الإبل إلى ستّين ، وفي إحدى وتسعين حقّتان إلى مائة وعشرين . لما رواه البخاريّ في صحيحه عن أنس : « أنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه أرسل إليه كتاب صدقات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه : فإذا بلغت ستّاً وأربعين إلى ستّين ففيها حقّة طروقة الجمل . فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقّتان طروقتا الجمل » وتفصيل ذلك في كتاب الزّكاة عند الكلام عن زكاة الإبل ، كما تبحث في الدّيات في تغليظ الدّية أو تخفيفها .
حقن *
انظر : احتقان .
حقنة *
انظر : احتقان .
حقيقة *
التّعريف :
1 - الحقيقة على وزن فعيلة مشتقّة من الحقّ ، ومن معانيه لغةً الثّبوت ، قال تعالى : { لقد حَقَّ القَولُ على أَكثَرِهمْ } أي ثبت ووجب . وحقيقة الشّيء منتهاه وأصله المشتمل عليه . وفي الاصطلاح عرّفها أكثر الأصوليّين وعلماء البيان : بأنّها الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح يقع به التّخاطب بالكلام المشتمل على تلك الكلمة .
وعرّفها بعضهم : بأنّها لفظ أريد به ما وضع له ابتداءً بحيث يدلّ عليه بغير قرينة .
والمراد من الوضع تعيين اللّفظة بإزاء معنىً تدلّ عليه بنفسها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المجاز :
2 - المجاز اسم لما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما ، كتسمية الشّجاع أسداً ، سمّي مجازاً لأنّه جاوز وتعدّى محلّه ومعناه الموضوع له إلى غيره لمناسبة بينهما ، فالمجاز خلف عن الحقيقة ، أي أنّ اللّفظ المستعمل في المعنى المجازيّ خلف لنفس اللّفظ المستعمل في المعنى الحقيقيّ .
ب - الاستعارة :
3 - الاستعارة عند علماء البلاغة : هي ذكر أحد طرفي التّشبيه وإرادة الطّرف الآخر بادّعاء دخول المشبّه في جنس المشبّه به دالّاً على ذلك بإثبات ما يخصّ المشبّه به للمشبّه ، كما تقول : في الحمّام أسد ، وأنت تريد الشّجاع مدّعياً أنّه من جنس الأسود فيثبت للشّجاع ما يخصّ المشبّه به . والاستعارة في اصطلاح الفقهاء : طلب الإعارة وهي تمليك المنفعة بلا عوض . ( ر : استعارة ) .
ج - الكناية :
4 - الكناية في اللّغة بمعنى السّتر ، يقال : كنوت الشّيء وكنّيته أي سترته ، وفي الاصطلاح : كلام استتر المراد منه بالاستعمال ، وإن كان معناه ظاهراً في اللّغة ، سواء أكان المراد منه الحقيقة أم المجاز . فيكون تردّد فيما أريد به ، فلا بدّ من النّيّة ، أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال ، كحال مذاكرة الطّلاق مثلاً في كنايات الطّلاق ليزول التّردّد ويتعيّن ما أريد منه . فبين المجاز والحقيقة عموم وخصوص وجهيّ .
أقسام الحقيقة :
5 - الحقيقة لا بدّ لها من وضع : والوضع يأتي من الواضع ، فمتى تعيّن نسبت إليه الحقيقة ، فتكون لغويّةً إذا كان واضعها أهل اللّغة كلفظ الإنسان المستعمل في الحيوان النّاطق . وتكون شرعيّةً إذا كان واضعها الشّارع كالصّلاة المستعملة في العبادة المخصوصة ، وتكون عرفيّةً إذا كان واضعها العرف سواءً أكان عرفاً عامّاً كالدّابّة لذوات الأربع وهي في أصل اللّغة لكلّ ما يدبّ على الأرض من إنسان أو حيوان ، أم خاصّاً . كما لكلّ طائفة اصطلاحات تخصّهم .
ويظهر من هذا أنّ استعمال اللّفظ في معنىً قد يكون حقيقةً باعتبار ، ومجازاً باعتبار آخر . فلفظ " الصّلاة " إذا استعمله أهل الشّرع في العبادة المخصوصة فهو حقيقة فيها ، وهو مجاز في الدّعاء ، وإذا استعمله أهل اللّغة فهي حقيقة في الدّعاء ،ومجاز في الأركان المخصوصة.
الحكم الإجماليّ :
6 - أوّلاً : من القواعد العامّة عند الفقهاء أنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، ولمّا كانت الحقيقة هي الأصل ، والمجاز خلف عنها فلا يصرف اللّفظ عن معناه الحقيقيّ إلى المجازيّ إلاّ عند عدم إمكان المعنى الحقيقيّ بأن كان متعذّراً أو متعسّراً أو مهجوراً عادةً .
ولهذه القاعدة فروع منها :
أ - إذا وقف على أولاده لا يدخل فيه ولد ولده إن كان له ولد لصلبه عند الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة ، فإن لم يكن له ولد لصلبه استحقّ ولد الابن عند الحنفيّة ، لأنّ اسم الولد حقيقة في ولد الصّلب ، فإذا أمكن حمله على الحقيقة فبها وإلاّ يصار إلى المجاز . وعند المالكيّة - وهو قول عند الحنابلة - يدخل فيه ابن الابن ، وعند الشّافعيّة يدخل ولد الولد مطلقاً حملاً على الجمع بين الحقيقة والمجاز .(242/1)
ب - لو حلف لا يبيع ، أو لا يشتري ، أو لا يؤجّر أو لا يضرب ولده يحنث بالمباشرة اتّفاقًا ، وإذا وكّل غيره بهذه الأعمال فباشرها الوكيل لا يحنث عند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة " حملاً للّفظ على حقيقته ، إلاّ أن يكون مثله لا يباشر ذلك الفعل ، كالسّلطان والقاضي مثلاً ، فيحنث بالمباشرة والتّوكيل كليهما .
وعند الحنابلة يحنث ولو فعله بالتّوكيل إلاّ أن ينوي مباشرته بنفسه لأنّ الفعل ينسب إلى الموكّل فيه والآمر به ، كما لو كان ممّن لا يتولّاه بنفسه .
ج - لو حلف لا يأكل من هذه الشّاة حنث بالأكل من لحمها ، لأنّه الحقيقة دون لبنها ونتاجها لأنّه مجاز ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة .
وقال المالكيّة : يحنث بكلّ فرع نشأ عن الأصل إذا حلف بالامتناع عن الأكل منه ، سواء تقدّم فرع المحلوف عليه عن اليمين أو تأخّر عنها . ( ر : أيمان ) .
7 - ثانياً : تكميلاً للقاعدة السّابقة توجد قاعدتان أخريان :
الأولى : إذا تعذّرت الحقيقة يصار إلى المجاز . ولهذه القاعدة أيضاً فروع منها :
أ - لو أقرّ من لا وارث له لمن ليس من نسبه وأكبر منه سنّاً بأنّه ابنه ووارثه ثمّ توفّي المقرّ فبما أنّه لا يمكن حمل كلامه هذا على معناه الحقيقيّ فيصار إلى المجاز ، وهو معنى الوصيّة ، ويأخذ المقرّ له جميع التّركة .
ب - إذا حلف لا يأكل من هذه الشّجرة ، وكانت ممّا لا يؤكل عينها حنث بأكل ثمرها إذا كان لها ثمر ، وإلاّ فبالأكل من ثمنها " أو أيّ عوض عنها " ، وذلك لتعذّر الحقيقة ، كما صرّح به الفقهاء .
الثّانية : الحقيقة تترك بدلالة العادة ، ومن فروعها :
أ - لو حلف لا يدخل قدمه في دار فلان فإنّه صار مجازاً عن الدّخول مطلقاً حافياً أو منتعلاً ، أو راكباً ، حتّى لو وضع قدمه في الدّار وهو خارج البيت ولم يدخل لا يحنث ، ولو دخل راكباً ولم يضع قدمه يحنث ، وذلك لأنّ المعنى الحقيقيّ مهجور بدلالة العادة .
ب - من حلف لا يأكل هذه القدر تنعقد اليمين على ما يوجد في القدر لا على عين القدر فإنّ المعنى الحقيقيّ أي أكل عين القدر محال في العادة فتترك الحقيقة ويراد المجاز بعلاقة ذكر المحلّ وإرادة الحال . هذا ، وقد يتعذّر المعنى الحقيقيّ والمجازيّ معاً فلا يمكن إعمال الكلام فيهمل ، كما لو أقرّ لزوجته الّتي هي من نسب آخر معروف وأكبر منه سنّاً بأنّها ابنته فلا يمكن حمل كلامه هذا على معنًى حقيقيّ لأنّها معروفة النّسب وأكبر منه سنّاً ، ولا على المعنى المجازيّ أي معنى الوصيّة لكونها وارثةً له ولا وصيّته لوارثها فيهمل كلامه .
8 - ثالثاً : لا يجوز الجمع في لفظ واحد بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في الإرادة عند جمهور الأصوليّين ، كما في قولك : رأيت أسداً وتريد الحيوان المفترس والرّجل الشّجاع معًا ، وذلك لما فيه من الجمع بين المتنافيين حيث أريد باللّفظ كلّ من الموضوع له وغير الموضوع له معاً . ولهذا صرّحوا بأنّ المجاز خلف للحقيقة .
وأجاز الشّافعيّة الجمع بين الحقيقة والمجاز بأن يراد من اللّفظ في إطلاق واحد هذا وذاك ، إلاّ إذا لم يمكن الجمع بينهما عقلاً .
ولا خلاف في جواز عموم المجاز وهو إرادة معنًى مجازيّ شامل للحقيقيّ وغيره .
وتفصيله في الملحق الأصوليّ . هذا ولهذه القواعد فروع كثيرة في الوصايا والأيمان والنّذور والوقف تنظر أحكامها في مظانّها من كتب الفقه .(242/2)
الخلاصة في ختان النساء
الختان : تعريف، الحكم ، إعجاز وغرائب
اعجاز وغرائب
التعريف اللغوي:
الختان بكسر الخاء اسم لفعل الخاتن و يسمى به موضع الختن , و هو الجلدة التي تقطع و التي تغطي الحشفة عادة ، و ختان الرجل هو الحرف المستدير على أسفل الحشفة
و أما ختان المرأة فهي الجلد كعرف الديك فوق الفرج تعرف بالبظر .
الختان في السنة النبوية المطهرة :
دعا الإسلام إلى الختان دعوة صريحة و جعله على رأس خصال الفطرة البشرية ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " الفطرة
خمس : الختان و الأستحداد و قص الشارب و تقليم الأظافر و نتف الإبط ".
الحكم الفقهي في الختان :
يقول ابن القيم : اختلف الفقهاء في حكم الختان ، فقال الأوزاعي و مالك و الشافعي و أحمد هو واجب ، و شدد مالك حتى قال : من لم يختتن لم تجز إمامته و لم تقبل
شهادته . و نقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة حتى قال القاضي عياض : الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة ، السنة عندهم يأثم بتركها فهم يطلقونها على مرتبة بين
الفرض و الندب .
و ذهب الشافعية و بعض المالكية بوجوب الختان للرجال و النساء .و ذهب مالك و أصحابه على أنه سنة للرجال و مستحب للنساء ، و ذهب أحمد إلى أنه واجب في حق
الرجال و سنة للنساء .
الختان ينتصر :
في عام 1990 كتب البروفسور ويزويل : (1)"لقد كنت من اشد أعداء الختان و شاركت في الجهود التي بذلت عام 1975 ضد إجرائه ، إلا أنه في بداية الثمانينات
أظهرت الدراسات الطبية زيادة في نسبة حوادث التهابات المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين ، و بعد تمحيص دقيق للأبحاث التي نشرت ، فقد وصلت إلى نتيجة
مخالفة و أصبحت من أنصار جعل الختان أمراً روتينياً يجب ان يجري لكل مولود " .
الحكم الصحية من ختان الذكور :
أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن أمراضاً عديدة في الجهاز التناسلي بعضها مهلك للإنسان تشاهد بكثرة عند غير المختونين بينما هي نادرة معدومة عند المختونين .
1 ـ الختان وقاية من الالتهابات الموضعية في القضيب : فالقلفة التي تحيط برأس القضيب تشكل جوفاً ذو فتحة ضيقة يصعب تنظيفها ، إذ تتجمع فيه مفرزات القضيب المختلفة
بما فيها ما يفرز سطح القلفة الداخلي من مادة بيضاء ثخينة تدعى اللخن Smegma و بقايا البول و الخلايا المتوسفة و التي تساعد على نمو الجراثيم المختلفة مؤدية إلى
التهاب الحشفة أو التهاب الحشفة و القلفة الحاد أو المزمن (2).
2 ـ الختان يقي الأطفال من الإصابة بالتهاب المجاري البولية : وجد جنز برغ أن 95% من التهابات المجاري البولية عند الأطفال تحدث عند غير المختونين .و يؤكد أن
جعل الختان أمراً روتينياً يجري لكل مولود في الولايات المتحدة منع حدوث أكثر من 50 ألف حالة من التهاب الحويضة و الكلية سنوياً(3).
3 ـ الختان و الأمراض الجنسية :
أكد البروفسور وليم بيكوز الذي عمل في البلاد العربية لأكثر من عشرين عاماً ، و فحص أكثر من 30 ألف امرأة ندرة الأمراض الجنسية عندهم و خاصة العقبول التناسلي و
السيلان و الكلاميديا و التريكوموناز و سرطان عنق الرحم و يُرجع ذلك لسببين هامين ندرة الزنى و ختان الرجال (4).
4 ـ الختان و الوقاية من السرطان :يقول البرفسور كلو دري يمكن القول و بدون مبالغة بأن الختان الذي يجري للذكور في سن مبكرة يخفض كثيراً من نسبة حدوث سرطان
القضيب عندهم .
ختان البنات :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ا، النبي صلى الله عليه و سلم قال لأم عطية و هي ختانة كانت تختن النساء في المدينة : "إذا خفضت فأشمي و لا تنهكي ن فإنه أسرى
للوجه و أحظى عند الزوج " و في رواية إذا ختنت فلا تنهكي فِإن ذلك أحظى للمرأة و أحب للبعل .أخرجه الطبراني بسند حسن .
نقل ابن القيم عن الماوردي قوله : " و أما خفض المرأة فهو قطع جلدة في الفرج فرق مدخل الذكر و مخرج البول على أصل النواة ، و يؤخذ من الجلدة المستعلية دون
اصلها "
يقول د. محمد على البار : هذا هو الختان الذي أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم .
(1) البروفسور ويزويل عن مجلة Amer.Famil J . Physician
(2) د . محمد علي البار الختان دار المنار
(3) د. حسان شمسي باشا : أسرار الختان تتجلى في الطب و الشريعة ابن النفيس دمشق
(4) Pikers W : Med. Dijest jour .April 1977.
----------------------
حكم ختان المرأة في الإسلام، وهل يدخل في تغيير خلق الله الذي يوسوس به إبليس للناس ؟، كما جاء في آية سورة النساء:(119) التي ذكر الله تعالى فيها عن إبليس
قوله: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}.
1-أن المراد بخلق الله-هنا-فطرته التي فطر الناس عليها، بحيث تنسجم مع دينه، إذا لم تجتلها الشياطين، فكل شخص خالف ما أمر الله به، أو ارتكب ما نهى الله عنه، فقد
أطاع إبليس في تغيير خلق الله وفطرته المتفقه مع دينه.
ولا يدخل في ذلك فعل ما شرعه الله تعالى، حتى ولو كان فيه تغيير لخلقه، وأضرب لكم مثلا بخصال الفطرة، مثل ختان الرجال، ونتف شعر الإبط وقص الأظافر، وحلق العانة،
فإنها سنن مشروعة، ولا يجوز أن يقال عنها: إنها من تغيير خلق الله الذي يوسوس به إبليس، لأن الله تعالى أذن في ذلك، بل شرعه[10].
ويدخل في ذلك ختان المرأة، فهو مستحب، وليس بواجب، وقد وردت به بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها كلام لعلماء الحديث، من حيث تضعيفها،
والذي يظهر لي أنها بمجموعها ترقى إلى درجة الحسن لغيره، وهو من أنواع الحديث المعمول به، والحديث الحسن لغيره هو الذي فيه ضعف، ولكنه يتقوى بمجموع طرقه، ولا
يصل إلى درجة الحديث الصحيح.(243/1)
وبناء على ذلك، فإن ختان المرأة لا ينبغي إدخاله في ما يوسوس به إبليس من تغيير خلق الله، كما أن ختان الرجل ليس مما يوسوس به إبليس من تغيير خلق الله، بل كلاهما مما
شرع-وإن كانت أحاديث ختان الرجل أصح-.
وقد ذكر العلماء من حكمة مشروعية ختان المرأة، أن ترك تلك القطعة كاملة من أسباب قوة الشهوة عندها، فيؤخذ منها شيء يسير لكسر الشهوة الزائدة، ولهذا يقال: إن النساء
اللاتي لا تختن يكثر فيهن السحاق، وهو إتيان المرأة المرأة،وهو أمر شاذ مخالف للفطرة، فضلا عن كونه سببا لفعل الفاحشة مع الرجال-والله أعلم.
وإذا أردتم مراجعة هذه المسألة-حكم ختان المرأة-فإن من الكتب التي اهتمت بها كتاب المغني، لابن قدامة الحنبلي، في الجزء الأول، بعنوان: فصول في الفطرة-يلاحظ أنه
أدخل ختان المرأة في خصال الفطرة، وذلك عكس الزعم بأنه مما يوسوس به الشيطان-واستدل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان -أي
فرج الرجل وفرج المرأة-..) وهو في صحيح البخاري، كما استدل بحديث في المسند[11] وبحديث في مجمع الزوائد[12] ويمكن مراجعة الجزء الأول من
كتاب (نيل الأوطار) للشوكاني.
فختان المرأة مستحب، وليس بواجب، وكون ذلك لكسر الشهوة هو من اجتهاد العلماء، وليس من قول الله ولا من قول رسوله، وقد يكونون عرفوا ذلك عن طريق التجارب في
بعض البلدان، وبخاصة البلدان الحارة، وكسر الشهوة الشديدة مطلوب لأمرين:
الأمر الأول: إذا كانت الفتاة لا زوج لها، فكسر شهوتها يفيدها، كما يفيد الصيام الشاب الذي لا يجد وسائل النكاح المادية.
الأمر الثاني: إذا كانت متزوجة فقد لا يغنيها زوجها إذا كانت شديد الشهوة، فكسر شهوتها من مصلحتها في الحالتين.
وهذه كلها مجرد اجتهادات، وليس من شرط تنفيذ الحكم الشرعي عند المسلم أن يعرف الحكمة من التشريع، بل قد تخفى عليه الحكمة، ومع ذلك يجب عليه أن ينفذ ما ثبت عن
رسول الله، إن كان الحكم واجبا، ويسن له أن يعمل بالسنة، إن كان مسنونا...
ولا أظن أن هذه المسألة في حاجة إلى كثير بحث، مادامت ليست واجبة.
د. عبد الله قادري الأهدل
25/4/1409هـ 4/12/1988
--------------------
فتوى الشيخ عبد الله بن منيع في ختان البنات
هل ختان البنت جائز؟ وهل فيه حديث صحيح بذلك؟
سعاد محمد عبدالعظيم الاسكندري
لا شك أن ختان البنت مستحب، وهو مكرمة للنساء واجب على الرجال، وقد كان شائعاً في الجاهلية فأقّره صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم والطبراني، وحيث قال صلى
الله عليه وسلم لخاتنة البنات: «أشمي ولا تنهكي؛ فإنه أبهى للوجه وأحظى عند الزواج».
وقد روى الخلال بإسناده إلى شداد بن أوس أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «الختان سنَّة للرجال مكرمة للنساء».
وخلاصة القول: أن الذي عليه جمهور أهل العلم ومحققوهم: أن الختان واجب على الرجال؛ لما فيه من الاستقصاء في الطهارة، وهو مكرمة للنساء، وليس واجباً عليهن بل
هو سنَّة في حقهن. والله أعلم.
الشيخ/عبد الله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء
نشرت في جريدة الجزيرة السعودية
العدد:10701
الثلاثاء 1 ,ذو القعدة 1422
----------------
س : فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية حفظه الله
تقوم بعض الدول الإسلامية بختان الإناث معتقدة أن هذا فرض أو سنة . مجلة " المجلة " تقوم بإعداد موضوع صحفي عن هذا الموضوع ، ونظرا لأهمية معرفة رأي
الشرع في هذا الموضوع ، نرجو من سماحتكم إلقاء الضوء على الرأي الشرعي فيه . شاكرين ومقدرين لفضيلتكم هذه المشاركة ، وتمنياتنا لفضيلتكم موفور الصحة والسداد
. وتقبلوا منا خالص التحيات
مسئول التحرير بالنيابة
ج : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد :
ختان البنات سنة ، كختان البنين ، إذا وجد من يحسن ذلك من الأطباء أو الطبيبات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب
وتقليم الأظفار ونتف الإبط متفق على صحته .
وفق الله الجميع لما يرضيه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ختان البنت سنة
س : سؤال من : ر . ن - من أمريكا يقول :
ما حكم ختان البنات ؟ وهل هناك ضوابط معينة لذلك؟
ج : بسم الله ، والحمد لله : ختان البنات سنة ، إذا وجد طبيب يحسن ذلك أو طبيبة تحسن ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص
الشارب وقلم الأظفار ونتف الإبط متفق على صحته . وهو يعم الرجال والنساء ما عدا قص الشارب فهو من صفة الرجال .
من ضمن الأسئلة الموجهة من مجلة المجلة .
نشرت في مجلة الدعوة في العدد (1469) بتاريخ 28 / 6 / 1415هـ.
----------------------
تأصيل ختان الإناث
د. فتحية حسن ميرغني - كلية الشريعة والقانون - جامعة أم درمان الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد...
فالختان خصلة من خصال الفطرة الثابتة بالسنة النبوية الصحيحة، وهو عادة قديمة معروفة عند العرب، وعند غيرهم قبل الإسلام.. سأتناول في هذه المقالة المحاور التالية:
أولاً: معنى الختان في اللغة والاصطلاح:
مادة ختن، الغلام والجارية يختنهما، والاسم الختان والختانة، وهو مختون. وقيل الختن للرجال، والخفض للنساء، والختان موضع الختن من الذكر، وموضع القطع من نواة
الجارية، قال أبو منصور هو موضع القطع من الذكر والأنثى. ومنه الحديث الشريف: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل))[أخرجه أحمد في مسنده 6/239،2/178(243/2)
إسناده صحيح]. فلفظ الختانان مثنى حقيقي وليس تغليباً[جنى الجنتين في تمييز نوع المثنيين – محمد أمين بن فضل الله المحيي، ص 44 وما بعده].
ويقال لقطعهما الإعذار، عذر الغلام والجارية يعذرهما عذراً، وأعذرهما ختنهما، أما الخافضة فهي الخاتنة، يقال خفض الجارية يخفضها خفضاً هو كالختان للغلام، وقيل خفض
الصبي خفضاً ختنه، فاستعمل في الرجل فالأعرف أن الخفض للمرأة[لسان العرب لابن منظور، مادة ختن، عذر، خفض].
معنى الختان في الاصطلاح:
قال ابن حجر: "الختان مصدر ختن أي قطع، والختن قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص"[فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/340، كتاب اللباس].
وقال الماوردي: "ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، وقال في ختان الأنثى أنه قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك،
والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصال".
وقال ابن تيمية في ختان الأنثى: "ختانها أن تقطع أعلى الجلدة التي كعرف الديك"[الفتاوى الكبرى، ابن تيمية].
ووافق هذا التعريف محمد علي البار بقوله: "الختان هو أخذ القلفة التي تكون على القضيب، أو الغشاء الذي يكون على بظر الأنثى"[الأمراض الجنسية، محمد علي
البار]، وأيضاً د. محمد بن محمد المختار الشنقيطي في جراحة الختان: "وهي الجراحة التي يقصد منها قطع الجلدة التي تغطي الحشفة (رأس الذكر) بالنسبة
للرجال، أو قطع أدنى جزء من جلدة أعلى الفرج بالنسبة للنساء"[ أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، الباب الثاني، الفصل الأول، المذهب الرابع].
وذكر د. حامد رشوان وغيره من الأطباء أن "خفاض السنة يعني قطع الجلدة، أو الغلفة التي تغطي البظر"[أسباب محاربة الخفاض في السودان، د. عبد السلام
وجريس ود. آمنة الصادق بدري].
وبهذا يتضح أن ختان الأنثى في الشرع مثل ختان الذكر، وهو قطع القلفة التي تغطي الحشفة عند الذكر، وتغطي البظر عند الأنثى.
ثانياً: الأصل في مشروعية الختان وكيفيته:
(أ) الأحاديث الواردة في الختان عموماً للذكور والإناث معاً منها:
1. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رواية: ((الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب))[فتح
الباري، 10/349 كتاب اللباس، وصحيح مسلم، شرح النووي 3/146].
2. ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزّ وجل: (وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن..)[سورة البقرة: 124]، قال: ((ابتلاه الله
بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة والختان
ونتق الإبط وغسل مكان الغائط والبول بالماء))[المستدرك للحاكم 2/266. وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى]. هذه
النصوص تدل على أن الختان من خصال الفطرة وهو عام في الذكور والإناث معاً، ولم يرد نص بتخصيصه في الذكور فقط.
(ب) الأحاديث والآثار الواردة في ختان الإناث خاصة:
1. عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب إلى البعل))[أخرجه أبو داود
في كتاب الأدب 4/368 حديث رقم 5271]. قال أبو داود الحديث ضعيف برواية محمد بن حسان الكوفي، وهو ضعيف، وقد ورد هذا الحديث برواية العلاء بن العراء
وهو صحيح الإسناد، وقد أخرجه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت الرقم (922).
2. وللحديث شاهدان من حديث أنس، ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة، وآخر عن الضحّاك بن قيس [خصال الفطرة، رسالة ماجستير، الأستاذة فاطمة
كرار]. وجاء في المستدرك للحاكم قوله عليه الصلاة والسلام: ((اخضبن غمساً وأخفضن ولا تنهكن))، وهو صحيح وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وأورده
الطبراني.
ومن الشواهد التي تقوي حديث أم عطية أيضاً رواية البخاري في الأدب المفرد عن أم مهاجر رضي الله عنها قالت: ((أسرت ونساء من الروم، فعرض علينا عثمان بن
عفان الإسلام، فأسلمت وجارية، فقال اخفضوهما أو طهروهما قال فطهرنا، وكن نخدم عثمان رضي الله عنه)).
أما تضعيف ابن المنذر للأحاديث الواردة في الختان بقوله: "ليس في الختان خير يرجع إليه ولا سنة تتبع" [نيل الأوطار للشوكاني، 1/138] تدحضه رواية العلاء بن
العراء وجملة الأحاديث والشواهد المذكورة التي تقوي رواية محمد بن حسان الكوفي التقريرية، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ختن الإناث، ولم يمنع الخاتنة من الختن،
وأمرها بالإشمام أي القطع من أعلى فقط، ونهاها عن الإنهاك أي ألاّ تبالغ في القطع. وقد قال ابن قيم الجوزية: "وفي الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال من
القطع"[تحفة المودود بأحكام المولود، ابن القيم].
ثالثاً: حكم الختان وأقوال أهل العلم فيه:
ذكر أهل العلم في حكم الختان ثلاثة أقوال:
القول الأول: الختان واجب على الذكر والأنثى، وهو الصحيح المشهور عند الشافعية والحنابلة وابن تيمية وابن قيم الجوزية. قال الشافعية هو واجب، وقال عطاء: "لو
أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن". وقالوا إن للرجل إجبار زوجته المسلمة عليه كالصلاة، واستدلوا على الوجوب بالآتي:
(أ) قوله تعالى: (أن اتبع ملة إبراهيم)[سورة النحل: 123]. وقد ورد في الصحيحين مرفوعاً: ((ختن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم))، وأخرج
أبو الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة فخجل واختتن بالقدوم، فالأمر يدل على
الوجوب.(243/3)
(ب) الختان فيه إيلام، والإيلام لا يكون إلاّ لواجب.
(ج) الختان فيه كشف عورة، وكشف العورة محرم، ولو لم يكن واجباً لما كشف له..[فتح الباري شرح صحيح البخاري، فقد أسهب في سرد أدلة الوجوب ومناقشتها
ومن أراد التفصيل فليرجع إليه].
القول الثاني: الختان سنة للذكر والأنثى، وهو مذهب الحنفية وبه قال الإمام مالك وأحمد في رواية عنه. ورد في الدر المختار: "الختان سنة وهو من شعائر الإسلام فلو
اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام كما لو تركوا الأذان، فلا يترك إلا لعذر"[رد المحتار على الدر المختار 5/478]، وقال الإمام مالك: "من لم يختتن لم تجز
إمامته ولم تقبل شهادته"[نيل الأوطار للشوكاني 1/139].
القول الثالث: الختان واجب على الذكور مكرمة للإناث وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وقال به بعض المالكية والظاهرية واستدلوا بحديث شداد بن أوس:
((الختان سنة للرجال مكرمة للنساء))[أخرجه البيهقي 8/325، الحديث ضعيف لكن الشواهد التي ذُكِرَتْ تُقَوِّيه]. قال البيهقي هو ضعيف منقطع لأن فيه الحجاج بن
أرطأة وهو مدلس، وللحديث شاهد عند الطبراني، وفي مصنف عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عمر قال في الختان: ((هو للرجال سنة وللنساء طُهرة))[رواه
البيهقي 11/174].
قال النووي والصحيح في مذهبنا الذي عليه جمهور أصحابنا أن الختان جائز في حال الصغر وليس بواجب.
كما قال الشوكاني في الترجيح: "والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقن السنّة، والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه"[نيل
الأوطار للشوكاني 1/139-141].
مما سبق يتضح لنا اتفاق الفقهاء بجواز الختان عموماً واختلفوا في وجوبه للذكور والإناث معاً أو سنيته في الذكور والإناث، أو وجوبه في الذكور وأنه مكرمة في الإناث.
ولم يقل أحد منهم بمنعه في الإناث، حتى ابن المنذر فقد ضعف الحديث ولم يقل بمنعه في الإناث دون الذكور.
أنواع ختان الإناث ووقته والدعوة إليه وأجرة الختان:
ينقسم ختان الأنثى إلى قسمين:
1. الختان الشرعي: وهو قطع القلفة التي تغطي بظر الأنثى وهو شبيه لختان الذكور، ويعرف بالسنة.
2. الختان غير الشرعي: وهو قطع أي جزء زيادة على قلفة البظر ويشمل الختان الفرعوني (الكامل) والمتوسط والفرعوني المحسن وغيرهما.
وعليه فإن الختان الذي يقطع فيه جزء من البظر يدخل في الختان غير الشرعي فهو من درجات الفرعوني وليس من السنة.
اختلف الفقهاء في وقت الختان. قال الماوردي له وقتان، وقت وجوب ووقت استحباب، فوقت الوجوب البلوغ، ووقت الاستحباب قبله، والاختيار في اليوم السابع من بعد
الولادة فإن أُخِّر ففي الأربعين، فإن أُخِّر ففي السنة السابعة، وقال إمام الحرمين لا يجب قبل البلوغ لأن الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم. وقال أبو
الفرج السرخسي في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك، وقال الإمام مالك: يحسن إذا أصغر من
ذلك، يكون في السبع سنين وما حولها [فتح الباري 10/349 وما بعدها].
وقد قالت الدكتورة آمال أحمد البشير في وقت ختان الإناث: "أن يكون في السن التي يسهل فيها على الطبيبة أو القابلة المدربة فصل القلفة عن حشفة البظر وقطعها دون أن
تأخذ معها أي جزء آخر من المنطقة المجاورة. ويختلف ذلك بين طفلة وأخرى لذلك يجب أن يكون هناك كشف على العضو التناسلي لكل طفلة بواسطة الطبيبة المختصة قبل
تحديد وقت ختانها"[ختان الأنثى في الطب والإسلام بين الإفراط والتفريط ص38].
الدعوة إليه وأجرة الخاتن:
ورد في الأدب المفرد من رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت ((دعيت إلى وليمة، ولما علمت أن الوليمة ختان جارية قالت لم نكن نعلن له)).
قال ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل: "والسنة في ختان الذكر إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه"[فتح الباري، والأدب المفرد].
وختان الإناث كان معروفاً، والإنكار للإعلان فقط [راجع أبواب الوليمة من كتاب النكاح – في المذاهب المختلفة].
أجرة الخاتن:
الاستئجار على الختان جائز، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً ومأذون فيه شرعاً.
من يدفع الأجرة؟
ذهب جمهور الفقهاء أن تكون من مال المختون إن كان له مال، أو على أبيه، ومن تجب عليه النفقة [المغني والشرح الكبير، ابن قدامة].
فوائد الختان الشرعي:
1. تثبيت شرع الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
2. تثبيت البديل الشرعي لمحاربة عادة ضارة (الختان الفرعوني)، مع مراعاة النواحي الاجتماعية والنفسية الناتجة عن التخلي المطلق عن الختان.
3. إعلاء شعيرة العبادة (الختان الشرعي) لا العادة (الختان الفرعوني).
4. مزيد الطهارة والنظافة، فإن القلفة من المستقذرات عند العرب. وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم، فهي تحبس النجاسة، فيصعب نقاء دماء الحيض والبول مما يؤدي إلى
الروائح الكريهة ووجود النجاسة [فتح الباري، ص10].
5. ذهاب القلفة والشبق، وهي تعني شدة الشهوة والانشغال بها والإفراط فيها فذهابها يعني تعديل الشهوة عند المختونين من الرجال والنساء.
6. انخفاض حدوث السرطان للمختونين من الرجال والنساء.
7. التخفيض من كثرة استعمال العادة السرية لدى البالغين. لأن إفرازات القلفة تثير الأعصاب التناسلية حول الحشفة وتدعو المراهق إلى حكها والاستزادة من مداعبة
عضوه.
8. منع التهابات نتيجة تجمع اللخن والميكروبات تحت قلفة الذكور والإناث [ختان الإناث في الطب والإسلام د. آمال أحمد البشير ص 24، وتأصيل ختان الإناث د.(243/4)
ست البنات خالد ص 9 – ورقة طبية قدمت في سمنار ختان الإناث بجامعة أم درمان الإسلامية وبالمجمع الفقهي].
أضرار الختان غير الشرعي (الفرعوني):
1. مخالفة الشرع في كيفيته.
2. تشويه وتغيير لخلق الله بقطع جزء أو أجزاء من أعضاء المرأة التناسلية. قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)[سورة التين: 4]. وقد لعن
النبي صلى الله عليه وسلم المُغيِّرات خَلْقَ الله.
3. الأضرار الصحية التي تتمثل في النزيف، الالتهابات، الأكياس والخراج، احتباس البول في الأيام الأولى، تعسر الولادة، تأثر الجنين بتعثر الولادة، حمى النفاس بعد
الولادة، تهتك العجان، تكرار العدل.
4. الأضرار النفسية، الصدمة النفسية، الخوف والهلع عند الزواج والإنجاب مع صعوبة المعاشرة الزوجية.
5. الأضرار الاجتماعية؛ للزواج بالأجنبيات، الطلاق [الأبعاد النفسية والاجتماعية لختان البنات، د. آمنة عبد الرحمن. تأصيل ختان البنات (ورقة طبية) د. آمنة
خالد].
وبالنظر لواقع مجتمعنا السوداني اليوم نجد الآتي:
1. من أفرط في جانب الأخذ بالختان وتجاوز حد الشرع بممارسة الفرعوني.
2. من أهمل ختان الإناث، ودعا لمنعه للأضرار الناتجة عن الإفراط فيه.
3. من قام بالختان الشرعي ووقف عند حد الشرع في كيفيته على أنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى. وهذا هو الحق الصواب، فلا يقبل شرعاً ولا عقلاً ممارسة
الفرعوني ولا منع ما هو شرعي وعبادة للأضرار الناتجة عن غيره (الخفاض الفرعوني).
ختان الإناث في القوانين السودانية:
1. بالرجوع إلى قانون العقوبات لسنة 1925 وسنة 1974 الفصل الثاني والعشرين في الجرائم الماسة بجسم الإنسان نجد الآتي:
المادة 284 (أ) الختان غير المشروع:
"فيما عدا الاستثناء المشار إليه فيما بعد، يعد مرتكباً جريمة الختان غير المشروع كل من يسبب عمداً أذى عضو من الأعضاء التناسلية الخارجية للأنثى".
استثناء: مجرد إزالة الجزء الناتئ المدلى من بظر الأنثى لا يعد جريمة طبقاً لهذا النص.
2. كل من يرتكب جريمة الختان غير المشروع يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز خمس سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً.
شرح: تعد الأنثى مرتكبة الجريمة المنصوص عليها في هذه المادة إذا أحدثت الأذى لنفسها[قانون العقوبات الاجتماعية لسنة 1925 المادة 284/أ وقانون العقوبات لسنة
1974، 284/أ].
قسّم القانون السوداني لسنة 1925 وسنة 1974 الخفاض إلى نوعين: أحدهما مشروع والآخر غير مشروع، واعتبره فعلاً مجرّماً فقد استثنى من نطاق التجريم الفعلي
المتمثل في إزالة الجزء الناتئ من بظر الأنثى.
وقال القاضي ضرار: "أنه وفقاً لنص المادة 130 (1) (د) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1974 فأنه لا يجوز فتح الدعوى الجنائية متعلقاً بالمادة 284/أ
إلا بناء على إذن من المحافظ"[ورقة عمل حول التطور التشريعي وأثره على الخفاض الفرعوني، القاضي ضرار يوسف سيد أحمد ص 14-15/أبريل 2001م].
موقف قانوني العقوبات لسنة 1983 وسنة 1991م:
لم يرد في قانون العقوبات لسنة 1983 ولا في القانون الجنائي لسنة 1991م نص يماثل المادة 284/أ من قانون 1925 و 1974 إذ حُذفت المواد التجريمية للخفاض منذ سن
قانون 1983. وقال القاضي ضرار: "إن المعلوم في فقه القانون الجنائي أن الجرائم تتكون من ركنين: هما الركن المادي والركن المعنوي. فإذا ما نظرنا إلى
مكونات الركن المادي للخفاض مقارناً بالركن المادي لجريمة الأذى أو قطع الأعضاء نجد أنها تماثلها تماماً، إلاّ أن الأمر يختلف في الركن المعنوي إذ فيما يتشكل القصد الجنائي
في جرائم الأذى من القصد الأصيل المباشر أو القصد الاحتمالي، ففي قصد الفاعل في جريمة الخفاض لا يكون بهذه الصورة الآثمة. إذ الأصل أن الفاعل يتفيأ مصلحة
(المختونة) سواء أكانت اجتماعية أو صحية. ومن ثم يصعب استكمال أركان الجريمة وإدخال الفعل في دائرة التجريم.. وحسب المبادئ العامة في تفسير النصوص
القانونية فإن حذف نص التجريم بهذه الكيفية مؤشر على إرادة واضع التشريع في حذف الفعل من نطاق التجريم".
أما نص المادة 272/2 من قانون العقوبات لسنة 1983م كالآتي:
يعتبر قطعاً لعضو كل أذى يؤدي إلى:
أ. إزالة أي عضو من أعضاء الجسم أو إلى تعطيله كلياً أو جزئياً..
ب. شل حاسة السمع أو البصر أو النطق أو الشم أو الذوق أو إزالة الصوت أو إزالة القدرة على الجماع أو إزالة القدرة على القيام أو الجلوس أو إزالة أي منفعة للبدن أو
لعضو منه كلياً أو جزئياً.. فهو يختص بالقصاص في جرائم الأذى فكل من كتب فيها وشرح مضامينها لم يدخل فيها الختان.. فالأصل في القانون الجنائي عدم التوسع
في تفسير نصوصه، (فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
علماً بأن أحكام القانون الجنائي لسنة 1991م وقانون العقوبات لسنة 1983م لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، حيث أن القانون مأخوذ بكلياته وفروعه من الفقه
الإسلامي، وبالتالي فإنه لا يجوز تفسير أي نص في القانون بما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومعلوم أن الختان الشرعي ثابت بالسنة النبوية للشريعة، فتغير نصوص
القانون يجب أن تتسق وتتطابق مع روح القانون.
فعليه؛ إن نص هذه المادة لا يسعف القائل بتجريم الختان الشرعي في القانون السوداني ولا العقوبة عليه من حيث النظرية.
الخلاصة:
1. الختان خصلة من خصال الفطرة ومن شعائر الإسلام، فقد اتفق الفقهاء على جوازه واختلفوا في حكمه (واجب، مسنون، مكرمة)، ولم يقل أحد منهم بمنعه.
2. أدلة مشروعية الختان عامة للذكور والإناث معاً.(243/5)
3. إحياء لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجب التمييز والتفريق بين الختان الشرعي وغيره للعامة حتى ينتهوا عن المنكر (الفرعوني) ويأتمرون بالمعروف
(الشرعي). فلا إفراط ولا تفريط في ختان الإناث الشرعي..
4. الختان الشرعي ليس وأداً للبنات وإنما هو تمسك بالسنة النبوية الشريفة، فلا دليل ولا مصلحة ولا مبرر لمنع ختان الإناث الشرعي، بل هو تعد على السنة النبوية
الشريفة.
5. الاعتماد على تضعيف الأحاديث الشريفة لا يرقى أن يكون دليلاً لمنع ختان الإناث الشرعي وذلك للآتي:
أ. ورود الأحاديث الصحيحة كأحاديث خصال الفطرة التي تثبت مشروعية الختان.
ب. الأحاديث الضعيفة: بعضها وردت بطريقة أخرى صحيحة، والبعض الآخر وردت شواهد تقويها.
ج. الأصل في الأشياء الإباحة.. ومن ثم فإن البحث في أدلة التحريم أدعى من البحث في أدلة الإباحة.. فلم يرد نص شرعي ولا قانوني يمنع أو يحرم الختان
الشرعي.
6. التأكيد على محاربة ومنع كل أنواع الختان غير الشرعي، فالضرر يُزال ولا ضرر ولا ضرار. مع تثبيت الختان الشرعي.
-----------------------(243/6)
الخلاصة في أحكام الختان
وفي الموسوعة الفقهية :
خِتَانٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْخِتَانُ وَالْخِتَانَةُ لُغَةً الِاسْمُ مِنْ الْخَتْنِ , وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ مِنْ الذَّكَرِ , وَالنَّوَاةُ مِنْ الْأُنْثَى , كَمَا يُطْلَقُ الْخِتَانُ عَلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ . يُقَالُ خَتَنَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ يَخْتِنُهُمَا وَيَخْتُنُهُمَا خَتْنًا . وَيُقَالُ غُلَامٌ مَخْتُونٌ وَجَارِيَةٌ مَخْتُونَةٌ وَغُلَامٌ وَجَارِيَةٌ خَتِينٌ , كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْخَفْضُ وَالْإِعْذَارُ , وَخَصَّ بَعْضُهُمْ الْخَتْنَ بِالذَّكَرِ , وَالْخَفْضَ بِالْأُنْثَى , وَالْإِعْذَارُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا . وَالْعُذْرَةُ : الْخِتَانُ , وَهِيَ كَذَلِكَ الْجِلْدَةُ يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ . وَعَذَرَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ يَعْذِرُهُمَا , عُذْرًا وَأَعْذَرَهُمَا خَتَنَهُمَا . وَالْعَذَارُ وَالْإِعْذَارُ وَالْعَذِيرَةُ وَالْعَذِيرُ طَعَامُ الْخِتَانِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ .
حُكْمُ الْخِتَانِ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخِتَانِ عَلَى أَقْوَالٍ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : 2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ : إلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَهُوَ مِنْ الْفِطْرَةِ وَمِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ حَارَبَهُمْ الْإِمَامُ , كَمَا لَوْ تَرَكُوا الْأَذَانَ . وَهُوَ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ خِتَانُهَا مَكْرُمَةً وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ , وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : إنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِنَّ كَذَلِكَ , وَفِي ثَالِثٍ : إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَاسْتَدَلُّوا لِلسُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا : { الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ } وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ , وَالِاسْتِحْدَادُ , وَنَتْفُ الْإِبِطِ , وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ , وَقَصُّ الشَّارِبِ } . وَقَدْ قُرِنَ الْخِتَانُ فِي الْحَدِيثِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ قَطْعُ جُزْءٍ مِنْ الْجَسَدِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى قَصِّ الْأَظْفَارِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : 3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ سَحْنُونٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : إلَى أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَاسْتَدَلُّوا لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ } وَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم أَمْرٌ لَنَا بِفِعْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فَكَانَتْ مِنْ شَرْعِنَا . وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ : { أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ } قَالُوا : وَلِأَنَّ الْخِتَانَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمَا جَازَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ أَجْلِهِ , وَلَمَّا جَازَ نَظَرُ الْخَاتِنِ إلَيْهَا وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ , وَمِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ وَاجِبًا كَسَائِرِ شِعَارِهِمْ . وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ ; وَلِأَنَّ هُنَاكَ فَضْلَةً فَوَجَبَ إزَالَتُهَا كَالرَّجُلِ . وَمِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّ بَقَاءَ الْقُلْفَةِ يَحْبِسُ النَّجَاسَةَ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ فَتَجِبُ إزَالَتُهَا . الْقَوْلُ الثَّالِثُ : 4 - هَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي , وَهُوَ أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ , وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ .(244/1)
مِقْدَارُ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ : 5 - يَكُونُ خِتَانُ الذُّكُورِ بِقَطْعِ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ , وَتُسَمَّى الْقُلْفَةَ , وَالْغُرْلَةَ , بِحَيْثُ تَنْكَشِفُ الْحَشَفَةُ كُلُّهَا . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ أَكْثَرِهَا جَازَ . وَفِي قَوْلِ ابْنِ كَجٍّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ الْقُلْفَةِ وَإِنْ قَلَّ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا . وَيَكُونُ خِتَانُ الْأُنْثَى بِقَطْعِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ . وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ لَا تُقْطَعَ كُلُّهَا بَلْ جُزْءٌ مِنْهَا . وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضي الله عنها - { أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَا تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إلَى الْبَعْلِ } .
وَقْتُ الْخِتَانِ :
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَصِيرُ فِيهِ الْخِتَانُ وَاجِبًا هُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ; لِأَنَّ الْخِتَانَ مِنْ أَجْلِ الطَّهَارَةِ , وَهِيَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ . وَيُسْتَحَبُّ خِتَانُهُ فِي الصِّغَرِ إلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ ; وَلِأَنَّهُ أَسْرَعُ بُرْءًا فَيَنْشَأُ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ . وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ : الصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّهُ يَوْمُ السَّابِعِ وَيُحْتَسَبُ يَوْمَ الْوِلَادَةِ مَعَهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ : { عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَخَتَنَهُمَا لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ } , وَفِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ . وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : إنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا بَيْنَ الْعَامِ السَّابِعِ إلَى الْعَاشِرِ مِنْ عُمْرِهِ , لِأَنَّهَا السِّنُّ الَّتِي يُؤْمَرُ فِيهَا بِالصَّلَاةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ وَقْتُ الْإِثْغَارِ , إذَا سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ , وَالْأَشْبَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِطَاقَةِ الصَّبِيِّ إذْ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ فَيُتْرَكُ تَقْدِيرُهُ إلَى الرَّأْيِ , وَفِي قَوْلٍ : إنَّهُ إذَا بَلَغَ الْعَاشِرَةَ لِزِيَادَةِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَهَا . وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِتَانَ يَوْمَ السَّابِعِ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْيَهُودِ .
خِتَانُ مَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْخِتَانِ :
7 - مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ لَوْ خُتِنَ خِيفَ عَلَيْهِ , لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَنَ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ , بَلْ يُؤَجَّلُ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ , لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِيمَا يُفْضِي إلَى التَّلَفِ ; وَلِأَنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يَسْقُطُ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ فَالسُّنَّةُ أَحْرَى , وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ . وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ , مُلَخَّصُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْخِتَانِ يَسْقُطُ عَمَّنْ خَافَ تَلَفًا , وَلَا يَحْرُمُ مَعَ خَوْفِ التَّلَفِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ , أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتْلَفُ بِهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخِتَانُ لقوله تعالى : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ }
مَنْ مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ :
8 - لَا يُخْتَنُ الْمَيِّتُ الْأَقْلَفُ الَّذِي مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ . لِأَنَّ الْخِتَانَ كَانَ تَكْلِيفًا , وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ ; وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخِتَانِ التَّطْهِيرُ مِنْ النَّجَاسَةِ , وَقَدْ زَالَتْ الْحَاجَةُ بِمَوْتِهِ . وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيِّتِ فَلَا يُقْطَعُ , كَيَدِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ , أَوْ الْقِصَاصِ وَهِيَ لَا تُقْطَعُ مِنْ الْمَيِّتِ , وَخَالَفَ الْخِتَانُ قَصَّ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ ; لِأَنَّهُمَا يُزَالَانِ فِي الْحَيَاةِ لِلزِّينَةِ , وَالْمَيِّتُ يُشَارِكُ الْحَيَّ فِي ذَلِكَ , وَأَمَّا الْخِتَانُ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ لِلتَّكْلِيفِ بِهِ , وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ . وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ : إنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ لِأَنَّهُ كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَهِيَ تُزَالُ مِنْ الْمَيِّتِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَهُمْ : إنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ ; لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّغِيرِ .
مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلَا قُلْفَةٍ :(244/2)
9 - مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلَا قُلْفَةٍ فَلَا خِتَانَ عَلَيْهِ لَا إيجَابًا وَلَا اسْتِحْبَابًا , فَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْقُلْفَةِ شَيْءٌ يُغَطِّي الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا , وَجَبَ قَطْعُهُ كَمَا لَوْ خُتِنَ خِتَانًا غَيْرَ كَامِلٍ , فَإِنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ ثَانِيًا حَتَّى يُبِينَ جَمِيعَ الْقُلْفَةِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِزَالَتِهَا فِي الْخِتَانِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : إنَّهُ تُجْرَى عَلَيْهِ الْمُوسَى , فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقْطَعُ قُطِعَ .
( تَضْمِينُ الْخَاتِنِ ) :
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَضْمِينِ الْخَاتِنِ إذَا مَاتَ الْمَخْتُونُ بِسَبَبِ سِرَايَةِ جُرْحِ الْخِتَانِ , أَوْ إذَا جَاوَزَ الْقَطْعُ إلَى الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ قُطِعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ . وَحُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الطَّبِيبِ أَيْ أَنَّهُ يُضْمَنُ مَعَ التَّفْرِيطِ أَوْ التَّعَدِّي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ . وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إذَا خَتَنَ صَبِيًّا فَقَطَعَ حَشَفَتَهُ وَمَاتَ الصَّبِيُّ , فَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاتِنِ نِصْفُ دِيَتِهِ , وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ , وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ , فَيَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ . أَمَّا إذَا بَرِئَ فَيُجْعَلُ قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَهُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ , وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلًا وَهُوَ الدِّيَةُ ; لِأَنَّ الْحَشَفَةَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لَا ثَانِيَ لَهُ فِي النَّفْسِ فَيُقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَلِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إذَا كَانَ عَارِفًا مُتْقِنًا لِمِهْنَتِهِ وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ كَالطَّبِيبِ , لِأَنَّ الْخِتَانَ فِيهِ تَغْرِيرٌ فَكَأَنَّ الْمَخْتُونَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَا أَصَابَهُ . فَإِنْ كَانَ الْخَاتِنُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ , وَفِي كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلَانِ : فَلِابْنِ الْقَاسِمِ إنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ , وَعَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ إنَّهَا فِي مَالِهِ . لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ عَمْدًا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إذَا تَعَدَّى بِالْجُرْحِ الْمُهْلِكِ , كَأَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُهُ لِضَعْفٍ وَنَحْوِهِ أَوْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَمَاتَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ , فَإِنْ ظَنَّ كَوْنَهُ مُحْتَمِلًا فَالْمُتَّجَهُ عَدَمُ الْقَوَدِ لِانْتِفَاءِ التَّعَدِّي . وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلَا ; لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ , وَتَلْزَمُهُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ . فَإِنْ احْتَمَلَ الْخِتَانَ وَخَتَنَهُ وَلِيٌّ , أَوْ وَصِيٌّ , أَوْ قَيِّمٌ فَمَاتَ , فَلَا ضَمَانَ فِي الْأَصَحِّ لِإِحْسَانِهِ بِالْخِتَانِ , إذْ هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مَا دَامَ صَغِيرًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِتَعَدِّيهِ وَلَوْ مَعَ قَصْدِ إقَامَةِ الشِّعَارِ . وَلَمْ يَرَ الزَّرْكَشِيّ الْقَوَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُقِيمُ شَعِيرَةً . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إذَا عُرِفَ مِنْهُ حِذْقُ الصَّنْعَةِ , وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مُبَاحًا فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ , وَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ إذَا كَانَ الْخِتَانُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ , أَوْ وَلِيِّ غَيْرِهِ أَوْ الْحَاكِمِ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِذْقٌ فِي الصَّنْعَةِ ضَمِنَ ; لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ , فَإِنْ قُطِعَ فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ } وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَكَانَ حَاذِقًا وَلَكِنْ جَنَتْ يَدُهُ وَلَوْ خَطَأً , مِثْلُ أَنْ جَاوَزَ قَطْعَ الْخِتَانِ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا , أَوْ غَيْرَ مَحَلِّ الْقَطْعِ , أَوْ قَطَعَ بِآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا , أَوْ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ . وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إذَا قَطَعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ .
آدَابُ الْخِتَانِ :(244/3)
11 - تُشْرَعُ الْوَلِيمَةُ لِلْخِتَانِ وَتُسَمَّى الْإِعْذَارُ وَالْعَذَارُ , وَالْعُذْرَةُ , وَالْعَذِيرُ . وَالسُّنَّةُ إظْهَارُ خِتَانِ الذَّكَرِ , وَإِخْفَاءُ خِتَانِ الْأُنْثَى . وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِي الذَّكَرِ وَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْأُنْثَى لِلنِّسَاءِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ , وَالتَّفْصِيلُ فِي ( وَلِيمَةٌ , وَدَعْوَةٌ ) .
أَقْلَفُ التَّعْرِيفُ :
1 - الْأَقْلَفُ :
هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَنْ , وَالْمَرْأَةُ قَلْفَاءُ , وَالْفُقَهَاءُ يَخُصُّونَ أَحْكَامَ الْأَقْلَفِ بِالرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ . وَيُقَابِلُ الْأَقْلَفَ فِي الْمَعْنَى : الْمَخْتُونُ . وَإِزَالَةُ الْقُلْفَةِ مِنْ الْأَقْلَفِ تُسَمَّى خِتَانًا فِي الرَّجُلِ , وَخَفْضًا فِي الْمَرْأَةِ .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ :
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ الْقُلْفَةِ مِنْ الْأَقْلَفِ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ , لِتَضَافُرِ الْأَحَادِيثِ عَلَى ذَلِكَ , وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { الْفِطْرَةُ خَمْسٌ : الْخِتَانُ , وَالِاسْتِحْدَادُ , وَقَصُّ الشَّارِبِ , وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ , وَنَتْفُ الْإِبْطِ } . كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( خِتَانٌ ) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى أَنَّ الْخِتَانَ فَرْضٌ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالشَّعْبِيِّ وَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ , وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْأَقْلَفَ تَارِكُ فَرْضٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ 3 - يَخْتَصُّ الْأَقْلَفُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ : أ - رَدُّ شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إنْ كَانَ تَرْكُهُ الِاخْتِتَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ . وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبَيْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الِاخْتِتَانِ , وَتَرْكُ الْوَاجِبِ فِسْقٌ , وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ مَرْدُودَةٌ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى كَرَاهَةِ شَهَادَتِهِ . ب - جَوَازُ ذَبِيحَةِ الْأَقْلَفِ وَصَيْدِهِ , لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْفِسْقِ فِي الذَّبِيحَةِ وَالصَّيْدِ , وَلِذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إلَى أَنَّ ذَبِيحَةَ الْأَقْلَفِ وَصَيْدَهُ يُؤْكَلَانِ , لِأَنَّ ذَبِيحَةَ النَّصْرَانِيِّ تُؤْكَلُ فَهَذَا أَوْلَى . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ ذَبِيحَةَ الْأَقْلَفِ لَا تُؤْكَلُ , وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ وَالصَّيْدِ . ج - إذَا كَانَ الِاخْتِتَانُ - إزَالَةُ الْقُلْفَةِ - فَرْضًا , أَوْ سُنَّةً , فَلَوْ أَزَالَهَا إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . د - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ حَرَجٌ فِي غَسْلِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فَلَا يُطْلَبُ تَطْهِيرُهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ . أَمَّا إذَا كَانَ تَطْهِيرُهَا مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُوجِبُونَ تَطْهِيرَ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ فِي الْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ , لِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الْإِزَالَةِ , وَمَا تَحْتَهَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا فِي الْغُسْلِ وَالِاسْتِنْجَاءِ , وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَا يَرَوْنَ وُجُوبَ غَسْلِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ . هـ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُمْ مَنْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْقُلْفَةِ , إلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَغْسِلْ مَا تَحْتَهَا لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ , وَبِالتَّالِي لَا تَصِحُّ إمَامَتُهُ . وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَصِحُّ إمَامَتُهُ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ جَوَازَ إمَامَةِ الْأَقْلَفِ , وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ تَعْيِينِهِ إمَامًا رَاتِبًا , وَمَعَ هَذَا لَوْ صَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ لَمْ يُعِيدُوا صَلَاتَهُمْ .
مَا يُصْنَعُ بِالْمَيِّتِ قَبْلَ التَّغْسِيلِ وَبَعْدَهُ :(244/4)
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْبَخُورِ عِنْدَ تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ مُسْتَحَبٌّ , لِئَلَّا تُشَمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ . وَيَزْدَادُ فِي الْبَخُورِ عِنْدَ عَصْرِ بَطْنِهِ . وَأَمَّا تَسْرِيحُ الشَّعْرِ , وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ , وَحَلْقُ الْعَانَةِ , وَنَتْفُ الْإِبِطِ , فَلَا يُفْعَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْعَانَةِ , وَرِوَايَةً عِنْدَهُمْ فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا إلَّا فِي تَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَاللِّحْيَةِ , لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْعَلُ لِحَقِّ الزِّينَةِ , وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الزِّينَةِ . فَلَا يُزَالُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا , وَأَمَّا إنْ كَانَ ظُفْرُهُ مُنْكَسِرًا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ يُفْعَلُ كُلُّ ذَلِكَ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَهُمْ فِي تَقْلِيمِ الظُّفْرِ إنْ كَانَ فَاحِشًا , وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ . وَدَلِيلُ الْجَوَازِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ كَمَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ } . وَلِأَنَّ تَرْكَ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَحْوِهَا يُقَبِّحُ مَنْظَرَ الْمَيِّتِ , فَشُرِعَتْ إزَالَتُهُ . وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلَا يُشْرَعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , لِأَنَّهُ إبَانَةُ جُزْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ , كَمَا أَنَّهُ لَا يُحْلَقُ رَأْسُ الْمَيِّتِ . وَحَكَى أَحْمَدُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يُخْتَنُ . وَإِذَا فَرَغَ الْغَاسِلُ مِنْ تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ نَشَّفَهُ بِثَوْبٍ , لِئَلَّا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ . وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ رضي الله عنها { : فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْهَا فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا } . وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي غُسْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام قَالَ : فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ " .
ج - تَغْسِيلُ مَنْ لَا يُدْرَى حَالُهُ :
22 - لَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَكَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْخِتَانِ وَالثِّيَابِ وَالْخِضَابِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ , فَإِنَّهُ يَجِبُ غُسْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , سَوَاءٌ أَوُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَمْ دَارِ الْحَرْبِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ : أَنَّهُ إنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُغَسَّلُ , وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُغَسَّلُ , وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا , يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُهُمْ , مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ . وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ وُجِدَ بِفَلَاةٍ , لَا يُدْرَى أَمُسْلِمٌ هُوَ أَمْ كَافِرٌ ؟ فَلَا يُغَسَّلُ . وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ الْمَدَائِنِ فِي زُقَاقٍ , وَلَا يُدْرَى حَالُهُ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ ؟ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : وَإِنْ كَانَ مَخْتُونًا فَكَذَلِكَ , لِأَنَّ الْيَهُودَ يَخْتَتِنُونَ , وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَمِنْ النَّصَارَى أَيْضًا مَنْ يَخْتَتِنُ .
خِتَانُهُ :
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ خِتَانِ الْخُنْثَى عَلَى أَقْوَالٍ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْخُنْثَى الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يُشْتَهَى يَجُوزُ أَنْ يَخْتِنَهُ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ . وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالَ بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ : لَا يُوجَدُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ , وَيَرَى ابْنُ نَاجِي كَمَا نَقَلَهُ الْخَطَّابُ : أَنَّ الْخُنْثَى لَا يُخْتَتَنُ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ : تَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَمَسَائِلُهُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى لَا يُخْتَنُ فِي صِغَرِهِ , فَإِذَا بَلَغَ فَوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَشْهُورُ يَجِبُ خِتَانُ فَرْجَيْهِ . وَالثَّانِي : وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَرْحَ لَا يَجُوزُ بِالشَّكِّ , فَعَلَى الْأَوَّلِ , إنْ أَحْسَنَ الْخِتَانَ , خَتَنَ نَفْسَهُ , فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَوَلَّاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : يُخْتَنُ فَرْجَيْ الْخُنْثَى احْتِيَاطًا .
*********************
الختان بين موازين الطب والشريعة
بحث للعلامة الدكتور الطبيب محمد نزار الدقر
لتعريف اللغوي:
الختان بكسر الخاء اسم لفعل الخاتن ويسمى به موضع الختن، وهو الجلدة التي تقطع والتي تغطي الحشفة عادة، وختان الرجل هو الحرف المستدير على أسفل الحشفة وأما ختان المرأة فهي الجلد كعرف الديك فوق الفرج تعرف بالبظر، وهو عضو انتصابي عند المرأة مثل القضيب لكنه صغير الحجم ولا تخترقه قناة البول.
الختان عبر التاريخ :(244/5)
تشير المصادر التاريخية إلى أن بعض الأقوام القديمة قد عرفت الختان، وفي إنجيل برنابا (2) إشارة إلى أن آدم عليه السلام كان أول من اختتن وأنه فعله بعد توبته من أكل الشجرة ولعل ذريته تركوا سنته حتى أمر الله سبحانه نبيه إبراهيم عليه السلام بإحيائها.
وقد وجدت ألواح طينية ترجع إلى الحضارتين البابلية والسومرية [3500 ق.م] ذكرت تفاصيل عن عملية الختان(3)، كما وجدت لوحة في قبر عنخ آمون [ 2200ق.م] تصف عملية الختان عند الفراعنة وتشير إلى أنهم طبقوا مرهماً مخدراً على الحشفة قبل الشروع في إجرائها، وأنهم كانوا يجرون الختان لغرض صحي .
وأهتم اليهود بالختان (4) واعتبر التلمود من لم يختتن من الوثنيين الأشرار فقد جاء في سفر التثنية :" أختتنوا للرب وانزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم " .
أما في النصرانية فالأصل فيها الختان، وتشير نصوص من إنجيل برنابا إلى أن المسيح قد أختتن وأنه أمر أبتاعه بالختان، لكن النصارى لا يختتنون (5).
أما العرب في جاهليتهم فقد كانوا يختتنون اتباعاً لسنة أبيهم إبراهيم .
وذكر القرطبي (6) إجماع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من أختتن.
فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان إبراهيم أول من اختتن ، وأول من رأى الشيب وأول من قص شاربه وأول من استحد"[1].
وفد فصل ابن القيم (7) في ختان النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال ، ويرى أنها كلها تعتمد على أحاديث ضعيفة، أو أنه ليس لها إسناد قائم أو أن في إسنادها عدة مجاهيل مع التناقض الكبير في متونها.
فالقول الأول وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختوناً، فهو علاوة على ضعف إسناده، فهو يتناقض مع حديث صحيح اعتبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الختان من الفطرة، ذلك أن الابتلاء مع الصبر مما يضاعف أجر المبتلى وثوابه، والأليق بحال النبي صلى الله عليه وسلم ألا يُسلب هذه الفضيلة .
والقول الثاني أن الملك ختنه حين شق صدره لا يصح له إسناد مطلقاً، والأرجح القول الثالث وهو أن جده عبد المطلب ختنه على عادة العرب وسماه محمداً وأقام له وليمة يوم سابعة .
الختان في السنة النبوية المطهرة :
دعا الإسلام إلى الختان دعوة صريحة و جعله على رأس خصال الفطرة البشرية، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " الفطرة خمس : الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب " البخاري رقم/5439/.
وجاءت دعوة الإسلام إلى الختان متوافقة مع الحنيفية ـ ملة إبراهيم عليه السلام ـ فكان الختان كما أورد القرطبي عن عبد الله بن عباس ـ من الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه بهن فأتمهن وأكملهن فجعله إماماً للناس .
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد امتداحه لفعل إبراهيم هذا، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "اختتن إبراهيم بعدما مرت عليه ثمانون سنة، اختتن بالقدوم" رواه البخاري ومسلم والقدوم آلة صغيرة، وقيل هو موضع بالشام.
وعن موسى بن علي اللخمي عن أبيه قال : " أمر الله إبراهيم فاختتن بقدوم فاشتد عليه الوجع فأوحى الله عز وجل إليه، عجلت قبل أن نأمرك بالآلة، قال : يا رب كرهت أن أؤخر أمرك " أخرجه البيهقي بسند حسن.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الختان سنة الرجال، ومكرمة للنساء" أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي وقال حديث ضعيف منقطع.
وعن كثيم بن كليب عن أبيه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أسلمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ألق عنك شعر الكفر واختتن " أخرجه أحمد وأبو داود، وقال السيوطي بضعفه وفي أسناده مجهولان (نيل الأوطار)، وقد أورده ابن حجر في التلخيص ولم يضعفه ولكن برواية : " من أسلم فليختتن ".
الحكم الفقهي في الختان :
يقول ابن القيم(7) : اختلف الفقهاء في حكم الختان، فقال الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد هو واجب، وشدد مالك حتى قال : من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته. ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة حتى قال القاضي عياض : الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، السنة عندهم يأثم بتركها فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب.
وذهب البصري وأبو حنيفة : لا يجب بل هو سنة، ونقل عنه قوله : قد أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس: الأسود والأبيض فما فتش أحداً.
وخلاصة القول: وذهب الشافعية وبعض المالكية بوجوب الختان للرجال والنساء، و ذهب مالك وأصحابه على أنه سنة للرجال و مستحب للنساء، وذهب أحمد إلى أنه واجب في حق الرجال و سنة للنساء وذهب أبو حنيفة إلى أنه سنة، لكن يأثم تاركه... ويتابع ابن القيم : " ولا يخرج الختان عن كونه واجباً أو سنة مؤكدة، لكنه في حق الرجال آكد لغلظ القلفة ووقوعها على الإحليل فيجتمع تحتها ما بقي من البول، ولا تتم الطهارة ـ المطلوبة في كل وقت والواجبة في الصلاة ـ إلا بإزالتها .
ويقول النووي(8): " ويجب الختان لقوله تعالى : " (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً ) . ولأنه لو لم يكن واجباً لما كشفت له العورة، لأنه كشف العورة محرم، فلما كشفت له العورة دل على وجوبه " .
ويعدد ابن القيم المواضع التي يسقط فيها وجوب الختان : منها " أن يولد الرجل ولا قلفة له، وضعف المولود عن احتماله بحيث يخاف عليه من التلف، وأن يسلم الرجل كبيراً ويخشى على نفسه منه، والموت فلا ينبغي ختان الميت باتفاق الأمة ولأن النبي صلى الله عليه قد أخبر أن الميت يبعث يوم القيامة بغرلته غير مختون فليس ثمة فائدة من ختنه عند الموت ".(244/6)
وهنا يأتي دور الطب إذ يحدد أمراضاً (3) تمنع حاملها من أن يعمد إلى ختانه. منها إصابة الطفل بالتهاب الكبد الإنتاني (اليرقان) أو إصابته بأحد الأمراض المنتقلة بالجنس كالإفرنجي والإيدز، ففي هذه الحالات يجب معالجة المولود حتى يتم شفاؤه أو إعداده بشكل يكفل سلامته قبل إجراء الختان.
وقد أتفق الجمهور على عدم ثبوت وقت معين للختان، لكن من أوجبه من الفقهاء جعلوا البلوغ " وقت الوجوب " لأنه سن التكليف، لكن يستحب للولي أن يختن الصغير لأنه أرفق به " .
وقال النووي باستحباب الختان لسابع يوم من ولادته لما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما وختنهما لسبعة أيام [2].
إلا أن يكون ضعيفاً لا يحتمله، فيؤخره حتى يحتمله ويبقى الأمر على الندب إلى قبيل البلوغ، فإن لم يختتن حتى بلوغه وجب في حقه حينئذ.
وفي هذا يقول ابن القيم (7) : " وعندي يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ بحيث يبلغ مختوناً فإن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به ".
وقال النووي(8): " وأما الرجل الكبير يسلم فالختان واجب على الفور إلا أن يكون ضعيفاً لا يحتمله بحيث لو ختن خيف عليه، فينتظر حتى يغلب على الظن سلامته ".
يقول د. محمد علي البار (5) أن الأبحاث الطبية أثبتت فائدة الختان العظمى في الطفولة المبكرة ابتداءً من يوم ولادته وحتى الأربعين يوماً من عمره على الأكثر، وكلما تأخر الختان بعدها كثرت الالتهابات في القلفة والحشفة والمجاري البولية.
وفي حكمة الختان يقول ابن القيم (7) : " .. فشرع الله للختان صيغة الحنيفية وجعل ميسمها الختان.. هذا عدا ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزين وتحسين الخلقة وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، فالختان يعدلها ولهذا تجد الأقلف من الرجال والقلفاء من النسا لا يشبع من الجماع. والحكمة التي ذكرناها في الختان تعم الذكر والأنثى وإن كانت في الذكر أبين والله أعلم ".
أما في بيان القدر الذي يوخذ في الختان فقد ذكر النووي(8) أن الواجب في ختان الرجل قطع الجلد التي تغطي الحشفة كلها فإن قطع بعضها وجب قطع الباقي ثانياً.
ويستحب أن يقتصر في المرأة على شيء يسير ولا يبالغ في القطع.
الختان ينتصر :
في عام 1990 كتب البروفيسور ويزويل : (18)"لقد كنت من اشد أعداء الختان و شاركت في الجهود التي بذلت عام 1975 ضد إجرائه، إلا أنه في بداية الثمانينات أظهرت الدراسات الطبية زيادة في نسبة حوادث التهابات المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين، و بعد تمحيص دقيق للأبحاث التي نشرت، فقد وصلت إلى نتيجة مخالفة وأصبحت من أنصار جعل الختان أمراً روتينياً يجب أن يجري لكل مولود " .
نعم ! لقد عادت الفطرة البشرية لتثبت من جديد أنها الفطرة التي لا تتغير على مدى العصور، وأن دعوة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليتحلى المؤمن ويتخلق بخصال الفطرة هي دعوة حق إلى سعادة البشر جميعاً.
الحكم الصحية من ختان الذكور :
أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن أمراضاً عديدة في الجهاز التناسلي بعضها مهلك للإنسان تشاهد بكثرة عند غير المختونين بينما هي نادرة معدومة عند المختونين (1).
1 ـ الختان وقاية من الالتهابات الموضعية في القضيب : فالقلفة التي تحيط برأس القضيب تشكل جوفاً ذو فتحة ضيقة يصعب تنظيفها، إذ تتجمع فيه مفرزات القضيب المختلفة بما فيها ما يفرز سطح القلفة الداخلي من مادة بيضاء ثخينة تدعى " اللخن "Smegma وبقايا البول والخلايا المتوسفة والتي تساعد على نمو الجراثيم المختلفة مؤدية إلى التهاب الحشفة أو التهاب الحشفة و القلفة الحاد أو المزمن والتي يصبح معها الختان أمراً علاجياً لا مفر منه(5) وقد تؤدي إلى التهاب المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين.
وتؤكد دراسة د.شوبن (9) أن ختان الوليد يسهل نظافة الأعضاء الجنسية ويمنع تجمع الجراثيم تحت القلفة في تفرة الطفولة، وأكد د.فرغسون(4) أن الأطفال غير المختونين هم أكثر عرضة للإصابة بالتهاب الحشفة وتضيق القلفة Phemosis من المختونين.
2 ـ الختان يقي الأطفال من الإصابة بالتهاب المجاري البولية : وجد جنز برغ (4) أن 95% من التهابات المجاري البولية عند الأطفال تحدث عند غير المختونين. ويؤكد أن جعل الختان أمراً روتينياً يجري لكل مولود في الولايات المتحدة منع حدوث أكثر من 50 ألف حالة من التهاب الحويضة والكلية سنوياً عند الأطفال. وتؤكد مصادر د. محمد علي البار (5) الخطورة البالغة لالتهاب المجاري البولية عند الأطفال وأنها تؤدي في 35% من الحالات إلى تجرثم الدم وقد تؤدي إلى التهاب السحايا والفشل الكلوي.
3 ـ الختان و الأمراض الجنسية : أكد البروفيسور وليم بيكوز(10) الذي عمل في البلاد العربية لأكثر من عشرين عاماً، وفحص أكثر من 30 ألف امرأة، ندرة الأمراض الجنسية عندهم وخاصة العقبول التناسلي والسيلان والكلاميديا والتريكوموناز وسرطان عنق الرحم، ويُرجع ذلك لسببين هامين ندرة الزنى وختان الرجال.
ويرى آريا وزملاؤه (5) أن للختان دوراً وقائياً هاماً من الإصابة بكثير من الأمراض الجنسية وخاصة العقبول والثآليل التناسلية. كما عدد فنك (11) Fink أكثر من 60 دراسة علمية أثبتت كلها ازدياد حدوث الأمراض الجنسية عند غير المختونين.(244/7)
وأورد د. ماركس Marks(4) خلاصة 3 دراسات تثبت انخفاض نسبة مرض الإيدز عند المختونين، في حين وجد سيمونس وزملاؤه أن احتمال الإصابة بالإيدز بعد التعرض لفيروساته عند غير المختونين هي تسعة أضعاف ما هو عليه عند المختونين.
أليس هذا بالأمر العجيب(4) ؟
حتى أولئك الذين يجرؤون على معصية الله يجدون في التزامهم بخصلة من خصال الفطرة إمكانية أن تدفع عنهم ويلات هذا الداء الخبيت، لكن لا ننكر أن الوقاية التامة من الإيدز تكون بالعفة والامتناع عن الزنى.
4 ـ الختان و الوقاية من السرطان :
يقول البرفسور كلو دري(12): " يمكن القول و بدون مبالغة بأن الختان الذي يجري للذكور في سن مبكرة يخفض كثيراً من نسبة حدوث سرطان القضيب عندهم، مما يجعل الختان عملية ضرورية لابد منها للوقاية من حدوث الأورام الخبيثة ".
وقد أحصى د.أولبرتس (13) [1103] مرضى مصابين بسرطان القضيب في الولايات المتحدة، لم يكن من بينهم رجل واحد مختون منذ طفولته.
وفي بحث نشره د. هيلبرغ وزملاؤه (14) أكدوا فيه أن سرطان القضيب نادر جداً عند اليهود، وعند المسلمين حيث يجري الختان أيام الطفولة الأولى . وإن أبحاثاً كثيرة جداً تؤكد أن الختان يقي من السرطان في القضيب.
وتذكر هذه الأبحاث أن التهاب الحشفة وتضيق القلفة هما من أهم مسببات سرطان القضيب، ولما كان الختان يزيل القلفة من أساسها، فإن المختونين لا يمكن أن يحدث عندهم تضيق القلفة، ويندر جداً حدوث التهاب الحشفة.
وقد ثبت أم مادة اللخن (4و5) التي تفرزها بطانة القلفة عند غير المختونين والتي تتجمع تحت القلفة لها فعل مسرطن أيضاً.
فقد أثبتت الأبحاث أن هذه المادة تشجع على نمو فيروس الثآليل الإنساني HPV الذي ثبت بشكل قاطع أثره المسرطن.
أما الدكتور رافيتش (15) فيؤكد على دور الختان في الوقاية من أورام البروستات، على الرغم من أنه لا توجد دلالة قاطعة تثبت ذلك، غير أنه في المؤتمر الذي عقد في مدينة دوسلدورف الألمانية عن السرطان والبيئة، أشير إلى العلاقة السلبية بين سرطان البروستات الذي يصيب الرجال وبين الختان، وأن الرجال المختونين أقل تعرضاً للإصابة بهذا السرطان من غير المختونين.
وفي نفس المؤتمر كشف النقاب أيضاً عن أن النساء المتزوجات من رجال مختونين هن أقل تعرضاً للإصابة بسرطان الرحم من النساء المتزوجات من رجال غير مختونين.
من هنا نفهم أن دور الختان لا يقتصر على حماية الرجل " المختون " من الإصابة بالسرطان بل يظهر تأثيره الوقائي عند زوجات المختونين أيضاً.
وهكذا يؤكد د. هاندلي (16) أن الختان عند الرجال يقي نساءهم من الإصابة بسرطان عنق الرحم، وذكر أن الحالة الصحية للقضيب والتهاباته تشكل خطراً على المرأة يفوق الخطر الذي يتعرض له الرجال نفسه.
وقد وجد الباحثون (5) أدلة على اتهام فيروس الثآليل الإنساني HPV بتسبب سرطان القضيب لدى غير المختونين، وسرطان عنق الرحم عند زوجاتهم إذ أنهن يتعرضن لنفس العامل المسرطن الذي يتعرض له الزوج.
نخلص من ذلك إلى القول بأن عدم إجراء الختان في سن الطفولة المبكرة يؤدي على ظهور مجموعة من العوامل، منها وجود اللخن (مفرز باطن القلفة )، وتجمع البول حولها ومن ثم تعطنه وتنامي فيروس الثآليل الإنساني وغيره من العوامل المخرشة واليت تؤدي في النهاية إلى ظهور سرطان القضيب عند الأقلف الذي تجاوز عمره الخمسين وحتى السبعين عاماً.
وبانتقال تلك المخرشات إلى عنق الرحم عند زوجته أمكن أن يؤدي عندها إلى الأصابة بسرطان عنق الرحم أو سرطان الفرج.
وإن عملية التنظيف للقلفة لدى غير المختونين لوقايتهم من السرطان، كما يدعو إلى ذلك بعض أطباء الغرب، هي عملية غير مدية على الإطلاق كما يؤكد البروفسور ويزويل (5) فهو يقول بأنه ليس هناك أي دليل على الاطلاق على أن تنطيف القلفة يمكن أن يفيد في الوقاية من السرطان والاختلاطات الأخرى المرتبطة بعدم إجراء عملية الختان.
ونحن مع الدكتور محمد علي البار ـ نرى أن الطب الحديث يؤيد وبقوة ما ذهب إليه الشافعية من استحباب الختان في اليوم السابع، ولحد أقصى [يوم الأربعين] من ولادة الطفل.
وإن ترك الطفل سنوات حتى يكبر دون أن يختن، يمكن ـ كما رأيناـ أن يؤدي إلى مضاعفات خطرة هو في غنى عنها.
ختان البنات :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية وهي ختانة كانت تختن النساء في المدينة : " إذا خفضت فأشمّي ولا تُنهكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج " [3].
وفي رواية قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا ختنت فلا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل " [4].
وعن شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على نسوة من الأنصار فقال: " يا معشر الأنصار اختضبن غمساً واخفضن ولا تُنهكن فإنه أحظى عند أزواجكن وإياكن وكفر المنعمين " [5].
والمنعم هنا هو الزوج، ويقال لختان المرأة : الخفض والإعذار.
وقوله [أشمّي] من الإشمام وهو كما قال ابن الأثير: أخذ اليسير في خفض المرأة، أو اتركي الموضع أشم، والأشم المرتفع، [ ولا تنهكي] أي لا تبالغي في القطع، وخذي من البظر الشيء اليسير، وشبه القطع اليسير بإشمام الرائحة، والنهك بالمبالغة فيه، أي أقطعي من الجلدة التي على نواة البظر ولا تستأصليها.
ونقل ابن القيم (7) عن الماوردي قوله : " وأما خفض المرأة فهو قطع جلدة في الفرج فوق مدخل الذكر ومخرج البول على أصل النواة، ويؤخذ من الجلدة المستعلية دون أصلها " .(244/8)
هذه النواة هي البظر، والجلدة التي عليها وهي التي تقطع في الختان، والتي شبهها الفقهاء بعرف الديك والمسماة بالقلفة، والتي تتجمع فيها مفرزات اللخن (مفرزات باطن القلفة) مثل ما يحدث في الذكر عندما تكون تلك القلفة مفرطة النمو، لذا أمرت السنة المطهرة بإزالتها .
وجمهور فقهاء المسلمين على أن الأمر للندب أو الاستحباب، عدا الشافعية الذين قالوا بوجوبه.
يقول د. محمد علي البار (5) : هذا هو الختان الذي أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وأما ما يتم في مناطق من العالم من أخذ البظر بكامله، أو البظر مع الشفرين الصغيرين، أو حتى مع الشفرين الكبيرين أحياناً، فهو مخالف للسنة ويؤدي إلى مضاعفات كثيرة.
وهو الختان المعروف بالختان الفرعوني، وهو على وصفه، لا علاقة له مطلقاً بالختان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
لذا فإن الضجة المفتعلة ضد ختان البنات لا مبرر لها، لأن المضاعفات التي يتحدثون عنها ناتجة عن شيئين لا ثالث لهما: مخالفة السنة، وإجراء العملية دون طهارة مسبقة ومن قبل غير ذوي الخبرة من الجاهلات.
الختان الشرعي له فوائده، فهو اتباع لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وطاعة لأمره خاصة وأنه من شعائر الإسلام، وفيه ذهاب الغلمة والشبق عن المرأة وما في ذلك من المحافظة على عفتها، وفيه وقاية من الالتهابات الجرثومية التي تتجمع تحت القلفة النامية " .
أما د. حامد الغوابي (17) فيقول: " فانظر إلى كلمة (لا تنهكي) أي لا تستأصلي، أليس هذه معجزة تنطق عن نفسها، فلم يكن الطب قد أظهر شيئاً عن هذا العضو الحساس [ البظر]، ولا التشريح أبان عن الأعصاب التي فيه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علمه الخبير العليم، عرف ذلك الأمر فأمر بألا يستأصل العضو كله ".
ويتابع د. الغوابي كلامه عن فوائد ختان البنات : " تتراكم مفرزات الشفرين الصغيرين عند القلفاء وتتزنخ ويكون لها رائحة كريهة وقد يؤدي إلى التهاب المهبل أو الإحليل، وقد رأيت حالات كثيرة سببها عدم إجراء الختان عند المصابات.
والختان يقلل الحساسية المفرطة للبظر الذي قد يكون شديد النمو بحيث يبلغ أكثر من 3 سنتمترات عند انتصابه فكيف للرجل أن يختلط بزوجته ولها عضو كعضوه، ينتصب كانتصابه " .
ويرد د. الغوابي على من يدعي أن ختان البنات يؤدي على البرودة الجنسية عندهن، بأن البرود الجنسي له أسباب كثيرة، وأن هذا الإدعاء ليس مبنياً على إحصاءات وشواهد بين المختتنات وغير المختتنات، طبعاً إلا أن يكون ختاناً فرعونياً أدى إلى قطع البظر بكامله.
ثم ينقل عن البروفسور هوهنر ـ أستاذ أمراض النساء في جامعة نيويوركـ بأن التمزقات التي تحدث في المهبل أثناء الوضع تحدث بردواً جنسياً بعكس ما كان منتظراً، في حين أن الأضرار التي تصيب البظر نادراً ما تقود إلى البرود الجنسي.
ومن فوائد الختان (17) منعه من ظهور تضخم البظر أو ما يسمى بإنعاظ النساء، وهو إنعاظ متكرر أو مؤلم مستمر للبظر، كما يمنع ما يسمى نوبة البظر وهو تهيج عند النساء المصابات بالضنى يرافقه تخبط بالحركة وغلمنة شديدة وهو معند على المعالجة.
وفي المؤتمر الطبي الإسلامي (4) عن الشريعة والقضايا المعاصرة [القاهرة 1987] قدمت فيه بحوث عن خفاض الأنثى أكد فيه د. محمد عبد الله سيد خليفة أضرار الختان الفرعوني وتشويهه للأماكن الحساسة من جسد الأنثى، وأن الخافضة هنا تنهك إنهاكاً فتزيل البظر بكامله والشفرين إزالة شبه تامة مما ينتج عنه ما يسمى بالرتق وهو التصاق الشفرين ببعضهما .
وأكد ذلك د. محمد حسن الحفناوي وزملاؤه من جامعة عين شمس وبينوا أن أضرار ختان الأنثى ناتج عن المبالغة في القطع الذي نهى عنه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أو عن إجراء الخفض بأدوات غير عقيمة أو بأيدي غير خبيرة، وليس عن الختان الشرعي نفسه.
وخلاصة القول يتضح لنا أن الحكمة الطبية من الختان، الذي دعت إليه الشريعة الإسلامية، تظهر عند الرجال أكثر بكثير مما تظهر عند النساء، ونستطيع القول أنه في البلاد ذات الطقس الحار كصعيد مصر والسودان والجزيرة العربية وغيرها، فإنه يغلب أن يكون للنساء بظر نام يزيد في الشهوة الجنسية بشكل مفرط، وقد يكون شديد النمو إلى درجة يستحيل معها الجماعن ومن هنا كان من المستحب استئصال مقدم البظر لتعديل الشهوة في الحالة الأولى، ووجب استئصاله لجعل الجماع ممكناً في الحالة الثانية وهذا الرأي الطبي يتوافق مع رأي الجمهور من فقهاء الأمة الذين أوجبوا الختان على الرجال وجعلوه سنة أو مكرمة للنساء مصداقاً لتوجيهات نبي الأمة صلى الله عليه وسلم .
مراجع البحث :
د . محمد نزار الدقر : مقالة " الختان بين الطب والإسلام " مجلة حضارة الإسلام 14 رمضان 1393هـ.
د. عبد السلام السكري : " ختان الذكر وخفاض الأنثى " الدار المصرية للنشر 1989.
د. عبد الرحمن القادري : " الختان بين الطب والشريعة " ابن النفيس دمشق 1996.
د. حسان شمسي باشا : أسرار الختان تتجلى في الطب و الشريعة مكتبة السوادي جدة 1991
د . محمد علي البار الختان دار المنار
الإمام القرطبي : " الجامع لأحكام القرآن " أو ما يسمى بتفسير القرطبي.
ابن القيم الجوزية: " تحفة المودود في أحكام المولود " .
الإمام النووي : " المجموع " .
9. Schoen: New England J. Of Medicine.1990.322.
10. Pikers W: Med .Dijest Jour.April.1977.
11. Fink A J.Circumcision .Mountion View .California .1988.
12. Cowdry E.V:" Cancer Cells ".london.1958.
13. Wollberg A.L : Circumcision and Penile Cancer " Lancet .I .1932.(244/9)
14. Helberg D.et al "Penil Cancer .Brit .Med.J.1987.8.
15. Ravich A . "Cancer of Prostate " Act.len. Internet.Cacer .V3.1952.
16. Handley W.S " Prevention of Cacer " Lancet .1.1.1936.
17. د . حامد الغوابي : " ختان البنات " لواء الإسلام ـ العدد 7و10 ، م 11 ـ 1957.
18. البروفيسور ويزويل عن مجلة : Amer .Famiy J .Physician
--------------------------------------------------------
[1] أخرجه مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان.
[2] أخرجه أبو الشيخ في كتاب " العقيقة " وفي سنده الوليد بن مسلم وهو مدلس كما أخرجه ابن عساكر في كتاب " تبيين الأمتنان" .
[3] أخرجه الطبراني في الأوسط والهيثمي في مجمع الزوائد وقال : إسناده حسن.
[4] أخرجه البيهقي بسند حسن، وأخرجه أبو داود بسند آخر ليس بالقوي.
[5] رواه البزار وفي سنده مندل بن علي وهو ضعيف وقد وثق وبقية رجاله ثقات (الهيثمي).
******************
ما يؤخذ من الإنسان كعضو وشعر ونحوه هل يحرق ؟
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء اسم المفتى
13290 رقم الفتوى
30/05/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
الفتوى رقم (8099)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من اللواء عبدالمحسن بن عبدالله آل الشيخ، مدير إدارة الشئون الدينية للقوات المسلحة، المقيد في إدارة البحوث برقم 280 في 27/1/1405هـ، الآتي نصه.
نحيل لكم مذكرة السؤال الوارد إلينا من مدير فرع الشئون الدينية بالمنطقة الغربية رقم 8 وتاريخ 11/1/1405هـ، ونرغب من سماحتكم في إعطائنا الحكم الشرعي في ذلك، حيث عندنا مستشفيات كثيرة تابعة لوزارة الدفاع والطيران، وتكون الحالات فيها مشابهة، ويطلبون منا حكماً في طريقة التخلص من الأجزاء الآدمية الناتجة عن بعض العمليات الجراحية، حيث يذكرون أن طريقة التخلص منها عندهم الحرق. والأجزاء هي:
1 - الأجزاء المبتورة نتيجة للإصابة في الحوادث.
2 - الأجزاء التي لا نتوقع منها إصابتها بمرض مثل نواتج الطهارة (الختان للذكور).
3 - المشيمة الناتجة عن الولادة ونواتج الحمل في مختلف مراحله (الإسقاط).
4- نواتج أعمال الأسنان والضروس وما شابهها.
نأمل من سماحتكم التكرم بإعطائنا الحكم الشرعي لنتمكن من تعميمه على مستشفيات وزارة الدفاع والطيران وفقكم الله.
وأجابت بما يلي:
نص الفتوى
الحمد لله
لا يجوز إحراقها، بل الواجب دفنها في محل طاهر، إلا إذا كان السقط قد نفخت فيه الروح، وهو الذي مضى عليه أربعة اشهر، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين إذا كان مولوداً بين مسلمين، أو بين والدين أحدهما مسلم، أما إن كان السقط من والدين كافرين فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه بل يدفن في ثيابه، أو في لفافة في أرض مجهولة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو: عبدالله بن قعود
عضو: عبدالله بن غديان
نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.
*************
حكم الختان
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز اسم المفتى
10008 رقم الفتوى
13/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
ما حكم الختان؟
نص الفتوى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وبعد:
أما الختان فهو من سنن الفطرة ومن شعار المسلمين لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط) فبدأ صلى الله عليه وسلم بالختان وأخبر أنه من سنن الفطرة .
والختان الشرعي : هو قطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط ، أما من يسلخ الجلد الذي يحيط بالذكر أو يسلخ الذكر كله كما في بعض البلدان المتوحشة ويزعمون جهلا منهم أن هذا هو الختان المشروع فما هو إلا تشريع من الشيطان زينه للجهال وتعذيب للمختون ومخالفة للسنة المحمدية والشريعة الإسلامية التي جاعت باليسر والسهولة والمحافظة على النفس .
وهو محرم لعدة وجوه منها :
1- أن السنة وردت بقطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط .
2- أن هذا تعذيب للنفس وتمثيل بها ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة وعن صبر البهائم والعبث بها أو تقطيع أطرافها ، فالتعذيب لبني آدم من باب أولى وهو أشد إثما .
3- أن هذا مخالف للإحسان والرفق الذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) الحديث .
4- أن هذا قد يؤدي إلى السراية وموت المختون وذلك لا يجوز لقوله تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله سبحانه : {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ولهذا نص العلماء على أنه لا يجب الختان الشرعي على الكبير إذا خيف عليه من ذلك .
أما التجمع رجالا ونساء في يوم معلوم لحضور الختان وإيقاف الولد متكشفا أمامهم فهذا حرام لما فيه من كشف العورة التي أمر الدين الإسلامي بسترها ونهى عن كشفها .
وهكذا الاختلاط بين الرجال والنساء بهذه المناسبة لا يجوز لما فيه من الفتنة ومخالفة الشرع المطهر .
***************
حلق شعر رأس البنت بعد ولادتها وختانها
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز اسم المفتى
11439 رقم الفتوى
13/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال(244/10)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخت المكرمة : ن . س . ر . خ . سلمها الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد :
فأشير إلى استفتائك المقيد في إدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 4312 وتاريخ 23 / 11 / 1407 هـ الذي تسألين فيه عن : ختان البنات وحلق شعر البنت بعد ولادتها . . ؟
نص الفتوى
الحمد لله
وأفيدك : أن السنة حلق رأس الطفل الذكر عند تسميته في اليوم السابع فقط ، أما الأنثى فلا يحلق رأسها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عند يوم سابعه ويحلق ويسمى). خرجه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربع بإسناد حسن .
******************
ختان البنات
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز اسم المفتى
11441 رقم الفتوى
13/06/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية حفظه الله تقوم بعض الدول الإسلامية بختان الإناث معتقدة أن هذا فرض أو سنة .
مجلة " المجلة " تقوم بإعداد موضوع صحفي عن هذا الموضوع ، ونظرا لأهمية معرفة رأي الشرع في هذا الموضوع ، نرجو من سماحتكم إلقاء الضوء على الرأي الشرعي فيه .
شاكرين ومقدرين لفضيلتكم هذه المشاركة ، وتمنياتنا لفضيلتكم موفور الصحة والسداد .
وتقبلوا منا خالص التحيات
مسئول التحرير بالنيابة.
نص الفتوى
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد :
ختان البنات سنة ، كختان البنين ، إذا وجد من يحسن ذلك من الأطباء أو الطبيبات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط متفق على صحته .
وفق الله الجميع لما يرضيه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأما الختان للنساء فهو مستحب وليس بواجب؛ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : (خمس من الفطرة الختان وإلاستحداد وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة). متفق على صحته . وفق الله الجميع لما فيه رضاه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
***************
حكم الزواج من امرأة لم تختن
يوسف القرضاوي اسم المفتى
20827 رقم الفتوى
05/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
ما الحكم فى الزواج من امرأة لم تختن؟
نص الفتوى
أخي السائل سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد
يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي "هذا الموضوع اختلف فيه العلماء والأطباء أنفسهم، وقامت معركة جدلية حوله في مصر منذ سنوات، من الأطباء من يؤيد، ومنهم من يعارض، ومن العلماء من يؤيد ومنهم من يعارض، ولعل أوسط الأقوال وأعدلها وأرجحها، وأقربها إلى الواقع، وإلى العدل في هذه الناحية، هو الختان الخفيف، كما جاء في بعض الأحاديث - وإن لم تبلغ درجة الصحة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة كانت تقوم بهذه المهمة، قال لها: " أشمي ولا تنهكي . فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج " " والإشمام " هو التقليل، ولا تنهكي أي لا تستأصلي، فهذا يجعل المرأة أحظى عند زوجها، وأنضر لوجهها فلعل هذا يكون أوفق .
ومن هنا فلا يمنع الشرع من الزواج من امرأة لم تختن لأن الختان لا يعدو كونه مكرمة للنساء، وإذا كان من شيء فلابد من معرفة أن المرأة التي لم تختن تكون أحوج إلى زوجها من غيرها.
والله تعالى أعلى وأعلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والبلاد الإسلامية تختلف بعضها عن بعض في هذا الأمر، فمنها من يختن ومنها من لا يختن . وعلى كل حال، من رأى أن ذلك أحفظ لبناته فليفعل، وأنا أؤيد هذا، وخاصة في عصرنا الحاضر، ومن تركه فلا جناح عليه، لأنه ليس أكثر من مكرمة للنساء، كما قال العلماء، وكما جاء في بعض الآثار.
أما الختان للذكور فهو من شعائر الإسلام، حتى قرر العلماء أن الإمام لو رأى أهل بلد تركوه لوجب عليه أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى هذه السنة المميزة لأمة الإسلام .
والله أعلم.
**************
حكم الختان للرجل والمرأة
يوسف القرضاوي اسم المفتى
20862 رقم الفتوى
05/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
ما حكم الختان للمرأة والرجل؟
نص الفتوى
أخي الكريم سلام الله عليك ورحمته وبركاته، وبعد
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب". متفق عليه. والفطرة في الحديث فسرها أكثر العلماء بالسنة، قال النووي رحمه الله: تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب. والسنة هنا هي الطريقة المتبعة، وقد اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة كما ثبت ذلك في حديث متفق عليه، وقال تعالى: ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين). [النحل:123]. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في حكمه بعد اتفاقهم على مشروعيته. فقال الشعبي وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد ومالك والشافعي وأحمد هو واجب، وشدد فيه مالك حتى قال من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته. ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، ولكن السنة عندهم يأثم تاركها فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب.
وقال أبو حنيفة والحسن: لا يجب بل هو سنة، ففي شرح المختار للموصلي قال: إن الختان سنة للرجال وهو من الفطرة، وللنساء مكرمة فلو اجتمع أهل مصر ( بلد) على ترك الختان قاتلهم الإمام لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه. أهـ(244/11)
وقال ابن قدامة رحمه الله عنه في (المغني): إن الختان واجب على الرجال ومكرمة في حق النساء وليس بواجب عليهن. وفي رواية أخرى عنه -رأي أحمد- أنه واجب على الرجال والنساء. - والختان لو لم يكن واجباً في حق الرجال لما جاز كشف العورة للكبير ليقوم به، ولما اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة، وقد استدل الفقهاء على ختان النساء بحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: إن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل" رواه أبو داود.
وجاء ذلك مفصلا في رواية أخرى تقول: إنه عندما هاجر النساء كان فيهن أم حبيبة، وقد عرفت بختان الجواري فلما زارها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها يا أم حبيبة هل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ فقالت نعم يا رسول الله إلا أن يكون حراماً فتنهانا عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو حلال" وقال صلى الله عليه وسلم: " يا نساء الأنصار اختفضن (اختتن) ولا تنهكن أي لا تبالغن في الخفاض" رواه البيهقي في شعب الإيمان وجاء التعليل لهذا بأنه أحظى للزوج وأنضر للوجه وهو لضبط ميزان الحس الجنسي عند الفتاة.
وفائدة الختان للرجال معلومة إذ هو عند الرجال إزالة الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف الحشفة كلها ولهذا فوائد صحية عظيمة ويكفي أنه اتباع لأمر النبي صلى الله عليه واتباع لسنة إبراهيم عليه السلام.
ومن ذهب من الأطباء إلى منع الناس منه بدعوى أن له ضرراً فلا يلتفت إلى قوله لأن قوله مصادم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
ويقول الدكتور الشيخ: يوسف عبد الله القرضاوي عن ختان النساء:
هذا الموضوع اختلف فيه العلماء والأطباء أنفسهم، وقامت معركة جدلية حوله في مصر منذ سنوات، من الأطباء من يؤيد، ومنهم من يعارض، ومن العلماء من يؤيد ومنهم من يعارض، ولعل أوسط الأقوال وأعدلها وأرجحها، وأقربها إلى الواقع، وإلى العدل في هذه الناحية، هو الختان الخفيف، كما جاء في بعض الأحاديث - وإن لم تبلغ درجة الصحة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة كانت تقوم بهذه المهمة، قال لها: " أشمي ولا تنهكي . فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج" والإشمام " هو التقليل، ولا تنهكي أي لا تستأصلي، فهذا يجعل المرأة أحظى عند زوجها، وأنضر لوجهها فلعل هذا يكون أوفق .
والبلاد الإسلامية تختلف بعضها عن بعض في هذا الأمر، فمنها من يختن ومنها من لا يختن . وعلى كل حال، من رأى أن ذلك أحفظ لبناته فليفعل، وأنا أؤيد هذا، وخاصة في عصرنا الحاضر، ومن تركه فلا جناح عليه، لأنه ليس أكثر من مكرمة للنساء، كما قال العلماء، وكما جاء في بعض الآثار.
أما الختان للذكور فهو من شعائر الإسلام، حتى قرر العلماء أن الإمام لو رأى أهل بلد تركوه لوجب عليه أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى هذه السنة المميزة لأمة الإسلام . والله أعلم.
****************
لا للختان الفرعوني
، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني
"إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"
الختان للذكر والأنثى من سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب".1
بعد أن أجمع العلماء على وجوب ختان الذكر، اختلفوا في حكم ختان الأنثى على أقوال هي: واجب، سنة، مكرمة؛ أرجحها أنه واجب كختان الذكر، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم، منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشافعي، وسُحنون من المالكية، ورواية عن الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ منصور بن يونس البهوتي الحنبلي المتوفى 1050هـ، وغيرهم كثير من المقدمين والمحدثين، واستدلوا على وجوب ختان الأنثى بالآتي:
1. ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"، وهما موضع القطع من ذكر الغلام وفرج الأنثى.
2. ما خرجه أبوداود2 وغيره من أهل السنن عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن امرأة كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل".
والعلة في ختان الذكر تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة، والعلة في ختان الأنثى تعديل شهوتها، فإنها إن كانت غلفاء كانت مغتلمة شديدة الشهوة، ويالها من علة عظيمة وحكمة كريمة.
ولهذا يقال في المشاتمة: يا ابن القلفاء! لأن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر، كما قال شيخ الإسلام مفتي الأنام ابن تيمية في مجموع الفتاوى.3
وبادئ ذي بدء لابد من التذكير والتنبيه على أننا عندما نقول بوجوب ختان الأنثى نعني بذلك الختان السني، وهو أن يقطع شيء يسير وهو أعلى الجلدة التي كعرف الديك.
أما الختان الفرعوني فهو حرام، ويكفيه سوء نسبته إلى إمام من أئمة الكفر وإلى ملة وثنية، بجانب الأضرار البليغة والمخاطر الكثيرة الناتجة منه، نحو:
1. مخاطر الولادة والنزيف.
2. إضعاف الشهوة عند المرأة.
3. عدم تحقيق المقصود للزوج.
فالحاملون على الختان السني نوعان، منهم من يخلط بين الختان السني والفرعوني، ومنهم من لا يعرف سوى الختان الفرعوني، ويمثل ذلك ببعض استشاريي أمراض النساء والتوليد، ومنهم أصحاب الأغراض الخبيثة، والأهداف السيئة، المنفذون لخطط الكفار، الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، نحو الجمعيات والمنظمات المدعومة بواسطة المنظمات الكنسية العالمية.
فالحكم على الشيء جزء من تصوره، إذ لا يحل لأحد أن يحكم على شيء وهو لا يعرفه ولا يميز بينه وبين غيره، فمن جهل شيئاً عاداه.(244/12)
ومما تجدر الإشارة إليه كذلك ويجب التنبيه عليه أنه لا يحل لأحد أن يتكلم أويفتي عن مشروعية الختان وعن حكمه للذكر أوالأنثى إلا إن كان من أهل الحل والعقد من العلماء الشرعيين، أما منظمة الصحة العالمية، ووزارة الصحة، والمجالس الطبية، والاستشاريين في مجال أمراض النساء والتوليد، فليس من حقهم أن يحرِّموا أويحللوا شيئاً من ذلك أويمنعوا أويبيحوا، لأنهم ليسوا من أهل ذلك الشأن، ويمكن لأهل الفتوى من العلماء الشرعيين أن يستفسروهم إن دعت الضرورة عما يقع تحت دائرة اختصاصهم.
وقد ساءني جداً ما قام به المجلس الطبي في وزارة الصحة السودانية من منع الدكتورة الفاضلة ست البنات خالد من ممارسة الختان السني في عيادتها من غير أخذ ولا رد معها، وإلا ستسحب رخصتها في الحال وتقفل عيادتها، وتتعرض لأقصى العقوبات، هذا مع صدور فتوى من المجمع الفقهي السوداني بمشروعية وجواز ما تمارسه الدكتورة من الختان السني خدمة لأمتها، حيث سنت سنة حسنة، فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وعلى من تسبب في منعها من ذلك وزر وإثم حرمان بنات المسلمين من سنة سنها رسول الإسلام، ووسيلة لإعفافهن وصيانة دينهن.
حيث ضرب المجلس الطبي بفتوى المجمع الفقهي عرض الحائط، بل سخروا منها، بلسان الحال والمقال، وهذا والله العظيم من المصائب العظام، والفتن الطوام، أن يمنع المسلمون من تطبيق سنة من سنن نبيهم التي أمر بها وحث عليها، وأجمع العلماء على مشروعيتها وإن اختلفوا في حكمها، ولو فرضنا جدلاً أنها سنة ومكرمة لما جاز للمجلس الطبي أن يمنع مسلماً أراد أن يتعبد ربه بذلك ويعف بناته، خاصة مع إجازة أهل الحل والعقد لها، ممثلة في المجمع الفقهي.
ينبغي للمجمع الفقهي أن يحمي فتاواه وقراراته من تلاعب المتلاعبين، وإلا فما فائدتها؟ وينبغي للمسؤولين أن يتقوا الله في دينهم، وفي أنفسهم، وفي أعراض المسلمين، وأن لا يجعلوا الحبل على الغارب، ويتركوا الناس يستغلوا سلطانهم لتحقيق مآربهم وأهوائهم، ولإرهاب العلماء والدعاة والمصلحين، ولمحاربة السنة تحت شعارات باطلة نحو "محاربة العادات الضارة"!! إذ ليس أضر على الإسلام والمسلمين من رافعي هذه الشعارات.
فهذه بداية الدخول في النفق المظلم، ومقدمات التغيير المؤلم لسمات السودان المسلم، أن يحارب الدين ودعاته، ويمكَّن للكفر وحماته، بسن القوانين وإرهاب الصالحين.
أين المجلس الطبي ممن يمارسون الإجهاض من الأطباء والقابلات، ويعالجون بالسحر، والشعوذة، وبالمحرمات؟
هل منظمة الصحة العالمية أحرص على نساء المسلمين من رسولهم، وعلمائهم، ومن آباء هؤلاء البنات وأوليائهم؟
وهل هم أنصح لله، ولرسوله، وللمؤمنين من أنفسهم؟!
والله لو كان منع الختان السني للنساء خيراً لما تصدرته هيئة الصحة العالمية والمنظمات المشبوهة، ولما نادى به بعض من لا خلاق لهم من العلمانيين والمنافقين، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
ولهذا فإننا نقول بملء أفواهنا: لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني.
وجزاك الله خيراً يا دكتورة ست البنات، وكثر الله من أمثالك، وإياك أن تقنعي بهذا القرار الجائر، فأنت على ثغرة من ثغور الإسلام.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل(244/13)
ختان *
التّعريف :
1 - الختان والختانة لغةً الاسم من الختن ، وهو قطع القلفة من الذّكر ، والنّواة من الأنثى ، كما يطلق الختان على موضع القطع . يقال ختن الغلام والجارية يختنهما ويختنهما ختناً . ويقال غلام مختون وجارية مختونة وغلام وجارية ختين ، كما يطلق عليه الخفض والإعذار ، وخصّ بعضهم الختن بالذّكر ، والخفض بالأنثى ، والإعذار مشترك بينهما .
والعذرة : الختان ، وهي كذلك الجلدة يقطعها الخاتن . وعذر الغلام والجارية يعذرهما ، عذرًا وأعذرهما ختنهما . والعذار والإعذار والعذيرة والعذير طعام الختان .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للمصطلح عن معناه اللّغويّ .
حكم الختان :
اختلف الفقهاء في حكم الختان على أقوال :
القول الأوّل :
2 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو وجه شاذّ عند الشّافعيّة ، وروايةً عن أحمد : إلى أنّ الختان سنّة في حقّ الرّجال وليس بواجب . وهو من الفطرة ومن شعائر الإسلام ، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام ، كما لو تركوا الأذان .
وهو مندوب في حقّ المرأة عند المالكيّة ، وعند الحنفيّة والحنابلة في رواية يعتبر ختانها مكرمةً وليس بسنّة ، وفي قول عند الحنفيّة : إنّه سنّة في حقّهنّ كذلك ، وفي ثالث : إنّه مستحبّ .
واستدلّوا للسّنّيّة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : « الختان سنّة للرّجال مكرمة للنّساء » وبحديث أبي هريرة مرفوعاً « خمس من الفطرة الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقصّ الشّارب » .
وقد قرن الختان في الحديث بقصّ الشّارب وغيره وليس ذلك واجباً .
وممّا يدلّ على عدم الوجوب كذلك أنّ الختان قطع جزء من الجسد ابتداءً فلم يكن واجباً بالشّرع قياساً على قصّ الأظفار .
القول الثّاني :
3 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهو مقتضى قول سحنون من المالكيّة : إلى أنّ الختان واجب على الرّجال والنّساء .
واستدلّوا للوجوب بقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } قد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اختتن إبراهيم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنةً بالقدوم » وأمرنا باتّباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر لنا بفعل تلك الأمور الّتي كان يفعلها فكانت من شرعنا .
وورد في الحديث كذلك : « ألق عنك شعر الكفر واختتن » قالوا : ولأنّ الختان لو لم يكن واجباً لما جاز كشف العورة من أجله ، ولمّا جاز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام ، ومن أدلّة الوجوب كذلك أنّ الختان من شعار المسلمين فكان واجبًا كسائر شعارهم .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى الختانان وجب الغسل » دليل على أنّ النّساء كنّ يختتنّ ، ولأنّ هناك فضلةً فوجب إزالتها كالرّجل . ومن الأدلّة على الوجوب أنّ بقاء القلفة يحبس النّجاسة ويمنع صحّة الصّلاة فتجب إزالتها .
القول الثّالث :
4 - هذا القول نصّ عليه ابن قدامة في المغني ، وهو أنّ الختان واجب على الرّجال ، ومكرمة في حقّ النّساء وليس بواجب عليهنّ .
مقدار ما يقطع في الختان :
5 - يكون ختان الذّكور بقطع الجلدة الّتي تغطّي الحشفة ، وتسمّى القلفة ، والغرلة ، بحيث تنكشف الحشفة كلّها . وفي قول عند الحنابلة : إنّه إذا اقتصر على أخذ أكثرها جاز .
وفي قول ابن كجّ من الشّافعيّة : إنّه يكفي قطع شيء من القلفة وإن قلّ بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها . ويكون ختان الأنثى بقطع ما ينطلق عليه الاسم من الجلدة الّتي كعرف الدّيك فوق مخرج البول . والسّنّة فيه أن لا تقطع كلّها بل جزء منها .
وذلك لحديث أمّ عطيّة - رضي الله عنها - « أنّ امرأةً كانت تختن بالمدينة فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لا تنهكي فإنّ ذلك أحظى للمرأة وأحبّ إلى البعل » .
وقت الختان :
6 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الوقت الّذي يصير فيه الختان واجباً هو ما بعد البلوغ، لأنّ الختان من أجل الطّهارة ، وهي لا تجب عليه قبله .
ويستحبّ ختانه في الصّغر إلى سنّ التّمييز لأنّه أرفق به ، ولأنّه أسرع برءاً فينشأ على أكمل الأحوال .
وللشّافعيّة في تعيين وقت الاستحباب وجهان : الصّحيح المفتى به أنّه يوم السّابع ويحتسب يوم الولادة معه لحديث جابر : « عقّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيّام » ، وفي مقابله وهو ما عليه الأكثرون أنّه اليوم السّابع بعد يوم الولادة.
وفي قول للحنابلة والمالكيّة : إنّ المستحبّ ما بين العام السّابع إلى العاشر من عمره ، لأنّها السّنّ الّتي يؤمر فيها بالصّلاة ، وفي رواية عن مالك أنّه وقت الإثغار ، إذا سقطت أسنانه ، والأشبه عند الحنفيّة أنّ العبرة بطاقة الصّبيّ إذ لا تقدير فيه فيترك تقديره إلى الرّأي ، وفي قول : إنّه إذا بلغ العاشرة لزيادة الأمر بالصّلاة إذا بلغها .
وكره الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة الختان يوم السّابع لأنّ فيه تشبّهاً باليهود .
ختان من لا يقوى على الختان :(245/1)
7 - من كان ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه ، لم يجز أن يختن حتّى عند القائلين بوجوبه ، بل يؤجّل حتّى يصير بحيث يغلب على الظّنّ سلامته ، لأنّه لا تعبّد فيما يفضي إلى التّلف ، ولأنّ بعض الواجبات يسقط بخوف الهلاك فالسّنّة أحرى ، وهذا عند من يقول إنّ الختان سنّة . وللحنابلة تفصيل في مذهبهم ، ملخّصه أنّ وجوب الختان يسقط عمّن خاف تلفاً، ولا يحرم مع خوف التّلف لأنّه غير متيقّن ، أمّا من يعلم أنّه يتلف به وجزم بذلك فإنّه يحرم عليه الختان لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .
من مات غير مختون :
8 - لا يختن الميّت الأقلف الّذي مات غير مختون . لأنّ الختان كان تكليفاً ، وقد زال بالموت ، ولأنّ المقصود من الختان التّطهير من النّجاسة ، وقد زالت الحاجة بموته . ولأنّه جزء من الميّت فلا يقطع ، كيده المستحقّة في قطع السّرقة ، أو القصاص وهي لا تقطع من الميّت ، وخالف الختان قصّ الشّعر والظّفر ، لأنّهما يزالان في الحياة للزّينة ، والميّت يشارك الحيّ في ذلك ، وأمّا الختان فإنّه يفعل للتّكليف به ، وقد زال بالموت .
وفي قول ثان للشّافعيّة :إنّه يختن الكبير والصّغير لأنّه كالشّعر والظّفر وهي تزال من الميّت. والقول الثّالث عندهم : إنّه يختن الكبير دون الصّغير ، لأنّه وجب على البالغ دون الصّغير .
من ولد مختوناً بلا قلفة :
9 - من ولد مختوناً بلا قلفة فلا ختان عليه لا إيجاباً ولا استحباباً ، فإن وجد من القلفة شيء يغطّي الحشفة أو بعضها ، وجب قطعه كما لو ختن ختاناً غير كامل ، فإنّه يجب تكميله ثانيًا حتّى يبين جميع القلفة الّتي جرت العادة بإزالتها في الختان .
وفي قول عند المالكيّة : إنّه تجرى عليه الموسى ، فإن كان فيه ما يقطع قطع .
تضمين الخاتن :
10 - اتّفق الفقهاء على تضمين الخاتن إذا مات المختون بسبب سراية جرح الختان ، أو إذا جاوز القطع إلى الحشفة أو بعضها أو قطع في غير محلّ القطع . وحكمه في الضّمان حكم الطّبيب أي أنّه يضمن مع التّفريط أو التّعدّي وإذا لم يكن من أهل المعرفة بالختان . وللفقهاء تفصيل في هذه المسألة :
فذهب الحنفيّة إلى أنّ الخاتن إذا ختن صبيّاً فقطع حشفته ومات الصّبيّ ، فعلى عاقلة الخاتن نصف ديته ، وإن لم يمت فعلى عاقلته الدّية كلّها ، وذلك لأنّ الموت حصل بفعلين :
أحدهما مأذون فيه وهو قطع القلفة ، والآخر غير مأذون فيه وهو قطع الحشفة ، فيجب نصف الضّمان . أمّا إذا برئ فيجعل قطع الجلدة وهو المأذون فيه كأن لم يكن ، وقطع الحشفة غير مأذون فيه فوجب ضمان الحشفة كاملاً وهو الدّية ، لأنّ الحشفة عضو مقصود لا ثاني له في النّفس فيقدّر بدله ببدل النّفس كما في قطع اللّسان .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا ضمان على الخاتن إذا كان عارفاً متقناً لمهنته ولم يخطئ في فعله كالطّبيب ، لأنّ الختان فيه تغرير فكأنّ المختون عرّض نفسه لما أصابه .
فإن كان الخاتن من أهل المعرفة بالختان وأخطأ في فعله فالدّية على عاقلته ، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب ، وفي كون الدّية على عاقلته أو في ماله قولان : فلابن القاسم إنّها على العاقلة ، وعن مالك وهو الرّاجح إنّها في ماله . لأنّ فعله عمد والعاقلة لا تحمل عمداً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الخاتن إذا تعدّى بالجرح المهلك ، كأن ختنه في سنّ لا يحتمله لضعف ونحوه أو شدّة حرّ أو برد فمات لزمه القصاص ، فإن ظنّ كونه محتملًا فالمتّجه عدم القود لانتفاء التّعدّي . ويستثنى من حكم القود الوالد وإن علا ، لأنّه لا يقتل بولده ، وتلزمه دية مغلّظة في ماله لأنّه عمد محض . فإن احتمل الختان وختنه وليّ ، أو وصيّ ، أو قيّم فمات ، فلا ضمان في الأصحّ لإحسانه بالختان ، إذ هو أسهل عليه ما دام صغيراً بخلاف الأجنبيّ لتعدّيه ولو مع قصد إقامة الشّعار .
ولم ير الزّركشيّ القود في هذه الحالة على الأجنبيّ أيضاً لأنّه ظنّ أنّه يقيم شعيرةً .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا ضمان على الخاتن إذا عرف منه حذق الصّنعة ، ولم تجن يده ، لأنّه فعل فعلاً مباحاً فلم يضمن سرايته كما في الحدود ، وكذلك لا ضمان إذا كان الختان بإذن وليّه ، أو وليّ غيره أو الحاكم . فإن لم يكن له حذق في الصّنعة ضمن ، لأنّه لا يحلّ له مباشرة القطع ، فإن قطع فقد فعل محرّماً غير مأذون فيه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من تطبّب ولا يعلم منه طبّ فهو ضامن » وكذلك يضمن إذا أذن له الوليّ وكان حاذقاً ولكن جنت يده ولو خطأً ، مثل أن جاوز قطع الختان فقطع الحشفة أو بعضها ، أو غير محلّ القطع، أو قطع بآلة يكثر ألمها ، أو في وقت لا يصلح القطع فيه . وكذلك يضمن إذا قطع بغير إذن الوليّ .
آداب الختان :
11 - تشرع الوليمة للختان وتسمّى الإعذار والعذار ، والعذرة ، والعذير .
والسّنّة إظهار ختان الذّكر ، وإخفاء ختان الأنثى . وصرّح الشّافعيّة بأنّها تستحبّ في الذّكر ولا بأس بها في الأنثى للنّساء فيما بينهنّ ، والتّفصيل في ( وليمة ، ودعوة ) .(245/2)
خذف *
التّعريف
1 - الخذف لغةً : رميك بحصاة ، أو نواة تأخذها بين سبّابتيك ، أو تجعل مخذفةً من خشب ترمي بها بين الإبهام والسّبّابة .
قال الأزهريّ : الخذف : الرّمي بالحصى الصّغار بأطراف الأصابع ، وقال مثله الجوهريّ ، وقال المطرّزيّ ، وقيل : أن تضع طرف الإبهام على طرف السّبّابة . وخصّ بعضهم به الحصى ، ويطلق على المقلاع أيضاً ، وقال ابن سيده : خذف الشّيء يخذف ، فارسيّ . ورمي الجمار يكون بمثل حصى الخذف ، وهي صغار ، وفي حديث رمي الجمار : « عليكم بمثل حصى الخذف » ، وحصى الخذف الصّغار مثل النّوى .
ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الحذف - الطّرح - القذف - الإلقاء :
2 - من معاني هذه الألفاظ الرّمي فهي تلتقي مع الخذف في هذا المعنى ، إلاّ أنّ الخذف رمي بكيفيّة خاصّة .
الحكم التّكليفيّ :
3 - الأصل في بيان حكم الخذف ، ما روي عن عبد اللّه بن مغفّل المزنيّ قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخذف ، قال : إنّه لا يقتل الصّيد ، ولا ينكأ العدوّ ، وإنّه يفقأ العين ويكسر السّنّ » .
وقد اختلف الفقهاء في حكم الخذف فمنهم من ذهب إلى أنّ الخذف محرّم على الإطلاق ، قال القاضي عياض : نهى عن الخذف ، لأنّه ليس من آلات الحرب الّتي يتحرّز بها ، ولا من آلات الصّيد لأنّها ترضّ ، وقتيلها وقيذ ، ولا ممّا يجوز اللّهو به مع ما فيه من فقء العين وكسر السّنّ . ومنهم من نظر إلى ما يمكن أن يكون فيه من مصلحة - قال النّوويّ - : في هذا الحديث النّهي عن الخذف ، لأنّه لا مصلحة فيه ، ويخاف مفسدته ، ويلتحق به كلّ ما شاركه في هذا ، ثمّ قال : وفيه أنّ ما كان فيه مصلحة أو حاجة في قتال العدوّ ، وتحصيل الصّيد فهو جائز ، ومن ذلك رمي الطّيور الكبار بالبندق إذا كان لا يقتلها غالباً بل تدرك حيّةً وتذكّى فهو جائز .
وقال ابن حجر : صرّح مجلّي في الذّخائر بمنع الرّمي بالبندقيّة ، وبه أفتى ابن عبد السّلام ، وجزم النّوويّ بحلّه ، لأنّه طريق إلى الاصطياد ، قال ابن حجر : والتّحقيق التّفضيل ، فإن كان الأغلب من حال الرّمي ما ذكر من الحديث امتنع ، وإن كان عكسه جاز ، ولا سيّما إن كان الرّمي ممّا لا يصل إليه الرّمي إلاّ بذلك ثمّ لا يقتله غالباً .
وفي شرح منتهى الإرادات : كره الشّيخ تقيّ الدّين الرّمي ببندق مطلقاً لنهي عثمان ، قال ابن منصور وغيره : لا بأس ببيع البندق يرمى بها الصّيد لا للّعب .
هذا وقد ذكر الفقهاء ما يدلّ على جواز الرّمي بالأحجار في حال القتال ، أو في حال التّدريب، أو المسابقة بغير عوض .
الأحكام المتعلّقة بالخذف :
أوّلاً : في رمي الجمار :
4 - رمي الجمار بالحصى من شعائر الحجّ . والأصل في ذلك ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم من حديث الفضل بن عبّاس رضي الله عنهما : « عليكم بحصى الخذف الّذي يرمى به الجمرة » « وقوله لعبد اللّه بن العبّاس غداة العقبة وهو على راحلته : هات القط لي فلقطت له حصيات هي حصى الخذف ، فلمّا وضعتهنّ في يده قال : بأمثال هؤلاء ، وإيّاكم والغلوّ في الدّين ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين » .
وعن عبد الرّحمن بن معاذ رضي الله تعالى عنه أنّه قال : « خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن بمنىً ففتحت أسماعنا ، حتّى كنّا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا ، فطفق يعلّمهم مناسكهم حتّى بلغ الجمار فوضع أصبعيه السّبّابتين ، ثمّ قال : بحصى الخذف » . وقد اختلف الفقهاء في المقصود بالخذف في هذه الأحاديث . هل هو بيان قدر الحصاة ، أو هو بيان كيفيّة الرّمي ، أو هما معاً ؟ .
5 - أمّا بالنّسبة لبيان الكيفيّة فقد ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّ الرّمي يصحّ بطريقة الخذف لكنّ الأصحّ والأيسر أن يضع الحصاة بين طرفي السّبّابة والإبهام من اليد اليمنى ويرمي . وأورد الحنفيّة الكيفيّات التّالية :
أ - أن يضع الإنسان طرف إبهامه اليمنى على وسط السّبّابة ، ويضع الحصاة على ظهر الإبهام كأنّه عاقد سبعين فيرمي الجمرة .
ب - أن يحلّق سبّابته ويضعها على مفصل إبهامه كأنّه عاقد عشرةً .
قال في فتح القدير إنّ هذه الصّورة : وهذا في التّمكّن من الرّمي به مع الزّحمة عسر .
ج - أن يأخذ الحصاة بطرفي إبهامه وسبّابته .
قال الحنفيّة عن هذه الصّورة الأخيرة : هذا هو الأصل والأصحّ والأيسر المعتاد ، قالوا : ولم يقم دليل على أولويّة تلك الكيفيّة " أي الّتي فيها خذف " سوى قوله عليه الصلاة والسلام :
« ارموا الجمرة بمثل حصى الخذف »
وهذا لا يدلّ ولا يستلزم كون كيفيّة الرّمي المطلوبة كيفيّة الخذف ، وإنّما الحديث يدلّ على تعيين ضابط مقدار الحصاة إذ كان مقدار ما يخذف به معلوماً لهم ، وأمّا ما زاد في رواية صحيح مسلم بعد قوله : عليكم بحصى الخذف من قوله : ويشير بيده كما يخذف الإنسان ، يعني عندما نطق بقوله : عليكم بحصى الخذف أشار بصورة الخذف بيده ، فليس يستلزم طلب كون الرّمي بصورة الخذف ، لجواز كونه يؤكّد كون المطلوب حصى الخذف ، كأنّه قال : خذوا حصى الخذف الّذي هو هكذا ، ليشير أنّه لا تجوز في كونه حصى الخذف ، وهذا لأنّه لا يعقل في خصوص وضع الحصاة في اليد على هذه الهيئة وجه قربة ، فالظّاهر أنّه لا يتعلّق به غرض شرعيّ ، بل بمجرّد صغر الحصاة ، ولو أمكن أن يقال : فيه إشارة إلى كون الرّمي خذفاً ، عارضه كونه وضعًا غير متمكّن ، واليوم يوم زحمة يوجب نفي غير المتمكّن .(246/1)
أمّا المالكيّة فقد ذكروا التّعريف اللّغويّ للخذف ، وهو كما قالوا : كانت العرب ترمي بالحصى في الصّغر على وجه اللّعب تجعلها بين السّبّابة والإبهام من اليسرى ثمّ تقذفها بسبّابة اليمنى أو تجعلها بين سبّابتيها .
