تخصّر *
التّعريف :
1 - للتّخصّر في اللّغة معان ، منها : أنّه وضع اليد على الخصر ، ومثله الاختصار . والخصر من الإنسان : وسطه وهو المستدقّ فوق الوركين ، والجمع خصور ، مثل فلس وفلوس . والخصران والخاصرتان : معروفان .
والاختصار والتّخصّر : أن يضع الرّجل يده على خصره في الصّلاة أو غيرها من الاتّكاء على المخصرة ، وهي : ما يتوكّأ عليه من عصاً ونحوها . وفي رواية عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه نهى أن يصلّي الرّجل مختصراً ومتخصّراً » .
قيل : هو من المخصرة ، وقيل : معناه أن يصلّي الرّجل وهو واضع يده على خاصرته ، وجاء في الحديث : « الاختصار في الصّلاة راحة أهل النّار » أي أنّه فعل اليهود في صلاتهم . وهم أهل النّار قال ابن منظور : ليس الرّاحة المنسوبة لأهل النّار هي راحتهم في النّار ، إذ لا راحة لهم فيها ، وإنّما هي راحتهم في صلاتهم في الدّنيا . يعني أنّه إذا وضع يده على خصره كأنّه استراح بذلك ، وسمّاهم أهل النّار لمصيرهم إليها ، لا لأنّ ذلك راحتهم في النّار . وهو : أي التّخصّر في الاصطلاح لا يخرج عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّخصّر في الصّلاة مكروه ، أي تنزيهاً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه مكروه تحريماً ، لمنافاته هيئة الصّلاة المأثورة ، والتّشبّه بالجبابرة ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك . روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى أن يصلّي الرّجل مختصراً » وعنه رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخصر في الصّلاة » والمراد وضع اليد على الخاصرة . وفي رواية : « نهى أن يصلّي الرّجل متخصّراً » - بتشديد الصّاد - وهو أن يضع يده على خاصرته - وهو يصلّي - ما لم تكن به حاجة تدعو إلى وضعها . فإن كان به عذر كمن وضع يده على خاصرته لوجع في جنبه أو تعب في قيام اللّيل ، فتخصّر ، جاز له ذلك في حدود ما تقتضي به الحاجة ، ويقدّر ذلك بقدرها .
وفيه ورد حديث : « المتخصّرون يوم القيامة على وجوههم النّور » . وقال ثعلب : أي المصلّون باللّيل ، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم . وتابعه صاحب القاموس ففسّر الحديث بغير ذلك . وروى أبو داود والنّسائيّ من طريق سعيد بن زياد قال : « صلّيت إلى جنب ابن عمر فوضعت يديّ على خاصرتيّ . فلمّا صلّى قال : هذا . الصّلب في الصّلاة ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عنه » .
وأمّا التّخصّر خارج الصّلاة فقد جاء في تنوير الأبصار وشرحه : أنّه مكروه تنزيهاً .
لأنّه فعل المتكبّرين ( ر : الصّلاة : مكروهات الصّلاة ) .
وأمّا الاختصار بمعنى الاتّكاء في الصّلاة على المخصرة أو غيرها فقد سبق تفصيل حكمه في مصطلح ( استناد ) .
الاتّكاء على المخصرة ونحوها في خطبة الجمعة :
3 - توكّؤ الخطيب على المخصرة في حال خطبة الجمعة مندوب عند المالكيّة ، وهو أيضاً من سنن الخطبة عند الشّافعيّة والحنابلة . ويجعلها بيمينه عند المالكيّة ، ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يجعلها في يده اليسرى كعادة من يريد الضّرب بالسّيف والرّمي بالقوس ، ويشغل يده اليمنى بحرف المنبر .
وجاء في كشّاف القناع من كتب الحنابلة : أن يجعلها بإحدى يديه ، إلاّ أنّ صاحب الفروع ذكر أنّه يتوجّه باليسرى ويعتمد بالأخرى على حرف المنبر ، فإن لم يجد شيئاً يعتمد عليه ، فقد ذكر الشّافعيّة أنّه يجعل اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يعبث بهما .
وذهب الحنفيّة - كما جاء في الفتاوى الهنديّة - إلى كراهة اتّكاء الخطيب على قوس أو عصاً في أثناء الخطبة من يوم الجمعة ، وإنّما يتقلّد الخطيب السّيف في كلّ بلدة فتحت به . ومثل العصا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : القوس والسّيف ، والعصا أولى من القوس والسّيف عند المالكيّة ، والمراد بالقوس كما جاء في الدّسوقيّ قوس النّشاب ، وهي القوس العربيّة لطولها واستقامتها ، لا العجميّة لقصرها وعدم استقامتها .
واستدلّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على ما ذهبوا إليه من اتّكاء الخطيب على المخصرة في حال الخطبة من يوم الجمعة بما رواه أبو داود عن الحكم بن حزن : قال : « وفدت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة ، فقام متوكّئاً على سيف أو قوس أو عصا مختصراً » . قال مالك : وذلك ممّا يستحبّ للأئمّة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصا ، يتوكّئون عليها في قيامهم ، وهو الّذي رأينا وسمعنا .(137/1)
تخطّي الرّقاب*
التّعريف :
1 - يقال في اللّغة : تخطّى النّاس واختطاهم أي : جاوزهم . ويقال : تخطّيت رقاب النّاس إذا تجاوزتهم . قال ابن المنير : التّفرقة بين اثنين المنهيّ عنها بقوله صلى الله عليه وسلم : « فلم يفرِّق بين اثنين » تتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه .
وقد يطلق على مجرّد التّخطّي . وفي التّخطّي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما ، وربّما تعلّق بثيابهما شيء ممّا في رجليه . ولا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا .
حكمه الإجماليّ :
2 - لتخطّي الرّقاب أحكام تختلف باختلاف حالاته .
ففي الجمعة إمّا أن يكون المتخطّي هو الإمام أو غيره .
فإن كان المتخطّي هو الإمام ، ولم يكن له طريق إلاّ أن يتخطّى رقاب النّاس ليصل إلى مكانه ، جاز له ذلك بغير كراهة ، لأنّه موضع حاجة .
وإن كان غير الإمام : فعند الحنفيّة : إمّا أن يكون دخوله المسجد قبل أن يشرع الإمام في الخطبة أو بعد الشّروع فيها .
فإن كان قبله : فإنّه لا بأس بالتّخطّي إن كان لا يجد إلاّ فرجةً أمامه ، فيتخطّى إليها للضّرورة ، ما لم يؤذ بذلك أحداً ، لأنّه يندب للمسلم أن يتقدّم ويدنو من المحراب إذا لم يكن أثناء الخطبة ، ليتّسع المكان لمن يجيء بعده ، وينال فضل القرب من الإمام .
فإذا لم يفعل الأوّل ذلك فقد ضيّع المكان من غير عذر ، فكان للّذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان وإن كان دخوله المسجد والإمام يخطب : فإنّ عليه أن يستقرّ في أوّل مكان يجده ، لأنّ مشيه في المسجد وتقدّمه في حالة الخطبة منهيّ عنه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فلم يفرّق بين اثنين » وقوله : « ولم يتخطّ رَقَبَةَ مسلم ، ولم يؤذ أحداً » وقوله « للّذي جاء يتخطّى رقاب النّاس : اجلس : فقد آذيت وآنيت » .
وعند المالكيّة يجوز لداخل المسجد أن يتخطّى الصّفوف لفرجة قبل جلوس الخطيب على المنبر ، ولا يجوز التّخطّي بعده ولو لفرجة .
وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن لم يكن للدّاخل موضع وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلاّ بتخطّي رجل أو رجلين لم يكره له ذلك ، لأنّه يسير . وإن كان بين يديه خلق كثير ، فإن رجا إذا قاموا إلى الصّلاة أن يتقدّموا جلس حتّى يقوموا ، وإن لم يرج أن يتقدّموا جاز أن يتخطّى ليصل إلى الفرجة ، لأنّه موضع حاجة ، وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد ، وفي رواية أخرى أنّ للدّاخل إذا رأى فرجةً لا يصل إليها إلاّ بالتّخطّي جاز له ذلك .
3 - وإذا جلس في مكان ، ثمّ بدت له حاجة أو احتاج الوضوء فله الخروج ولو بالتّخطّي . « قال عقبة : صلّيت وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلّم ، ثمّ قام مسرعاً فتخطّى رقاب النّاس إلى بعض حجر نسائه ، فقال : ذكرت شيئاً من تِبْرٍ عندنا ، فكرهت أن يحبسني ، فأمرت بقسمته » فإذا قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به » وحكمه في التّخطّي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجةً على نحو ما مرّ .
4 - ويجوز التّخطّي بعد الخطبة وقبل الصّلاة ، ولو لغير فرجة ، كمشي بين الصّفوف ولو حال الخطبة . قال به المالكيّة . والتّخطّي للسّؤال كرهه الحنفيّة ، فلا يمرّ السّائل بين يدي المصلّي ، ولا يتخطّى رقاب النّاس ، ولا يسأل النّاس إلحافاً إلاّ إذا كان لأمر لا بدّ منه .
ويجوز تخطّي رقاب الّذين يجلسون على أبواب المساجد حيث لا حرمة لهم ، على ما هو المشهور عند الحنابلة .
5 - ويكره التّخطّي في غير الصّلاة من مجامع النّاس بلا أذًى ، فإن كان فيه أذًى حرم .
6 - ويحرم إقامة شخص ، ولو في غير المسجد ، ليجلس مكانه ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقيم الرّجل الرّجل من مجلسه ، ثمّ يجلس فيه ولكن يقول تفسّحوا وتوسّعوا » وقال صلى الله عليه وسلم : « من سَبَق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له » وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرّجل من مجلسه ، ثمّ يجلس مكانه . فإن قعد واحد من النّاس في موضع من المسجد ، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتّى يقعد مكانه ، لما روى مسلم عن أبي الزّبير عن جابر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ، ثمّ ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه ، ولكن يقول : افسحوا » قال تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تَفَسَّحُوا في المجالسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّهُ لكم } فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس .
وأمّا صاحب الموضع فإنّه إن كان الموضع الّذي ينتقل إليه مثل الأوّل في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك ، وإن كان الموضع الّذي انتقل إليه دون الّذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك ، لأنّه آثر غيره في القربة ، وفيه تفويت حظّه .
7 - وإذا أمر إنسان إنساناً أن يبكّر إلى الجامع فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ، لما روي أنّ ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس له فيه ، فإذا جاء قام له منه .(138/1)
تخليل *
التّعريف :
1 - التّخليل لغةً يأتي بمعان ، منها : تفريق شعر اللّحية وأصابع اليدين والرّجلين ، يقال : خلّل الرّجل لحيته : إذا أوصل الماء إلى خلالها ، وهو البشرة الّتي بين الشّعر .
وأصله من إدخال الشّيء في خلال الشّيء ، وهو وسطه . ويقال : خلّل الشّخص أسنانه تخليلاً : إذا أخرج ما يبقى من المأكول بينها . وخلّلت النّبيذ تخليلاً : جعلته خلاً .
ويستعمل الفقهاء كلمة التّخليل بهذه المعاني اللّغويّة .
أحكام التّخليل بأنواعه :
أوّلاً : التّخليل في الطّهارة :
أ - تخليل الأصابع في الوضوء والغسل :
2 - إيصال الماء بين أصابع اليدين والرّجلين بالتّخليل أو غيره من متمّمات الغسل ، فهو فرض في الوضوء والغسل عند جميع الفقهاء ، لقوله تعالى : { فاغْسِلُوا وجوهَكم وأَيدِيَكم إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبينِ } .
أمّا التّخليل بعد دخول الماء خلال الأصابع ، فعند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " أنّ تخليل الأصابع في الوضوء سنّة ، « لقوله صلى الله عليه وسلم لِلَقِيط بن صبرة : أسبغ الوضوء ، وخلّل بين الأصابع » ، وقد صرّح الحنفيّة بأنّه سنّة مؤكّدة ، والحنابلة يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين آكد ، وعلّلوا استحباب التّخليل بأنّه أبلغ في إزالة الدّرن والوسخ من بين الأصابع .
وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى وجوب التّخليل في أصابع اليدين واستحبابه في أصابع الرّجلين ، وقالوا : إنّما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرّجلين لعدم شدّة التصاقها ، فأشبهت الأعضاء المستقلّة ، بخلاف أصابع الرّجلين لشدّة التصاقها ، فأشبه ما بينها الباطن . وفي القول الآخر عندهم : يجب التّخليل في الرّجلين كاليدين .
ومراد المالكيّة بوجوب التّخليل إيصال الماء للبشرة بالدّلك .
3 - وكذلك يسنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الغسل عند الحنفيّة ، وهو المفهوم من كلام الشّافعيّة والحنابلة ، حيث ذكروا في بيان الغسل الكامل المشتمل على الواجبات والسّنن أن يتوضّأ كاملاً قبل أن يحثو على رأسه ثلاثاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ثمّ يتوضّأ كما يتوضّأ للصّلاة » وقد سبق أنّ تخليل الأصابع سنّة عندهم في الوضوء ،فكذلك في الغسل. وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى وجوب تخليل أصابع الرّجلين كأصابع اليدين في الغسل ،لأنّه يتأكّد فيه المبالغة على خلاف ما قالوا في الوضوء من استحباب تخليل أصابع الرّجلين.
ب - تخليل الأصابع في التّيمّم :
4 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ مسح الوجه واليدين فرض في التّيمّم ، لقوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُم وأَيْدِيْكُم منه } .
كذلك يجب تعميم واستيعاب محلّ الفرض بغير خلاف بين المذاهب الأربعة ، ولهذا صرّحوا بوجوب نزع الخاتم والسّوار إذا كانا ضيّقين يخشى عدم وصول الغبار إلى ما تحتهما ، حتّى إنّ المالكيّة قالوا بوجوب نزع الخاتم ، ولو كان واسعاً ، وإلاّ كان حائلاً . وعلى ذلك يجب تخليل أصابع اليدين في التّيمّم إن لم يدخل بينها غبار ، أو لم تمسح باتّفاق الفقهاء .
أمّا تخليل أصابع اليدين بعد مسحهما ، فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة باستحبابه احتياطاً ، وهو عند الشّافعيّة إن فرّق أصابعه في الضّربتين ، فإن لم يفرّقها فيهما ، أو فرّقها في الأولى دون الثّانية وجب التّخليل . ويفهم من كلام الحنفيّة ما يوافق ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة ، حيث قيّد الحنفيّة وجوب التّخليل بعدم وصول الغبار إلى الأصابع .
وذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم إلى أنّه يلزم تعميم يديه لكوعيه مع تخليل أصابعه مطلقاً .
كيفيّة تخليل الأصابع :
5 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّ تخليل أصابع اليدين يكون بالتّشبيك بينهما .
وقال المالكيّة والحنابلة : يدخل أصابع إحداهما بين أصابع الأخرى ، سواء أدخل من الظّاهر أو الباطن ، ولا يكرهون التّشبيك في الوضوء .
وقال بعض المالكيّة بكراهة التّشبيك ، مستدلّين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توضّأ أحدكم في بيته ، ثمّ أتى المسجد ، كان في صلاة حتّى يرجع ، فلا يفعل هكذا ، وشبّك بين أصابعه » .
أمّا تخليل أصابع الرّجل ، فيستحبّ فيه أن يبدأ بخنصر الرّجل اليمنى ، ويختم بخنصر الرّجل اليسرى ليحصل التّيامن ، وهو محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، لحديث المستورد بن شدّاد قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فخلّل أصابع رجليه بخنصره » ولما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّيامن في وضوئه » إلاّ أنّ الحنفيّة والحنابلة قالوا : التّخليل يكون بخنصر يده اليسرى ، لأنّها معدّة لإزالة الوسخ والدّرن من باطن رجليه ، لأنّه أبلغ . وقال الشّافعيّة : يكون بخنصر يده اليمنى أو اليسرى . وعند المالكيّة يكون بسبّابتيه .
ج - تخليل الشّعر :
- 1 - تخليل اللّحية :
6 - اللّحية الخفيفة - وهي الّتي تظهر البشرة تحتها ولا تسترها عن المخاطب - يجب غسل ظاهرها وإيصال الماء إلى ما تحتها في الوضوء والغسل ، ولا يكفي مجرّد تخليلها بغير خلاف ، وذلك لفرضيّة غسل الوجه بعموم الآية في قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وجُوهَكم(139/1)
... الآية } . أمّا اللّحية الكثيفة - وهي الّتي لا تظهر البشرة تحتها - فيجب غسل ظاهرها ، ولو كانت مسترسلةً عند المالكيّة ، وهو المشهور عند الشّافعيّة ، وظاهر مذهب الحنابلة . وعند الحنفيّة - وهو قول آخر للشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة - أنّه لا يجب غسل ما استرسل من اللّحية ، لأنّه خارج عن دائرة الوجه ، فأشبه ما نزل من شعر الرّأس .
ولأنّ اللّه تعالى أمر بغسل الوجه ، وهو ما تحصل به المواجهة ، وفي اللّحية الكثيفة تحصل المواجهة بالشّعر الظّاهر .
أمّا باطنها فلا يجب غسله اتّفاقاً بين فقهاء المذاهب ، لما روى البخاريّ « أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فغسل وجهه ، أخذ غرفةً من ماء فمضمض بها واستنشق ، ثمّ أخذ غرفةً من ماء فجعل بها هكذا : أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بها وجهه » وكانت لحيته الكريمة كثيفةً ، وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى باطنها غالباً ، ويعسر إيصال الماء إليه .
7- ويسنّ تخليل اللّحية الكثيفة عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ، لما روي عن أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا توضّأ أخذ كفّاً من ماءٍ تحتَ حنكِه فخلَّلَ به لحيتَه ، وقال : هكذا أمرني ربِّي » .
وعند المالكيّة في تخليل شعر اللّحية الكثيفة ثلاثة أقوال : الوجوب ، والكراهة والاستحباب ، أظهرها الكراهة لما في ذلك من التّعمّق .
8- أمّا في الغسل فلا يكفي مجرّد التّخليل ، بل يجب إيصال الماء إلى أصول شعر اللّحية ولو كثيفةً اتّفاقاً بين المذاهب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « تحت كلّ شعرة جنابة ، فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشرة » .
ولكي يتأكّد من وصول الماء إلى أصول الشّعر ويتجنّب الإسراف قالوا : يدخل المغتسل أصابعه العشر يروي بها أصول الشّعر ، ثمّ يفيض الماء ليكون أبعد عن الإسراف في الماء . ومن عبّر بوجوب تخليل اللّحية كالمالكيّة ، أراد بذلك أيضاً إيصال الماء إلى أصول الشّعر .
- 2 - تخليل شعر الرّأس :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب إرواء أصول شعر الرّأس في الغسل ، سواء كان الشّعر خفيفاً أو كثيفاً ، لما روت « أسماء رضي الله عنها أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال : تأخذ إحداكنّ ماءَها وسدرتَها فتطهِّر فتحسن الطّهور ، ثمّ تصبّ على رأسها فتدلكه ، حتّى تبلغ شؤون رأسها ، ثمّ تفيض عليها الماء » ، وعن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به من النّار كذا وكذا » ، قال عليّ : فمن ثَمَّ عاديت شعري " وعلى ذلك فلا يجزي مجرّد تخليل الشّعر في الغسل عند الفقهاء .
وقد صرّح فقهاء المالكيّة بوجوب تخليل شعر الرّأس ولو كثيفاً ، للتّأكّد من وصول الماء إلى أصوله ، حيث قالوا : ويجب تخليل شعر ولو كثيفاً وضغث مضفوره - أي جمعه وتحريكه - ليعمّه بالماء ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة .
ولا يختلف حكم الشّعر بالنّسبة للمحرم وغير المحرم عند جمهور الفقهاء ، لكنّ المحرم يخلّل برفق لئلاّ يتساقط الشّعر . وقال الحنفيّة : يكره التّخليل للمحرم .
ثانياً : تخليل الأسنان :
10 - تنظيف الأسنان بالسّواك سنّة من سنن الفطرة ، وينظر تفصيله في مصطلح : ( استياك ) .
11 - أمّا تخليلها بعد الأكل بالخلال لإخراج ما بينها من الطّعام ، فقد ذكره الفقهاء في آداب الأكل . قال البهوتيّ الحنبليّ : يستحبّ أن يخلّل أسنانه إن علق بها شيء من الطّعام ، قال في المستوعب : روي عن ابن عمر رضي الله عنهما : ترك الخلال يوهن الأسنان . وروي : « تخلّلوا من الطّعام ، فإنّه ليس شيء أشدّ على الملكين أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاماً وهو يصلّي » . قال الأطبّاء : وهو نافع أيضاً للّثة ومن تغيّر النّكهة .
ولا يخلّل أسنانه في أثناء الطّعام ، بل إذا فرغ . ومثله ما ذكر في كتب سائر المذاهب .
ما تخلّل به الأسنان :
12 - يسنّ التّخليل قبل السّواك وبعده ، ومن أثر الطّعام ، وكون الخلال من عود ، ويكره بالحديد ونحوه ، وبعود يضرّه كرمّان وآس ، ولا يخلّل بما يجهله لئلاّ يكون ممّا يضرّه ، وكذا ما يجرحه كما صرّح به الفقهاء .
ولا يجوز تخليل الأسنان أو الشّعر بآلة من الذّهب أو الفضّة ، وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة ، وتفصيله في مصطلح : ( آنية ) .
واختلفت عبارات الفقهاء في جواز بلع ما يخرج من خلال الأسنان : فقال الشّافعيّة والحنابلة ، يلقي ما أخرجه الخلال ، ويكره أن يبتلعه ، وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلاعه كسائر ما بفمه . وقال المالكيّة : يجوز بلع ما بين الأسنان إلاّ لخلطه بدم ، فليس مجرّد التّغيّر يصيّره نجساً خلافاً لما قيل .
ثالثاً : تخليل الخمر :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إذا تخلّلت بغير علاج ، بأن تغيّرت من المرارة إلى الحموضة وزالت أوصافها ، فإنّ ذلك الخلّ حلال طاهر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « نِعْمَ الأُدْمُ أو الإِدَامُ الخَلُّ » ، ولأنّ علّة النّجاسة والتّحريم الإسكار ، وقد زالت ، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً .
وكذلك إذا تخلّلت بنقلها من شمس إلى ظلّ وعكسه عند جمهور الفقهاء: الحنفيّة والمالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وبه قال الحنابلة إذا كان النّقل لغير قصد التّخليل .(139/2)
14 - واختلفوا في جواز تخليل الخمر بإلقاء شيء فيها ، كالخلّ والبصل والملح ونحوه . فقال الشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية ابن القاسم عن مالك : إنّه لا يحلّ تخليل الخمر بالعلاج ، ولا تطهر بذلك ، لحديث مسلم عن أنس رضي الله عنه قال : « سُئِلَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الخمرِ تُتَّخذُ خلاً ، قال : لا » .
« ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإهراقها ». ولأنّ الخمر نجسة أمر اللّه تعالى باجتنابها ، وما يلقى في الخمر يتنجّس بأوّل الملاقاة ، وما يكون نجساً لا يفيد الطّهارة .
وصرّح الحنفيّة - وهو الرّاجح عند المالكيّة بجواز تخليل الخمر ، فتصير بعد التّخليل طاهرةً حلالاً عندهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ » فيتناول جميع أنواعها ، ولأنّ بالتّخليل إزالة الوصف المفسد وإثبات الصّلاح ، والإصلاح مباح كما في دبغ الجلد ، فإنّ الدّباغ يطهّره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أَيُّمَا إِهَاب دُبِغَ فقد طَهُرَ » .
وتفصيله في مصطلح : ( خمر ) .(139/3)
تخنّث *
التّعريف :
1 - التّخنّث في اللّغة بمعنى : التّثنّي والتّكسّر ، وتَخَنَّث الرّجل إذا فعل فعل المُخَنَّث .
وخنّث الرّجل كلامه : إذا شبّهه بكلام النّساء ليناً ورخامةً .
والتّخنّث اصطلاحاً كما يؤخذ من تعريف ابن عابدين للمخنّث : هو التّزيّي بزيّ النّساء والتّشبّه بهنّ في تليين الكلام عن اختيار ، أو الفعل المنكر . وقال صاحب الدّرّ : المخنّث بالفتح من يفعل الرّديء . وأمّا بالكسر فالمتكسّر المتليّن في أعضائه وكلامه وخلقه . ويفهم من القليوبيّ أنّه لا فرق بين الفتح والكسر في المعنى ، فهو عنده المتشبّه بحركات النّساء .
الحكم الإجماليّ :
2 - يحرم على الرّجال التّخنّث والتّشبّه بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ، وكذلك في الكلام والمشي ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : « لعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم المخنّثين من الرّجال والمترجِّلات من النّساء » وفي رواية أخرى :
« لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » قال ابن حجر في الفتح : والنّهي مختصّ بمن تعمّد ذلك ، وأمّا من كان أصل خلقته ، فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج ، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ ، ولا سيّما إذا بدا منه ما يدلّ على الرّضا به ، وأمّا إطلاق من قال : إنّ المخنّث خلقةً لا يتّجه عليه الذّمّ ، فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التّثنّي والتّكسّر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك .
إمامة المخنّث :
3 - المخنّث بالخلقة ، وهو من يكون في كلامه لين وفي أعضائه تكسّر خلقةً ، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة لا يعتبر فاسقاً ، ولا يدخله الذّمّ واللّعنة الواردة في الأحاديث ، فتصحّ إمامته ، لكنّه يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج ، فإذا لم يقدر على تركه فليس عليه لوم . أمّا المتخلّق بخلق النّساء حركةً وهيئةً ، والّذي يتشبّه بهنّ في تليين الكلام وتكسّر الأعضاء عمداً ، فإنّ ذلك عادة قبيحة ومعصية ويعتبر فاعلها آثماً وفاسقاً .
والفاسق تكره إمامته عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند المالكيّة .
وقال الحنابلة ، والمالكيّة في رواية أخرى ، ببطلان إمامة الفاسق ، كما هو مبيّن في مصطلح : ( إمامة ) . ونقل البخاريّ عن الزّهريّ قوله : لا نرى أن يصلّى خلف المخنّث إلاّ من ضرورة لا بدّ منها .
شهادة المخنّث :
4 - صرّح الحنفيّة أنّ المخنّث الّذي لا تقبل شهادته هو الّذي في كلامه لين وتكسّر ، إذا كان يتعمّد ذلك تشبّهاً بالنّساء . وأمّا إذا كان في كلامه لين ، وفي أعضائه تكسّر خلقةً ، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة ، فهو عدل مقبول الشّهادة .
واعتبر الشّافعيّة والحنابلة التّشبّه بالنّساء محرّماً تردّ به الشّهادة ، ولا يخفى أنّ المراد بالتّشبّه التّعمّد ، لا المشابهة الّتي تأتي طبعاً .
واعتبر المالكيّة المجون ممّا تردّ به الشّهادة ، ومن المجون التّخنّث .
وعليه تكون المذاهب متّفقةً في التّفصيل الّذي أورده الحنفيّة ، وتفصيله في ( شهادة ) .
نظر المخنّث للنّساء :
5 - المخنّث بالمعنى المتقدّم ، والّذي له أرب في النّساء ، لا خلاف في حرمة اطّلاعه على النّساء ونظره إليهنّ ، لأنّه فحل فاسق - كما قال ابن عابدين .
أمّا إذا كان مخنّثاً بالخلقة ، ولا إرب له في النّساء ، فقد صرّح المالكيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة بأنّه يرخّص بترك مثله مع النّساء ، ولا بأس بنظره إليهنّ ، استدلالاً بقوله تعالى فيمن يحلّ لهم النّظر إلى النّساء ، ويحلّ للنّساء الظّهور أمامهم متزيّنات ، حيث عدّ منهم أمثال هؤلاء ، وهو { أو التَّابِعينَ غَيْرِ أُولي الإِرْبَةِ من الرِّجَالِ ...} .
وذهب الشّافعيّة وأكثر الحنفيّة إلى أنّ المخنّث - ولو كان لا إرب له في النّساء - لا يجوز نظره إلى النّساء ، وحكمه في هذا كالفحل : استدلالاً بحديث « لا يَدخلنَّ هؤلاءِ عليكنَّ » .
عقوبة المخنّث :
6 - المخنّث بالاختيار من غير ارتكاب الفعل القبيح معصية لا حدّ فيها ولا كفّارةً ، فعقوبته عقوبة تعزيريّة تناسب حالة المجرم وشدّة الجرم . وقد ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عزّر المخنّثين بالنّفي ، فأمر بإخراجهم من المدينة ، وقال : أخرجوهم من بيوتكم » وكذلك فعل الصّحابة من بعده . أمّا إن صدر منه مع تخنّثه تمكين الغير من فعل الفاحشة به ، فقد اختلف في عقوبته ، فذهب كثير من الفقهاء إلى أنّه تطبّق عليه عقوبة الزّنى .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ عقوبته تعزيريّة قد تصل إلى القتل أو الإحراق أو الرّمي من شاهق جبل مع التّنكيس ، لأنّ المنقول عن الصّحابة اختلافهم في هذه العقوبة ، ويراجع في هذا مصطلح :( حدّ عقوبة ، تعزير ، ولواط ) .
مواطن البحث :
7 - يذكر الفقهاء أحكام التّخنّث في مباحث خيار العيب إذا كان العبد المبيع مخنّثاً ، ويذكرونها في بحث الشّهادة ، والنّكاح ، والنّظر إلى المرأة الأجنبيّة ، وفي مسائل اللّباس والزّينة وأبواب الحظر والإباحة ونحوها .(140/1)
تخيير *
التّعريف :
1 - التّخيير لغةً : مصدر خيّر ، يقال خيّرته بين الشّيئين ، أي : فوّضت إليه الخيار ، وتخيّر الشّيء : اختاره ، والاختيار : الاصطفاء وطلب خير الأمرين ، وكذلك التّخيّر . والاستخارة : طلب الخيرة في الشّيء ، وخار اللّه لك أي : أعطاك ما هو خير لك .
والخيرة - بسكون الياء - الاسم منه .
وفي الاصطلاح : لا يخرج استعمال الفقهاء لمصطلح ( تخيير ) عن معناه اللّغويّ .
فهو عندهم : تفويض الأمر إلى اختيار المكلّف في انتقاء خصلة من خصال معيّنة شرعاً ، ويوكل إليه تعيين أحدها ، بشروط معلومة ، كتخييره بين خصال الكفّارة ، وتخييره بين القصاص والعفو ، وتخييره في جنس ما يخرج في الزّكاة ، وتخييره في فدية الحجّ ، وتخييره في التّصرّف في الأسرى ، وتخييره في حدّ المحارب ، وغيرها من الأحكام . والتّخيير بهذا دليل على سماحة الشّريعة ويسرها ومراعاتها لمصالح العباد فيما فوّضت إليهم اختياره ، ممّا يجلب النّفع لهم ويدفع الضّرّ عنهم .
التّخيير عند الأصوليّين :
2 - يتكلّم الأصوليّون على التّخيير في المباح ، والمندوب ، والواجب المخيّر ، والواجب الموسّع ، والنّهي على جهة التّخيير ، والرّخصة . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإباحة :
3 - الإباحة في اللّغة : الإحلال ، يقال : أبحتك الشّيء أي : أحللته لك ، والمباح خلاف المحظور .
وفي اصطلاح الفقهاء : الإذن بالإتيان بالفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن .
ب - التّفويض :
4 - التّفويض مصدر فوّض ، يقال : فوّض إليه الاختيار بين الشّيئين ، فاختار أحدهما ، ومنه تفويض الزّوج إلى زوجته طلاق نفسها أو بقاءها في عصمته .
أحكام التّخيير :
للتّخيير أحكام خاصّة في الشّريعة الإسلاميّة نبيّنها فيما يلي :
أوّلاً : تخيير المصلّي في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع :
5 - اتّفق الفقهاء على القول بتخيير المصلّي في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع ، وهو الوقت الّذي وكّل إيقاع الصّلاة فيه لاختيار المصلّي ، فإن شاء أوقعها في أوّله ، أو في وسطه ، أو في آخره ، ولا إثم عليه فيما يختار . وذهب بعض الفقهاء إلى القول بالإثم إن أخّر إلى وقت الكراهة في بعض الأوقات . وتفصيل ذلك في ( أوقات الصّلاة ) .
6- وتجب الصّلاة عند الجمهور بأوّل الوقت وجوباً موسّعاً ، بمعنى أنّه لا يأثم بتأخيرها . فلو أخّرها عازماً على فعلها من غير عذر ، فمات في أثناء الوقت لم يأثم ، لأنّه فعل ما يجوز له فعله ، إذ هو بالخيار في أداء الصّلاة في أيّ جزء من وقتها ، والموت ليس من فعله ، فلا يأثم بالتّخيّر . إلاّ أن يظنّ الموت ، ولم يؤدّ حتّى مات ، فإنّه يموت عاصياً .
وكذا إذا تخلّف ظنّه فلم يمت ، لأنّ الموسّع صار في حقّه مضيّقاً ، وانتفى بذلك اختياره .
فإن أخّرها غير عازم على الفعل أثم بالتّأخير ، وإن أخّرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتّسع لجميع الصّلاة أثم أيضاً . وعند الحنفيّة أنّ الصّلاة لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين ، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن ، والتّعيين للمصلّي باختياره من حيث الفعل .
فإذا شرع في أوّل الوقت يجب في ذلك الوقت ، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره .
ومتى لم يعيّن بالفعل حتّى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصّلاة يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلاً ، حتّى يأثم بترك التّعيين ، لأنّه لا خيار له في غيره .
7- ودليل التّخيير في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع حديث جبريل - عليه السلام - الّذي يرويه ابن عبّاس - رضي الله عنهما - « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : أَمَّنِي جبريل عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ، ثمّ صلّى العصر حين كان كلّ شيء مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق ، ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم ، وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ، لوقت العصر بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل ، ثمّ صلّى الصّبح حين أسفرت الأرض ، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال : يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين » .
وفي حديث بريدة عن مسلم : « وقت صلاتكم بين ما رأيتم » .
ثانياً : التّخيير في نوع ما يجب إخراجه في الزّكاة
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ البقر إذا بلغت مائةً وعشرين يخيّر في أخذ زكاتها بين ثلاث مسنّات أو أربع تبيعات . والخيار في ذلك للسّاعي عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وللمالك عند الحنفيّة ، وهكذا كلّما أمكن أداء الواجب من الأتبعة أو المسنّات .
أمّا الإبل فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين ، فعند المالكيّة زكاتها حقّتان أو ثلاث بنات لبون ، والخيار فيه للسّاعي .
فإن اختار السّاعي أحد الصّنفين ، وكان عند ربّ المال من الصّنف الآخر أفضل أجزأه ما أخذه السّاعي ، ولا يستحبّ له إخراج شيء زائد . وعند الشّافعيّة والحنابلة زكاتها ثلاث بنات لبون بلا تخيير . وعند الحنفيّة تستأنف الفريضة ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( زكاة ) .(141/1)
9- أمّا إذا ضمّت أنواعاً مختلفةً من جنس واحد لتكميل نصاب السّائمة ، كأن تضمّ العراب إلى البخاتيّ من الإبل ، والجواميس إلى البقر ، والضّأن إلى المعز من الغنم : فعند المالكيّة يخيّر السّاعي في الأخذ من أيّها شاء إذا تساوى النّوعان المضمومان ، وإذا لم يتساويا أخذ من الأكثر إذ الحكم للأغلب . وعند الشّافعيّة ثلاثة أقوال في المذهب :
أحدها : أنّه يؤخذ من الأغلب ، فإن استويا يؤخذ من الأغبط للمساكين على المذهب ، وذلك باعتبار القيمة ، كاجتماع الحقاق وبنات اللّبون .
والقول الثّاني : أنّه يؤخذ من الأعلى ، كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض .
والقول الثّالث : أنّه يؤخذ من الوسط كما في الثّمار ، وهو مذهب الحنفيّة .
وعند الحنابلة أنّه يؤخذ من أحدهما على قدر قيمة المالين المزكّيين ، فإذا كان النّوعان سواءً ، وقيمة المخرج من أحدهما اثنا عشر ، والمخرج من الآخر خمسة عشر ، أخرج من أحدهما ما قيمته ثلاثة عشر ونصف .
10 - فإن اتّفق في نصاب فرضان ، كالمائتين من الإبل ، وهي نصاب خمس بنات لبون ونصاب أربع حقاق ، فيخيّر بينهما ، فإن شاء أخرج أربع حقاق ، وإن شاء أخرج خمس بنات لبون ، لحديث : « فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون » ، ولأنّه وجد ما يقتضي إخراج كلّ نوع منهما .
والخيار في هذا للمالك ، وهذا باتّفاق الفقهاء ، وللشّافعيّ في القديم أنّه تجب أربع حقاق ، لأنّه إذا أمكن تغيّر الفرض بالسّنّ ، لم يغيّر بالعدد .
ثالثاً : التّخيير في فدية الجناية على الإحرام في الحجّ
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم إذا جنى على إحرامه بأن حلق شعره ، أو قلّم أظفاره ، أو تطيّب ، أو لبس مخيطاً ، أنّه تجب عليه الفدية وهي على التّخيير بين خصال ثلاث : فإمّا أن يهدي شاةً ، أو يطعم ستّة مساكين ، أو يصوم ثلاثة أيّام .
وتفصيل موجب الفدية تقدّم في مصطلح : ( إحرام ) .
12 - ودليل ذلك قوله تعالى : { فَمَنْ كانَ مِنْكم مَرِيْضَاً أو به أَذًى منْ رَأْسِه فَفِدْيَةٌ منْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُك } . ولحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : لعلّك آذاك هوامّ رأسك ، قال : نعم يا رسول اللّه ، فقال صلى الله عليه وسلم : احلق رأسك وصم ثلاثةً ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك شاةً » .
وقصر الحنفيّة التّخيير في الفدية على أصحاب الأعذار ، أمّا غير المعذور فيفدي بذبح شاة ، ولا خيار له في غيرها . ولم يفرّق الجمهور بينهما .
ودليل الحنفيّة على ما ذهبوا إليه ، أنّ الآية واردة في المعذور بدليل حديث كعب بن عجرة المفسّرة للآية ، فجاء في رواية : « قال : حملت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى . أتجد شاةً ؟ فقلت : لا ، فقال : صم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين لكلّ مسكين نصف صاع » . فدلّ على أنّه كان معذوراً وحملت الآية عليه .
ودليل الجمهور ما تقدّم في الآية والحديث من التّخيير بلفظ " أو " .
13 - والحكم ثابت في غير المعذور بطريق التّنبيه تبعاً للمعذور ، لأنّ كلّ كفّارة ثبت التّخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه .
14 - كما يثبت التّخيير في كفّارة قتل الصّيد في الحرم .
ويخيّر فيه قاتله بين ثلاث خصال : فإمّا أن يهدي مثل ما قتله من النَّعَم لفقراء الحرم ، إن كان الصّيد له مثل من الإبل أو البقر أو الغنم . أو أن يقوّمه بالمال ، ويقوّم المال طعاماً ، ويتصدّق بالطّعام على الفقراء . وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ الصّيد يقوّم ابتداءً بالطّعام ، ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاماً أجزأه . والخصلة الثّالثة الّتي يخيّر فيها قاتل الصّيد أن يصوم عن كلّ مدّ من الطّعام يوماً . ودليل الاتّفاق على التّخيير في كفّارة صيد الحرم قوله تعالى : { هَدْيَاً بَالِغَ الكعبَةِ أو كفّارةٌ طعامُ مساكين أو عَدْلُ ذلك صيامَاً } و" أو " تفيد التّخيير .
رابعاً : من أسلم على أكثر من أربع نسوة :
15 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة ومحمّد بن الحسن إلى تخيير من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة ، أو أختان ، أو من لا يحلّ له الجمع بينهنّ بنسب أو رضاع ، فيخيّر في إمساك من أراد منهنّ ، بأن يمسك أربعاً أو أقلّ ، أو أن يمسك إحدى الأختين ، وهكذا . ويفسخ نكاحه ممّن سوى من اختارهنّ . وذلك لحديث قيس بن الحارث قال : « أسلمتُ وتحتي ثمان نسوة ، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فقال : اختر منهنّ أربعاً » . ولحديث محمّد بن سويد الثّقفيّ : « أنّ غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة ، فأسلمن معه ، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يختار منهنّ أربعاً » .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّ الكافر إذا أسلم وتحته خمس نسوة فصاعداً أو أختان بطل نكاحهنّ ، إن كان قد تزوّجهنّ بعقد واحد ، فإن كان قد رتّب فالآخر هو الّذي يبطل . ودليلهم على ما ذهبوا إليه أنّ هذه العقود فاسدة ، ولكنّا لا نتعرّض لهم ، لأنّا أمرنا بتركهم وما يدينون ، فإذا أسلموا بطلت الأنكحة الفاسدة .
16 - ومن أحكام التّخيير في هذا الباب وآثاره : أنّ الاختيار يحصل باللّفظ الصّريح كأن يقول : اخترت نكاح هؤلاء ، أو اخترت إمساكهنّ ، كما يحصل بأن يطلّق بعضهنّ ، لأنّ الطّلاق لا يكون إلاّ لزوجة . كما يحصل إذا وطئها ، وإذا وطئ الكلّ يتعيّن الأربع الأول للإمساك ، وما عداهنّ يتعيّن للتّرك .(141/2)
وخالف الشّافعيّة في اعتبار الوطء اختياراً ، لأنّ الاختيار رهناً كالابتداء ، ولا يصحّ ابتداء النّكاح واستدامته إلاّ بالقول . وإذا لم يختر أجبر على الاختيار بالحبس أو بالتّعزير بالضّرب وغيره ، لأنّ الاختيار حقّ عليه ، فألزم بالخروج منه إن امتنع كسائر الحقوق .
وعن ابن أبي هريرة من الشّافعيّة أنّه لا يضرب مع الحبس ، بل يشدّد عليه الحبس ، فإن أصرّ عزّر ثانياً وثالثاً إلى أن يختار . وإذا حبس لا يعزّر على الفور . فلعلّه يؤخّر ليفكّر فيتخيّر بعد رويّة وإمعان نظر . ومدّة الإمهال ثلاثة أيّام . وليس للحاكم أن يختار على الممتنع ، لأنّ الحقّ لغير معيّن ، وهو اختيار رغبة ، فكان من حقّ الزّوج .
ومن الأحكام كذلك : أنّه إذا أسلم بعض زوجاته ، وليس البواقي كتابيّات ، فينحصر تخييره في المسلمات فقط ، وليس له أن يختار من لم يسلمن ، لعدم حلّهنّ له .
ومن الأحكام أنّه يلزم الزّوج النّفقة لجميعهنّ في مدّة التّخيير إلى أن يختار ، لأنّهنّ محبوسات لأجله ، وهنّ في حكم الزّوجات .
خامساً : تخيير الطّفل في الحضانة :
17 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى تخيير المحضون بين أبيه وأمّه إذا تنازعا فيه على ما يأتي من التّفصيل ، فيلحق بأيّهما اختار . فإن اتّفقا على أن يكون المحضون عند أحدهما جاز ، وعند الشّافعيّة يبقى التّخيير وإن أسقط أحدهما حقّه قبل التّخيير - خلافاً للماورديّ والرّويانيّ - ولا فرق في التّخيير بين الذّكر والأنثى .
وعند الحنابلة : يخيّر الغلام إذا بلغ سبع سنين عاقلاً ، لأنّها السّنّ الّتي أمر الشّرع فيها بمخاطبته بالصّلاة . وحدّه الشّافعيّة بالتّمييز بأن يأكل وحده ، ويشرب وحده ، ولم يعتبروا بلوغه السّابعة حدّاً ، فلو جاوز السّبع بلا تمييز بقي عند أمّه ، ولا فرق في هذا بين الذّكر والأنثى . وهذا يخالف في ظاهره ما ورد من أمره بالصّلاة إذا بلغ سبع سنين ، وعدم أمره بها قبل أن يبلغها وإن ميّز . والفرق بينهما أنّ في أمره بالصّلاة قبل السّبع مشقّةً ، فخفّف عنه ذلك . بخلاف الحضانة ، لأنّ المدار في التّخيير على معرفة ما فيه صلاح نفسه وعدمه ، فيقيّد بالتّمييز ، وإن لم يجاوز السّبع .
وفرّق الحنابلة بين الذّكر والأنثى ، فيخيّر الصّبيّ إذا بلغ سبع سنين ، أمّا البنت فتكون في حضانة والدها إذا تمّ لها سبع سنين ، حتّى سنّ البلوغ ، وبعد البلوغ تكون عند الأب أيضاً إلى الزّفاف وجوباً ، ولو تبرّعت الأمّ بحضانتها ، لأنّ الغرض من الحضانة الحفظ ، والأب أحفظ لها . ولأنّها تخطب منه ، فوجب أن تكون تحت نظره .
18 - والتّخيير في الحضانة مشروط بالسّلامة من الفساد ، فإذا علم أنّه يختار أحدهما ليمكّنه من الفساد ، ويكره الآخر لما سيلزمه به من أدب ، لم يعمل بمقتضى اختياره ، لأنّه مبنيّ على الشّهوة ، فيكون فيه إضاعة له .
كما أنّه مشروط بأن يظهر للحاكم معرفته بأسباب الاختيار .
19 - ودليل التّخيير ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : « جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ونفعني ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : هذا أبوك وهذه أمّك ، فخذ بيد أيّهما شئت ، فأخذ بيد أمّه ، فانطلقت به » وما ورد من قضاء عمر بذلك .
20 - ومن أحكام التّخيير : أنّه لو امتنع المختار من كفالة المحضون كفله الآخر ، فإن رجع الممتنع منها أعيد التّخيير . وإن امتنعا أي الأب والأمّ ، خيّر بين الجدّ والجدّة ، وإلاّ أجبر عليها من تلزمه نفقته ، لأنّها من جملة الكفالة .
21 - ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز الّذي لا أب له يخيّر بين أمّ وإن علت وجدّ وإن علا ، عند فقد من هو أقرب منه ، أو قيام مانع به لوجود الولادة في الكلّ .
22 - ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز إن اختار أحد الأبوين ، ثمّ اختار الآخر حوّل إليه ، لأنّه قد يظهر الأمر على خلاف ما ظنّه ، أو يتغيّر حال من اختاره أوّلاً .
إلاّ إذا ظهر أنّ سبب اختياره للآخر قلّة عقله ، فيجعل عند أمّه وإن بلغ ، كما قبل التّمييز .
23 - ومن الأحكام كذلك : أنّ المحضون إذا اختار أبويه معاً أقرع بينهما لانتفاء المرجّح . أمّا إذا لم يختر واحداً منهما ، فعند الشّافعيّة الأمّ أولى ، لأنّها أشفق واستصحاباً لما كان عليه . وعند الحنابلة : يقرع بينهما ، لأنّه لا أولويّة حينئذ لأحدهما ، وهو قول للشّافعيّة . فإذا اختار المحضون غير من قدّم بالقرعة ردّ إليه ، كما لو اختاره ابتداءً .
ولا يخيّر الغلام إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة ، لأنّه غير أهل فيكون وجوده كعدمه ، ويتعيّن أن يكون الغلام عند الآخر . وإن اختار ابن سبع أباه ثمّ زال عقله ردّ إلى الأمّ ، لحاجته إلى من يتعهّده كالصّغير ، وبطل اختياره لأنّه لا حكم لكلامه .
أمّا الحنفيّة والمالكيّة فذهبوا إلى أنّه لا خيار للصّغير ذكراً كان أو أنثى ، وأنّ الأمّ أحقّ بهما. وعند الحنفيّة يبقى الصّبيّ عند أمّه إلى أن يستغني بنفسه ، بأن يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده ويلبس وحده . وعند المالكيّة إلى البلوغ في المشهور من المذهب ، ويقابل المشهور ما قاله ابن شعبان : إنّ أمد الحضانة في الذّكر حتّى يبلغ عاقلاً غير زمن .(141/3)
أمّا البنت فعند الحنفيّة تبقى حضانة أمّها إلى أن تحيض . وبعد البلوغ تحتاج إلى التّحصين والحفظ والأب فيه أقوى . وعن محمّد بن الحسن أنّ البنت تدفع إلى الأب إذا بلغت حدّ الشّهوة ، لتحقّق الحاجة إلى الصّيانة . أمّا عند المالكيّة فتبقى عند أمّها إلى أن يدخل بها زوجها ، لأنّها تحتاج إلى معرفة آداب النّساء ، والمرأة على ذلك أقدر .
24 - والعلّة في عدم تخيير المحضون عند الحنفيّة والمالكيّة هي : قصور عقله الدّاعي إلى قصور اختياره . فقد يختار من عنده الدّعة والتّخلية بينه وبين اللّعب ، فلا يتحقّق المقصود من الحضانة وهو النّظر في مصالح المحضون .
وما ورد من أحاديث تفيد تخيير الطّفل ، جاء فيها أنّ اختياره كان لدعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يهديه إلى الأصلح . كما جاء في حديث « رافع بن سنان أنّه أسلم ، وأبت امرأته أن تسلم فقالت : ابنتي وهي فطيم ، وقال رافع : ابنتي . فأقعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمّ ناحيةً ، والأب ناحيةً ، وأقعد الصّبيّة ناحيةً وقال لهما : ادعواها فمالت الصّبيّة إلى أمّها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم :" اللّهمّ اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها » .
وجاء في رواية أنّه ابنهما وليست بنتهما ، ولعلّهما قضيّتان مختلفتان .
كما يحمل ما ورد في تخيير الغلام على أنّه كان بالغاً ، بدليل أنّه كان يستسقي من بئر أبي عنبة ، ومن يكون دون البلوغ لا يرسل إلى الآبار للخوف عليه من السّقوط .
سادساً : تخيير الإمام في الأسرى :
25 - اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على تخيير إمام المسلمين في أسرى الحرب بين خمس خصال : فإمّا أن يسترقّهم ، وإمّا أن يقتلهم ، وإمّا أن يأخذ الجزية منهم ، وإمّا أن يطلب الفدية مقابل إعتاقهم سواء بالمال ، أو بمفاداتهم بأسرى المسلمين الّذين في أيدي الكفّار ، وإمّا أن يمنّ عليهم فيعتقهم . واستثنى الحنفيّة الخصلتين الأخيرتين ، وهما الفداء والمنّ ، فقالوا بعدم جواز المنّ ، وعدم جواز المفاداة بالمال في المشهور من المذهب ، أمّا المفاداة بأسرى المسلمين فلا يجوز في قول لأبي حنيفة ، وجائز في قول الصّاحبين ، وهو قول لأبي حنيفة كذلك . وفي المسألة تفصيلات يرجع إليها في بحث ( أسرى ) .
ودليل جواز أخذ الجزية قوله تعالى : { حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صَاغِرُون } .
وكذلك ما جاء أنّ عمر رضي الله عنه فعل ذلك في أهل السّواد .
26 - وما تقدّم من تخيير الإمام في الأسرى محلّه في الرّجال البالغين ، أمّا النّساء والصّبيان فلا خيار فيهم ، ولا يحكم فيهم إلاّ بالاسترقاق ، وحكمهم حكم سائر أموال الغنيمة . كما في سبايا هوازن وخيبر وبني المصطلق . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن قتل النّساء والولدان » . وعند المالكيّة : للإمام الخيرة فيهم بين الاسترقاق والفداء . 27 - وتخيير الإمام بين هذه الخصال مقيّد بما يظهر له من المصلحة الرّاجحة في أحدها ، فيختار الأصلح للمسلمين من بينها . فإن كان الأسير ذا قوّة وشوكة فقتله هو المصلحة ، وإن كان ضعيفاً صاحب مال كانت المصلحة في أخذ الفدية منه ، وإن كان ممّن يرجى إسلامه فيمنّ عليه تقريباً وتأليفاً لقلبه على الإسلام . وإن تردّد نظر الإمام ورأيه في اختيار الأصلح ، فعند الحنابلة القتل أولى لما فيه من كفاية شرّهم .
وعند الشّافعيّة يحبسهم حتّى يظهر له الأصلح .
فالتّخيير في تصرّف الإمام في الأسرى مقيّد بالمصلحة بخلاف التّخيير في خصال الكفّارة ، إذ هو تخيير مطلق أبيح للحانث بموجبه أن يختار أيّ خصلة دون النّظر إلى المصلحة .
28 - أمّا إذا اختار الإمام خصلةً بعد الاجتهاد وتقليب وجوه المصالح ، ثمّ ظهر له بالاجتهاد أنّ المصلحة في غيرها ، فقد قال ابن حجر في تحفة المحتاج : الّذي يظهر لي في ذلك تفصيل لا بدّ منه أوّلاً : فإن كانت رقّاً لم يجز له الرّجوع عنها مطلقاً ، سواء استرقّهم لسبب أم لغير سبب ، وذلك لأنّ أهل الخمس ملكوهم بمجرّد ضرب الرّقّ ، فلم يملك إبطاله عليهم إلاّ برضا من دخلوا في ملكهم . وإن اختار القتل جاز له الرّجوع عنه تغليباً لحقن الدّماء ، كما في جواز رجوع المقرّ بالزّنى وسقوط القتل عنه ، بل إنّ الرّجوع عن قتل الأسير أولى ، لأنّه محض حقّ للّه تعالى ، أمّا حدّ الزّنا ففيه شائبة حقّ آدميّ .
أمّا إذا كان ما اختاره الإمام أوّلاً هو المنّ أو الفداء فلا يرجع عنه باجتهاد آخر ، لأنّه من قبيل نقض الاجتهاد بالاجتهاد من غير موجب ، كما أنّ الحاكم إذا اجتهد في قضيّة فلا ينقض اجتهاده باجتهاد آخر . أمّا إذا اختار أحدهما لسبب ، ثمّ زال ذلك السّبب ، وظهرت المصلحة في اختيار الثّاني لزمه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ثانياً ، وليس هذا من قبيل نقض الاجتهاد بالاجتهاد ، لأنّه انتقال إلى الاختيار الثّاني لزوال موجب الاختيار الأوّل . ويشترط في الاسترقاق والفداء اللّفظ الدّالّ على اختيارهما ، ولا يكفي مجرّد الفعل ، لأنّه لا يدلّ عليه دلالةً صريحةً . أمّا في غيرهما من الخصال ، فيكفي الفعل لدلالته الصّريحة على اختيارها .
سابعاً : تخيير الإمام في حدّ المحارب :
29 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حدّ المحارب يختلف باختلاف الجناية ، فلكلّ جناية عقوبتها ، كما في قوله تعالى : { إنَّمَا جَزَاءُ الّذينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ ورَسُولَه وَيَسْعَونَ في الأرضِ فَسَادَاً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِم وأَرْجُلُهم منْ خِلافٍ أو يُنْفَوا منْ الأرضِ ذلك لهم خِزْيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ } .(141/4)
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإمام مخيّر في بعض جنايات المحارب دون بعضها على تفصيل عندهم . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإمام بالخيار في المحارب بين أربعة أمور :
أن يقتله بلا صلب ، أو أن يصلبه مع القتل ، أو أن ينفي الذّكر الحرّ البالغ العاقل في مكان بعيد ويسجن حتّى تظهر توبته أو يموت ، أو أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى .
وهذه الأربعة في حقّ الرّجال ، أمّا النّساء فلا يصلبن ولا ينفين ، وحدّهنّ القتل أو القطع . وتخيير الإمام بين هذه الأمور يكون على أساس المصلحة .
ثامناً : تخيير ملتقط اللّقطة بعد التّعريف بها :
30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الملتقط مخيّر بين أن يتملّك ما التقطه وينتفع به ، أو يتصدّق به ، أو يحفظه أمانةً إلى أن يظهر صاحب اللّقطة فيدفعها إليه ، وهذا بعد التّعريف بها . وذهب الحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ الملتقط يملك ما التقطه حتماً - كالميراث - بمجرّد تمام التّعريف بها ، على التّفصيل المذكور في مصطلح : ( لقطة ) .
وفي الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة : أنّه لا يملك اللّقطة حتّى يختار التّملّك بلفظ صريح أو كناية مع النّيّة ، وفي وجه آخر عند الشّافعيّة : أنّه يملك بمجرّد النّيّة بعد التّعريف . ودليل التّملّك والانتفاع بمجرّد التّعريف ما جاء في روايات الحديث عن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه قال : « جاء أعرابيّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عمّا يلتقطه فقال : عرّفها سنةً ، ثمّ اعرف عفاصها ووكاءها ، فإن جاء أحد يخبرك بها ، وإلاّ فاستنفقها » وفي أخرى : « وإلاّ فهي كسبيل مالك » وفي لفظ : « ثمّ كلها » وفي لفظ :
« فانتفع بها » وفي لفظ : « فشأنك بها »
31 - أمّا دليل أنّه لا يتملّك حتّى يختار فما ورد في حديث زيد بن خالد الجهنيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « فإن جاء صاحبها وإلاّ فشأنك بها » فجعله إلى اختياره ، ولأنّه تملّك ببدل فاعتبر فيه اختيار التّملّك كالملك بالبيع . وإنّما جاز للملتقط اختيار التّصدّق ، لأنّ فيه إيصالاً للحقّ إلى المستحقّ ، وهو واجب بقدر الإمكان ، فإمّا أن يكون بإيصال العين لصاحبها ، وإمّا أن يكون بإيصال العوض عند تعذّره ، وهو الثّواب على اعتبار إجازة صاحب اللّقطة التّصدّق بها . ولهذا كان له الخيار عند ظهوره بين إمضاء الصّدقة أو الرّجوع بالضّمان على الملتقط . وفي المسألة تفصيلات أخرى تنظر في ( لقطة ) .
تاسعاً : التّخيير في كفّارة اليمين :
32 - اتّفق الفقهاء على التّخيير في كفّارة اليمين بين أربع خصال : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو عتق رقبة ، فإن لم يجد ما يكفّر به من هذه الثّلاثة - بأن عجز عن الإطعام والكسوة والعتق - صام ثلاثة أيّام .
فهي كفّارة على التّخيير في الثّلاثة الأولى ، وعلى التّرتيب بينها وبين الخصلة الرّابعة . والأصل في التّخيير في كفّارة اليمين قوله تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُم اللّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُم ولكنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدْتُم الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أو كِسْوَتُهم أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُم إذا حَلَفْتُم واحْفَظُوا أَيْمَانِكُم كذلك يُبَيِّنُ اللّهُ لكم آياتِه لعلَّكُم تَشْكُرُون } .
والمقصود بالتّخيير في كفّارة اليمين أنّ للمكفّر أن يأتي بأيّ خصلة شاء ، وأن ينتقل عنها إلى غيرها بحسب ما يراه ويميل إليه وما يراه الأسهل في حقّه ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى ما خيّره إلاّ لطفاً به . وهذا ما يفترق به التّخيير في كفّارة اليمين عن التّخيير في حدّ المحارب والتّصرّف بالأسرى حيث قيّدا بالمصلحة .
عاشراً : التّخيير بين القصاص والدّية والعفو :
33 - أجمع الفقهاء على أنّ وليّ الدّم مخيّر في الجناية على النّفس بين ثلاث خصال : فإمّا أن يقتصّ من القاتل ، أو يعفو عنه إلى الدّية أو بعضها ، أو أن يصالحه على مال مقابل العفو ، أو يعفو عنه مطلقاً .
ودليل ذلك قوله تعالى : { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ له منْ أَخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ ذلك تَخْفِيْفٌ منْ رَبِّكُم وَرَحْمَة } الآية ، وقوله تعالى : { وكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ } إلى قوله { والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ به فهو كَفَّارَةٌ له } الآية : أي كفّارة للعافي بصدقته على الجاني . وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النَّظَرَين : إمّا أن يودي ، وإمّا أن يقاد »
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلاّ أمر فيه بالعفو » . وفي الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« إنّكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرّجل من هذيل ، وإنّي عاقله ، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين : إمّا أن يقتلوا ، أو يأخذوا العقل » .
واختلف الفقهاء في توقّف تخيير وليّ الدّم في أخذ الدّية على رضا الجاني .(141/5)
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز أن يعفو وليّ الدّم إلى الدّية إلاّ برضا الجاني ، وأنّه ليس لوليّ الدّم جبر الجاني على دفع الدّية إذا سلّم نفسه للقصاص . وذهب الشّافعيّة في الأظهر ، والحنابلة في المعتمد إلى أنّ موجب القتل العمد هو القود ، وأنّ الدّية بدل عنه عند سقوطه . فإذا عفا عن القصاص واختار الدّية وجبت دون توقّف على رضا الجاني . وهو قول أشهب من المالكيّة . وفي قول آخر للشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة أنّ موجب القتل العمد هو القصاص أو الدّية أحدهما لا بعينه ، ويتخيّر وليّ الدّم في تعيين أحدهما .
34 - أمّا دليل الحنفيّة والمالكيّة فيما ذهبوا إليه فهو ما ورد من نصوص توجب القصاص ، كقوله تعالى : { يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلى } ممّا يعيّن القصاص. فهو إخبار عن كون القصاص هو الواجب ، وهذا يبطل القول بأنّ الدّية واجبة كذلك . ولمّا كان القتل لا يقابل بالجمع بين القصاص والدّية ، كان القصاص هو عين حقّ الوليّ ، والدّية بدل حقّه ، وليس لصاحب الحقّ أن يعدل من عين الحقّ إلى بدله من غير رضا من عليه الحقّ ، ولهذا لا يجوز اختيار الدّية من غير رضا القاتل .
وأمّا دليل الشّافعيّة والحنابلة فهو ما تقدّم من أدلّة جواز العفو إلى الدّية ، وقوله تعالى :
{ فَمَنْ عُفِيَ له منْ أخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ } فأوجب سبحانه على القاتل أداء الدّية إلى الوليّ مطلقاً عن شرط الرّضا ، دفعاً للهلاك عن نفسه .
ولمّا كان المقصود من تشريع القصاص والدّية هو الزّجر ، فكان ينبغي الجمع بينهما ، كما في شرب خمر الذّمّيّ ، إلاّ أنّه تعذّر الجمع ، لأنّ الدّية بدل النّفس ، وفي القصاص معنى البدليّة كما في قوله تعالى : { أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ } والباء تفيد البدليّة ، فيؤدّي إلى الجمع بين البدلين ، وهو غير جائز ، فخيّر وليّ الدّم بينهما .(141/6)
تداخل *
التّعريف :
1 - التّداخل في اللّغة : تشابه الأمور والتباسها ودخول بعضها في بعض .
وفي الاصطلاح : دخول شيء في شيء آخر بلا زيادة حجم ومقدار . وتداخل العددين أن يعدّ أقلّهما الأكثر ، أي يفنيه ، مثل ثلاثة وتسعة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاندراج :
2 - الاندراج مصدر اندرج ، ومن معانيه في اللّغة : الانقراض . ويستعمله الفقهاء بمعنى دخول أمر في أمر آخر أعمّ منه ، كالحدث الأصغر مع الجنابة في الطّهارة .
ب - التّباين :
3 - معنى التّباين في اللّغة : التّهاجر والتّباعد . وفي الاصطلاح : عبارة عمّا إذا نسب أحد الشّيئين إلى الآخر لم يصدق أحدهما على شيء ممّا صدق عليه الآخر ، فإن لم يتصادقا على شيء أصلاً فبينهما التّباين الكلّيّ ، وإن صدقا في الجملة فبينهما التّباين الجزئيّ . كالحيوان والأبيض وبينهما العموم من وجه . والفرق بينه وبين التّداخل واضح ، إذ التّداخل إنّما يكون في الأمور المتشابهة والمتقاربة ، أمّا التّباين فيكون في الأمور المتفاوتة كلّيّاً أو جزئيّاً .
ج - التّماثل :
4 - التّماثل : مصدر تماثل ، ومادّة مثل في اللّغة تأتي بمعنى الشّبه ، وبمعنى نفس الشّيء وذاته. والفقهاء يستعملون التّماثل بمعنى التّساوي ، كما في تماثل العددين في مسائل الإرث.
د - التّوافق :
5 - معنى التّوافق في اللّغة : الاتّفاق والتّظاهر .
وتوافق العددين : ألاّ يعدّ أقلّهما الأكثر ، ولكن يعدّهما عدد ثالث ، كالثّمانية مع العشرين ، يعدّهما أربعة ، فهما متوافقان بالرّبع ، لأنّ العدد العادّ مخرج لجزء الوفق .
محلّ التّداخل :
6 - ذكر الحنفيّة أنّ التّداخل : إمّا أن يكون في الأسباب : وإمّا أن يكون في الأحكام . والأليق بالعبادات الأوّل ، وبالعقوبات الثّاني ، وذلك ما جاء في العناية : أنّ التّداخل في العبادات إذا كان في الحكم دون السّبب كانت الأسباب باقيةً على تعدّدها ، فيلزم وجود السّبب الموجب للعبادة بدون العبادة ، وفي ذلك ترك الاحتياط فيما يجب فيه الاحتياط ، فقلنا بتداخل الأسباب فيها ليكون جميعها بمنزلة سبب واحد ترتّب عليه حكمه إذا وجد دليل الجمع وهو اتّحاد المجلس ، وأمّا العقوبات فليس ممّا يحتاط فيها ، بل في درئها احتياط فيجعل التّداخل في الحكم ، ليكون عدم الحكم مع وجود الموجب مضافاً إلى عفو اللّه وكرمه ، فإنّه هو الموصوف بسبوغ العفو وكمال الكرم .
وفائدة ذلك تظهر فيما لو تلا آية سجدة في مكان فسجدها ، ثمّ تلاها فيه مرّات فإنّه يكفيه تلك الواقعة أوّلاً ، إذ لو لم يكن التّداخل في السّبب لكانت التّلاوة الّتي بعد السّجدة سبباً ، وحكمه قد تقدّم ، وذلك لا يجوز . وأمّا في العقوبات : فإنّه لو زنى ، ثمّ زنى ثانيةً قبل أن يحدّ الأولى ، فإنّ عليه حدّاً واحداً ، بخلاف ما لو زنى فحدّ ، ثمّ زنى فإنّه يحدّ ثانياً .
وذكر صاحب الفروق من المالكيّة أنّ التّداخل محلّه الأسباب لا الأحكام ، ولم يفرّق في ذلك بين الطّهارات والعبادات ، كالصّلاة والصّيام والكفّارات والحدود والأموال .
بل ذكر أنّ الحدود المتماثلة إن اختلفت أسبابها كالقذف وشرب الخمر ، أو تماثلت كالزّنى مراراً والسّرقة مراراً والشّرب مراراً قبل إقامة الحدّ عليه ، فإنّها من أولى الأسباب بالتّداخل ، لأنّ تكرّرها مهلك . ويظهر ممّا ذكره الحنابلة في الطّهارات وكفّارة الصّيام ، فيما لو تكرّر منه الجماع في يوم واحد قبل التّكفير ، وفي الحدود إن كانت من جنس واحد أو أجناس أنّ التّداخل عندهم أيضاً إنّما يكون في الأسباب دون الأحكام .
هذا ويظهر ممّا ذكره الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل إنّما يكون في الأحكام دون الأسباب ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والعقوبات والإتلافات .
آثار التّداخل الفقهيّة ومواطنه :
7 - ذكر القرافيّ في الفروق أنّ التّداخل وقع في الشّريعة في ستّة أبواب ، وهي الطّهارات والصّلوات والصّيام والكفّارات والحدود والأموال .
وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّه يدخل في ضروب ، وهي : العبادات والعقوبات والإتلافات . وذكر السّيوطيّ وابن نجيم أنّه إذا اجتمع أمران من جنس واحد ، ولم يختلف مقصودهما ، دخل أحدهما في الآخر غالباً ، كالحدث مع الجنابة . هذا والتّداخل يذكره الفقهاء في الطّهارة والصّلاة والصّوم والحجّ ، والفدية والكفّارة والعدد ، والجناية على النّفس والأطراف والدّيات ، والحدود والجزية ، وفي حساب المواريث . وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً - الطّهارات :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من سنن الغسل : الوضوء قبله ، لأنّه صفة غسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما ونصّ حديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ، ثمّ يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ، ثمّ يتوضّأ وضوءه للصّلاة ، ثمّ يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشّعر ، حتّى إذا رأى أن قد استبرأ ، حفن على رأسه ثلاث حثيات ، ثمّ أفاض على سائر جسده ، ثمّ غسل رجليه » .(142/1)
هذا عن تحصيل السّنّة . أمّا الأجزاء فيرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ الطّهارات كالوضوء والغسل إذا تكرّرت أسبابهما المختلفة كالحيض والجنابة ، أو المتماثلة كالجنابتين ، والملامستين ، فإنّ تلك الأسباب تتداخل ، فيكفي في الجنابتين ، أو في الحيض والجنابة ، أو في الجنابة والملامسة غسل واحد ، لا يحتاج بعده إلى وضوء ،لاندراج سببه في السّبب الموجب للغسل. وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الفعلين في العبادات ، إن كانا في واجب ولم يختلفا في القصد ، تداخلا ، كغسل الحيض مع الجنابة ، فإذا أجنبت ثمّ حاضت ، كفى لهما غسل واحد .
هذا وقد ذكر الشّافعيّة والحنابلة في تداخل الوضوء والغسل إذا وجبا عليه - كما لو أحدث ثمّ أجنب أو عكسه - أربعة أوجه ، انفرد الشّافعيّة بأوّلها ، واتّفقوا مع الحنابلة في الباقي . أحدهما ، وهو المذهب عند الشّافعيّة ، وقد انفردوا فيه عن الحنابلة ، لكنّ ابن تيميّة اختاره : أنّه يكفيه الغسل ، نوى الوضوء معه أو لم ينوه ، غسل الأعضاء مرتّبةً أم لا ، لأنّهما طهارتان ، فتداخلتا .
والثّاني ، وذهب إليه أيضاً الحنابلة في إحدى الرّوايات عن أحمد ، وهو من مفردات المذهب عندهم : أنّه يجب عليه الوضوء والغسل ، لأنّهما حقّان مختلفان يجبان بسببين مختلفين ، فلم يدخل أحدهما في الآخر كحدّ الزّنى والسّرقة ، فإن نوى الوضوء دون الغسل أو عكسه ، فليس له غير ما نوى .
الثّالث ، واختاره أيضاً أبو بكر من الحنابلة ، وقطع به في المبهج : أنّه يأتي بخصائص الوضوء ، بأن يتوضّأ مرتّباً ، ثمّ يغسل سائر البدن ، لأنّهما متّفقان في الغسل ومختلفان في التّرتيب ، فما اتّفقا فيه تداخلا ، وما اختلفا فيه لم يتداخلا .
الرّابع ، وهو ما حكاه أبو حاتم القزوينيّ من الشّافعيّة ، وهو المذهب مطلقاً عند الحنابلة ، وعليه جماهير أصحابهم ، وقطع به كثير منهم : أنّهما يتداخلان في الأفعال دون النّيّة ، لأنّهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى ، فدخلت الصّغرى في الكبرى في الأفعال دون النّيّة ، كالحجّ والعمرة . هذا ، وجاء في الإنصاف عن الدّينوريّ في وجه حكاه : أنّه إن أحدث ثمّ أجنب فلا تداخل ، وجاء فيه أيضاً أنّ من أحدث ثمّ أجنب ، أو أجنب ثمّ أحدث يكفيه الغسل على الأصحّ ، وهو مماثل لما حكاه الشّافعيّة في الوجه الأوّل .
ثانياً : التّداخل في الصّلاة وله أمثلة :
أ - تداخل تحيّة المسجد وصلاة الفرض :
9 - ذكر ابن نجيم في الأشباه ، والقرافيّ في الفروق : أنّ تحيّة المسجد تدخل في صلاة الفرض مع تعدّد سببهما ، فإنّ سبب التّحيّة هو دخول المسجد ، وسبب الظّهر مثلاً هو الزّوال ، فيقوم سبب الزّوال مقام سبب الدّخول ، فيكتفي به .
وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل في العبادات إن كان في مسنون ، وكان ذلك المسنون من جنس المفعول ، دخل تحته ، كتحيّة المسجد مع صلاة الفرض .
وذهب الحنابلة إلى أنّ تحيّة المسجد تدخل في الفرض والسّنّة الرّاتبة .
ب - تداخل سجود السّهو :
10 - جاء صريحاً في حاشية ابن عابدين - من كتب الحنفيّة - فيمن تكرّر سهوه بحيث أدّى ذلك إلى ترك جميع واجبات الصّلاة ، فإنّه لا يلزمه إلاّ سجدتان .
وقريب من ذلك ما جاء في المدوّنة من كتب المالكيّة فيمن نسي تكبيرةً أو تكبيرتين ، أو نسي " سمع اللّه لمن حمده " مرّةً أو مرّتين ، أو نسي التّشهّد أو التّشهّدين .
وجاء في المنثور والأشباه من كتب الشّافعيّة أنّ جبرانات الصّلاة تتداخل لاتّحاد الجنس ، فسجود السّهو وإن تعدّد سجدتان ، لأنّ القصد بسجود السّهو إرغام أنف الشّيطان ، وقد حصل بالسّجدتين آخر الصّلاة ، بخلاف جبرانات الإحرام فلا تتداخل ، لأنّ القصد جبر النّسك وهو لا يحصل إلاّ بالتّعدّد . وقال صاحب المغني : إذا سها سهوين أو أكثر من جنس كفاه سجدتان للجميع ، لا نعلم أحداً خالف فيه . وإن كان السّهو من جنسين ، فكذلك ، حكاه ابن المنذر قولاً لأحمد ، وهو قول أكثر أهل العلم ، منهم : النّخعيّ والثّوريّ ومالك واللّيث والشّافعيّ وأصحاب الرّأي . وذكر أبو بكر من الحنابلة فيه وجهين : أحدهما : ما ذكرنا . والثّاني : يسجد سجودين ، قال الأوزاعيّ وابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة : إذا كان عليه سجودان ، أحدهما قبل السّلام ، والآخر بعده سجدهما في محلّيهما ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لكلّ سهو سجدتان » . وهذان سهوان ، فلكلّ واحد منهما سجدتان ،ولأنّ كلّ سهو يقتضي سجوداً ، وإنّما تداخلا في الجنس الواحد لاتّفاقهما ، وهذان مختلفان.
ج - التّداخل في سجود التّلاوة :
11 - ذكر الحنفيّة أنّ سجدة التّلاوة مبناها على التّداخل دفعاً للحرج .
والتّداخل فيها تداخل في السّبب دون الحكم ، لأنّها عبادة ، فتنوب الواحدة عمّا قبلها وعمّا بعدها ، ولا يتكرّر وجوبها إلاّ باختلاف المجلس أو اختلاف التّلاوة ( أي الآية ) أو السّماع ، فمن تلا آيةً واحدةً في مجلس واحد مراراً تكفيه سجدة واحدة وأداء السّجدة بعد القراءة الأولى أولى . والأصل في ذلك ما روي « أنّ جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السّجدة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسمع ويتلقّن ، ثمّ يقرأ على أصحابه ، وكان لا يسجد إلاّ مرّةً واحدةً » .
وإن تلاها في غير الصّلاة فسجد ، ثمّ دخل في الصّلاة فتلاها فيها ، سجد أخرى . ولو لم يسجد أوّلاً كفته واحدة ، لأنّ الصّلاتيّة أقوى من غيرها ، فتستتبع غيرها وإن اختلف المجلس . ولو لم يسجد في الصّلاة سقطتا في الأصحّ .(142/2)
وأمّا المالكيّة فقاعدة المذهب عندهم تكرير سجدة التّلاوة ، إن كرّر حزباً فيه سجدةً ، ولا تكفيه السّجدة الأولى ، لوجود المقتضي للسّجود ، باستثناء المعلّم والمتعلّم فقط عند الإمام مالك وابن القاسم ، واختاره المازريّ ، خلافاً لأصبغ وابن عبد الحكم القائلين بعدم السّجود عليهما ولا في أوّل مرّة .
ومحلّ الخلاف كما في حاشية الدّسوقيّ إذا حصل التّكرير لحزب فيه سجدة ، وأمّا قارئ القرآن بتمامه فإنّه يسجد جميع سجداته في غير الصّلاة وفي الصّلاة ، حتّى لو قرأه كلّه في ركعة واحدة ، سواء أكان معلّماً أم متعلّماً اتّفاقاً . وجاء في الرّوضة وغيرها من كتب الشّافعيّة : أنّه إذا قرأ آيات السّجدات في مكان واحد ، سجد لكلّ واحدة ، ومثل ذلك قراءته الآية الواحدة في مجلسين . فلو كرّر الآية الواحدة في المجلس الواحد نظر ، إن لم يسجد للمرّة الأولى كفاه سجود واحد ، وإن سجد للأولى فثلاثة أوجه : أصحّها يسجد مرّةً أخرى لتجدّد السّبب ، والثّاني تكفيه الأولى ، والثّالث إن طال الفصل سجد أخرى ، وإلاّ فتكفيه الأولى . ولو كرّر الآية الواحدة في الصّلاة ، فإن كان في ركعة فكالمجلس الواحد ، وإن كان في ركعتين فكالمجلسين . ولو قرأ مرّةً في الصّلاة ، ومرّةً خارجها في المجلس الواحد وسجد للأولى ، فلم ير النّوويّ فيه نصّاً للأصحاب ، وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه .
وتذكر كتب الحنابلة أيضاً أنّ سجود التّلاوة يتكرّر بتكرّر التّلاوة ، حتّى في طواف مع قصر فصل . وذكر صاحب الإنصاف وجهين في إعادة سجود من قرأ بعد سجوده ، وكذا يتوجّه في تحيّة المسجد إن تكرّر دخوله .
وقال ابن تميم : وإن قرأ سجدةً فسجد ، ثمّ قرأها في الحال مرّةً أخرى ، لا لأجل السّجود ، فهل يعيد السّجود ؟ على وجهين . وقال القاضي في تخريجه : إن سجد في غير الصّلاة ثمّ صلّى فقرأها فيها أعاد السّجود ، وإن سجد في صلاة ثمّ قرأها في غير صلاة لم يسجد . وقال : إذا قرأ سجدةً في ركعة فسجد ، ثمّ قرأها في الثّانية ، فقيل يعيد السّجود ، وقيل لا .
ثالثاً : تداخل صوم رمضان وصوم الاعتكاف :
12 - من المقرّر عند المالكيّة والحنفيّة ، وفي رواية عن أحمد اشتراط الصّوم لصحّة الاعتكاف مطلقاً ، وبناءً على ذلك ذكر القرافيّ أنّ صوم الاعتكاف يدخل في صوم رمضان ، وذلك لأنّ الاعتكاف سبب لتوجّه الأمر بالصّوم ، ورؤية هلال رمضان هي سبب توجّه الأمر بصوم رمضان ، فيدخل السّبب الّذي هو الاعتكاف في السّبب الآخر وهو رؤية الهلال فيكتفي به ويتداخل الاعتكاف ورؤية الهلال .
رابعاً : تداخل الطّواف والسّعي للقارن :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والإمام أحمد فيما اشتهر عنه إلى أنّ من قرن بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد ، فإنّه يطوف لهما طوافاً واحداً ، ويسعى لهما سعياً واحداً ، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد اللّه رضي الله عنهم ، وبه قال عطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس وإسحاق وأبو ثور ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ... » . الحديث . وفيه :
« وأمّا الّذين جمعوا بين الحجّ والعمرة فإنّما طافوا طوافاً واحداً » . ولأنّ الحجّ والعمرة عبادتان من جنس واحد ، فإذا اجتمعتا دخلت أفعال الصّغرى في الكبرى كالطّهارتين .
وأيضاً فإنّ الجامع بينهما ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد ، فكفاه طواف واحد وسعي واحد كالفرد . وذهب الحنفيّة والإمام أحمد في رواية أخرى لم تشتهر إلى أنّ عليه طوافين وسعيين ، وقد روي هذا القول عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما ، وبه قال الشّعبيّ وابن أبي ليلى مستدلّين بقوله تعالى : { وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للّه } وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على الكمال بلا فرق بين القارن وغيره .
وبما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من جمع بين الحجّ والعمرة فعليه طوافان » ولأنّهما نسكان ، فكان لهما طوافان ، كما لو كانا منفردين . وأثر هذا الخلاف يظهر في القارن إذا قتل صيداً فإنّه يلزمه جزاء واحد عند القائلين بالتّداخل .
خامساً : تداخل الفدية :
14 - ذكر الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الفدية تتداخل . وقد صرّح الحنفيّة بأنّ من قلّم أظافر يديه ورجليه في مجلس واحد ، وهو محرم ، فإنّ عليه دماً واحداً ، لأنّها من المحظورات ، لما فيه من قضاء التّفث ، وهي من نوع واحد ، فلا يزاد على دم واحد .
وإن كان قلّمها في مجالس ، فكذلك عند محمّد ، لأنّ مبناها على التّداخل ككفّارة الفطر . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجب لكلّ يد دم ، ولكلّ رجل دم إذا تعدّد المجلس ، لأنّ الغالب في الفدية معنى العبادة فيتقيّد التّداخل باتّحاد المجلس كما في آية السّجدة ، ولأنّ هذه الأعضاء متباينة حقيقةً ، وإنّما جعلت الجناية - وهي تقليم الأظافر في مجلس واحد - جنايةً واحدةً في المعنى لاتّحاد المقصود وهو الرّفق .
وصرّح الشّافعيّة بمثل ذلك فيمن فعل شيئاً من مقدّمات الجماع ، وجامع بعده ، فقد ذكروا أنّ فدية المقدّمة تدخل في البدنة الواجبة جزاءً عن الجماع .
وقريب من ذلك ما ذكره الحنابلة فيمن حلق شعر رأسه وبدنه ، بأنّ عليه فديةً واحدةً في أصحّ الرّوايتين عن أحمد ، وهو الصّحيح من المذهب أيضاً ، لأنّ شعر الرّأس والبدن واحد ، وفي رواية أخرى عنه : إنّ لكلّ منهما حكماً منفرداً . وكذا لو لبس أو تطيّب في ثوبه وبدنه ففيه الرّوايتان والمنصوص عن أحمد أنّ عليه فديةً واحدةً .(142/3)
وأمّا المالكيّة فإنّهم وإن لم يصرّحوا بتداخل الفدية ، إلاّ أنّهم أوردوا أربع صور تتّحد فيها الفدية وهي أن يظنّ الفاعل الإباحة :
أ - بأن يعتقد أنّه خرج من إحرامه فيفعل أموراً كلّ منها يوجب الفدية .
ب - أو يتعدّد موجبها من لبس وتطيّب وقلم أظفار وقتل دوابّ بفور .
ج - أو يتراخى ما بين الفعلين ، لكنّه عند الفعل الأوّل أو إرادته نوى تكرار الفعل الموجب لها .
د - أو يتراخى ما بين الفعلين ، إلاّ أنّه لم ينو التّكرار عند الفعل الأوّل منهما ، لكنّه قدّم ما نفعه أعمّ ، كتقديمه لبس الثّوب على لبس السّراويل .