ثمّ قال الصّاويّ : وليست هذه الهيئة مطلوبةً في الرّمي ، وإنّما المطلوب أخذ الحصاة بسبّابته وإبهامه من اليد اليمنى ورميها . وهم بذلك يوافقون الحنفيّة في الكيفيّة .
واختلفت الأقوال عند الشّافعيّة ، فقد ذكروا هيئة الخذف وهي : وضع الحصى على بطن الإبهام ورميه برأس السّبّابة ، ثمّ قالوا : إنّها مكروهة وهذا ما جاء في نهاية المحتاج ، وحاشية الجمل ، وحواشي تحفة المحتاج ، ومغني المحتاج ، واستدلّوا للكراهة بالنّهي الصّحيح عن الخذف ، وهذا يشمل الحجّ وغيره ، قالوا : والأصحّ كما في الرّوضة والمجموع أن يرمي الحصى على غير هيئة الخذف . لكن يظهر أنّ مقابل الأصحّ هو ما ذكروه عن الرّافعيّ ، فقد قالوا : وصحّح الرّافعيّ ندب هيئة الخذف .
أمّا الحنابلة فلم يذكروا للرّمي كيفيّةً خاصّةً . هذا بالنّسبة للكيفيّة :
6 - أمّا بالنّسبة لمقدار الحصاة الّتي ترمى بها الجمار ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ حديث :
« ارموا الجمرة بمثل حصى الخذف » . ونحوه من الأحاديث بيّنت قدر الحصاة بأن تكون صغيرةً كالّتي يخذفها بها ، ولكنّهم اختلفوا في تقدير الصّغر ، والمختار عند الحنفيّة أنّها مقدار الباقلاّ ، أي قدر الفولة ، وقيل : قدر الحمّصة ، أو النّواة ، أو الأنملة .
قال في النّهر: وهذا بيان المندوب ، وأمّا الجواز فيكون ولو بالأكبر مع الكراهة .
وقال المالكيّة : قدر الفول ، أو النّواة ، أو دون الأنملة ، ولا يجزئ الصّغير جدّاً كالحمّصة ، ويكره الكبير خوف الأذيّة ولمخالفته السّنّة .
وقال الشّافعيّة : حصاة الرّمي دون الأنملة طولاً وعرضاً في قدر حبّة الباقلاّ - ويجزئ عندهم الرّمي بأصغر أو أكبر مع الكراهة .
وقال الحنابلة : ما كان أكبر من الحمّص ودون البندق ، وإن رمى بحجر أكبر ، فقد روي عن أحمد أنّه قال : لا يجزئه حتّى يأتي بالحصى على ما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بهذا المقدار في قوله : « بأمثال هؤلاء ... » ونهى عن تجاوزه ، والأمر يقتضي الوجوب ، والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه ، ولأنّ الرّمي بالكبير من الحصى ربّما آذى من يصيبه . قال في المغني . وقال بعض أصحابنا : تجزئه مع تركه للسّنّة ، لأنّه قد رمى بالحجر . وكذلك الحكم في الصّغير . وفي كشّاف القناع وشرح منتهى الإرادات : لا تجزئ حصاة صغيرة جدّاً ، أو كبيرة لظاهر الخبر .
كما اختلف الفقهاء في نوع الحصى وفي ذلك تفصيل ينظر في : ( رمي - جمار - حجّ ) .
ثانياً : في الصّيد :
7 - لا يحلّ الصّيد بحصى الخذف لأنّه وقيذ ، وفي رمي الصّيد بغيره خلاف ينظر في مصطلح : ( صيد ) .(246/2)
خروج *
التّعريف :
1 - الخروج في اللّغة مصدر خرج يخرج خروجاً ومخرجاً ، نقيض الدّخول .
والفقهاء يستعملون الخروج بمعناه اللّغويّ ، ويستعملونه أيضاً بمعنى البغي ، أي الخروج على الأئمّة .
الأحكام المتعلّقة بالخروج :
للخروج أحكام تختلف باختلاف الخارج ، وباختلاف ما يتعلّق به الخروج ، أهمّها ما يلي :
الخارج من السّبيلين وغيرهما :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الخارج من السّبيلين إذا كان منيّاً خرج على وجه الدّفق والشّهوة ، أو دم حيض أو نفاس ، فإنّه موجب للغسل ، وعلى أنّ غير المنيّ إذا كان معتاداً كالبول ، أو الغائط ، والرّيح ، ينقض الوضوء ، واختلفوا في غير المعتاد ، فذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن عبد الحكم من المالكيّة " إلى أنّه ينقض الوضوء . ويرى جمهور المالكيّة أنّ غير المعتاد كالدّود والحصى لا ينقض الوضوء .
وفي الخارج من غير السّبيلين خلاف وتفصيل ينظر في مواطنه من كتب الفقه .
وانظر مصطلح : ( وضوء ) .
خروج القدم أو بعضها من الخفّ :
3 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يثبت حكم نزع الخفّ - وهو بطلان الوضوء أو المسح على خلاف فيه - بخروج القدم إلى ساق الخفّ ، وكذا بخروج أكثر القدم في الصّحيح من مذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، لأنّ الاحتراز عن خروج القليل متعذّر ، لأنّه ربّما يحصل بدون القصد ، بخلاف الكثير ، فإنّ الاحتراز عنه ليس بمتعذّر .
ويرى الشّافعيّة أنّه لو أخرجها من قدم الخفّ إلى السّاق لم يؤثّر إلاّ إذا كان الخفّ طويلاً خارجاً عن العادة ، فأخرج رجله إلى موضع لو كان الخفّ معتاداً لظهر شيء من محلّ الفرض بطل مسحه بلا خلاف .
وعند الحنابلة للبعض حكم الكلّ فيبطل الوضوء بخروج القدم ، أو بعضها إلى ساق خفّه . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( مسح الخفّ ) .
الخروج من المسجد بعد الأذان :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره الخروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر ، أو نيّة رجوع إلى المسجد ، إلاّ أن يكون التّأذين للفجر قبل الوقت ، فلا يكره الخروج .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يحرم ، قال أبو الشّعثاء : « كنّا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة ، فأذّن المؤذّن ،فقام رجل في المسجد يمشي ، فأتبعه أبو هريرة بصره حتّى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة : أمّا هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم » ، والموقوف في مثله كالمرفوع . وتفصيل ذلك في كتب الفقه و ر : مصطلح ( مسجد ) .
خروج الإمام للخطبة :
5 - إذا خرج الإمام وقام للخطبة استقبله النّاس ، لأنّه به جرى التّوارث ، ويحرم الكلام والإمام يخطب عند جمهور الفقهاء .
وأمّا الكلام بمجرّد خروجه وقبل أن يبدأ بالخطبة ، فإنّه لا بأس به عند جمهور الفقهاء ، وبه قال عطاء وطاوس والزّهريّ ، والنّخعيّ ، وروي ذلك عن ابن عمر ، لأنّ المنع للإخلال بغرض الاستماع ، ولا استماع هنا ، وكرهه الحكم ، وقال ابن عبد البرّ : إنّ عمر وابن عبّاس كانا يكرهان الكلام ، والصّلاة بعد خروج الإمام ، ويحرم الكلام عند أبي حنيفة بمجرّد خروج الإمام .
وأمّا ترك الصّلاة فذهب الحنفيّة ، والمالكيّة إلى أنّه لا تطوّع بعد خروج الإمام للخطبة ، وبه قال شريح ، وابن سيرين ، والنّخعيّ ، وقتادة ، والثّوريّ ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
« قال للّذي يتخطّى رقاب النّاس : اجلس ، فقد آذيت وآنيت » .
ولأنّ الصّلاة تشغله عن استماع الخطبة فكره ، كصلاة الدّاخل .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ينقطع التّطوّع بجلوس الإمام على المنبر ، فلا يصلّي أحد غير الدّاخل ، فمن دخل أثناء الخطبة استحبّ له أن يصلّي التّحيّة يخفّفها ، إلاّ إذا كان الإمام في آخرها ، فلا يصلّي لئلاّ يفوته أوّل الجمعة مع الإمام .
خروج المعتكف من المسجد :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلاّ لحاجة الإنسان أو الجمعة ، والدّليل على جواز ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخرج من معتكفه إلاّ لحاجة الإنسان » . وقالت رضي الله عنها : « السّنّة للمعتكف ألاّ يخرج إلاّ لما لا بدّ منه » .
إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا : يجب الخروج للجمعة ولكنّه يبطل به الاعتكاف ، لإمكان الاعتكاف في الجامع ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( اعتكاف ) .
الخروج للاستسقاء :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّه يخرج الشّباب والشّيوخ والضّعفاء ، والعجزة ، وغير ذات الهيئة من النّساء ، ويستحبّ أن يخرجوا مشاةً بتواضع وخشوع في ثياب خلقان ، وأن يقدّموا الصّدقة كلّ يوم ، وأن يكون ذلك بعد التّوبة إلى اللّه تعالى .
واختلفوا في خروج الكفّار وأهل الذّمّة على أقوال ينظر تفصيلها في مصطلح ( استسقاء ) .
خروج المرأة من المنزل :
8 - الأصل أنّ النّساء مأمورات بلزوم البيت منهيّات عن الخروج .
ذكر الكاسانيّ عند الكلام عن أحكام النّكاح الصّحيح : أنّ منها : ملك الاحتباس وهو صيرورتها ( الزّوجة ) ممنوعةً من الخروج والبروز لقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } ، والأمر بالإسكان نهي عن الخروج ، والبروز ، والإخراج ، إذ الأمر بالفعل نهي عن ضدّه ، وقوله عزّ وجلّ : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } وقوله عزّ وجلّ : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } ولأنّها لو لم تكن ممنوعةً عن الخروج والبروز لاختلّ السّكن والنّسب ، لأنّ ذلك ممّا يريب الزّوج ويحمله على نفي النّسب .(247/1)
قال القرطبيّ عند تفسير قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد دخل فيه غيرهنّ بالمعنى . هذا لو لم يرد دليل يخصّ جميع النّساء ، فكيف والشّريعة طافحة بلزوم النّساء بيوتهنّ والانكفاف عن الخروج منها إلاّ لضرورة .
فقد أخرج البزّار من حديث أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها » .
كما أخرج من حديث أنس رضي الله عنه أنّه قال : « جئن النّساء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلن : يا رسول اللّه : ذهب الرّجال بالفضل والجهاد في سبيل اللّه تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل اللّه ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من قعدت - أو كلمةً نحوها - منكنّ في بيتها ، فإنّها تدرك عمل المجاهدين في سبيل اللّه » . وعند الحاجة كزيارة الآباء ، والأمّهات ، وذوي المحارم ، وشهود موت من ذكر ، وحضور عرسه وقضاء حاجة لا غناء للمرأة عنها ولا تجد من يقوم بها يجوز لها الخروج .
إلاّ أنّ الفقهاء يقيّدون جواز خروج المرأة في هذه الحالات بقيود أهمّها :
أ - أن تكون المرأة غير مخشيّة الفتنة ، أمّا الّتي يخشى الافتتان بها فلا تخرج أصلاً .
ب - أن تكون الطّريق مأمونةً من توقّع المفسدة وإلاّ حرم خروجها .
ج - أن يكون خروجها في زمن أمن الرّجال ولا يفضي إلى اختلاطها بهم ، لأنّ تمكين النّساء من اختلاطهنّ بالرّجال أصل كلّ بليّة وشرّ ، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامّة ، كما أنّه من أسباب فساد أمور العامّة والخاصّة ، واختلاط الرّجال بالنّساء سبب لكثرة الفواحش والزّنى ، وهو من أسباب الموت العامّ ، فيجب على وليّ الأمر أن يمنع من اختلاط الرّجال بالنّساء في الأسواق ، والفرج ، ومجامع الرّجال ، وإقرار النّساء على ذلك إعانة لهنّ على الإثم والمعصية ، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه النّساء من المشي في طريق الرّجال والاختلاط بهم في الطّريق .
د - أن يكون خروجها على تبذّل وتستّر تامّ . قال العينيّ : يجوز الخروج لما تحتاج إليه المرأة من أمورها الجائزة بشرط أن تكون بذّة الهيئة ، خشنة الملبس ، تفلة الرّيح ، مستورة الأعضاء غير متبرّجة بزينة ولا رافعةً صوتها .
قال ابن قيّم الجوزيّة : يجب على وليّ الأمر منع النّساء من الخروج متزيّنات متجمّلات ، ومنعهنّ من الثّياب الّتي يكنّ بها كاسيات عاريّات ، كالثّياب الواسعة والرّقاق ، وإن رأى وليّ الأمر أن يفسد على المرأة - إذا تجمّلت وخرجت - ثيابها بحبر ونحوه ، فقد رخّص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب . وهذا من أدنى عقوبتهنّ الماليّة .
فقد أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّ المرأة إذا تطيّبت وخرجت من بيتها فهي زانية ».
هـ - أن يكون الخروج بإذن الزّوج ، فلا يجوز لها الخروج إلاّ بإذنه .
قال ابن حجر الهيتميّ : وإذا اضطرّت امرأة للخروج لزيارة والد خرجت بإذن زوجها غير متبرّجة . ونقل ابن حجر العسقلانيّ عن النّوويّ عند التّعليق على حديث : « إذا استأذنكم نساؤكم باللّيل إلى المسجد فأذنوا لهنّ » أنّه قال : استدلّ به على أنّ المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلاّ بإذنه لتوجّه الأمر إلى الأزواج بالإذن .
وللزّوج منع زوجته من الخروج من منزله إلى ما لها منه بدّ ، سواء أرادت زيارة والديها أو عيادتهما أو حضور جنازة أحدهما . قال أحمد في امرأة لها زوج وأمّ مريضة : طاعة زوجها أوجب عليها من أمّها إلاّ أن يأذن لها ، وقد روى ابن بطّة في أحكام النّساء عن أنس « أنّ رجلاً سافر ومنع زوجته من الخروج فمرض أبوها ، فاستأذنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عيادة أبيها فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اتّقي اللّه ولا تخالفي زوجك فأوحى اللّه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّي قد غفرت لها بطاعة زوجها »
ولأنّ طاعة الزّوج واجبة ، والعيادة غير واجبة فلا يجوز ترك الواجب لما ليس بواجب .
ولا ينبغي للزّوج منع زوجته من عيادة والديها ، وزيارتهما لأنّ في منعها من ذلك قطيعةً لهما ، وحملاً لزوجته على مخالفته ، وقد أمر اللّه تعالى بالمعاشرة بالمعروف ، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف .
وينبغي التّنويه إلى أنّ المفتى به عند الحنفيّة أنّها تخرج للوالدين في كلّ جمعة بإذن الزّوج وبدونه ، وللمحارم في كلّ سنة مرّةً بإذنه وبدونه .
وفي مجمع النّوازل ، فإن كانت الزّوجة قابلةً ، أو غسّالةً ، أو كان لها حقّ على آخر أو لآخر عليه حقّ ، تخرج بالإذن وبغير الإذن ، والحجّ على هذا .
وقال ابن عابدين بعد أن نقل ما في النّوازل : وفي البحر عن الخانيّة تقييد خروجها بإذن الزّوج . هذا ويجوز للزّوجة الخروج بغير إذن الزّوج لما لا غناء لها عنه ، كإتيان بنحو مأكل والذّهاب إلى القاضي لطلب الحقّ ، واكتساب النّفقة إذا أعسر بها الزّوج ، والاستفتاء إذا لم يكن زوجها فقيهاً .وكذلك لها أن تخرج إذا كان المنزل الّذي تسكنه مشرفاً على انهدام. وأخذ الرّافعيّ وغيره من كلام إمام الحرمين أنّ للزّوجة اعتماد العرف الدّالّ على رضا أمثال الزّوج بمثل الخروج الّذي تريده ، نعم لو علم مخالفته لأمثاله في ذلك فلا تخرج .
خروج النّساء إلى المسجد :(247/2)
9 - ذهب الشّافعيّة وصاحبا أبي حنيفة إلى أنّ المرأة إذا أرادت حضور المسجد للصّلاة ، إن كانت شابّةً أو كبيرةً تشتهى كره لها ، وكره لزوجها ووليّها تمكينها منه ، وإن كانت عجوزًا لا تشتهى فلها الخروج بإذن الزّوج إلى الجماعات في جميع الصّلوات دون كراهة .
ومثله مذهب أبي حنيفة بالنّسبة للشّابّة ، أمّا العجوز فإنّها تخرج عنده في العيدين والعشاء والفجر فقط ، ولا تخرج في الجمعة والظّهر والعصر والمغرب .
وكره متأخّرو الحنفيّة خروجها مطلقًا لفساد الزّمن .
أمّا المالكيّة فالنّساء عندهم على أربعة أقسام : عجوز انقطعت حاجة الرّجال عنها ، فهذه تخرج للمسجد ، وللفرض ، ولمجالس العلم والذّكر ، وتخرج للصّحراء في العيد والاستسقاء، ولجنازة أهلها وأقاربها ، ولقضاء حوائجها ، ومتجالّة ( مسنّة ) لم تنقطع حاجة الرّجال منها بالجملة ، فهذه تخرج للمسجد للفرائض ، ومجالس العلم والذّكر ، ولا تكثر التّردّد في قضاء حوائجها أي يكره لها ذلك ، وشابّة غير فارهة في الشّباب والنّجابة ، تخرج للمسجد لصلاة الفرض جماعةً ، وفي جنائز أهلها وأقاربها ، ولا تخرج لعيد ولا استسقاء ولا لمجالس ذكر أو علم . وشابّة فارهة في الشّباب والنّجابة ، فهذه الاختيار لها أن لا تخرج أصلاً .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يباح للنّساء حضور الجماعة مع الرّجال لأنّهنّ كنّ يصلّين مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : « كان النّساء يصلّين مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ ينصرفن متلفّعات بمروطهنّ ما يعرفن من الغلس » .
وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه وليخرجن تفلات » يعني غير متطيّبات . وتجدر الإشارة إلى أنّ جواز خروج النّساء إلى المسجد - عند من يجيزه - مقيّد بالقيود السّابقة . ولا يقضى على زوج الشّابّة ومن في حكمها بالخروج لنحو صلاة الفرض ولو شرط لها في صلب عقدها .
قال النّوويّ : يستحبّ للزّوج أن يأذن لها إذا استأذنته إلى المسجد للصّلاة إذا كانت عجوزاً لا تشتهى ، وأمن المفسدة عليها وعلى غيرها ، فإن منعها لم يحرم عليه ، هذا مذهبنا . قال البيهقيّ : وبه قال عامّة العلماء .
خروج المرأة في السّفر بغير محرم :
10 - قال النّوويّ نقلاً عن القاضي : اتّفق العلماء على أنّه ليس للمرأة أن تخرج في غير الحجّ والعمرة إلاّ مع ذي محرم إلاّ الهجرة من دار الحرب ، فاتّفقوا على أنّ عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم .
وللتّفصيل في أحكام خروج المرأة للحجّ والعمرة وسفر الزّيارات والتّجارة ونحو ذلك في الأسفار ينظر مصطلحات : ( حجّ ، سفر ، عمرة ، هجرة ) .
الخروج من المسجد :
11 - صرّح الفقهاء بأنّه يستحبّ عند الخروج من المسجد أن يقدّم رجله اليسرى ، ويستحبّ أن يقال عند الخروج : " اللّهمّ إنّي أسألك من فضلك " أو يقول : " ربّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب فضلك " ، وذلك بعد الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
الخروج من البيت :
12 - يستحبّ في الخروج من البيت أن يقول ما كان يقوله النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين خروجه من بيته وذلك فيما روته أمّ سلمة رضي الله عنها : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال : بسم اللّه توكّلت على اللّه ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من أن أضلّ أو أضلّ ، أو أزلّ أو أزلّ ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل عليّ » .
وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم اللّه توكّلت على اللّه ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه يقال له : كفيت ووقيت وهديت وتنحّى عنه الشّيطان » .
الخروج من الخلاء :
13 - يستحبّ عند الخروج من الخلاء أن يقدّم رجله اليمنى ويقول : غفرانك ، أو : الحمد للّه الّذي أذهب عنّي الأذى وعافاني . لما روى أنس رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال : الحمد للّه الّذي أذهب عنّي الأذى وعافاني » . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .
خروج المعتدّة من البيت :
14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب على المعتدّة ملازمة السّكن ، فلا تخرج إلاّ لحاجة أو عذر ، فإن خرجت أثمت ، وللزّوج منعها ، وكذا لوارثه عند موته .
وتعذر في الخروج في مواضع تنظر في مصطلح : ( عدّة ) .
من لا يجوز خروجه مع الجيش في الجهاد :
15 - لا يستصحب أمير الجيش معه مخذّلاً ، ولا مرجفاً ، ولا جاسوساً ، ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ، ويسعى بالفساد ، لقوله تعالى : { وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ... } وإن خرج هؤلاء فلا يسهم لهم ولا يرضخ ، وإن أظهروا عون المسلمين . والتّفصيل في ( جهاد ، وغنيمة ) .
الخروج على الإمام :
16 - أجمع العلماء على أنّ الإمام إذا كان عدلاً تجب طاعته ، ومحرّم الخروج عليه ، لقوله تعالى : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } وأمّا الخروج على الإمام الجائر فقد اختلف الفقهاء فيه على أقوال ينظر تفصيلها في مصطلحي : ( الإمامة الكبرى ، وبغاة ).
خروج المحبوس :(247/3)
17 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّ المحبوس لأجل قضاء الدّين يمنع عن الخروج إلى أشغاله ومهمّاته ، وإلى الجمع والأعياد ، وتشييع الجنازة ، وعيادة المرضى والزّيارة ، والضّيافة ، وأمثال ذلك . لأنّ الحبس للتّوصّل إلى قضاء الدّين ،فإذا منع عن ذلك سارع إلى قضاء الدّين. ( ر : حبس ) .(247/4)
خشوع *
التّعريف :
1 - الخشوع لغةً من يخشع : يخشع السّكون والتّذلّل .
وخشع في صلاته ودعائه ، أقبل بقلبه على ذلك ، وهو مأخوذ من خشعت الأرض إذا سكنت واطمأنّت . وخشع بصره انكسر ومنه قوله تعالى : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } .
قال الرّاغب الأصفهانيّ : الخشوع الضّراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح ، والضّراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، ولذلك قيل فيما روي : إذا ضرع القلب خشعت الجوارح .
وقال القرطبيّ : الخشوع هيئة في النّفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع .
والتّخشّع تكلّف الخشوع ، والتّخشّع للّه ، الإخبات والتّذلّل له ، وقال قتادة : الخشوع في القلب هو الخوف وغضّ البصر في الصّلاة .
والمعنى الشّرعيّ لا يختلف عن المعنى اللّغويّ.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخضوع :
2 - الخضوع لغةً : التّواضع ، وخضع يخضع خضوعاً ، واختضع ذلّ واستكان ، وأخضعه الفقر أذلّه .
والخضوع : الانقياد والمطاوعة ، وفي الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم : « نهى أن يخضع الرّجل لغير امرأته » . أي يلين لها في القول بما يطمعها منه . وخضع الإنسان خضعاً ، أمال رأسه إلى الأرض ، أو دنا منها ، وفي التّنزيل : { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } .
والخضوع قريب من الخشوع إلاّ أنّ الخضوع يكون في البدن ، والخشوع في البدن والصّوت والبصر . وأكثر ما يستعمل الخشوع في الصّوت والخضوع في الأعناق .
وذكر أبو هلال العسكريّ أنّ الخضوع قد يكون بتكلّف ، أمّا الخشوع فلا يكون تكلّفاً ، وإنّما بخوف المخشوع له .
ب - الإخبات :
3 - الإخبات لغةً الخضوع والخشوع : قال اللّه تعالى : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } .
قال الرّاغب : واستعمل الإخبات استعمال اللّين والتّواضع وقال أبو هلال العسكريّ : الإخبات ملازمة الطّاعة والسّكون ، فهو الخضوع المستمرّ على استواء .
الحكم التّكليفيّ :
4 - اختلف الفقهاء في حكم الخشوع في الصّلاة هل هو فرض من فرائض الصّلاة ، أو من فضائلها ومكمّلاتها ؟
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه سنّة من سنن الصّلاة بدليل صحّة صلاة من يفكّر بأمر دنيويّ إذ لم يقولوا ببطلانها إذا كان ضابطاً أفعالها .
وعليه فيسنّ للمصلّي أن يخشع في كلّ صلاته بقلبه وبجوارحه وذلك بمراعاة ما يلي :
أ - أن لا يحضر فيه غير ما هو فيه من الصّلاة .
ب - وأن يخشع بجوارحه بأن لا يعبث بشيء من جسده كلحيته أو من غير جسده ، كتسوية ردائه أو عمامته ، بحيث يتّصف ظاهره وباطنه بالخشوع ، ويستحضر أنّه واقف بين يدي ملك الملوك الّذي يعلم السّرّ وأخفى يناجيه . وأنّ صلاته معروضة عليه .
ج - أن يتدبّر القراءة لأنّه بذلك يكمل مقصود الخشوع .
د - أن يفرغ قلبه عن الشّواغل الأخرى ; لأنّ هذا أعون على الخشوع ، ولا يسترسل مع حديث النّفس .
قال ابن عابدين : واعلم أنّ حضور القلب فراغه من غير ما هو ملابس له . والأصل في طلب الخشوع في الصّلاة قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ }. فسّر عليّ رضي الله عنه الخشوع في الآية : بلين القلب وكفّ الجوارح .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يتوضّأ فيحسن وضوءه ثمّ يقوم فيصلّي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلاّ وجبت له الجنّة » .
وما روى أبو هريرة رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصّلاة فقالا : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه » .
وما روى أبو ذرّ رضي الله عنه : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فإنّ الرّحمة تواجهه فلا يمسح الحصى » .
5- إذا ترك المصلّي الخشوع في صلاته ، فإنّ صلاته تكون صحيحةً عند الجمهور ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لم يأمر العابث بلحيته بإعادة الصّلاة مع أنّ الحديث يدلّ على انتفاء خشوعه في صلاته ، ولأنّ الصّلاة لا تبطل بعمل القلب ولو طال ، إلاّ أنّه ارتكب مكروهاً ولا يستحقّ الثّواب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس للعبد من صلاته إلاّ ما عقل » . وذهب بعض فقهاء كلّ من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الخشوع لازم من لوازم الصّلاة ، إلاّ أنّهم اختلفوا فيه :
فقال بعضهم : إنّه فرض من فرائض الصّلاة ولكن لا تبطل الصّلاة بتركه لأنّه معفوّ عنه . وقال آخرون : إنّه فرض تبطل الصّلاة بتركه كسائر الفروض . وقال بعض آخر منهم : إنّ الخشوع شرط لصحّة الصّلاة لكنّه في جزء منها فيشترط في هذا القول حصول الخشوع في جزء من الصّلاة وإن انتفى في الباقي ، وبعض أصحاب هذا القول حدّد الجزء الّذي يجب أن يقع فيه الخشوع من الصّلاة ، فقال : ينبغي أن يكون عند تكبيرة الإحرام .
6- وذكر القرطبيّ أنّه قد يكون الخشوع مذموماً ، وهو المتكلّف أمام النّاس بمطأطأة الرّأس والتّباكي كما يفعله الجهّال ، ليروا بعين البرّ والإجلال ، وذلك خدع من الشّيطان وتسويل من نفس الإنسان .(248/1)
خلاء *
التّعريف :
1 - الخلاء لغةً من خلا المنزل أو المكان من أهله يخلو خلوّاً وخلاءً إذا لم يكن فيه أحد ولا شيء فيه . ومكان خلاء لا أحد به ولا شيء فيه .
والخلاء بالمدّ مثل الفضاء والبراز من الأرض .
والخلاء بالمدّ في الأصل المكان الخالي ثمّ نقل إلى الباء المعدّ لقضاء الحاجة عرفاً ، وجمعه أخلية . ويسمّى أيضاً الكنيف والمرفق والمرحاض . والتّخلّي هو قضاء الحاجة .
وفي الحديث : « كان أناس - من الصّحابة - يستحيون أن يتخلّوا فيفضوا إلى السّماء » ، أي يستحيون أن ينكشفوا عند قضاء الحاجة تحت السّماء .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذكر الفقهاء للتّخلّي آداباً عديدةً منها :
أنّ الشّخص المتخلّي يقدّم ندباً رجله اليسرى عند دخول الخلاء قائلاً : بسم اللّه ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث لما روي عن أنس رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث » .
وتنظر الأحكام المتعلّقة بالخلاء تحت مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .(249/1)
خمار *
التّعريف :
1 - الخمار من الخمر ، وأصله السّتر ، يقال : خمر الشّيء يخمره خمراً ، وأخمره أي ستره ، وكلّ مغطّىً مخمَّر يقال : خمّرت الإناء أي غطّيته ، وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « خمّروا آنيتكم » وفي رواية : « خمّروا الآنية وأوكئوا الأسقية » .
وكلّ ما يستر شيئاً فهو خماره . لكنّ الخمار غلب في التّعارف اسماً لما تغطّي به المرأة رأسها ، يقال : اختمرت المرأة وتخمّرت : أي لبست الخمار ، وجمع الخمار خمر ، قال اللّه تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للخمار في الجملة عن المعنى اللّغويّ السّابق ، لأنّ بعض الفقهاء يعرّفونه بأنّه : ما يستر الرّأس والصّدغين أو العنق .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحجاب :
2 - الحجاب : السّتر ، يقال : حجب الشّيء يحجبه حجباً وحجاباً ، وحجبه : ستره ، وامرأة محجوبة : قد سترت بستر ، وحجاب الجوف : ما يحجب بين الفؤاد وسائره ، قال الأزهريّ : هي جلدة بين الفؤاد وسائر البطن .
والأصل في الحجاب أنّه جسم حائل بين جسدين ، واستعمل في المعاني فقيل : العجز حجاب والمعصية حجاب . فالحجاب أعمّ من الخمار .
ب - القناع :
3 - القناع ما تتقنّع به المرأة من ثوب تغطّي رأسها ومحاسنها .
ونحوه المقنّعة وهي ما تقنع به المرأة رأسها . قال صاحب القاموس : القناع أوسع منها .
ويطلق بعض الفقهاء القناع على الثّوب يلقيه الرّجل على كتفه ، ويغطّي به رأسه ويردّ طرفه على كتفه الآخر .
والقناع أعمّ وأشمل في السّتر من الخمار ، أو هو يخالفه بإطلاق بعض الفقهاء .
ج - النّقاب :
4 - النّقاب ما تنتقب به المرأة ، يقال : انتقبت المرأة وتنقّبت : غطّت وجهها بالنّقاب . ويعرّف ابن منظور النّقاب بأنّه : القناع على مارن الأنف ، ثمّ يقول : والنّقاب على وجوه . قال الفرّاء : إذا أدنت المرأة النّقاب إلى عينها فتلك الوصوصة ، فإن أنزلته دون ذلك إلى المحجر فهو النّقاب ، فإن كان على طرف الأنف فهو اللّفام .
قال ابن منظور : الوصواص : البرقع الصّغير .
وكلّ من الخمار والنّقاب يغطّى به جزء من الجسم ، الخمار يغطّى به الرّأس ، والنّقاب يغطّى به الوجه .
د - البرقع :
5 - البرقع لغةً : ما تستر به المرأة وجهها .
الأحكام المتعلّقة بالخمار :
أوّلاً : ارتداء المرأة الخمار عموماً :
6 - ارتداء المرأة الحرّة الخمار بوجه عامّ واجب شرعاً ، لأنّ شعر رأسها عورة باتّفاق ، وقد أمرت المرأة بضرب الخمار على جيبها في قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } قال القرطبيّ : سبب هذه الآية أنّ النّساء كنّ في ذلك الزّمان إذا غطّين رءوسهنّ بالأخمرة ، وهي المقانع سدلنها من وراء الظّهر فيبقى النّحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك ، فأمر اللّه تعالى بليّ الخمار على الجيوب ، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها . قالت عائشة رضي الله عنها : إنّما يضرب بالخمار الكثيف الّذي يستر
ثانياً - المسح على الخمار في الوضوء :
7 - مسح الرّأس في الوضوء فرض تواترت عليه الأدلّة من الكتاب والسّنّة والإجماع . والفرض الّذي تواترت عليه الأدلّة هو أصل المسح ، أمّا صفته ومقدار ما يمسح من الرّأس ففيه خلاف وتفصيل ينظران في مصطلحي : ( وضوء ، ومسح ) .
وممّا اختلف فيه كذلك المسح على الخمار :
فقال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : لا يجزئ في الوضوء مسح المرأة خمارها وحده دون مسح رأسها ، إلاّ إذا كان الخمار رقيقاً ينفذ منه الماء إلى شعرها ، فيجوز لوجود الإصابة ، لما روي عن « عائشة رضي الله عنها أنّها أدخلت يدها تحت الخمار ومسحت برأسها ، وقالت : بهذا أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » .
ولأنّه لا حرج في نزعه ، والرّخصة لدفع الحرج ، ولأنّ قوله تعالى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} يقتضي عدم جواز مسح غير الرّأس .
قال نافع : رأيت صفيّة بنت أبي عبيد تتوضّأ وتنزع خمارها ثمّ تمسح برأسها ، قال نافع : وأنا يومئذ صغير ، قال محمّد بن الحسن : بهذا نأخذ ، لا نمسح على خمار ولا على عمامة ، بلغنا أنّ المسح على العمامة كان فترك .
قال النّوويّ : قال الشّافعيّ في البويطيّ : وتدخل يدها تحت خمارها حتّى يقع المسح على الشّعر ، فلو وضعت يدها المبتلّة على خمارها قال أصحابنا : إن لم يصل البلل إلى الشّعر لم يجزئها ، وإن وصل فهي كالرّجل إذا وضع يده المبتلّة على رأسه إن أمرّها عليه أجزأه وإلاّ فوجهان ، الصّحيح الإجزاء .
وقال الشّافعيّة : يستحبّ لمن مسح ناصيته ولم يستوعب الرّأس بالمسح أن يتمّ المسح على العمامة ، وقالوا : وهذا حكم ما على رأس المرأة .
وعند الحنابلة قال ابن قدامة : في مسح الرّأس على مقنعتها روايتان : إحداهما : وهي المعتمدة واقتصر عليها الحجّاويّ يجوز ، لأنّ أمّ سلمة كانت تمسح على خمارها ، ذكره ابن المنذر وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه أمر بالمسح على الخفّين والخمار » ولأنّه ملبوس للرّأس معتاد يشقّ نزعه فأشبه العمامة .
والثّانية : لا يجوز المسح عليه ، فإنّ أحمد سئل : كيف تمسح المرأة على رأسها ؟ قال : من تحت الخمار ولا تمسح على الخمار ،قال : وقد ذكروا أنّ أمّ سلمة كانت تمسح على خمارها.
ثالثاً : لبس الخمار في الصّلاة :(250/1)
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من شروط الصّلاة ستر العورة ، ومن العورة الّتي يشترط سترها في الصّلاة شعر المرأة ، فيجب على المرأة الحرّة البالغة أن تخمّر رأسها في الصّلاة ، أي تغطّيه بخمار كثيف لا يشفّ ، فإن لم تفعل كانت صلاتها باطلةً ، لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » والمراد بالحائض البالغة ، لأنّ الحائض فعلاً أثناء حيضها لا صلاة لها ، لا بخمار ولا بغيره ، فكان التّعبير بلفظ الحائض مجازاً عن البالغة لأنّ الحيض يستلزم البلوغ .
ثمّ اختلف الفقهاء فيما وراء ذلك من الأحكام :
فقال الحنفيّة :إن تركت الحرّة البالغة ستر ربع رأسها فأكثر قدر أداء ركن بلا صنعها أعادت. وفي أحكام الصّغار للأُسترُوشَني : وجواز صلاة الصّغيرة بغير قناع استحسان ، لأنّه لا خطاب مع الصّبا ، والأحسن أن تصلّي بقناع لأنّها إنّما تؤمر بالصّلاة للتّعوّد فتؤمر على وجه يجوز أداؤها معه بعد البلوغ .
ثمّ قال : المراهقة إذا صلّت بغير قناع لا تؤمر بالإعادة استحساناً ، وإن صلّت بغير وضوء تؤمر بذلك .
وقال المالكيّة : يندب للمرأة الحرّة الصّغيرة المأمورة بالصّلاة ستر للصّلاة - وهو واجب على الحرّة البالغة - وتعيد الصّلاة ندباً إن راهقت - أي قاربت البلوغ - وتركت القناع - أي تغطية الرّأس - في الصّلاة ... وقالوا : يكره القناع في الصّلاة للرّجل إذا كان بصفة معيّنة هي أن يلقي ثوباً على كتفه ويغطّي به رأسه ويردّ طرفه على كتفه الآخر ، وهو مكروه للرّجال لأنّه من زيّ النّساء إلاّ من ضرورة حرّ ، أو برد ، أو يكون شعار قوم فلا يكره .
وقال الشّافعيّة : لا تقبل صلاة الصّبيّة المميّزة إلاّ بخمار .
وقال الحنابلة : غير البالغة لا يلزمها ستر رأسها في الصّلاة لمفهوم حديث عائشة السّابق .
رابعاً - لبس الخمار في الإحرام :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ من محظورات الإحرام بالنّسبة للرّجل تغطية الرّأس ، وعلى أنّ المرأة الحرّة لا تكشف رأسها في الإحرام - كما يفعل الرّجل -لأنّ رأسها عورة يجب سترها، وعليها أن تخمّر رأسها بما يستره ستراً كاملاً ، ونقل ابن قدامة عن ابن المنذر قوله : أجمع أهل العلم على أنّ للمحرمة لبس القمص والدّروع والسّراويلات والخمر والخفاف .
واتّفق الفقهاء على أنّه يحرم على المرأة حال إحرامها ستر وجهها ،أو بعضه بما يعدّ ساتراً، لكنّهم قالوا : إنّ على المرأة الحرّة المحرمة بحجّ أو عمرة أن تستر من وجهها ما لا يتأتّى ستر جميع رأسها إلاّ به ،ولا يجوز لها أن تكشف من رأسها ما لا يتأتّى كشف وجهها إلاّ به، لأنّ المحافظة على ستر الرّأس بكماله لكونه عورةً أولى من المحافظة على كشف ذلك القدر من الوجه الّذي لا يتأتّى تمام ستر الرّأس إلاّ به .
خامساً : الخمار في كفن المرأة :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ أقلّ الكفن الضّروريّ المقدور عليه ما يغطّي بدن الميّت رجلًا كان أو امرأةً إلاّ رأس المحرم ووجه المحرمة . وعلى أنّ الأفضل في الكفن للمرأة خمسة أثواب : إزار تستر به العورة ، وخمار يغطّى به الرّأس ، وقميص ، ولفافتان .
قال ابن المنذر : أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفّن المرأة في خمسة أثواب ، وإنّما استحبّ ذلك لأنّ المرأة تزيد في حال حياتها على الرّجل في السّتر لزيادة عورتها على عورته فكذلك بعد الموت ، وقد روى أبو داود بإسناده عن ليلى بنت قائف الثّقفيّة رضي الله تعالى عنها قالت : « كنت فيمن غسّل أمّ كلثوم رضي الله تعالى عنها بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند وفاتها ، فكان أوّل ما أعطانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحقو ، ثمّ الدّرع ، ثمّ الخمار ، ثمّ الملحفة ، ثمّ أدرجت بعد ذلك في الثّوب الآخر » .
وعند الحنابلة أنّ الجارية إذا لم تبلغ لا تخمّر عند تكفينها ، جاء في المغني : قال المروزيّ : سألت أبا عبد اللّه في كم تكفّن الجارية إذا لم تبلغ ؟ قال : في لفافتين ،وقميص لا خمار فيه، وكفّن ابن سيرين بنتاً له قد أعصرت في قميص ولفافتين ، ولأنّ غير البالغ لا يلزمها ستر رأسها في الصّلاة .
واختلفت الرّواية عن أحمد في الحدّ الّذي تصير به في حكم المرأة في التّكفين ويكون في كفنها الخمار ، فروي عنه ، إذا بلغت ، وهو ظاهر كلامه في رواية المروزيّ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » .
مفهومه أنّ غيرها لا تحتاج إلى خمار في صلاتها فكذلك في كفنها .
وروى عن أحمد أكثر أصحابه : إذا كانت بنت تسع سنين يصنع بها ما يصنع بالمرأة ، واحتجّ « بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل بها وهي بنت تسع سنين » وعنها رضي الله تعالى عنها قالت : إذا بلغت الجارية تسعاً فهي امرأة . وفي ترتيب أثواب الكفن وموضع الخمار بينها تفصيل ينظر في مصطلح : ( تكفين ) .(250/2)
خنزير *
التّعريف :
1 - الخنزير حيوان خبيث . قال الدّميريّ . الخنزير يشترك بين البهيميّة والسّبعيّة ، فالّذي فيه من السّبع النّاب وأكل الجيف ، والّذي فيه من البهيميّة الظّلف وأكل العشب والعلف .
أحكام الخنزير :
2 - تدور أحكام الخنزير على اعتبارات :
الأوّل : تحريم لحمه وسائر أجزائه . الثّاني : اعتبار نجاسة عينه . والثّالث : اعتبار ماليّته . وترتّب على كلّ من هذه الاعتبارات أو على جميعها جملة من الأحكام الشّرعيّة .
3 - أمّا الاعتبار الأوّل فقد أجمعت الأمّة على حرمة أكل لحم الخنزير إلاّ لضرورة . لقوله سبحانه وتعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ونصّ الحنابلة على تقديم أكل الكلب على الخنزير عند الضّرورة ، وذلك لقول بعض الفقهاء بعدم تحريم أكل الكلب . كما يقدّم شحم الخنزير وكليته وكبده على لحمه ، لأنّ اللّحم يحرم تناوله بنصّ القرآن ، فلا خلاف فيه .
ونصّ المالكيّة على وجوب تقديم ميتة غير الخنزير على الخنزير عند اجتماعهما ، لأنّ الخنزير حرام لذاته ، وحرمة الميتة عارضة .
وأمّا الاعتبار الثّاني : وهو اعتبار نجاسة عينه :
4 - فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على نجاسة عين الخنزير ، وكذلك نجاسة جميع أجزائه وما ينفصل عنه كعرقه ولعابه ومنيّه وذلك لقوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
والضّمير في قوله تعالى : { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } راجع إلى الخنزير فيدلّ على تحريم عين الخنزير وجميع أجزائه . وذلك لأنّ الضّمير إذا صلح أن يعود إلى المضاف وهو " اللّحم " والمضاف إليه وهو " الخنزير " جاز أن يعود إليهما .
وعوده إلى المضاف إليه أولى في هذا المقام لأنّه مقام تحريم ، لأنّه لو عاد إلى المضاف وهو اللّحم لم يحرم غيره ، وإن عاد إلى المضاف إليه حرم اللّحم وجميع أجزاء الخنزير . فغير اللّحم دائر بين أن يحرم وأن لا يحرم فيحرم احتياطاً وذلك بإرجاع الضّمير إليه طالما أنّه صالح لذلك ، ويقوّي إرجاع الضّمير إلى " الخنزير " أنّ تحريم لحمه داخل في عموم تحريم الميتة ، وذلك لأنّ الخنزير ليس محلّاً للتّذكية فينجس لحمه بالموت .
وذهب المالكيّة إلى طهارة عين الخنزير حال الحياة ، وذلك لأنّ الأصل في كلّ حيّ الطّهارة ، والنّجاسة عارضة ،فطهارة عينه بسبب الحياة ، وكذلك طهارة عرقه ولعابه ودمعه ومخاطه. وممّا يترتّب على الحكم بنجاسة عين الخنزير : :
أوّلاً : دباغ جلد الخنزير :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يطهر جلد الخنزير بالدّباغ ولا يجوز الانتفاع به لأنّه نجس العين ، والدّباغ كالحياة ، فكما أنّ الحياة لا تدفع النّجاسة عنه ، فكذا الدّباغ .
ووجّه المالكيّة قولهم بعدم طهارة جلد الخنزير بالدّباغ بأنّه ليس محلّاً للتّذكية إجماعاً فلا تعمل فيه فكان ميتةً فلا يطهر بالدّباغ ولا يجوز الانتفاع به .
ويتّفق المذهب عند الحنابلة والمالكيّة في أنّ جلد الميتة من أيّ حيوان لا يطهر بالدّباغ ، ولكنّهم يجوّزون الانتفاع به بعد الدّباغ في غير المائعات عند الحنابلة ، وفي المائعات كذلك مع اليابسات عند المالكيّة إلاّ الخنزير فلا تتناوله الرّخصة .
وروي عن أبي يوسف أنّ جلد الخنزير يطهر بالدّباغ .
ويقابل الرّواية المشهورة عند المالكيّة ما شهره عبد المنعم بن الفرس من أنّ جلد الخنزير كجلد غيره في جواز استعماله في اليابسات والماء إذا دبغ سواء ذكّي أم لا .
ثانياً : سؤر الخنزير :
6 - ذهب الشّافعيّة والحنفيّة والحنابلة إلى نجاسة سؤر الخنزير لكونه نجس العين ، وكذا لعابه لأنّه متولّد عنه . ويكون تطهير الإناء إذا ولغ فيه بأن يغسل سبعاً إحداهنّ بالتّراب - عند الشّافعيّة والحنابلة - لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : « إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرّات » وفي رواية : « فليرقه ثمّ ليغسله سبع مرّات » وفي أخرى :
« طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات أولاهنّ بالتّراب » .
قالوا : فإذا ثبت هذا في الكلب فالخنزير أولى لأنّه أسوأ حالاً من الكلب وتحريمه أشدّ ، لأنّ الخنزير لا يقتنى بحال ، ولأنّه مندوب إلى قتله من غير ضرر ، ولأنّه منصوص على تحريمه في قوله تعالى : { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فثبت وجوب غسل ما ولغ فيه بطريق التّنبيه. وعند الحنفيّة : يكون تطهير الإناء إذا ولغ فيه خنزير بأن يغسل ثلاثاً .
وذهب المالكيّة إلى عدم نجاسة سؤر الخنزير وذلك لطهارة لعابه عندهم ، وقد ثبت غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب تعبّداً فلا يدخل فيه الخنزير ، وفي قول آخر للمالكيّة : يندب الغسل .
ثالثاً : حكم شعره :
7 - ذهب الجمهور إلى نجاسة شعر الخنزير فلا يجوز استعماله لأنّه استعمال للعين النّجسة. وعند الشّافعيّة لو خرز خفّ بشعر الخنزير لم يطهر محلّ الخرز بالغسل أو بالتّراب لكنّه معفوّ عنه ، فيصلّى فيه الفرائض والنّوافل لعموم البلوى .(251/1)
وعند الحنابلة يجب غسل ما خرز به رطبًا ويباح استعمال منخل من الشّعر النّجس في يابس لعدم تعدّي نجاسته ، ولا يجوز استعماله في الرّطب لانتقال النّجاسة بالرّطوبة .
وأباح الحنفيّة استعمال شعره للخرّازين للضّرورة .
وذهب المالكيّة إلى طهارة شعر الخنزير فإذا قصّ بمقصّ جاز استعماله وإن وقع القصّ بعد الموت ، لأنّ الشّعر ممّا لا تحلّه الحياة ، وما لا تحلّه الحياة لا ينجس بالموت ، إلاّ أنّه يستحبّ غسله للشّكّ في طهارته ونجاسته . أمّا إذا نتف فلا يكون طاهراً .
رابعاً : حكم التّداوي بأجزائه :
8 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّداوي بالنّجس والمحرّم " في الجملة " وهو شامل للخنزير . وتقدّم تفصيله في مصطلح ( تداوي ) .
خامساً : تحوّل عين الخنزير :
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّ نجس العين يطهر باستحالته إلى عين أخرى ، فإذا استحالت عين الخنزير إلى ملح فإنّه يطهر .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ نجس العين لا يطهر بالاستحالة ، واستثنوا من ذلك الخمر وجلد الميتة . وقد تقدّم تفصيله في مصطلح ( تحوّل ف / 3 - 5 ) .
الاعتبار الثّالث : اعتبار ماليّة الخنزير :
10 - اتّفق الفقهاء على عدم اعتبار الخنزير مالاً متقوّماً في حقّ المسلم . وذلك لأنّ المال هو ما يمكن الانتفاع به شرعاً في غير الضّرورات ، والخنزير لا يمكن الانتفاع به لنجاسة عينه ولنهي الشّارع عن بيعه كما يأتي . ويظهر أثر عدم اعتبار الخنزير مالاً في الآتي :
أوّلاً : عدم صحّة بيعه وشرائه :
أجمع الفقهاء على عدم صحّة بيع الخنزير وشرائه ، ولحديث جابر بن عبد اللّه : « إنّ اللّه تعالى ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، فقيل : يا رسول اللّه ، أرأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السّفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس ، فقال : لا ، هو حرام ، ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك : قاتل اللّه اليهود إنّ اللّه لمّا حرّم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه » ولأنّ من شرط المعقود عليه - سواء أكان ثمناً أم مثمّناً - أن يكون طاهراً وأن ينتفع به شرعاً .
والأصل في حلّ ما يباع أن يكون منتفعاً به لأنّ بيع غير المنتفع به شرعاً لا يتحقّق به الرّضا ، فيكون من أكل المال بالباطل ، وهو منهيّ عنه لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } .
والخنزير إن كان فيه بعض المنافع إلاّ أنّها محرّمة شرعاً ، والمعدوم شرعًا كالمعدوم حسّاً .
وفصّل الحنفيّة في حكم بيع الخنزير فهو عندهم باطل إذا بيع بدراهم أو دنانير ، وفاسد إذا بيع بعين ، على قولهم بالتّفريق بين البطلان والفساد .
والفرق بين بيعه بدراهم أو دنانير وبين بيعه بعين ، أنّ الشّرع أمر بإهانة الخنزير وترك إعزازه وفي شرائه بدراهم أو دنانير إعزاز له ، لأنّها غير مقصودة في العقد لكونها وسيلةً للتّملّك ، وإنّما المقصود الخنزير ، ولذا كان بيعه بهما باطلًا ويسقط التّقوّم .
أمّا إذا بيع بعين كالثّياب ، فقد وجدت حقيقة البيع لأنّه مبادلة مال بمال ، والخنزير يعتبر مالاً في بعض الأحوال كما هو عند أهل الكتاب ، إلاّ أنّه في هذه الصّورة يعتبر كلّ منهما ثمناً ومبيعاً . ورجّح اعتبار الثّوب مبيعاً تصحيحاً لتصرّف العقلاء الّذي يقضي بأن يكون الإعزاز للثّوب وهو المقصود بالعقد لا الخنزير . فتكون تسمية الخنزير في العقد معتبرةً في تملّك الثّوب لا في نفس الخنزير ، فيفسد العقد لفساد الثّمن المسمّى وتجب قيمة الثّوب دون الخنزير .
إقرار أهل الذّمّة على اقتناء الخنزير :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ أهل الذّمّة يقرّون على ما عندهم من خنازير إلاّ أنّهم يمنعون من إظهارها ، ويمنعون من إطعامها مسلماً ، فإذا أظهروها أتلفت ولا ضمان .
وقيّد الشّافعيّة عدم تمكينهم من إظهارها بأن يكونوا بين أظهر المسلمين إذا انفردوا بمحلّة من البلد ، أمّا إذا انفردوا ببلد بأن لم يخالطهم مسلم لم يتعرّض لهم .
وذهب الشّافعيّة إلى إجبار الزّوجة الكتابيّة على ترك أكل الخنزير ،لأنّه منفّر من كمال التّمتّع، وخالفهم في هذا المالكيّة فليس للزّوج عندهم منعها منه .
سرقة الخنزير أو إتلافه :
12 - أ - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع ولا ضمان على من سرق أو أتلف خنزير المسلم لكونه غير محترم ، ولا متقوّم ، لعدم جواز تملّكه وبيعه واقتنائه .
ب - وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ من أتلف خنزير الذّمّيّ فإنّه يضمنه ويلزمه ردّه إذا سرقه . وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « اتركوهم وما يدينون » وهم يدينون بماليّة الخنزير وهو من أنفس الأموال عندهم لأنّه كالشّاة عندنا .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إذا قبلوها » يعني الجزية « أعلمهم أنّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين » وللمسلمين التّضمين بإتلاف ما يعتقدونه مالاً فكذا يكون الذّمّيّ ، بخلاف المسلم لأنّه ليس مالاً في حقّه أصلاً .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا غصب مسلم لأهل الذّمّة خنزيراً ردّ إليهم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » فإذا أتلفه لم يضمنه لأنّه غير متقوّم كسائر النّجاسات فليس له عوض شرعيّ ، سواء أظهروه أو لم يظهروه .
إلاّ أنّه يأثم إذا أتلفه في حال عدم إظهارهم له .(251/2)
13 - الخنزير البحريّ : سئل مالك عنه فقال أنتم تسمّونه خنزيراً يعني أنّ العرب لا تسمّيه بذلك لأنّها لا تعرف في البحر خنزيراً والمشهور أنّه الدّلفين .
قال الرّبيع سئل الشّافعيّ رضي الله عنه عن خنزير الماء فقال يؤكل وروى أنّه لمّا دخل العراق قال فيه حرّمه أبو حنيفة وأحلّه ابن أبي ليلى وروى هذا القول عن عمر وعثمان وابن عبّاس وأبي أيّوب الأنصاريّ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم والحسن البصريّ والأوزاعيّ واللّيث ، وامتنع مالك أن يقول فيه شيئاً وأبقاه مرّةً أخرى على جهة الورع وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أنّ أكّاراً صاد له خنزير ماء وحمله إليه فأكله ، وقال كان طعمه موافقاً لطعم الحوت سواءً ، وقال ابن وهب سألت اللّيث بن سعد عنه فقال إن سمّاه النّاس خنزيراً لم يؤكل لأنّ اللّه حرّم الخنزير .(251/3)
خَبَث *
التّعريف :
1 - الخبث في اللّغة هو كلّ ما يكره رداءةً وخسّةً محسوساً كان أو معقولاً ، ويتناول من الاعتقاد الكفر ، ومن القول : الكذب ، ومن الفعال القبيح قال ابن الأعرابيّ : الخبث في كلام العرب : المكروه ، فإن كان من الكلام فهو الشّتم ، وإن كان من الملل : فهو الكفر ، وإن كان من الطّعام : فهو الحرام وإن كان من الشّراب فهو الضّارّ ، والخبث في المعادن ما نفاه الكير ممّا لا خير فيه . وفي اصطلاح الفقهاء : هو عين النّجاسة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّجس :
2 - الرّجس : هو النّتن والقذر ، قال الفارابيّ : كلّ شيء يستقذر فهو رجس ، وقيل الرّجس : النّجس . قال الأزهريّ : الرّجس هو النّجس القذر الخارج من بدن الإنسان ، وعلى هذا فقد يكون الرّجس ، والقذر ، والنّجاسة بمعنى ، وقد يكون الرّجس ، والقذر بمعنى غير النّجاسة . وقال النّقّاش : الرّجس النّجس ، ومثل الرّجس : الرّكس والرّجز .
ب - الدّنس :
3 - الدَّنَس ( بفتحتين ) الوسخ . يقال : دنس الثّوب أي توسّخ ، وأيضاً تدنّس ، ودنّسه غيره .
الحكم الإجماليّ :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ إزالة الخبث مأمور بها في الشّرع ، واختلفوا هل ذلك على الوجوب ، أو على النّدب ؟
فصرّح بعض الفقهاء بوجوب إزالة الخبث مطلقاً ، وأكثر الفقهاء على جواز لبس الثّوب النّجس ، في خارج الصّلاة ، وكرهه بعضهم . واستدلّ القائلون بالوجوب بقوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وبحديث : « وكان الآخر لا يستنزه من البول » .
أمّا إزالة الخبث لمريد الصّلاة ، فقد ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه شرط لصحّة الصّلاة إلاّ ما كان معفوًّا عنه ر : ( شروط الصّلاة ) .
وللمالكيّة في حكم إزالة النّجاسات عن ثوب المصلّي ، وبدنه ، ومكانه ، قولان مشهوران : أحدهما أنّ إزالة الخبث عمّا ذكر سنّة من سنن الصّلاة على كلّ حال ، سواء ذكرها أم لم يذكرها ، وسواء قدر على إزالتها أم لم يقدر ، والقول الثّاني : إنّها واجبة إذا كان ذاكرًا وجودها ، وقدر على إزالتها بوجود ماء مطلق يزيلها به أو وجود ثوب طاهر ، أو القدرة على الانتقال من المكان الّذي فيه الخبث إلى مكان طاهر .
وقال الحطّاب : إنّ المعتمد في المذهب أنّ من صلّى بالنّجاسة متعمّداً عالماً بحكمها أو جاهلاً وهو قادر على إزالتها يعيد صلاته أبداً ، ومن صلّى بها ناسياً لها ، أو غير عالم بها ، أو عاجزاً عن إزالتها يعيد في الوقت على قول من قال إنّها سنّة ، وقول : من قال : إنّها واجبة مع الذّكر والقدرة . ر : التّفصيل في شروط الصّلاة وباب : ( النّجاسة ) .
5 - أمّا أنواع الخبث فإنّ العلماء اتّفقوا من أعيانه على أربعة : ميتة الحيوان ذي الدّم الّذي ليس بمائيّ ، ولحم الخنزير مطلقاً ، والدّم المسفوح ، وبول ابن آدم ورجيعه ، واختلفوا في غير ذلك . وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح : ( نجاسة ) .(252/1)
خُطبة *
التّعريف :
1 - الخطبة - بضمّ الخاء لغةً الكلام المنثور يخاطب به متكلّم فصيح جمعاً من النّاس لإقناعهم . والخطيب : المتحدّث عن القوم ، ومن يقوم بالخطابة في المسجد وغيره . والخطبة في الاصطلاح هي الكلام المؤلّف الّذي يتضمّن وعظاً وإبلاغاً على صفة مخصوصة.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الموعظة :
2 - الموعظة هي النّصح والتّذكير بالعواقب ، والأمر بالطّاعة .
قال الخليل : هي التّذكير بالخير فيما يرقّ له القلب .
ب - الوصيّة :
3 - الوصيّة هي لغة التّقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ .
ج - النّصيحة :
4 - النّصيحة هي الدّعوة إلى ما فيه الصّلاح ، والنّهي عمّا فيه الفساد .
ومن آدابها أن تكون سرّاً ، في حين يشترط في الخطبة أن يسمعها جماعة من النّاس .
د - الكلمة :
5 - تستعمل الكلمة بمعنى الكلام المؤلّف المطوّل : خطبةً كان أو غيرها كالقصيدة والمقالة والرّسالة .
أحكام الخطب المشروعة :
6 - الخطب المشروعة هي : خطبة الجمعة ، والعيدين ، والكسوفين ، والاستسقاء ، وخطب الحجّ ، وكلّها بعد الصّلاة إلاّ خطبة الجمعة ، وخطبة الحجّ يوم عرفة .
ومن الخطب المشروعة أيضاً الخطبة في خطبة النّكاح .
أ - خطبة الجمعة :
حكمها :
7 - هي شرط لصحّة الجمعة . واتّفقوا على أنّ الخطبتين شرط في انعقاد الجمعة ، إلاّ الحنفيّة فإنّهم يرون أنّ الشّرط خطبة واحدة ، وتسنّ خطبتان .
ودليل الجمهور فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ولأنّ الخطبتين أقيمتا مقام الرّكعتين ، وكلّ خطبة مكان ركعة ، فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الرّكعتين .
أركانها :
8 - اختلف الفقهاء في أركان خطبة الجمعة :
فذهب أبو حنيفة إلى أنّ ركن الخطبة تحميدة أو تهليلة أو تسبيحة ، لأنّ المأمور به في قوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } مطلق الذّكر الشّامل للقليل والكثير ، والمأثور عنه صلى الله عليه وسلم لا يكون بيانًا لعدم الإجمال في لفظ الذّكر .
وقال الصّاحبان : لا بدّ من ذكر طويل يسمّى خطبةً .
أمّا المالكيّة فيرون أنّ ركنها هو أقلّ ما يسمّى خطبةً عند العرب ولو سجعتين ، نحو : اتّقوا اللّه فيما أمر ، وانتهوا عمّا عنه نهى وزجر . فإن سبّح أو هلّل أو كبّر لم يجزه .
وجزم ابن العربيّ أنّ أقلّها حمد اللّه والصّلاة على نبيّه صلى الله عليه وسلم وتحذير ، وتبشير ، ويقرأ شيئاً من القرآن .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ لها خمسة أركان وهي :
أ - حمد اللّه ، ويتعيّن لفظ " اللّه " ولفظ " الحمد " .
ب - الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويتعيّن صيغة صلاة ، وذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم باسمه أو بصفته ، فلا يكفي صلى الله عليه .
ج - الوصيّة بالتّقوى ، ولا يتعيّن لفظها .
د - الدّعاء للمؤمنين في الخطبة الثّانية .
هـ - قراءة آية مفهمة - ولو في إحداهما - فلا يكتفى بنحو " ثمّ نظر " ، لعدم استقلالها بالإفهام ، ولا بمنسوخ التّلاوة ، ويسنّ جعلها في الخطبة الأولى .
واستدلّوا على هذه الأركان بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
أمّا أركانها عند الحنابلة فأربعة ، وهي :
أ - حمد اللّه تعالى ، بلفظ الحمد .
ب - الصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بصيغة الصّلاة .
ح - الموعظة ، وهي القصد من الخطبة ، فلا يجوز الإخلال بها .
د - قراءة آية كاملة وزاد بعضهم ركنين آخرين :
أ - الموالاة بين الخطبتين ، وبينهما وبين الصّلاة . فلا يفصل بين أجزاء الخطبتين ، ولا بين إحداهما وبين الأخرى ، ولا بين الخطبتين وبين الصّلاة .
ب - الجهر بحيث يسمع العدد المعتبر للجمعة ، حيث لا مانع . وعدّهما الآخرون في الشّروط - وهو الأليق - كما يعرف من الفرق بين الرّكن والشّرط في علم أصول الفقه .
شروطها :
9 - اتّفق الفقهاء على بعض الشّروط لصحّة الخطبة وهي :
أ - أن تقع في وقت الجمعة . ووقتها عند الجمهور هو وقت الظّهر ، يبدأ من بعد الزّوال إلى دخول وقت العصر ، للأخبار في ذلك ، وجريان العمل عليه .
أمّا الحنابلة فيرون أنّ وقتها يبدأ من أوّل وقت العيد ، وهو بعد ارتفاع الشّمس بمقدار رمح. واستدلّ الحنابلة بحديث عبد اللّه بن سيلان قال " شهدت الجمعة مع أبي بكر رضي الله عنه فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النّهار ، ثمّ شهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول : قد انتصف النّهار ، ثمّ شهدتها مع عثمان رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول : قد زال النّهار ، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره " .
ب - أن تكون قبل الصّلاة . فلو خطب بعدها أعاد الصّلاة - فقط - إن قرب ، وإلاّ استأنفها ، لأنّ من شروطها وصل الصّلاة بها .
ج - حضور جماعة تنعقد بهم . واختلفوا في العدد الّذي تصحّ بهم ، فذهب الحنفيّة إلى أنّه يكفي حضور واحد من أهلها سوى الإمام - على الصّحيح - .
أمّا المالكيّة فيرون وجوب حضور اثني عشر من أهلها الخطبتين ، فإن لم يحضروهما من أوّلهما لم يكتف بذلك ، لأنّهما منزّلتان منزلة ركعتين من الظّهر .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب حضور أربعين من أهل وجوبها .
فلو حضر العدد ، ثمّ انفضّوا كلّهم أو بعضهم ، وبقي ما دون الأربعين ، فإن انفضّوا قبل افتتاح الخطبة لم يبتدأ بها حتّى يجتمع أربعون ، وإن كان في أثنائها فإنّ الرّكن المأتيّ به في غيبتهم غير محسوب ، فإن عادوا قبل طول الفصل بنى على خطبته ، وبعد طوله يستأنفها لفوات شرطها وهو الموالاة . هذا هو المعتمد وفي المذاهب أقوال أخرى ينظر في المطوّلات. د - رفع الصّوت بها ، بحيث يسمع العدد المعتبر ، إن لم يعرض مانع .(253/1)
واختلفوا في وجوب الإنصات على المصلّين ، فمذهب الجمهور أنّه واجب ، وأنّه يحرم الكلام إلاّ للخطيب أو لمن يكلّمه الخطيب ، وكذا لتحذير إنسان من مهلكة .
ودليلهم قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } ، وقوله صلى الله عليه وسلم « إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت والإمام يخطب فقد لغوت » .
ومذهب الشّافعيّة في القديم متّفق مع مذهب الجمهور ، أمّا في الجديد فإنّه لا يجب الإنصات ولا يحرم الكلام ، لما صحّ « أنّ أعرابيّاً قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب : يا رسول اللّه هلك المال وجاع العيال ... » وسأله آخر عن موعد السّاعة ، ولم ينكر عليهما ، ولم يبيّن لهما وجوب السّكوت . وحملوا الأمر على النّدب ، والنّهي على الكراهة .
هـ - الموالاة بين أركان الخطبة ، وبين الخطبتين ، وبينهما وبين الصّلاة .
ويغتفر يسير الفصل ، هذا ما ذهب إليه الجمهور ، أمّا الحنفيّة فيشترطون أن لا يفصل بين الخطبة والصّلاة بأكل أو عمل قاطع ، أمّا إذا لم يكن قاطعاً كما إذا تذكّر فائتةً وهو في الجمعة فاشتغل بقضائها أو أفسد الجمعة فاحتاج إلى إعادتها ، أو افتتح التّطوّع بعد الخطبة فلا تبطل الخطبة بذلك ، لأنّه ليس بعمل قاطع ، ولكنّ الأولى إعادتها ، وإن تعمّد ذلك يصير مسيئاً .
ز - كونها بالعربيّة ، تعبّداً . للاتّباع ، والمراد أن تكون أركانها بالعربيّة ، ولأنّها ذكر مفروض فاشترط فيه ذلك كتكبيرة الإحرام ، ولو كان الجماعة عجماً لا يعرفون العربيّة . وهذا ما ذهب إليه الجمهور .
وقال أبو حنيفة وهو المعتمد عند الحنفيّة : تصحّ بغير العربيّة ، ولو كان الخطيب عارفاً بالعربيّة ، ووافق الصّاحبان الجمهور في اشتراط كونها بالعربيّة إلاّ للعاجز عنها .
وذهب المالكيّة إلى أنّه عند العجز عن الإتيان بها بالعربيّة لا تلزمهم الجمعة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يشترط في الخطيب أن يكون عارفاً معنى ما يقول ، فلا يكفي أعجميّ لقّن من غير فهم - على الظّاهر - .
وقال الشّافعيّة : عند عدم من يخطب بالعربيّة إن أمكن تعلّم العربيّة خوطب به الجميع فرض كفاية وإن زادوا على الأربعين ، فإن لم يفعلوا عصوا ولا جمعة لهم بل يصلّون الظّهر ، وأجاب القاضي عن سؤال ما فائدة الخطبة بالعربيّة إذا لم يعرفها القوم بأنّ فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة . ويوافقه قول الشّيخين فيما إذا سمعوا الخطبة ولم يعرفوا معناها أنّها تصحّ . وإن لم يمكن تعلّمها خطب واحد بلغته ، وإن لم يعرفها القوم ، فإن لم يحسن أحد منهم التّرجمة فلا جمعة لهم لانتفاء شرطها .
ح - النّيّة : اشترط الحنفيّة والحنابلة النّيّة لصحّة الخطبة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » . فلو حمد اللّه لعطاسه أو تعجّباً ، أو صعد المنبر وخطب بلا نيّة فلا تصحّ . ولم يشترط المالكيّة والشّافعيّة النّيّة لصحّة الخطبة .
وهناك أمور شرطها بعض الفقهاء وذهب الجمهور إلى سنّيّتها وتأتي في السّنن .
سننها :
10 - تنقسم هذه السّنن إلى سنن متّفق عليها وأخرى مختلف فيها أمّا السّنن المتّفق عليها فهي :
أ - أن تكون الخطبة على منبر لإلقاء الخطبة ، اتّباعاً للسّنّة ، ويستحبّ أن يكون المنبر على يمين المحراب " بالنّسبة للمصلّي " ، للاتّباع .
فإن لم يتيسّر المنبر فعلى موضع مرتفع ، لأنّه أبلغ في الإعلام .
ب - الجلوس على المنبر قبل الشّروع في الخطبة ، عملاً بالسّنّة .
ج - استقبال الخطيب القوم بوجهه ، ويستحبّ للقوم الإقبال بوجههم عليه ، وجاءت فيه أحاديث كثيرة ، منها حديث عديّ بن ثابت عن أبيه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم » .
د - الأذان بين يدي الخطيب ، إذا جلس على المنبر .
وهذا الأذان هو الّذي كان على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعن السّائب بن يزيد رضي الله عنه أنّه قال « إنّ الأذان يوم الجمعة كان أوّله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر ، في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلمّا كان في خلافة عثمان رضي الله عنه وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثّالث فأذّن به على الزّوراء ، فثبت الأمر على ذلك » .
هـ - رفع الصّوت بالخطبة زيادةً على الجهر الواجب السّابق بيانه لأنّه أبلغ في الإعلام ، لقول جابر رضي الله عنه « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه ، وعلا صوته ، واشتدّ غضبه ، حتّى كأنّه منذر جيش يقول : صبّحكم ومسّاكم » .
ز - تقصير الخطبتين ، وكون الثّانية أقصر من الأولى ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ طول صلاة الرّجل ، وقصر خطبته مئنّة من فقهه ، فأطيلوا الصّلاة ، واقصروا الخطبة » . ويستحبّ أن تكون الخطبة فصيحةً بليغةً مرتّبةً مفهومةً بلا تمطيط ولا تقعير ، ولا تكون ألفاظاً مبتذلةً ملفّقةً ، حتّى تقع في النّفوس موقعها .
ح - أن يعتمد الخطيب على قوس أو سيف أو عصا ، لما روى الحكم بن حزن رضي الله عنه قال : « وفدت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ... فأقمنا أيّاماً شهدنا فيها الجمعة مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقام متوكّئاً على عصاً أو قوس فحمد اللّه وأثنى عليه كلمات خفيفات طيّبات مباركات » .
وللحنفيّة تفصيل في المسألة فقالوا : يتّكئ على السّيف في كلّ بلدة فتحت عنوةً ، ليريهم قوّة الإسلام والحزم ، ويخطب بدونه في كلّ بلدة فتحت صلحاً .
11 - وأمّا السّنن المختلف فيها فهي :
أ - القيام في الخطبة مع القدرة ، للاتّباع . وهو شرط عند الشّافعيّة وأكثر المالكيّة .(253/2)
وقال الدّردير : الأظهر أنّ القيام واجب غير شرط ، فإن جلس أثم وصحّت .
فإن عجز خطب قاعداً فإن لم يمكنه خطب مضطجعاً كالصّلاة ، ويجوز الاقتداء به سواء أقال لا أستطيع أم سكت ، لأنّ الظّاهر أنّ ذلك لعذر . والأولى للعاجز الاستنابة .
وهو سنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، ولو قعد فيهما أو في إحداهما أجزأ ، وكره من غير عذر . ب - الجلوس بين الخطبتين مطمئنّاً فيه ، للاتّباع .
وهو سنّة عند الجمهور . وشرط عند الشّافعيّة .
ج - الطّهارة من الحدث والخبث غير المعفوّ عنه في الثّوب والبدن والمكان .
وهي ليست شرطاً عند الجمهور بل هي سنّة . وهي شرط عند الشّافعيّة وأبي يوسف .
قال الشّافعيّة : فلو أحدث في أثناء الخطبة استأنفها ، وإن سبقه الحدث وقصر الفصل ، لأنّها عبادة واحدة فلا تؤدّى بطهارتين كالصّلاة ، ومن ثمّ لو أحدث بين الخطبة والصّلاة وتطهّر عن قرب لم يضرّ .
والمشهور من مذهب المالكيّة أنّ الطّهارة ليست شرطاً لصحّة الخطبتين ولكنّ تركها مكروه . د - ستر العورة : ستر العورة سنّة عند الجمهور وهو شرط عند الشّافعيّة .
هـ - السّلام على النّاس : يسنّ عند الشّافعيّة والحنابلة أن يسلّم الخطيب على النّاس مرّتين إحداهما حال خروجه للخطبة " أي من حجرته أو عند دخوله المسجد إن كان قادماً من خارجه " والأخرى ، إذا وصل أعلى المنبر وأقبل على النّاس بوجهه .
وقال الحنفيّة والمالكيّة : يندب سلامه على النّاس عند خروجه للخطبة فقط ، ولا يسلّم على المصلّين عند انتهاء صعوده على المنبر واستوائه عليه ، ولا يجب ردّه ، لأنّه يلجئهم إلى ما نهوا عنه .
ز - البداءة بحمد اللّه والثّناء عليه ، ثمّ الشّهادتين ثمّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والعظة والتّذكير ، وقراءة آية من القرآن ، والدّعاء فيها للمؤمنين سنّة عند الحنفيّة، والمالكيّة ، كما يندب عند المالكيّة أيضًا ختمها بيغفر اللّه لنا ولكم .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : يستحبّ التّرتيب بأن يبدأ بالحمد ، ثمّ بالثّناء ، ثمّ بالصّلاة ، ثمّ بالموعظة ، فإن نكس أجزأه لحصول المقصود . وهذا التّرتيب سنّة عندهم .
والدّعاء للمؤمنين سنّة عند الجمهور إلاّ الشّافعيّة فإنّه ركن عندهم . وقد تقدّم .
ح - صرّح الشّافعيّة بسنّيّة حضور الخطيب بعد دخول الوقت ، بحيث يشرع في الخطبة أوّل وصوله إلى المنبر لأنّ هذا هو المنقول ، ولا يصلّي تحيّة المسجد .
ط - أن يصعد الخطيب المنبر على تؤدة ، وأن ينزل مسرعاً عند قول المؤذّن قد قامت الصّلاة .
مكروهاتها :
12 - قال الحنفيّة : يكره التّطويل من غير قيد بزمن ، في الشّتاء لقصر الزّمان ، وفي الصّيف للضّرر بالزّحام والحرّ ، ويكره ترك شيء من سنن الخطبة ، وإذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام ، إلاّ إذا تذكّر فائتةً ولو وتراً ، وهو صاحب ترتيب فلا يكره الشّروع فيها حينئذ ، بل يجب لضرورة صحّة الجمعة ، ويكره التّسبيح وقراءة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان يسمع الخطبة ، إلاّ إذا أمر الخطيب بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه يصلّي سرّاً إحرازاً للفضيلتين ، ويحمد في نفسه إذا عطس - على الصّحيح - ويكره تشميت العاطس وردّ السّلام ، لاشتغاله بسماع واجب ، ويجوز إنذار أعمى وغيره إذا خشي تعرّضه للوقوع في هلاك ، لأنّ حقّ الآدميّ مقدّم على الإنصات - حقّ اللّه- ويكره لحاضر الخطبة الأكل والشّرب ، وقال الكمال : يحرم الكلام وإن كان أمراً بمعروف أو تسبيحاً ، والأكل والشّرب والكتابة . ويكره العبث والالتفات ، ويكره تخطّي رقاب النّاس إذا أخذ الخطيب بالخطبة ، ولا بأس به قبل ذلك .
13 - وقال المالكيّة : يكره تخطّي الرّقاب قبل جلوس الخطيب على المنبر لغير فرجة ، لأنّه يؤذي الجالسين ، وأن يخطب الخطيب على غير طهارة ، والتّنفّل عند الأذان الأوّل لجالس في المسجد يقتدى به كعالم وأمير ، كما يكره التّنفّل بعد صلاة الجمعة إلى أن ينصرف النّاس ويحرم الكلام من الجالسين حال الخطبة وبين الخطبتين ، ولو لم يسمعوا الخطبة إلاّ أن يلغو الخطيب في خطبته ، بأن يأتي بكلام ساقط ، فيجوز الكلام حينئذ ، ويحرم السّلام من الدّاخل أو الجالس على أحد ، وكذا ردّه ، ولو بالإشارة ويحرم تشميت العاطس ، ونهي لاغ ، والإشارة له ، والأكل والشّرب ، وابتداء صلاة نفل بعد خروج الخطيب للخطبة ، ولو لداخل .
14 - وقال الشّافعيّة : يكره في الخطبة أشياء منها :
ما يفعله بعض جهلة الخطباء من الدّقّ على درج المنبر في صعوده ، والدّعاء إذا انتهى صعوده قبل جلوسه ، والالتفات في الخطبة ، والمجازفة في أوصاف السّلاطين في الدّعاء لهم وكذبهم في كثير من ذلك ، والمبالغة في الإسراع في الخطبة الثّانية ، وخفض الصّوت بها ، واستدبار الخطيب للمصلّين ، وهو قبيح خارج عن عرف الخطاب ، والتّقعير والتّمطيط في الخطبة ، ويكره شرب الماء للمصلّين أثناء الخطبة للتّلذّذ ، ولا بأس بشربه للعطش ، ويكره للدّاخل أن يسلّم والإمام يخطب ، ويجب الرّدّ عليه ، ويستحبّ للمستمع تشميت العاطس لعموم الأدلّة ، ويكره تحريماً تنفّل من أحد من الحاضرين بعد صعود الخطيب على المنبر وجلوسه عليه ، ويجب على من كان في صلاة تخفيفها عند صعود الخطيب المنبر وجلوسه ، ويكره الأذان جماعةً بين يدي الخطيب .
وتستثنى التّحيّة لداخل المسجد والخطيب على المنبر فيسنّ له فعلها ، ويخفّفها وجوباً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما » . ( ر : تحيّة ف /5 ) .(253/3)
15 - وقال الحنابلة : يكره الالتفات في الخطبة ، واستدبار النّاس ، ويكره للإمام رفع يديه حال الدّعاء في الخطبة ، ولا بأس بأن يشير بأصبعه في دعائه ، ويكره الدّعاء عقب صعوده المنبر ، ويكره للمصلّي أن يسند ظهره إلى القبلة ، ومدّ رجليه إلى القبلة ، ويكره رفع الصّوت قدّام بعض الخطباء ، وابتداء تطوّع بخروج الخطيب خلا تحيّة المسجد فلا يمنع الدّاخل منها ، ويكره العبث ، وشرب ماء عند سماع الخطبة ، ما لم يشتدّ عطشه .
ب - خطبة العيدين :
حكمها :
16 - خطبتا العيد سنّة لا يجب حضورهما ولا استماعهما ، لحديث عبد اللّه بن السّائب قال: « شهدت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العيد فلمّا قضى الصّلاة قال : إنّا نخطب ، فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب » .
وقال بعض المالكيّة : الخطبة من سنّة الصّلاة ، فمن شهد الصّلاة ممّن تلزمه أو لا تلزمه من صبيّ أو امرأة لم يكن له أن يترك حضور سنّتها ، كطواف النّفل ليس له أن يترك ركوعه " أي ركعتي الطّواف " لأنّه من سنّته .
وهي كخطبة الجمعة في صفتها وأحكامها ، إلاّ فيما يلي :
أ ولاً- أن تفعل بعد صلاة العيد ، لا قبلها . قال ابن قدامة : وخطبتا العيد بعد الصّلاة لا نعلم فيه " أي في كونهما بعد الصّلاة " خلافًا بين المسلمين .
فإذا خطب قبل الصّلاة ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة أنّها صحيحة وقد أساء الخطيب بذلك ، أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيرون أنّها لا تصحّ ، ويعيدها بعد الصّلاة .
ثانياً - ويسنّ افتتاحها بالتّكبير ، كما يستحبّ أن يكبّر في أثنائها ، بخلاف خطبة الجمعة ، فإنّه يفتتحها بالحمد للّه . ويستحبّ عند الجمهور أن يفتتح الأولى بتسع تكبيرات والثّانية بسبع ، ويرى المالكيّة أنّه لا حدّ لذلك ، فإن كبّر ثلاثاً أو سبعاً أو غيرها ، فكلّ ذلك حسن .
ويستحبّ أن يبيّن في خطبة الفطر أحكام زكاة الفطر ، وفي الأضحى أحكام الأضحيّة .
ثالثاً - أنّه لا يشترط في خطبة العيد - عند الشّافعيّة - القيام ، والطّهارة ، وستر العورة ، والجلوس بين الخطبتين .
د - خطبة الكسوف :
17 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا خطبة لصلاة الكسوف ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالصّلاة دون الخطبة .
وقال المالكيّة : يندب وعظ بعدها ، يشتمل على الثّناء على اللّه ، والصّلاة والسّلام على نبيّه، لفعله عليه الصلاة والسلام .
ولا يكون على طريقة الخطبة ، لأنّه لا خطبة لصلاة الكسوف .
ويندب عند الشّافعيّة أن يخطب الإمام بعد صلاة الكسوف خطبتين كخطبتي الجمعة في أركانهما وسننهما ، ولا تعتبر فيهما الشّروط كما في العيد ، واستدلّوا بفعله صلى الله عليه وسلم . ولا تصحّ الخطبة إن قدّمها على الصّلاة . وينظر التّفصيل في ( كسوف ) .
د - خطبة الاستسقاء :
18 - يندب عند جمهور الفقهاء أن يخطب الإمام بعد صلاة الاستسقاء خطبة كخطبة العيد في الأركان ، والشّروط ، والسّنن ، يعظ المسلمين فيها ويخوّفهم من المعاصي ، ويأمرهم بالتّوبة والإنابة والصّدقة .
وذهب أبو حنيفة - وهو المعتمد - إلى أنّه لا يصلّي جماعةً ولا يخطب .
واختلف الفقهاء في عدد الخطب وكيفيّتها ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة ومحمّد بن الحسن إلى أنّهما خطبتان كخطبتي العيد ، لكن يستبدل بالتّكبير الاستغفار .
وذهب الحنابلة وأبو يوسف إلى أنّها خطبة واحدة .
قال الحنابلة : يكبّر في أوّلها تسع تكبيرات ، والمشهور عن أبي يوسف أنّه لا يكبّر .
وانظر التّفصيل في ( استسقاء ) .
هـ - خطب الحجّ :
19 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ للإمام أو نائبه الخطبة في الحجّ ، يبيّن فيها مناسك الحجّ للنّاس ، وذلك اقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم واختلفوا في عدد الخطب الّتي يخطبها ، فذهب الجمهور إلى أنّها ثلاث خطب ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّها أربع .
أولاً - الخطبة الأولى :
يسنّ عند الجمهور عدا الحنابلة أن يخطب الإمام أو نائبه بمكّة في اليوم السّابع من ذي الحجّة ، ويسمّى بيوم الزّينة ، خطبةً واحدةً لا يجلس فيها يعلّم فيها النّاس مناسك الحجّ ، اقتداءً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ثانياً - الخطبة الثّانية :
تسنّ هذه الخطبة يوم عرفة بنمرة ، قبل أن يصلّي الظّهر والعصر - جمع تقديم - اقتداءً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّم فيها النّاس ما أمامهم من مناسك ، ويحثّهم على الاجتهاد في الدّعاء والعبادة .
وهي خطبتان كخطبتي الجمعة عند الجمهور ، وقال الحنابلة هي خطبة واحدة .
ثالثاً - الخطبة الثّالثة :
يسنّ عند الشّافعيّة والحنابلة أن يخطب الإمام يوم النّحر بمنًى ، خطبةً واحدةً يعلّم النّاس فيها مناسكهم من النّحر والإفاضة والرّمي ، لما روى ابن عبّاس » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب النّاس يوم النّحر ، يعني بمنىً » .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ هذه الخطبة تكون يوم الحادي عشر من ذي الحجّة ، لا يوم النّحر ، لأنّه يوم اشتغال بالمناسك ، يعلّم فيها النّاس جواز الاستعجال لمن أراد ، وهي الخطبة الأخيرة عندهم .
رابعاً - الخطبة الرّابعة :
يسنّ عند الشّافعيّة والحنابلة أن يخطب الإمام بمنىً ثاني أيّام التّشريق خطبةً واحدةً يعلّم فيها النّاس جواز النّفر وغير ذلك ويودّعهم .
و - خطبة النّكاح :
20 - يستحبّ أن يخطب العاقد أو غيره من الحاضرين خطبةً واحدةً ، بين يدي العقد ، وإن خطب بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو أحسن .
وقال الشّافعيّة : يستحبّ تقديم خطبتين ، إحداهما قبل الخطبة ، والأخرى قبل العقد .(253/4)
خُلطة *
التّعريف :
1 - الخُلطة ( بضمّ الخاء ) لغةً من الخلط ، وهو مزج الشّيء بالشّيء . يقال : خلط القمح بالقمح يخلطه خلطًا ، وخلطه فاختلط . وخليطُ الرّجل مخالطُه ... والخليط ، الجار والصّاحب. وقيل : لا يكون إلاّ في الشّركة . وفي التّنزيل { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } . والخِلطة العِشْرة . والخُلطة الشّركة .
والخُلطَة في الاصطلاح الفقهيّ نوعان :
النّوع الأوّل : خلطة الأعيان ، هكذا سمّاها الحنابلة ، وسمّاها الشّافعيّة أيضاً خلطة الاشتراك وخلطة الشّيوع ، وهي أن يكون المال لرجلين أو أكثر هو بينهما على الشّيوع ، مثل أن يشتريا قطيعاً من الماشية شركةً بينهما لكلّ منهما فيه نصيب مشاع ، أو أن يرثاه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله غير متميّز .
والثّاني : خلطة الأوصاف ، وفي شرح المنهاج تسميتها خلطة الجوار أيضاً . وهي أن يكون مال كلّ من الخليطين معروفاً لصاحبه بعينه فخلطاه في المرافق لأجل الرّفق في المرعى ، أو الحظيرة ، أو الشّرب . بحيث لا تتميّز في المرافق .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الخلطة في الأموال على وجه يتميّز به مال كلّ من الخليطين عن صاحبه أمر مباح في الأصل ، لأنّه نوع من التّصرّف المباح في المال الخاصّ .
وقد يحصل به أنواع من الرّفق بأصحاب الأموال كأن يكون لأهل القرية غنم لكلّ منهم عدد قليل منها فيجمعوها عند راع واحد يرعاها بأجر أو تبرّعاً ، ويؤويها إلى حظيرة واحدة ، وتجمع في سقيها أو حلبها أو غير ذلك ، فذلك أيسر عليهم من أن يقوم كلّ منهم على غنمه وحده ، وكذا في خلطة المزارع الارتفاق باتّحاد النّاطور ، والماء ، والحراث ، والعامل . وفي خلطة التّجّار باتّحاد الميزان ونحو ذلك .
وأمّا خلطة الأعيان فهي الشّركة بعينها ، ويراجع حكمها تحت مصطلح : ( شركة ) والأصل فيها أيضاً الإباحة .
وبما أنّ الخلطة قد تكون سبباً في تقليل الزّكاة بشروطها فقد ورد النّهي عن إظهار صورة الخلطة إذا لم تكن هناك خلطة في الحقيقة سعياً وراء تقليل الزّكاة الّتي قد وجبت فعلاً ، وكذا ورد النّهي عن إظهار صورة الانفراد سعياً وراء تقليل الزّكاة الّتي وجبت فعلاً في الأموال المختلطة ، وذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يجمع بين متفرّق ، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » . ويأتي مطوّلاً بيان معنى ذلك .
أحكام الخلطة :
3 - اختلف الفقهاء في تأثير الخلطة في الزّكاة على قولين :
الأوّل : أنّ لها تأثيراً في الزّكاة من حيث الجملة ، وهذا قول الجمهور على خلاف بينهم في بعض الشّروط الّتي لا بدّ من توافرها ليتحقّق ذلك التّأثير . مع الخلاف أيضاً في الأموال الّتي تؤثّر الخلطة فيها على ما سيأتي . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه « ولا يجمع بين متفرّق ، ولا يفرّق بين مجتمع ، خشية الصّدقة ، وما كان من خليطين فإنّهما يتراجعان بينهما بالسّويّة » .
قال الأزهريّ : جوّد تفسير هذا الحديث أبو عبيد في كتاب الأموال ، وفسّره على نحو ما فسّره الشّافعيّ . قال الشّافعيّ : الّذي لا أشكّ فيه أنّ " الخليطين " : الشّريكان لم يقتسما الماشية ، " وتراجعهما بالسّويّة " : أن يكونا خليطين في الإبل تجب فيها الغنم ، فتوجد الإبل في يد أحدهما ، فتأخذ منه صدقتها فيرجع على شريكه بالسّويّة . قال الشّافعيّ : وقد يكون " الخليطان " الرّجلين يتخالطان بماشيتهما ، وإن عرف كلّ منهما ماشيته ، قال : ولا يكونان خليطين حتّى يريحا ويسرحا معاً ، وتكون فحولتهما مختلطةً ، فإذا كانا هكذا صدّقا صدقة الواحد بكلّ حال .
قال : وإن تفرّقا في مراح ، أو سقي ، أو فحول ، صدّقا صدقة الاثنين . ا . هـ .
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يجمع بين متفرّق خشية الصّدقة » فهو نهي عن أن يخلط الرّجل إبله بإبل غيره ، أو غنمه بغنمه ، أو بقره ببقره ، ليمنع حقّ اللّه تعالى ويبخس المصدّق " وهو جابي الزّكاة " ، وذلك كأن يكون ثلاثة رجال ، لكلّ منهم أربعون شاةً ، فيكون على كلّ منهم في غنمه شاة ، فإذا أحسّوا بقرب وصول المصدّق جمعوها ليكون عليهم فيها شاة واحدة .
وقوله عليه الصلاة والسلام : « ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » مثل أن يكون نصاب بين اثنين ، فإذا جاء المصدّق أفرد كلّ منهما إبله عن إبل صاحبه لئلاّ يكون عليهما شيء . واحتجّوا أيضاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا خلاط ولا وراط » ( الخديعة ) " فالخلاط المنهيّ عنه هو ما تقدّم في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم « لا يجمع بين متفرّق خشية الصّدقة » فلولا أنّ للخلط تأثيراً في الزّكاة ما نهى عنه .
القول الثّاني : وهو مذهب الحنفيّة أنّ الخلطة بنوعيها لا تأثير لها ، واستدلّوا بحديث أنس نفسه ، قال ابن الهمام : لنا هذا الحديث ، إذ المراد الجمع والتّفريق في الأملاك لا في الأمكنة ، ألا ترى أنّ النّصاب المفرّق في أمكنة مع وحدة المالك تجب فيه الزّكاة ، ومن ملك ثمانين شاةً فليس للسّاعي أن يجعلها نصابين بأن يفرّقها في مكانين .
قال : « فمعنى لا يفرّق بين مجتمع » ، أن لا يفرّق السّاعي بين الثّمانين أو المائة والعشرين فيجعلها نصابين أو ثلاثةً . ومعنى « ولا يجمع بين متفرّق » لا يجمع الأربعين المتفرّقة في الملك بأن تكون مشتركةً ليجعلها نصاباً ، والحال أنّ لكلّ منهما عشرين . قال : « وتراجعهما بالسّويّة » أن يرجع كلّ واحد من الشّريكين على شريكه بحصّة ما أخذ منه .(254/1)
واحتجّوا أيضاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إذا كانت سائمة الرّجل ناقصةً من أربعين شاةً واحدةً فليس فيها صدقة » قال الكاسانيّ : نفى الحديث وجوب الزّكاة في أقلّ من أربعين مطلقًا عن حال الشّركة والانفراد .
فدلّ أنّ كمال النّصاب في حقّ كلّ واحد منهما شرط الوجوب .
أوجه تأثير الخلطة :
4 - الخلطة تؤثّر - عند من قال بها - في المالين المختلطين من أوجه :
الأوّل : تكميل النّصاب ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة ، فلو كان لكلّ من الخليطين أقلّ من نصاب ، ومجموع مالهما نصاب ، تجب فيه الزّكاة . وفي كتاب الفروع : لو تخالط أربعون رجلاً لكلّ منهم شاة واحدة ، فعليهم الزّكاة ، شاة واحدة .
وقال المالكيّة : لا أثر للخلطة حتّى يكون لكلّ من الخليطين نصاب .
الثّاني : القدر ، فلو كان ثلاثة لكلّ منهم أربعون شاةً تخالطوا بها ، فعليهم شاة واحدة ، ولولا الخلطة لكان على كلّ منهم شاة . وهذا تأثير بالنّقص .
وقد يكون التّأثير بالزّيادة ، كخليطين لكلّ واحد منهما مائة شاة وشاة واحدة ، عليهما ثلاث شياه ، ولولا الخلطة لكان على كلّ منهما شاة واحدة . وقد يكون التّأثير تخفيفاً على أحدهما وتثقيلاً على الآخر كخليطين لأحدهما أربعون وللآخر عشرون .
الثّالث : السّنّ : كاثنين لكلّ منهما ستّ وثلاثون من الإبل فعليهم جذعة ، على كلّ واحد نصفها ، ولولا الخلطة لكان على كلّ منهما بنت لبون ، فحصل بها تغيّر في السّنّ .
الرّابع : الصّنف ، كاثنين لأحدهما أربعون من الضّأن ، وللثّاني ثمانون من المعز ، فعليهما شاة من المعز ، لأنّ المعز أكثر ، كالمالك الواحد ، فقد تغيّر الصّنف بالنّسبة لمالك الضّأن . وقد لا توجب الخلطة تغييراً ، كاثنين لكلّ منهما عشر شياه فلا زكاة عليهما مع الخلطة أو عدمها . أو اثنين لكلّ منهما مائة شاة ، فعليهما شاتان سواء اختلطا أم انفردا .
الخامس : أنّ الخلطة تفيد جواز إخراج الخليط الزّكاة عن خليطه عند الشّافعيّة والحنابلة . قال صاحب المحرّر من الحنابلة : عقد الخلطة جعل كلّ واحد منهما كالآذن لخليطه في الإخراج عنه . وقال ابن حامد : يجزئ إخراج أحدهما بلا إذن الآخر .
واختار صاحب الرّعاية : لا يجزئ إلاّ بإذن .
أنواع الأموال الزّكويّة الّتي يظهر فيها تأثير الخلطة عند غير الحنفيّة :
أوّلاً : السّائمة :
5 - قد اتّفق من عدا الحنفيّة على أنّ الخلطة مؤثّرة فيها . سواء أكانت إبلاً مع إبل ، أو غنماً مع غنم ، أو بقراً مع بقر .
ثانياً : الزّرع والثّمر وعروض التّجارة والذّهب والفضّة :
فالأظهر عند الشّافعيّة أنّها تؤثّر أيضاً ، فلو كان نصاب منها مشتركاً بين اثنين ففيه الزّكاة ، وكذا إن كان مختلطًا خلطة جوار .
واحتجّوا بعموم الحديث « لا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » وهذا رواية عن أحمد اختارها الآجرّيّ وصحّحها ابن عقيل ، ووجّهها القاضي بأنّ المئونة تخفّ فالملقّح واحد ، والحراث واحد ، والجرين واحد ، وكذا الدّكّان واحد ، والميزان والمخزن والبائع .
ومذهب مالك هو الرّواية الأخرى عن أحمد وهو قول للشّافعيّة : إنّ الخلطة فيها لا تؤثّر مطلقاً ، بل يزكّي مال كلّ شريك أو خليط وحده . قال ابن قدامة : وهذا قول أكثر أهل العلم قال : وهو الصّحيح ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الخليطان ما اجتمعا على الحوض والرّاعي والفحل » فدلّ على أنّ ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطةً مؤثّرةً ، ودلّ على أنّ حديث « لا يفرّق بين مجتمع » إنّما يكون في الماشية .
ووجه الخصوصيّة أنّ الزّكاة تقلّ بجمع الماشية تارةً وتزيد أخرى ، وسائر الأموال غير الماشية تجب فيها فيما زاد على النّصاب بحسابه فلا أثر لجمعها ، ولأنّ الخلطة في الماشية تؤثّر للمالك نفعاً تارةً وضرراً تارةً أخرى ، ولو اعتبرت في غير الماشية أثّرت ضرراً محضاً بربّ المال ، أي في حال انفراد كلّ من الخليطين بأقلّ من النّصاب ، فلا يجوز اعتبارها . وفي قول ثالث عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : التّفريق بين خلطة الاشتراك ، فتؤثّر وبين خلطة الجوار فلا تؤثّر مطلقاً .
وفي قول رابع للشّافعيّة : تؤثّر خلطة الجوار في الزّرع والثّمر دون النّقد وعروض التّجارة . وقد نقل هذا القول ابن قدامة عن الأوزاعيّ وإسحاق .
شروط تأثير الخلطة في الزّكاة عند القائلين بها :
الّذين قالوا بتأثير الخلطة في الزّكاة اشترطوا لذلك شروطاً كما يلي :
الشّرط الأوّل :
6 - أن يكون لكلّ من الخليطين نصاب تامّ ، وهذا اشترطه المالكيّة في المعتمد والثّوريّ وأبو ثور واختاره ابن المنذر .
قال المالكيّة : وسواء خالط بنصابه التّامّ أو ببعضه . فلو كان له أربعون أو أكثر من الغنم فخالط بها كلّها من له أربعون أو أكثر زكّي ما لهما زكاة مالك واحد .
ولو أنّ أحدهما خالط بعشرين وله غيرها ممّا يتمّ به ما له نصاباً فيضمّ ما لم يخالط به إلى مال الخلطة وتزكّى غنمهما كلّها زكاة مالك واحد إذا كان ما تخالطا به نصاباً أو أكثر .
وقال الشّافعيّة : المشترط أن يكون مجموع المالين لا يقلّ عن نصاب ، فإن كان مجموعهما أقلّ من نصاب فلا أثر للخلطة ما لم يكن لأحدهما مال آخر من جنس المال المختلط يكمل به مع ماله المختلط نصاب ، كما لو اختلطا في عشرين شاةً لكلّ منهما منها عشر فلا أثر للخلطة ، فإن كان لأحدهما ثلاثون أخرى زكّيا زكاة الخلطة .
أمّا عند الحنابلة فالخلطة مؤثّرة ولو لم يبلغ مال كلّ من الخليطين نصاباً .
الشّرط الثّاني :(254/2)
7 - أن يكون كلّ من الخليطين من أهل الزّكاة ، مسلماً ، فإن كانا كافرين أو أحدهما ، لم تلزم الزّكاة الكافر ويزكّي المسلم زكاة منفرد .
فإن كانوا ثلاثة خلطاء أحدهم كافر زكّى الآخران ماليهما زكاة خلطة .
ومن ذلك أنّ المالكيّة اشترطوا في كلا الخليطين أن يكون حرّاً لأنّ العبد لا زكاة عليه . واشترط الحنابلة أن لا يكون الخليط غاصباً لما هو مخالط به .
وكذا لو كان أحد المالين موقوفاً أو لبيت المال .
الشّرط الثّالث :
8 - نيّة الخلطة . وهذا قد اشترطه المالكيّة ، وهو قول للشّافعيّة خلاف الأصحّ عندهم ، وقول القاضي من الحنابلة . قال الدّردير من المالكيّة : والمراد أن ينوي الخلطة كلّ واحد من الخليطين أو الخلطاء ، لا واحد فقط ، بأن ينويا حصول الرّفق بالاختلاط لا الفرار من الزّكاة. ووجّهه المحلّيّ بأنّ الخلطة تغيّر أمر الزّكاة بالتّكثير أو التّقليل ولا ينبغي أن يكثر من غير قصده ورضاه ولا أن يقلّل إذا لم يقصده محافظةً على حقّ الفقراء .
والأصحّ عند الشّافعيّة وهو مذهب الحنابلة أنّه لا أثر لنيّة الخلطة ، قال المحلّيّ : لأنّ الخلطة إنّما تؤثّر من جهة خفّة المؤنة باتّحاد المرافق وذلك لا يختلف بالقصد وعدمه .
وقال ابن قدامة : لأنّ النّيّة لا تؤثّر في الخلطة فلا تؤثّر في حكمها .
ولأنّ المقصود بالخلطة الارتفاق وهو حاصل ولو بغير نيّة ، فلم يتغيّر وجودها معه كما لا تتغيّر نيّة السّوم في الإسامة ، ولا نيّة السّقي في الزّروع والثّمار ، ولا نيّة مضيّ الحول فيما الحول شرط فيه .
الشّرط الرّابع :
9 - الاشتراك في مرافق معيّنة ، والكلام على ذلك يتعلّق بالأنعام وبغيرها .
أوّلاً : الخلطة في الأنعام . وجملة ما يذكره الفقهاء من تلك المرافق .
أ - المشرع ، أي موضع الماء الّذي تشرب منه سواء كان حوضاً ، أو نهراً ، أو عيناً ، أو بئراً ، فلا يختصّ أحد المالين بماء دون الآخر .
ب - المراح ، قال المالكيّة : هو المكان الّذي تقيل فيه أو تجتمع ، ثمّ تساق منه للمبيت أو للسّروح . وقال الشّافعيّة والحنابلة : المراح مأواها ليلاً .
ج - المبيت : وهو المكان الّذي تقضي فيه اللّيل .
د - موضع الحلب ، والآنية الّتي يحلب فيها ، والحالب .
هـ- المسرح : وهو عند الشّافعيّة الموضع الّذي تسرح إليه لتجتمع وتساق إلى المرعى .
ز - المرعى : وهو مكان الرّعي وهو المسرح نفسه عند الحنابلة ، وغيره عند الشّافعيّة .
ح - الرّاعي : ولو كان لكلّ من المالين راع لكن لو تعاون الرّاعيان في حفظ المالين بإذن صاحبيهما فذلك من اتّحاد الرّاعي أيضاً .
ط - الفحولة : بأن تضرب في الجميع دون تمييز . والأصل في ذلك الحديث الّذي تقدّم نقله « الخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والرّاعي » .
ثمّ إنّ المالكيّة قالوا : تتمّ الخلطة بثلاثة على الأقلّ من خمسة هي الماء ، والمراح ،والمبيت، والرّاعي ، والفحل ، فلو انفردا في اثنين من الخمسة أو واحد لم ينتف حكم الخلطة . ومذهب الشّافعيّة أنّه لا بدّ من الاشتراك في سبعة هي المشرع ، والمسرح ، والمراح ، وموضع الحلب ، والرّاعي ، والفحل ، والمرعى . وزاد بعضهم غيرها .
ومذهب الحنابلة لا بدّ من الاشتراك في خمسة : المسرح وهو المرعى ، والمبيت ،والمشرب، والمحلب ، والفحل ، وبعضهم أضاف الرّاعي ، وبعضهم جعل الرّاعي والمرعى شرطاً واحداً. واشترط بعضهم خلط اللّبن .
وقد صرّح المالكيّة بأنّ كلّ منفعة من هذه المنافع يحصل الاشتراك فيها إذا لم يختصّ بها أحد المالين دون الآخر سواء أكانت مملوكةً لهما أم لأحدهما وأذن للآخر أو لغيرهما وأعاره لهما أو كانت مباحةً للنّاس كما في المبيت والمراح والمشرب .
10 - ثانياً : الخلطة في الزّروع والثّمار ، فالّذين قالوا من الشّافعيّة إنّ الخلطة تؤثّر فيها حتّى تؤخذ من النّصاب ولو كان مملوكاً لأكثر من واحد ، قالوا : يشترط أن لا يتميّز " النّاطور " وهو حافظ النّخل والشّجر " والجرين " وهو موضع جمع الثّمر وتجفيفه ، قال الرّمليّ : وزاد في شرح المهذّب اتّحاد الماء ، والحراث ، والعامل ، وجذاذ النّخل ، والملقّح، واللّقّاط ، وما يسقى لهما به .
وفي خلطة التّاجرين اشترطوا اتّحاد الدّكّان والحارس ومكان الحفظ ونحوها ، ولو كان مال كلّ منهما متميّزاً ، كأن تكون دراهم أحدهما في كيس ودراهم الآخر في كيس إلاّ أنّ الصّندوق واحد .
وفيما زاده في شرح المهذّب : اتّحاد الحمّال ، والكيّال ، والوزّان ، والميزان .
وفيما علّل به الذّاهبون من الحنابلة إلى تأثير الخلطة في الزّروع والثّمار والعروض إيماءً إلى اشتراط مثل ما قاله الشّافعيّة ، فقد جاء في المغني : خرّج القاضي وجهاً في الزّروع والثّمار أنّ الخلطة تؤثّر لأنّ المئونة تخفّ إذا كان الملقّح واحداً ، والصّعّاد والنّاطور والجرين . وكذلك أموال التّجارة ، فالدّكّان والمخزن والميزان والبائع واحد .
وعبّر في الفروع عن ذلك كلّه باتّحاد المؤن ومرافق الملك .
الشّرط الخامس : الحول في الأموال الحوليّة . وهذا الشّرط للشّافعيّة في الجديد ، والحنابلة . قال ابن قدامة : يعتبر اختلاطهم في جميع الحول ، فإن ثبت لهم حكم الانفراد في بعضه زكّوا زكاة منفردين . وقال الشّافعيّة : لو ملك كلّ منهما أربعين شاةً في غرّة المحرّم ثمّ خلطا في غرّة صفر فلا يثبت حكم الخلطة في هذه السّنة ، ويثبت في السّنة الثّانية .
والمذهب القديم للشّافعيّة عدم اشتراط تمام الحول على الاختلاط . وعليه يكون على كلّ منهما شاة كاملة في نهاية السّنة الأولى على الجديد في المثال السّابق . وفي القديم نصف شاة .(254/3)
ومذهب مالك أنّ المشترط الاختلاط آخر حول الملك وقبله بنحو شهر ، ولو كانا قبل ذلك منفردين ، فيكفي اختلاطهما في أثناء السّنة من حين الملك ما لم يقرب آخر السّنة جدّاً .
فإن لم يكن المال حوليّاً ، كالزّروع والثّمار عند من قال بتأثير الخلطة فيها ، قال الرّمليّ : المعتبر بقاء الخلطة إلى زهوّ الثّمار ، واشتداد الحبّ في النّبات .
كيفيّة إخراج زكاة المال المختلط :
12 - الخلطاء سواء أكانوا في خلطة اشتراك أم في خلطة جوار ، يعامل مالهم الّذي تخالطوا فيه معاملة مال رجل واحد ، وهذا يقتضي أنّ السّاعي له أن يأخذ الفرض من مال أيّ الخليطين شاء ، سواء دعت الحاجة إلى ذلك بأن تكون الفريضة عيناً واحدةً لا يمكن أخذها من المالين جميعاً ، أو كان لا يجد فرضهما جميعاً إلاّ في أحد المالين ، مثل أن يكون مال أحدهما صغاراً ، ومال الآخر كباراً ، أو يكون مال أحدهما مراضاً ، ومال الآخر صحاحاً، فإنّه يأخذ صحيحةً كبيرةً ، أو لم تدع الحاجة إلى ذلك .
قال أحمد : إنّما يجيء المصدّق " أي الجابي " فيجد الماشية فيصدقها ، ليس يجيء فيقول : أيّ شيء لك ؟ وإنّما يصدق ما يجده . وقال الهيثم بن خارجة لأحمد : أنا رأيت مسكيناً كان له في غنم شاتان ، فجاء المصدّق فأخذ إحداهما . ولأنّ المالين قد صارا كالمال الواحد في وجوب الزّكاة ، فكذلك في إخراجها .
التّرادّ فيما يأخذه السّاعي من زكاة المال المختلط :
13 - إن كانت الخلطة خلطة اشتراك ، والمال مشاع بين الخليطين ، فإنّ ما يأخذه السّاعي هو من المشاع بين الخلطاء ، فلا إشكال ، لأنّه يكون بينهم بنسبة ملكهم في أصل المال . وإن كانت خلطة جوار ، فإنّه إمّا أن يأخذ بحقّ أو بباطل .
الحالة الأولى : أن يأخذ بحقّ ، وحينئذ فما أخذه يتراجعان في قيمته بالنّسبة العدديّة لكلّ من ماليهما . فلو خلطا عشرين من الغنم بعشرين ، فأخذ السّاعي شاةً من نصيب أحدهما رجع على صاحبه بنصف قيمة الشّاة الّتي أخذت منه ، لا بنصف شاة ، لأنّ الشّاة غير مثليّة .
ولو كان لأحدهما مائة وللآخر خمسون فأخذ السّاعي الشّاتين الواجبتين من غنم صاحب المائة ، رجع بثلث قيمتهما ، أو من صاحب الخمسين رجع على الآخر بثلثي قيمتهما ، أو أخذ من كلّ منهما شاةً ، رجع صاحب المائة بثلث قيمة شاته ، وصاحب الخمسين بثلثي قيمة شاته ، ثمّ إنّه إذا لم تكن بيّنة وتنازعا في قيمة المأخوذ ، فالقول قول المرجوع عليه بيمينه إذا احتمل قوله الصّدق لأنّه غارم .
والمعتبر في قيمة المرجوع به يوم الأخذ في قول ابن القاسم ، لأنّه بمعنى الاستهلاك ، وقال أشهب : يوم التّراجع ، لأنّه بمعنى السّلف ، والمتسلّف إذا عجز عن ردّ ما تسلّفه وأراد ردّ قيمته تعتبر قيمته يوم القضاء .
الحالة الثّانية : أن يأخذ بغير حقّ ، وهذا على نوعين ، لأنّه إمّا أن يكون متأوّلاً تأويلاً سائغاً أو لا .
فإن كان متأوّلاً تأويلاً سائغاً ، وهو أن يكون رأى جواز ذلك شرعاً ، فحكمه حكم ما لو أخذ بحقّ . ومثال ذلك عند المالكيّة ، أن يأخذ شاةً من خليطين لكلّ منهما عشرون شاةً ، فيتراجعا كما تقدّم . والأصل عند المالكيّة أنّ هذا الأخذ بغير حقّ ، لأنّ الخلطة لا تؤثّر تكميل النّصاب كما تقدّم ، بخلاف مذهب الشّافعيّة والحنابلة .
ومثاله عند المالكيّة أيضاً لو أخذ شاتين من خليطين لأحدهما مائة ،وللآخر خمسة وعشرون، فعلى الأوّل أربعة أخماس الشّاتين ، وعلى الآخر خمسهما ، لأنّ أخذ السّاعي ينزّل منزلة حكم الحاكم ، لأنّه نائب الإمام ففعله كفعله .
وإن كان غير متأوّل ، أو كان متأوّلاً ولا وجه لتأوّله ، فلا تراجع ، وهي مصيبة حلّت بمن أخذت منه ، إذ المظلوم ليس له أن يرجع بمظلمته على غيره .
مثال ذلك ، أن يكون لكلّ من الخليطين ثلاثون شاةً ، فيأخذ السّاعي من مال أحدهما شاتين ، فيرجع على الآخر بنصف إحدى الشّاتين لا غير ، أمّا الأخرى فقد ذهبت من مال من أخذت منه ، لأنّها إمّا أن يكون السّاعي أخذها وهو يعلم أنّ ليس له أخذها ، فتكون غصباً ، وإمّا أن يكون يرى أنّ أخذها حقّ شرعاً ، فيكون أخذها جهلاً محضاً لا عبرة به ولا ينزّل منزلة حكم الحاكم ، إذ حكم الحاكم بخلاف الإجماع ينقض .
وكذا إن أخذ السّاعي سنّاً أكبر من الواجب يرجع المأخوذ منه على خليطه بقيمة حصّته من السّنّ الواجبة ، كما لو أخذ جذعةً عن ثلاثين من الإبل بين اثنين ، يرجع المأخوذ منه بقيمة نصف بنت مخاض لأنّ الزّيادة ظلم .(254/4)
دباغة *
التّعريف :
1 - الدّباغة في اللّغة : مصدر دبغ الجلد يدبغه دبغاً ودباغةً ، أي عالجه وليّنه بالقرط ونحوه ليزول ما به من نتن وفساد ورطوبة .
والدّباغة أيضاً اسم يطلق على حرفة الدّبّاغ وهو صاحبها .
أمّا الدّبغ والدّباغ بالكسر فهما ما يدبغ به الجلد ليصلح . والمدبغة موضع الدّبغ .
وتطلق الدّباغة في اصطلاح الفقهاء على المعنى اللّغويّ نفسه .
قال الخطيب الشّربينيّ : الدّبغ نزع فضول الجلد ، وهي مائيّته ورطوباته الّتي يفسده بقاؤها، ويطيّبه نزعها بحيث لو نقع في الماء لم يعد إليه النّتن والفساد .
ويشترط عند بعض الفقهاء أن يكون الدّبغ بما يحرف الفم ، أي يلذع اللّسان بحرافته كالقرظ والعفص ونحوهما ، كما سيأتي : ( ف / 7 ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصّباغة :
2 - الصّباغة حرفة الصّبّاغ ، والصّبغ والصّبغة والصّباغ بالكسر كلّها بمعنىً ، وهو ما يصبغ به ، والصّبغ بالفتح مصدر ، يقال : صبغ الثّوب صبغاً : أي لوّنه بالصّباغ ، والأصل في معناه التّغيير ، ويعرض للجلد وغيره .
ب - التّشميس :
3 - التّشميس مصدر شمّست الشّيء إذا وضعته في الشّمس ، والمراد به أن يبسط الجلد في الشّمس لتجفّ منه الرّطوبة ، وتزول عنه الرّائحة الكريهة .
واعتبره الحنفيّة ومن معهم دباغاً حكميّاً كما سيأتي .
ج - التّتريب :
4 - التّتريب مصدر ترّب ، يقال : ترّبت الإهاب تتريباً ، إذا نثر عليه التّراب لإزالة ما عليه من رطوبة ورائحة كريهة ، ويقال أيضاً : ترّبت الشّيء إذا وضعت عليه التّراب .
وهو أيضاً نوع من أنواع الدّباغ الحكميّ عند الحنفيّة ومن معهم .
مشروعيّة الدّباغة :
5 - الدّباغة مباحة ، وهي من الحرف الّتي فيها مصلحة للنّاس .
وقد استدلّوا لجواز الدّباغة بأحاديث منها : قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » ولأنّ الدّباغة وسيلة لتطهير الجلود بإزالة ما بها من نتن وفساد فينتفع بها ، كما ينتفع من سائر الأشياء الطّاهرة .
ما يقبل الدّباغة :
6 - الجلود هي الّتي تدبغ غالبًا وتطهر بالدّباغ على تفصيل يأتي بيانه .
وذكر بعض الفقهاء - منهم الحنفيّة - أنّ المثانة والكرش ، مثل الإهاب في قبول الدّباغ والطّهارة به ، وكذلك الأمعاء . قال ابن عابدين نقلاً عن البحر : فلو دبغت المثانة وجعل فيها لبن جاز . وكذلك الكرش إن كان يقدر على إصلاحه .
وقال أبو يوسف : إنّه لا يطهر ، لأنّه كاللّحم ، وإذا أصلح أمعاء شاة ميّتة فصلّى وهي معه جاز ، لأنّه يتّخذ منها الأوتار وهو كالدّباغ .
وقال البهوتيّ من الحنابلة : وجعل المصران وتراً دباغ ، وكذا جعل الكرش ، لأنّه هو المعتاد فيه .
وذكر الحنفيّة أيضاً أنّ جلد الميتة من الحيّة الصّغيرة الّتي لها دم ، وكذلك الفأرة لا يقبلان الدّباغ فلا يطهران بالعلاج .
ما تحصل به الدّباغة :
7 - ما يحصل به الدّباغة يسمى دبغاً ودباغاً ، واتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في الدّباغ أن يكون منشّفاً للرّطوبة منقياً للخبث ، مزيلاً للريح ، ولا يشترط أن تكون الدّباغة بفعل فاعل ، فإن وقع الجلد في مدبغته بنحو ريح ، أو ألقي الدّبغ عليه كذلك فاندبغ به كفى .
كما لايشترط أن يكون الدّابغ مسلماً .
وذهب فقهاء المالكيّة والشّافعية وهو قول عند الحنابلة : إلى أنّه لا يشترط أن يكون الدّباغ طاهراً ، فإنّ حكمة الدّباغ إنّما هي بأن يزيل عفونة الجلد ويهيئه للانتفاع به على الدوام . فما أفاد ذلك جاز به ، طاهراً كان كالقرظ والعفص ، أو نجساً كزرق الطّيور .
وهل يشترط غسل الجلد أثناء أو بعد الدّباغة ؟ فيه تفصيل يأتي بيانه .
والمذهب عند الحنابلة أنّه يشترط أن يكون الدّباغ طاهراً ، لأنّها طهارة من نجاسة فلم تحصل بنجس ، كالاستجمار و الغسل .
وصرّح جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعية والحنابلة " بأنّه لايكفي في الدّباغة التشميس ، ولا التتريب . ثمّ اختلفوا فيما يدبغ به . فنقل عن يحيى بن سعيد من المالكيّة أنّ ما دبغ به جلد الميتة من دقيق أو ملح أو قرظ فهو طهور ، ثمّ قال : وهو صحيح ، فإنّ حكمة الدّباغ إنّما هي بأن يزيل عفونة الجلد ويهيئه للانتفاع به على الدّوام فما أفاد ذلك جاز به .
وقال الشّافعية : الدّبغ نزع فضوله ، وذلك يحصل بما يحرّف الفم أي يلذع اللسان بحرافته ، كالقرظ والعفص وقشور الرّمان ، والشث والشب . ولو بإلقائه على الدِّبغ بنحو ريح ، أو إلقاء الدّبغ عليه كذلك . لا شمس وتراب وتجميد وتمليح مما لا ينزع الفضول وإن جفّت وطابت رائحته ، لأنّ الفضلات لم تزل ، وإنّما جمّدت ، بدليل أنّه لو نقع في الماء عادت إليه العفونة .
وقال الحنابلة : لا يحصل الدّبغ بنجس ، ولا بغير منشّف للرّطوبة منق للخبث بحيث لو نقع الجلد بعده في الماء فسد ، ولا بتشميس ولا بتتريب ولا بريح .
أما الحنفيّة فتحصل الدّباغة عندهم بكل ما يمنع النتن و الفساد ، وقال ابن عابدين : وما يمنع على نوعين حقيقي كالقرظ والشب والعفص ونحوه ، وحكمي كالتتريب و التشميس و الإلقاء في الريح . ولو جف ولم يستحل لم يطهر .
ولا فرق بين الدّباغ الحقيقي و الحكمي عند الحنفيّة إلا في حكم واحد ، وهو أنّه لو أصاب الماء جلد الميتة بعد الدّباغ الحقيقي لا يعود نجساً باتّفاق الروايات عندهم ، وفيما بعد الدباغ الحكمي روايتان .
أثر الدّباغة في تطهير الجلود :
8 - جمهور الفقهاء على أنّ جلد الآدميّ طاهر حيّاً أو ميّتاً ، مسلماً كان أو كافراً ، وأنّه ليس محلّاً للدّباغة أصلاً .(255/1)
واتّفق الفقهاء على أنّ جلد الحيوان المأكول اللّحم كالإبل والغنم والبقر والظّباء ونحوها طاهر قبل الذّبح وبعده ، سواء أدبغ أم لم يدبغ . وكذلك ميتة السّمك والجراد ونحوهما ممّا لا نفس له سائلةً .
ولا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلود ميتة الحيوانات قبل الدّباغ ، وعرّفوا الميتة بأنّها الميّت من الحيوان البرّيّ الّذي له نفس سائلة ، مأكولة اللّحم أو غيره ، مات حتف أنفه أو بذكاة غير شرعيّة ، كمذكّى المجوسيّ أو الكتابيّ لصنمه ، أو المحرم لصيد ، أو المرتدّ أو نحوه . ( ر : ميتة ) .
9- واختلفوا في طهارة جلود الميتة بالدّباغة على التّفصيل التّالي :
ذهب الحنفيّة والشّافعيّة - وهو رواية عن أحمد في جلد ميتة مأكول اللّحم - إلى أنّ الدّباغة وسيلة لتطهير جلود الميتة ، سواء أكانت مأكولة اللّحم أم غير مأكولة اللّحم ، فيطهر بالدّباغ جلد ميتة سائر الحيوانات إلاّ جلد الخنزير عند الجميع لنجاسة عينه ، وإلاّ جلد الآدميّ لكرامته لقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } واستثنى الشّافعيّة أيضاً جلد الكلب ، كما استثنى محمّد من الحنفيّة جلد الفيل .
واستدلّوا لطهارة جلود الميتة بالدّباغة بأحاديث ، منها :
أ - قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » .
ب - وبما روى سلمة بن المحبّق « أنّ نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة ، قالت : ما عندي إلاّ في قربة لي ميّتة . قال : أليس قد دبغتها ؟ قالت : بلى . قال : فإنّ دباغها ذكاتها » .
ج - وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « تصدّق على مولاة لميمونة بشاة فماتت ، فمرّ بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ؟ فقالوا : إنّها ميتة ، فقال : إنّما حرم أكلها » .
واستدلّوا بالمعقول أيضاً ، وهو أنّ الدّبغ يزيل سبب النّجاسة وهو الرّطوبة والدّم ، فصار الدّبغ للجلد كالغسل للثّوب ، ولأنّ الدّباغ يحفظ الصّحّة للجلد ويصلحه للانتفاع به كالحياة ، ثمّ الحياة تدفع النّجاسة عن الجلود فكذلك الدّباغ .
أمّا استثناء جلد الخنزير فلأنّه نجس العين ، أي أنّ ذاته بجميع أجزائها نجسة حيّاً وميّتاً ، فليست نجاسته لما فيه من الدّم أو الرّطوبة كنجاسة غيره من ميتة الحيوانات ، فلذا لم يقبل التّطهير .
واستدلّ الشّافعيّة لاستثناء الكلب بأنّه ورد في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات أولاهنّ بالتّراب » . والطّهارة تكون لحدث أو خبث ، ولا حدث على الإناء فتعيّن أنّ الولوغ سبب للخبث بسبب نجاسة فم الكلب ، فبقيّة أجزاء الكلب أولى بالنّجاسة ، وإذا كانت الحياة لا تدفع النّجاسة عن الكلب فالدّباغ أولى ، لأنّ الحياة أقوى من الدّباغ بدليل أنّها سبب لطهارة الجملة ، والدّباغ وسيلة لطهارة الجلد فقط .
واستدلّ الحنفيّة لطهارة جلد الكلب بالدّباغة بعموم الأحاديث الّتي تقدّمت .
والكلب ليس نجس العين عندهم في الأصحّ ، وكذلك الفيل عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يمتشط بمشط من عاج » ، وفسّره الجوهريّ وغيره بعظم الفيل .
10 - وقال المالكيّة في المشهور المعتمد عندهم والحنابلة في المذهب بعدم طهارة جلد الميتة بالدّباغة ، لما روى عبد اللّه بن عكيم قال : « أتانا كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أو شهرين : ألاّ تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب » .
وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وسلم قال : « كنت رخّصت لكم في جلود الميتة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب » .
وأجاب المالكيّة عن الأحاديث الواردة في طهارة الجلد بالدّباغ بأنّها محمولة على الطّهارة اللّغويّة أي النّظافة ، ولذا جاز الانتفاع به في حالات خاصّة كما سيأتي . وروي عن سحنون وابن عبد الحكم من المالكيّة قولهما : بطهارة جلد جميع الحيوانات بالدّباغة حتّى الخنزير .
11 - وروي عن أحمد أنّه يطهر بالدّباغة جلد ميتة ما كان طاهرًا في الحياة ، من إبل وبقر وظباء ونحوها ، ولو كان غير مأكول اللّحم ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » فيتناول المأكول وغيره ، وخرج منه ما كان نجساً في حال الحياة لكون الدّبغ إنّما يؤثّر في دفع نجاسة حادثة بالموت فيبقى ما عداه على قضيّة العموم .
كما روي عن أحمد قوله : بطهارة جلود ميتة مأكول اللّحم فقط ، لقوله صلى الله عليه وسلم: « ذكاة الأديم دباغه » والذّكاة إنّما تعمل فيما يؤكل لحمه ، فكذلك الدّباغ .
غسل الجلد المدبوغ :
12 - لم يذكر الحنفيّة ضرورة غسل الجلد المدبوغ أثناء الدّباغة ولا بعدها ، فالظّاهر من كلامهم طهارة الجلد بمجرّد الدّبغ قبل الغسل ، كما هو وجه عند الحنابلة أيضاً ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » ولأنّه طهر بانقلابه ، فلم يفتقر إلى استعمال الماء كالخمرة إذا انقلبت خلّاً .
والوجه الثّاني عند الحنابلة أنّ الطّهارة لا تحصل بمجرّد الدّبغ بل تحتاج إلى الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم في جلد الشّاة الميّتة : « يطهّرها الماء والقرظ » .
والأصحّ عند الشّافعيّة عدم اشتراط غسل الجلد أثناء الدّباغة تغليباً لمعنى الإحالة ، ولحديث مسلم . « إذا دبغ الإهاب فقد طهر » ولم يذكر فيه الغسل .(255/2)
ومقابل الأصحّ يشترط غسله أثناء الدّباغة تغليباً لمعنى الإزالة ، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : « يطهّرها الماء والقرظ » وحمل الأوّل على النّدب ، أمّا بعد الدّباغة فالأصحّ عندهم وجوب غسله بالماء ، لأنّ المدبوغ يصير كثوب نجس أي متنجّس لملاقاته للأدوية النّجسة . أو الّتي تنجّست به قبل طهره فيجب غسله لذلك .
طرق الانتفاع بالجلد المدبوغ :
أ - أكل جلد الميتة المدبوغ :
13 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز أكل جلد الميتة من الحيوان غير المأكول اللّحم سواء أكان قبل الدّبغ أم بعده . وكذلك في جلد ميتة مأكول اللّحم قبل دبغه ، فإنّه يحرم أكله اتّفاقاً ، أمّا بعد دبغه فجمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ المفتى به عند الشّافعيّة " على عدم جواز أكله أيضاً لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيكُم المَيْتَةُ } والجلد جزء منها . ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الميتة : « إنّما حرم أكلها » .