وتفصيله في محظورات الحجّ من كتب الفقه .
سادساً : تداخل الكفّارات :
أ - تداخلها في إفساد صوم رمضان بالجماع :
15 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب كفّارة واحدة على من تكرّر منه الجماع في يوم واحد من أيّام رمضان ، لأنّ الفعل الثّاني لم يصادف صوماً ، وإنّما الخلاف بينهم فيمن تكرّر منه ذلك الفعل في يومين ، أو في رمضانين ، ولم يكفّر للأوّل ، فذهب محمّد من الحنفيّة ، والحنابلة في وجه ، والزّهريّ والأوزاعيّ إلى أنّه تكفيه كفّارة واحدة ، لأنّها جزاء عن جناية تكرّر سببها قبل استيفائها ، فتتداخل كالحدّ . وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية الّذي اختاره بعضهم للفتوى وهو الصّحيح ، والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو أيضاً المذهب عند الحنابلة : إلى أنّ الكفّارة الواحدة لا تجزئه ، بل عليه كفّارتان ، لأنّ كلّ يوم عبادة منفردة ، فإذا وجبت الكفّارة بإفساده لم تتداخل كالعمرتين والحجّتين ، والتّفصيل في مصطلح : ( كفّارة ) .
ب - تداخل الكفّارات في الأيمان :
16 - لا خلاف في أنّ من حلف يميناً فحنث فيها وأدّى ما وجب عليه من الكفّارة ، أنّه لو حلف يميناً أخرى وحنث فيها تجب عليه كفّارة أخرى ، ولا تغني الكفّارة الأولى عن كفّارة الحنث في هذه اليمين الثّانية ، وإنّما الخلاف فيمن حلف أيماناً وحنث فيها . ثمّ أراد التّكفير ، هل تتداخل الكفّارات فتجزئه كفّارة واحدة ؟ أو لا تتداخل فيجب عليه لكلّ يمين كفّارة ؟ تتداخل الكفّارات على أحد القولين عند الحنفيّة ، وأحد الأقوال عند الحنابلة ، ولا تتداخل عند المالكيّة ولا الشّافعيّة ، وتفصيل ذلك في الكفّارات .
سابعاً : تداخل العدّتين :
17 - معنى التّداخل في العدد : أن تبتدئ المرأة عدّةً جديدةً وتندرج بقيّة العدّة الأولى في العدّة الثّانية ، والعدّتان إمّا أن تكونا من جنس واحد لرجل واحد أو رجلين ، وإمّا أن تكونا من جنسين كذلك أي لرجل واحد أو رجلين ، وعلى هذا فإنّ المرأة إذا لزمها عدّتان من جنس واحد ، وكانتا لرجل واحد ، فإنّهما تتداخلان عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لاتّحادهما في الجنس والقصد . مثال ذلك : ما لو طلّق زوجته ثلاثاً ، ثمّ تزوّجها في العدّة ووطئها ، وقال : ظننت أنّها تحلّ لي . أو طلّقها بألفاظ الكناية ، فوطئها في العدّة ، فإنّ العدّتين تتداخلان ، فتعتدّ ثلاثة أقراء ابتداءً من الوطء الواقع في العدّة ، ويندرج ما بقي من العدّة الأولى في العدّة الثّانية . أمّا إذا كانتا لرجلين فإنّهما تتداخلان عند الحنفيّة ، لأنّ المقصود التّعرّف على فراغ الرّحم ، وقد حصل بالواحدة فتتداخلان .
ومثاله : المتوفّى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة ، فهاتان عدّتان من رجلين ومن جنسين . ومثال العدّتين من جنس واحد ومن رجلين : المطلّقة إذا تزوّجت في عدّتها فوطئها الثّاني ، وفرّق بينهما ، تتداخلان وتعتدّ من بدء التّفريق ، ويندرج ما بقي من العدّة الأولى في العدّة الثّانية . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تتداخلان ، لأنّهما حقّان مقصودان لآدميّين ، فلم يتداخلا كالدّينين ، ولأنّ العدّة احتباس يستحقّه الرّجال على النّساء ، فلم يجز أن تكون المرأة المعتدّة في احتباس رجلين كاحتباس الزّوجة .
وأمّا إذا اختلفت العدّتان في الجنس ، وكانتا لرجلين ، فإنّهما تتداخلان أيضاً عند الحنفيّة ، لأنّ كلاً منهما أجل ، والآجال تتداخل .
ولا تداخل بينهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ كلاً منهما حقّ مقصود للآدميّ ، فعليها أن تعتدّ للأوّل لسبقه ، ثمّ تعتدّ للثّاني ، ولا تتقدّم عدّة الثّاني على عدّة الأوّل إلاّ بالحمل .
وإن كانتا من جنسين لشخص واحد تداخلتا أيضاً عند الحنفيّة ، وفي أصحّ الوجهين عند الشّافعيّة ، وفي أحد الوجهين عند الحنابلة ، لأنّهما لرجل واحد . ولا تداخل بينهما على مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، وعلى الوجه الثّاني عند الحنابلة لاختلافهما في الجنس .
وأمّا المالكيّة فقد لخصّ ابن جزيّ مذهبهم في تداخل العدد بقوله : فروع في تداخل العدّتين : الفرع الأوّل : من طلقت طلاقاً رجعيّاً ، ثمّ مات زوجها في العدّة انتقلت إلى عدّة الوفاة ، لأنّ الموت يهدم عدّة الرّجعيّ بخلاف البائن .
الفرع الثّاني : إن طلّقها رجعيّاً ثمّ ارتجعها في العدّة ، ثمّ طلّقها ، استأنفت العدّة من الطّلاق الثّاني ، سواء كان قد وطئها أم لا ، لأنّ الرّجعة تهدم العدّة ، ولو طلّقها ثانيةً في العدّة من غير رجعة بَنَتْ اتّفاقاً ، ولو طلّقها طلقةً ثانيةً ثمّ راجعها في العدّة أو بعدها ، ثمّ طلّقها قبل المسيس بَنَتْ على عدّتها الأولى ، ولو طلّقها بعد الدّخول استأنفت من الطّلاق الثّاني .(142/4)
الفرع الثّالث : إذا تزوّجت في عدّتها من الطّلاق ، فدخل بها الثّاني ، ثمّ فرّق بينهما ، اعتدّت بقيّة عدّتها من الأوّل ، ثمّ اعتدّت من الثّاني ، وقيل : تعتدّ من الثّاني وتجزيها عنهما ، وإن كانت حاملاً فالوضع يجزي عن العدّتين اتّفاقاً . والتّفصيل في مصطلح : ( عدّة ) .
ثامناً : تداخل الجنايات على النّفس والأطراف :
18 - ذكر الحنفيّة أنّ الجنايات على النّفس والأطراف إذا تعدّدت ، كما لو قطع عضواً من أعضائه ، ثمّ قتله ، فإنّها لا تتداخل إلاّ في حالة اجتماع جنايتين على واحد ، ولم يتخلّلهما برء ، وصورها ستّ عشرة ، كما ذكر ابن نجيم في الأشباه ، لأنّه إذا قطع ثمّ قتل ، فإمّا أن يكونا عمدين أو خطأين ، أو أحدهما عمداً والآخر خطأً ، وكلّ من الأربعة إمّا على واحد أو اثنين ، وكلّ من الثّمانية . إمّا أن يكون الثّاني قبل البرء أو بعده .
وذكر المالكيّة أنّ الجناية على الطّرف تندرج في الجناية على النّفس ، أي في القصاص ، إن تعمّدها الجاني ، سواء أكان الطّرف للمقتول أم لغيره بأن قطع يد شخص عمداً ، وفقأ عين آخر عمداً ، فيقتل فقط ولا يقطع شيء من أطرافه ولا تفقأ عينه ، إن لم يقصد الجاني بجنايته على الطّرف مثلةً - أي تمثيلاً وتشويهاً - فإن قصدها فلا يندرج الطّرف في القتل ، فيقتصّ من الطّرف ، ثمّ يقتل .
أمّا إذا لم يتعمّد الجاني الجناية على الطّرف ، فإنّها لا تندرج في الجناية على النّفس ، كما لو قطع يد شخص خطأً ، ثمّ قتله عمداً عدواناً ، فإنّه يقتل به ، ودية اليد على عاقلته .
وذكر الشّافعيّة أنّ الجناية على النّفس والأطراف إذا اتّفقتا في العمد أو الخطأ ، وكانت الجناية على النّفس بعد اندمال الجناية على الطّرف وجبت دية الطّرف بلا خلاف . أمّا إذا كانت الجناية على النّفس قبل اندمال الجناية على الطّرف فوجهان ، أصحّهما : دخول الجناية على الطّرف في الجناية على النّفس ، بحيث لا يجب إلاّ ما يجب في النّفس كالسّراية . وثانيهما : عدم التّداخل بين الجنايتين ، خرّجه ابن سريج ، وبه قال الإصطخريّ ، واختاره إمام الحرمين . أمّا إذا كانت إحداهما عمداً والأخرى خطأً ، وقلنا بالتّداخل عند الاتّفاق ، فهنا وجهان : أحدهما التّداخل أيضاً . وأصحّهما : لا ، لاختلافهما .
والحنابلة يقولون : التّداخل في القصاص في إحدى الرّوايتين عن أحمد فيما لو جرح رجل رجلاً ، ثمّ قتله قبل اندمال جرحه ، واختار الوليّ القصاص ، فعلى هذه الرّواية ليس للوليّ إلاّ ضرب عنقه بالسّيف . لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا قَوَدَ إلاّ بالسّيفِ » ، وليس له جرحه أو قطع طرفه ، لأنّ القصاص أحد بدلي النّفس ، فدخل الطّرف في حكم الجملة كالدّية. والرّواية الثّانية : أنّ للوليّ أن يفعل بالجاني مثلما فعل ، لقوله تعالى : { وإنْ عَاقَبْتُم فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُم به } . أمّا إذا عفا الوليّ عن القصاص ، أو صار الأمر إلى الدّية لكون الفعل خطأً أو شبه عمد ، فالواجب حينئذ دية واحدة ، لأنّه قتل قبل استقرار الجرح ، فدخل أرش الجراحة في أرش النّفس والتّفصيل في مصطلح : ( جناية ) .
تاسعاً : تداخل الدّيات :
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الدّيات قد تتداخل ، فيدخل الأدنى منها في الأعلى ، ومن ذلك دخول دية الأعضاء والمنافع في دية النّفس ، ودخول أرش الموضحة المذهبة للعقل في دية العقل ، ودخول حكومة الثّدي في دية الحلمة إلى غير ذلك من الفروع .
والتّفصيل في مصطلح : ( دية ) .
عاشراً : تداخل الحدود :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحدود - كحدّ الزّنى والسّرقة والشّرب - إذا اتّفقت في الجنس والموجب أي الحدّ فإنّها تتداخل ، فمن زنى مراراً ، أو سرق مراراً ، أو شرب مراراً ، أقيم عليه حدّ واحد للزّنى المتكرّر ، وآخر للسّرقة المتكرّرة . وآخر للشّرب المتكرّر ، لأنّ ما تكرّر من هذه الأفعال هو من جنس ما سبقه ، فدخل تحته . ومثل ذلك حدّ القذف إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، أو قذف جماعةً بكلمة واحدة ، فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد اتّفاقاً ، بخلاف ما لو قذف جماعةً بكلمات ، أو خصّ كلّ واحد منهم بقذف .
واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ من زنى أو سرق أو شرب ، فأقيم عليه الحدّ ، ثمّ صدر منه أحد هذه الأفعال مرّةً أخرى ، فإنّه يحدّ ثانياً ، ولا يدخل تحت الفعل الّذي سبقه ، واتّفقوا أيضاً على عدم التّداخل بين هذه الأفعال عند اختلافها في الجنس والقدر الواجب فيها ، فمن زنى وسرق وشرب حدّ لكلّ فعل من هذه الأفعال ، لاختلافها في الجنس والقدر الواجب فيها ، فلا تتداخل . أمّا إذا اتّحدت في القدر الواجب واختلفت في الجنس ، كالقذف والشّرب مثلاً ، فلا تداخل بينها عند غير المالكيّة ، وأمّا عند المالكيّة فتتداخل ، لاتّفاقها في القدر الواجب فيها ، وهو الحدّ ، فإنّ الواجب في القذف ثمانون جلدةً وفي الشّرب أيضاً مثله ، فإذا أقيم عليه أحدهما سقط عنه الآخر . ولو لم يقصد عند إقامة الحدّ إلاّ واحداً فقط ، ثمّ ثبت أنّه شرب أو قذف ، فإنّه يكتفي بما ضرب له عمّا ثبت .
ومثل ذلك عندهم - أي المالكيّة - ما لو سرق وقطع يمين آخر ، فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد . وهذا كلّه إذا لم يكن في تلك الحدود القتل ، فإن كان فيها القتل ، فإنّه يكتفي به عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لقول ابن مسعود : ما كانت حدود فيها قتل إلاّ أحاط القتل بذلك كلّه ، ولأنّ المقصود الزّجر وقد حصل . واستثنى المالكيّة من ذلك حدّ القذف ، فقد ذكروا أنّه لا يدخل في القتل ، بل لا بدّ من استيفائه قبله .(142/5)
وأمّا الشّافعيّة فإنّهم لا يكتفون بالقتل ، ولم يقولوا بالتّداخل في هذه المسألة ، بل يقدّمون الأخفّ ثمّ الأخفّ ، فمن سرق وزنى وهو بكر ، وشرب ولزمه قتل بردّة ، أقيمت عليه الحدود الواجبة فيها بتقديم الأخفّ ثمّ الأخفّ .
الحادي عشر : تداخل الجزية :
21 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الجزية تتداخل كما إذا اجتمع على الذّمّيّ جزية عامين ، فلا يؤخذ منه إلاّ جزية عام واحد ، لأنّ الجزية وجبت عقوبةً للّه تعالى تؤخذ من الذّمّيّ على وجه الإذلال . والعقوبات الواجبة للّه تعالى إذا اجتمعت ، وكانت من جنس واحد ، تداخلت كالحدود ، ولأنّها وجبت بدلاً عن القتل في حقّهم وعن النّصرة في حقّنا ، لكن في المستقبل لا في الماضي ، لأنّ القتل إنّما يستوفى لحراب قائم في الحال ، لا لحراب ماض ، وكذا النّصرة في المستقبل لأنّ الماضي وقعت الغُنْية عنه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّها لا تتداخل ، ولا تسقط بمضيّ المدّة ، لأنّ مضيّ المدّة لا تأثير له في إسقاط الواجب كالدّيون .
وأمّا خراج الأرض فقيل على هذا الخلاف ، وقيل لا تداخل فيه بالاتّفاق .
وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بتداخل الجزية ، ولكن يفهم التّداخل من قول أبي الوليد ابن رشد : ومن اجتمعت عليه جزية سنين ، فإن كان ذلك لفراره بها أخذت منه لما مضى ، وإن كان لعسره لم تؤخذ منه ، ولا يطالب بها بعد غناه . والتّفصيل في مصطلح : ( جزية ) .
الثّاني عشر : تداخل العددين في حساب المواريث :
22 - العددان في حساب المواريث إمّا أن يكونا متماثلين ، وإمّا أن يكونا مختلفين .
وفي حال اختلافهما إمّا أن يفنى الأكثر بالأقلّ ، وإمّا أن يفنيهما عدد ثالث ، وإمّا أن لا يفنيهما إلاّ واحد ليس بعدد ، بل هو مبدؤه ، فهذه أربعة أقسام .
وقد وقع التّداخل في القسم الثّاني منها ، وهو ما إذا اختلفا وفني الأكثر بالأقلّ عند إسقاطه من الأكثر مرّتين فأكثر منهما ، فيقال حينئذ : إنّهما متداخلان ، كثلاثة مع ستّة أو تسعة أو خمسة عشر ، فإنّ السّتّة تفنى بإسقاط الثّلاثة مرّتين ، والتّسعة بإسقاطها ثلاث مرّات ، والخمسة عشر بإسقاطها خمس مرّات ، لأنّها خمسها ، وسمّيا متداخلين لدخول الأقلّ في الأكثر . وحكم الأعداد المتداخلة : أنّه يكتفى فيها بالأكبر ويجعل أصل المسألة .
أمّا في الأقسام الأخرى ، وهي الأوّل والثّالث والرّابع ، فلا تداخل بين العددين فيها ، لأنّ العددين إن كانا متماثلين - كما في القسم الأوّل - فإنّه يكتفى بأحدهما ، فيجعل أصلاً للمسألة كالثّلاثة والثّلاثة مخرجي الثّلث والثّلثين ، لأنّ حقيقة المتماثلين إذا سلّط أحدهما على الآخر أفناه مرّةً واحدةً . وإن كانا مختلفين ، ولا يفنيهما إلاّ عدد ثالث - وهو القسم الثّالث - فهما متوافقان ، ولا تداخل بينهما أيضاً ، لأنّ الإفناء حصل بغيرهما ، كأربعة وستّة بينهما موافقة بالنّصف ، لأنّك إذا سلّطت الأربعة على السّتّة يبقى منهما اثنان ، سلّطهما على الأربعة مرّتين تفنى بهما ، فقد حصل الإفناء باثنين وهو عدد غير الأربعة والسّتّة ، فهما متوافقان بجزء الاثنين وهو النّصف .
وحكم المتوافقين : أن تضرب وفق أحدهما في كامل الآخر ، والحاصل أصل المسألة .
وإن كانا مختلفين لا يفنى أكثرهما بأقلّهما ولا بعدد ثالث ، بأن لم يفنهما إلاّ الواحد كما في القسم الرّابع فهما متباينان ، ولا تداخل بينهما أيضاً كثلاثة وأربعة ، لأنّك إذا أسقطت الثّلاثة من الأربعة يبقى واحد ، فإذا سلّطته على الثّلاثة فنيت به . وحكم المتباينين أنّك تضرب أحد العددين في الآخر . والتّفصيل في باب حساب الفرائض ، وينظر مصطلح : ( إرث ) .(142/6)
تدارك *
التّعريف :
1 - التّدارك : مصدر تدارك ، وثلاثيّه : درك ، ومصدره الدّرك بمعنى : اللّحاق والبلوغ . ومنه الاستدراك وللاستدراك في اللّغة استعمالان :
الأوّل : أن يتستدرك الشّيء بالشّيء .
الثّاني : أن يتلافى ما فرّط في الرّأي أو الأمر من الخطأ أو النّقص .
وللاستدراك في الاصطلاح معنيان أيضاً :
الأوّل ، للأصوليّين والنّحويّين : وهو رفع ما يتوهّم ثبوته ، أو إثبات ما يتوهّم نفيه .
والثّاني : يرد في كلام الفقهاء : وهو إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات . وقد ورد في كلام الفقهاء التّعبير بالتّدارك في موضع الاستدراك ، الّذي هو بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه ، سواء أترك سهواً أم عمداً ، ومن ذلك قول الرّمليّ : إذا سلّم الإمام من صلاة الجنازة ، تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها .
وقوله : لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكّرها قبل ركوعه ، أو تعمّد تركها بالأولى - وشرع في القراءة وإن لم يتمّ فاتحته - فاتت في الجديد فلا يتداركها .
ومن ذلك أيضاً ما ذكره البهوتيّ ، من أنّه لو دفن الميّت قبل الغسل ، وقد أمكن غسله ، لزم نبشه ، وأن يخرج ويغسّل ، تداركاً لواجب غسله .
وعلى هذا يمكن تعريف التّدارك في الاصطلاح الفقهيّ بأنّه : فعل العبادة ، أو فعل جزئها إذا ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعاً ما لم يفت .
وبالتّتبّع وجدنا الفقهاء لا يطلقون التّدارك إلاّ على ما كان استدراكاً في العبادة .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - منها القضاء والإعادة والاستدراك ، وكذلك الإصلاح في اصطلاح المالكيّة وقد سبق بيان معانيها ، والتّفريق بينها وبين التّدارك في مصطلح ( استدراك ) .
الحكم التّكليفيّ :
3 - الأصل أنّ تدارك ركن العبادة المفروضة فرض ، وذلك إن فات الرّكن لعذر - كنسيان أو جهل - مع القدرة عليه ، أو فعل على وجه غير مجزئ .
ولا يحصل الثّواب المرتّب على الرّكن مع تركه ، لعدم الامتثال .
ولا تصحّ العبادة إلاّ بالتّدارك . فإن لم يتدارك الرّكن في الوقت الّذي يمكن تداركه فيه فسدت العبادة ، ووجب الاستدراك باستئناف العبادة أو قضائها ، بحسب اختلاف الأحوال . وأمّا تدارك الواجبات والسّنن ففيه تفصيل . ويتّضح ذلك من الأمثلة المختلفة ،وبها يتبيّن الحكم .
التّدارك في الوضوء :
أ - التّدارك في أركان الوضوء :
4 - أركان الوضوء يتحتّم الإتيان بها ، فإن ترك غسل عضو من الثّلاثة أو جزءاً منه ، أو ترك مسح الرّأس ، فإنّه لا بدّ من تداركه ، بالإتيان بالفائت من غسل أو مسح ثمّ الإتيان بما بعده ، فمن نسي غسل اليدين ، وتذكّره بعد غسل الرّجلين ، لم يصحّ وضوءه حتّى يعيد غسل اليدين ويمسح برأسه ويغسل رجليه .
وهذا على قول من يجعل التّرتيب فرضاً في الوضوء ، وهم الشّافعيّة ، وعلى القول المقدّم عند الحنابلة . أمّا من أجازوا الوضوء دون ترتيب ، وهم الحنفيّة والمالكيّة ، فيجزئ عندهم التّدارك بغسل المتروك وحده . وإعادة ما بعده مستحبّ ، وليس واجباً .
ولو ترك غسل اليمنى من اليدين أو الرّجلين ، وتذكّره بعد غسل اليسرى ، أجزأه غسل اليمنى فقط ، ولا يلزمه غسل اليسرى اتّفاقاً ، لأنّهما بمنزلة عضو واحد .
وإنّما يجزئ التّدارك بالإتيان بالفائت وما بعده ، أو بالفائت وحده - على القولين المذكورين - إن لم تفت الموالاة عند من أوجبها ، فإن طال الفصل ، وفاتت الموالاة ، فلا بدّ من إعادة الوضوء كلّه . أمّا من لم يوجب الموالاة - وذلك مذهب الحنفيّة والشّافعيّة - فإنّه يجزئ عندهم التّدارك بغسل الفائت وحده . وفي المسألة تفصيلات يرجع إليها في ( وضوء ) .
ب - التّدارك في واجبات الوضوء :
5 - ليس للوضوء ولا للغسل واجبات عند بعض الفقهاء .
ومن واجبات الوضوء عند الحنابلة مثلاً التّسمية في أوّله - وليست ركناً في الوضوء عندهم - قالوا : وتسقط لو تركها سهواً . وإن ذكرها في أثناء الوضوء سمّى وبنى ، أي فلا يلزمه الاستئناف . قالوا : لأنّه لمّا عفي عنها مع السّهو في جملة الطّهارة ، ففي بعضها أولى . وهو المذهب خلافاً لما صحّحه في الإنصاف .
ج - التّدارك في سنن الوضوء :
6 - أمّا سنن الوضوء فقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بعدم مشروعيّة تداركها إذا فات محلّها . فيرى المالكيّة أنّ سنّة الوضوء يطالب بإعادتها لو نكّسها سهواً أو عمداً ، طال الوقت أو قصر . أمّا لو تركها بالكلّيّة عمداً أو سهواً - وذلك منحصر عندهم في المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين - قال الدّردير : يفعلها استناناً دون ما بعدها طال التّرك أو لا . وإنّما لم تجب إعادة ما بعده لندب ترتيب السّنن في نفسها ، أو مع الفرائض .
والمندوب - كما قال الدّسوقيّ - إذا فات لا يؤمر بفعله لعدم التّشديد فيه ، وإنّما يتداركها لما يستقبل من الصّلوات ، لا إن أراد مجرّد البقاء على طهارة ، إلاّ أن يكون بالقرب ، أي بحضرة الماء وقبل فراغه من الوضوء .
وكذلك عند الشّافعيّة : لو قدّم مؤخّراً ، كأن استنشق قبل المضمضة - وهما عندهم سنّتان - قال الرّمليّ : يحتسب ما بدأ به ، وفات ما كان محلّه قبله على الأصحّ في الرّوضة ، خلافاً لما في المجموع ، أي فلا يتداركه بعد ذلك ، وهذا قولهم في سنن الوضوء بصفة عامّة ، فيحسب منها ما أوقعه أوّلاً ، فكأنّه ترك غيره ، فلا يعتدّ بفعله بعد ذلك .(143/1)
لكن في التّسمية في أوّل الوضوء - وهي سنّة عندهم - قالوا : إن تركها عمداً أو سهواً - أو في أوّل طعام أو شراب كذلك - يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته ، فيقول : بسم اللّه أوّله وآخره ، ولا يأتي بها بعد فراغه من الوضوء ، بخلاف الأكل ، فإنّه يأتي بها بعده . وشبيه بهذا ما عند الحنفيّة . حيث قالوا : لو نسيها ، فسمّى في خلال الوضوء لا تحصل السّنّة ، بل المندوب ، فيأتي بها لئلاّ يخلو وضوءه منها . وأمّا في الطّعام فتحصل السّنّة في باقيه . وهل تكون التّسمية أثناءه استدراكاً لما فات ، فتحصل فيه ، أم لا تحصل ؟ .
قال شارح المنية : الأولى أنّها استدراك ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أكل أحدكم فلْيذكر اسم اللّه تعالى ، فإن نسي أن يذكرَ اسمَ اللّه في أوّله فليقل : بسم اللّه أوّله وآخره » .وقال ابن عابدين : إذا قال في الوضوء بسم اللّه أوّله وآخره ، حصل استدراك السّنّة أيضاً، بدلالة النّصّ .
7- أمّا المضمضة والاستنشاق في الوضوء عند الحنابلة ففعلهما فرض ، لأنّ الفم والأنف من أجزاء الوجه ، وليسا من سنن الوضوء ، ولذا فلا يجب التّرتيب فيما بينهما .
ويجب أن يتدارك المضمضة بعد الاستنشاق ، أو بعد غسل الوجه ، وحتّى بعد غسل سائر الأعضاء ، إلاّ أنّه إن تذكّرهما بعد غسل اليدين تداركهما وغسل ما بعدهما كما تقدّم .
التّدارك في الغسل :
8 - التّرتيب والموالاة في الغسل غير واجبين عند جمهور الفقهاء .
وقال اللّيث : لا بدّ من الموالاة . واختلف فيه عن الإمام مالك ، والمقدّم عند أصحابه : وجوب الموالاة ، وفيه وجه لأصحاب الإمام الشّافعيّ . فعلى قول الجمهور : إذا توضّأ مع الغسل لم يلزم التّرتيب بين أعضاء الوضوء . من أجل ذلك فإنّه لو ترك غسل عضو أو لمعة من عضو ، سواء أكان في أعضاء الوضوء أم في غيرها ، تدارك المتروك وحده بعد ، طال الوقت أو قصر ، ولو غسل بدنه إلاّ أعضاء الوضوء تداركها ، ولم يجب التّرتيب بينها . ومن أجل ذلك قال الشّافعيّة : لو ترك الوضوء في الغسل ، أو المضمضة أو الاستنشاق كره له ، ويستحبّ له أن يأتي به ولو طال الفصل دون إعادة للغسل .
ويجب تداركهما عند الحنفيّة والحنابلة ، إذ هما واجبان في الغسل عندهم ، بخلافهما في الوضوء ، فهما فيه سنّة عند الحنفيّة ، وليسا بواجبين .
تدارك غسل الميّت :
9 - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لو دفن الميّت دون غسل ، وقد أمكن غسله ، لزم نبشه وأن يخرج ويغسّل ، تداركاً لواجب غسله . أي ما لم يخش تغيّره ، كما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة . وكذلك تكفينه والصّلاة عليه يجب تداركهما بنبشه . قال الدّردير : وتدورك ندباً بالحضرة - وهي ما قبل تسوية التّراب عليه - ومثال المخالفة الّتي تتدارك : تنكيس رجليه موضع رأسه ، أو وضعه غير مستقبل القبلة ، أو على ظهره ، وكترك الغسل ، أو الصّلاة عليه ، ودفن من أسلم بمقبرة الكفّار ، فيتدارك إن لم يخف عليه التّغيّر .
أمّا عند الحنفيّة : فلا ينبش الميّت إذا أهيل عليه التّراب لحقّ اللّه تعالى ، كما لو دفن دون غسل أو صلاة ، ويصلّى على قبره دون غسل .
التّدارك في الصّلاة :
10 - إذا ترك المصلّي شيئاً من صلاته ، أو فعله على وجه غير مجزئ ، فإنّ في مشروعيّة تداركه تفصيلاً :
أ - تدارك الأركان :
11 - إن كان المتروك ركناً ، وكان تركه عمداً ، بطلت صلاته حالاً لتلاعبه . وإن تركه سهواً أو شكّ في تركه وجب تداركه بفعله ، وإلاّ لم تصحّ الرّكعة الّتي ترك ركناً منها ، فإنّ الرّكن لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً ولا غلطاً ، ويعيد ما بعد المتروك لوجوب التّرتيب . وفي كيفيّة تداركه اختلاف وتفصيل بين أصحاب المذاهب يرجع إليه في ( أركان الصّلاة وسجود السّهو ) . وقد يشرع سجود السّهو مع تداركه ، على ما في سجود السّهو من الخلاف ، في كونه واجباً أو مستحبّاً على ما هو مفصّل في سجود السّهو .
ب - تدارك الواجبات :
12 - ليس عند المالكيّة والشّافعيّة واجبات للصّلاة غير الأركان .
وعند الحنفيّة واجبات الصّلاة لا تفسد الصّلاة بتركها ، بل يجب سجود السّهو إن كان تركه سهواً ، وتجب إعادتها إن كان عمداً مع الحكم بإجزاء الأولى .
أمّا عند الحنابلة : فواجبات الصّلاة - كالتّشهّد الأوّل ، والتّكبير للانتقال ، وتسبيح الرّكوع والسّجود - فإن ترك شيئاً من ذلك عمداً بطلت صلاته . وإن تركه سهواً ثمّ تذكّره ، فإنّه يجب تداركه ما لم يفت محلّه ، بانتقاله بعده إلى ركن مقصود ، إذ لا يعود بعده لواجب . فيرجع إلى تسبيح ركوع قبل اعتدال لا بعده ، ويرجع إلى التّشهّد الأوّل ما لم يشرع في قراءة الرّكعة الثّالثة . ثمّ إن فات محلّ الواجب - كما لو شرع في القراءة من ترك التّشهّد الأوّل - لم يجز الرّجوع إليه . وفي كلا الحالين يجب سجود السّهو .
ت - تدارك سنن الصّلاة :
13 - السّنن لا تبطل الصّلاة بتركها ولو عمداً ، ولا تجب الإعادة ، وإنّما حكم تركها : كراهة التّنزيه ، كما صرّح به الحنفيّة .
وعند المالكيّة : إن نسي سنّةً من سنن الصّلاة يستدركها ما لم يفت محلّها ، فلو ترك التّشهّد الأوسط ، وتذكّر قبل مفارقته الأرض بيديه وركبتيه ، يرجع للإتيان به ، وإلاّ فقد فات .(143/2)
وأمّا السّجود للسّهو بترك سنّة ، فعندهم في ذلك تفصيلات يرجع إليها في( سجود السّهو ). والسّنن عند الشّافعيّة نوعان : نوع هو أبعاض يشرع سجود السّهو لتركها عمداً أو سهواً ، كالقنوت ، وقيامه ، والتّشهّد الأوّل ، وقعوده ،والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه. ونوع لا يشرع السّجود لتركه ، كأذكار الرّكوع والسّجود ، فإن سجد لشيء منها عامداً بطلت صلاته ، لأنّه زاد على الصّلاة من جنس أفعالها ما ليس منها ، إلاّ أن يعذر بجهله .
وعلى كلّ حال فلا يتدارك شيء من ذلك عندهم إذا فات محلّه ، كالاستفتاح إذا شرع في القراءة . وكذا عند الحنابلة لا تتدارك السّنن إذا فات محلّها ، كما إذا ترك الاستفتاح حتّى تعوّذ ، أو ترك التّعوّذ حتّى بسمل ، أو ترك البسملة حتّى شرع في القراءة ، أو ترك التّأمين حتّى شرع في السّورة . لكن إن لم يكن استعاذ في الأولى عمداً أو نسياناً يستعيذ في الرّكعة الثّانية . وليس ذلك من باب تدارك التّعوّذ الفائت ، ولكن إنّما يستعيذ للقراءة الثّانية .
وكما لا تتدارك السّنن إذا فات محلّها ، فكذلك لا يشرع السّجود لترك شيء منها سهواً أو عمداً ، قوليّةً كانت أو فعليّةً ، وإن سجد لذلك فلا بأس .
ث - تدارك المسبوق ما فاته من الصّلاة مع الجماعة :
14 - من جاء متأخّراً عن تكبيرة الإحرام ، فدخل مع الإمام ، لا يتدارك ما فاته من الرّكعة معه إن أدركه قبل الرّفع من الرّكوع ، فإن أدركه في الرّفع من الرّكوع أو بعد ذلك فاتته الرّكعة ووجب عليه تداركها .
وفي ذلك تفصيل وأحكام مختلفة تنظر في صلاة الجماعة ( صلاة المسبوق ) .
ج - تدارك سجود السّهو :
15 - لو نسي من سها في صلاته ، ثمّ انصرف من غير أن يسجد للسّهو حتّى سلّم ، ثمّ تذكّره عن قرب ، يتداركه . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في باب ( سجود السّهو ) .
ح - تدارك النّاسي للتّكبير في صلاة العيد :
16 - إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتّى شرع في القراءة ، فاتت فلا يتداركها في الرّكعة نفسها ، لأنّها سنّة فات محلّها ، كما لو نسي الاستفتاح أو التّعوّذ ، وهذا قول الشّافعيّة والحنابلة . ولأنّه إن أتى بالتّكبيرات ثمّ عاد إلى القراءة ، فقد ألغى القراءة الأولى ، وهي فرض يصحّ أن يعتدّ به ، وإن لم يعد إلى القراءة فقد حصلت التّكبيرات في غير محلّها .
لكن عند الشّافعيّة - كما قال الشبراملسي - يسنّ إذا نسي تكبيرات الرّكعة الأولى أن يتداركها في الرّكعة الثّانية مع تكبيراتها ، كما في قراءة سورة ( الجمعة ) في الرّكعة الأولى من صلاة الجمعة ، فإنّه إذا تركها فيها سنّ له أن يقرأها مع سورة ( المنافقون ) في الرّكعة الثّانية . وعند الحنفيّة : يتدارك التّكبيرات إذا نسيها ، سواء أذكرها أثناء القراءة أم بعد القراءة أثناء الرّكوع . فإن نسيها حتّى رفع رأسه من الرّكوع فاتت فلا يكبّر .
غير أنّه إن ذكر أثناء قراءة الفاتحة وبعدها ، قبل أن يضمّ إليها السّورة ، يعيد بعد التّكبير قراءة الفاتحة وجوباً ، وإن ذكر بعد ضمّ السّورة كبّر ولم يعد القراءة ، لأنّ القراءة تمّت فلا يحتمل النّقض . وقول المالكيّة في هذه المسألة قريب من قول الحنفيّة ، فإنّهم يقولون : إنّ ناسي التّكبير كلّاً أو بعضاً يكبّر حيث تذكّر في أثناء القراءة أو بعدها ما لم يركع . ويعيد القراءة استحباباً ، ويسجد للسّهو ، لأنّ القراءة الأولى وقعت في غير محلّها . فإن ركع قبل أن يتذكّر التّكبير تمادى لفوات محلّ التّدارك ، ولا يرجع للتّكبير ، فإن رجع فالظّاهر البطلان.
خ - تدارك المسبوق تكبيرات صلاة العيد :
17 - عند الحنفيّة يتدارك المسبوق ما فاته من تكبيرات صلاة العيد ، فيكبّر للافتتاح قائماً ، فإن أمكنه أن يأتي بالتّكبيرات ويدرك الرّكوع فعل ، وإن لم يمكنه ركع ، واشتغل بالتّكبيرات وهو راكع عند أبي حنيفة ومحمّد ، خلافاً لأبي يوسف ، وإن رفع الإمام رأسه سقط عنه ما بقي من التّكبير ، وإن أدركه بعد رفع رأسه قائماً لا يأتي بالتّكبير ، لأنّه يقضي الرّكعة مع تكبيراتها . وعند المالكيّة : يتداركها إن أدرك القراءة مع الإمام ، لا إذا أدركه راكعاً . ثمّ إن أدركه في أثناء التّكبيرات يتابع الإمام فيما أدركه معه ، ثمّ يأتي بما فاته .
ولا يكبّر ما فاته خلال تكبير الإمام . وإن أدركه في القراءة كبّر أثناء قراءة الإمام .
وعند الشّافعيّة في الجديد ، والحنابلة : إن حضر المأموم ، وقد سبقه الإمام بالتّكبيرات أو ببعضها ، لم يتدارك شيئاً ممّا فاته ، لأنّه ذكر مسنون فات محلّه .
وفي القديم عند الشّافعيّة يقضي ،لأنّ محلّه القيام وقد أدركه . قال الشّيرازيّ : وليس بشيء.
التّدارك في الحجّ :
أ - التّدارك في الإحرام :
18 - إن تجاوز الّذي يريد الحجّ الميقات دون أن يحرم ، فعليه دم إن أحرم من مكانه .
لكن إن تدارك ما فاته بالرّجوع إلى الميقات والإحرام منه فلا دم عليه .
وهذا باتّفاق إن رجع قبل أن يحرم ، أمّا إن أحرم من مكانه دون الميقات ، ثمّ رجع إليه ، فقد قيل : يستقرّ الدّم عليه ولا ينفعه التّدارك . وقيل : ينفعه .
وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح ( إحرام ) .
ب - التّدارك في الطّواف :
19 - إن ترك جزءاً من الطّواف المشروع ، كما لو طاف داخل الحِجْر بعض طوافه ، لم يصحّ حتّى يأتي بما تركه ، قال الحنابلة وبعض الشّافعيّة : في وقت قريب ، لاشتراط الموالاة بين الطّوافات .(143/3)
ولم يشترط البعض الموالاة ، وممّن قال ذلك : سائر الشّافعيّة ، بل هو عندهم مستحبّ . ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن شكّ في شيء من شروط حجّه يجب التّدارك ما لم يتحلّل ، ولا يؤثّر الشّكّ بعد الفراغ .
وعند الحنفيّة غير ابن الهمام : الفرض في الطّواف أكثره - وهو أربع طوفات - وما زاد واجب ، أمّا عند ابن الهمام فالسّبع كلّها فرض ، كقول جمهور الفقهاء . وعلى قول جمهور الحنفيّة إن ترك ثلاث طوفات من طواف الزّيارة أو أقلّ صحّ طوافه لفرضه ، وعليه دم لما نقص من الواجب . لكن إن تدارك فطاف الأشواط الباقية صحّ وسقط عنه الدّم ، ولو كان طوافه بعد فترة ، بشرط أن يكون إيقاع الطّوفات المتمّمة قبل آخر أيّام التّشريق .
وإن ترك الحاجّ طواف القدوم ، أو تبيّن أنّه طاف للقدوم على غير طهارة ، فلا يلزمه التّدارك عند الجمهور ، لأنّه مستحبّ غير واجب بالنّسبة للمفرد ، قال الشّافعيّة : وفي فواته بالتّأخير - أي عن قدوم مكّة - وجهان ، أصحّهما : لا يفوت إلاّ بالوقوف بعرفة ، وإذا فات فلا يقضى . على أنّه ينبغي ملاحظة أنّ من ترك طواف القدوم ، أو طافه ولم يصحّ له ، كأن طافه محدثاً ولم يتداركه ، فعليه إعادة السّعي عند كلّ من شرط لصحّة السّعي أن يتقدّمه الطّواف ، وقد صرّح بذلك المالكيّة ( ر : سعي ) .
وقال الحنفيّة : إن طاف للقدوم ، أو تطوّعاً على غير طهارة ، فعليه دم إن كان جنباً ، لوجوب الطّواف بالشّروع فيه ، وإن كان محدثاً فعليه صدقة لا غير . ويمكنه التّدارك بإعادة الطّواف ، فيسقط عنه الدّم أو الصّدقة . والحكم عند الحنفيّة كذلك في طواف الوداع . أمّا الرّمل والاضطباع في الطّواف فهما سنّتان في حقّ الرّجال ، في الأشواط الثّلاثة الأولى من طواف القدوم خاصّةً ، فلو تركهما فلا شيء عليه ، ولا يشرع له تداركهما ، ومثلهما ترك الرّمل بين الميلين ( الأخضرين ) في السّعي بين الصّفا والمروة . وهذا مذهب الحنابلة ، وهو الأصحّ أو الأظهر عند الشّافعيّة ، وهو ظاهر كلام الحنفيّة ، قال ابن الهمام : إن ترك الرّمل في أشواط الطّواف الأولى لا يرمل بعد ذلك . وقال المالكيّة ، وهو قول خلاف الأظهر عند الشّافعيّة ، وقول القاضي من الحنابلة : أنّه يقضي الاضطباع في طواف الإفاضة .
ت - التّدارك في السّعي :
20 - الحاجّ المفرد إن لم يسع بعد طواف القدوم وجب عليه تدارك السّعي ، فيسعى بعد طواف الإفاضة ولا بدّ ، وإلاّ لم يصحّ حجّه عند الجمهور ، لأنّ السّعي عندهم ركن .