وحكي عن أبي حامد ، وهو وجه لأصحاب الشّافعيّ جواز أكله بعد الدّبغ ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « ذكاة الأديم دباغه » .ولأنّه جلد طاهر من حيوان مأكول اللّحم فأشبه المذكّى.
ب - استعمال الجلد المدبوغ والتّعامل به :
14 - إذا قلنا بطهارة الجلد المدبوغ - غير جلد السّباع - فيصحّ بيعه ، وإجارته ، واستعماله ، والانتفاع به في كلّ ما يمكن الانتفاع به سوى الأكل .
وقيّد المالكيّة وهو رواية عن الحنابلة جواز استعماله في اليابسات فقط ، حيث قال المالكيّة : يجوز استعماله في اليابسات بأن يوعى فيه العدس والفول ونحوهما ، ويغربل عليها ، ولا يطحن لأنّه يؤدّي إلى تحليل بعض أجزائه فتختلط بالدّقيق . لا في نحو عسل ولبن وسمن وماء زهر . ويجوز لبسها في غير الصّلاة لا فيها .
كما يجوز استعماله عند المالكيّة في الماء أيضاً ، لأنّ له قوّة الدّفع عن نفسه لطهوريّته فلا يضرّه إلاّ إذا تغيّر أحد أوصافه .
أمّا جلود السّباع ففيها خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( جلد ف / 14 ) .(255/3)
دبر *
التّعريف :
1 - الدُّبُر بضمّتين خلاف القبل . ودبر كلّ شيء عقبه . ومنه يقال لآخر الأمر دبر .
وأصله ما أدبر عنه الإنسان . والدّبر الفرج وجمعه أدبار . وولّاه دبره كناية عن الهزيمة . ومنه قوله تعالى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } .
والمراد به هنا خلاف القبل من الإنسان والحيوان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القبل :
2 - القبل بضمّتين وبسكون الباء ، ومن معانيه فرج الإنسان من الذّكر والأنثى . وقيل هو للأنثى خاصّةً . والقبل من كلّ شيء خلاف دبره . وعلى ذلك فالقبل مقابل الدّبر .
ب - الفرج :
3 - الفَرْج بفتح الفاء وسكون الرّاء الخلل بين الشّيئين ، وجمعه فروج ، والفرجة كالفرج ، والفرج العورة . والغالب استعمال الفرج في القبل من الذّكر والأنثى .
وقد يشمل القبل والدّبر معاً في اصطلاح الفقهاء .
الأحكام المتعلّقة بالدّبر :
النّظر إلى الدّبر ومسّه :
4 - الدّبر من العورة المغلّظة عند جميع الفقهاء ، فلا يجوز كشفه والنّظر إليه لغير الزّوج والزّوجة ، بدون ضرورة .
أمّا الزّوجان فجمهور الفقهاء على جواز نظر الزّوج لجميع أجزاء بدن الزّوجة ، كما يجوز لها أن تنظر منه ما أبيح له النّظر إليه منها .
وصرّح بعض الفقهاء منهم الشّافعيّة بكراهة النّظر إلى الفرج مطلقاً ولو من نفسه بلا حاجة، لما روت عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « ما رأيت منه ولا رأى منّي » .
وتفصيل هذه المسائل في مصطلحي : ( عورة ، ونظر ) .
نقض الوضوء بمسّ الدّبر :
5 - ذهب الحنفيّة - وهو القول القديم للشّافعيّ ورواية عند الحنابلة - إلى عدم نقض الوضوء بمسّ الدّبر مطلقاً سواء كان من نفسه أم من غيره ، وسواء أكان بحائل أم بغير حائل .
وقال الشّافعيّة في الجديد : ينتقض الوضوء بمسّ حلقة الدّبر بباطن الكفّ من غير حائل سواء أكان من نفسه أم من غيره ، ولا يشترط في نقض الوضوء أن يكون المسّ بتلذّذ عندهم . وكذا قال الحنابلة - في المعتمد - غير أنّهم لم يقيّدوه بباطن ، بل ينتقض بمسّه بظهر اليد أو باطنها أو حرفها .
واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « من مسّ فرجه فليتوضّأ » ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر أو حجاب فليتوضّأ » .
أمّا المالكيّة فلا ينتقض الوضوء عندهم بمسّ الدّبر إذا كان من نفسه . أمّا مسّ دبر الغير فحكمه عندهم حكم اللّمس ، إذا التذّ به صاحبه أو قصد اللّذّة ينتقض ، وإلاّ لا ينتقض . وتفصيله في مصطلح : ( حدث ) .
الاستنجاء :
6 - ذكر الفقهاء في آداب قضاء الحاجة والاستنجاء أنّه يندب إزالة ما في المحلّ من أذىً بماء أو حجر باليد اليسرى ، ويندب إعداد مزيل الأذى من جامد طاهر أو مائع ، كما يندب استعمال الجامد وتراً ، وتقديم القبل على الدّبر احترازاً من تنجّس يده بما على المخرج على خلاف للفقهاء في بعض الأمور . وتفصيله في مصطلحي : ( استنجاء واستجمار ) .
أثر ما يخرج من الدّبر :
7 - الخارج المعتاد من الدّبر كالنّجاسة والرّيح ناقض للوضوء باتّفاق الفقهاء .
أمّا الخارج غير المعتاد كالحصى والدّود والشّعر ففيه خلاف بين المذاهب نجمله فيما يأتي : ذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " إلى أنّه ناقض للوضوء ، سواء أكان جافّاً أم مبلولاً بنجاسة .
وقال المالكيّة في المشهور عندهم : إنّ الخارج غير المعتاد كحصىً تولّد بالبطن ، ودود ، لا ينقض الوضوء ولو مبلولاً بغائط غير متفاحش بحيث ينسب الخروج للحصى والدّود لا للغائط .
والقول الثّاني عندهم : أنّه ناقض للوضوء إذا كان غير نقيّ . وتفصيله في : ( حدث ) .
أثر ما يدخل في دبر الصّائم :
8 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ وصول عين من الأعيان من الخارج إلى الجوف وإن قلّت أو لم تكن ممّا يؤكل كسمسمة أو حصاة ، ولو بالحقنة مفطر للصّوم ، لأنّ الصّوم إمساك عن كلّ ما يصل إلى الجوف . وعلى ذلك فما دخل في دبر الصّائم من خشبة أو حصاة ولو كانت صغيرةً وغير مبلولة يفطر . وكذلك لو أدخل أصبعه في دبر جافّةً كانت أم مبلولةً . وقال الحنفيّة : الصّوم يفسد بالدّخول ، والوضوء ينتقض بالخروج ، فإذا أدخل عوداً جافّاً ولم يغيّبه لا يفسد الصّوم ، لأنّه ليس بداخل من كلّ وجه . ومثله الأصبع الجافّة .
وإن غيّب العود أو نحوه فسد وإن كان جافّاً لتحقّق الدّخول الكامل .
وكذلك يفسد الصّوم إذا أدخل شيئاً من العود أو الأصبع في دبره مبتلّاً ، كما في حالة الاستنجاء ، لاستقرار البلّة في الجوف . وإذا أدخلهما يابسةً لا يفسد الصّوم على المختار عندهم ، لأنّها ليست آلة الجماع ولا تعتبر داخلةً من كلّ وجه ولم تنقل البلّة إلى الدّاخل . وقال المالكيّة : ما وصل للمعدة من منفذ عال مفسد للصّوم مطلقاً سواء أكان متحلّلاً أم غير متحلّل ، وسواء أكان عمداً أم سهواً . وهذا هو المختار عند اللّخميّ . وذهب ابن الماجشون إلى أنّ للحصاة حكم الطّعام يوجب في السّهو القضاء ، وفي العمد القضاء والكفّارة .
وإن كان من منفذ سافل - كالدّبر مثلاً - فلا يفسد إذا كان جامداً ، ويفسد إذا كان متحلّلاً ، والمراد بالمتحلّل المائع ، أي ما ينماع ولو في المعدة ، بخلاف غير المتحلّل الّذي لا ينماع في المعدة ، كدرهم وحصاة .
وصرّح المالكيّة بأنّ الحقنة من مائع في الدّبر توجب القضاء على المشهور عندهم بخلاف الحقنة بالجامد فلا قضاء ، كما لا قضاء في فتائل عليها دهن لخفّتها .
وفي المسألة تفصيل ينظر في : ( صوم ) .
الاستمتاع بدبر الزّوجة :(/1)
9 - ذهب جمهور الفقهاء بجواز استمتاع الزّوج بظاهر دبر زوجته ولو بغير حائل ، بشرط عدم الإيلاج ، لأنّه كسائر جسدها ، وجميعه مباح ، إلاّ ما حرّم اللّه من الإيلاج .
وهذا في غير الحائض . أمّا في الحائض فقيّدوا جواز الاستمتاع بما بين ركبتيها وسرّتها دون الإيلاج بأن يكون بحائل . على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( حيض ) .
الوطء في الدّبر :
أ - وطء الذّكور :
10 - اتّفق الفقهاء على تحريم الإتيان في دبر الرّجال ، وهو ما يسمّى باللّواط ، وقد ذمّ اللّه تعالى في كتابه المجيد ، وعاب من فعله ، فقال : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لعن اللّه من عمل عمل قوم لوط ثلاثاً » . وفي عقوبة فاعله ، والأحكام المترتّبة عليه تفصيل ينظر في : ( لواط ) .
ب - وطء الأجنبيّة في دبرها :
11 - اتّفق الفقهاء على حرمة إتيان الأجنبيّة في دبرها ، وألحقه أكثر الفقهاء بالزّنى في الحكم . وفي ذلك تفصيل ينظر في : ( زنىً ، لواط ) .
ج - وطء الزّوجة في دبرها :
12 - لا يحلّ وطء الزّوجة في الدّبر . وينظر تفصيل ذلك في ( وطء ) .
د - وطء البهيمة والحيوان :
13 - لا خلاف بين الفقهاء في حرمة وطء الحيوان في دبره أو قبله .
وينظر تفصيل ذلك في : ( وطء ) .(/2)
دخان *
التّعريف :
1 - دخان النّار معروف ، وجمعه أدخنة ، ودواخن ، ودواخين ، يقال : دخنت النّار : ارتفع دخانها ، ودخنت : إذا فسدت بإلقاء الحطب عليها حتّى هاج دخانها ، وقد يضع العرب الدّخان موضع الشّرّ إذا علا ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان . وقد قيل : إنّ الدّخان قد مضى . ومن إطلاقاته أيضاً : التّبغ والبخار ، وقد مرّ تفصيل أحكامهما في مصطلحي : ( بخار، وتبغ) .
الأحكام المتعلّقة بالدّخان :
دخان النّجاسة :
2 - اختلف الفقهاء في طهارة الدّخان المتصاعد من النّجاسة : فذهب الحنفيّة على المفتى به ، والمالكيّة في المعتمد ، وبعض الحنابلة ، إلى أنّ دخان النّجاسة طاهر .
قال الحنفيّة : إنّ ذلك على سبيل الاستحسان دفعاً للحرج ، وللضّرورة وتعذّر التّحرّز .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في المذهب ، وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ دخان النّجاسة كأصلها ، وظاهر كلام الرّمليّ من الشّافعيّة أنّ قليله معفوّ عنه مطلقاً ، وعلى هذا فمن استصبح بدهن نجس ، يعفى عمّا يصيبه من دخان المصباح لقلّته . وأمّا عند ابن حجر الهيتميّ فيعفى عن قليله إن لم يكن من مغلّظ ، وإلاّ فلا يعفى عنه قليلاً كان أو كثيراً .
فساد الصّوم بالدّخان :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الصّائم لو أدخل في حلقه الدّخان أفطر ، سواء كان دخان تبغ ، أو عود ، أو عنبر ، أو غير ذلك إذا كان ذاكراً للصّوم . إذ يمكن التّحرّز عنه . وأمّا إذا وصل إلى حلقه دون قصد ، فلا يفسد به الصّوم ، لعدم إمكان التّحرّز عنه ، لأنّه إذا أطبق الفم ، دخل من الأنف . وفي استنشاق الدّخان عمداً خلاف وتفصيل ، ينظر مصطلح : ( صوم ) .
القتل بالدّخان :
4 - من حبس شخصاً في بيت وسدّ منافذه فاجتمع فيه الدّخان وضاق نفسه فمات ، ففيه القصاص عند الشّافعيّة والحنابلة ، وهو مقتضى قواعد المالكيّة إن قصد بذلك موته ، أمّا إن قصد مجرّد التّعذيب فالدّية .
وأمّا الحنفيّة فقواعدهم تأبى وجوب القصاص ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قصاص ، ودية) .
إيذاء الجار بالدّخان :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّ من أراد أن يبني في داره تنّوراً للخبز الدّائم كما يكون في الدّكاكين ، يمنع ، لأنّه يضرّ بجيرانه ضرراً فاحشاً لا يمكن التّحرّز عنه ، إذ يأتي منه الدّخان الكثير .
وذهب الشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وبه قال بعض أصحاب أبي حنيفة : إلى أنّه لا يمنع، لأنّه تصرّف في خالص ملكه ، ولم يتعلّق به حقّ غيره ، فلم يمنع منه كما لو طبخ في داره أو خبز فيها .
أمّا دخان التّنّور المعتاد في البيوت ، ودخان الخبز والطّبيخ فلا خلاف في أنّه لا يمنع ، لأنّ ضرره يسير ، ولا يمكن التّحرّز عنه ، فتدخله المسامحة .
وإذا طبخ الجار ما يصل دخانه أو رائحته إلى جاره استحبّ له أن يهديه من ذلك الطّعام لحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص في ذكر حقوق الجار ، ذكر منها : « ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلاّ أن تغرف له منها » .(/1)
دخول *
التّعريف :
1 - الدّخول في اللّغة نقيض الخروج .
وفي الاصطلاح : هو الانفصال من الخارج إلى الدّاخل . ويطلق أيضاً على الوطء على سبيل الكناية . قال المطرّزيّ : سواء أكان الوطء مباحاً أو محظوراً .
وقال الفيّوميّ :" دخل بامرأته دخولاً ، كناية عن الجماع أوّل مرّة وغلب استعماله في الوطء المباح " ومنه قوله تعالى : { مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخروج :
2 - الخروج في اللّغة نقيض الدّخول . والخروج أيضاً : أوّل ما ينشأ من السّحاب ، قال الأخفش : يقال للماء الّذي يخرج من السّحاب : خروج .
فالدّخول ، والخروج بالمعنى الأوّل ضدّان ، وبالمعنى الثّاني متباينان .
الحكم التّكليفيّ :
3 - للدّخول بإطلاقيه أحكام تعتريه ، وهي تختلف باختلاف مواطنها ، واختلاف ما يتعلّق به الدّخول . ونجمل أهمّها فيما يلي :
أوّلاً : أحكام الدّخول بالإطلاق الأوّل :
دخول المسجد :
4 - يستحبّ لمن أراد دخول المسجد أن يقدّم رجله اليمنى ، ويؤخّر اليسرى عند الدّخول ، ويستحبّ أن يقول : « اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك » وقد ورد أنّه يقال : « أعوذ باللّه العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشّيطان الرّجيم » و « باسم اللّه ، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد وسلّم ، اللّهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك » . ويستحبّ لمن دخل المسجد صلاة ركعتين تحيّة المسجد .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( مسجد ) .
دخول مكّة :
5 - يختلف حكم دخول مكّة باختلاف الدّاخل : فالآفاقيّ لا يجوز له دخولها إلاّ محرماً ، سواء أدخلها حاجّاً أم معتمراً ، واختلف فيما إذا دخلها لغير النّسك .
ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكّة بغير إحرام لحاجته ، لأنّه يتكرّر دخوله لحاجته ، وأمّا للحجّ فلا يجوز له دخولها من غير إحرام ، لأنّه لا يتكرّر ، وكذا لأداء العمرة ، لأنّه التزمها بنفسه . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحرام ) .
ولا بأس بدخول مكّة ليلاً أو نهاراً ، عند الحنفيّة والحنابلة .
وقال المالكيّة والشّافعيّة : يستحبّ أن يكون نهارًا .
ويستحبّ الدّخول من باب بني شيبة عند دخول مكّة اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم كما يستحبّ أن يقول عند الدّخول الأدعية المأثورة ، وتفصيلها في مصطلح : ( حجّ ، وإحرام ) .
دخول الحائض والجنب المسجد :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجوز للحائض والنّفساء دخول المسجد ، والمكث فيه ولو بوضوء . وكذلك الحكم في الجنب سواء أكان رجلاً أم امرأةً ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه شارعةً في المسجد ، فقال : وجّهوا هذه البيوت ، فإنّي لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب » .
واستثنى الفقهاء الدّخول في هذه الحالة إذا كان للضّرورة كالخوف على نفس أو مال ، أو كأن يكون بابه إلى المسجد ولا يمكنه تحويله ولا السّكنى في غيره .
واختلفوا في دخوله مارّاً ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز دخوله للحائض والجنب ولو مارّاً من باب لباب . إلاّ أن لا يجد بدّاً فيتيمّم ويدخل . وبه قال الثّوريّ وإسحاق .
وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يمنع الجنب من العبور ، وإليه ذهب ابن مسعود وابن عبّاس وابن المسيّب . وقال الشّافعيّة : إنّ الحائض إذا أرادت العبور في المسجد فإن خافت تلويثه حرم العبور عليها ، وإن أمنت التّلويث جاز العبور على الصّحيح .
وعند الحنابلة تمنع الحائض من المرور في المسجد إن خافت تلويثه .
دخول الصّبيان والمجانين المسجد :
7 - قال النّوويّ : يجوز إدخال الصّبيّ المسجد وإن كان الأولى تنزيه المسجد عمّن لا يؤمن منه تنجيسه .
وصرّح المالكيّة بعدم جواز إدخاله المسجد إن كان لا يكفّ عن العبث إذا نهي عنه ، وإلاّ فيكره . وكذلك المجانين ، لما ورد مرفوعاً : « جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ، وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم ، وسلّ سيوفكم ، واتّخذوا على أبوابها المطاهر وجمّروها في الجمع » .
دخول الكافر المسجد :
8 - اختلف الفقهاء في جواز دخول الكافر المسجد ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّه يحرم دخوله المسجد الحرام ، ولا يكره دخوله غيره .
إلاّ أنّ جواز الدّخول مقيّد بالإذن على الصّحيح عند الشّافعيّة والحنابلة ، سواء أكان جنباً أم لا ، لأنّه لا يعتقد حرمته .
فلو جلس الحاكم فيه للحكم ، فللذّمّيّ دخوله للمحاكمة ، وينزّل جلوسه منزلة إذنه .
ويرى الحنفيّة جوازه مطلقاً إلى المسجد الحرام وغيره ، لما روي « أنّه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد ، وكانوا كفّاراً ، وقال : ليس على الأرض من نجسهم شيء » وكرهه المالكيّة وهو رواية عند الحنابلة مطلقاً إلاّ لضرورة ، كعمارة لم تمكن من مسلم ، أو كانت من الكافر أتقن .
دخول الحمّام :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ دخول الحمّام مشروع للرّجال والنّساء ، لما روي : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل الحمّام وتنوّر » " استخدم النّورة " ، ودخل خالد بن الوليد حمّام حمص ، وكان الحسن وابن سيرين يدخلان الحمّام ، ولكنّ إباحة الدّخول مقيّدة بما إذا لم يكن منه كشف العورة ، وبغير ذلك من الشّروط الّتي تختلف باختلاف كون الدّاخل رجلاً أو امرأةً . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حمّام ) .
دخول الخلاء :(/1)
10 - يسنّ لداخل الخلاء تقديم رجله اليسرى ، ويقول عند الدّخول : باسم اللّه ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث . لأنّ التّسمية يبدأ بها للتّبرّك ، ثمّ يستعيذ .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .
دخول مكان فيه منكر :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز الدّخول بقصد المكث والجلوس إلى محلّ فيه منكر . ويجب الدّخول إذا كان المنكر يزول بدخوله لنحو علم أو جاه ، لإزالة المنكر .
دخول المسلم الكنيسة والبيعة :
12 - يرى الحنفيّة أنّه يكره للمسلم دخول البيعة والكنيسة ، لأنّه مجمع الشّياطين ، لا من حيث إنّه ليس له حقّ الدّخول .
وذهب بعض الشّافعيّة في رأي إلى أنّه لا يجوز للمسلم دخولها إلاّ بإذنهم ، وذهب البعض الآخر في رأي آخر إلى أنّه لا يحرم دخولها بغير إذنهم .
وذهب الحنابلة إلى أنّ للمسلم دخول بيعة وكنيسة ونحوهما والصّلاة في ذلك ، وعن أحمد يكره إن كان ثمّ صورة ، وقيل مطلقاً ، ذكر ذلك في الرّعاية ، وقال في المستوعب : وتصحّ صلاة الفرض في الكنائس والبيع مع الكراهة ، وقال ابن تميم : لا بأس بدخول البيع والكنائس الّتي لا صور فيها ، والصّلاة فيها .
وقال ابن عقيل : يكره كالّتي فيها صور ، وحكى في الكراهة روايتين .
وقال في الشّرح . لا بأس بالصّلاة في الكنيسة النّظيفة روي ذلك عن ابن عمر وأبي موسى وحكاه عن جماعة ، وكره ابن عبّاس ومالك الصّلاة في الكنائس لأجل الصّور ، وقال ابن عقيل : تكره الصّلاة فيها لأنّه كالتّعظيم والتّبجيل لها ، وقيل : لأنّه يضرّ بهم .
ويكره دخول كنائسهم يوم نيروزهم ومهرجانهم . قال عمر رضي الله عنه : لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإنّ السّخطة تنزل عليهم
دخول البيوت :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز للمرء دخول بيت مسكون غير بيته إلاّ بعد الاستئذان والإذن له بالدّخول ، وفي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح : ( استئذان ) .
ثانيًا : أحكام الدّخول بالإطلاق الثّاني " الوطء " :
أثر الدّخول في المهر :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من سمّى مهراً لزمه بالدّخول ، لأنّه تحقّق به تسليم المبدل ، وإن طلّقها قبل الدّخول لزمه نصفه ، لقوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } .وتفصيل ذلك في مصطلح : ( مهر ).
أثر الدّخول في العدّة :
15 - أجمع الفقهاء على أنّ الطّلاق إذا كان بعد الدّخول ، فالعدّة لغير الحامل ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر على حسب الأحوال ، لقوله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } وقوله تعالى : { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } .
وعدّة الحامل وضع حملها لقوله تعالى : { وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
وعدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيّام لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } .
وإذا كان الطّلاق قبل الدّخول فلا عدّة لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( عدّة ) .(/2)
دعاء *
التّعريف :
1 - الدّعاء لغةً مصدر دعوت اللّه أدعوه دعاءً ودعوى ، أي ابتهلت إليه بالسّؤال ورغبت فيما عنده من الخير . وهو بمعنى النّداء يقال : دعا الرّجل دعواً ودعاءً أي : ناداه ، ودعوت فلانًا صحت به واستدعيته ، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله .
ودعا المؤذّن النّاس إلى الصّلاة فهو داعي اللّه ، والجمع : دعاة وداعون . ودعاه يدعوه دعاءً ودعوى : أي : رغب إليه ، ودعا زيداً : استعانه ، ودعا إلى الأمر : ساقه إليه .
والدّعاء في الاصطلاح : الكلام الإنشائيّ الدّالّ على الطّلب مع الخضوع ،ويسمّى أيضاً سؤالاً. وقد قال الخطّابيّ : حقيقة الدّعاء استدعاء العبد من ربّه العناية واستمداده إيّاه المعونة ، وحقيقته إظهار الافتقار إليه ، والبراءة من الحول والقوّة الّتي له ، وهو سمة العبوديّة وإظهار الذّلّة البشريّة ، وفيه معنى الثّناء على اللّه ، وإضافة الجود والكرم إليه .
2 - وقد ورد في القرآن الكريم بمعان منها :
أ - الاستغاثة : كما في قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } .
ب - العبادة : كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } .
وقوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } .
وقوله تعالى { لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطاً } .
ج - النّداء : ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } .
وقوله : { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .
د - الطّلب والسّؤال من اللّه : وهو المراد هنا كما في قوله تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } .وقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }.
ويوافق هذا المعنى ما يقال : دعوت اللّه أدعوه دعاءً ، أي ابتهلت إليه بالسّؤال ، ورغبت فيما عنده من الخير ، والدّاعي اسم الفاعل من الدّعاء ، والجمع دعاة ، وداعون ، مثل قاض وقضاة وقاضون .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستغفار :
3 - الاستغفار في اللّغة طلب المغفرة بالقول والفعل ، وفي اصطلاح الفقهاء أيضاً يستعمل في ذلك المعنى . والمغفرة في الأصل السّتر ، والمراد بالاستغفار طلب التّجاوز عن الذّنب ، فالمستغفر يطلب من اللّه تعالى المغفرة ، أي عدم المؤاخذة بالذّنب والتّجاوز عنه . قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } . والنّسبة بين الاستغفار والدّعاء العموم والخصوص المطلق ، فكلّ استغفار دعاء ، وليس كلّ دعاء استغفاراً .
ب - الذّكر :
4 - الذّكر هو التّلفّظ بالشّيء وإحضاره في الذّهن بحيث لا يغيب عنه .
وذكر اللّه بالمعنى الأعمّ شامل للدّعاء وغيره . وبالمعنى الأخصّ الّذي هو تمجيد اللّه وتقديسه وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العليا مباين للدّعاء ، وانظر مصطلح : ( ذكر ) .
حكم الدّعاء :
5 - قال النّوويّ : إنّ المذهب المختار الّذي عليه الفقهاء والمحدّثون وجماهير العلماء من الطّوائف كلّها من السّلف والخلف أنّ الدّعاء مستحبّ .
وقد يكون الدّعاء واجباً كالدّعاء الّذي تضمّنته سورة الفاتحة أثناء الصّلاة . وكالدّعاء الوارد في صلاة الجنازة ، وكالدّعاء في خطبة الجمعة عند بعض الفقهاء . ر : ( صلاة ، صلاة الجنازة ، خطبة ) .
ثمّ هل الأفضل الدّعاء أم السّكوت والرّضا بما سبق به القدر ؟
نقل النّوويّ عن القشيريّ قوله : اختلف النّاس في أنّ الأفضل الدّعاء أم السّكوت والرّضا ؟ فمنهم من قال : الدّعاء عبادة لقوله صلى الله عليه وسلم : « الدّعاء هو العبادة » .
ولأنّ الدّعاء إظهار الافتقار إلى اللّه تعالى .
وقالت طائفة : السّكوت تحت جريان الحكم أتمّ ، والرّضا بما سبق به القدر أولى .
وقال قوم : يكون صاحب دعاء بلسانه ورضاً بقلبه ليأتي بالأمرين جميعاً .
فضل الدّعاء :
6 - ورد في فضل الدّعاء نصوص كثيرة من الكتاب والسّنّة نورد بعضها فيما يلي :
قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } .
ومعنى القرب هنا كما نقل عن الزّركشيّ ، أنّه إذا أخلص في الدّعاء ، واستغرق في معرفة اللّه ، امتنع أن يبقى بينه وبين الحقّ واسطة ، وذلك هو القرب .
وقال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
وقال تعالى : { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } .
وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } . وروى النّعمان بن بشير عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ الدّعاء هو العبادة ، ثمّ قرأ : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } » الآية .(/1)
وقال صلى الله عليه وسلم : « الدّعاء مخّ العبادة » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه حييّ كريم يستحيي إذا رفع الرّجل إليه يديه أن يردّهما صفراً خائبتين » . وروى أبو هريرة أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « ليس شيء أكرم على اللّه عزّ وجلّ من الدّعاء » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « ما على الأرض مسلم يدعو اللّه بدعوة إلاّ آتاه اللّه إيّاها أو صرف عنه من السّوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » . وقال صلى الله عليه وسلم : « سلوا اللّه تعالى من فضله ، فإنّه تعالى يحبّ أن يسأل ، وأفضل العبادة انتظار الفرج » .
أثر الدّعاء :
7 - الدّعاء عبادة ، وله أثر بالغ وفائدة عظيمة ، ولولا ذلك لم يأمرنا الحقّ عزّ وجلّ بالدّعاء ولم يرغب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه ، فكم رفعت محنة بالدّعاء ، وكم من مصيبة أو كارثة كشفها اللّه بالدّعاء ، وقد أورد القرآن الكريم جملةً من الأدعية استجابها اللّه تعالى بمنّه وفضله وكرمه ، وكان من جملة أسباب النّصر في بدر دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء سبب أكيد لغفران المعاصي ، ولرفع الدّرجات ،ولجلب الخير ودفع الشّرّ. ومن ترك الدّعاء فقد سدّ على نفسه أبواباً كثيرةً من الخير .
وقال الغزاليّ : فإن قلت : فما فائدة الدّعاء والقضاء لا مردّ له ؟
فاعلم أنّ من القضاء ردّ البلاء بالدّعاء ، فالدّعاء سبب لردّ البلاء واستجلاب الرّحمة ، كما أنّ التّرس سبب لردّ السّهام ، والماء سبب لخروج النّبات من الأرض ، فكما أنّ التّرس يدفع السّهم فيتدافعان ، فكذلك الدّعاء والبلاء يتعالجان .
وليس من شرط الاعتراف بقضاء اللّه تعالى أن لا يحمل السّلاح ، وقد قال تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } ، كما أنّه ليس من شرطه أن لا يسقي الأرض بعد بثّ البذر ، فيقال : إن سبق القضاء بالنّبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت ، بل ربط الأسباب بالمسبّبات هو القضاء الأوّل الّذي هو كلمح البصر أو هو أقرب ، وترتيب تفصيل المسبّبات على تفاصيل الأسباب على التّدريج والتّقدير هو القدر ، والّذي قدّر الخير قدّره بسبب ، والّذي قدّر الشّرّ قدّر لرفعه سبباً ، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته .
ثمّ في الدّعاء من الفائدة أنّه يستدعي حضور القلب مع اللّه وهو منتهى العبادات ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « الدّعاء مخّ العبادة » .
والغالب على الخلق أن لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر اللّه عزّ وجلّ إلاّ عند إلمام حاجة وإرهاق ملمّة ، فإنّ الإنسان إذا مسّه الشّرّ فذو دعاء عريض .
فالحاجة تحوج إلى الدّعاء ، والدّعاء يردّ القلب إلى اللّه عزّ وجلّ بالتّضرّع والاستكانة ، فيحصل به الذّكر الّذي هو أشرف العبادات . ولذلك صار البلاء موكّلاً بالأنبياء عليهم السلام، ثمّ الأولياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، لأنّه يردّ القلب بالافتقار والتّضرّع إلى اللّه عزّ وجلّ ، ويمنع من نسيانه ، وأمّا الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور ، فإنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. وقال الخطّابيّ : فإن قيل فما تأويل قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وهو وعد من اللّه يلزم الوفاء به ، ولا يجوز وقوع الخلف فيه ؟ قيل هذا مضمر فيه المشيئة ، كقوله تعالى :
{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء } .
وقد يرد الكلام بلفظ عامّ مراده خاصّ ، وإنّما يستجاب من الدّعاء ما وافق القضاء ، ومعلوم أنّه لا تظهر لكلّ داع استجابة دعائه ،فعلمت أنّه إنّما جاء في نوع خاصّ منه بصفة معلومة. وقد قيل : معنى الاستجابة : أنّ الدّاعي يعوّض من دعائه عوضاً ما ، فربّما كان ذلك إسعافاً بطلبته الّتي دعا لها ، وذلك إذا وافق القضاء ، فإن لم يساعده القضاء ، فإنّه يعطى سكينةً في نفسه ، وانشراحاً في صدره ، وصبراً يسهل معه احتمال ثقل الواردات عليه ، وعلى كلّ حال فلا يعدم فائدة دعائه ، وهو نوع من الاستجابة .
آداب الدّعاء :
8 - أ - أن يكون مطعم الدّاعي ومسكنه وملبسه وكلّ ما معه حلالاً .
بدليل ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« أيّها النّاس : إنّ اللّه تعالى طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً ، وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً } ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء ، يا ربّ ، يا ربّ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، فأنّى يستجاب لذلك » .
ب - أن يترصّد لدعائه الأوقات الشّريفة كيوم عرفة من السّنة ، ورمضان من الأشهر ، ويوم الجمعة من الأسبوع ، ووقت السّحر من ساعات اللّيل .
قال تعالى : { وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وقال صلى الله عليه وسلم : « ينزل اللّه تعالى كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له » .
ج - أن يغتنم الأحوال الشّريفة . قال أبو هريرة رضي الله عنه : إنّ أبواب السّماء تفتح عند زحف الصّفوف في سبيل اللّه تعالى ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصّلوات المكتوبة ، فاغتنموا الدّعاء فيها . وقال مجاهد : إنّ الصّلاة جعلت في خير السّاعات فعليكم بالدّعاء خلف الصّلوات . وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يردّ الدّعاء بين الأذان والإقامة » .(/2)
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : « الصّائم لا تردّ دعوته » .
وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضاً ، إذ وقت السّحر وقت صفاء القلب وإخلاصه وفراغه من المشوّشات ، ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم وتعاون القلوب على استدرار رحمة اللّه عزّ وجلّ ، فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يطّلع البشر عليها .
وحالة السّجود أيضاً أجدر بالإجابة ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أقرب ما يكون العبد من ربّه عزّ وجلّ وهو ساجد فأكثروا الدّعاء » .
وروى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ تعالى ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقمن أن يستجاب لكم » .
د - أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه . روى جابر بن عبد اللّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى الموقف بعرفة واستقبل القبلة ولم يزل يدعو حتّى غربت الشّمس . وقال سلمان : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ ربّكم حييّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفراً » وروى أنس أنّه رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدّعاء حتّى يرى بياض إبطيه .
هـ - أن يمسح بهما وجهه في آخر الدّعاء . قال عمر رضي الله عنه : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا مدّ يديه في الدّعاء لم يردّهما حتّى يمسح بهما وجهه » .
وقال ابن عبّاس : « كان صلى الله عليه وسلم إذا دعا ضمّ كفّيه وجعل بطونهما ممّا يلي وجهه » .
فهذه هيئات اليد ، ولا يرفع بصره إلى السّماء . قال صلى الله عليه وسلم : « لينتهينّ أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدّعاء في الصّلاة إلى السّماء أو لتخطفنّ أبصارهم » .
و - خفض الصّوت بين المخافتة والجهر لقوله عزّ وجلّ : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، ولما روي أنّ أبا موسى الأشعريّ قال : « قدمنا مع رسول اللّه فلمّا دنونا من المدينة كبّر ، وكبّر النّاس ورفعوا أصواتهم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّاس : اربعوا على أنفسكم ، إنّكم ليس تدعون أصمّ ولا غائباً ، إنّكم تدعون سميعاً قريباً ، والّذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم » وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي بدعائك ، وقد أثنى اللّه عزّ وجلّ على نبيّه زكريّا عليه السلام حيث قال : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } .
ز - أن لا يتكلّف السّجع في الدّعاء فإنّ حال الدّاعي ينبغي أن يكون حال متضرّع ، والتّكلّف لا يناسبه . قال صلى الله عليه وسلم : « سيكون قوم يعتدون في الدّعاء » ، وقد قال عزّ وجلّ : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ، وقيل معناه التّكلّف للأسجاع ، والأولى أن لا يجاوز الدّعوات المأثورة ، فإنّه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته ، فما كلّ أحد يحسن الدّعاء ، وللبخاريّ عن ابن عبّاس : « وانظر السّجع من الدّعاء فاجتنبه ، فإنّي عهدت أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلاّ ذلك » . ح - التّضرّع والخشوع والرّغبة والرّهبة قال اللّه تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } وقال عزّ وجلّ : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } .
ط - أن يجزم الدّعاء ويوقن بالإجابة . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يقولن أحدكم اللّهمّ اغفر لي إن شئت ، اللّهمّ ارحمني إن شئت ،ليعزم المسألة فإنّه لا مستكره له ». وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا دعا أحدكم فليعظم الرّغبة فإنّ اللّه لا يتعاظمه شيء » . وقال صلى الله عليه وسلم : « ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أنّ اللّه عزّ وجلّ لا يستجيب دعاءً من قلب غافل » . وقال سفيان بن عيينة : لا يمنعنّ أحدكم من الدّعاء ما يعلم من نفسه ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ أجاب دعاء شرّ الخلق إبليس لعنه اللّه إذ { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ } .
ي - أن يلحّ في الدّعاء ويكرّره ثلاثاً ، قال ابن مسعود : « كان عليه الصلاة والسلام إذا دعا دعا ثلاثاً ، وإذا سأل سأل ثلاثاً » .
ك - أن لا يستبطئ الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول قد دعوت فلم يستجب لي . فإذا دعوت فاسأل اللّه كثيراً فإنّك تدعو كريماً » .(/3)
ل - أن يفتتح الدّعاء بذكر اللّه عزّ وجلّ وبالصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد الحمد للّه والثّناء عليه ، ويختمه بذلك كلّه أيضاً ، لما ورد عن فضالة بن عبيد قال : « سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد اللّه ولم يصلّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : عجل هذا ثمّ دعاه ، فقال له أو لغيره : إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد اللّه والثّناء ، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يدعو بما شاء » . ودليل ختمه بذلك قول اللّه تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وأمّا الصّلاة على النّبيّ فلقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تجعلوني كقدح الرّاكب يجعل ماءه في قدحه ، فإن احتاج إليه شربه ، وإلاّ صبّه ، اجعلوني في أوّل كلامكم وأوسطه وآخره » . م - وهو الأدب الباطن ، وهو الأصل في الإجابة : التّوبة وردّ المظالم والإقبال على اللّه عزّ وجلّ بكنه الهمّة ، فذلك هو السّبب القريب في الإجابة .
الدّعاء مع التّوسّل بصالح العمل :
9 - يستحبّ لمن وقع في شدّة أن يدعو بصالح عمله ، لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « انطلق ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم حتّى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار ، فقالوا: إنّه لا ينجيكم من هذه الصّخرة إلاّ أن تدعوا اللّه بصالح أعمالكم . قال رجل منهم .. » . الحديث بطوله وهو مذكور ضمن بحث ( توسّل - ف / 7 ) .
تعميم الدّعاء :
10 - يستحبّ تعميم الدّعاء لقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ كرّم اللّه وجهه : « يا عليّ عمّم » ولحديث : « من صلّى صلاةً لم يدع فيها للمؤمنين والمؤمنات فهي خداج » .
وفي حديث آخر : « أنّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللّهمّ اغفر لي ، فقال : ويحك لو عمّمت لاستجيب لك » .
الاعتداء في الدّعاء :
11 - نهى اللّه تعالى عن الاعتداء في الدّعاء بقوله : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وورد في الحديث : « سيكون قوم يعتدون في الدّعاء » .
قال القرطبيّ : المعتدي هو المجاوز للحدّ ومرتكب الحظر ، وقد يتفاضل بحسب ما يعتدى فيه، ثمّ قال : والاعتداء في الدّعاء على وجوه : منها الجهر الكثير والصّياح ، ومنها أن يدعو أن تكون له منزلة نبيّ ، أو يدعو بمحال ونحو هذا من الشّطط . ومنها أن يدعو طالباً معصيةً ، ونحو ذلك .
وقال ابن عابدين : ويحرم سؤال العافية مدى الدّهر ، والمستحيلات العاديّة كنزول المائدة ، والاستغناء عن التّنفّس في الهواء ، أو ثماراً من غير أشجار ، كما يحرم الدّعاء بالمغفرة للكفّار .
الدّعاء بالمأثور وغير المأثور :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز كلّ دعاء دنيويّ وأخرويّ ، ولكنّ الدّعاء بالمأثور أفضل من غيره .
الدّعاء في الصّلاة :
13 - قال الحنفيّة والحنابلة : يسنّ الدّعاء في التّشهّد الأخير بعد الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بما يشبه ألفاظ القرآن ، أو بما يشبه ألفاظ السّنّة ، ولا يجوز له الدّعاء بما يشبه كلام النّاس كأن يقول : اللّهمّ زوّجني فلانة ، أو اعطني كذا من الذّهب والفضّة والمناصب .
وأمّا المالكيّة والشّافعيّة فذهبوا إلى أنّه : يسنّ الدّعاء بعد التّشهّد وقبل السّلام بخيري الدّين والدّنيا ، ولا يجوز أن يدعو بشيء محرّم أو مستحيل أو معلّق ، فإن دعا بشيء من ذلك بطلت صلاته ، والأفضل أن يدعو بالمأثور .
طلب الدّعاء من أهل الفضل :
14 - يستحبّ طلب الدّعاء من أهل الفضل وإن كان الطّالب أفضل من المطلوب منه ، فعن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قال : استأذنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في العمرة ، فأذن ، وقال : « لا تنسنا يا أخي من دعائك » فقال كلمةً ما يسرّني أنّ لي بها الدّنيا .
فضل الدّعاء بظهر الغيب :
15 - قال اللّه تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } . وقال تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } .
وقال تعالى إخبارًا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } وقال تعالى إخباراً عن نوح صلى الله عليه وسلم : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } .
وعن أبي الدّرداء - رضي الله عنه - أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلاّ قال الملك ، ولك بمثل » وفي رواية أخرى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول : « دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكّل كلّما دعا لأخيه بخير ، قال الملك الموكّل به : آمين ، ولك بمثل » . وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ أسرع الدّعاء إجابةً دعوة غائب لغائب » .
استحباب الدّعاء لمن أحسن إليه :
16 - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من صنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك اللّه خيراً ، فقد أبلغ في الثّناء » . وقال عليه الصلاة والسلام : « من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتّى تروا أنّكم قد كافأتموه » .
الدّعاء للذّمّيّ إذا فعل معروفاً :(/4)
17 - قال النّوويّ : اعلم أنّه لا يجوز أن يدعى له " أي الذّمّيّ " بالمغفرة وما أشبهها ممّا لا يقال للكفّار ، لكن يجوز أن يدعى له بالهداية وصحّة البدن والعافية وشبه ذلك . لما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال : « استسقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسقاه يهوديّ ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : جمّلك اللّه فما رأى الشّيب حتّى مات » .
دعاء الإنسان على من ظلمه أو ظلم المسلمين :
18 - قال اللّه تعالى : { لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } .
قال القرطبيّ : الّذي يقتضيه ظاهر الآية أنّ للمظلوم أن ينتصر من ظالمه ، ولكن مع اقتصاد إن كان الظّالم مؤمناً ، كما قال الحسن ، وإن كان كافراً فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكلّ دعاء ، كما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال : « اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر . اللّهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف » .
وقال : « اللّهمّ عليك بفلان وفلان سمّاهم » .
وإن كان مجاهراً بالظّلم دعا عليه جهراً ، ولم يكن له عرض محترم ، ولا بدن محترم ، ولا مال محترم . وقد روى أبو داود عن « عائشة قال : سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لا تسبّخي عنه » أي لا تخفّفي عنه العقوبة بدعائك عليه .
قال النّوويّ : اعلم أن هذا الباب واسع جدًّا ، وقد تظاهر على جوازه نصوص الكتاب والسّنّة، وأفعال سلف الأمّة وخلفها ، وقد أخبر اللّه سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة معلومة من القرآن عن الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم بدعائهم على الكفّار .
وعن عليّ - رضي الله عنه - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب : « ملأ اللّه قبورهم وبيوتهم ناراً كما حبسونا وشغلونا عن الصّلاة الوسطى » .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : « أنّ رجلاً أكل بشماله عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : كل بيمينك قال : لا أستطيع ، قال : لا استطعت ، ما منعه إلاّ الكبر، قال : فما رفعها إلى فيه » .
قال النّوويّ : هذا الرّجل هو بُسر - بضمّ الباء وبالسّين المهملة - ابن راعي العير الأشجعيّ ، صحابيّ ، ففيه جواز الدّعاء على من خالف الحكم الشّرعيّ .
وعن جابر بن سمرة قال : شكا أهل الكوفة سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه ، فعزله واستعمل عليهم .. وذكر الحديث إلى أن قال : أرسل معه عمر رجالاً أو رجلاً إلى الكوفة يسأل عنه ، فلم يدع مسجداً إلاّ سأل عنه ويثنون معروفاً ، حتّى دخل مسجداً لبني عبس ، فقام له رجل منهم يقال له : أسامة بن قتادة ، يكنّى أبا سعدة فقال : أمّا إذا نشدتنا فإنّ سعداً لا يسير بالسّريّة ، ولا يقسم بالسّويّة ، ولا يعدل في القضيّة . قال سعد: أما واللّه لأدعونّ بثلاث : اللّهمّ إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياءً وسمعةً فأطل عمره ، وأطل فقره ، وعرّضه للفتن . فكان بعد ذلك يقول : شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد . قال عبد الملك بن عمير الرّاوي عن جابر بن سمرة : فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، وإنّه ليتعرّض للجواري في الطّرق فيغمزهنّ .
وعن عروة بن الزّبير ، أنّ سعيد بن زيد رضي الله عنهما ، خاصمته أروى بنت أوس - وقيل : أويس - إلى مروان بن الحكم ، وادّعت أنّه أخذ شيئاً من أرضها ، فقال سعيد رضي الله عنه : أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الّذي سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوّقه إلى سبع أرضين » . قال مروان: لا أسألك بيّنةً بعد هذا ، فقال سعيد : اللّهمّ إن كانت كاذبةً فأعم بصرها واقتلها في أرضها ، قال : فما ماتت حتّى ذهب بصرها ، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت .
نهي المكلّف عن دعائه على نفسه وولده :
19 - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تدعوا على أنفسكم ، ولا تدعوا على أولادكم ، ولا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من اللّه ساعةً يسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم » .
الأدعية في المناسبات :
20 - هناك أدعية تقال أثناء الصّلوات الخمس وبعدها ، وعند صلاة الكسوف ، والخسوف ، والاستسقاء ، والحاجة ، والاستخارة ، تنظر في مواضعها ، وأدعية تتعلّق برؤية الهلال ، وأثناء الصّيام ، وعند الإفطار ، وفي ليلة القدر ، تنظر في مصطلح ( صوم ) .
وأدعية تقال في أعمال الحجّ تنظر في مصطلح : ( حجّ ) .
وأدعية تقال بعد عقد النّكاح ، وعند الزّفاف تذكر في مصطلح : ( نكاح ) .
وهناك أدعية في الصّباح والمساء ، وعند المهمّات ، ألّفت فيها كتب قيّمة ، ككتاب الأذكار للنّوويّ ، وعمل اليوم واللّيلة للنّسائيّ ، ولابن السّنّيّ وغيرها .(/5)
الخلاصة في أحكام الدفن
وفي الموسوعة الفقهية :
دفن *
التّعريف :
1 - الدّفن في اللّغة بمعنى المواراة والسّتر . يقال : دفن الميّت واراه ، ودفن سرّه : أي كتمه . وفي الاصطلاح : مواراة الميّت في التّراب .
الحكم الإجماليّ :
2 - دفن المسلم فرض كفايةٍ إجماعاً إن أمكن . والدّليل على وجوبه : توارث النّاس من لدن آدم عليه السّلام إلى يومنا هذا مع النّكير على تاركه .
وأوّل من قام بالدّفن هو قابيل الّذي أرشده اللّه إلى دفن أخيه هابيل ، لمّا جاء في قوله تعالى { فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } .
وإذا لم يمكن : كما لو مات في سفينةٍ ، غسّل وكفّن وصلّي عليه ثمّ ألقي في البحر إن لم يكن قريباً من البرّ . وتقدير القرب : بأن يكون بينه وبين البرّ مدّة لا يتغيّر فيها الميّت . وصرّح بعض الفقهاء أنّه يثقّل بشيءٍ ليرسب ، وقال الشّافعيّ : يثقّل إن كان قريباً من دار الحرب ، وإلاّ يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى السّاحل ، فربّما وقع إلى قومٍ يدفنونه .
أفضل مكان للدّفن :
3 - المقبرة أفضل مكان للدّفن ، وذلك للاتّباع ، ولنيل دعاء الطّارقين ، وفي أفضل مقبرةٍ بالبلد أولى . وإنّما دفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته ، لأنّ من خواصّ الأنبياء أنّهم يدفنون حيث يموتون .
ويكره الدّفن في الدّار ولو كان الميّت صغيراً . وقال ابن عابدين : وكذلك الدّفن في مدفنٍ خاصٍّ كما يفعله من يبني مدرسةً ونحوها ويبني له بقربه مدفناً .
وأمّا الدّفن في المساجد ، فقد صرّح المالكيّة بأنّه يكره دفن الميّت في المسجد الّذي بني للصّلاة فيه .
ويرى الحنابلة أنّه يحرم دفنه في مسجدٍ ونحوه كمدرسةٍ ، ورباطٍ لتعيين الواقف الجهة لغير ذلك فينبش عندهم من دفن بمسجدٍ تداركاً للعمل بشرط الواقف .
كما يحرم دفنه في ملك غيره بلا إذن ربّه للعدوان ، وللمالك إلزام دافنه بإخراجه ونقله ليفرغ له ملكه عمّا شغله به بغير حقٍّ . والأولى له تركه حتّى يبلى لما فيه من هتك حرمته .
نقل الميّت من مكان إلى آخر :
4 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميّت من مكان إلى آخر بعد الدّفن مطلقاً . وأفتى بعض المتأخّرين من الحنفيّة بجوازه إلاّ أنّ ابن عابدين ردّه فقال نقلاً عن الفتح : اتّفاق مشايخ الحنفيّة في امرأةٍ دفن ابنها وهي غائبة في غير بلدها فلم تصبر ، وأرادت نقله على أنّه لا يسعها ذلك ، فتجويز بعض المتأخّرين لا يلتفت إليه .
وأمّا نقل يعقوب ويوسف عليهما السلام من مصر إلى الشّام ، ليكونا مع آبائهما الكرام فهو شرع من قبلنا ، ولم يتوفّر فيه شروط كونه شرعاً لنا .
وأمّا قبل دفنه فيرى الحنفيّة وهو رواية عن أحمد أنّه لا بأس بنقله مطلقاً ، وقيل إلى ما دون مدّة السّفر ، وقيّده محمّد بقدر ميلٍ أو ميلين .
وذهب جمهور الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميّت قبل الدّفن من بلدٍ إلى آخر إلاّ ; لغرضٍ صحيحٍ . وبه قال الأوزاعيّ وابن المنذر .
قال عبد اللّه بن أبي مليكة : « توفّي عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ بالحبشة ، فحمل إلى مكّة فدفن ، فلمّا قدمت عائشة رضي الله تعالى عنها أتت قبره ، ثمّ قالت : واللّه لو حضرتك ما دفنت إلاّ حيث متّ ، ولو شهدتك ما زرتك » .
ولأنّ ذلك أخفّ لمؤنته ، وأسلم له من التّغيير ، وأمّا إن كان فيه غرض صحيح جاز .
قال الشّافعيّ رحمه الله : لا أحبّه إلاّ أن يكون بقرب مكّة ، أو المدينة ، أو بيت المقدس . فيختار أن ينقل إليها لفضل الدّفن فيها ، وقال بعض الشّافعيّة : يكره نقله ، وقال صاحب " التّتمّة " وآخرون : يحرم نقله .
وأمّا المالكيّة فيجوز عندهم نقل الميّت قبل الدّفن وكذا بعده من مكان إلى آخر بشروطٍ هي : - أن لا ينفجر حال نقله
- أن لا تنتهك حرمته
- وأن يكون لمصلحةٍ : كأن يخاف عليه أن يأكله البحر ، أو تُرجى بركة الموضع المنقول إليه ، أو ليدفن بين أهله ، أو لأجل قرب زيارة أهله ، أو دفن من أسلم بمقبرة الكفّار ، فيتدارك بإخراجه منها ، ودفنه في مقبرة المسلمين .
فإن تخلّف شرط من هذه الشّروط الثّلاثة كان النّقل حراماً .
واتّفق الأئمّة على أنّ الشّهيد يستحبّ دفنه حيث قتل . لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحدٍ أن يردّوا إلى مصارعهم » . وأنّه ينزع عنه الحديد والسّلاح ، ويترك عليه خفّاه ، وقلنسوته ; لما روي عن ابن عبّاسٍ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحدٍ أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم » .
ودفن الشّهيد بثيابه حتم عند الحنفيّة والمالكيّة عملاً بظاهر الحديث ، وأولى عند الشّافعيّة والحنابلة . فللوليّ أن ينزع عنه ثيابه ، ويكفّنه بغيرها .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( شهيد ، وتكفين ) .
وصرّح الشّافعيّة بأنّ الكافر إن مات في الحجاز ، وشقّ نقله منه لتقطّعه ، أو بُعد المسافة من غير الحجاز أو نحو ذلك دفن ثَمَّ ، أمّا الحربيّ فلا يجب دفنه ، وفي وجهٍ لا يجوز ، فإن دفن فيترك .
وأمّا في حرم مكّة فينقل منه ولو دفن ، لأنّ المحلّ غير قابلٍ لذلك ، وإن كان بإذنٍ من الإمام، لأنّ إذن الإمام لا يؤثّر في ذلك . ولأنّ بقاء جيفته فيه أشدّ من دخوله حيّاً إلاّ إذا تهرّى وتقطّع بعد دفنه ترك . وليس حرم المدينة كحرم مكّة فيما ذكر لاختصاص حرم مكّة بالنّسك .
دفن الأقارب في مقبرةٍ واحدةٍ :(/1)
5 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يجوز جمع الأقارب في الدّفن في مقبرةٍ واحدةٍ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا دفن عثمان بن مظعونٍ : « أدفن إليه من مات من أهلي » .
ولأنّ ذلك أسهل لزيارتهم وأكثر للتّرحّم عليهم ، ويسنّ تقديم الأب ، ثمّ من يليه في السّنّ والفضيلة إن أمكن .
الأحقّ بالدّفن :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأولى بدفن المرأة محارمها الرّجال الأقرب فالأقرب وهم الّذين كان يحلّ لهم النّظر إليها في حياتها ولها السّفر معهم ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قام عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين توفّيت زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها ، فقال : ألا إنّي أرسلت إلى النّسوة من يدخلها قبرها ، فأرسلن : من كان يحلّ له الدّخول عليها في حياتها ، فرأيت أن قد صدقن .
ولأنّ امرأة عمر رضي الله تعالى عنهما لمّا توفّيت قال لأهلها :أنتم أحقّ بها .
ولأنّهم أولى النّاس بولايتها حال الحياة ، فكذا بعد الموت ، ثمّ زوجها ، لأنّه أشبه بمحرمها من النّسب من الأجانب ، ولو لم يكن فيهم ذو رحمٍ فلا بأس للأجانب وضعها في قبرها ، ولا يحتاج إلى إحضار النّساء للدّفن ، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين ماتت ابنته أمر أبا طلحة ، فنزل في قبر ابنته » . وهو أجنبيّ ، ومعلوم أنّ محارمها كنّ هناك ، كأختها فاطمة ولأنّ تولّي النّساء ، لذلك لو كان مشروعاً لفعل في عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر خلفائه ، ولم ينقل . ثمّ يقدّم خصيّ ، ثمّ شيخٌ ، ثمّ أفضل ديناً ومعرفةً . فإن لم يكن ، فقد روي عن أحمد أنّه قال : إنّه أحبّ إليّ أن يدخلها النّساء ، لأنّه مباح لهنّ النّظر إليها وهنّ أحقّ بغسلها ، القربى فالقربى كالرّجال .
واستثنى الشّافعيّة الزّوج ، فإنّه أحقّ من غيره ، لأنّ منظوره أكثر .
ونصّ المالكيّة بأنّ الميّت إن كان رجلاً فيضعه في قبره الرّجال ، وإن كانت امرأةً فيتولّى ذلك زوجها من أسفلها ومحارمها من أعلاها ، فإن لم يكن فصالحوا المؤمنين ، فإن وجد من النّساء من يتولّى ذلك فهو أولى من الأجانب .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّ الأولى بدفن الرّجال أولاهم بغسله والصّلاة عليه ، فلا ينزل القبر إلاّ الرّجال متى وجدوا ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحده العبّاس وعليّ وأسامة رضي الله عنهم » ، وهم الّذين كانوا تولّوا غسله ، ولأنّ المقدّم بغسله أقرب إلى ستر أحواله ، وقلّة الاطّلاع عليه ، ثمّ أقرب العصبة ، ثمّ ذوو أرحامه الأقرب فالأقرب ، ثمّ الرّجال الأجانب ، ثمّ من محارمه من النّساء ، ثمّ الأجنبيّات ، للحاجة إلى دفنه وعدم غيرهنّ .
أمّا دفن القاتل للمقتول : فقد صرّح الحنابلة بأنّه لا حقّ له في دفنه ، لمبالغته في قطيعة الرّحم .
دفن المسلم للكافر :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجوز للمسلم أن يدفن كافراً ولو قريباً إلاّ لضرورةٍ ، بأن لا يجد من يواريه غيره فيواريه وجوباً . « لأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أخبر بموت أبي طالبٍ قال لعليٍّ رضي الله عنه : اذهب فواره » وكذلك قتلى بدرٍ أُلقوا في القليب ، أو لأنّه يتضرّر بتركه ويتغيّر ببقائه . ولا يستقبل به قبلتنا لأنّه ليس من أهلها ، ولا قبلتهم لعدم اعتبارها ، فلا يقصد جهةً مخصوصةً ، بل يكون دفنه من غير مراعاة السّنّة .
وكذلك لا يُترك ميّت مسلم لوليّه الكافر فيما يتعلّق بتجهيزه ودفنه ، إذ لا يؤمن عليه من دفنه في مقبرة الكفّار واستقباله قبلتهم ، وغير ذلك .
كيفيّة الدّفن :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ أن يدخل الميّت من قِبل القبلة بأن يوضع من جهتها ، ثمّ يحمل فيلحد ، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ .
وروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه . وقال النّخعيّ : حدّثني من رأى أهل المدينة في الزّمن الأوّل يدخلون موتاهم من قبل القبلة ، وأنّ السّلّ شيء أحدثه أهل المدينة .
وقال المالكيّة : إنّه لا بأس أن يدخل الميّت في قبره من أيّ ناحيةٍ كان والقبلة أولى .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه يستحبّ السّلّ ، بأن يوضع الميّت عند آخر القبر ثمّ يسلّ من قبل رأسه منحدراً .
وروي ذلك عن ابن عمر وأنسٍ ، وعبد اللّه بن يزيد الأنصاريّ ، والشّعبيّ .
واستدلّوا بما روي عن ابن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّ من قبل رأسه سلاً » .
والخلاف بين الفقهاء هنا خلافٌ في الأولى ، وعلى هذا فإن كان الأسهل عليهم أخذه من القبلة أو من رأس القبر فلا حرج ، لأنّ استحباب أخذه من أسفل القبر إنّما كان طلباً للسّهولة عليهم والرّفق بهم ، فإن كان الأسهل غيره كان مستحبّاً ، قال أحمد رحمه الله : كلّ لا بأس به .
ثمّ يوضع على شقّه الأيمن متوجّهاً إلى القبلة ، ويقول واضعه : بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه ، لما ورد عن عبد اللّه بن عمر « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميّت في القبر ، قال مرّةً : بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه . وقال مرّةً : بسم اللّه وباللّه وعلى سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم »
ومعنى بسم اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه : بسم اللّه وضعناك ،وعلى ملّة رسول اللّه سلّمناك.
وقال الماتريديّ : هذا ليس دعاءً للميّت ، لأنّه إن مات على ملّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يبدّل حاله ، وإن مات على غير ذلك لم يبدّل أيضاً ، ولكنّ المؤمنين شهداء اللّه في أرضه ، فيشهدون بوفاة الميّت على الملّة ، وعلى هذا جرت السّنّة .
وفيها أقوال أخرى ذكرت في كتب الفقه .(/2)
ثمّ تحلّ عقد الكفن للاستغناء عنها ، ويسوّى اللّبن على اللّحد ، وتسدّ الفرج بالمدر والقصب أو غير ذلك كي لا ينزل التّراب منها على الميّت ، ويكره وضع الآجُرّ المطبوخ إلاّ إذا كانت الأرض رخوةً ، لأنّها تستعمل للزّينة ، ولا حاجة للميّت إليها ، ولأنّه ممّا مسّته النّار .
قال مشايخ بخارى : لا يكره الآجُرّ في بلادنا للحاجة إليه لضعف الأراضي ، وكذلك الخشب .
ويستحبّ حثيه من قبل رأسه ثلاثاً : لما روي عن أبي هريرة : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازةٍ ، ثمّ أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً » .
ويقول في الحثية الأولى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } ، وفي الثّانية : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } ، وفي الثّالثة : { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } .
وقيل : يقول في الأولى : اللّهمّ جاف الأرض عن جنبيه ، وفي الثّانية : اللّهمّ افتح أبواب السّماء لروحه ، وفي الثّالثة : اللّهمّ زوّجه من الحور العين ، وللمرأة : اللّهمّ أدخلها الجنّة برحمتك . ثمّ يهال التّراب عليه ، وتكره الزّيادة عليه ، لأنّه بمنزلة البناء .
ويحرم أن يوضع تحت الميّت عند الدّفن مخدّة أو حصير أو نحو ذلك ، لأنّه إتلاف مالٍ بلا ضرورةٍ ، بل المطلوب كشف خدّه ، والإفضاء إلى التّراب استكانةً وتواضعاً ، ورجاءً لرحمة اللّه . وما روي « أنّه جعل في قبره صلى الله عليه وسلم قطيفةً » ، قيل : لأنّ المدينة سبخة، وقيل : إنّ العبّاس وعليّاً رضي الله عنهما تنازعا فبسطها شقران تحته لقطع التّنازع. وقيل : كان عليه الصلاة والسلام يلبسها ويفترشها ، فقال شقران : واللّه لا يلبسك أحد بعده أبداً فألقاها في القبر ، ولكنّه لم يشتهر ليكون إجماعاً منهم ، بل ثبت عن غيره خلافه كما رواه التّرمذيّ أنّ ابن عبّاسٍ كره أن يلقى تحت الميّت شيء عند الدّفن .
وعن أبي موسى قال : " لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً " .
ولا تعيين في عدد من يدخل القبر عند جمهور الفقهاء ، فعلى هذا يكون عددهم على حسب حال الميّت ، وحاجته ، وما هو أسهل في أمره .
وذهب الشّافعيّة ، وهو قول القاضي من الحنابلة ، إلى أنّه يستحبّ أن يكون وتراً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألحده ثلاثة .
ولو مات أقارب الشّخص دفعةً واحدةً ، وأمكنه دفن كلّ واحدٍ في قبرٍ ، بدأ بمن يخشى تغيّره، ثمّ الّذي يليه في التّغيير ، فإن لم يخش تغيّر بدأ بأبيه ، ثمّ أمّه ، ثمّ الأقرب فالأقرب ، فإن كانا أخوين فأكبرهما ، وإن كانتا زوجتين أقرع بينهما .
أقلّ ما يجزئ في الدّفن :
9 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّ أقلّ ما يجزئ في الدّفن حفرة تكتم رائحة الميّت ، وتحرسه عن السّباع ، لعسر نبش مثلها غالباً ، وقدّر الأقلّ بنصف القامة ، والأكثر بالقامة ، ويندب عدم تعميقه أكثر من ذلك ، وصرّح المالكيّة بأنّه لا حدّ لأكثره وإن كان النّدب عدم عمقه . ويجوز الدّفن في الشّقّ واللّحد ، فاللّحد : أن يحفر حائط القبر مائلاً عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميّت من جهة القبلة . والشّقّ : أن يحفر وسطه كالنّهر ، ويسقّف .
فإن كانت الأرض صلبةً فاللّحد أفضل ، وإلاّ فالشّقّ ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قبر ) .
تغطية القبر حين الدّفن :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ تغطية قبر المرأة حين الدّفن لأنّها عورة ، ولأنّه لا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون ، وبناء أمرها على السّتر ، والخنثى في ذلك كالأنثى احتياطاً .
واختلفوا في تغطية قبر الرّجل ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره تغطية قبر الرّجل إلاّ لعذرٍ من مطرٍ وغيره ، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه ، أنّه مرّ بقومٍ وقد دفنوا ميّتاً ، وقد بسطوا على قبره الثّوب ، فجذبه وقال : إنّما يصنع هذا بالنّساء ، مع ما فيه من اتّباع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ويرى الشّافعيّة في المذهب أنّه يستحبّ ذلك ، سواء كان رجلاً أو امرأةً ، والمرأة آكد .
لأنّه ربّما ينكشف عند الاضطجاع وحلّ الشّداد ، فيظهر ما يستحبّ إخفاؤه .
اتّخاذ التّابوت :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يكره الدّفن في التّابوت إلاّ عند الحاجة كرخاوة الأرض ، وذلك ، لأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضوان اللّه تعالى عليهم ، وفيه تشبّه بأهل الدّنيا ، والأرض أنشف لفضلاته . ولأنّ فيه إضاعة المال .
وفرّق الحنفيّة بين الرّجل والمرأة ، فقالوا : لا بأس باتّخاذ التّابوت لها مطلقاً ، لأنّه أقرب إلى السّتر ، والتّحرّز عن مسّها عند الوضع في القبر .
الدّفن ليلاً وفي الأوقات المكروهة :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو المذهب لدى الحنابلة إلى أنّه لا يكره الدّفن ليلاً ، لأنّ أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه دفن ليلاً ، وعليّ دفن فاطمة رضي الله تعالى عنها ليلاً ، وممّن دفن ليلاً عثمان بن عفّان ، وعائشة ، وابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنهم . ورخّص فيه عقبة بن عامرٍ ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء ، والثّوريّ ، وإسحاق ، ولكنّه يستحبّ أن يكون نهاراً إن أمكن ، لأنّه أسهل على متّبعي الجنازة ، وأكثر للمصلّين عليها ، وأمكن لاتّباع السّنّة في دفنه .
وكرهه أحمد في روايةٍ ، والحسن ، لما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفّن في كفنٍ غير طائلٍ ، وقبر ليلاً ، فزجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أن يقبر الرّجل باللّيل إلاّ أن يضطرّ إنسان إلى ذلك » .(/3)
أمّا الدّفن في الأوقات المكروهة فصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه يكره الدّفن عند طلوع الشّمس ، وعند غروبها ، وعند قيامها ، لقول عقبة بن عامرٍ الجهنيّ : « ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة ، وحين تضيّف الشّمس للغروب حتّى تغرب » .
ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يكره الدّفن في الأوقات الّتي نهي عن الصّلاة فيها ، وإن كان الدّفن في غيرها أفضل .
الدّفن قبل الصّلاة عليه ومن غير غسلٍ وبلا كفنٍ :
13 - إن دفن الميّت من غير غسلٍ ، فذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة"
إلى أنّه ينبش ويغسّل ، إلاّ أن يخاف عليه أن يتفسّخ ، فيترك ، وبه قال أبو ثورٍ .
وقال الحنفيّة وهو قول لدى الشّافعيّة : إنّه لا ينبش ، لأنّ النّبش مثلة وقد نهي عنها . وتفصيل ذلك في ( نبش ) .
أمّا إن دفن قبل الصّلاة عليه ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن الحنابلة اختارها القاضي أنّه يصلّى على القبر ولا ينبش ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على قبر المسكينة ، ولم ينبشها » .
ويرى المالكيّة ، وهو رواية عن أحمد أنّه ينبش ويصلّى عليه ، لأنّه دفن قبل واجبٍ فينبش ، كما لو دفن من غير غسلٍ ، وهذا إذا لم يتغيّر ، أمّا إنّ تغيّر فلا ينبش بحالٍ .
وإن دفن بغير كفنٍ ، فالأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه عند الحنابلة ، أنّه يترك اكتفاءً بستر القبر ، وحفظاً ، لحرمته ، ولأنّ القصد بالكفن السّتر وقد حصل .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه آخر عند الحنابلة ينبش ، ثمّ يكفّن ، ثمّ يدفن ، لأنّ التّكفين واجب فأشبه الغسل . وتفصيل ذلك في ( كفن ) .
دفن أكثر من واحدٍ في قبرٍ واحدٍ :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يدفن أكثر من واحدٍ في قبرٍ واحدٍ إلاّ لضرورةٍ كضيق مكان ، أو تعذّر حافرٍ ، أو تربةٍ أخرى ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدفن كلّ ميّتٍ في قبرٍ واحدٍ » . وعلى هذا فعل الصّحابة ومن بعدهم .
فإذا دفن جماعة في قبرٍ واحدٍ : قدّم الأفضل منهم إلى القبلة ، ثمّ الّذي يليه في الفضيلة على حسب تقديمهم إلى الإمامة في الصّلاة ، لما روى هشام بن عامرٍ قال : « شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ فقلنا : يا رسول اللّه : الحفر علينا ، لكلّ إنسانٍ شديد . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : احفروا وأعمقوا ، وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثّلاثة في قبرٍ واحدٍ ، قالوا : فمن نقدّم يا رسول اللّه ؟ قال : قدّموا أكثرهم قرآناً » .
ثمّ إن شاء سوّى بين رءوسهم ، إن شاء حفر قبراً طويلاً ، وجعل رأس كلّ واحدٍ من الموتى عند رجل الآخر ، وبهذا صرّح أحمد .
ويجعل بين ميّتٍ وآخر حاجز من ترابٍ ويقدّم الأب على الابن ، إن كان أفضل منه ، لحرمة الأبوّة ، وكذا تقدّم الأمّ على البنت .
ولا يجمع بين النّساء والرّجال إلاّ عند تأكّد الضّرورة ، ويقدّم الرّجل وإن كان ابناً .
فإن اجتمع رجل وامرأة وخنثى وصبيّ ، قدّم الرّجل ، ثمّ الصّبيّ ، ثمّ الخنثى ، ثمّ المرأة . ولذلك فيكره الدّفن في الفساقي ، وهي كبيتٍ معقودٍ بالبناء يسع لجماعةٍ قياماً ، لمخالفتها السّنّة ، والكراهة فيها من وجوهٍ وهي :
عدم اللّحد ، ودفن الجماعة في قبرٍ واحدٍ بلا ضرورةٍ ، واختلاط الرّجال بالنّساء بلا حاجزٍ ، وتجصيصها والبناء عليها ، وخصوصاً إذا كان فيها ميّت لم يبل ، وما يفعله جهلة الحفّارين من نبش القبور الّتي لم تبل أربابها ، وإدخال أجانب عليهم ، فهو من المنكر الظّاهر ، وليس من الضّرورة المبيحة لدفن ميّتين فأكثر في قبرٍ واحدٍ .
ويرى بعض الفقهاء أنّه يكره ذلك حتّى إذا صار الميّت تراباً ، لأنّ الحرمة باقية .
دفن أجزاء الميّت بعد دفنه :
15 - إذا وجدت أطراف ميّتٍ ، أو بعض بدنه لم يغسّل ، ولم يصلّ عليه عند الحنفيّة ، بل يدفن .
ويرى الشّافعيّة أنّه لو وجد عضو مسلمٍ علم موته يجب مواراته بخرقةٍ ودفنه ، ولو لم يعلم موت صاحب العضو لم يصلّ عليه ، لكن يندب دفنه ، ويجب في دفن الجزء ما يجب في دفن الجملة .
أمّا الحنابلة فقالوا : إن وجد جزء الميّت بعد دفنه غسّل ، وصلّي عليه ، ودفن إلى جانب القبر ، أو نبش بعض القبر ودفن فيه ، ولا حاجة إلى كشف الميّت ، لأنّ ضرر نبش الميّت وكشفه أعظم من الضّرر بتفرقة أجزائه .
دفن المسلم في مقابر المشركين وعكسه :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم دفن مسلمٍ في مقبرة الكفّار وعكسه إلاّ لضرورةٍ .
أمّا لو جعلت مقبرة الكفّار المندرسة مقبرةً للمسلمين بعد نقل عظامها إن كانت جاز ، كجعلها مسجداً ، لعدم احترامهم . والدّفن في غير مقبرة الكفّار المندرسة أولى إن أمكن ، تباعداً عن مواضع العذاب . ولا يجوز العكس ، بأن تجعل مقبرة المسلمين المندرسة مقبرةً للكفّار ، ولا نقل عظام المسلمين ، لتدفن في موضعٍ آخر ، لاحترامها .
أمّا المرتدّ فقد ذكر الإسنويّ نقلاً عن الماورديّ أنّه لا يدفن في مقابر المسلمين لخروجه بالرّدّة عنهم ، ولا في مقابر المشركين ، لما تقدّم له من حرمة الإسلام .
وأمّا من قتل حدّاً فيدفن في مقابر المسلمين ، وكذلك تارك الصّلاة .
دفن كافرةٍ حاملٍ من مسلمٍ :
17 - اختلف الفقهاء في دفن كافرةٍ حاملٍ من مسلمٍ على أقوالٍ :
فذهب الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، والمذهب لدى الحنابلة إلى أنّ الأحوط دفنها على حدةٍ ، ويجعل ظهرها إلى القبلة ، لأنّ وجه الولد لظهرها .(/4)
واستدلّ الحنابلة ، لذلك بأنّها كافرة ، فلا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذّوا بعذابها ، ولا في مقبرة الكفّار ، لأنّ ولدها مسلم ، في تأذّى بعذابهم ، وتدفن منفردةً ، وقد روي مثله عن واثلة بن الأسقع .
وفي قولٍ آخر للشّافعيّة : إنّها تدفن في مقابر المسلمين ، وتنزّل منزلة صندوق الولد ،وقيل: في مقابر الكفّار ، وهناك وجه رابع قطع به صاحب " التّتمّة " بأنّها تدفن على طرف مقابر المسلمين ، وحكي عن الشّافعيّ : أنّها تدفع إلى أهل دينها ، ليتولّوا غسلها ودفنها .
واختلف الصّحابة في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ : قال بعضهم : تدفن في مقابرنا ترجيحاً لجانب الولد ، وقال بعضهم : تدفن في مقابر المشركين ، لأنّ الولد في حكم جزءٍ منها ما دام في بطنها ، وقال واثلة بن الأسقع : يتّخذ لها مقبرة على حدةٍ ، وهو ما أخذ به الجمهور كما سبق ، وهو الأحوط ، كما ذكره ابن عابدين نقلاً عن الحلية .
والظّاهر كما أفصح به بعضهم : أنّ المسألة مصوّرة فيما إذا نفخ فيه الرّوح وإلاّ دفنت في مقابر المشركين .
الجلوس بعد الدّفن :
18 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يستحبّ أن يجلس المشيّعون للميّت بعد دفنه ، لدعاءٍ وقراءةٍ بقدر ما ينحر الجزور ، ويفرّق لحمه ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه ، فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت ، فإنّه الآن يسأل » . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يستحبّ أن يقرأ على القبر بعد الدّفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها ، ولما روي أنّ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لمّا حضرته الوفاة قال : اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم ، فإنّي أستأنس بكم .
أجرة الدّفن :
19 - ذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة " إلى أنّه يجوز أخذ الأجرة على الدّفن ، ولكن الأفضل أن يكون مجّاناً ، وتدفع من مجموع التّركة ، وتقدّم على ما تعلّق بذمّة الميّت من دينٍ . ويرى الحنابلة أنّه يكره أخذ الأجرة على الدّفن ، لأنّه يذهب بالأجر .
دفن السّقط :
20 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّ السّقط إذا استبان بعض خلقه يجب أن يدرج في خرقةٍ ويدفن .
دفن الشّعر والأظافر والدّم :
21 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يستحبّ أن يدفن ما يزيله الشّخص من ظفرٍ وشعرٍ ودمٍ ، لما روي عن ميل بنت مشرحٍ الأشعريّة ، قالت : « رأيت أبي يقلّم أظفاره ، ويدفنه ويقول : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك » .
وعن ابن جريح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كان يعجبه دفن الدّم » .
وقال أحمد : كان ابن عمر يفعله . وكذلك تدفن العلقة والمضغة الّتي تلقيها المرأة .
دفن المصحف :
22 - صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّ المصحف إذا صار بحالٍ لا يقرأ فيه ، يدفن كالمسلم ، فيجعل في خرقةٍ طاهرةٍ ، ويدفن في محلٍّ غير ممتهنٍ لا يوطأ ، وفي الذّخيرة : وينبغي أن يلحد له ولا يشقّ له ، لأنّه يحتاج إلى إهالة التّراب عليه ، وفي ذلك نوع تحقيرٍ إلاّ إذا جعل فوقه سقفاً بحيث لا يصل التّراب إليه فهو حسن أيضاً . ذكر أحمد أنّ أبا الجوزاء بلي له مصحف ، فحفر له في مسجده ، فدفنه . ولما روي أنّ عثمان بن عفّان دفن المصاحف بين القبر والمنبر . أمّا غيره من الكتب فالأحسن كذلك أن تدفن .
القتل بالدّفن :
23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مقتضى قواعد المالكيّة ومحمّد من الحنفيّة ، إلى أنّ من دفن حيّاً فمات أنّه يجب فيه القصاص . ويرى الحنفيّة ما عدا محمّدًا أنّ فيه الدّية .(/5)
دفن *
التّعريف :
1 - الدّفن في اللّغة بمعنى المواراة والسّتر . يقال : دفن الميّت واراه ، ودفن سرّه : أي كتمه . وفي الاصطلاح : مواراة الميّت في التّراب .
الحكم الإجماليّ :
2 - دفن المسلم فرض كفايةٍ إجماعاً إن أمكن . والدّليل على وجوبه : توارث النّاس من لدن آدم عليه السّلام إلى يومنا هذا مع النّكير على تاركه .
وأوّل من قام بالدّفن هو قابيل الّذي أرشده اللّه إلى دفن أخيه هابيل ، لمّا جاء في قوله تعالى { فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } .
وإذا لم يمكن : كما لو مات في سفينةٍ ، غسّل وكفّن وصلّي عليه ثمّ ألقي في البحر إن لم يكن قريباً من البرّ . وتقدير القرب : بأن يكون بينه وبين البرّ مدّة لا يتغيّر فيها الميّت . وصرّح بعض الفقهاء أنّه يثقّل بشيءٍ ليرسب ، وقال الشّافعيّ : يثقّل إن كان قريباً من دار الحرب ، وإلاّ يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى السّاحل ، فربّما وقع إلى قومٍ يدفنونه .
أفضل مكان للدّفن :
3 - المقبرة أفضل مكان للدّفن ، وذلك للاتّباع ، ولنيل دعاء الطّارقين ، وفي أفضل مقبرةٍ بالبلد أولى . وإنّما دفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته ، لأنّ من خواصّ الأنبياء أنّهم يدفنون حيث يموتون .
ويكره الدّفن في الدّار ولو كان الميّت صغيراً . وقال ابن عابدين : وكذلك الدّفن في مدفنٍ خاصٍّ كما يفعله من يبني مدرسةً ونحوها ويبني له بقربه مدفناً .
وأمّا الدّفن في المساجد ، فقد صرّح المالكيّة بأنّه يكره دفن الميّت في المسجد الّذي بني للصّلاة فيه .
ويرى الحنابلة أنّه يحرم دفنه في مسجدٍ ونحوه كمدرسةٍ ، ورباطٍ لتعيين الواقف الجهة لغير ذلك فينبش عندهم من دفن بمسجدٍ تداركاً للعمل بشرط الواقف .
كما يحرم دفنه في ملك غيره بلا إذن ربّه للعدوان ، وللمالك إلزام دافنه بإخراجه ونقله ليفرغ له ملكه عمّا شغله به بغير حقٍّ . والأولى له تركه حتّى يبلى لما فيه من هتك حرمته .
نقل الميّت من مكان إلى آخر :
4 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميّت من مكان إلى آخر بعد الدّفن مطلقاً . وأفتى بعض المتأخّرين من الحنفيّة بجوازه إلاّ أنّ ابن عابدين ردّه فقال نقلاً عن الفتح : اتّفاق مشايخ الحنفيّة في امرأةٍ دفن ابنها وهي غائبة في غير بلدها فلم تصبر ، وأرادت نقله على أنّه لا يسعها ذلك ، فتجويز بعض المتأخّرين لا يلتفت إليه .
وأمّا نقل يعقوب ويوسف عليهما السلام من مصر إلى الشّام ، ليكونا مع آبائهما الكرام فهو شرع من قبلنا ، ولم يتوفّر فيه شروط كونه شرعاً لنا .
وأمّا قبل دفنه فيرى الحنفيّة وهو رواية عن أحمد أنّه لا بأس بنقله مطلقاً ، وقيل إلى ما دون مدّة السّفر ، وقيّده محمّد بقدر ميلٍ أو ميلين .
وذهب جمهور الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز نقل الميّت قبل الدّفن من بلدٍ إلى آخر إلاّ ; لغرضٍ صحيحٍ . وبه قال الأوزاعيّ وابن المنذر .
قال عبد اللّه بن أبي مليكة : « توفّي عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ بالحبشة ، فحمل إلى مكّة فدفن ، فلمّا قدمت عائشة رضي الله تعالى عنها أتت قبره ، ثمّ قالت : واللّه لو حضرتك ما دفنت إلاّ حيث متّ ، ولو شهدتك ما زرتك » .
ولأنّ ذلك أخفّ لمؤنته ، وأسلم له من التّغيير ، وأمّا إن كان فيه غرض صحيح جاز .
قال الشّافعيّ رحمه الله : لا أحبّه إلاّ أن يكون بقرب مكّة ، أو المدينة ، أو بيت المقدس . فيختار أن ينقل إليها لفضل الدّفن فيها ، وقال بعض الشّافعيّة : يكره نقله ، وقال صاحب " التّتمّة " وآخرون : يحرم نقله .
وأمّا المالكيّة فيجوز عندهم نقل الميّت قبل الدّفن وكذا بعده من مكان إلى آخر بشروطٍ هي : - أن لا ينفجر حال نقله
- أن لا تنتهك حرمته
- وأن يكون لمصلحةٍ : كأن يخاف عليه أن يأكله البحر ، أو تُرجى بركة الموضع المنقول إليه ، أو ليدفن بين أهله ، أو لأجل قرب زيارة أهله ، أو دفن من أسلم بمقبرة الكفّار ، فيتدارك بإخراجه منها ، ودفنه في مقبرة المسلمين .
فإن تخلّف شرط من هذه الشّروط الثّلاثة كان النّقل حراماً .
واتّفق الأئمّة على أنّ الشّهيد يستحبّ دفنه حيث قتل . لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحدٍ أن يردّوا إلى مصارعهم » . وأنّه ينزع عنه الحديد والسّلاح ، ويترك عليه خفّاه ، وقلنسوته ; لما روي عن ابن عبّاسٍ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحدٍ أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم » .
ودفن الشّهيد بثيابه حتم عند الحنفيّة والمالكيّة عملاً بظاهر الحديث ، وأولى عند الشّافعيّة والحنابلة . فللوليّ أن ينزع عنه ثيابه ، ويكفّنه بغيرها .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( شهيد ، وتكفين ) .
وصرّح الشّافعيّة بأنّ الكافر إن مات في الحجاز ، وشقّ نقله منه لتقطّعه ، أو بُعد المسافة من غير الحجاز أو نحو ذلك دفن ثَمَّ ، أمّا الحربيّ فلا يجب دفنه ، وفي وجهٍ لا يجوز ، فإن دفن فيترك .
وأمّا في حرم مكّة فينقل منه ولو دفن ، لأنّ المحلّ غير قابلٍ لذلك ، وإن كان بإذنٍ من الإمام، لأنّ إذن الإمام لا يؤثّر في ذلك . ولأنّ بقاء جيفته فيه أشدّ من دخوله حيّاً إلاّ إذا تهرّى وتقطّع بعد دفنه ترك . وليس حرم المدينة كحرم مكّة فيما ذكر لاختصاص حرم مكّة بالنّسك .
دفن الأقارب في مقبرةٍ واحدةٍ :(/1)
5 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يجوز جمع الأقارب في الدّفن في مقبرةٍ واحدةٍ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا دفن عثمان بن مظعونٍ : « أدفن إليه من مات من أهلي » .
ولأنّ ذلك أسهل لزيارتهم وأكثر للتّرحّم عليهم ، ويسنّ تقديم الأب ، ثمّ من يليه في السّنّ والفضيلة إن أمكن .
الأحقّ بالدّفن :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأولى بدفن المرأة محارمها الرّجال الأقرب فالأقرب وهم الّذين كان يحلّ لهم النّظر إليها في حياتها ولها السّفر معهم ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قام عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين توفّيت زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها ، فقال : ألا إنّي أرسلت إلى النّسوة من يدخلها قبرها ، فأرسلن : من كان يحلّ له الدّخول عليها في حياتها ، فرأيت أن قد صدقن .
ولأنّ امرأة عمر رضي الله تعالى عنهما لمّا توفّيت قال لأهلها :أنتم أحقّ بها .
ولأنّهم أولى النّاس بولايتها حال الحياة ، فكذا بعد الموت ، ثمّ زوجها ، لأنّه أشبه بمحرمها من النّسب من الأجانب ، ولو لم يكن فيهم ذو رحمٍ فلا بأس للأجانب وضعها في قبرها ، ولا يحتاج إلى إحضار النّساء للدّفن ، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين ماتت ابنته أمر أبا طلحة ، فنزل في قبر ابنته » . وهو أجنبيّ ، ومعلوم أنّ محارمها كنّ هناك ، كأختها فاطمة ولأنّ تولّي النّساء ، لذلك لو كان مشروعاً لفعل في عصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعصر خلفائه ، ولم ينقل . ثمّ يقدّم خصيّ ، ثمّ شيخٌ ، ثمّ أفضل ديناً ومعرفةً . فإن لم يكن ، فقد روي عن أحمد أنّه قال : إنّه أحبّ إليّ أن يدخلها النّساء ، لأنّه مباح لهنّ النّظر إليها وهنّ أحقّ بغسلها ، القربى فالقربى كالرّجال .
واستثنى الشّافعيّة الزّوج ، فإنّه أحقّ من غيره ، لأنّ منظوره أكثر .
ونصّ المالكيّة بأنّ الميّت إن كان رجلاً فيضعه في قبره الرّجال ، وإن كانت امرأةً فيتولّى ذلك زوجها من أسفلها ومحارمها من أعلاها ، فإن لم يكن فصالحوا المؤمنين ، فإن وجد من النّساء من يتولّى ذلك فهو أولى من الأجانب .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّ الأولى بدفن الرّجال أولاهم بغسله والصّلاة عليه ، فلا ينزل القبر إلاّ الرّجال متى وجدوا ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحده العبّاس وعليّ وأسامة رضي الله عنهم » ، وهم الّذين كانوا تولّوا غسله ، ولأنّ المقدّم بغسله أقرب إلى ستر أحواله ، وقلّة الاطّلاع عليه ، ثمّ أقرب العصبة ، ثمّ ذوو أرحامه الأقرب فالأقرب ، ثمّ الرّجال الأجانب ، ثمّ من محارمه من النّساء ، ثمّ الأجنبيّات ، للحاجة إلى دفنه وعدم غيرهنّ .
أمّا دفن القاتل للمقتول : فقد صرّح الحنابلة بأنّه لا حقّ له في دفنه ، لمبالغته في قطيعة الرّحم .
دفن المسلم للكافر :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجوز للمسلم أن يدفن كافراً ولو قريباً إلاّ لضرورةٍ ، بأن لا يجد من يواريه غيره فيواريه وجوباً . « لأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أخبر بموت أبي طالبٍ قال لعليٍّ رضي الله عنه : اذهب فواره » وكذلك قتلى بدرٍ أُلقوا في القليب ، أو لأنّه يتضرّر بتركه ويتغيّر ببقائه . ولا يستقبل به قبلتنا لأنّه ليس من أهلها ، ولا قبلتهم لعدم اعتبارها ، فلا يقصد جهةً مخصوصةً ، بل يكون دفنه من غير مراعاة السّنّة .
وكذلك لا يُترك ميّت مسلم لوليّه الكافر فيما يتعلّق بتجهيزه ودفنه ، إذ لا يؤمن عليه من دفنه في مقبرة الكفّار واستقباله قبلتهم ، وغير ذلك .
كيفيّة الدّفن :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ أن يدخل الميّت من قِبل القبلة بأن يوضع من جهتها ، ثمّ يحمل فيلحد ، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الأخذ .
وروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه . وقال النّخعيّ : حدّثني من رأى أهل المدينة في الزّمن الأوّل يدخلون موتاهم من قبل القبلة ، وأنّ السّلّ شيء أحدثه أهل المدينة .
وقال المالكيّة : إنّه لا بأس أن يدخل الميّت في قبره من أيّ ناحيةٍ كان والقبلة أولى .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه يستحبّ السّلّ ، بأن يوضع الميّت عند آخر القبر ثمّ يسلّ من قبل رأسه منحدراً .
وروي ذلك عن ابن عمر وأنسٍ ، وعبد اللّه بن يزيد الأنصاريّ ، والشّعبيّ .
واستدلّوا بما روي عن ابن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّ من قبل رأسه سلاً » .
والخلاف بين الفقهاء هنا خلافٌ في الأولى ، وعلى هذا فإن كان الأسهل عليهم أخذه من القبلة أو من رأس القبر فلا حرج ، لأنّ استحباب أخذه من أسفل القبر إنّما كان طلباً للسّهولة عليهم والرّفق بهم ، فإن كان الأسهل غيره كان مستحبّاً ، قال أحمد رحمه الله : كلّ لا بأس به .
ثمّ يوضع على شقّه الأيمن متوجّهاً إلى القبلة ، ويقول واضعه : بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه ، لما ورد عن عبد اللّه بن عمر « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميّت في القبر ، قال مرّةً : بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه . وقال مرّةً : بسم اللّه وباللّه وعلى سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم »
ومعنى بسم اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه : بسم اللّه وضعناك ،وعلى ملّة رسول اللّه سلّمناك.
وقال الماتريديّ : هذا ليس دعاءً للميّت ، لأنّه إن مات على ملّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يبدّل حاله ، وإن مات على غير ذلك لم يبدّل أيضاً ، ولكنّ المؤمنين شهداء اللّه في أرضه ، فيشهدون بوفاة الميّت على الملّة ، وعلى هذا جرت السّنّة .
وفيها أقوال أخرى ذكرت في كتب الفقه .(/2)
ثمّ تحلّ عقد الكفن للاستغناء عنها ، ويسوّى اللّبن على اللّحد ، وتسدّ الفرج بالمدر والقصب أو غير ذلك كي لا ينزل التّراب منها على الميّت ، ويكره وضع الآجُرّ المطبوخ إلاّ إذا كانت الأرض رخوةً ، لأنّها تستعمل للزّينة ، ولا حاجة للميّت إليها ، ولأنّه ممّا مسّته النّار .
قال مشايخ بخارى : لا يكره الآجُرّ في بلادنا للحاجة إليه لضعف الأراضي ، وكذلك الخشب .
ويستحبّ حثيه من قبل رأسه ثلاثاً : لما روي عن أبي هريرة : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى على جنازةٍ ، ثمّ أتى القبر فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثاً » .
ويقول في الحثية الأولى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } ، وفي الثّانية : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } ، وفي الثّالثة : { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } .
وقيل : يقول في الأولى : اللّهمّ جاف الأرض عن جنبيه ، وفي الثّانية : اللّهمّ افتح أبواب السّماء لروحه ، وفي الثّالثة : اللّهمّ زوّجه من الحور العين ، وللمرأة : اللّهمّ أدخلها الجنّة برحمتك . ثمّ يهال التّراب عليه ، وتكره الزّيادة عليه ، لأنّه بمنزلة البناء .
ويحرم أن يوضع تحت الميّت عند الدّفن مخدّة أو حصير أو نحو ذلك ، لأنّه إتلاف مالٍ بلا ضرورةٍ ، بل المطلوب كشف خدّه ، والإفضاء إلى التّراب استكانةً وتواضعاً ، ورجاءً لرحمة اللّه . وما روي « أنّه جعل في قبره صلى الله عليه وسلم قطيفةً » ، قيل : لأنّ المدينة سبخة، وقيل : إنّ العبّاس وعليّاً رضي الله عنهما تنازعا فبسطها شقران تحته لقطع التّنازع. وقيل : كان عليه الصلاة والسلام يلبسها ويفترشها ، فقال شقران : واللّه لا يلبسك أحد بعده أبداً فألقاها في القبر ، ولكنّه لم يشتهر ليكون إجماعاً منهم ، بل ثبت عن غيره خلافه كما رواه التّرمذيّ أنّ ابن عبّاسٍ كره أن يلقى تحت الميّت شيء عند الدّفن .
وعن أبي موسى قال : " لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً " .
ولا تعيين في عدد من يدخل القبر عند جمهور الفقهاء ، فعلى هذا يكون عددهم على حسب حال الميّت ، وحاجته ، وما هو أسهل في أمره .
وذهب الشّافعيّة ، وهو قول القاضي من الحنابلة ، إلى أنّه يستحبّ أن يكون وتراً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألحده ثلاثة .
ولو مات أقارب الشّخص دفعةً واحدةً ، وأمكنه دفن كلّ واحدٍ في قبرٍ ، بدأ بمن يخشى تغيّره، ثمّ الّذي يليه في التّغيير ، فإن لم يخش تغيّر بدأ بأبيه ، ثمّ أمّه ، ثمّ الأقرب فالأقرب ، فإن كانا أخوين فأكبرهما ، وإن كانتا زوجتين أقرع بينهما .
أقلّ ما يجزئ في الدّفن :
9 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّ أقلّ ما يجزئ في الدّفن حفرة تكتم رائحة الميّت ، وتحرسه عن السّباع ، لعسر نبش مثلها غالباً ، وقدّر الأقلّ بنصف القامة ، والأكثر بالقامة ، ويندب عدم تعميقه أكثر من ذلك ، وصرّح المالكيّة بأنّه لا حدّ لأكثره وإن كان النّدب عدم عمقه . ويجوز الدّفن في الشّقّ واللّحد ، فاللّحد : أن يحفر حائط القبر مائلاً عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميّت من جهة القبلة . والشّقّ : أن يحفر وسطه كالنّهر ، ويسقّف .
فإن كانت الأرض صلبةً فاللّحد أفضل ، وإلاّ فالشّقّ ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قبر ) .
تغطية القبر حين الدّفن :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ تغطية قبر المرأة حين الدّفن لأنّها عورة ، ولأنّه لا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون ، وبناء أمرها على السّتر ، والخنثى في ذلك كالأنثى احتياطاً .
واختلفوا في تغطية قبر الرّجل ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره تغطية قبر الرّجل إلاّ لعذرٍ من مطرٍ وغيره ، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه ، أنّه مرّ بقومٍ وقد دفنوا ميّتاً ، وقد بسطوا على قبره الثّوب ، فجذبه وقال : إنّما يصنع هذا بالنّساء ، مع ما فيه من اتّباع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ويرى الشّافعيّة في المذهب أنّه يستحبّ ذلك ، سواء كان رجلاً أو امرأةً ، والمرأة آكد .
لأنّه ربّما ينكشف عند الاضطجاع وحلّ الشّداد ، فيظهر ما يستحبّ إخفاؤه .
اتّخاذ التّابوت :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يكره الدّفن في التّابوت إلاّ عند الحاجة كرخاوة الأرض ، وذلك ، لأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضوان اللّه تعالى عليهم ، وفيه تشبّه بأهل الدّنيا ، والأرض أنشف لفضلاته . ولأنّ فيه إضاعة المال .
وفرّق الحنفيّة بين الرّجل والمرأة ، فقالوا : لا بأس باتّخاذ التّابوت لها مطلقاً ، لأنّه أقرب إلى السّتر ، والتّحرّز عن مسّها عند الوضع في القبر .
الدّفن ليلاً وفي الأوقات المكروهة :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو المذهب لدى الحنابلة إلى أنّه لا يكره الدّفن ليلاً ، لأنّ أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه دفن ليلاً ، وعليّ دفن فاطمة رضي الله تعالى عنها ليلاً ، وممّن دفن ليلاً عثمان بن عفّان ، وعائشة ، وابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنهم . ورخّص فيه عقبة بن عامرٍ ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء ، والثّوريّ ، وإسحاق ، ولكنّه يستحبّ أن يكون نهاراً إن أمكن ، لأنّه أسهل على متّبعي الجنازة ، وأكثر للمصلّين عليها ، وأمكن لاتّباع السّنّة في دفنه .
وكرهه أحمد في روايةٍ ، والحسن ، لما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ، فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفّن في كفنٍ غير طائلٍ ، وقبر ليلاً ، فزجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أن يقبر الرّجل باللّيل إلاّ أن يضطرّ إنسان إلى ذلك » .(/3)
أمّا الدّفن في الأوقات المكروهة فصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه يكره الدّفن عند طلوع الشّمس ، وعند غروبها ، وعند قيامها ، لقول عقبة بن عامرٍ الجهنيّ : « ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة ، وحين تضيّف الشّمس للغروب حتّى تغرب » .
ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يكره الدّفن في الأوقات الّتي نهي عن الصّلاة فيها ، وإن كان الدّفن في غيرها أفضل .
الدّفن قبل الصّلاة عليه ومن غير غسلٍ وبلا كفنٍ :
13 - إن دفن الميّت من غير غسلٍ ، فذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة"
إلى أنّه ينبش ويغسّل ، إلاّ أن يخاف عليه أن يتفسّخ ، فيترك ، وبه قال أبو ثورٍ .
وقال الحنفيّة وهو قول لدى الشّافعيّة : إنّه لا ينبش ، لأنّ النّبش مثلة وقد نهي عنها . وتفصيل ذلك في ( نبش ) .
أمّا إن دفن قبل الصّلاة عليه ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن الحنابلة اختارها القاضي أنّه يصلّى على القبر ولا ينبش ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على قبر المسكينة ، ولم ينبشها » .
ويرى المالكيّة ، وهو رواية عن أحمد أنّه ينبش ويصلّى عليه ، لأنّه دفن قبل واجبٍ فينبش ، كما لو دفن من غير غسلٍ ، وهذا إذا لم يتغيّر ، أمّا إنّ تغيّر فلا ينبش بحالٍ .
وإن دفن بغير كفنٍ ، فالأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه عند الحنابلة ، أنّه يترك اكتفاءً بستر القبر ، وحفظاً ، لحرمته ، ولأنّ القصد بالكفن السّتر وقد حصل .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه آخر عند الحنابلة ينبش ، ثمّ يكفّن ، ثمّ يدفن ، لأنّ التّكفين واجب فأشبه الغسل . وتفصيل ذلك في ( كفن ) .
دفن أكثر من واحدٍ في قبرٍ واحدٍ :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يدفن أكثر من واحدٍ في قبرٍ واحدٍ إلاّ لضرورةٍ كضيق مكان ، أو تعذّر حافرٍ ، أو تربةٍ أخرى ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدفن كلّ ميّتٍ في قبرٍ واحدٍ » . وعلى هذا فعل الصّحابة ومن بعدهم .
فإذا دفن جماعة في قبرٍ واحدٍ : قدّم الأفضل منهم إلى القبلة ، ثمّ الّذي يليه في الفضيلة على حسب تقديمهم إلى الإمامة في الصّلاة ، لما روى هشام بن عامرٍ قال : « شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ فقلنا : يا رسول اللّه : الحفر علينا ، لكلّ إنسانٍ شديد . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : احفروا وأعمقوا ، وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثّلاثة في قبرٍ واحدٍ ، قالوا : فمن نقدّم يا رسول اللّه ؟ قال : قدّموا أكثرهم قرآناً » .
ثمّ إن شاء سوّى بين رءوسهم ، إن شاء حفر قبراً طويلاً ، وجعل رأس كلّ واحدٍ من الموتى عند رجل الآخر ، وبهذا صرّح أحمد .
ويجعل بين ميّتٍ وآخر حاجز من ترابٍ ويقدّم الأب على الابن ، إن كان أفضل منه ، لحرمة الأبوّة ، وكذا تقدّم الأمّ على البنت .
ولا يجمع بين النّساء والرّجال إلاّ عند تأكّد الضّرورة ، ويقدّم الرّجل وإن كان ابناً .
فإن اجتمع رجل وامرأة وخنثى وصبيّ ، قدّم الرّجل ، ثمّ الصّبيّ ، ثمّ الخنثى ، ثمّ المرأة . ولذلك فيكره الدّفن في الفساقي ، وهي كبيتٍ معقودٍ بالبناء يسع لجماعةٍ قياماً ، لمخالفتها السّنّة ، والكراهة فيها من وجوهٍ وهي :
عدم اللّحد ، ودفن الجماعة في قبرٍ واحدٍ بلا ضرورةٍ ، واختلاط الرّجال بالنّساء بلا حاجزٍ ، وتجصيصها والبناء عليها ، وخصوصاً إذا كان فيها ميّت لم يبل ، وما يفعله جهلة الحفّارين من نبش القبور الّتي لم تبل أربابها ، وإدخال أجانب عليهم ، فهو من المنكر الظّاهر ، وليس من الضّرورة المبيحة لدفن ميّتين فأكثر في قبرٍ واحدٍ .
ويرى بعض الفقهاء أنّه يكره ذلك حتّى إذا صار الميّت تراباً ، لأنّ الحرمة باقية .
دفن أجزاء الميّت بعد دفنه :
15 - إذا وجدت أطراف ميّتٍ ، أو بعض بدنه لم يغسّل ، ولم يصلّ عليه عند الحنفيّة ، بل يدفن .
ويرى الشّافعيّة أنّه لو وجد عضو مسلمٍ علم موته يجب مواراته بخرقةٍ ودفنه ، ولو لم يعلم موت صاحب العضو لم يصلّ عليه ، لكن يندب دفنه ، ويجب في دفن الجزء ما يجب في دفن الجملة .
أمّا الحنابلة فقالوا : إن وجد جزء الميّت بعد دفنه غسّل ، وصلّي عليه ، ودفن إلى جانب القبر ، أو نبش بعض القبر ودفن فيه ، ولا حاجة إلى كشف الميّت ، لأنّ ضرر نبش الميّت وكشفه أعظم من الضّرر بتفرقة أجزائه .
دفن المسلم في مقابر المشركين وعكسه :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم دفن مسلمٍ في مقبرة الكفّار وعكسه إلاّ لضرورةٍ .
أمّا لو جعلت مقبرة الكفّار المندرسة مقبرةً للمسلمين بعد نقل عظامها إن كانت جاز ، كجعلها مسجداً ، لعدم احترامهم . والدّفن في غير مقبرة الكفّار المندرسة أولى إن أمكن ، تباعداً عن مواضع العذاب . ولا يجوز العكس ، بأن تجعل مقبرة المسلمين المندرسة مقبرةً للكفّار ، ولا نقل عظام المسلمين ، لتدفن في موضعٍ آخر ، لاحترامها .
أمّا المرتدّ فقد ذكر الإسنويّ نقلاً عن الماورديّ أنّه لا يدفن في مقابر المسلمين لخروجه بالرّدّة عنهم ، ولا في مقابر المشركين ، لما تقدّم له من حرمة الإسلام .
وأمّا من قتل حدّاً فيدفن في مقابر المسلمين ، وكذلك تارك الصّلاة .
دفن كافرةٍ حاملٍ من مسلمٍ :
17 - اختلف الفقهاء في دفن كافرةٍ حاملٍ من مسلمٍ على أقوالٍ :
فذهب الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، والمذهب لدى الحنابلة إلى أنّ الأحوط دفنها على حدةٍ ، ويجعل ظهرها إلى القبلة ، لأنّ وجه الولد لظهرها .(/4)
واستدلّ الحنابلة ، لذلك بأنّها كافرة ، فلا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذّوا بعذابها ، ولا في مقبرة الكفّار ، لأنّ ولدها مسلم ، في تأذّى بعذابهم ، وتدفن منفردةً ، وقد روي مثله عن واثلة بن الأسقع .
وفي قولٍ آخر للشّافعيّة : إنّها تدفن في مقابر المسلمين ، وتنزّل منزلة صندوق الولد ،وقيل: في مقابر الكفّار ، وهناك وجه رابع قطع به صاحب " التّتمّة " بأنّها تدفن على طرف مقابر المسلمين ، وحكي عن الشّافعيّ : أنّها تدفع إلى أهل دينها ، ليتولّوا غسلها ودفنها .
واختلف الصّحابة في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ : قال بعضهم : تدفن في مقابرنا ترجيحاً لجانب الولد ، وقال بعضهم : تدفن في مقابر المشركين ، لأنّ الولد في حكم جزءٍ منها ما دام في بطنها ، وقال واثلة بن الأسقع : يتّخذ لها مقبرة على حدةٍ ، وهو ما أخذ به الجمهور كما سبق ، وهو الأحوط ، كما ذكره ابن عابدين نقلاً عن الحلية .
والظّاهر كما أفصح به بعضهم : أنّ المسألة مصوّرة فيما إذا نفخ فيه الرّوح وإلاّ دفنت في مقابر المشركين .
الجلوس بعد الدّفن :
18 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يستحبّ أن يجلس المشيّعون للميّت بعد دفنه ، لدعاءٍ وقراءةٍ بقدر ما ينحر الجزور ، ويفرّق لحمه ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه ، فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت ، فإنّه الآن يسأل » . وكان ابن عمر رضي الله عنهما يستحبّ أن يقرأ على القبر بعد الدّفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها ، ولما روي أنّ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لمّا حضرته الوفاة قال : اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم ، فإنّي أستأنس بكم .
أجرة الدّفن :
19 - ذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة " إلى أنّه يجوز أخذ الأجرة على الدّفن ، ولكن الأفضل أن يكون مجّاناً ، وتدفع من مجموع التّركة ، وتقدّم على ما تعلّق بذمّة الميّت من دينٍ . ويرى الحنابلة أنّه يكره أخذ الأجرة على الدّفن ، لأنّه يذهب بالأجر .
دفن السّقط :
20 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّ السّقط إذا استبان بعض خلقه يجب أن يدرج في خرقةٍ ويدفن .
دفن الشّعر والأظافر والدّم :
21 - صرّح جمهور الفقهاء بأنّه يستحبّ أن يدفن ما يزيله الشّخص من ظفرٍ وشعرٍ ودمٍ ، لما روي عن ميل بنت مشرحٍ الأشعريّة ، قالت : « رأيت أبي يقلّم أظفاره ، ويدفنه ويقول : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك » .
وعن ابن جريح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كان يعجبه دفن الدّم » .
وقال أحمد : كان ابن عمر يفعله . وكذلك تدفن العلقة والمضغة الّتي تلقيها المرأة .
دفن المصحف :
22 - صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّ المصحف إذا صار بحالٍ لا يقرأ فيه ، يدفن كالمسلم ، فيجعل في خرقةٍ طاهرةٍ ، ويدفن في محلٍّ غير ممتهنٍ لا يوطأ ، وفي الذّخيرة : وينبغي أن يلحد له ولا يشقّ له ، لأنّه يحتاج إلى إهالة التّراب عليه ، وفي ذلك نوع تحقيرٍ إلاّ إذا جعل فوقه سقفاً بحيث لا يصل التّراب إليه فهو حسن أيضاً . ذكر أحمد أنّ أبا الجوزاء بلي له مصحف ، فحفر له في مسجده ، فدفنه . ولما روي أنّ عثمان بن عفّان دفن المصاحف بين القبر والمنبر . أمّا غيره من الكتب فالأحسن كذلك أن تدفن .
القتل بالدّفن :
23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مقتضى قواعد المالكيّة ومحمّد من الحنفيّة ، إلى أنّ من دفن حيّاً فمات أنّه يجب فيه القصاص . ويرى الحنفيّة ما عدا محمّدًا أنّ فيه الدّية .(/5)
دم *
التّعريف :
1 - الدّم بالتّخفيف ، هو ذلك السّائل الأحمر الّذي يجري في عروق الحيوانات ، وعليه تقوم الحياة . واستعمله الفقهاء بهذا المعنى ، وكذلك عبّروا به عن القصاص والهدي في قولهم : مستحقّ الدّم " يعني وليّ القصاص " وقولهم : يلزمه دم . كما أطلقوه على ما تراه المرأة في الحيض ، والاستحاضة ، والنّفاس أيضاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصّديد :
2 - صديد الجرح : ماؤه الرّقيق المختلط بالدّم . وقيل : هو القيح المختلط بالدّم ، والصّديد في القرآن الكريم : معناه : ما يسيل من جلود أهل النّار من الدّم والقيح ، كما قال أبو إسحاق في تفسير قوله تعالى { وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ } .
ب - القيح :
3 - القيح : المدّة الخالصة لا يخالطها دم .
وقيل : هو الصّديد الّذي كأنّه الماء ، وفيه شكلة دمٍ .
الحكم الإجماليّ :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد حمل المطلق في سورة البقرة على المقيّد في سورة الأنعام ، في : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } .
واختلفوا في يسيره على أقوالٍ . كما اختلفوا في تعريف اليسير .
وتفصيل ذلك في كتب الفقه . ور : مصطلح : ( أطعمة ، ووضوء ، ونجاسة ) .
مواطن البحث :
5 - تتعلّق بالدّم أمور كثيرة بحثها الفقهاء في مواضعها :
فمسألة نقض الوضوء بخروج الدّم تطرّق إليه الفقهاء في الوضوء عند الحديث عن نواقض الوضوء ، وكونه نجسًا تجب إزالته عن بدن المصلّي وثوبه ومكانه بحث في باب النّجاسات عند الكلام عن إزالة النّجاسات . وفي باب الصّلاة عند الحديث عن شروط صحّتها ، واعتباره حيضاً أو استحاضةً أو نفاساً ، فصّل الكلام عليه في أبواب الحيض والاستحاضة والنّفاس . وكونه من مفسدات الصّوم في باب الصّوم عند الحديث عن المفطرات .
وانظر في الموسوعة المصطلحات الآتية : ( حدث ، ونجاسة ، وطهارة ، وحيض ، واستحاضة ، ونفاس ، وحجامة ) .
وكونه بمعنى الهدي الّذي يترتّب على ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام قد بحث في الحجّ عند الكلام عن محظورات الإحرام ، ووجوب الهدي في التّمتّع ، والقران ، والإحصار وانظر مصطلح : ( إحرام ، وإحصار ، وهدي ، وقران ) .
وكونه ممّا يحرم أكله أو يحلّ في الأطعمة .
كما تطرّق إليه الفقهاء في الذّكاة ، والعقيقة ، والقصاص ، وغير ذلك .
دنانير *
التّعريف :
1 - الدّنانير جمع دينارٍ ، وهو فارسيّ معرّب .
والدّينار اسم القطعة من الذّهب المضروبة المقدّرة بالمثقال ، ويرادف الدّينار المثقال في عرف الفقهاء ، فيقولون : نصاب الذّهب عشرون مثقالاً ، ونقل ابن عابدين عن الفتح : أنّ المثقال اسم للمقدار المقدّر به ، والدّينار اسم للمقدّر به بقيد كونه ذهباً .
والدّنانير أصلاً من ضرب الأعاجم . وكان وزنه عشرين قيراطاً على ما ذكره البلاذريّ وابن خلدونٍ والماورديّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّراهم :
2 - الدّراهم جمع درهمٍ وهو فارسيّ معرّب ، وهو نوع من النّقد ضرب من الفضّة . انظر : ( دراهم ) .
ب - النّقد
3 - النّقد ما ضرب من الدّراهم والدّنانير والفلوس وهو أعمّ من الدّينار .
ج - الفلوس :
4 - الفلوس ما ضرب من المعادن من غير الذّهب والفضّة .
د - سكّة :
5 - السّكّة ما يضرب بها النّقد .
تعامل العرب بالدّينار وموقف الإسلام منه :
6 - ذكر البلاذريّ في رواية عبد اللّه بن ثعلبة بن صعيرٍ أنّ دنانير هرقل كانت ترد على أهل مكّة في الجاهليّة ، وكانوا لا يتبايعون بها إلاّ على أنّها تبر ، وكان المثقال عندهم معروف الوزن ، وزنه اثنان وعشرون قيراطاً إلاّ كسراً ، « وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقرّ أهل مكّة على هذا الوزن » . وأقرّه أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ ومعاوية .
ونقل النّوويّ عن أبي سليمان الخطّابيّ أنّ عبد الملك بن مروان لمّا أراد ضرب الدّنانير ، سأل عن أوزان الجاهليّة ، فأجمعوا له على أنّ المثقال اثنان وعشرون قيراطاً إلاّ حبّةً بالشّاميّ فضربها كذلك .
الدّينار الشّرعيّ :
7 - الدّينار الّذي ضربه عبد الملك بن مروان هو الدّينار الشّرعيّ ، لمطابقته للأوزان المكّيّة الّتي أقرّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والصّحابة . ووزنه كما ذكرت الرّوايات اثنان وعشرون قيراطاً إلاّ حبّةً بالشّاميّ ، وهو أيضاً بزنة اثنتين وسبعين حبّة شعيرٍ من حبّات الشّعير المتوسّطة الّتي لم تقشّر وقد قطع من طرفيها ما امتدّ .
وقال ابن خلدونٍ : الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصّحابة والتّابعين أنّ الدّرهم الشّرعيّ : هو الّذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذّهب ، وهو على هذا سبعة أعشار الدّينار ، ووزن المثقال من الذّهب اثنتان وسبعون حبّةً من الشّعير .
وبهذا قال جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " .
وخالفهم في ذلك الحنيفة فهو عندهم مائة شعيرةٍ . والظّاهر أنّ منشأ هذا الاختلاف هو في تقدير القيراط . فقد ذكر ابن عابدين أنّ وزن المثقال عشرون قيراطاً ، وأنّ القيراط خمس شعيراتٍ ، فالمثقال مائة شعيرةٍ .
وممّا يؤيّد هذا هو ما ذكره المالكيّة من أنّ المثقال أربعة وعشرون قيراطاً ، وأنّ القيراط ثلاث حبّاتٍ من متوسّط الشّعير ، فيكون وزن المثقال اثنتين وسبعين حبّةً .
وقد ذكر ابن عابدين أنّ المذكور في كتب الشّافعيّة والحنابلة أنّ المثقال اثنتان وسبعون شعيرةً معتدلةً لم تقشّر وقطع من طرفيها ما دقّ وطال ، وهو لم يتغيّر جاهليّةً ولا إسلاماً . ثمّ قال وقد ذكرت أقوال كثيرة في تحديد القيراط .
تقدير الدّينار الشّرعيّ في العصر الحاضر :(/1)
8 - تبيّن ممّا سبق أنّ الدّينار الّذي ضربه عبد الملك بن مروان هو الدّينار الشّرعيّ ، لمطابقته لأوزان العرب في الجاهليّة وهي الأوزان الّتي أقرّها النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة ، وأنّ السّلف الصّالح رأوا دينار عبد الملك وأقرّوه ولم ينكروه ، وتبايعوا به . إلاّ أنّ السّكك اختلفت بعد ذلك ، يقول ابن خلدونٍ : وقع اختيار أهل السّكّة في الدّول على مخالفة المقدار الشّرعيّ في الدّينار والدّرهم ، واختلفت في كلّ الأقطار والآفاق .
لذلك كان السّبيل الوحيد لتقدير الدّينار الشّرعيّ هو معرفة الدّينار الّذي ضرب في عهد عبد الملك بن مروان .
وقد توصّل إلى ذلك بعض الباحثين ، عن طريق الدّنانير المحفوظة في دور الآثار الغربيّة وثبت أنّ دينار عبد الملك بن مروان يزن "25 /4 " أربعة جراماتٍ وخمسةً وعشرين من المائة من الجرام " من الذّهب . وبذلك يكون هذا الوزن هو الأساس في تقدير الحقوق الشّرعيّة من زكاةٍ ودياتٍ وغير ذلك .
تقدير بعض الحقوق الشّرعيّة بالدّينار :
حدّد الإسلام مقادير معيّنةً بالدّينار في بعض الحقوق الشّرعيّة ومن ذلك :
أ - الزّكاة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نصاب الذّهب الّذي يجب فيه الزّكاة عشرون ديناراً ، فإذا تمّت ففيها ربع العشر ، لما ورد عن عمر وعائشة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كلّ عشرين ديناراً فصاعداً نصف دينارٍ ومن الأربعين ديناراً » . وروى سعيد والأثرم عن عليٍّ : في كلّ أربعين دينارًا دينار وفي كلّ عشرين ديناراً نصف دينارٍ .
هذا مع الاختلاف هل لا بدّ أن تكون قيمتها مائتي درهمٍ أو أنّ الزّكاة تجب من غير اعتبار قيمتها بالدّراهم . وينظر تفصيل ذلك وغيره في مصطلح : ( زكاة ) .
ب - الدّية :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّية إن كانت من الذّهب فإنّها تقدّر بألف مثقالٍ ، وذلك لما روى عمرو بن حزمٍ في كتابه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وأنّ في النّفس المؤمنة مائةً من الإبل وعلى أهل الذّمّة ألف دينارٍ » .
وهذا بالنّسبة للرّجل الحرّ المسلم . وينظر التّفصيل في : ( ديات ) .
ج - السّرقة :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ النّصاب الّذي يقطع به السّارق بالنّسبة ، للذّهب ربع دينارٍ ، أو ما قيمته ربع دينارٍ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تقطع يد السّارق إلاّ في ربع دينارٍ فصاعداً » . وإجماع الصّحابة على ذلك .
أمّا عند الحنفيّة فنصاب السّرقة دينار أو عشرة دراهم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« لا تقطع اليد إلاّ في دينارٍ أو في عشرة دراهم » .
وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في : ( سرقة ) .
ما يتعلّق بالدّنانير من أحكامٍ :
12 - يتعلّق بالدّنانير بعض الأحكام الشّرعيّة من حيث حكم كسرها وقطعها ، واتّخاذها حليةً، وكذلك حكم مسّ المحدث الدّنانير الّتي عليها شيء من القرآن ، أو حملها حين دخول الخلاء . وقد ذكرت هذه الأحكام في مصطلح دراهم ، وهي نفس الأحكام الّتي تتعلّق بالدّنانير ، فتنظر في : ( دراهم ، ف /7 ، 9 ، 10 ) .
أمّا ما يتعلّق بها من حيث الحكم في إجارتها ، أو رهنها ، أو وقفها ، أو غير ذلك فتنظر في أبوابها ومصطلحاتها .(/2)
دهن *
التّعريف :
1 - الدُّهن - بالضّمّ - ما يدهن به من زيتٍ وغيره وجمعه دِهان بالكسر ، ولا يخرج استعمال الفقهاء ، لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّمن :
2 - السّمن : ما يكون من الحيوان . والدّهن أعمّ من السّمن .
ب - الشّحم :
3 - الشّحم : ما يذوب من الحيوان بالنّار . وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فكلّ شحمٍ دهن ، وليس كلّ دهنٍ شحماً .
الأحكام المتعلّقة بالدّهن :
تطهير الدّهن المتنجّس :
4 - ذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة على الأصحّ وهو قول القاضي وابن عقيلٍ من الحنابلة ومحمّدٍ من الحنفيّة " إلى أنّ الدّهن المائع إذا تنجّس لا يقبل التّطهير ، لقوله صلى الله عليه وسلم « لمّا سئل عن الفأرة تموت في السّمن : إن كان جامداً فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه » وفي روايةٍ للخطّابيّ : « فأريقوه » .
فلو أمكن تطهيره شرعًا لم يقل فيه ذلك ، لما فيه من إضاعة المال ، ولبيّنه لهم ، وقياساً على الدّبس والخلّ وغيرهما من المائعات إذا تنجّست فإنّه لا طريق إلى تطهيرها بلا خلافٍ .
ويرى الشّافعيّة في وجهٍ ، وأبو يوسف من الحنفيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة أنّ الدّهن المتنجّس يطهر بالغسل ، وكيفيّة تطهيره أن يجعل الدّهن في إناءٍ ، ويصبّ عليه الماء ويكاثر به ، ويحرّك بخشبةٍ ونحوها تحريكاً يغلب على الظّنّ أنّه وصل إلى جميع أجزائه ، ثمّ يترك حتّى يعلو الدّهن ، فيؤخذ . أو ينقب أسفل الإناء حتّى يخرج الماء فيطهر الدّهن .
هذا ويشترط التّثليث لتطهير الدّهن عند الحنفيّة كما جاء في الفتاوى نقلاً عن الزّاهديّ . وقال في الفتاوى الخيريّة : ظاهر كلام الخلاصة عدم اشتراط التّثليث ، وهو مبنيّ على أنّ غلبة الظّنّ مجزئة عن التّثليث .
كما يرى صاحب الفتاوى الخيريّة أنّ شرط غليان الدّهن لتطهيره المذكور في بعض الكتب إنّما هو من زيادة النّاسخ ، أو يحمل على ما إذا جمد الدّهن بعد تنجّسه .
استعمال الدّهن للمحرم :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز للمحرم أن يدهن بدهنٍ فيه طيب ، لأنّه يتّخذ للطّيب وتقصد رائحته فكان طيبًا كماء الورد .
وأمّا ما لا طيب فيه ، فقد اختلف الفقهاء في استعماله للمحرم ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة حظر استعمال الدّهن للمحرم في رأسه ولحيته وعامّة بدنه ، لغير علّةٍ ، وإلاّ جاز .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأدهان المطيّبة كالزّيت ، والشّيرج ، والسّمن والزّبد ، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ، ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته واستدلّوا بما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ادّهن بزيتٍ غير مقتّتٍ أي غير مطيّبٍ وهو محرم » .
ويرى الحنابلة - على المعتمد عندهم - جواز الادّهان بدهنٍ غير مطيّبٍ في جميع البلدان . ولتفصيل ذلك انظر مصطلح : ( إحرام ف /73 ، ج /2 ، ص /159 ) .
بيع الدّهن المتنجّس :
6 - يرى جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " على المشهور والأصحّ من مذاهبهم عدم صحّة بيع الدّهن المتنجّس لأنّ أكله حرام بلا خلافٍ ، « فقد سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تموت في السّمن فقال : إن كان مائعاً فلا تقربوه » .
وإذا كان حرامًا لم يجز بيعه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه إذا حرّم على قومٍ أكل شيءٍ حرّم عليهم ثمنه » . ولأنّه نجس ، فلم يجز بيعه قياساً على شحم الميتة .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة - على مقابل المشهور عندهم - والشّافعيّة في وجهٍ إلى صحّة بيع الدّهن المتنجّس - وهو الّذي عرضت له النّجاسة - لأنّ تنجيسه بسقوط النّجاسة فيه لا يسقط ملك ربّه عنه ، ولا يذهب جملة المنافع منه ، ولا يجوز أن يتلف عليه فجاز له أن يبيعه ممّن يصرفه فيما كان له هو أن يصرفه فيه .
وروي عن الإمام أحمد جواز بيع الدّهن المتنجّس لكافرٍ يعلم نجاسته ، لأنّه قد روي عن أبي موسى : لتّوا به السّويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلمٍ وبيّنوه .
هذا وبعد أن نقل الدّسوقيّ الخلاف في المذهب المالكيّ حول جواز وعدم جواز بيع الزّيت المتنجّس قال : هذا في الزّيت على مذهب من لا يجيز غسله ، وأمّا على مذهب من يجيز غسله - وروي ذلك عن مالكٍ - فسبيله في البيع سبيل الثّوب المتنجّس .
أمّا الودك " دهن الميتة " فلا يجوز بيعه اتّفاقاً ، وكذا الانتفاع به لحديث البخاريّ « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، فقيل : يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنّه يطلى بها السّفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها النّاس ، قال : لا هو حرام » . وللتّفصيل : ر : بيع منهيّ عنه ( ف /11 ، ج /9 ، ص /150 ) .
الاستصباح بالدّهن المتنجّس :
7 - يرى جمهور الفقهاء جواز الاستصباح بالدّهن المتنجّس في غير المسجد ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرةٍ وقعت في سمنٍ فقال : إن كان جامداً فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعًا فاستصبحوا به ، أو فانتفعوا به » . ولجواز الانتفاع بالنّجاسة على وجهٍ لا تتعدّى . أمّا الاستصباح به في المسجد فلا يجوز لئلاّ يؤدّي إلى تنجيسه .
ويميل الإسنويّ إلى جواز الاستصباح بالدّهن المتنجّس في المسجد حيث قال : وإطلاقهم يقتضي الجواز ، وسببه قلّة الدّخان . وللتّفصيل ( ر : استصباح ومسجد ) .(/1)
ذات عرقٍ *
التّعريف :
1 - ذات عِرْقٍ بكسر العين المهملة وإسكان الرّاء بعدها قاف ، ميقات أهل العراق ومن يمرّ بها من أهل الآفاق ، وهي على مرحلتين من مكّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - يتّصل بذات عرقٍ ألفاظ وهي : جميع المواقيت المعروفة ، وإحرام .
وتفصيل ذلك في : ( إحرام ، وحجّ ، وميقات ) .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ ذات عرقٍ ميقات لأهل العراق ومن يمرّ به من أهل الآفاق. كما لا خلاف بينهم في أنّ الإحرام منها واجب على كلّ من مرّ بها من أهلها أو من غيرهم ، قاصدًا مكّة لأداء أحد النّسكين " الحجّ والعمرة " لقوله صلى الله عليه وسلم : « هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة » .
وأمّا من قصد مكّة لغير ذلك ففيه خلاف يرجع إليه في ( إحرام ) .
ولا خلاف بين الفقهاء أيضاً في أنّ المواقيت الأربعة وهي ذو الحليفة والجحفة ، وقرن المنازل ويلملم ، ثابت توقيتها بالنّصّ .
وأمّا ذات عرقٍ ، ففي ثبوت كونها ميقاتاً بالنّصّ أو بالاجتهاد خلاف .
فصحّح الحنفيّة والحطّاب من المالكيّة وجمهور الشّافعيّة والحنابلة أنّه ثابت بالنّصّ ، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ من السّلف .
وذكر مالك في المدوّنة ، والشّافعيّ في الأمّ أنّ توقيتها ثابت بالاجتهاد ، أي باجتهاد عمر رضي الله عنه ، وهو قول طاووسٍ وابن سيرين احتجّ القائلون بثبوته بالنّصّ بأحاديث منها، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي الزّبير أنّه سمع « جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما ، يسأل عن المهلّ فقال : سمعت - أحسبه رفع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم - فقال : مهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطّريق الآخر الجحفة ، ومهلّ أهل العراق من ذات عرقٍ ، ومهلّ أهل نجدٍ من قرنٍ ، ومهلّ أهل اليمن من يلملم » .
ومنها ما ورد عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل العراق ذات عرقٍ » . قالوا : والأحاديث الدّالّة على ذلك وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفةً ، فمجموعها يقوّي بعضه بعضها ، ويصير الحديث حسناً ، ويحتجّ به ، ويحمل تحديد عمر رضي الله عنه باجتهاده على أنّه لم يبلغه تحديد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّده باجتهاده، فوافق النّصّ .
واحتجّ القائلون بثبوته بالاجتهاد بما أخرجه البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :
« لمّا فتح هذان المصران " أي البصرة والكوفة " أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجدٍ قرناً وهو جَوْر " أي ميل " عن طريقنا ، وإنّا إن أردنا قرناً شقّ علينا قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فحدّ لهم ذات عرقٍ » .
هذا والأحكام الخاصّة بذات عرقٍ وغيرها من المواقيت المكانيّة يذكرها الفقهاء في الحجّ ويبحث عنها أيضاً في مصطلح : ( إحرام ، وميقات ) .(/1)
ذراع *
التّعريف :
1 - الذّراع في اللّغة تطلق على معنيين :
الأوّل : اليد من كلّ حيوانٍ ، لكن الذّراع من الإنسان من المرفق إلى أطراف الأصابع .
وقال بعضهم : " هي السّاعد الجامع لعظمي الزّند . والزّند وصل طرف الذّراع بالكفّ " وذراع اليد تذكّر وتؤنّث .
الثّاني : ذراع القياس الّتي تقاس بها المساحة ، يقال : ذرعت الثّوب ذرعاً أي قسته بالذّراع، وتجمع على أذرعٍ وذرعانٍ . وذراع القياس أنثى في الأكثر ، وبعض العرب يذكّرها. وتستعمل في الاصطلاح بالمعنيين المذكورين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أوّلاً : بالنّسبة للمعنى الأوّل :
أ - اليد :
2 - اليد في اللّغة من المنكب إلى أطراف الأصابع ، فهي تشمل الذّراع بالمعنى الأوّل ، كما تشمل العضد والكفّ . فذراع الإنسان جزء من يده . وتطلق اليد على الإحسان والقدرة على سبيل التّجوّز ، فيقال : يده عليه ، أي سلطانه ، والأمر بيد فلانٍ ، أي في تصرّفه .
ب - المرفق :
3 - المرفق المفصل الّذي يفصل بين العضد والسّاعد .
ثانياً : بالنّسبة للمعنى الثّاني :
أ - الأصبع ، القبضة ، القصبة ، الأشلّ ، القفيز ، العشير :
4 - جاء في المصباح : أنّ مجموع عرض كلّ ستّ شعيراتٍ معتدلاتٍ يسمّى أصبعاً ، والقبضة أربع أصابع ، والذّراع ستّ قبضاتٍ ، وكلّ عشرة أذرعٍ تسمّى قصبةً ، وكلّ عشر قصباتٍ تسمّى أشلّاً ، وقد سمّي مضروب الأشلّ في نفسه جريباً ، ويسمّى مضروب الأشلّ في القصبة قفيزاً ، ومضروب الأشلّ في الذّراع عشيراً . فحصل من هذا أنّ الجريب عشرة آلاف ذراعٍ .
ب - الميل والفرسخ والبريد :
5 - المِيل بالكسر عند العرب يطلق على مقدار مدى البصر من الأرض كما نقله المصباح عن الأزهريّ . وعند القدماء من أهل الهيئة هو ثلاثة آلاف ذراعٍ . وعند المحدّثين منهم أربعه آلاف ذراعٍ . قال في المصباح : والخلاف لفظيّ ، لأنّهم اتّفقوا على أنّ مقداره ستّة وتسعون ألف أصبعٍ .. ولكن القدماء يقولون : الذّراع اثنان وثلاثون أصبعاً ، والمحدثون يقولون : أربع وعشرون أصبعاً .
أمّا الفرسخ فهو ثلاثة أميالٍ ، والبريد أربعة فراسخ أي اثنا عشر ميلاً .
الأحكام الّتي تتعلّق بالذّراع :
الذّراع بالمعنى الأوّل - أي السّاعد - ذكرها الفقهاء وبيّنوا أحكامها في مسائل نذكر منها ما يلي :
أ - غسل الذّراعين في الوضوء :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب غسل الذّراع في الوضوء ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } .
والمرفق مجتمع طرف السّاعد والعضد ، أو هو آخر عظم الذّراع المتّصل بالعضد فشملت الآية كلّ الذّراع إلى المرفق ، وإنّما الخلاف في فرضيّة غسل المرفق نفسه .
فالجمهور وهم الشّافعيّة والحنابلة وأكثر الحنفيّة والمشهور عند المالكيّة أنّ المرفق يجب غسله كذلك ، فمعنى قوله تعالى : { إِلَى الْمَرَافِقِ } مع المرافق ، لحديث « أبي هريرة أنّه توضّأ فغسل يديه حتّى أشرع في العضدين ثمّ قال : هكذا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتوضّأ » .
وقال زفر من الحنفيّة ومالك في روايةٍ : إنّه لا يجب غسل المرفقين ، لأنّ الغاية لا تدخل تحت المغيّا ، فالمرفقان لا يدخلان في الغسل ، كما لا يدخل اللّيل في الصّوم في قوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } .
وتفصيل الموضوع مع أدلّة الجمهور تنظر في مصطلح : ( وضوء ) .
ب - افتراش الذّراعين في الصّلاة :
7 - يكره للمصلّي أن يفترش ذراعيه في الصّلاة ، أي يبسطهما في حالة السّجدة عند الفقهاء ، وذلك لحديث أنسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اعتدلوا في السّجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب » .
وتفصيله في مصطلح : ( صلاة ) بحث ما يكره فيها .
ج - الجناية على الذّراع :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من قطع ذراع إنسانٍ من المفصل ، أي المرفق ، ففي العمد قصاص ، وفي الخطأ نصف الدّية . واختلفوا في قطع الذّراع أو كسرها من غير المفصل : فيرى الحنفيّة والشّافعيّة وهو رواية عند الحنابلة أنّ من جنى على ذراع إنسانٍ فكسرها فلا قصاص فيه ولا دية معيّنة ، عمداً كان أو خطأً ، بل تجب فيها حكومة عدلٍ ، وذلك لامتناع تحقيق المماثلة ، وهي الأصل في جريان القصاص ، لأنّه قد يكسر زيادةً عن عضو الجاني ، أو يقع خلل فيه ، ولم يرد فيه تقدير معيّن من الدّية .
لكن الحنابلة صرّحوا بأنّ في كسر الزّند أربعة أبعرةٍ ، لأنّه عظمان . قال ابن قدامة : الصّحيح إن شاء اللّه أنّه لا تقدير في جراح البدن غير الخمسة : الضّلع ، والتّرقوتين ، والزّندين ، لأنّ التّقدير يثبت بالتّوقيف ، ومقتضى الدّليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة ، وإنّما خالفناه في هذه العظام لقضاء عمر رضي الله عنه ، ففيما عداها يبقى على مقتضى الدّليل .
وفي الرّواية الثّانية عند الحنابلة في الذّراع بعيران ، إذا جبر ذلك مستقيماً ، بأن بقي على ما كان عليه من غير أن يتغيّر عن صفته . وإن لم ينجبر ففيه حكومة عدلٍ .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يقاد في كسر العظام إلاّ فيما يعظم خطره كالرّقبة والفخذ والصّلب . وتفصيله في مصطلح : ( دية ، وقصاص ، وجناية ) .
ثانياً - الذّراع بالمعنى الثّاني :
الذّراع بالمعنى الثّاني ، أي ما يقاس بها ، ذكرها الفقهاء في مسائل منها ما يلي :
أ - تقدير الماء الكثير :
9 - قدّر الفقهاء الماء الكثير والقليل بالذّراع فيما إذا خالطته نجاسة ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( مياه ) .
ب - تحديد مسافة السّفر :(/1)
10 - المسافر له أحكام خاصّة ، كجواز الإفطار ، وقصر الصّلاة الرّباعية ، وجواز المسح على الخفّين لثلاثة أيّامٍ ، وسقوط الجمعة والعيدين ونحوها .
والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:« إنّ اللّه وضع عن المسافر الصّوم وشطر الصّلاة».
واختلف الفقهاء في تحديد السّفر الّذي تثبت له هذه الأحكام .
وتفصيل ذلك في صلاة المسافر ، والصّيام ، والمسح على الخفّين .(/2)
ذهب *
التّعريف :
1 - الذّهب : معدن معروف ، والجمع : أذهاب ، مثل سببٍ وأسبابٍ ، ويجمع أيضاً على ذهبانٍ وذهوبٍ ، وهو مذكّر ، ويؤنّث فيقال : هي الذّهب الحمراء ، وقد يؤنّث بالهاء فيقال : ذهبة . وقال الأزهريّ : الذّهب مذكّر ولا يجوز تأنيثه إلاّ أن يجعل الذّهب جمعاً لذهبةٍ .
الأحكام المتعلّقة بالذّهب :
التّوضّؤ من آنية الذّهب :
2 - اختلف الفقهاء في صحّة التّوضّؤ من إناء الذّهب ، فذهب جمهور الفقهاء " الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الأصحّ " إلى صحّة الوضوء مع تحريم الفعل لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا تشربوا في آنيّة الذّهب والفضّة ولا تأكلوا في صحافهما » ، فقيس غير الأكل والشّرب من سائر الاستعمالات عليهما ، لأنّ علّة التّحريم وجود عين الذّهب والفضّة ، وقد تحقّقت في الاستعمالات الأخرى كالطّهارة فتكون محرّمةً أيضاً .
وذهب الحنابلة في الوجه الثّاني إلى عدم صحّة الوضوء منهما قياساً على الصّلاة في الدّار المغصوبة . : مصطلح : ( آنية ف / 3 ) .
التّيمّم بالذّهب :
3 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّيمّم بالمعادن المسبوكة ، كالذّهب وغيره ، أمّا إذا لم يكن مسبوكًا وكان مختلطًا بالتّراب ، فذهب الشّافعيّة إلى عدم جواز التّيمّم بهذا الخليط سواء أكان قليلاً أم كثيراً ، وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يجوز التّيمّم بترابٍ خالطه غيره ممّا لا يصحّ التّيمّم به إن كان له غبار وكانت الغلبة لغير التّراب .
وذهب الحنفيّة إلى جواز التّيمّم به إذا كانت الغلبة للتّراب .
ونقل الحطّاب من المالكيّة قول اللّخميّ : لا يجوز التّيمّم بما لا يقع به التّواضع للّه تعالى ، كالياقوت والزّبرجد ونقد الذّهب والفضّة إلاّ أن يكون الشّخص في معادنه ولم يجد سواه فيتيمّم به .
اتّخاذ الرّجل لحليّ الذّهب :
4 - أجمع الفقهاء على تحريم استعمال حليّ الذّهب على الرّجال لقوله صلى الله عليه وسلم: « أحلّ الذّهب والحرير لإناث أمّتي ، وحرّم على ذكورها » .
وظاهر كلام أحمد تجويز فصّ الخاتم من الذّهب إن كان يسيراً ، واختاره بعض الحنفيّة .
اتّخاذ الذّهب خاتماً :
5 - التّختّم بالذّهب حرام على الرّجال بإجماع علماء الإسلام ، لما رواه البخاريّ وغيره أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نهى عن خاتم الذّهب » ومعلوم أنّ الأصل في النّهي التّحريم.
اتّخاذ الرّجل للذّهب في آلة الحرب :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى منع تحلية آلة الحرب بشيءٍ من الذّهب لعموم الأدلّة القاضية بتحريم استعمال الذّهب للرّجال وممّن ذهب إلى ذلك الحنفيّة والمالكيّة في المعتمد والشّافعيّة. وذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للذّكر أن يتّخذ قبيعة سيفه من الذّهب ، لأنّ عمر بن الخطّاب كان له سيف فيه سبائك من ذهبٍ ، وأيضاً فإنّ عثمان بن حنيفٍ كان في سيفه مسمار من ذهبٍ ، ذكرهما أحمد لذا رخّص في ذلك ،وإن كان له رواية أخرى بتحريم ذلك مثل الجمهور.
اتّخاذ السّنّ من الذّهب :
7 - يجوز اتّخاذ السّنّ من الذّهب عند الجمهور قياساً على الأنف ، لأنّ « عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم وقعة كلابٍ فاتّخذ أنفاً من فضّةٍ فأنتن فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم باتّخاذ أنفٍ من ذهبٍ ... » فعلم أنّ كلّ ما دعت إليه الضّرورة يجوز استعماله من الذّهب ، وإلى ذلك ذهب المالكيّة والحنابلة . وقال الشّافعيّة : يجوز وإن أمكن اتّخاذه من فضّةٍ .
وذهب أبو حنيفة إلى المنع وقال : إنّ الأصل في الذّهب تحريمه على الرّجال والإباحة للضّرورة ، وقد اندفعت بالفضّة وهي الأدنى فيبقى الذّهب على التّحريم .
غير أنّ محمّد بن الحسن من الحنفيّة وافق الجمهور وكذلك أبو يوسف في قولٍ .
اتّخاذ أصبعٍ قطعت من الذّهب :
8 - صرّح فقهاء الشّافعيّة بأنّه لا يجوز لمن قطعت يده أو أصبعه أن يتّخذهما من ذهبٍ ، وذكر النّوويّ والقاضي حسين وغيرهما أنّ في المذهب وجهاً بجوازه ، وعلّة المنع هي أنّ أصبع الذّهب لا يعمل فيكون تركيبه لمجرّد الزّينة بخلاف السّنّ والأنملة .
اتّخاذ العلم للنّساء من ذهبٍ :
9 - صرّح الحنفيّة بأنّه لا بأس بالعلم المنسوج بالذّهب للنّساء ، فأمّا الرّجال فقدر أربع أصابع ، وما فوقه يكره .
اتّخاذ المدهن والمسعط والمكحلة من الذّهب :
10 - صرّح العلماء بتحريم كلّ ما يصلح تسميته آنيةً من الذّهب كالمدهن والمسعط والمكحلة والمجمرة ونحوها ، لأنّ النّصوص وردت بتحريم الأكل والشّرب من أواني الذّهب والفضّة على الرّجال والنّساء ، لما في ذلك من الخيلاء وكسر نفوس الفقراء ، وقيس غير الأكل والشّرب من سائر الاستعمالات عليهما .
الإسراف في التّحلّي كاتّخاذ المرأة أكثر من خلخالٍ من الذّهب :
11 - إذا اتّخذت امرأة خلاخل كثيرةٍ للمغايرة في اللّبس جاز ، لأنّه يجوز لها اتّخاذ ما جرت عادتهنّ بلبسه من الذّهب ، قلّ ذلك أو كثر ، لإطلاق الأدلّة كقوله صلى الله عليه وسلم :
« أحلّ الذّهب والحرير لإناث أمّتي وحرّم على ذكورها » .
وفي المذهب الشّافعيّ وجه بالمنع إذا كان فيه سرف ظاهر ، والمذهب القطع بالجواز .
اتّخاذ المرأة نعلاً من الذّهب :
12 - ذهب بعض الشّافعيّة كالرّافعيّ إلى إباحة النّعال الذّهبيّة للنّساء كسائر الملبوسات ، وذهب آخرون منهم إلى تحريمها لما في لبسها من الإسراف الكبير ، والإسراف منهيّ عنه في الشّريعة .
وأيضاً لم تجر عادة النّساء بالتّجمّل بالنّعال الذّهبيّة فلا يمكن اعتبارها حليّاً لهنّ لذلك .
وصرّح فقهاء الحنابلة أنّ المرأة إذا اتّخذت النّعال الذّهبيّة حرم ذلك ووجب فيها الزّكاة .
اتّخاذ اليد من الذّهب :(/1)
13 - نصّ فقهاء الشّافعيّة على أنّه لا يجوز لمن قطعت يده أن يتّخذ يداً من ذهبٍ أو فضّةٍ ; لكون اليد المتّخذة منهما لا تعمل فيكون لمجرّد الزّينة ، ومذهب الجمهور جواز اتّخاذ أيّ عضوٍ من أعضاء الإنسان من الذّهب إذا دعت الضّرورة إلى ذلك .
وبناءً عليه فمن فقد أنملةً في أصبعٍ من أصابع يده أو أكثر ، فإنّ له تعويضها بالذّهب قياساً على الأنف . فقد « رخّص الرّسول صلى الله عليه وسلم لعرفجة بن أسعد أن يتّخذ أنفاً من ذهبٍ » فيقاس عليه سائر الأعضاء .
ونقل عن أبي حنيفة الجواز ، كما نقل عنه عدم جواز الذّهب .
وقال الأذرعيّ من الشّافعيّة : " يجب أن يقيّد جواز تعويض الأنملة بما إذا كان ما تحتها سليمًا دون ما إذا كان أشلّ ، لأنّ الأنملة في هذه الحالة لا تستطيع العمل فيكون اتّخاذها من الذّهب لمجرّد الزّينة " .
وقد ذكر النّوويّ أنّ في المذهب الشّافعيّ وجهًا بجواز اتّخاذ يدٍ من الذّهب للضّرورة ، ذكره القاضي حسين وغيره .
اتّخاذ الأنف من ذهبٍ :
14 - أجمع الفقهاء على أنّ من فقد أنفه لسببٍ من الأسباب فإنّه يجوز له اتّخاذ أنفٍ من ذهبٍ لورود النّصّ بذلك ، فقد ثبت « أنّ عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم وقعة الكلاب ، فاتّخذ أنفاً من ورقٍ فأنتن عليه ، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتّخذ أنفاً من ذهبٍ » .
اتّخاذ المرأة لحليّ الذّهب :
15 - سبق في مصطلح ( حليّ ) إجماع الفقهاء على جواز اتّخاذ المرأة جميع أنواع الحليّ من الذّهب والفضّة .
لبس الصّبيّ الذّهب :
16 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو وجه عند الشّافعيّة إلى تحريم لبس الذّكور الذّهب سواء كانوا صغاراً أو كباراً إلاّ لضرورةٍ .
وذهب المالكيّة إلى جواز لبس الصّبيّ الذّهب مع الكراهة .
وذهب الشّافعيّة - في الأصحّ - إلى الجواز مطلقاً .
وفي وجهٍ يجوز قبل سنتين ويحرم بعدها وبه قطع البغويّ .
استعمال أواني الذّهب واتّخاذها :
17 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز الأكل والشّرب من آنية الذّهب والفضّة للرّجال والنّساء على حدٍّ سواءٍ ، لحديث حذيفة : « نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذّهب والفضّة وأن نأكل فيها » . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « الّذي يشرب في إناء الفضّة إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم » .
وقاس الفقهاء غير الأكل والشّرب من سائر الاستعمالات عليهما لوجود علّة التّحريم وهي عين الذّهب والفضّة ، وللخيلاء .
وذهب الجمهور أيضاً إلى عدم جواز اتّخاذ أواني الذّهب والفضّة وإن لم يستعملها ، لأنّ اتّخاذها يجرّ إلى استعمالها كآلة اللّهو .
ومذهب الحنفيّة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة لا يحرم الاتّخاذ دون استعمالٍ ، لأنّ النّصّ إنّما ورد في تحريم الاستعمال ، فيبقى الاتّخاذ على مقتضى الأصل في الإباحة .
استعمال المضبّب بالذّهب :
18 - المضبّب بالذّهب فيه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( آنيّة ) .
التّحلّي بالذّهب حالة الإحداد :
19 - أجمع العلماء على وجوب الإحداد على المرأة المسلمة في عدّة الوفاة من نكاحٍ صحيحٍ ولو من غير دخولٍ بالزّوجة .
والإحداد : ترك الزّينة الدّاعية إلى إغراء الرّجال بالنّساء عادةً .
ولمّا كان لبس الحليّ من الزّينة المغرية عادةً فيمنع التّحلّي به في العدّة .
ونقل الرّويانيّ عن بعض الشّافعيّة جواز لبسها للحليّ ليلاً ، ولكنّه يكره لغير حاجةٍ ، فلو فعلته لإحراز المال مثلاً لم يكره . وتفصيل ذلك في مصطلحات : ( إحداد ، وتحلية ، وحليّ ).
تحلية الكعبة وأبواب المساجد وجدرها بالذّهب :
20 - ذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى تحريم تحلية أبواب المساجد وجدرانها ومحاريبها بالذّهب ، وتجب إزالته ، إلاّ إذا استهلك الذّهب فلم يجتمع منه شيء لو أزيل ، فلا تحرم استدامته ، لأنّ ماليّته ذهبت فلا فائدة في إتلافه وإزالته .
ولمّا ولّي عمر بن عبد العزيز الخلافة أراد جمع ما في مسجد دمشق ممّا موّه به من الذّهب، فقيل : إنّه لا يجمع منه شيء ، فتركه .
أمّا الحنفيّة فقال صاحب الدّرّ : " ولا بأس بنقشه خلا محرابه بجصٍّ وماء ذهبٍ من ماله لا من مال الوقف " .
قال ابن عابدين : في هذا التّعبير كما قال شمس الأئمّة : إشارة إلى أنّه لا يؤجر ، ويكفيه أن ينحو رأساً برأسٍ . ا هـ . قال في النّهاية : لأنّ لفظ " لا بأس " دليل على أنّ المستحبّ غيره ، لأنّ البأس الشّدّة . ولهذا نقل في الفتاوى الهنديّة عن المضمران أنّ الصّرف إلى الفقراء أفضل وعليه الفتوى . ا هـ .
وقيل : يكره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ من أشراط السّاعة أن تزيّن المساجد » الحديث . وقيل : يستحبّ لما في ذلك من إكرام المساجد ورفع شأنها .
وهو وجه عند الشّافعيّة أيضاً .
وعند المالكيّة يكره ذلك لكونه قد يشغل المصلّي ، فإن زيّن المسجد بالذّهب بطريقةٍ لا تشغل المصلّي جاز في ظاهر المذهب .
وقد صرّح علماء الشّافعيّة في أصحّ وجهين بتحريم تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذّهب لما في ذلك من السّرف وكسر قلوب الفقراء ، ولكونه لم يعمل به الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السّلف الصّالح . والوجه الآخر للشّافعيّة الجواز .
تحلية المصحف بالذّهب :
21 - تحلية الكتب بالذّهب لا يجوز في غير القرآن ، صرّح بذلك المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وغيرهم لما في ذلك من تضييق النّقدين ولأنّ الكتب الأخرى لا يجب تعظيمها كالقرآن .
أمّا القرآن فقد اختلف الشّافعيّة في جواز تحليته بالذّهب على أربعة أوجهٍ أصحّها : - كما قال الرّافعيّ - جوازه في المصاحف الّتي للنّساء دون الرّجال .(/2)
والوجه الثّاني : جوازه مطلقاً تعظيماً للقرآن ، وبه قال الحنفيّة ، وإن كانوا يرون أنّ تركه أولى لأنّهم قالوا في هذه المسألة : لا بأس بذلك .
وقد صرّح علماؤهم بأنّهم متى قالوا كلمة " لا بأس " فذلك دليل على أنّ المستحبّ غيره . والوجه الثّالث عند الشّافعيّة تحريم تحلية القرآن بالذّهب مطلقًا .
والوجه الرّابع - عندهم - جواز تحلية نفس المصحف به دون غلافه المنفصل عنه . وذهب المالكيّة في مشهور مذهبهم إلى جواز تحلية المصحف على أن تكون الحلية مقتصرةً على غلافه الخارجيّ ، ولا يجوز أن يكتب بالذّهب ، ولا أن يجعل على الأحزاب والأعشار وغير ذلك ، لأنّه من زخرفة المصحف وذلك يلهي القارئ ويشغله عن تدبّر آياته ومعانيه ، ولنفس السّبب كرهت الحنابلة تحلية المصحف بالذّهب .
زكاة الذّهب :
22 - تجب الزّكاة في الذّهب بالإجماع ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( زكاة ) .
بيع الذّهب بالذّهب :
23 - لا يجوز بيع الذّهب بالذّهب إلاّ سواءً بسواءٍ ، يداً بيدٍ ، لأنّ الذّهب من الأصناف السّتّة الّتي ورد النّهي عن التّفاضل في الصّنف الواحد منها ، كما في حديث « عبادة قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، إلاّ سواءً بسواءٍ ، عيناً بعينٍ فمن زاد أو ازداد فقد أربى » . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( بيع ، وصرف ) .
بيع الذّهب بالفضّة :
24 - لم يختلف العلماء في جواز بيع الذّهب بالفضّة بالتّفاضل إذا كان يداً بيدٍ ، للحديث السّابق . وتفصيل ذلك في : ( بيع ، وصرف ) .
بيع الذّهب جزافاً :
25 - لا يجوز بيع الرّبويّ بجنسه ومنه الذّهب مجازفةً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مثلاً بمثلٍ سواءً بسواءٍ » الحديث . وقد تقدّم الكلام على هذا في مصطلح : ( بيع ) .
الذّهب والفضّة في الأرض المبيعة :
26 - من وجد ركازًا في مواتٍ ، أو في ملكه بالإحياء فإنّه يملكه في الجملة .
أمّا من وجد ركازاً في ملكه المنتقل إليه ببيعٍ أو هبةٍ ، فالجمهور على أنّه للمالك الأوّل ، وذهب بعض الفقهاء إلى أنّه للمالك الأخير ، وتفصيله في مصطلح : ( ركاز ) .
المعاملة بالمغشوش من الذّهب :
27 - يكره للإمام والحاكم ضرب العملة بالذّهب المغشوش ، للخبر الصّحيح عنه صلى الله عليه وسلم الّذي رواه أبو هريرة : « من غشّنا فليس منّا » ولما فيه من إفساد النّقود والإضرار بذوي الحقوق وغلاء الأسعار وانقطاع الأجلاب وغير ذلك من المفاسد الّتي تؤدّي إلى أن يغشّ بها النّاس بعضهم لبعضٍ . فلو قدر أن ضربها الإمام وكان معيارها معلوماً ، صحّت المعاملة بها معيّنةً وفي الذّمّة ، وكذلك الحال إذا لم يعلم عيارها وكانت رائجةً لأنّ المقصود رواجها . وقالوا أيضاً : " يكره لغير الإمام ضرب الدّراهم والدّنانير ولو خالصةً ، لأنّه من شأن الإمام ، فيكون في ضربه لغيره افتياتاً عليه ، ولأنّه لا يؤمن فيه الغشّ " .
قال الإمام أحمد : " لا يصلح ضرب الدّراهم إلاّ في دار الضّرب وبإذن السّلطان ، لأنّ النّاس إن رخّص لهم ركبوا العظائم " .
ومن ملك دراهم مغشوشةً يكره له إمساكها بل يسبكها ويصفّيها ، إلاّ إذا كانت دراهم البلد مغشوشةً فلا يكره إمساكها .
وقد نصّ الإمام أحمد رضي الله عنه على كراهة إمساك الدّراهم أو الدّنانير المغشوشة واتّفق أصحابه على ذلك ، لأنّه يضربه ورثته إذا مات ، ويضربه غيرهم في حال حياته كذلك ، علّله الشّافعيّ وغيره .
إسلاف الذّهب في الذّهب :
28 - لا يجوز إسلاف الذّهب في الذّهب ، لأنّه من بيع الرّبويّ بالرّبويّ فلا يقبل التّأجيل . وتفصيله في مصطلح : ( سلم ) .
القراض بالذّهب المغشوش :
29 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة المضاربة على دنانير خالصةٍ .
وقال النّوويّ : بإجماع الصّحابة .
واختلفوا في الدّنانير المغشوشة ، والحليّ ، والتّبر ، هل تصحّ المضاربة بها أم لا ؟ فيجوز عند المالكيّة القراض بالذّهب المغشوش على الأصحّ ، وذهب بعض المالكيّة إلى عدم جوازه مضروبًا كان أو غير مضروبٍ وهو مذهب الشّافعيّ .
وقال أبو حنيفة : إن كان الغشّ النّصف فأقلّ جاز ، وإن كان أكثر من النّصف لم يجز المقارضة به .
وقال الباجيّ من المالكيّة : إنّ هذا الخلاف فيما إذا لم يكن الذّهب المغشوش سكّةً يتعامل بها النّاس ، فإن كانت كذلك فإنّه يجوز القراض بها ، لأنّها قد صارت عيناً وصارت من أصول الأموال وقيم المتلفات ، لذلك تتعلّق الزّكاة بأعيانها ، ولو كانت عروضاً لم تتعلّق الزّكاة بأعيانها . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قراض ) .
استئجار ما احتيج إليه من الذّهب :
30 - صرّح الحنابلة بأنّه يصحّ استئجار دنانير الذّهب مدّةً معلومةً للتّحلّي والوزن ، وكذلك كلّ ما احتيج إليه كأنفٍ من ذهبٍ ، لأنّه نفع مباح يستوفى مع بقاء العين ، وكلّ ما كان كذلك جاز استئجاره بلا خلافٍ .
ومنع الشّافعيّة استئجار الدّنانير للتّزيين ، ونصّوا على جواز استئجار الحليّ .
الأجرة على صنع أواني الذّهب :
31 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من صنع إناء ذهبٍ لغيره فإنّه لا يستحقّ الأجرة ، إذ لا يجوز استعمال إناء الذّهب بالإجماع .
إعارة آنيّة الذّهب :
32 - لا تصحّ إعارة آنيّة الذّهب ; لما في إعارتها من الإعانة على الإثم ، لأنّ استعمال آنيّة الذّهب محرّم بالإجماع . ومن المقرّر عند الفقهاء أنّ الإعارة لا تجوز إلاّ في عينٍ ينتفع بها منفعةً مباحةً مع بقائها على الدّوام . وينظر مصطلح : ( إعارة ) .
إعارة حليّ الذّهب للنّساء :(/3)
33 - يجوز إعارة حليّ الذّهب للنّساء بدون خلافٍ ، لأنّ التّحلّي بالذّهب مباح في حقّهنّ ، وكلّ عينٍ ينتفع بها منفعةً مباحةً يجوز إعارتها . وينظر مصطلح : ( إعارة ) .
إتلاف آنيّة الذّهب :
34 - ضمان المتلف من آنيّة الذّهب مبنيّ على القول بجواز اقتنائها وعدمه .
فمن ذهب إلى جواز الاقتناء قال بالضّمان ، ومن ذهب إلى حرمة اقتنائها قال بعدم ضمان الصّنعة ، ويضمن ما يتلفه من العين .
وقد سبق الكلام على هذه المسألة في مصطلحي : ( آنيّة ، وإتلاف ) .
إحياء معادن الذّهب وإقطاعها :
35 - الذّهب من المعادن الباطنة وهي الّتي لا تخرج إلاّ بعملٍ ومؤنةٍ ، فهي ملك لمن استخرجها عند الحنفيّة والشّافعيّة وهو احتمال عند الحنابلة .
وعند المالكيّة أنّ الذّهب كالمعادن الظّاهرة أمرها إلى الإمام .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحياء ) .
الذّبح بالذّهب :
36 - لا يجوز الذّبح بسكّينٍ من الذّهب كغيره من الاستعمالات ، ومع ذلك فلو ذبح بها حلّت الذّبيحة بشروط التّذكية .
مقدار الدّية من الذّهب :
37 - اختلف هل الأصل في تقدير الدّية الإبل ، أو الذّهب ، أو الفضّة .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( دية ) .
سرقة الذّهب :
38 - ذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " إلى أنّه يشترط لوجوب قطع يد سارق الذّهب أن يبلغ المسروق منه ربع دينارٍ وزناً وقيمةً معاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم: « تقطع اليد في ربع دينارٍ فصاعداً » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا قطع في أقلّ من دينارٍ من الذّهب .
ويعتبر في غير الذّهب بلوغ قيمته ربع دينارٍ فصاعداً على رأي الجمهور .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( سرقة ) .(/4)
ذو الحليفة *
التّعريف :
1 - الحليفة : بالحاء المهملة المضمومة ، تصغير الحَلْفاء بفتح الحاء وسكون اللام . والحلفاء : نبت معروف . وقيل : قصب لم يدرك .
وذو الحليفة : ماء من مياه بني جشم ، ثمّ سمّي به الموضع ، وهو ميقات أهل المدينة ، بينه وبين المدينة ستّة أميالٍ ، وبينه وبين مكّة مائتا ميلٍ إلاّ ميلين .
« وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى مكّة يصلّي في مسجد الشّجرة ، وإذا رجع صلّى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات حتّى يصبح » .
وفي البخاريّ عن ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رئي وهو في معرّسٍ بذي الحليفة ، قيل له : إنّك ببطحاء مباركةٍ » .
قال الحافظ ابن حجرٍ : " وبها مسجد يعرف بمسجد الشّجرة ، خراب ، وبها بئر يقال لها : بئر عليٍّ " .
أمّا الآن فالمكان والمسجد عامران ، وفيها مرافق للمسافرين والحجّاج .
ويعرف ذو الحليفة الآن باسم" آبار عليٍّ "وكأنّه نسبة إلى البئر المنسوب إليه رضي الله عنه.
وذو الحليفة من مواقيت الإحرام بالحجّ والعمرة ، وهي ميقات الإحرام لأهل المدينة وتثبت له أحكام المواقيت . ( انظر : ميقات ، وإحرام )(/1)
ذود *
التّعريف :
1 - الذّود في اللّغة : القطيع من الإبل ما بين الثّلاث إلى العشر ، وهي مؤنّثة لا واحد لها من لفظها ، وجمعه أذواد .
وفي المغرب : الذّود من الإبل من الثّلاث إلى العشر ، وقيل : من الثّنتين إلى التّسع من الإناث دون الذّكور . وأمّا الذّود عند الفقهاء فهو الثّلاث إلى العشر من الإبل .
الأحكام المتعلّقة بالذّود :
2 - يذكر الفقهاء الأحكام الخاصّة بمصطلح : ( ذود ) في زكاة الإبل من كتاب الزّكاة . وخلاصة ما قالوه في ذلك : أنّ زكاة الذّود واجبة كغيرها من النّعم عند وجود النّصاب مع باقي شروط الزّكاة وأقلّ نصابٍ تجب فيه الزّكاة في الذّود من الإبل خمس ، فلا زكاة فيما دونها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من لم يكن معه إلاّ أربع من الإبل فليس فيها صدقة» وقال : « ليس فيما دون خمس ذودٍ من الإبل صدقة » .
والواجب الّذي يجب إخراجه عن الخمس من الإبل شاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة » . فإذا بلغت الذّود عشراً ففيها شاتان .
وفي إخراج الذّكر من الغنم عن الذّود أي إناث الإبل ، أو إخراج البعير عمّا وجبت فيه الشّاة الواحدة أو الشّاتان خلاف ، وفي إخراج قيمة الشّاة أيضاً خلاف .
والتّفصيل محلّه زكاة الإبل في مصطلح : ( زكاة ) .(/1)
رأس *
التّعريف :
1 - الرّأس مفرد ، وجمع القلّة فيه : أرؤس ، وجمع الكثرة رءوس .
وهو في اللّغة : أعلى كلّ شيءٍ ، ويطلق مجازاً على سيّد القوم وعلى القوم إذا كثروا وعزّوا . ورأس المال : أصله . والاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالرّأس :
2 - تختلف الأحكام المتعلّقة بالرّأس باختلاف موضوع الحكم .
ففي الوضوء يجب المسح بالرّأس باتّفاق الفقهاء .
وأمّا مقدار ما يمسح ففيه خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح : ( وضوء ) .
وفي الحجّ والعمرة يحرم على الرّجل المحرم تغطية الرّأس أو جزء منه ،وتجب الفدية فيه. وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحرام ) .
وفي الجناية على الرّأس قصاص ، أو دية ، أو أرش . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( جناية، دية ، أرش ) .
كشف الرّأس في الصّلاة :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب ستر الرّأس في الصّلاة للرّجل ، بعمامةٍ ، وما في معناها ، لأنّه صلى الله عليه وسلم كان كذلك يصلّي .
أمّا المرأة فيجب عليها ستر رأسها في الصّلاة .
وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( صلاة وعورة ) .
ستر الرّأس عند دخول الخلاء :
3 - يستحبّ أن لا يدخل الخلاء حاسرَ الرّأس ، لخبر : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء لبس حذاءه ، وغطّى رأسه « .
ضرب الرّأس في الحدّ والتّأديب :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يضرب رأس المجلود للحدّ أو التّعزير ، لأنّه من المقاتل ، وربّما يفضي ضربه إلى ذهاب سمعه ، وبصره ، وعقله ، أو قتله ، والمقصود تأديبه لا قتله ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال للجلاد : اتّق الوجه ، والرّأس . وقال أبو يوسف من الحنفيّة : إنّه يضرب الرّأس في الحدّ والتّعزير ، لأنّه لا يخاف التّلف بسوطٍ أو سوطين ، وقد روي عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنّه قال : اضربوا الرّأس فإنّ الشّيطان فيه ، وهذا هو الرّاجح عند الشّافعيّة .
اليمين على أكل الرّؤوس :
5 - إذا حلف لا يأكل رأساً وأطلق ، حمل على رءوس الأنعام ، وهي الغنم ، والإبل ، والبقر ، لأنّها هي الّتي تباع وتشترى في السّوق منفردةً ، وهي المتعارفة ، وإلى هذا ذهب الشّافعيّة على الصّحيح عندهم ، وأبو حنيفة .
وقال الصّاحبان : يحمل على رأس الغنم ، وهو قول عند الشّافعيّة ، أمّا إن عمّم أو خصّص فإنّه يتبع ، وإن قصد ما يسمّى رأساً حنث بالكلّ .
وتفصيل ذلك في مباحث الأيمان من كتب الفقه .
أمّا ما يتعلّق بشعر الرّأس من الأحكام فينظر في مصطلح : ( شعر ) .(/1)
رائحة *
التّعريف :
1 - الرّائحة والرّيح في اللّغة : النّسيم طيّباً كان أو نتناً . يقال : وجدت رائحة الشّيء وريحه . والرّائحة عرض يدرك بحاسّة الشّمّ .
وقيل : لا يطلق اسم الرّيح إلاّ على الطّيّب ، جاء في الأثر :» أنّه صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروّح أي المطيّب عند النّوم « .
الحكم الإجماليّ :
ترد كلمة " رائحة " في كتب الفقه في أبوابٍ مختلفةٍ ، وباختلاف الأبواب تختلف أحكامها .
أ - الرّائحة في باب الطّهارة :
2 - الأصل في رفع الحدث وإزالة الخبث أن يكون بالماء قال تعالى : { وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً} .
واشترط جمهور الفقهاء لطهوريّة الماء بقاء أوصافه الأصليّة وهي : اللّون والطّعم والرّائحة . فإن تغيّر أحد أوصافه ، كرائحته ، بشيءٍ خالطه بحيث لا يطلق عليه اسم الماء عرفاً ، بل يضاف إليه قيد لازم ، كماء الورد ونحوه ، فإنّه يسلب عنه الطّهوريّة ، فيصبح الماء طاهراً غير مطهّرٍ إن كان المخالط المغيّر طاهراً ، فلا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً وإن كان طاهراً بذاته ، لأنّه ليس ماءً مطلقاً .
وقال الحنفيّة : لا يسلب الطّهوريّة عن الماء تغيّر أوصافه إن لم يزل عنه طبع الماء .
وطبع الماء : كونه سيّالاً مرطّباً مسكّناً للعطش .
أمّا إذا حصل التّغيّر بمجاورٍ للماء لم يخالطه فإنّه لايسلب الطّهوريّة عنه ،لأنّه مجرّد تروّحٍ . وفي المسألة تفصيل ينظر في : ( مياه ) .
ب - رائحة الطّيب في حقّ المحرم :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحظر على المحرم استعمال ما له رائحة طيّبة ويقصد به رائحته كالمسك والعود ونحوهما ، أمّا ما لا تقصد رائحته ، كالتّفّاح والأترجّ فلا يحرم على المحرم استعماله ، وإن كانت رائحته طيّبةً .
وانظر ( إحرام ) .
ج - الرّائحة الطّيّبة والرّائحة الكريهة في المساجد :
4 - يستحبّ تطييب المساجد ، ويصان المسجد عن الرّائحة الكريهة من ثومٍ أو بصلٍ ونحوهما ، وإن لم يكن فيه أحد ، كما يكره لمن أكل شيئاً من ذلك دخول المساجد ويرخّص له في ترك الجماعة في المسجد ، ومثله من له صنان أو بخر .
وذهب الحنابلة إلى استحباب إخراج من به ذلك إزالةً للأذى ، لقوله صلى الله عليه وسلم : » من أخرج أذىً من المسجد بنى اللّه له بيتاً في الجنّة «، وقال عليه الصلاة والسلام : » من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا - أو قال : فليعتزل مسجدنا « .
وقال : » من أكل من هذه الشّجرة الخبيثة يعني الثّوم فلا يقربنا في المسجد « وفي روايةٍ : » فلا يقرب مصلاّنا « .
ويكره عند الحنابلة إخراج الرّيح في المسجد بجامع الإيذاء بالرّائحة ، وإن لم يكن فيه أحد ، لخبر : » إنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم « .
وصرّح المالكيّة بجواز ذلك إذا احتاج إليه ، لأنّ المسجد ينزّه عن النّجاسة العينيّة .
وانظر : ( مساجد ) .
د - التّلف بسبب الرّائحة :
5 - إذا اتّخذ من داره - بين الدّور المسكونة - معملاً له رائحةٌ مؤذيةٌ ، فشمّه أطفال أو غيرهم فماتوا بذلك ضمن صاحب الدّار ، لمخالفته العادة .
وإن قلى أو شوى في داره ما يسبّب إجهاض الحامل إن لم تأكل منه وجب عليه أن يقدّم إليها ما يدفع عنها الإجهاض بعوضٍ إن كانت قادرةً على العوض ، وإلاّ فبلا عوضٍ ، وإن لم تطلب منه ، فإن قصّر ضمن دية الجنين .
والتّفصيل في باب الدّيات ، ومصطلح : ( إجهاض ، ف 9 ) .
هـ – ثبوت حدّ الشّرب بوجود الرّائحة :
6 – لا يثبت حدّ الشّرب بوجود رائحة الخمر في فم الشّارب في قول أكثر أهل العلم ،منهم : الثّوريّ ، وأبو حنيفة ، والشّافعيّ ، وأحمد في إحدى روايتين عنه ، وهي المذهب .
وقالوا : يحتمل أنّه تمضمض بالخمر أو حسبها ماءً فلمّا صارت في فمه مجّها ، ويحتمل أن يكون مكرهاً ، أو شرب شراب التّفّاح فإنّه يكون منه كرائحة الخمر ، وبوجود الاحتمال لم يجب الحدّ ، لأنّه يدرأ بالشّبهات .
وقال المالكيّة : يثبت حدّ الشّرب بوجود الرّائحة ، وهي رواية أبي طالبٍ عن أحمد ،وقالوا : إنّ ابن مسعودٍ جلد رجلاً وجد منه رائحة الخمر ، ولأنّ الرّائحة تدلّ على شربه للخمر ، فأجري مجرى الإقرار .
والتّفصيل في : ( سكر ) .
و - تغيّر رائحة لحم الجلاّلة أو لبنها :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره أكل لحم الجلاّلة وشرب لبنها إذا تغيّرت رائحتهما بالنّجاسة .
وقال الشّافعيّة بالتّحريم .
وانظر : ( أطعمة ، جلاّلة ) .
ز - منع الزّوجة من أكل ما يتأذّى الزّوج من رائحته :
8 - للزّوج منع زوجته من تناول ما يتأذّى من رائحته كالثّوم ، والبصل ونحوهما . كما له إجبارها على إزالة الرّوائح الكريهة من بدنها ، وثوبها ، لأنّ ذلك يمنع كمال الاستمتاع . والتّفصيل في مصطلح : ( نكاح ) .(/1)
رابغ *
التّعريف :
1 - رابغ : وادٍ بين الحرمين قرب البحر ، وهو موضع معروف قريب من الجحفة .
وأصل هذا المصطلح اللّغويّ : ربغ القوم في النّعيم : أقاموا ... والرّبغ : التّراب ، والرّابغ : من يقيم على أمرٍ ممكّنٍ له .
والجحفة ميقات الإحرام لأهل الشّام وتركيّة ومصر والمغرب ، وتقع قرب السّاحل وسط الطّريق بين مكّة والمدينة . وقد اندثرت الجحفة منذ زمنٍ بعيدٍ وأصبحت لا تكاد تعرف ، وأصبح حجّاج هذه البلاد يحرمون من رابغٍ احتياطاً ، وتقع قبل الجحفة بقليلٍ للقادم من المدينة وتبعد عن مكّة ( 220 ) كيلو متراً .
انظر : ( إحرام : ف 40 ) .(/1)
راتب *
التّعريف :
1 - الرّاتب : لغةً من رتب الشّيء رتوباً إذا ثبت واستقرّ ، فالرّاتب هو الثّابت ، وعيش راتب : أي ثابت دائم .
قال ابن جنّيٍّ : يقال : ما زلت على هذا راتباً أي مقيماً . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ .
مواطن البحث :
2 - ورد مصطلح الرّاتب في عدّة أبوابٍ من كتب الفقه منها :
أ - السّنن الرّواتب من الصّلوات :
3 - وهي السّنن التّابعة للفرائض ، ووقتها وقت المكتوبات الّتي تتبعها .
وقد اختلف الفقهاء في مقاديرها .
فذهب جمهور العلماء إلى أنّ الرّواتب المؤكّدة عشر ركعاتٍ ، ركعتان قبل الصّبح ، وركعتان قبل الظّهر ، وركعتان بعدها ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : » حفظت من النّبيّ صلى الله عليه وسلم عشر ركعاتٍ : ركعتين قبل الظّهر ،وركعتين بعدها ،وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين بعد العشاء في بيته ،وركعتين قبل الصّبح ،وكانت ساعة لا يدخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها، حدّثتني حفصة رضي الله عنها أنّه كان إذا أذّن المؤذّن وطلع الفجر صلّى ركعتين « . وهناك أقوال مرجوحة عند المذاهب تذكر أربعاً بعد الظّهر ، وأربعاً قبل العصر ، واثنتين قبل المغرب ، وستّاً بعد المغرب ، وأن لا راتبة بعد العشاء بلا حدٍّ .
والتّفاصيل في : ( السّنن الرّواتب ) .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ مقدارها اثنتا عشرة ركعةً : ركعتان قبل صلاة الفجر ، وأربع ركعاتٍ قبل صلاة الظّهر - لا يسلّم إلاّ في آخرهنّ - وركعتان بعد صلاة الظّهر ، وركعتان بعد صلاة المغرب ، وركعتان بعد صلاة العشاء .
لما روي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من ثابر على اثنتي عشرة ركعةً بنى اللّه عزّ وجلّ له بيتاً في الجنّة : أربعاً قبل الظّهر ، وركعتين بعد الظّهر ، وركعتين بعد المغرب ،وركعتين بعد العشاء ،وركعتين قبل الفجر «. ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم واظب عليها ولم يترك شيئاً منها إلاّ لعذرٍ .
4 - وآكد السّنن الرّاتبة عند الحنفيّة ركعتا الفجر لورود الأحاديث بالتّرغيب فيهما ما لم يرد في غيرهما من النّوافل .
عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها «
وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أيضاً أنّه قال : » لا تدعوا الرّكعتين اللّتين قبل صلاة الفجر ، فإنّ فيهما الرّغائب « وفي روايةٍ : » لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل « .
ب - المؤذّن الرّاتب :
5 - إذا كان في المسجد مؤذّن راتبٌ فلا يؤذّن قبله إلاّ أن يتخلّف ويخاف فوات وقت التّأذين فيؤذّن غيره ، لما روي عن زياد بن الحارث الصّدائيّ » أنّه أذّن للنّبيّ صلى الله عليه وسلم حين غاب بلال - رضي الله عنه « » وأذّن رجل حين غاب أبو محذورة « .
ولأنّ مؤذّني الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكن غيرهم يسبقهم بالأذان .
وإذا نازع المؤذّن الرّاتب غيره في الأذان يقدّم الرّاتب .
قال ابن عابدين :إنّ المؤذّن الرّاتب يعيد الأذان إذا أذّن في المسجد من يكره أذانه كالفاسق ، والجنب ، والمرأة .
وقال في المجموع شرط المؤذّن الرّاتب أن يكون عالماً بالمواقيت إمّا بنفسه أو بواسطة ثقةٍ آخر .
والتّفاصيل في مصطلح : ( أذان ) .
ج - الإمام الرّاتب :
6 - الإمام الرّاتب - وهو الّذي رتّبه السّلطان ، أو نائبه ، أو الواقف ، أو جماعة من المسلمين - يقدّم في إمامة الصّلاة على غيره من الحاضرين وإن اختصّ غيره بفضيلةٍ كأن يكون أعلم منه أو أقرأ منه ، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه أتى أرضاً له وعندها مسجد يصلّي فيه مولى لابن عمر فصلّى معهم ، فسألوه أن يصلّي بهم فأبى وقال : صاحب المسجد أحقّ .
أمّا إن كان معه الإمام الأعظم أو نائبه أو القاضي أو أمثالهم من ذوي السّلطان والولاية ، فيقدّمون على الإمام الرّاتب لقوله صلى الله عليه وسلم : » لا يؤمّنّ الرّجلُ الرّجلَ في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلاّ بإذنه « .
» ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أمّ عتبان بن مالكٍ وأنساً في بيوتهما «.
ولأنّ تقدّم غير صاحب السّلطان بحضرته بدون إذنه لا يليق ببذل الطّاعة .
وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء ، إلاّ أنّ الشّافعيّة يرون أنّ محلّ تقديم الوالي على الإمام الرّاتب إذا لم يكن الإمام مرتّباً من السّلطان أو نائبه ، أمّا إذا كان الإمام ممّن رتّبه السّلطان أو نائبه فإنّه مقدّم على والي البلد وقاضيه .
7- واختلف الفقهاء في حكم إعادة الجماعة في المسجد ، فذهب الجمهور - وهم الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى كراهة إعادة الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب ، ولا يقع في ممرّ النّاس ، ما لم تكن الإعادة بإذن الإمام الرّاتب ، فمن فاتته الجماعة مع الإمام الرّاتب صلّى منفرداً لئلاّ يفضي ذلك إلى اختلاف القلوب والعداوة والتّهاون في الصّلاة مع الإمام الرّاتب ، وإلى هذا ذهب عثمان البتّيّ ، والأوزاعيّ ، واللّيث ، والنّوويّ ، وأبو قلابة ، وأيّوب ، وابن عونٍ .
وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يكره إعادة الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب وإن لم يكن واقعاً في ممرّ النّاس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : » صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمسٍ وعشرين درجةً « وفي روايةٍ : » بسبعٍ وعشرين درجةً « .(/1)
ولما روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه » أنّ رجلاً دخل المسجد وقد صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقال : من يتصدّق على هذا فيصلّي معه ؟ فقام رجل من القوم فصلّى معه « . وفي روايةٍ فقال صلى الله عليه وسلم : » ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه « .
وروى أبو أمامة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ، وزاد : قال : » فلمّا صلّيا قال : وهذان جماعة « .
ولأنّه قادر على الجماعة فاستحبّ له فعلها ، وإلى هذا ذهب عطاء والحسن والنّخعيّ ، وقتادة وإسحاق وابن المنذر .
أمّا إذا كان المسجد يقع في سوقٍ ، أو في ممرّ النّاس ، أو ليس له إمام راتب ، أو له إمامٌ راتبٌ ولكنّه أذّن للجماعة الثّانية ،فلا كراهة في الجماعة الثّانية والثّالثة وما زاد ،بالإجماع . وفي المسألة مزيد تفصيلٍ ينظر في : ( صلاة الجماعة ) .
8- أمّا مسألة الاستحقاق الرّاتب في الوقف وغيره من الوظائف فتفاصيلها في مصطلح : ( رزق ، وظيفة ، وقف ، إجارة ) .(/2)
رجل *
التّعريف :
1 - الرّجل في اللّغة خلاف المرأة وهو الذّكر من نوع الإنسان ، وقيل إنّما يكون رجلاً إذا احتلم وشبّ ، وقيل هو رجل ساعة تلده أمّه إلى ما بعد ذلك ، وتصغيره رجيل قياساً ، ورويجل على غير قياسٍ ، ويجمع رجل على رجالٍ . وجمع الجمع رجالات ، ويطلق الرّجل أيضاً على الرّاجل أي الماشي . ومنه قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } إلى غير ذلك من المعاني .
وأمّا في الاصطلاح فهو كما ذكر الجرجانيّ في التّعريفات : الذّكر من بني آدم جاوز حدّ الصّغر بالبلوغ .
وهذا في غير الميراث ، وأمّا في الميراث فيطلق الرّجل على الذّكر من حين يولد ، ومنه قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } .
الحكم الإجماليّ :
يختصّ الرّجل بأحكامٍ يخالف فيها المرأة وفيما يلي أهمّها :
أ - لبس الحرير :
2 - يحرم على الرّجل لبس الحرير اتّفاقاً ، ويحرم افتراشه في الصّلاة وغيرها عند الجمهور خلافاً للحنفيّة القائلين بجواز توسّده وافتراشه ، لما روى أبو موسى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » أحلّ الذّهب والحرير لإناث أمّتي ، وحرّم على ذكورها « ولما ورد عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : » لا تلبسوا الحرير فإنّ من لبسه في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة « .
وهذا - أي تحريم لبس الحرير على الرّجال - محلّ اتّفاقٍ بين العلماء ولا خلاف فيه ، ويستثنى من ذلك العلم في الثّوب إذا كان أقلّ من أربعة أصابع ، ومثله الرّقاع ، ولبنة الجيب ، وسجف الفراء ، وفي لبسه لدفع قملٍ أو حكّةٍ أو حرٍّ أو بردٍ مهلكين ، أو لبسه للحرب خلاف ، ومحلّه مصطلح : ( حرير ) .
ب - استعمال الرّجل الذّهب أو الفضّة :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في تحريم حليّ الذّهب على الرّجال ، فيحرم على الرّجل استعمال الذّهب ولا يحلّ له منه إلاّ ما دعت الضّرورة أو الحاجة إليه كالأنف والسّنّ والأنملة . ويجوز له أيضاً للحاجة شدّ أسنانه بالذّهب .
ويحلّ له من الفضّة الخاتم ، وكذا تحلية بعض أدواته كسيفه بها ، وشدّ أسنانه بالفضّة ، وأمّا سائر حلية الفضّة ففي تحريمها على الرّجل خلاف .
والآنية المتّخذة من النّقدين يحرم استعمالها على الجميع .
والتّفصيل محلّه مصطلح : ( آنية ) ، ومصطلح : ( حليّ ) .
ج - عورة الرّجل في الصّلاة وخارجها :
4 - عورة الرّجل في الصّلاة وخارجها ما بين السّرّة والرّكبة عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو رأي أكثر الفقهاء لقوله صلى الله عليه وسلم » أسفل السّرّة وفوق الرّكبتين من العورة « .
وفي روايةٍ عن أحمد أنّها الفرجان فقط لما روي عن أنسٍ رضي الله عنه » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتّى إنّي لأنظر إلى بياض فخذ النّبيّ « رواه البخاريّ .
والتّفصيل محلّه مصطلح : ( عورة )
د - اختصاص الأذان بالرّجال دون النّساء :
5 - من الشّروط الواجبة في المؤذّن أن يكون رجلاً ، فلا يصحّ أذان المرأة ، لأنّ رفع صوتها قد يوقع في الفتنة ، وهذا عند الجمهور في الجملة ، ولا يعتدّ بأذانها لو أذّنت . والتّفصيل محلّه مصطلح : ( أذان ) .
هـ – وجوب صلاة الجمعة على الرّجال دون النّساء :
6 – من شرائط وجوب صلاة الجمعة الذّكورة ، وأمّا المرأة فلا تجب عليها صلاة الجمعة اتّفاقاً .
انظر مصطلح : ( صلاة الجمعة )
و - كون الرّجل إماماً في الصّلاة دون المرأة :
7 - اتّفق الفقهاء على اشتراط الذّكورة في إمامة الصّلاة للرّجال في الفريضة ، فلا تصحّ إمامة المرأة للرّجال فيها لقوله صلى الله عليه وسلم » أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه « ، ولما روى جابر مرفوعاً » لا تؤمّنّ امرأة رجلاً « ، ولأنّ في إمامتها للرّجال افتتاناً بها .
ز - ما يختصّ بالرّجل من أعمال الحجّ :
8 - يحرم على الرّجل لبس المخيط من الثّياب بخلاف المرأة ، والمشروع في حقّه الحلق أو التّقصير بخلاف المرأة ، فإنّ المشروع في حقّها التّقصير دون الحلق ، ويسنّ للرّجل الرّمل في طوافه والاضطباع والإسراع بين الميلين الأخضرين في السّعي ورفع صوته بالتّلبية . وأمّا المرأة فإنّها تخالفه في ذلك كلّه .
والتّفصيل محلّه مصطلح : ( حجّ ، وإحرام ، وتلبية ، وطواف ) .
ح - دية الرّجل :
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ دية الرّجل الحرّ المسلم مائة من الإبل ، وأمّا دية المرأة الحرّة المسلمة فهي نصف دية الرّجل الحرّ المسلم .
والتّفصيل محلّه مصطلح : ( دية )
ط - وجوب الجهاد على الرّجل دون المرأة :
10 - الجهاد إذا كان فرض عينٍ بأن دهم العدوّ بلداً من بلاد المسلمين ، فإنّه يجب على كلّ قادرٍ على حمل السّلاح والقتال من أهل ذلك البلد رجلاً كان أو امرأةً أو صبياً أو شيخاً ، وأمّا إذا كان فرض كفايةٍ فإنّه يجب على الرّجال فقط ، وأمّا المرأة فلا يجب عليها لضعفها اتّفاقاً .
وانظر : ( جهاد ) .
ي - أخذ الجزية من المرأة :
11 - لا تؤخذ الجزية من المرأة .
وانظر : ( جزية ) .
ك - اختصاص الشّهادة في غير الأموال بالرّجال دون النّساء :
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الشّهادة في القود والحدود لا يقبل فيها إلاّ الرّجال فلا تقبل فيها شهادة المرأة .
وانظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( شهادة ) .
ل - الميراث :
13 - يختلف ميراث الرّجل عن ميراث المرأة في كثيرٍ من الصّور .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إرث )
م - الرّجل والولاية :
14 - يقدّم الرّجل على المرأة في كلّ ولايةٍ هو أقوم بمصالحها منها .(/1)
وتقدّم المرأة على الرّجل في الولاية الّتي هي أقوم بمصالحها من الرّجل وهي الحضانة . وتفصيل ذلك محلّه مصطلح : ( ولاية ) .
وانظر أيضاً مصطلح : ( ذكورة ) .(/2)
رداء *
التّعريف :
1 - من معاني الرّداء في اللّغة : الثّوب يستر الجزء الأعلى من الجسم فوق الإزار ، ويطلق على كلّ ما يرتدى ويلبس .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : ما يستر على البدن من الثّياب . ويقابله : الإزار وهو : ما يستر أسفل البدن .
الحكم الشّرعيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للمحرم أن يلبس رداءً وإزاراً أبيضين جديدين أو مغسولين . لما روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً : » ليحرم أحدكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلين «
والتّفاصيل في ( إحرام ) .
وقال المالكيّة : يندب الرّداء لكلّ مصلٍّ ولو نافلةً .
والرّداء : هو ما يلقيه على عاتقيه أي كتفيه فوق ثوبه دون أن يغطّي به رأسه ، ويتأكّد ذلك لأئمّة المسجد ، ويكره لهم تركه .
وقال جمهور الفقهاء : الأفضل أن يصلّي بقميصٍ ورداءٍ ، فإن أراد الاقتصار على ثوبٍ واحدٍ فالقميص أفضل من الرّداء ، لأنّه أبلغ في السّتر ، ثمّ الرّداء ثمّ المئزر ، وإن كان يصلّي بثوبين فالأفضل القميص والرّداء ، ثمّ الإزار أو السّراويل مع القميص ، ثمّ أحدهما مع الرّداء ، والإزار مع الرّداء أفضل من السّراويل مع الرّداء ، لأنّه لبس الصّحابة ، ولأنّه لا يحكي تقاطيع الخلقة .
وقال الشّافعيّة : قميص مع رداءٍ أو إزارٍ أو سراويل ، أولى من رداءٍ مع إزارٍ أو سراويل وأولى من إزارٍ مع سراويل . وإن صلّى في الرّداء وحده وكان واسعاً التحف به ، وإن كان ضيّقاً خالف بين طرفيه بمنكبيه .
ويكره أن يصلّي بالاضطباع بأن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر ، ويكره اشتمال الصّمّاء : بأن يجلّل بدنةً بالرّداء ثمّ يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر ، كما يكره اشتمال اليهود بأن يجلّل بدنه بالثّوب دون رفع طرفيه للنّهي عن ذلك .
ر : ( صلاة ) .
تحويل الرّداء في دعاء الاستسقاء :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحبّ تحويل الرّداء بعد دعاء الاستسقاء ، وهو أن يجعل ما على المنكب الأيمن على الأيسر ، وما على الأيسر على الأيمن .
لما روى البخاريّ : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلّى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه فصلّى ركعتين « .
وقال أبو حنيفة يدعو بلا قلب رداءٍ(/1)
رسغ *
التّعريف :
1 - الرّسغ لغةً هو من الإنسان مفصل ما بين السّاعد والكفّ ، والسّاق والقدم ، وهو من الحيوان الموضع المستدقّ الّذي بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرّجل .
ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالنّسبة للإنسان .
قال النّوويّ : الرّسغ مفصل الكفّ وله طرفان وهما عظمان : الّذي يلي الإبهام كوع ، والّذي يلي الخنصر كرسوغ .
ويذكرون الكوع والرّسغ في بيان حدّ اليد المأمور بغسلها في ابتداء الوضوء ومسحها في التّيمّم ، وقطعها في السّرقة .
الحكم الإجماليّ :
غسل اليدين إلى الرّسغين في ابتداء الوضوء :
2 - يسنّ غسل اليدين إلى الرّسغين في ابتداء الوضوء في الجملة ، سواء قام من النّوم أم لم يقم ، لأنّها الّتي تغمس في الإناء وتنقل ماء الوضوء إلى الأعضاء ففي غسلهما إحراز لجميع الوضوء .
وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله ، ولأنّه ورد غسلهما في صفة وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي رواها عثمان ، وكذلك في وصف عليٍّ وعبد اللّه بن زيدٍ وغيرهما لوضوئه صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إنّه فرض وتقديمه سنّة ، واختاره في فتح القدير والمعراج والخبّازيّة ، وإليه يشير قول محمّدٍ في الأصل .
وللتّفصيل في أحكام غمس اليد في الإناء قبل غسلها ، وحكم غسل اليدين عند القيام من نوم اللّيل أو نوم النّهار ، وكيفيّة غسلهما تنظر مصطلحات : ( نوم ، وضوء ، ويد ) .
مسح اليدين إلى الرّسغين في التّيمّم :
3 - اختلف الفقهاء في حدّ الأيدي الّتي أمر اللّه سبحانه وتعالى بمسحها في التّيمّم في قوله : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } على الاتّجاهات الآتية :
يرى الحنفيّة والشّافعيّة على المذهب ومالك في إحدى الرّوايتين عنه وجوب استيعاب اليدين إلى المرفقين بالمسح واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » التّيمّم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين « .
وكذلك بما ورد من حديث الأسلع قال : » كنت أخدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل بآية التّيمّم ، فأراني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كيف المسح للتّيمّم ، فضربت بيديّ الأرض ضربةً واحدةً ، فمسحت بهما وجهي ، ثمّ ضربت بهما الأرض فمسحت بهما يديّ إلى المرفقين « .
وذهب الحنابلة وأبو حنيفة - فيما رواه الحسن عنه - ومالك في الرّواية الأخرى وعليها جمهور المالكيّة والشّافعيّة على القديم والأوزاعيّ والأعمش إلى وجوب مسح اليدين في التّيمّم إلى الرّسغين ، واستدلّوا بقوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } وقالوا في وجه الاستدلال بالآية : إنّ الحكم إذا علّق بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذّراع كقطع السّارق ومسّ الفرج .
كما احتجّوا بحديث عمّارٍ قال : » بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ فأجنبت فلم أجد ماءً فتمرّغت في الصّعيد كما تتمرّغ الدّابّة ، ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : إنّما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ، ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربةً واحدةً ثمّ مسح الشّمال على اليمين وظاهر كفّيه ووجهه « . وفي لفظٍ : » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتّيمّم للوجه والكفّين « .
وذهب الزّهريّ ومحمّد بن مسلمة وابن شهابٍ إلى أنّ الفرض هو المسح إلى المناكب . وللتّفصيل ( ر : تيمّم ) .
موضع القطع من اليد في السّرقة :
4 - ذهب فقهاء الأمصار إلى أنّ المستحقّ في السّرقة هو قطع اليمنى من الرّسغ ، لأنّ المنصوص قطع اليد ، وقطع اليد قد يكون من الرّسغ ، وقد يكون من المرفق ، وقد يكون من المنكب ، ولكن هذا الإبهام زال ببيان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنّه أمر بقطع يد السّارق من الرّسغ ، ولأنّ هذا القدر متيقّن به ، وفي العقوبات إنّما يؤخذ بالمتيقّن . وللتّفصيل : ( ر : سرقة ) .(/1)
رطوبة *
التّعريف :
1 - الرّطوبة لغةً : مصدر رطب ، تقول رطب الشّيء بالضّمّ إذا ندي ، وهو خلاف اليابس الجافّ ، والرّطوبة بمعنى البلل والنّداوة .
ولا يخرج معنى الرّطوبة في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ ، إلاّ أنّ الحنابلة فرّقوا في الحكم بين الرّطوبة والبلل . قال في كشّاف القناع : لو قطع بالسّيف المتنجّس ونحوه بعد مسحه قبل غسله فما فيه بلل كبطّيخٍ ونحوه نجّسه لملاقاة البلل للنّجاسة ، فإن كان ما قطعه به رطباً لا بلل فيه كجبنٍ ونحوه فلا بأس به كما لو قطع به يابساً ، لعدم تعدّي النّجاسة إليه .
الحكم الإجماليّ :
أ - رطوبة فرج المرأة :
2 - اختلف الفقهاء في طهارة رطوبة فرج المرأة وهي ماء أبيض متردّد بين المذي والعرق .
فذهب أبو حنيفة والحنابلة إلى طهارتها ، ومن ثمّ فإنّ رطوبة الولد عند الولادة طاهرة . ومحلّ الطّهارة عند الحنفيّة إذا لم يكن دم ، ولم يخالط رطوبة الفرج مذي أو منيّ من الرّجل، أو المرأة .
وذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى نجاسة رطوبة الفرج ، ويترتّب على نجاسة رطوبة الفرج تنجيس ذكر الواطئ أو ما يدخل من خرقةٍ أو أصبعٍ .
وقسّم الشّافعيّة رطوبة الفرج إلى ثلاثة أقسامٍ : طاهرةٍ قطعاً ، وهي ما تكون في المحلّ الّذي يظهر عند جلوس المرأة ، وهو الّذي يجب غسله في الغسل والاستنجاء ، ونجسةٍ قطعاً وهي الرّطوبة الخارجة من باطن الفرج ، وهو ما وراء ذكر المجامع ، وطاهرةٍ على الأصحّ وهي ما يصله ذكر المجامع .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( فرج ) .
ب - رطوبة فرج الحيوان :
3 - ذهب الجمهور إلى طهارة رطوبة فرج الحيوان الطّاهر ، وقد نصّ الحنفيّة على طهارة رطوبة السّخلة إذا خرجت من أمّها وكذا البيضة ، فلا يتنجّس بها الثّوب ولا الماء إذا وقعت فيه ، وإن كرهوا التّوضّؤ به للاختلاف .
وعند الشّافعيّة رطوبة الفرج طاهرة من كلّ حيوانٍ طاهرٍ ولو غير مأكولٍ .
وخصّ المالكيّة طهارة رطوبة فرج الحيوان بالمباح الأكل فقط ، وقيّدوه بقيدين :
أحدهما : ألاّ يتغذّى على نجسٍ ، وثانيهما : أن يكون ممّا لا يحيض كالإبل ، وإلاّ كانت نجسةً عقب حيضه ، وأمّا بعده فطاهرة .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( فرج ، نجاسة ) .
ج - ملاقي رطوبة النّجاسة :
4 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ والمالكيّة في المذهب إلى أنّ ملاقي رطوبة النّجاسة لا ينجّس. قال ابن عابدين : إذا لفّ طاهر جافّ في نجسٍ مبتلٍّ واكتسب الطّاهر منه الرّطوبة فقد اختلف فيه المشايخ فقيل : يتنجّس الطّاهر ، واختار الحلوانيّ أنّه لا يتنجّس إن كان الطّاهر بحيث لا يسيل منه شيء ولا يتقاطر لو عصر ، وهو الأصحّ ، واشترط بعض الحنفيّة أن يكون الثّوب النّجس الرّطب هو الّذي لا يتقاطر بعصره .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى نجاسة ملاقي رطوبة النّجاسة .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( نجاسة ) .
د - مسائل في الاستجمار :
5 - اشترط الفقهاء فيما يستجمر به أن يكون جافّاً لا رطوبة فيه ، وذلك لأنّ غير الجافّ لا يحصل به الإنقاء .
كما شرط الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لجواز الاستجمار بالحجر ألاّ يجفّ الغائط بأن يكون رطباً ، فإن جفّ تعيّن الماء ولا يجزيه الحجر .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( استنجاء ) .
هـ – المنيّ الرّطب :
6 – يختلف حكم المنيّ الرّطب عن المنيّ اليابس عند جمهور الفقهاء .
فذهب الحنفيّة إلى أنّ محلّ المنيّ اليابس يطهر بفركه ، ولا يضرّ بقاء أثره ، فإن كان رطباً فلا بدّ من غسله ولا يجزئ الفرك ، وعند المالكيّة لا تطهر النّجاسة إلاّ بالغسل فيما لا يفسد بالغسل .
وعند الشّافعيّة يسنّ غسل المنيّ مطلقاً سواء كان رطباً أو جافّاً .
وعند الحنابلة يسنّ غسله رطباً وفركه جافّاً ، لقول عائشة رضي الله عنها في المنيّ : » لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فركاً ، فيصلّي فيه « علماً بأنّ الحنفيّة والمالكيّة يقولون بنجاسة المنيّ خلافاً للشّافعيّة والحنابلة الّذين يقولون بطهارته . انظر مصطلح ( نجاسة ، ومنيّ ) .(/1)
رعاف *
التّعريف :
1 - الرّعاف لغةً : اسم من رعف رعفاً ، وهو خروج الدّم من الأنف ، وقيل : الرّعاف الدّم نفسه ، وأصله السّبق والتّقدّم ، وفرس راعف أي سابق ، وسمّي الرّعاف بذلك لأنّه يسبق علم الشّخص الرّاعف .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الأحكام المتعلّقة بالرّعاف :
انتقاض الوضوء بالرّعاف :
2 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الوضوء لا ينتقض بخروج شيءٍ من غير السّبيلين كدم الفصد ، والحجامة ، والقيء ، والرّعاف ، سواء قلّ ذلك أو كثر ، لما روى أنس رضي الله عنه :» أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم احتجم فصلّى ولم يتوضّأ ولم يزد على غسل محاجمه « . وبهذا قال عمر ، وابن عبّاسٍ وابن أبي أوفى ، وجابر وأبو هريرة ، وعائشة وسعيد بن المسيّب وسالم بن عبد اللّه بن عمر ، والقاسم بن محمّدٍ ، وطاوس ، وعطاء ، ومكحول وربيعة ، وأبو ثورٍ .
قال البغويّ : وهو قول أكثر الصّحابة .
ويرى الحنابلة أنّ الرّعاف لا ينقض الوضوء إلاّ إذا كان فاحشاً كثيراً .
أمّا كون الكثير ينقض الوضوء ، فلقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة لفاطمة بنت أبي حبيشٍ عن دم الاستحاضة : » إنّما ذلك عرق ، وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصّلاة « ، وفي روايةٍ : » توضّئي لكلّ صلاةٍ « . ولأنه نجاسة خارجة من البدن أشبهت الخارج من السّبيل .
وأمّا كون القليل لا ينقض فلمفهوم قول ابن عبّاسٍ في الدّم إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة . قال أحمد : عدّة من الصّحابة تكلّموا فيه ، وابن عمر عصر بثرةً فخرج الدّم فصلّى ولم يتوضّأ ، وابن أبي أوفى عصر دمّلاً ، وذكر أحمد غيرهما ، ولم يعرف لهم مخالف من الصّحابة فكان إجماعاً .
ويرى الحنفيّة القائلون بنقض الوضوء بسيلان الدّم عن موضعه أنّ الرّعاف ينقض الوضوء، وكذا لو نزل الدّم من الرّأس إلى ما لان من الأنف ولم يظهر على الأرنبة نقض الوضوء .
وهو مذهب الثّوريّ والأوزاعيّ وأحمد وإسحاق ، قال الخطّابيّ : وهو قول أكثر الفقهاء ، وحكاه غيره عن عمر بن الخطّاب وعليٍّ رضي الله عنهما ، وعن عطاءٍ ، وابن سيرين ، وابن أبي ليلى .
واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الوضوء من كلّ دمٍ سائلٍ « ووجه الاستدلال أنّ مثل هذا التّركيب يفهم منه الوجوب .
كما احتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضّأ ثمّ ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلّم « .
ونقل العينيّ أنّ وجه الاستدلال بالحديث من وجوهٍ :
الأوّل : أنّه أمر بالبناء وأدنى درجات الأمر الإباحة والجواز ، ولا جواز للبناء إلاّ بعد الانتقاض ، فدلّ بعبارته على البناء وعلى الانتقاض بمقتضاه .
والثّاني : أنّه أمر بالوضوء ومطلق الأمر للوجوب .
والثّالث : أنّه أباح الانصراف ، وهو لا يباح بعد الشّروع إلاّ به .
هذا ومن يرى أنّ الرّعاف ينقض الوضوء يعتبر الرّعاف الدّائم عذراً من الأعذار الّتي تبيح العبادة مع وجود العذر .
3 - وشرط اعتبار الرّعاف عذراً ابتداءً عند هؤلاء الفقهاء أن يستوعب استمراره وقت الصّلاة كاملاً . بمعنى أنّ من حصل له الرّعاف واستمرّ لم يجز له أن يصلّي أوّل صلاةٍ إلاّ في آخر وقتها ، لعدم ثبوت حكم دائم الحدث له ، واحتمال انقطاعه ، فإن استمرّ الحدث إلى آخر وقت الصّلاة ثبت له حكم دائم الحدث ، فيصحّ أن يصلّي الثّانية أو ما بعدها في أوّل وقتها .
كما يشترط أن لا يمضي على الرّاعف وقت صلاةٍ إلاّ والرّعاف فيه موجود ، حتّى لو انقطع الرّعاف وقتاً كاملاً خرج من أن يكون صاحب عذرٍ من وقت الانقطاع .
4 - ومن به رعاف دائم يتوضّأ لوقت كلّ صلاةٍ ، ويصلّي به ما شاء من الفرائض والنّوافل، هذا عند الحنفيّة والحنابلة إن خرج منه الدّم ، أمّا إن لم يخرج منه شيء فلا يتوضّأ عندهم .
وينتقض وضوء الرّاعف بخروج الوقت عند أبي حنيفة ، ومحمّدٍ ، والحنابلة ، وعند زفر ينتقض بدخول الوقت . وعند أبي يوسف بأيّهما كان ، وهو قول أبي يعلى .
أمّا المالكيّة فإنّهم يقولون : إنّ من رعف قبل الدّخول في الصّلاة فإنّه يؤخّر الصّلاة لآخر الوقت الاختياريّ إذا كان يرجو انقطاع الرّعاف ، أمّا إذا علم أنّه لا ينقطع فإنّه يصلّي به على تلك الحال في أوّل الوقت ، إذ لا فائدة في تأخيره ، ثمّ إن انقطع في وقته ليست عليه إعادة .
بناء الرّاعف على صلاته :
5 - يرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ الرّعاف لا يفسد الصّلاة فيجوز للرّاعف البناء على صلاته لما روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : » من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضّأ ثمّ ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلّم « ولما روي أنّ عليّاً رضي الله عنه كان يصلّي خلف عثمان رضي الله عنه فرعف فانصرف وتوضّأ وبنى على صلاته .
ونقل الباجيّ عن القاضي أبي محمّدٍ إجماع الصّحابة على أنّ الرّعاف لا يبطل الصّلاة ولا يمنع البناء .
وقال المالكيّة : الدّم من الخبث لا تصحّ الصّلاة معه مع الذّكر والقدرة كسائر النّجاسات . فمن رعف في الصّلاة وظنّ دوامه لآخر الوقت المختار تمادى في صلاته وجوباً على حالته الّتي هو بها ، ولا فائدة في القطع ما لم يخش من تماديه تلطّخ فرش المسجد ولو خشيه ولو بقطرةٍ قطع صوناً للمسجد من النّجاسة .
وإن لم يظنّ دوامه لآخر المختار بل ظنّ انقطاعه فيه أو شكّ فلا يخلو إمّا أن يكون سائلاً ، أو قاطراً ، أو راشحاً .(/1)
فإذا كان الدّم سائلاً ، أو قاطراً ولم يلطّخه ولم يمكنه فتله ، فإنّه يخيّر بين البناء والقطع ، واختار ابن القاسم القطع ، فقال : هو أولى ، وهو القياس .
قال زرّوق : إنّ القطع أنسب بمن لا يحسن التّصرّف في العلم ، واختار جمهور الأصحاب " المالكيّة " البناء لعمل أهل المدينة ، وقيل : هما سيّان ، وذكر ابن حبيبٍ ما يفيد وجوب البناء .
أمّا إذا كان الدّم راشحاً بأن لم يسل ولم يقطر بل لوّث طاقتي الأنف وجب تمادي الرّاعف في الصّلاة وفتل الدّم إن أمكن بأن لم يكثر ، أمّا إذا لم يمكن لكثرته كان حكمه حكم السّائل والقاطر في التّخيير بين القطع والبناء .
6- ويخرج مريد البناء لغسل الدّم حال كونه ممسكاً أنفه من أعلاه وهو مارنه ، لا من أسفله من الوترة لئلاّ يبقى الدّم في طاقتي أنفه ، فإذا غسله بنى على ما تقدّم له بشروطٍ ستّةٍ :
أ - أن لا يتلطّخ بالدّم بما يزيد على درهمٍ . أمّا إذا تلطّخ بما زاد على درهمٍ فيجب عليه قطع الصّلاة ويبتدئها من أوّلها بعد غسل الدّم .
ب - أن لا يجاوز أقرب مكان ممكنٍ لغسل الدّم فيه ، فإن جاوز الأقرب مع الإمكان إلى أبعد منه بطلت صلاته .
ج - أن يكون المكان الّذي يغسل الدّم فيه قريباً فإن كان بعيداً بطلت صلاته .
د - أن لا يستدبر القبلة من غير عذرٍ فإن استدبرها من غير عذرٍ بطلت صلاته على المشهور من المذهب .
وقال اللّخميّ : إذا استدبر الرّاعف القبلة لطلب الماء لم تبطل صلاته .
وقال القاضي عبد الوهّاب وابن العربيّ وجماعة : يخرج كيف أمكنه .
هـ- أن لا يطأ في مشيه على نجاسةٍ ، وظاهره مطلقاً ، وإلاّ بطلت صلاته ، سواء أكانت النّجاسة رطبةً أم يابسةً ، وسواء أكانت من أرواث الدّوابّ وأبوالها ، أم من غير ذلك ، وسواء أوطئها عمداً أم سهواً .
و- أن لا يتكلّم في مضيّه للغسل ، فإن تكلّم عامداً أو جاهلاً بطلت صلاته .
7- ثمّ الرّاعف لا يخلو إمّا أن يكون منفرداً أو مقتدياً أو إماماً ، فإن كان منفرداً فله أن يبني عند الحنفيّة ومالكٍ في أحد قوليه ، وبه قال محمّد بن مسلمة ، لأنّ ما يمنع البناء وما لا يمنعه لا يختلف فيه الفذّ وغيره ، كالسّلام من اثنتين فيما طال وفيما قصر - والمأموم له البناء باتّفاق المالكيّة - ولأنّه قد عمل شيئاً من الصّلاة فلا يبطله بغير تفريطٍ منه ، ولأنّه قد حاز فضيلة أوّل الوقت بذلك القدر فلا يفوت ذلك عليه كفضيلة الجماعة .
والقول الآخر عن مالكٍ : أنّ الرّاعف ليس له البناء ، وهو المشهور من مذهبه .
وقال الحنفيّة : إن كان منفرداً فانصرف وتوضّأ فهو بالخيار إن شاء أتمّ صلاته في الموضع الّذي افتتح الصّلاة فيه ، لأنّه إذا أتمّ الصّلاة حيث هو فقد سلمت صلاته عن المشي ، لكنّه صلّى واحدةً في مكانين ، وإن عاد إلى مصلاه فقد أدّى جميع الصّلاة في مكان واحدٍ لكن مع زيادة مشيٍ فاستوى الوجهان فيخيّر .
وقال بعض الحنفيّة : يصلّي في الموضع الّذي توضّأ فيه من غير خيارٍ ، ولو أتى المسجد تفسد صلاته ، لأنّه تحمّل زيادة مشيٍ من غير حاجةٍ .
وعامّة الحنفيّة قالوا : لا تفسد صلاته ، لأنّ المشي إلى الماء والعود إلى مكان الصّلاة ألحق بالعدم شرعاً .
وإن كان الرّاعف مقتدياً فانصرف وتوضّأ فإن لم يفرغ إمامه من الصّلاة فعليه أن يعود لأنّه في حكم المقتدي بعد ، ولو لم يعد وأتمّ بقيّة صلاته في بيته لا يجزئه ، لأنّه إن صلّى مقتدياً بإمامه لا يصحّ لانعدام شرط الاقتداء ، وهو اتّحاد البقعة إلاّ إذا كان بيته قريباً من المسجد بحيث يصحّ الاقتداء ، وإن صلّى منفرداً في بيته فسدت صلاته ، لأنّ الانفراد في حال وجوب الاقتداء يفسد صلاته لأنّ بين الصّلاتين تغايراً ، وقد ترك ما كان عليه وهو الصّلاة مقتدياً ، وما أدّى وهو الصّلاة منفرداً لم يوجد له ابتداء تحريمه وهو بعض الصّلاة ، لأنّه صار منتقلاً عمّا كان هو فيه إلى هذا فيبطل ذلك ، وما حصل فيه بعض الصّلاة فلا يخرج عن كلّ الصّلاة بأداء هذا القدر .
والمالكيّة متّفقون على أنّ المقتدي يبني في الرّعاف ، إلاّ أنّ الأفضل عند مالكٍ أن يقطع المقتدي الرّاعف الصّلاة بكلامٍ أو غيره فيغسل عنه الدّم ، ثمّ يبتدئ الصّلاة كي يخرج من الخلاف ويؤدّي الصّلاة باتّفاقٍ .
وإذا عاد الرّاعف ينبغي أن يشتغل بقضاء ما سبق به في حال تشاغله بالوضوء عند الحنفيّة وسحنونٍ من المالكيّة ، لأنّه لا حقّ فكأنّه خلف الإمام ، فيقوم مقدار قيام الإمام من غير قراءةٍ ، ومقدار ركوعه وسجوده ، ولا يضرّه إن زاد أو نقص .
أمّا المالكيّة فيقولون على المذهب فيما إذا اجتمع للرّاعف القضاء والبناء : أن يقدّم البناء على القضاء ، لأنّ القضاء إنّما يكون بعد إكمال ما فعله الإمام بعد دخوله معه .
وهذا جائز عند جمهور الحنفيّة أيضاً ، فقد قال الكاسانيّ : لو تابع إمامه أوّلاً ثمّ اشتغل بقضاء ما سبق به بعد تسليم الإمام جازت عند علمائنا الثّلاثة خلافاً لزفر ، بناءً على أنّ التّرتيب في أفعال الصّلاة الواحدة ليس بشرطٍ عندنا ، وعنده شرط .
وللتّفصيل ( ر : قضاء الفوائت ) .
8- أمّا إذا كان الرّاعف إماماً فإنّه يؤمر بالاستخلاف فيتوضّأ ، أو يغسل الدّم - كما يقول المالكيّة - ويبني على صلاته على نحو ما ذكر في المقتدي ، لأنّه بالاستخلاف تحوّلت الإمامة إلى الثّاني ، وصار هو كواحدٍ من المقتدين .
( ر : استخلاف ) .
أثر الرّعاف على الصّوم :(/2)
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ من رعف فأمسك أنفه فخرج الدّم من فيه ولم يرجع إلى حلقه فلا شيء عليه ، لأنّ منفذ الأنف إلى الفم دون الجوف ، فهو ما لم يصل إلى الجوف لا شيء فيه ، ومن دخل دم رعافه حلقه فسد صومه .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيؤخذ من عباراتهم أنّ ما يصل إلى جوف الصّائم بلا قصدٍ لا يفطر . وللتّفصيل ( ر : صوم ) .(/3)
رغائب *
التّعريف :
1 - الرّغائب جمع رغيبةٍ وهي لغةً العطاء الكثير ، أو ما حضّ عليه من فعل الخير . والرّغيبة اصطلاحاً عند المالكيّة على ما قاله الدّسوقيّ هي : ما رغّب فيه الشّارع وحده ولم يفعله في جماعةٍ .
وقال الشّيخ عليشٍ : صارت الرّغيبة كالعلم بالغلبة على ركعتي الفجر .
وقالوا أيضاً : الرّغيبة هي ما داوم الرّسول صلى الله عليه وسلم على فعله بصفة النّوافل ، أو رغّب فيه بقوله : من فعل كذا فله كذا ، قال الحطّاب : ولا خلاف أنّ أعلى المندوبات يسمّى سنّةً وسمّى ابن رشدٍ النّوع الثّاني رغائب ، وسمّاه المازريّ فضائل ، وسمّوا النّوع الثّالث من المندوبات نوافل .
والرّغائب عند الفقهاء صلاة بصفةٍ خاصّةٍ تفعل أوّل رجبٍ أو في منتصف شعبان .
الحكم الإجماليّ :
2 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّ صلاة الرّغائب في أوّل جمعةٍ من رجبٍ ، أو في ليلة النّصف من شعبان بكيفيّةٍ مخصوصةٍ ، أو بعددٍ مخصوصٍ من الرّكعات بدعة منكرة .
قال النّوويّ : وهاتان الصّلاتان بدعتان مذمومتان منكرتان قبيحتان ، ولا تغترّ بذكرهما في كتاب قوت القلوب والإحياء ، وليس لأحدٍ أن يستدلّ على شرعيّتهما بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال : » الصّلاة خير موضوعٍ « فإنّ ذلك يختصّ بصلاةٍ لا تخالف الشّرع بوجهٍ من الوجوه .
قال إبراهيم الحلبيّ من الحنفيّة : قد حكم الأئمّة عليها بالوضع قال في العلم المشهور : حديث ليلة النّصف من شعبان موضوع ، قال أبو حاتمٍ محمّد بن حبّان : كان محمّد بن مهاجرٍ يضع الحديث على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحديث أنسٍ موضوع ، لأنّ فيه إبراهيم بن إسحاق قال أبو حاتمٍ : كان يقلّب الأخبار ويسوق الحديث ، وفيه وهب بن وهبٍ القاضي أكذب النّاس ذكره في العلم المشهور ، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ : صلاة الرّغائب موضوعة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكذب عليه . قال : وقد ذكروا على بدعيّتهما وكراهيتهما عدّة وجوهٍ منها :
أنّ الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من الأئمّة المجتهدين لم ينقل عنهم هاتان الصّلاتان ، فلو كانتا مشروعتين لما فاتتا السّلف ، وإنّما حدثتا بعد الأربعمائة ، قال الطّرطوشيّ أخبرني المقدسيّ قال : لم يكن ببيت المقدس قطّ صلاة الرّغائب في رجبٍ ولا صلاة نصف شعبان ، فحدث في سنة ثمانٍ وأربعين وأربعمائةٍ أن قدم علينا رجل من نابلس يعرف بابن الحيّ ، وكان حسن التّلاوة فقام يصلّي في المسجد الأقصى ليلة النّصف من شعبان فأحرم خلفه رجل، ثمّ انضاف ثالث ورابع فما ختم إلاّ وهم جماعة كثيرة ، ثمّ جاء في العام القابل فصلّى معه خلق كثير ، وانتشرت في المسجد الأقصى وبيوت النّاس ومنازلهم ، ثمّ استقرّت كأنّها سنّة إلى يومنا هذا . ا هـ .
( ر : بدعة ف 23 ) وانظر للتّفصيل مصطلح ( صلاة الرّغائب ) .
الرّغيبة بمعنى سنّة الفجر :
3 - الرّغيبة تدلّ على سنّة صلاة الفجر في اصطلاح المالكيّة ، ورتبتها عندهم أعلى من المندوبات ودون السّنن ، والمندوبات عندهم كالنّوافل الرّاتبة الّتي تصلّى مع الفرائض قبلها أو بعدها والسّنن عندهم نحو الوتر والعيد والكسوف والاستسقاء .
وعند ابن رشدٍ : ركعتا الفجر سنّة لأنّه صلى الله عليه وسلم قضاها بعد طلوع الشّمس . وعند الحنفيّة ركعتا الفجر من أقوى السّنن .
وعند الشّافعيّة والحنابلة هما من السّنن الرّواتب .
وانظر للتّفصيل مصطلح : ( صلاة الفجر ) .(/1)
رفادة *
التّعريف :
1 - الرّفد بالكسر العطاء والصّلة ، وبالفتح القدح الضّخم ويكسر ، والرّفد مصدر رفده يرفده أي أعطاه ، والإرفاد : الإعانة والإعطاء ، والارتفاد : الكسب ، والاسترفاد : الاستعانة . والتّرافد : التّعاون .
والرّفادة شيء كانت قريش تترافد به في الجاهليّة ، فيخرج كلّ إنسانٍ مالاً بقدر طاقته ، فيجمعون من ذلك مالاً عظيماً أيّام الموسم فيشترون به للحاجّ الجزر " الإبل " ، والطّعام ، والزّبيب للنّبيذ ، فلا يزالون يطعمون النّاس حتّى تنقضي أيّام موسم الحجّ ، وكانت الرّفادة والسّقاية لبني هاشمٍ ، والسّدانة واللّواء لبني عبد الدّار ، وكان أوّل من قام بالرّفادة هاشم بن عبد منافٍ ، وسمّي هاشماً لهشمه الثّريد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّدانة :
2 - ومعناه خدمة الكعبة . تقول سدنت الكعبة أسدنها سدناً إذا خدمتها ، فالواحد سادن والجمع سدنة ، والسّدانة بالكسر الخدمة ، والسّدن السّتر وزناً ومعنىً .
ب - الحجابة :
3 - الحجابة اسم من الحجب مصدر حجب يحجب ، ومنه قيل للسّتر : حجاب ، لأنّه يمنع المشاهدة ، وقيل للبوّاب حاجب ، لأنّه يمنع من الدّخول .
ومنه حجابة الكعبة ، وكانت في الجاهليّة لبني عبد الدّار .
ج - السّقاية :
4 - وهي موضع يتّخذ لسقي النّاس ، والمراد بها هنا الوضع المتّخذ لسقاية الحاجّ في الموسم .
د - العمارة :
5 - العمارة اسم مصدرٍ من عمّرت الدّار عمراً أي بنيتها ، ومنه عمارة المسجد الحرام . مكانة الرّفادة في الشّرع :
6 - الرّفادة والسّقاية والعمارة والحجابة من الأمور الّتي كانت تفتخر بها قريش في الجاهليّة ، ويعتبرونها من الأعمال الّتي يمتازون بها عن غيرهم من العرب ، فهم حماة البيت يصدّون الأذى عنه ، ويطعمون ويسقون من جاءه حاجّاً أو زائراً ، وقد بلغ بهم الأمر أن جعلوا هذه الأعمال كعمل من آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيله ، وقد أنكر اللّه سبحانه وتعالى عليهم ذلك في قوله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
الحكم الإجماليّ :
7 - الرّفادة مشروعة لإقرار الإسلام لها ، وهي من وجوه البرّ ، لأنّها إكرام للحجّاج وهم ضيوف الرّحمن ، وهي صدقة على الفقراء منهم ، وصلة لغيرهم .(/1)
رفث *
التّعريف :
1 - الرّفث بفتح الرّاء والفاء - في اللّغة : الجماع وغيره ممّا يكون بين الرّجل والمرأة من تقبيلٍ ونحوه ممّا يكون في حالة الجماع ، ويطلق على الفحش .
وقال قوم : الرّفث هو قول الخنا ، والفحش ، واحتجّ هؤلاء بخبر : » إذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ، ولا يصخب « .
وقال أبو عبيدة : الرّفث : اللّغو من الكلام . يقال : رفث في كلامه يرفث ، وأرفث إذا تكلّم بالقبيح ، ثمّ جعل كنايةً عن الجماع وعن كلّ ما يتعلّق به ، فالرّفث باللّسان : ذكر المجامعة وما يتعلّق بها ، والرّفث باليد : اللّمس ، وبالعين : الغمز ، والرّفث بالفرج : الجماع .
وفي اصطلاح الفقهاء : لا يخرج الرّفث عن المعنى اللّغويّ كما ذكره أبو عبيدة .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الرّفث بمعنى مباشرة النّساء بالجماع أو غيره في العبادات منهيّ عنه على التّفصيل التّالي :
الرّفث في الصّوم :
3 - لا خلاف بين أهل العلم في أنّ من جامع في نهار رمضان عمداً ذاكراً لصومه أنّه يأثم، ويفسد صومه ، وعليه القضاء والكفّارة ، سواء أنزل أم لم ينزل ، لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } والرّفث هنا الجماع .
وكالجماع في الإثم وإفساد الصّوم والقضاء الإنزال بمباشرةٍ أو بقبلةٍ أو بلمسٍ ولو بدون جماعٍ ، فإن قبّل أو لمس أو ضمّها إليه فلم ينزل لم يفسد صومه ، وهو محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء .
أمّا الجماع ناسياً فقد اختلف الفقهاء فيه .
فذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة إلى أنّه لا يفسد الصّوم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي يأكل ويشرب ناسياً : » فليتمّ صومه فإنّما أطعمه اللّه وسقاه « .
وإذا ثبت هذا في الأكل والشّرب ثبت في الجماع للاستواء في الرّكنيّة .
وقال المالكيّة والحنابلة في ظاهر النّصّ عندهم : إنّ النّاسي كالمتعمّد فيفسد صومه إذا جامع ناسياً ، وقالوا : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » أمر الّذي جامع في نهار رمضان بالكفّارة ولم يسأله عن كونه عمداً « . ولو افترق الحال لسأل واستفصل ; ولأنّه يجب التّعليل بما تناوله لفظ السّائل وهو الوقوع على المرأة في الصّوم ، ولأنّ الصّوم عبادة يحرم الوطء فيه ، فاستوى فيها عمده وسهوه كالحجّ .
والتّفصيل في باب ( الصّوم ) .
الرّفث في الاعتكاف :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الرّفث في الاعتكاف محرّم ، لقوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فإن جامع متعمّداً فسد اعتكافه بإجماع أهل العلم ، لأنّ الجماع إذا حرّم في العبادة أفسدها كالحجّ والصّوم .
واختلفوا في الجماع ناسياً ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، إلى أنّه إن جامع المعتكف ليلاً أو نهاراً عامداً أو ناسياً بطل اعتكافه ، لأنّ ما حرّم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد .
وقال الشّافعيّة : إن جامع ناسياً فلا يبطل اعتكافه .
أمّا التّقبيل واللّمس بشهوةٍ فهو حرام ، ويفسد اعتكافه إن أنزل لعموم آية : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } أمّا إن كان ذلك بغير شهوةٍ مثل أن تغسل رأسه أو تناوله شيئاً فلا بأس به . لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » كان يدني رأسه لعائشة رضي الله عنها وهو معتكف فترجّله « .
والتّفصيل في مصطلح : ( اعتكاف ) .
الرّفث في الإحرام :
5 - الرّفث في الإحرام محرّم ، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء ، لقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فإن جامع في الفرج وهو محرم فسد نسكه ، لأنّ النّهي يقتضي الفساد ، ووجب عليه القضاء والكفّارة إن كان عامداً ، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنّ رجلاً سأله فقال : إنّي واقعت امرأتي ونحن محرمان ، فقال: أفسدت حجّك انطلق أنت وأهلك مع النّاس فاقضوا ما يقضون وحلّ إذا حلّوا ، فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وأهلك مع النّاس وأهديا هدياً ، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيّامٍ في الحجّ ، وسبعةً إذا رجعتم .
أمّا إن جامع المحرم ناسياً فقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : هو كمن جامع عامداً ، قالوا : لأنّ الفساد باعتبار معنى الارتفاق في الإحرام ارتفاقاً مخصوصاً ، وهذا لا ينعدم بهذه العوارض ، والحجّ ليس بمعنى الصّوم ، لأنّ حالات الإحرام مذكّرة له كالصّلاة ، ولأنّه شيء لا يقدر على ردّه كالشّعر إذا حلقه ، والصّيد إذا قتله ، فهذه الثّلاثة يستوي فيها العمد ، والنّسيان .
وقال الشّافعيّة : لا يفسد حجّه ، لأنّه عبادة تتعلّق الكفّارة بإفسادها ، فتختلف بالمذكورات في الحكم كالصّوم .
أمّا المباشرة فيما دون الفرج ، فإن أنزل فعليه دم وإن لم ينزل فلا شيء عليه ، ولا خلاف بين الفقهاء في حرمته .
أمّا فساد الحجّ ووجوب الكفّارة ونوعها ، وبقيّة أحكام الرّفث في الإحرام ، فيرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلح ( إحرام ) .(/1)
رفض *
التّعريف :
1 - الرّفض في اللّغة : التّرك : يقال : رفضت الشّيء أرفضه بالضّمّ ، وأرفضه بالكسر رفضاً : إذا تركته .
وفي الاصطلاح : جعل ما وجد من العبادة والنّيّة كالمعدوم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الفسخ :
2 - الفسخ نقض الشّيء وإزالته . تقول : فسخت البيع والنّكاح إذا نقضتهما .
وفي هذا حديث : كان فسخ الحجّ رخصةً لأصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم
وفسخ الحجّ : أن ينوي الحجّ أوّلاً ثمّ يبطله ويجعله عمرةً . ويحلّ ثمّ يعود فيحرم بحجّةٍ . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في بحثي : ( إحرام :1/179 ، وحجّ :5 /287 ) .
ب - الإفساد :
3 - الإفساد من فسد الشّيء ، وأفسده هو : وهو ضدّ الصّلاح .
ج - الإبطال :
4 - الإبطال هو إفساد الشّيء وإزالته حقّاً كان ذلك الشّيء أو باطلاً ، واصطلاحاً : الحكم على الشّيء بالبطلان سواء وجد صحيحاً ثمّ طرأ عليه سبب البطلان ، وهو مرادف للرّفض عند المالكيّة .
الأحكام المتعلّقة بالرّفض :
أ - رفض نيّة الوضوء :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ النّيّة ركن في الوضوء ، فإذا رفض النّيّة بعد كمال الوضوء فلا يؤثّر هذا الرّفض .
ونصّ المالكيّة على أنّه إذا رفض النّيّة في أثناء الوضوء ، فإن رجع وكمّله بنيّة رفع الحدث قريباً على الفور فلا يؤثّر أيضاً . أمّا إذا رفضه في أثنائه ، ثمّ لم يكمله على الفور ، بنيّة رفع الحدث أو كمّله على الفور بنيّة التّبرّد أو التّنظيف ، فإنّه يبطل ويعيد ما تمّ بهذه النّيّة .
والتّفصيل في ( وضوء ) .
ب - رفض نيّة الصّلاة :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ رفض نيّة الصّلاة في أثنائها مبطل لها ، كأن قطع النّيّة في أثناء الصّلاة ، أو عزم على قطعها ، أو تردّد هل يقطع أم يستمرّ فيها ؟ وطال التّردّد ، أو يأتي بما يتنافى مع نيّة الصّلاة ، لأنّه قطع حكم النّيّة قبل إتمام صلاته ففسدت كما لو سلّم فيها ينوي قطع الصّلاة ، ولأنّ النّيّة شرط في جميع الصّلاة ، وقد قطعها بما حدث ، ففسدت.
والتّفصيل في ( نيّة ، وصلاة ) .
ج - رفض نيّة الصّوم :
7 - ذهب المالكيّة والحنابلة في المذهب والشّافعيّة في قولٍ : إلى أنّ رفض نيّة الصّوم يبطل الصّوم ولو لم يفعل ما يفسد الصّيام .
وذهب الحنفيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة وقول عند الحنابلة : إلى أنّ رفض نيّة الصّوم لا يبطل الصّوم إلاّ بمباشرة ما يفطر .
وللتّفصيل انظر مصطلح : ( صوم ) .
د - رفض الإحرام :
8 - رفض الإحرام لا يبطله باتّفاق الفقهاء .
( ر : إحرام ف 128 ) .
جاء في التّاج والإكليل : إنّ رافض إحرامه ليس رفضه بمضادٍّ لما هو فيه ، لأنّه إنّما رفض مواضع يأتيها فإذا رفض إحرامه ثمّ عاد إلى المواضع الّتي يخاطب بها ففعلها لم يحصل لرفضه حكم .
وقال في كشّاف القناع : وإن قال في إحرامه متى شئت أحللته ، أو إن أفسدته لم أقضه ، لم يصحّ .
والتّفصيل في ( إحرام ) .
هـ – رفض الحجّ أو العمرة :
9 – إذا أحرم المكّيّ بالعمرة ، ثمّ أردفها بإحرام الحجّ فلا يخلو من ثلاث صورٍ :
الأولى : الإحرام بالحجّ قبل البدء بطواف العمرة :
يجوز إدخال الحجّ على العمرة في هذه الصّورة عند جمهور الفقهاء بأداء أعمال كلا النّسكين ، ويكون قارناً عندهم ، سواء أكان مكّيّاً أم آفاقيّاً ، بناءً على أصلهم من جواز القران للمكّيّ .
وقال الحنفيّة : صحّ ذلك للآفاقيّ ، ويصير قارناً ، ولا يصحّ للمكّيّ ، فإذا أضاف المكّيّ إحرام الحجّ على إحرام العمرة ولم يبدأ بطواف العمرة ، عليه أن يرفض العمرة ويمضي على حجّته ، وعليه دم الرّفض وقضاء العمرة ، لأنّ الجمع بينهما معصية بالنّسبة للمكّيّ ، والنّزوع عن المعصية لازم . وإنّما يرفض العمرة دون الحجّ ، لأنّها أقلّ عملاً وأخفّ مؤنةً من الحجّة ، فكان رفضها أيسر .
ووجه وجوب الدّم والعمرة قضاءً ، هو أنّه تحلّل من العمرة قبل وقت التّحلّل فيلزمه الدّم كالمحصر ، ووجبت عليه العمرة قضاءً بسبب شروعه فيها بالإحرام ، وهذا باتّفاق فقهاء الحنفيّة .
الصّورة الثّانية : الإحرام بالحجّ بعد تمام طواف العمرة :
صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يصحّ إدخال الإحرام بالحجّ بعد الطّواف للعمرة لاتّصال إحرامه بمقصوده وهو أعظم أفعالها فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها ، كما علّله الشّافعيّة . ولأنّه شارع في التّحلّل من العمرة فلم يجز إدخال الحجّ عليها ، كما لو سعى بين الصّفا والمروة ، كما علّله الحنابلة .
وقال الحنفيّة : يستمرّ في أعمال العمرة ويرفض الحجّ ، لأنّ العمرة مؤدّاة ، والحجّ غير مؤدًّى فكان رفض الحجّ امتناعاً عن الأداء ورفض العمرة إبطالاً للعمل ، والامتناع عن العمل دون الإبطال ، وقد قال اللّه تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فكان رفض الحجّ أولى . وصرّح الحنفيّة بأنّ من أتمّ أكثر أشواط الطّواف ، كأن طاف للعمرة أربعة أشواطٍ فأكثر فهو في حكم من أتمّ جميعها ، لأنّ للأكثر حكم الكلّ .
وقال المالكيّة : يصحّ إضافة الإحرام بالحجّ بعد الطّواف للعمرة ، ويصير قارناً لكنّه يكره ، مع تفصيلٍ عندهم .
الثّالثة : الإحرام بالحجّ بعد أن طاف أقلّ أشواط العمرة :
قال المالكيّة في المعتمد عندهم ، والحنابلة : يصحّ إدخال الحجّ على العمرة قبل تمام الطّواف ويمضي في أعمالهما ويصير قارناً .(/1)
وقال الشّافعيّة وهو قول بعض المالكيّة : لو شرع في الطّواف ولو بخطوةٍ ، ثمّ أحرم فإنّه لا يصحّ ، لاتّصال إحرامه بمقصوده ، وهوالطّواف ، فلا ينصرف بعد ذلك إلى غير العمرة . وقال الحنفيّة : إذا أحرم المكّيّ بعمرةٍ ، وطاف أقلّ من أربعة أشواطٍ ، ثمّ أحرم بالحجّ فعليه أن يرفض أحد النّسكين : " الحجّ أو العمرة " ، لأنّ الجمع بينهما معصية ، والنّزوع عن المعصية لازم . ثمّ اختلفوا :
فقال أبو حنيفة : يرفض الحجّ ، لأنّ إحرام العمرة قد تأكّد بأداء الشّيء من أعمالها وهو الطّواف ، وإحرام الحجّ لم يتأكّد بأيّ عملٍ ، ورفع غير المتأكّد أيسر ، ولأنّ رفض الحجّ امتناع عن العمل ، ورفض العمرة إبطال للعمل ، والامتناع دون الإبطال .
وقال أبو يوسف ومحمّد : يرفض العمرة ، ويمضي في الحجّ ، لأنّ العمرة أدنى حالاً وأقلّ أعمالاً وأيسر قضاءً ، لكونها غير مؤقّتةٍ بالوقت ، فكان رفض العمرة أولى .
أثر الرّفض وجزاؤه :
10 - إذا رفض الحجّ على قول أبي حنيفة فعليه لرفضه دم ، لأنّه تحلّل منه قبل وقت التّحلّل فيلزمه الدّم كالمحصر ، وعليه كذلك حجّة وعمرة ، لأنّ الحجّة وجبت بالشّروع ، وأمّا العمرة فلعدم إتيانه بأفعال الحجّة في السّنة الّتي أحرم فيها فصار كفائت الحجّ .
وإذا رفض العمرة على قولهما فعليه دم ، وقضاء العمرة ، لأنّه أدّى الحجّ ، والعمرة وجبت عليه بالشّروع .
هذا ، وإن مضى فيهما ، ولم يرفض الحجّ ولا العمرة صحّ ، لأنّه أدّى أفعالهما كما التزمهما غير أنّه منهيّ عنهما ، والنّهي لا يمنع تحقّق الفعل كما هو مقرّر عند الحنفيّة ، لكن يلزمه دم لجمعه بينهما ، لأنّه تمكّن النّقصان في عمله ، لارتكابه المنهيّ عنه ، وهذا دم إجبارٍ في حقّ المكّيّ ، ودم شكرٍ في حقّ الآفاقيّ .
وتفصيل هذه الأحكام في ( إحرام ، وقران ف 22 - 27 )(/2)
رفع الحرج *
التّعريف :
1 - رفع الحرج : مركّب إضافيّ ، تتوقّف معرفته على معرفةٍ لفظيّةٍ ، فالرّفع لغةً : نقيض الخفض في كلّ شيءٍ ، والتّبليغ ، والحمل ، وتقريبك الشّيء ، والأصل في مادّة الرّفع العلوّ، يقال : ارتفع الشّيء ارتفاعاً إذا علا ، ويأتي بمعنى الإزالة . يقال : رفع الشّيء : إذا أزيل عن موضعه .
قال في المصباح المنير : الرّفع في الأجسام حقيقة في الحركة والانتقال ، وفي المعاني محمول على ما يقتضيه المقام ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : » رفع القلم عن ثلاثةٍ « والقلم لم يوضع على الصّغير ، وإنّما معناه لا تكليف ، فلا مؤاخذة .
والحرج في اللّغة : المكان الضّيّق الكثير الشّجر ، والضّيق والإثم ، والحرام ، والأصل فيه الضّيق .
قال ابن الأثير : الحرج في الأصل : الضّيق ، ويقع على الإثم والحرام . تقول رجل حَرَج وحَرِج إذا كان ضيّق الصّدر .
وقال الزّجّاج : الحرج في اللّغة أضيق الضّيّق ، ومعناه أنّه ضيّق جدّاً .
فرفع الحرج في اللّغة : إزالة الضّيق ، ونفيه عن موضعه .
ثمّ إنّ معنى الرّفع في الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللّغويّ .
والحرج في الاصطلاح ما فيه مشقّة وضيق فوق المعتاد ، فهو أخصّ من معناه اللّغويّ . ورفع الحرج : إزالة ما في التّكليف الشّاقّ من المشقّة برفع التّكليف من أصله أو بتخفيفه أو بالتّخيير فيه ، أو بأن يجعل له مخرج ، كما سبق في الموسوعة في مصطلح ( تيسير ) . فالحرج والمشقّة مترادفان ، ورفع الحرج لا يكون إلاّ بعد الشّدّة خلافاً للتّيسير .
والفقهاء والأصوليّون قد يطلقون عليه أيضاً : " دفع الحرج " و " نفي الحرج " .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّيسير :
2 - التّيسير : السّهولة والسّعة ، وهو مصدر يسّر ، واليسر ضدّ العسر ، وفي الحديث : » إنّ الدّين يسر « أي أنّه سهل سمح قليل التّشديد ، والتّيسير يكون في الخير والشّرّ ، وفي التّنزيل العزيز قوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } .
وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } .
ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ .
والنّسبة بين التّيسير ورفع الحرج أنّ رفع الحرج لا يكون إلاّ بعد شدّةٍ .
ب - الرّخصة :
3 - الرّخصة : التّسهيل في الأمر والتّيسير ، يقال : رخّص الشّرع لنا في كذا ترخيصاً وأرخص إرخاصاً إذا يسّره وسهّله .
ورخّص له في الأمر : أذن له فيه بعد النّهي عنه ، وترخيص اللّه للعبد في أشياء : تخفيفها عنه ، والرّخصة في الأمر وهو خلاف التّشديد .
فالرّخصة فسحة في مقابلة التّضييق والحرج .
ج - الضّرر :
4 - الضّرر في اللّغة ضدّ النّفع ، وهو النّقصان يدخل في الشّيء ، فالضّرر قد يكون أثراً من آثار عدم رفع الحرج .
رفع الحرج من مقاصد الشّريعة :
5 - رفع الحرج مقصد من مقاصد الشّريعة وأصل من أصولها ، فإنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه ، وقد دلّ على ذلك الكتاب والسّنّة وانعقد الإجماع على ذلك . فمن الكتاب قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .
وقوله تعالى : { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ } .
وقوله تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
وقوله تعالى :{ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } .
ومن السّنّة قول النّبيّ : » بعثت بالحنيفيّة السّمحة « .
وحديث عائشة : » ما خُيّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً « .
وانعقد الإجماع على عدم وقوع الحرج في التّكليف ، وهو يدلّ على عدم قصد الشّارع إليه ، ولو كان واقعاً لحصل في الشّريعة التّناقض والاختلاف ، وذلك منفيّ عنها ، فإنّه إذا كان وضع الشّريعة على قصد الإعنات والمشقّة ، وقد ثبت أنّها موضوعة على قصد الرّفق والتّيسير ، كان الجمع بينهما تناقضاً واختلافاً ، وهي منزّهة عن ذلك .
ثمّ ما ثبت أيضاً من مشروعيّة الرّخص ، وهو أمر متطوّع به ، وممّا علم من دين الأمّة بالضّرورة ، كرخص القصر ، والفطر ، والجمع ، وتناول المحرّمات في الاضطرار . فإنّ هذا نمط يدلّ قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة .
وكذلك ما جاء من النّهي عن التّعمّق والتّكلّف في الانقطاع عن دوام الأعمال .
ولو كان الشّارع قاصداً للمشقّة في التّكليف لما كان ثمّ ترخيص ولا تخفيف ، ولأجل ذلك لم يجب شيء من الأحكام على الصّبيّ العاقل لقصور البدن ، أو لقصوره وقصور العقل ، ولا على المعتوه البالغ لقصور العقل .
ولم يجب قضاء الصّلاة في الحيض والنّفاس ، وانتفى الإثم في خطأ المجتهد ، وكذا في النّسيان والإكراه .
قال الشّاطبيّ : إنّ الأدلّة على رفع الحرج في هذه الأمّة بلغت مبلغ القطع .
أقسام الحرج :
ينقسم الحرج من حيث الجملة إلى قسمين :
6 - الأوّل : حقيقيٌّ ، وهو ما كان له سبب معيّن واقع ، أو ما تحقّق بوجوده مشقّة خارجة عن المعتاد كحرج السّفر والمرض .
الثّاني : توهّميٌّ ، وهو ما لم يوجد السّبب المرخّص لأجله ، ولم تكن مشقّة خارجة عن المعتاد على وجهٍ محقّقٍ .
والقسم الأوّل هو المعتبر بالرّفع والتّخفيف ، لأنّ الأحكام لا تبنى على الأوهام ، والحرج الحقيقيّ ينقسم من حيث وقت تحقّقه إلى قسمين :(/1)
الأوّل : الحرج الحاليّ : وهو ما كانت مشقّته متحقّقةً في الحال ، كالشّروع في عبادةٍ شاقّةٍ في نفسها ، وكالحرج الحاصل للمريض باستعمال الماء ، أو الحاصل لغير المستطيع على الحجّ أو رمي الجمار بنفسه إن منعناه من الاستنابة .
الثّاني : الحرج الماليّ : وهو ما يلحق المكلّف بسبب الدّوام على فعلٍ لا حرج منه . كما كان من شأن عبد اللّه بن عمر وقال : » كنت أصوم الدّهر ، وأقرأ القرآن كلّ ليلةٍ فإمّا ذكرت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وإمّا أرسل إليّ فأتيته ، فقال لي : ألم أخبر أنّك تصوم الدّهر ، وتقرأ القرآن كلّ ليلةٍ ؟ فقلت : بلى يا رسول اللّه ، ولم أرد بذلك إلاّ الخير ، قال : فإنّ بحسبك أن تصوم من كلّ شهرٍ ثلاثة أيّامٍ فقلت : يا نبيّ اللّه إنّي أطيق أفضل من ذلك . قال: فإنّ لزوجك عليك حقّاً ، ولزورك عليك حقّاً ، ولجسدك عليك حقّاً . قال : فصم صوم داود نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم فإنّه كان أعبد النّاس ، قال : فقلت : يا نبيّ اللّه وما صوم داود ؟ قال : كان يصوم يوماً ويفطر يوماً . قال : واقرأ القرآن في كلّ شهرٍ قال : قلت : يا نبيّ اللّه إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : فاقرأه في كلّ عشرين قال : فقلت : يا نبيّ اللّه إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : فاقرأه في كلّ عشرٍ قال : قلت يا نبيّ اللّه إنّي أطيق أفضل من ذلك . قال : فاقرأه في كلّ سبعٍ ولا تزد على ذلك . فإنّ لزوجك عليك حقّاً ، ولزورك عليك حقّاً ، ولجسدك عليك حقّاً . قال : فشدّدت ، فشدّد اللّه عليّ ، قال : وقال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّك لا تدري لعلّك يطول بك عمر . قال : فصرت إلى الّذي قال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فلمّا كبرت وددت أنّي كنت قبلت رخصة نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم « .
قال الشّاطبيّ : إنّ دخول المشقّة وعدمه على المكلّف في الدّوام أو غيره ليس أمراً منضبطاً بل هو إضافيّ مختلف بحسب اختلاف النّاس في قوّة أجسامهم أو في قوّة عزائمهم ، أو في قوّة يقينهم .
وينقسم الحرج من حيث القدرة على الانفكاك وعدمه إلى عامٍّ وخاصٍّ .
فالحرج العامّ هو الّذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه غالباً كالتّغيّر اللاحق للماء بما لا ينفكّ عنه غالباً ، كالتّراب والطّحلب وشبه ذلك .
والحرج الخاصّ هو ما كان في قدرة الإنسان الانفكاك عنه غالباً ، كتغيّر الماء بالخلّ والزّعفران ونحوه .
7- هذا تقسيم الشّاطبيّ ، وهناك من يقسّم الحرج إلى عامٍّ وخاصٍّ من حيث شمول الحرج وعدمه .
فالعامّ ما كان عامّاً للنّاس كلّهم ، والخاصّ ما كان ببعض الأقطار ، أو بعض الأزمان ، أو بعض النّاس وما أشبه ذلك .
قال ابن العربيّ : إذا كان الحرج في نازلةٍ عامّةٍ في النّاس فإنّه يسقط ، وإذا كان خاصّاً لم يعتبر عندنا ، وفي بعض أصول الشّافعيّ اعتباره .
كما يمكن تقسيم الحرج إلى بدنيٍّ ونفسيٍّ .
فالبدنيّ : ما كان أثره واقعاً على البدن كوضوء المريض الّذي يضرّه الماء ، وصوم المريض ، وكبير السّنّ ، وترك المضطرّ أكل الميتة .
والنّفسيّ : ما كان أثره واقعاً على النّفس ، كالألم والضّيق بسبب معصيةٍ أو ذنبٍ صدر منه، وقد قال ابن عبّاسٍ في قوله تعالى { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } إنّما ذلك سعة الإسلام ما جعل اللّه من التّوبة والكفّارات .
شروط الحرج المرفوع :
8 - ليس كلّ حرجٍ مرفوعاً . بل هناك شروط لا بدّ من تحقّقها لاعتبار رفع الحرج وهي :
أ - أن يكون الحرج حقيقيّاً ، وهو ما له سبب معيّن واقع ، كالمرض والسّفر ، أو ما تحقّق بوجوده مشقّة خارجة عن المعتاد .
ومن ثمّ فلا اعتبار بالحرج التّوهّميّ ، وهو الّذي لم يوجد السّبب المرخّص لأجله ، إذ لا يصحّ أن يبنى حكم على سببٍ لم يوجد بعد ، كما أنّ الظّنون والتّقديرات غير المحقّقة راجعة إلى قسم التّوهّمات ، وهي مختلفة . وكذلك أهواء النّاس ، فإنّها تقدّر أشياء لا حقيقة لها .
فالصّواب أنّه لا اعتبار بالمشقّة والحرج حينئذٍ ، بناءً على أنّ التّوهّم غير صادقٍ في كثيرٍ من الأحوال .
ب - أن لا يعارض نصّاً .
فالمشقّة والحرج إنّما يعتبران في موضعٍ لا نصّ فيه ، وأمّا في حال مخالفة النّصّ فلا يعتدّ بهما .
وهناك تفصيل وخلاف يأتي في تعارض رفع الحرج مع النّصّ .
ج - أن يكون عامّاً .
قال ابن العربيّ : إذا كان الحرج في نازلةٍ عامّةٍ في النّاس فإنّه يسقط ، وإذا كان خاصّاً لم يعتبر عندنا ، وفي بعض أصول الشّافعيّ اعتباره ، وذلك يعرض في مسائل الخلاف .
وقد فسّر الشّاطبيّ الحرج العامّ بأنّه هو الّذي لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه ، كالتّغيّر اللاحق للماء بالتّراب والطّحلب ونحو ذلك ممّا لا ينفكّ عنه غالباً ، والخاصّ هو ما يطّرد الانفكاك عنه من غير حرجٍ كتغيّر الماء بالخلّ والزّعفران ونحوه .
أسباب رفع الحرج :
9 - أسباب رفع الحرج هي السّفر ، والمرض ، والإكراه ، والنّسيان ، والجهل ، والعسر ، وعموم البلوى ، والنّقص ، وتفصيلها في مصطلح ( تيسير ) .
قال النّوويّ : ورخص السّفر ثمانية :
منها : ما يختصّ بالطّويل قطعاً وهو القصر ، والفطر ، والمسح أكثر من يومٍ وليلةٍ .
ومنها : ما لا يختصّ به قطعاً ، وهو ترك الجمعة ، وأكل الميتة .
ومنها : ما فيه خلاف ، والأصحّ اختصاصه به وهو الجمع .
ومنها : ما فيه خلاف ، والأصحّ عدم اختصاصه به ، وهو التّنفّل على الدّابّة ، وإسقاط الفرض بالتّيمّم .(/2)
واستدرك ابن الوكيل رخصةً تاسعةً ، صرّح بها الغزاليّ وهي : ما إذا كان له نسوة وأراد السّفر ، فإنّه يقرع بينهنّ ، ويأخذ من خرجت لها القرعة ، ولا يلزمه القضاء لضرّاتها إذا رجع .
( ر : تيسير ) .
كيفيّة رفع الحرج :
رفع الحرج ابتداءً :
10 - لا يتعلّق التّكليف بما فيه الحرج ابتداءً فضلاً من اللّه سبحانه وتعالى ، ولذلك لم يجب شيء من الأحكام على الصّبيّ العاقل ، ولا على المعتوه البالغ ، ولم يجب قضاء الصّلاة في الحيض والنّفاس .
كما أنّ هناك الكثير من الأحكام والتّشريعات الّتي جاءت ابتداءً لرفع الحرج والمشقّة عن النّاس ، ولولاها لوقع النّاس فيهما .
ومنها مشروعيّة الخيار ، إذ إنّ البيع يقع غالباً من غير تروٍّ ويحصل فيه النّدم فيشقّ على العاقد ، فسهّل الشّارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه .
ومنها الرّدّ بالعيب والتّحالف والإقالة والحوالة والرّهن والضّمان والإبراء والقرض والشّركة والصّلح والحجر والوكالة والإجارة والمزارعة والمساقاة والمضاربة والعاريّة والوديعة للحرج والمشقّة العظيمة في أنّ كلّ واحدٍ لا ينتفع إلاّ بما هو ملكه ، ولا يستوفي إلاّ ممّن عليه حقّه ، ولا يأخذه إلاّ بكماله ، ولا يتعاطى أموره إلاّ بنفسه ، فسهل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير بطريق الإجارة والإعارة والقرض ، وبالاستعانة بالغير وكالةً وإيداعاً وشركةً ومضاربةً ومساقاةً ، وبالاستيفاء من غير المديون حوالةً ، وبالتّوثيق على الدّين برهنٍ وكفيلٍ وضمانٍ وحجرٍ ، وبإسقاط بعض الدّين صلحاً أو كلّه إبراءً .
ومن تلك الأحكام الّتي جاءت لرفع الحرج والمشقّة أيضاً جواز العقود غير اللازمة ، لأنّ لزومها شاقّ فتكون سبباً لعدم تعاطيها ، ومنها لزوم العقود اللازمة ، وإلاّ لم يستقرّ بيع ولا غيره .
ومنها مشروعيّة الطّلاق لما في البقاء على الزّوجيّة من المشقّة والحرج عند التّنافر ، وكذا مشروعيّة الخلع والافتداء والرّجعة في العدّة قبل الثّلاث ، ولم يشرع دائماً لما فيه من المشقّة على الزّوجة .
رفع الحرج عند تحقّق وجوده :
11 - قد يأتي الحرج والمشقّة في التّكاليف من أسبابٍ خارجيّةٍ ، إذ إنّ نفس التّكليف ليس فيه مشقّة وحرج بل فيه كلفة أي مشقّة معتادة ، وإنّما يأتي الحرج بسبب اقتران التّكليف بأمورٍ أخرى كالمرض والسّفر ، وللشّارع أنواع متعدّدة من التّخفيفات تناسب تلك المشاقّ وتكون تلك التّخفيفات بالإسقاط أو التّنقيص أو الإبدال أو التّقديم أو التّأخير أو التّرخيص أو التّغيير .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( رخصة ) ومصطلح ( تيسير ) .
تعارض رفع الحرج مع النّصّ :
12 - النّصّ إمّا أن يكون قطعيّاً أو ظنّيّاً ، والظّنّيّ إمّا أن يشهد له أصل قطعيّ أو لا .
ولا خلاف بين الفقهاء في عدم اعتبار الحرج المعارض للنّصّ القطعيّ ، وكذا الظّنّيّ الرّاجع إلى أصلٍ قطعيٍّ ، فيجب حينئذٍ الأخذ بالنّصّ وترك الحرج .
ثمّ إنّ الفقهاء قد اختلفوا في الظّنّيّ المعارض لأصلٍ قطعيٍّ كرفع الحرج ، ولا يشهد له أصل قطعيّ .
فذهب جمهور الحنفيّة إلى الأخذ بالنّصّ وعدم اعتبار الحرج ، قال ابن نجيمٍ في الأشباه : المشقّة والحرج إنّما يعتبران في موضعٍ لا نصّ فيه ، وأمّا مع النّصّ بخلافه فلا ، ولذا قال أبو حنيفة ، ومحمّد : بحرمة رعي حشيش الحرم وقطعه إلاّ الإذخر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض .. لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها ، ولا يختلى خلاها « .