وهو عند الحنفيّة ، وفي قول القاضي من الحنابلة : واجب فقط ، فإن لم يتداركه يجبر بدم وحجّه تامّ . وهذا إن كان المتروك السّعي كلّه أو أكثره ، فإن كان المتروك ثلاثة أشواط أو أقلّ فليس عليه عند الحنفيّة إلاّ التّصدّق بنصف صاع عن كلّ شوط ، وكلّ هذا عندهم إن كان التّرك بلا عذر ، فإن كان بعذر فلا شيء عليه ، وهذا في جميع واجبات الحجّ .
ولو سعى بين الصّفا والمروة فترك بعض الأشواط عمداً أو نسياناً ، أو ترك في بعضها أن يصل إلى الصّفا أو إلى المروة لم يصحّ سعيه ، ولو كان ما تركه ذراعاً واحداً ، وعليه أن يتدارك ما فاته ، ويمكن التّدارك بالإتيان بالبعض الّذي تركه ولو بعد أيّام .
ولا يلزمه إعادة السّعي كلّه ، لأنّ الموالاة غير مشترطة فيه بخلاف الطّواف بالبيت .
وقيل : هي مشترطة في السّعي أيضاً ، وهو أحد قولي الشّافعيّة .
ومثل ذلك : ما لو سعى مبتدئاً بالمروة ، فإنّ الشّوط الأوّل لا يعتبر ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ قول اللّه تعالى : { إنَّ الصَّفَا والمروةَ منْ شعائرِ اللّهِ } الآية ثمّ قال : نبدأ بما بدأ اللّه به » وفي رواية « ابدءوا بما بدأ اللّه به » .
ث - الخطأ في الوقوف :
21 - إذا وقف الحجيج يوم العاشر من شهر ذي الحجّة ، وتبيّن خطؤهم ، فالحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه أجزأهم الوقوف ولا يعيدون ، دفعاً للحرج الشّديد ، وقال الشّافعيّة : إنّه يجزئهم الوقوف إلاّ أن يقلّوا على خلاف العادة في الحجيج ، فيقضون هذا الحجّ في الأصحّ ، لأنّه ليس في قضائهم مشقّة عامّة .
أمّا إذا وقفوا في اليوم الثّامن ، ثمّ علموا بخطئهم ، وأمكنهم التّدارك قبل الفوات ، أعادوا عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية أيضاً عند الحنابلة ) والرّواية الأخرى عند الحنابلة أنّه يجزئهم الوقوف دون تدارك ، لأنّهم لو أعادوا الوقوف لتعدّد ، وهو بدعة ، كما قال الشّيخ ابن تيميّة .
أمّا لو علموا بخطئهم ، بحيث لا يمكنهم التّدارك ، للفوات ، فالحكم في المعتمد عند المالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّه لا يجزئهم هذا الوقوف ، ويجب عليهم القضاء لهذا الحجّ . وفرّقوا بين تأخير العبادة عن وقتها وتقديمها عليه بأنّ التّأخير أقرب إلى الاحتساب من التّقديم ، وبأنّ اللّفظ في التّقديم يمكن الاحتراز عنه ، لأنّه يقع الغلط في الحساب ، أو الخلل في الشّهود الّذين شهدوا بتقديم الهلال ، والغلط بالتّأخير قد يكون بالغيم المانع من رؤية الهلال ، ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه . وهذا أحد التّخريجين عن الحنفيّة .
وعند الحنابلة ، وهو التّخريج الآخر عند الحنفيّة : أنّه يجزئهم ، ولا قضاء عليهم ، لأنّ الوقوف مرّتين في عام واحد بدعة - كما يقول الحنابلة - ولأنّ القول بعدم الإجزاء فيه حرج بيّن - كما يقول الحنفيّة - .
ج - التّدارك في وقوف عرفة :
22 - لو ترك الحاجّ الوقوف بعرفة عمداً أو نسياناً أو جهلاً حتّى طلع فجر يوم النّحر لم يصحّ حجّه ، فلا يمكن التّدارك بعد ذلك ، وعليه أن يحلّ بعمرة .(143/4)
ولو وقف نهاراً ، ثمّ دفع قبل الغروب ، فقد أتى بالرّكن ، وترك واجب الوقوف في جزء من اللّيل ، فيكون عليه دم وجوباً عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة .
لكنّ الرّاجح عند الشّافعيّة استحباب إراقة الدّم ، لأنّ أخذ جزء من اللّيل على هذا القول سنّة لا غير ، وإنّما يستحبّ الدّم خروجاً من خلاف من أوجبه .
ولو تدارك ما فاته بالرّجوع إلى عرفة قبل غروب الشّمس ، وبقي إلى ما بعد الغروب سقط عنه الدّم اتّفاقاً . ولو رجع بعد الغروب وقبل طلوع الفجر سقط عنه الدّم عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة ، لأنّ الدّم عندهم لزمه بالدّفع من عرفة ، فلا يسقط بالرّجوع إليها .
أمّا عند المالكيّة فلا يدفع الحاجّ من عرفة إلاّ بعد غروب الشّمس ، فإن دفع قبل الغروب فعليه العود ليلاً ( تداركاً ) وإلاّ بطل حجّه .
ح - تدارك الوقوف بالمزدلفة :
23 - عند الشّافعيّة والحنابلة الوجود بمزدلفة واجب ولو لحظةً ، بشرط أن يكون ذلك في النّصف الثّاني من اللّيل بعد الوقوف بعرفة ، ولا يشترط المكث ، بل يكفي مجرّد المرور بها. ومن دفع من مزدلفة قبل منتصف اللّيل ، وعاد إليها قبل الفجر فلا شيء عليه ، لأنّه أتى بالواجب ، فإن لم يعد بعد نصف اللّيل حتّى طلع الفجر فعليه دم على الأرجح .
أمّا عند الحنفيّة : فيجب الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ، وعليه أن يقف في ذلك الوقت ولو لحظةً ، فإن ترك الوقوف لعذر فلا شيء عليه ، والعذر كأن يكون به ضعف أو علّة أو كانت امرأة تخاف الزّحام ، وإن أفاض من مزدلفة قبل ذلك لا لعذر فعليه دم . وظاهر أنّه إن تدارك الوقوف بالرّجوع إلى مزدلفة قبل طلوع الشّمس سقط عنه الدّم . وعند المالكيّة : النّزول بمزدلفة بقدر حطّ الرّحال - وإن لم تحطّ بالفعل - واجب ، فإن لم ينزل بها بقدر حطّ الرّحال حتّى طلع الفجر فالدّم واجب عليه إلاّ لعذر ، فإن ترك النّزول لعذر فلا شيء عليه .
خ - تدارك رمي الجمار :
24 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من ترك رمي يوم أو يومين - عمداً أو سهواً - تداركه في باقي أيّام التّشريق على الأظهر ، ويكون ذلك أداءً ، وفي قول قضاءً ، ولا دم مع التّدارك . ومذهب الحنفيّة : أنّ من أخّر الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق إلى اللّيل ، فرمى قبل طلوع الفجر جاز ولا شيء عليه ، لأنّ اللّيل وقت للرّمي في أيّام الرّمي . وأمّا رمي جمرة العقبة ، فمذهب أبي حنيفة أنّه يمتدّ إلى غروب الشّمس ، فإن لم يرم حتّى غربت الشّمس ، فرمى قبل طلوع الفجر من اليوم الثّاني أجزأه ، ولا شيء عليه .
ومذهب المالكيّة : أنّ تأخير الرّمي إلى اللّيل يكون تداركه قضاءً ، وعليه دم واحد .
د - تدارك طواف الإفاضة :
25 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : أنّ من طاف بعد عرفة طوافاً صحيحاً - سواء أكان واجباً أم نفلاً - وقع عن طواف الإفاضة وإن لم ينوه .
أمّا من ترك الطّواف بعد عرفة ، وخرج إلى بلده ، فعليه أن يرجع محرماً ليطوف طواف الإفاضة ، ويبقى محرماً بالنّسبة إلى النّساء حتّى يطوف طوافاً صحيحاً .
وهناك تفصيلات في بعض المذاهب يرجع إليها في الحجّ . ومذهب الحنابلة : أنّه من ترك طواف الإفاضة ، لكنّه طاف طواف الصّدر ( الوداع ) أو طواف نفل ، وقع الطّواف عمّا نواه ، ولا يقع عن طواف الإفاضة ، حتّى لو رجع إلى بلده بعد هذا الطّواف عليه أن يرجع محرماً ، ليطوف طواف الإفاضة لأنّه ركن ، ويبقى محرماً أيضاً بالنّسبة إلى النّساء .
ذ - تدارك طواف الوداع :
26 - طواف الوداع واجب على غير الحائض يجبر تركه بدم ، ولو كان تركه لنسيان أو جهل ، وهذا قول الحنابلة ، وهو أحد قولي الشّافعيّة .
والثّاني عندهم : هو سنّة لا يجب جبره ، فعلى قول الوجوب قال الشّافعيّة والحنابلة : إن خرج بلا وداع وجب عليه الرّجوع لتداركه إن كان قريباً ، أي دون مسافة القصر ، فإن عاد قبل مسافة القصر فطاف للوداع سقط عنه الإثم والدّم ، وإن تجاوز مسافة القصر استقرّ عليه الدّم ، فلو تداركه بعدها لم يسقط الدّم ، وقيل : يسقط .
وعند الحنفيّة : طواف الوداع واجب ، ويجزئ عنه ما لو طاف نفلاً بعد إرادة السّفر ، فإن سافر ولم يكن فعل ذلك وجب عليه الرّجوع لتداركه ما لم يجاوز الميقات ، فيخيّر بين إراقة الدّم وبين الرّجوع بإحرام جديد بعمرة ، فيبتدئ بطوافها ثمّ بطواف الوداع ، فإن فعل ذلك فلا شيء عليه لتأخيره .
وعند المالكيّة : طواف الوداع مندوب ، فلو تركه وخرج ، أو طافه طوافاً باطلاً يرجع لتداركه ما لم يخف فوت رفقته الّذين يسير بسيرهم ، أو خاف منعاً من الكراء أو نحو ذلك .
تدارك المجنون والمغمى عليه للعبادات :
أوّلاً - بالنّسبة للصّلاة :
27 - لا تدارك لما فات من صلاة حال الجنون أو الإغماء عند المالكيّة والشّافعيّة لعدم الأهليّة وقت الوجوب ، لقول النّبيّ . صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائمِ حتّى يستيقظَ ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ ، وعن المعتوه حتّى يَعْقِل » .
وعند الحنفيّة إن جنّ أو أغمي عليه خمس صلوات - أو ستّاً على قول محمّد - قضاها ، وإن جنّ أو أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه نفياً للحرج ، وقال بشر : الإغماء ليس بمسقط ، ويلزمه القضاء وإن طالت مدّة الإغماء .(143/5)
وفرّق الحنابلة بين الجنون والإغماء ، فلم يوجبوا القضاء على ما فات حال الجنون ، وأوجبوه فيما فات حال الإغماء ، لأنّ الإغماء لا تطول مدّته غالباً ، ولما روي أنّ عمّاراً رضي الله عنه أغمي عليه ثلاثاً ، ثمّ أفاق فقال : هل صلّيتُ ؟ قالوا : ما صلّيتَ منذ ثلاث ، ثمّ توضّأ وصلّى تلك الثّلاث . وعن عمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهما نحوه ، ولم يعرف لهم مخالف ، فكان كالإجماع .
28 - ومن أدرك جزءاً من الوقت وهو أهل ثمّ جنّ أو أغمي عليه ، فإن كان ما أدركه لا يسع الفرض فلا يجب عليه القضاء عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة . وعند الحنابلة يجب عليه القضاء . وإن كان ما أدركه يسع الفرض فعند الحنفيّة لا يجب القضاء ، لأنّ الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الأداء قبله ، فيستدعي الأهليّة فيه لاستحالة الإيجاب على غير الأهل ، ولم يوجد ، فلم يكن عليه القضاء ، وهو أيضاً رأي المالكيّة خلافاً لبعض أهل المدينة وابن عبد البرّ ، حيث القضاء عندهم أحوط .
وعند الشّافعيّة والحنابلة يجب عليه القضاء ،لأنّ الوجوب يثبت في أوّل الوقت فلزم القضاء. 29 - وإن أفاق المجنون أو المغمى عليه في آخر الوقت فللحنفيّة قولان :
أحدهما ، وهو قول زفر : لا يصبح مدركاً للفرض إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الفرض .
والثّاني ، للكرخيّ وأكثر المحقّقين ، وهو المختار : أنّه يجب الفرض ويصير مدركاً إذا أدرك من الوقت ما يسع التّحريمة فقط ، وهو قول الحنابلة وبعض الشّافعيّة .
وعند المالكيّة : يجب الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ركعة من زمن يسع الطّهر ، وهو قول بعض الشّافعيّة . وفي قول آخر للشّافعيّة : إذا بقي مقدار ركعة فقط .
ثانياً : بالنّسبة للصّوم :
30 - إذا استوعب الجنون شهر رمضان بأكمله فلا قضاء على المجنون سواء ، أكان الجنون أصليّاً أم عارضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لحديث : « رفع القلم عن ثلاث ... » وإذا استوعب الإغماء الشّهر كلّه وجب القضاء على المغمى عليه إلاّ عند الحسن البصريّ ، ودليل وجوب القضاء قوله تعالى : { فمنْ كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَر } والإغماء مرض . وعند المالكيّة : يجب القضاء على المجنون بعد إفاقته للآية السّابقة ، والجنون مرض ، وعن الإمام أحمد مثل ذلك بالنّسبة للمجنون .
وإن أفاق المجنون في أيّ يوم من أيّام الشّهر كان عليه قضاء ما مضى من الشّهر استحساناً عند الحنفيّة ، والقياس أنّه لا يلزمه ، وهو قول زفر .
وفرّق محمّد فقال : لا قضاء لما فات في الجنون الأصليّ ، ويجب القضاء إذا كان الجنون عارضاً . وعند الشّافعيّة والحنابلة لا قضاء لما فات زمن الجنون للحديث المتقدّم - ويجب القضاء عند المالكيّة . ويجب القضاء على المغمى عليه لما فات عند الجميع .
31 - أمّا اليوم الّذي جنّ أو أغمي عليه فيه ، فإنّه يعتبر مدركاً لصيام هذا اليوم إن كان نوى الصّيام من اللّيل ، ولا قضاء عليه ، وهذا عند الحنفيّة .
وعند المالكيّة : إن جنّ أو أغمي عليه بعد الفجر ، واستمرّ الجنون أو الإغماء أكثر اليوم فعليه القضاء ، وإن كان بعد الفجر ولم يستمرّ نصف يوم فأقلّ أجزأه ، ولا قضاء عليه . وإن كان الإغماء أو الجنون مع الفجر أو قبله فالقضاء مطلقاً ، لزوال العقل وقت النّيّة . وعند الشّافعيّة في الأظهر ، وهو قول الحنابلة : أنّ الإغماء لا يضرّ صومه إذا أفاق لحظةً من نهار ، أيّ لحظة كانت ، اكتفاءً بالنّيّة مع الإفاقة في جزء .
والثّاني للشّافعيّة : يضرّ مطلقاً ، والثّالث : لا يضرّ إذا أفاق أوّل النّهار .
وإن نوى الصّوم ثمّ جنّ ففيه قولان : في الجديد يبطل الصّوم ، لأنّه عارض يسقط فرض الصّلاة فأبطل الصّوم ، وقال في القديم : هو كالإغماء . وعند الحنابلة : الجنون كالإغماء يجزئ صومه إذا كان مفيقاً في أيّ لحظة منه مع تبييت النّيّة .
32 - أمّا اليوم الّذي تحدث فيه الإفاقة من الجنون أو الإغماء ، فعند الحنفيّة : أن المجنون جنوناً عارضاً لو أفاق في النّهار قبل الزّوال ، فنوى الصّوم أجزأه . وفي الجنون الأصليّ خلاف ، ويجزئ في الإغماء بلا خلاف .
وعند المالكيّة : إن أفاق قبل الفجر أجزأ ذلك اليوم عن الصّيام بالنّسبة للمجنون والمغمى عليه ، وإن كانت الإفاقة بعد الفجر فهو على التّفصيل السّابق .
وعند الشّافعيّة : إن أفاق المجنون في النّهار فعلى الأصحّ لا قضاء عليه ، ويستحبّ له الإمساك ، وهذا في وجه . وفي الوجه الثّاني : يجب القضاء ، أمّا المغمى عليه فإذا أفاق أجزأه . وعند الحنابلة في قضاء اليوم الّذي أفاق فيه المجنون وإمساكه روايتان ، أمّا المغمى عليه فيصحّ صومه إن أفاق في جزء من النّهار .
ثالثاً : بالنّسبة للحجّ :
33 - من أحرم بالحجّ ، وطرأ عليه جنون أو إغماء ثمّ أفاق منه قبل الوقوف بعرفة ، ووقف ، أجزأه الحجّ باتّفاق . وكذلك من لم يحرم بالحجّ لجنون أو إغماء ، ولكنّه أفاق من قبل الوقوف ، وأحرم ووقف بعرفة أجزأه ، على تفصيل في وجوب الجزاء عليه .
ومثل ذلك أيضاً المجنون الّذي أحرم عنه وليّه ، أو المغمى عليه - عند من يقول بجواز الإحرام عنه كالحنفيّة وبعض الشّافعيّة - إذا أفاقا قبل الوقوف ووقفا أجزأهما الحجّ ، ومن وقف بعرفة وهو مجنون أو مغمًى عليه بعد أن أحرم وهو مفيق ، أو أحرم وليّه عنه فعند المالكيّة وبعض الشّافعيّة : كان حجّهما صحيحاً ، مع الاختلاف بين وقوعه فرضاً أو نفلاً . وعند الحنفيّة كان حجّ المغمى عليه صحيحاً ، وفي المجنون خلاف .(143/6)
وينظر تفصيل جميع ما مرّ في العبادات في : ( صلاة ، صوم ، حجّ ، جنون ، إغماء ) .
تدارك المريض العاجز عن الإيماء :
34 - من عجز عن الإيماء في الصّلاة برأسه لركوعه وسجوده أومأ بطرفه ( عينه ) ونوى بقلبه ، لحديث عليّ رضي الله عنه : « يصلّي المريض قائماً ، فإن لم يستطع صلّى جالساً ، فإن لم يستطع صلّى على جنبه مستقبل القبلة ، فإن لم يستطع صلّى مستلقياً على قفاه ، ورجلاه إلى القبلة ، وأومأ بطرفه » . وهذا متّفق عليه بين الفقهاء . فإن عجز عن الإيماء بطرفه أومأ بأصبعه ، فإن لم يستطع أتى بالصّلاة بقدر ما يطيق ولو بنيّة أفعالها ، ولا تسقط عنه أبداً ما دام معه شيء من عقل ، ويأتي بالصّلاة بأن يقصد الصّلاة بقلبه مستحضراً الأفعال والأقوال إن عجز عن النّطق ، لقوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إلاّ وسْعَها } .
وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة .
وعند الحنفيّة غير زفر : الإيماء يكون بالرّأس فقط ولا يكون بعينيه أو جبينه أو قلبه ، لأنّ فرض السّجود لا يتأتّى بهذه الأشياء ، بخلاف الرّأس لأنّه يتأدّى به فرض السّجود ، فمن عجز عن الإيماء برأسه أخّر الصّلاة ، وإن مات على ذلك الحال لا شيء عليه ، وإن برأ فالصّحيح أنّه يلزمه قضاء يوم وليلة لا غير نفياً للحرج .
تدارك النّاسي والسّاهي :
35 - النّسيان أو السّهو إن وقع في ترك مأمور لم يسقط ، بل يجب تداركه . فمن نسي صلاةً أو صوماً أو زكاةً أو كفّارةً أو نذراً وجب عليه الأداء إن أمكن ، أو أن يتداركه بالقضاء بلا خلاف ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ نسي صلاةً أو نام عنها ، فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذَكَرَها » .
وتكون الصّلاة أداءً إذا أدّى منها ركعةً في الوقت ، أو التّحريمة على الخلاف في ذلك .
وإذا فات الوقت تداركها بالقضاء . وينظر تفصيل ذلك في : ( صلاة ، صوم ، زكاة ) .
تدارك من أفسد عبادةً شرع فيها من صلاةٍ أو صومٍ أو حجٍ :
36 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من أفسد عبادة مفروضة وجب عليه أداؤها إن كان وقتها يسعها كالصّلاة ، أو القضاء إن خرج الوقت أو كان لا يسعها كالصّلاة إن خرج الوقت ، وكالصِّيام والحجّ لعدم اتساع الوقت .
أما التطوع بالعبادة فإنها تلزم بالشّروع فيه عند الحنفية والمالكية ، ويجب إتمامها ، وعند الشافعية والحنابلة : لا تجب بالشّروع ، ويستحب الإتمام فيما عدا الحجّ والعمرة فيلزمان بالشّروع ، ويجب إتمامهما ، وعلى ذلك فمن دخل في عبادة تطوّع وأفسدها وجب عليه قضاؤها عند الحنفية والمالكية لقوله تعالى : { ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم } .
ولا يجب القضاء عند الشافعية والحنابلة في غير الحجّ والعمرة لما روت « عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل عندك شيء ؟ فقلت : لا ، فقال : إنّي إذاً أصوم ، ثم دخل عليَّ يوماً آخر فقال : هل عندك شيء ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذاً أفطر ، وإن كنت قد فرضت الصوم » .
أما الحجّ والعمرة فيجب قضاؤهما إذا أفسدهما ، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة ، ولهذا يجبان بالشّروع .
تدارك المرتدّ لما فاته :
37 - ما فات المرتدّ من العبادات أيّام الرّدّة لا يجب عليه قضاؤه ، إذا تاب ورجع إلى الإسلام ، لأنّه غير مخاطب بفروع الشّريعة ، ولقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَد سَلَف } ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه » . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وعند الشّافعيّة يجب عليه قضاء ما فاته أيّام ردّته من عبادات ، لأنّ المرتدّ كان مقرّاً بإسلامه ولأنّه لا يستحقّ التّخفيف .
38 - وما فاته أيّام إسلامه من عبادات قبل ردّته وحال إسلامه ، يجب عليه قضاؤه بعد توبته من الرّدّة ، لاستقرار هذه العبادات عليه حال إسلامه ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وعند المالكيّة : لا يطالب بما فاته قبل ردّته ، فالرّدّة تسقط ما كان عليه من صلاة وصيام إلاّ الحجّ الّذي تقدّم منه ، فإنّه لا يبطل ، ويجب عليه إعادته إذا أسلم ، لبقاء وقته وهو العمر .
39 - وإذا رجع المرتدّ إلى الإسلام وأدرك وقت صلاة ، أو أدرك جزءاً من رمضان وجب عليه أداؤه .(143/7)
تذكية *
التّعريف :
1 - التّذكية في اللّغة : مصدر ذكّى ، والاسم ( الذّكاة ) ومعناها : إتمام الشّيء والذّبح . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « ذكاة الجنين ذكاة أمّه » .
وفي الاصطلاح : هي السّبب الموصّل لحلّ أكل الحيوان البرّيّ اختياراً .
هذا تعريف الجمهور ، ويعرف عند الحنفيّة : بأنّه السّبيل الشّرعيّة لبقاء طهارة الحيوان ، وحلّ أكله إن كان مأكولاً ، وحلّ الانتفاع بجلده وشعره إن كان غير مأكول .
أنواع التّذكية :
التّذكية لفظ عامّ ، يشمل : الذّبح ، والنّحر ، والعقر ، والصّيد ، ولكلّ موطنه على النّحو التّالي :
أ - الذّبح :
2 - الذّبح لغةً : الشّقّ . وعند الفقهاء : قطع الحلقوم من باطن عن المفصل بين العنق والرّأس . ويستعمل في ذكاة الاختيار ، فهو أخصّ من التّذكية ، حيث إنّها تشمل ذكاة الاختيار والاضطرار .
ب - النّحر :
3 - نحر البعير : طعنه في منحره حيث يبدأ الحلقوم من أعلى الصّدر ، قال في المغني : معنى النّحر أن يضرب البعير بالحربة أو نحوها في الوهدة الّتي بين أصل عنقها وصدرها . فهو قطع العروق في أسفل العنق عند الصّدر ، وبهذا يفترق عن الذّبح ، لأنّ القطع في أعلى العنق . والنّحر نوع آخر من أنواع التّذكية الاختياريّة .
ج - العقر :
4 - العقر : هو الجرح .
ويستعمله الفقهاء في : تذكية حيوان غير مقدورعليه بالطّعن في أيّ موضع وقع من البدن. وبهذا يختلف عن الذّبح والنّحر ، لأنّهما تذكية اختياراً ، والعقر تذكية ضرورةً .
د - الصّيد :
5 - الصّيد : هو إزهاق روح الحيوان البرّيّ المتوحّش، بإرسال نحو سهم أو كلب أو صقر.
الحكم الإجماليّ :
6 - التّذكية سبب لإباحة أكل لحم الحيوان غير المحرّم والّذي من شأنه الذّبح ، سواء أكانت بالذّبح أم النّحر أم العقر . أمّا ما ليس من شأنه الذّبح كالسّمك والجراد فيحلّان بلا ذكاة . ويشترط في المذكّي عند الفقهاء : أن يكون مسلماً أو كتابيّاً ، كما يشترط عند الجمهور : -الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو رواية عند الشّافعيّة - : أن يكون المذكّي مميّزاً ، ليعقل التّسمية والذّبح . وفي الأظهر عند الشّافعيّة : لا يشترط التّمييز .
7- وجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - على أنّه تشترط التّسمية وقت التّذكية إلاّ إذا نسيها . وقال الشّافعيّة باستحباب التّسمية وقت التّذكية .
ويحلّ الذّبح بكلّ محدّد يجرح ، كحديد ونحاس وذهب وخشب وحجر وزجاج ، ولا يجوز بالسّنّ والظّفر القائمين اتّفاقاً .
أمّا إذا كانا منفصلين ففيه خلاف ، وتفصيله في مصطلح : ( ذبائح ) .
مواطن البحث :
8 - ذكر الفقهاء أحكام التّذكية في أبواب الصّيد والذّبائح والأضحيّة ، وذكر المالكيّة أحكامها في باب الذّكاة .(144/1)
تذكّر *
التّعريف :
1 - التّذكير والتّذكّر : من مادّة ذَكَرَ ، ضدّ نَسِيَ ، يقال : ذكرت الشّيء بعد نسيان ، وذكرته بلساني ، وقلبي ، وتذكّرته ، وأذكرته غيري ، وذكّرته تذكيراً .
وهو في الاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّهو :
2 - السّهو في اللّغة : نسيان الشّيء والغفلة عنه وذهاب القلب إلى غيره ، فالسّهو عن الصّلاة : الغفلة عن شيء منها ، قال ابن الأثير : السّهو من الشّيء : تركه عن غير علم ، والسّهو عنه : تركه مع العلم ، ومنه قوله تعالى : { الّذينَ هم عن صَلاتِهم سَاهُون } . واصطلاحاً ، قال صاحب المواقف : السّهو زوال الصّورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة ، وقيل : هو الذّهول عن الشّيء ، بحيث لو نبّه له أدنى تنبيه لتنبّه .
وفي المصباح : إنّ السّهو لو نبّه صاحبه لم يتنبّه .
ب - النّسيان :
3 - النّسيان : ضدّ الذّكر والحفظ ، يقال : نسيه نسياً ، ونسياناً ، وهو ترك الشّيء عن ذهول وغفلة ، ويطلق مجازاً على التّرك عن عمد ، ومنه قوله تعالى :{ نسوا اللّه فنسيهم } أي تركوا أمر اللّه فحرمهم رحمته . ويقال : رجل نسيان أي : كثير النّسيان والغفلة . واصطلاحاً : هو الذّهول عن الشّيء ، لكن لا يتنبّه له بأدنى تنبيه ، لكون الشّيء قد زال من المدركة والحافظة معاً ، فيحتاج إلى سبب جديد .
الحكم الإجماليّ :
تذكّر المصلّي لصلاته بعد الأكل فيها :
4 - قال الحنابلة والمالكيّة : لا تبطل صلاة من أكل ناسياً وإن كثر ، واستدلّوا بحديث : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ ، والنّسيان ، وما استكرهوا عليه » . وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا أكل في الصّلاة ناسياً بطلت صلاته ، وإن قلّ . وفرّق الشّافعيّة بين القليل والكثير ، فإن كان ناسياً فلا تبطل صلاته إذا كان قليلاً . وينظر تفصيل ذلك في : ( صلاة ) ( ونسيان ) .
سهو الإمام :
5 - قال الحنفيّة : إذا أخبره عدلان بعدم الإتمام لا يعتبر شكّه ، وعليه الأخذ بقولهم . أمّا إذا أخبره عدل في صلاة رباعيّة مثلاً أنّه ما صلّى أربعاً ، وشكّ في صدقه وكذبه أعاد احتياطاً . أمّا إذا كذّبه ، فلا يعيد . وإن اختلف الإمام والقوم فإن كان على يقين لم يعد ، وإلاّ أعاد بقولهم . وقال المالكيّة : إذا أخبرته جماعة مستفيضة ، يفيد خبرهم العلم الضّروريّ بتمام صلاته أو نقصها ، فإنّه يجب عليه الرّجوع لخبرهم ، سواء كانوا من مأموميه أو من غيرهم ، وإن تيقّن كذبهم . وإن أخبره عدلان فأكثر فإنّه يعمل بالخبر إن لم يتيقّن خلاف ذلك ، وكانا من مأموميه . فإن لم يكونا من مأموميه فلا يرجع لخبرهما ، بل يعمل على يقينه .
أمّا المنفرد والمأموم فلا يرجعان لخبر العدلين ، وإن أخبر الإمام واحد ، فإن أخبر بالتّمام فلا يرجع لخبره ، بل يبني على يقين نفسه ، أمّا إذا أخبره بالنّقص رجع لخبره .
وقال الشّافعيّة : إنّ الإمام إذا شكّ هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً ؟ أخذ بالأقلّ ، ولا يعمل بتذكير غيره ، ولو كانوا جمعاً غفيراً كانوا يرقبون صلاته . ولا فرق عندهم بين أن يكون التّذكير من المأمومين أو من غيرهم . واستدلّوا بخبر : « إذا شكّ أحدُكم في صلاته فلم يَدْرِ أصلّى ثلاثاً أم أربعاً ؟ فليطرح الشّكّ ، ولْيَبنِ على ما استيقن » . وقد أجابوا عن المراجعة بين الرّسول صلى الله عليه وسلم والصّحابة ، وعوده للصّلاة في خبر ذي اليدين ، بأنّه لم يكن من باب الرّجوع إلى قول الغير ، وإنّما هو محمول على تذكّره بعد مراجعته لهم ، أو لأنّهم بلغوا حدّ التّواتر الّذي يفيد اليقين ، أي العلم الضّروريّ ، فرجع إليهم .
وذهب الحنابلة إلى أنّه : إذا سبّح اثنان يثق بقولهما لتذكيره ، لزمه القبول والرّجوع لخبرهما ، سواء غلب على ظنّه صوابهما أو خلافه . وقالوا : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : رجع إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حديث « ذي اليدين لمّا سألهما : أحقّ ما قال ذو اليدين ؟ فقالا : نعم » مع أنّه كان شاكّاً فيما قاله ذو اليدين بدليل أنّه أنكره ، وسألهما عن صحّة قوله ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالتّسبيح ليذكّروا الإمام ، ويعمل بقولهم . ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : صلّى فزاد أو نقص ... » الحديث ، وفيه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني » .
وإن سبّح واحد لتذكيره لم يرجع إلى قوله ، إلاّ أن يغلب على ظنّه صدقه ، فيعمل بغالب ظنّه ، لا بتسبيح الغير ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول ذي اليدين وحده .
وإن ذكّره فَسَقَةٌ بالتّسبيح لم يرجع إلى قولهم ، لأنّ قولهم غير مقبول في أحكام الشّرع .
تذكّر الصّائم لصومه وهو يأكل :
6 - يرى جمهور الفقهاء أنّ من أكل أو شرب وهو صائم ، ثمّ تذكّر وأمسك لم يفطر ، لما روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل ناسياً وهو صائم ، فليتمّ صومه ، فإنّما أطعمه اللّه وسقاه » . وفي رواية أخرى : « من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر ، فإنّما هو رزق رزقه اللّه » .
وقال عليّ رضي الله عنه : لا شيء على من أكل ناسياً وهو صائم .
ولأنّ الصّوم عبادة ذات تحريم وتحليل ، فكان من محظوراته ما يخالف عمده سهوه كالصّلاة ، وهو قول أبي هريرة وابن عمر ، وطاووس والأوزاعيّ والثّوريّ وإسحاق .
وقال بعض الفقهاء : يشترط أن يكون الأكل أو الشّرب قليلاً ، فإن كان كثيراً أفطر .
وعند المالكيّة : إن أكل أو شرب ناسياً فقد أفطر ، وينظر التّفصيل في مصطلح : ( صوم ) .(145/1)
تذكّر القاضي لحكم قضاه :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ القاضي إذا رأى خطأً في حكمه ، لم يعتمد عليه في إمضاء الحكم حتّى يتذكّر ، لأنّه حكم حاكم لم يعلمه ، ولأنّه يجوز فيه التّزوير عليه وعلى ختمه ، فلم يجز إنفاذه إلاّ ببيّنة كحكم غيره .
وإلى هذا ذهب الإمام : أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد في إحدى روايتين عنه .
وفي رواية عن أحمد : إذا كان الحكم عنده ، وتحت يده جاز الاعتماد عليه ، لأنّه في هذه الحالة لا يحتمل التّغيير فيه ، وأجاز أبو يوسف ومحمّد بن الحسن العمل بالخطّ إذا عرف أنّه خطّه ، ولو لم يتذكّر الحادثة ، وإن لم يكن الخطّ بيده ، لأنّ الغلط نادر في مثل ذلك ، وأثر التّغيير يمكن الاطّلاع عليه ، وقلّما يتشابه الخطّ من كلّ وجه ، فإذا تيقّن أنّه خطّه جاز الاعتماد عليه ، توسعةً على النّاس .
أمّا إذا شهد عدلان عند القاضي : بأنّ هذا حكمه ولم يتذكّر ، فقد اختلف الفقهاء في العمل بقولهما : فقال المالكيّة وأحمد ومحمّد بن الحسن : يلزمه العمل بذلك وإمضاء الحكم .
وقالوا : إنّه لو شهدا عنده بحكم غيره قبل ، فكذلك يقبل إذا شهدا عنده بحكم نفسه . ولأنّهما شهدا بحكم حاكم ، فيجب قبول شهادتهما .وقال الشّافعيّة : إنّه لا يعمل بقولهما حتّى يتذكّر.
تذكّر الشّاهد الشّهادة وعدمه :
8 - إذا رأى الشّاهد بخطّه شهادةً أدّاها عند حاكم ، ولم يتذكّر الحادثة ، فعند المالكيّة والشّافعيّة ، وهي إحدى روايتين عن أحمد : لم يشهد على مضمونها حتّى يتذكّر ، وإن كان الكتاب محفوظاً عنده لإمكان التّزوير .
وفي رواية أخرى عن أحمد : أنّه إذا عرف خطّه شهد به ،وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة.
تذكّر الرّاوي للحديث وعدمه :
9 - أمّا رواية الحديث ، فإنّه يجوز للشّخص أن يروي مضمون خطّه اعتماداً على الخطّ المحفوظ عنده ، لعمل العلماء به سلفاً وخلفاً . وقد يتساهل في الرّواية ، لأنّها تقبل من المرأة والعبد ، بخلاف الشّهادة . هذا عند الشّافعيّة .
وقال الإمام أبو حنيفة : لا يعمل بها لمشابهة الخطّ بالخطّ ، وخالفه صاحباه .(145/2)
تراب المعادن *
التّعريف :
1 - تراب المعادن : مركّب إضافيّ ، أمّا التّراب : فهو ظاهر الأرض ، وهو اسم جنس . وأمّا المعادن : فهي جمع معدن - بكسر الدّال - وهو كما قال اللّيث : مكان كلّ شيء يكون فيه أصله ومبدؤه كمعدن الذّهب والفضّة .
وأمّا عند الفقهاء فهو ، كما عرّفه الزّيلعيّ وابن عابدين : اسم لما يكون في الأرض خلقةً . وقال الرّمليّ الشّافعيّ : إنّ المعدن له إطلاقان : أحدهما على المستخرج ، والآخر على المخرج منه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - تراب الصّاغة :
2 - وهو - كما عرّفه المالكيّة - الرّماد الّذي يوجد في حوانيت الصّاغة ،ولا يدرى ما فيه. والفرق بين تراب الصّاغة وتراب المعدن ، هو أنّ تراب الصّاغة هو المتساقط من المعدن مختلطاً بتراب أو رمل أو نحوهما ، أمّا تراب المعدن فهو ما يتساقط من جوهر المعدن نفسه دون أن يختلط بجوهر آخر .
ب - الكنز :
3 - هو في الأصل مصدر كنز ، ومعناه في اللّغة : جمع المال وادّخاره ، وجمع التّمر في وعائه ، والكنز أيضاً : المال المدفون تسميةً بالمصدر ، والجمع كنوز كفلس وفلوس .
وأمّا عند الفقهاء فهو : اسم لمدفون العباد .
ج - الرِّكاز :
4 - الرّكاز معناه في اللّغة : المال المدفون في الجاهليّة ، وهو على وزن فعال ، بمعنى مفعول كالبساط بمعنى المبسوط ، ويقال هو المعدن .
وأمّا عند الفقهاء فهو : اسم لما يكون تحت الأرض خلقةً أو بدفن العباد . فالرّكاز بهذا المعنى أعمّ من المعدن والكنز ، فكان حقيقةً فيهما مشتركاً معنويّاً ، وليس خاصّاً بالدّفين . وقيّده الشّافعيّة بكونه دفين الجاهليّة .
أنواع المعادن :
5 - للمعادن أنواع ثلاثة :
- أ - جامد يذوب وينطبع ، كالذّهب والفضّة والحديد والرّصاص والصّفر .
- ب - جامد لا يذوب ، كالجصّ والنّورة ، والكحل والزّرنيخ .
- ج - مائع لا يتجمّد ، كالماء والقير والنّفط .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
ذكر الفقهاء الأحكام الخاصّة بتراب المعادن في مواطن نجملها فيما يلي :
أ - تغيّر الماء بتراب المعادن :
6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ تغيّر الماء المطلق بتراب المعدن لا يضرّ ، ويجوز التّطهّر به ، لأنّه تغيّر بما هو من أجزاء الأرض . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ الماء المتغيّر بما لا يمكن صونه عنه من تراب المعادن ، بأن يكون في مقرّه أو ممرّه لا يمنع التّطهّر به ، ولا يكره استعماله فيه . والتّفصيل في مصطلح : ( مياه ) .
ب - حكم التّيمّم بتراب المعادن :
7 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّه لا يصحّ التّيمّم إلاّ بتراب طاهر ، أو برمل فيه غبار يعلق باليد ، وأمّا ما لا غبار له كالصّخر وسائر المعادن فلا يصحّ التّيمّم بها ، لأنّها ليست في معنى التّراب . ويجوز عند أبي حنيفة التّيمّم بكلّ ما لا ينطبع ولا يلين من المعادن ، كالجصّ والنّورة والكحل والزّرنيخ ، سواء التصق على يده شيء منها أو لم يلتصق .
وأمّا المعادن الّتي تلين وتنطبع ، كالحديد والنّحاس والذّهب والفضّة ، فلا يجوز التّيمّم بها إلاّ في محالّها ، بشرط أن يغلب عليها التّراب ، لأنّ التّيمّم حينئذ يكون بالتّراب لا بها ، ولأنّها ليست من جنس الأرض .
وأمّا عند أبي يوسف : فلا يجوز التّيمّم إلاّ بالتّراب والرّمل في رواية ، أو بالتّراب فقط في رواية أخرى . ويجوز عند المالكيّة التّيمّم بالمعادن المنطبعة وغير المنطبعة ما لم تنقل من محالّها ، لأنّها من أجزاء الأرض باستثناء معدن النّقدين ، وهما : تبر الذّهب ونقار الفضّة . والجواهر النّفيسة كالياقوت واللّؤلؤ والزّمرّد والمرجان ممّا لا يقع به التّواضع للّه . والتّفصيل في مصطلح : ( تيمّم ) .
ج - زكاة تراب المعادن :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الزّكاة تجب في معدني : الذّهب والفضّة . أمّا غيرهما من المعادن ، ففي وجوب الزّكاة فيه ووقت وجوبها ، تفصيل ينظر في مصطلح : ( زكاة ) .
د - بيع بعضه ببعض :
9 - تراب المعادن : إمّا أن يكون من صنف واحد ، وإمّا أن يكون من أصناف متعدّدة ، وإمّا أن يصفّى ويميّز ما فيه أو لا . فإن كان من صنف واحد ، فلا يجوز بيع بعضه ببعض ، كتراب ذهب بتراب ذهب عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة للجهل بالمماثلة .
وإن كان من أصناف كتراب ذهب بتراب فضّة ، فإنّه يجوز بيعه عند الحنفيّة والمالكيّة لخفّة الغرر فيه ، ولعدم لزوم العلم بالمماثلة ، ويكره بيعه عند الحنابلة لأنّه مجهول .