قال السّرخسيّ : وإنّما تعتبر البلوى في موضعٍ لا نصّ فيه بخلافه ، فأمّا مع وجود النّصّ فلا يعتدّ به .
وقال أبو يوسف : لا بأس بالرّعي ، لأنّ الّذين يدخلون الحرم للحجّ أو العمرة يكونون على الدّوابّ ولا يمكنهم منع الدّوابّ من رعي الحشيش ففي ذلك من الحرج ما لا يخفى فيرخّص فيه لدفع الحرج .
ونقل الشّاطبيّ عن ابن العربيّ قوله : إذا جاء خبر الواحد معارضاً لقاعدةٍ من قواعد الشّرع هل يجوز العمل به أم لا ؟
فقال أبو حنيفة : لا يجوز العمل به ، وقال الشّافعيّ يجوز ، وتردّد مالك في المسألة .
قال : ومشهور قوله والّذي عليه المعوّل أنّ الحديث إن عضّدته قاعدة أخرى قال به ، وإن كان وحده تركه .
قال الشّاطبيّ : ولقد اعتمده مالك بن أنسٍ في مواضع كثيرةٍ لصحّته في الاعتبار ، كإنكاره لحديث إكفاء القدور الّتي طبخت من الإبل والغنم قبل قسم الغنيمة ، تعويلاً على أصل رفع الحرج الّذي يعبّر عنه بالمصالح المرسلة ، فأجاز أكل الطّعام قبل القسم لمن احتاج إليه ، وإلى هذا المعنى أيضاً يرجع قوله في حديث خيار المجلس . حيث قال بعد ذكره : " وليس لهذا عندنا حدّ معروف ولا أمر معمول به فيه " إشارةً إلى أنّ المجلس مجهول المدّة ، ولو شرط أحد الخيار مدّةً مجهولةً لبطل إجماعاً ، فكيف يثبت بالشّرع حكم لا يجوز شرطاً بالشّرع ؟ فقد رجع إلى أصلٍ إجماعيٍّ ، وأيضاً فإنّ قاعدة الضّرر والجهالة قطعيّة ، وهي تعارض هذا الحديث الظّنّيّ .
قواعد الأدلّة الأصوليّة والقواعد الفقهيّة المراعى فيها رفع الحرج :
13 - لمّا كان رفع الحرج مقصداً من مقاصد الشّريعة ، وأصلاً من أصولها ، فقد ظهر في كثيرٍ من الأدلّة الأصوليّة والقواعد الفقهيّة .
فمن الأدلّة الأصوليّة المراعى فيها رفع الحرج المصالح المرسلة .
قال الشّاطبيّ : إنّ حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروريٍّ ، ورفع حرجٍ لازمٍ في الدّين .(/3)
وكذا الاستحسان ، قال السّرخسيّ : كان شيخنا الإمام يقول : الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للنّاس ، وقيل : الاستحسان طلب السّهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاصّ والعامّ ، وقيل : الأخذ بالسّعة وابتغاء الدّعة ، ثمّ قال : وحاصل هذه العبارات أنّه ترك العسر لليسر ، وهو أصل في الدّين قال اللّه تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وقال صلى الله عليه وسلم لعليٍّ ومعاذٍ رضي الله عنهما حين وجّههما إلى اليمن : » يسّرا ولا تعسّرا ، وبشّرا ولا تنفّرا « .
ومن القواعد الفقهيّة في ذلك قاعدة : المشقّة تجلب التّيسير .
وقال العلماء : يتخرّج على هذه القاعدة جميع رخص الشّرع وتخفيفاته .
وبمعنى هذه القاعدة قول الشّافعيّ : إذا ضاق الأمر اتّسع .
قال ابن أبي هريرة : وضعت الأشياء في الأصول على أنّها إذا ضاقت اتّسعت ، وإذا اتّسعت ضاقت .
ويندرج تحت هذه القاعدة الرّخص ، وهي مشروعة لدفع الحرج ونفيه عن الأمّة .
وكذا قاعدة الضّرر يزال ، وما يتعلّق بهذه القاعدة من قواعد ، كالضّرورات تبيح المحظورات والحاجة تنزل منزلة الضّرورة .
ومن الأمور الّتي تنفي الحرج النّفسيّ لدى المذنب التّوبة ، والإسلام يجبّ ما قبله ، والكفّارات بأنواعها المختلفة ، قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } إنّما ذلك سعة الإسلام ما جعل اللّه من التّوبة والكفّارات .(/4)
رقبة .
التّعريف
1 - الرّقبة في اللّغة : العنق ، وقيل : أعلاه ، وقيل : مؤخّر أصل العنق . والجمع رقب ، ورقاب ، ورقبات ، وأرقب ، وهي في الأصل اسم للعضو المعروف ، فجعلت كنايةً عن جميع ذات الإنسان تسميةً للشّيء ببعضه ، أو إطلاقًا للجزء وإرادة الكلّ ، وسمّيت الجملة باسم العضو لشرفها ، والرّقبة : المملوك ، وأعتق رقبةً أي نسمةً ، وفكّ رقبةً أي أطلق أسيرًا . ويقال : أعتق اللّه رقبته ، ولا يقال : أعتق اللّه عنقه . وجعلت الرّقبة اسمًا للمملوك ، كما عبّر بالظّهر عن المركوب . وسمّي الحافظ : الرّقيب ، وذلك إمّا لمراعاته رقبة المحفوظ ، وإمّا لرفعه رقبته . وفي الاصطلاح لا تخرج عن المعنى اللّغويّ
الأحكام الإجماليّة :
أ - مسح الرّقبة في الوضوء :
2 - ذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى استحباب مسح الرّقبة بظهر يديه لا الحلقوم إذ لم يرد بذلك سنّةً عند الوضوء . وهناك قول لدى الحنفيّة : بأنّ مسح الرّقبة سنّة ، وليس مستحبًّا فقط . وذهب المالكيّة إلى كراهة مسح الرّقبة في الوضوء ، لعدم ورود ذلك في وضوئه صلى الله عليه وسلم ; ولأنّ هذا من الغلوّ في الدّين المنهيّ عنه . وذهب الحنابلة إلى أنّه لا يستحبّ مسح الرّقبة أو العنق في الوضوء ، لعدم ثبوت ذلك . وقال الشّافعيّة : من سنن الوضوء إطالة الغرّة بغسلٍ زائدٍ على الواجب من الوجه من جميع جوانبه ، وغايتها غسل صفحة العنق من مقدّمات الرّأس ، لحديث : { إنّ أمّتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجّلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل }
ب - إضافة الطّلاق إلى الرّقبة .
3 - أجمع الفقهاء على أنّ الزّوج إذا أضاف الطّلاق إلى رقبة زوجته أو عنقها ، كأن يقول : طلّقت رقبتها أو عنقها ، أو خاطبها بطلّقت رقبتك أو عنقك ، فإنّ الطّلاق يقع ; لأنّها جزء يستباح بنكاحها فتطلق به .
ج - إضافة الظّهار إلى الرّقبة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المظاهر لو شبّه رقبة زوجته أو عنقها بظهر أمّه فهو مظاهر . وذهب فقهاء المالكيّة و الشّافعيّة والحنابلة في الرّاجح عندهم إلى أنّه لو شبّه عضوًا من زوجته برقبة أمّه أو عنقها فهو مظاهر كذلك . وذهب أحمد في روايةٍ عنه إلى أنّه ليس بمظاهرٍ حتّى يشبّه جملة امرأته ; لأنّه لو حلف باللّه لا يمسّ عضوًا منها لم يسر إلى غيره من الأعضاء ، فكذلك المظاهر . ويرى الحنفيّة أنّه لو شبّهها برقبة الأمّ أو عنقها لم يكن مظاهرًا ; لأنّه شبّهها بعضوٍ من الأمّ لا يحرم النّظر إليه ، ويكون مظاهرًا عندهم إذا شبّهها بعضوٍ يحرم النّظر إليه من الأمّ كالفرج والفخذ والبطن ونحوها . الرّقبة بمعنى الإنسان المملوك :
5 - ترد الرّقبة بمعنى الإنسان المملوك في أبواب العتق ، والمكاتبة ، والكفّارات ، وعدّد بعض الفقهاء شروطًا للرّقبة الّتي تعتق من أجل كفّارة إفساد الصّوم والحجّ ، وكذلك الظّهار ، والقتل ، واليمين ، والنّذر منها . وتفصيل ذلك في الأبواب المذكورة وفي مصطلح : ( رقّ ) .(/1)
ركاز .
التّعريف
1 - الرّكاز لغةً بمعنى المركوز وهو من الرّكز أي : الإثبات ، وهو المدفون في الأرض إذا خفي . يقال : ركز الرّمح إذا غرز أسفله في الأرض ، وشيء راكز أي : ثابت . والرّكز هو الصّوت الخفيّ . قال اللّه تعالى : { أو تسمع لهم ركزًا } . وفي الاصطلاح : ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ الرّكاز هو ما دفنه أهل الجاهليّة . ويطلق على كلّ ما كان مالًا على اختلاف أنواعه . إلاّ أنّ الشّافعيّة خصّوا إطلاقه على الذّهب والفضّة دون غيرهما من الأموال . وأمّا الرّكاز عند الحنفيّة فيطلق على أعمّ من كون راكزه الخالق أو المخلوق فيشمل على هذا المعادن والكنوز . على تفصيلٍ سيأتي . الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - المعدن :
2 - المعدن لغةً : هو بفتح الدّال وكسرها اسم للمحلّ ولما يخرج ، مشتقّ من عدن بالمكان يعدن إذا أقام به ، ومنه سمّيت جنّة عدنٍ لأنّها دار إقامةٍ وخلودٍ . ومنه المعدن لمستقرّ الجواهر . وأصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ، ثمّ اشتهر في نفس الأجزاء المستقرّة الّتي ركّبها اللّه تعالى في الأرض يوم خلق الأرض ، حتّى صار الانتقال من اللّفظ إليه ابتداءً بلا قرينةٍ . واصطلاحًا : هو كلّ ما خرج من الأرض ممّا يخلق فيها من غير جنسها ممّا له قيمة ويحتاج في إخراجه إلى استنباطٍ . قال أحمد : المعادن هي الّتي تستنبط ، ليس هو شيء دفن . والمعادن ثلاثة أنواعٍ :
1 - جامد يذوب وينطبع بالنّار كالنّقدين ( الذّهب والفضّة ) ، والحديد والرّصاص والصّفر وغير ذلك .
2 - جامد لا ينطبع بالنّار كالجصّ والنّورة والزّرنيخ وغير ذلك .
3 - ما ليس بجامدٍ كالماء والقير والنّفط والزّئبق . وقد تبيّن ممّا سبق أنّ الرّكاز مباين للمعدن عند جمهور الفقهاء . وأمّا عند الحنفيّة فإنّ الرّكاز أعمّ من المعدن ، حيث يطلق عليه وعلى الكنز . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( معدن ) ب - الكنز :
3 - الكنز لغةً : المال المجموع المدّخر ، يقال : كنزت المال كنزًا إذا جمعته وادّخرته ، والكنز في باب الزّكاة : المال المدفون تسميةً بالمصدر ، والجمع كنوز . وفي الاصطلاح : قال ابن عابدين : الكنز في الأصل اسم للمثبت في الأرض بفعل إنسانٍ ، والإنسان يشمل المؤمن أيضًا لكن خصّه الشّارع بالكافر لأنّ كنزه هو الّذي يخمّس ، وأمّا كنز المسلم فلقطة ، وهو كذلك عند سائر الفقهاء ، وفيه خلاف وتفصيل يذكر في مصطلح ( كنز ) . والكنز أعمّ من الرّكاز ; لأنّ الرّكاز دفين الجاهليّة فقط ، والكنز دفين الجاهليّة وأهل الإسلام ، وإن اختلفا في الأحكام .
ج - الدّفين :
4 - الدّفين في اللّغة : هو ما أخفي تحت أطباق التّراب ، ونحوه مدفون ودفين . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ فالدّفين أعمّ من الرّكاز .
أحكام الرّكاز :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّكاز في قوله صلى الله عليه وسلم : { وفي الرّكاز الخمس } يتناول دفين الجاهليّة من الذّهب والفضّة سواء كان مضروبًا أو غيره . واختلفوا في غير النّقدين من دفين الجاهليّة . فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّ في القديم إلى أنّ الرّكاز يتناول كلّ ما كان مالًا مدفونًا على اختلاف أنواعه ، كالحديد ، والنّحاس والرّصاص ، والصّفر ، والرّخام والأعمدة ، والآنية والعروض والمسك وغير ذلك . واستدلّوا بعموم حديث { وفي الرّكاز الخمس } إذ الحديث لا يخصّ مدفونًا دون غيره ، بل هو عامّ في جميع ما دفنه أهل الجاهليّة . إلاّ أنّ الحنفيّة خالفوا جمهور الفقهاء فعمّموا إطلاق الرّكاز على المعادن الخلقيّة أيضًا لكن ليس جميعها ، بل قصروا ذلك على كلّ معدنٍ جامدٍ ينطبع - أي يلين - بالنّار كالذّهب والفضّة والحديد والنّحاس والرّصاص وغير ذلك . وألحقوا بما تقدّم المعادن السّائلة الزّئبق ، وهو قول أبي حنيفة ومحمّدٍ لأنّه يستخرج بالعلاج من عينه وطبع مع غيره فكان كالفضّة ، فإنّ الفضّة لا تنطبع ما لم يخالطها شيء . قال ابن عابدين نقلًا عن النّهر : والخلاف - أي : في الزّئبق - في المصاب في معدنه ، أمّا الموجود في خزائن الكفّار ففيه الخمس اتّفاقًا لأنّه مال . وبناءً على هذا فإنّ الرّكاز أعمّ من المعدن ومن الكنز عند الحنفيّة أي : يطلق عليهما . واستدلّوا بعموم حديث : { وفي الرّكاز الخمس } لأنّ كلًّا من المعدن والكنز مركوز في الأرض إن اختلف الرّاكز . وظاهره أنّ الرّكاز حقيقةً فيهما مشترك اشتراكًا معنويًّا وليس خاصًّا بالدّفين . وأمّا الشّافعيّة فقد قصروا إطلاق الرّكاز على ما وجد من الذّهب والفضّة فقط دون غيرهما من الأموال والمعادن ; لأنّ الرّكاز مال مستفاد من الأرض فاختصّ بما تجب فيه الزّكاة قدرًا ونوعًا .
( دفين الجاهليّة ) :(/1)
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ دفين الجاهليّة ركاز ، ويستدلّ على كونه من دفين الجاهليّة بوجوده في قبورهم أو خزائنهم أو قلاعهم . فإن وجد في مواتٍ فيعرف بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك . فإن كان على بعضه علامة كفرٍ وبعضه لا علامة فيه فركاز . أمّا إذا لم تكن بالكنز علامة يستدلّ بها على كونه من دفين الجاهليّة أو الإسلام أو اشتبه ، فالجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ) على أنّه ركاز ; لأنّ الغالب في الدّفن أن يكون من أهل الجاهليّة . وذهب الشّافعيّة - في الأصحّ - إلى أنّه ليس بركازٍ بل هو لقطة ، وذلك لأنّه مملوك فلا يستباح إلاّ بيقينٍ . وفي المجموع : قال الرّافعيّ : واعلم أنّ الحكم مدار على كونه من دفن الجاهليّة لا أنّه من ضربهم ، فقد يكون من ضربهم ويدفنه مسلم بعد أن وجده وأخذه وملكه . وهذا الّذي قاله الرّافعيّ تفريع على الأصحّ من هذين القولين : أنّ الكنز الّذي لا علامة فيه يكون لقطةً . فأمّا إذا قلنا بالقول الآخر أنّه ركاز ، فالحكم مدار على ضرب الجاهليّة . المراد بالجاهليّة :
7 - المراد بالجاهليّة : ما قبل الإسلام ، أي قبل مبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّوا بذلك لكثرة جهالاتهم ، أو من كان بعد مبعثه ولم تبلغه الدّعوة . وعلى هذا فلفظ الجاهليّة يطلق على من لا دين له قبل الإسلام أو كان له دين كأهل الكتاب . قال الشّربينيّ : ويعتبر في كون الدّفين الجاهليّ ركازًا كما قاله أبو إسحاق المروزيّ أن لا يعلم أنّ مالكه بلغته الدّعوة ، فإن علم أنّه بلغته وعاند ووجد في بنائه أو بلده الّتي أنشأها كنز فليس بركازٍ بل فيء ، حكاه في المجموع عن جماعةٍ وأقرّه . واختلف المالكيّة فيمن كان له كتاب هل يقال : إنّه جاهليّ ؟ قال الدّسوقيّ : الجاهليّة كما في التّوضيح ما عدا الإسلام كان لهم كتاب أم لا . وقال أبو الحسن : اصطلاحهم أنّ الجاهليّة أهل الفترة الّذين لا كتاب لهم . وأمّا أهل الكتاب قبل الإسلام فلا يقال لهم : جاهليّة . وعلى كلّ حالٍ دفنهم جميعهم ركاز . هذا وأخرج الفقهاء من الرّكاز دفين أهل الذّمّة . ففي الفواكه الدّواني : إنّما كان مال الذّمّيّ كالمسلم لأنّه محترم بحرمة الإسلام لدخوله تحت حكم المسلمين .
اشتراط الدّفن في الرّكاز :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ كلّ ما دفنه أهل الجاهليّة يعتبر ركازًا . ولكن اختلفوا في اشتراط الدّفن في الرّكاز . فصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّ ما وجد على ظهر الأرض من أموال الجاهليّة يعتبر ركازًا أيضًا ، جاء في المدوّنة : ما وجد على وجه الأرض من مالٍ جاهليٍّ ، أو بساحل البحر من تصاوير الذّهب والفضّة فلواجده مخمّسًا . قال الصّاويّ : واقتصر على الدّفن لأنّه الغالب ، هذا إذا تحقّق أنّه مال جاهليّ . وفي منتهى الإرادات : ويلحق بالدّفن ما وجد على وجه أرضٍ . وقد فصّل الشّافعيّة هنا على قولين متى يعتبر كونه ركازًا ؟ فقيل : بدفن الجاهليّة ، وقيل : بضربهم . قال السّبكيّ : والحقّ أنّه لا يشترط العلم بكونه من دفنهم فإنّه لا سبيل إليه ، وإنّما يكتفى بعلامةٍ تدلّ عليه من ضربٍ أو غيره . ا هـ . وهذا أولى ، والتّقييد بدفن الجاهليّ يقتضي أنّ ما وجد في الصّحارى من دفين الحربيّين الّذين عاصروا الإسلام لا يكون ركازًا بل فيئًا ، ويشترط في كونه ركازًا أيضًا أن يكون مدفونًا ، فإن وجده ظاهرًا فإن علم أنّ السّيل أظهره فركاز ، أو أنّه كان ظاهرًا فلقطة ، وإن شكّ فكما لو شكّ في أنّه ضرب الجاهليّة أو الإسلام . قاله الماورديّ . ولم نر للحنفيّة تصريحًا في هذا الموضوع .
دفين أهل الإسلام :
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ دفين أهل الإسلام لقطة . ويعرف بأن يكون عليه علامة الإسلام أو اسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو أحد خلفاء المسلمين أو والٍ لهم ، أو آية من قرآنٍ أو نحو ذلك . وتفصيل حكم اللّقطة في مصطلح ( لقطة ) . قال في المغني : وإن كان على بعضه علامة الإسلام ، وعلى بعضه علامة الكفر فكذلك ( أي : لقطة ) ، نصّ عليه أحمد في رواية ابن منصورٍ ; لأنّ الظّاهر أنّه صار إلى مسلمٍ ، ولم يعلم زواله عن ملك المسلمين ، فأشبه ما لو كان على جميعه علامة المسلمين . والّذي يظهر أنّ ذلك ليس قول الحنابلة وحدهم بل هو قول بقيّة الفقهاء أيضًا كما يظهر من كلامهم في معرفة دفين الجاهليّة . قال ابن عابدين نقلًا عن عليٍّ القاريّ : وأمّا مع اختلاط دراهم الكفّار مع دراهم المسلمين كالمشخّص المستعمل في زماننا ، فلا ينبغي أن يكون خلاف في كونه إسلاميًّا .
الواجب في الرّكاز :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الرّكاز الخمس ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { العجماء جبار وفي الرّكاز الخمس } . قال ابن المنذر : لا نعلم أحدًا خالف في هذا الحديث إلاّ الحسن فإنّه فرّق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب ، فقال : فيما يوجد في أرض الحرب الخمس ، وفيما يوجد في أرض العرب الزّكاة . قال المالكيّة : محلّ تخميسه ما لم يحتج لنفقةٍ كبيرةٍ وإلاّ فيزكّى . قال مالك : الأمر الّذي لا اختلاف فيه عندنا ، والّذي سمعته من أهل العلم يقولون : إنّ الرّكاز إنّما هو دفن يوجد من دفن الجاهليّة ما لم يطلب بمالٍ . وأمّا ما طلب بمالٍ كثيرٍ فليس بركازٍ ، إنّما فيه الزّكاة بعد وجود شروط الزّكاة حيث استأجر على العمل ، لا إن عمل بنفسه أو عبيده فلا يخرج عن الرّكاز . وأمّا أربعة أخماسه فلواجده . وسيأتي بيان مصرف الخمس الواجب إخراجه ف 22
ما يلحق بما يخمّس :(/2)
11 - ألحق المالكيّة بالرّكاز النّدرة : وهي قطعة الذّهب والفضّة الخالصة الّتي لا تحتاج إلى تصفيةٍ ، والّتي توجد في الأرض من أصل خلقتها لا بوضع واضعٍ لها في الأرض . وفيها الخمس على المشهور . وروى ابن نافعٍ عن مالكٍ أنّه ليس فيها إلاّ الزّكاة وإنّما الخمس في الرّكاز . نبش القبر لاستخراج المال :
12 - صرّح المالكيّة بأنّ ما يوجد في قبر الجاهليّ ركاز . وأمّا ما يوجد في قبر المسلم ففي حكم اللّقطة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( قبر ، ولقطة ) .
النّصاب في الرّكاز :
13 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّ في القديم ) إلى أنّه لا يشترط النّصاب في الرّكاز ، بل يجب الخمس في قليله وكثيره . وحكاه ابن المنذر عن إسحاق وأبي عبيدٍ وأصحاب الرّأي ، وقال : وبه قال أكثر أهل العلم ، وهو أولى بظاهر الحديث . وذهب الشّافعيّة - على المذهب - إلى اشتراط النّصاب بناءً على أنّ الخمس المأخوذ من الرّكاز زكاة . قال النّوويّ : اتّفقت نصوص الشّافعيّ والأصحاب على هذه المسألة : أنّه إذا وجد من الرّكاز مائة درهمٍ ، ثمّ وجد مائةً أخرى أنّه لا يجب الخمس في واحدةٍ منهما ، بل ينعقد الحول عليهما من حين كمل النّصاب ، فإذا تمّ لزمه ربع العشر كسائر النّقود الّتي يملكها ، وهذا تفريع على المذهب ، وهو اشتراط النّصاب في الرّكاز . ثمّ قال : إذا وجد من الرّكاز دون النّصاب ، وله دين تجب فيه الزّكاة يبلغ به نصابًا ، وجب خمس الرّكاز في الحال . فإن كان ماله غائبًا أو مدفونًا أو وديعةً أو دينًا - والرّكاز ناقص - لم يخمّس حتّى يعلم سلامة ماله ، وحينئذٍ يخمّس الرّكاز النّاقص عن النّصاب سواء أبقي المال أم تلف إذا علم وجوده يوم حصول الرّكاز .
الحول في الرّكاز :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يشترط الحول في الرّكاز ; لأنّ الحول يعتبر لتكامل النّماء وهذا لا يتوجّه في الرّكاز . قال النّوويّ : ونقل الماورديّ فيه الإجماع
من يجب عليه الخمس :
15 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) إلى أنّ الّذي يجب عليه الخمس هو كلّ من وجد الرّكاز من مسلمٍ أو ذمّيٍّ صغيرٍ أو كبيرٍ ، عاقلٍ أو مجنونٍ . فإن كان صبيًّا أو مجنونًا فهو لهما ، ويخرج الخمس عنهما وليّهما . وهذا قول أكثر أهل العلم . قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ على الذّمّيّ في الرّكاز يجده : الخمس ، قاله أهل المدينة والثّوريّ والأوزاعيّ وأهل العراق ، وأصحاب الرّأي وغيرهم . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يجب الخمس إلاّ على من تجب عليه الزّكاة ، سواء كان رجلًا أو امرأةً ، رشيدًا أو سفيهًا ، أو صبيًّا أو مجنونًا . ويمنع الذّمّيّ عند الشّافعيّة من أخذ المعدن والرّكاز بدار الإسلام ، كما يمنع من الإحياء بها ; لأنّ الدّار للمسلمين وهو دخيل فيها . وأمّا الحربيّ المستأمن فقد ذكر صاحب الدّرّ من الحنفيّة أنّه يستردّ منه ما أخذ إلاّ إذا عمل بإذن الإمام على شرطٍ فله المشروط . وعند الحنفيّة والحنابلة أيضًا أنّه لو عمل رجلان في طلب الرّكاز فهو للواجد ، وإن كانا مستأجرين لطلبه فهو للمستأجر ; لأنّ الواجد نائبه فيه . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( حربيّ ، شركة ، إجارة ، خمس ) .
موضع الرّكاز : أوّلًا : في دار الإسلام :
16 - أ - أن يجده في مواتٍ أو ما لا يعلم له مالك من مسلمٍ أو ذي عهدٍ ، كالأبنية القديمة ، والتّلول ، وجدران الجاهليّة وقبورهم ، فهذا فيه الخمس بلا خلافٍ سوى ما روي عن الحسن . وعبارة الحنفيّة : في أرضٍ خراجيّةٍ أو عشريّةٍ ، وهي أعمّ من أن تكون مملوكةً لأحدٍ أو لا ، صالحةٍ للزّراعة أو لا . فيدخل فيه المفاوز وأرض الموات ، فإنّها إذا جعلت صالحةً للزّراعة كانت عشريّةً أو خراجيّةً . وقال في المغني : لو وجده في هذه الأرض على وجهها أو في طريقٍ غير مسلوكٍ ، أو قريةٍ خرابٍ فهو كذلك في الحكم ، لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه قال : { سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اللّقطة ؟ فقال : ما كان في طريقٍ مأتيٍّ أو قريةٍ عامرةٍ فعرّفها سنةً ، فإن جاء صاحبها وإلاّ فلك ، وما لم يكن في طريقٍ مأتيٍّ ولا في قريةٍ عامرةٍ ففيه وفي الرّكاز الخمس } . وقال المالكيّة : يخرج خمس الرّكاز والباقي لواجده حيث وجده في أرضٍ لا مالك لها ، كموات أرض الإسلام ، أو فيافي العرب الّتي لم تفتح عنوةً ولا أسلم عليها أهلها ، وأمّا لو وجد الرّكاز في أرضٍ مملوكةٍ فيكون ما فيه لمالك الأرض . وشرط الشّافعيّة أن يجده في أرضٍ لم تبلغها الدّعوة . قال النّوويّ : إذا بنى كافر بناءً وكنز فيه كنزًا وبلغته الدّعوة وعاند فلم يسلم ثمّ هلك وباد أهله فوجد ذلك الكنز كان فيئًا لا ركازًا ، لأنّ الرّكاز إنّما هو أموال الجاهليّة العاديّة الّذين لا يعرف هل بلغتهم دعوة أم لا ؟ فأمّا من بلغتهم فما لهم فيء ، فخمسه لأهل الخمس وأربعة أخماسه للواجد . فإن وجد الرّكاز في شارعٍ أو طريقٍ مسلوكٍ فلقطة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وعند المالكيّة ركاز .
ب - أن يجد الرّكاز في ملكه :
17 - الملك إمّا أن يكون قد أحياه أو انتقل إليه .
1 - أن يكون مالكه هو الّذي أحياه ، فإذا وجد فيه ركازًا فهو له وعليه أن يخمّسه ، وزاد المالكيّة على الإحياء الإرث ، وزاد الشّافعيّة إقطاع السّلطان . أمّا الحنفيّة فيعنون بمالك الأرض أن يكون قد ملكها أوّل الفتح ، وهو من خصّه الإمام بتمليك الأرض حين فتح البلد .
2 - أن يجد الرّكاز في ملكه المنتقل إليه :(/3)
18 - إذا انتقل الملك عن طريق الإرث ووجد فيه ركازًا فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه لورثته . أمّا لو انتقل إليه ببيعٍ أو هبةٍ ووجد فيه ركازًا فقد اختلف الفقهاء في من يكون له الرّكاز . فذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة وأبو حنيفة ومحمّد وهي رواية عن أحمد ) إلى أنّه للمالك الأوّل أو لوارثه لو كان حيًّا ; لأنّه كانت يده على الدّار فكانت على ما فيها . قال ابن عابدين نقلًا عن البحر : إنّ الكنز مودع في الأرض فلمّا ملكها الأوّل ملك ما فيها ، ولا يخرج ما فيها عن ملكه ببيعها كالسّمكة في جوفها درّة . وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّه إذا لم يعرف المالك الأوّل ولا ورثته فيوضع الرّكاز في بيت المال على الأوجه . وهو قول المالكيّة . قال في الشّرح الصّغير : وهو الظّاهر بل المتعيّن . والقول الثّاني للمالكيّة : أنّه لقطة . وذهب أحمد في روايةٍ - وأبو يوسف وبعض المالكيّة إلى أنّ الرّكاز الباقي بعد الخمس للمالك الأخير ، لأنّه مال كافرٍ مظهور عليه في الإسلام ، فكان لمن ظهر عليه كالغنائم ; ولأنّ الرّكاز لا يملك بملك الأرض لأنّه مودع فيها ، وإنّما يملك بالظّهور عليه ، وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه . وقد صحّح في المغني هذه الرّواية ، ثمّ قال : لأنّ الرّكاز لا يملك بملك الدّار لأنّه ليس من أجزائها ، وإنّما هو مودع فيها ، فينزّل منزلة المباحات من الحشيش والحطب والصّيد يجده في أرض غيره فيأخذه فيكون أحقّ به . وقال ابن عابدين : قال أبو يوسف : الباقي للواجد كما في أرضٍ غير مملوكةٍ ، وعليه الفتوى ، وبه قال أبو ثورٍ . وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا اختلف الورثة فأنكر بعضهم أن يكون لمورثهم ولم ينكره الباقون ، فحكم من أنكر في نصيبه حكم المالك الّذي لم يعترف به ، وحكم المعترفين حكم المالك المعترف .
ج - أن يجد الرّكاز في ملك غيره :
19 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في روايةٍ إلى أنّ الرّكاز الموجود في دارٍ أو أرضٍ مملوكةٍ يكون لصاحب الدّار وفي روايةٍ أخرى عن أحمد أنّه لواجده . ونقل عن أحمد ما يدلّ أنّه لواجده . لأنّه قال في مسألة من استأجر أجيرًا ليحفر له في داره فأصاب في الدّار كنزًا : فهو للأجير . نقل ذلك عنه محمّد بن يحيى الكحّال ، قال القاضي : هو الصّحيح ، وهذا يدلّ على أنّ الرّكاز لواجده ، وهو قول أبي ثورٍ ، واستحسنه أبو يوسف ، وذلك لأنّ الكنز لا يملك بملك الدّار ، فيكون لمن وجده ، لكن إن ادّعاه المالك فالقول قوله ، وإن لم يدّعه فهو لواجده .
ثانيًا : أن يوجد الرّكاز في دار الصّلح :
20 - صرّح المالكيّة بأنّ دفين المصالحين لهم ولو كان الدّافن غيرهم ، فما وجد من الرّكاز مدفونًا في أرض الصّلح ، سواء كانوا هم الّذين دفنوه أو دفنه غيرهم فهو للّذين صالحوا على تلك الأرض ، والمشهور أنّه لا يخمّس ، فإن وجده أحد المصالحين في داره فهو له بمفرده سواء وجده هو أو غيره . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الرّكاز الموجود في موات دار أهل العهد يملكه واجده كموات دار الإسلام .
ثالثًا : أن يوجد الرّكاز في دار الحرب :
21 - اختلف الفقهاء في الرّكاز الموجود في دار الحرب : فذهب الحنفيّة إلى أنّ الرّكاز الموجود في دار الحرب إن كان في أرضٍ مملوكةٍ لغير مستأمنٍ فالكلّ للواجد وإلاّ وجب ردّه للمالك ، وأمّا الموجود في أرضٍ مملوكةٍ أصلًا فالكلّ للواجد بلا فرقٍ بين المستأمن وغيره ; لأنّ ما في صحرائهم ليس في يد أحدٍ على الخصوص فلا يعدّ غدرًا . وفرّق الشّافعيّة في الأرض المملوكة بين أن يؤخذ الرّكاز بقهرٍ وقتالٍ فهو غنيمة ، كأخذ أموالهم ونقودهم من بيوتهم فيكون خمسه لأهل خمس الغنيمة وأربعة أخماسه لواجده ، وبين أن يؤخذ بغير قتالٍ ولا قهرٍ فهو فيء ومستحقّه أهل الفيء . وذهب الشّافعيّة إلى أنّهم إن لم يذبّوا عنه فهو كموات دار الإسلام - بلا خلافٍ عندهم - وهو ركاز . وهذا محمول عند الحنفيّة والشّافعيّة على ما إذا دخل دار الحرب بغير أمانٍ . أمّا إذا دخل بأمانٍ فلا يجوز له أخذ الكنز لا بقتالٍ ولا بغيره . وذهب الحنابلة إلى أنّه إن قدر عليه بنفسه فهو لواجده ، حكمه حكم ما لو وجده في موات أرض المسلمين ، ولم يفرّق الحنابلة في الموات بين ما يذبّ عنه وبين ما لا يذبّ عنه ; لأنّه ليس لموضعه مالك محترم أشبه ما لو لم يعرف مالكه .
مصرف خمس الرّكاز :
22 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والمذهب عند الحنابلة وبه قال المزنيّ من الشّافعيّة ) إلى أنّ خمس الرّكاز يصرف مصارف الغنيمة وليس زكاةً . ومن ثمّ فإنّه حلال للأغنياء ولا يختصّ بالفقراء ، وهو لمصالح المسلمين ، ولا يختصّ بالأصناف الثّمانية . قال ابن قدامة : مصرفه مصرف الفيء ، وهذه الرّواية عن أحمد أصحّ ممّا سيأتي وأقيس على مذهبه ، لما روى أبو عبيدٍ عن الشّعبيّ : أنّ رجلًا وجد ألف دينارٍ مدفونةً خارجًا من المدينة ، فأتى بها عمر بن الخطّاب ، فأخذ منها الخمس مائتي دينارٍ ، ودفع إلى الرّجل بقيّتها ، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين ، إلى أن أفضل منها فضلةً ، فقال : أين صاحب الدّنانير ؟ فقام إليه ، فقال عمر : خذ هذه الدّنانير فهي لك . ولو كان المأخوذ زكاةً لخصّ به أهلها ولم يردّه على واجده ; ولأنّه مال مخموس زالت عنه يد الكافر ، أشبه خمس الغنيمة . وذهب الشّافعيّة وهي رواية عن أحمد إلى أنّه يجب صرف خمس الرّكاز مصرف الزّكاة . قال النّوويّ : هذا هو المذهب . ولتفصيل توزيع الخمس ينظر مصطلح : ( خمس ، غنيمة ، فيء ) .(/4)
ركن
التّعريف
1 - الرّكن في اللّغة : الجانب الأقوى والأمر العظيم ، وما يقوى به من ملكٍ وجندٍ وغيرهما ، والعزّ ، والمنعة . والأركان : الجوارح ، وفي حديث الحساب : { يقال لأركانه : انطقي } أي جوارحه ، وأركان كلّ شيءٍ جوانبه الّتي يستند إليها ويقوم بها . وركن الشّيء في الاصطلاح : ما لا وجود لذلك الشّيء إلاّ به . وهو " الجزء الذّاتيّ الّذي تتركّب الماهيّة منه ومن غيره بحيث يتوقّف تقوّمها عليه » . ( الألفاظ ذات الصّلة ) أ - الشّرط :
2 - الشّرط في اللّغة إلزام الشّيء والتزامه ، وكذلك الشّريطة ، والجمع شروط وشرائط وبالتّحريك العلامة ، وجمعه أشراط . واصطلاحًا عرّفه ابن السّبكيّ بقوله : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته » . واختار ابن الحاجب أنّ الشّرط " ما استلزم نفيه نفي أمرٍ على غير جهة السّببيّة » . وهو اختيار شارح التّحرير العلّامة أمير باد شاه . قال الإمام الكاسانيّ مفرّقًا بين الرّكن والشّرط : والأصل أنّ كلّ متركّبٍ من معانٍ متغايرةٍ ينطلق اسم المركّب عليها عند اجتماعها ، كان كلّ معنًى منها ركنًا للمركّب ، كأركان البيت في المحسوسات ، والإيجاب والقبول في باب البيع في المشروعات ، وكلّ ما يتغيّر الشّيء به ولا ينطلق عليه اسم ذلك الشّيء كان شرطًا ، كالشّهود في باب النّكاح . وعلى هذا فكلّ من الرّكن والشّرط لا بدّ منه لتحقّق المسمّى شرعًا ، غير أنّ الرّكن يكون داخلًا في حقيقة المسمّى ، فهو جزؤه ، بخلاف الشّرط فإنّه يكون خارجًا عن المسمّى . وقد صرّح الشّيخ محبّ اللّه بن عبد الشّكور بأنّ الأركان توقيفيّة ، قال : وإنّ جعل بعض الأمور ركنًا وبعضها شرطًا توقيفيّ لا يدرك بالعقل .
ب - الفرض :
3 - الفرض في اللّغة : القطع والتّوقيت ، والحزّ في الشّيء ، وما أوجبه اللّه تعالى ، والسّنّة ، يقال : فرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أي : سنّ . واصطلاحًا : خطاب اللّه المقتضي للفعل اقتضاءً جازمًا . وهو تعريف الواجب أيضًا ، حيث إنّ الجمهور لا يفرّقون بينهما ، فهما من التّرادف عندهم . وقال العضد في تعريف الإيجاب : هو خطاب بطلب فعلٍ غير كفٍّ ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب . والواجب هو الفعل المتعلّق بالإيجاب ، فهو فعل غير كفٍّ تعلّق به خطاب بطلبٍ بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببًا للعقاب . وعند الحنفيّة يفترق الفرض والواجب بالظّنّ والقطع ، فإن كان ما ذكر ثبت بقطعيٍّ ففرض ، وإن ثبت بظنّيٍّ فهو الواجب . ثمّ إنّ الفقهاء قد يطلقون الفرض على الرّكن ، كما صنع التّمرتاشيّ في تنوير الأبصار ، فقال في باب صفة الصّلاة : من فرائضها التّحريمة . وقال خليل في مختصره في باب الوضوء : فرائض الوضوء .. وقال في كتاب الصّلاة : فرائض الصّلاة .. قال الدّردير : أي : أركانها وأجزاؤها المتركّبة هي منها . والنّوويّ في المنهاج . فقال في باب الوضوء : فرضه ستّة . قال الشّربينيّ الخطيب : الفرض والواجب بمعنًى واحدٍ ، والمراد هنا الرّكن لا المحدود في كتب أصول الفقه . والشّيخ أبو النّجا الحجّاويّ في الإقناع ، فقال في باب الوضوء : فرضه ستّة .. لكنّ الفرض عندهم أعمّ من الرّكن . وقد صرّح بذلك الحصكفيّ فقال : ثمّ الرّكن ما يكون فرضًا داخل الماهيّة ، وأمّا الشّرط فما يكون خارجها ، فالفرض أعمّ منها وهو ما قطع بلزومه حتّى يكفر جاحده .
الحكم الإجماليّ :
4 - الرّكن إمّا أن يكون جزء ماهيّة الحقيقة الشّرعيّة في العبادات ، كالقيام في الصّلاة والإمساك في الصّوم ، وفي العقود كالإيجاب والقبول في عقد البيع . أو جزء ماهيّة الأشياء المحسوسة كأركان البيت . ( الرّكن والواجب ) :
5 - يفرّق الفقهاء بين الرّكن والواجب في بابي الحجّ والعمرة ، والصّلاة ، أمّا باب الحجّ والعمرة فباتّفاق المذاهب الأربعة فينصّون أنّ للحجّ والعمرة أركانًا ، وواجباتٍ ، وتظهر ثمرة التّفريق بينهما في التّرك ، فمن ترك ركنًا من أركان الحجّ أو العمرة لم يتمّ نسكه إلاّ به ، فإن أمكنه الإتيان أتى به ، وذلك كالطّواف والسّعي ، وإن لم يمكن الإتيان به كمن فاته الوقوف بعرفة بأن طلع عليه فجر يوم النّحر ولم يقف فإنّه يفوته الحجّ في هذه السّنة ، ويتحلّل بعمرةٍ وعليه الحجّ من قابلٍ . وذلك لأنّ الماهيّة لا تحصل إلاّ بجميع الأركان . وانظر ( حجّ : ف 123 ) ومن ترك واجبًا فعليه دم ، ويكون حجّه تامًّا صحيحًا ، فالواجب يمكن جبره بالدّم بخلاف الرّكن . وأمّا باب الصّلاة فعند الحنفيّة والحنابلة فقط فإنّهم يجعلون للصّلاة أركانًا وواجباتٍ . وتظهر ثمرة التّفريق بينهما في التّرك أيضًا . فترك الرّكن يترتّب عليه بطلان الصّلاة إن كان تركه عمدًا . أمّا إن تركه سهوًا أو جهلًا فلا تصحّ صلاته إلاّ إن أمكن التّدارك ، وفي كيفيّته خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( سجود السّهو ) . وأمّا ترك الواجب فإنّ الصّلاة لا تبطل بتركه سهوًا ، ويسجد للسّهو جبرًا له ، وتركه عمدًا يبطل الصّلاة عند الحنابلة ، وقال الحنفيّة : عليه إعادة الصّلاة وجوبًا إن تركه عمدًا جبرًا لنقصانه ، وكذا لو تركه سهوًا ولم يسجد للسّهو .
الرّكن في العبادات : تختلف أركان العبادات باختلافها :
أ - أركان الوضوء :
6 - اختلف الفقهاء في أركان الوضوء . فذهب الحنفيّة إلى أنّها أربعة أركانٍ ، غسل الوجه ، وغسل اليدين ، ومسح ربع الرّأس وغسل الرّجلين . وزاد الشّافعيّة عليها النّيّة والتّرتيب ، وزاد الحنابلة الموالاة ، إلاّ أنّهم اعتبروا النّيّة شرطًا لا ركنًا . وزاد المالكيّة الدّلك .(/1)
ب - أركان التّيمّم : اختلف الفقهاء في أركان التّيمّم .
7- فذهب الحنفيّة إلى أنّ للتّيمّم ركنين ، الضّربتان ، والمسح ، والنّيّة شرط عندهم . وقال المالكيّة : أركانه خمسة : النّيّة ، وضربة واحدة ، وتعميم الوجه واليدين إلى الكوعين بالمسح ، والصّعيد الطّاهر ، والموالاة . كما ذهب الشّافعيّة إلى أنّ أركانه خمسة وهي : نقل التّراب ، ونيّة استباحة الصّلاة ، ومسح الوجه ، ومسح اليدين إلى المرفقين ، والتّرتيب بين الوجه واليدين . وقال الحنابلة : أركانه أربعة : مسح جميع الوجه ، ومسح اليدين إلى الكوعين ، والتّرتيب ، والموالاة في غير الحدث الأكبر ، وأمّا النّيّة فهي شرط عندهم .
ج - أركان الصّلاة :
8 - اختلف الفقهاء في أركان الصّلاة ، فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ أركان الصّلاة هي : النّيّة ، واعتبرها الحنابلة شرطًا ، وتكبيرة الإحرام ، والقيام ، وقراءة الفاتحة في كلّ ركعةٍ ، والرّكوع ، والاعتدال بعده ، والسّجود ، والجلوس بين السّجدتين ، والجلوس للتّشهّد الأخير ، والتّشهّد الأخير . ( وقال المالكيّة : التّشهّد الأخير ليس بركنٍ وأمّا الجلوس فإنّه ركن لكنّه للسّلام ) والسّلام ، والتّرتيب ، والطّمأنينة . وزاد المالكيّة الرّفع من الرّكوع ، والرّفع من السّجود ، قال الدّردير : الصّلاة مركّبة من أقوالٍ وأفعالٍ فجميع أقوالها ليست بفرائض إلاّ ثلاثةً : تكبيرة الإحرام ، والفاتحة ، والسّلام ، وجميع أفعالها فرائض إلاّ ثلاثةً رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ، والجلوس للتّشهّد ، والتّيامن بالسّلام . وزاد الشّافعيّة والحنابلة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد الأخير ، كما قال الحنابلة بركنيّة التّسليمتين . وذهب الحنفيّة إلى أنّ أركان الصّلاة هي : القيام ، والرّكوع ، والسّجود ، والقراءة ، والقعدة الأخيرة مقدار التّشهّد ، وترتيب الأركان ، وإتمام الصّلاة ، والانتقال من ركنٍ إلى ركنٍ . والنّيّة عندهم شرط وليست بركنٍ وكذا التّحريمة .
د - أركان الصّيام :
9 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ للصّوم ركنًا واحدًا وهو الإمساك عن المفطرات ، وأمّا النّيّة فهي شرط عندهم . واعتبر المالكيّة والشّافعيّة النّيّة ركنًا ، فللصّوم ركنان عند المالكيّة هما النّيّة والإمساك ، وزاد الشّافعيّة ثالثًا وهو الصّائم .
هـ - أركان الاعتكاف :
10 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ للاعتكاف ركنًا واحدًا وهو اللّبث في المسجد . وقال الشّافعيّة : أركانه أربعة : النّيّة ، والمعتكف ، واللّبث ، والمسجد .
و - أركان الحجّ والعمرة :
11 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ للحجّ ركنين ، الوقوف بعرفة ، ومعظم طواف الزّيارة ( أربعة أشواطٍ ) . وأمّا الإحرام فهو شرط ابتداءً ، ركن انتهاءً . وذهب المالكيّة إلى أنّ أركان الحجّ أربعة : الإحرام ، والوقوف بعرفة ، والطّواف اتّفاقًا والسّعي على المشهور خلافًا لابن القصّار . وزاد ابن الماجشون في الأركان : الوقوف بالمشعر الحرام ورمي جمرة العقبة ، وحكى ابن عبد البرّ قولًا بركنيّة طواف القدوم . قال الدّسوقيّ : والمشهور أنّ الوقوف بالمشعر الحرام ورمي جمرة العقبة غير ركنين ، بل الأوّل مستحبّ ، والثّاني واجب يجبر بالدّم . وأمّا القول بركنيّة طواف القدوم فليس بمعروفٍ بل المذهب أنّه واجب يجبر بالدّم . وقال الشّافعيّة : أركان الحجّ ستّة : الإحرام ، والوقوف بعرفة ، والطّواف والسّعي ، والحلق أو التّقصير ، والتّرتيب بين الأركان . كما اختلف الفقهاء في أركان العمرة . فقال الحنفيّة : لها ركن واحد وهو الطّواف . وقال المالكيّة والحنابلة : أركانها ثلاثة : الإحرام ، والطّواف ، والسّعي . وزاد الشّافعيّة : الحلق أو التّقصير ، والتّرتيب .
الرّكن في العقود :
12 - هناك اتّجاهان في تحديد الرّكن في العقود : الأوّل : ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ لكلّ عقدٍ ثلاثة أركانٍ هي : الصّيغة ، والعاقدان ، والمعقود عليه ، وهذه الثّلاثة تئول في الحقيقة إلى ستّةٍ ، فمثلًا في البيع : الصّيغة عبارة عن الإيجاب والقبول . والعاقدان هما البائع والمشتري . والمعقود عليه هو المبيع والثّمن . الثّاني : ذهب الحنفيّة إلى أنّ لكلّ عقدٍ ركنًا واحدًا فقط وهو الصّيغة ( الإيجاب والقبول ) .
( أقسام الرّكن ) :(/2)
13 - اتّفق الفقهاء على تقسيم الرّكن في الصّلاة إلى فعليٍّ وقوليٍّ . وتظهر ثمرة هذا التّقسيم في التّكرار . وانفرد الحنفيّة بتقسيم الرّكن في الصّلاة إلى ركنٍ أصليٍّ وركنٍ زائدٍ ، فالقيام والرّكوع والسّجود أركان أصليّة ، والقراءة والقعود الأخير ركنان زائدان . والرّكن الزّائد عندهم هو ما يسقط في بعض الصّور من غير تحقّق ضرورةٍ بلا خلفٍ ، كسقوط القراءة بالاقتداء . والرّكن الأصليّ ما لا يسقط إلاّ لضرورةٍ . ومعنى كون الرّكن زائدًا أنّه ركن من حيث قيام ذلك الشّيء به في حالةٍ ، وانتفاؤه بانتفائه ، وزائد من حيث قيامه بدونه في حالةٍ أخرى ، فالصّلاة ماهيّة اعتباريّة ، فيجوز أن يعتبرها الشّارع تارةً بأركانٍ وأخرى بأقلّ منها . ثمّ إنّ اعتبار القراءة ، والقعود الأخير ركنين زائدين ليس متّفقًا عليه عند الحنفيّة ، وإنّما هو محلّ خلافٍ عندهم . أمّا القراءة فالأكثر على أنّها ركن زائد . كما انفرد الشّافعيّة بتقسيم الرّكن في الصّلاة إلى ركنٍ طويلٍ وركنٍ قصيرٍ ، فالقصير عندهم ركنان : الاعتدال بعد الرّكوع ، والجلوس بين السّجدتين ، وما عداهما طويل . ويترتّب على هذا التّقسيم عندهم أنّ تطويل الرّكن القصير عمدًا بسكوتٍ أو ذكرٍ لم يشرع فيه يبطل الصّلاة ; لأنّ تطويله تغيير لوضعه ، ويخلّ بالموالاة ; ولأنّه ليس مقصودًا لذاته بل للفصل بين الأركان ، وأمّا تطويله سهوًا فلا يبطل الصّلاة ويسجد للسّهو . ومقدار التّطويل عندهم أن يلحق الاعتدال بعد الرّكوع بالقيام للقراءة ، والجلوس بين السّجدتين بالجلوس للتّشهّد ، والمراد قراءة الواجب فقط لا قراءته مع المندوب أي الفاتحة وأقلّ التّشهّد .
أقلّ الرّكن وأكمله :
14 - قد يكون للرّكن كيفيّتان يتحقّق بهما ، إحداهما : كيفيّة الإجزاء ويطلق عليها بعض الفقهاء كالشّافعيّة أقلّ الرّكن ، والثّانية : كيفيّة الكمال ، وهي الكيفيّة الّتي توافق السّنّة . ومن تلك الأركان في باب الصّلاة الرّكوع والسّجود ، فينصّ الفقهاء على أنّ لهما كيفيّتين فأقلّ الرّكوع وهو القدر المجزئ منه عند الجمهور أن ينحني حتّى تقترب فيه راحتا كفّيه من ركبتيه . وقال الحنفيّة : هو خفض الرّأس مع انحناء الظّهر ، وذلك لأنّه المفهوم من موضوع اللّغة فيصدق عليه قوله تعالى : { اركعوا } ، وقد نصّ الشّافعيّة على كراهة الاقتصار على الأقلّ . وأكمل الرّكوع أن يسوّي ظهره وعنقه ، ويمكّن يديه من ركبتيه مفرّقًا أصابعه وناصبًا لركبتيه . وأقلّ السّجود مباشرة بعض جبهته مصلّاه ، وهناك خلاف في بقيّة الأعضاء بين المذاهب وينظر تفصيل ذلك في مصطلحاتها : ( ركوع ، سجود ) . وأكمل السّجود أن يضع ركبتيه ثمّ يديه ثمّ جبهته وأنفه ، ويضع يديه حذو منكبيه ، وينشر أصابعه مضمومةً للقبلة ، ويفرّق ركبتيه ، ويرفع بطنه عن فخذيه ، ومرفقيه عن جنبيه ، وهذا في الرّجل . أمّا المرأة فإنّها تضمّ بعضها إلى بعضٍ . وفي باب الحجّ : الوقوف بعرفة فأقلّه أن يحصل بعرفة في وقت الوقوف ولو لحظةً ، ولو مارًّا بها ، أو نائمًا أو جاهلًا بها ، فمن حصلت له هذه اللّحظة في وقت الوقوف صار مدركًا للحجّ ، ولا يجري عليه الفساد بعد ذلك . ووقت الوقوف من زوال يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النّحر عند الجمهور . ومن الغروب إلى طلوع فجر يوم النّحر عند مالكٍ ، فالرّكن عند المالكيّة الاستقرار لحظةً في عرفة بعد الغروب ، أمّا الوقوف نهارًا بعد الزّوال فواجب ينجبر بالدّم . وأكمله أن يجمع في الوقوف بين اللّيل والنّهار { لفعله صلى الله عليه وسلم } مع قوله صلى الله عليه وسلم : { لتأخذوا مناسككم } . وقد عدّ الحنابلة الجمع بين اللّيل والنّهار واجبًا يجب في تركه دم . وعند الحنفيّة يكون الجمع واجبًا فيما إذا وقف نهارًا ، أمّا إذا وقف ليلًا فلا واجب عليه . واستحبّ الشّافعيّة إراقة الدّم حينئذٍ خروجًا من خلاف من أوجبه .
( ترك الرّكن وتكراره ) :
15 - لترك الرّكن آثار وصور في العبادات والمعاملات تختلف باختلاف كيفيّة التّرك عمدًا كان أو سهوًا أو جهلًا ، وفي كلّ حالةٍ تفصيل وخلاف ينظر في مظانّه من الموسوعة . كما أنّ تكرار الرّكن يجري عليه ما يجري على التّرك مع ضوابط وتفصيلاتٍ تنظر في مظانّها . ترك الرّكن في العقود :
16 - ترك الرّكن في العقود يوجب بطلانها ، وذلك لانعدام الأمور الّتي لا بدّ منها ليتحقّق العقد في الخارج . فمن ترك الإيجاب أو القبول في جميع صورهما في أيّ عقدٍ من العقود فعقده باطل ، وذلك كمن باع أو اشترى من غير إيجابٍ أو قبولٍ ولم يقع على سبيل التّعاطي فيكون بيعه حينئذٍ باطلًا . ثمّ إن تخلّف الرّكن في العقود عند الحنفيّة يدخل في حالة البطلان ، والّتي يفرّقون بينها وبين حالة الفساد ، وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( بطلان ) . وأمّا ما يترتّب على بطلان العقود فينظر تفصيله في مصطلح : ( بطلان ) .
الرّكن بمعنى جزء الماهيّة المحسوسة : استلام الأركان في الطّواف :(/3)
17 - استحبّ الفقهاء استلام ركنين من أركان البيت . الأوّل : الحجر الأسود ، ويسنّ تقبيله لحديث ابن عمر رضي الله عنهما { استقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحجر ، ثمّ وضع شفتيه عليه يبكي طويلًا ، ثمّ التفت فإذا هو بعمر بن الخطّاب يبكي ، فقال : يا عمر ، هاهنا تسكب العبرات } . وعن عابس بن ربيعة عن { عمر رضي الله عنه أنّه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله ، وقال : إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك } . وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأن تكون القبلة بلا صوتٍ ، وعند المالكيّة في الصّوت بالتّقبيل قولان : الكراهة والإباحة . قال الشّيخ الحطّاب نقلًا عن الشّيخ زرّوقٍ في شرح الإرشاد : ورجّح غير واحدٍ الجواز ، ونقله أيضًا الشّيخ دسوقيّ عن الحطّاب . وزاد الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أن يسجد عليه . قال الحنابلة : فعله ابن عمر وابن عبّاسٍ ، وأنكر الإمام مالك وضع الخدّين على الحجر الأسود ، قال في المدوّنة : وهو بدعة ، قال الشّيخ الدّردير في الشّرح الكبير : وكره مالك السّجود وتمريغ الوجه عليه ، قال الحطّاب : قال بعض شيوخنا : وكان مالك يفعله إذا خلا به . وعند الحنفيّة والشّافعيّة يسنّ أن يكون التّقبيل والسّجود ثلاثًا . فإن لم يتمكّن من تقبيله استلمه بيده وقبّل يده ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلمه وقبّل يده } . ولما روى مسلم عن نافعٍ قال : { رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثمّ قبّل يده . وقال : ما تركته منذ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفعله } وهذا مذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ومذهب المالكيّة أنّه لا يقبّل يده بل يضعها على فيه من غير تقبيلٍ ، وعندهم رواية أنّه يقبّل يده كما يقبّل الحجر ، والأوّل هو المشهور ، وحجّته أنّ التّقبيل في الحجر تعبّد وليست اليد بالحجر . قال الشّافعيّة والحنابلة : ويسنّ أن تكون يده اليمنى ، وقال الحنفيّة : يضع يديه عليه ثمّ يقبّلها أو يضع إحداهما ، والأولى أن تكون اليمنى لأنّها المستعملة فيما فيه شرف . فإن لم يتمكّن من استلامه بيده استلمه بشيءٍ كعصًا ، ثمّ يقبّل ما استلمه به لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم } وهذا مذهب الجمهور ، وعند المالكيّة : يضع العصا على فيه من غير تقبيلٍ .
18 - فإن عجز عن كلّ ذلك لشدّة الزّحام أشار إليه بيده أو شيءٍ فيها من بعيدٍ ولا يزاحم النّاس فيؤذي المسلمين ، لما روي { أنّه صلى الله عليه وسلم قال لعمر : يا عمر إنّك رجل قويّ ، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضّعيف ، إن وجدت خلوةً فاستلمه ، وإلاّ فاستقبله فهلّل وكبّر } . ولأنّ الاستلام سنّة ، وإيذاء المسلم حرام ، وترك الحرام أولى من الإتيان بالسّنّة . وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : { طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعيرٍ كلّما أتى على الرّكن أشار إليه بشيءٍ عنده وكبّر } . قال الحنفيّة : يشير إليه بباطن كفّيه كأنّه واضعها عليه وذلك بأن يرفع يديه حذاء أذنيه ويجعل باطنهما نحو الحجر مشيرًا بهما إليه وظاهرهما نحو وجهه ، وصرّحوا بتقبيل كفّيه . ومذهب الشّافعيّة في التّقبيل كمذهب الحنفيّة حيث إنّهم صرّحوا بتقبيل ما أشار به ، سواء كانت الإشارة بيده أو غيرها . ومذهب الحنابلة أنّه لا يقبّل المشار به قالوا : لعدم وروده . وذهب المالكيّة أنّه إن تعذّر استلامه يكبّر فقط إذا حاذاه من غير إشارةٍ بيده ولا رفعٍ ، وصفة الاستلام عند الحنفيّة أن يضع كفّيه على الحجر ويضع فمه بين كفّيه ويقبّله ، وعند المالكيّة والشّافعيّة أن يلمسه بيده ، وقال الحنابلة : يمسحه بيده . الثّاني : الرّكن اليمانيّ ، فيسنّ استلام الرّكن اليمانيّ في الطّواف من غير تقبيلٍ ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما { أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلاّ الحجر والرّكن اليمانيّ } . وذهب محمّد بن الحسن إلى أنّه يسنّ تقبيله ، وقال المالكيّة : إذا استلمه بيده وضعها على فيه من غير تقبيلٍ ، ومذهب الشّافعيّة أنّه يقبّل ما استلمه به . وإذا لم يتمكّن من استلامه أشار إليه بيده عند الشّافعيّة والحنابلة ، قال الشّافعيّة : لأنّها بدل عنه لترتّبها عليه عند العجز في الحجر الأسود فكذا هنا ، ومقتضى القياس أنّه يقبّل ما أشار به ، قال الشّربينيّ الخطيب : وهو كذلك . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يشير عند الزّحام ، وعند المالكيّة أنّه يكبّر إذا حاذاه .(/4)
19 - وما ذكر من أحكام استلام الرّكنين يراعى في كلّ طوفةٍ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما { أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر الأسود في كلّ طوفةٍ } . وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء . وأمّا استلام الرّكنين الآخرين - الشّاميّ والعراقيّ - فليس بمشروعٍ في الجملة . قال البهوتيّ : ولا يستلم ولا يقبّل الرّكنين الآخرين ، لقول ابن عمر رضي الله عنهما : { لم أر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلاّ الرّكنين اليمانيّين } . وقد صرّح الحنفيّة والمالكيّة بكراهة استلام الرّكنين العراقيّ والشّاميّ - وهي كراهة تنزيهيّة عند الحنفيّة - قالوا : لأنّهما ليسا ركنين حقيقةً بل من وسط البيت ; لأنّ بعض الحطيم من البيت . وقال الشّافعيّة : لا يسنّ استلام الرّكنين ولا تقبيلهما . قال الشّربينيّ الخطيب : والمراد بعدم تقبيل الأركان الثّلاثة إنّما هو نفي كونه سنّةً ، فلو قبّلهنّ أو غيرهنّ من البيت لم يكن مكروهًا ولا خلاف الأولى ، بل يكون حسنًا ، كما نقله في الاستقصاء عن نصّ الشّافعيّ قال : وأيّ البيت قبّل فحسن غير أنّا نؤمر بالاتّباع . قال الإسنويّ : فتفطّن له ، فإنّه أمر مهمّ . 20 - والسّبب في اختلاف الأركان في هذه الأحكام أنّ الرّكن الّذي فيه الحجر الأسود فيه فضيلتان : كون الحجر فيه ، وكونه على قواعد إبراهيم عليه السلام ، واليمانيّ فيه فضيلة واحدة ، وهو كونه على قواعد إبراهيم عليه السلام . وأمّا الشّاميّان فليس لهما شيء من الفضيلتين . { قال ابن عمر رضي الله عنهما : ما أراه - يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الرّكنين اللّذين يليان الحجر إلاّ أنّ البيت لم يتمّ على قواعد إبراهيم ، ولا طاف النّاس من وراء الحجر إلاّ لذلك } .(/5)
ركوب
التّعريف
1 - الرّكوب لغةً : مصدر ركب . يقال : ركب الدّابّة يركبها أي علا عليها ، وكلّ ما علي عليه فقد ركب . وقيل : هو خاصّ بالإبل . ولا يخرج الرّكوب في الاصطلاح عن ذلك . ( الحكم التّكليفيّ ) :
أ - صلاة التّطوّع راكبًا :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في إباحة صلاة التّطوّع على الرّاحلة ، في السّفر الطّويل - وهو ما يجوز فيه قصر الصّلاة - وقال ابن عبد البرّ : أجمعوا على أنّه جائز لكلّ من سافر سفرًا يقصر فيه الصّلاة أن يتطوّع على دابّته حيثما توجّهت ، أمّا السّفر القصير وهو ما لا يباح فيه القصر فإنّه يباح فيه الصّلاة على الرّاحلة عند الجمهور واستدلّوا بقوله تعالى : { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } وبالصّلاة على الرّاحلة فسّرت الآية ، وقال ابن عمر : نزلت هذه الآية في التّطوّع خاصّةً ، أي حيث توجّه بك بعيرك ، وعن عبد اللّه بن دينارٍ قال : { كان عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما يصلّي في السّفر على راحلته أينما توجّهت يومئ ، وذكر عبد اللّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعله } . وأخرج البخاريّ عن ابن عمر قال : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي في السّفر على راحلته حيث توجّهت به يومئ إيماء صلاة اللّيل إلاّ الفرائض ويوتر على راحلته } » . ولمسلمٍ : { غير أنّه لا يصلّي عليها المكتوبة } ، ولم يفرّق بين قصير السّفر وطويله ; ولأنّ إباحة الصّلاة على الرّاحلة تخفيف في التّطوّع كي لا يؤدّي إلى قطعها وتقليلها ، وهذا يستوي فيه الطّويل والقصير . وقال المالكيّة : يشترط أن يكون سفر قصرٍ ، أمّا إن لم يكن سفر قصرٍ فلا يتنفّل على الدّابّة .
شروط جواز التّنفّل على الرّاحلة :
3 - يشترط لجواز التّنفّل على الرّاحلة ما يأتي :
1 - ترك الأفعال الكثيرة بلا عذرٍ كالرّكض .
2 - دوام السّفر إلى انتهاء الصّلاة . فلو صار مقيمًا في أثناء الصّلاة عليها وجب إتمامها على الأرض مستقبلًا القبلة ، وإلى هذا ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة وأبو يوسف ، ومحمّد من الحنفيّة . وقال أبو حنيفة : يجوز له أن يتمّ الصّلاة عليها . وتفصيله في الصّلاة ، وصلاة التّطوّع .
استقبال القبلة في صلاة التّطوّع على الرّاحلة :
4 - قال الشّافعيّة والحنابلة : إن أمكن استقبال القبلة على الرّاحلة وإتمام أركان الصّلاة كركوعها وسجودها لزمه ذلك ، وإن لم يمكن فلا يلزمه ذلك ، لما روي عن أنسٍ : { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ، فأراد أن يتطوّع استقبل بناقته القبلة فكبّر ثمّ صلّى حيث وجّهه ركابه } . ويختصّ وجوب الاستقبال بتكبيرة الإحرام ، فلا يجب فيما سواه ; لوقوع أوّل الصّلاة بالشّرط ، ثمّ يجعل ما بعده تابعًا له . وقال المالكيّة والحنفيّة : لا يلزمه الاستقبال وإن أمكنه ، ولو في تكبيرة الإحرام أمّا راكب السّفينة ونحوها كالعماريّة وهي نوع من السّفن يدور فيها كيف يشاء ، ويتمكّن من الصّلاة إلى القبلة ، فعليه استقبال القبلة في صلاته .
قبلة الرّاكب وجهته :
5 - قبلة المصلّي على الرّاحلة حيث وجّهته ، فإن عدل عنها لا إلى جهة القبلة فسدت صلاته ، لأنّه ترك قبلته عمدًا . فإن عدل إلى القبلة فلا تبطل صلاته ، لأنّها الأصل ، وإنّما جاز تركها للعذر . وتفصيله في مصطلح ( استقبال ) .
أداء صلاة الفرض راكبًا :
6 - يجوز أداء صلاة الفرض راكبًا في السّفينة ونحوها كالمحفّة والعماريّة ممّا يمكن معه استقبال القبلة وإتمام أركانها ، واختلفوا في الرّاحلة : فقال الجمهور : لا يجوز أداؤها على دابّةٍ ، سواء أكانت واقفةً أم سائرةً إلاّ لعذرٍ كخوفٍ . فإن صلّى على راحلته لعذرٍ لم تلزمه الإعادة . وقال الشّافعيّة : إن كانت واقفةً وتوجّه إلى القبلة وأتمّ الفرض جاز وإن لم تكن معقولةً ، لاستقراره في نفسه . أمّا إن كانت سائرةً ، أو لم يتوجّه إلى القبلة ، أو لم يتمّ أركانها فلا يجوز إلاّ لعذرٍ ; لأنّ سير الدّابّة منسوب إليه ، ويعيد الصّلاة في حالة العذر .
اتّباع الجنازة راكبًا :
7 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه ينبغي لمشيّع الجنازة أن لا يتبعها راكبًا إلاّ لعذرٍ كمرضٍ أو ضعفٍ . فقد روي { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى أناسًا ركبانًا في جنازةٍ فقال : ألا تستحيون ؟ إنّ ملائكة اللّه يمشون على أقدامهم ، وأنتم على ظهور الدّوابّ } . وإذا اتّبعها راكبًا يكون خلف الجنازة . أمّا الرّكوب في الرّجوع فلا بأس به . ولا بأس باتّباع الجنازة راكبًا عند الحنفيّة ، ولكنّ المشي أفضل منه ; لأنّه أقرب إلى الخشوع ، ويكره أن يتقدّم الرّاكب الجنازة ; لأنّ ذلك لا يخلو عن إضرارٍ بالنّاس .
صلاة المجاهد راكبًا :
8 - يجوز للمجاهد أن يصلّي راكبًا إذا التحم القتال ولم يتمكّن من تركه ، لقوله تعالى : { فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا } . والتّفصيل في ( صلاة الخوف ) .
الحجّ راكبًا :
9 - الحجّ راكبًا على الدّوابّ ، ونحوها أفضل من الحجّ ماشيًا ، لأنّ ذلك فعله صلى الله عليه وسلم ، ولأنّه أقرب إلى الشّكر ، وإلى هذا ذهب المالكيّة والحنفيّة والشّافعيّة ، ولم نجد للحنابلة تصريحًا في هذه المسألة .
الطّواف راكبًا :(/1)
10 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة طواف الرّاكب إذا كان له عذر لحديث أمّ سلمة رضي الله عنها ، قالت : { شكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّي أشتكي فقال : طوفي من وراء النّاس وأنت راكبة } . واختلفوا في حكم الطّواف راكبًا بلا عذرٍ فذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يجب عليه دم لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : { إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف في حجّة الوداع على بعيرٍ ، يستلم الرّكن بمحجنٍ } . وقال جابر : { طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبين الصّفا والمروة } » . ولأنّ اللّه تعالى أمر بالطّواف مطلقًا فكيفما أتى به أجزأه ، ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليلٍ ، وهو رواية عن أحمد . وذهب الحنفيّة والمالكيّة وأحمد في إحدى الرّوايات عنه ، إلى أنّ المشي في الطّواف من واجبات الطّواف ، فإن طاف راكبًا بلا عذرٍ وهو قادر على المشي وجب عليه دم ، واستدلّوا عليه : بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { الطّواف بالبيت بمنزلة الصّلاة } . ولأنّ الطّواف عبادة تتعلّق بالبيت فلم يجز فعلها راكبًا لغير عذرٍ كالصّلاة ، ولأنّ اللّه أمر بالطّواف بقوله : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } ، والرّاكب ليس بطائفٍ حقيقةً ، فأوجب ذلك نقصًا فيه فوجب جبره بالدّم ، وزاد الحنفيّة : إن كان بمكّة فعليه الإعادة ، وإن عاد إلى بلاده فعليه دم . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( طواف ) . أمّا السّعي راكبًا فيجزئه لعذرٍ ، ولغير عذرٍ بالاتّفاق .
ضمان الرّاكب ما تجنيه الدّابّة :
11 - ذهب أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد إلى أنّ الرّاكب يضمن ما تتلفه الدّابّة بيدها حال ركوبه من مالٍ أو نفسٍ . واختلفوا في ضمان ما تجنيه برجلها ، فقال الحنفيّة والحنابلة في روايةٍ عن أحمد : إنّ الرّاكب لا يضمن ما جنته دابّته برجلها ; لأنّه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلا يضمنها كما لو لم تكن يده عليها ، وقال الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد : يضمن الرّاكب ما تجنيه الدّابّة في حال ركوبه مطلقًا . سواء جنت بيدها ، أم برجلها ، أم برأسها ، لأنّها في يده ، وعليه تعهّدها وحفظها . وقال المالكيّة : لا يضمن الرّاكب ما تعطبه الدّابّة بيدها أو رجلها أو ذنبها ، إلاّ أن يكون ذلك من شيءٍ فعله بها . والتّفصيل في ( ضمان ، وإتلاف ) .
ما يقوله الرّاكب إذا ركب دابّته :
12 - يسنّ للرّاكب إذا استوى على دابّته أن يكبّر ثلاثًا ثمّ يقرأ آية : { سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون } . ويدعو بالدّعاء المأثور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعن عليّ بن ربيعة قال : { شهدت عليًّا رضي الله عنه أتي بدابّةٍ ليركبها ، فلمّا وضع رجله في الرّكاب قال : بسم اللّه ، فلمّا استوى على ظهرها قال : { سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون } . ثمّ قال : الحمد للّه ثلاث مرّاتٍ ، ثمّ قال : اللّه أكبر ثلاث مرّاتٍ ، ثمّ قال : سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، ثمّ ضحك ، فقيل : يا أمير المومنين من أيّ شيءٍ ضحكت ؟ قال : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ثمّ ضحك ، فقلت : يا رسول اللّه من أيّ شيءٍ ضحكت ؟ قال : إنّ ربّك سبحانه يعجب من عبده إذا قال : اغفر لي ذنوبي ، يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب غيري } . وإذا ركب للسّفر دعا بما جاء في صحيح مسلمٍ : { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفرٍ كبّر ثلاثًا ثمّ قال : { سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون } ، اللّهمّ إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتّقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللّهمّ هوّن علينا سفرنا هذا ، واطو عنّا بعده ، اللّهمّ أنت الصّاحب في السّفر ، والخليفة في الأهل . اللّهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السّفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل } . وكذلك الحكم إذا ركب أيّ نوعٍ من وسائل الرّكوب(/2)
ركوع
التّعريف
1 - الرّكوع لغةً : الانحناء ، يقال : ركع يركع ركوعًا وركعًا ، إذا طأطأ رأسه أو حنى ظهره ، وقال بعضهم : الرّكوع هو الخضوع ، ويقال : ركع الرّجل إذا افتقر بعد غنًى وانحطّت حاله ، وركع الشّيخ : انحنى ظهره من الكبر . والرّاكع : المنحني ، وكلّ شيءٍ ينكبّ لوجهه فتمسّ ركبته الأرض أو لا تمسّها بعد أن ينخفض رأسه فهو راكع ، وجمع الرّاكع ركّع وركوع . وركوع الصّلاة في الاصطلاح : هو طأطأة الرّأس أي خفضه ، لكن مع انحناءٍ في الظّهر على هيئةٍ مخصوصةٍ في الصّلاة . وهي أن ينحني المصلّي بحيث تنال راحتاه ركبتيه مع اعتدال خلقته وسلامة يديه وركبتيه ، وذلك بعد القومة الّتي فيها القراءة . أمّا في غير الصّلاة فهو لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الخضوع .
2 - الخضوع لغةً : الذّلّ والاستكانة والانقياد والمطاوعة ، ويقال : رجل أخضع ، وامرأة خضعاء وهما : الرّاضيان بالذّلّ . وخضع الإنسان : أمال رأسه إلى الأرض أو دنا منها ، وهو تطامن العنق ودنوّ الرّأس من الأرض ، والخضوع : التّواضع والتّطامن ، وهو قريب من الخشوع يستعمل في الصّوت ، والخضوع يستعمل للأعناق . والخضوع أعمّ من الرّكوع ، إذ الرّكوع هيئة خاصّة .
ب - السّجود :
3 - السّجود لغةً : مصدر سجد ، وأصل السّجود التّطامن والخضوع والتّذلّل ، يقال : سجد البعير إذا خفض رأسه عند ركوبه ، وسجد الرّجل إذا وضع جبهته على الأرض . والسّجود في الاصطلاح : وضع الجبهة أو بعضها على الأرض ، أو ما اتّصل بها من ثابتٍ مستقرٍّ على هيئةٍ مخصوصةٍ في الصّلاة . ففي كلٍّ من الرّكوع والسّجود نزول من قيامٍ ، لكنّ النّزول في السّجود أكثر منه في الرّكوع .
أوّلًا : الرّكوع في الصّلاة : ( الحكم التّكليفيّ ) :
4 - أجمعت الأمّة على أنّ الرّكوع ركن من أركان الصّلاة لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا } الآية ، وللأحاديث الثّابتة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته : عن أبي هريرة { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ، فدخل رجل فصلّى ، فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فردّ ، وقال : ارجع فصلّ ، فإنّك لم تصلّ ، فرجع يصلّي كما صلّى ، ثمّ جاء فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ - ثلاثًا - فقال : والّذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره ، فعلّمني ، فقال : إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر ، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ، ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعًا ثمّ ارفع حتّى تعدل قائمًا ، ثمّ اسجد حتّى تطمئنّ ساجدًا ، ثمّ ارفع حتّى تطمئنّ جالسًا ، وافعل ذلك في صلاتك كلّها } » .
الطّمأنينة في الرّكوع :
5 - ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة ) إلى أنّ الطّمأنينة في الرّكوع بقدر تسبيحة فرضٍ ، لا تصحّ الصّلاة بدونها . ومن أدلّة الجمهور على وجوب الطّمأنينة : قوله صلى الله عليه وسلم في قصّة المسيء صلاته : { ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعًا } . الحديث . ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { أسوأ النّاس سرقةً الّذي يسرق من صلاته ، قالوا : يا رسول اللّه ، وكيف يسرق من صلاته ؟ قال : لا يتمّ ركوعها ولا سجودها } . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم { أنّه كان إذا ركع استوى ، فلو صبّ على ظهره الماء لاستقرّ ، وذلك لاستواء ظهره ولاطمئنانه فيه } . وحديث أبي مسعودٍ البدريّ رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا تجزئ صلاة الرّجل حتّى يقيم ظهره في الرّكوع والسّجود } . وفي روايةٍ { لا تجزئ صلاة لا يقيم الرّجل فيها صلبه في الرّكوع والسّجود } . قال التّرمذيّ : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم . وقد رأى أبو حذيفة رضي الله عنه رجلًا لا يتمّ الرّكوع والسّجود فقال : ما صلّيت ، ولو متّ متّ على غير الفطرة الّتي فطر اللّه عليها محمّدًا صلى الله عليه وسلم فإذا رفع رأسه من الرّكوع ثمّ شكّ هل أتى بقدر الإجزاء أو لا ، لا يعتدّ به ويلزمه إعادة الرّكوع ، لأنّ الأصل عدم ما شكّ فيه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الطّمأنينة في الرّكوع ليست فرضًا ، وأنّ الصّلاة تصحّ بدونها ; لأنّ المفروض من الرّكوع أصل الانحناء والميل ، فإذا أتى بأصل الانحناء فقد امتثل ، لإتيانه بما ينطلق عليه الاسم الوارد في قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم } . الآية . أمّا الطّمأنينة فدوام على أصل الفعل ، والأمر بالفعل لا يقتضي الدّوام . وهي عندهم من واجبات الصّلاة ، ولهذا يكره تركها عمدًا ، ويلزمه سجود السّهو إذا تركها ساهيًا ، وذكر أبو عبد اللّه الجرجانيّ أنّها سنّة عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ولا يلزم بتركها سجود السّهو ، وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن لم يقم صلبه في الرّكوع ، إن كان إلى القيام أقرب منه إلى تمام الرّكوع لم يجزه ، وإن كان إلى تمام الرّكوع أقرب منه إلى القيام أجزأه ، إقامةً للأكثر مقام الكلّ .
هيئة الرّكوع :(/1)
6 - الهيئة المجزئة في الرّكوع أن ينحني انحناءً خالصًا قدر بلوغ راحتيه ركبتيه بطمأنينةٍ ، بحيث ينفصل رفعه من الرّكوع عن هويّه ، على أن يقصد من هويّه الرّكوع ، وهذا في معتدل الخلقة من النّاس لا طويل اليدين ولا قصيرهما ، فلو طالت يداه أو قصرتا أو قطع شيء منهما أو من أحدهما لم يعتبر ذلك ، ولم يزد على تسوية ظهره ، فإن لم تقرب راحتاه من ركبتيه بالحيثيّة المذكورة لم يكن ذلك ركوعًا ، ولم تخرجه عن حدّ القيام إلى الرّكوع ، وكذا إن قصد من هبوطه غير الرّكوع . والعاجز ينحني قدر إمكانه ، فإن عجز عن الانحناء أصلًا أومأ برأسه ثمّ بطرفه ، ولو عجز عن القيام وصلّى قاعدًا ينحني لركوعه بحيث تحاذي جبهته ما قدّام ركبتيه من الأرض ، والأكمل أن تحاذي جبهته موضع سجوده . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أكمل هيئات الرّكوع أن ينحني المصلّي بحيث يستوي ظهره وعنقه ، ويمدّهما كالصّحيفة ، ولا يخفض ظهره عن عنقه ولا يرفعه ، وينصب ساقيه إلى الحقو ، ولا يثني ركبتيه ، ويضع يديه على ركبتيه ، ويأخذ ركبتيه بيديه ، ويفرّق أصابعه حينئذٍ ، فإن كانت إحدى يديه مقطوعةً أو عليلةً ، فعل بالأخرى ما ذكرنا ، وفعل بالعليلة الممكن ، فإن لم يمكنه وضع اليدين على الرّكبتين أرسلهما ، ويجافي الرّجل مرفقيه عن جنبيه ، أمّا المرأة فتضمّ بعضها إلى بعضٍ ، ولو لم يضع يديه على ركبتيه ولكن بلغ ذلك القدر أجزأه ، إلاّ أنّه يكره التّطبيق في الرّكوع ، وهو أن يجعل المصلّي إحدى كفّيه على الأخرى ثمّ يجعلهما بين ركبتيه أو فخذيه إذا ركع . والتّطبيق كان مشروعًا في أوّل الإسلام ثمّ نسخ ، قال { مصعب بن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه : صلّيت إلى جنب أبي فطبّقت بين كفّيّ ، ثمّ وضعتهما بين فخذيّ ، فنهاني أبي وقال : كنّا نفعله فنهينا عنه ، وأمرنا أن نضع أيدينا على الرّكب } . وعن أبي حميدٍ السّاعديّ رضي الله عنه قال : { أنا أعلمكم بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : فاعرض ، فقال : كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصّلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه ، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه ، ثمّ قال : اللّه أكبر ، وركع ، ثمّ اعتدل ، فلم يصوّب رأسه ولم يقنع ، ووضع يديه على ركبتيه . الحديث . قالوا - أي الصّحابة رضي الله عنهم - : صدقت ، هكذا صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم } . وذكر أبو حميدٍ : { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه كأنّه قابض عليهما } . وذهب قوم من السّلف منهم عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه إلى أنّ التّطبيق في الرّكوع سنّة لما رواه من أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله .
رفع اليدين عند تكبير الرّكوع :
7 - ذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة وهو رواية عن مالكٍ إلى أنّ رفع اليدين عند تكبيرة الرّكوع وعند الرّفع منه سنّة ثابتة ، فيرفع يديه إلى حذو منكبيه كفعله عند تكبيرة الإحرام ، أي يبدأ رفع يديه عند ابتداء تكبيرة الرّكوع وينتهي عند انتهائها ، لتضافر الأحاديث الصّحيحة في ذلك ، منها ما روى محمّد بن عمرو بن عطاءٍ أنّه سمع أبا حميدٍ في عشرةٍ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة رضي الله عنه قال : { أنا أعلمكم بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر صفة صلاته ، وفيه أنّه رفع يديه عند الرّكوع } . وقال البخاريّ : قال الحسن وحميد بن هلالٍ : كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم - يعني عند الرّكوع - . وإلى هذا ذهب الأوزاعيّ وعلماء الحجاز والشّام والبصرة . وقال الحنفيّة والثّوريّ وابن أبي ليلى وإبراهيم النّخعيّ وهو المشهور عن مالكٍ : إنّ المصلّي لا يرفع يديه إلاّ لتكبيرة الإحرام . لأدلّةٍ منها : قول عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه : لأصلّينّ بكم صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يرفع يديه إلاّ في أوّل مرّةٍ . وقول البراء بن عازبٍ رضي الله عنه : { إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصّلاة رفع يديه إلى قريبٍ من أذنيه ثمّ لا يعود } . وقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه : { صلّيت خلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما فلم يرفعوا أيديهم إلاّ عند افتتاح الصّلاة } .
التّكبير عند ابتداء الرّكوع :(/2)
8 - ذهب أكثر أهل العلم وجمهور الفقهاء إلى أنّ من السّنّة أن يبتدئ الرّكوع بالتّكبير للأحاديث النّبويّة الواردة في ذلك منها : ( 1 ) ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : { كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصّلاة يكبّر حين يقوم ، ثمّ يكبّر حين يركع ، ثمّ يقول : سمع اللّه لمن حمده حين يرفع صلبه من الرّكعة } . الحديث . ( 2 ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه : { أنّه كان يصلّي بهم فكبّر كلّما خفض ورفع ، فإذا انصرف قال : إنّي لأشبهكم صلاةً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم } . ( 3 ) وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : { كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكبّر في كلّ خفضٍ ، ورفعٍ ، وقيامٍ ، وقعودٍ ، وأبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما } . ( 4 ) ولأنّه شروع في ركنٍ من أركان الصّلاة فشرع فيه التّكبير كحالة ابتداء الصّلاة . وذهب الحنابلة إلى أنّ تكبيرة الرّكوع كغيرها من تكبيرات الانتقال من واجبات الصّلاة الّتي تبطل الصّلاة بتركها عمدًا ، وتسقط إذا تركت سهوًا أو جهلًا ، ولكنّها تجبر بسجود السّهو ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { صلّوا كما رأيتموني أصلّي } وثبت { أنّه صلى الله عليه وسلم . كان يبتدئ الرّكوع بالتّكبير } . وإلى هذا ذهب إسحاق بن راهويه . ويسنّ للإمام عند الجمهور والحنابلة معًا أن يجهر بهذه التّكبيرة ، ليعلم المأموم انتقاله ، فإن لم يستطع لمرضٍ أو غيره بلّغ عنه المؤذّن أو غيره .
التّسبيح في الرّكوع :
9 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة التّسبيح في الرّكوع لحديث عقبة بن عامرٍ قال : { لمّا نزلت { فسبّح باسم ربّك العظيم } قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم } . واختلفوا فيما وراء ذلك من الأحكام . ومذهب الحنفيّة أنّ التّسبيح في الرّكوع سنّة ، وأقلّه ثلاث ، فإن ترك التّسبيح أو نقص عن الثّلاث كره تنزيهًا . والزّيادة على الثّلاث للمفرد أفضل بعد أن يختم على وترٍ ، ولا يزيد الإمام على وجهٍ يملّ به القوم . وقيل : إنّ تسبيحات الرّكوع والسّجود واجبات . وذهب المالكيّة إلى أنّ التّسبيح في الرّكوع مندوب بأيّ لفظٍ كان ، والأولى سبحان ربّي العظيم وبحمده ، وقيل : إنّه سنّة ، والتّسبيح لا يتحدّد بعددٍ بحيث إذا نقص عنه يفوته الثّواب ، بل إذا سبّح مرّةً يحصل له الثّواب ، وإن كان يزاد الثّواب بزيادته . وينهى عن الطّول المفرط في الفريضة ، بخلاف النّفل ; لأنّ المطلوب في حقّ الإمام التّخفيف . وقال الشّافعيّة : يسنّ التّسبيح في الرّكوع ، ويحصل أصل السّنّة بتسبيحةٍ واحدةٍ ، وأقلّه سبحان اللّه ، أو سبحان ربّي ، وأدنى الكمال سبحان ربّي العظيم وبحمده ثلاثًا ، وللكمال درجات . فبعد الثّلاث خمس ، ثمّ سبع ، ثمّ تسع ، ثمّ إحدى عشرة ، وهو الأكمل ، ولا يزيد الإمام على الثّلاث ، أي يكره له ذلك ; تخفيفًا على المأمومين . ويزيد المنفرد وإمام قومٍ محصورين راضين بالتّطويل : { اللّهمّ لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخّي وعظمي ، وما استقلت به قدمي } . وذهب الحنابلة إلى أنّه يشرع للمصلّي أن يقول في ركوعه : سبحان ربّي العظيم ، وهو أدنى الكمال ، والواجب مرّة ، والسّنّة ثلاث ، وهو أدنى الكمال ، والأفضل الاقتصار على سبحان ربّي العظيم ، من غير زيادةٍ ( وبحمده ) . ولا يستحبّ للإمام التّطويل ، ولا الزّيادة على ثلاثٍ كي لا يشقّ على المأمومين . وهذا إذا لم يرضوا بالتّطويل .
قراءة القرآن في الرّكوع :
10 - اتّفق الفقهاء على كراهة قراءة القرآن في الرّكوع لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال : { نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد } . وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { ألا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا ، فأمّا الرّكوع فعظّموا فيه الرّبّ ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء ، فقمن أن يستجاب لكم } ولأنّ الرّكوع والسّجود حال ذلٍّ وانخفاضٍ ، والقرآن أشرف الكلام .
الدّعاء في الرّكوع :
11 - ذهب المالكيّة إلى كراهة الدّعاء في الرّكوع ، وذهب الشّافعيّة إلى استحباب الدّعاء في الرّكوع ، لأنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللّهمّ ربّنا وبحمدك اللّهمّ اغفر لي } . ولما روى عليّ رضي الله عنه { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال : اللّهمّ لك ركعت ، ولك خشعت وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخّي وعظمي وعصبي } .
إدراك الرّكعة بإدراك الرّكوع مع الإمام :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أدرك الإمام في الرّكوع فقد أدرك الرّكعة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { من أدرك الرّكوع فقد أدرك الرّكعة } ولأنّه لم يفته من الأركان إلاّ القيام ، وهو يأتي به مع تكبيرة الإحرام ، ثمّ يدرك مع الإمام بقيّة الرّكعة ، وهذا إذا أدرك في طمأنينةٍ الرّكوع أو انتهى إلى قدر الإجزاء من الرّكوع قبل أن يزول الإمام عن قدر الإجزاء . وعليه أن يأتي بالتّكبيرة منتصبًا ، فإن أتى بها بعد أن انتهى في الانحناء إلى قدر الرّكوع أو ببعضها لا تنعقد ; لأنّه أتى بها في غير محلّها قال بعضهم : إلاّ النّافلة - ثمّ يأتي بتكبيرةٍ أخرى للرّكوع في انحطاطٍ إليه ، فالأولى ركن لا تسقط بحالٍ ، والثّانية ليست بركنٍ ، وقد تسقط في مثل هذه الحالة .
إطالة الرّكوع ليدرك الدّاخل الرّكعة :(/3)
13 - لو أحسّ الإمام وهو في الرّكوع بداخلٍ يريد الصّلاة معه هل يجوز له الانتظار بتطويل الرّكوع ليلحقه أم لا ؟ ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا ينتظره ; لأنّ انتظاره فيه تشريك في العبادة بين اللّه عزّ وجلّ وبين الخلق ، قال اللّه تعالى : { ولا يشرك بعبادة ربّه أحدًا } . ولأنّ الإمام مأمور بالتّخفيف رفقًا بالمصلّين . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إذا صلّى أحدكم للنّاس فليخفّف فإنّ فيهم الضّعيف والسّقيم والكبير ، وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطوّل ما شاء } . وإلى هذا ذهب الأوزاعيّ واستحسنه ابن المنذر ، وهذا إذا كان يعرف الدّاخل ، أمّا إذا لم يعرفه فلا بأس بالانتظار ، قال ابن عابدين : لو أراد التّقرّب إلى اللّه من غير أن يتخالج في قلبه شيء سوى اللّه لم يكره اتّفاقًا لكنّه نادر ، وتسمّى مسألة الرّياء ، فينبغي التّحرّز عنها . وذهب الحنابلة وهو أحد الأقوال عند الشّافعيّة : إلى أنّه يكره الانتظار إذا كان يشقّ على المأمومين ، لأنّ الّذين معه أعظم حرمةً من الدّاخل ، وإن لم يشقّ عليهم لكونه يسيرًا ينتظره ، لأنّه ينفع الدّاخل ولا يشقّ على المأمومين . وإلى هذا ذهب أبو مجلزٍ والشّعبيّ والنّخعيّ ، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثورٍ . وذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى استحباب الانتظار بشروطٍ هي :
أ - أن يكون المسبوق داخل المسجد حين الانتظار .
ب - أن لا يفحش طول الانتظار .
ج - أن يقصد به التّقرّب إلى اللّه لا التّودّد إلى الدّاخل أو استمالة قلبه .
د - أن لا يميّز بين داخلٍ وداخلٍ ، لشرف المنتظر ، أو صداقته ، أو سيادته ، أو نحو ذلك ، لأنّ الانتظار بدون تمييزٍ إعانة للدّاخل على إدراك الرّكعة . أمّا إذا أحسّ بقادمٍ للصّلاة خارجٍ عن محلّها ، أو بالغ في الانتظار كأن يطوّله تطويلًا لو وزّع على جميع الصّلاة لظهر أثره ، أو لم يكن انتظاره للّه تعالى ، أو فرّق بين الدّاخلين للأسباب المذكورة ، فلا يستحبّ الانتظار قطعًا بل يكره ، فإن انتظر لم تبطل صلاته في الرّاجح عندهم ، وحكي عن بعضهم بطلان الصّلاة ، وهو قول ضعيف غريب .
ثانيًا - الرّكوع لغير اللّه :
14 - قال العلماء : ما جرت به العادة من خفض الرّأس والانحناء إلى حدٍّ لا يصل به إلى أقلّ الرّكوع - عند اللّقاء - لا كفر به ولا حرمة كذلك ، لكن ينبغي كراهته لقوله صلى الله عليه وسلم : لمن قال له : { يا رسول اللّه ، الرّجل منّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال : لا ، قال : أفيلتزمه ويقبّله ؟ قال : لا ، قال : أفيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال : نعم } . الحديث . أمّا إذا انحنى ووصل انحناؤه إلى حدّ الرّكوع فقد ذهب بعض العلماء إلى أنّه إن لم يقصد تعظيم ذلك الغير كتعظيم اللّه لم يكن كفرًا ولا حرامًا ، ولكن يكره أشدّ الكراهة لأنّ صورته تقع في العادة للمخلوق كثيرًا . وذهب بعضهم إلى حرمة ذلك ولو لم يكن لتعظيم ذلك المخلوق ، لأنّ صورة هيئة الرّكوع لم تعهد إلاّ لعبادة اللّه سبحانه . قال ابن علّان الصّدّيقيّ : من البدع المحرّمة الانحناء عند اللّقاء بهيئة الرّكوع ، أمّا إذا وصل انحناؤه للمخلوق إلى حدّ الرّكوع قاصدًا به تعظيم ذلك المخلوق كما يعظّم اللّه سبحانه وتعالى ، فلا شكّ أنّ صاحبه يرتدّ عن الإسلام ويكون كافرًا بذلك ، كما لو سجد لذلك المخلوق .(/4)
رماد
التّعريف
1 - الرّماد في اللّغة : دقاق الفحم من حراقة النّار ، والجمع : أرمدة وأرمداء ، وأصل المادّة ينبئ عن الهلاك والمحق ، يقال : رمد رمدًا ورمادةً ورمودةً : هلك ، ولم تبق فيه بقيّة ، قال اللّه تعالى : { مثل الّذين كفروا بربّهم أعمالهم كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يومٍ عاصفٍ } . ضرب اللّه مثلًا لأعمال الكفّار في أنّه يمحقها كما تمحق الرّيح الشّديدة الرّماد في يومٍ عاصفٍ . ويقال : فلان " عظيم الرّماد " ، كنايةً عن الكرم ، كما ورد في الحديث . والرّماد في الاصطلاح يستعمل في المعنى اللّغويّ نفسه ، وهو ما بقي بعد احتراق الشّيء .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : ( التّراب والصّعيد ) :
2 - التّراب ما نعم من أديم الأرض ، وهو اسم جنسٍ ، والطّائفة منه تربة ، وهي ظاهر الأرض ، وجمع التّراب أتربة وتربان . والصّعيد وجه الأرض ترابًا كان أو غيره ، قال الأزهريّ : ومذهب أكثر العلماء أنّ الصّعيد في قوله تعالى : { فتيمّموا صعيدًا طيّبًا } هو التّراب الطّاهر الّذي على وجه الأرض .
الأحكام المتعلّقة بالرّماد : طهارة الرّماد :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الرّماد الحاصل من احتراق الشّيء الطّاهر طاهر ما لم تعتره النّجاسة ; لأنّ حرق الشّيء لا ينجّسه ، بل هو سبب التّطهير عند بعض الفقهاء ، وقد ثبت في الحديث أنّه { لمّا جرح وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ ، أخذت فاطمة رضي الله عنها حصيرًا فأحرقته حتّى صار رمادًا ، ثمّ ألزقته فاستمسك الدّم } . مع { منعه صلى الله عليه وسلم عن التّداوي بالنّجس والحرام } . أمّا الرّماد الحاصل من أصلٍ نجسٍ بعد احتراقه فاختلفوا فيه : فذهب أبو حنيفة ومحمّد وهو المفتى به عند الحنفيّة والمختار المعتمد عند اللّخميّ والتّونسيّ وابن رشدٍ من المالكيّة وخلاف الظّاهر عند الحنابلة إلى أنّ الرّماد الحاصل من احتراق شيءٍ نجسٍ أو متنجّسٍ طاهر ، والحرق كالغسل في التّطهير . قال في الدّرّ : ( وإلاّ لزم نجاسة الخبز في سائر الأمصار ) أي لأنّه كان يخبز بالرّوث النّجس ، ويعلق به شيء من الرّماد ، ومثله ما ذكره الحطّاب . ولأنّ النّار تأكل ما فيه من النّجاسة ، أو تحيله إلى شيءٍ آخر ، فيطهر بالاستحالة والانقلاب ، كالخمر إذا تخلّلت . وعلى ذلك فالمخبوز بالرّوث النّجس طاهر ولو تعلّق به شيء من رماده ، وتصحّ الصّلاة به قبل غسل الفم من أكله ، ويجوز حمله في الصّلاة ، كما ذكره الدّسوقيّ . وذهب الشّافعيّة ، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة ومقابل المعتمد عند المالكيّة وقول أبي يوسف من الحنفيّة إلى أنّ الرّماد الحاصل من احتراق النّجس نجس ; لأنّ أجزاء النّجاسة قائمة ، والإحراق لا يجعل ما يتخلّف منه شيئًا آخر ، فلا تثبت الطّهارة مع بقاء العين النّجسة . قال البهوتيّ : لا تطهر نجاسة باستحالةٍ ، ولا بنارٍ ، فالرّماد من الرّوث النّجس نجس .
التّيمّم بالرّماد :
4 - الأصل في مشروعيّة التّيمّم قوله تعالى : { فتيمّموا صعيدًا طيّبًا } قال الحنفيّة ( عدا أبي يوسف ) والمالكيّة : الصّعيد ما صعد أي ظهر من أجزاء الأرض ، فهو ظاهر الأرض ، فيجوز التّيمّم بكلّ ما هو من جنس الأرض ، كما يؤيّده حديث : { جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا } . وكلّ ما يحترق بالنّار فيصير رمادًا ، كالشّجر والحشيش فليس من جنس الأرض . وقال الشّافعيّة والحنابلة : الصّعيد هو التّراب ، كما نقل عن ابن عبّاسٍ قال : ( الصّعيد : تراب الحرث ، والطّيّب : الطّاهر ) والمراد بالحرث أرض الزّراعة ، وعلى ذلك فلا يجوز التّيمّم بالرّماد ولو كان طاهرًا عند جميع الفقهاء ; لأنّه ليس بترابٍ ولا من جنس الأرض . وذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّه إن دقّ الخزف أو الطّين المحرق لم يجز التّيمّم به كذلك ، كما لا يجوز التّيمّم بأجزاء الأرض المحروقة لأنّ الطّبخ أخرجها عن أن يقع عليها اسم التّراب . وقال الحنفيّة : إذا أحرق تراب الأرض من غير مخالطٍ حتّى صار أسود جاز التّيمّم به ، لأنّ المتغيّر لون التّراب لا ذاته ، كما صرّحوا بأنّ الرّماد إذا كان من الحطب لا يجوز به التّيمّم ، وإن كان من الحجر يجوز .
ماليّة الرّماد وتقوّمه :(/1)
5 - المال ما يميل إليه الطّبع ، ويجري فيه البذل والمنع ، والمتقوّم ما يباح الانتفاع به شرعًا . وكلّ طاهرٍ ذي نفعٍ غير محرّمٍ شرعًا مال عند الفقهاء ، وهو متقوّم بتعبير الحنفيّة . وعلى ذلك فالرّماد الطّاهر مال متقوّم يصحّ بيعه وشراؤه عند الفقهاء ، لأنّه ممّا يباح الانتفاع به شرعًا ، وقد ثبت الانتفاع به في التّداوي في حديث فاطمة رضي الله عنها المتقدّم ف . فالعرف جارٍ على استعماله خالصًا ومخلوطًا بإلقائه في الأرض لاستكثار الرّيع في الزّراعة ، ونحوها . ولم يرد النّصّ بالنّهي عن استعماله ، فكان متموّلًا منتفعًا به عند النّاس يجوز بيعه وشراؤه . كذلك الرّماد الحاصل من حرق النّجس أو المتنجّس عند من يقول بطهارته وهم الحنفيّة وبعض المالكيّة ، وهو رواية عند الحنابلة ، فإنّ الرّماد الحاصل من احتراق النّجس طاهر يجوز الانتفاع به عندهم . أمّا من يقول ببقائه نجسًا ، وهم الشّافعيّة ومن معهم فيختلف حكمه باختلاف أصل الرّماد . فإن كان أصل الرّماد قبل احتراقه نجسًا بحيث لا يعتبر مالًا متقوّمًا في الشّرع ، كالخمر والخنزير ، والميتة والدّم المسفوح ، ورجيع الآدميّ ونحوها ، وكالكلب والحشرات عند أكثر الفقهاء ، وسباع البهائم الّتي لا نفع فيها عند البعض مع تفصيلٍ فيها ، فما يتخلّف من حرق هذه الأشياء من الرّماد باقٍ على حاله من النّجاسة ، فلا يعتبر مالًا متقوّمًا عندهم لأنّ المتخلّف من النّجاسة جزء منها ، والحرق لا يجعله شيئًا آخر . قال الدّردير : النّجاسة إذا تغيّرت أعراضها لا تتغيّر عن الحكم الّذي كانت عليه عملًا بالاستصحاب . ( ر : بيع منهيّ عنه ف 7 - 12 ) .(/2)
رمضان .
التّعريف
1 - رمضان اسم للشّهر المعروف ، قيل في تسميته : إنّهم لمّا نقلوا أسماء الشّهور من اللّغة القديمة سمّوها بالأزمنة الّتي وقعت فيها ، فوافق هذا الشّهر أيّام رمض الحرّ ، فسمّي بذلك . ثبوت شهر رمضان :
2 - يثبت شهر رمضان برؤية هلاله ، فإن تعذّرت يثبت بإكمال عدّة شعبان ثلاثين يومًا . واختلف الفقهاء في أقلّ من تثبت الرّؤية بشهادتهم . فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلى ثبوت شهر رمضان برؤية عدلٍ واحدٍ . وقيّد الحنفيّة اعتبار رؤية عدلٍ واحدٍ بكون السّماء غير مصحيةٍ ، بأن يكون فيها علّة من غيمٍ أو غبارٍ ، أمّا إذا لم يكن في السّماء علّة فلا تثبت الرّؤية إلاّ بشهادة جمعٍ يقع العلم بخبرهم . واستدلّ القائلون بثبوت الشّهر برؤية العدل ، بحديث عبد اللّه بن عمر - رضي الله عنهما - قال : { تراءى النّاس الهلال ، فأخبرت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّي رأيته فصامه ، وأمر النّاس بصيامه } . واستدلّوا كذلك بحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : { جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّي رأيت الهلال - يعني رمضان - قال : أتشهد أن لا إله إلاّ اللّه ؟ أتشهد أنّ محمّدًا رسول اللّه ؟ قال : نعم . قال : يا بلال ، أذّن في النّاس أن يصوموا غدًا } . وذهب المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة : إلى أنّه لا يثبت شهر رمضان إلاّ برؤية عدلين واستدلّوا بحديث الحسين بن الحارث الجدليّ قال : { إنّ أمير مكّة - الحارث بن حاطبٍ - قال : عهد إلينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرّؤية ، فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما } . والإخبار برؤية هلال رمضان متردّد بين كونه روايةً أو شهادةً ، فمن اعتبره روايةً وهم الحنفيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة قبل فيه قول المرأة . ومن اعتبره شهادةً وهم المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة لم يقبل فيه قول المرأة . فإن لم تمكن رؤية الهلال وجب استكمال عدّة شعبان ثلاثين يومًا ، وهو قول الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية في مذهب الحنابلة - واستدلّوا بحديث ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حال بينكم وبينه سحابة ، فأكملوا العدّة ولا تستقبلوا الشّهر استقبالًا } . وفي روايةٍ : { لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا للرّؤية وأفطروا للرّؤية ، فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين } . وفي روايةٍ أخرى هي المذهب عند الحنابلة أنّه إذا كانت السّماء مصحيةً ولم ير الهلال ليلة الثّلاثين أكملت عدّة شعبان ثلاثين يومًا ، فإذا كان في السّماء قتر أو غيم ولم ير الهلال ، قدّر شعبان تسعةً وعشرين يومًا ، وصيم يوم الثّلاثين ( يوم الشّكّ ) احتياطًا بنيّة رمضان ، واستدلّوا بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فاقدروا له } وفسّروا قوله : { فاقدروا له } أي ضيّقوا له ، وهو أن يجعل شعبان تسعةً وعشرين يومًا . وجمهور الفقهاء على عدم اعتبار الحساب في إثبات شهر رمضان ، بناءً على أنّنا لم نتعبّد إلاّ بالرّؤية . وخالف في هذا بعض الشّافعيّة . وانظر التّفصيل في مصطلح : ( رؤية الهلال ، وتنجيم ) .
اختلاف مطالع هلال رمضان :
3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة : إلى عدم اعتبار اختلاف المطالع في إثبات شهر رمضان ، فإذا ثبت رؤية هلال رمضان في بلدٍ لزم الصّوم جميع المسلمين في جميع البلاد ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته } وهو خطاب للأمّة كافّةً . والأصحّ عند الشّافعيّة اعتبار اختلاف المطالع ، وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( رؤية الهلال ، ومطالع ) .
4 - واتّفق الفقهاء على اعتبار شهادة عدلين في رؤية هلال شوّالٍ ، وبه ينتهي رمضان ، ولم يخالف في هذا إلاّ أبو ثورٍ ، فقال : يقبل قول الواحد . ودليل اعتبار شهادة العدلين حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم { أنّه أجاز شهادة رجلٍ واحدٍ على رؤية الهلال - هلال رمضان - وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلاّ بشهادة رجلين } . وقياسًا على باقي الشّهادات الّتي ليست مالًا ، ولا يقصد منها المال ، كالقصاص والّتي يطّلع عليها الرّجال غالبًا ، ولأنّها شهادة على هلالٍ لا يدخل بها في العبادة ، فلم تقبل فيها إلاّ شهادة اثنين كسائر الشّهود .
خصائص شهر رمضان : يختصّ شهر رمضان عن غيره من الشّهور بجملةٍ من الأحكام والفضائل : الأولى : نزول القرآن فيه :
5 - نزل القرآن جملةً واحدةً من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا ، وذلك في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر منه على التّعيين . ثمّ نزل مفصّلًا بحسب الوقائع في ثلاثٍ وعشرين سنةً . كما ورد في القرآن الكريم : { شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان } وقوله سبحانه تعالى : { إنّا أنزلناه في ليلة القدر } . وقد جاء في التّفسير عن مجاهدٍ - رضي الله عنه - قوله : { ليلة القدر خير من ألف شهرٍ } ، ليس في تلك الشّهور ليلة القدر » . وورد مثله عن قتادة والشّافعيّ وغيرهما ، وهو اختيار ابن جريرٍ وابن كثيرٍ . الثّانية : وجوب صومه :(/1)
6 - صوم رمضان أحد أركان الإسلام الخمسة كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { بني الإسلام على خمسٍ : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدًا رسول اللّه ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وحجّ البيت ، وصوم رمضان } . ودلّ الكتاب الكريم على وجوب صومه ، كما في قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون } وقوله تعالى : { شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه } . الآية . وفرضيّة صومه ممّا أجمعت عليه الأمّة . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( صوم ) . الثّالثة : فضل الصّدقة فيه :
7 - دلّت السّنّة على أنّ الصّدقة في رمضان أفضل من غيره من الشّهور ، من ذلك حديث ابن عبّاسٍ قال : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجود النّاس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كلّ ليلةٍ في رمضان حتّى ينسلخ ، يعرض عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الرّيح المرسلة } . قال ابن حجرٍ والجود في الشّرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ، وهو أعمّ من الصّدقة ، وأيضًا رمضان موسم الخيرات ، لأنّ نعم اللّه على عباده فيه زائدة على غيره ، فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنّة اللّه في عباده . الرّابعة : أنّ ليلة القدر في رمضان :
8 - فضّل اللّه تعالى رمضان بليلة القدر ، وفي بيان منزلة هذه اللّيلة المباركة نزلت سورة القدر ووردت أحاديث كثيرة منها : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { أتاكم رمضان شهر مبارك فرض اللّه عزّ وجلّ عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السّماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغلّ فيه مردة الشّياطين ، للّه فيه ليلة خير من ألف شهرٍ ، من حرم خيرها فقد حرم } . وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه } » . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( ليلة القدر ) . الخامسة : صلاة التّراويح :
9 - أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان ، وقد ذكر النّوويّ أنّ المراد بقيام رمضان صلاة التّراويح يعني أنّه يحصل المقصود من القيام بصلاة التّراويح . وقد جاء في فضل قيام ليالي رمضان قوله صلى الله عليه وسلم : { من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه } . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( إحياء اللّيل ) ومصطلح : ( صلاة التّراويح ) . السّادسة : الاعتكاف فيه :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنّة مؤكّدة ، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ، كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه اللّه تعالى ، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده } . وفي حديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عامًا حتّى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة الّتي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر } . الحديث . ويراجع التّفصيل في مصطلح : ( اعتكاف 5 207 ) . السّابعة : قراءة القرآن الكريم في رمضان والذّكر :
11 - يستحبّ في رمضان استحبابًا مؤكّدًا مدارسة القرآن وكثرة تلاوته ، وتكون مدارسة القرآن بأن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه ، ودليل الاستحباب { أنّ جبريل كان يلقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في كلّ ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن } . وقراءة القرآن مستحبّة مطلقًا ، ولكنّها في رمضان آكد . الثّامنة : مضاعفة ثواب الأعمال الصّالحة في رمضان :
12 - تتأكّد الصّدقة في شهر رمضان ، لحديث ابن عبّاسٍ المتقدّم ; لأنّه أفضل الشّهور ; ولأنّ النّاس فيه مشغولون بالطّاعة فلا يتفرّغون لمكاسبهم ، فتكون الحاجة فيه أشدّ ، ولتضاعف الحسنات به . قال إبراهيم : تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحةٍ فيما سواه . التّاسعة : تفطير الصّائم :
13 - لحديث زيد بن خالدٍ الجهنيّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { من فطّر صائمًا كان له مثل أجره ، غير أنّه لا ينقص من أجر الصّائم شيئًا } . العاشرة : فضل العمرة في رمضان :
14 - العمرة في رمضان أفضل من غيره من الشّهور لحديث ابن عبّاسٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { عمرة في رمضان تعدل حجّةً } .
ترك التّكسّب في رمضان للتّفرّغ للعبادة :(/2)
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الاكتساب فرض للمحتاج إليه بقدر ما لا بدّ منه . واختلف الفقهاء أيّهما أفضل : الاشتغال بالكسب أفضل ، أم التّفرّغ للعبادة ؟ . فذهب البعض إلى أنّ الاشتغال بالكسب أفضل ; لأنّ منفعة الاكتساب أعمّ ، فمن اشتغل بالزّراعة - مثلًا - عمّ نفع عمله جماعة المسلمين ، ومن اشتغل بالعبادة نفع نفسه فقط . وبالكسب يتمكّن من أداء أنواع الطّاعات كالجهاد والحجّ والصّدقة وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب والأجانب ، وفي التّفرّغ للعبادة لا يتمكّن إلاّ من أداء بعض الأنواع كالصّوم والصّلاة . ومن ذهب إلى أنّ الاشتغال بالعبادة أفضل احتجّ بأنّ الأنبياء والرّسل عليهم الصلاة والسلام ما اشتغلوا بالكسب في عامّة الأوقات ، وكان اشتغالهم بالعبادة أكثر ، فيدلّ هذا على أفضليّة الاشتغال بالعبادة ; لأنّهم عليهم الصلاة والسلام كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدّرجات . وعليه فمن ملك ما يكفي حاجته في رمضان كان الأفضل في حقّه التّفرّغ للعبادة طلبًا للفضل في هذا الشّهر ، وإلاّ كان الأفضل في حقّه التّكسّب حتّى لا يترك ما افترض عليه من تحصيل ما لا بدّ منه . وقد أخرج أحمد في مسنده عن وهب بن جابرٍ الخيوانيّ قال : شهدت عبد اللّه بن عمرٍو في بيت المقدس وأتاه مولًى له فقال : إنّي أريد أن أقيم هذا الشّهر هاهنا - يعني رمضان - قال له عبد اللّه : هل تركت لأهلك ما يقوتهم ؟ قال : لا ، قال : أما لا ، فارجع فدع لهم ما يقوتهم ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت } وقد ترجم الخطيب في كتابه الجامع لأخلاق الرّاوي وآداب السّامع لهذا الحديث بقوله : ذكر ما يجب على طالب الحديث من الاحتراف للعيال واكتساب الحلال . وانظر مصطلح : ( اكتساب ) .(/3)
رمل
التّعريف
1 - الرّمل - بتحريك الميم - : الهرولة . رمل يرمل رملًا ورملانًا . كما في القاموس وغيره . وأحسن بيانٍ لمعنى الرّمل قول صاحب النّهاية : رمل يرمل رملًا ورملانًا : إذا أسرع في المشي وهزّ كتفيه » . ( الحكم التّكليفيّ ) :
2 - الرّمل سنّة من سنن الطّواف ، يسنّ في الأشواط الثّلاثة الأولى من كلّ طوافٍ بعده سعي ، وعليه جمهور الفقهاء ، وسنّيّة الرّمل هذه خاصّة بالرّجال فقط دون النّساء . انظر مصطلح : ( طواف ) .(/1)
رمي
التّعريف
1 - الرّمي لغةً : يطلق بمعنى القذف ، وبمعنى الإلقاء ، يقال : رميت الشّيء وبالشّيء ، إذا قذفته ، ورميت الشّيء من يدي أي : ألقيته فارتمى ، ورمى بالشّيء أيضًا ألقاه ، كأرمى ، يقال : أرمى الفرس براكبه إذا ألقاه . ورمى السّهم عن القوس وعليها ، لا بها ، رميًا ورمايةً . ولا يقال : رميت بالقوس إلاّ إذا ألقيتها من يدك ، ومنهم من يجعله بمعنى رميت عنها . ورمى فلان فلانًا ، أي قذفه بالفاحشة كما في قوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات } . الرّمي اصطلاحًا :
2 - استعمل الفقهاء الرّمي في المعاني اللّغويّة السّابقة ومنها رمي الجمار الّذي هو منسك واجب من مناسك الحجّ . والرّمي بالسّهام ونحوها ، والرّمي بمعنى القذف . ( أوّلًا ) رمي الجمار 3 - رمي الجمار ، هو رمي الحصيات المعيّنة العدد في الأماكن الخاصّة بالرّمي في منًى ( الجمرات ) . وليست الجمرة هي الشّاخص ( العمود ) الّذي يوجد في منتصف المرمى ، بل الجمرة هي المرمى المحيط بذلك الشّاخص ، فليتنبّه لذلك .
4 - والجمرات الّتي ترمى ثلاثة ، هي :
أ - الجمرة الأولى : وتسمّى الصّغرى ، أو الدّنيا ، وهي أوّل جمرةٍ بعد مسجد الخيف بمنًى ، سمّيت " دنيا " من الدّنوّ ; لأنّها أقرب الجمرات إلى مسجد الخيف .
ب - الجمرة الثّانية : وتسمّى الوسطى ، بعد الجمرة الأولى ، وقبل جمرة العقبة .
ج - جمرة العقبة : وهي الثّالثة ، وتسمّى أيضًا " الجمرة الكبرى " وتقع في آخر منًى تجاه مكّة ، وليست من منًى . ( ر : منًى ) . وترمى هذه الجمرات كلّها من جميع الجهات .
الحكم التّكليفيّ لرمي الجمار :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ رمي الجمار واجب من واجبات الحجّ . ( ر : حجّ ف 153 - 165 ) . واستدلّوا على ذلك بالسّنّة والإجماع . أمّا السّنّة فالأحاديث كثيرة منها : حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف في حجّة الوداع بمنًى للنّاس يسألونه ، فجاءه رجل فقال : لم أشعر ، فحلقت قبل أن أذبح ؟ قال : اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج } الحديث ، فقد أمر بالرّمي ، والأمر للوجوب . وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه في الأحاديث الكثيرة الصّحيحة ، وقد قال : { خذوا عنّي مناسككم } . وأمّا الإجماع : فقول الكاسانيّ : إنّ الأمّة أجمعت على وجوبه ، فيكون واجبًا . وما روي عن الزّهريّ من أنّه ركن من أركان الحجّ فهو قول شاذّ مخالف لإجماع من قبله ، وقد بيّن العلماء بطلانه .
شروط صحّة رمي الجمار :
6 - يشترط لصحّة رمي الجمار شروط هي :
أ - سبق الإحرام بالحجّ : لأنّه شرط لصحّة كلّ أعمال الحجّ .
ب - سبق الوقوف بعرفة : لأنّه ركن إذا فات فات الحجّ ، والرّمي مرتّب عليه .(/1)
ج - أن يكون المرميّ حجرًا : فلا يصحّ الرّمي بالطّين ، والمعادن ، والتّراب عند الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) ويصحّ بالمرمر ، وحجر النّورة أي الجصّ قبل طبخه ، ويجزئ حجر الحديد على الصّحيح عند الشّافعيّة لأنّه حجر في هذه الحال ، إلاّ أنّ فيه حديدًا كامنًا يستخرج بالعلاج ، وفيما يتّخذ منه الفصوص كالفيروزج ، والياقوت ، والعقيق ، والزّمرّد ، والبلّور ، والزّبرجد وجهان عند الشّافعيّة أصحّهما الإجزاء لأنّها أحجار . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الشّرط في المرميّ أن يكون من جنس الأرض ، فيصحّ عندهم الرّمي بالتّراب ، والطّين ، والجصّ ، والكحل ، والكبريت ، والزّبرجد ، والزّمرّد ، والبلّور ، والعقيق ، ولا يصحّ بالمعادن ، والذّهب ، والفضّة ، واختلفوا في جواز الرّمي بالفيروزج والياقوت : منعه الشّارحون وغيرهم ، بناءً على أنّه يشترط كون الرّمي بالرّمي به استهانةً . وأجازه غيرهم بناءً على نفي ذلك الاشتراط . استدلّ الجمهور بما ثبت من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابرٍ { يصف رمي جمرة العقبة : فرماها بسبع حصياتٍ - يكبّر مع كلّ حصاةٍ منها - مثل حصى الخذف } . وبقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرةٍ : { ارموا الجمار بمثل حصى الخذف } وفي عددٍ منها أنّه قال ذلك { وهو واضع أصبعيه إحداهما على الأخرى } . قال النّوويّ : فأمر صلى الله عليه وسلم بالحصى ، فلا يجوز العدول عنه ، والأحاديث المطلقة محمولة على هذا المعنى » . واستدلّ الحنفيّة بالأحاديث الواردة في الأمر بالرّمي مطلقةً عن صفةٍ مقيّدةٍ ، كقوله صلى الله عليه وسلم : { ارم ولا حرج } متّفق عليه . قال الكاسانيّ : والرّمي بالحصى من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم محمول على الأفضليّة ، توفيقًا بين الدّلائل ، لما صحّ من مذهب أصحابنا أنّ المطلق لا يحمل على المقيّد ، بل يجري المطلق على إطلاقه ، والمقيّد على تقييده ما أمكن ، وهاهنا أمكن بأن يحمل المطلق على الجواز ، والمقيّد على الأفضليّة . وقال الحنفيّة أيضًا : إنّ المقصود فعل الرّمي ، وذلك يحصل بالطّين ، كما يحصل بالحجر ، بخلاف ما إذا رمى بالذّهب أو الفضّة ; لأنّه يسمّى نثرًا لا رميًا . ولا يخفى أنّ الأحوط في ذلك مذهب الجمهور ، قال الكمال بن الهمام : إنّ أكثر المحقّقين على أنّها أمور تعبّديّة ، لا يشتغل بالمعنى فيها - أي بالعلّة - والحاصل أنّه إمّا أن يلاحظ مجرّد الرّمي ، أو مع الاستهانة ، أو خصوص ما وقع منه عليه الصلاة والسلام ، والأوّل يستلزم الجواز بالجواهر ، والثّاني بالبعرة والخشبة الّتي لا قيمة لها ، والثّالث بالحجر خصوصًا ، فليكن هذا أولى ، لكونه أسلم ، ولكونه الأصل في أعمال هذه المواطن ، إلاّ ما قام دليل على عدم تعيينه . أمّا صفة المرميّ به ، فقد ورد في الأحاديث أنّه { مثل حصى الخذف } وحصى الخذف هي الّتي يخذف بها ، أي ترمى بها الطّيور والعصافير ، بوضع الحصاة بين أصبعي السّبّابة والإبهام وقذفها . وقد اتّفقوا على أنّ السّنّة في الرّمي أن يكون بمثل حصى الخذف ، فوق الحمّصة ، ودون البندقة ، وكرهوا الرّمي بالحجر الكبير ، وأجاز الشّافعيّة - وهو رواية عن أحمد - الرّمي بالحجر الصّغير الّذي كالحمّصة ، مع مخالفته السّنّة ; لأنّه رمي بالحجر فيجزئه . ولم يجز ذلك المالكيّة ، بل لا بدّ عندهم أن يكون أكبر من ذلك . وقيل : لا يجزئ الرّمي إلاّ بحصًى كحصى الخذف ، لا أصغر ولا أكبر . وهو مرويّ عن أحمد ، ووجهه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بهذا القدر ، ونهى عن تجاوزه ، والأمر يقتضي الوجوب ، والنّهي يقتضي الفساد .
د - أن يرمي الجمرة بالحصيات السّبع متفرّقاتٍ : واحدةً فواحدةً ، فلو رمى حصاتين معًا أو السّبع جملةً ، فهي حصاة واحدة ، ويلزمه أن يرمي بستٍّ سواها وهو المعتمد في المذاهب . والدّليل عليه : أنّ المنصوص عليه تفريق الأفعال فيتقيّد بالتّفريق الوارد في السّنّة .
هـ - وقوع الحصى في الجمرة الّتي يجتمع فيها الحصى : وذلك عند الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) قال الشّافعيّ : الجمرة مجتمع الحصى ، لا ما سال من الحصى ، فمن أصاب مجتمعه أجزأه ، ومن أصاب سائله لم يجزه . وتوسّع الحنفيّة فقالوا : لو رماها فوقعت قريبًا من الجمرة يكفيه ; لأنّ هذا القدر ممّا لا يمكن الاحتراز عنه ، ولو وقعت بعيدًا منها لا يجزيه ; لأنّه لم يعرف قربه إلاّ في مكان مخصوصٍ . قال الكاسانيّ : لأنّ ما يقرب من ذلك المكان كان في حكمه ، لكونه تبعًا له . وأمّا مقدار المسافة القريبة ، فقيل : ثلاثة أذرعٍ فما دون ، وقيل : ذراع فأقلّ ، وهو الّذي فسّره به المحقّق كمال الدّين بن الهمام ، وهو أحوط .(/2)
و - أن يقصد المرمى ويقع الحصى فيه بفعله اتّفاقًا في ذلك : فلو ضرب شخص يده فطارت الحصاة إلى المرمى وأصابته لم يصحّ . كذلك لو رمى في الهواء فوقع الحجر في المرمى لم يصحّ . ونصّوا على أنّه لو رمى الحصاة فانصدمت بالأرض خارج الجمرة ، أو بمحملٍ في الطّريق أو ثوب إنسانٍ مثلًا ثمّ ارتدّت فوقعت في المرمى اعتدّ بها لوقوعها في المرمى بفعله من غير معاونةٍ . ولو حرّك صاحب المحمل أو الثّوب فنفضها فوقعت في المرمى لم يعتدّ بها . وما قاله بعض المتأخّرين من الشّافعيّة : ليس لها إلاّ وجه واحد ، ورمي كثيرين من أعلاها باطل ، هو خلاف كلام الشّافعيّ نفسه ، ونصّه في الأمّ : ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ، ومن حيث رماها أجزأه . والدّليل على ذلك أنّه ثبت رمي خلقٍ كثيرٍ في زمن الصّحابة من أعلاها ، ولم يأمروهم بالإعادة ، ولا أعلنوا بالنّداء بذلك في النّاس ، وكأنّ وجه اختياره عليه الصلاة والسلام للرّمي من الوادي أنّه يتوقّع الأذى لمن في أسفلها إذا رموا من أعلاها ، فإنّه لا يخلو من النّاس ، فيصيبهم الحصى . ز - ترتيب الجمرات في رمي أيّام التّشريق : وهو أن يبدأ بالجمرة الصّغرى الّتي تلي مسجد الخيف ، ثمّ الوسطى ، ثمّ جمرة العقبة . وهو مذهب الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) فهذا التّرتيب شرط لصحّة الرّمي . فلو عكس التّرتيب فبدأ من العقبة ثمّ الوسطى ثمّ الصّغرى وجب عليه إعادة رمي الوسطى والعقبة عندهم ليتحقّق التّرتيب . ومذهب الحنفيّة أنّ هذا التّرتيب سنّة ، إذا أخلّ به يسنّ له الإعادة . وهو قول الحسن وعطاءٍ . استدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رتّبها كذلك ، كما ثبت عن { ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يرمي الجمرة الدّنيا بسبع حصياتٍ يكبّر على إثر كلّ حصاةٍ ، ثمّ يتقدّم حتّى يسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، فيقوم طويلًا ويدعو ويرفع يديه ، ثمّ يرمي الوسطى ، ثمّ يأخذ ذات الشّمال فيستهلّ ويقوم مستقبل القبلة ، فيقوم طويلًا ، ويدعو ، ويرفع يديه ويقوم طويلًا ، ثمّ يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ، ثمّ ينصرف فيقول : هكذا رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله } . فاستدلّ به الجمهور على وجوب ترتيب الجمرات ، كما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وفسّره الحنفيّة بأنّه على سبيل السّنّيّة ، لا الوجوب ، واستدلّ لهم بحديث ابن عبّاسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { من قدّم من نسكه شيئًا أو أخّره فلا شيء عليه } .
ح - ( الوقت ) : فللرّمي أوقات يشترط مراعاتها ، في رمي العدد الواجب في كلٍّ منها . تفصيله فيما يلي : وقت الرّمي وعدده :
7 - وقت رمي الجمار أربعة أيّامٍ لمن لم يتعجّل هي : يوم النّحر " وثلاثة أيّامٍ بعده ، وتسمّى " أيّام التّشريق » . سمّيت بذلك لأنّ لحوم الهدايا تشرّق فيها ، أي تعرّض للشّمس لتجفيفها .
أ - الرّمي يوم النّحر :(/3)
8 - يجب في يوم النّحر رمي جمرة العقبة وحدها فقط ، يرميها بسبع حصياتٍ . وأوّل وقت الرّمي ليوم النّحر يبدأ من طلوع فجر يوم النّحر عند الحنفيّة والمالكيّة وفي روايةٍ عن أحمد . وهذا الوقت عندهم أقسام : ما بعد طلوع الفجر من يوم النّحر إلى طلوع الشّمس وقت الجواز مع الإساءة ، وما بعد طلوع الشّمس إلى الزّوال وقت مسنون ، وما بعد الزّوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءةٍ ، واللّيل وقت الجواز مع الإساءة عند الحنفيّة فقط ولا جزاء فيه . أمّا عند المالكيّة فينتهي الوقت بغروب الشّمس ، وما بعده قضاء يلزم فيه الدّم . وتحديد الوقت المسنون مأخوذ من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه رمى في ذلك الوقت . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ أوّل وقت جواز الرّمي يوم النّحر إذا انتصفت ليلة يوم النّحر لمن وقف بعرفة قبله . وهذا الوقت ثلاثة أقسامٍ : وقت فضيلةٍ إلى الزّوال ، ووقت اختيارٍ إلى الغروب ، ووقت جوازٍ إلى آخر أيّام التّشريق . استدلّ الحنفيّة بحديث ابن عبّاسٍ { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه في الثّقل وقال : لا ترموا الجمرة حتّى تصبحوا } . فأثبتوا جواز الرّمي ابتداءً من الفجر بهذا الحديث . وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : { كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقدّم ضعفاء أهله بغلسٍ ، ويأمرهم يعني لا يرمون الجمرة حتّى تطلع الشّمس } . فأثبتوا بهذا الحديث الوقت المسنون . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل بأمّ سلمة ليلة النّحر ، فرمت قبل الفجر ، ثمّ مضت فأفاضت } . وجه الاستدلال أنّه علّق الرّمي بما قبل الفجر ، وهو تعبير صالح لجميع اللّيل ، فجعل النّصف ضابطًا له ; لأنّه أقرب إلى الحقيقة ممّا قبل النّصف . أمّا آخر وقت الرّمي يوم النّحر فهو عند الحنفيّة إلى فجر اليوم التّالي ، فإذا أخّره عنه بلا عذرٍ لزمه القضاء في اليوم التّالي ، وعليه دم للتّأخير ، ويمتدّ وقت القضاء إلى آخر أيّام التّشريق . وعند المالكيّة : آخر وقت الرّمي إلى المغرب ، وما بعده قضاء ، ويجب الدّم إن أخّره إلى المغرب على المشهور عندهم . وآخر وقت الرّمي أداءً عند الشّافعيّة والحنابلة يمتدّ إلى آخر أيّام التّشريق ; لأنّها كلّها أيّام رميٍ . واستدلّ أبو حنيفة بحديث ابن عبّاسٍ : { أنّه صلى الله عليه وسلم سأله رجل قال : رميت بعدما أمسيت ؟ فقال : لا حرج } . وحديث ابن عبّاسٍ أيضًا { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص للرّعاة أن يرموا ليلًا } . وهو يدلّ على أنّ وقت الرّمي في اللّيل جائز ، وفائدة الرّخصة زوال الإساءة عنهم تيسيرًا عليهم ، ولو كان الرّمي واجبًا قبل المغرب لألزمهم به ; لأنّهم يستطيعون إنابة بعضهم على الرّعي .
ب - الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق :
9 - وهما اليومان الثّاني والثّالث من أيّام النّحر : يجب في هذين اليومين رمي الجمار الثّلاث على التّرتيب : يرمي أوّلًا الجمرة الصّغرى الّتي تلي مسجد الخيف ، ثمّ الوسطى ، ثمّ يرمي جمرة العقبة ، يرمي كلّ جمرةٍ بسبع حصياتٍ .
1 - يبدأ وقت الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق بعد الزّوال ، ولا يجوز الرّمي فيهما قبل الزّوال عند جمهور العلماء ، ومنهم الأئمّة الأربعة على الرّواية المشهورة الظّاهرة عن أبي حنيفة . وروي عن أبي حنيفة أنّ الأفضل أن يرمي في اليوم الثّاني والثّالث - أي من أيّام النّحر - بعد الزّوال فإن رمى قبله جاز ، وهو قول بعض الحنابلة . وروى الحسن عن أبي حنيفة : إن كان من قصده أن يتعجّل في النّفر الأوّل فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثّالث قبل الزّوال ، وإن رمى بعده فهو أفضل ، وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجوز أن يرمي إلاّ بعد الزّوال ، وذلك لدفع الحرج ; لأنّه إذا نفر بعد الزّوال لا يصل إلى مكّة إلاّ باللّيل فيحرج في تحصيل موضع النّزول . وهذا رواية أيضًا عن أحمد ، لكنّه قال : ينفر بعد الزّوال . استدلّ الجمهور بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه . فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : { كنّا نتحيّن ، فإذا زالت الشّمس رمينا } . وعن جابرٍ قال : { رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النّحر ضحًى ، وأمّا بعد ذلك فإذا زالت الشّمس } . وهذا باب لا يعرف بالقياس ، بل بالتّوقيت من الشّارع ، فلا يجوز العدول عنه . واستدلّ للرّواية بجواز الرّمي قبل الزّوال بقياس أيّام التّشريق على يوم النّحر ; لأنّ الكلّ أيّام نحرٍ ، ويكون فعله صلى الله عليه وسلم محمولًا على السّنّيّة . واستدلّ لجواز الرّمي ثاني أيّام التّشريق قبل الزّوال لمن كان من قصده النّفر إلى مكّة بما ذكروا أنّه لرفع الحرج عنه ; لأنّه لا يصل إلاّ باللّيل ، وقد قوّى بعض المتأخّرين من الحنفيّة هذه الرّواية توفيقًا بين الرّوايات عن أبي حنيفة . والأخذ بهذا مناسب لمن خشي الزّحام ودعته إليه الحاجة ، لا سيّما في زمننا .(/4)
2 - وأمّا نهاية وقت الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق : فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ آخر الوقت بغروب شمس اليوم الرّابع من أيّام النّحر ، وهو آخر أيّام التّشريق الثّلاث ، فمن ترك رمي يومٍ أو يومين تداركه فيما يليه من الزّمن ، والمتدارك أداء على القول الأصحّ الّذي اختاره النّوويّ واقتضاه نصّ الشّافعيّة وهكذا لو ترك رمي جمرة العقبة يوم العيد فالأصحّ أنّه يتداركه في اللّيل وفي أيّام التّشريق . ويشترط فيه التّرتيب فيقدّمه على رمي أيّام التّشريق . كذلك أوجب المالكيّة والحنابلة التّرتيب في القضاء . وصرّح الحنابلة بوجوب ترتيبه في القضاء بالنّيّة . وإن لم يتدارك الرّمي حتّى غربت شمس اليوم الرّابع فقد فاته الرّمي وعليه الفداء . ودليلهم : أنّ أيّام التّشريق وقت للرّمي ، فإذا أخّره من أوّل وقته إلى آخره لم يلزمه شيء . وأمّا الحنفيّة والمالكيّة فقيّدوا رمي كلّ يومٍ بيومه ، ثمّ فصّلوا : فذهب الحنفيّة إلى أنّه ينتهي رمي اليوم الثّاني من أيّام النّحر بطلوع فجر اليوم الثّالث ، ورمي اليوم الثّالث بطلوع الفجر من اليوم الرّابع . فمن أخّر الرّمي إلى ما بعد وقته فعليه قضاؤه ، وعليه دم عندهم . والدّليل على جواز الرّمي بعد مغرب نهار الرّمي حديث الإذن للرّعاء بالرّمي ليلًا . وذهب المالكيّة إلى أنّه ينتهي الأداء إلى غروب كلّ يومٍ ، وما بعده قضاء له ، ويفوت الرّمي بغروب الرّابع ، ويلزمه دم في ترك حصاةٍ أو في ترك الجميع ، وكذا يلزمه دم إذا أخّر شيئًا منها إلى اللّيل .
ج - الرّمي ثالث أيّام التّشريق :
10 - يجب هذا الرّمي على من تأخّر ولم ينفر من منًى بعد رمي ثاني أيّام التّشريق على ما نفصّله وهذا الرّمي آخر مناسك منًى . واتّفق العلماء على أنّ الرّمي في هذا اليوم بعد الزّوال رمي في الوقت ، كما رمى في اليومين قبله ، اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم . واختلفوا في جواز تقديمه : فذهب الأئمّة الثّلاثة والصّاحبان إلى أنّه لا يصحّ الرّمي قبل الزّوال ، استدلالًا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقياسًا لرمي هذا اليوم على اليومين السّابقين ، فكما لا يصحّ الرّمي فيهما قبل الزّوال ، كذلك لا يصحّ قبل زوال اليوم الأخير . وقال أبو حنيفة : الوقت المستحبّ للرّمي في هذا اليوم بعد الزّوال ، ويجوز أن يقدّم الرّمي في هذا اليوم قبل الزّوال ، بعد طلوع الفجر . قال في الهداية : ومذهبه مرويّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ; ولأنّه لمّا ظهر أثر التّخفيف في هذا اليوم في حقّ التّرك ، فلأن يظهر في جوازه - أي الرّمي - في الأوقات كلّها أولى . واتّفقوا على أنّ آخر وقت الرّمي في هذا اليوم غروب الشّمس ، كما اتّفقوا على أنّ وقت الرّمي لهذا اليوم وللأيّام الماضية لو أخّره أو شيئًا منه يخرج بغروب شمس اليوم الرّابع ، فلا قضاء له بعد ذلك ، ويجب في تركه الفداء . وذلك " لخروج وقت المناسك بغروب شمسه .
( شروط الرّمي ) :
10 م - يشترط لصحّة رمي الجمار ما يلي :
أ - أن يكون هناك قذف للحصاة ولو خفيفًا . فكيفما حصل أجزأه ، حتّى قال النّوويّ : ولا يشترط وقوف الرّامي خارج المرمى ، فلو وقف في طرف المرمى ورمى إلى طرفه الآخر أجزأه » . ولو طرح الحصيات طرحًا أجزأه عند الحنفيّة والحنابلة ; لأنّ الرّمي قد وجد بهذا الطّرح ، إلاّ أنّه رمي خفيف ، فيجزئ مع الإساءة . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يجزئه الطّرح بتاتًا . أمّا لو وضعها وضعًا فلا يصحّ اتّفاقًا ; لأنّه ليس برميٍ .
ب - العدد المخصوص : وهو سبع حصياتٍ لكلّ جمرةٍ ، حتّى لو ترك رمي حصاةٍ واحدةٍ كان كمن ترك السّبع عند المالكيّة ، وعند الجمهور تيسير بقبول صدقةٍ في ترك القليل من الحصيات ، اختلفت فيه اجتهاداتهم ( ر : حجّ ف 273 )
. واجب الرّمي :
11 - يجب ترتيب رمي يوم النّحر بحسب ترتيب أعمال يوم النّحر ، وهي هكذا : رمي جمرة العقبة ، فالذّبح ، فالحلق ، فطواف الإفاضة ، وذلك عند الجمهور ، خلافًا للشّافعيّة فإنّ ترتيبها سنّة عندهم ، وعند الجمهور تفصيل واختلاف في كيفيّة هذا التّرتيب ( انظر مصطلح : حجّ ف 195 - 196 ) وسبق الحكم في ترتيب رمي الجمرات الثّلاث ( ف 6 )
سنن الرّمي :
12 - يسنّ في الرّمي ما يلي :
أ - أن يكون بين الرّامي وبين الجمرة خمسة أذرعٍ فأكثر ، كما نصّ الحنفيّة ; لأنّ ما دون ذلك يكون طرحًا ، ولو طرحها طرحًا أجزأه إلاّ أنّه مخالف للسّنّة .
ب - الموالاة بين الرّميات السّبع ، بحيث لا يزيد الفصل بينها عن الذّكر الوارد .
ج - لقط الحصيات دون كسرها ، وله أخذها من منزله بمنًى .
د - طهارة الحصيات ، فيكره الرّمي بحصًى نجسٍ ، ويندب إعادته بطاهرٍ ، وفي وجهٍ اختاره بعض الحنابلة : لا يجزئ الرّمي بنجسٍ ، ويجب إعادته بطاهرٍ ، لكنّ الصّحيح في مذهبهم الإجزاء مع الكراهة .
هـ - ألاّ يكون الحصى ممّا رمي به ، فلو خالف ورمى بها كره ، سواء كان ممّا رمى به هو أو غيره ، وهو مذهب الجمهور . وقال بعض المالكيّة : لا يجزئ ، ومذهب الحنابلة : إن رمى بحجرٍ أخذه من المرمى لم يجزه . استدلّ الجمهور بعموم لفظ الحصى الوارد في الأحاديث الواردة في تعليم النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّمي ، وذلك يفيد صحّة الرّمي بما رمي به ولو أخذ من المرمى . واستدلّ الحنابلة بأنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ من غير المرمى ، وقال : خذوا عنّي مناسككم } ولأنّه لو جاز الرّمي بما رمي به ، لما احتاج أحد إلى أخذ الحصى من غير مكانه ولا تكسيره ، والإجماع على خلافه .(/5)
و - التّكبير مع كلّ حصاةٍ ، ويقطع التّلبية مع أوّل حصاةٍ يرمي بها جمرة العقبة يوم النّحر عند الجمهور . وينظر الخلاف والتّفصيل في بحث : ( تلبية ) .
ز - الوقوف للدّعاء : وذلك إثر كلّ رميٍ بعده رمي آخر ، فيقف بين الرّميّين مدّةً ويطيل الوقوف يدعو ، وقدّر ذلك بمدّة ثلاثة أرباع الجزء من القرآن ، وأدناه قدر عشرين آيةً . فيسنّ أن يقف بعد رمي الجمرة الصّغرى وبعد الوسطى ، لأنّه في وسط العبادة ، فيأتي بالدّعاء فيه ، وكلّ رميٍ ليس بعده رمي لا يقف فيه للدّعاء ; لأنّ العبادة قد انتهت ، فلا يقف بعد رمي جمرة العقبة يوم النّحر ، ولا بعد رميها أيّام التّشريق أيضًا . ودليل هذه السّنّة فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في حديث ابن عمر السّابق .
مكروهات الرّمي :
13 - يكره في الرّمي ما يلي :
أ - الرّمي بعد المغرب في يوم النّحر عند الحنفيّة ، وبعد زواله عند المالكيّة ، قال السّرخسيّ : ففي ظاهر المذهب وقته إلى غروب الشّمس ، ولكنّه لو رمى باللّيل لا يلزمه شيء » .
ب - الرّمي بالحجر الكبير ، سواء رمى به كبيرًا ، أو رمى به مكسورًا .
ج - الرّمي بحصى المسجد ، فلا يأخذه من مسجد الخيف ; لأنّ الحصى تابع للمسجد ، فلا يخرج منه .
د - الرّمي بالحصى النّجس عند الجمهور ، وقيل : لا يجزئ الرّمي بالحصى النّجس .
هـ - الزّيادة على العدد ، أي السّبع ، في رمي كلّ جمرةٍ من الجمرات .
صفة الرّمي المستحبّة :
14 - يستعدّ الحاجّ لرمي الجمرات فيرفع الحصى قبل الوصول إلى الجمرة ، ويستحبّ أن يرفع من المزدلفة سبع حصياتٍ مثل حصى الخذف ، فوق الحمّصة ودون البندقة ليرمي بها جمرة العقبة في اليوم الأوّل من أيّام الرّمي ، وهو يوم عيد النّحر ، وإن رفع سبعين حصاةً من المزدلفة أو من طريق مزدلفة فهو جائز ، وقيل : مستحبّ ، وهذا هو عدد الحصى الّذي يرمى في كلّ أيّام الرّمي ، ويجوز أخذ الحصيات من كلّ موضعٍ بلا كراهةٍ . إلاّ من عند الجمرة ، فإنّه مكروه ، ويكره أخذها من مسجد الخيف ، لأنّ حصى المسجد تابع له فيصير محترمًا ، ويندب غسل الحصى مطلقًا ، ولو لم تكن نجسةً عند الحنفيّة ، ورواية عند الحنابلة . ثمّ يأتي الحاجّ منًى يوم العاشر من ذي الحجّة وهو يوم النّحر ، وعليه في هذا اليوم أربعة أعمالٍ على هذا التّرتيب : رمي جمرة العقبة ، ثمّ ذبح الهدي وهو واجب على المتمتّع والقارن ، ثمّ يحلق أو يقصّر ، ثمّ يطوف طواف الإفاضة ، وإن لم يكن قدّم السّعي عند طواف القدوم فإنّه يسعى بعد طواف الإفاضة ، ويتوجّه الحاجّ فور وصوله منًى إلى جمرة العقبة ، وتقع آخر منًى تجاه مكّة ، من غير أن يشتغل بشيءٍ آخر قبل رميها ، فيرميها بعد دخول وقتها بسبع حصياتٍ من أيّ جهةٍ يرميها واحدةً فواحدةً يكبّر مع كلّ حصاةٍ ويدعو ، وكيفما أمسك الحصاة ورماها صحّ ، دون تقييدٍ بهيئةٍ ، لكن لا يجوز وضع الحصاة في المرمى وضعًا ، ويسنّ أن يرمي بعد طلوع الشّمس ، ويمتدّ وقت السّنّة إلى الزّوال ، ويباح بعده إلى المغرب .
15 - أمّا كيفيّة الرّمي فهي أن يبعد عن الجمرة الّتي يجتمع فيها الحصى قدر خمسة أذرعٍ فأكثر على ما اختاره الحنفيّة ، ويمسك بالحصاة بطرفي إبهام ومسبّحة يده اليمنى ، ويرفع يده حتّى يرى بياض إبطيه ، ويقذفها ويكبّر . وقيل : يضع الحصاة على ظهر إبهامه اليمنى ويستعين بالمسبّحة ، وقيل : يستحبّ أن يضع الحصاة بين سبّابتي يديه اليمنى واليسرى ويرمي بها .(/6)
16 - أمّا صيغة التّكبير فقد جاءت في الحديث مطلقةً " يكبّر مع كلّ حصاةٍ » . فيجوز بأيّ صيغةٍ من صيغ التّكبير . واختار العلماء نحو هذه الصّيغة : { بسم اللّه واللّه أكبر ، رغمًا للشّيطان ورضًا للرّحمن ، اللّهمّ اجعله حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا ، وذنبًا مغفورًا } والمستند في ذلك ما ورد من الآثار الكثيرة عن الصّحابة . ولو رمى وترك الذّكر فلم يكبّر ولم يأت بأيّ ذكرٍ جاز ، وقد أساء لتركه السّنّة . ويقطع التّلبية مع أوّل حصاةٍ يرميها ويشتغل بالتّكبير . وينصرف من الرّمي وهو يقول : { اللّهمّ اجعله حجًّا مبرورًا ، وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا } . ووقت الرّمي في هذه الأيّام بعد الزّوال ، ويندب تقديم الرّمي قبل صلاة الظّهر في المذاهب الثّلاثة ، وعند الحنفيّة يقدّم صلاة الظّهر على الرّمي . 17 - وقد بحثوا في أفضليّة الرّكوب أو المشي في رمي الجمار ، واختلفوا في ذلك وكانوا يركبون الدّوابّ فكان الرّمي للرّاكب ممكنًا . فذهب أبو يوسف وهو المختار عند الحنفيّة إلى أنّه يرمي جمرة العقبة راكبًا وغيرها ماشيًا في جميع أيّام الرّمي ، وقال أبو حنيفة ومحمّد : الرّمي كلّه راكبًا أفضل . وعند المالكيّة يرمي جمرة العقبة يوم النّحر كيفما كان وغيرها ماشيًا . وقال الشّافعيّ : يرمي جمرة العقبة يوم النّحر راكبًا ، وكذلك يرميها يوم النّفر راكبًا ، ويمشي في اليومين الآخرين أحبّ إليّ " ، واختار صاحب الفتاوى الظّهيريّة الحنفيّ استحباب المشي إلى الجمار مطلقًا ، وهو الأكثر عند الحنابلة . عن { ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يأتي الجمار في الأيّام الثّلاثة بعد يوم النّحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا ، ويخبر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك } . ثمّ إذا فرغ من الرّمي ثاني أيّام العيد وهو أوّل أيّام التّشريق رجع إلى منزله في منًى ، ويبيت تلك اللّيلة فيها ، فإذا كان من الغد وهو ثاني عشر ذي الحجّة ، وثالث أيّام النّحر ، وثاني أيّام التّشريق رمى الجمار الثّلاثة بعد الزّوال على كيفيّة رمي اليوم السّابق . ثمّ إذا رمى في هذا اليوم فله أن ينفر أي يرحل ، بلا كراهةٍ لقوله تعالى : { فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه } . ويسقط عنه رمي اليوم الرّابع ، لذلك يسمّى هذا اليوم يوم النّفر الأوّل .
18 - وإن لم ينفر لزمه رمي اليوم الرّابع ، وهو الثّالث عشر من ذي الحجّة ، ثالث أيّام التّشريق ، يرمي فيه الجمرات الثّلاث على الكيفيّة السّابقة في ثاني يومٍ أيضًا ، لكن عند أبي حنيفة يصحّ الرّمي في هذا اليوم من الفجر مع الكراهة لمخالفته السّنّة ، وينتهي وقت الرّمي في هذا اليوم بغروب الشّمس أداءً وقضاءً ، فإن لم يرم حتّى غربت شمس اليوم فات الرّمي وتعيّن الدّم فداءً عن الواجب الّذي تركه ، ويرحل بعد الرّمي ، ولا يسنّ المكث في منًى بعده ، ويسمّى هذا النّفر الثّاني ، وهذا اليوم يوم النّفر الثّاني . والأفضل أن يتأخّر بمنًى ويرمي اليوم الرّابع ، لقوله تعالى : { ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى } واتّباعًا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم تكميلًا للعبادة . أمّا ما ورد من ركوب النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الرّمي فأجيب عنه بأنّه " محمول على رميٍ لا رمي بعده ، أو على التّعليم ليراه النّاس فيتعلّموا منه مناسك الحجّ " والجواب الثّاني أولى وأقوى ، يدلّ عليه قوله في اليوم الأوّل وهو راكب : { لتأخذوا عنّي مناسككم } .
آثار الرّمي : يترتّب على رمي الجمار أحكام هامة في الحجّ ، سوى براءة الذّمّة من وجوبه ، وهذه الآثار هي :
أ - أثر رمي جمرة العقبة :
19 - يترتّب على رمي جمرة العقبة يوم النّحر التّحلّل الأوّل من إحرام الحجّ عند المالكيّة ، وهو قول عند الحنابلة ، خلافًا للحنفيّة الّذين قالوا : إنّ التّحلّل الأوّل يكون بالحلق ، وعلى تفصيلٍ عند الشّافعيّة والحنابلة ( ر : مصطلح إحرام ف 122 - 125 ) .
ب - أثر رمي الجمار يومي التّشريق : النّفر الأوّل :
20 - إذا رمى الحاجّ الجمار أوّل وثاني أيّام التّشريق يجوز له أن ينفر ، أي يرحل إن أحبّ التّعجّل في الانصراف من منًى ، هذا هو النّفر الأوّل ، وبهذا النّفر يسقط رمي اليوم الأخير ، وهو قول عامّة العلماء ، لقوله تعالى : { فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى } . وفي حديث عبد الرّحمن بن يعمر الدّيليّ الصّحيح : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { أيّام منًى ثلاثة : فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه } .
ج - أثر الرّمي ثالث أيّام التّشريق : النّفر الثّاني :
21 - إذا رمى الحاجّ الجمار في اليوم الثّالث من أيّام التّشريق انصرف من منًى إلى مكّة ، ولا يقيم بمنًى بعد رميه هذا اليوم ، ويسمّى هذا النّفر النّفر الثّاني ، واليوم يوم النّفر الثّاني ، وهو آخر أيّام التّشريق ، وبه ينتهي وقت رمي الجمار ، ويفوت على من لا يتداركه قبل غروب شمس هذا اليوم ، وبه تنتهي مناسك منًى .
حكم ترك الرّمي :
22 - يلزم من ترك الرّمي بغير عذرٍ الإثم ووجوب الدّم ، وإن تركه بعذرٍ لا يأثم ، لكن لا يسقط الدّم عنه ، ولو ترك حصاةً واحدةً عند المالكيّة ، ويجزئه شاة عن ترك الرّمي كلّه ، أو عن ترك رمي يومٍ . وتسامح الشّافعيّة والحنابلة في حصاةٍ وحصاتين فجعلوا في ذلك صدقةً ، وأنزل الحنفيّة الأكثر منزلة الكلّ مع وجوب جزاءٍ عن النّاقص . ( انظر تفصيل أحوال ترك الرّمي في مصطلح : حجّ ف ) .
النّيابة في الرّمي :
23 - وهي رخصة خاصّة بالمعذور ، تفصيل حكمها فيما يلي :(/7)
أ - المعذور الّذي لا يستطيع الرّمي بنفسه ، كالمريض ، يجب أن يستنيب من يرمي عنه ، وينبغي أن يكون النّائب قد رمى عن نفسه ، فإن لم يكن رمى عن نفسه فليرم عن نفسه أوّلًا الرّمي كلّه ، ثمّ يرمي عمّن استنابه ، ويجزئ هذا الرّمي عن الأصيل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنفيّة والمالكيّة قالوا : لو رمى حصاةً عن نفسه وأخرى عن الآخر جاز ويكره . وقال الشّافعيّة : إنّ الإنابة خاصّة بمن به علّة لا يرجى زوالها قبل انتهاء أيّام التّشريق كمريضٍ أو محبوسٍ . وعند الشّافعيّة قول : أنّه يرمي حصيات كلّ جمرةٍ عن نفسه أوّلًا ، ثمّ يرميها عن المريض الّذي أنابه إلى أن ينتهي من الرّمي ، وهو مخلّص حسن لمن خشي خطر الزّحام .
ب - من عجز عن الاستنابة كالصّبيّ الصّغير ، والمغمى عليه ، فيرمي عن الصّبيّ وليّه اتّفاقًا ، وعن المغمى عليه رفاقه عند الحنفيّة ، ولا فدية عليه وإن لم يرم عند الحنفيّة . وقال المالكيّة : فائدة الاستنابة أن يسقط الإثم عنه إن استناب وقت الأداء { وإلاّ فالدّم عليه ، استناب ، أم لا ، إلاّ الصّغير ومن ألحق به ، وإنّما وجب عليه الدّم دون الصّغير ومن ألحق به كالمغمى عليه ; لأنّه المخاطب بسائر الأركان } .
( ثانيًا ) الرّمي في الصّيد الصّيد بالرّمي بالمحدّد :
24 - يجوز الصّيد بالرّمي بالسّهام المحدّدة للأحاديث الصّحيحة والإجماع ، فإن رمى الصّيد من هو أهل للتّذكية من مسلمٍ أو كتابيٍّ فقتله بحدّ ما رماه به كالسّهم الّذي له نصل محدّد ، والسّيف ، والسّكّين ، والسّنان ، والحجر المحدّد والخشبة المحدّدة وغير ذلك من المحدّدات حلّ أكله بشروطٍ ذكرها الفقهاء لحلّ ما يصاد بالرّمي .
الصّيد بالرّمي بالمثقّل :
25 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا يحلّ ما صيد بالمثقّل ويعتبر وقيذًا . فلا يحلّ ما أصابه الرّامي بما لا حدّ له فقتله كالحجر ، وخشبةٍ لا حدّ لها ، أو رماه بمحدّدٍ فقتله بعرضه لا بحدّه لما روى عديّ بن حاتمٍ رضي الله عنه قال : { سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال : إذا أصبت بحدّه فكل ، فإذا أصاب بعرضه فقتل فلا تأكل فإنّه وقيذ } . ولما ورد أنّه عليه الصلاة والسلام { نهى عن الخذف وقال : إنّه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدوّ ، ولكنّها قد تكسر السّنّ وتفقأ العين } . والخذف : الرّمي بحصًى صغارٍ بطريقةٍ مخصوصةٍ بين الأصابع . وينظر تفصيله في بحث ( خذف ) . وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه إذا أصاب الصّيد بما لا حدّ له لا يحلّ وإن جرحه . وذهب الأوزاعيّ ومكحول وغيرهما من علماء الشّام إلى أنّه يحلّ صيد المعراض مطلقًا فيباح ما قتله بحدّه وعرضه . قال النّوويّ : إنّه إذا كان الرّمي بالبنادق وبالخذف ( بالمثقّل ) إنّما هو لتحصيل الصّيد ، وكان الغالب فيه عدم قتله فإنّه يجوز ذلك إذا أدركه الصّائد وذكّاه ، كرمي الطّيور الكبار بالبنادق . وللتّفصيل ( ر : صيد ) والمراد بالبندق في كلام النّوويّ ومن عهده : كرات من الطّين بحجم حبّة البندقة .
اتّخاذ الحيوان هدفًا يرمى إليه :
26 - يحرم اتّخاذ شيءٍ فيه الرّوح غرضًا . فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { لا تتّخذوا شيئًا فيه الرّوح غرضًا } . أي لا تتّخذوا الحيوان الحيّ غرضًا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها ، وهذا النّهي للتّحريم لأنّه أصله ، ويؤيّده حديث { ابن عمر أنّه مرّ بنفرٍ قد نصبوا دجاجةً يترامونها ، فلمّا رأوا ابن عمر تفرّقوا عنها . فقال ابن عمر : من فعل هذا ؟ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا } وروى مسلم من حديث هشام بن زيد بن أنس بن مالكٍ أنّه قال : دخلت مع جدّي أنس بن مالكٍ دار الحكم بن أيّوب فإذا قوم قد نصبوا دجاجةً يرمونها . قال : فقال أنس : { نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم } . قال العلماء : صبر البهائم أن تحبس وهي حيّة لتقتل بالرّمي ونحوه . قال الصّنعانيّ وغيره في وجه حكمة النّهي : إنّ فيه إيلامًا للحيوان ، وتضييعًا لماليّته ، وتفويتًا لذكاته إن كان ممّا يذكّى ، ولمنفعته إن كان غير مذكًّى . وينظر بحث : ( تعذيب ) .
( ثالثًا ) الرّمي في الجهاد ( تعلّم الرّمي ) :(/8)
27 - حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه على الرّمي وحضّهم على مواصلة التّدرّب عليه ، وحذّر من تعلّم الرّمي فتركه ، روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم . مرّ على نفرٍ من أسلم ينتضلون فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميًا ، ارموا ، وأنا مع بني فلانٍ . قال : فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما لكم لا ترمون ؟ قالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ارموا فأنا معكم كلّكم } . وفسّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم القوّة الّتي أمر اللّه بها في قوله تعالى { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ } بالرّمي ، كما في حديث عقبة بن عامرٍ قال : { سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ، ألا إنّ القوّة الرّمي ، ألا إنّ القوّة الرّمي ، ألا إنّ القوّة الرّمي } . وعن { خالد بن زيدٍ قال : كنت راميًا أرامي عقبة بن عامرٍ الجهنيّ ، فمرّ ذات يومٍ فقال يا خالد : اخرج بنا نرمي ، فأبطأت عليه فقال : يا خالد : تعال أحدّثك ما حدّثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأقول لك كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ اللّه يدخل بالسّهم الواحد ثلاثة نفرٍ الجنّة : صانعه الّذي احتسب في صنعته الخير ، ومنبّله ، والرّامي به ، ارموا واركبوا ، وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا ، وليس من اللّهو إلاّ ثلاث : تأديب الرّجل فرسه ، وملاعبته زوجته ، ورميه بنبله عن قوسه ، ومن علم الرّمي ثمّ تركه فهي نعمة كفرها } . وهناك أحاديث أخرى تدلّ على فضل الرّمي والتّحريض عليه منها ما روى أبو نجيحٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { من رمى بسهمٍ في سبيل اللّه فهو له عدل محرّرٍ } . وقال النّوويّ في تعليقه على الأحاديث الّتي ذكرها مسلم في فضل الرّمي ، والحثّ عليه : في هذه الأحاديث فضيلة الرّمي والمناضلة ، والاعتناء بذلك بنيّة الجهاد في سبيل اللّه تعالى ، وكذلك المشاجعة ، وسائر أنواع استعمال السّلاح ، وكذا المسابقة بالخيل وغيرها ، والمراد بهذا كلّه التّمرّن على القتال ، والتّدرّب ، والتّحذّق فيه ، ورياضة الأعضاء بذلك . وقال القرطبيّ : فضل الرّمي عظيم ، ومنفعته عظيمة للمسلمين ، ونكايته شديدة على الكافرين ، قال صلى الله عليه وسلم : { يا بني إسماعيل ارموا فإنّ أباكم كان راميًا } وتعلّم الفروسيّة واستعمال الأسلحة فرض كفايةٍ وقد يتعيّن .
( المناضلة ) :
28 - المناضلة هي المسابقة في الرّمي بالسّهام ، والمناضلة مصدر ناضلته نضالًا ومناضلةً ، وسمّي الرّمي نضالًا لأنّ السّهم التّامّ يسمّى نضلًا ، فالرّمي به عمل بالنّضل فسمّي نضالًا ومناضلةً . وتصحّ المناضلة على الرّمي بالسّهام بالاتّفاق . وأجاز الشّافعيّة المناضلة - بجانب ما تقدّم - على رماحٍ ، وعلى رميٍ بأحجارٍ بمقلاعٍ ، أو بيدٍ ، ورميٍ بمنجنيقٍ ، وكلّ نافعٍ في الحرب بما يشبه ذلك كالرّمي بالمسلّات ، والإبر ، والتّردّد بالسّيوف والرّماح . وقد تجب المناضلة إذا تعيّنت طريقًا لقتال الكفّار ، وقد يكره أو يحرم - حسب اختلاف المذاهب - إذا كان سببًا في قتال قريب كافرٍ لم يسبّ اللّه ورسوله ، وبذلك تعتري المناضلة الأحكام التّكليفيّة الخمسة .
( رابعًا ) الرّمي في القذف الرّمي بالزّنا :
29 - الرّمي بالزّنا لا في معرض الشّهادة يوجب حدّ القذف لقوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } والمراد : الرّمي بالزّنا بإجماع العلماء . وأمّا الرّمي في معرض الشّهادة فينظر : إن تمّ عدد الشّهود أربعةً وثبتوا على شهادتهم أقيم حدّ الزّنا على المرميّ ولا شيء عليهم ، وإن لم يتمّ العدد ، بأن شهد اثنان أو ثلاثة فعليهم حدّ القذف عند أكثر الفقهاء . ويرى الشّافعيّة في القول المقابل للأظهر والحنابلة في إحدى الرّوايتين : أنّ الشّهود - عند عدم تمام العدد - لا حدّ عليهم لأنّهم شهود فلم يجب عليهم الحدّ كما لو كانوا أربعةً أحدهم فاسق . وللتّفصيل ( ر : قذف ) .(/9)
رهبانيّة .
التّعريف
1 - الرّهبانيّة لغةً : من الرّهبة ، وهي الخوف والفزع مع تحرّزٍ واضطرابٍ ، ومنها الرّاهب : وهو المتعبّد في صومعةٍ من النّصارى يتخلّى عن أشغال الدّنيا وملاذّها زاهدًا فيها معتزلًا أهلها ، والجمع : رهبان ، وقد يكون الرّهبان واحدًا ، والجمع رهابين وترهّب الرّجل إذا صار راهبًا . والرّهبانيّة : - بفتح الياء - منسوبة إلى الرّهبان وهو الخائف ، فعلان من رهب ، كخشيان من خشي . وتكون أيضًا - بضمّ الرّاء - نسبةً إلى الرّهبان وهو جمع راهبٍ كراكبٍ وركبانٍ . والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - العزلة :
2 - العزلة لغةً : التّجنّب وهي اسم مصدرٍ ، وهي ضدّ المخالطة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . والفرق بينها وبين الرّهبانيّة : أنّ العزلة من وسائل الرّهبانيّة ، وهي على خلاف الأصل ، وقد تقع عند فساد الزّمان لغير التّرهّب فلا تحرم .
ب - السّياحة :
3 - من معاني السّياحة في اللّغة : الذّهاب في الأرض للتّعبّد والتّرهّب ، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . وكانت السّياحة هكذا ممّا يتعبّد به رهبان النّصارى ، ولذا جاء في الحديث : { سياحة أمّتي الجهاد } ، وتأتي السّياحة بمعنى إدامة الصّوم . فالسّياحة بالمعنى الأوّل قريبة من الرّهبانيّة . وينظر مصطلح ( سياحة ) .
الحكم التّكليفيّ ) :
4 - نهت الشّريعة عن الرّهبانيّة - بمعناها الّذي كان يمارسه رهبان النّصارى - وهو الغلوّ في العبادات ، والتّخلّي عن أشغال الدّنيا وترك ملاذّها ، واعتزال النّساء ، والفرار من مخالطة النّاس ، ولزوم الصّوامع والدّيارات أو التّعبّد في الغيران والكهوف ، والسّياحة في الأرض على غير هدًى بلحوقهم بالبراريّ والجبال ، وحمل أنفسهم على المشقّات في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والمنكح ، وتعذيب النّفس بالأعمال التّعبّديّة الشّاقّة كأن يخصي نفسه أو يضع سلسلةً في عنقه . ودليل ذلك قوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعوا أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيرًا وضلّوا عن سواء السّبيل } . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { عليك بالجهاد ، فإنّه رهبانيّة الإسلام } . وقوله صلى الله عليه وسلم : { ولن يشادّ الدّين أحد إلاّ غلبه } . وقوله صلى الله عليه وسلم : { من رغب عن سنّتي فليس منّي } . واتّفق العلماء على أنّ الأفضل للمسلم أن يختلط بالنّاس ، ويحضر جماعاتهم ومشاهد الخير ومجالس العلم ، وأن يعود مريضهم ، ويحضر جنائزهم ، ويواسي محتاجهم ، ويرشد جاهلهم ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويدعو للخير ، وينشر الحقّ والفضيلة ، ويجاهد في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه ، وإعزاز دينه مع قمع نفسه عن إيذاء المسلمين والصّبر على أذاهم . قال النّوويّ : إنّ الاختلاط بالنّاس على هذا الوجه هو المختار الّذي كان عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم ، وكذلك الخلفاء الرّاشدون ، ومن بعدهم من الصّحابة والتّابعين ، ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم لقوله تعالى { وتعاونوا على البرّ والتّقوى } وقوله تعالى : { كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقوله تعالى : { إنّ اللّه يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنّهم بنيان مرصوص } . وقوله صلى الله عليه وسلم : { العبادة في الهرج كهجرةٍ إليّ } وقوله صلى الله عليه وسلم { المؤمن الّذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الّذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم } . هذا إذا لم تكن هناك فتنة عامّة أو فساد سائد لا يستطيع إصلاحه ، أو غلب على ظنّه وقوعه في الحرام بسبب المخالطة فيستحبّ له في هذه الحالة العزلة لقوله تعالى : { واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّةً } . وقوله صلى الله عليه وسلم : { خير النّاس رجل جاهد بنفسه وماله ، ورجل في شعبٍ من الشّعاب يعبد ربّه ويدع النّاس من شرّه } . وقوله صلى الله عليه وسلم : { يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن } .(/1)
روث .
التّعريف
1 - الرّوث لغةً : رجيع ( فضلة ) ذي الحافر ، واحده روثة والجمع أرواث . ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بأوسع من ذلك فيطلق عندهم على رجيع ذي الحافر وغيره كالإبل والغنم . وقريب منه الخثي ، والخثي للبقر ، والبعر للإبل والغنم ، والذّرق للطّيور . والعذرة للآدميّ ، والخرء للطّير والكلب والجرذ والإنسان . والسّرجين أو السّرقين هو رجيع ما سوى الإنسان .
حكم الرّوث من حيث الطّهارة والنّجاسة :
2 - يرى المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في وجهٍ أنّ روث ما يؤكل لحمه طاهر . وبهذا قال عطاء والنّخعيّ والثّوريّ ، واستدلّوا بما روي { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في مرابض الغنم . وقال : صلّوا في مرابض الغنم } . وصلّى أبو موسى في موضعٍ فيه أبعار الغنم فقيل له : لو تقدّمت إلى هاهنا . قال : هذا وذاك واحد . ولم يكن للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يصلّون عليه من الأوطئة والمصلّيات وإنّما كانوا يصلّون على الأرض ، ومرابض الغنم لا تخلو من أبعارها وأبوالها ; ولأنّه متحلّل معتاد من حيوانٍ يؤكل لحمه فكان طاهرًا . أمّا روث غير مأكول اللّحم فنجس عند هؤلاء الفقهاء ، وقد صرّح المالكيّة بنجاسة روث مكروه الأكل كمحرّمه وإن لم يستعمل النّجاسة . وقال الحنفيّة والشّافعيّة - على المذهب - بنجاسة الرّوث من جميع الحيوانات المأكول اللّحم وغيرها .
ثمّ اختلف الفقهاء في صفة نجاسة الأرواث : فعند أبي حنيفة هي نجسة نجاسةً غليظةً ، وعند أبي يوسف ومحمّدٍ نجاسةً خفيفةً . وذكر الكرخيّ أنّ النّجاسة الغليظة عند أبي حنيفة ما ورد نصّ يدلّ على نجاسته ، ولم يرد نصّ معارض له يدلّ على طهارته ، وإن اختلف العلماء فيه . والخفيفة ما تعارض نصّان في طهارته ونجاسته . وعند أبي يوسف ومحمّدٍ الغليظة ما وقع الاتّفاق على نجاسته . والخفيفة ما اختلف العلماء في نجاسته وطهارته .
3 - بناءً على هذا الأصل فالأرواث كلّها نجسة نجاسةً غليظةً عند أبي حنيفة لأنّه ورد نصّ يدلّ على نجاستها وهو حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : { إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طلب منه أحجار الاستنجاء فأتى بحجرين وروثةٍ فأخذ الحجرين ورمى بالرّوثة وقال : هذا ركس } أي : نجس . وليس له نصّ معارض ، وإنّما قال بعض العلماء بطهارتها بالرّأي والاجتهاد ، والاجتهاد لا يعارض النّصّ فكانت نجاستها غليظةً . وعلى قول الصّاحبين نجاسة ما يؤكل لحمه خفيفة لأنّ العلماء اختلفوا فيها . كما أنّ في الأرواث ضرورةً ، وعموم البليّة لكثرتها في الطّرقات فتتعذّر صيانة الخفاف والنّعال عنها ، وما عمّت بليّته خفّت قضيّته . ويتفرّع عن اختلاف الأصلين أنّه إذا أصاب الثّوب من الرّوث أكثر من قدر درهمٍ لم تجز الصّلاة فيه عند أبي حنيفة . وقال الصّاحبان : يجزئه حتّى يفحش ، ولا فرق عندهما بين المأكول وغير المأكول . وفي كلّ ما يعتبر فيه الفاحش فهو مقدّر بالرّبع في قول محمّدٍ وهو رواية عن أبي حنيفة . وقال أبو يوسف : شبر في شبرٍ . وفي رواية ذراع في ذراعٍ . وروي عن محمّدٍ في الرّوث أنّه لا يمنع جواز الصّلاة وإن كان كثيرًا فاحشًا . وقيل : إنّ هذا آخر أقاويله حين كان بالرّيّ وكان الخليفة بها ، فرأى الطّرق والخانات مملوءةً من الأرواث وللنّاس فيها بلوًى عظيمة . وعند المالكيّة يعفى عمّا أصاب الخفّ والنّعل من أرواث الدّوابّ وأبوالها في الطّرق والأماكن الّتي تطرقها الدّوابّ كثيرًا ; لعسر الاحتراز من ذلك ، بخلاف ما أصاب غير الخفّ والنّعل كالثّوب والبدن فلا عفو . أمّا الشّافعيّة فنجاسة الرّوث عندهم لا يعفى عنها إلاّ إذا كانت ممّا لا يدركه الطّرف فيعفى عنها في قولٍ . وعند الإمام أحمد يعفى عن يسير فضلات سباع البهائم وجوارح الطّير والبغل والحمار . وظاهر مذهب أحمد أنّ اليسير ما لا يفحش في القلب . وهو قول ابن عبّاسٍ . وقال ابن أبي ليلى : السّرقين ليس بشيءٍ ، قليله وكثيره لا يمنع الصّلاة ; لأنّه وقود أهل الحرمين ولو كان نجسًا لما استعملوه ، كما لم يستعملوا العذرة . ولتفصيل ذلك انظر مصطلح : ( نجاسة ) .
الاستنجاء بالرّوث :
4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قولٍ والثّوريّ وإسحاق إلى عدم جواز الاستنجاء بالرّوث طاهرًا كان أو غير طاهرٍ . واستدلّ هذا الفريق من الفقهاء على ما ذهبوا إليه بما يأتي :
1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : { اتّبعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته فقال : ابغني أحجارًا أستنفض بها أو نحوه ولا تأتني بعظمٍ ولا روثٍ } .
2 - حديث سلمان رضي الله عنه قال : { نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّوث والعظام } . ولأنّ الرّوث نجس في نفسه عند من قال بنجاسته والنّجس لا يزيل النّجاسة . وقال المالكيّة : لا يجوز الاستنجاء بالرّوث النّجس ويجوز بالطّاهر منه مع الكراهة ; لأنّ الرّوث طعام دوابّ الجنّ يرجع علفًا كما كان عليه . ويرى الحنفيّة كراهة الاستنجاء بالرّوث لأنّ النّصّ الوارد في الاستنجاء بالأحجار معلول بمعنى الطّهارة ، وقد حصلت بالرّوث كما تحصل بالأحجار ، إلاّ أنّه كرهه بالرّوث لما فيه من استعمال النّجس وإفساد علف دوابّ الجنّ .(/1)
5- ثمّ اختلف الفقهاء في الاعتداد بالاستنجاء بالرّوث : فذهب الحنفيّة والمالكيّة وابن تيميّة إلى أنّ من خالف واستنجى بالرّوث يعتدّ به إن حصل به الإنقاء . قال الكاسانيّ : فإن فعل ذلك ( استنجى بالرّوث ) يعتدّ به عندنا ، فيكون مقيمًا سنّةً ( سنّة الاستنجاء ) ومرتكبًا كراهةً ، ويجوز أن يكون لفعلٍ واحدٍ جهتان مختلفتان فيكون بجهةٍ كذا وبجهةٍ كذا . ويرى الشّافعيّة وجمهور الحنابلة أنّ من خالف واستنجى بالرّوث لم يصحّ . واستدلّوا بحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه { في سؤال الجنّ الزّاد من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : لكم كلّ عظمٍ ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم ، أوفر ما يكون لحمًا ، وكلّ بعرةٍ علف لدوابّكم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنّهما طعام إخوانكم } . والنّهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء .
6- أمّا من استنجى بالرّوث ثمّ استنجى بعده بمباحٍ كحجرٍ فقد اختلف من يرى عدم الصّحّة من الفقهاء فيه على الاتّجاهات التّالية :
1 - عدم الإجزاء مطلقًا ، وهو الصّحيح عند جمهور الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة ، وبناءً على هذا الاتّجاه يتعيّن الاستنجاء بالماء بعده .
2 - الإجزاء مطلقًا وهو قول عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة .
3 - الإجزاء إن أزال شيئًا ، وهو قول ذكره ابن حمدان الحنبليّ في الرّعاية الكبرى واختاره . وأجاز ابن جريرٍ الاستنجاء بكلّ طاهرٍ ونجسٍ من الجمادات . وللتّفصيل ( ر : استجمار ، استنجاء ) .
بيع الرّوث :
7 - اختلف الفقهاء في حكم بيع الرّوث ، وينظر التّفصيل في بحث ( زبل ) .(/2)
ريح .
التّعريف
1 - الرّيح في اللّغة : الهواء المسيّر بين السّماء والأرض ، والرّيح بمعنى الرّائحة : عرض يدرك بحاسّة الشّمّ ، يقال : ريح زكيّة . وقيل : لا يطلق اسم الرّيح إلاّ على الطّيّب من النّسيم . أمّا الرّائحة فهي النّسيم طيّبًا كان أم نتنًا . وجمعها : رياح ، وأرواح ، وأراويح . ويستخدم لفظ ( الرّياح ) في الرّحمة ، ولفظ ( الرّيح ) في العذاب ، ومنه حديث : { اللّهمّ اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا } . والرّيح : الهواء الخارج من أحد السّبيلين . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذه المعاني اللّغويّة .
الأحكام المتعلّقة بالرّيح : الدّعاء عند هبوب الرّيح :
2 - يستحبّ للمرء عند هبوب الرّيح أن يسأل اللّه خيرها ويتعوّذ من شرّها ، ويكره سبّها لقوله صلى الله عليه وسلم : { الرّيح من روح اللّه تأتي بالرّحمة وبالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها ، وسلوا اللّه خيرها ، واستعيذوا باللّه من شرّها } . ويقول في دعائه : { اللّهمّ إنّي أسألك خيرها ، وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها ، ومن شرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به } . ويقول : { اللّهمّ اجعلها رحمةً ، ولا تجعلها عذابًا ، اللّهمّ اجعلها رياحًا ، ولا تجعلها ريحًا } .
الرّيح الخارج من السّبيلين :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ خروج ريحٍ من دبر الإنسان ينقض الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا وضوء إلاّ من صوتٍ أو ريحٍ } . واختلفوا في نقضه إذا خرج من قبل المرأة أو من ذكر الرّجل . فذهب الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة إلى أنّ خروج الرّيح من قبل المرأة أو ذكر الرّجل ناقض للطّهارة ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { لا وضوء إلاّ من صوتٍ أو ريحٍ } . وقال الحنفيّة والمالكيّة : إنّ الرّيح الخارج من القبل أو الذّكر ليس بناقضٍ ، لأنّها لا تنبعث عن محلّ النّجاسة فهو كالجشاء . وهو قول عند الحنابلة . والتّفصيل في مصطلح : ( حدث ) .
الاستنجاء من الرّيح :
4 - الرّيح الخارجة من الدّبر ليست بنجسةٍ ، فلا يستنجى منها لقوله صلى الله عليه وسلم : { من استنجى من الرّيح فليس منّا } وقال أحمد : ليس في الرّيح استنجاء في كتاب اللّه ولا في سنّة رسوله ، فهي طاهرة فلا تنجّس سراويله المبتلّة إذا خرجت . والتّفصيل في ( استنجاء ) .
( وجوب إزالة ريح النّجاسة ) :
5 - يجب إزالة ريح النّجاسة عند تطهير الشّيء المتنجّس ، وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( نجاسة ) .
إخراج الرّيح في المسجد :
6 - يكره إخراج الرّيح في المسجد وإن لم يكن فيه أحد لحديث : { إنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم } . ويخرج من يفعل ذلك ، كما يكره حضور المسجد لمن أكل شيئًا له رائحة كريهة كالبصل النّيء ونحوه ، وتسقط عنه الجماعة إن تعذّر عليه إزالة ريحها ، ومثل ذلك من له صنان ، أو بخر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { من أكل من هذه الشّجرة فلا يقربنّ مسجدنا } .
ثبوت حدّ شرب الخمر بفوح ريحها من فمه :
7 - لا يثبت حدّ شرب الخمر بوجود ريحها في فمه لاحتمال أنّه تمضمض بها ، أو ظنّها ماءً فلمّا ذاقها مجّها ، أو أنّه تناول شيئًا آخر تشبه ريحه ريح الخمر ، والاحتمال شبهة يسقط به الحدّ لقوله صلى الله عليه وسلم : { ادرءوا الحدود بالشّبهات } ، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم . وقال المالكيّة : يثبت حدّ شرب الخمر بوجود الرّيح ، وهي إحدى روايتين عن أحمد ، لأنّ الرّيح تدلّ على شربه للخمر فأجري مجرى الإقرار ، وأنّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه جلد رجلًا وجد منه ريح الخمر . ولتفصيل ذلك انظر مصطلح : ( سكر ) .
( البول في مهبّ الرّيح ) :
8 - يكره التّبوّل والتّغوّط في مهبّ الرّيح ; لئلاّ يصيبه رشاش النّجاسة ، ولا يكره استقبال القبلة عند إخراج الرّيح ; لأنّ النّهي عن استقبالها واستدبارها مقيّد بحالة قضاء الحاجة ، وهو منتفٍ في الرّيح .
التّخلّف عن الجمعة والجماعة لشدّة الرّيح :
9 - يجوز التّخلّف عن الجماعة والجمعة لاشتداد الرّيح ، وهو محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء ، وذلك للمشقّة ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في اللّيلة المطيرة وذات الرّيح : { ألا صلّوا في الرّحال } . ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( صلاة الجماعة ) .(/1)
ريش .
التّعريف
1 - الرّيش لغةً : كسوة الطّائر ، والواحدة ريشة ، وهو يقابل الشّعر في الإنسان ونحوه ، والصّوف للغنم ، والوبر للإبل ، والحراشف للزّواحف ، والقشور للأسماك ، والرّيش أيضًا اللّباس الفاخر ، والأثاث ، والمال ، والخصب ، والحالة الجميلة . وجمعه أرياش ورياش . ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : الشّعر والوبر والصّوف :
2 - الشّعر : ما ينبت على الجسم ممّا ليس بصوفٍ ولا وبرٍ للإنسان وغيره . والشّعر يقابله الرّيش في الطّيور فهما متباينان .
الأحكام المتعلّقة بالرّيش :
أ - ( طهارة الرّيش ) :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّيش يوافق الشّعر في أحكامه ، ومقيس عليه ، واتّفقوا على طهارة ريش الطّير المأكول حال حياته إذا كان متّصلًا بالطّير ، أمّا إذا نتف أو تساقط فيرى الجمهور - أيضًا - طهارته ، أمّا المالكيّة فيرون أنّ الطّاهر منه هو الزّغب ، وهو ما يحيط بقصب الرّيش ، أمّا القصب فنجس ، ويرى الشّافعيّة في روايةٍ أنّ الرّيش المتساقط والمنتوف نجس ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهي ميتة } ودليل الجمهور قوله تعالى : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ } والرّيش مقيس عليها ، ولو قصر الانتفاع على ما يكون على المذكّى لضاع معظم الشّعور والأصواف ، قال بعضهم : وهذا . أحد موضعين خصّصت السّنّة فيهما بالكتاب ، فإنّ عموم قوله صلى الله عليه وسلم : { ما قطع من البهيمة وهي حيّة فهي ميتة } . خصّ بقوله تعالى : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } . الآية . ومذهب جمهور العلماء - في الجملة - طهارة ريش الطّير المأكول إذا مات . ولهم تفصيل في ذلك : قال صاحب الاختيار من الحنفيّة : شعر الميتة وعظمها طاهر ، لأنّ الحياة لا يحلّهما ، حتّى لا يتألّم الحيوان بقطعهما ، فلا يحلّهما الموت ، وهو المنجّس ، وكذلك العصب والحافر والخفّ والظّلف والقرن والصّوف والوبر والرّيش والسّنّ والمنقار والمخلب لما ذكرنا ، لقوله تعالى : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ } امتنّ بها علينا من غير فصلٍ بين المأخوذ من الحيّ أو الميّت . واستدلّوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم { في شاة ميمونة : رضي الله عنها إنّما حرم أكلها } وفي روايةٍ { لحمها } فدلّ على أنّ ما عدا اللّحم لا يحرم ، فدخلت الأجزاء المذكورة ، وفيها أحاديث أخر صريحة ; ولأنّ المعهود فيها قبل الموت الطّهارة فكذا بعده ; لأنّه لا يحلّها . وقيّدها في الدّرّ المختار : بأن تكون خاليةً من الدّسومة . ومذهب المالكيّة بالنّسبة لريش الميتة كمذهبهم بالنّسبة للرّيش المنتوف والمنفصل ، وهو أنّ الزّغب طاهر دون القصب ، ولكنّ ذلك مشروط بجزّ الزّغب ولو بعد نتف الرّيش ، ويستحبّ غسله بعد جزّه . وكذا الحنابلة يوافقون الجمهور في طهارة ريش الميتة ، غير أنّهم يستثنون من ذلك أصول الرّيش إذا نتف سواء أكان رطبًا أم يابسًا ; لأنّه من جملة أجزاء الميتة ، أشبه سائرها ; ولأنّ أصول الشّعر والرّيش جزء من اللّحم ، لم يستكمل شعرًا ولا ريشًا . وفي روايةٍ أخرى للحنابلة أنّ أصل الرّيش إذا كان رطبًا ، ونتف من الميتة ، فهو نجس ; لأنّه رطب في محلٍّ نجسٍ ، وهل يكون طاهرًا بعد غسله ؟ على وجهين : أحدهما : أنّه طاهر كرءوس الشّعر إذا تنجّس . والثّاني : أنّه نجس لأنّه جزء من اللّحم لم يستكمل شعرًا ولا ريشًا ، وهو المعتمد كما سبق . ومذهب الشّافعيّة - في الصّحيح - أنّ ريش الميتة نجس ، لأنّه جزء متّصل بالحيوان اتّصال خلقةٍ فنجس بالموت كالأعضاء ، واستدلّوا بقوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة } وهذا عامّ يشمل الشّعر والرّيش وغيرهما . وذهب جماعة من السّلف إلى أنّ الرّيش ينجس بالموت ، ولكنّه يطهر بالغسل ، واستدلّوا بحديث أمّ سلمة : { لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء } . أمّا الطّير غير المأكول فمذهب الحنفيّة والمالكيّة في ريشه كمذهبهم في ريش الطّير المأكول أنّه طاهر . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى نجاسة ريش الطّير الميّت غير المأكول ، إلاّ أنّ الحنابلة لهم تفصيل في ذلك . قال في المغني : وكلّ حيوانٍ فشعره - أي وريشه - مثل بقيّة أجزائه ، ما كان طاهرًا فشعره وريشه طاهر ، وما كان نجسًا فشعره - ريشه - كذلك ، ولا فرق في حالة الحياة وحالة الموت ، إلاّ أنّ الحيوانات الّتي حكمنا بطهارتها لمشقّة الاحتراز منها ، كالسّنّور وما دونه في الخلقة ، فيها بعد الموت وجهان : أحدهما : أنّها نجسة ، لأنّها كانت طاهرةً مع وجود علّة التّنجيس لمعارضٍ ، وهو الحاجة إلى العفو عنها للمشقّة ، وقد انتفت الحاجة ، فتنتفي الطّهارة . والثّاني : هي طاهرة ، وهذا أصحّ ; لأنّها كانت طاهرةً في الحياة ، والموت لا يقتضي تنجيسها ، فتبقى الطّهارة .
حكم الرّيش على عضوٍ مبانٍ من حيٍّ :
4 - قال البغويّ من الشّافعيّة : أنّه لو قطع جناح طائرٍ مأكولٍ في حياته فما عليه من الرّيش نجس تبعًا لميتته . وانظر التّفصيل في : ( شعر )
. حكم الرّيش على الجلد المدبوغ :
5 - إذا دبغ جلد الميتة وعليه شعر ( أو ريش ) قال في الأمّ : لا يطهر لأنّ الدّباغ لا يؤثّر في تطهيره . وروى الرّبيع بن سليمان الجيزيّ عن الشّافعيّ أنّه يطهر ; لأنّه شعر - ريش - نابت على جلدٍ طاهرٍ فكان كالجلد في الطّهارة ، كشعر الحيوان حال الحياة ، والأوّل أصحّ عند الشّافعيّة . وينظر التّفصيل : في ( دباغ ) ، ( شعر ) .(/1)
حكم الجناية على ريش الصّيد للمحرم أو في الحرم :
6 - إن نتف المحرم ريش الصّيد أو شعره أو وبره فعاد ما نتفه فلا شيء عليه ; لأنّ النّقص زال ، أشبه ما لو اندمل الجرح ، فإن صار الصّيد غير ممتنعٍ بنتف ريشه ونحوه فكما لو جرحه جرحًا صار به غير ممتنعٍ - أي عليه جزاء جميعه - وإن نتفه فغاب ولم يعلم خبره فعليه نقصه . وينظر التّفصيل في : ( حرم ) ، ( صيد ) .
الاستنجاء بالرّيش :
7 - لا يحرم الاستنجاء بالرّيش إذا كان طاهرًا قالعًا ، ولو استنجى بشيءٍ منه وشكّ هل وجدت فيه تلك الشّروط أو لا ؟ فالمعتمد عند الشّافعيّة الإجزاء . وينظر ( استنجاء ) ، ( شعر ) .
السّلم في الرّيش ) :
8 - يصحّ السّلم في الوبر والشّعر والصّوف والرّيش ما لم يعيّن حيوانها . انظر التّفصيل في : ( سلم ) ، ( شعر ) ، ( صوف ) .
نتف الرّيش بالماء الحارّ :
9 - في فتاوى الأنقرويّ ( نقلًا عن فتاوى ابن نجيمٍ في الحظر والإباحة ) : سئل عن الدّجاج إذا ألقي في الماء حال الغليان لينتف ريشه ، قبل شقّ بطنه هل يتنجّس ؟ فأجاب : يتنجّس ، ولكن يغسل بالماء ثلاث مرّاتٍ فيطهر . وجاء في شرح الزّرقانيّ على مختصر خليلٍ للمالكيّة : ليس من اللّحم المطبوخ بالنّجاسة الدّجاج المذبوح ، يوضع في ماءٍ حارٍّ لإخراج ريشه من غير غسل المذبح ; لأنّ هذا ليس بطبخٍ حتّى تدخل النّجاسة في أعماقه ، بل يغسل ويؤكل .(/2)
رِجل *
التّعريف :
1 - الرِّجل لغةً : قدم الإنسان وغيره ، وهي مؤنّثة وجمعها أرجل ، ورجل الإنسان هي من أصل الفخذ إلى القدم ، ومنه قوله تعالى : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } ورجل أرجل أي : عظيم الرّجل ، والرّاجل خلاف الفارس ومنه قوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } .
ومعناه الاصطلاحيّ يختلف باختلاف الحال فيراد به القدم مع الكعبين كما هو في قوله تعالى: { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَين } ، ويراد به دون المفصل بين السّاق والقدم ، كما هو الحال في قطع رجل السّارق والسّارقة .
ويطلق تارةً فيراد به من أصل الفخذ إلى القدم .
الحكم التّكليفيّ :
وردت الأحكام المتعلّقة بالرّجل في عددٍ من أبواب الفقه منها ما يلي :
أ - الوضوء :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ غسل الرّجلين مع الكعبين - وهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم - من فروض الوضوء لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } . وللأحاديث الصّحيحة الّتي وردت في غسل الرّجلين ، ومنها ما روي في وضوء النّبيّ صلى الله عليه وسلم » أنّه غسل كلّ رجلٍ ثلاثاً « . وفي لفظٍ : » ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّاتٍ ، ثمّ غسل رجله اليسرى مثل ذلك « .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : » ويل للأعقاب من النّار« وذلك عندما رأى قوماً يتوضّئون وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء .
وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً توضّأ ، فترك موضع ظفرٍ على قدمه فأبصره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : » ارجع فأحسن وضوءك ، فرجع ثمّ صلّى « .
وذهب بعض السّلف إلى أنّ الفرض في الرّجلين هو المسح لا الغسل ، وذلك أخذاً بقراءة مهاجرٍ "أرجلِكم" في قوله تعالى : { وَامْسَحُوْا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ } فإنّها تقتضي كون الأرجل ممسوحةً لا مغسولةً .
وذهب الحسن البصريّ ومحمّد بن جريرٍ الطّبريّ إلى أنّ المتوضّئ مخيّر بين غسل الرّجلين وبين مسحهما ، لأنّ كلّ واحدةٍ من القراءتين قد ثبت كونها قراءةً وتعذّر الجمع بين مقتضيهما وهو وجوب الغسل بقراءة النّصب ووجوب المسح بقراءة الجرّ ، فيخيّر المكلّف إن شاء عمل بقراءة النّصب فغسل ، وإن شاء عمل بقراءة الخفض فمسح ، وأيّهما فعل يكون آتياً بالمفروض ، كما هو الحال في الأمر بأحد الأشياء الثّلاثة في كفّارة اليمين . والتّفصيل في مصطلح : ( وضوء ، مسح ) .
ب - حدّ السّرقة :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ حدّ السّارق قطع يده لقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وأوّل ما يقطع من السّارق يده اليمنى ، لأنّ البطش بها أقوى فكانت البداية بها أردع ، ولأنّها آلة السّرقة ، فكانت العقوبة بقطعها أولى .
4 - واتّفقوا على أنّه إن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في السّارق : » إذا سرق السّارق فاقطعوا يده ، فإن عاد فاقطعوا رجله « ولأنّه في المحاربة الموجبة قطع عضوين إنّما تقطع يده ورجله ، ولا تقطع يداه ، وحكي عن عطاءٍ وربيعة أنّه إن سرق ثانياً تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه وتعالى : { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } ولأنّ اليد آلة السّرقة والبطش فكانت العقوبة بقطعها أولى ، قال ابن قدامة - بعد أن ذكر هذا القول - وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم .
5- واختلف الفقهاء فيما إذا سرق ثالثاً بعد قطع يده اليمنى ورجله اليسرى .
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يقطع منه شيء بل يعزّر ويحبس ، واستدلّوا بأنّ عمر رضي الله عنه أتي بسارقٍ أقطع اليد والرّجل قد سرق يقال له : سدوم ، وأراد أن يقطعه ، فقال له عليّ رضي الله عنه : إنّما عليه قطع يدٍ ورجلٍ ، فحبسه عمر ، ولم يقطعه .
ولما روى أبو سعيدٍ المقبريّ عن أبيه أنّ عليّاً رضي الله عنه أتي بسارقٍ فقطع يده - اليمنى - ثمّ أتي به الثّانية وقد سرق فقطع رجله - اليسرى - ثمّ أتي به الثّالثة وقد سرق، فقال لأصحابه : ما ترون في هذا ؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين ، فقال : قتلته إذن وما عليه القتل ، لا أقطعه ، إن قطعت يده فبأيٍّ شيءٍ يأكل الطّعام ، وبأيّ شيءٍ يتوضّأ للصّلاة ، وبأيّ شيءٍ يغتسل من جنابته ، وبأيّ شيءٍ يتمسّح ، وإن قطعت رجله بأيّ شيءٍ يمشي ، بأيّ شيءٍ يقوم على حاجته ، إنّي لأستحيي من اللّه أن لا أدع له يداً يبطش بها ، ولا رجلاً يمشي عليها ، ثمّ ضربه بخشبةٍ وحبسه .
وإلى هذا ذهب الحسن والشّعبيّ والنّخعيّ والزّهريّ وحمّاد والثّوريّ .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّه إن سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى . فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في السّارق : إن سرق فاقطعوا يده ، ثمّ إن سرق فاقطعوا رجله ، ثمّ إن سرق فاقطعوا يده ، ثمّ إن سرق فاقطعوا رجله « .
ولأنّه فعل أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو ثورٍ ، وابن المنذر ، وتقطع رجل السّارق من المفصل بين السّاق والقدم .
ج - قاطع الطّريق :(/1)
6 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ قاطع الطّريق إذا أخذ المال ولم يقتل ، وكان المال الّذي أخذه بمقدار ما تقطع به يد السّارق ، فإنّه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } .
وبهذا تتحقّق المخالفة المذكورة في الآية ، وهي أرفق به في إمكان مشيه .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الإمام مخيّر ، فيحكم بين القتل والصّلب والقطع والنّفي ، سواء قتل وأخذ المال ، أم قتل فقط ، أو أخذ المال فقط ، أم خوّف دون أن يقتل أو يأخذ المال . والتّفصيل في مصطلح : ( حرابة ) .
د - دية الرِّجل :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ في قطع الرّجلين ديةً كاملةً ، وفي قطع إحداهما نصف الدّية ، وفي قطع أصبع الرّجل عشر الدّية ، وفي أنملتها ثلث العشر إلاّ الإبهام ففي أنملتها نصف العشر إذ ليس فيه إلاّ أنملتان لحديث عمرو بن حزمٍ عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب له في كتابه : » وفي الرّجل الواحدة نصف الدّية « .
قال ابن عبد البرّ : كتاب عمرو بن حزمٍ معروف عند الفقهاء وما فيه متّفق عليه عند العلماء إلاّ قليلاً .
واتّفقوا أيضاً على أنّ قطع الرّجل يوجب نصف الدّية إذا كان من الكعبين أو من أصول الأصابع الخمسة ، واختلفوا فيما إذا قطعت من السّاق أو من الرّكبة أو من الفخذ أو من الورك .
فذهب الجمهور " المالكيّة ، والحنابلة وبعض الشّافعيّة وهو رواية عن أبي يوسف " إلى أنّ قطع الرّجل من هذه الأماكن لا تزيد به الدّية ، لأنّ الرّجل اسم لهذه الجارحة إلى أصل الفخذ، فلا يزاد على تقدير الشّرع ، ولأنّ السّاق أو الفخذ ليس لها أرش مقدّر شرعاً ، فيكون تبعاً لما له أرش مقدّر وهي القدم .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى وجوب حكومة عدلٍ في ذلك زيادةً على نصف الدّية الواجب في القدم .
والتّفصيل في مصطلح : ( دية ، وحكومة عدلٍ )
هـ – هل الرِّجل من العورة ؟
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ رجل المرأة الحرّة عورة ما عدا قدميها .
وذهب الجمهور إلى أنّ ما بين السّرّة والرّكبة من الرّجل عورة بالنّسبة للرّجال .
ثمّ اختلفوا في كون الرّكبتين والسّرّة من الرّجل عورة .
وينظر : ( عورة ) .(/2)
زبل .
التّعريف
1 - الزّبل لغةً : السّرقين ، وهما فضلة الحيوان الخارجة من الدّبر ، والمزبلة مكان طرح الزّبل وموضعه ، والجمع مزابل . ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بنفس المعنى اللّغويّ . وفسّر الحصكفيّ والبهوتيّ السّرقين بالزّبل ، وفي الشّرنبلاليّة : هو رجيع ( فضلة ) ما سوى الإنسان . والسّرقين أصلها : ( سركين ) بالكاف فعرّبت إلى الجيم والقاف ، فيقال سرجين وسرقين ، والرّوث والسّرقين لفظان مترادفان . وعن الأصمعيّ أنّ السّرقين الرّوث . ونقل ابن عابدين أنّ السّرقين هو رجيع ما سوى الإنسان . ويختلف الزّبل عن كلٍّ من الرّوث ، والخثي ، والبعر ، والخرء ، والنّجو ، والعذرة . فالرّوث للفرس والبغل والحمار ، والخثي للبقر والفيل ، والبعر للإبل والغنم ، والذّرق للطّيور ، والنّجو للكلب ، والعذرة للإنسان ، والخرء للطّير والكلب والجرذ والإنسان . وقد يستعمل بعض هذه الألفاظ مكان بعضٍ توسّعًا .
حكم الزّبل من حيث الطّهارة والنّجاسة : اختلف الفقهاء في حكم طهارته وتفصيل ذلك في مصطلح : ( روث ) .
الصّلاة في المزبلة :
2 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة كراهة الصّلاة في المزبلة إذا لم تكن بها نجاسة . وجازت الصّلاة بمزبلةٍ عند المالكيّة إذا أمنت من النّجس - بأن جزم أو ظنّ طهارتها - أمّا إذا تحقّقت نجاستها أو ظنّت فلا تجوز الصّلاة فيها ، وإذا صلّى أعاد أبدًا ، وإن شكّ في نجاستها أعاد في الوقت على الرّاجح بناءً على ترجيح الأصل على الغالب وهو قول مالكٍ ، وقال ابن حبيبٍ : يعيد أبدًا ترجيحًا للغالب على الأصل . وذهب الحنابلة إلى عدم صحّة الصّلاة في المزبلة ولو طاهرةً . وللتّفصيل ( ر : صلاة ) .
الصّلاة بالثّوب المصاب بالزّبل :
3 - الزّبل منه ما هو طاهر ، كذرق الطّيور ممّا يؤكل لحمه عند جمهور الفقهاء ، وفضلة سائر الحيوانات الّتي يؤكل لحمها عند المالكيّة والحنابلة ، فإذا أصاب شيء منها بدن الإنسان أو ثوبه لا ينجّسه ، ولا تفسد صلاته عندهم . أمّا الزّبل النّجس ، كفضلة الحيوانات الّتي لا يؤكل لحمها ، وكذلك فضلة الحيوانات مأكولة اللّحم عند من يقول بنجاستها ففيه ما يأتي من التّفصيل : قال الحنفيّة : النّجاسة الغليظة يعفى عنها في الصّلاة قدر الدّرهم فأقلّ ، والخفيفة يعفى عنها قدر ربع الثّوب فأقلّ ، وللتّمييز بينهما ( ر : نجاسة ) . فإذا أصاب الثّوب من الرّوث أو من أخثاء البقر أكثر من قدر الدّرهم لم تجز الصّلاة فيه عند أبي حنيفة ، لأنّ النّصّ الوارد فيه وهو قوله صلى الله عليه وسلم : { هذا رجس أو ركس } لم يعارضه غيره ، فيكون من النّجاسة الغليظة . وقال أبو يوسف ومحمّد : يجزئه الصّلاة حتّى يفحش ، أي يصل ربع الثّوب ; لأنّ للاجتهاد فيه مساغًا فيثبت التّخفيف في نجاستها . ولأنّ فيه ضرورةً لعدم خلوّ الطّرق فيه . وإن أصابه خرء ما لا يؤكل لحمه من الطّيور كالصّقر والبازي والحدأة وكان أكثر من قدر الدّرهم جازت الصّلاة فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف ; لأنّها تذرق من الهواء والتّحامي عنها متعذّر فتحقّقت الضّرورة . وقال محمّد : لا تجوز ; لأنّ التّخفيف للضّرورة ، ولا ضرورة هنا لعدم المخالطة .
اقتناء الزّبل واستعماله .
4 - الزّبل الطّاهر يجوز اقتناؤه ، واستعماله في الزّراعة والتّسخين وإنضاج الخبز ونحوها . واختلفوا في الزّبل النّجس . فقال الحنفيّة : يجوز اقتناؤه واستعماله في تنمية الزّرع وإنضاج الخبز ونحوهما . كذلك يجوز الاستفادة من الزّبل واقتناؤه للزّراعة عند الشّافعيّة لكنّه يكره ذلك عندهم . وقالوا : الزّرع النّابت على الزّبل ليس بنجس العين ، لكن ينجس بملاقاة النّجاسة فإذا غسل طهر ، وإذا سنبل فحبّاته الخارجة طاهرة . والأصل عند المالكيّة أنّه لا يجوز الانتفاع بنجسٍ ، لكنّهم استثنوا منه أشياء منها : جعل عذرةٍ بماء سقي الزّرع فيجوز عندهم ، والمعتمد عندهم أنّ الخبز المخبوز على نار الرّوث النّجس طاهر ولو تعلّق به شيء من الرّماد . ولم نعثر للحنابلة على كلامٍ في استعمال الزّبل ، لكنّهم صرّحوا بعدم جواز بيع الزّبل النّجس ، كما سيأتي في الفقرة التّالية .
بيع الزّبل :
5 - يرى الحنفيّة جواز بيع الزّبل لاتّفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعه من غير إنكارٍ ، ولأنّه يجوز الانتفاع به ، فجاز بيعه كسائر الأشياء . وذكر ابن عرفة في بيع الزّبل ثلاثة أقوالٍ للمالكيّة :
أ - المنع ، وهو قياس ابن القاسم للزّبل على العذرة في المنع عند مالكٍ .
ب - الجواز ، وهو قول لابن القاسم .
ج - الجواز للضّرورة ، وهو قول أشهب . وتزاد الكراهة على ظاهر المدوّنة وفهم أبي الحسن . هذا والعمل عند المالكيّة على جواز بيع الزّبل دون العذرة للضّرورة . قال الحطّاب : واعلم أنّ القول بالمنع هو الجاري على أصل المذهب في المنع من بيع النّجاسات ، والقول بالجواز لمراعاة الضّرورة . ومن قال بالكراهة تعارض عنده الأمران ، ورأى أنّ أخذ الثّمن عن ذلك ليس من مكارم الأخلاق . والقول الآخر رأى أنّ العلّة في الجواز إنّما هي الاضطرار ، فلا بدّ من تحقّقها بوجود الاضطرار إليه . وقال الشّافعيّة : بيع زبل البهائم المأكولة وغيرها باطل وثمنه حرام . واستدلّوا بحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إنّ اللّه إذا حرّم على قومٍ شيئًا حرّم عليهم ثمنه } . ولأنّ الزّبل نجس العين فلم يجز بيعه كالعذرة . ويرى الحنابلة عدم صحّة بيع الزّبل النّجس بخلاف الطّاهر منه ، كروث الحمام ، وبهيمة الأنعام . وللتّفصيل ( ر : نجاسة ، وبيع منهيّ عنه ) .(/1)
زبور .
التّعريف
1 - الزّبور : فعول من الزّبر ، وهو الكتابة ، بمعنى المزبور أي : المكتوب . وجمعه : زبر . والزّبور : كتاب داود على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام ، كما أنّ التّوراة هي المنزّلة على موسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل هو المنزّل على عيسى عليه الصلاة والسلام . والقرآن المنزّل على محمّدٍ صلى الله عليه وسلم . قال اللّه تعالى : { وآتينا داود زبورًا } . وكان مائةً وخمسين سورةً ، ليس فيها حكم ، ولا حلال ، ولا حرام ، وإنّما هي حكم ومواعظ ، والتّحميد والتّمجيد والثّناء على اللّه تعالى ، كما قال القرطبيّ .
الحكم الإجماليّ ) : أوّلًا : مسّ الزّبور للمحدث :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز مسّ القرآن للمحدث ، لقوله تعالى : { لا يمسّه إلاّ المطهّرون } . ولقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر } . وألحق بعض الفقهاء به كتب التّفسير إذا كان القرآن فيه أكثر . ( ر : مصحف ) . أمّا الكتب السّماويّة الأخرى ، كالتّوراة والإنجيل والزّبور فاختلفوا فيها : فقال المالكيّة والحنابلة : لا يكره مسّ التّوراة والإنجيل والزّبور ، وزاد الحنابلة : وصحف إبراهيم وموسى وشيثٍ إن وجدت ; لأنّها ليست قرآنًا ، والنّصّ إنّما ورد في القرآن . وقال الشّافعيّة : إن ظنّ أنّ في التّوراة ونحوها غير مبدّلٍ كره مسّه ، ويفهم من هذا أنّ المبدّل منها - وهو الغالب - لا يكره مسّه عندهم .
ثانيًا : وجوب الإيمان بالزّبور :
3 - الإيمان بما أوتي النّبيّون من ربّهم واجب من غير تفريقٍ ، والزّبور كتاب أنزل على داود عليه الصلاة والسلام كما تقدّم فيجب الإيمان به ، كما وجب الإيمان على ما أنزل إلى سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لقوله تعالى : { قولوا آمنّا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون } . يعني لا نفرّق بينهم بأن نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضٍ كما فعل اليهود والنّصارى ، بل نشهد لجميعهم أنّهم كانوا رسل اللّه وأنبياءه بعثوا بالحقّ والهدى . والإيمان الواجب بالزّبور وسائر الكتب المنزّلة قبل القرآن العظيم هو الإيمان بها على ما أنزلت عليه قبل أن يدخل عليها التّحريف .(/1)
زخرفة .
التّعريف
1 - الزّخرفة لغةً الزّينة وكمال حسن الشّيء ، والزّخرف في الأصل الذّهب ، ثمّ سمّيت كلّ زينةٍ زخرفًا . والمزخرف المزيّن ، وتزخرف الرّجل إذا تزيّن وزخرف البيت أي زيّنه ، ومنه قوله تعالى : { ولبيوتهم أبوابًا وسررًا عليها يتّكئون وزخرفًا ... } وكلّ ما زوّق أو زيّن فقد زخرف ، وزخرف القول ، أي المزوّقات من الكلام . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : التّزويق :
2 - الزّوق لغةً الزّينة ، وأصله من الزّاووق ، والمزوّق المزيّن به ، ثمّ كثر حتّى سمّي كلّ مزيّنٍ بشيءٍ مزوّقًا ، وزوّقت الكلام والكتاب إذا أحسنته وقوّمته ، وفي الحديث : { إنّه ليس لي أو لنبيٍّ أن يدخل بيتًا مزوّقًا } . أي مزيّنًا "
( الحكم التّكليفيّ ) : زخرفة المساجد :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يكره زخرفة المسجد بذهبٍ أو فضّةٍ ، أو نقشٍ ، أو صبغٍ ، أو كتابةٍ أو غير ذلك ممّا يلهي المصلّي عن صلاته ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك . فعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { ما أمرت بتشييد المساجد } والتّشييد : الطّلاء بالشّيد أي الجصّ ، قال ابن عبّاسٍ : لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنّصارى . وعن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقوم السّاعة حتّى يتباهى النّاس في المساجد } . وروى البخاريّ في صحيحه أنّ عمر رضي الله عنه أمر ببناء مسجدٍ وقال : أكنّ النّاس من المطر ، وإيّاك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن النّاس . وقال أبو الدّرداء رضي الله عنه : إذا حلّيتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فالدّبار عليكم . ولأنّ ذلك يلهي المصلّي عن الصّلاة بالنّظر إليه فيخلّ بخشوعه ; ولأنّ هذا من أشراط السّاعة . واتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز زخرفة المسجد أو نقشه من مال الوقف ، وأنّ الفاعل يضمن ذلك ويغرم القيمة ; لأنّه منهيّ عنه ولا مصلحة فيه وليس ببناءٍ ، قال الحنفيّة : إلاّ إذا خيف طمع الظّلمة ، كأن اجتمعت عنده أموال المسجد وهو مستغنٍ عن العمارة فلا بأس بزخرفته . وكذلك ما لو كانت الزّخرفة لإحكام البناء ، أو كان الواقف قد فعل مثله ، لقولهم : إنّه يعمر الوقف كما كان ، فلا بأس به كذلك .
4 - وذهب بعض الفقهاء ومنهم الحنابلة وأحد الوجهين لدى الشّافعيّة إلى أنّه يحرم زخرفة المسجد بذهبٍ أو فضّةٍ وتجب إزالته كسائر المنكرات ; لأنّه إسراف ، ويفضي إلى كسر قلوب الفقراء ، كما يحرم تمويه سقفه أو حائله بذهبٍ أو فضّةٍ ، وتجب إزالته إن تحصّل منه شيء بالعرض على النّار ، فإن لم يجتمع منه شيء بالعرض على النّار فله استدامته حينئذٍ لعدم الماليّة ، فلا فائدة في إتلافه ، ولما روي أنّ عمر بن عبد العزيز لمّا ولي الخلافة أراد جمع ما في مسجد دمشق ممّا موّه به من الذّهب فقيل له : إنّه لا يجتمع منه شيء فتركه ، وأوّل من ذهّب الكعبة في الإسلام وزخرفها وزخرف المساجد الوليد بن عبد الملك ، ولذلك عدّها كثير من العلماء من أقسام البدعة المكروهة . وذهب بعض الفقهاء من الشّافعيّة وهو قول عند الحنفيّة : إلى استحباب زخرفة المسجد بذهبٍ ، أو فضّةٍ ، أو نقشٍ ، أو صبغٍ ، أو كتابةٍ أو غير ذلك لما فيه من تعظيم المسجد وإحياء الشّعائر الإسلاميّة . وذهب الحنفيّة في الرّاجح عندهم إلى أنّه لا بأس بزخرفة المسجد أو نقشه بجصٍّ أو ماء ذهبٍ أو نحوهما من الأشياء الثّمينة ما لم يكن ذلك في المحراب أو جدار القبلة ; لأنّه يشغل قلب المصلّي ، وما لم يكن كذلك في حائط الميمنة أو الميسرة ، لأنّه أيضًا يلهي المصلّي القريب منه ، أمّا زخرفة هذه الأماكن من المسجد فمكروهة عندهم أيضًا . والتّفاصيل في مصطلح ( مساجد ، وقف ، ذهب ) .
ب - زخرفة المصحف :
5 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو أحد الأقوال لدى الحنابلة إلى جواز زخرفة المصاحف بالذّهب والفضّة وغيرهما تعظيمًا للقرآن وإعزازًا للدّين . واتّفق هؤلاء على حرمة الزّخرفة بالذّهب لما عدا المصحف من كتب العلم الأخرى . وذهب الحنابلة إلى كراهة زخرفته بذهبٍ أو فضّةٍ لتضييق النّقدين ، وإلى حرمة كتابته بذهبٍ أو فضّةٍ ، ويؤمر بحكّه ، فإن كان يجتمع منه شيء يتموّل به زكّاه إن بلغ نصابًا أو بانضمام مالٍ آخر له ، قال أبو الخطّاب : يزكّيه إن بلغ نصابًا ، وله حكّه وأخذه . وإلى هذا ذهب الشّافعيّة في قولٍ ، والقول الأصحّ عند الشّافعيّة : جواز زخرفته بالذّهب للمرأة والصّبيّ بخلاف الرّجل فلا يجوز له ، وتجوز زخرفته بالفضّة للرّجل أو المرأة ، وقيل : لا يجوز زخرفة المصحف بالذّهب لا للرّجل ولا للمرأة . والتّفاصيل في مصطلح : ( مصحف ، ذهب )
ج - ( زخرفة البيوت ) :
6 - ذهب الجمهور إلى حرمة زخرفة البيوت والحوانيت بذهبٍ أو فضّةٍ ، أمّا الزّخرفة بغيرها فلا بأس بها ما لم تخرج إلى حدّ الإسراف . وكذلك يحرم تمويه السّقف والحائط والجدار ; لما فيه من الإسراف والخيلاء ، وكسر قلوب الفقراء . وتجب إزالته ; لأنّه منكر من المنكرات ، كما تجب زكاته إن بلغ نصابًا بنفسه أو ضمّه إلى غيره ، فإن لم يجتمع منه شيء بعرضه على النّار فله استدامته ، ولا زكاة فيه لعدم الماليّة . وانظر مصطلح : ( نقش ) .
7- هذا وتجوز الزّخرفة بغير الذّهب والفضّة في الأقمشة والخشب وغير ذلك وسائر الأمتعة ما لم يصل إلى درجة الإسراف .(/1)
زرع .
التّعريف
1 - الزّرع في اللّغة : ما استنبت بالبذر - تسميةً بالمصدر - ومنه يقال : حصدت الزّرع أي : النّبات ، والجمع : زروع . قال بعضهم : ولا يسمّى زرعًا إلاّ وهو غضّ طريّ . وقد غلب على البرّ والشّعير ، وقيل : الزّرع : نبات كلّ شيءٍ يحرث ، وقيل : الزّرع : طرح البذر . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الغرس :
2 - الغرس مصدر غرس يقال : غرست الشّجرة غرسًا فالشّجر مغروس وغرس وغراس . فالفرق بينه وبين الزّرع ، أنّه مختصّ بالشّجر .
الأحكام الّتي تتعلّق بالزّرع : إحياء الموات :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من جملة ما تحيا به الأرض زرعا أو الغرس فيها . وقد تقدّم في مصطلح ( إحياء الموات ) ( 2 248 - 249 ) .
( زكاة الزّروع ) :
4 - أجمعت الأمّة على أنّ الزّكاة واجبة في الزّروع من حيث الجملة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( زكاة ) .
بيع الزّروع :
5 - إذا باع الأرض وأطلق ، دخل ما فيها من الزّرع سواء اشتدّ وأمن العاهة أم لا ; لأنّ الزّرع تابع ولو بيع وحده لم يجز إلاّ بعد اشتداده ليأمن العاهة . وإذا باع الزّرع لم تدخّل الأرض . ويجوز بيع الأرض واستثناء ما فيها من الزّرع . وتفصيله في ( بيع ) .
بيع المحاقلة :
6 - المحاقلة : هي بيع الحنطة في سنبلها بحنطةٍ مثل كيلها خرصًا . ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ بيع المحاقلة غير صحيح ، إذ هو فاسد عند الحنفيّة باطل عند الجمهور ، وتفصيله في ( بيع ) ( 9 138 ، 168 ) .
بيع ما يكمن في الأرض :
7 - اختلف الفقهاء في بيع ما يكمن في الأرض من الزّرع قبل قلعه ، كالبصل ، والثّوم ، ونحوهما ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الجواز . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى الجواز بشرطٍ . وقد سبق تفصيله في مصطلح ( جهالة 9 170 - 171 ) .
إتلاف الزّرع :
8 - فرّق الفقهاء بين ما تتلفه الدّوابّ من الزّروع نهارًا وبين ما تتلفه ليلًا ، فذهب الجمهور إلى أنّ الإتلاف إذا كان ليلًا ضمن صاحب الدّوابّ ; لأنّ فعلها منسوب إليه . وأمّا إذا وقع الإتلاف نهارًا ، وكانت الدّوابّ وحدها فلا ضمان على صاحبها عند الجمهور ، لأنّ العادة الغالبة حفظ الزّرع نهارًا من قبل صاحبه . وقد سبق الكلام على هذا في مصطلح ( إتلاف 1 224 ) .(/1)
زعفران .
التّعريف
1 - الزّعفران نبات بصليّ مقمر من الفصيلة السّوسنيّة منه أنواع برّيّ ونوع صيفيّ طبّيّ مشهور . وزعفرت الثّوب صبغته فهو مزعفر .
الحكم الإجماليّ لاستعمال الزّعفران :
أ - حكم المياه الّتي خالطها طاهر كالزّعفران :
2 - اتّفق الأئمّة على أنّ الماء الّذي خالطه الزّعفران أو غيره من الأشياء الطّاهرة الّتي تنفكّ عن الماء غالبًا متى غيّرت أحد أوصافه الثّلاثة ، فإنّه طاهر . ولكنّهم اختلفوا في طهوريّته ، فذهب الجمهور إلى أنّه غير مطهّرٍ لأنّه لا يتناوله اسم الماء المطلق لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيدًا طيّبًا } . فالماء هنا على إطلاقه ، وأمّا المخالط فيضاف إلى الشّيء الّذي خالطه ، فيقال مثلًا : ماء زعفرانٍ ، أو ريحانٍ . وذهب الحنفيّة إلى أنّه مطهّر ما لم يكن التّغيّر عن طبخٍ . أمّا المتغيّر بالطّبخ مع شيءٍ طاهرٍ فقد أجمعوا على أنّه لا يجوز الوضوء ولا التّطهّر به . ( ر : مياه ) .
ب - الاختضاب بالزّعفران :
3 - يستحبّ الاختضاب بالزّعفران لحديث أبي مالكٍ الأشجعيّ عن أبيه ، قال : { كان خضابنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الورس والزّعفران } وعن أبي ذرٍّ ورفعه { إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم } . قال ابن عابدين : الحديث يدلّ على أنّ الخضاب غير مقصورٍ عليهما بل يشاركهما غيرهما من أنواع الخضاب في أصل الحسن . ولحديث أبي أمامة قال : { خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على شيخةٍ من الأنصار بيض لحاهم فقال : يا معشر الأنصار حمّروا وصفّروا وخالفوا أهل الكتاب } ، والصّفرة هي أثر الزّعفران . واتّفق الأئمّة على جواز خضب رأس الصّبيّ بالزّعفران وبالخلوق ( قال بعض الفقهاء : هو طيب مائع فيه صفرة ) وقال ابن حجرٍ : الخلوق طيب يصنع من زعفرانٍ وغيره . وفي حديث بريدة رضي الله عنه قال : { كنّا في الجاهليّة إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاةً ولطّخ رأسه بدمها ، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كنّا نذبح شاةً ونحلق رأسه ونلطّخه بزعفرانٍ }
تزعفر الرّجل :
4 - الأصل جواز التّزعفر للمرأة . أمّا الرّجل فقد نقل البيهقيّ عن الشّافعيّ أنّه قال : أنهى الرّجل الحلال بكلّ حالٍ أن يتزعفر ، وآمره إذا تزعفر أن يغسله ، وأرخّص في المعصفر ، لأنّني لم أجد أحدًا يحكي عنه إلاّ ما قال عليّ رضي الله عنه : نهاني ولا أقول نهاكم . وقال الحنفيّة والحنابلة : بكراهة لبس الثّياب المصبوغة بالزّعفران والمعصفر للرّجال للأحاديث الواردة ، منها حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين ، فقال : { إنّ هذه من ثياب الكفّار فلا تلبسها } . وقد حملوا النّهي على الكراهة لا على التّحريم ، وهو مشهور ، لقول أنسٍ رضي الله عنه : { رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على عبد الرّحمن بن عوفٍ أثر صفرةٍ فقال : ما هذا ؟ قال : إنّي تزوّجت امرأةً على وزن نواةٍ من ذهبٍ فقال : بارك اللّه لك . أولم ولو بشاةٍ } . . وقد روي عن مالكٍ أنّه رخّص في لبس المزعفر والمعصفر في البيوت وكرهه في المحافل والأسواق . وعن أنسٍ قال : { دخل رجل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرةٍ فكره ذلك ، وقلّما كان يواجه أحدًا بشيءٍ يكرهه ، فلمّا قام قال : لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصّفرة } . وهذا دليل على أنّ لبس هذين لا يعدو الكراهة ، فلو كان محرّمًا لأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يغسله ولما سكت عن نصحه وإرشاده . هذا والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشدّ من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه ، لحديث أنسٍ رضي الله عنه { نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرّجل } . ولأبي داود من حديث عمّارٍ قال : { قدمت على أهلي ليلًا وقد تشقّقت يداي ، فخلقوني بالزّعفران ، فغدوت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسلّمت عليه فلم يردّ عليّ ولم يرحّب بي . وقال : اذهب فاغسل هذا عنك ، ثمّ قال : لا تحضر الملائكة جنازة الكافر بخيرٍ ، ولا المتضمّخ بالزّعفران ، ولا الجنب } . وللتّفصيل ( ر : ألبسة )
- ( أكل الزّعفران ) :
5 - يحرم أكل كثير الزّعفران لأنّه يزيل العقل ، وقد صرّح الشّافعيّة بذلك وعدّوه من المسكرات الجامدة الّتي تحرم ، ولا حدّ فيها ، بل فيها التّعزير . وهي طاهرة في ذاتها بخلاف المائعات من المسكرات .
هـ - أكل الزّعفران في الإحرام :
6 - يحظر أكل الزّعفران خالصًا أو شربه للمحرم عند الأئمّة اتّفاقًا ; لأنّه نوع من الطّيب . أمّا إذا خلط بطعامٍ قبل الطّبخ وطبخه معه فلا شيء عليه قليلًا كان أو كثيرًا ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وكذا عند الحنفيّة لو خلطه بطعامٍ مطبوخٍ بعد الطّبخ فإنّه لا شيء على المحرم في أكله . أمّا إذا خلطه بطعامٍ غير مطبوخٍ ، فإن كان الطّعام غالبًا فلا شيء عليه ولا فدية إن لم توجد الرّائحة ، وإلاّ يكره عندهم عند وجود الرّائحة الطّيّبة . وإن كان الطّيب غالبًا وجب في أكله الدّم سواء ظهرت رائحته أو لم تظهر ، كخلط الزّعفران بالملح . وأمّا عند المالكيّة فكلّ طعامٍ خلط بعد الطّبخ بالزّعفران فهو محظور على المحرم في كلّ الصّور وفيه الفدية . وعند الحنفيّة والمالكيّة ، إن خلط الزّعفران بمشروبٍ ، وجب فيه الجزاء قليلًا كان الطّيب أو كثيرًا . وعند الشّافعيّة والحنابلة ، إذا خلط الزّعفران بغيره من طعامٍ أو شرابٍ ، ولم يظهر له ريح أو طعم فلا حرمة ولا فدية ، وإلاّ ففيه الحرمة وعليه الفدية .
و - حكم لبس المزعفر من الثّياب أثناء الإحرام :(/1)
7 - أجمع العلماء على أنّ المحرم لا يجوز له أن يلبس الثّوب المصبوغ بالورس والزّعفران ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما فيما يلبس المحرم من الثّياب : { ولا تلبسوا من الثّياب شيئًا مسّه زعفران أو ورس } . ويلتحق بالثّياب الجلوس على فراشٍ مزعفرٍ أو مطيّبٍ بزعفرانٍ . ولا يضع عليه ثوبًا مزعفرًا ، ولو علق بنعاله زعفران أو طيب وجب أن يبادر إلى نزعه . ( ر : ألبسة - ب فقرة 14 وإحرام ) .
ي - التّداوي بالزّعفران في الإحرام :
8 - التّداوي ملتحقة أحكامه بالطّعام ، وقد فصّل الأحناف في الطّيب الّذي لا يؤكل بأنّ على المتداوي إحدى الكفّارات الثّلاث أيّها شاء ، إذا فعله المحرم لضرورةٍ وعذرٍ . ( ر : إحرام ) .(/2)
الخلاصة في زكاة الحلي
وفي الموسوعة الفقهية :
حُلِيٌّ التَّعْرِيفُ :
1 - الْحُلِيُّ لُغَةً : جَمْعُ الْحَلْيِ وَهُوَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ الْمَعْدِنِيَّاتِ أَوْ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ . وَحَلِيَتْ الْمَرْأَةُ حَلْيًا لَبِسَتْ الْحُلِيَّ , فَهِيَ حَالٌ وَحَالِيَةٌ . وَتَحَلَّى بِالْحُلِيِّ أَيْ تَزَيَّنَ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الزِّينَةُ : 2 - الزِّينَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ . وَالزِّينَةُ أَعَمُّ مِنْ الْحُلِيِّ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِغَيْرِ الْحُلِيِّ أَيْضًا .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحُلِيِّ :
أَوَّلًا : حِلْيَةُ الذَّهَبِ : أ - حِلْيَةُ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ : 3 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ اتِّخَاذُ حُلِيِّ الذَّهَبِ بِجَمِيعِ أَشْكَالِهَا . وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي وَحَرُمَ عَلَى ذُكُورِهَا } . وَيُسْتَثْنَى مِنْ التَّحْرِيمِ حَالَتَانِ : الْحَالَةُ الْأُولَى : اتِّخَاذُهُ لِلْحَاجَةِ . ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَنْفٍ أَوْ سِنٍّ مِنْ الذَّهَبِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ . لِحَدِيثِ { عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ الَّذِي قُلِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكِلَابِ , فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ , فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ } . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ لِأَبِي يُوسُفَ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ السِّنِّ أَوْ شَدِّهِ بِالذَّهَبِ لِلرِّجَالِ دُونَ الْفِضَّةِ , لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأَنْفِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِضَرُورَةِ النَّتْنِ بِالْفِضَّةِ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : تَحْلِيَةُ آلَاتِ الْقِتَالِ بِالذَّهَبِ . ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ تَحْلِيَةِ آلَاتِ الْقِتَالِ بِالذَّهَبِ , لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ . وَلِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إسْرَافٍ وَخُيَلَاءَ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ السَّيْفِ بِالذَّهَبِ سَوَاءٌ مَا اتَّصَلَ بِهِ كَالْقَبِيعَةِ وَالْمِقْبَضِ , أَوْ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ كَالْغِمْدِ , وَقَصَرَ الْحَنَابِلَةُ الْجَوَازَ عَلَى الْقَبِيعَةِ لِأَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - كَانَ لَهُ سَيْفٌ فِيهِ سَبَائِكُ مِنْ ذَهَبٍ , وَعُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ كَانَ فِي سَيْفِهِ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ . { وَكَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ فِضَّةٍ } .
ب - حِلْيَةُ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ :(/1)
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الرَّجُلِ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ , وَعَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ سِنٍّ أَوْ أَنْفٍ مِنْ فِضَّةٍ , وَعَلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ . وَلِلْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " تَخَتُّمٌ " مِنْ الْمَوْسُوعَةِ ( ج 11 ) . وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْخَاتَمَ بِأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى دِرْهَمَيْنِ شَرْعِيِّينَ . وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ حَدَّ الْإِسْرَافِ فَلَا يَتَجَاوَزَ بِهِ عَادَةً أَمْثَالَ اللَّابِسِ . وَلِلْحَنَابِلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَحَلِّي الرِّجَالِ بِالْفِضَّةِ فِيمَا عَدَا الْخَاتَمَ وَحِلْيَةَ السِّلَاحِ أَحَدُهَا : الْحُرْمَةُ . وَالثَّانِي : الْكَرَاهَةُ , وَالثَّالِثُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ : لَا أَعْرِفُ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْفِضَّةِ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ وَكَلَامُ شَيْخِنَا ( يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ ) يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ لُبْسِهَا لِلرِّجَالِ إلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ , أَيْ مِمَّا فِيهِ تَشَبُّهٌ أَوْ إسْرَافٌ أَوْ مَا كَانَ عَلَى شَكْلِ صَلِيبٍ وَنَحْوِهِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى خَاتَمِ الْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ , وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ , وَالتَّحْرِيمُ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى تَحْرِيمِ حُلِيِّ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ عَدَا الْخَاتَمَ وَحِلْيَةَ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إلَى إبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ شَرِيطَةَ أَنْ يَقِلَّ الذَّهَبُ عَنْ الْفِضَّةِ وَأَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْفِضَّةِ , وَذَلِكَ كَالْمِسْمَارِ يُجْعَلُ فِي حَجَرِ الْفَصِّ . وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ . أَمَّا فِيمَا عَدَا خَاتَمَ الْفِضَّةِ مِنْ الْحُلِيِّ لِلرِّجَالِ كَالدُّمْلُجِ , وَالسِّوَارِ , وَالطَّوْقِ , وَالتَّاجِ , فَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ : الْأَوَّلُ التَّحْرِيمُ , وَالثَّانِي الْجَوَازُ مَا لَمْ يَتَشَبَّهْ بِالنِّسَاءِ . لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْفِضَّةِ إلَّا تَحْرِيمُ الْأَوَانِي , وَتَحْرِيمُ الْحُلِيِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَنْفٍ أَوْ سِنٍّ مِنْ فِضَّةٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ عَدَا السَّرْجَ وَاللِّجَامَ وَالثَّغْرَ لِلدَّابَّةِ فَهُوَ حَرَامٌ , لِأَنَّهُ حِلْيَةٌ لِلدَّابَّةِ لَا لِلرَّجُلِ . وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ , وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ عَلَى حِلْيَةِ السَّيْفِ فَقَطْ .
حِلْيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلنِّسَاءِ :
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ أَنْوَاعَ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَمِيعًا كَالطَّوْقِ , وَالْعَقْدِ , وَالْخَاتَمِ , وَالسِّوَارِ , وَالْخَلْخَالِ , وَالتَّعَاوِيذِ , وَالدُّمْلُجِ , وَالْقَلَائِدِ , وَالْمُخَانِقِ , وَكُلِّ مَا يُتَّخَذُ فِي الْعُنُقِ , وَكُلُّ مَا يَعْتَدْنَ لُبْسَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْرَافِ أَوْ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ . وَفِي لُبْسِ الْمَرْأَةِ نِعَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ : أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ الظَّاهِرِ , وَأَصَحُّهُمَا الْإِبَاحَةُ كَسَائِرِ الْمَلْبُوسَاتِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَرْأَةِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ , وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ } . وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَا : بِجَوَازِ التَّحْلِيَةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ لُبْسِ آلَةِ الْحَرْبِ وَاسْتِعْمَالِهَا لِلنِّسَاءِ غَيْرَ مُحَلَّاةٍ فَتَجُوزُ مَعَ التَّحْلِيَةِ , لِأَنَّ التَّحْلِيَةَ لِلنِّسَاءِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الرِّجَالِ . وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
حُكْمُ الْمُمَوَّهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ :(/2)
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الرَّجُلِ مَا مُوِّهَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الْحُلِيِّ كَالْخَاتَمِ , إذَا لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْإِذَابَةِ وَالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ , لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُسْتَهْلَكٌ فَصَارَ كَالْعَدَمِ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْمُمَوَّهِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَإِلَى حُرْمَةِ التَّمْوِيهِ بِهِمَا . وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَمْوِيهُ غَيْرِ الْأَوَانِي بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِحَيْثُ يَتَغَيَّرُ اللَّوْنُ وَلَا يَحْصُلُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ شَيْءٌ إنْ عُرِضَ عَلَى النَّارِ .
الْحُلِيُّ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ :
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَحَلِّي الْمَرْأَةِ بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْعَقِيقِ وَاللُّؤْلُؤِ . كَمَا ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إلَى جَوَازِهِ لِلرِّجَالِ . وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ جِهَة الْأَدَبِ , لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّرَفِ . وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ تَحَلِّي الرَّجُلِ بِالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ . وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي خَانْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْحِلَّ قِيَاسًا عَلَى الْعَقِيقِ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالشَّبَهِ ( وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ النُّحَاسِ ) وَالْقَصْدِيرِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ . وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ : { إنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ , فَقَالَ لَهُ : مَا لِي أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ ؟ فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ : مَا لِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ . فَطَرَحَهُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ ؟ قَالَ : اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا } . وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلَّذِي خَطَبَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا { اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ } وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ . كَمَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ مُعَيْقِيبٍ رضي الله عنه وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ } . ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ : " وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ " .
( زَكَاةُ الْحُلِيِّ ) :(/3)
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُسْتَعْمَلِ اسْتِعْمَالًا مُحَرَّمًا , كَأَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ حَلْيَ الذَّهَبِ لِلِاسْتِعْمَالِ , لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ أَصْلِهِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاحٍ فَسَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَهُوَ صِيَاغَتُهُ صِيَاغَةً مُحَرَّمَةً , وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْحَلْيِ الْمَكْنُوزِ الْمُقْتَنَى الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مُقْتَنِيهِ اسْتِعْمَالًا مُحْرِمًا وَلَا مَكْرُوهًا وَلَا مُبَاحًا , لِأَنَّهُ مَرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمَصُوغِ , وَلَا يَخْرُجُ عَنْ التَّنْمِيَةِ إلَّا بِالصِّيَاغَةِ الْمُبَاحَةِ وَنِيَّةِ اللُّبْسِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلْيِ الْمُسْتَعْمَلِ اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا كَحَلْيِ الذَّهَبِ لِلْمَرْأَةِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ . فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُبَاحِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَسْمَاءَ - رضي الله عنهم - وَالْقَاسِمِ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَمْرَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنْ آثَارٍ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَسْمَاءَ وَجَابِرٍ رضي الله عنهم , فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيُّ فَلَا تُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ . وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي ثِيَابَهَا الذَّهَبَ , وَلَا تُزَكِّيهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ جَابِرًا رضي الله عنه عَنْ الْحَلْيِ أَفِيه زَكَاةٌ ؟ فَقَالَ جَابِرٌ لَا , فَقَالَ : وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ جَابِرٌ كَثِيرٌ . وَالْمَأْثُورُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها يُخَالِفُ مَا رَوَتْهُ عَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُخَالِفْهُ إلَّا فِيمَا عَلِمْته مَنْسُوخًا , فَإِنَّهَا زَوْجُهُ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ , وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّ أُخْتَهُ حَفْصَةَ كَانَتْ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمُ حُلِيِّهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى عَنْهَا حُكْمُهُ فِيهِ . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْحَلْيِ الْمُبَاحِ عَلَى ثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَعَوَامِلِ الْبَقَرِ فِي أَنَّهَا مُرْصَدَةٌ فِي اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ فَسَقَطَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْجَدِيدِ إلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُبَاحِ الْمُسْتَعْمَلِ , وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ , وَطَاوُسٍ , وَابْنِ مِهْرَانَ وَمُجَاهِدٍ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَالزُّهْرِيِّ , وَابْنِ حَبِيبٍ . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا : أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا . قَالَ : أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ قَالَ : فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدِي فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ , فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ , فَقُلْت : صَنَعْتهنَّ أَتَزَيَّنُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : أَتُؤْتِينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ قُلْت : لَا , أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ : هَذَا حَسْبُك مِنْ النَّارِ } . وَالْحَلْيُ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً .(/4)
( حُكْمُ انْكِسَارِ الْحَلْيِ ) : 10 - فَصَّلَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ مَا إذَا انْكَسَرَ الْحَلْيُ , فَلَهُ حِينَئِذٍ أَحْوَالٌ : الْأَوَّلُ : أَنْ لَا يَمْنَعَ الِانْكِسَارُ اسْتِعْمَالَهُ وَلُبْسَهُ فَلَا أَثَرَ لِلِانْكِسَارِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ لَا يَنْوِيَ تَرْكَ لُبْسِهِ . الثَّانِي : أَنْ يَمْنَعَ الِانْكِسَارُ اسْتِعْمَالَهُ فَيَحْتَاجَ إلَى سَبْكٍ وَصَوْغٍ . فَتَجِبُ زَكَاتُهُ , وَأَوَّلُ الْحَوْلِ وَقْتُ الِانْكِسَارِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . الثَّالِثُ : أَنْ يَمْنَعَ الِانْكِسَارُ الِاسْتِعْمَالَ وَلَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَبْكٍ وَصَوْغٍ وَيَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ بِالْإِلْحَامِ وَهَذَا عَلَى أَحْوَالٍ : أ - إنْ قَصَدَ جَعْلَهُ تِبْرًا أَوْ دَرَاهِمَ , أَوْ كَنَزَهُ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ وَانْعَقَدَ حَوْلُهُ مِنْ يَوْمِ الِانْكِسَارِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . ب - أَنْ يَقْصِدَ إصْلَاحَهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . ج - إنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِانْكِسَارَ إذَا مَنَعَ الِاسْتِعْمَالَ مُطْلَقًا فَلَا زَكَاةَ فِي الْحَلْيِ .
إجَارَةُ الْحَلْيِ : 11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ إجَارَةِ الْحَلْيِ بِأُجْرَةٍ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ . لِأَنَّهُ عَيْنٌ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَقْصُودَةً مَعَ بَقَائِهَا فَجَازَتْ إجَارَتُهَا كَالْأَرَاضِيِ . وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ إجَارَةَ الْحَلْيِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ , وَالْأَوْلَى إعَارَتُهُ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ . وَلَمْ نَقِفْ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَقْفُ الْحَلْيِ : 12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْحَلْيِ لِمَا رَوَى نَافِعٌ أَنَّ حَفْصَةَ ابْتَاعَتْ حُلِيًّا بِعَشْرَيْنِ أَلْفًا حَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ الْجَوَازُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَمْلُوكِ مُطْلَقًا : الْعَقَارِ وَالْمُقَوَّمِ وَالْمِثْلِيِّ وَالْحَيَوَانِ . وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْحُلِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ الْوَقْفِ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ الشَّرْعِيِّ التَّأْبِيدُ , وَلَا يَتَأَبَّدُ غَيْرُ الْعَقَارِ . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ " وَقْفٌ "
فِضَّةٌ التَّعْرِيفُ :(/5)
1 - الْفِضَّةُ - كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ - مَعْرُوفَةٌ , وَجَاءَ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ : الْفِضَّةُ عُنْصُرٌ أَبْيَضُ قَابِلٌ لِلسَّحْبِ وَالطَّرْقِ وَالصَّقْلِ , مِنْ أَكْثَرِ الْمَوَادِّ تَوْصِيلًا لِلْحَرَارَةِ وَالْكَهْرَبَاءِ , وَهُوَ مِنْ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي صَكِّ النُّقُودِ . وَقَالَ الرَّاغِبُ : الْفِضَّةُ اخْتَصَّتْ بِأَدْوَنِ الْمُتَعَامَلِ بِهَا مِنْ الْجَوَاهِرِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : الذَّهَبُ : 2 - الذَّهَبُ : الْمَعْدِنُ الْمَعْرُوفُ , وَصِلَتُهُ بِالْفِضَّةِ أَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي النَّقْدِيَّةِ , وَثَمَنِيَّةِ الْأَشْيَاءِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِضَّةِ : أ - اسْتِعْمَالُ الْأَوَانِي الْمَصْنُوعَةِ مِنْ الْفِضَّةِ : 3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ الْأَوَانِي الْمَصْنُوعَةِ مِنْ الْفِضَّةِ حَرَامٌ , مُسْتَدِلِّينَ بِأَدِلَّةٍ , مِنْهَا : عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها , أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } . وَبِمَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ : { نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ , فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِي الْآخِرَةِ } . قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ أَصْحَابُنَا : أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد , وَإِلَّا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ - وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ - وَلِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ الشُّرْبُ فَالْأَكْلُ أَوْلَى , لِأَنَّهُ أَطْوَلُ مُدَّةً وَأَبْلَغُ فِي السَّرَفِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ , وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالَاتِ , وَمِنْهَا تَزْيِينُ الْحَوَانِيتِ وَالْبُيُوتِ بِهَا , كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَمِنْ قَبْلِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ , مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ لَا الْحَرَامِ , وَأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ هِيَ : عَيْنُ الْفِضَّةِ , أَوْ الْخُيَلَاءُ وَالسَّرَفُ .
ب - اقْتِنَاءُ الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالٍ :(/6)
4 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اقْتِنَاءَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْأَوَانِي لَا يَحْرُمُ إذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ , وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى صُورَةِ الْأَوَانِي وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ , فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ آرَاءٌ : الرَّأْيُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ , وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ اقْتِنَاءَ أَوَانِي الْفِضَّةِ تَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا , لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ , وَلِأَنَّ اتِّخَاذَهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِعْمَالِ مُحَرَّمٍ , فَيَحْرُمُ , كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ , وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ , وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الِاتِّخَاذِ , وَلِأَنَّ الِاتِّخَاذَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَبَثٌ , فَيَحْرُمُ . الرَّأْيُ الثَّانِي : أَنَّ اتِّخَاذَ أَوَانِي الْفِضَّةِ لَا يَحْرُمُ إذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ , وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَرِوَايَةٌ أَوْ وَجْهٌ عَنْ أَحْمَدَ , لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَحْرُمُ الِاتِّخَاذُ , كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَاقْتَنَاهَا دُونَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا , فَكَذَا اقْتِنَاءُ أَوَانِي الْفِضَّةِ دُونَ اسْتِعْمَالِهَا . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاتِّخَاذِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ , فَقَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ : فَإِنْ اتَّخَذَ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ إنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّخَاذُهُ . الرَّأْيُ الثَّالِثُ : أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الِاتِّخَاذُ بِقَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ , أَمَّا إذَا كَانَ اتِّخَاذُهُ بِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ , أَوْ لِزَوْجَتِهِ , أَوْ بِنْتِهِ , أَوْ لَا لِشَيْءٍ , فَلَا حُرْمَةَ , وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْعَدَوِيُّ . وَقَالَ الدَّرْدِيرُ : وَحَرُمَ اقْتِنَاؤُهُ أَيْ ادِّخَارُهُ وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ , لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلِاسْتِعْمَالِ , وَكَذَا التَّجَمُّلُ بِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ , وَقَوْلُنَا : " وَلَوْ لِعَاقِبَةِ دَهْرٍ " هُوَ مُقْتَضَى النَّقْلِ , وَيُشْعِرُ بِهِ التَّعْلِيلُ , وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ , إذْ الْإِنَاءُ لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ وَلَا لِامْرَأَةِ , فَلَا مَعْنَى لِاِتِّخَاذِهِ لِلْعَاقِبَةِ , بِخِلَافِ الْحُلِيِّ . وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ اقْتِنَاءَهُ إنْ كَانَ بِقَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ , وَإِنْ كَانَ لِقَصْدِ الْعَاقِبَةِ أَوْ التَّجَمُّلِ أَوْ لَا لِقَصْدِ شَيْءٍ , فَفِي كُلٍّ قَوْلَانِ , وَالْمُعْتَمَدُ الْمَنْعُ .
**********
وفي مصنف ابن أبي شيبة
( 45 ) فِي الْحُلِيِّ(/7)
( 1 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَتَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي أَيْدِيهِمَا أَسْوِرَةٌ مِنْ الذَّهَبِ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا رَبُّكُمَا بِأَسْوِرَةٍ مِنْ نَارٍ قَالَتَا لَا قَالَ فَأَدِّيَا حَقَّ هَذَا الَّذِي فِي أَيْدِيكُمَا } . ( 2 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ وَوَكِيعٌ عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ شُعَيْبٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى أَنْ اُؤْمُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَدِّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ وَلَا يَجْعَلْنَ الْهَدِيَّةَ وَالزِّيَادَةَ تَعَارُضًا بَيْنَهُنَّ . ( 3 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ يُزَكِّي مَرَّةً . ( 4 ) حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الْحُلِيِّ زَكَاةً . ( 5 ) حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ ( 6 ) حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ زَكَاةٌ قَالَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ . ( 7 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ . ( 8 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . ( 9 ) حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ زَمْعَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . ( 10 ) حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ قَالَ سُئِلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ هَلْ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ قَالَ نَعَمْ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ . ( 11 ) حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ قَالُوا فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ وَقَالُوا إذَا مَضَتْ السَّنَةُ أَنَّ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ زَكَاةً . ( 12 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْفَرَّاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ حَتَّى فِي الْخَاتَمِ . ( 13 ) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ كَانَ عِنْدَنَا طَوْقٌ قَدْ زَكَّيْنَاهُ حَتَّى أُرَاهُ قَدْ أَوْفَى عَلَى ثَمَنِهِ . ( 14 ) حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ إذَا بَلَغَ الْحُلِيُّ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ .(/8)
( 45 م ) مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ ( 1 ) حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى فِي الْحُلِيِّ زَكَاةً . ( 2 ) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ وَعَمْرُو بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْقَاسِمِ قَالَ كَانَ مَالُنَا عِنْدَ عَائِشَةَ فَكَانَتْ تُزَكِّيه إلَّا الْحُلِيَّ . ( 3 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُزَكِّيه . ( 4 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ دَلْهَمِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ كَانَ لِبَنَاتِ أَخِيهَا حُلِيٌّ فَلَمْ تَكُنْ تُزَكِّيه ( 5 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ قُلْت إنَّهُ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ قَالَ يُعَارُ وَيُلْبَسُ . ( 6 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُزَكِّي الْحُلِيَّ . ( 7 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي ثِيَابَهَا الذَّهَبَ وَلَا تُزَكِّيه . ( 8 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْت عُمْرَةَ عَنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ فَقَالَتْ مَا رَأَيْت أَحَدًا يُزَكِّيه . ( 9 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْخُلَفَاءِ قَالَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . ( 10 ) حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ يُعَارُ وَيَلْبَسُ . ( 11 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ قَالَ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيّ . ( 12 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ وَأَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَا زَكَاةَ الْحُلِيُّ عَارِيَّتُهُ . ( 13 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ سَمِعْت أَبَا جَعْفَرٍ يَقُولُ لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ ثُمَّ قَرَأَ تَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا . ( 14 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . ( 15 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ يُعَارُ وَيُلْبَسُ . ( 16 ) حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ كُنَّا أَيْتَامًا فِي حِجْرِ عَائِشَةَ وَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ فَكَانَتْ لَا تُزَكِّيه .(/9)
( 46 ) مَنْ قَالَ تُدْفَعُ الزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ ( 1 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْت سَعِيدًا وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ فَقُلْت إنَّ لِي مَالًا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ زَكَاتَهُ وَلَا أَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا وَهَؤُلَاءِ يَصْنَعُونَ فِيهَا مَا تَرَوْنَ فَقَالَ كُلُّهُمْ أَمَرُونِي أَنْ أَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ ( 2 ) حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ادْفَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ إلَى مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ فَمَنْ بَرَّ فَلِنَفْسِهِ وَمِنْ أَثِمَ فَعَلَيْهَا . ( 3 ) حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي رَبَاحُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ قَزَعَةَ قَالَ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ إنَّ لِي مَالًا فَإِلَى مَنْ أَدْفَعُ زَكَاتَهُ قَالَ ادْفَعْهَا إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ يَعْنِي الْأُمَرَاءَ قُلْت إذًا يَتَّخِذُونَ بِهَا ثِيَابًا وَطِيبًا قَالَ وَإِنْ اتَّخَذُوا ثِيَابًا وَطِيبًا وَلَكِنْ فِي مَالِك حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ يَا قَزَعَةَ . ( 4 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ وَإِنْ أَكَلُوا بِهَا لُحُومَ الْكِلَابِ فَلَمَّا عَادُوا إلَيْهِ قَالَ ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ وَإِنْ أَكَلُوا بِهَا الْبِسَارَ . ( 5 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِصَدَقَتِهِ إلَى الْأُمَرَاءِ . ( 6 ) حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ وَسَعِيدَ وَابْنَ عُمَرَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنْ تُدْفَعَ الزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ . ( 7 ) حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ كَانَتْ الصَّدَقَةُ تُدْفَعُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ أَمَرَ بِهِ وَإِلَى أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ أَمَرَ بِهِ وَإِلَى عُمَرَ وَمَنْ أَمَرَ بِهِ وَإِلَى عُثْمَانَ وَمَنْ أَمَرَ بِهِ فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ مِنْ رَأَى أَنْ يَقْسِمَهَا هُوَ قَالَ مُحَمَّدٌ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ مَنْ اخْتَارَ أَنْ يَقْسِمَهَا هُوَ وَلَا يَكُونَ يَعِيبُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا يَأْتِي مِثْلُ الَّذِي يَعِيبُ عَلَيْهِمْ . ( 8 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ قَالَ سَأَلْت عَمْرَةَ عَنْ الزَّكَاةِ فَقَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ ادْفَعُوهَا إلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ . ( 9 ) حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ عَنْ الزَّكَاةِ أَدْفَعُهَا إلَى الْوُلَاةِ قَالَ ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ . ( 10 ) حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ أَرْبَعٌ إلَى السُّلْطَانِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحُدُودُ وَالْقَضَاءُ ( 11 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ ضَمِنَ أَوْ ضَمِنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَرْبَعًا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحُدُودَ وَالْحُكْمَ . ( 12 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الزَّكَاةِ قَالَ ادْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ فَقِيلَ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهَا وَيَفْعَلُونَ مَرَّتَيْنِ قَالَ فَتَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا قَالُوا لَا قَالَ فَادْفَعُوهَا إلَيْهِمْ . ( 13 ) حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَعْطُوهَا الْأُمَرَاءَ مَا صَلَّوْا قَالَ وَقَالَ خَيْثَمَةُ مَا صَلَّوْا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا . ( 14 ) حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ قَالَ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ إلَى السُّلْطَانِ . ( 15 ) حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ تُدْفَعَ الزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ . ( 16 ) حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ ثِنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِيمَا يُوصِي بِهِ عُمَرَ مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ وُلَاتِهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ زَكَاتُهُ وَصَدَقَتُهُ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالدُّنْيَا جَمِيعًا . ( 17 ) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ قَالَا أَدِّ زَكَاةَ مَالِك إلَى السُّلْطَانِ . ( 18 ) حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ حَكِيمِ بْنِ دَيْلَمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا ادْفَعْ زَكَاةَ مَالِك إلَى السُّلْطَانِ .(/10)
( 47 ) مَنْ رَخَّصَ فِي أَنْ لَا تُدْفَعَ الزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ ( 1 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ النُّعْمَانِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ ادْفَعْهَا إلَى الْإِمَامِ وَقَالَ الْإِمَامُ الْقُرْآنُ وَكَانَ يُخْفِي ذَلِكَ . ( 2 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ قَالَا ضَعْهَا مَوَاضِعَهَا وَأَخْفِهَا . ( 3 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُتْبَةَ الْكَنَدِيِّ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ ضَعْهَا فِي الْفُقَرَاءِ ( 4 ) حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ الصَّدَقَةِ قَالَ هِيَ إلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ قَالَ فَإِنَّ الْحَجَّاجَ يَبْنِي بِهَا الْقُصُورَ وَيَضَعُهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا قَالَ ضَعْهَا حَيْثُ أُمِرْت بِهِ . ( 5 ) حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ إنْ دَفَعَهَا إلَيْهِمْ أَجْزَى عَنْهُ وَإِنْ قَسَمَهَا أَجْزَى عَنْهُ . ( 6 ) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرِ بْنِ خَيْثَمَةَ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ عَنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ ثُمَّ سَأَلْتُهُ بَعْدُ فَقَالَ لَا تَدْفَعْهَا إلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ . ( 7 ) حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِزَكَاةِ مَالِهِ إلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ تَأْخُذُ مِنْ عَطَائِنَا شَيْئًا قَالَ لَا فَقَالَ لَا نَجْمَعُ عَلَيْك أَنْ لَا نُعْطِيَك وَنَأْخُذُ مِنْك فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَهَا .
******************
وفي المدونة :
زَكَاةُ الْحُلِيِّ قَالَ : وَقَالَ مَالِكٌ فِي كُلِّ حُلِيٍّ هُوَ لِلنِّسَاءِ اتَّخَذَتْهُ لِلُّبْسِ . فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِنَّ فِيهِ , قَالَ فَقُلْنَا لِمَالِكٍ : فَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ حُلِيًّا تُكْرِيهِ فَتَكْتَسِبُ عَلَيْهِ الدَّرَاهِمَ مِثْلَ الْجَيْبِ وَمَا أَشْبَهَهُ تُكْرِيهِ لِلْعَرَائِسِ لِذَلِكَ عَمِلْتُهُ ؟ فَقَالَ : لَا زَكَاةَ فِيهِ . قَالَ : وَمَا انْكَسَرَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ فَحَبَسْنَهُ لِيُعِدْنَهُ أَوْ مَا كَانَ لِلرَّجُلِ فَلَبِسَهُ أَهْلُهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَخَدَمُهُ وَالْأَصْلُ لَهُ , فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَمَا انْكَسَرَ مِنْهُ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يُعِيدَهُ لِهَيْئَتِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهِ . قَالَ : وَمَا وَرِثَ الرَّجُلُ مِنْ أُمِّهِ أَوْ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهِ مِنْ حُلِيٍّ , فَحَبَسَهُ لِلْبَيْعِ أَوْ لِحَاجَةٍ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ يَرْصُدُهُ . لَعَلَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ يَحْبِسُهُ لِلُّبْسِ ؟ فَقَالَ : أَرَى عَلَيْهِ فِيمَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ الزَّكَاةَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا يُزَكِّي , أَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مَا تَتِمُّ بِهِ الزَّكَاةُ , قَالَ : وَلَا أَرَى عَلَيْهِ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَالْخَاتَمِ زَكَاةً(/11)
قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُدِيرُ مَالَهُ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى آنِيَةً مِنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ وَزْنُهَا أَقَلُّ مَنْ قِيمَتِهَا , أَيُزَكِّي قِيمَتَهَا أَمْ يَنْظُرُ إلَى وَزْنِهَا ؟ فَقَالَ : يَنْظُرُ إلَى وَزْنِهَا وَلَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهَا . قُلْتُ : وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ هَذِهِ الْآنِيَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِلصِّيَاغَةِ الَّتِي فِيهَا وَوَزْنُهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى وَزْنِهَا وَلَا يُنْظَرُ إلَى الصِّيَاغَةِ . قُلْتُ : فَهَلْ تَحْفَظُ هَذَا عَنْ مَالِكٍ ؟ قَالَ : قَالَ مَالِكٌ : كُلُّ مَنْ اشْتَرَى حُلِيًّا لِلتِّجَارَةِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَإِنَّهُ يَزِنُهُ وَيُخْرِجُ رُبْعَ عُشْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ يُقَوِّمُهُ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى إنَاءً مَصُوغًا فِيهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَقِيمَتُهُ بِصِيَاغَةٍ عِشْرُونَ دِينَارًا وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَحَال عَلَيْهِ الْحَوْلُ , إنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ , فَإِنْ بَاعَهُ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَقَدْ حَالَ عَلَى الْإِنَاءِ عِنْدَهُ الْحَوْلُ زَكَّاهُ سَاعَةَ يَبِيعُهُ ; لِأَنَّ هَذَا عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَرَبِحَ فِيهِ فَبَاعَهُ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ مَكَانَهُ . قُلْتُ : وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ مَالِكٌ : إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيُّ فَلَا تُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ . قَالَ أَشْهَبُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ : أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي الْمُغِيرَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ ؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ : مَا أَدْرَكْتُ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا صَدَّقَهُ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ يَحْيَى : فَسَأَلْتُ عَمْرَةَ عَنْ صَدَقَةِ الْحُلِيِّ ؟ فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُصَدِّقُهُ وَلَقَدْ كَانَ لِي عِقْدٌ قِيمَتُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ مِائَةً فَمَا كُنْتُ أُصَدِّقُهُ . قَالَ أَشْهَبُ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ , حَدَّثَهُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَا يَقُولَانِ : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ إذَا كَانَ يُعَارُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ . قَالَ أَشْهَبُ قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ , وَأَخْبَرَنِي عَمِيرَةُ بْنُ أَبِي نَاجِيَةَ عَنْ زُرَيْقِ بْنِ حَكِيمٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ فَسَأَلْتُ ابْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ زَكَاتِهِ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ مَصُوغًا يُلْبَسُ فَزَكِّهِ . قَالَ أَشْهَبُ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ , وَأَخْبَرَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ إذَا كَانَ يُعَارُ وَيُلْبَسُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ . قَالَ أَشْهَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ , أَنَّهُ كَانَ لَهَا حُلِيٌّ فَلَمْ تَكُنْ تُزَكِّيهِ . قَالَ هِشَامٌ : وَلَمْ أَرَ عُرْوَةَ يُزَكِّي الْحُلِيَّ . قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَرَبِيعَةَ وَعَمْرَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ , قَالُوا : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالُوا : زَكَاةُ الْحُلِيِّ أَنْ يُعَارَ وَيُلْبَسَ . ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : إنْ كَانَ الْحُلِيُّ إذَا كَانَ يُوضَعُ كَنْزًا , فَإِنْ كَانَ مَالٌ يُوضَعُ كَنْزًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَأَمَّا حُلِيٌّ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وفي الأم :(/12)
بَابُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَلِي بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيُّ وَلَا تُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ , أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَ أَخِيهَا بِالذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتَه وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحُلِيِّ : أَفِيه زَكَاةٌ ؟ فَقَالَ جَابِرٌ : لَا فَقَالَ : وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ جَابِرٌ : كَثِيرٌ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَا أَدْرِي أَثَبَتَ عَنْهُمَا مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ ؟ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةً . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : الْمَالُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ بِنَفْسِهِ ثَلَاثُ عَيْنٍ , ذَهَبٌ , وَفِضَّةٌ وَبَعْضُ نَبَاتِ الْأَرْضِ , وَمَا أُصِيبَ فِي أَرْضٍ مِنْ مَعْدِنٍ وَرِكَازٍ وَمَاشِيَةٍ ( قَالَ ) : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ذَهَبٌ , أَوْ وَرِقٌ , فِي مِثْلِهَا زَكَاةٌ , فَالزَّكَاةُ فِيهَا عَيْنًا يَوْمَ يَحُولُ عَلَيْهَا الْحَوْلُ كَإِنْ كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ تَسْوَى عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ثُمَّ غَلَتْ فَصَارَتْ تَسْوَى عِشْرِينَ دِينَارًا وَرَخُصَتْ فَصَارَتْ تَسْوَى دِينَارًا فَالزَّكَاةُ فِيهَا نَفْسِهَا , وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ , فَإِنْ اتَّجَرَ فِي الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ ثَلَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ لِحَوْلِهَا , وَالْمِائَةَ الَّتِي زَادَتْهَا لِحَوْلِهَا وَلَا يَضُمُّ مَا رَبِحَ فِيهَا إلَيْهَا ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَيْسَ مِنْهَا . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَهَذَا يُخَالِفُ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ فَيَحُولُ الْحَوْلُ , وَالْعَرْضُ فِي يَدِهِ فَيَقُومُ الْعَرَضُ بِزِيَادَتِهِ , أَوْ نَقْصِهِ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ تَحَوَّلَتْ فِي الْعَرْضِ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَصَارَ الْعَرَضُ كَالدَّرَاهِمِ يُحْسَبُ عَلَيْهِ حَوْلُ الدَّرَاهِمِ فِيهِ , فَإِذَا نَضَّ ثَمَنُ الْعَرْضِ بَعْدَ الْحَوْلِ أُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْ ثَمَنِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ; لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاشْتَرَى بِهِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَلَكِنْ لَوْ نَضَّ ثَمَنُ الْعَرْضِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَصَارَ دَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَتِهِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَصَارَ الْحُكْمُ إلَى الدَّرَاهِمِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَآخِرِهَا دَرَاهِمَ وَحَالَتْ عَنْ الْعَرْضِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَهَذَا يُخَالِفُ نَمَاءَ الْمَاشِيَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيُوَافِقُ نَمَاءَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ , وَقَدْ كَتَبْت نَمَاءَ الْمَاشِيَةِ فِي الْمَاشِيَةِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَالْخُلَطَاءُ فِي الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ كَالْخُلَطَاءِ فِي الْمَاشِيَةِ , وَالْحَرْثِ لَا يَخْتَلِفُونَ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَقَدْ قِيلَ فِي الْحُلِيِّ صَدَقَةٌ , وَهَذَا مَا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ ( قَالَ الرَّبِيعُ ) قَدْ اسْتَخَارَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ , وَمَنْ قَالَ فِي الْحُلِيِّ صَدَقَةٌ قَالَ هُوَ وَزْنٌ مِنْ فِضَّةٍ قَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْلِ وَزْنِهِ صَدَقَةً وَوَزْنٌ مِنْ ذَهَبٍ قَدْ جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ صَدَقَةً ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَمَنْ قَالَ فِيهِ زَكَاةٌ فَكَانَ مُنْقَطِعًا مَنْظُومًا بِغَيْرِهِ مَيَّزَهُ وَوَزَنَهُ وَأَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهُ بِقَدْرِ وَزْنِهِ , أَوْ احْتَاطَ فِيهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى جَمِيعَ مَا فِيهِ , أَوْ أَدَّاهُ وَزَادَ وَقَالَ فِيمَا وَصَفْت فِيمَا مُوِّهَ بِالْفِضَّةِ وَزَكَاةِ حِلْيَةِ السَّيْفِ , وَالْمُصْحَفِ , وَالْخَاتَمِ وَكُلِّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ كَانَ يَمْلِكُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) : وَمَنْ قَالَ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَا زَكَاةَ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حُلِيًّا وَلَا زَكَاةَ فِي خَاتَمِ رَجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ وَلَا حِلْيَةِ سَيْفِهِ وَلَا مُصْحَفِهِ وَلَا مِنْطَقَتِهِ إذَا(/13)
كَانَ مِنْ فِضَّةٍ , فَإِنْ اتَّخَذَهُ مِنْ ذَهَبٍ , أَوْ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ , أَوْ قِلَادَةً , أَوْ دُمْلُجَيْنِ , أَوْ غَيْرَهُ مِنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَخَتَّمَ ذَهَبًا وَلَا يَلْبَسَهُ فِي مِنْطَقَةٍ وَلَا يَتَقَلَّدَهُ فِي سَيْفٍ وَلَا مُصْحَفٍ , وَكَذَلِكَ لَا يَلْبَسُهُ فِي دِرْعٍ وَلَا قَبَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ بِوَجْهٍ , وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّى مَسْكَتَيْنِ وَلَا خَلْخَالَيْنِ وَلَا قِلَادَةً مِنْ فِضَّةٍ وَلَا غَيْرَهَا
بَابُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ ( قَالَ الشَّافِعِيُّ ) رحمه الله تعالى : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتِ أَخِيهَا أَيْتَامًا فِي حِجْرِهَا فَلَا تُخْرِجُ مِنْهُ زَكَاةً وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيهِ ذَهَبًا , ثُمَّ لَا يُخْرِجُ زَكَاتَهُ . ( قَالَ ) : وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةَ , وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ فَمَنْ قَالَ : فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّى خَاتَمَهُ وَحِلْيَةَ سَيْفِهِ وَمِنْطَقَتَهُ وَمُصْحَفَهُ وَمَنْ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِيهِ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي خَاتَمِهِ وَلَا حِلْيَةِ سَيْفِهِ وَلَا مِنْطَقَتِهِ إذَا كَانَتْ مِنْ وَرِقٍ , فَإِنْ اتَّخَذَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ حُلِيَّ امْرَأَةٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحَلَّى ذَهَبًا , أَوْ وَرِقًا وَلَا أَجْعَلُ حُلِيَّهَا زَكَاةً فَإِنْ اتَّخَذَ رَجُلٌ , أَوْ امْرَأَةٌ إنَاءً مِنْ ذَهَبٍ , أَوْ وَرِقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّخَاذُهُ , فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ مَصُوغًا أَلْفَيْنِ فَإِنَّمَا زَكَاتُهُ عَلَى وَزْنِهِ لَا عَلَى قِيمَتِهِ وَإِنْ انْكَسَرَ حُلِيُّهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وقال الجصاص :(/14)
فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ , فَأَوْجَبَ أَصْحَابُنَا فِيهِ الزَّكَاةَ , وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ : لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ الْحُلِيَّ تُزَكَّى مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا تُزَكَّى بَعْدَ ذَلِكَ . , وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْحُلِيِّ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ آثَارٌ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ , مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَتَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ : { أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا , قَالَ : أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ } فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي السِّوَارِ , وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كُنْت أَلْبِسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : { مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } . وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ , وَالْآخَرُ : أَنَّ الْكَنْزَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيُّ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّهُ قَالَ { : دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ , فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ فَقُلْت : صَنَعْتهنَّ أَتَزَّيَّنُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ قُلْت : لَا , أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ , قَالَ : هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ . } فَانْتَظَمَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ , وَالْآخَرُ : أَنَّ الْمَصُوغَ يُسَمَّى وَرِقًا لِأَنَّهَا قَالَتْ : { فَتَخَاتٍ مِنْ وَرَقٍ } فَاقْتَضَى ظَاهِرُ قَوْلِهِ : { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ ; لِأَنَّ الرِّقَةَ وَالْوَرِقَ وَاحِدٌ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَعْيَانِهِمَا فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ لَا بِمَعْنَى يَنْضَمَّ إلَيْهِمَا , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النُّقَرَ وَالسَّبَائِكَ تَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ , وَفَارَقَا بِهَذَا غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا بِوُجُودِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْمَصُوغِ وَالْمَضْرُوبِ . وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْحُلِيَّ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ . وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي الْحُلِيِّ . فَإِنْ قِيلَ : الْحُلِيُّ كَالنُّقُرِ الْعَوَامِلِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَنْ يَكُونَ مُرْصَدًا لِلنَّمَاءِ , فَمَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَجِبْ , وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لِأَعْيَانِهِمَا بِدَلَالَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ , وَالنُّقَرُ وَالسَّبَائِكُ إذَا أَرَادَ بِهِمَا الْقُنْيَةَ وَالتَّبْقِيَةَ لَا طَلَبَ النَّمَاءِ . وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنْعَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا , وَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَهُمَا فِي حَالٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الصَّنْعَةِ وَعَدَمِهَا . فَإِنْ قِيلَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ . قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ; لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ , وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ , فَبَطَلِ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ زَكَاةً . وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْحُلِيِّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَجَبَتْ فِي كُلِّ حَوَلٍ .(/15)
وَاخْتَلَفُوا فِي إعْطَاءِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ , قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : { لَا تُعْطِيهِ } وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ : { تُعْطِيهِ } . وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْطِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ زَكَاتِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ دَفْعِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِدَفْعِ زَكَاتِهَا إلَيْهِ بِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ , وَعَلَى أَيْتَامٍ لِأَخِيهَا فِي حِجْرِهَا , فَقَالَ : { لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ } . قِيلَ لَهُ : كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ , وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا حَثَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءَ عَلَى الصَّدَقَةِ , وَقَالَ : { تَصَدَّقْنَ وَلَوْ بِحُلِيِّكُنَّ } : جَمَعْت حُلِيًّا لِي وَأَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ , فَسَأَلْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ نَاجِيَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : { إنَّ لِي طَوْقًا فِيهِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا أَفَأُؤَدِّي زَكَاتَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ نِصْفَ مِثْقَالٍ , قَالَتْ : فَإِنَّ فِي حِجْرِي بِنْتَيْ أَخٍ لِي أَيْتَامًا أَفَأَجْعَلُهُ أَوْ أَضَعُهُ فِيهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ } فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ زَكَاتِهَا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ إعْطَاءِ الزَّوْجِ , وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ إعْطَاءَ بَنِي أَخِيهَا , وَنَحْنُ نُجِيزُ ذَلِكَ , وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ سَأَلَتْهُ عَنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى زَوْجِهَا وَبَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا , وَسَأَلَتْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ عَنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ , وَدَفْعِهَا إلَى بَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا , وَنَحْنُ نُجِيزُ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى بَنِي الْأَخِ
وفي الفصول في الأصول :(/16)
وَمِنْ الْأُصُولِ مَا يَكُونُ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا , كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهِرَّةِ { إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ } { وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِبَرِيرَةَ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي } . , ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ عَرْضُهَا عَلَى الْأُصُولِ , وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَشْبَهِ مِنْهَا , سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَصْلُ مِنْ جِنْسِهَا , أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا , بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمٌ لِلْحُكْمِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ : إنَّ الْحَادِثَةَ إذَا تَجَاذَبَهَا أَصْلَانِ فَرَدُّهَا إلَى مَا قَرُبَ مِنْهَا , وَإِلَى مَا هُوَ مِنْ بَابِهَا وَمِنْ جِنْسِهَا , أَوْلَى مِنْ رَدِّهَا إلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا , وَإِلَى خِلَافِ جِنْسِهَا . وَلِذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الِاعْتِكَافِ : ( إنَّهُ ) لَمَّا كَانَ لَبْثًا فِي مَكَان , وَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ هُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ : قِيَاسًا . فَعَارَضُونَا بِالصَّوْمِ : أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي نَفْسِهِ , ثُمَّ يَصِيرُ قُرْبَةً بِمُضَامَّةِ النِّيَّةِ إيَّاهُ . فَهَلَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَى الِاعْتِكَافِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً هُوَ النِّيَّةَ , حَسْبَ مَا قُلْنَا فِي الصَّوْمِ ؟ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ إذَا أَلْزَمَ مِثْلَ هَذَا يَقُولُ : إنَّ رَدَّ الِاعْتِكَافِ إلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ ; إذْ كَانَ الِاعْتِكَافُ لَبْثًا كَالْوُقُوفِ , وَمَا وَجَدْنَا لِهَذَا نَظِيرًا مِنْ جِنْسِهِ , فَحَمْلُهُ عَلَيْهِ ( وَرَدُّهَا إلَيْهِ ) ( أَوْلَى مِنْ رَدٍّ ) إلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ , وَكَانَ الَّذِي اُعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ الْإِمْسَاكِ : هُوَ النِّيَّةُ , وَالنِّيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ , وَاَلَّذِي اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِ الْوُقُوفِ قُرْبَةً : هُوَ الْإِحْرَامُ , وَهُوَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ , فَكَانَ شَرْطُ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ أَوْلَى مِنْ شَرْطِ النِّيَّةِ ; إذْ كَانَ الصَّوْمُ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ , وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ الِاعْتِكَافِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَبْثٌ فِي مَكَان . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ أَنَّا إذَا اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الطَّهَارَةِ كَانَ قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ مِنْ نَحْوِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ , وَمَسْحِ التَّيَمُّمِ فِي كَوْنِهِ مَرَّةً أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ الْأَعْضَاءِ ; لِأَنَّ رَدَّ الْمَسْحِ إلَى مَسْحٍ هُوَ مِنْ بَابِهِ وَمِنْ جِنْسِهِ , أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى غَسْلٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِهِ . وَنَحْوُهُ إذَا اخْتَلَفْنَا فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ , فَرَدُّوهُ إلَى ثِيَابِ الْبِذْلَةِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ , كَانَ رَدُّنَا إيَّاهُ إلَى السَّبَائِكِ , وَالنُّقَرِ , أَوْلَى فِي بَابِ إيجَابِهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهَا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّيَابُ . وَكَقَوْلِهِمْ : فِي أَنَّ أَكْثَرَ الطَّوَافِ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ , قِيَاسًا عَلَى قِيَامِ أَكْثَرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ ( إذَا كَانَتْ أَرْكَانُ الْحَجِّ : الْإِحْرَامَ ) , وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ , وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ , ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْحَقْهُ فَسَادٌ , وَقَامَ مَقَامَ الْجَمِيعِ , وَلَمْ يَقِيسُوا فِعْلَ أَكْثَرِ الطَّوَافِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ : ( أَنَّ ) أَكْثَرَهَا لَا يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي بَابِ الْإِجْزَاءِ ; إذْ كَانَ رَدُّ الطَّوَافِ إلَى مَا هُوَ فِي بَابِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْإِحْرَامِ , أَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إلَى مَا لَيْسَ مِنْ بَابِهِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ فِي الْحَادِثَةِ : إذَا كَانَتْ مِنْ أَصْلٍ مُخَالِفٍ لِأَصْلٍ آخَرَ فِي مَوْضُوعِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي ( يُخَالِفُ ) لِأَصْلِ الْحَادِثَةِ فِي مَوْضُوعِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرَدَّ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي خَالَفَ أَصْلَ الْحَادِثَةِ رَأْسًا , كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ إذَا حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ : إنَّ عَلَيْهِ دَمًا , وَقَدَّرُوا الرُّبُعَ اجْتِهَادًا , مَعَ كَوْنِ الرَّأْسِ عُضْوًا بِنَفْسِهِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ حَلْقِهِ رُبُعَ الرَّأْسِ , وَبَيْنَ حَلْقِ رُبُعِ أَحَدِ الْإِبِطَيْنِ ; لِأَنَّ لَهُ فِي الْبَدَنِ عُضْوًا نَظِيرَهُ , فَصَارَ أَخَفَّ حُكْمًا مِنْ الرَّأْسِ الَّذِي لَا مُشَارِكَ لَهُ فِي الْبَدَنِ , وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عِنْدَهُمْ كَكَشْفِ الْعَوْرَةِ , فِي أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ مَا لَهُ مِنْهَا نَظِيرٌ , وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْهَا , فِي أَنَّ كَشْفَ الرُّبُعِ يُفْسِدُ(/17)
الصَّلَاةَ , فَكَانَ يَمْنَعُ قِيَاسَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ مَوْضُوعَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصْلِ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ الْإِحْرَامِ فِي أَحْكَامِهَا . أَلَا تَرَى أَنَّ يَسِيرَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ لَا حُكْمَ لَهُ , وَأَنَّ يَسِيرَ الْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَخْلُو مِنْ إيجَابِ شَيْءٍ . فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُ أَحْكَامِهِمَا فِي الْأَصْلِ , امْتَنَعَ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . قَالَ : وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ وَالْمَعَانِي , فَإِذَا اخْتَلَفَ ( أَحْكَامُ ) الْأَصْلَيْنِ فِي مَوْضُوعِهِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ عِلِّيَّتِهِمَا الْمُوجِبَةِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا , وَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقُ الْحُكْمَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعِلَلِ الْمُوجِبِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ . قَالَ : وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْحَلْقِ , وَلَا كَشْفِ الْعَوْرَةِ فِي اعْتِبَارِ الرُّبُعِ فِيمَا يَذْهَبُ مِنْ الْأُذُنِ , وَالْعَيْنِ , أَوْ الذَّنَبِ , بَلْ اعْتَبَرُوا فِيهَا بَقَاءَ الْأَكْثَرِ , وَمَنَعُوا قِيَاسَهُ عَلَى الْحَلْقِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ لِمَا وَصَفْنَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ , وَأَبُو يُوسُفَ , ( وَمُحَمَّدٌ ) , فِيمَنْ جَامَعَ مِرَارًا فِي إحْرَامِهِ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ , أَنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ جِمَاعٍ دَمٌ عِنْدَهُمَا , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ دَمٌ وَاحِدٌ , مَا لَمْ يُكَفِّرْ , قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ رَمَضَانَ , وَلَمْ يَرُدَّاهَا عَلَى كَفَّارَةِ رَمَضَانَ , لِمُخَالَفَةِ كَفَّارَةِ الْإِحْرَامِ لِكَفَّارَةِ رَمَضَانَ فِي مَوْضُوعِهِمَا فِي الْأَصْلِ . أَلَا تَرَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا يُسْقِطُهَا الْعُذْرُ , وَأَنَّ كَفَّارَةَ رَمَضَانَ لَا تَجِبُ مَعَ الْعُذْرِ , فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُمَا فِي الْأَصْلِ , لَمْ تُرَدَّ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى . وَكَانَ يَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِنَا الْخُلْعَ عَلَى دَمِ الْعَمْدِ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْلَيْهِمَا , ; لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَوْضُوعِ أَحْكَامِهِمَا , ; لِأَنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ , وَكَذَلِكَ دَمُ الْعَمْدِ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الدَّمِ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ , وَيَجُوزُ إسْقَاطُهُ فِي الْمَرَضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ , وَيَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الْجَهَالَةِ لَا تَجْرِي مِثْلُهَا فِي الْبِيَاعَاتِ . فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفَا فِي مَوْضُوعِ أَحْكَامِهِمَا فِي الْأَصْلِ , سَاغَ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ : هُوَ ضَرْبٌ مِنْ تَرْجِيحِ الْعِلَلِ إذَا عَارَضَتْهَا عِلَلٌ غَيْرُهَا , فَيَكُونُ إلْحَاقُهَا بِجِنْسِهَا , وَ ( مَا ) هُوَ مِنْ بَابِهَا , وَفِي حُكْمِهَا أَوْلَى . فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْقِيَاسِ مَقْصُورًا عَلَى رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا , دُونَ غَيْرِهِ ( فَلَا , بَلْ ) الْقِيَاسُ جَائِزٌ عَلَى مَا هُوَ الْحَادِثَةُ , وَعَلَى مَا يُعَدُّ مِنْهَا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْحُكْمِ . وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا واعتلالاتهم تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْقَائِسِينَ يَمْنَعُ مِنْ تَجْوِيزِ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ . وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَرُدُّ الْوَطْءَ الْكَثِيرَ الْوَاقِعَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى جِهَةِ الرَّفْضِ , وَالْإِحْلَالِ , فِي بَابِ وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى دَمٍ وَاحِدٍ عَلَى الْوَطْءِ الْكَثِيرِ الْوَاقِعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ , لَمَّا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ , لَمْ يَجِبْ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ , كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ الْوَاحِدِ . وَقَدْ رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( جَوَازَ ) قَضَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ , أَكَانَ يَجْزِي عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَحَقُّ } وَرَدَّ إبَاحَةَ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ إلَى الْمَضْمَضَةِ , وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا . فَإِنْ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْقَائِسِينَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي اعْتِبَارِ الْحَادِثَةِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا , عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا , كَانَ سَائِغًا , وَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهًا يُقَوِّي فِي النَّفْسِ رُجْحَانَ الْعِلَّةِ عَلَى غَيْرِهَا , وَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَ الْجِنْسِ وَاعْتَبَرَ الْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْأُصُولِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ مُقَوِّيًا لِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ , وَ ( إنْ ) لَمْ يَرُدَّهُ إلَى جِنْسِهِ كَانَ جَائِزًا , وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ طَرِيقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ الِاجْتِهَادُ(/18)
, وَغَالِبُ الظَّنِّ . فَمَنْ اعْتَبَرَهَا بِبَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا سَاغَ لَهُ ( ذَلِكَ ) عَلَى حَسَبِ مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ عَلَمُ الْحُكْمِ , وَأَمَارَتُهُ , وَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْحَادِثَةِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ .
وفي المحلى :
684 - مَسْأَلَةٌ : وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي حُلِيِّ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ إذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِقْدَارَ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَتَمَّ عِنْدَ مَالِكِهِ عَامًا قَمَرِيًّا . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ وَلَا أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَا قِيمَتُهُمَا فِي عَرْضٍ أَصْلًا , وَسَوَاءٌ كَانَ حُلِيَّ امْرَأَةٍ أَوْ حُلِيَّ رَجُلٍ , وَكَذَلِكَ حِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَالْخَاتَمِ وَكُلِّ مَصُوغِ مِنْهُمَا حَلَّ اتِّخَاذُهُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ ؟ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَ الْحُلِيُّ لِامْرَأَةٍ تَلْبَسُهُ أَوْ تُكْرِيهِ أَوْ كَانَ لِرَجُلٍ يَعُدُّهُ لِنِسَائِهِ فَلَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ , فَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ يَعُدُّهُ لِنَفْسِهِ عِدَّةً فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا زَكَاةَ عَلَى الرَّجُلِ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ , وَالْمِنْطَقَةِ , الْمُصْحَفِ , وَالْخَاتَمِ ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا زَكَاةَ فِي حُلِيِّ ذَهَبٍ , أَوْ فِضَّةٍ ؟ وَجَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ إيجَابِهِ الزَّكَاةَ فِي حُلِيِّ امْرَأَتِهِ . وَهُوَ عَنْهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : لِي حُلِيٌّ ؟ فَقَالَ لَهَا : إذَا بَلَغَ مِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ؟ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى : مُرْ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ - : وَمِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَأْمُرُ بِالزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ ؟ وَمِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ كُلَّ عَامٍ ؟ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ إذَا أُعْطِيت زَكَاتُهُ ؟ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ , وَعَطَاءٍ , وَطَاوُسٍ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَذَرٍّ الْهَمْدَانِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ , وَاسْتَحَبَّهُ الْحَسَنُ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةَ ؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ . وَقَالَ اللَّيْثُ : مَا كَانَ مِنْ حُلِيٍّ يُلْبَسُ وَيُعَارُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ , وَمَا كَانَ مِنْ حُلِيٍّ اُتُّخِذَ لِيُحْرَزَ مِنْ الزَّكَاةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ ؟ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَابْنُ عُمَرَ : لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ; وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ , وَهُوَ عَنْهُمَا صَحِيحٌ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ , وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ; وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ طَاوُسٍ , وَالْحَسَنِ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ . وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , فَمَرَّةً رَأَى فِيهِ الزَّكَاةَ , وَمَرَّةً لَمْ يَرَهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهُنَا قَوْلُ أَنَسٍ : إنَّ الزَّكَاةَ فِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ , ثُمَّ لَا تَعُودُ فِيهِ الزَّكَاةُ . وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ : أَنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ مِنْ الْكُنُوزِ . وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ : لَا زَكَاةَ فِي قَدَحٍ مُفَضَّضٍ وَلَا فِي مِنْطَقَةٍ مُحَلَّاةٍ وَلَا فِي سَيْفٍ مُحَلًّى . قَالَ عَلِيٌّ : أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ , وَمَا عِلْمنَا ذَلِكَ التَّقْسِيمَ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ , وَلَا تَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ حُجَّةٌ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ , وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا سَقَطَتْ عَنْ الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ , وَكَذَلِكَ عَنْ الْمِنْطَقَةِ , وَالسَّيْفِ , وَحِلْيَةِ الْمُصْحَفِ , وَالْخَاتَمِ لِلرِّجَالِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَكَانَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ عَجَبًا وَلَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ(/19)
وَنِقَارَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - : مُبَاحٌ اتِّخَاذُ كُلِّ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ تَسْقُطَ الزَّكَاةُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ , إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً وَيَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ - مِمَّا لَمْ يُبَحْ لَهُ اتِّخَاذُهُ - أَنْ تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ عُقُوبَةً لَهُ , كَمَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذَا اُتُّخِذَ مِنْهُ حُلِيٌّ مُبَاحٌ اتِّخَاذُهُ فَإِنْ قَالُوا : إنَّهُ يُشْبِهُ مَتَاعَ الْبَيْتِ الَّذِي لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنْ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا ؟ قُلْنَا لَهُمْ : فَأَسْقِطُوا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ نَفْسِهَا - إنْ صَحَّحْتُمُوهَا - الزَّكَاةَ عَنْ الْإِبِلِ الْمُتَّخَذَةِ لِلرُّكُوبِ وَالسَّنِيِّ وَالْحَمْلِ وَالطَّحْنِ , وَعَنْ الْبَقَرِ الْمُتَّخَذَةِ لِلْحَرْثِ ؟ وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدُ , فَمَعَ فَسَادِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَتَنَاقُضِهَا , مِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ بِهَا ؟ وَمِنْ أَيْنَ صَحَّ لَكُمْ أَنَّ مَا أُبِيحَ اتِّخَاذُهُ مِنْ الْحُلِيِّ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ ؟ وَمَا هُوَ إلَّا قَوْلُكُمْ جَعَلْتُمُوهُ حُجَّةً لِقَوْلِكُمْ وَلَا مَزِيدَ ثُمَّ أَيْنَ وَجَدْتُمْ إبَاحَةَ اتِّخَاذِ الْمِنْطَقَةِ الْمُحَلَّاةِ بِالْفِضَّةِ وَالْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى بِالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ دُونَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ , وَالْمَهَامِيزِ الْمُحَلَّاةِ بِالْفِضَّةِ ؟ فَإِنْ ادَّعَوْا فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ السَّلَفِ ادَّعَوْا مَا لَا يَجِدُونَهُ وَأَوْجَدْنَاهُمْ عَنْ السَّلَفِ بِأَصَحِّ طَرِيقٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : رَأَيْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ , وَصُهَيْبٍ خَوَاتِيمَ ذَهَبٍ ؟ وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . فَأَسْقِطُوا لِهَذَا الزَّكَاةَ عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ ; أَوْ قِيسُوا حِلْيَةَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ عَلَى الْمِنْطَقَةِ وَالسَّيْفِ ; وَإِلَّا فَلَا النُّصُوصَ اتَّبَعْتُمْ , وَلَا الْقِيَاسَ اسْتَعْمَلْتُمْ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ ؟ وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ فَفَاسِدٌ أَيْضًا , لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حُلِيُّ النِّسَاءِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ لَا تَكُونَ فِيهِ الزَّكَاةُ , فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَفِي كُلِّ حَالٍّ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَمَا عَلِمْنَا عَلَى مَنْ اتَّخَذَ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ لِيُحْرِزَهُ مِنْ الزَّكَاةِ زَكَاةً وَلَوْ كَانَ هَذَا لَوَجَبَ عَلَى مَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمِهِ دَارًا أَوْ ضَيْعَةً لِيُحْرِزَهَا مِنْ الزَّكَاةِ أَنْ يُزَكِّيَهَا , وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهَذَا ؟ وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِالنَّمَاءِ . فَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْ الْحُلِيِّ وَعَنْ الْإِبِلِ ; وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ غَيْرِ السَّوَائِمِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا نَظَرٌ صَحِيحٌ ; وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الثِّمَارَ وَالْخُضَرَ تَنْمِي , وَهُوَ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا وَكِرَاءُ الْإِبِلِ , وَعَمَلُ الْبَقَرِ يَنْمِي , وَهُوَ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا وَالدَّرَاهِمُ لَا تَنْمِي إذَا بَقِيَتْ عِنْدَ مَالِكِهَا , وَهُوَ يَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا , وَالْحُلِيُّ يَنْمِي كِرَاؤُهُ وَقِيمَتُهُ , وَهُوَ لَا يَرَى الزَّكَاةَ فِيهِ ؟ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ , وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْ الْمُسْتَعْمَلَةِ مِنْ الْإِبِلِ , وَالْبَقَرِ , وَالْغَنَمِ ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنَّ الذَّهَبَ , وَالْفِضَّةَ قَبْلَ أَنْ يُتَّخَذَ حُلِيًّا كَانَتْ فِيهِمَا الزَّكَاةُ , ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ : قَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا حَقُّ الزَّكَاةِ . وَقَالَ آخَرُونَ : لَمْ يَسْقُطْ , فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِاخْتِلَافٍ ؟ فَقُلْنَا : هَذِهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ ; إلَّا أَنَّهَا لَازِمَةٌ لَكُمْ فِي غَيْرِ السَّوَائِمِ ; لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تُعْلَفَ , فَلَمَّا عُلِفَتْ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَمَادِيهَا , فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِاخْتِلَافٍ ؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ : وَجَدْنَا الْمَعْلُوفَةَ نُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَأْخُذُ مِنْهَا , وَوَجَدْنَا السَّوَائِمَ نَأْخُذُ مِنْهَا وَلَا نُنْفِقُ عَلَيْهَا ; وَالْحُلِيُّ يُؤْخَذُ كِرَاؤُهُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ , فَكَانَ أَشْبَهَ بِالسَّوَائِمِ مِنْهُ بِالْمَعْلُوفَةِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : وَالسَّائِمَةُ أَيْضًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا أَجْرُ الرَّاعِي . وَهَذِهِ كُلُّهَا أَهْوَاسٌ وَتَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ(/20)
بِالضَّلَالِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ بِآثَارٍ وَاهِيَةٍ , لَا وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِهَا , إلَّا أَنَّنَا نُنَبِّهُ عَلَيْهَا تَبْكِيتًا لِلْمَالِكِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِمِثْلِهَا وَبِمَا هُوَ دُونَهَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ وَهِيَ - : خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا : أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا , قَالَ : أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ فَأَلْقَتْهُمَا , وَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } . وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ , وَلَمْ يَرْوِهِ هَاهُنَا حُجَّةً ؟ - : وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ عَتَّابٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ { أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا لِي مِنْ ذَهَبٍ , فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ ؟ قَالَ : مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } . وَعَتَّابٌ مَجْهُولٌ , إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ , وَسَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ , وَهَذَا خَيْرٌ مِنْهُ ؟ - : وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ : أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ - أَخْبَرَهُ [ عَنْ ] عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ : { دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدِي سِخَابًا مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُ ؟ قُلْت : لَا , أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , فَقَالَ : هُوَ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ضَعِيفٌ , وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ بِرِوَايَتِهِ , إذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ . وَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ : أَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ رِوَايَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقٍ لَا خَيْرَ فِيهَا أَنَّهُ خَالَفَ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ الْخَبَرِ الثَّابِتِ إلَّا بِهَذَا , ثُمَّ أَخَذْتُمْ بِرَاوِيَةِ عَائِشَةَ هَذِهِ الَّتِي لَا تَصِحُّ ; وَهِيَ قَدْ خَالَفَتْهُ مِنْ أَصَحِّ طَرِيقٍ , فَمَا هَذَا التَّلَاعُبُ بِالدِّينِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : قَدْ رُوِيَ عَنْهَا الْأَخْذُ بِمَا رَوَتْ مِنْ هَذَا ؟ قُلْنَا لَهُمْ : وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْأَخْذُ بِمَا رَوَى فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : قَدْ رَوَى زَكَاةَ الْحُلِيِّ كَمَا أَوْرَدْتُمْ غَيْرُ عَائِشَةَ , وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو . قُلْنَا لَهُمْ : وَقَدْ رَوَى غَسْلَ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ ; وَهَذَا مَا لَا انْفِكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا هَذِهِ الْآثَارُ لَمَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ ; وَلَكِنْ لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } { وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ فَإِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ } وَكَانَ الْحُلِيُّ وَرِقًا وَجَبَ فِيهِ حَقُّ الزَّكَاةِ , لِعُمُومِ هَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ ؟ وَأَمَّا الذَّهَبُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ لَا يُؤَدِّي مَا فِيهَا إلَّا جُعِلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ يُكْوَى بِهَا } فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي كُلِّ ذَهَبٍ بِهَذَا النَّصِّ , وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ مِنْ الذَّهَبِ عَمَّنْ لَا بَيَانَ فِي هَذَا النَّصِّ بِإِيجَابِهَا فِيهِ ; وَهُوَ الْعَدَدُ وَالْوَقْتُ , لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا - بِلَا خِلَافٍ مِنْهَا أَصْلًا - عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُوجِبْ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْ الذَّهَبِ , وَلَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ , فَلَمَّا صَحَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالْوَقْتِ وَجَبَ أَنْ لَا يُضَافَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا صَحَّ عَنْهُ بِنَقْلِ آحَادٍ أَوْ بِنَقْلِ إجْمَاعٍ ; وَلَمْ يَأْتِ إجْمَاعٌ قَطُّ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُرِدْ إلَّا بَعْضَ أَحْوَالِ الذَّهَبِ وَصِفَاتِهِ , فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ ؟ فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَخَذْتُمْ بِقَوْلِ أَنَسٍ فِي الْحُلِيِّ بِهَذَا الدَّلِيلِ نَفْسِهِ , فَلَمْ تُوجِبُوا فِيهِ الزَّكَاةَ(/21)
إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الدَّهْرِ ؟ قُلْنَا لَهُمْ : لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ عُمُومًا , وَلَمْ يَخُصَّ الْحُلِيَّ مِنْهُ بِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهِ , لَا بِنَصٍّ وَلَا بِإِجْمَاعٍ , فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِالنَّصِّ فِي كُلِّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ , وَخَصَّ الْإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ بَعْضَ الْأَعْدَادِ مِنْهُمَا وَبَعْضَ الْأَزْمَانِ , فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا إلَّا فِي عَدَدٍ أَوْجَبَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ وَفِي زَمَانٍ أَوْجَبَهُ نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ , وَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ شَيْءٍ مِنْهُمَا ; إذْ قَدْ عَمَّهُمَا النَّصُّ ; فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ الذَّهَبِ بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ , وَصَحَّ يَقِينًا - بِلَا خِلَافٍ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كُلَّ عَامٍ , وَالْحُلِيِّ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ " إلَّا الْحُلِيَّ " بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ وَلَا إجْمَاعٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ مَالِكًا , وَأَبَا يُوسُفَ , وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ , قَالُوا : مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَا إذَا حَسِبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ دِينَارٍ بِإِزَاءِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ - زَكَّى الْجَمِيعَ زَكَاةً وَاحِدَةً , مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دِينَارٌ وَمِائَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا , أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَمِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَلَى هَذَا الْحُكْمِ أَبَدًا . فَإِنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى غَلَاءِ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ , أَوْ الدَّرَاهِمِ أَوْ رُخْصِهَا - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ ؟ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ , فَإِذَا بَلَغَ قِيمَةُ مَا عِنْدَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ , وَإِلَّا فَلَا , فَيَرَى عَلَى مَنْ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ يُسَاوِي - لِغَلَاءِ الذَّهَبِ - مِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ وَعِنْدَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ - : أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَرَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ - لَا تُسَاوِي دِينَارًا - زَكَاةً وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ; وَشَرِيكٌ ; وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : لَا يُضَمُّ ذَهَبٌ إلَى وَرِقٍ أَصْلًا ; لَا بِقِيمَةٍ وَلَا عَلَى الْأَجْزَاءِ , فَمَنْ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَيْرُ حَبَّةٍ وَعِشْرُونَ دِينَارًا غَيْرُ حَبَّةٍ - : فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِمَا , فَإِنْ كَمُلَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا زَكَّاهُ وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرَ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا أَثْمَانُ الْأَشْيَاءِ ؟ قَالَ عَلِيٌّ : فَيُقَالُ لَهُ : وَالْفُلُوسُ قَدْ تَكُونُ أَثْمَانًا أَيْضًا , فَزَكِّهَا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ الْفَاسِدِ . وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا قَدْ يُبَاعُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ , فَتَكُونُ أَثْمَانًا , فَزَكِّ الْعُرُوضَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَأَيْضًا : فَمَنْ لَكُمْ بِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا أَثْمَانًا لِلْأَشْيَاءِ وَجَبَ ضَمُّهُمَا فِي الزَّكَاةِ ؟ فَهَذِهِ عِلَّةٌ لَمْ يُصَحِّحْهَا قُرْآنٌ , وَلَا سُنَّةٌ , وَلَا رِوَايَةٌ فَاسِدَةٌ , وَلَا إجْمَاعٌ , وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ , وَلَا قِيَاسٌ يُعْقَلُ , وَلَا رَأْيٌ سَدِيدٌ وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَى فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ؟ وَأَيْضًا : فَإِذْ صَحَّحْتُمُوهَا فَاجْمَعُوا بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي الزَّكَاةِ , لِأَنَّهُمَا يُؤْكَلَانِ وَتُشْرَبُ أَلْبَانُهُمَا , وَيُجْزِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدْيِ نَعَمْ , وَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْغَنَمِ فِي الزَّكَاةِ , لِأَنَّهَا كُلَّهَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيّ وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ فَإِنْ قِيلَ : النَّصُّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : وَالنَّصُّ فَرَّقَ بَيْنَ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ , لَا يَخْلُو الذَّهَبُ , وَالْفِضَّةُ مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ , فَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَحَرَّمُوا بَيْعَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا , وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لَا يَجُوزُ , إلَّا بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّمْرِ , وَالزَّبِيبِ فِي الزَّكَاةِ , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ هَذَا , لِأَنَّهُمَا قُوتَانِ حُلْوَانِ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ بِيَقِينٍ ؟ وَأَيْضًا : فَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالْقِيمَةِ أَنْ يُزَكِّيَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَقَدْ شَاهَدْنَا الدِّينَارَ يَبْلُغُ بِالْأَنْدَلُسِ أَزْيَدَ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ , وَهَذَا(/22)
بَاطِلٌ شَنِيعٌ جِدًّا وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِتَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الذَّهَبُ رَخِيصًا أَوْ غَالِيًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الذَّهَبَ عَنْ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةَ بِالْقِيمَةِ . أَوْ تُخْرَجُ الْفِضَّةُ عَنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَهَذَا ضِدُّ مَا جَمَعَ بِهِ بَيْنَهُمَا , فَمَرَّةً رَاعَى الْقِيمَةَ لَا الْأَجْزَاءَ , وَمَرَّةً رَاعَى الْأَجْزَاءَ لَا الْقِيمَةَ , فِي زَكَاةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ بِيَقِينٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ : بَلْ أَجْمَعُ الذَّهَبَ مَعَ الْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَأُخْرِجُ عَنْهُمَا أَحَدَهُمَا بِمُرَاعَاةِ الْأَجْزَاءِ ; وَكِلَاهُمَا تَحَكُّمٌ بِالْبَاطِلِ ؟ وَأَيْضًا : فَيَلْزَمُهُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ تَجِبُ فِيهِمَا عِنْدَهُ الزَّكَاةُ - وَكَانَ الدِّينَارُ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ - فَإِنَّهُ إنْ أَخْرَجَ ذَهَبًا عَنْ كِلَيْهِمَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ رُبْعَ دِينَارٍ وَأَقَلَّ عَنْ زَكَاةِ عِشْرِينَ دِينَارًا , وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ , وَإِنْ أَخْرَجَ دَرَاهِمَ عَنْ كِلَيْهِمَا - وَكَانَ الدِّينَارُ لَا يُسَاوِي إلَّا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ - وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ , وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ ؟ فَإِنْ قَالُوا : إنَّكُمْ تَجْمَعُونَ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمَاعِزِ فِي الزَّكَاةِ , وَهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ ؟ قُلْنَا نَعَمْ , لِأَنَّ الزَّكَاةَ جَاءَتْ فِيهِمَا بِاسْمٍ يَجْمَعُهُمَا , وَهُوَ لَفْظُ " الْغَنَمِ " " وَالشَّاءِ " وَلَمْ تَأْتِ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ بِلَفْظٍ يَجْمَعُهُمَا وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الزَّكَاةُ فِي الضَّأْنِ إلَّا بِاسْمِ " الضَّأْنِ " وَلَا فِي الْمَاعِزِ إلَّا بِاسْمِ " الْمَاعِزِ " لَمَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا , كَمَا لَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ الْبَقَرِ , وَالْإِبِلِ وَلَوْ جَاءَتْ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ بِلَفْظٍ وَاسْمٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ غَيْرُ الْفِضَّةِ , وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِمِائَةٍ مِنْ الْآخَرِ , وَأَنَّ أَحَدَهُمَا حَلَالٌ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ , وَالْآخَرَ حَلَالٌ لِلنِّسَاءِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ , وَهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ , وَلَا فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ يُوجِبُونَهَا فِي عَشْرَةِ دَنَانِيرَ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لَا خَفَاءَ بِهِ ؟ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَحُجَّتُنَا فِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الزَّكَاةِ هُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ } فَكَانَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ قَدْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ أَوَاقٍ وَهَذَا خِلَافٌ مُجَرَّدٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ; وَهُمْ يُصَحِّحُونَ الْخَبَرَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا ثُمَّ يُوجِبُونَهَا فِي أَقَلَّ . وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ , وَعُمَرَ , وَابْنِ عُمَرَ : إسْقَاطُ الزَّكَاةِ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ , وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . وَأَمَّا إخْرَاجُ الذَّهَبِ عَنْ الْوَرِقِ , وَالْوَرِقِ عَنْ الذَّهَبِ , فَإِنَّ مَالِكًا , وَأَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَاهُ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَبِهِ نَأْخُذُ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ , وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ } فَمَنْ أَخْرَجَ غَيْرَ مَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ . { وَمَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } . { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } . وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ , وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ فَلَمْ يُزَكِّ ؟ ( وَأَمَّا الذَّهَبُ فَالْأُمَّةُ كُلُّهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ فِي زَكَاتِهَا الذَّهَبَ ) فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ , وَوَافَقَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ فِضَّةً عَنْ ذَهَبٍ , أَوْ عَرْضًا عَنْ أَحَدِهِمَا , أَوْ غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ ( عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) فِيمَا عَدَاهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُكْمًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ .
وفي المنتقى :(/23)
( ش ) : قَوْلُهُ كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا يُرِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ تَلِي النَّظَرَ لَهُنَّ وَأَخُوهَا الَّذِي كَانَتْ تَلِي بَنَاتِهِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ يَكُنْ شَقِيقَهَا , وَإِنَّمَا كَانَ شَقِيقُهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وِلَايَتُهَا بِإِيصَالِهِ بِهِنَّ إلَيْهَا أَوْ بِتَقْدِيمِ الْإِمَامِ لَهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَكُونُ لَهَا الْوِلَايَةُ بِالْأُخُوَّةِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْيَتِيمُ هُوَ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَاحْتَاجَ إلَى الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ وَالْحَجْرُ هُوَ الْمَنْعُ يُقَالُ فُلَانٌ فِي حَجْرِ فُلَانٍ إذَا كَانَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ لَهُنَّ الْحُلِيُّ يَقْتَضِي مِلْكَهُنَّ لَهُ , وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْنَ فِيهِ لِكَوْنِهِنَّ مَحْجُورَاتٍ فَقَدْ يَمْلِكُ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالسَّفِيهُ وَيَتَصَرَّفُ مَنْ لَا يَمْلِكُ وَهُوَ الْمُوَصَّى وَالْأَبُ وَالْإِمَامُ وَقَوْلُهُ فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاةَ الْحُلِيِّ وَلَا تَتْرُكُ مِثْلُ عَائِشَةَ إخْرَاجَهَا إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى أَنَّهَا غَيْرَ وَاجِبَةٍ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ الْحُلِيِّ وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْحُلِيَّ مُبْتَذَلٌ فِي اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ كَالثِّيَابِ . ( ص ) : ( مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيه الذَّهَبَ , ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ ) . ( ش ) : قَوْلُهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيهِ الذَّهَبَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ أَنْ يُحَلَّى النِّسَاءُ الذَّهَبَ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيه الذَّهَبَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يُمَلِّكُهُنَّ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يُزَيِّنُهُنَّ بِهِ وَيَبْقَى ذَلِكَ عَلَى مِلْكِهِ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ , ثُمَّ لَا يُخْرِجُ زَكَاتَهُ فِي حَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْحُلِيَّ الْمُتَّخَذَ لِلُّبْسِ الْمُبَاحِ لَا زَكَاةَ فِيهِ , وَهَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَإِنَّهَا زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهَا أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَإِنَّ أُخْتَهُ حَفْصَةُ كَانَتْ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُكْمُ حُلِيِّهَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَخْفَى عَنْهَا حُكْمُهُ فِيهِ .
( ص ) : ( قَالَ مَالِكٌ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ تِبْرٌ أَوْ حُلِيٌّ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ لِلُّبْسِ فَإِنَّ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَامٍ يُوزَنُ فَيُؤْخَذُ رُبْعُ عُشْرِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وَزْنِ عِشْرِينَ دِينَارًا عَيْنًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ الزَّكَاةُ , وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ إنَّمَا يُمْسِكُهُ لِغَيْرِ اللُّبْسِ وَأَمَّا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ الْمَكْسُورُ الَّذِي يُرِيدُ أَهْلُهُ إصْلَاحَهُ وَلُبْسَهُ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ زَكَاةٌ ) .
( ش ) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ تِبْرٌ أَوْ حُلِيٌّ لَا يُرِيدُهُ لِلُّبْسِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ ; لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُعَدَّةِ لِلتَّنْمِيَةِ وَلِذَلِكَ يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَمَلِ وَهُوَ الصِّيَاغَةُ وَنِيَّةُ اللُّبْسِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ اللُّبْسُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلتَّنْمِيَةِ وَطَلَبِ الْفَضْلِ مَعَ الصِّيَاغَةِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا الْأَمْرَانِ الصِّيَاغَةُ الْمُبَاحَةُ وَنِيَّةُ اللُّبْسِ الْمُبَاحِ . ( فَرْعٌ ) : وَسَوَّى مَالِكٌ بَيْنَ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمِيرَاثٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَنْ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ فَهُوَ لِلتِّجَارَةِ وَمَنْ نَوَى بِهِ الْقُنْيَةَ فَهُوَ عَلَى الْقُنْيَةِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ إنَّ الصِّيَاغَةَ وَالنِّيَّةَ قَدْ وُجِدَتَا فِيهِ فَأَمَّا الْعُرُوض فَيُعْتَبَرُ فِي شِرَائِهَا النِّيَّةُ عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا وَأَمَّا مَا مُلِكَ مِنْهَا بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ يَنْوِي بِذَلِكَ قُنْيَةً أَوْ تِجَارَةً , وَأَمَّا الْمَاشِيَةُ الَّتِي تَبْلُغُ النِّصَابَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ مَلَكَهَا بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ نَوَى بِهَا الْقُنْيَةَ أَوْ التِّجَارَةَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .(/24)
( مَسْأَلَةٌ ) : الصِّيَاغَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الصِّيَاغَةُ الْمُبَاحَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلنِّسَاءِ وَهُوَ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا لِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ وَفِي الْجَسَدِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ وَمَا يَتَّخِذُهُ النِّسَاءُ لِشُعُورِهِنَّ وَأَزْرَارِ جُيُوبِهِنَّ وَأَقْفَالِ ثِيَابِهِنَّ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى اللِّبَاسِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ يُرِيدُ بِأَقْفَالِ ثِيَابِهِنَّ مَا يُتَّخَذُ فِي الثِّيَابِ الْمُفَرَّجَةِ كَالْأَزْرَارِ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ وَمَا يُتَّخَذُ لِلْمَرَايَا وَأَقْفَالِ الصَّنَادِيقِ وَتَحْلِيَةِ الْمُذَابِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ .
( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا مَا يُبَاحُ مِنْ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ فَفِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ السَّيْفُ وَالْخَاتَمُ وَالْمُصْحَفُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَنَسٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } وَأَمَّا السَّيْفُ فَإِنَّ فِيهِ إعْزَازَ الدِّينِ وَإِرْهَابًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَإِنَّ فِيهِ إعْزَازَ الْقُرْآنِ وَجَمَالًا لِلْمُصْحَفِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ كَالرُّمْحِ وَالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالْمِنْطَقَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ مِنْ الْفِضَّةِ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْمِنْطَقَةِ الْمُفَضَّضَةِ وَالْأَسْلِحَةِ كُلِّهَا وَمَنَعَ ذَلِكَ فِي السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَالْمَهَامِيزِ وَالسَّكَاكِينِ , وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ لَا بَأْسَ بِتَفْضِيضِ جَمِيعِ مَا يَكُونُ مِنْ آلَةِ الْحَرْبِ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَغَيْرِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهِ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مَا يُحَلِّي بِهِ الْأَذْكَارَ وَهُوَ الْمُصْحَفُ . وَالثَّانِي : مَا يَخْتَصُّ بِالْحَرْبِ وَهُوَ السَّيْفُ . وَالثَّالِثُ : مَا يَخْتَصُّ بِاللِّبَاسِ وَهُوَ الْخَاتَمُ وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مِنْ بَابِ الذِّكْرِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصْحَفُ وَمَا يَسْتَعْمِلُ مِنْهُ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْخَاتَمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ فِي بَابِ الْحَرْبِ وَاحِدًا وَهُوَ السَّيْفُ , وَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ السَّيْفَ يُبَاحُ فِيهِ ذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يُمْتَنَعَ سِوَاهُ . وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ آلَةَ الْحَرْبِ مِمَّا فِيهِ إرْهَابٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَمَّا السَّرْجُ وَاللِّجَامُ وَالْمَهَامِيزُ فَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرْبِ بَلْ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَرْبِ وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا يَخْلُو الْحَرْبُ مِنْهُ فَفِيهِ إرْهَابٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَجَازَ تَفْضِيضُهُ كَالسَّيْفِ . ( فَرْعٌ ) فَهَذَا مَا يُبَاحُ لِلرَّجُلِ مِنْ التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا لِلضَّرُورَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ مَنْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ رَبَطَ بِهِ أَسْنَانَهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ مُبَاحٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { أَحَدَ الصَّحَابَةِ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ } .
( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَكَايِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحَلَّى بِهِ الْجَسَدُ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ , وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجُلَّابِ اقْتِنَاؤُهُ حَرَامٌ , وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَمَسَائِلُ أَصْحَابِنَا تَقْتَضِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ بَيْعَ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ اتِّخَاذُهَا لَوَجَبَ فَسْخُ الْبَيْعِ فِيهَا وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا بِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ يَكْسِرُ الْأَوَانِيَ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ . ( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ عَامٍ يُرِيدُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ فِيهِ كَتَكْرِيرِهَا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَالزَّكَاةُ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَنِصَابُهُ كَنِصَابِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ .(/25)
( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ " وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا كَانَ إنَّمَا يُمْسِكُهُ لِغَيْرِ اللُّبْسِ " يُرِيدُ إذَا اتَّخَذَهُ لِغَيْرِ لُبْسٍ مِنْ الْمُتَّخِذِ لَهُ وَلَا لِلُبْسِ غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ , وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ لِتِجَارَةٍ أَوْ اتَّخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ عُدَّةً لِلدَّهْرِ إنْ احْتَاجَتْ بَاعَتْهُ فَفِيهِ عَلَيْهَا الزَّكَاةُ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ . وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ عِنْدَهُ حُلِيٌّ لِلِبَاسٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُتَّخَذْ لِلُبْسِ الْمُتَّخِذِ وَلَا لِلُبْسٍ آخَرَ بِسَبَبِهِ . ( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ لِلُّبْسِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَلْبَسَهُ الْمُتَّخِذُ لَهُ أَوْ يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ بِسَبَبِهِ فَأَمَّا مَا اتَّخَذَهُ لِلُبْسِهِ فَهُوَ مِثْلُ مَا يَتَّخِذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْحُلِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَ إبَاحَتِهِ وَتَتَّخِذُهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ لَهَا فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ فِيهِ , وَكَذَلِكَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ لِلْعَارِيَّةِ ; لِأَنَّهُ مُتَّخَذٌ لِلُبْسٍ مُبَاحٍ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِذَلِكَ مِنْ الْقُرْبَةِ بِالْعَارِيَّةِ .
( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا إذَا اُتُّخِذَ الْحُلِيُّ لِلْكِرَاءِ فَإِنْ اتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهَا مِنْ حُلِيِّهَا أَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ مِنْ حُلِيِّهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ لَا يَلْبَسُهُ , وَإِنَّمَا اتَّخَذَهُ لِيُكْرِيَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مَا أَظُنُّ فِيهِ زَكَاةً . وَأَمَّا إنْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ حُلِيَّ النِّسَاءِ لِلْكِرَاءِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : فِيهِ الزَّكَاةُ , وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ حَكَى عَنْ مَالِكٍ قَوْلًا مُطْلَقًا فِيمَنْ اتَّخَذَهُ يُكْرِيه : فِيهِ الزَّكَاةُ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ . وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مُتَّخَذٌ لِلُّبْسِ بِسَبَبِ الْمُتَّخِذِ فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ . وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ وَرِقٌ أَوْ ذَهَبٌ مُعَدٌّ لِلنَّمَاءِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْمُتَّخَذِ لِلتِّجَارَةِ .
( مَسْأَلَةٌ ) : وَأَمَّا اتِّخَاذُ الرَّجُلِ حُلِيَّ النِّسَاءِ لِيَلْبَسَهُ أَهْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَنْ اتَّخَذَهُ لَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ , وَإِنْ اتَّخَذَهُ لِامْرَأَةٍ يُسْتَقْبَلُ نِكَاحُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَسْتَأْنِفُ شِرَاءَهَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَالْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : فِيهِ الزَّكَاةُ . وَرُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ وَأَصْبَغَ لَا زَكَاةَ فِيهِ . وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ حَبِيبٍ بِأَنَّ الْمُتَّخِذَ لَهُ لَيْسَ مِنْ لِبَاسِهِ وَلَا صَارَ إلَى مَا أَمَلَ مِنْهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لِبَاسِهِ وَلَا عِنْدَهُ حِينَ اتِّخَاذِهِ أَهْلٌ لِلتَّحَلِّي بِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْإِبَاحَةِ . وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ مُتَّخَذٌ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ فَأَثَّرَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ اتَّخَذَ حُلِيَّ سَيْفٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَوْ خَاتَمٍ يَرْصُدُهُ لِوَلَدٍ أَوْ لِعَارِيَّةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ قَالَ , وَكَذَلِكَ مَا اتَّخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ لَا لِتَلْبَسَهُ وَلَكِنْ لِابْنَةٍ عَسَى أَنْ تَكُونَ لَهَا .
( فَصْلٌ ) : وَقَوْلُهُ التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ الْمَكْسُورُ الَّذِي يُرِيدُ أَهْلُهُ إصْلَاحَهُ وَلُبْسَهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرِيدُ إصْلَاحَهُ لِلُّبْسِ الْمُبَاحِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَدَامُ فِيهِ شَرْطُ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ , وَهَذَا إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ إصْلَاحَهُ لِلُبْسِهَا أَوْ لِلُبْسِ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ بِسَبَبِهَا وَأَمَّا إصْلَاحُ الرَّجُلِ مَا لِلنِّسَاءِ لِيَرْصُدَ بِهِ امْرَأَةً يَتَزَوَّجُهَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ يُزَكِّيه . وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يُزَكِّيه وَأَنْكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ إصْلَاحَهُ بِمُعَاوَضَةٍ فَيَلْزَمُهُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ نَوَى إصْلَاحَهُ لِلْبَيْعِ وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ مَا أَصْدَقَهُ الزَّوْجُ الْمَرْأَةَ مِنْ الْحُلِيِّ مُقْتَضَاهُ لِجَمَالِهَا بِهِ لَهُ وَلَيْسَ لَهَا الِاسْتِبْدَادُ بِتَصْرِيفِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهَا فَأَثَّرَ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ أَبْقَاهُ فِي مِلْكِهِ وَحَلَّى بِهِ نِسَاءَهُ .
وفي بدائع الصنائع :(/26)
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا صِفَةُ هَذَا النِّصَابِ فَنَقُولُ : لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا النِّصَابِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى كَوْنِهِ فِضَّةً فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً , أَوْ نُقْرَةً , أَوْ تِبْرًا , أَوْ حُلِيًّا مَصُوغًا , أَوْ حِلْيَةَ سَيْفٍ , أَوْ مِنْطَقَةٍ أَوْ لِجَامٍ أَوْ سَرْجٍ أَوْ الْكَوَاكِبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْأَوَانِي , وَغَيْرِهَا إذَا كَانَتْ تَخْلُصُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ , وَسَوَاءٌ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ , أَوْ لِلنَّفَقَةِ , أَوْ لِلتَّجَمُّلِ , أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا . وَهَذَا عِنْدَنَا , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ إذَا كَانَ مُعَدًّا لِلُبْسٍ مُبَاحٍ أَوْ لِلْعَارِيَّةِ لِلثَّوَابِ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : فِي قَوْلٍ لَا شَيْءَ فِيهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما وَاحْتُجَّ بِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ { لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ } , وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : زَكَاةُ الْحُلِيِّ إعَارَتُهُ , وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مُبَاحٍ فَلَا يَكُونُ نِصَابُ الزَّكَاةِ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ بِخِلَافِ حُلِيِّ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي وَجْهٍ مَحْظُورٍ , وَهَذَا ; لِأَنَّ الِابْتِذَالَ إذَا كَانَ مُبَاحًا كَانَ مُعْتَبَرًا شَرْعًا وَإِذَا كَانَ مَحْظُورًا كَانَ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا , فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ . نَظِيرُهُ ذَهَابُ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ مَعَ ذَهَابِهِ بِسَبَبِ السُّكْرِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْأَوَّلُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الثَّانِي كَذَا هَذَا . وَلَنَا قوله تعالى { : وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِكَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَرْكٍ إنْفَاقِهِمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ . وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَكَانَ تَارِكُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهُ كَانِزًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَلَا يَلْحَقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَالٍ وَمَالٍ ; وَلِأَنَّ الْحُلِيَّ مَالٌ فَاضِلٌ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْإِعْدَادُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ دَلِيلُ الْفَضْلِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ نِعْمَةً لِحُصُولِ التَّنَعُّمِ بِهِ فَيَلْزَمُهُ شُكْرُهَا بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْهَا لِلْفُقَرَاءِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ صَيَارِفَةِ الْحَدِيثِ : أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ شَيْءٌ فِي بَابِ الْحُلِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مُعَارَضٌ بِالْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ زَكَّى حُلِيَّ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْبَعْضِ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ , مَعَ مَا أَنَّ تَسْمِيَةَ إعَارَةِ الْحُلِيِّ زَكَاةً لَا تَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْمَعْهُودَةِ إذَا قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ . وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ فِضَّةً خَالِصَةً , فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْفِضَّةُ فَكَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا مَغْمُورٌ مُسْتَهْلَكٌ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وَالزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمُزَيَّفَةِ . قَالَ : لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا كُلِّهَا الْفِضَّةُ وَمَا تَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا . وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْغِشُّ وَالْفِضَّةُ فِيهَا مَغْلُوبَةٌ , فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ كَانَ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ الَّتِي الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا . وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِأَنْ كَانَتْ كَبِيرَةً ; لِأَنَّ الصُّفْرَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ , وَالْفِضَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ كَمَعْرُوضِ التِّجَارَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا ثَمَنًا رَائِجَةً اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ . وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فُلُوسٌ أَوْ دَرَاهِمُ رَصَاصٌ أَوْ نُحَاسٌ أَوْ مُمَوَّهَةٌ بِحَيْثُ(/27)
لَا يَخْلُصُ فِيهَا الْفِضَّةُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهَا , فَإِنْ بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْفِضَّةُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصُّفْرَ وَنَحْوَهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ . وَعَلَى هَذَا كَانَ جَوَابُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهَرِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُسَمَّاةِ بِالْغَطَارِفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي دِيَارِنَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً فَإِنْ كَانَتْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا أَيْضًا , وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْفِضَّةِ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا , أَوْ بِالضَّمِّ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ . وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يُفْتَى بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ مِائَتَيْنِ فِيهَا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ مِنْهَا عَدَدًا . وَكَانَ يَقُولُ : " هُوَ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ فِينَا بِمَنْزِلَةِ الْفِضَّةِ فِيهِمْ وَنَحْنُ أَعْرَفُ بِنُقُودِنَا " وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ وَالسَّرَخْسِيِّ , وَقَوْلُ السَّلَفِ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفِقْهِ . وَلَوْ زَادَ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : وَعَلَى هَذَا أَبَدًا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزِّيَادَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا يَجِبُ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ . وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مِثْلُ قَوْلِهِمْ وَلَا خِلَافَ فِي السَّوَائِمِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزَّوَائِدِ مِنْهَا عَلَى النِّصَابِ حَتَّى تَبْلُغَ نِصَابًا احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { : وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ } وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ , وَلِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الزَّكَاةَ عُرِفَ وُجُوبُهَا شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ . وَمَعْنَى النِّعْمَةِ يُوجَدُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ , وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهُ بِالنَّصِّ , وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَصْلِ النِّصَابِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي السَّوَائِمِ لَا تُعْتَبَرُ مَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا دَفْعًا لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ , وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ هَهُنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ , وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ } . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ { : لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا فَإِذَا كَانَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ , وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ شَيْئًا حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذَ مِنْهَا دِرْهَمًا } وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كُلِّ نِصَابٍ عَفْوٌ نَظَرًا لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي السَّوَائِمِ , وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْكُسُورِ حَرْجًا وَأَنَّهُ مَدْفُوعٌ . وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه لَمْ يَرْفَعْهُ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بَلْ شَكُّوا فِي قَوْلِهِ : " وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ " أَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَوْلُ عَلِيٍّ فَإِنْ كَانَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ حُجَّةً , وَإِنْ كَانَ قَوْلَ عَلِيٍّ رضي الله عنه لَا يَكُونُ حُجَّةً ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ . وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَا , وَمَا ذَكَرُوا مِنْ شُكْرِ النَّعْمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ مَعْنَى النَّعْمَةِ هُوَ التَّنَعُّمُ , وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِمَا دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ يَبْطُلُ بِالسَّوَائِمِ مَعَ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ , وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ(/28)
أَعْلَمُ .
وفي المغني :
( 1887 ) فَصْلٌ : وَإِذَا انْكَسَرَ الْحُلِيُّ كَسْرًا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ وَاللُّبْسَ , فَهُوَ كَالصَّحِيحِ , لَا زَكَاةَ فِيهِ , إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كَسْرَهُ وَسَبْكَهُ , فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ , لِأَنَّهُ نَوَى صَرْفَهُ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ . وَإِنْ كَانَ الْكَسْرُ يَمْنَعُ الِاسْتِعْمَالَ , فَقَالَ الْقَاضِي : عِنْدِي أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ وَالتِّبْرِ .
( 1888 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْحُلِيُّ لِلُّبْسِ , فَنَوَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ التِّجَارَةَ , انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ نَوَتْ ; لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ الْأَصْلُ , وَإِنَّمَا انْصَرَفَ عَنْهُ لِعَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ , فَعَادَ إلَى الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ , فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى بِعَرْضِ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ , انْصَرَفَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ .
( 1891 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اتَّخَذَتْ الْمَرْأَةُ حُلِيًّا لَيْسَ لَهَا اتِّخَاذُهُ , كَمَا إذَا اتَّخَذَتْ حِلْيَةَ الرِّجَالِ كَحِلْيَةِ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ , فَهُوَ مُحَرَّمٌ , وَعَلَيْهَا الزَّكَاةُ , كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ .
( 1892 ) فَصْلٌ : وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ , مِثْلُ السِّوَارِ وَالْخَلْخَالِ وَالْقُرْطِ وَالْخَاتَمِ , وَمَا يَلْبَسْنَهُ عَلَى وُجُوهِهِنَّ , وَفِي أَعْنَاقِهِنَّ , وَأَيْدِيهِنَّ , وَأَرْجُلِهِنَّ , وَآذَانِهِنَّ وَغَيْرِهِ , فَأَمَّا مَا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ , كَالْمِنْطَقَةِ وَشِبْهِهَا مِنْ حُلِيِّ الرِّجَالِ , فَهُوَ مُحَرَّمٌ , وَعَلَيْهَا زَكَاتُهُ , كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ حُلِيَّ الْمَرْأَةِ .
وفي المجموع :(/29)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى : ( وَمَنْ مَلَكَ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , فَإِنْ كَانَ مُعَدًّا لِلْقُنْيَةِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمَصُوغِ , وَإِنْ كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ لِاسْتِعْمَالٍ مُحَرَّمٍ كَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَتَّخِذُهُ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ مِنْ سِوَارٍ أَوْ صُوفِ أَوْ خَاتَمِ ذَهَبٍ , أَوْ مَا يُحَلَّى بِهِ الْمُصْحَفُ أَوْ يُؤَزَّرُ بِهِ الْمَسْجِدُ أَوْ يُمَوَّهُ بِهِ السَّقْفُ أَوْ كَانَ مَكْرُوهًا كَالتَّضْبِيبِ الْقَلِيلِ لِلزِّينَةِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ ; لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ أَصْلِهِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاحٍ , فَسَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ , وَإِنْ كَانَ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ كَحُلِيِّ النِّسَاءِ وَمَا أُعِدَّ لَهُنَّ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ فَفِيهِ قَوْلَانِ ( أَحَدُهُمَا ) لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } وَلِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْعَوَامِلِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ , ( وَالثَّانِي ) تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ , وَاسْتَخَارَ اللَّهَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْيَمَنِ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا ابْنَتُهَا فِي يَدِهَا مُسْكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ الذَّهَبِ , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ فَقَالَتْ : لَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَأَشْبَهَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ , وَفِيمَا لُطِّخَ بِهِ اللِّجَامُ وَجْهَانِ . قَالَ أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلَمَةَ : هُوَ مُبَاحٌ كَاَلَّذِي حُلِّيَ بِهِ الْمِنْطَقَةُ وَالسَّيْفُ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَقَالَ أَبُو إسْحَاقَ لَا يَحِلُّ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِأَنَّهُ هَذَا حِلْيَةٌ لِلدَّابَّةِ بِخِلَافِ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ , فَإِنَّ ذَلِكَ حِلْيَةٌ فِي الْحَرْبِ فَحَلَّ . وَإِنْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ حُلِيٌّ فَانْكَسَرَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ لُبْسُهُ إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ لِلُّبْسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لُبْسُهُ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ تَفَتَّتَ , ( وَالثَّانِي ) لَا تَجِبُ لِأَنَّهُ لِلْإِصْلَاحِ وَاللُّبْسُ أَقْرَبُ , وَإِنْ كَانَ لَهَا حُلِيٌّ مُعَدٌّ لِلْإِجَارَةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَوْلًا وَاحِدًا ; لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِطَلَبِ النَّمَاءِ فَأَشْبَهَ إذَا اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ , ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ ; لِأَنَّ النَّمَاءَ الْمَقْصُودَ قَدْ فُقِدَ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْأُجْرَةِ قَلِيلٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ كَأُجْرَةِ الْعَوَامِلِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ . وَإِذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي حُلِيٍّ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِالْكَسْرِ مَلَكَ الْفُقَرَاءُ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْهُ وَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ بِتَسْلِيمِ مِثْلِهِ لِيَسْتَقِرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الرُّطَبِ الَّذِي لَا يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ . وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : يُخْرِجُ زَكَاتَهُ بِالْقِيمَةِ ; لِأَنَّهُ يَشُقُّ تَسْلِيمُ بَعْضِهِ , وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ) .(/30)
الشَّرْحُ ) أَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَعَدَمِهَا , فَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مُسْكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ , فَقَالَ لَهَا : أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا . قَالَ : أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا . وَهَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ , فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا رَوَاهُ الْمُثَنَّى بْنُ صَبَاحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ , وَالْمُثَنَّى وَابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفَانِ . قَالَ : وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ . هَذَا آخِرُ كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ , وَهَذَا التَّضْعِيفُ الَّذِي ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَاءً عَلَى انْفِرَادِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ بِهِ , وَلَيْسَ هُوَ مُفْرَدًا بَلْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ , وَحُسَيْنٌ ثِقَةٌ بِلَا خِلَافٍ ; رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ مَرْفُوعًا كَمَا سَبَقَ , وَمِنْ رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ مُرْسَلًا , ثُمَّ قَالَ : خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنْ مُعْتَمِرٍ , وَحَدِيثُ مُعْتَمِرٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ فَقُلْت : صُغْتهنَّ أَتَزَيَّنُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ قُلْت : لَا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ , قَالَ : هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ } وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { كُنْت أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : مَا بَلَغَ أَنْ يُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ , وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ نَافِعٍ , وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : " أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيُّ فَلَا تُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ " وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها : " أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَهَا الذَّهَبَ وَلَا تُزَكِّيه نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا " . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ فِي الْأُمِّ , وَرَوَاهَا عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ . ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : " سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحُلِيِّ أَفِيه زَكَاةٌ ؟ فَقَالَ جَابِرٌ : لَا فَقَالَ : وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ جَابِرٌ : كَثِيرٌ " قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَا أَدْرِي أَثَبَتَ عَنْهُمَا مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ : لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةً . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْهُمَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . قَالَ : وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ وَرَوَى فِيهِ شَيْئًا ضَعِيفًا . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَكَأَنَّهُ أَرَادَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ السَّابِقَ ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ كَمَا سَبَقَ , وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ بِبَعْضِهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : حُسَيْنُ أَوْثَقُ مِنْ الْحَجَّاجِ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ كَالْمُتَوَقِّفِ فِي رِوَايَاتِ عَمْرِو بْنِ(/31)
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ إذَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا لِأَنَّهُ قِيلَ : إنَّ رِوَايَاتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهَا صَحِيفَةٌ كَتَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ عَمْرِو مِنْ أَبِيهِ , وَسَمَاعِ أَبِيهِ مِنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , قَالَ : وَقَدْ انْضَمَّ إلَى حَدِيثِهِ هَذَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الْفَتَخَاتِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : مَنْ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ زَعَمَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَانَتْ حِين كَانَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ , فَلَمَّا أُبِيحَ لَهُنَّ سَقَطَتْ زَكَاتُهُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ حَدِيثِ عَائِشَةَ إنْ كَانَ ذِكْرُ الْوَرِقِ فِيهِ مَحْفُوظًا ؟ غَيْرَ أَنَّ رِوَايَةَ الْقَاسِمِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي تَرْكِهَا إخْرَاجَ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا مِنْ إخْرَاجِ زَكَاةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى يُوقِعُ رِيبَةً فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَرْفُوعَةِ ; فَهِيَ لَا تُخَالِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَتْهُ عَنْهُ إلَّا فِيمَا عَلِمَتْهُ مَنْسُوخًا . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : زَكَاةُ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ , رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَاَلَّذِي يَرْوِيه فُقَهَاؤُنَا عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } لَا أَصْلَ لَهُ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ ; وَاَلَّذِي يُرْوَى عَنْ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا لَا أَصْلَ لَهُ وَعَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ مَجْهُولٌ , فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ مَرْفُوعًا كَانَ مُغَرَّرًا بِدِينِهِ دَاخِلًا فِيمَا نَعِيبُ بِهِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الْكَذَّابِينَ وَاَللَّهُ يَعْصِمُنَا مِنْ أَمْثَالِهِ . هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ , فَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ , وَحَصَلَ فِي ضِمْنِهِ بَيَانُ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ , وَهُمَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ , وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . ( أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ ) فَمَقْصُودُهُ بَيَانُ مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ مِنْ الْحُلِيِّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , وَمَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً أَوْ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً . وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهُ قَدْ سَبَقَ بَيَانُ جُمَلٍ مِنْهُ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ , وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمهمْ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَحِلُّ مِنْ الْحُلِيِّ وَيَحْرُمُ فِي هَذَا الْبَابِ لِيُعْلَمَ حُكْمُ الزَّكَاةِ فِيهِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ : فَكُلُّ مُتَّخِذٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ إذَا حَكَمَ بِتَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِلَا خِلَافٍ , وَنَقَلُوا فِيهِ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مُبَاحًا كَحُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ وَالْمِنْطَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) عِنْدَ الْأَصْحَابِ : لَا , كَمَا لَا تَجِبُ فِي ثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَعَوَامِلِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ , وَهَذَا مَعَ الْآثَارِ السَّابِقَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَهَذَا نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَالْقَدِيمِ ; وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ : وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ; وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُزَنِيّ وَابْنُ الْقَاصِّ فِي الْمِفْتَاحِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ , وَالْغَزَالِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ ; وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَآخَرُونَ لَا يُحْصَوْنَ , وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ الْمَحَامِلِيُّ فِي الْمُقْنِعِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي الْكِفَايَةِ , وَالْمُصَنِّفُ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَالْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ التَّحْرِيرِ وَالْبُلْغَةِ , وَالشَّيْخُ نَصْرُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْكَافِي وَآخَرُونَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْفُورَانِيِّ : إنَّ الْقَدِيمَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَالْجَدِيدَ لَا تَجِبُ , فَغَلَطٌ صَرِيحٌ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ , بَلْ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا تَجِبُ وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ نُصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ , وَنُصَّ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ لَا تَجِبُ كَمَا نُصَّ فِي الْقَدِيمِ , وَالْمَذْهَبُ لَا تَجِبُ كَمَا ذَكَرْنَا , هَذَا إذَا كَانَ مُعَدًّا لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ كَمَا(/32)
سَبَقَ . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَوْ اتَّخَذَ حُلِيًّا وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا مُحَرَّمًا وَلَا مَكْرُوهًا وَلَا مُبَاحًا بَلْ قَصَدَ كَنْزًا وَاقْتِنَاءً , فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ , قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِيهِ خِلَافًا , وَلَوْ اتَّخَذَ حُلِيًّا مُبَاحًا فِي عَيْنِهِ لَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا وَلَا كَنْزًا وَاقْتِنَاءً , أَوْ اتَّخَذَ لِيُؤَجِّرَهُ فَإِنْ قُلْنَا : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْمُبَاحِ فَهُنَا أَوْلَى , وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ , كَمَا لَوْ اتَّخَذَهُ لِيُعِيرَهُ وَلَا أَثَرَ لِلْأُجْرَةِ كَأُجْرَةِ الْمَاشِيَةِ الْعَوَامِلِ وَالثَّانِي تَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا , لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلنَّمَاءِ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ , وَصَحَّحَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ , وَالْأَصَحُّ لَا زَكَاةَ فِيهِ صَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ , وَقَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي الْمُجَرَّدِ وَآخَرُونَ بِأَنَّ الْمُتَّخَذَ لِلْإِجَارَةِ مُبَاحٌ وَفِي زَكَاتِهِ الْقَوْلَانِ .
( فَرْعٌ ) : فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ , قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ , وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنُ الْخَطَّابِ , وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد : يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ وَالزُّهَرِيِّ , وَاحْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ وَالْآثَارِ , وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وقال ابن تيمية :(/33)
وَلَوْ احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ : فَهَلْ يُجْبَرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مَأْثُورَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ للمهنع : وَاَللَّهِ لَنُجْرِيَنَّهَا وَلَوْ عَلَى بَطْنِك . وَمَذْهَبُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : أَنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَارِيَتُهُ . وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْمَنَافِعُ الَّتِي يَجِبُ بَذْلُهَا نَوْعَانِ : مِنْهَا مَا هُوَ حَقُّ الْمَالِ ؛ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَعَارِيَةِ الْحُلِيِّ . وَمِنْهَا مَا يَجِبُ لِحَاجَةِ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ بَذْلَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَجِبُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ ؛ وَإِفْتَاءُ النَّاسِ ؛ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ ؛ وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ ؛ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ وَالْجِهَادُ ؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَبْدَانِ ؛ فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ بَذْلِ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ لِلْمُحْتَاجِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَقَالَ : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ؛ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : ( أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا . وَ ( الثَّانِي لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَ ( الثَّالِثُ يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ . وَ ( الرَّابِعُ يَجُوزُ . فَإِنْ أَخَذَ أَجْرًا عِنْدَ الْعَمَلِ لَمْ يَأْخُذْ عِنْدَ الْأَدَاءِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا كَانَتْ السُّنَّةُ قَدْ مَضَتْ فِي مَوَاضِعَ بِأَنَّ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِثَمَنِ مُقَدَّرٍ : إمَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَإِمَّا بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ : لَمْ يَحْرُمْ مُطْلَقًا تَقْدِيرُ الثَّمَنِ . ثُمَّ إنَّ مَا قَدَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاءِ نَصِيبِ شَرِيكِ الْمُعْتِقِ هُوَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ ؛ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ حَاجَةً عَامَّةً فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ ؛ وَلِهَذَا يَجْعَلُ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ حُقُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحُدُودًا لِلَّهِ ؛ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَحُدُودِهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ ؛ وَالصَّدَقَاتِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِثْلِ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَقْتُلُ شَخْصًا لِأَجْلِ الْمَالِ يُقْتَلُ حَتْمًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَيْسَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الْعَفُوُّ عَنْهُ ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْتُلُ شَخْصًا لِغَرَضِ خَاصٍّ ؛ مِثْلَ خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ؛ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ : لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدِ بِعَيْنِهِ ؛ فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ ؛ لَكِنَّ تَكْمِيلَ الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ ؛ فَلَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا الثَّمَنَ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا شَاءَ وَهُنَا عُمُومُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ شِرَاءُ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ لِأَنْفُسِهِمْ ؛ فَلَوْ مُكِّنَ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى سِلْعَتِهِ أَنْ لَا يَبِيعَ إلَّا بِمَا شَاءَ لَكَانَ ضَرَرُ النَّاسِ أَعْظَمَ . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ كَانَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ عَنْ إيجَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقْدِيرِهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ . وَتَنَازَعَ أَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ التَّسْعِيرِ لِلنَّاسِ إذَا كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ وَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ الْعَامَّةِ فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي أَمْرُ الْمُحْتَكِرِ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السِّعْرِ فِي ذَلِكَ فَنَهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ فَإِنْ رُفِعَ التَّاجِرُ فِيهِ إلَيْهِ ثَانِيًا حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ زَجْرًا لَهُ أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ(/34)
أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَعَدَّوْنَ وَيَتَجَاوَزُونَ الْقِيمَةَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ : سَعَّرَ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ . وَإِذَا تَعَدَّى أَحَدٌ بَعْدَ مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ وَكَذَا عِنْدَهُمَا أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ . وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ . وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ؟ قِيلَ : هُوَ [ عَلَى ] الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي مَالِ الْمَدْيُونِ . وَقِيلَ : يَبِيعُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ . وَالسِّعْرُ لَمَّا غَلَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبُوا مِنْهُ التَّسْعِيرَ فَامْتَنَعَ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ ؛ بَلْ عَامَّةُ مَنْ كَانُوا يَبِيعُونَ الطَّعَامَ إنَّمَا هُمْ جَالِبُونَ يَبِيعُونَهُ إذَا هَبَطُوا السُّوقَ ؛ لَكِنْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ : نَهَاهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسَارٌ وَقَالَ : " { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } " وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَنَهَى الْحَاضِرَ الْعَالِمَ بِالسِّعْرِ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَادِي الْجَالِبِ لِلسِّلْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَوَكَّلَ لَهُ مَعَ خِبْرَتِهِ بِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَغْلَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ فَنَهَاهُ عَنْ التَّوَكُّلِ لَهُ - مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْوِكَالَةِ مُبَاحٌ - لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ . وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ وَهَذَا أَيْضًا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَجُعِلَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ إلَى السُّوقِ الْخِيَارُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْبَائِعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَغَبْنِهِ فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ لِهَذَا الْبَائِعِ . وَهَلْ هَذَا الْخِيَارُ فِيهِ ثَابِتٌ مُطْلَقًا أَوْ إذَا غَبَنَ ؟ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد . أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا غَبَنَ وَالثَّانِي يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ طَائِفَةٌ : بَلْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي إذَا تَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ . وَفِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلَالٌ حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِالسِّعْرِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَيَعْلَمُ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ . وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ : لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شَاءَ وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ كَمَا يَقُولُ : وَلِلْبَادِي أَنْ يُوَكِّلَ الْحَاضِرَ . وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَأَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ ؛ فَإِنَّ الْجَالِبَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ السِّعْرَ كَانَ جَاهِلًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَارًّا لَهُ ؛ وَلِهَذَا أَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ . وَالْمُسْتَرْسِلُ : الَّذِي لَا يُمَاكِسُ وَالْجَاهِلُ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِبِينَ الْجَاهِلِينَ بِالسِّعْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَبِيعَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا بِالسِّعْرِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُحْتَاجِينَ إلَى الِابْتِيَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْبَائِعِ ؛ لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ بِالْقِيمَةِ أَوْ مُسْلِمِينَ إلَى الْبَائِعِ غَيْرَ مماكسين لَهُ وَالْبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا وَالرِّضَا يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَبْنٌ فَقَدْ يَرْضَى وَقَدْ لَا يَرْضَى فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَبَنَ وَرَضِيَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى سَخَطِهِ . وَلِهَذَا أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْخِيَارَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ أَوْ التَّدْلِيسِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الصِّحَّةُ وَأَنْ يَكُونَ الْبَاطِنَ كَالظَّاهِرِ . فَإِذَا اشْتَرَى عَلَى ذَلِكَ فَمَا عَرَفَ رِضَاهُ إلَّا بِذَلِكَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِي السِّلْعَةِ غِشًّا أَوْ عَيْبًا فَهُوَ كَمَا لَوْ وَصَفَهَا بِصِفَةِ وَتَبَيَّنَتْ بِخِلَافِهَا فَقَدْ يَرْضَى وَقَدْ لَا يَرْضَى فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا فَسَخَ الْبَيْعَ . وَفَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ(/35)
بْنِ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } " . وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ؛ وَكَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ يَتَضَرَّرُ بِدُخُولِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ فَشَكَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ بَدَلَهَا أَوْ يَتَبَرَّعَ لَهُ بِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ فَأَذِنَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي قَلْعِهَا وَقَالَ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ : إنَّمَا أَنْتَ مُضَارٌّ } . فَهُنَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهَا أَنْ يَبِيعَهَا ؛ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْبَيْعِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي وَأَيْنَ حَاجَةُ هَذَا مِنْ حَاجَةِ عُمُومِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ ؟ وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْجُرُونَ فِي الطَّعَامِ بِالطَّحْنِ وَالْخُبْزِ . وَنَظِيرُ هَؤُلَاءِ صَاحِبُ الْخَانِ والقيسارية وَالْحَمَّامُ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ وَهُوَ إنَّمَا ضَمِنَهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا فَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ إدْخَالِ النَّاسِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَهُمْ يَحْتَاجُونَ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ وَأُلْزِمَ بِبَذْلِ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ؛ كَمَا يُلْزَمُ الَّذِي يَشْتَرِي الْحِنْطَةَ وَيَطْحَنُهَا لِيَتَّجِرَ فِيهَا وَاَلَّذِي يَشْتَرِي الدَّقِيقَ وَيَخْبِزُهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى مَا عِنْدَهُ ؛ بَلْ إلْزَامُهُ بِبَيْعِ ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْلَى وَأَحْرَى بَلْ إذَا امْتَنَعَ مِنْ صَنْعَةِ الْخُبْزِ وَالطَّحْنِ حَتَّى يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِذَلِكَ أُلْزِمَ بِصَنْعَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ تَنْدَفِعُ إذَا عَمِلُوا مَا يَكْفِي النَّاسَ بِحَيْثُ يَشْتَرِي إذْ ذَاكَ بِالثَّمَنِ الْمَعْرُوفِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَسْعِيرٍ . وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَاجَةُ النَّاسِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ الْعَادِلِ سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ ؛ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ .
وفي الطرق الحكمية :(/36)
111 - ( فَصْلٌ ) فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ قَوْمًا اُضْطُرُّوا إلَى السُّكْنَى فِي بَيْتِ إنْسَانٍ , وَلَا يَجِدُونَ سِوَاهُ , أَوْ النُّزُولِ فِي خَانٍ مَمْلُوكٍ , أَوْ اسْتِعَارَةِ ثِيَابٍ يَسْتَدْفِئُونَ بِهَا , أَوْ رَحًى لِلطَّحْنِ , أَوْ دَلْوٍ لِنَزْعِ الْمَاءِ , أَوْ قِدْرٍ , أَوْ فَأْسٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بَذْلُهُ بِلَا نِزَاعٍ , لَكِنْ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أَجْرًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ . وَمَنْ جَوَّزَ لَهُ أَخْذَ الْأُجْرَةِ حَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ . قَالَ شَيْخُنَا : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ ذَلِكَ مَجَّانًا , كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ : " هُوَ إعَارَةُ الْقِدْرِ وَالدَّلْوِ وَالْفَأْسِ وَنَحْوِهِمْ " . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ الْخَيْلَ - قَالَ : { هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ , وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ , وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ , فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ : فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ : فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا , وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا , وَلَا فِي ظُهُورِهَا } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَيْضًا : { مِنْ حَقِّ الْإِبِلِ : إعَارَةُ دَلْوِهَا , وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ : { أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ } أَيْ عَنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ , وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ , فَأَوْجَبَ بَذْلَهُ مَجَّانًا , وَمَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ } . وَلَوْ احْتَاجَ إلَى إجْرَاءِ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ , مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ , فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ؟ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ , وَالْإِجْبَارُ : قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم . وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : " إنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ , فَإِذَا لَمْ يُعِرْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ زَكَاتِهِ " , وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . قُلْتُ : وَهُوَ الرَّاجِحُ , وَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْحُلِيُّ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ . وَالْمَنَافِعُ الَّتِي يَجِبُ بَذْلُهَا نَوْعَانِ , مِنْهَا : مَا هُوَ حَقُّ الْمَالِ , كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْخَيْلِ , وَالْإِبِلِ , وَالْحُلِيِّ , وَمِنْهَا : مَا يَجِبُ لِحَاجَةِ النَّاسِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ بَذْلَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ تَجِبُ عِنْدَ الْحَاجَةِ , كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ , وَإِفْتَاءِ النَّاسِ , وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ , وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ , وَالْجِهَادِ , وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الْأَبْدَانِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَمْكَنَهُ إنْجَاءُ إنْسَانٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ , فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ - مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ - أَثِمَ وَضَمِنَهُ . فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ بَذْلِ مَنَافِعِ الْأَمْوَالِ لِلْمُحْتَاجِ , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَقَالَ : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } وَلِلْفُقَهَاءِ فِي أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ , وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يَجُوزُ , فَإِنْ أَخَذَهُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لَمْ يَأْخُذْهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ مَا قَدَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الثَّمَنِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ : هُوَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ , وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ , وَمَا احْتَاجَ إلَيْهِ النَّاسُ , حَاجَةً عَامَّةً , فَالْحَقُّ فِيهِ لِلَّهِ , وَذَلِكَ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ . فَأَمَّا الْحُقُوقُ : فَمِثْلُ حُقُوقِ الْمَسَاجِدِ وَمَالِ الْفَيْءِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الْحَاجَاتِ وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ , وَالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ . وَأَمَّا الْحُدُودُ : فَمِثْلُ حَدِّ الْمُحَارَبَةِ , وَالسَّرِقَةِ , وَالزِّنَا , وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ . وَحَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ إلَى الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ , لَيْسَ الْحَقُّ فِيهَا لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ , فَتَقْدِيرُ الثَّمَنِ فِيهَا بِثَمَنِ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ لِتَكْمِيلِ الْحُرِّيَّةِ , لَكِنَّ تَكْمِيلَ الْحُرِّيَّةِ(/37)
وَجَبَ عَلَى الشَّرِيكِ الْمُعْتَقِ , وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ فِيهَا الثَّمَنُ لَتَضَرَّرَ بِطَلَبِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ , فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مَا شَاءَ , وَهُنَا عُمُومُ النَّاسِ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ وَالثِّيَابَ لِأَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ , فَلَوْ مُكِّنَ مَنْ عِنْدَهُ سِلَعٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهَا أَنْ يَبِيعَ بِمَا شَاءَ : كَانَ ضَرَرُ النَّاسِ أَعْظَمَ ; وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إذَا اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِ الْغَيْرِ : وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ . وَأَبْعَدُ الْأَئِمَّةِ عَنْ إيجَابِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَقْدِيرِهَا هُوَ الشَّافِعِيُّ : وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ : أَنْ يَبْذُلَهُ لَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ , وَتَنَازَعَ أَصْحَابُهُ فِي جَوَازِ تَسْعِيرِ الطَّعَامِ , إذَا كَانَ بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ , وَلَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ , إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ضَرَرِ الْعَامَّةِ , فَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي : أَمَرَ الْمُحْتَكِرَ بِبَيْعِ مَا فَضَلَ مِنْ قُوتِهِ وَقُوتِ أَهْلِهِ , عَلَى اعْتِبَارِ السِّعْرِ فِي ذَلِكَ , وَنَهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ , فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ , زَجْرًا لَهُ , وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ . قَالُوا : فَإِنْ تَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ , وَتَجَاوَزُوا الْقِيمَةَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا , وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ : سَعَّرَهُ حِينَئِذٍ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْبَصِيرَةِ . وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ , حَيْثُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ . وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ : صَحَّ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَيْهِ . قَالُوا : وَهَلْ يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ؟ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي بَيْعِ مَالِ الدَّيْنِ , وَقِيلَ : يَبِيعُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ , لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ , وَالسِّعْرُ لَمَّا غَلَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلَبُوا مِنْهُ التَّسْعِيرَ فَامْتَنَعَ , لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ , بَلْ عَامَّةُ مَنْ كَانَ يَبِيعُ الطَّعَامَ إنَّمَا هُمْ جَالِبُونَ يَبِيعُونَهُ إذَا هَبَطُوا السُّوقَ , وَلَكِنْ { نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ } أَيْ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِمْسَارٌ . وَقَالَ : { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } فَنَهَى الْحَاضِرَ الْعَالَمَ بِالسِّعْرِ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَادِي الْجَالِبِ لِلسِّلْعَةِ , لِأَنَّهُ إذَا تَوَكَّلَ لَهُ - مَعَ خِبْرَتِهِ بِحَاجَةِ النَّاسِ - أَغْلَى الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَنَهَاهُ عَنْ التَّوَكُّلِ لَهُ , مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْوَكَالَةِ مُبَاحٌ , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ , وَنَهَى عَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ , وَجَعَلَ لِلْبَائِعِ إذَا هَبَطَ السُّوقَ الْخِيَارَ ; وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضُرِّ الْبَائِعِ هُنَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَرَفَ السِّعْرَ , وَتَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي قَبْلَ إتْيَانِهِ إلَى السُّوقِ اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَغَبَنَهُ , فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِهَذَا الْبَائِعِ الْخِيَارَ . ثُمَّ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَمَا تَقَدَّمَ , إحْدَاهُمَا : أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ لَهُ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ غَبَنَ أَمْ لَمْ يَغْبِنْ , وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ عِنْدَ الْغَبْنِ , وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي إذَا تَلَقَّاهُ الْمُتَلَقِّي , فَاشْتَرَى مِنْهُ , ثُمَّ بَاعَهُ وَفِي الْجُمْلَةِ : فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الَّذِي جِنْسُهُ حَلَالٌ , حَتَّى يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِالسِّعْرِ , وَهُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ , وَيَعْلَمَ الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ . وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ : لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ حَيْثُ شَاءَ , وَقَدْ اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ , كَمَا يَقُولُ : فَلَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِلْبَائِعِ الْحَاضِرِ وَغَيْرِ الْحَاضِرِ , وَلَكِنَّ الشَّارِعَ رَاعَى الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ , فَإِنَّ الْجَالِبَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ السِّعْرَ كَانَ جَاهِلًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ , فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي غَارًّا لَهُ . وَأَلْحَقَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِذَلِكَ كُلَّ مُسْتَرْسِلٍ , فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِبِ الْجَاهِلِ بِالسِّعْرِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ : أَلَّا يَبِيعَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إلَّا بِالسِّعْرِ الْمَعْرُوفِ , وَهُوَ ثَمَنُ(/38)
الْمِثْلِ , وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إلَى الِابْتِيَاعِ مِنْهُ , لَكِنْ لِكَوْنِهِمْ جَاهِلِينَ بِالْقِيمَةِ , أَوْ غَيْرَ مُمَاكِسِينَ , وَالْبَيْعُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَا , وَالرِّضَا يَتْبَعُ الْعِلْمَ , وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَبْنٌ فَقَدْ يَرْضَى , وَقَدْ لَا يَرْضَى , فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ غَبْنٌ وَرَضِيَ , فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَفِي " السُّنَنِ " : { أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ , وَكَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ يَتَضَرَّرُ بِدُخُولِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ , فَشَكَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَدَلَهَا , أَوْ يَتَبَرَّعَ لَهُ بِهَا , فَلَمْ يَفْعَلْ , فَأَذِنَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَهَا , وَقَالَ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ : إنَّمَا أَنْتَ مُضَارٌّ } . وَصَاحِبُ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ يَقُولُ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ شَجَرَتَهُ , وَلَا يَتَبَرَّعُ بِهَا , وَلَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَهَا , لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ , وَإِجْبَارٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَيْهِ , وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهَا أَنْ يَبِيعَهَا , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِخَلَاصِهِ مِنْ تَأَذِّيه بِدُخُولِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ , وَمَصْلَحَةِ صَاحِبِ الشَّجَرَةِ بِأَخْذِ الْقِيمَةِ , وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ يَسِيرٌ , فَضَرَرُ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِبَقَائِهَا فِي بُسْتَانِهِ أَعْظَمُ , فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَيْسَرِهِمَا , فَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ وَالْقِيَاسُ وَالْمَصْلَحَةُ , وَإِنْ أَبَاهُ مَنْ أَبَاهُ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْبَيْعِ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُشْتَرِي , وَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَاجَةِ عُمُومِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ ؟ وَالْحُكْمُ فِي الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهَا - كَمَنَافِعِ الدُّورِ , وَالطَّحْنِ , وَالْخَبْزِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ - حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَجِمَاعُ الْأَمْرِ : أَنَّ مَصْلَحَةَ النَّاسِ إذَا لَمْ تَتِمَّ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ . سَعَّرَ عَلَيْهِمْ تَسْعِيرَ عَدْلٍ , لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ , وَإِذَا انْدَفَعَتْ حَاجَتُهُمْ وَقَامَتْ مَصْلَحَتُهُمْ بِدُونِهِ : لَمْ يَفْعَلْ , وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وفي نصب الراية :
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ ( لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ ) ( فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ ) لِمَا رَوَيْنَا . وَالْمِثْقَالُ : مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , وَهُوَ الْمَعْرُوفُ ( ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ , وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا , إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله , وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ , وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ , وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ , فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .(/39)
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ قَوْلُهُ : فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا , وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ , فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ , لِمَا رَوَيْنَا , قُلْت : يُشِيرُ إلَى حَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي زَكَاةِ الْفِضَّةِ , وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ رحمه الله , وَفِيهِ { مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ } . أَحَادِيثُ الْبَابِ : أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى ثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ , وَعَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ , وَمِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا : دِينَارًا } . انْتَهَى . قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْإِمَامِ " : وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ مُجَمِّعٍ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , هَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ , وَنَسَبَهُمَا فِي حَدِيثِهِ , وَابْنُ مُجَمِّعٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ : لَا شَيْءَ , وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ , وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ , فَإِنَّهُ كَثِيرُ الْوَهْمِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . حَدِيثٌ آخَرُ } : رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ النَّخَعِيّ ثَنَا الْعَرْزَمِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَيْءٌ , وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ , وَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا ذَهَبًا نِصْفُ مِثْقَالٍ } انْتَهَى . أَحَادِيثُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ : فِيهِ أَحَادِيثُ عَامَّةٌ , وَأَحَادِيثُ خَاصَّةٌ , فَالْعَامَّةُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ , أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " , وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ , وَحَدِيثُ عَلِيٍّ : هَاتُوا صَدَقَةَ الرَّقَّةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ , رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ , قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الرِّقَةُ : الْفِضَّةُ , سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمَ أَوْ غَيْرَهَا , نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " التَّحْقِيقِ " , وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ , وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ } , رَوَاهُ النَّسَائِيُّ , وَابْنُ حِبَّانَ , وَالْحَاكِمُ , وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَدْخُولَةِ , وَقَدْ تَقَدَّمَتْ جَمِيعَهَا . وَأَمَّا الْخَاصَّةُ : فَمِنْهَا حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ عليه السلام , وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا , وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسْكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ , فَقَالَ لَهَا : أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ : لَا , قَالَ : أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارًا مِنْ نَارٍ ؟ , قَالَ : فَخَلَعَتْهُمَا , فَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ عليه السلام , وَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ } . انْتَهَى . قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ , وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : إسْنَادُهُ لَا مَقَالَ فِيهِ , فَإِنَّ أَبَا دَاوُد رَوَاهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ , وَحُمَيْدَ بْنِ مَسْعَدَةَ , وَهُمَا مِنْ الثِّقَاتِ , احْتَجَّ بِهِمَا مُسْلِمٌ , وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ إمَامٌ فَقِيهٌ , احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ , وَمُسْلِمٌ , وَكَذَلِكَ حُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ احْتَجَّا بِهِ فِي " الصَّحِيحِ " , وَوَثَّقَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ , وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ , وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ , فَهُوَ مَنْ قَدْ عُلِمَ , وَهَذَا إسْنَادٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . انْتَهَى . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرٍو , قَالَ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ , فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا , قَالَ النَّسَائِيُّ : وَخَالِدٌ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنْ مُعْتَمِرٍ , وَحَدِيثُ مُعْتَمِرٍ أَوْلَى بِالصَّوْبِ . انْتَهَى . طَرِيقٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ , قَالَ : { أَتَتْ امْرَأَتَانِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ , فَقَالَ لَهُمَا : أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتَا : لَا , فَقَالَ : أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ قَالَتَا : لَا , قَالَ : فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ } انْتَهَى . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَرَوَاهُ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ , نَحْوَ هَذَا ,(/40)
وَابْنُ لَهِيعَةَ , وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ يُضَعَّفَانِ فِي الْحَدِيثِ , وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ . انْتَهَى . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : لَعَلَّ التِّرْمِذِيَّ قَصَدَ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا , وَإِلَّا فَطَرِيقُ أَبِي دَاوُد لَا مَقَالَ فِيهَا انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد : وَإِنَّمَا ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ عِنْدَهُ فِيهِ ضَعِيفَيْنِ : ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ . انْتَهَى . وَبِسَنَدِ التِّرْمِذِيِّ رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي " مَسَانِيدِهِمْ " , وَأَلْفَاظُهُمْ : قَالَ لَهُمَا : { فَأَدِّيَا زَكَاةَ هَذَا الَّذِي فِي أَيْدِيكُمَا } , وَهَذَا اللَّفْظُ يَرْفَعُ تَأْوِيلَ مَنْ يَحْمِلْهُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ شُرِعَتْ لِلزِّيَادَةِ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . طَرِيقٌ آخَرُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ , وَهِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا التِّرْمِذِيُّ . طَرِيقٌ آخَرُ : أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " , والدارقطني فِي " سُنَنِهِ " عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرٍو بِهِ , وَالْحَجَّاجُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ . { حَدِيثٌ آخَرُ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيُّ ثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ , قَالَ : { دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها , قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ , فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ فَقُلْت : صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ : أَفَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ فَقُلْت : لَا , قَالَ : هُنَّ حَسْبُك مِنْ النَّارِ } انْتَهَى . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ بِهِ , وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ , وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ , وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ بِهِ , فَنَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ دُونَ أَبِيهِ , ثُمَّ قَالَ : وَمُحَمَّدُ بْنُ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ انْتَهَى . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَعْرِفَةِ " : وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ , لَكِنَّهُ لَمَّا نُسِبَ إلَى جَدِّهِ ظَنَّ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ . انْتَهَى . وَتَبِعَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي تَجْهِيلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ عَبْدُ الْحَقِّ فِي " أَحْكَامِهِ " . وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ , فَقَالَ : إنَّهُ لَمَّا نُسِبَ فِي سَنَدِ الدَّارَقُطْنِيِّ إلَى جَدِّهِ خَفِيَ عَلَى الدَّارَقُطْنِيِّ أَمْرُهُ , فَجَعَلَهُ مَجْهُولًا , وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ , وَإِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ , أَحَدُ الثِّقَاتِ , وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد , وَبَيَّنَهُ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيُّ , وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ إمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ , وَرَوَاهُ أَبُو نَشِيطٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ , كَمَا هُوَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ , فَقَالَ فِيهِ : مُحَمَّدُ بْنُ عَطَاءٍ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ , فَلَا أَدْرِي أَذَلِكَ مِنْهُ , أَمْ مِنْ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ . انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْإِمَامِ " : وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ , وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ , وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ , وَالْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ . انْتَهَى . { حَدِيثٌ آخَرُ } : أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ { أُمِّ سَلَمَةَ , قَالَتْ : كُنْت أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ , فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَكَنْزٌ هُوَ ؟ فَقَالَ مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزَكِّي , فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } . انْتَهَى . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ , وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ , وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ . انْتَهَى . وَلَفْظُهُ : { إذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي " سُنَنِهِمَا " , قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ , قَالَ فِي " تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ " : وَهَذَا لَا يَضُرُّ , فَإِنَّ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ , وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " : رَوَى(/41)
عَنْ الْقُدَمَاءِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَعَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ , وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ , قَالَ النَّسَائِيّ فِيهِ ثِقَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : صَالِحُ الْحَدِيثِ , وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ فِيهِ : لَا يُحْتَجُّ بِهِ , قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " التَّحْقِيقِ " : مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ , قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ , قَالَ فِي " التَّنْقِيحِ " : وَهَذَا وَهْمٌ قَبِيحٌ , فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُهَاجِرٍ الْكَذَّابَ لَيْسَ هُوَ هَذَا , فَهَذَا الَّذِي يَرْوِي عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ ثِقَةٌ شَامِيٌّ , أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " , وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ , وَابْنُ مَعِينٍ , وَأَبُو زُرْعَةَ , وَدُحَيْمٌ , وَأَبُو دَاوُد , وَغَيْرُهُمْ . وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ , وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ : كَانَ مُتْقِنًا , وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ الْكَذَّابُ , فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فِي زَمَانِ ابْنِ مَعِينٍ . وَعَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ , وَرَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً . انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي " الْإِمَامِ " : وَقَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ فِي ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ : لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ تَحَامُلٌ مِنْهُ , إذْ لَا يَمَسُّ بِهَذَا إلَّا مَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالثِّقَةِ . فَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِالثِّقَةِ فَانْفِرَادُهُ لَا يَضُرُّهُ , وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ أَكَانَ ثِقَةً , فَسَكَتَ , إذْ لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ عَلَى شَيْءٍ , وَقَدْ يَكُونُ سُكُوتُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ , وَمَنْ عَرَفَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ , أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ , فَيَكُونُ إمَّا صَدُوقًا , أَوْ صَالِحًا , أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ , أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مُصْطَلَحَاتِهِمْ , وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي " كِتَابِهِ " لَمْ يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ , وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ أَيْضًا : لَا يُحْتَجُّ بِهِ . تَحَامُلٌ أَيْضًا , وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ قَدْ قَبِلَ رِوَايَتَهُ لَيْسُوا مِثْلَهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , انْتَهَى . { حَدِيثٌ آخَرُ } : أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ { أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ , قَالَتْ : دَخَلْتُ أَنَا وَخَالَتِي عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام , وَعَلَيْنَا أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ , فَقَالَ لَنَا : أَتُعْطِيَانِ زَكَاتَهُ ؟ فَقُلْنَا : لَا , قَالَ : أَمَا تَخَافَانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ أَسْوِرَةً مِنْ نَارٍ , أَدِّيَا زَكَاتَهُ } . انْتَهَى . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ رَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ بِالْكَذِبِ . وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَيْثَمٍ , قَالَ ابْنُ مَعِينٍ : أَحَادِيثُهُ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ , وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ , قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ , وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : كَانَ يَرْوِي عَنْ الثِّقَاتِ الْمُعْضِلَاتِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . { حَدِيثٌ آخَرُ } : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ عَنْ الشَّعْبِيِّ , قَالَ : سَمِعْت { فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ , تَقُولُ : أَتَيْت النَّبِيَّ عليه السلام بِطَوْقٍ فِيهِ سَبْعُونَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ , فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْ مِنْهُ الْفَرِيضَةَ , فَأَخَذَ مِنْهُ مِثْقَالًا , وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ مِثْقَالٍ } . انْتَهَى . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ مَتْرُوكٌ , وَلَمْ يَأْتِ بِهِ غَيْرُهُ , قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : وَقَالَ غُنْدَرٌ : هُوَ كَذَّابٌ . وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ , وَابْنُ الْمَدِينِيِّ : لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَنَصْرُ بْنُ مُزَاحِمٍ , قَالَ أَبُو خَيْثَمٍ : كَانَ كَذَّابًا , وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ , وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ انْتَهَى . وَفِي " الْإِمَامِ " , قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : هُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ , وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ . انْتَهَى . قُلْت : أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي " تَارِيخِ أَصْفَهَانَ فِي بَابِ الشِّينِ " عَنْ شَيْبَانُ بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ بِهِ , سَوَاءً . { حَدِيثٌ آخَرُ } : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ عليه السلام : إنَّ لِامْرَأَتِي حُلِيًّا مِنْ ذَهَبٍ عِشْرِينَ مِثْقَالًا , قَالَ : فَأَدِّ زَكَاتَهُ نِصْفَ مِثْقَالٍ } . انْتَهَى . ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ قَبِيصَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم(/42)
فَقَالَتْ : إنَّ لِي حُلِيًّا , وَإِنَّ زَوْجِي خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ , أَفَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ أَجْعَلَ زَكَاةَ الْحُلِيِّ فِيهِمْ ؟ , قَالَ : نَعَمْ } . انْتَهَى . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : وَالْحَدِيثَانِ وَهْمٌ , وَالصَّوَابُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مُرْسَلٌ مَوْقُوفٌ . انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " : وَرَوَى هَذَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ , وَإِنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا , فَإِنَّهُ يُخْطِئُ كَثِيرًا , وَقَدْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِ الثَّوْرِيِّ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ , فَوَقَفَهُ . انْتَهَى . قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْإِمَامِ " : وَقَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ مُخَرَّجٌ لَهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " , وَقَدْ أَكْثَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . { حَدِيثٌ آخَرُ } : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام , قَالَ : { فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } . انْتَهَى . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : أَبُو حَمْزَةَ هَذَا مَيْمُونٌ , وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ انْتَهَى . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " التَّحْقِيقِ " : وَقَالَ أَحْمَدُ : هُوَ مَتْرُوكٌ . وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِثِقَةٍ . انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَعْرِفَةِ " : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حِينَ كَانَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ , فَلَمَّا أُبِيحَ لَهُنَّ سَقَطَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ , قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها , وَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ , وَحَدِيثِ أَسْمَاءَ , وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِلُبْسِهِ , مَعَ الْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ , وَحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَيْضًا : { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدِي فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ } , إنْ كَانَ ذِكْرُ الْوَرِقِ فِيهِ مَحْفُوظًا . انْتَهَى . الْآثَارُ : رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُصَنَّفِهِ " حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ يَسَارٍ , قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنْ : مُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ , وَلَا يَجْعَلْنَ الزِّيَادَةَ وَالْهَدِيَّةَ بَيْنَهُنَّ تَقَارُضًا . انْتَهَى . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " : هُوَ مُرْسَلٌ . أَثَرٌ آخَرُ : أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " مُصَنَّفِهِ " عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ : فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ . انْتَهَى . مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ , رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ " . أَثَرٌ آخَرُ : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إلَى خَازِنِهِ سَالِمٍ : أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حُلِيِّ بَنَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ , وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ . انْتَهَى . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَطَاوُسٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ , زَادَ ابْنُ شَدَّادٍ حَتَّى فِي الْخَاتَمِ , وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا . وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمْ قَالُوا : السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ الزَّكَاةَ . انْتَهَى . أَحَادِيثُ الْخُصُومِ : رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ رحمه الله فِي " التَّحْقِيقِ " بِسَنَدِهِ عَنْ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ عليه السلام , قَالَ : { لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } . انْتَهَى . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَعْرِفَةِ " : وَمَا رُوِيَ عَنْ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا : { لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } , فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ , إنَّمَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ , وَعَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ مَجْهُولٌ , فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ مَرْفُوعًا , كَانَ [ مُغَرِّرًا لِدِينِهِ ] , دَاخِلًا فِيمَا نَعِيبُ بِهِ الْمُخَالِفِينَ , مِنْ الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الْكَذَّابِينَ . انْتَهَى . وَقَالَ الشَّيْخُ فِي " الْإِمَامِ " : رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِنَا الْمُنْذِرِيِّ رحمه الله : وَعَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ مَا يُوجِبُ تَضْعِيفَهُ , قَالَ الشَّيْخُ : وَيَحْتَاجُ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ إلَى ذِكْرِ مَا يُوجِبُ تَعْدِيلَهُ . انْتَهَى . الْآثَارُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتَه , وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ , ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ(/43)
, وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ , أَنْبَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ . انْتَهَى . أَثَرٌ آخَرُ : رَوَاهُ مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَلِيَ بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا , فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ . انْتَهَى . كِلَاهُمَا فِي " الْمُوَطَّأِ " . أَثَرٌ آخَرُ : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ , قَالَ : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الْحُلِيِّ , فَقَالَ : لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ . انْتَهَى . أَثَرٌ آخَرُ : رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ , ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ جِهَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , قَالَ : سَمِعْت ابْنَ خَالِدٍ يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْحُلِيِّ , أَفِيهِ زَكَاةٌ ؟ قَالَ جَابِرٌ : لَا , فَقَالَ : وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ جَابِرٌ : كَثِيرٌ انْتَهَى أَثَرٌ آخَرُ : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَهَا الذَّهَبَ , وَلَا تُزَكِّيهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفٍ , قَالَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " : قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا لَا يَرَوْنَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةً : أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ , وَجَابِرٌ , وَابْنُ عُمَرَ , وَعَائِشَةُ , وَأَسْمَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وفي الفروع :
وَلَا زَكَاةَ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ فِي عَرْضٍ وَحَيَوَانٍ وَعَقَارٍ وَشَجَرٍ وَنَبَاتٍ ( و ) سِوَى مَا سَبَقَ , وَلَا فِي قِيمَةِ مَا أُعِدَّ لِلْكِرَاءِ مِنْ عَقَارٍ وَحَيَوَانٍ وَغَيْرِهِمَا ( و ) وَنَقَلَ مُهَنَّا : إنْ اتَّخَذَ سَفِينَةً أَوْ أَرْحِيَةً لِلْغَلَّةِ فَلَا زَكَاةَ , يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَمُعَاذٍ رضي الله عنهم : لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ . وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي ذَلِكَ تَخْرِيجًا مِنْ الْحُلِيِّ الْمُعَدِّ لِلْكِرَاءِ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي حُلِيِّ الْكِرَاءِ , قَالَ : لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْكِرَاءِ حُكْمًا , فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ فِي النَّقْدِ , وَفَرَّقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ , فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِمَعْنًى يُخْرِجُهُ عَنْ طَلَبِ النَّمَاءِ وَيُقْصَدُ بِهِ الِابْتِذَالُ الْمَخْصُوصُ , وَهُنَا الْأَصْلُ عَدَمُهَا , فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِالنَّمَاءِ الْمَقْصُودِ , وَهُوَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ .(/44)
قَالَ شَيْخُنَا , وَإِعْطَاءُ السُّؤَالِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إنْ صَدَقُوا , وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { لَوْ صَدَقَ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ } وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا , وَأَجَابَ بِأَنَّ السَّائِلَ إذَا قَالَ : أَنَا جَائِعٌ , وَظَهَرَ صِدْقُهُ , وَجَبَ إطْعَامُهُ , وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ قوله تعالى { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَإِنْ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ لَمْ يَجِبْ إعْطَاؤُهُمْ , وَلَوْ سَأَلُوا مُطْلَقًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجِبْ إعْطَاؤُهُمْ وَلَوْ أَقْسَمُوا ; لِأَنَّ إبْرَارَ الْقَسَمِ إنَّمَا هُوَ إذَا أَقْسَمَ عَلَى مُعَيَّنٍ , وَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا مِنْ الْخَبَرِ هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ : { لَوْلَا أَنَّ الْمَسَاكِينَ يَكْذِبُونَ مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُمْ } وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ , وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ , قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا : لَيْسَ بِصَحِيحٍ . وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ وَنَحْوِهِ وَاجِبٌ ( عِ ) مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ الزَّكَاةَ إلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِك فَقَدْ قَضَيْت مَا عَلَيْك } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا , وَلِمَالِكٍ هَذَا الْمَعْنَى , وَكَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ سَعِيدٌ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ } وَذَكَرَ عِقَابَهُ . وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ { مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ } وَذَكَرَ عِقَابَهُ وَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ { أَنَا مَالُك أَنَا كَنْزُك } قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهَا , قَالَ ( م ) يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ وَإِنْ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ , وَهَذَا ( ع ) أَيْضًا , قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ , وَاخْتَارَ الْآجُرِّيُّ أَنَّ فِي الْمَال حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ , وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ , قَالَ : نَحْوُ مُوَاسَاةِ قَرَابَةٍ وَصِلَةِ إخْوَانٍ وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ دَلْوهَا , وَرُكُوبِ ظَهْرِهَا , وَإِطْرَاقِ فَحْلِهَا وَسَقْيِ مُنْقَطِعٍ حَضَرَ حِلَابَهَا حَتَّى يُرْوَى . وَسَبَقَ حَدِيثُ جَابِرٍ آخِرُ زَكَاةِ السَّائِمَةِ , فَالْعَمَلُ بِهِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ أَوْلَى . وَقَدْ قِيلَ فِي مَوْضِعٍ : إنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُوَاسَاةُ , وَهَذَا يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ , وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ , وَهَذَا ضَعِيفٌ إنْ كَانَتْ الزَّكَاةُ مَكِّيَّةً , وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا } وَالزَّكَاةُ وَجَبَتْ قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَتَيْنِ , بِلَا شَكٍّ , وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِ إنْ صَحَّ { إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِك فَقَدْ قَضَيْت مَا عَلَيْك } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَسَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ , وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَالِكِيُّ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَالُوا : إنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْآيَةَ الْمُرَادُ بِهَا الزَّكَاةُ , وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقُّ سِوَى الزَّكَاةِ , وَمَا جَاءَ غَيْرُ ذَلِكَ حُمِلَ عَلَى النَّدْبِ , وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ , وَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ , قَالَ : وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَمَسْرُوقٌ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ , وَأَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ , مِنْ فَكِّ الْأَسِيرِ وَإِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الْعُسْرِ وَصِلَةِ الْقَرَابَةِ , كَذَا قَالَ , وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ , وَهَذَا عَجِيبٌ , وَهُوَ غَرِيبٌ .(/45)
فَأَمَّا الْخِضَابُ لِلرَّجُلِ فَذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَا لَا تَشَبُّهَ فِيهِ بِالنِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ , وَلَا دَلِيلَ لِلْمَنْعِ , وَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ : لَهُ الْخِضَابُ بِالْحِنَّاءِ , وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ : كَرِهَهُ أَحْمَدُ [ قَالَ أَحْمَدُ ] : لِأَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ . وَقَالَ شَيْخُنَا : هُوَ بِلَا حَاجَةٍ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ ( و ش ) . ثُمَّ احْتَجَّ بِلَعْنِ الْمُتَشَبِّهِينَ وَالْمُتَشَبِّهَات , وَسَبَقَتْ مَسْأَلَةُ التَّشَبُّهِ عِنْدَ زَكَاةِ الْحُلِيِّ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ { : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ . } نَهَى عَنْهُ لِلَوْنِهِ لَا لِرِيحِهِ , فَإِنَّ رِيحَ الطِّيبِ لَهُ حَسَنٌ , وَالْحِنَّاءُ فِي هَذَا كَالزَّعْفَرَانِ . وَعَنْ مُفَضَّلِ بْنِ يُونُسَ وَهُوَ مِنْ الثِّقَاتِ عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ أَبِي يَسَارٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ مَخْضُوبِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ . فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى الْبَقِيعِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : إنِّي نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } أَبُو يَسَارٍ رَوَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ . وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ سِوَى قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ : مَجْهُولٌ , فَأَرَادَ : مَجْهُولَ الْعَدَالَةِ . وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ أَنَّ الْمُفَضَّلَ انْفَرَدَ بِوَصْلِهِ . وَقَالَ أَبُو مُوسَى : حَدِيثٌ مَشْهُورٌ , وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَنَحْوِهِ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ عُمَرُ بْنُ بَدْرٍ الْمَوْصِلِيُّ : لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ , وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ كَالْمَرْأَةِ فِي الْحِنَّاءِ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ وَاحِدَةً ( م 35 ) وَأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ ( هـ ) ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ نَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ : الْحِنَّاءُ مِنْ الزِّينَةِ . وَمَنْ يُرَخِّصُ فِي الرَّيْحَانِ يُرَخِّصُ فِيهِ . وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ وَسُئِلَ عَنْ الْخِضَابِ لِلْمُحْرِمِ فَقَالَ : لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الطِّيبِ وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ , وَقَدْ كَرِهَ الزِّينَةَ عَطَاءٌ لِلْمُحْرِمِ , وَقَدْ احْتَجَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَابْنِ جَرِيرٍ وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ : لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَتْنِ شَيْءٌ , لِخَبَرِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا { سَيِّدُ إدَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ } وَفِيهِ { وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ , وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ } وَهُوَ الْحِنَّاءُ , رَوَاهُ ابْنُ شَاذَانَ بِإِسْنَادِهِ , وَيُبَاحُ لِحَاجَةٍ , لِخَبَرِ { سَلْمَى مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ رَأْسَهُ قَالَ : اذْهَبْ فَاحْتَجِمْ وَإِذَا اشْتَكَى رِجْلَهُ قَالَ : اذْهَبْ فَاخْضِبْهَا بِالْحِنَّاءِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَلَهُ فِي لَفْظٍ : قَالَتْ { : كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَا كَانَتْ تُصِيبُهُ قُرْحَةٌ وَلَا نُكْتَةٌ إلَّا أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ } حَدِيثٌ حَسَنٌ
مَسْأَلَةٌ 35 ) قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِضَابِ لِلْمَرْأَةِ فَأَمَّا الْخِضَابُ لِلرَّجُلِ فَذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَا لَا تَشَبُّهَ فِيهِ بِالنِّسَاءِ وَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ : لَهُ الْخِضَابُ بِالْحِنَّاءِ . وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ : كَرِهَهُ أَحْمَدُ , قَالَ أَحْمَدُ : لِأَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ . وَقَالَ شَيْخُنَا : هُوَ بِلَا حَاجَةٍ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَنَّهُ كَالْمَرْأَةِ فِي الْحِنَّاءِ , لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ وَاحِدَةً , انْتَهَى . مَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ هُوَ الصَّوَابُ . وَقَالَهُ الشَّارِحُ وَغَيْرُهُ , وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ , وَقَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى : فَأَمَّا الْخِضَابُ لِلرَّجُلِ فَيَتَوَجَّهُ إبَاحَتُهُ مَعَ الْحَاجَةِ , وَمَعَ غَيْرِهَا يَخْرُجُ عَلَى مَسْأَلَةِ تَشَبُّهِ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ فِي لِبَاسٍ وَغَيْرِهِ , انْتَهَى .