وأمّا الشّافعيّة : فلا يجوز عندهم بيع تراب المعدن قبل تصفيته وتمييز الذّهب والفضّة منه ، سواء أباعه بذهب أم بفضّة أم بغيرهما ، لأنّ المقصود النّقد وهو مجهول أو مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة ، فلم يصحّ بيعه فيه ، كبيع اللّحم في الجلد بعد الذّبح وقبل السّلخ . والتّفصيل في مصطلح : ( بيع ) ( ورباً ) ( وصرف ) .(146/1)
تراب *
التّعريف :
1 - التّراب : ما نعم من أديم الأرض . بهذا عرّفه المعجم الوسيط ، وهو اسم جنس ، وقال المبرّد : هو جمع واحده ترابة ، وجمعه أتربة وتربان ، وتربة الأرض : ظاهرها .
وأتربت الشّيء : وضعت عليه التّراب ، وترّبته تتريباً فتترّب : أي تلطّخ بالتّراب . ويقال : تَرِب الرّجل : إذا افتقر ، كأنّه لصق بالتّراب ، وفي الحديث : « فاظْفَرْ بذاتِ الدّينِ تَرِبَتْ يَداك » وليس المراد به الدّعاء ، بل الحثّ والتّحريض . ويقال : أترب الرّجل : أي استغنى ، كأنّه صار له من المال بقدر التّراب .
وفي المصطلحات العلميّة والفنّيّة : أنّه جزء الأرض السّطحيّ المتجانس التّركيب ، أو الّذي تتناوله آلات الحراثة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . ويفهم من كلام الفقهاء في باب التّيمّم أنّ الرّمل ونحاتة الصّخر ليسا من التّراب ، وإن أعطيا حكمه في بعض المذاهب .
الألفاظ ذات الصّلة :
الصّعيد :
2 - الصّعيد : وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، قال الزّجّاج : ولا أعلم اختلافاً بين أهل اللّغة في ذلك . وعلى هذا يكون الصّعيد أعمّ من التّراب .
الحكم التّكليفيّ :
أ - في التّيمّم :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّيمّم يصحّ بكلّ تراب طاهر فيه غبار يعلق باليد ، لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبَاً فَامْسَحُوا بِوجُوهِكم وأَيدِيْكم منه } ولقوله صلى الله عليه وسلم :
« أُعطيتُ خَمْسَاً لم يُعْطَهنّ أحدٌ قبلي : كان كلّ نبيّ يُبعث إلى قومه خاصّةً ، وبُعثتُ إلى كلّ أحمرَ وأسودَ ، وأُحلَّتْ لي الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأحد قَبْلي ، وجُعلتْ لي الأرضُ طيّبةً طهوراً ومسجداً ، فأيّما رجلٍ أدركته الصّلاة صلّى حيث كان ، ونُصرتُ بالرُّعْب بين يديّ مسيرة شهر ، وأعطيتُ الشّفاعةَ » . واختلفوا في صحّة التّيمّم بما عدا التّراب ، كالنّورة والحجارة والرّمل والحصى والطّين الرّطب والحائط المجصّص ، وغير ذلك ممّا هو من جنس الأرض : فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى صحّة التّيمّم بهذه الأشياء المذكورة . ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّيمّم لا يصحّ إلاّ بالتّراب الطّاهر ذي الغبار العالق . وكذا يصحّ برمل فيه غبار عند الشّافعيّة ، وفي قول القاضي من الحنابلة . والتّفاصيل يرجع إليها في مصطلح ( تيمّم ) .
ب - في إزالة النّجاسة :
4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ ما نجس بملاقاة شيء ، من كلب أو خنزير أو ما تولّد منهما أو من أحدهما ، يغسل سبع مرّات : إحداهنّ بالتّراب . سواء كان ذلك لعابه أو بوله أو سائر رطوباته أو أجزاءه الجافّة إذا لاقت رطباً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات ، أولاهنّ بالتّراب » وفي رواية : « أُخراهنّ بالتّراب » وفي أخرى { وعفّروه الثّامنةَ بالتّراب } وألحق الخنزير بالكلب لأنّه أسوأ حالاً . ولهذا قال اللّه تعالى في حقّه : { أو لحمَ خنزيرٍ فإنَّه رِجْسٌ } .
وروي عن الإمام أحمد روايةً أخرى بوجوب غسل نجاسة الكلب والخنزير ثماني مرّات إحداهنّ بالتّراب ، وإلى هذا ذهب الحسن البصريّ ، لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث : « وعفّروه الثّامنةَ بالتّراب » ويشترط أن يعمّ التّراب المحلّ ، وأن يكون طاهراً ، وأن يكون قدراً يكدّر الماء ، ويكتفي بوجود التّراب في واحدة من الغسلات السّبع ، ولكن يستحبّ أن يكون في غير الأخيرة ، وجعله في الأولى أولى .
والأظهر تعيّن التّراب جمعاً بين نوعي الطّهور . فلا يكفي غيره ، كأشنان وصابون .
ومقابله أنّه لا يتعيّن التّراب . ويقوم ما ذكر ونحوه مقامه .
وهناك رأي ثالث : بأنّه يقوم مقام التّراب عند فقده للضّرورة ، ولا يقوم عند وجوده .
وفي قول رابع : أنّه يقوم مقامه فيما يفسده التّراب ، كالثّياب دون ما لا يفسده .
ويرى بعض الشّافعيّة : أنّ الخنزير ليس كالكلب ، بل يكفي لإزالة نجاسته غسلة واحدة من دون تراب ، كغيره من النّجاسات الأخرى ، لأنّ الوارد في التّتريب إنّما هو في الكلب فقط . أمّا الحنفيّة والمالكيّة : فيرون الاكتفاء بغسل ما ولغ الكلب فيه من الأواني من غير تتريب ، وحجّتهم في ذلك أنّ روايات التّتريب في الحديث مضطربة حيث وردت بلفظ : « إحداهنّ » ، في رواية ، وفي أخرى بلفظ : « أولاهنّ » ، وفي ثالثة بلفظ : « أخراهنّ » ، وفي رابعة :
« السّابعة بالتّراب » ، وفي خامسة « وعفّروه الثّامنة بالتّراب » ، والاضطراب قادح فيجب طرحها . ثمّ إنّ ذكر التّراب لم يثبت في كلّ الرّوايات .
والتّفاصيل يرجع إليها في مصطلح : ( نجاسة ، وطهارة ، وصيد ، وكلب ) .
5- ويرى جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد أنّ الخفّ والنّعل إذا أصابتهما نجاسة لها جرم كالرّوث فمسحهما بالتّراب يطهّرهما .
واستدلّوا لذلك بما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه : { أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى يوماً ، فخلع نعليه في الصّلاة ، فخلع القوم نعالهم ، فلمّا فرغ سألهم عن ذلك ، فقالوا : رأيناك خلعت نعليك ، فقال عليه الصلاة والسلام : أتاني جبريل عليه السلام وأخبرني أنّ بهما أذًى فخلعتهما ، ثمّ قال : إذا أتى أحدكم المسجد فليقلّب نعليه ، فإن كان بهما أذًى فليمسحهما بالأرض ، فإنّ الأرض لهما طهور } .
وأمّا ما لا جرم له من النّجاسة كالبول ففيه تفصيل ينظر في مصطلح : ( نجاسة ) ،( وقضاء الحاجة ) . أمّا الشّافعيّة ، وهو الرّاجح عند الحنابلة ، فيرون أنّ التّراب لا يطهّر الخفّ أو النّعل ، وأنّه يجب غسلهما إذا أريد تطهيرهما .
ج - في الصّوم :(147/1)
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ أكل التّراب والحصاة ونحوهما عمداً يبطل الصّوم ، وكذلك إذا وصل إلى الجوف عن طريق الأنف أو الأذن أو نحوهما عمداً ، لأنّ الصّوم هو الإمساك عن كلّ ما يصل إلى الجوف ، وفي وجوب الكفّارة في هذه الحالة عند الحنفيّة والمالكيّة خلاف وتفصيل ينظر في مبحث ( كفّارة ) .
أمّا الغبار الّذي يصل إلى الجوف عن طريق الأنف أو نحوه بصورة غير مقصودة فلا يفطر باتّفاق العلماء لمشقّة الاحتراز عنه . ويرى بعض الشّافعيّة : أنّ الصّائم لو فتح فاه عمداً حتّى دخل التّراب جوفه لم يفطر لأنّه معفوّ عن جنسه . والتّفاصيل في مصطلح : ( صوم ) .
د - في البيع :
7 - يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة - أنّ بيع التّراب ممّن حازه جائز لظهور المنفعة فيه .
ويرى الحنفيّة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : أنّه لا يجوز بيع التّراب لأنّه ليس بمال ولا مرغوب فيه ، ولأنّه يمكن تحصيل مثله بلا تعب ولا مؤنة . لكنّ الحنفيّة قيّدوه بأن لا يعرض له ما يصير به مالاً معتبراً كالنّقل والخلط بغيره . والتّفاصيل في مصطلح : ( بيع ) .
هـ - في الأكل :
8 - ذهب الشّافعيّة إلى حرمة أكل التّراب لمن يضرّه ، وإلى هذا ذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم .
ويرى الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة كراهة أكله . والتّفاصيل في مصطلح : ( أطعمة ) .(147/2)
تربّع *
التّعريف :
1 - التّربّع في اللّغة : ضرب من الجلوس ، وهو خلاف الجثوّ والإقعاء .
وكيفيّته : أن يقعد الشّخص على وركيه ، ويمدّ ركبته اليمنى إلى جانب يمينه ، وقدمه اليمنى إلى جانب يساره . واليسرى بعكس ذلك . واستعمله الفقهاء بهذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - التّربّع : غير الاحتباء : والافتراش ، والإِفضاء ، والإِقعاء ، والتّورّك .
فالاحتباء : أن يجلس على أليتيه ، رافعاً ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما . والافتراش : أن يثني رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها ، وينصب قدمه اليمنى ويخرجها من تحته ، ويجعل بطون أصابعه على الأرض معتمداً عليها لتكون أطراف أصابعها إلى القبلة .
والإفضاء في الجلوس في الصّلاة هو : أن يلصق أليته بالأرض ، وينصب رجله اليمنى وظاهر إبهامها ممّا يلي الأرض ، ويثني رجله اليسرى .
والإقعاء : أن يلصق أليتيه بالأرض ، وينصب ساقيه ، ويضع يديه على الأرض .
أو أن يجعل أليتيه على عقبيه ، ويضع يديه على الأرض .
وفي نصّ الشّافعيّة : الإقعاء المكروه : أن يجلس الشّخص على وركيه ناصباً ركبتيه . والتّورّك : أن ينصب اليمنى ويثني رجله اليسرى ، ويقعد على الأرض .
ولتمام الفائدة تنظر هذه الألفاظ في مصطلحاتها .
حكم التّربّع :
أوّلاً - التّربّع في الصّلاة :
أ - التّربّع في الفريضة لعذر :
3 - أجمع أهل العلم على أنّ من لا يطيق القيام ، له أن يصلّي جالساً ، وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه : صلّ قائماً ، فإِن لم تستطع فقاعداً ، فإِن لم تستطع فعلى جَنْب » وفي رواية : « فإن لم تستطع فمستلقياً » .
ولأنّ الطّاعة بحسب القدرة لقول اللّه تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إلاّ وُسْعَها } .
4 - واختلفوا في هيئة الجلوس إذا عجز المصلّي عن القيام كيف يقعد ؟
فذهب المالكيّة في المشهور عندهم ، والشّافعيّة في قول ، والحنابلة إلى : أنّه إذا قعد المعذور يندب له أن يجلس متربّعاً ، وهو رواية عن أبي يوسف .
ويرى أبو حنيفة - في رواية محمّد عنه وهي ما صحّحها العينيّ - أنّ المعذور إذا افتتح الصّلاة يجلس كيفما شاء ، لأنّ عذر المرض يسقط الأركان عنه ، فلأن يسقط عنه الهيئات أولى .
وروى الحسن عن أبي حنيفة : أنّه يتربّع ، وإذا ركع يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها . ويرى الشّافعيّة في الأظهر من القولين - وهو قول زفر من الحنفيّة - أنّه يقعد مفترشاً . وذهب المالكيّة في قول - وهو ما اختاره المتأخّرون - أنّ المعذور يجلس كما يجلس للتّشهّد . وهناك تفاصيل فيمن له أن يصلّي جالساً ، وفي هيئة الّذي لا يقدر على الجلوس ولا على القيام تنظر في مصطلحات : ( صلاة المريض ، عذر ، وقيام ) .
ب - التّربّع في الفريضة بغير عذر :
5 - التّربّع مخالف للهيئة المشروعة في الفريضة في التّشهّدين جميعاً .
وقد صرّح الحنفيّة بكراهة التّربّع من غير عذر ، لما روي أنّ عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما رأى ابنه يتربّع في صلاته ، فنهاه عن ذلك ، فقال : رأيتك تفعله يا أبت ، فقال : إنّ رجليّ لا تحملاني . ولأنّ الجلوس على الرّكبتين أقرب إلى الخشوع ، فكان أولى .
وهذا ما يفهم من عبارات المالكيّة أيضاً ، لأنّهم يعدّون الإفضاء في الجلوس من مندوبات الصّلاة ، ويعتبرون ترك سنّة خفيفة عمداً من سنن الصّلاة مكروهاً .
ويسنّ عند الشّافعيّة في قعود آخر الصّلاة التّورّك ، وفي أثنائها الافتراش .
ويقول الحنابلة بسنّيّة الافتراش في التّشهّد الأوّل ، والتّورّك في التّشهّد الثّاني .
ونقل ابن عبد البرّ إجماع العلماء على عدم جواز التّربّع للصّحيح في الفريضة .
وقال ابن حجر العسقلانيّ : لعلّ المراد بكلام ابن عبد البرّ بنفي الجواز إثبات الكراهة .
ج - التّربّع في صلاة التّطوّع :
6 - لا خلاف في جواز التّطوّع قاعداً مع القدرة على القيام ، ولا في أنّ القيام أفضل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى قائماً فهو أفضل ، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم » وقالت عائشة رضي الله عنها : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت حتّى كان كثير من صلاته وهو جالس » .
7- أمّا كيفيّة القعود في التّطوّع فقد اختلف فيها :
فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول - وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد - إلى أنّه يستحبّ للمتطوّع جالساً أن يكبّر للإحرام متربّعاً ويقرأ ، ثمّ يغيّر هيئته للرّكوع أو السّجود على اختلاف بينهم ، وروي ذلك عن ابن عمر وأنس رضي الله عنهم . كما روي عن ابن سيرين ومجاهد وسعيد بن جبير والثّوريّ وإسحاق رحمهم الله .
ويرى أبو حنيفة ومحمّد - فيما نقله الكرخيّ عنه - تخيير المتطوّع في حالة القراءة بين القعود والتّربّع والاحتباء .
وعن أبي يوسف أنّه يحتبي ، هذا ما اختاره الإمام خواهر زاده ، لأنّ عامّة صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آخر العمر كان محتبياً ،ولأنّه يكون أكثر توجّهاً بأعضائه إلى القبلة. وقال زفر : يقعد في جميع الصّلاة كما في التّشهّد ، هذا ما اختاره السّرخسيّ .
وقال الفقيه أبو اللّيث : وعليه الفتوى لأنّه المعهود شرعاً في الصّلاة .
وقال الشّافعيّة في أصحّ الأقوال : إنّ المتطوّع يقعد مفترشاً .
ثانياً - التّربّع عند تلاوة القرآن :
8 - لا بأس بقراءة القرآن في كلّ حال : قائماً أو جالساً ، متربّعاً أو غير متربّع ، أو مضطجعاً أو راكباً أو ماشياً ، لحديث « عائشة قالت : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتّكئ في حجري وأنا حائض ثمّ يقرأ القرآن » وعنها قالت : " إنّي لأقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري " .(148/1)
ترتيب *
التّعريف :
1 - التّرتيب في اللّغة : جعل كلّ شيء في مرتبته . واصطلاحاً : هو جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد ، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتّقدّم والتّأخّر .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّتابع والموالاة :
2 - التّتابع : مصدر تتابع ، يقال : تتابعت الأشياء والأمطار والأمور ، إذا جاء واحد منها خلف واحد على أثره بشرط عدم القطع .
وفسّر الفقهاء التّتابع في الصّيام : بأن لا يفطر المرء في أيّام الصّيام . وعلى ذلك ، فالتّتابع والموالاة متقاربان في المعنى ، إلاّ أنّ الفقهاء يستعملون التّتابع غالباً في الاعتكاف وكفّارة الصّيام ونحوهما ، ويستعملون الموالاة غالباً في الطّهارة من الوضوء والتّيمّم والغسل .
ويختلف التّرتيب عن التّتابع والموالاة في أنّ التّرتيب يكون لبعض الأجزاء نسبة إلى البعض بالتّقدّم والتّأخّر ، بخلاف التّتابع والموالاة ، ومن جهة أخرى فإنّ التّتابع والموالاة يشترط فيهما عدم القطع والتّفريق ، فيضرّهما التّراخي ، بخلاف التّرتيب .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّرتيب إنّما يكون بين أشياء مختلفة كالأعضاء في الوضوء ، والجمرات الثّلاث ، فإن اتّحد المحلّ ولم يتعدّد فلا معنى للتّرتيب كما يقول الزّركشيّ ، ومن ثمّ لم يجب التّرتيب في الغسل ، لأنّه فرض يتعلّق بجميع البدن ، تستوي فيه الأعضاء كلّها . وكذلك الرّكوع الواحد والسّجود الواحد لا يظهر فيه أثر التّرتيب ، فإذا اجتمع الرّكوع والسّجود ظهر أثره .
هذا ، وقد بيّن الفقهاء حكم وأهمّيّة التّرتيب في مباحث العبادات من : الطّهارة ، وأركان الصّلاة ، ونسك الحجّ ، والكفّارات في النّذور والأيمان ونحوها .
واتّفقوا على فرضيّة التّرتيب في بعض العبادات ، كالتّرتيب في أركان الصّلاة من القيام والرّكوع والسّجود ، واختلفوا في بعضها ، نذكر منها ما يلي :
أ - التّرتيب في الوضوء :
4 - التّرتيب في أعمال الوضوء فرض عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّها وردت في الآية مرتّبةً ، قال اللّه تعالى : { إذا قُمْتم إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وجُوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامسَحُوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكَعْبَين } لأنّ إدخال الممسوح " أي الرّأس " بين المغسولات " أي الأيدي والأرجل " قرينة على أنّه أريد به التّرتيب ، فالعرب لا تقطع النّظير عن النّظير إلاّ لفائدة ، والفائدة هاهنا التّرتيب .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم وجوب التّرتيب في الوضوء ، بل هو سنّة عندهم ، لأنّ اللّه تعالى أمر بغسل الأعضاء ، وعطف بعضها على بعض بواو الجمع ، وهي لا تقتضي التّرتيب . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال :" ما أبالي بأيّ أعضائي بدأت ". والتّرتيب إنّما يكون في عضوين مختلفين ، فإن كانا في حكم العضو الواحد لم يجب ، ولهذا لا يجب التّرتيب بين اليمنى واليسرى في الوضوء اتّفاقاً .
ولكن يسنّ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّيامن » .
ب - التّرتيب في قضاء الفوائت :
5 - جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة قالوا بوجوب التّرتيب بين الصّلوات الفائتة ، وبينها وبين الصّلاة الوقتيّة إذا اتّسع الوقت . فمن فاتته صلاة أو صلوات وهو في وقت أخرى ، فعليه أن يبدأ بقضاء الفوائت مرتّبةً ، ثمّ يؤدّي الصّلاة الوقتيّة ، إلاّ إذا كان الوقت ضيّقاً لا يتّسع لأكثر من الحاضرة فيقدّمها ، ثمّ يقضي الفوائت على التّرتيب .
على أنّ المالكيّة يقولون بوجوب التّرتيب في قضاء يسير الفوائت مع صلاة حاضرة ، وإن خرج وقتها . وقال الشّافعيّة : لا يجب ذلك ، بل يسنّ ترتيب الفوائت ، كأن يقضي الصّبح قبل الظّهر ، والظّهر قبل العصر . وكذلك يسنّ تقديم الفوائت على الحاضرة محاكاةً للأداء ، فإن خاف فوت الحاضرة بدأ بها وجوباً لئلاّ تصير فائتةً .
هذا ، ويسقط التّرتيب عند الحنفيّة والحنابلة بالنّسيان ، وخوف فوت الوقتيّة ، وزاد الحنفيّة مسقطاً آخر هو زيادة الفوائت على خمس .
وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع إليه في ( قضاء الفوائت ) .
ج - التّرتيب في صفوف الصّلاة :
6 - صرّح الفقهاء بأنّه : لو اجتمع الرّجال والنّساء والصّبيان ، فأرادوا أن يصطفّوا لصلاة الجماعة ، يقوم الرّجال صفّاً ممّا يلي الإمام ، ثمّ الصّبيان بعدهم ثمّ الإناث .
وإذا تقدّمت النّساء على الرّجال فسدت صلاة من وراءهنّ من صفوف الرّجال عند الحنفيّة ، خلافاً لجمهور الفقهاء حيث صرّحوا بكراهة الصّلاة حينئذ دون الفساد ، كما هو مفصّل في مصطلح : ( اقتداء ، صلاة الجماعة ) .
مواطن البحث :
يرد ذكر التّرتيب عند الفقهاء - إضافةً إلى ما سبق - في مواضع مختلفة منها :
أ - التّرتيب في الجنائز :
7 - إذا كانت أكثر من واحدة ، فإذا اجتمعت جنائز الرّجال والنّساء والصّبيان حين الصّلاة عليها ، فإنّه يصفّ الرّجال ممّا يلي الإمام ، ثمّ صفّ الصّبيان ، ثمّ صفّ النّساء ، وكذلك التّرتيب في وضع الأموات في قبر واحد ، ويفصّل الفقهاء هذه المسائل في أبواب الجنائز .
ب - التّرتيب في الحجّ :
8 - التّرتيب في أعمال الحجّ وما يترتّب على الإخلال به ، فصّله الفقهاء في كتاب الحجّ .
( ر : إحرام ) .
ج - الدّيون :
9 - التّرتيب في قضاء الدّيون ، وما يجب تقديمه منها على غيره ، وما يتعلّق بحقوق العباد ، فصّله الفقهاء في باب الرّهن والنّفقة والكفّارة وغيرها ( ر : دين ) .
د - أدلّة الإثبات :
10 - التّرتيب في أدلّة الإثبات من الإقرار والشّهادة والقرائن ونحوها يذكره الفقهاء في كتاب الدّعوى .
هـ - النّكاح :(149/1)
11 - ترتيب الأولياء في النّكاح وحقّ القصاص وسائر الحقوق كالإرث والحضانة وغيرهما مذكور في أبوابها من كتب الفقه ، وتفصيله في مصطلحاتها .
و - الكفّارات :
12 - التّرتيب بين أنواع الكفّارات في الأيمان والنّذور وغيرها أورده الفقهاء في باب الكفّارة . وتفصيل هذه المسائل يرجع إليه في مصطلحاتها .(149/2)
ترجيع *
التّعريف :
1 - التّرجيع في اللّغة هو : ترديد الصّوت في قراءة أو أذان أو غناء أو غير ذلك ممّا يُتَرنّم به . وفي الاصطلاح هو : أن يخفض المؤذّن صوته بالشّهادتين مع إسماعه الحاضرين ، ثمّ يعود فيرفع صوته بهما .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّثويب :
2 - التّثويب لغةً : العود إلى الإعلام بعد الإعلام .
واصطلاحاً : قول المؤذّن في أذان الصّبح بعد الحيعلتين ، أو بعد الأذان وقبل الإقامة - كما يقول بعض الفقهاء - الصّلاة خير من النّوم ، مرّتين .
ويختلف التّثويب عن التّرجيع - بالمعنى الأوّل - في أنّ التّثويب يكون في أذان الفجر بعد الحيعلتين أو بعد الأذان ، وأمّا التّرجيع فيكون في الإتيان بالشّهادتين في كلّ أذان .
الحكم الإجماليّ :
3 - يرى الحنفيّة والحنابلة على الصّحيح من المذهب - وهو قول الثّوريّ وإسحاق - أنّه لا ترجيع في الأذان ، « لحديث عبد اللّه بن زيد من غير ترجيع . فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّها حقّ إن شاء اللّه ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت ، فليؤذّن به ، فإنّه أندى صوتاً منك . فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به » .
فإذا رجع المؤذّن ، فقد نصّ الإمام أحمد على أنّه لا بأس به ، واعتبر الاختلاف في التّرجيع من الاختلافات المباحة ، وقال ابن نجيم : الظّاهر من عبارات مشايخ الحنفيّة أنّ التّرجيع مباح ليس بسنّة ولا مكروه ، لأنّ كلا الأمرين صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونقل الحصكفيّ عن ملتقى الأبحر كراهة التّرجيع في الأذان ، وحملها ابن عابدين على الكراهة التّنزيهيّة . ويرى المالكيّة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة : أنّه يسنّ التّرجيع في الأذان ، لما روي عن أبي محذورة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألقى عليه التّأذين هو بنفسه ، فقال له : قل : اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، ثمّ قال : ارجع فامدد صوتك ، ثمّ قال : قل : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه .. إلخ » .
وهناك وجه للشّافعيّة حكاه الخراسانيّون : أنّ التّرجيع ركن لا يصحّ الأذان إلاّ به . قال القاضي حسين : نقل البيهقيّ عن الإمام الشّافعيّ : أنّه إن ترك التّرجيع لا يصحّ أذانه .
محلّ التّرجيع :
4 - التّرجيع يكون كما تقدّم في حديث أبي محذورة بعد الإتيان بالشّهادتين معاً ، فلا يرجّع الشّهادة الأولى قبل الإتيان بالشّهادة الثّانية .
حكمة التّرجيع :
5 - حكمة التّرجيع هي تدبّر كلمتي الإخلاص ، لكونهما المنجّيتين من الكفر ، المدخلتين في الإسلام ، وتذكّر خفائهما في أوّل الإسلام ثمّ ظهورهما .(150/1)
ترجيل *
التّعريف :
1 - التّرجيل لغةً : تسريح الشّعر وتنظيفه وتحسينه . يقال : رجّلته ترجيلاً : إذا سرّحته ومشّطته . وقد يكون التّرجيل أخصّ من التّمشيط ،لأنّه يراعى فيه الزّيادة في تحسين الشّعر. أمّا التّسريح فهو : إرسال الشّعر وحلّه قبل المشط ، وعلى هذا فيكون التّسريح مغايراً للتّرجيل ، ومضادّاً للتّمشيط . وقال الأزهريّ : تسريح الشّعر ترجيله ، وتخليص بعضه من بعض بالمشط . فعلى المعنى الأوّل يكون مغايراً للتّرجيل ، وعلى الثّاني يكون مرادفاً .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ التّرجيل عن معناه اللّغويّ .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الأصل في ترجيل الشّعر الاستحباب ، لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « من كان له شعر فَلْيُكْرمْه » ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّرجيل ، وكان يرجّل نفسه تارةً ، وترجّله عائشة رضي الله عنها تارةً أخرى فقد روت
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصغي إليّ رأسَه وهو مجاور في المسجد ، فأرجِّله وأنا حائض » .
وهناك حالات يختلف فيها حكم التّرجيل باختلاف الأشخاص والأوقات منها :
أ - ترجيل المعتكف :
3 - يرى جمهور الفقهاء : أنّه لا يكره للمعتكف إلاّ ما يكره فعله في المسجد ، فيجوز له ترجيل شعره ، لما روي عن « عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصغي إليّ رأسَه ، وهو مجاور في المسجد ، فأرجّله وأنا حائض » .
وقال المالكيّة : لا بأس بأن يدني المعتكف رأسه لمن هو خارج المسجد لترجيل شعره ، كأنّهم يرون كراهة التّرجيل في المسجد ، لأنّ التّرجيل لا يخلو من سقوط شيء من الشّعر ، والأخذ من الشّعر في المسجد مكروه عندهم . وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح : ( اعتكاف ) .
ب - ترجيل المحرم :
4 - ذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّرجيل للمحرم - وهو قول المالكيّة إذا كان التّرجيل بالدّهن - لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الحاجّ الشَّعثُ التَّفِل » . والمراد بالشّعث انتشار شعر الحاجّ فلا يجمعه بالتّسريح والدّهن والتّغطية ونحوه .
وقال الشّافعيّة بكراهية التّرجيل للمحرم لأنّه أقرب إلى نتف الشّعر .
ويرى الحنابلة أنّ التّرجيل في حالة الإحرام لا بأس به ، ما لم يؤدّ إلى إبانة شعره .
أمّا إذا تيقّن المحرم سقوط الشّعر بالتّرجيل فلا خلاف بين الفقهاء في حرمته حينئذ . وتفصيل ذلك في : ( إحرام ) .
ج - ترجيل المحدَّة :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التّرجيل للمحدّة بشيء من الطّيب أو بما فيه زينة . أمّا التّرجيل بغير موادّ الزّينة والطّيب - كالسّدر وشبهه ممّا لا يختمر في الرّأس - فقد أجازه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روت أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب ، قالت : قلت : بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » ولأنّه يراد للتّنظيف لا للتّطيّب .
وقال الحنفيّة بعدم جواز ترجيل المحدّة - وإن كان بغير طيب - لأنّه زينة ، فإن كان فبمشط ذي أسنان منفرجة دون المضمومة . وقيّد صاحب الجوهرة جواز ترجيل المحدّة بأسنان المشط الواسعة بالعذر . وينظر التّفصيل في ( إحداد ، وامتشاط ) .
كيفيّة التّرجيل :
6 - يستحبّ التّيامن في التّرجيل ، لحديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التّيامن في تنعّله وترجّله وطهوره ، وفي شأنه كلّه » .
الإغباب في التّرجيل :
يسنّ ترجيل الشّعر ودهنه غبّاً ، فالاستكثار من التّرجيل والمداومة عليه مكروه إلاّ لحاجة ، لحديث عبد اللّه بن مغفّل رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن التّرجّل إلاّ غبّاً » . ولما روى حميد بن عبد الرّحمن الحميريّ عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كلّ يوم » .(151/1)
ترحّم *
التّعريف :
1 - التّرحّم : من الرّحمة ، ومن معانيها : الرّقة ، والعطف ، والمغفرة .
والتّرحّم : طلب الرّحمة ، وهو أيضاً الدّعاء بالرّحمة ، كقولك : رحمه اللّه . وترحّمتُ عليه : أي قلت له : رحمة اللّه عليك ، ورحَّم عليه : قال له : رحمة اللّه عليك .
وتراحم القوم : رحم بعضهم بعضاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التَّرَضِّي :
2 - التّرضّي من الرّضا ، وهو ضدّ السّخط ، والتّرضّي : طلب الرّضا ، والتّرضّي أيضاً : أن تقول : رضي اللّه عنه . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى ، فالتّرضّي دعاء بالرّضوان ، والتّرحّم دعاء بالرّحمة . وللتّفصيل ر : ( ترضّي ) .
ب - التّبريك :
3 - التّبريك : الدّعاء بالبركة ، وهي بمعنى الزّيادة والنّماء ، يقال : بارك اللّه فيك وعليك ولك وباركك ، كلّها بمعنى : زادك خيراً ، ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ ومَنْ حَوْلَها } وتبرّك به : أي تيمّن .
فالتّبريك بمعنى : الدّعاء بالبركة ، يتّفق مع التّرحّم في نفس هذا المعنى ، أي الدّعاء .
الحكم التّكليفيّ :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب التّرحّم على الوالدين أحياءً وأمواتاً ، وعلى التّابعين من العلماء والعبّاد الصّالحين ، وعلى سائر الأخيار ، أحياءً وأمواتاً .
وأمّا التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة وخارجها ، ففيه خلاف وتفصيل على النّحو الآتي :
أ - التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الصّلاة :
5 - وهو إمّا أن يكون في التّشهّد أو خارجه .
وقد ورد التّرحّم على الرّسول صلى الله عليه وسلم في التّشهّد ، وهو عبارة : " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته " وتفصيل أحكام التّشهّد في مصطلحه .
أمّا التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج التّشهّد ، فقد ذهب الحنفيّة ، وبعض المالكيّة ، وبعض الشّافعيّة إلى استحباب زيادة : " وارحم محمّداً وآل محمّد " في الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة .
وعبارة الرّسالة لابن أبي زيد القيروانيّ : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وارحم محمّداً وآل محمّد ، كما صلّيت ورحمت وباركت على إبراهيم .
واستدلّوا بحديث أبي هريرة : قال : قلنا : « يا رسول اللّه : قد علمنا كيف نسلّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد » . قال الحافظ ابن حجر : فهذه الأحاديث - وإن كانت ضعيفة الأسانيد - إلاّ أنّها يشدّ بعضها بعضاً ، أقواها أوّلها ،ويدلّ مجموعها على أنّ للزّيادة أصلاً . وأيضاً الضّعيف يعمل به في فضائل الأعمال. وما عليه جمهور الفقهاء الاقتصار على صيغة الصّلاة دون إضافة ( التّرحّم ) كما ورد في الرّوايات المشهورة في الصّحيحين وغيرهما ، بل ذهب بعض الحنفيّة وأبو بكر بن العربيّ المالكيّ والنّوويّ وغيرهم إلى أنّ زيادة " وارحم محمّداً ... إلخ " بدعة لا أصل لها ، وقد بالغ ابن العربيّ في إنكار ذلك وتخطئة ابن أبي زيد ، وتجهيل فاعله ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّمنا كيفيّة الصّلاة . فالزّيادة على ذلك استقصار لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم واستدراك عليه . وانتصر لهم بعض المتأخّرين ممّن جمع بين الفقه والحديث ، فقال : ولا يحتجّ بالأحاديث الواردة ، فإنّها كلّها واهية جدّاً . إذ لا يخلو سندها من كذّاب أو متّهم بالكذب . ويؤيّده ما ذكره السّبكيّ : أنّ محلّ العمل بالحديث الضّعيف ما لم يشتدّ ضعفه .
ب - التّرحّم في التّسليم من الصّلاة :
6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأكمل في التّسليم في الصّلاة أن يقول :
« السّلام عليكم ورحمة اللّه ، عن يمينه ويساره ، لحديث ابن مسعود وجابر بن سمرة وغيرهما رضي الله تعالى عنهم » . فإن قال : السّلام عليكم - ولم يزد - يجزئه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تحليلها التّسليم » .
والتّحليل يحصل بهذا القول ، ولأنّ ذكر الرّحمة تكرير للثّناء فلم يجب ، كقوله : وبركاته .
وقال ابن عقيل من الحنابلة - وهو المعتمد في المذهب - الأصحّ أنّه لا يجزئه الاقتصار على : السّلام عليكم ، لأنّ الصّحيح « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته » ، ولأنّ السّلام في الصّلاة ورد مقروناً بالرّحمة ، فلم يجز بدونها ، كالتّسليم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد .
قال الشّافعيّة والحنابلة : والأولى ترك " وبركاته " كما في أكثر الأحاديث . وصرّح المالكيّة : بأنّ زيادة " ورحمة اللّه " لا يضرّ ، لأنّها خارجة عن الصّلاة ، وظاهر كلام أهل المذهب أنّها غير سنّة ، وإن ثبت بها الحديث ، لأنّها لم يصحبها عمل أهل المدينة ، وذكر بعض المالكيّة أنّ الأولى الاقتصار على : السّلام عليكم ،وأنّ زيادة : ورحمة اللّه وبركاته هنا خلاف الأولى.
ج - التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الصّلاة :
7 - اختلف الفقهاء في جواز التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الصّلاة ، فذهب بعضهم إلى المنع مطلقاً ووجّهه بعض الحنفيّة : بأنّ الرّحمة إنّما تكون غالباً عن فعل يلام عليه ، ونحن أمرنا بتعظيمه ، وليس في التّرحّم ما يدلّ على التّعظيم ، مثل الصّلاة ، ولهذا يجوز أن يدعى بها لغير الأنبياء والملائكة عليهم السلام .(152/1)
أمّا هو صلى الله عليه وسلم فمرحوم قطعاً ، فيكون من باب تحصيل الحاصل ، وقد استغنينا عن هذه بالصّلاة ، فلا حاجة إليها ، ولأنّه يجلّ مقامه عن الدّعاء بها .
قال ابن دحية : ينبغي لمن ذكره صلى الله عليه وسلم أن يصلّي عليه ، ولا يجوز أن يترحّم عليه ، لقوله تعالى : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً } .
ونقل مثله عن ابن عبد البرّ ، والصّيدلانيّ ، كما حكاه عنه الرّافعيّ ولم يتعقّبه .
وصرّح أبو زرعة ابن الحافظ العراقيّ في فتاواه ، بأنّ المنع أرجح لضعف الأحاديث الّتي استند إليها ، فيفهم من قوله : حرمته مطلقاً .
وذهب بعض الفقهاء إلى الجواز مطلقاً : أي ولو بدون انضمام صلاة أو سلام .
واستدلّوا بقول الأعرابيّ فيما رواه البخاريّ وهو قوله : « اللّهمّ ارحمني ، وارحم محمّداً ، ولا ترحم معنا أحداً لتقريره صلى الله عليه وسلم على قوله : اللّهمّ ارحمني وارحم محمّداً ، ولم ينكر عليه سوى قوله : ولا ترحم معنا أحداً » .
وقال السّرخسيّ : لا بأس بالتّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنّ الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عبّاس رضي الله عنهم ، ولأنّ أحداً وإن جلّ قدره لا يستغني عن رحمة اللّه . كما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لن يدخل أحداً عمله الجنّة ، قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال : ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني اللّه برحمته » .
ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أشوق العبّاد إلى مزيد رحمة اللّه تعالى ، ومعناها معنى الصّلاة ، فلم يوجد ما يمنع ذلك . ولا ينافي الدّعاء له بالرّحمة أنّه عليه الصلاة والسلام عَيْنُ الرّحمة بنصّ : { ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِلعَالَمِين } لأنّ حصول ذلك لا يمنع طلب الزّيادة له ، إذ فضل اللّه لا يتناهى ، والكامل يقبل الكمال .
وفصّل بعض المتأخّرين ، فقال بالحرمة إنّ ذكرها استقلالاً : كأن يقول المتكلّم : قال النّبيّ رحمه الله . وبالجواز إن ذكرها تبعاً : أي مضمومةً إلى الصّلاة والسّلام ، فيجوز : اللّهمّ صلّ على محمّد وارحم محمّداً . ولا يجوز : ارحم محمّداً ، بدون الصّلاة ، لأنّها وردت في الأحاديث الّتي وردت فيها على سبيل التّبعيّة للصّلاة والبركة ، ولم يرد ما يدلّ على وقوعها مفردةً ، وربّ شيء يجوز تبعاً ، لا استقلالاً .
وبه أخذ جمع من العلماء ، بل نقله القاضي عن الجمهور ، وقال القرطبيّ : وهو الصّحيح .
د - التّرحّم على الصّحابة رضي الله عنهم والتّابعين ومن بعدهم من الأخيار :
8 - اختلف الفقهاء في جواز التّرحّم على الصّحابة ، فذهب بعضهم إلى أنّه عند ذكر الصّحابة الأولى أن يقال : رضي اللّه عنهم .
وأمّا عند ذكر التّابعين ومن بعدهم من العلماء ، والعبّاد ،وسائر الأخيار فيقال : رحمهم اللّه. قال الزّيلعيّ : الأولى أن يدعو للصّحابة بالرّضى ، وللتّابعين بالرّحمة ، ولمن بعدهم بالمغفرة والتّجاوز ، لأنّ الصّحابة كانوا يبالغون في طلب الرّضى من اللّه تعالى ، ويجتهدون في فعل ما يرضيه ، ويرضون بما يلحقهم من الابتلاء من جهته أشدّ الرّضى ، فهؤلاء أحقّ بالرّضى ، وغيرهم لا يلحق أدناهم ولو أنفق ملء الأرض ذهباً .
وذكر ابن عابدين نقلاً عن القرمانيّ على الرّاجح عنده : أنّه يجوز عكسه أيضاً ، وهو التّرحّم للصّحابة ، والتّرضّي للتّابعين ومن بعدهم . وإليه مال النّوويّ في الأذكار ، وقال : يستحبّ التّرضّي والتّرحّم على الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم من العلماء والعبّاد وسائر الأخيار . فيقال : رضي اللّه عنه ، أو رحمه اللّه ونحو ذلك .
وأمّا ما قاله بعض العلماء : إنّ قوله : رضي اللّه عنه مخصوص بالصّحابة ، ويقال في غيرهم : رحمه اللّه فقط فليس كما قال ، ولا يوافق عليه ، بل الصّحيح الّذي عليه الجمهور استحبابه ، ودلائله أكثر من أن تحصر . وذكر في النّهاية نقلاً عن المجموع : أنّ اختصاص التّرضّي بالصّحابة والتّرحّم بغيرهم ضعيف .
هـ - التّرحّم على الوالدين :
9 - الأصل في وجوب التّرحّم على الوالدين قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما } حيث أمر اللّه سبحانه وتعالى عباده بالتّرحّم على آبائهم والدّعاء لهم . ومحلّ طلب الدّعاء والتّرحّم لهما إن كانا مؤمنين ، أمّا إن كانا كافرين فيحرم ذلك لقوله تعالى : { مَا كانَ لِلنَّبيِّ والّذينَ آمنُوا أنْ يَسْتَغفِرُوا للمُشْرِكِينَ ولو كانوا أُولِي قُرْبَى } .