وفي البحر المحيط :(/46)
فَصْلٌ فِي الْقَرَائِنِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا صَارِفَةٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْعُمُومِ . وَفِيهِ مَسَائِلُ : [ الْمَسْأَلَةُ ] الْأُولَى الْخَارِجُ عَلَى جِهَةِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ , نَحْوُ { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ , وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } , وَقَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } وَقَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } وَالْمُرَادُ مَدْحُ قَوْمٍ وَذَمُّ آخَرِينَ , وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , وَذِكْرُ النِّسَاءِ , وَمِلْكُ الْيَمِينِ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَفِي التَّعَلُّقِ بِعُمُومِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ , وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ , وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ , وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ , وَغَيْرُهُمْ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ , وَنُسِبَ لِلشَّافِعِيِّ , وَلِهَذَا مُنِعَ التَّمَسُّكُ بِآيَةِ الزَّكَاةِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ , لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا لَهُ , وَرُبَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْكَلَامُ مُفَصَّلٌ فِي مَقْصُودِهِ , وَمُجَمِّلٌ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ . وَنَقَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عَنْ الْقَاشَانِيِّ , وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ : إنَّهُ الصَّحِيحُ . وَبِهِ جَزَمَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ , فَقَالَ : لَا يُحْكَمُ الْعُمُومُ بِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ الْعَامِّ , وَلَكِنْ يَكُونُ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ عَلَى مَا حُكِمَ فِيهِ , ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا لِلْعُمُومِ , وَأَطَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ . قَالَ : فَلَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا , بَلْ مَقْصُودُ الْآيَةِ الْوَعِيدُ لِتَارِكِ الزَّكَاةِ , وَكَذَا لَا يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ , وَلَكِنْ فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْفَرْجَ لَا يَجِبُ حِفْظُهُ عَنْهُمَا , ثُمَّ إذَا اُحْتِيجَ إلَى تَفْصِيلِ مَا لَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ فِيهِ إلَى مَا قُصِدَ تَفْصِيلُهُ , مِثْلُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَنَحْوُهُ . قَالَ : وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أَفَادَهُ عِلْمًا كَثِيرًا , وَاسْتَرَاحَ مَنْ لَا يُرَتِّبُ الْخِطَابَ عَلَى وَجْهِهِ , وَلَا يَضَعُهُ مَوْضِعَهُ . انْتَهَى . وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ " فِي بَابِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النِّكَاحِ , وَعِبَارَتُهُ : قُلْنَا : الْآيَةُ إذَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ , فَإِنَّمَا يُوجَبُ التَّعْمِيمُ فِي مَحَلِّ الْمَقْصُودِ , فَأَمَّا فِي مَحَلِّ غَيْرِ الْمَقْصُودِ وَالْغَرَضِ بِالْخِطَابِ فَلَا يُقْصَدُ بِالْخِطَابِ , بَلْ يُعْرَضُ عَنْهُ صَفْحًا , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ } الْآيَةَ ا هـ . وَالثَّانِي : وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ عَامٌّ , وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَصْدِ الْعُمُومِ وَالذَّمِّ , قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ : إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " : إنَّهُ الْمَذْهَبُ , وَكَذَا قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " , وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " : إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ . قَالَ : وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّتِنَا , وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَذْهَبَ الشَّافِعِيَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ صِحَّةُ ادِّعَاءِ الْعُمُومِ فِيهِ حَتَّى لَا يُعَارِضَهُ . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ " عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ , وَنَقَلَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ , وَجَزَمَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ فِي " شَرْحِ اللُّمَعِ " وَخَطَّأَ مُخَالِفَهُ , وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ : وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ , وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَجْهَ الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ . قُلْتُ : وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّ النَّوْمَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا } قَالَ : فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ , وَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ يُنْفَى عَنْهُ إبْطَالُ الْعِبَادَةِ , وَاحْتَجَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَبْقَى إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ(/47)
( أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ , وَفِي الثَّانِي عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ , ثُمَّ قَالَ : مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ ) وَهَذَا نَصٌّ فِي مُسَاوَاتِهَا فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِهَا , فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ : يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ وَقْتِ الضَّرُورَةِ , فَقِيلَ لَهُ : لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْلِيمَ أَوَائِلِ أَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِ وَآخِرِهَا , لَكِنْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ , فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْوَلُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ : نَحْنُ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَأَقَلُّ أَجْرًا . قَالُوا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الْوَقْتِ , فَقَالَ لَهُمْ : لَمْ يُقْصَدْ بِالْخَبَرِ ذَلِكَ , لِأَنَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّتَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ , فَمُنِعَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ . وَكَذَا يُمْنَعُ تَمَسُّكُ الْحَنَفِيَّةِ بِحَدِيثِ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ . وَقَالَ : إنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ , لَا لِبَيَانِ الْوَاجِبِ فِيهِ , لَكِنْ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ . وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ هُنَا لِمُعَارِضٍ آخَرَ , لَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِغَيْرِهِ . هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عُمُومٌ آخَرُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذَّمُّ , فَإِنْ عَارَضَهُ فَلَا خِلَافَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِذَلِكَ , فَيَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ , وَيُقْصَرُ مَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ عَلَيْهِمَا . هَكَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ " التَّحْصِيلِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ , وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ لَكِنْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ يُوقَفُ هَذَانِ الْعَامَّانِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَالُ كَالْمُتَعَارَضِينَ , وَهُوَ الْقِيَاسُ . وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَعْيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ دُونَ الْعَدَدِ مَعَ قوله تعالى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَإِنَّهُ سِيقَ لِلْعَدَدِ , وَهُوَ يَعُمُّ الْأُخْتَ وَغَيْرَهَا , فَيُقْضَى بِتِلْكَ لِأَنَّهَا مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمِ , وَكَذَا يُقْضَى بِهَا عَلَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَكَذَا قَوْلُهُ : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } مَعَ قَوْلِهِ : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَالْأُولَى سِيقَتْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ , فَقُدِّمَ عَلَى مَا سِيَاقُهَا لِلْمَدْحِ , وَكَذَا قَوْلُهُ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } إذَا قَدَّرْنَا دُخُولَ الشَّعْرِ فِيهَا قُدِّمَ عَلَى قَوْلِهِ : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بِمَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ , بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا سِيقَ لِغَرَضٍ , كَمَا سَبَقَ مِنْ نَحْوِ ( فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ ) وَغَيْرِهِ .(/48)
فَصْلٌ فِي شُرُوطِ التَّأْوِيلِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ . وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَبَاطِلٌ . وَقَدْ فَتَحَ الشَّافِعِيُّ الْبَابَ فِي التَّأْوِيلِ فَقَالَ : الْكَلَامُ قَدْ يُحْمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ . وَيُفْصَلُ فِي مَقْصُودِهِ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ فِي التَّأْوِيلِ , وَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ , فَيُضَعَّفُ التَّأْوِيلُ لِقُوَّةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ , أَوْ لِضَعْفِ دَلِيلِهِ أَوْ لَهُمَا . وَمِنْ الثَّانِي مَنْعُ عُمُومِ قَوْلِهِ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ , وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُهُ } حَتَّى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ وَاجِبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ , وَكَاسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا هَذَا مُفَصَّلٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ , مُجْمَلٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , وَفِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا : هَذَا مُفَصَّلٌ فِي تَحْرِيمِ الْكَنْزِ , مُجْمَلٌ فِي غَيْرِهِ . وَمِنْ الْأَوَّلِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِجْمَارَ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْبَخُورَ لِلتَّطَيُّبِ . فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ : تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ , وَاللَّفْظُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ , وَعَلَيْهِ فَهْمُ النَّاسِ . وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْجُلُوسَ فِي قَوْلِهِ : { نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ } عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ عَلَيْهِ , وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِفِ لِلْقُعُودِ . وَمِنْهُ حَمْلُ الظَّاهِرِيَّةِ حَدِيثَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ } عَلَى بَيْضَةِ الْحَدِيدِ , وَهُوَ بَعِيدٌ , لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي خِلَافَهُ . وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ : { أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ } أَيْ دَخَلَا بِذَلِكَ فِي فِطْرَتِي وَسُنَّتِي , لِأَنَّ الْحِجَامَةَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَعْمَلَهُ , حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيّ , عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ . وَقَسَّمَ شَارِحُ " اللُّمَعِ " تَأْوِيلَ الظَّاهِرِ إلَى ثَلَاثِهِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : تَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنًى يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا , فَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ , وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ , كَحَمْلِ الْأَمْرِ فِي قوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ } عَلَى الْوُجُوبِ , وَحَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ بِدَلِيلٍ جَائِزٍ . لِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ مُرَادًا بِهِ النَّدْبُ كَثِيرًا , فَيُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ . وَالثَّانِي : تَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا , فَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بَيَانُ قَبُولِ اللَّفْظِ لِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي اللُّغَةِ . وَالثَّانِي : إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا يَقْتَضِيهِ . وَالثَّالِثُ : حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ أَصْلًا , فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ التَّأْوِيلِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ . . . كَقَوْلِهِ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ فِي حَالِ وَقْتِ الْعِدَّةِ , وَهُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ , فَلَوْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ . قَالَ : وَهَلْ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ , ذَكَرَهَا فِي الْإِرْشَادِ : أَحَدُهَا : الْمَنْعُ . وَالثَّانِي , وَهُوَ الصَّحِيحُ : الْجَوَازُ , لِأَنَّ مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ التَّأْوِيلُ بِهِ , كَأَخْبَارِ الْآحَادِ . وَالثَّالِثُ : بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ , وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِذِكْرِ ضُرُوبٍ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ هَاهُنَا كَالرِّيَاضَةِ لِلْأَفْهَامِ لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ مِنْهَا عَنْ الْفَاسِدِ , حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهَا وَيَتَمَرَّنَ النَّاظِرُ فِيهَا . وَقَدْ أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ أَشْيَاءَ بَعِيدَةً حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِبُطْلَانِهَا : فَمِنْهَا : تَأْوِيلُهُمْ { قَوْلُهُ عليه السلام لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ : أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ } بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ : أَحَدُهَا : أَيْ : ابْتَدِئْ الْعَقْدَ , إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ . عَلَى السَّبَبِ . ثَانِيهَا : أَمْسِكْ الْأَوَّلَ . وَلَعَلَّ النِّكَاحَ وَقَعَ بَعْدُ عَلَى التَّفْرِيقِ . ثَالِثُهَا : لَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ حَصْرِ النِّسَاءِ , وَقَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ , فَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ . أَمَّا(/49)
الْأَوَّلُ : فَلِأَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إلَى الزَّوَاجِ , وَلِخُلُوِّهِ عَنْ الْقَرِينَةِ الْمُعَيِّنَةِ لَهُ , وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْقِيَاسِ مُمْتَنِعَةٌ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ السَّائِلِ لَهُ بِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ , وَلِعَدَمِ فَهْمِهِمْ ذَلِكَ مِنْهُ , إذْ لَوْ فَهِمُوا لَجَدَّدُوا الْعَقْدَ , وَلَنُقِلَ وَإِنْ نَدَرَ , وَأَمَّا الثَّانِي : فَلِأَنَّهُ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ , وَلِأَنَّ حَدِيثَ مَرْوَانَ مُصَرِّحٌ بِنَفْيِهِ , وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْدِيلِ الظَّاهِرِ ثُبُوتُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ , وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ . وَلَا جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ , لَكِنْ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ . وَأَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالْعَقْدِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ , أَوْ عَلَى مَنْ يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ , وَلَا يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ , فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ , تَوَسَّعَ فِي تَأْوِيلِهِ وَعَضَّدَ تَأْوِيلَهُ بِالْقِيَاسِ مِنْ أَنَّهَا أَنْكِحَةٌ طَرَأَ عَلَيْهَا سَبَبٌ مُحَرِّمٌ , فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخُ أَصْلُهُ مَا لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً , ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا رَضِيعَتُهُ . لَكِنَّهُ غَفَلَ عَنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِهِ . وَهِيَ أَرْبَعٌ : أَمَّا الْأَوَّلُ : فَقَوْلُهُ : أَمْسِكْ , ظَاهِرٌ فِي اسْتِدَامَةِ مَا شَرَعَ فِي تَنَاوُلِهِ حَتَّى لَوْ قِيلَ لِمَنْ فِي يَدِهِ حَبْلٌ : أَمْسِكْ طَرَفَك , فُهِمَ اسْتِدَامَةُ مَا بِيَدِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ قَابَلَ لَفْظَةَ الْإِمْسَاكِ بِلَفْظَةِ الْمُفَارَقَةِ , وَعَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلُ تُرْتَقَعُ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَ الْإِمْسَاكَ بِابْتِدَاءِ عَقْدٍ , وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَنْ يُرِيدُ إمْسَاكَهَا مِنْهُنَّ , وَصَارَ كَأَنَّهُ أَمَرَ بِمُفَارَقَةِ الْجَمِيعِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ فَوَّضَ لَهُ الْخِيَرَةَ فِيمَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ , وَفِيمَنْ يُفَارِقُ مِنْهُنَّ , وَعِنْدَهُمْ الْفِرَاقُ وَاقِعٌ , وَالنِّكَاحُ لَا يَبْتَدِئُهُ مَا لَمْ تُوَافِقْهُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ , فَصَارَ تَخْيِيرُ التَّفْوِيضِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ لَهُ , فَقَدْ لَا يَرْضَيْنَ أَوْ بَعْضُهُنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ . الرَّابِعُ : أَنَّ قَوْلَهُ : " أَمْسِكْ " ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ . وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ , وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْأَصْلِ , وَلَمَّا دَلَّ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : هَذَا الْحَدِيثُ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ , وَلَوْ صَحَّ عِنْدِي لَقُلْت بِهِ . وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ : الْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسِ , وَظَاهِرِ الْخَبَرِ , وَرَأَى الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا أَنَّهَا مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ , فَمَنْ رَأَى الْخَبَرَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ . وَمَنْ رَأَى الْقِيَاسَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ , وَلَيْسَ هَذَا الرَّأْيُ صَحِيحًا ; بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ , وَدَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْقُولِ , وَهُوَ الْقِيَاسُ . فَكَمَا يَتَقَدَّمُ الْخَبَرُ الْقِيَاسَ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الْعَمَلِ بِهِ , وَلِهَذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ يَطْلُبُ أَوَّلًا الْإِجْمَاعَ , فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ , وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ النَّصَّ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ الظَّاهِرَ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ الْمَفْهُومَ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ . وَقَالَ الْهِنْدِيُّ : وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ , لَكِنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ الِاخْتِيَارِ رُخْصَةً , وَتَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ . وَمِنْهَا : حَمْلُهُمْ حَدِيثَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } عَلَى الصَّغِيرَةِ , وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةً فِي حُكْمِ اللِّسَانِ , كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ الصَّبِيُّ بَعْلًا , وَأَيْضًا فَهَذَا سَاقِطٌ عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ لَوْ زُوِّجَتْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ . وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم : { فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } , وَأَكَّدَهُ ثَلَاثًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَاطِلٌ أَيْ يُؤَوَّلُ إلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا لِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ إجَازَتَهُ لِقُصُورِ نَظَرِهِنَّ , وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ صَرَّحَ بِهِ مُؤَكَّدًا(/50)
بِالتَّكْرَارِ مُطْلَقًا وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ نَحْوُ : { إنَّكَ مَيِّتٌ } فَفَرُّوا مِنْ ذَلِكَ , وَقَالُوا : ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ , لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ السَّيِّدِ وَلِيًّا , فَأَلْزَمُوا بُطْلَانَهُ بِأَنَّ نِكَاحَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ , وَبِأَنَّهُ عليه السلام جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا , وَمَهْرُ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا , فَفَرُّوا مِنْ ذَلِكَ , وَقَالُوا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ , وَأَرَادُوا التَّخَلُّصَ مِنْ الْمَهْرِ , فَإِنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُسْتَحِقَّةٌ , فَرُدَّ بِنُدُورِ الْمُكَاتَبَةِ وَقِلَّتِهَا فِي الْوُجُودِ , وَالْعُمُومُ ظَاهِرٌ فِيهِ , فَإِنَّ " أَيًّا " كَلِمَةٌ عَامَّةٌ , وَأَكَّدَهَا " بِمَا " , هَذَا مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً تَمْهِيدًا لِلْقَاعِدَةِ , لَا فِي جَوَابِ سَائِلٍ حَتَّى يَظْهَرَ تَخْصِيصُهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ التَّأْوِيلِ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّهُ مَرْدُودٌ قَطْعًا . وَعَزَاهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَائِلًا : إنَّهُ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْفَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْجِهَاتُ لِلتَّأْوِيلَاتِ , وَقَدْ رَأَى الِاعْتِصَامَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ ( رضي الله عنها ) اعْتِصَامُ النَّصِّ , وَقَدَّمَهُ عَلَى الْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ , فَكَانَ ذَلِكَ شَاهِدًا عَدْلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . وَذَكَرَ الْقَاضِي مَا حَاصِلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام ذَكَرَ أَعَمَّ الْأَلْفَاظِ , إذْ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ مِنْ أَعَمِّ الصِّيَغِ , وَأَعَمُّهَا " مَا " وَ " أَيُّ " فَإِذَا فُرِضَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ مُبَالَغًا فِي مُحَاوَلَةِ التَّعْمِيمِ , أَيْ أَنَّ " مَا " لَوْ تَجَرَّدَتْ , وَكَانَتْ شَرْطِيَّةً كَانَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ , وَقَدْ أُتِيَ بِهَا زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ , فَكَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ " أَيْ " مِنْ التَّعْمِيمِ , كَذَا فَهِمَهُ الْمَازِرِيُّ , وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ " مَا " الْمُتَّصِلَةُ " بِأَيْ " شَرْطِيَّةٌ , كَمَا فَهِمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ , وَقَالَ : هَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ , وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ , وَنَسَبَاهُ إلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ , وَهُوَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي , وَمَعْنَاهُ مَا عَرَفْت . وَمِنْهَا : حَمْلُهُمْ قوله تعالى : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ , وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ . وَالْمَعْنَى فَإِطْعَامُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا , فَجَوَّزُوا صَرْفَ جَمِيعِ الطَّعَامِ إلَى وَاحِدٍ , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ , وَحَاجَةُ السِّتِّينَ كَحَاجَةِ الْوَاحِدِ فِي سِتِّينَ يَوْمًا , فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ . وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ إذْ جَعَلُوا الْمَعْدُومَ وَهُوَ " طَعَامٌ " مَذْكُورًا , لِيَصِحَّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ , وَالْمَذْكُورُ وَهُوَ " { سِتِّينَ مِسْكِينًا } " عَدَمًا مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا " لِإِطْعَامٍ " مَعَ إمْكَانِ قَصْدِ الْعَدَدِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ , وَبَرَكَتِهِمْ , وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُحْسِنِ . وَهَذِهِ مَعَانٍ لَائِحَةٌ لَا تُوجَدُ فِي الْوَاحِدِ . وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ . قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَلِأَنَّ " أَطْعَمَ " يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ , وَالْمُهِمُّ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَ , وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ غَيْرُ مُهِمٍّ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَ الْمَسَاكِينِ , وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الطَّعَامِ , فَاعْتَبَرُوا الْمَسْكُوتَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَمْدَادُ , وَتَرَكُوا الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْأَعْدَادُ , وَهُوَ عَكْسُ الْحَقِّ . أَمَّا الْمَازِرِيُّ فَانْتَصَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ بِوَجْهَيْنِ : فِقْهِيٌّ , وَنَحْوِيٌّ . أَمَّا الْفِقْهِيُّ : فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ إبْطَالُ النَّصِّ إلَّا لَوْ جَوَّزُوا إعْطَاءَ الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ مُدًّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ , وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ , بَلْ يُرَاعُونَ صُورَةَ الْعَدَدِ , وَيَشْتَرِطُونَ تَكْرِيرَ ذَلِكَ عَلَى الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ تَكْرِيرَ الْأَيَّامِ فِرَارًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا , وَلَمْ يُعَيِّنْ مِسْكِينًا مِنْ مِسْكِينٍ , وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ فَإِذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَتَكَرَّرَ إطْعَامُهُ بِالْغَدَاةِ , وَهُوَ بِالْغَدَاةِ مِسْكِينٌ , فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ , فَإِذَا انْتَهَى التَّكْرَارُ إلَى سِتِّينَ يَوْمًا صَارَ مُطْعِمًا سِتِّينَ مِسْكِينًا , لِكَوْنِ هَذَا الْمِسْكِينِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ . وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فَذَكَرَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ : إنَّ الْمَصْدَرَ يُقَدَّرُ " بِمَا , وَأَنَّ(/51)
" فَإِذَا قَدَّرْنَا الْمَصْدَرَ هُنَا وَهُوَ " الْإِطْعَامُ " بِمَعْنَى " مَا " اقْتَضَى ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ , وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمَا يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ أَبَا حَنِيفَةَ إلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي أَرَادَ , وَإِنْ صَدَرَ " بِأَنَّ " كَانَ التَّقْدِيرُ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا , وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ يُخْرِجُ إلَى مَا يُرِيدُ . قَالَ : وَقَدْ زَاحَمْنَا أَبَا الْمَعَالِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ صِنَاعَةِ النَّحْوِ , وَذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ تَعَلُّقًا مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فِيهَا , وَهُوَ سِيبَوَيْهِ . ا هـ . وَيُقَالُ لَهُ : أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَإِنَّ تَعْطِيلَ النَّصِّ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ سَوَاءٌ أَعْطَى فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَمْ لَا . فَقَدْ عَطَّلُوا مِنْ النَّصِّ لَفْظَ السِّتِّينَ , وَلِلشَّارِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَا سَبَقَ , وَلِأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ , وَهُوَ الْعَدَدُ , فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى . وَأَمَّا الثَّانِي : فَمَا نَقَلَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهِ , وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةُ النَّاصِبَةُ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ , لَا " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةُ وَ " مَا " الْمُقَدَّرَةُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ " أَنْ " . وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ إذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً لَا بِمَعْنَى الَّذِي , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَمَا يُطْعَمُ , وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَنْكَرَ نِسْبَةَ هَذَا التَّأْوِيلِ لِجُمْهُورِهِمْ , وَقَدَّرَهُ : إعْطَاءُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَمِنْهَا : حَمْلُهُمْ حَدِيثَ : { فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ } عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ , أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ , فَجَوَّزُوا إخْرَاجَ الْقِيمَةِ , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ , لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّاةِ فِيهَا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى , فَيَصِحُّ الْإِبْدَالُ , لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ النَّصِّ وَبُطْلَانِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قِيلَ إنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ , وَلَمْ يَقُلْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ , وَإِنَّمَا قَالَ : إنَّ الْقِيمَةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الشَّاةِ إذَا أُخْرِجَتْ وَهُوَ تَوْسِيعٌ لِلْمَخْرَجِ , لَا إسْقَاطٌ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ سَدُّ الْخَلَّةِ , وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إعْطَاءَ الْفَقِيرِ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْغَنِيِّ , لِيَنْقَطِعَ تَشَوُّفُ الْفَقِيرِ إلَى مَا فِي يَدِ الْغَنِيِّ . وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ تَعَيُّنِهَا , وَتَجْوِيزُ الْإِبْدَالِ مُحْوِجٌ إلَى الْإِضْمَارِ وَإِيجَابِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ الْأَصْلِ . وَمِنْهَا : حَمْلُهُمْ حَدِيثَ : { لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ . وَهُوَ بَعِيدٌ , لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ مِنْ أَدَلِّ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سِيَّمَا مَا وَرَدَ ابْتِدَاءً لِلتَّأْسِيسِ . فَحَمْلُهُ عَلَى النَّادِرِ مُخْرِجٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْفَصَاحَةِ , وَتَأْوِيلُ نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ; وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى نِيَّةِ صَوْمِ الْغَدِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ , وَكَانَ يَلْهَجُ بِهِ . وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ , لِأَنَّ سِيَاقَهُ النَّهْيَ عَنْ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عَنْ اللَّيْلِ , وَالْحَثَّ عَلَى تَقْدِيمِهَا عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَصُومُ فِيهِ , وَهَذَا كَالْفَحْوَى لَهُ . وَهُوَ مُضَادٌّ لِمَا ذَكَرُوهُ , وَلِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْلَى , وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ , وَحَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِمَّا سَبَقَ , لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ , لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ , فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ , وَفِيهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ , لَزِمَ الِاسْتِعْمَالُ لِمَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . وَمِنْهَا : حَمْلُهُمْ قوله تعالى : { وَلِذِي الْقُرْبَى } عَلَى أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ , وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ , فَصَرَفُوا اللَّفْظَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ , وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ , وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْحَاجَةِ , وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ مَعَ ذَلِكَ , فَاشْتَرَطُوا الْحَاجَةَ , وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ , وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ لَامُ التَّمْلِيكِ وَتَرَتُّبِ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ , وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ , وَهِيَ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ , لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , فَكَيْفَ(/52)
بِالْقِيَاسِ . وَكَوْنُهُ مَذْكُورًا مَعَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مَعَ قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لَيْسَ قَرِينَةً فِيهِ , وَإِلَّا لَزِمَ النَّقْصُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ لِوُجُودِهَا فِيهِ . قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَلَوْ حَتَّمُوا صَرْفَ شَيْءٍ إلَى الْقَرَابَةِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لَكَانَ قَرِيبًا . ا هـ . لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخُمُسَ مَقْسُومٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ , وَيُعْطِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ لِفَقْرِهِمْ , فَعَلَى هَذَا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ كَالْمُقْحِمِ الْكَيَاظِمِ , وَهُوَ تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ . فَإِنْ قَالُوا : ذِكْرُ الْقَرَابَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَنْعُهُمْ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ , لَا فِي وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ . قُلْنَا : هَذَا بَعِيدٌ , لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ دَلَالَةِ اللَّامِ وَوَاوِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلِاسْتِحْقَاقِ , وَفِيهِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مَعَ تَخَلُّلِ الْفَصْلِ , وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي اللُّغَةِ , وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ عِنْدَهُ مِنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ , وَلَيْسَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِبُطْلَانِهِ , وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ لَفْظِ " الْقُرْبَى " بِالْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ . ا هـ . وَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَقْرَبُ , لِأَنَّ لَفْظَ " الْيَتِيمِ " مَعَ قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ , فَالْيُتْمُ الْمُجَرَّدُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ . بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ . وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الْقَرِيبَ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ , وَلَكِنْ سَبَقَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ . وَقَوْلُهُ : لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ ذَوِي الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ . قِيلَ عَلَيْهِ : كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ , وَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمَسَاكِينِ ؟ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ التَّكْرَارُ فِي الْآيَةِ , وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْيَتَامَى , فَإِنَّ الْيُتْمَ يُفِيدُ الِاحْتِيَاجَ لِلْعَجْزِ , وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : ذِكْرُ الْقَرَابَةِ يُخَصُّ فِيهِ فِي الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ , وَهُوَ تَوْكِيدُ أَمْرِهِمْ . وَمِنْهَا : حَمْلُهُمْ حَدِيثَ : { أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ , وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } عَلَى أَنْ يُؤَذِّنَ بِصَوْتَيْنِ , وَيُقِيمَ بِصَوْتٍ . قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ " : وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ إضَافَةَ الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ إلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ , وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ هِيَ الْكَلِمَاتُ لَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِيهِمَا , عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ : الْإِقَامَةُ , وَعِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُ سَائِرُ الْكَلِمَاتِ فِي الْإِقَامَةِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ , كَذَلِكَ يَقُولُ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ [ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ] بِصَوْتٍ وَاحِدٍ , فَبَطَلَ التَّأْوِيلُ .
وفي التلخيص الحبير :(/53)
859 - ( 9 ) - حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ : " أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ " . أَمَّا أَثَرُ عُمَرَ : فَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ , مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ يَسَارٍ , قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى : " أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصَّدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ " وَهُوَ مُرْسَلٌ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ , وَقَدْ أَنْكَرَ الْحَسَنُ ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْخُلَفَاءِ قَالَ : فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ . وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أَدْرِي أَيَثْبُتُ عَنْهُ أَمْ لَا , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا وَالْبَيْهَقِيُّ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا , وَأَمَّا أَثَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ : أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ عَنْ حُلِيٍّ لَهَا فَقَالَ : " إذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ , فَسَأَلَتْ أَضَعُهَا فِي بَنِي أَخٍ لِي فِي حِجْرِي ؟ قَالَ : نَعَمْ " . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا , وَقَالَ : هَذَا وَهْمٌ , وَالصَّوَابُ مَوْقُوفٌ . ( تَنْبِيهٌ ) : وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ , عَنْ عُرْوَةَ , عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحُلِيِّ إذَا أَعْطَى زَكَاتَهُ " وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ { عَائِشَةَ : أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدِهَا فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ , فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ فَقَالَتْ : صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ قَالَتْ : لَا , قَالَ : هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ } وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ . وَسَيَأْتِي عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَنْ يَتَامَى فِي حِجْرِهَا . وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الزَّكَاةَ فِيهَا : وَلَا تَرَى إخْرَاجَ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا عَنْ مَالِ الْأَيْتَامِ
وفي التاج والإكليل :
( وَصِيَاغَةٍ وَجَوْدَةٍ ) ابْنُ بَشِيرٍ : وَأَمَّا الْمَصُوغُ فَإِنْ كَانَتْ الصِّيَاغَةُ غَيْرَ مُبَاحَةٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ قِيمَتَهَا لَا تُعْتَبَرُ , وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَمِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ : وَمَنْ اشْتَرَى حُلِيًّا لِلتِّجَارَةِ فِيهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْيَاقُوتُ وَالزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ فَحَالَ حَوْلُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُدِيرٍ نَظَرَ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَزَكَّاهُ . يُرِيدُ زَكَّى وَزْنَهُ إنْ اسْتَطَاعَ نَزْعَهُ أَوْ يَتَحَرَّاهُ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ . قَالَ : وَلَا يُزَكِّي مَا فِيهِ مِنْ الْحِجَارَةِ حَتَّى يَبِيعَهُ فَيُزَكِّيهِ حِينَئِذٍ . قَالَ : وَإِنْ كَانَ مُدِيرًا زَكَّى قِيمَةَ الْحِجَارَةِ فِي شَهْرِهِ الَّذِي يُقَوَّمُ فِيهِ وَيُزَكِّي وَزْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا يُقَوِّمُهُ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَإِنْ اشْتَرَى مُدِيرٌ آنِيَّةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَوَزْنُهَا خَمْسُمِائَةٍ زَكَّى وَزْنَهَا لَا قِيمَتَهَا وَإِنْ كَثُرَتْ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ اشْتَرَى حُلِيًّا لِلتِّجَارَةِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً : إنَّهُ يُزَكِّي وَزْنَهُ لَا قِيمَتَهُ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنْ لَوْ اشْتَرَى إنَاءً مَصُوغًا وَزْنُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَقِيمَتُهُ بِصِيَاغَتِهِ عِشْرُونَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَتَمَّ لَهُ عِنْدَهُ حَوْلٌ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَبِيعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَيُزَكِّيهِ سَاعَةَ بَيْعِهِ وَقَالَهُ مَالِكٌ . اللَّخْمِيِّ : يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِنَاءِ أَنَّهُ يُرَادُ لِلتَّجَمُّلِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِعْمَالِ لَرُدَّ الْبَيْعُ وَكُسِرَ انْتَهَى . اُنْظُرْ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ : " وَإِنَاءٍ نَقْدٍ " .(/54)
( وَجَازَ إخْرَاجُ ذَهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وَعَكْسُهُ بِصَرْفِ وَقْتِهِ ) مِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ : مَنْ كَانَ لَهُ دَنَانِيرُ وَتِبْرٌ مَكْسُورٌ وَوَزْنُ جَمِيعِ ذَلِكَ عِشْرُونَ دِينَارًا زَكَّى وَيُخْرِجُ رُبْعَ عُشْرِ كُلِّ صِنْفٍ , وَكَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالنُّقَرُ قَالَ : وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا وَيُخْرِجَ عَنْ الْوَرِقِ ذَهَبًا بِقِيمَتِهِ , ابْنُ الْمَوَّازِ : قَلَّتْ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ عَبْدُ الْوَهَّابِ : لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقٍّ فَكَانَتْ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ . قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ الْفِضَّةِ الرَّدِيئَةِ قِيمَتَهَا دَرَاهِمَ جِيَادًا فَلَا يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ أَقَلَّ مِنْ الْوَزْنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُخْرِجُ مِنْهَا بِعَيْنِهَا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الذَّهَبِ انْتَهَى . وَانْظُرْ لَمْ أَجِدْ نَصًّا فِي إخْرَاجِ الْفُلُوسِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَدْ آلَ الْحَالُ بِنَا فِي زَمَانِنَا الْمِسْكِينُ لَا يَجِدُ بِأَيْدِينَا إلَّا دَنَانِيرَ النُّحَاسِ وَنُسَمِّيهَا ذَهَبًا بِهَا نَشْتَرِي الذَّهَبَ وَبِهَا نَشْتَرِي الْفِضَّةَ , وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ فِيهَا نَوَايَةُ ذَهَبٍ , وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ لَيْسَ فِيهَا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ إنَّمَا فِيهِ قِيرَاطٌ أَوْ قِيرَاطَانِ مِنْ فِضَّةٍ , وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ إنَّهَا نُحَاسٌ خَالِصٌ مَا تَحَمَّلْت مِنْ عُهْدَتِهَا شَيْئًا لَا مِنْ بَيْعِهَا بِفِضَّةٍ وَلَا بِذَهَبٍ , وَلَا تَحَمَّلْت عُهْدَةً رُدَّ عَلَيْهَا وَلَا إخْرَاجَهَا فِي زَكَاةِ عَنْ ذَهَبٍ وَلَا عَنْ فِضَّةٍ إلَى إنْ عَثَرْت عَلَى نَصٍّ رَشَّحَ مَأْخَذِي حَكَاهُ الْبُرْزُلِيِّ عَنْ السُّيُورِيِّ وَابْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَامُلُ بِسِكَّةٍ كَانَ عَمَلُهَا مَقْصُورًا عَلَى ظَالِمٍ . إذَا تُمُكِّنَ مِنْ الضَّرْبِ الْقَدِيمِ , فَلَوْ تَعَذَّرَ بِكُلِّ وَجْهٍ فَتَكُونُ هَذِهِ السِّكَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ تُقِيمُ أَوْدَهُ مِنْهَا فِي مَقَامِهِ وَلَا يَحُجُّ بِهَا . انْتَهَى مَوْضِعُ الْحَاجَةِ . فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي هَذَا أَنْ لَا يُخْرِجَهَا عَنْ زَكَاةِ ذَهَبِهِ أَوْ فِضَّتِهِ , وَقَدْ نَصَّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إخْرَاجُ ذَهَبٍ عَنْ فِضَّةٍ وَلَا فِضَّةٍ عَنْ ذَهَبٍ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَشَّحَهُ بِمَا نَقَلْته عَنْهُ قَبْلَ هَذَا قَبْلَ قَوْلِهِ : " وَمَصْرِفُهَا " . وَقَالَ الْبَاجِيُّ مَا نَصُّهُ : الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُهُمَا . ( مُطْلَقًا ) . عَبْدُ الْوَهَّابِ : قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ : " قَلَّتْ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ " هُوَ الصَّوَابُ . انْتَهَى مِنْ ابْنِ يُونُسَ . وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِابْنِ الْقَاسِمِ . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُخْرِجُ قِيمَةَ الدِّينَارِ مَا لَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَا يَنْقُصُ ( بِقِيمَةِ السِّكَّةِ ) . اللَّخْمِيِّ : إذَا أَخْرَجَ عَنْ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوْ عَنْ الْفِضَّةِ ذَهَبًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ قِيمَةَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ بِذَلِكَ الْجُزْءِ كَالشُّرَكَاءِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمَا كَانَ يَبِيعُهُ الْفَقِيرُ لَوْ دَفَعَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا مَسْكُوكَةً أَخْرَجَ دِينَارًا مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ عِشْرِينَ دِينَارًا أَصْحَاحًا كَانَ بِالْخِيَارِ فَإِنْ أَحَبَّ أَخْرَجَ قِيمَةَ نِصْفِ دِينَارٍ مَسَكُوك أَوْ أَخْرَجَ دِينَارًا فَبَاعَهُ وَأَعْطَى الْمَسَاكِينَ نِصْفَ ثَمَنِهِ وَأَمْسَكَ لِنَفْسِهِ نِصْفَهُ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يُخْرِجُ عَنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا مِنْهَا مَسْكُوكًا أَوْ مِثْلَهُ , فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا نِصْفَ دِينَارٍ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ قِيمَةَ نِصْفِهِ مَسْكُوكًا . قَالَ مُحَمَّدٌ : وَلَا يُخْرِجُ عَنْ رَدِيءٍ قِيمَتَهُ مِنْ نَوْعِهِ جَيِّدًا بَلْ قِيمَةُ رَدِيءِ الذَّهَبِ فِضَّةً وَقِيمَةُ رَدِيءِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا وَإِلَّا أَخْرَجَ مِنْهُ . ( وَلَوْ فِي نَوْعٍ لَا صِيَاغَةَ فِيهِ ) سَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ نُقَرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . ابْنُ رُشْدٍ : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ ذَلِكَ مِنْهُ إنْ شَاءَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ إذْ لَا كَرَاهِيَةَ فِي قَطْعِ النُّقَرَةِ أَوْ الْحُلِيِّ بِخِلَافِ الدَّنَانِيرِ الْقَائِمَةِ . ابْنُ عَرَفَةَ : إنْ كَانَ قَطْعُ الْحُلِيِّ فَسَادًا فَفِيهِ نَظَرٌ ( وَفِي غَيْرِهِ تَرَدُّدٌ ) رَاجِعْ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ إنْ كَانَ مَعْنَاهُ هَذَا , وَأَمَّا لَوْ قَالَ وَجَازَ إخْرَاجُ ذَهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وَعَكْسُهُ بِصَرْفِ وَقْتِهِ مُطْلَقًا مَسْكُوكًا كَانَ أَوْ مَصُوغًا أَوْ غَيْرَهُمَا بِقِيمَةِ السِّكَّةِ وَفِي تَقْوِيمِ الصِّيَاغَةِ تَرَدُّدٌ , لَنَاسَبَ مَا تَقَدَّمَ لِلَّخْمِيِّ وَالسَّمَاعِ(/55)
الْمُتَقَدِّمِ وَمَا يَتَقَرَّرُ لِابْنِ يُونُسَ عَنْ الْقَابِسِيِّ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ قَالَ : مَنْ لَهُ حُلِيٌّ وَزْنُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ رُبْعَ عُشْرِ قِيمَتِهِ عَلَى أَنَّهُ مَصُوغٌ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاؤُهُ لَهُمْ رُبْعُ عُشْرِهِ فَيَأْخُذُونَ قِيمَةَ ذَلِكَ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ . ابْنُ يُونُسَ : يُرِيدُ فِضَّةً وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِثْلَ وَزْنِ ذَلِكَ تِبْرًا هُوَ أَنْقَصُ فِي الْقِيمَةِ مِنْ رُبْعِ عُشْرِ قِيمَةِ الْمَسْكُوكِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ يُونُسَ : وَهُوَ قَوْلٌ جَيِّدٌ وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافُهُ . وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ أَيْضًا عَنْ أَبِي إسْحَاقَ : إذَا كَانَ فِي وَزْنِ الْحُلِيِّ عِشْرُونَ دِينَارًا وَهُوَ لِلتِّجَارَةِ وَقِيمَتُهُ لِصِيَاغَتِهِ ثَلَاثُونَ فَالْأَشْبَهُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَيُؤَخِّرَ الْإِخْرَاجَ عَنْ بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ حَتَّى يَبِيعَهُ إنْ كَانَ لَا يُدِيرُ لِأَنَّ الصِّيَاغَةَ كَعَرْضٍ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إلَّا بِالْبَيْعِ ( لَا كَسْرَ مَسْكُوكٍ إلَّا لِسَبْكٍ ) اُنْظُرْ عِنْدَ قَوْلِهِ : " وَلَوْ فِي نَوْعٍ " وَلِابْنِ رُشْدٍ أَيْضًا مَا هُوَ مَثَاقِيلُ قَائِمَةٌ لَا تُقْطَعُ وَيُخْرِجُ عَنْ زَكَاتِهَا قِيمَةَ ذَلِكَ دَرَاهِمَ . قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَكَذَلِكَ مَنْ قَدِمَ بَلَدًا تَجُوزُ فِيهَا الدَّرَاهِمُ النَّقْصُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ دَرَاهِمَهُ . قَالَ مَالِكٌ : وَأَمَّا قَطْعُ الدَّنَانِيرِ حُلِيًّا لِنِسَائِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ( وَوَجَبَ نِيَّتُهُمَا ) تَقَدَّمَ نَصُّ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ مَالِهِ لَا يَحْسُبُهُ مِنْ زَكَاتِهِ إذَا نَوَى بِهِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ أَوْ أَعْطَاهُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي تَطَوُّعٍ وَلَا زَكَاةٍ . ابْنُ بَشِيرٍ : إذَا قُلْنَا إنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاءُ بِمِقْدَارِ الزَّكَاةِ وَإِنَّهَا تَكُونُ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ , وَإِنْ غَلَّبْنَا عَلَيْهَا حُكْمَ الْعِبَادَةِ افْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ , وَلَكِنْ لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَيُجْزِئُهُ وَهَذَا بَيِّنٌ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ , وَأَمَّا عَلَى أَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَصَّارِ فَإِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ مَعَ عِلْمِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالنِّيَّةِ , وَأَمَّا إنْ أَخَذَهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَجْرَاهُ اللَّخْمِيِّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ أَعْتَقَ عَنْ إنْسَانٍ فِي كَفَّارَةٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَفِيمَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ . ابْنُ رُشْدٍ : الْأَظْهَرُ أَنَّهَا تُجْزِئُ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ كُرْهًا لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْمَالِ , فَإِذَا أَخَذَهَا مِنْهُ مَنْ إلَيْهِ أَخَذَهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُ كَمَا تُجْزِئُ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إذَا أُخِذَتْ مِنْ أَمْوَالِهِمَا , وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمَا النِّيَّةُ فِي تِلْكَ الْحَالِ . ( وَتَفْرِقَتُهَا بِمَوْضِعِ الْوُجُوبِ أَوْ قُرْبِهِ إلَّا لِأَعْدَمَ فَأَكْثَرُهَا لَهُ ) مِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مَالِكٌ : الْعَمَلُ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ لَا تَخْرُجَ عَنْ مَوْضِعٍ جُبِيَتْ مِنْهُ كَانَتْ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ عَنْهُمْ فَضْلَةٌ فَتُجْعَلُ فِي أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَيْهِمْ , وَإِنْ بَلَغَهُ عَنْ بَعْضِ الْبُلْدَانِ أَنَّ سَنَةً وَحَاجَةً نَزَلَتْ بِهِمْ فَيُنْقَلُ إلَيْهِمْ جُلُّ تِلْكَ الصَّدَقَةِ رَأَيْت ذَلِكَ صَوَابًا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُسْوَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ إذَا نَزَلَتْ الْحَاجَةُ . وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ مَا عَلَى أَمْيَالٍ مِنْ مَحِلِّهَا كَمَحِلِّهَا . سَحْنُونَ : وَكَذَا مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ . ( بِأُجْرَةٍ مِنْ الْفَيْءِ وَإِلَّا بِيعَتْ وَاشْتُرِيَ مِثْلُهَا ) رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : يُتَكَارَى عَلَى حَمْلِ الْعُشُورِ إلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ يَبِيعُهُ . قَالَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : يَبِيعُهُ وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ طَعَامًا بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يُرِيدُ قِسْمَتَهُ وَلَا يُتَكَارَى عَلَيْهِ مِنْ الْفَيْءِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى ذَلِكَ اجْتِهَادٌ وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ . وَالِاجْتِهَادُ فِي هَذَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَنْتَقِصُهُ مِنْ الطَّعَامِ فِي بَيْعِهِ هُنَا وَاشْتِرَائِهِ هُنَاكَ , وَإِلَى مَا يُتَكَارَى بِهِ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ يُتَكَارَى عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ بَاعَهُ وَإِلَّا أَكْرَى عَلَيْهِ مِنْ الْفَيْءِ . وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ : يُتَكَارَى عَلَيْهِ مِنْهُ وَالْوَجْهُ فِي هَذَا بَيِّنٌ إذْ كَمَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ عَلَيْهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَنْ يُوَصِّلُهَا , وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ فَيْءٌ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الِاكْتِرَاءِ عَلَى حَمْلِهَا مِنْهَا إنْ كَانَ(/56)
أَرْشَدَ مِنْ بَيْعِهَا . ( كَعَدَمِ مُسْتَحِقٍّ ) ابْنُ عَرَفَةَ : الرِّوَايَةُ نَقْلُهَا إنْ لَمْ يُوجَدْ بِمَحِلِّهَا مَصْرِفٌ لِلْأَقْرَبِ وَكَذَا إنْ فَضَلَ مِنْهَا عَلَى أَهْلِ مَحِلِّهَا وَإِلَّا فَطَرِيقَانِ رَاجِعْهُ فِيهِ .
( وَيُكْرَهُ حَلْيٌ ) مِنْ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا بَأْسَ بِإِجَارَةِ حَلْيِ الذَّهَبِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَاسْتَثْقَلَهُ مَالِكٌ مَرَّةً وَخَفَّفَهُ مَرَّةً أُخْرَى . ابْنُ يُونُسَ : قَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ , كِرَاءُ الْحَلْيِ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ زَكَاةَ الْحَلْيِ أَنْ يُعَارَ فَلِذَلِكَ كَرِهُوا أَنْ يُكْرَى .
وفي أسنى المطالب :
( فَرْعٌ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِالْحُلِيِّ ) الَّذِي اتَّخَذَهُ ( كَنْزًا وَلَا اسْتِعْمَالًا ) بِأَنْ أَطْلَقَ ( أَوْ قَصَدَ إجَارَتَهُ مِمَّنْ لَهُ لُبْسُهُ فَكَالْمُسْتَعْمَلِ مُبَاحًا ) فَلَا زَكَاةَ فِيهِ أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ فِي مَالٍ نَامٍ وَالنَّقْدُ غَيْرُ نَامٍ وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالنَّامِي لِتَهْيِئَتِهِ لِلْإِخْرَاجِ وَبِالصِّيَاغَةِ بَطَلَ تَهَيُّؤُهُ لَهُ وَيُخَالِفُ قَصْدُ كَنْزِهِ لِصَرْفِهِ هَيْئَةَ الصِّيَاغَةِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ فَصَارَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ كَالدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَكَمَا لَوْ اتَّخَذَهُ لِيُعَيِّرَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْأُجْرَةِ كَأُجْرَةِ الْعَامِلَةِ ( لَا إنْ وَرِثَهُ وَعَلِمَ ) بِأَنَّهُ وَرِثَهُ ( بَعْدَ الْحَوْلِ ) فَتَجِبُ زَكَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إمْسَاكَهُ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ وَهَذَا مِنْ زِيَادَتِهِ وَذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ ثُمَّ حَكَى عَنْ وَالِدِهِ احْتِمَالَ وَجْهٍ فِيهِ إقَامَةً لِنِيَّةِ مُوَرِّثِهِ مَقَامَ نِيَّتِهِ وَيُشْكِلُ الْأَوَّلُ بِالْحُلِيِّ الَّذِي اتَّخَذَهُ بِلَا قَصْدِ شَيْءٍ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ فِي تِلْكَ اتِّخَاذًا دُونَ هَذِهِ وَالِاتِّخَاذُ مُقَرَّبٌ لِلِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ عَدَمِهِ .
( قَوْلُهُ أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهَا إلَخْ ) كَذَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَنَقَضَ ابْنُ الرِّفْعَةِ الْعِلَّةَ بِالسَّبَائِكِ وَعَلَّلَهُ فِي الصَّغِيرِ بِأَنَّ الصِّيَاغَةَ لِلِاسْتِعْمَالِ غَالِبًا وَالظَّاهِرُ إفْضَاؤُهَا إلَيْهِ وَحِينَئِذٍ لَا تُرَدُّ السَّبَائِكُ .
وفي نهاية المحتاج :(/57)
( وَيُزَكَّى الْمُحَرَّمُ ) مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ( مِنْ حُلِيٍّ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِهِ مَعَ كَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَاحِدُهُ حَلْيٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ ( وَ ) مِنْ ( غَيْرِهِ ) كَالْأَوَانِي إجْمَاعًا وَلَا أَثَرَ لِزِيَادَةِ قِيمَتِهِ بِالصَّنْعَةِ ; لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ , فَلَوْ كَانَ لَهُ إنَاءٌ وَزْنُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةٍ وَجَبَتْ زَكَاةُ مِائَتَيْنِ فَقَطْ فَيُخْرِجُ خَمْسَةً مِنْ نَوْعِهِ لَا مِنْ نَوْعٍ آخَرَ دُونَهُ وَلَا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ وَلَوْ أَعْلَى , أَوْ يَكْسِرُهُ وَيُخْرِجُ خَمْسَةً أَوْ يُخْرِجُ رُبْعَ عُشْرِهِ مَشَاعًا , وَمَا كُرِهَ اسْتِعْمَالُهُ كَضَبَّةِ الْإِنَاءِ الْكَبِيرَةِ لِحَاجَةٍ أَوْ الصَّغِيرَةِ لِزِينَةٍ تَجِبُ فِيهَا أَيْضًا ( لَا ) الْحُلِيِّ ( الْمُبَاحِ فِي الْأَظْهَرِ ) فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ كَعَوَامِلِ الْمَوَاشِي , وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَأَجَابُوا عَمَّا وَرَدَ مِمَّا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحُلِيَّ كَانَ مُحَرَّمًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ فِيهِ إسْرَافًا , وَالثَّانِي يُزَكَّى لِأَنَّ زَكَاةَ النَّقْدِ تُنَاطُ بِجَوْهَرِهِ , وَرُدَّ بِأَنَّ زَكَاتَنَا إنْمَاطٌ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ لَا بِجَوْهَرِهِ إذْ لَا غَرَضَ فِي ذَاتِهِ , وَلَوْ اشْتَرَى إنَاءً لِيَتَّخِذَهُ حُلِيًّا مُبَاحًا فَحُبِسَ وَاضْطُرَّ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي طُهْرِهِ , وَلَمْ يُمْكِنْهُ غَيْرُهُ فَبَقِيَ حَوْلًا كَذَلِكَ فَهَلْ تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ ؟ الْأَقْرَبُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ لَا لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ , وَلَوْ وَرِثَ حُلِيًّا مُبَاحًا , وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ إمْسَاكَهُ لِاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ , وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِوَالِدِ الرُّويَانِيِّ إقَامَةً لِنِيَّةِ مُورِثِهِ مَقَامَ نِيَّتِهِ , وَلَا يُشْكِلُ الْأَوَّلُ بِالْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ بِلَا قَصْدِ شَيْءٍ ; لِأَنَّ فِي تِلْكَ اتِّخَاذًا دُونَ هَذِهِ , وَالِاتِّخَاذُ مُقَرَّبٌ لِلِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ عَدَمِهِ ( فَمِنْ الْمُحَرَّمِ الْإِنَاءُ ) مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ بِالْإِجْمَاعِ لِلذَّكَرِ وَغَيْرِهِ , وَذُكِرَ ذَلِكَ هُنَا لِضَرُورَةِ التَّقْسِيمِ وَبَيَانِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَلَا تَكْرَارَ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ وَمِنْهُ الْمَيْلُ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا . نَعَمْ إنْ صَدِئَ مَا ذُكِرَ بِحَيْثُ لَا يَبِينُ جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ , نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ قَطْعِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبِ الْمُهَذَّبِ وَآخَرِينَ , وَيَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى صَدًا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ , وَكَذَا مَيْلُ الذَّهَبِ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي , قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ . وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ , وَطِرَازُ الذَّهَبِ إذَا حَالَ لَوْنُهُ وَذَهَبَ حُسْنُهُ يَلْتَحِقُ بِالذَّهَبِ إذَا صَدِئَ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْخَادِمِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ فِي الْأَظْهَرِ وَفِيهِ نَظَرٌ ( وَالسِّوَارُ ) بِكَسْرِ السِّينِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا ( وَالْخَلْخَالُ ) بِفَتْحِ الْخَاءِ ( لِلُبْسِ الرَّجُلِ ) وَالْخُنْثَى مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لِخَبَرِ { أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا } وَالْفِضَّةُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ , وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخُنُوثَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ , وَمَا تَتَّخِذُهُ الْمَرْأَةُ مِنْ تَصَاوِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الشَّافِي ( فَلَوْ ) ( اتَّخَذَ ) الرَّجُلُ ( سِوَارًا ) مَثَلًا ( بِلَا قَصْدٍ ) مِنْ لُبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ ( أَوْ بِقَصْدِ إجَارَتِهِ لِمَنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ ) بِلَا كَرَاهَةٍ ( فَلَا زَكَاةَ ) فِيهِ ( فِي الْأَصَحِّ ) أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ فِي مَالٍ نَامٍ وَالنَّقْدُ غَيْرُ نَامٍ , وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالنَّامِي لِتَهْيِئَتِهِ لِلْإِخْرَاجِ , وَبِالصِّيَاغَةِ بَطَلَ تَهَيُّؤُهُ لَهُ , وَيُخَالِفُ قَصْدَ كَنْزِهِ الْآتِي لِصَرْفِهِ هَيْئَةَ الصِّيَاغَةِ عَنْ الِاسْتِعْمَالِ فَصَارَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ كَالدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ , وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَكَمَا لَوْ اتَّخَذَهُ لِيُعِيرَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِالْأُجْرَةِ كَأُجْرَةِ الْعَامِلَةِ , وَلَوْ اتَّخَذَهُ لِاسْتِعْمَالٍ مُحَرَّمٍ فَاسْتَعْمَلَهُ فِي الْمُبَاحِ فِي وَقْتٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ , وَإِنْ عُكِسَ فَفِي الْوُجُوبِ احْتِمَالَانِ , أَوْجَهُهُمَا عَدَمُهُ نَظَرًا لِقَصْدِ الِابْتِدَاءِ . فَإِنْ طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ قَصْدٌ مُحَرَّمٌ ابْتَدَأَ لَهَا حَوْلًا مِنْ وَقْتِهِ , وَلَوْ اتَّخَذَهُ لَهُمَا وَجَبَتْ قَطْعًا وَفِيهِ احْتِمَالٌ , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ تَجِبُ لِأَنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ مَنُوطٌ(/58)
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَرَجَ عَنْهُ مَا قُصِدَ بِهِ الِاسْتِعْمَالُ لِغَرَضِ تَزَيُّنِ النِّسَاءِ لِأَزْوَاجِهِنَّ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ , وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ بِلَا قَصْدٍ مَا لَوْ قَصَدَ اتِّخَاذَهُ كَنْزًا فَتَجِبُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ ( وَكَذَا لَوْ ) ( انْكَسَرَ الْحُلِيُّ ) الْمُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَيْثُ امْتَنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ ( وَقَصَدَ إصْلَاحَهُ ) عِنْدَ عِلْمِهِ بِانْكِسَارِهِ وَأَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ سَبْكٍ وَصَوْغٍ لَهُ بِأَنْ أَمْكَنَ بِالْإِلْحَامِ لِبَقَاءِ صُورَتِهِ وَقَصْدِ إصْلَاحِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ , وَإِنْ دَارَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ , فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إصْلَاحَهُ بَلْ قَصَدَ جَعْلَهُ تِبْرًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ كَنَزَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا أَوْ أَحْوَجَ انْكِسَارُهُ إلَى سَبْكٍ وَصَوْغٍ وَإِنْ قَصَدَهُمَا فَتَجِبُ زَكَاتُهُ , وَيَنْعَقِدُ حَوْلُهُ مِنْ وَقْتِ انْكِسَارِهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَلَا مُعَدٍّ لِلِاسْتِعْمَالِ , وَشَمِلَ كَلَامُهُ بِمَا قَرَّرْته بِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِانْكِسَارِهِ إلَّا بَعْدَ عَامٍ أَوْ أَكْثَرَ فَقَصَدَ إصْلَاحَهُ لَا زَكَاةَ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْقَصْدَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ مُرْصَدًا لَهُ , وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْوَسِيطِ , فَلَوْ عَلِمَ انْكِسَارَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ إصْلَاحَهُ حَتَّى مَضَى عَامٌ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ إنْ قَصَدَ بَعْدَهُ إصْلَاحَهُ الظَّاهِرُ عَدَمُ الْوُجُوبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ(/59)
( قَوْلُهُ : وَلَا أَثَرَ لِزِيَادَةِ قِيمَتِهِ بِالصَّنْعَةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ) أَيْ فَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً اُعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ مَعَ الْوَزْنِ ا هـ حَجّ اعْتِبَارًا بِهَيْئَتِهِ الْمَوْجُودَةِ حِينَئِذٍ , وَذَلِكَ كَأَنْ صَاغَ حُلِيًّا لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ , ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ فَأَمْسَكَهُ حَتَّى مَضَى حَوْلٌ مَثَلًا فَيُعْتَبَرُ الْوَزْنُ مَعَ الْقِيمَةِ حَيْثُ اتَّخَذَهُ لِيُؤَخِّرَهُ لِمَنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ , ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ أَوْ قَصَدَ مَالِكُهُ اسْتِعْمَالَهُ , وَهُوَ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ فَيُعْتَبَرُ الْوَزْنُ مَعَ الْقِيمَةِ ( قَوْلُهُ : أَوْ يُخْرِجُ رُبْعَ عُشْرِهِ مَشَاعًا ) هَذَا إنْ كَانَتْ الصَّنْعَةُ مُحَرَّمَةً كَمَا هُوَ الْفَرْضُ , وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَوَزْنُهُ وَقِيمَتُهُ مَا ذَكَرَ أَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ قِيمَتُهَا مَصُوغَةً سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْسِرَهُ وَيُخْرِجَ مِنْهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ أَوْ يُخْرِجَ رُبْعَهُ مَشَاعًا فَيَبِيعَهُ السَّاعِي بِذَهَبٍ وَيَقْسِمَهُ بِقِسْمِهِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمُسْتَحَقِّينَ , كَذَا فِي شُرُوحِ الرَّوْضِ . وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفًا مَضْرُوبَةً , وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ مَصُوغَةً , فَإِذَا أَخْرَجَ سَبْعَةً وَنِصْفًا كَانَ رِبًا لِزِيَادَةِ الْمُخْرَجِ عَلَى الْوَاجِبِ , وَقَدْ يُقَالُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّبَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ , وَمَا هُنَا لَيْسَ بِعَقْدٍ , ثُمَّ رَأَيْت فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَيْضًا مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ ذَلِكَ , وَعِبَارَتُهُ بَعْدَ مَا ذُكِرَ عَنْهُ : وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَجُوزُ إخْرَاجُ سَبْعَةٍ وَنِصْفٍ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ كَسْرُهُ لِلْأَدَاءِ مِنْهُ لِضَرَرِ الْجَانِبَيْنِ ( قَوْلُهُ : وَمَا كُرِهَ اسْتِعْمَالُهُ ) كَصَاحِبِ ضَبَّةِ الْإِنَاءِ وَعِبَارَةُ سم عَلَى بَهْجَةٍ : قَوْلُهُ وَكَذَا الْمَكْرُوهُ إلَخْ قُوَّةُ الْكَلَامِ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ إنَاءٍ فِيهِ ضَبَّةٌ مَكْرُوهَةٌ ا هـ . وَهِيَ تُفِيدُ الْكَرَاهَةَ فِي الْجَمِيعِ لَا فِي مَحَلِّ الضَّبَّةِ فَقَطْ ( قَوْلُهُ : وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ) مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتَهُ وَجَوَارِيَهُ بِالذَّهَبِ وَلَا يُخْرِجُ زَكَاتَهُ , وَصَحَّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا ا هـ شَرْحُ الْبَهْجَةِ ( قَوْلُهُ : وَرُدَّ بِأَنَّ زَكَاتَهُ إنَّمَا تُنَاطُ إلَخْ ) أَيْ بِعَيْنِهِ , وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِصَرْفِهِ فِي الْحَوَائِجِ ا هـ سم عَلَى بَهْجَةٍ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ اشْتَرَى إنَاءً إلَخْ ) بَقِيَ مَا لَوْ صَاغَ إنَاءً عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ , ثُمَّ اُضْطُرَّ إلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي مُبَاحٍ فَقَصَدَ إعْدَادَهُ لَهُ فَهَلْ تَجِبُ زَكَاتُهُ عَمَلًا بِالْأَصْلِ أَوْ لَا نَظَرًا لِلْقَصْدِ الطَّارِئِ ؟ فِيهِ نَظَرٌ , وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ , ثُمَّ رَأَيْت مَا يَأْتِي عَنْ حَجّ بِالْهَامِشِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرَ ( قَوْلُهُ : وَاضْطُرَّ إلَى اسْتِعْمَالِهِ ) أَيْ أَوْ لِاسْتِعْمَالِهِ لِلشُّرْبِ مِنْهُ لِمَرَضٍ أَخْبَرَهُ الثِّقَةُ أَنَّهُ لَا يُزِيلُهُ إلَّا هُوَ , وَأَمْسَكَهُ لِأَجْلِهِ أَوْ اتَّخَذَهُ ابْتِدَاءً ذَلِكَ , وَقَوْلُهُ فِي طُهْرِهِ أَيْ مَثَلًا ( قَوْلُهُ : وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِوَالِدِ الرُّويَانِيِّ ) ضَعِيفٌ ( قَوْلُهُ : وَلَا يُشْكِلُ الْأَوَّلُ بِالْحُلِيِّ إلَخْ ) أَيْ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ وَهُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ ( قَوْلُهُ : بِلَا قَصْدِ شَيْءٍ ) أَيْ حَيْثُ لَا زَكَاةَ فِيهِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ فِي تِلْكَ ) أَيْ وَهِيَ مَا لَوْ اتَّخَذَهُ بِلَا قَصْدِ شَيْءٍ ( قَوْلُهُ : دُونَ هَذِهِ ) أَيْ وَهِيَ مَا لَوْ وَرِثَ حُلِيًّا إلَخْ ( قَوْلُهُ : جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ ) أَيْ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ صَارَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ مُبَاحًا ( قَوْلُهُ : وَيَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى صَدًا ) بِالْقَصْرِ ( قَوْلُهُ : يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ ) أَيْ لَوْ كَانَ الصَّدَأُ مِنْ النُّحَاسِ , وَإِلَّا فَالصَّدَأُ الْحَاصِلُ مِنْ مُجَرَّدِ الْوَسَخِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا مَيْلُ الذَّهَبِ ) أَيْ وَكَاَلَّذِي صَدِئَ مَيْلٌ إلَخْ ( قَوْلُهُ : إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ ) أَيْ أَمَّا إذَا قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ لَمْ يَجُزْ , وَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ أَصْلَحَ ( قَوْلُهُ : إذَا حَالَ لَوْنُهُ ) أَيْ تَغَيَّرَ ( قَوْلُهُ : وَفِيهِ ) أَيْ إلْحَاقِهِ بِالذَّهَبِ نَظَرٌ مُعْتَمَدٌ , وَوَجْهُهُ أَنَّهُ ذَهَبٌ ذَاتُ وَهِيَّةٍ , بِخِلَافِ مَا صَدِئَ فَإِنَّ صَدَاهُ يَمْنَعُ صِفَةَ الذَّهَبِ عَنْهُ ( قَوْلُهُ : وَيَجُوزُ ضَمُّهَا ) وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ حَكَاهَا(/60)
الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ , وَحَكَى الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ الْكَسْرَ أَيْضًا ا هـ دَم : أَيْ كَسْرَ الْهَمْزَةِ . ( قَوْلُهُ : حَرَامٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ) أَيْ حَيْثُ كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ يَعِيشُ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ , بِخِلَافِ الشَّجَرِ وَحَيَوَانٍ مَقْصُوعِ الرَّأْسِ مَثَلًا فَلَا يَحْرُمُ اتِّخَاذُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ , وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا فَتَجِبُ زَكَاتُهُ كَمَا مَرَّ فِي الضَّبَّةِ لِلْحَاجَةِ ( قَوْلُهُ أَمَّا فِي الْأُولَى ) هِيَ قَوْلُهُ بِلَا قَصْدٍ وَقَوْلُهُ وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ هِيَ قَوْلُهُ أَوْ بِقَصْدٍ ( قَوْلُهُ : فَإِنْ طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ قَصْدُ مُحَرَّمٍ ) أَيْ وَإِنْ طَرَأَ عَلَى الْمُحَرَّمِ قَصْدُ مُبَاحٍ فَقِيَاسُ مَا ذُكِرَ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ مِنْ حِينِ الْقَصْدِ , وَعِبَارَةُ حَجّ : وَلَوْ قَصَدَ مُبَاحًا , ثُمَّ غَيَّرَهُ لِمُحَرَّمٍ أَوْ عَكْسِهِ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ ( قَوْلُهُ : وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ بِلَا قَصْدٍ مَا لَوْ قَصَدَ اتِّخَاذَهُ كَنْزًا ) أَيْ بِأَنْ اتَّخَذَهُ لِيَدَّخِرَهُ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ لَا فِي مُحَرَّمٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ , كَمَا لَوْ ادَّخَرَهُ لِيَبِيعَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى ثَمَنِهِ , وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ( قَوْلُهُ : أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا ) قَدْ يُشْكِلُ هَذَا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي حُلِيٍّ اتَّخَذَهُ بِلَا قَصْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا , وَيُجَابُ بِأَنَّ الْكَسْرَ هُنَا الْمُنَافِيَ لِلِاسْتِعْمَالِ قَرَّبَهُ مِنْ التِّبْرِ وَأَعْطَاهُ حُكْمَهُ ا هـ سم عَلَى بَهْجَةٍ ( قَوْلُهُ : فَقَصَدَ إصْلَاحَهُ ) أَفْهَمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ إصْلَاحَهُ حِينَ عَلِمَ بِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ , وَيُوَجَّهُ بِمِثْلِ مَا عُلِّلَ بِهِ كَأَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ عَدَمَ قَصْدِ الْإِصْلَاحِ بَعْدَ الْعِلْمِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ قَصْدِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ حِينِ الْكَسْرِ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ مِنْ حِينِهِ
وفي حاشية الدسوقي :
( وَ ) لَا فِي ( حُلِيٍّ ) جَائِزٍ اتِّخَاذُهُ وَلَوْ لِرَجُلٍ ( وَإِنْ تَكَسَّرَ إنْ لَمْ يَتَهَشَّمْ ) فَإِنْ تَهَشَّمَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ إلَّا بِسَبْكِهِ وَجَبَتْ فِيهِ لِحَوْلٍ بَعْدَ تَهَشُّمِهِ لِأَنَّهُ صَارَ كَالتِّبْرِ وَسَوَاءٌ نَوَى إصْلَاحَهُ أَمْ لَا ( وَ ) الْحَالُ أَنَّهُ ( لَمْ يَنْوِ عَدَمَ إصْلَاحِهِ ) أَيْ الْمُتَكَسِّرِ بِأَنْ نَوَى إصْلَاحَهُ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ وَالْمُعْتَمَدُ الزَّكَاةُ فِي الثَّانِيَةِ فَلَوْ قَالَ وَنَوَى إصْلَاحَهُ لَوَافَقَ الْمَذْهَبَ فَالزَّكَاةُ فِي خَمْسِ صُوَرٍ فِي الْمُتَهَشِّمِ مُطْلَقًا وَالْمُتَكَسِّرِ إذَا لَمْ يَنْوِ إصْلَاحَهُ بِأَنْ نَوَى عَدَمَ الْإِصْلَاحِ أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ ( أَوْ كَانَ ) الْحُلِيُّ الْجَائِزُ ( لِرَجُلٍ ) اتَّخَذَهُ لِنَفْسِهِ كَخَاتَمٍ وَأَنْفٍ وَأَسْنَانٍ وَحِلْيَةِ مُصْحَفٍ وَسَيْفٍ أَوْ اتَّخَذَهُ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَزَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأَمَتِهِ الْمَوْجُودَاتِ عِنْدَهُ حَالًا وَصَلَحْنَ لِلتَّزَيُّنِ لِكِبَرِهِنَّ فَإِنْ اتَّخَذَهُ لِمَنْ سَيُوجَدُ أَوْ لِمَنْ سَيَصْلُحُ لِصِغَرِهِ الْآنَ فَالزَّكَاةُ ( أَوْ ) مُتَّخَذًا لِأَجْلِ ( كِرَاءٍ ) وَلَوْ لِرَجُلٍ فِيمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلنِّسَاءِ كَالْأَسَاوِرِ عَلَى الْأَرْجَحِ خِلَافًا لِتَشْهِيرِ الْبَاجِيَّ أَوْ إعَارَةٍ فَلَا زَكَاةَ ( إلَّا مُحَرَّمًا ) كَالْأَوَانِي وَالْمَبَاخِرِ وَمُكْحُلَةٍ وَمِرْوَدٍ وَلَوْ لِامْرَأَةٍ ( أَوْ مُعَدًّا لِعَاقِبَةٍ ) فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَلَوْ لِامْرَأَةٍ أَعَدَّتْهُ بَعْدَ كِبَرِهَا لِعَاقِبَتِهَا ( أَوْ صَدَاقٍ ) لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا ( أَوْ ) كَانَ ( مَنْوِيًّا بِهِ التِّجَارَةُ ) أَيْ الْبَيْعُ وَسَوَاءٌ كَانَ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ فَالزَّكَاةُ هَذَا إنْ لَمْ يُرَصَّعْ أَيْ يُرَكَّبْ شَيْءٌ بَلْ ( وَإِنْ رُصِّعَ بِجَوْهَرٍ ) كَيَاقُوتٍ وَلُؤْلُؤٍ ( وَزَكَّى الزِّنَةَ ) أَيْ وَزْنَ مَا فِيهِ مِنْ عَيْنٍ ( إنْ نُزِعَ ) الْجَوْهَرُ أَيْ أَمْكَنَ نَزْعُهُ ( بِلَا ضَرَرٍ ) أَيْ فَسَادٍ أَوْ غُرْمٍ وَيُزَكِّي الْجَوْهَرَ زَكَاةَ الْعُرُوضِ ( وَإِلَّا ) بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهُ أَوْ أَمْكَنَ بِضَرَرٍ ( تَحَرَّى ) مَا فِيهِ مِنْ الْعَيْنِ وَزَكَّاهُ .(/61)
( قَوْلُهُ وَلَا فِي حُلِيٍّ إلَخْ ) حَاصِلُ الْفِقْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ إنَّ الْحُلِيَّ إذَا انْكَسَرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَهَشَّمَ أَوْ لَا فَإِنْ تَهَشَّمَ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ سَوَاءٌ نَوَى إصْلَاحَهُ أَوْ نَوَى عَدَمَ إصْلَاحِهِ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يُهَشَّمْ بِأَنْ كَانَ يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ وَعَوْدُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ عَدَمَ إصْلَاحِهِ أَوْ لَا فَإِنْ نَوَى عَدَمَ إصْلَاحِهِ فَالزَّكَاةُ وَإِنْ نَوَى إصْلَاحَهُ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُتَّخَذِ لِلْقِنْيَةِ وَإِنْ تَكَسَّرَ إنْ انْتَفَى تَهَشُّمُهُ وَنِيَّةُ عَدَمِ إصْلَاحِهِ بِأَنْ نَوَى إصْلَاحَهُ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَمَفْهُومُهُ صَادِقٌ بِأَرْبَعِ صُوَرٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ أَحَدُهَا التَّهَشُّمُ وَنِيَّةُ عَدَمِ إصْلَاحِهِ ثَانِيهَا التَّهَشُّمُ مَعَ نِيَّةِ إصْلَاحِهِ ثَالِثُهَا التَّهَشُّمُ مَعَ عَدَمِ نِيَّةِ شَيْءٍ أَصْلًا رَابِعُهَا عَدَمُ التَّهَشُّمِ مَعَ نِيَّةِ عَدَمِ إصْلَاحِهِ ( قَوْلُهُ وَسَوَاءٌ نَوَى ) أَيْ بَعْدَ تَهَشُّمٍ إصْلَاحَهُ وَقَوْلُهُ أَمْ لَا أَيْ أَوْ لَمْ يَنْوِ إصْلَاحَهُ بِأَنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى عَدَمَ إصْلَاحِهِ ( قَوْلُهُ وَلَمْ يَنْوِ عَدَمَ إصْلَاحِهِ ) قَيَّدَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تَكَسَّرَ ( قَوْلُهُ وَالْمُعْتَمَدُ الزَّكَاةُ فِي الثَّانِيَةِ ) أَيْ وَهِيَ مَا إذَا تَكَسَّرَ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَا إصْلَاحَهُ وَلَا عَدَمَ إصْلَاحِهِ ( قَوْلُهُ فَالزَّكَاةُ فِي خَمْسِ صُوَرٍ ) أَيْ وَعَدَمُ الزَّكَاةِ فِي صُورَتَيْنِ مَا إذَا كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَتَكَسَّرْ أَوْ تَكَسَّرَ وَنَوَى إصْلَاحَهُ ( قَوْلُهُ فِي الْمُتَهَشِّم مُطْلَقًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ إصْلَاحُهُ أَوْ عَدَمُ إصْلَاحِهِ أَوْ كَانَ لَا نِيَّةَ لَهُ ( قَوْلُهُ أَوْ كَانَ لِرَجُلٍ إلَخْ ) أَيْ أَوْ وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْمُبَالَغَةِ لِعَطْفِهِ عَلَى الْمُبَالَغِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَكَسَّرَ ( قَوْلُهُ وَسَيْفٍ ) قَالَ النَّاصِرُ وَانْظُرْ لَوْ كَانَ السَّيْفُ مُحَلًّى وَاِتَّخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا هَلْ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَمَا لَوْ اتَّخَذَ الرَّجُلُ الْحُلِيَّ لِنِسَائِهِ ا هـ قَالَ شَيْخُنَا الْعَدَوِيُّ وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ لِأَنَّ الشَّأْنَ اتِّخَاذُ الرَّجُلِ الْحُلِيَّ لِنِسَائِهِ لَا الْعَكْسُ ( قَوْلُهُ أَوْ اتَّخَذَهُ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ كَزَوْجَتِهِ وَابْتَنِهِ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَأَمَّا لَوْ مَلَّكَهُمَا إيَّاهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَ الْمُبَالَغَةِ . ( قَوْلُهُ أَوْ مُتَّخَذًا لِأَجْلِ كِرَاءٍ ) حَاصِلُ كَلَامِ الشَّارِحِ أَنَّ الْحُلِيَّ إذَا اتَّخَذَهُ إنْسَانٌ لِأَجْلِ الْكِرَاءِ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتَّخَذُ لَهُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ كَالْمَنْوِيِّ بِهِ التِّجَارَةَ فَيَكُونُ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ إنَّ ظَاهِرَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُتَّخَذَ لِلْكِرَاءِ لَا زَكَاةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَالِكِهِ كَأَسَاوِرَ أَوْ خَلْخَالٍ لِامْرَأَةٍ أَوْ كَانَ لَا يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَالِكِهِ كَأَسَاوِرَ أَوْ خَلْخَالٍ لِرَجُلٍ وَهُوَ كَذَلِكَ خِلَافًا لِقَوْلِ الْبَاجِيَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ مَا يَتَّخِذُهُ الرَّجُلُ لِلْكِرَاءِ مِنْ حُلِيِّ النِّسَاءِ فِيهِ الزَّكَاةُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاجِحَ عَلَى مَا قَالَهُ تَبَعًا لطفى أَنَّ الْمُتَّخَذَ لِلْكِرَاءِ لَا زَكَاةَ فِيهِ مُطْلَقًا , كَانَ الْمَالِكُ لَهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ أَمْ لَا وَأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إلَّا مُحَرَّمًا فِي غَيْرِ الْمُعَدِّ لِلْكِرَاءِ وَارْتَضَى مَا قَالَهُ طفى شَيْخُنَا الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى خش وَاَلَّذِي اعْتَمَدَهُ بْن مَا فِي خش وعبق وَهُوَ مَا قَالَهُ الْبَاجِيَّ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ كَوْنِ الْمُعَدِّ لِلْكِرَاءِ لَا زَكَاةَ فِيهِ إذَا كَانَ يُبَاحُ لِمَالِكِهِ اسْتِعْمَالُهُ كَأَسَاوِرَ أَوْ خَلْخَالٍ لِامْرَأَةٍ أَمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ وَنَصُّ بْن بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا عِنْدَ هَذَا الشَّارِحِ أَيْ عبق وَمَنْ وَافَقَهُ أَيْ كخش قَالَهُ الشَّيْخُ الْمِسْنَاوِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ طفى مِنْ الْمُعْتَمَدِ غَيْرُ صَوَابٍ إذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إلَّا مَا فِي التَّوْضِيحِ وَظَاهِرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَقَدْ عَلِمْت مَا فِي ذَلِكَ ا هـ كَلَامُهُ ( قَوْلُهُ أَوْ إعَارَةٍ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ كِرَاءٍ ( قَوْلُهُ إلَّا مُحَرَّمًا ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِعْمَالِ أَوْ لِلْعَاقِبَةِ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحُلِيُّ الَّذِي اتَّخَذَهُ لِوَلَدٍ صَغِيرٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ(/62)
مِنْ الْمُحَرَّمِ عَلَى الرَّاجِحِ ا هـ عَدَوِيٌّ ( قَوْلُهُ كَالْأَوَانِي ) أَيْ كَدَوَاةٍ وَعِدَّةِ فَرَسٍ مِنْ لِجَامٍ وَسَرْجٍ ( قَوْلُهُ أَوْ مُعَدًّا لِعَاقِبَةٍ ) أَيْ مَعَ كَوْنِهِ مُبَاحًا كَسَيْفٍ لِرَجُلٍ وَخَلَاخِلَ لِامْرَأَةٍ مُعَدَّيْنِ لِلْعَاقِبَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ الْمُعَدُّ لِلْعَاقِبَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ إلَّا مُحَرَّمًا ا هـ شَيْخُنَا عَدَوِيٌّ وَقَوْلُهُ لِعَاقِبَةٍ أَيْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ وَقَوْلُهُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ أَيْ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِعَدَمِهَا فِيهِ ا هـ شَيْخُنَا عَدَوِيٌّ ( قَوْلُهُ وَلَوْ لِامْرَأَةٍ ) أَيْ هَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ بَلْ وَلَوْ كَانَ لِامْرَأَةٍ , هَذَا إذَا اتَّخَذَتْهُ لِلْعَاقِبَةِ ابْتِدَاءً بَلْ وَلَوْ اتَّخَذَتْهُ لِذَلِكَ انْتِهَاءً كَمَا لَوْ اتَّخَذَتْهُ لِلِّبَاسِ فَلَمَّا كَبِرَتْ اتَّخَذَتْهُ لِلْعَاقِبَةِ ( قَوْلُهُ أَوْ صَدَاقٍ إلَخْ ) أَيْ أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ إذَا اتَّخَذَهُ الرَّجُلُ لِأَجْلِ أَنْ يُصْدِقَهُ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ يَشْتَرِي بِهِ أَمَةً يَتَسَرَّى بِهَا وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهِ ( قَوْلُهُ أَوْ مَنْوِيًّا بِهِ التِّجَارَةُ ) يُرِيدُ وَلَوْ كَانَ أَوَّلًا لِلْقِنْيَةِ ثُمَّ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ فَيُزَكِّيهِ لِعَامٍ مِنْ حِينِ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ كَذَا فِي خش وَاَلَّذِي فِي بْن أَنَّهُ إذَا اتَّخَذَ الْحُلِيَّ لِلْقِنْيَةِ ابْتِدَاءً ثُمَّ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ فَلَا زَكَاةَ وَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهُ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ فَلَا يَنْتَقِلُ بِهَا وَلَا عِبْرَةَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ عَنْ الْأَصْلِ وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَنْقُلُ لِلْأَصْلِ وَلَا تَنْقُلُ عَنْهُ ( قَوْلُهُ هَذَا إنْ لَمْ يُرَصَّعْ إلَخْ ) الْمُشَارُ إلَيْهِ الْمُحَرَّمُ وَالْمُعَدُّ لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّدَاقُ وَالْمَنْوِيُّ بِهِ التِّجَارَةَ ( قَوْلُهُ وَزَكَّى الزِّنَةَ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ عَامٍ يَزِنُهُ بَعْدَ قَلْعِ الْجَوَاهِرِ مِنْهُ وَيُزَكِّيهِ إنْ أَمْكَنَ نَزْعُ الْجَوَاهِرِ مِنْهُ بِلَا ضَرَرٍ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهَا مِنْهُ أَصْلًا أَوْ أَمْكَنَ نَزْعُهَا مِنْهُ لَكِنْ بِتَضَرُّرٍ كَكَسْرِ الْجَوَاهِرِ أَوْ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَى نَزْعِهَا مِنْهُ غُرْمُ دَرَاهِمَ لِمَنْ يَنْزِعُهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى الزِّنَةَ كَمَا أَشَارَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا تَحَرَّى أَيْ فِي كُلِّ سَنَةٍ إنْ كَانَ يُسْتَعْمَلُ وَيَنْقُصُهُ الِاسْتِعْمَالُ وَإِلَّا اكْتَفَى بِالتَّحَرِّي فِي أَوَّلِ عَامٍ ( قَوْلُهُ وَيُزَكِّي الْجَوْهَرَ زَكَاةَ الْعُرُوضِ ) أَيْ مِنْ إدَارَةٍ أَوْ احْتِكَارٍ إنْ كَانَ شَأْنُهُ التِّجَارَةَ فِيهَا وَإِلَّا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَصْلًا ا هـ عَدَوِيٌّ .
وفي حاشية العطار :
( وَ ) الْأَصَحُّ ( تَعْمِيمُ الْعَامِّ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ ) بِأَنْ سِيقَ لِأَحَدِهِمَا ( إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عَامٌّ آخَرُ ) لَمْ يُسَقْ لِذَلِكَ إذْ مَا سِيقَ لَهُ لَا يُنَافِي تَعْمِيمَهُ فَإِنْ عَارَضَهُ الْعَامُّ الْمَذْكُورُ لَمْ يَعُمَّ فِيمَا عُورِضَ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا وَقِيلَ لَا يَعُمُّ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَمْ يُسَقْ لِلتَّعْمِيمِ ( وَثَالِثُهَا يَعُمُّ مُطْلَقًا ) كَغَيْرِهِ وَيُنْظَرُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ إلَى الْمُرَجَّحِ , مِثَالُهُ وَلَا مُعَارِضَ { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } وَمَعَ الْمُعَارِضِ { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } فَإِنَّهُ وَقَدْ سِيقَ لِلْمَدْحِ يَعُمُّ بِظَاهِرِهِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَمْعًا وَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } فَإِنَّهُ وَلَمْ يُسَقْ لِلْمَدْحِ شَامِلٌ لِجَمْعِهِمَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَحُمِلَ الْأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يُرَدْ تَنَاوُلُهُ لَهُ أَوْ أُرِيدَ وَرُجِّحَ الثَّانِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ .(/63)
( قَوْلُهُ : تَعْمِيمُ الْعَامِّ ) أَيْ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَضْعًا , وَالِاخْتِلَافُ فِي بَقَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ . ( قَوْلُهُ : بِمَعْنَى مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ ) أَيْ الْوَارِدِ بِمَعْنَى وَالْمَعْنَى بِمَعْنَى الصِّفَةِ وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ وَذِكْرُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ لِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ وَالْمُرَادُ أَنَّ سَوْقَ الْعَامِّ لِغَرَضٍ آخَرَ كَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ هَلْ يَنْصَرِفُ بِذَلِكَ عَنْ عُمُومِهِ أَمْ لَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي اللُّبِّ وَشَرْحِهِ وَالْأَصَحُّ تَعْمِيمُ عَامٍّ سَيَقَ لِغَرَضٍ كَمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ إلَى أَنْ قَالَ وَقَوْلِي لِغَرَضٍ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ . ( قَوْلُهُ : بِأَنْ سِيقَ لِأَحَدِهِمَا ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى أَوْ . ( قَوْلُهُ : إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ إلَخْ ) فَإِنْ عَارَضَهُ فَلَا يَعُمُّ إنْ لَمْ يُسَقْ لِذَلِكَ وَإِلَّا عَمَّ لِاسْتِوَائِهِمَا وَيَرْجِعُ لِلْمُرَجِّحَاتِ . ( قَوْلُهُ : لَمْ يُسَقْ لِذَلِكَ ) أَيْ لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَهَذَا الْقَيْدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَائِلِ فَذِكْرُهُ لِتَحْرِيرِ مَحَلِّ الْخِلَافِ . ( قَوْلُهُ : إذْ مَا سِيقَ لَهُ إلَخْ ) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ الْأَصَحُّ تَعْمِيمُ الْعَامِّ إلَخْ أَيْ ; لِأَنَّ مَا سِيقَ لَهُ لَا يُنَافِيهِ وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ الْعَامُّ لَهُ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ فَلَا وَجْهَ لِعَدَمِ الْحُكْمِ بِالْعُمُومِ . ( قَوْلُهُ : لَمْ يَعُمَّ ) أَيْ يَرْتَفِعْ عُمُومُهُ بِالْكُلِّيَّةِ . ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ لَا يَعُمُّ ) وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ , وَلِذَلِكَ مَنَعَ التَّمَسُّكَ بِآيَةِ { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الْآيَةُ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ . ( قَوْلُهُ : مُطْلَقًا ) أَيْ عَارَضَهُ عَامٌّ أَوْ لَا . ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّهُ لَمْ يُسَقْ لِلتَّعْمِيمِ ) أَيْ وَإِنَّمَا سِيقَ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَاعْتُرِضَ عَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا بِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ دُخُولُ الصُّورَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ تَحْتَ الْعَامِّ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ تِلْكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا قَرِينَةٌ مِنْ مَدْحٍ أَوْ غَيْرِهِ تَصْرِفُ عَنْ الْعُمُومِ بَلْ الْعُمُومُ ثَمَّ بَاقٍ فِي غَيْرِ الْمَقْصُودِ إجْمَاعًا أَيْ وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ دُخُولِهَا فِي الْعَامِّ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ وَهُنَا يَرْتَفِعُ الْعُمُومُ وَيُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ مَا يَصْدُقُ بِهِ اللَّفْظُ عِنْدَ مَنْ يَرَى بِأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهِ . ( قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ ) خَبَرُ إنَّ قَوْلُهُ يَعُمُّ , وَقَدْ سِيقَ لِلْمَدْحِ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يُسَقْ . ( قَوْلُهُ : بِمِلْكِ الْيَمِينِ ) وَكَذَا بِالنِّكَاحِ ( قَوْلُهُ : عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ) أَيْ غَيْرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ حَيْثُ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى إبَاحَةِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . ( قَوْلُهُ : أَوْ أُرِيدَ ) أَيْ تَنَاوُلُهُ لَهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ عَامٌّ مُطْلَقًا . ( قَوْلُهُ : بِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ ) أَيْ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ
وفي شرح النيل :(/64)
فَائِدَةٌ , ( وَفِي الْعَيْنَيْنِ وَلَوْ ) كَانَا ( مَصْنُوعَيْنِ ) , وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةُ وَمَالِكٌ : لَا زَكَاةَ فِيهِمَا إنْ صُنِعَا حُلِيًّا وَزِينَةً لِامْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ , أَوْ لِسِلَاحٍ أَوْ كِتَابٍ , أَوْ نُسِجَا فِي لِبَاسٍ , أَوْ خِيطَا فِيهِ , أَوْ خِيطَ بِهِمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , أَوْ صُنِعَا مُكْحُلَةً تُكَحَّلُ مِنْهَا الْعَيْنُ , أَوْ صُنِعَا سِلَاحًا أَوْ دَوَاةً أَوْ قَلَمًا أَوْ آلَةً لِشَيْءٍ مَا , وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ عَائِشَةَ إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْمَصْنُوعَيْنِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا فِي الْفَتَخَاتِ الَّتِي دَخَلَتْ بِهِنَّ عَلَيْهِ : " حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ إذَا كُنْتِ لَا تُزْكِيهِنَّ , اعْلَمِي أَنَّ فِيهِنَّ الزَّكَاةَ , وَقَوْلُهُ لِامْرَأَتَيْنِ فِي يَدَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا سِوَارٌ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ : أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسُوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ فَقَالَتَا : لَا , فَقَالَ : فَأَدِّيَا زَكَاتَهُمَا , أَيْ تُؤَدِّي كُلٌّ مِنْكُمَا زَكَاةَ سُوَارَيْهَا , وَمَعْنَى قَوْلِ عَائِشَةَ : لَا , بَعْدَ قَوْلِهِ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ يَعْنِي الْفَتَحَاتِ أَيْ لَا أُؤَدِّي , فِي اعْتِقَادِي أَنَّهُ لَا تَلْزَمُ الزَّكَاةُ فِيهِنَّ , أَوْ مَعْنَى قَوْلِهِ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ أَتُحِبِّينَ تَأْدِيَةَ زَكَاتِهِنَّ , فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهَا : لَا إنِّي لَا أُرِيدُ تَحَمُّلَ الزَّكَاةِ لِخَطَرِهَا , فَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ ) حَسْبُكِ النَّارُ إنْ لَمْ تُؤَدِّي زَكَاتَهُنَّ , وَمَعْنَى إيجَابِهِ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا وَعَلَى الْمَرْأَتَيْنِ إمَّا رُؤْيَتُهُ أَنَّ فِي السِّوَارَيْنِ النِّصَابَ وَكَذَا الْفَتَخَاتُ , أَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهُنَّ مَا يَكْمُلُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ نِصَابٌ , أَوْ أَرَادَ أَنَّ فِي ذَلِكَ زَكَاةً إذَا تَمَّ النِّصَابُ فَيَكُونُ نَبَّهَهُنَّ لِئَلَّا يَغْفُلْنَ عَنْ زَكَاةِ ذَلِكَ . وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ " { أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهَا سِوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ سَبْعُونَ مِثْقَالًا , فَقَالَتْ : أُخْرِجُ الْفَرِيضَةَ ؟ فَأَخْرَجَ مِثْقَالًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمِثْقَالِ } , وَزَعَمَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ زَكَاةَ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ , وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ إسْرَافًا وَأَنَّهُ مَعْنَى زَكَاتِهِ .(/65)
فَصْلٌ ( هَلْ يُزَكَّى الْحُلِيُّ , عَلَى مَا جُعِلَ ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ , لِيَشْمَلَ إذَا كَانَ الْجَاعِلُ هُوَ مُرِيدُ الزَّكَاةِ الْمَالِكُ , وَمَا إذَا كَانَ الْجَاعِلُ مَنْ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , أَوْ مَنْ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَاسِطَتَيْنِ أَوْ وَسَائِطَ ( فِيهِ ) مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَاسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى كَمَا هُوَ , بَلْ يَنْقُصُ بِالِاسْتِعْمَالِ , وَيُجَابُ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُزَكِّي عَلَى مَا جُعِلَ فِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ النَّقْصَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَوْ عَبَّرَ فَوَجَدَ النَّقْصَ فَعَلَى الْمَوْجُودِ فِيهِ , ( أَوْ عَلَى قِيمَتِهِ ) وَلَوْ زَادَتْ عَلَى مَا جَعَلَ فِيهِ أَوْ نَقَصَتْ , ( أَوْ عَلَى وَزْنِهِ كُلَّ سَنَةٍ ) وَهُوَ الصَّحِيحُ , لِأَنَّ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِذَاتِهِمَا لَكِنْ رُبَّمَا لَا يَجِدُ وَزْنَهُ لِكَوْنِهِ مَنْقُوشًا فِي لِبَاسٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَوْ غَيْرِهِمَا , وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَعْدَلُ , وَيَلِيهِ الَّذِي قَبْلَهُ , لَكِنْ قَدْ يُشْكَلُ بِمَا يُخَالِطُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَنُحَاسٍ , أَوْ يُجَابُ بِأَنَّهُ إنْ قَلَّ مَا خَالَطَهُ كَالْقَدْرِ الَّذِي لَا تَخْلُو مِنْهُ الْفِضَّةُ مَثَلًا فَلَا ضَيْرَ لِقِلَّتِهِ وَجَرْيِهِ جَرَيَانَ النُّقْرَةِ أَوْ قُرْبِهِ مِنْهَا , وَإِنْ كَثُرَ وَخَرَجَ عَمَّا اُعْتِيدَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُزَكِّي بِمَا فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَا بِمَا خَالَطَهُ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِمَا جُعِلَ فِيهِ مِنْهُمَا دُونَ مَا خَالَطَهُ كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ . وَرُوِيَ : { أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهَا سِوَارُ ذَهَبٍ فِيهِ سَبْعُونَ مِثْقَالًا فَقَالَتْ : أُخْرِجُ الْفَرِيضَةَ ؟ فَأَخْرَجَ مِثْقَالًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمِثْقَالِ } فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ زَكَّاهُ عَلَى وَزْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ , أَوْ عَلَى مَا جُعِلَ فِيهِ إذْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ سَبْعِينَ مِثْقَالًا فَهِيَ مَا جَعَلَ فِيهِ , وَهِيَ أَيْضًا وَزْنُهُ , وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْوَى بِالسِّعْرِ كَمَا جُعِلَ فِيهِ , فَيَكُونُ قَدْ زَكَّاهُ بِالْقِيمَةِ , وَهُوَ احْتِمَالٌ دُونَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ , ( أَقْوَالٌ ) وَقَوْلُهُ : كُلَّ سَنَةٍ , عَائِدٌ إلَى قَوْلِهِ : عَلَى قِيمَتِهِ , وَإِلَى قَوْلِهِ : عَلَى وَزْنِهِ , وَفِي " التَّاجِ " : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَزْنَ حُلِيِّهِ فَأَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ وَلَوْ عَبْدًا اجْتَزَأَ بِهِ , وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُخْبِرًا احْتَاطَ بِالْأَكْثَرِ وَاكْتَفَى عَنْ وَزْنِهِ ا هـ وَأَقُولُ : الْعَدْلُ عِنْدِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ زَكَّى عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ الْوَزْنُ أَكْثَرَ زُكِّيَ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ إذَا تَمَّ النِّصَابُ بِالْوَزْنِ فَكَيْفَ لَا يُزَكَّى ؟ بَلْ يُزَكِّي وَلَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ , وَكَذَا إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصَابِ , وَالْقِيمَةُ كَالنِّصَابِ أَوْ أَكْثَرَ , لَكِنْ دُونَ الْوَزْنِ , فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا وَجَدَ عَيْنًا ؟ بِوَزْنٍ لِمُجَرَّدِ قِلَّةِ السِّعْرِ عَنْهُ ؟ وَلَيْسَ التَّزْكِيَةُ تَارَةً بِالْوَزْنِ وَتَارَةً بِالْقِيمَةِ بَعِيدًا , لِأَنَّهُ إذَا زَكَّيْنَاهُ بِالْقِيمَةِ جَعَلْنَاهُ كَالْعُرُوضِ . وَالْعُرُوضُ تُزَكَّى , بَلْ قَدْ مَرَّ أَيْضًا تَقْوِيمُ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ , وَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ , غَيْرَ أَنَّهُ بَقِيَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْحُلِيُّ مَخْلُوطًا بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , فَأَمَّا خَلْطًا قَلِيلًا مُسَامَحًا فِيهِ فَلَا إشْكَالَ , وَأَمَّا كَثِيرًا غَيْرَ مُعْتَادٍ لَا يُسَامَحُ فِيهِ , فَيُقَالُ فِي هَذَا : كَيْفَ يُوزَنُ هَذَا وَفِيهِ غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؟ أَمْ كَيْفَ يُقَوَّمُ وَفِيهِ غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا , فَلَا يُزَكَّى بِالنَّفْسِ وَلَا بِالْقِيمَةِ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّجْرُ , وَهَذَا حُلِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ التَّجْرُ , فَأَقُولُ : إذَا كَثُرَ الْخَلْطُ زُكِّيَ غَيْرُهُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِمَا جُعِلَ فِيهِ وَأُسْقِطَ الْخَلْطُ , وَإِذَا أَمْكَنَ إعْطَاءُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مِنْهُ بِقَطْعٍ أَوْ تَقْشِيرٍ بِلَا فَسَادٍ أَوْ بِمُشَارَكَةٍ فِيهِ فَظَاهِرٌ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِفَسَادٍ وَلَمْ يَرِدْ مُشَارَكَةَ الْفَقِيرِ لَهُ , فَلِيُعْطِ زَكَاتَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يُزَكَّى كَنَفَقَةٍ وَعُرُوضٍ غَيْرَ تَجْرٍ , وَإِنْ أَعْطَى مِنْ نَقْدٍ أَوْ تَجْرٍ زَكَّى أَيْضًا مَا أَعْطَى إلَّا إنْ أَعْطَى مِنْ نَقْدٍ لَمْ يَدُرْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ , أَوْ تَجَرَ كَذَلِكَ فَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَا أَعْطَى مِنْهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِي الْفَائِدَةِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا .(/66)
( وَأَجْرُ حَارِسِهِ ) أَيْ حَارِسِ الرَّهْنِ عَنْ السَّرِقَةِ أَوْ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ ( مِنْ مَالِهِ ) أَيْ مَالِ الرَّاهِنِ , أَيْ يَدْفَعُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ مَالِهِ ( لَا مِنْهُ ) أَيْ لَا مِنْ الرَّهْنِ ( أَيْضًا وَكَذَا مَا يَأْخُذُهُ جَائِرٌ مِنْ خَرَاجِ ثِمَارِهِ أَوْ ) خَرَاجِ ( غَيْرِهَا مِنْ الْمَرْهُونَاتِ ) كَعُشُورِ الْحَيَوَانَاتِ , يَعْنِي أَنَّهُ ذَهَبَ ذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ وَكَأَنَّ مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِمَالِهِ الَّذِي هُوَ الرَّهْنُ , وَلَا يَذْهَبُ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ مِقْدَارُ ذَلِكَ سَوَاءٌ أَخَذَ الْجَائِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةٍ أَوْ أَعْطَاهُ الرَّاهِنُ ( إلَّا إنْ أَعْطَاهُ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ ) الْخَرَاجَ مِنْ ثِمَارِ الرَّهْنِ أَوْ غَيْرِهَا ( فَمِنْ مَالِهِ ) لَا مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ ( وَإِنْ أَخَذَهُ ) ذَلِكَ الْجَائِرُ ( بِيَدِهِ ) أَوْ بِأَمْرِهِ ( لَا بِهِمَا ) أَيْ لَا بِوَاسِطَةِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ( فَمِنْ ) مَالِ الرَّاهِنِ عَلَى قَوْلٍ كَمَا مَرَّ آنِفًا وَمِنْ ( مَالِهِ ) أَيْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ ( أَيْضًا ) كَمَا إذَا أَعْطَاهُ بِيَدِهِ ( عَلَى قَوْلٍ ) آخَرَ ( وَكَذَا زَكَاتُهُ ) أَيْ زَكَاةُ الرَّهْنِ وَثِمَارُهُ كَالْإِبِلِ الْمَرْهُونَةِ وَالْغَنَمِ الْمَرْهُونَةِ وَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَرْهُونَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي رَهْنِهَا فِي جِنْسِهَا أَوْ غَيْرِهِ , وَكَالْحُلِيِّ الَّذِي هُوَ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ وَكَكُلِّ شَيْءٍ مَرْهُونٍ مِمَّا اتَّخَذَهُ الرَّاهِنُ لِلتَّجْرِ ( عَلَى الرَّاهِنِ مِنْ مَالِهِ ) أَيْ مَالِ الرَّاهِنِ ( لَا مِنْهُ ) أَيْ لَا مِنْ الرَّهْنِ ( أَيْضًا ) إلَّا إنْ شَرَطَ أَنَّ زَكَاةَ الرَّهْنِ تَخْرُجُ مِنْهُ وَأَمَّا ثِمَارُ الرَّهْنِ وَالْحَيَوَانُ الْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ إذَا كَانَ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّتِي تَلْزَمُ الزَّكَاةُ فِيهَا بِالذَّاتِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَخْرُجُ مِنْهَا إنْ كَانَ الْحَيَوَانُ فِي الْبَطْنِ وَالثِّمَارُ عَلَى شَجَرِهَا حَالَ الْعَقْدِ أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَهُ لِأَنَّ زَكَاةَ الشَّيْءِ مِنْهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ وَالْأَصْلِ . وَلَوْ كَانَتْ تَخْرُجُ الزَّكَاةُ مِنْ نَفْسِ الرَّهْنِ مُطْلَقًا لَكَانَ نَقْصًا مِمَّا رُهِنَ وَإِتْلَافًا مِنْهُ , وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَنَقْصٌ مِنْ حَقِّهِ مَعَ أَنَّ الرَّهْنَ مَحْبُوسٌ فِي الرَّهْنِ عِنْدَهُ وَحَقٌّ لَهُ فَغَلَّبُوا حَقَّ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهُ فَلَزِمَ الرَّاهِنَ إذْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالزَّكَاةِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مَالِهِ وَلَا يَأْخُذَ مَا أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ إذَا بِيعَ وَلَا مِقْدَارِهِ مِنْ نَفْسِ الرَّهْنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الزَّكَاةِ وَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ هَذَا تَحْقِيقُ الْمَقَامِ , وَأَمَّا إخْرَاجُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مِنْ غَيْرِهِ مَثَلًا وَإِخْرَاجُ زَكَاةِ مَا لَا تَلْزَمُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِذَاتِهِ كَسَائِرِ الْعُرُوضِ مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ وَالْأَصْلِ وَفِي الدِّيوَانِ : عَلَى الرَّاهِنِ زَكَاةُ الرَّهْنِ فِيمَا تَجِبُ مِنْهُ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ الرَّهْنِ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَمَا حَدَثَ مِنْ النَّمَاءِ وَالْغَلَّاتِ وَلَا يُصِيبُ إخْرَاجَهَا مِنْ الرَّهْنِ , وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الرَّهْنِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الرَّاهِنِ وَلَا الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسَلَّطِ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنَ , وَيُؤَدِّي الْمُرْتَهِنُ زَكَاةَ دَيْنِهِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَالِ الرَّاهِنِ وَفَاءُ مَالِهِ , وَيَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ عُشْرُ الرَّهْنِ إذَا حَنِثَ بِمَالِهِ لِلْمَسَاكِينِ وَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ الرَّهْنُ وَلَكِنْ يُعْطِيهِ الرَّاهِنُ مِنْ نَفْسِهِ ( فَإِنْ كَانَ ) الرَّهْنُ ( حَيَوَانًا ) يَرْعَى ( لَزِمَهُ ) أَيْ الرَّاهِنَ ( عَلَفُهُ وَرَعْيُهُ ) أَيْ أَحَدُهُمَا لِقَوْلِهِ : ( وَخُيِّرَ فِي أَحَدِهِمَا ) كَأَنَّهُ قَالَ لَا يُخَاطَبُ بِعَلَفِهِ وَرَعْيِهِ غَيْرُهُ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي أَحَدِهِمَا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الرَّعْيِ وَالْعَلَفِ ( وَلَا يَمْنَعُهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ إخْرَاجِهِ لِلرَّعْيِ فِيمَا يَرْعَى فِيهِ مِثْلُهُ مِنْ النَّاسِ ) بِحَسَبِ الصَّلَاحِ وَالْأَمْنِ وَمُحَافَظَةِ الرَّاعِي , وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ فَلَا يُدْرِكُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ .
*****************
وقال القرضاوي في فقه الزكاة
المبحث الثاني
في زكاة الحلي والأواني والتحف الذهبية والفضية
زكاة الحلي والأواني والتحف الذهبية والفضية
من تمام البحث في زكاة الذهب والفضة: معرفة الحكم فيما يتخذ منهما أواني للاستعمال، أو تحفًا للزينة والترف، أو تماثيل لإنسان أو حيوان أو غيرهما، أو حليًا للنساء أو للرجال: هل تجب الزكاة في ذلك أم لا ؟ أم تجب في بعضه دون بعض؟
أواني الذهب والفضة وتحفهما فيها الزكاة(/67)
والذي لا خلاف فيه بين علماء الإسلام: أن ما حرم استعماله واتخاذه من الذهب والفضة، تجب فيه الزكاة.
ومن ذلك: الأواني التي جاء الحديث الصحيح بتحريمها والوعيد على من استعملها، لما فيها من مظاهر الترف والسرف (انظر في حكم تحريم آنية الذهب والفضة وحكمته: كتابنا "الحلال والحرام" فصل "في البيت") ولأنها تعد -حينئذ- نقودًا مكنوزة وثروة معطلة بدون حاجة ويستوي في هذه الحال ما استعمل منها للطعام والشراب، وما اتخذ زينة وتحفة فكلاهما من الترف المذموم وذلك كما قال في المغنى: إن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لأن المعنى المقتضى للتحريم يعمهما، وهو الإفضاء إلى السرف والخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، فيستويان في التحريم وإنما أبيح للنساء التحلي لحاجتهن إليه، للتزين للأزواج، وليس هذا بموجود في الآنية ونحوها فتبقى على التحريم.
والتماثيل محرمة ولو كانت من برونز أو نحاس، فإذا كانت من فضة أو ذهب تضاعفت حرمتها (انظر المرجع السابق).
قال شيخ الإسلام ابن قدامة: إذا ثبت هذا فإن فيها الزكاة، بغير خلاف بين أهل العلم، ولا زكاة فيها حتى تبلغ نصابًا بالوزن، أو يكون عنده ما يبلغ نصابًا بضمها إليه (المغنى: 3/15، 16).
وهناك قول باعتبار قيمتها لا وزنها، نقله صاحب المغنى عن بعض الحنابلة (المغنى: 3/15، 16) فإن حسن الصنعة، وبراعة الصياغة والفن، ترتفع بقيمتها ارتفاعًا كبيرًا فاعتبار القيمة أولى، لما فيه من رعاية حظ الفقراء والمستحقين، وما فيه من تغليظ على هؤلاء المترفين الذين انتهكوا ما حرم الله.
حلي الرجال المحرم فيه الزكاة
ومثل الآنية والتحف الذهبية والفضية للرجال والنساء: ما يتخذه الرجال من حلى حرمه الشرع عليهم (راجع في ذلك "الحلال والحرام" فصل "في الملبس والزينة").
فإن الحلي ليس من حاجات الرجل ولا من مقتضيات فطرته، ولهذا حرمت عليه شريعة الإسلام التحلي بالذهب، ولم يبح له إلا التختم بالفضة (قال ابن قدامة: ويباح للرجال من الفضة: الخاتم "لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتمًا من ورق" متفق عليه، وحلية السيف، بأن تجعل قبضته فضة أو تحليتها بفضة، فإن أنسًا قال: "كانت قبضة سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضة"، وقال هشام بن عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة رواهما الأثرم بإسناده "المغنى: 3/14، 15") ومثل هذا لا يبلغ التحلي به نصابًا.
فإذا كان لبعض الرجال حلي من الذهب -خاتم أو طوق أو سلسلة أو نحوها- وبلغت قيمته نصابًا بنفسه، أو بما عنده من مال آخر، فإن الزكاة تجب فيه، لأنه مال معطل كان في الإمكان أن ينمى وينتفع به، أو يضاف إلى رصيد الدولة من الذهب وتعطيله ليس لإشباع حاجة فطرية معقولة كما هو الشأن في حلى النساء، بل هو خروج عن الفطرة وشرود عن المنهج القويم، واعتداء لحدود الله، وإيجاب الزكاة عليه تنبيه له على خطئه، وتذكير له بإخراج هذا المال إلى حيز النماء والتثمير، وأداء وظيفته في التداول والمبادلة.
ولا يباح من الذهب إلا ما دعت الضرورة إليه كالأنف في حق من قطع أنفه، لما روى عن عبد الرحمن بن طرفة "أن جده عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفًا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتخذ أنفًا من ذهب" (رواه أبو داود).
وقال الإمام أحمد: ربط الأسنان بالذهب إذا خشي عليها أن تسقط قد فعله الناس، فلا بأس به عند الضرورة وما عدا ذلك فهو حرام يجب تزكيته والراجح هنا أيضًا، اعتبار النصاب بالقيمة لا بالوزن كما ذكرناه لأننا ننظر إلى هذا الحلي باعتباره متاعًا، فإذا بلغت قيمته ما يساوى 85 جرامًا من الذهب ولو كان وزنه أقل من ذلك وجبت فيه الزكاة على ما اخترناه.
حلي اللآلئ والجواهر للنساء لا زكاة فيها
أما الحلي من غير الذهب والفضة أعنى حلي الجواهر من اللؤلؤ والمرجان والزبرجد والماس ونحوها فلا زكاة فيه: لأنه مال غير نام، بل هو حلية ومتاع للمرأة أباحه الله بنص كتابه حين ذكر البحر فقال: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) (النحل: 14- وتكرر هذا المعنى في عدة سور).
ولم يخالف في ذلك إلا بعض أئمة العترة من الشيعة، فقد ذهب إلى أن ما قيمته نصاب من الجواهر، يجب أن يزكى، لأنها مال نفيس بلغ نصابًا فيجب فيه الزكاة، عملاً بعموم قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) التوبة: 103).
وتقرير ذلك: أن كلمة "أموالهم" جمع مضاف، وهو يفيد العموم، فيكون المعنى: خذ من كل واحد من أموالهم، وذلك هو معنى العموم، وحلى الجواهر مال نفيس يندرج في هذا العموم وهو المطلوب (انظر "الروض النضير " في فقه الزيدية مقارنًا بالمذاهب الأخرى: 2/409، 410).
وأجاب الجمهور: على التسليم بأن الآية تفيد العموم في جميع أنواع المال -بأن السنة القولية والعملية قد خصصت هذا العموم بالأموال النامية أو القابلة للنماء، فالعلة هي النماء حقيقة أو تقديرًا، وليست هي النفاسة حتى يدار الحكم عليها (المرجع السابق) وهذه الجواهر تتخذ للحلية وللانتفاع الشخصي، لا للنماء والاستغلال وهذا ما لم تتخذ كنزًا أو تتجاوز الحد المعقول، كما سنرجحه بعد.
الخلاف في حلي الذهب والفضة للنساء
أما حلى الذهب والفضة للنساء، فلم يرد في شأنها شيء في كتب صدقات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا جاء نص صحيح صريح بإيجاب الزكاة فيه أو نفيها عنه، وإنما وردت أحاديث اختلف الفقهاء في ثبوتها، كما اختلفوا في دلالتها (سنذكر قريبًا أهم هذه الأحاديث).(/68)
ومن أسباب الاختلاف أيضًا: أن قومًا نظروا إلى المادة التي صنع منها الحلي، فقالوا: إنها نفس المعدن الذي خلقه الله ليكون نقدًا، يجرى به التعامل بين الناس، والذي وجبت فيه الزكاة بالإجماع، ومن ثم أوجبوا فيه الزكاة كسبائك الذهب والفضة ونقديهما.
وأن آخرين نظروا إلى أن هذا الحلي بالصناعة والصياغة خرج من مشابهة النقود، وأصبح من الأشياء التي تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية كالأثاث والمتاع والثياب، وهذه لا تجب فيها الزكاة بالإجماع، لأن الزكاة -كما عرفنا من هدى الرسول- إنما تجب في المال النامي أو القابل للنماء والاستغلال، ومن هنا قال هؤلاء: لا زكاة في الحلي.
وهذا الخلاف إنما هو في حكم الحلي المباح، أما الحلي الذي حرمه الإسلام، فقد أجمعوا على وجوب زكاته.
وسنرد المختلفين هنا إلى فريقين
أولاً: فريق القائلين بتزكية الحلي كالنقود مطلقًا، بإخراج ربع عشره كل عام.
ثانيًا: والفريق الثاني: من لم ير ذلك، بأن لم يوجب فيه زكاة قط، أو أوجبها مرة واحدة في العمر، أو أوجبها بقيود معينة.
القائلون بزكاة الحلي
روى البيهقي وغيره عن علقمة أن امرأة ابن مسعود سألته عن حلى لها فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة قالت: أضعها في بنى أخ لي في حجري؟ قال: نعم قال البيهقي: وقد روى هذا مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس بشيء (السنن الكبرى: 4/134، باب "من قال في الحلي زكاة").
وروى أيضًا (السنن الكبرى: 4/134، باب "من قال في الحلي زكاة") عن شعيب بن يسار أن عمر كتب إلى أبى موسى: "أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن حليهن".
ولكن هذا ليس بثابت عن عمر (قال البيهقي: هذا مرسل؛ شعيب بن يسار لم يدرك عمر)، ولذا روى ابن أبى شيبة عن الحسن قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحلي زكاة (المصنف: 4/28).
وروى البيهقي عن عائشة قالت: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته (السنن الكبرى - الصفحة السابقة، وانظر "الأموال" ص 440) ولكن صح عن عائشة خلاف ذلك كما سيجيء.
وعن عبد الله بن عمرو -أنه كان يكتب إلى خازنه سالم- أن يخرج زكاة حلى بناته كل سنة (المرجع السابق)، وروى عنه أبو عبيد أنه حلى ثلاث بنات له بستة آلاف دينار، فكان يبعث مولى له جليدًا كل عام فيخرج زكاته منه (الأموال ص 440).
وفى أسانيد هذه الآثار كلام، لذا قال أبو عبيد: لم تصح زكاة الحلي عندنا عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود (المصدر السابق ص 446) قال ابن حزم: وهو عنه في غاية الصحة (المحلى: 6/75).
والقول بزكاة الحلي روى عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعبد الله بن شداد، وجابر بن زيد، وابن شبرمة، وميمون بن مهران، والزهري، والثوري، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، والحسن ابن حي (انظر مصنف ابن أبى شيبة: 4/27، والأموال ص 441 - 442، والمحلى لابن حزم: 6/76، والمغنى لابن قدامة: 3/100 - مع أنه قد روى عن ابن المسيب: أن زكاة الحلي إعارته كما سيأتي).
أدلة هذا القول
1- واستند القائلون بزكاة الحلي أولاً إلى إطلاق الآية الكريمة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة: 34) فالذهب والفضة في الآية يشمل الحلي كما يشمل النقود والسبائك، فما لم تؤد الزكاة منها فهي كنز يكوى به صاحبه يوم القيامة.
2- واستندوا ثانيًا إلى عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق صدقة" مفهومه: أن فيها صدقة إذا بلغت خمس أواق، وإلى عموم ما جاء في زكاة الذهب مثل: "ما من صاحب ذهب لا يؤدى زكاته" الحديث، وقد تقدم.
3- واستدلوا ثالثًا بما ورد من الأحاديث في زكاة الحلي خاصة، وقد صححها طائفة من الأئمة، ومنها:
(أ) ما روى أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة (عند ابن أبى شيبة وأبى عبيد أنها امرأة من اليمن) أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعها ابنة لها، وفى يد ابنتها مسكتان (أسوارتان) غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: هما لله ورسوله (الحديث سكت عنه أبو داود قال المنذري في مختصر السنن: وأخرجه الترمذي بنحوه وقال: لم يصح في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، وأخرجه النسائي مسندًا ومرسلاً، وذكر أن المرسل أولى بالصواب - انظر مختصر السنن للمنذري: 2/175، وذكره في كتاب الزكاة من "الترغيب" وأشار إليه بعلامة الضعف، حيث صدره بلفظه: "روى" وأهمل الكلام عليه في آخره، وهذا علامة الإسناد الضعيف، كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه "الترغيب": 1/555، 556 - طبع مصطفى الحلبي - الطبعة الثانية، وسيأتي رأى أبى عبيد فيه وتعليقنا عليه.
وقال الحافظ في التلخيص ص 183: أخرجه أبو داود من حديث حسين المعلم وهو ثقة عن عمرو وفيه رد على الترمذي حيث جزم بأنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة والمثنى بن الصباح عن عمرو، وقد تابعهم حجاج بن أرطأة أيضًا..أ هـ).(/69)
(ب) وما روى أبو داود -واللفظ له- والدارقطني والحاكم والبيهقي عن عائشة أنها قالت: "دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة ؟ فقالت: صنعتهن أتزين لك -يا رسول الله- قال: أتؤدين زكاتهن ؟ قالت: لا، أو ما شاء الله، قالت: قال: هو حسبك من النار" (قال الحافظ في التلخيص ص 184: إسناده على شرط الصحيح "أ هـ" ولكن هذا الحديث يخالف ما صح عن عائشة أنها كانت لا تزكى حلى بنات أخيها مع ما صح عنها من تزكية مال اليتامى) (والفتخات: خواتيم كبار كان النساء يتحلين بها).
ثم ما رواه أبو داود وغيره عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو ؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز".
قال المنذري: في إسناده عتاب بن بشير -أبو الحسن الحراني- وقد أخرج له البخاري، وتكلم فيه غير واحد (مختصر السنن: 2/175) (والأوضاح: نوع من الحلي).
القائلون بعدم وجوب الزكاة في الحلي
(يمكننا أن ندخل ضمن هذا المذهب من قال بزكاة الحلي مرة واحدة في العمر، كما هو مروى عن أنس، ومن قال بأن زكاة الحلي عاريته كما هو مروى عن بعض الصحابة والتابعين كما سيأتي لأن غرضنا من القول بعدم الزكاة في الحلي: عدم الزكاة الحولية المقدرة المعهودة).
قال ابن حزم في المحلى: قال جابر بن عبد الله وابن عمر: لا زكاة في الحلي، وهو قول أسماء بنت أبى بكر، وروى أيضًا عن عائشة، وهو عنها صحيح، وهو قول الشعبي وعمرة بنت عبد الرحمن، وأبى جعفر محمد بن على، وروى أيضًا عن طاووس والحسن وسعيد بن المسيب، واختلف فيه قول سفيان الثوري، فمرة رأى فيه الزكاة، ومرة لم يرها أ هـ (المحلى: 6/176).
وهو قول القاسم بن محمد ابن أخي عائشة، وإليه ذهب مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهو أظهر قولي الشافعي كما قال الخطابى (معالم السنن: 3/176، وهو المذهب المعتمد لدى الشافعية كما في المجموع: 6/136) وهو مذهب أبى عبيد كما سيأتي.
أدلة هذا القول
تتلخص أدلة هذا القول فيما يلي
أولاً: أن الأصل براءة الذمم من التكاليف ما لم يرد بها دليل شرعي صحيح، ولم يوجد هذا الدليل في زكاة الحلي، لا من نص، ولا من قياس على منصوص.
ثانيًا: أن الزكاة إنما تجب في المال النامي أو المعد للنماء، والحلي ليس واحدًا منهما، لأنه خرج عن النماء بصناعته حليًا يلبس ويستعمل وينتفع به فلا زكاة فيه، وهذا كما قلنا في العوامل من الإبل والبقر، فقد خرجت باستعمالها في السقي والحرث عن النماء وسقطت عنها الزكاة.
ثالثًا: يؤيد هذا الاستدلال ما صح عن عدة من الصحابة، رضى الله عنهم، من عدم وجوب الزكاة فيه.
فقد روى مالك في الموطأ عن القاسم بن محمد (معالم السنن: 3/176، وهو المذهب المعتمد لدى الشافعية كما في المجموع: 6/136): أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها يلبسن الحلي، فلا تخرج عن حليهن الزكاة (هو القاسم بن محمد بن أبى بكر ابن أخي عائشة، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة).
وروى عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحلى بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج عن حليهن الزكاة (الموطأ: 1/250 -طبع الحلبي- باب "مالا زكاة فيه من الحلي والتبر والعنبر").
وروى ابن أبى شيبة عن القاسم قال: كان ما لنا عند عائشة، وكانت تزكيه إلا الحلي، وعن عمرة قالت: كنا أيتامًا في حجر عائشة، وكان لنا حلى فكانت لا تزكيه.
وروى ابن شيبة وأبو عبيد وغيرهما مثل ذلك عن جابر بن عبد الله وأسماء بنت أبى بكر بالإضافة إلى عائشة وابن عمر (انظر المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، والأموال ص 443).
فعن أبى الزبير عن جابر قال: لا زكاة في الحلي، قلت: إنه يكون فيه ألف دينار، قال: يعار ويلبس، وفى رواية قال: إن ذلك لكثير.
وعن أسماء: أنها كانت لا تزكى الحلي، قال الشافعي: ويروى عن ابن عباس وأنس بن مالك -ولا أدرى أثبت عنهما- معنى قول هؤلاء: "ليس في الحلي زكاة" (الأم: 2/41- طبع الفنية المتحدة، والقول بعدم الزكاة رواه عن أنس أبو عبيد ص 442 والبيهقي: 4/138).
قال القاضي أبو الوليد الباجي في شرح الموطأ: وهذا مذهب ظاهر بين الصحابة، وأعلم الناس به عائشة، رضى الله عنهما، فإنها زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن لا يخفى عليها أمره في ذلك.
وكذلك عبد الله بن عمر، فإن أخته حفصة كانت زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمر حليها لا يخفى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يخفى عليها حكمه فيه (المنتقى شرح الموطأ - لأبى الوليد الباجي: 2/107).
ومما يدل على انتشار هذا بين الصحابة والتابعين ما قاله يحيى بن سعيد: سألت عمرة عن زكاة الحلي، فقالت: ما رأيت أحدًا يزكيه (المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، وانظر الأموال ص 442).
وعن الحسن قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحلي زكاة (المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، وانظر الأموال ص 442).
رابعًا: روى ابن الجوزي في "التحقيق" بسند عن عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبى الزبير عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ليس في الحلي زكاة (ورواه البيهقي في "المعرفة" من حديث عافية بن أيوب عن الليث عن أبى الزبير عن جابر ثم قال: لا أصل له، وإنما يروى عن جابر من قوله وعافية قيل: ضعيف، وقال ابن الجوزي: لا أعلم فيه جرحًا، وقال البيهقي: مجهول، ونقل ابن أبى حاتم توثيقه عن أبى زرعه (التلخيص ص 183).
[وانظر: الجرح والتعديل قسم 2 من المجلد 3 ص 245، وفيها أن أبا زرعة سئل عنه فقال: "هو مصري ليس به بأس"، ولم يذكر ابن أبى حاتم شيئًا عنه أكثر من هذا).(/70)