و - التّرحّم في التّحيّة بين المسلمين :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأفضل أن يقول المسلم للمسلم في التّحيّة : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، ويقول المجيب أيضاً : وعليكم السّلام ورحمة اللّه وبركاته ، لما روى عمران بن الحصين أنّه قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : السّلام عليكم ، فردّ عليه ، ثمّ جلس ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : عشر . ثمّ جاء آخر ، فقال : السّلام عليكم ورحمة اللّه ، فردّ عليه ، ثمّ جلس ، فقال : عشرون . ثمّ جاء آخر ، فقال : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فردّ عليه ، فجلس ، فقال : ثلاثون » قال التّرمذيّ : حديث حسن . وهذا التّعميم مخصوص بالمسلمين ، فلا ترحّم على كافر لمنع بدئه بالسّلام عند الأكثرين تحريماً ، لحديث : « لا تبدءوا اليهود ولا النّصارى بالسّلام » .
ولو سلّم اليهوديّ والنّصرانيّ ، فلا بأس بالرّدّ ، ولكن لا يزيد على قوله : " وعليك " .(152/2)
والّذين جوّزوا ابتداءهم بالسّلام ، صرّحوا بالاقتصار على : " السّلام عليك " دون الجمع ، ودون أن يقول : " ورحمة اللّه " لما روي عن أنس رضي الله عنه ، قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا سلّم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم أو عليكم » بغير واو .
ز - التّرحّم على الكفّار :
11 - صرّح النّوويّ في كتابه الأذكار بأنّه لا يجوز أن يدعى للذّمّيّ بالمغفرة وما أشبهها في حال حياته ممّا لا يقال للكفّار ، لكن يجوز أن يدعى له بالهداية ، وصحّة البدن والعافية وشبه ذلك . لحديث أنس رضي الله عنه قال : « استسقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسقاه يهوديّ ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : جمّلك اللّه » فما رأى الشّيب حتّى مات .
وأمّا بعد وفاته فيحرم الدّعاء للكافر بالمغفرة ونحوها ، لقول اللّه تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِينَ ولو كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهم أنَّهم أصْحَابُ الجَحِيمِ } وقد جاء الحديث بمعناه ، وأجمع المسلمون عليه .
ح - التزام التّرحّم كتابةً ونطقاً عند القراءة :
ينبغي لكاتب الحديث وراويه أن يحافظ على كتابة التّرضّي والتّرحّم على الصّحابة والعلماء وسائر الأخيار ، والنّطق به ، ولا يسأم من تكراره ، ولا يتقيّد فيه بما في الأصل إن كان ناقصاً .(152/3)
ترسّل *
التّعريف :
1 - للتّرسّل في اللّغة معان ، منها : التّمهّل والتّأنّي . يقال : ترسّل في قراءته بمعنى : تمهّل واتّأد فيها . وترسّل الرّجل في كلامه ومشيه : إذا لم يعجل . وفي حديث عمر رضي الله عنه « إذا أذّنت فترسّل » : أي تأنّ ولا تعجل . ولا يخرج معناه اصطلاحاً عن هذا ، فقالوا : إنّه في الأذان : التّمهّل والتّأنّي وترك العجلة ، ويكون بسكتة بين كلّ جملتين من جمل الأذان تسع الإجابة ، وذلك من غير تمطيط ولا مدّ مفرط .
2 - والحدر يقابل التّرسّل ، وله في اللّغة معان منها : الإسراع في القراءة . يقال : حدر الرّجل الأذان والإقامة والقراءة وحدر فيها كلّها حدراً من باب قتل : إذا أسرع .
وفي حديث الأذان : « إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحدر » أي أسرع ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن ذلك .
والحدر سنّة في الإقامة ، مكروه في الأذان . لما روى جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه : يا بلال إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحدر » .
الحكم الإجماليّ للتّرسّل :
3 - للتّرسّل أحكام تعتريه . فهو في الأذان مسنون .
وصفته : أن يتمهّل المؤذّن فيه بسكتة بين كلّ جملتين منه تسع إجابة السّامع له ، وذلك من غير تمطيط ولا مدّ مفرط ولا تطريب ، لما روى جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال : يا بلال إذا أذّنت فترسّل » ، وما روي عن أبي الزّبير مؤذّن بيت المقدس أنّ عمر رضي الله عنه قال : « إذا أذّنت فترسّل » وما روي أنّ رجلاً قال لابن عمر : إنّي لأحبّك في اللّه . قال : "وأنا أبغضك في اللّه .إنّك تغنّي في أذانك ".
هذا ما عليه الفقهاء . والتّرسّل في الإقامة مكروه ، وذلك أنّه يسنّ لمن يقيم الصّلاة أن يسرع فيها ولا يترسّل ، للأحاديث السّابقة .
هذا ، والأذان قد شرع للإعلام بدخول الوقت وتنبيه الغائبين إليه ودعوتهم إلى الحضور للصّلاة . أمّا الإقامة فقد شرعت لإعلام الحاضرين بالتّأهّب للصّلاة والقيام لها ، ولذا كان التّرسّل في الأذان أبلغ في الإعلام ، أمّا الإقامة فلا حاجة فيها إلى التّرسّل .
ولذا ثُنّي الأذان وأفردت الإقامة ، لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : « أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » . زاد حمّاد في حديثه " إلاّ الإقامة " ، واستحبّ أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة ، وأن يكون الصّوت في الأذان أرفع منه في الإقامة ، وأن يكون الأذان مرتّلاً والإقامة مسرعةً ، وسنّ تكرار قد قامت الصّلاة مرّتين في الإقامة ، لأنّها المقصودة من الإقامة بالذّات . ( ر : أذان ، إقامة ) .(153/1)
تسبيح *
التّعريف :
1 - من معاني التّسبيح في اللّغة : التّنزيه . تقول : سبّحت اللّه تسبيحاً : أي نزّهته تنزيهاً. ويكون بمعنى الذّكر والصّلاة . يقال : فلان يسبّح اللّه : أي يذكره بأسمائه نحو سبحان اللّه . وهو يسبّح أي يصلّي السّبحة وهي النّافلة . وسمّيت الصّلاة ذِكْراً لاشتمالها عليه ، ومنه قوله تعالى : { فَسُبحَانَ اللّهِ حينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحون } أي اذكروا اللّه . ويكون بمعنى التّحميد نحو { سُبْحَانَ الّذي سَخَّرَ لنا هذا } وسبحان ربّي العظيم . أي الحمد للّه .
ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن هذه المعاني ، فقد عرّفه الجرجانيّ بأنّه : تنزيه الحقّ عن نقائص الإِمكان والحدوث .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الذِّكْر :
2 - الذّكر من معانيه في اللّغة : الصّلاة للّه والدّعاء إليه والثّناء عليه .
ففي الحديث : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلّى » .
وفي اصطلاح الفقهاء قول سيق لثناء أو دعاء وقد يستعمل شرعاً لكلّ قول يثاب قائله ، فالذّكر شامل للدّعاء فهو أعمّ من التّسبيح .
ب - التّهليل :
3 - هو قول لا إله إلاّ اللّه : يقال : هلّل الرّجل أي من الهيللة ، من قول لا إله إلاّ اللّه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذا . فالتّسبيح أعمّ من التّهليل ، لأنّ التّسبيح تنزيه اللّه عزّ وجلّ عن كلّ نقص . أمّا التّهليل فهو تنزيهه عن الشّريك .
ج - التّقديس :
4 - من معانيه في اللّغة تنزيه اللّه عزّ وجلّ عن كلّ ما لا يليق به .
والتّقديس : التّطهير والتّبريك . وتقدّس أي تطهّر ، وفي التّنزيل { ونحنُ نُسبِّحُ بِحَمْدك وَنُقدِّسُ لك } قال الزّجّاج : معنى نقدّس لك : أي نطهّر أنفسنا لك ، وكذلك نفعل بمن أطاعك ، والأرض المقدّسة أي المطهّرة . ومعناه الاصطلاحيّ لا يخرج عن هذا .
والتّقديس أخصّ من التّسبيح ، لأنّه تنزيه مع تبريك وتطهير .
حكمة مشروعيّة التّسبيح :
5 - حكمة التّسبيح استحضار العبد عظمة الخالق ، ليمتلئ قلبه هيبةً فيخشع ولا يغيب ، فينبغي أن يكون ذلك هو مقصود الذّاكر ، سواء أكان في الصّلاة أم في غيرها ، فيحرص على تحصيله ، ويتدبّر ما يذكر ، ويتعقّل معناه ، فالتّدبّر في الذّكر مطلوب ، كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود ، ولأنّه يوقظ القلب ، فيجمع همّه إلى الفكر ، ويصرف سمعه إليه ، ويطرد النّوم ، ويزيد النّشاط .
آداب التّسبيح :
6 - آدابه كثيرة : منها أنّه ينبغي أن يكون الذّاكر المسبّح على أكمل الصّفات ، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة ، وجلس متذلّلاً متخشّعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه ، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقّه . لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل ، والدّليل على عدم الكراهة قول اللّه تبارك وتعالى : { إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرضِ واخْتِلافِ اللّيلِ والنّهارِ لآياتٍ لأولي الألبابِ الّذينَ يَذْكُرونَ اللّهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وعلى جُنُوبهم وَيَتَفَكَّرونَ في خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ } .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : إنّي لأقرأ حزبي ، وأنا مضطجعة على السّرير . وصيغه كثيرة ، منها ما ينبغي أن يكون كما وردت به السّنّة ، كما هو الحال في تسبيحات الرّكوع والسّجود ودبر الصّلوات .
ومنها ما هو مستحبّ ، وهو ما كان في غير ذلك كالتّسبيحات ليلاً ونهارًا .
حكمه التّكليفيّ :
7 - يختلف الحكم التّكليفيّ للتّسبيح بحسب موضعه وسببه على التّفصيل الآتي :
التّسبيح على طهر :
8 - أجمع العلماء على جواز الذّكر بالقلب واللّسان للمحدث والجنب والحائض والنّفساء ، وذلك في التّسبيح والتّهليل والتّحميد والتّكبير والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء وغير ذلك . فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ أحيانه » . على أنّ ذكر اللّه على طهارة سواء أكان تسبيحاً أم غيره ، أولى وأفضل لحديث : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّم عليه أحد الصّحابة فلم يردّ عليه ، حتّى تيمّم فردّ السّلام ، ثمّ قال : كرهت أن أذكر اللّه إلاّ على طهر » .
التّوسّط في رفع الصّوت في التّسبيح :
9- التّوسّط في رفع الصّوت في التّسبيح وغيره مستحبّ عند عامّة الفقهاء ، لقوله تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بها وابْتَغ بينَ ذلك سَبِيلاً } وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله . فعن أبي قتادة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلّي يخفض من صوته . قال : ومرّ بعمر رضي الله عنه وهو يصلّي رافعاً صوته قال : فلمّا اجتمعا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلّي تحفض صوتك ؟ قال : قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول اللّه . قال : فارفع قليلاً وقال لعمر : مررت بك وأنت تصلّي رافعاً صوتك ؟ فقال : يا رسول اللّه : أوقظ الوسنان وأطرد الشّيطان . قال : اخفض من صوتك شيئاً » .
وقال أبو سعيد رضي الله عنه « اعتكف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فسمعهم يجهرون بالقراءة ، فكشف السّتر وقال : ألا إنّ كلّكم مناج ربّه ، فلا يؤذينّ بعضكم بعضاً ، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة ، أو قال في الصّلاة » . والمراد بالتّوسّط أن يزيد على أدنى ما يسمع نفسه من غير أن تبلغ تلك الزّيادة سماع من يليه .
ما يجوز به التّسبيح :(154/1)
10 - أجاز الفقهاء التّسبيح باليد والحصى والمسابح خارج الصّلاة ، كعدّه بقلبه أو بغمزه أنامله . أمّا في الصّلاة ، فإنّه يكره لأنّه ليس من أعمالها . وعن أبي يوسف ومحمّد : أنّه لا بأس بذلك في الفرائض والنّوافل جميعاً مراعاةً لسنّة القراءة والعمل بما جاءت به السّنّة . فعن « سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنّه دخل مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على امرأة ، وبين يديها نوًى أو حصًى تسبّح به ، فقال : أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل . فقال : سبحان اللّه عدد ما خلق في السّماء ، وسبحان اللّه عدد ما خلق في الأرض ، وسبحان اللّه عدد ما بين ذلك ، وسبحان اللّه عدد ما هو خالق ، والحمد للّه مثل ذلك ، واللّه أكبر مثل ذلك ، ولا إله إلاّ اللّه مثل ذلك ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه مثل ذلك » فلم ينهها عن ذلك ، وإنّما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل ، ولو كان مكروهاً لبيّن لها ذلك . وعن بسيرة الصّحابيّة المهاجرة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهنّ أن يراعين بالتّكبير والتّقديس والتّهليل ، وأن يعقدن بالأنامل فإنّهنّ مسئولات مستنطقات » . وعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعقد التّسبيح » وفي رواية « بيمينه » .
ونقل الطّحطاويّ عن ابن حجر قوله : الرّوايات بالتّسبيح بالنّوى والحصى كثيرة عن الصّحابة في بعض أمّهات المؤمنين ، بل رأى ذلك صلى الله عليه وسلم وأقرّ عليه . وعقد التّسبيح بالأنامل أفضل من السّبحة ، وقيل : إن أمن الغلط فهو أولى ، وإلاّ فهي أولى .
أوقاته وما يستحبّ منها :
11 - ليس للذّكر - ومنه التّسبيح - وقت معيّن ، بل هو مشروع في كلّ الأوقات . روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ أحيانه » . وفي قوله تعالى : { الّذينَ يَذْكُرونَ اللّهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وعلى جُنُوبِهمْ } ما يدلّ على استحباب الذّكر في جميع الأحوال الّتي يكون عليها الإنسان من يومه وليله .
إلاّ أنّ أحوالاً منها ورد الشّرع باستثنائها : كالخلاء عند قضاء الحاجة ، وفي حالة الجماع ، وفي حالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب ، وفي الأماكن المستقذرة والدّنسة ، وما أشبه ذلك ممّا يكره الذّكر معه . ولكن ورد في بعض الأخبار استحباب التّسبيح في أوقات خاصّة ، من ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :
« من سبّح اللّه في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين ، وحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين ، وكبّر اللّه ثلاثاً وثلاثين ، فتلك تسعة وتسعون ، وقال تمام المائة : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، غفرت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر » ويستحبّ التّسبيح في الإصباح والإمساء ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان اللّه وبحمده مائة مرّة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به ، إلاّ أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه » وفي رواية أبي داود « سبحان اللّه العظيم وبحمده » . ويستحبّ التّسبيح ونحوه عند الكسوف والخسوف ، لما روي عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : « أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد كسفت الشّمس وهو قائم في الصّلاة رافع يديه ، فجعل يسبّح ويهلّل ويكبّر ويحمد ويدعو حتّى حسر عنها . فلمّا حسر عنها قرأ سورتين وصلّى ركعتين » .
التّسبيح في افتتاح الصّلاة :
12 - هو سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
أمّا المالكيّة فإنّهم لا يرونه ، بل كرهوه في افتتاحها .
واستدلّ الجمهور بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قمتم إلى الصّلاة فارفعوا أيديكم ، ولا تخالف آذانكم ، ثمّ قولوا : اللّه أكبر ، سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » .
وبما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصّلاة قال : سبحانك اللّهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك » .
واستدلّ المالكيّة بما روي عن « أنس رضي الله عنه قال : صلّيت خلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد للّه ربّ العالمين » .
ولم يذكروا التّسبيح في افتتاح الصّلاة لا من الفرائض ولا من السّنن .
التّسبيح في الرّكوع :
13 - التّسبيح في الرّكوع سنّة عند الحنفيّة في المشهور ، وقيل واجب . ومستحبّ عند الشّافعيّة ، ومندوب عند المالكيّة . وواجب عند الحنابلة بتسبيحة واحدة ، والسّنّة الثّلاث . وأقلّ المسنون عند الحنفيّة والحنابلة . والمستحبّ عند الشّافعيّة : ثلاث تسبيحات . لما رواه ابن مسعود رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا ركع أحدكم فقال : سبحان ربّي العظيم ثلاثاً ، فقد تمّ ركوعه ، وذلك أدناه »
وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّه يندب التّسبيح بأيّ لفظ كان بركوع وسجود .
ونصّ ابن جزيّ على أنّه يستحبّ في الرّكوع سبحان ربّي العظيم ثلاث مرّات .
ودليله ما ورد أنّه « لمّا نزل قول اللّه تبارك وتعالى : { فسبّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم } قال صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم » والتّسبيح فيه لا يتحدّد بعدد ، بحيث إذا نقص عنه يفوته الثّواب ، بل إذا سبّح مرّةً يحصل له الثّواب ، وإن كان يزاد الثّواب بزيادته .(154/2)
والزّيادة على هذه التّسبيحات أفضل إلى خمس أو سبع أو تسع بطريق الاستحباب عند الحنفيّة . وفي منية المصلّي : أدناه ثلاث ، وأوسطه خمس ، وأكمله سبع .
وأدنى الكمال عند الشّافعيّة في التّسبيح ثلاث ثمّ خمس ثمّ سبع ثمّ تسع ثمّ إحدى عشرة وهو الأكمل . وهذا للمنفرد ولإمام قوم محصورين رضوا بالتّطويل .
أمّا غيره فيقتصر على الثّلاث ، ولا يزيد عليها للتّخفيف على المقتدين .
ويزيد المنفرد وإمام قوم محصورين على ذلك : اللّهمّ لك ركعت ، وبك آمنت إلخ .
قال في الرّوضة : وهذا مع الثّلاث أفضل من مجرّد أكمل التّسبيح .
والزّيادة على التّسبيحة الواحدة مستحبّة عند الحنابلة ، فأعلى الكمال في حقّ الإمام يزاد إلى عشر تسبيحات ، لما روي عن « أنس رضي الله عنه أنّه قال : ما رأيت أحداً أشبه صلاةً بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات » . وقال أحمد : جاء عن الحسن أنّ التّسبيح التّامّ سبع ، والوسط خمس ، وأدناه ثلاث . وأعلى التّسبيح في حقّ المنفرد العرف ، وقيل : ما لم يخف سهواً ، وقيل : بقدر قيامه ، وقيل : سبع .
التّسبيح في السّجود :
14 - يقال في السّجود ما قيل في الرّكوع ، من حيث الصّفة والعدد والاختلاف في ذلك . فالتّسبيح في السّجود سنّة عند الحنفيّة في المشهور ، وقيل واجب . ومندوب عند المالكيّة . ومستحبّ عند الشّافعيّة . وواجب عند الحنابلة في أقلّه ، وهو الواحدة ، وسنّة في الثّلاث ، كما في الرّكوع . ولا خلاف إلاّ في أنّ تسبيح السّجود أن يقول : سبحان ربّي الأعلى ، أمّا في الرّكوع فيقول : سبحان ربّي العظيم .
تسبيح المقتدي تنبيهاً للإمام :
15 - لو عرض للإمام شيء في صلاته سهواً منه كان للمأموم تنبيهه بالتّسبيح استحباباً ، إن كان رجلاً ، وبالتّصفيق إن كانت أنثى عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
لحديث : « إنّما التّصفيقُ للنّساء ، ومن نَابَه شيء في صلاته فلْيقُلْ سبحان اللّه » .
وأمّا المالكيّة فكرهوا للمرأة التّصفيق في الصّلاة مطلقاً ، وقالوا : إنّها تسبّح لعموم حديث : « من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان اللّه » ووجه الاستدلال أنّ ( من ) من ألفاظ العموم فيشمل النّساء .
تنبيه المصلّي غيره بالتّسبيح :
16 - إذا أتى المصلّي بذكر مشروع يقصد به تنبيه غيره إلى أنّه في صلاة ، كأن يستأذن عليه إنسان يريد الدّخول وهو في الصّلاة ، أو يخشى المصلّي على إنسان الوقوع في بئر أو هلكة ، أو يخشى أن يتلف شيئاً ، كان للمصلّي استحباباً أن يسبّح تنبيهاً له ، وتصفّق المرأة على الخلاف السّابق بيانه . للحديث المذكور آنفاً ، ولقوله عليه الصلاة والسلام « من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان اللّه ، فإنّه لا يسمعه أحد يقول سبحان اللّه إلاّ التفت »
وفي المسند عن عليّ رضي الله عنه : « كان لي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها فإذا أتيته استأذنته إن وجدته يصلّي فسبّح دخلت ، وإن وجدته فارغاً أذن لي » .
وعند الحنيفة تبطل الصّلاة إذا محّض التّسبيح للإعلام ، أو قصد به التّعجّب أو نحو ذلك .. ومذهب الشّافعيّة أنّ التّسبيحات في الصّلاة " لا تضرّ إلاّ ما كان فيه خطاب لمخلوق غير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ومذهب المالكيّة والحنابلة أنّ كلّ ذلك لا يؤثّر في صحّة الصّلاة .
التّسبيح أثناء الخطبة :
17 - قال الحنفيّة بكراهة التّسبيح لمستمع الخطبة ، لأنّه يشغله عن سماعها .
فإن كان بعيداً عن الخطيب ولا يسمعه فلا بأس به سرّاً عند بعض الحنفيّة ، والمعتمد في المذهب المنع مطلقاً للقريب والبعيد السّامع وغيره .
وعند المالكيّة يجوز الذّكر - على أنّه خلاف الأولى على المعتمد عندهم - من تسبيح وتهليل وغير ذلك ، إن كان قليلاً وبالسّرّ ، ويحرم الكثير مطلقاً ، كما يحرم القليل إذا كان جهراً . والشّافعيّة والحنابلة لم يتعرّضوا للتّسبيح بخصوصه ، لكن تعرّضوا للذّكر أثناء الخطبة ، فقالوا : الأولى لغير السّامع للخطبة أن يشتغل بالتّلاوة والذّكر . وأمّا السّامع فلا يشتغل بشيء من ذلك إلاّ بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذكره .
التّسبيح في افتتاح صلاة العيدين وبين تكبيرات الزّوائد فيها :
18 - الثّناء عقب تكبيرة الافتتاح في صلاة العيدين سنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، مستحبّ عند الشّافعيّة ، وهو كما في افتتاح الصّلاة على نحو ما سبق بيانه .
والتّسبيح بين التّكبيرات الزّوائد في صلاة العيدين سنّة كذلك عند الحنفيّة والحنابلة ومستحبّ عند الشّافعيّة ، ولا يقول به المالكيّة ، بل كرهوه ، أو أنّه خلاف الأولى عندهم ، فلا يفصل الإمام بين آحاده إلاّ بقدر تكبير المؤتمّ ، بلا قول من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير .
وليس فيه عند الحنفيّة ذكر مسنون بين هذه التّكبيرات ، ولا بأس بأن يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر . وهو أولى من السّكوت ، كما في القهستانيّ .(154/3)
وعند الشّافعيّة : يذكر اللّه بين كلّ تكبيرتين بالمأثور ، وهو عند الأكثرين منهم : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر . ويجوز عند الحنابلة أن يقول بين كلّ تكبيرتين من هذه التّكبيرات : اللّه أكبر كبيراً ، والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً ، وصلّى اللّه على محمّد النّبيّ وآله وسلّم تسليماً كثيراً ، لقول عقبة بن عامر سألت ابن مسعود رضي الله عنه ممّا يقوله بين تكبيرات العيد فقال : يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم رواه الأثرم وحرب واحتجّ به أحمد .
التّسبيح للإعلام بالصّلاة :
19 - اختلف في تسبيح المؤذّنين للإعلام بالصّلاة بين كونه بدعةً حسنةً ، أو مكروهةً على خلاف سبق في مصطلح : ( أذان ) .
صلاة التّسبيح :
20 - ورد في صلاة التّسبيح حديث اختلف في صحّته .
وللفقهاء خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( صلاة التّسبيح ) .
أماكن ينهى عن التّسبيح فيها :
21 - لمّا كان التّسبيح نوعاً من الذّكر ، وهو مكروه في الأماكن التّالية ، كان التّسبيح مكروهاً كذلك فيها ، لأنّ النّهي عن العامّ نهي عن الخاصّ ، وذلك تنزيهاً لاسم اللّه عن الذّكر في هذه الأماكن المستقذرة طبعاً . فيكره التّسبيح وغيره من الذّكر في الخلاء عند قضاء الحاجة ، وفي مواضع النّجاسات والقاذورات ، والمواضع الدّنسة بنجاسة أو قذارة ، وعند الجماع ، وفي الحمّام والمغتسل ، وما أشبه ذلك متى كان باللّسان . أمّا بالقلب فقط فإنّه لا يكره . وما لم تكن هناك ضرورة له كإنقاذ أعمى من الوقوع في بئر أو غيره ، أو تحذير معصوم من هلكة كغافل أو ما أشبه ذلك . والأولى التّحذير بغير التّسبيح والذّكر في مثل هذه الحالات . كما يكره الذّكر - ومنه التّسبيح - لمن يسمع صوت الخطيب في الجمعة لما تقدّم.
التّعجّب بلفظ التّسبيح :
22 - يجوز التّعجّب بلفظ التّسبيح . ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لقي أبا هريرة ، وأبو هريرة جنب ، فانسلّ ، فذهب فاغتسل ، فتفقّده النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا جاء قال : أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال : يا رسول اللّه لقيتني وأنا جنب ، فكرهت أن أجالسك حتّى أغتسل . فقال : سبحان اللّه ! ، إنّ المؤمن لا ينجس » . وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه « أنّ أخت الرّبيّع أمّ حارثة جرحت إنساناً ، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : القصاص القصاص فقالت أمّ الرّبيّع : يا رسول اللّه أتقتصّ من فلانة ؟ واللّه لا يُقْتَصُّ منها . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : القصاص كتاب اللّه . سبحان اللّه يا أمّ الرّبيّع ! » .
التّسبيح أمام الجنازة :
23 - يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لمشيّع الجنازة رفع صوته بالذّكر والتّسبيح ، لأنّه من البدع المنكرات ، ولا كراهة في ذلك لو كان في نفسه سرّاً ، بحيث يسمع نفسه ، ويستحبّ له أن يشغل نفسه بذكر اللّه والتّفكير فيما يلقاه الميّت ، وأنّ هذا عاقبة أهل الدّنيا . ويتجنّب ذكر ما لا فائدة فيه من الكلام ، فعن قيس بن عبادة رضي الله عنه أنّه قال : « كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصّوت عند الجنائز ، وعند القتال ، وعند الذّكر » ، ولأنّه تشبّه بأهل الكتاب فكان مكروهاً .
التّسبيح عند الرّعد :
24 - التّسبيح عند الرّعد مستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فيقول سامعه عند سماعه : سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته ، اللّهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا من قبل ذلك . فقد روى مالك في الموطّأ عن عبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنهما « أنّه كان إذا سمع الرّعد ترك الحديث وقال : سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته » ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « كنّا مع عمر رضي الله عنه في سفر ، فأصابنا رعد وبرق وبرد ، فقال لنا كعب رضي الله عنه : من قال حين يسمع الرّعد : سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته - ثلاثاً - عوفي من ذلك الرّعد ، فقلنا فعوفينا » .
قطع التّسبيح :
25 - الفقهاء متّفقون على أنّ المسبِّح وغيره من الذّاكرين ، أو التّالين لكتاب اللّه ، إذا سمعوا المؤذّن - وهو يؤذّن أذاناً مسنوناً - يقطعون تسبيحهم ، وذكرهم وتلاوتهم ، ويجيبون المؤذّن . وهو مندوب عند الجمهور . وهناك قول عند الحنفيّة بالوجوب .
ثواب التّسبيح :
26 - ثواب التّسبيح عظيم ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من قال سبحان اللّه وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّتْ خطاياه ، ولو كانت مثل زبد البحر » وفي الباب أحاديث كثيرة .(154/4)
تسنيم *
التّعريف :
1- التسنيم في اللغة : رفع الشيء ، يقال سنم الإناء : إذا ملأه حتى صار الحب فوقه كالسنام ، وكل شيء علا شيئاً فقد تسنمه . وسنام البعير والناقة : أعلى ظهرها ، والجمع أسنمة ، وفي الحديث : « نساء على رؤوسهن كأَسْنِمَة البُخْت » . وقوله تعالى { ومِزَاجُه مِنْ تَسْنِيم } قالوا : هو ماء في الجنة ، سمي بذلك لأنه يجري فوق الغرف والقصور .
والتسنيم في اصطلاح الفقهاء : رفع القبر عن الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلاً .
وفي النظم المستعذب : التنسيم أن يجعل أعلى القبر مرتفعاً ، ويجعل جانباه ممسوحين مسنَدين ، مأخوذ من سنام البعير . ويقابله تسطيح القبر ، وهو : أن يجعل منبسطاً متساوي
الأجزاء ، لا ارتفاع فيه ولا انخفاض كسطح البيت .
الحكم الإجمالي :
2- لا خلاف بين الفقهاء في استحباب رفع التراب فوق القبر قدر شبر ، ولا بأس بزيادته عن ذلك قليلاً على ما عليه بعض فقهاء الحنفية ، ليعرف أنه قبر ، فيتوقى ويترحم على صاحبه . فعن جابر رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر » وعن القاسم بن محمد قال لعائشة رضي الله عنها : « اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فكشفت عن ثلاثة قبور ، لا مشرفة ولا لاطئة ، مبطوحة
ببطحاء العرصة الحمراء »
واختلفوا هل يسنم القبر أو يسطح ؟ فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه : يندب تسنيمه كسنام البعير ، لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه « رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً » وعن الحسن مثله .
وما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : « أخبرني من رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنها مسنمة عليها فلق مدر بيض »
وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة على آدم وجعل قبره مسنماً »
وكرهوا تسطيح القبر ، لأن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا ، وهو أشبه بشعار أهل البدع ،
فكان مكروهاً لذلك عندهم ، ولما روي أن « النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تربيع القبور » وذهب الشافعية إلى أنه يندب تسطيحه ( أي تربيعه ) وأنه أفضل من تسنيمه ، لما روي « أن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم قبره مسطحاً » ولا يخالف ذلك قول علي رضي الله عنه : « أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته » لأنه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار . هذا إذا دفن المسلم في دار الإسلام .
3- أما إن دفن المسلم في غير دار الإسلام ، بأن دفن في بلد الكفار أو دار حرب ، وتعذر نقله إلى دار الإسلام ، فالأولى تسوية قبره بالأرض ، وإخفاؤه أولى من إظهاره وتسنيمه خوفاً من أن ينبش فيمثل به ، وفي ذلك صيانة له عنهم .
وألحق به الأذرعي : الأمكنة التي يخاف نبشها لسرقة كفنه أو لعداوة ونحوهما .
وانظر باقي الأحكام المتعلقة بالقبر في مصطلح ( قبر ) .(155/1)
تسوية *
التّعريف :
1 - التّسوية لغةً : العدل والنّصفة ، والجور أو الظّلم ضدّ العدل ، واستوى القوم في المال مثلاً : إذا لم يفضل أحد منهم غيره في المال . وسواء الشّيء : غيره ومثله - من الأضداد - وتساوت الأمور : تماثلت ، واستوى الشّيئان وتساويا : تماثلا .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
القسم :
2 - وهو مصدر قسم الشّيء يقسمه قسماً : جَزّأه ، والقسم : نصيب الإنسان من الشّيء ويقال : قسمت الشّيء بين الشّركاء ، وأعطيت كلّ شريك قسمه .
ومنه التّقسيم والقسمة قد تكون بالتّساوي ، وقد تكون بالتّفاضل .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم التّسوية باعتبار ما يتعلّق به على الوجه الآتي :
تسوية الصّفوف في الصّلاة :
3 - اتّفق العلماء على أنّ من السّنن المؤكّدة تسوية الصّفوف في صلاة الجماعة ، بحيث لا يتقدّم بعض المصلّين على البعض الآخر ، والتّراصّ في الصّفوف ، بحيث لا يكون فيها فرجة ، للأحاديث الكثيرة الّتي وردت في الحثّ عليها : منها قوله صلى الله عليه وسلم : « سوّوا صفوفكم ، فإنّ تسوية الصّفّ من تَمام الصّلاة » وفي رواية « فإنّ تسوية الصّفوف من إقامة الصّلاة » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « أقيموا صفوفكم وتراصّوا ، فإنّي أراكم من وراء ظهري » وقوله صلى الله عليه وسلم : « لَتُسَوُّنَّ صفوفَكم أو ليخالفَنَّ اللّه بين وجوهكم » . وبيان ما تتحقّق به التّسوية في الصّفوف ينظر في مصطلح ( صلاة الجماعة ) .
تسوية الظّهر في الرّكوع :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أكمل الرّكوع هو أن ينحني المصلّي ، بحيث يستوي ظهره وعنقه ، بأن يمدّهما حتّى يصيرا كالصّحيفة الواحدة ، وينصب ساقيه وفخذيه إلى الحقو ، ولا يثني ركبتيه حتّى لا يفوت استواء الظّهر به . لأنّ ذلك ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي حميد السّاعديّ رضي الله عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كبّر جعل يديه حَذْوَ منكبيه ، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ، ثمّ هصر ظهره » وفي رواية « ثمّ حنى غير مقنّع رأسه ولا مصوّبه » وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفتتح الصّلاة بالتّكبير إلى أن قالت : وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوّبه ، ولكن بين ذلك » . وفي حديث المسيء صلاته قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم له : « فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ، وامدد ظهرك ، ومكّن ركوعك » .
قال الإمام البغويّ رحمه الله : السّنّة في الرّكوع عند عامّة العلماء : أن يضع راحتيه على ركبتيه ، ويفرّج بين أصابعه ، ويجافي مرفقيه عن جنبيه ، ويسوّي ظهره وعنقه ورأسه .
التّسوية في إعطاء الزّكاة بين الأصناف الثّمانية :
5 - اختلف العلماء في وجوب التّسوية في الزّكاة بين الأصناف الثّمانية ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز الاقتصار على صنف واحد من الأصناف الثّمانية ، وإلى جواز أن يعطيها شخصاً واحداً من الصّنف الواحد ، فلا يجب على الإمام - إن كان هو الّذي يوزّع - ولا على المالك أن يستوعب جميع الأصناف ، ولا آحاد كلّ صنف .
واستدلّوا لذلك بأدلّة منها : « قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : أعلمهم أنّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم » ففيه الأمر بردّ جملتها في الفقراء ، وهم صنف واحد ، ولم يذكر سواهم .
ثمّ أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان غير الفقراء ، وهم المؤلّفة قلوبهم : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وعلقمة بن علاقة ، وزيد الخير .
حيث قسم فيهم الذّهيبة الّتي بعث بها إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن .
قال ابن قدامة : وإنّما يؤخذ من أهل اليمن الصّدقة . وفي حديث سلمة بن صخر البياضيّ رضي الله عنه « أنّه صلى الله عليه وسلم أمر له بصدقة قومه بقوله عليه الصلاة والسلام : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك » .
لكنّهم مع ذلك يرون أنّه من الأفضل في القسمة أن يقدّم الأكثر حاجةً ، فالّذي يليه .
فعن عمر رضي الله عنه أنّه كان إذا جمع صدقات المواشي من البقر والغنم ، نظر منها ما كان منيحة اللّبن ، فيعطيها لأهل بيت واحد على قدر ما يكفيهم ، وكان يعطي العشرة للبيت الواحد ثمّ يقول : عطيّة تكفي خير من عطيّة لا تكفي .
وذهب الإمام النّخعيّ رحمه الله إلى أنّه إن كان المال كثيراً يحتمل الأصناف قسمه عليهم ، وإن كان قليلاً جاز وضعه في صنف واحد .
وذهب الشّافعيّة ، وهو قول عكرمة إلى وجوب استيعاب الأصناف الثّمانية إن كان الإمام أو نائبه هو الّذي يقسم ، فإن فقد بعض الأصناف فعلى الموجودين . وكذا يجب على المالك إن تولّى بنفسه القسمة أن يستوعب الأصناف السّبعة غير العامل إن انحصر المستحقّون في البلد ، بأن سهل عادةً ضبطهم ومعرفة عددهم . وإن لم ينحصروا فيجب إعطاء ثلاثة فأكثر من كلّ صنف ، لأنّ اللّه تعالى أضاف إليهم الزّكوات بلفظ الجمع ، وأقلّه ثلاثة .
6- وتجب التّسوية بين الأصناف الثّمانية سواء قسّم الإمام أو المالك ، وإن كانت حاجة بعضهم أشدّ ،لأنّ اللّه سبحانه وتعالى جمع بينهم بواو التّشريك ، فاقتضى أن يكونوا سواءً . « ولقوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله من الزّكاة إنّ اللّه لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصّدقات ،حتّى حكم هو فيها ،فجزّأها ثمانية أجزاء ،فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك »
7- كما يجب على الإمام أن يسوّي بين آحاد الصّنف الواحد ، إذا كانت حاجاتهم متساويةً ، لأنّ عليه التّعميم فتلزمه التّسوية ، ولأنّه نائبهم فيحرم عليه التّفضيل .(156/1)
أمّا إذا اختلفت حاجاتهم فعليه أن يراعيها .
ولا يجب على المالك التّسوية بين آحاد الصّنف الواحد لعدم انضباط الحاجات الّتي من شأنها التّفاوت ، لكن يسنّ له التّسوية إن تساوت حاجاتهم ، فإن تفاوتت استحبّ التّفاوت بقدرها .
التّسوية بين الزّوجات في القسم :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ القسم بين الزّوجات واجب على الرّجل وإن كان مريضاً أو مجبوباً أو عنّيناً ، لأنّ من مقاصد القسم الأنس ، وهو حاصل ممّن لا يطأ . فقد روت عائشة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا كان في مرضه جعل يدور على نسائه ، ويقول : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ » .
ويقسم للمريضة ، والحائض ، والنّفساء ، والرّتقاء ، والقرناء ، والمحرمة ، ومن آلى منها أو ظاهر ، والشّابّة ، والعجوز ، والقديمة ، والحديثة . لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } الآية . وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه في القسم ويقول : اللّهمّ هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك أنتَ ولا أَملك » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من كان له امرأتان ، فمال إلى إحداهما دون الأخرى ، جاء يوم القيامة وشقّه مائل » .
ويسوّي في القسم بين المسلمة والكتابيّة لما ذكرنا من الدّلائل من غير فضل ، ولأنّهما يستويان في سبب وجوب القسم وهو النّكاح ، فيستويان في القسم .
وتفصيل القسم بين الزّوجات في الحضر والسّفر ، وفي بدء القسم ، وما يختصّ به العروس عند الدّخول وغير ذلك ، يرجع فيه إلى مصطلح ( القسم بين الزّوجات ) .
التّسوية بين المتخاصمين في التّقاضي :
9 - اتّفق الفقهاء أنّ على القاضي العدل بين الخصمين في كلّ شيء من المجلس ، والخطاب ، واللّحظ ، واللّفظ ، والإشارة ، والإقبال ، والدّخول عليه ، والإنصات إليهما ، والاستماع منهما ، والقيام لهما ، وردّ التّحيّة عليهما ، وطلاقة الوجه لهما ، للأحاديث الكثيرة الّتي ثبتت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك منها :
قوله صلى الله عليه وسلم : « من ابتلي بالقضاء بين المسلمين ، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر » وفي رواية : « فَلْيُسَوِّ بينهم في النّظر والمجلس والإشارة » .
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه" أن آسِ بين النّاس في وجهك وعدلك ومجلسك ، حتّى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ".
ولأنّ مخالفة ذلك يوهم الخصم الآخر ميل القاضي إلى خصمه ، فيضعفه ذلك عن القيام بحجّته ، ولا يسارّ أحدهما دون الآخر ، ولا يلقّنه حجّته ، ولا يضحك في وجهه ، لأنّ في ذلك كلّه مخالفةً للمساواة المطلوبة .
ويشمل هذا الشّريف والوضيع والأب والابن ، والصّغير والكبير والرّجل والمرأة . كما اتّفقوا على تقديم الأوّل فالأوّل ، إذا حضر القاضي خصوم وازدحموا ، لأنّ الحقّ للسّابق ، فإن جهل الأسبق منهم ، أو جاءوا معاً أقرع بينهم ، وقدّم من خرجت قرعته ، إذ لا مرجّح إلاّ بها . فإن حضر مسافرون ومقيمون : فإن كان المسافرون قليلاً ، بحيث لا يضرّ تقديمهم على المقيمين قدّمهم ، لأنّهم على جناح السّفر ، ولئلاّ يتضرّروا بالتّخلّف .
وكذلك النّسوة يقدّمن على الرّجال طلباً لسترهنّ ما لم يكثر عددهنّ أيضاً .
10 - ولكنّهم اختلفوا في حكم تسوية المسلم مع خصمه الكافر .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة : إلى وجوب المساواة بينهما في كلّ الأمور المذكورة آنفاً ، لأنّ تفضيل المسلم على الكافر ورفعه عليه في مجلس القضاء كسر لقلبه ، وترك للعدل الواجب التّطبيق بين النّاس جميعاً .
وذهب الشّافعيّة في الرّاجح عندهم ، والحنابلة : إلى جواز رفع المسلم على خصمه الكافر ، لما روي عن عليّ رضي الله عنه من أنّه« خرج إلى السّوق ، فوجد درعه مع يهوديّ ، فعرفها فقال : درعي سقطت وقت كذا فقال اليهوديّ : درعي وفي يدي بيني وبينك قاضي المسلمين . فارتفعا إلى شريح رضي الله عنه ، فلمّا رآه شريح قام من مجلسه ، وأجلسه في موضعه ، وجلس مع اليهوديّ بين يديه ، فقال عليّ : إنّ خصمي لو كان مسلماً لجلست معه بين يديك ، ولكنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تساووهم في المجالس » اقض بينيّ وبينه يا شريح . والحديث : « الإسلام يعلو ولا يعلى » .
التّسوية بين الأولاد في العطيّة :
11 - اختلف العلماء في وجوب التّسوية بين الأولاد في العطيّة .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّسوية بينهم في العطايا مستحبّة ، وليست واجبةً . لأنّ الصّدّيق رضي الله عنه فضّل عائشة رضي الله عنها على غيرها من أولاده في هبة ، وفضّل عمر رضي الله عنه ابنه عاصماً بشيء من العطيّة على غيره من أولاده .
ولأنّ في قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما : « فأشهد على هذا غيري » ما يدلّ على الجواز .
وذهب الحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفيّة ، وهو قول ابن المبارك ، وطاووس ، وهو رواية عن الإمام مالك رحمه الله : إلى وجوب التّسوية بين الأولاد في الهبة .(156/2)
فإن خصّ بعضهم بعطيّة ، أو فاضل بينهم فيها أثم ، ووجبت عليه التّسوية بأحد أمرين : إمّا ردّ ما فضّل به البعض ، وإمّا إتمام نصيب الآخر ، لخبر الصّحيحين عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : « وهبني أبي هبةً . فقالت أمّي عمرة بنت رواحة رضي الله عنها : لا أرضى حتّى تشهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : إنّ أمّ هذا أعجبها أن أشهدك على الّذي وهبت لابنها ، فقال صلى الله عليه وسلم يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ قال : نعم . قال : كلّهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : لا . قال : فأرجعه » . وفي رواية قال : « اتّقوا اللّه ، واعدلوا بين أولادكم » وفي رواية أخرى « لا تشهدني على جور . إنّ لبنيك من الحقّ أن تعدل بينهم » وفي رواية : « فأشهد على هذا غيري » . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سوّوا بين أولادكم في العطيّة ، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النّساء على الرّجال » .
12 - واختلفوا كذلك في معنى التّسوية بين الذّكر والأنثى من الأولاد .
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ معنى التّسوية بين الذّكر والأنثى من الأولاد : العدل بينهم في العطيّة بدون تفضيل ، لأنّ الأحاديث الواردة في ذلك لم تفرّق بين الذّكر والأنثى .
وذهب الحنابلة ، والإمام محمّد بن الحسن من الحنفيّة ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة إلى أنّ المشروع في عطيّة الأولاد القسمة بينهم على قدر ميراثهم : أي للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قسم لهم في الإرث هكذا ، وهو خير الحاكمين ، وهو العدل المطلوب بين الأولاد في الهبات والعطايا .
وإن سوّى بين الذّكر والأنثى ، أو فضّلها عليه ، أو فضّل بعض البنين أو بعض البنات على بعض ، أو خصّ بعضهم بالوقف دون بعض ، فقال أحمد في رواية محمّد بن الحكم : إن كان على طريق الأثرة فأكرهه ، وإن كان على أنّ بعضهم له عيال وبه حاجة يعني فلا بأس به .
وعلى قياس قول الإمام أحمد : لو خصّ المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه تحريضاً لهم على طلب العلم ، أو ذا الدّين دون الفسّاق ، أو المريض ، أو من له فضل من أجل فضيلته فلا بأس .
التّسوية في الشّفعة بين المستحقّين :
13 - اختلف الفقهاء في التّسوية في الشّفعة بين المستحقّين لها .
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّهم يأخذون بالشّفعة على قدر حصصهم من الملك ، لأنّه حقّ مستحقّ بالملك على قدره ، فلو كانت أرض بين ثلاثة من الشّركاء مثلاً : لواحد نصفها ، ولآخر ثلثها ، ولثالث سدسها ، فباع الأوّل - وهو صاحب النّصف - حصّته أخذ الثّاني سهمين ، والثّالث سهماً واحداً .
وذهب الحنفيّة ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة ، واختاره جمع من المتأخّرين : إلى أنّ الشّركاء يقتسمون الشّقص على قدر رءوسهم ، وعلى هذا يقسم النّصف في المثال السّابق بين الشّريكين سواءً بسواء ، لأنّ سبب الشّفعة هو أصل الشّركة ، وهم مستوون فيها ، فيجب التّسوية بينهم في اقتسام المشفوع فيه .
التّسوية بين النّاس في المرافق العامّة :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرافق العامّة - من الشّوارع والطّرق ، وأفنية الأملاك ، والرّحاب بين العمران ، وحريم الأمصار ، ومنازل الأسفار ، ومقاعد الأسواق ، والجوامع والمساجد ، والأنهار الّتي أجراها اللّه سبحانه وتعالى ، والعيون الّتي أنبع اللّه ماءها ، والمعادن الظّاهرة وهي الّتي خرجت بدون عمل النّاس كالملح والماء والكبريت والكحل وغيرها والكلأ - اتّفقوا على أنّ هذه الأشياء من المنافع المشتركة بين النّاس ، فهم فيها سواسية ، فيجوز الانتفاع بها للمرور والاستراحة والجلوس والمعاملة والقراءة والدّراسة والشّرب والسّقاية ، وغير ذلك من وجوه الانتفاع .
ولكن لا يجوز اقتطاعها لأحد من النّاس ، ولا احتجازها دون المسلمين ، لأنّ فيه ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم . ويكون الحقّ فيها للسّابق حتّى يرتحل عنها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « مِنًى مُنَاخ من سبق إليها » . ويشترط عدم الإضرار ، فإذا تضرّر به النّاس لم يجز ذلك بأيّ حال ، لقوله صلى الله عليه وسلم « لا ضرر ولا ضرار » .
تسوية القبر :
15 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى استحباب رفع القبر مقدار شبر من الأرض ، أو أكثر منه بقليل إن لم يخش نبشه من كافر أو نحوه ، وذلك ليعلم أنّه قبر فيزار ، ويترحّم على صاحبه ، ويحترم .
واستدلّوا بما صحّ من أنّ قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم رفع نحو شبر فعن جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر » .
وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر رضي الله عنهم قال : « قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمّه اكشفي لي عن قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فكشفت لي عن ثلاثة قبور ، لا مشرفةً ولا لاطئةً مبطوحةً ببطحاء العرصة الحمراء » .
وعن إبراهيم النّخعيّ رحمه الله أنّه قال : أخبرني من رأى قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنّها مسنّمة .
وروي أيضاً أنّ عبد اللّه بن عبّاس رضي الله عنهما لمّا مات بالطّائف ، صلّى عليه محمّد بن الحنفيّة رحمه الله ، وكبّر عليه أربعاً ، وجعل له لحداً ، وأدخله القبر من قبل القبلة ، وجعل قبره مسنّماً ، وضرب عليه فسطاطاً .(156/3)
ولكنّ الصّحيح عند الشّافعيّة أنّ تسطيح القبر وتسويته بالأرض أولى من تسنيمه ، لما صحّ عن القاسم بن محمّد من « أنّ عمّته عائشة رضي الله عنها كشفت له عن قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه فإذا هي مسطّحة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء » .
16 - ويكره عند الجمهور ما زاد عن مقدار الشّبر زيادةً كبيرةً ، إن لم يكن لحاجة كخوف نبش قبر المؤمن من نحو كافر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه « لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته » . والمشرف ما رفع كثيراً بدليل « قول القاسم في صفة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه : لا مشرفة ولا لاطئة » .(156/4)
تسويد *
التّعريف :
1- التّسويد مصدر سوّد ، يقال : سوّد تسويداً . والتّسويد يأتي بمعنى التّلوين بالسّواد - وهو ضدّ البياض - يقال : سوّد الشّيء أي : جعله أسود .
ويأتي التّسويد من السّيادة ، فيكون بمعنى : التّشريف ، يقال : سوّده قومه تسويداً أي : جعلوه سيّداً عليهم . وفي المصباح : ساد يسود سيادةً ، والاسم السّؤدد ، وهو : المجد والشّرف ، فهو سيّد والأنثى سيّدة .
والسّيّد : المتولّي للسّواد أي الجماعة ، وينسب إلى ذلك فيقال : سيّد القوم . ولمّا كان من شرط المتولّي للجماعة أن يكون مهذّب النّفس ، قيل لكلّ من كان فاضلاً في نفسه : سيّد . ويطلق السّيّد على الرّبّ ، والمالك ، والحليم ، ومحتمل أذى قومه ، والزّوج ، والرّئيس ، والمقدّم . ويأتي التّسويد - أيضاً - لنوع من المداواة ، قال في اللّسان نقلاً عن أبي عبيد : ويقال : سوّد الإِبل تسويداً : إذا دقّ المِسح البالي من شعر فداوى به أدبارها .
والتّسويد في الاصطلاح يريد به الفقهاء المعنيين الأوّلين غالباً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّبييض :
2 - التّبييض : مصدر بيّض ، يقال : بيّض الشّيء أي جعله أبيض ، ضدّ سوّده .
والبياض ضدّ السّواد ، والبيّاض : الرّجل الّذي يبيّض الثّياب . والمبيِّضة : أصحاب البياض ، وهم فرقة من الثّنويّة سمّوا كذلك لتبييضهم الثّياب ، مخالفةً للمسوّدة من العبّاسيّين .
ب - التّعظيم :
3 - التّعظيم : مصدر عظّم ، يقال : عظّمه تعظيماً أي : كبّره وفخّمه .
والتّعظيم يكون باعتبار الوصف والكيفيّة ، ويقابله التّحقير فيهما بحسب المنزلة والرّتبة .
ج - التّفضيل :
4 - التّفضيل : مصدر فضّل ، يقال : فضّلته على غيره تفضيلاً أي : صيّرته أفضل منه ، وفضّله أي مزّاه . والتّفضيل دون التّسويد - بمعنى السّيادة - لكنّه سبب له وطريق إليه .
د - التّكريم :
5 - التّكريم : أن يوصل إلى الإنسان نفع لا يلحقه فيه غضاضة ، أو أن يجعل ما يوصل إلى الإنسان شيئاً كريماً أي شريفاً . وهو مصدر كرّم ، يقال : كرّمه تكريماً أي عظّمه ونزّهه . والإكرام والتّكريم بمعنًى ، والكرم ضدّ اللّؤم .
الحكم التّكليفيّ :
6 - يختلف حكم التّسويد باختلاف معناه ومبحثه الفقهيّ .
فالتّسويد يأتي بمعنى : السّيادة ، ويبحث حكمه في مواطن منها : تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة وفي غيرها ، وتسويد غيره صلى الله عليه وسلم وتسويد المنافق . ويأتي التّسويد بمعنى : التّلوين بالسّواد ، ويبحث حكمه في مواطن منها : التّعزير ، والخضاب ، والحداد ، والتّعزية ، واللّباس والعمامة ، وشعر المبيع .
أوّلاً
التّسويد من السّيادة
تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
اختلف الفقهاء في حكم تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة ، وحكم تسويده صلى الله عليه وسلم في غير الصّلاة .
أ - في الصّلاة :
7 - ورد لفظ الصّلوات الإبراهيميّة في كتب الحديث والفقه مأثوراً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير ذكر " سيّدنا " قبل اسمه عليه الصلاة والسلام .
وأمّا إضافة لفظ " سيّدنا " فرأى من لم يقل بزيادتها الالتزام بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم لأنّ فيه امتثالاً لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من غير زيادة في الأذكار والألفاظ المأثورة عنه ، كالأذان والإقامة والتّشهّد والصّلاة الإبراهيميّة .
وأمّا بخصوص زيادة " سيّدنا " في الصّلاة الإبراهيميّة بعد التّشهّد ، فقد ذهب إلى استحباب ذلك بعض الفقهاء المتأخّرين كالعزّ بن عبد السّلام والرّمليّ والقليوبيّ والشّرقاويّ من الشّافعيّة ، والحصكفيّ وابن عابدين من الحنفيّة متابعةً للرّمليّ الشّافعيّ ، كما صرّح باستحبابه النّفراويّ من المالكيّة . وقالوا : إنّ ذلك من قبيل الأدب ، ورعاية الأدب خير من الامتثال ، كما قال العزّ بن عبد السّلام .
ب - في غير الصّلاة :
8 - أجمع المسلمون على ثبوت السّيادة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى عَلَمِيَّتِه في السّيادة . قال الشّرقاويّ : فلفظ " سيّدنا " علم عليه صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك خالف بعضهم وقالوا : إنّ لفظ السّيّد لا يطلق إلاّ على اللّه تعالى ، لما روي عن أبي نضرة عن مطرّف قال : قال أبي : « انطلقت في وفد بني عامر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيّدنا ، فقال : السّيّد اللّه تبارك وتعالى . قلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً ، قال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يسخر بكم الشّيطان » . وفي حديث آخر
« أنّه جاءه رجل فقال : أنت سيّد قريش ، فقال صلى الله عليه وسلم : السّيّد اللّه » .
قال ابن الأثير في النّهاية : أي هو الّذي يحقّ له السّيادة ، كأنّه كره أن يحمد في وجهه ، وأحبّ التّواضع . ومنه الحديث لما قالوا : أنت سيّدنا ، قال : « قولوا بقولكم » أي ادعوني نبيّاً ورسولاً كما سمّاني اللّه ، ولا تسمّوني سيّداً كما تسمّون رؤساءكم ، فإنّي لست كأحدهم ممّن يسودكم في أسباب الدّنيا .
وأضاف ابن مفلح إلى ما سبق : والسّيّد يطلق على الرّبّ ، والمالك ، والشّريف ، والفاضل ، والحكيم ، ومتحمّل أذى قومه ، والزّوج ، والرّئيس ، والمقدّم .(157/1)
وقال أبو منصور : كره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمدح في وجهه وأحبّ التّواضع للّه تعالى ، وجعل السّيادة للّذي ساد الخلق أجمعين . وليس هذا بمخالف لقوله لسعد بن معاذ رضي الله عنه حين قال لقومه الأنصار : « قوموا إلى سيّدكم » أراد أنّه أفضلكم رجلاً وأكرمكم . وأمّا صفة اللّه جلّ ذِكْره بالسّيّد فمعناه : أنّه مالك الخلق والخلق كلّهم عبيده - أي فلا يطلق لفظ السّيّد بهذا المعنى على غير اللّه تعالى - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر » أراد أنّه أوّل شفيع ، وأوّل من يفتح له باب الجنّة ، قال ذلك إخباراً عمّا أكرمه اللّه به من الفضل والسّودد ، وتحدّثاً بنعمة اللّه عنده ، وإعلاماً منه ، ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه ، ولهذا أتبعه بقوله : « ولا فخر » أي أنّ هذه الفضيلة الّتي نلتها كرامةً من اللّه تعالى ، لم أنلها من قبل نفسي ، ولا بلغتها بقوّتي ، فليس لي أن أفتخر بها .
وقال السّخاويّ : إنكاره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم وكراهةً منه أن يحمد ويمدح مشافهةً ، أو لأنّ ذلك كان من تحيّة الجاهليّة ، أو لمبالغتهم في المدح ، وقد صحّ قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيّد ولد آدم » وقوله للحسن رضي الله عنه : « إنّ ابني هذا سيّد » وورد قول سهل بن حنيف رضي الله عنه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يا سيّدي » في حديث عند النّسائيّ في عمل اليوم واللّيلة ، وقول ابن مسعود : " اللّهمّ صلّ على سيّد المرسلين ".
وفي كلّ هذا دلالة واضحة وبراهين لائحة على جواز ذلك ، والمانع يحتاج إلى إقامة دليل ، سوى ما تقدّم ، لأنّه لا ينهض دليلاً مع الاحتمالات السّابقة .
تسويد غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
9 - اختلف الفقهاء في جواز إطلاق لفظ السّيّد على غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
فذهب جمهورهم إلى جواز إطلاق لفظ السّيّد على غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم واستدلّوا بقول اللّه تعالى في يحيى عليه السلام : { وَسَيِّدَاً وَحَصُورَاً وَنَبِيَّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } أي أنّه فاق غيره عفّةً ونزاهةً عن الذّنوب . وقوله عزّ وجلّ في امرأة العزيز : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَها لَدَى الباب } أي زوجها وبما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل : من السّيّد ؟ قال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قالوا : فما في أمّتك من سيّد ؟ قال : بلى ، من آتاه اللّه مالاً ، ورزق سماحةً ، فأدّى شكره ، وقلّت شكايته في النّاس » وبقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار وبني قريظة : « قوموا إلى سيّدكم » يعني سعد بن معاذ . وقوله صلى الله عليه وسلم في الحسن بن عليّ رضي الله عنهما - كما ورد في الصّحيحين - « إنّ ابني هذا سيّد ، ولعلّ اللّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » وكذلك كان. وقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار : « من سيّدكم ؟ قالوا : الجدّ بن قيس على أنّا نبخّله ، قال صلى الله عليه وسلم : وأيّ داء أدوى من البخل » .
وبقوله صلى الله عليه وسلم :« كلّ بني آدم سيّد ، فالرّجل سيّد أهله ،والمرأة سيّدة بيتها ».
ومنه حديث أمّ الدّرداء رضي الله عنها : حدّثني سيّدي أبو الدّرداء .
وبقول عمر رضي الله عنه لمّا سئل : من الّذي إلى جانبك ، فأجاب : هذا سيّد المسلمين أبيّ بن كعب رضي الله عنه .
وقالوا : إنّه لم يرد في القرآن الكريم ولا في حديث متواتر أنّ السّيّد من أسماء اللّه تعالى ، ولأنّ إطلاق لفظ السّيّد على اللّه عزّ وجلّ لكونه سبحانه مالك الخلق أجمعين ، ولا مالك لهم سواه ، وإطلاق هذا اللّفظ على غير اللّه تعالى لا يكون بهذا المعنى الجامع الكامل ، بل بمعان قاصرة عن ذلك .
وقال بعضهم : إنّ لفظ السّيّد لا يطلق إلاّ على اللّه سبحانه وتعالى ، لما ورد في حديث مطرّف الّذي سبق ذكره . وقال الخطّابيّ : لا يقال السّيّد ولا المولى على الإطلاق من غير إضافة إلاّ في صفة اللّه تعالى .
وقال بعضهم : إنّ لفظ السّيّد يجوز إطلاقه على مالك العبد أو مالكته ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا يقولنّ أحدكم : عبدي وأمتي ، ولا يقولنّ المملوك : ربّي وربّتي ، وليقل المالك : فتاي وفتاتي . وليقل المملوك : سيّدي وسيّدتي ، فإنّهم المملوكون ، والرّبّ : اللّه تعالى » قال صاحب عون المعبود : كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ، ويكره أن يخاطب أحداً بلفظه أو كتابته بالسّيّد ، ويتأكّد هذا إذا كان المخاطب غير تقيّ .
من يستحقّ التّسويد :
10 - لفظ السّيّد مشتقّ من السّؤدد ، وهو : المجد والشّرف ،ويطلق على المتولّي للجماعة. ومن شرطه وشأنه أن يكون مهذّب النّفس شريفاً . وعلى من قام به بعض خصال الخير من الفضل والشّرف والعبادة والورع والحلم والعقل والنّزاهة والعفّة والكرم ونحو ذلك .
إطلاق لفظ السّيّد على المنافق :
11 - المنافق ليس من هذه الخصال في شيء ، لأنّه كاذب مدلّس خائن ، لا توافق سريرته علانيته . وفي العقيدة : يبطن الكفر ويظهر الإسلام . وقد ورد النّهي عن إطلاق لفظ السّيّد على المنافق فيما روي عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا للمنافق سيّد ، فإنّه إن يك سيّدكم فقد أسخطتم ربّكم عزّ وجلّ »(157/2)
وذلك لأنّ السّيّد هو المستحقّ للسّؤدد ، أي للأسباب العالية الّتي تؤهّله لذلك ، فأمّا المنافق فإنّه موصوف بالنّقائص ، فوصفه بذلك وضع له في مكان لم يضعه اللّه فيه ، فلا يبعد أن يستحقّ واضعه بذلك سخط اللّه . وقيل معناه : إن يك سيّداً لكم فتجب عليكم طاعته ، فإذا أطعتموه في نفاق فقد أسخطتم ربّكم . وقال ابن الأثير : لا تقولوا للمنافق سيّد ، فإنّه إن كان سيّدكم وهو منافق فحالكم دون حاله ، واللّه لا يرضى لكم ذلك .
ثانياً
التّسويد من السّواد
أ - التّسويد بالخضاب :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ خضاب الرّجل بالسّواد مكروه في غير الجهاد في الجملة . وللحنفيّة والمالكيّة في ذلك تفصيل :
قال ابن عابدين : يكره الخضاب بالسّواد أي لغير الحرب ، قال في الذّخيرة : أمّا الخضاب بالسّواد للغزو - ليكون أهيب في عين العدوّ - فهو محمود بالاتّفاق .
وإن كان ليزيّن نفسه للنّساء فمكروه ، وعليه عامّة المشايخ . وبعضهم جوّزه بلا كراهة . روي عن أبي يوسف أنّه قال : كما يعجبني أن تتزيّن لي يعجبها أن أتزيّن لها .
وقال المالكيّة : الخضاب بالسّواد إذا كان للتّغرير فهو حرام . كمن أراد نكاح امرأة فصبغ شعر لحيته الأبيض ، بالسّواد . وإن كان للجهاد حتّى يوهم العدوّ الشّباب ندب .
وإن كان للتّشابّ كره . وإن كان مطلقاً فقولان : بالكراهة والجواز .
وقال الشّافعيّة : إنّ الخضاب بالسّواد حرام في الجملة ، ولهم في ذلك تفصيل وخلاف .
قال النّوويّ في المجموع : اتّفقوا على ذمّ خضاب الرّأس واللّحية بالسّواد ، ثمّ قال : قال : الغزاليّ في الإحياء ، والبغويّ في التّهذيب ، وآخرون من الأصحاب : هو مكروه .
وظاهر عبارتهم أنّه مكروه كراهة تنزيه ، والصّحيح - بل الصّواب - أنّه حرام .
وممّن صرّح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصّلاة بالنّجاسة ، قال : إلاّ أن يكون في الجهاد ، وقال في آخر كتاب الأحكام السّلطانيّة يمنع المحتسب النّاس من خضاب الشّيب بالسّواد إلاّ المجاهد ، ودليل تحريمه حديث جابر رضي الله عنه قال : « أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهما يوم فتح مكّة ورأسه ولحيته كالثّغامة بياضاً فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : غيّروا هذا ، واجتنبوا السّواد » ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يكون قوم يخضّبون في آخر الزّمان بالسّواد كحواصل الحمام ، لا يريحون رائحة الجنّة » ، ولا فرق في المنع من الخضاب بالسّواد بين الرّجل والمرأة .. هذا مذهبنا ، وحكي عن إسحاق بن راهويه أنّه رخّص فيه للمرأة تتزيّن به لزوجها .
وقال النّوويّ في روضة الطّالبين : خضاب المرأة بالسّواد إن كانت خليّةً من الزّوج وفعلته فهو حرام ، وإن كانت زوجةً وفعلته بإذنه فجائز على المذهب ،وقيل : وجهان كوصل الشّعر. وقال الرّمليّ : يحرم على المرأة الخضاب بالسّواد ، فإن أذن لها زوجها في ذلك جاز ، لأنّ له غرضاً في تزيّنها له ، كما في الرّوضة وأصلها ، وهو الأوجه .
هذا في خضب الرّجل والمرأة الشّعر بالسّواد ، أمّا خضبهما الشّعر بغير السّواد ، كالحمرة والصّفرة مثلاً ، وخضبهما غير الشّعر كاليدين والرّجلين ففيه تفصيل يذكر في موطنه .
وقال الحافظ في الفتح : إنّ من العلماء من رخّص في الاختضاب بالسّواد مطلقاً ، ومنهم من رخّص فيه للرّجال دون النّساء . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( اختضاب ) .
ب - لبس السّواد في الحداد :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها لبس السّواد من الثّياب ... ولا يجب عليها ذلك ، بل لها أن تلبس غيره .
واختلف فقهاء الحنفيّة في المدّة الّتي يجوز لها أن تلبس فيها السّواد ، فقال بعضهم : لا تجاوز ثلاثة أيّام . ولكنّ فقهاء المذهب - ومنهم ابن عابدين - حملوا ذلك على ما تصبغه الزّوجة بالسّواد وتلبسه تأسّفاً على زوجها ، أمّا ما كان مصبوغاً بالسّواد قبل موت زوجها ، فيجوز لها أن تلبسه مدّة الحداد كلّها .ومنع الحنفيّة لبس السّواد في الحداد على غير الزّوج.
وقال المالكيّة : إنّ المحدّ يجوز لها أن تلبس الأسود ، إلاّ إذا كانت ناصعة البياض ، أو كان الأسود زينة قومها .
وقال القليوبيّ من الشّافعيّة : إذا كان الأسود عادة قومها في التّزيّن به حرم لبسه ، ونقل النّوويّ عن الماورديّ أنّه أورد في " الحاوي " وجهاً يلزمها السّواد في الحداد .
ج - لبس السّواد في التّعزية :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ تسويد الوجه حزناً على الميّت - من أهله أو من المعزّين لا يجوز - لما فيه من إظهار للجزع وعدم الرّضا بقضاء اللّه وعلى السّخط من فعله ، ممّا ورد النّهي عنه في الأحاديث . وتسويد الثّياب للتّعزية مكروه للرّجال ، ولا بأس به للنّساء ، أمّا صبغ الثّياب أسود أو أكهب تأسّفاً على الميّت فلا يجوز على التّفصيل السّابق .
د - السّواد في اللّباس والعمامة :
15 - يندب لبس السّواد عند الحنفيّة ، قال ابن عابدين : ندب لبس السّواد ، لأنّ محمّداً ذكر في السّير الكبير في باب الغنائم حديثاً يدلّ على أنّ لبس السّواد مستحبّ .
أمّا الصّبغ بالأسود ، ولبس المصبوغ به فنقل عن أبي حنيفة : أنّه لا بأس به .
وقال الشّافعيّة : يندب لإمام الجمعة أن يزيد في حسن الهيئة والعمّة والارتداء ، وترك لبس السّواد له أولى من لبسه ، إلاّ إن خشي مفسدةً تترتّب على تركه من سلطان أو غيره ،(157/3)
وقال ابن عبد السّلام في فتاويه : المواظبة على لبسه بدعة ، فإن منع الخطيب أن يخطب إلاّ به فليفعل وقالوا : نقل أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبس العمامة البيضاء والعمامة السّوداء » ، ولكنّ الأفضل في لونها البياض لعموم الخبر الصّحيح الآمر بلبس البياض ، وأنّه خير الألوان في الحياة والموت .
وقال الحنابلة : يباح السّواد ولو للجند ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « دخل مكّة عام الفتح وعليه عمامة سوداء » .
هـ - تسويد الوجه في التّعزير :
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز في التّعزير تسخيم الوجه ، أي دهن وجه المعزّر بالسّخام ، وهو السّواد الّذي يتعلّق بأسفل القدر ومحيطه من كثرة الدّخان .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز تسويد الوجه في التّعزير ، لأنّ الإمام يجتهد في جنس ما يعزّر به وفي قدره ، ويفعل بكلّ معزّر ما يليق به وبجنايته ، مع مراعاة التّرتيب والتّدريج ، فلا يرقى لمرتبة وهو يرى ما دونها كافياً .(157/4)
تشبيك *
التّعريف :
1 - التّشبيك في اللّغة : المداخلة ، فيقال لكلّ متداخلين أنّهما مشتبكان . ومنه : شبّاك الحديد ، وتشبيك الأصابع - وهو المراد هنا - لدخول بعضها في بعض . والشّبك : الخلط والتّداخل ، فيقال : شبك الشّيء يشبكه شبكا : إذا خلطه وأنشب بعضه في بعض .
وتشبيك الأصابع لا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا ، قال ابن عابدين : تشبيك الأصابع : أن يدخل الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الأخرى .
الحكم الإجماليّ :
2 - أجمع الفقهاء على أنّ تشبيك الأصابع في الصّلاة مكروه ، لما روي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبّك أصابعه في الصّلاة ، ففرّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه » . وقال ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه « تلك صلاة المغضوب عليهم »
وأمّا تشبيكها في المسجد في غير صلاة ، وفي انتظارها أي حيث جلس ينتظرها ، أو ماشيا إليها ، فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة التّشبيك حينئذ ، لأنّ انتظار الصّلاة هو في حكم الصّلاة لحديث الصّحيحين « لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصّلاةُ تَحْبِسُه » ولما روى أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا « إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامداً إلى المسجد ، فلا يشبّك بين يديه فإنّه في صلاة » وما روى أبو سعيد الخدريّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبّكنّ ، فإنّ التّشبيك من الشّيطان ، وإنّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتّى يخرج منه »
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول
« إذا توضّأ أحدكم ثمّ خرج عامدا إلى الصّلاة ، فلا يشبّكنّ بين يديه ، فإنّه في صلاة » .
3 - وقد اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد ، فقيل : إنّ النّهي عنه لما فيه من العبث . وقيل : لما فيه من التّشبّه بالشّيطان . وقيل : لدلالة الشّيطان على ذلك . وفي حاشية الطّحاويّ على مراقي الفلاح : حكمة النّهي عن التّشبيك : أنّه من الشّيطان ، وأنّه يجلب النّوم ، والنّوم من مظانّ الحدث ، ولما نبّه عليه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه تلك صلاة المغضوب عليهم فكره ذلك لما هو في حكم الصّلاة ، حتّى لا يقع في المنهيّ عنه . وكراهته في الصّلاة أشدّ .
ولا يكره عند الجمهور التّشبيك بعد الفراغ ولو كان في المسجد ، لحديث ذي اليدين رضي الله عنه الّذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه - قال « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العَشِيّ - قال ابن سيرين : سمّاها أبو هريرة ، ولكن نسيت أنا - قال : فصلّى بنا ركعتين ، ثمّ سلّم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبّك بين أصابعه ، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفّه اليسرى ، وخَرَجَتِ السُّرْعانُ من أبواب المسجد ، فقالوا : قُصِرت الصّلاة ، وفي القوم
أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه ، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال : يا رسول اللّه أنسيتَ أم قصرت الصّلاة ؟ قال لم أنس ولم تقصر فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدّم فصلّى ما ترك ، ثمّ سلّم ، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ثمّ رفع رأسه وكبّر ، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده - أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر . فربّما سألوه : ثمّ سلّم ؟ فيقول : نبّئت أنّ عمران بن حصين قال : ثمّ سلّم » .
ولا بأس به عند المالكيّة في غير صلاة حتّى ولو في المسجد ، لأنّ كراهته عندهم إنّما هي في الصّلاة فقط ، إلّا أنّه خلاف الأولى على نحو ما ورد بالشّرح الكبير وجواهر الإكليل . وفي مواهب الجليل ما نصّه : وأمّا بالنّسبة لغير الصّلاة فالتّشبيك لا بأس به حتّى في المسجد . قال ابن عرفة : وسمع ابن القاسم - أي من مالك - : لا بأس بتشبيك الأصابع يعني في المسجد في غير صلاة . وأومأ داود بن قيس ليد مالك مشبّكاً أصابعه به - أي بالمسجد - ليطلقه وقال : ما هذا ؟ فقال مالك : إنّما يكره في الصّلاة . وقال ابن رشد : صحّ في حديث ذي اليدين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه في المسجد .
4 - وأمّا تشبيكها خارج الصّلاة فيما ليس من توابعها : بأن لم يكن في حال سعي إليها ، أو جلوس في المسجد لأجلها ، فإن كان لحاجة نحو إراحة الأصابع - وليس لعبثٍ بل لغرض صحيح - فإنّه في هذه الحالة لا يكره عند الحنفيّة ، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً » وشبّك بين أصابعه . فإنّه لإفادة تمثيل المعنى ، وهو التّعاضد والتّناصر بهذه الصّورة الحسّيّة .
فلو شبّك لغير حاجة على سبيل العبث كره تنزيها . وفي حاشية الشبراملسي من الشّافعيّة : أنّه إذا جلس في المسجد لا للصّلاة بل لغيرها ، كحضور درس أو كتابة ، فلا يكره ذلك في حقّه لأنّه لم يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلاة . وأمّا إذا انتظرهما معا فينبغي الكراهة ، لأنّه يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلاة . وأمّا المالكيّة فقد رأوا كراهة التّشبيك للمصلّي خاصّة ولو في غير مسجد ، ولا بأس به عندهم في غير الصّلاة ولو في المسجد ، لقول مالك : يكره في الصّلاة حين أومأ داود بن قيس ليده مشبّكاً أصابعه ليطلقه وقال : ما هذا ؟ .
5 - والتّشبيك حال خطبة الجمعة يكره عند غير المالكيّة من الأئمّة ، لأنّ مستمع الخطبة في انتظار الصّلاة ، فهو كمن في الصّلاة لما سبق .(158/1)
وعند المالكيّة : غير مكروه ، لأنّ الكراهة عندهم في الصّلاة فقط ولو كان في المسجد ، وإن كان هذا هو خلاف الأولى كما تقدّم .(158/2)
تشبّه *
التّعريف :
1 - التّشبّه لغة : مصدر تشبّه ، يقال : تشبّه فلان : بفلان إذا تكلّف أن يكون مثله والمشابهة بين الشّيئين : الاشتراك بينهما في معنى من المعاني ، ومنه : أشبه الولد أباه : إذا شاركه في صفة من صفاته . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - منها : الاتّباع والتّأسّي والتّقليد وقد تقدّم الكلام فيها تحت عنوان : ( اتّباع ) .
3 - ومنها : الموافقة ، وهي : مشاركة أحد الشّخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك ، سواء أكان ذلك من أجل ذلك الآخر أم لا لأجله .
فالموافقة أعمّ من التّشبّه .
الأحكام المتعلّقة بالتّشبّه :
أوّلاً - التّشبّه بالكفّار في اللّباس :
4 - ذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم ، والمِالكيّة على المذهب ، وجمهور الشّافعيّة إلى : أنّ التّشبّه بالكفّار في اللّباس - الّذي هو شعار لهم به يتميّزون عن المسلمين - يحكم بكفر فاعله ظاهرا ، أي في أحكام الدّنيا ، فمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه يكفر ، إلا إذا فعله لضرورة الإكراه أو لدفع الحرّ أو البرد . وكذا إذا لبس زنّار النّصارى إلّا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين . أو نحو ذلك لحديث : « من تَشَبَّه بقوم فهو منهم » لأنّ اللّباس الخاصّ بالكفّار علامة الكفر ، ولا يلبسه إلّا من التزم الكفر ، والاستدلال بالعلامة والحكم بما دلّت عليه مقرّر في العقل والشّرع . فلو علم أنّه شدّ الزّنّار لا لاعتقاد حقيقة الكفر ، بل لدخول دار الحرب لتخليص الأسارى مثلا لم يحكم بكفره .
ويرى الحنفيّة في قول - وهو ما يؤخذ ممّا ذكره ابن الشّاطّ من المالكيّة - أنّ من يتشبّه بالكافر في الملبوس الخاصّ به لا يعتبر كافراً ، إلا أن يعتقد معتقدهم ، لأنّه موحّد بلسانه مصدّق بجنانه . وقد قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : لا يخرج أحد من الإيمان إلّا من الباب الّذي دخل فيه ، والدّخول بالإقرار والتّصديق ، وهما قائمان .
وذهب الحنابلة إلى حرمة التّشبّه بالكفّار في اللّباس الّذي هو شعار لهم . قال البهوتيّ : إن تزيّا مسلم بما صار شعارا لأهل ذمّة ، أو علّق صليبا بصدره حرم ، ولم يكفر بذلك كسائر المعاصي . ويرى النّوويّ من الشّافعيّة أنّ من لبس الزّنّار ونحوه لا يكفر إذا لم تكن نيّة .
أحوال تحريم التّشبّه :
وبتتبع عبارات الفقهاء يتبين أنهم يقيدون كفر من يتشبه بالكفار في اللباس الخاص بهم بقيود منها :
5 - أن يفعله في بلاد الإسلام ، قال أحمد الرّمليّ : كون التّزيّي بزيّ الكفّار ردّة محلّه إذا كان في دار الإسلام . أمّا في دار الحرب فلا يمكن القول بكونه ردّة ، لاحتمال أنّه لم يجد غيره كما هو الغالب ، أو أن يكره على ذلك .
قال ابن تيميّة : لو أنّ المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم ( للكفّار ) في الهدي الظّاهر ، لما عليه في ذلك من الضّرر بل قد يستحبّ للرّجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظّاهر ، إذا كان في ذلك مصلحة دينيّة ، من دعوتهم إلى الدّين والاطّلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك ، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الحسنة . فأمّا في دار الإسلام والهجرة الّتي أعزّ اللّه فيها دينه ، وجعل على الكافرين فيها الصّغار والجزية ففيها شرعت المخالفة .
6 - أن يكون التّشبّه لغير ضرورة ، فمن فعل ذلك للضّرورة لا يكفر ، فمن شدّ على وسطه زنّاراً ودخل دار الحرب لتخليص الأسرى ، أو فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين لا يكفر . وكذلك إن وضع قلنسوة المجوس على رأسه لضرورة دفع الحرّ والبرد لا يكفر . 7 - أن يكون التّشبّه فيما يختصّ بالكافر ، كبرنيطة النّصرانيّ وطرطور اليهوديّ .
ويشترط المالكيّة لتحقّق الرّدّة بجانب ذلك :أن يكون المتشبّه قد سعى بذلك للكنيسة ونحوها.
8 - أن يكون التّشبّه في الوقت الّذي يكون اللّباس المعيّن شعارا للكفّار ، وقد أورد ابن حجر حديث أنس رضي الله عنه أنّه رأى قوماً عليهم الطّيالسة ، فقال :" كأنّهم يهود خيبر" ثمّ قال ابن حجر : وإنّما يصلح الاستدلال بقصّة اليهود في الوقت الّذي تكون الطّيالسة من شعارهم ، وقد ارتفع ذلك فيما بعد ، فصار داخلا في عموم المباح .
9 - أن يكون التّشبّه ميلا للكفر ، فمن تشبّه على وجه اللّعب والسّخرية لم يرتدّ ، بل يكون فاسقا يستحقّ العقوبة ، وهذا عند المالكيّة .
10 - هذا ، والتّشبّه في غير المذموم وفيما لم يقصد به التّشبّه لا بأس به .
قال صاحب الدّرّ المختار : إنّ التّشبّه بأهل الكتاب لا يكره في كلّ شيء ، بل في المذموم وفيما يقصد به التّشبّه . قال هشام : رأيت أبا يوسف لابساً نعلين مخصوفين بمسامير فقلت أترى بهذا الحديد بأسا ؟ قال : لا ، قلت : سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك لأنّ فيه تشبّها بالرّهبان ، فقال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبس النّعال الّتي لها شعر وإنّها من لباس الرّهبان » .
فقد أشار إلى أنّ صورة المشابهة فيما تعلّق به صلاح العباد لا يضرّ ، فإنّ الأرض ممّا لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلّا بهذا النّوع . وللتّفصيل ر : ( ردّة ، كفر ) .
ثانياً - التّشبّه بالكفّار في أعيادهم :(159/1)
11 - لا يجوز التّشبّه بالكفّار في أعيادهم ، لما ورد في الحديث « من تشبّه بقوم فهو منهم » ، ومعنى ذلك تنفير المسلمين عن موافقة الكفّار في كلّ ما اختصّوا به . قال اللّه تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عنكَ اليهودُ وَلا النَّصَارى حتّى تَتَّبِعَ مِلّتَهم قلْ إنَّ هُدى اللّهِ هو الهُدَى وَلئنْ اتَّبعتَ أَهواءَهم بَعْدَ الّذي جَاءَكَ مِنَ العلمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وليٍّ ولا نَصِيرٍ }
وروى البيهقيّ عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : لا تعلّموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإنّ السّخطة تنزل عليهم .
وروي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : من مرّ ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبّه بهم حتّى يموت وهو كذلك ، حشر معهم يوم القيامة .
ولأنّ الأعياد من جملة الشّرع والمناهج والمناسك الّتي قال اللّه سبحانه وتعالى : { لِكلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً همْ نَاسِكُوه } كالقبلة والصّلاة ، والصّيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المباهج ، فإنّ الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر ، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر ، بل الأعياد من أخصّ ما تتميّز به الشّرائع ومن أظهر ما لها من الشّعائر ، فالموافقة فيها موافقة في أخصّ شرائع الكفر وأظهر شعائره . قال قاضيخان : رجل اشترى يوم النّيروز شيئاً لم يشتره في غير ذلك اليوم : إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظّمه الكفرة يكون كفراً ، وإن فعل ذلك لأجل السّرف والتّنعّم لا لتعظيم اليوم لا يكون كفراً . وإن أهدى يوم النّيروز إلى إنسان شيئا ولم يرد به تعظيم اليوم ، إنّما فعل ذلك على عادة النّاس لا يكون كفراً . وينبغي أن لا يفعل في هذا اليوم ما لا يفعله قبل ذلك اليوم ولا بعده ، وأن يحترز عن التّشبّه بالكفرة .
وكره ابن القاسم - من المالكيّة - للمسلم أن يهدي إلى النّصرانيّ في عيده مكافأة ، ورآه من تعظيم عيده وعونا له على كفره . وكما لا يجوز التّشبّه بالكفّار في الأعياد لا يُعَانُ المسلم المتشبّه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك ، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته ، ومن أهدى من المسلمين هديّة في هذه الأعياد ، مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديّته ، خصوصا إن كانت الهديّة ممّا يستعان بها على التّشبّه بهم ، مثل إهداء الشّمع ونحوه في عيد الميلاد .
هذا وتجب عقوبة من يتشبّه بالكفّار في أعيادهم .
وأمّا ما يبيعه الكفّار في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره ، نصّ عليه أحمد في رواية مهنّا . وقال : إنّما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم ، فأمّا ما يباع في الأسواق من المأكل فلا ، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم . وللتّفصيل ( ر : عيد ) .
ثالثاً - التّشبّه بالكفّار في العبادات :
يكره التّشبّه بالكفّار في العبادات في الجملة ، ومن أمثلة التّشبّه بهم في هذا المجال :
أ - الصّلاة في أوقات الكراهة :
12 - نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في أوقات الكراهة منها للتّشبّه بعبادة الكفّار . فقد أخرج مسلم من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « صلّ صلاة الصّبح ، ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تطلع الشّمس حتّى ترتفع ، فإنّها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفّار . ثمّ صلّ فإنّ الصّلاة مشهودة محضورة حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح . ثمّ أقصر عن الصّلاة فإنّ حينئذ تسجر جهنّم ، فإذا أقبل الفيء فصلّ فإنّ الصّلاة مشهودة محضورة حتّى تصلّي العصر . ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس فإنّها تغرب بين قَرْنَيْ شيطان وحينئذ يسجد لها الكفّار » . وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بأوقات الكراهة ( ر : الموسوعة الفقهيّة 7 180 أوقات الصّلاة ف 23 )
ب - الاختصار في الصّلاة :
13 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الاختصار في الصّلاة لأنّ اليهود تكثر من فعله ، فنهي عنه كراهة للتّشبّه بهم ، فقد أخرج البخاريّ ومسلم واللّفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي الرّجل مختصراً » وأخرج البخاريّ أيضاً في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضّحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تكره أن يضع يده على خاصرته ، تقول :" إنّ اليهود تفعله "
زاد ابن أبي شيبة في رواية له : « في الصّلاة »
وفي رواية أخرى « لا تشبّهوا باليهود » وللتّفصيل ( ر : صلاة ) .
ج - وِصال الصّوم :
14 - ذهب الحنفيّة ، وجمهور المالكيّة ، والشّافعيّة في أحد الوجهين ، والحنابلة إلى كراهة وصال الصّوم ، لما روى البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال « لا تواصلوا ، قالوا : إنّك تواصل ، قال لستُ كأحد منكم ، إنّي أطعم وأسقى أو إنّي أبيت أطعم وأسقى » . وقوله صلى الله عليه وسلم « لا تواصلوا » نهي وأدناه يقتضي الكراهة . وعلّة النّهي التّشبّه بالنّصارى كما صرّح به في حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه الّذي أخرجه أحمد والطّبرانيّ وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى « ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا ، وقال : يفعل ذلك النّصارى ، ولكن صوموا كما أمركم اللّه ، أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ، فإذا كان اللّيل فأفطروا »(159/2)
وذهب أحمد وجماعة من المالكيّة إلى جواز الوصال إلى السّحر ، وبهذا قال إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة . ويرى الشّافعيّة في الوجه الآخر ، وهو ما صحّحه ابن العربيّ من المالكيّة : تحريم وصال الصّوم . وللتّفصيل ( ر : صوم ) .
د - إفراد يوم عاشوراء بالصّوم :
15 - ذهب الحنفيّة - وهو مقتضى كلام أحمد كما يقول ابن تيميّة - إلى كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصّوم للتّشبّه باليهود . فقد روى مسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : « حين صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول اللّه ، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع » قال : فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
قال النّوويّ ، نقلا عن بعض العلماء في تعليقه على الحديث : لعلّ السّبب في صوم التّاسع مع العاشر أن لا يتشبّه باليهود في إفراد العاشر ، وفي الحديث إشارة إلى هذا .
هذا ، واستحبّ الشّافعيّة والحنابلة صوم عاشوراء - وهو العاشر من المحرّم - وتاسوعاء - وهو التّاسع منه - ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ أن يصوم قبل عاشوراء يوماً وبعده يوماً . وقال المالكيّة : ندب صوم عاشوراء وتاسوعاء والثّمانية قبله .
وتفصيل ر : ( صوم ، وعاشوراء ) .
رابعاً : التّشبّه بالفَسَقَة :
16 - قال القرطبيّ : لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم ، فقد يظنّ به من لا يعرفه أنّه منهم ، فيظنّ به ظنّ السّوء فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه . وللتّفصيل ر : ( شهادة ، فسق ) .
خامساً - تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه :
17 - ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبّه النّساء بالرّجال والرّجال بالنّساء .
فقد روي البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : « لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » .
وذهب الشّافعيّة في قول ، وجماعة من الحنابلة إلى كراهة تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه . والتّشبّه يكون في اللّباس والحركات والسّكنات والتّصنّع بالأعضاء والأصوات .
ومثال ذلك : تشبّه الرّجال بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ، مثل لبس المقانع والقلائد والمخانق والأسورة والخلاخل والقرط ونحو ذلك ممّا ليس للرّجال لبسه . وكذلك التّشبّه بهنّ في الأفعال الّتي هي مخصوصة بها كالانخناث في الأجسام والتّأنّث في الكلام والمشي. كذلك تشبّه النّساء بالرّجال في زيّهم أو مشيهم أو رفع صوتهم أو غير ذلك.
وهيئة اللّباس قد تختلف باختلاف عادة كلّ بلد ، فقد لا يفترق زيّ نسائهم عن زيّ رجالهم لكن تمتاز النّساء بالاحتجاب والاستتار . قال الإسنويّ : إنّ العبرة في لباس وزيّ كلّ من النّوعين - حتّى يحرم التّشبّه به فيه - بعرف كلّ ناحية .
وأمّا ذمّ التّشبّه بالكلام والمشي فمختصّ بمن تعمّد ذلك ، وأمّا من كان ذلك من أصل خلقته فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج ، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ ، ولا سيّما إن بدا منه ما يدلّ على الرّضا به .
هذا ويجب إنكار التّشبّه باليد ، فإن عجز فباللّسان مع أمن العاقبة ، فإن عجز فبقلبه كسائر المنكرات . ويترتّب على هذا أنّه يجب على الزّوج أن يمنع زوجته ممّا تقع فيه من التّشبّه بالرّجال في لبسة أو مشية أو غيرهما ، امتثالاً لقوله تعالى : { قُوا أَنْفسَكم وَأَهليكمْ نَاراً } أي بتعليمهم وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربّهم ونهيهم عن معصيته .
سادساً : تشبّه أهل الذّمّة بالمسلمين :
18 - يؤخذ أهل الذّمّة بإظهار علامات يعرفون بها ، ولا يتركون يتشبّهون بالمسلمين في لباسهم ومراكبهم وهيئاتهم . والأصل فيه ما روي" أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه الله مرّ على رجال ركوب ذوي هيئة ، فظنّهم مسلمين فسلّم عليهم ، فقال له رجل من أصحابه : أصلحك اللّه تدري من هؤلاء ؟ فقال : من هم ؟ فقال : نصارى بني تغلب . فلمّا أتى منزله أمر أن ينادى في النّاس أن لا يبقى نصرانيّ إلا عقد ناصيته وركب الإكاف ". ولم ينقل أنّه أنكر عليه أحد ، فيكون كالإجماع . ولأنّ السّلام من شعائر الإسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه الشّعائر عند الالتقاء ، ولا يمكنهم ذلك إلّا بتمييز أهل الذّمّة بالعلامة .
هذا ، وإذا وجب التّمييز وجب أن يكون فيه صغار لا إعزاز ، لأنّ إذلالهم واجب بغير أذى من ضرب أو صفع بلا سبب يكون منه ، بل المراد اتّصافه بهيئة خاصّة .
وكذا يجب أن يتميّز نساء أهل الذّمّة عن نساء المسلمين في حال المشي في الطّريق ، وتجعل على دورهم علامة كي لا يعاملوا بما يختصّ به المسلمون ، ولا يمنعون من أن يسكنوا في أمصار المسلمين في غير جزيرة العرب يبيعون ويشترون ، لأنّ عقد الذّمّة شرع ليكون وسيلة لهم إلى الإسلام . وتمكينهم من المقام أبلغ إلى هذا المقصود .
وللتّفصيل في الأمور الّتي يمنع تشبّه أهل الذّمّة فيه بالمسلمين تنظر أبواب الجزية وعقد الذّمّة من كتب الفقه .(159/3)
تشريك *
التّعريف :
1 - التّشريك في اللّغة : مصدر شرّك . يقال : شرّك فلان فلانا . إذا أدخله في الأمر وجعله شريكاً له فيه . ويقال : شرّك غيره في ما اشتراه ليدفع الغير بعض الثّمن ، ويصير شريكاً له في المبيع . ويقال أيضا : شرّك نعله تشريكا : إذا حمل له شراكا ، والشّراك : سير النّعل الّذي على ظهرها . والتّشريك في الاصطلاح الشّرعيّ : إدخال الغير في الاسم كالشّراء ونحوه ، ليكون شريكا له فيه .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإشراك :
2 - الإشراك بمعنى التّشريك . وإذا قيل : أشرك الكافر باللّه ، فالمراد أنّه جعل غير اللّه شريكا له ، تعالى اللّه عن ذلك . ( ر : إشراك ) .
حكم التّشريك :
3 - التّشريك في الشّراء ونحوه جائز ، وتشريك غير عبادة في نيّة العبادة أو تشريك عبادتين في نيّة واحدة جائز على التّفصيل الآتي :
أ - تشريك ما لا يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة :
4 - لا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز تشريك ما لا يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة ، كالتّجارة مع الحجّ لقوله تعالى : { وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهم وَيَذْكُروا اسمَ اللّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ . . . } وقوله في شأن الحجّ أيضا : { لَيسَ عَليكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكمْ } نزلت في التّجارة مع الحجّ . والصّوم مع قصد الصّحّة ، والوضوء مع نيّة التّبرّد ، والصّلاة مع نيّة دفع الغريم ، لأنّ هذه الأشياء تحصل بغير نيّة فلم يؤثّر تشريكها في نيّة العبادة ، وكالجهاد مع قصد حصول الغنيمة . جاء في مواهب الجليل نقلا عن الفروق للقرافيّ :
من يجاهد لتحصيل طاعة اللّه بالجهاد ، وليحصل له المال من الغنيمة ، فهذا لا يضرّه ولا يحرم عليه بالإجماع ، لأنّ اللّه تعالى جعل له هذا في هذه العبادة . ففرّق بين جهاده ليقول النّاس : هذا شجاع ، أو ليعظّمه الإمام ، فيكثر عطاءه من بيت المال . فهذا ونحوه رياء حرام . وبين أن يجاهد لتحصيل الغنائم من جهة أموال العدوّ مع أنّه قد شرّك .
ولا يقال لهذا رياء ، بسبب أنّ الرّياء أن يعمل ليراه غير اللّه من خلقه . ومن ذلك أن يجدّد وضوءا ليحصل له التّبرّد أو التّنظّف ، وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق ، بل هي لتشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك ، ولا تصلح للإدراك ولا للتّعظيم ، ذلك لا يقدح في العبادات ، فظهر الفرق بين قاعدة الرّياء في العبادات وبين قاعدة التّشريك فيها . وجاء في مغني المحتاج : من نوى بوضوئه تبرّدا أو شيئا يحصل بدون قصد كتنظّف ، ولو في أثناء وضوئه ( مع نيّة معتبرة ) أي مستحضرا عند نيّة التّبرّد أو نحوه نيّة الوضوء أجزأه ذلك على الصّحيح ، لحصول ذلك من غير نيّة ، كمصلّ نوى الصّلاة ودفع الغريم فإنّها تجزئه ، لأنّ اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى نيّة . والقول الثّاني يضرّ ، لما في ذلك من التّشريك بين قربة وغيرها ، فإن فقد النّيّة المعتبرة ، كأن نوى التّبرّد أو نحوه وقد غفل عنها ، لم يصحّ غسل ما غسله بنيّة التّبرّد ونحوه ، ويلزمه إعادته دون استئناف الطّهارة . قال الزّركشيّ : وهذا الخلاف في الصّحّة . أمّا الثّواب فالظّاهر عدم حصوله ، وقد اختار الغزاليّ فيما إذا شرّك في العبادة غيرها من أمر دنيويّ اعتبار الباعث على العمل ، فإن كان القصد الدّنيويّ هو الأغلب لم يكن فيه أجر ، إن كان القصد الدّينيّ أغلب فله بقدره ، وإن تساويا تساقطا . واختار ابن عبد السّلام أنّه لا أجر فيه مطلقا ، سواء أتساوى القصدان أم اختلفا . وانظر أيضا مصطلح : ( نيّة ) .
ب - تشريك عبادتين في نيّة :
5 - إن أشرك عبادتين في النّيّة ، فإن كان مبناهما على التّداخل كغسلي الجمعة والجنابة ، أو الجنابة والحيض ، أو غسل الجمعة والعيد ، أو كانت إحداهما غير مقصودة كتحيّة المسجد مع فرض أو سنّة أخرى ، فلا يقدح ذلك في العبادة ، لأنّ مبنى الطّهارة على التّداخل ، والتّحيّة وأمثالها غير مقصودة بذاتها ، بل المقصود شغل المكان بالصّلاة ، فيندرج في غيره . أمّا التّشريك بين عبادتين مقصودتين بذاتها كالظّهر وراتبته ، فلا يصحّ تشريكهما في نيّة واحدة ، لأنّهما عبادتان مستقلّتان لا تندرج إحداهما في الأخرى .
وانظر أيضا مصطلح : ( نيّة ) .
ج - التّشريك في المبيع :
6 - يجوز التّشريك في العقد ، كأن يقول المشتري لعالم بالثّمن : أشركتك في هذا المبيع ويقبل الآخر ، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء فإن أشركه في قدر معلوم كالنّصف والرّبع فله ذلك في المبيع ، وإن أطلق فله النّصف ، لأنّ الشّركة المطلقة تقتضي المساواة ، وهو كالبيع والتّولية في أحكامه وشروطه .
د - التّشريك بين نسوة في طَلْقة :
7 - إذا قال لنسائه الأربع : أوقعت عليكنّ طلقة وقع على كلّ واحدة طلقة ، لأنّ الطّلقة لا تتجزّأ .
ولو قال : طلقتين أو ثلاثاً أو أربعاً ، وقع على كلّ واحدة طلقة فقط ، إلا أن يريد توزيع كلّ طلقة عليهنّ ، فيقع في " طلقتين " على كلّ واحدة طلقتان ، وفي " ثلاث وأربع " ، ثلاث .(160/1)
تشميت *
1 - من معاني التّشميت لغة : الدّعاء بالخير والبركة . وكلّ داع لأحد بخير فهو مُشَمِّت ومسمّت بالشّين والسّين ، والشّين أعلى وأفشى في كلامهم . وكلّ دعاء بخير فهو تشميت . وفي حديث« تزويج عليّ بفاطمة رضي الله عنهما : شمّت عليهما » : أي دعا لهما بالبركة. وفي حديث العطاس : « فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر » . فالتّشميت والتّسميت : الدّعاء بالخير والبركة . وتشميت العاطس أو تَسْمِيته : أن يقول له متى كان مسلما : يرحمك اللّه . وهو لا يخرج في الاصطلاح الفقهيّ عن هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اتّفق العلماء على أنّه يشرع للعاطس عقب عطاسه أن يحمد اللّه ، فيقول : الحمد للّه ، ولو زاد : ربّ العالمين كان أحسن كفعل ابن مسعود . ولو قال : الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل كفعل ابن عمر . وقيل يقول : الحمد للّه حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه ، كفعل غيرهما . وروى أحمد والنّسائيّ من حديث سالم بن عبيد مرفوعا « إذا عَطَس أحدكم فليقل : الحمد للّه على كلّ حال أو الحمد للّه ربّ العالمين » وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه على كلّ حال » ومتى حمد اللّه بعد عطسته كان حقّا على من سمعه من إخوانه المسلمين غير المصلّين أن يشمّته " يرحمك اللّه " فقد روى البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه « إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يقول : يرحمك اللّه » .
وفي صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه . وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك اللّه . فإذا قال له : يرحمك اللّه فليقل : يهديكم اللّه ويصلح بالكم » .
وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « حقّ المسلم على المسلم خمس : ردّ السّلام ، وعيادة المريض واتّباع الجنائز ، وإجابة الدّعوة ، وتشميت العاطس » وفي رواية لمسلم « حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد اللّه تعالى فشمّته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتّبعه » . وإن لم يحمد اللّه بعد عطسته فلا يشمّت . فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعاً « إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ، فإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه » .
وعن أنس رضي الله عنه قال : « عطس رجلان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر . فقال الّذي لم يشمّته : عطس فلان فَشَمّتَّه ، وعطست فلم تشمّتني فقال : إنّ هذا حمد اللّه تعالى ، وإنّك لم تحمد اللّه تعالى » وهذا الحكم عامّ وليس مخصوصا بالرّجل الّذي وقع له ذلك . يؤيّد العموم ما جاء في حديث أبي موسى
« إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ، وإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه » .
فالتّشميت قد شرع لمن حمد اللّه دون من لم يحمده ، فإذا عرف السّامع أنّ العاطس حمد اللّه بعد عطسته شمّته ، كأن سمعه يحمد اللّه ، وإن سمع العطسة ولم يسمعه يحمد اللّه ، بل سمع من شمّت ذلك العاطس ، فإنّه يشرع له التّشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد ، وقال النّوويّ المختار أنّه يشمّته من سمعه دون غيره .
وهذا التّشميت سنّة عند الشّافعيّة . وفي قول للحنابلة وعند الحنفيّة هو واجب .
وقال المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة بوجوبه على الكفاية . ونقل عن البيان أنّ الأشهر أنّه فرض عين ، لحديث « كان حقّا على كلّ مسلم سمعه أن يقول له : يرحمك اللّه » .
فإن عطس ولم يحمد اللّه نسيانا استحبّ لمن حضره أن يذكّره الحمد ليحمد فيشمّته .
وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النّخعيّ .
3 - ويندب للعاطس أن يردّ على من شمّته : فيقول له : يغفر اللّه لنا ولكم ، أو يهديكم اللّه ويصلح بالكم ، وقيل : يجمع بينهما ، فيقول : يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم . فقد روي عن ابن عمر أنّه كان إذا عطس فقيل له : يرحمك اللّه . قال :" يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر اللّه لنا ولكم ". قال ابن أبي جمرة : في الحديث دليل على عظيم نعمة اللّه على العاطس . يؤخذ ذلك ممّا رتّب عليه من الخير . وفيه إشارة إلى عظيم فضل اللّه على عبده . فإنّه أذهب عنه الضّرر بنعمة العطس ، ثمّ شرع له الحمد الّذي يثاب عليه ، ثمّ الدّعاء بالخير بعد الدّعاء بالخير وشرع هذه النّعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحساناً .
فإذا قيل للعاطس : يرحمك اللّه ، فمعناه : جعل اللّه لك ذلك لتدوم لك السّلامة ، وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرّحمة والتّوبة من الذّنب ، ومن ثَمَّ شرع به الجواب بقوله : غفر اللّه لنا ولكم وقوله : ويصلح بالكم أي شأنكم . وقوله تعالى : { سَيَهْدِيهمْ وَيُصْلِحُ بَالَهمْ } أي شأنهم . وهذا ما لم يكن في صلاته أو خلائه .
ما ينبغي للعاطس مراعاته :
4 - من آداب العاطس : أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد . وأن يغطّي وجهه لئلّا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه . ولا يلوي عنقه يميناً ولا شمالاً لئلا يتضرّر بذلك . قال ابن العربيّ : الحكمة في خفض الصّوت بالعطاس : أنّ رفعه إزعاجاً للأعضاء .
وفي تغطية الوجه : أنّه لو بدر منه شيء آذى جليسه . ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه ، وخفض أو غضّ بها صوته » .
حكمة مشروعيّة التّشميت :(161/1)
5 - قال ابن دقيق العيد : من فوائد التّشميت تحصيل المودّة ، والتّأليف بين المسلمين ، وتأديب العاطس بكسر النّفس عن الكبر ، والحمل على التّواضع لما في ذكر الرّحمة من الإشعار بالذّنب الّذي لا يعرى عنه أكثر المكلّفين .
التّشميت أثناء الخطبة :
6 - كره الحنفيّة والمالكيّة التّشميت أثناء الخطبة ، وعند الشّافعيّة في الجديد : أنّ الكلام عند الخطبة لا يحرم ، ويسنّ الإنصات ، ولا فرق في ذلك بين التّشميت وغيره ، واستدلّ بما روى أنس رضي الله عنه قال : « دخل رجل والنّبيّ صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال : متى السّاعة ؟ فأشار النّاس إليه أن اسكت فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند الثّالثة : ما أعددت لها ؟ قال : حبَّ اللّه ورسوله قال : إنّك مع من أحببتَ » وإذ جاز هذا في الخطبة جاز تشميت العاطس أثناءها .
وعند المالكيّة ، وهو القديم عند الشّافعيّة : أنّ الإنصات لسماع الخطبة واجب . لما روى جابر رضي الله عنه قال : « دخل ابن مسعود رضي الله عنه والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبيّ رضي الله عنه فسأله عن شيء فلم يردّ عليه ، فسكت حتّى صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : ما منعك أن تردّ عليّ ؟ فقال : إنّك لم تشهد معنا الجمعة . قال : ولم ؟ قال : لأنّك تكلّمت والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقام ابن مسعود فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ، فقال : صدق أبيّ » وإذا كان الإنصات واجباً كان ما خالفه من تشميت العاطس أثناء الخطبة حراما . وللحنابلة روايتان : إحداهما : الجواز مطلقا أخذاً من قول الأثرم : سمعت أبا عبد اللّه أي الإمام أحمد - سئل : يردّ الرّجل السّلام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم . قال : ويشمّت العاطس ؟ فقال : نعم . والإمام يخطب . وقال أبو عبد اللّه قد فعله غير واحد . قال ذلك غير مرّة ، وممّن رخّص في ذلك الحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ وإسحاق .
والثّانية : إن كان لا يسمع الخطبة شمّت العاطس ، وإن كان يسمع لم يفعل ، قال أبو طالب : قال أحمد : إذا سمعت الخطبة فاستمع وأنصت ولا تقرأ ولا تشمّت ، وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمّت وردّ السّلام . وقال أبو داود : قلت لأحمد : يردّ السّلام والإمام يخطب ويشمّت العاطس ؟ قال : إذا كان ليس يسمع الخطبة فيردّ ، وإذا كان يسمع فلا لقول اللّه تعالى :
{ فَاسْتَمِعُوا لَه وأَنْصِتُوا } وروي نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما .
تشميت مَنْ في الخلاء لقضاء حاجته :
7 - يكره لمن في الخلاء لقضاء حاجته أن يشمّت عاطساً سمع عطسته .
بذلك قال فقهاء المذاهب الأربعة . كما كرهوا له إن عطس في خلائه أن يحمد اللّه بلسانه ، وأجازوا له ذلك في نفسه دون أن يحرّك به لسانه . وعن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال : « أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلّمت عليه ، فلم يردّ حتّى توضّأ ، ثمّ اعتذر إليّ وقال : إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى إلا على طهر أو قال : على طهارة »
تشميت المرأة الأجنبيّة للرّجل والعكس :
8 - إن كانت المرأة شابّة يخشى الافتنان بها كره لها أن تشمّت الرّجل إذا عطس ، كما يكره لها أن تردّ على مشمّت لها لو عطست هي . بخلاف لو كانت عجوزاً ولا تميل إليها النّفوس فإنّها تشمّت وتشمّت متى حمدت اللّه ، بذلك قال المالكيّة ومثلهم في ذلك الحنابلة . جاء في الآداب الشّرعيّة لابن مفلح عن ابن تميم : لا يشمّت الرّجل الشّابّة ولا تشمّته .
وقال السّامريّ : يكره أن يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ولا يكره ذلك للعجوز .
وقال ابن الجوزيّ : وقد روينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنّه كان عنده رجل من العبّاد فعطست امرأة أحمد ، فقال لها العابد : يرحمك اللّه . فقال أحمد رحمه الله . عابد جاهل . وقال حرب : قلت لأحمد : الرّجل يشمّت المرأة إذا عطست ؟ فقال : إن أراد أن يستنطقها ليسمع كلامها فلا ، لأنّ الكلام فتنة ، وإن لم يرد ذلك فلا بأس أن يشمّتهنّ .
وقال أبو طالب : إنّه سأل أبا عبد اللّه : يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ؟ قال : نعم قد شمّت أبو موسى امرأته. قلت : فإن كانت امرأة تمرّ أو جالسة فعطست أشمّتها ؟ قال : نعم. وقال القاضي : ويشمّت الرّجل المرأة البرزة ويكره للشّابّة . وقال ابن عقيل : يشمّت المرأة البرزة وتشمّته ولا يشمّت الشّابّة ولا تشمّته ، وقال الشّيخ عبد القادر : يجوز للرّجل تشميت المرأة البرزة والعجوز ، ويكره للشّابّة ، وفي هذا تفريق بين الشّابّة وغيرها .
وعند الحنفيّة ذكر صاحب الذّخيرة : أنّه إذا عطس الرّجل فشمّتته المرأة ، فإن عجوزاً ردّ عليها وإلا ردّ في نفسه . قال ابن عابدين : وكذا لو عطست هي كما في الخلاصة .
تشميت المسلم للكافر :(161/2)
9 - لو عطس كافر وحمد اللّه عقيب عطاسه وسمعه مسلم كان عليه أن يشمّته بقوله : هداك اللّه أو عافاك اللّه ، فقد أخرج أبو داود من حديث أبي موسى الأشعريّ قال : « كانت اليهود يتعاطسون عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم اللّه ، فكان يقول : يهديكم اللّه ويصلح بالكم » . وفي قوله : يهديكم اللّه ويصلح بالكم . تعريض لهم بالإسلام : أي اهتدوا وآمنوا يصلح اللّه بالكم . فلهم تشميت مخصوص ، وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلاح البال . بخلاف تشميت المسلمين ، فإنّهم أهل للدّعاء بالرّحمة بخلاف الكفّار . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّته الفريقان جميعاً ، فقال للمسلمين يغفر اللّه لكم ويرحمنا وإيّاكم . وقال لليهود : يهديكم اللّه ويصلح بالكم »
تشميت المصلّي غيره :
10 - من كان في الصّلاة وسمع عاطسا حمد اللّه عقب عطاسه فشمّته بطلت صلاته ، لأنّ تشميته له بقوله : يرحمك اللّه يجري في مخاطبات النّاس ، فكان من كلامهم ، فقد روي عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال « : بينا أنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك اللّه ، فحدّقني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أُمّاه ، ما لكم تنظرون إليّ ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم ، فلمّا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمّي هو ، ما رأيتُ معلّماً أحسن تعليماً منه ، واللّه ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثمّ قال : إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميّين ، إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » .
هذا قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والمشهور عند الشّافعيّة ، وإن كان تعبير الحنفيّة بالفساد وتعبير غيرهم بالبطلان ، إلّا أنّ البطلان والفساد في ذلك بمعنى .
فإن عطس هو في صلاته فحمد اللّه وشمّت نفسه في نفسه دون أن يحرّك بذلك لسانه بأن قال : يرحمك اللّه يا نفسي لا تفسد صلاته ، لأنّه لمّا لم يكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلام النّاس كما إذا قال : يرحمني اللّه . قال به الحنفيّة والحنابلة المالكيّة .
تشميت العاطس فوق ثلاث :
11 - من تكرّر عطاسه فزاد على الثّلاث فإنّه لا يشمّت فيما زاد عنها ، إذ هو بما زاد عنها مزكوم . فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : « شمّت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً عطس مرّتين بقوله : يرحمك اللّه ثمّ قال عنه في الثّالثة : هذا رجل مزكوم » .
وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة أنّه قال : يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس ، إلا أن يعرف أنّه مزكوم فيدعو له بالشّفاء . وعند هذا سقط الأمر بالتّشميت عند العلم بالزّكام ، لأنّ التّعليل به يقتضي أن لا يشمّت من علم أنّ به زكاماً أصلاً ، لكونه مرضاً ، وليس عطاساً محموداً ناشئاً عن خفّة البدن وانفتاح المسامّ وعدم الغاية في الشّبع .(161/3)
تشمير *
التّعريف :
1 - للتّشمير في اللّغة معان : منها : الرّفع يقال : شمّر الإزار والثّوب تشميراً : إذا رفعه ، ويقال : شمّر عن ساقه ، وشمّر في أمره : أي خفّ فيه وأسرع ، وشمّر الشّيء فتشمّر : قلّصه فتقلّص ، وتشمّر أي : تهيّأ . وفي الاصطلاح لا يخرج عن معنى رفع الثّوب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّدل :
2 - من معاني السّدل في اللّغة : إرخاء الثّوب . يقال : سدلت الثّوب سدلاً : إذا أرخيته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه .
وسدل الثّوب يسدله ويسدله سدلاً ، وأسدله : أرخاه وأرسله . وعن عليّ رضي الله عنه :" أنّه خرج فرأى قوما يصلّون قد سدلوا ثيابهم ، فقال : كأنّهم اليهود خرجوا من فهورهم "
واصطلاحا : أن يجعل الشّخص ثوبه على رأسه ، أو على كتفيه ، ويرسل أطرافه من جوانبه من غير أن يضمّها ، أو يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى .
وهو في الصّلاة مكروه بالاتّفاق . لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن السّدل في الصّلاة . . » .
ب - الإسبال :
3 - الإسبال في اللّغة : الإرخاء والإطالة . يقال : أسبل إزاره : إذا أرخاه . وأسبل فلان ثيابه : إذا طوّلها وأرسلها إلى الأرض ، وفي الحديث : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم . قال : قلت : ومن هم ؟ خابوا وخسروا . فأعادها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات : المسبل ، والمنّان ، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب » قال ابن الأعرابيّ وغيره : المسبل : الّذي يطوّل ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى ، وإنّما يفعل ذلك كبرا واختيالا .
وهو في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى .
وحكمه الكراهة ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر اللّه إليه » وعن ابن مسعود قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من اللّه جلّ ذكره في حلّ ولا حرام » .
وحديث أبي سعيد الخدريّ يرفعه « لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطراً » . وللتّفصيل ر : ( صلاة - عورة - إسبال ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - التّشمير في الصّلاة مكروه اتّفاقاً ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن كفّ الثّياب والشّعر » . إلا أنّ المالكيّة قالوا بكراهته فيها إذا كان فعله لأجلها .
وأمّا فعله خارجها ، أو فيها لا لأجلها ، فلا كراهة فيه . ومثل ذلك عندهم تشمير الذّيل عن السّاق : فإن فعله لأجل شغل ، فحضرت الصّلاة ، فصلّى وهو كذلك فلا كراهة .
وظاهر المدوّنة أنّه سواء عاد لشغله ، أم لا . وحملها الشّبيبيّ على ما إذا عاد لشغله ، وصوّبه ابن ناجي . وللتّفصيل ر : ( صلاة ، عورة ، لباس ) .(162/1)
تشهّد *
التّعريف :
1 - التّشهّد في اللّغة : مصدر تشهّد ، أي : تكلّم بالشّهادتين .
ويطلق في اصطلاح الفقهاء على قول كلمة التّوحيد ، وعلى التّشهّد في الصّلاة ، وهي قراءة : التّحيّات للّه . . إلى آخره في الصّلاة . وصرّح ابن عابدين نقلا عن الحلية : أنّ التّشهّد اسم لمجموع الكلمات المرويّة عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره . سمّي به لاشتماله على الشّهادتين . من باب تسمية الشّيء باسم جزئه .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ ، والمالكيّة في قول ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى : أنّ التّشهّد واجب في القعدة الّتي لا يعقبها السّلام ، لأنّه يجب بتركه سجود السّهو .
ويرى الحنفيّة في قول ، والمالكيّة في المذهب ، والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية : سنّيّة التّشهّد في هذه القعدة ، لأنّه يسقط بالسّهو فأشبه السّنن .
وأمّا التّشهّد في القعدة الأخيرة في الصّلاة فواجب عند الحنفيّة ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابيّ : « إذا رفعت رأسك من آخر سجدة ، وقعدت قدر التّشهّد ، فقد تَمَّتْ صلاتُك » علّق التّمام بالقعدة دون التّشهّد ، فالفرض عند الحنفيّة في هذه القعدة هو الجلوس فقط ، أمّا التّشهّد فواجب ، يجبر بسجود السّهو إن ترك سهوا ، وتكره الصّلاة بتركه تحريما ، فتجب إعادتها . والمذهب عند المالكيّة أنّه سنّة ، وفي قول واجب .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ركن من أركان الصّلاة ، وهذا ما يسمّيه بعضهم فرضاً أو واجباً وبعضهم ركناً ، تشبيها له بركن البيت الّذي لا يقوم إلا به .
وفي الفرق بين الفرض والواجب عند الحنفيّة ، ومعنى الوجوب عند غيرهم تفصيل يرجع فيه إلى مظانّه في كتب الفقه والأصول . وانظر أيضا : ( فرض ، وواجب ) .
ألفاظ التّشهّد :
3 - يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ أفضل التّشهّد ، التّشهّد الّذي علّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن مسعود رضي الله عنهما ، وهو : « التّحيّات للّه ، والصّلوات والطّيّبات ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله » .
ووجه اختيارهم لهذه الرّواية ما روي : أنّ حمّاداً أخذ بيد أبي حنيفة وعلّمه التّشهّد ، وقال أخذ إبراهيم النّخعيّ بيديّ وعلّمني ، وأخذ علقمة بيد إبراهيم وعلّمه ، وأخذ عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه بيد علقمة وعلّمه ، « وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيد عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه وعلّمه التّشهّد فقال : قل : التّحيّات للّه . . . » إلى آخره . ويؤيّده ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « علّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التّشهّد - كفّي بين كفّيه - كما يعلّمني سورة من القرآن ، التّحيّات للّه . . . » .
لأنّ فيه زيادة واو العطف ، وإنّه يوجب تعدّد الثّناء ، لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه ، وبه يقول : الثّوريّ ، وإسحاق ، وأبو ثور .
ويرى المالكيّة أنّ أفضل التّشهّد تشهّد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وهو : التّحيّات للّه ، الزّاكيات للّه ، الطّيّبات الصّلوات للّه ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله . وهذا لأنّ عمر رضي الله عنه قاله على المنبر ، فلم ينكروه ، فجرى مجرى الخبر المتواتر ، وكان أيضاً إجماعاً .
وأمّا الشّافعيّة فأفضل التّشهّد عندهم ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التّشهّد ، كما يعلّمنا السّورة من القرآن ، فيقول : قولوا : التّحيّات المباركات ، الصّلوات الطّيّبات للّه ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه ، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه » . أخرجه مسلم والتّرمذيّ ، إلا أنّه في رواية مسلم « وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله » . والخلاف بين الأئمّة هنا خلاف في الأولويّة ، فبأيّ تشهّد تشهّد ممّا صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاز . ومن النّاس من اختار تشهّد أبي موسى الأشعريّ ، وهو أن يقول : التّحيّات للّه ، الطّيّبات ، والصّلوات للّه . . . والباقي كتشهّد ابن مسعود وذكر ابن عابدين أنّ المصلّي يقصد بألفاظ التّشهّد معانيها ، مرادة له على وجه الإنشاء ، كأنّه يحيّي اللّه تعالى ويسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه والأولياء ، ولا يقصد الإخبار والحكاية عمّا وقع في المعراج منه صلى الله عليه وسلم ومن ربّه سبحانه وتعالى ومن الملائكة .
الزّيادة والنّقصان في ألفاظ التّشهّد والتّرتيب بينها :
4 - اختلفت أقوال الفقهاء في هذه المسألة على النّحو الآتي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريما أن يزيد في التّشهّد حرفا ، أو يبتدئ بحرف قبل حرف . قال أبو حنيفة : ولو نقص من تشهّده أو زاد فيه . كان مكروها ، لأنّ أذكار الصّلاة محصورة ، فلا يزاد عليها . ثمّ أضاف ابن عابدين قائلا : والكراهة عند الإطلاق للتّحريم . ويكره كذلك عند المالكيّة الزّيادة على التّشهّد ، واختلفوا في ترك بعض التّشهّد ، فالظّاهر من كلام بعض شيوخهم عدم حصول السّنّة ببعض التّشهّد ، خلافا لابن ناجي في كفاية بعضه ، قياسا على السّورة .(163/1)
وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلام ، وقالوا : إنّ لفظ المباركات والصّلوات ، والطّيّبات والزّاكيات سنّة ليس بشرط في التّشهّد ، فلو حذف كلّها واقتصر على الباقي أجزأه من غير خلاف عندهم . وأمّا لفظ : السّلام عليك . . . إلخ فواجب لا يجوز حذف شيء منه ، إلّا لفظ ورحمة اللّه وبركاته . وفي هذين اللّفظين ثلاثة أوجه : أصحّها عدم جواز حذفهما .
والثّاني : جواز حذفهما . والثّالث : يجوز حذف وبركاته ، دون رحمة اللّه " .
وكذلك التّرتيب بين ألفاظها مستحبّ عندهم على الصّحيح من المذهب ، فلو قدّم بعضه على بعض جاز ، وفي وجه لا يجوز كألفاظ الفاتحة .
والحنابلة يرون أنّه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بضع التّشهّدات المرويّة صحّ تشهّده في الأصحّ . وفي رواية أخرى : لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصّلاة ، لقول الأسود : فكنّا نتحفّظه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما نتحفّظ حروف القرآن .
الجلوس في التّشهّد :
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول الطّحاويّ والكرخيّ من الحنفيّة إلى : أنّ الجلوس في التّشهّد الأوّل سنّة .
والأصحّ عند الحنفيّة - وهو وجه عند الحنابلة - أنّه واجب .
وأمّا في التّشهّد الثّاني فالجلوس بقدر التّشهّد ركن عند الأربعة ، وهو ما عبّر عنه الحنفيّة بالفرضيّة ، وغيرهم تارة بالوجوب وتارة بالفرضيّة .
وأمّا هيئة الجلوس في التّشهّد ، فتفصيله في مصطلح : ( جلوس ) .
التّشهّد بغير العربيّة :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّشهّد بغير العربيّة للعاجز ، واختلفوا فيه للقادر عليها . والتّفصيل في مصطلح : ( ترجمة ) .
الإسرار في التّشهّد :
7 - السّنّة في التّشهّد الإسرار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر به ، إذ لو جهر به لنقل كما نقلت القراءة ، وقال عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه « من السّنّة إخفاء التّشهّد » . قال صاحب المغني : ولا نعلم في هذا خلافاً .
ما يترتّب على ترك التّشهّد :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة سجدة السّهو بترك التّشهّد في القعدة الأولى ( قبل الأخيرة ) إن كان تركه سهوا ، على خلاف بينهم في الحكم .
واختلفوا في تركه عمدا : فذهب الحنفيّة ، والحنابلة في قول إلى : وجوب إعادة الصّلاة . ويرى المالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية أخرى ، أنّ على المصلّي أن يسجد للسّهو في هذه الحالة أيضا . وأمّا ترك التّشهّد في القعدة الأخيرة إن كان عمدا : فذهب الحنفيّة والمالكيّة في وجه ، والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الإعادة . وكذلك إن كان سهوا عند الشّافعيّة والحنابلة . ويرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ عليه سجدة السّهو في هذه الحالة .
وأمّا حكم الرّجوع إلى التّشهّد لمن قام إلى الثّالثة في ثنائيّة أو إلى الرّابعة في ثلاثيّة ، أو إلى خامسة في رباعيّة ، فقد فصّله الفقهاء في كتاب الصّلاة عند الكلام عن سجدة السّهو .
الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد :
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المصلّي لا يزيد على التّشهّد في القعدة الأولى بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وإسحاق .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر من الأقوال إلى استحباب الصّلاة فيها ، وبه قال الشّعبيّ .
وأمّا إذا جلس في آخر صلاته فلا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد . وأمّا صيغة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في القعدة الأخيرة ، وما روي في ذلك من الأدلّة ، فقد فصّل الفقهاء الكلام عليه في موطنه من كتب الفقه . وانظر أيضا : " الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم " .(163/2)
تصفيق *
التّعريف :
1 - للتّصفيق في اللّغة معان ، منها : الضّرب الّذي يسمع له صوت . وهو كالصّفق في ذلك . يقال : صفّق بيديه وصفّح سواء .
وفي الحديث : « التّسبيح للرّجال ، والتّصفيق للنّساء » والمعنى : إذا ناب المصلّي شيء في صلاته فأراد تنبيه من بجواره صفّقت المرأة بيديها ، وسبّح الرّجل بلسانه .
والتّصفيق باليد : التّصويت بها . كأنّه أراد معنى قوله تعالى : { وما كانَ صَلاتُهم عِنْدَ البَيتِ إلا مُكَاءً وتَصْدِيةً } . كانوا يصفّقون ويصفّرون وقد كان ذلك عبادة في ظنّهم .
وقيل في تفسيرها أيضاً : إنّهم أرادوا بذلك أن يشغلوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين في القراءة والصّلاة .
ويجوز أن يكون أراد الصّفق على وجه اللّهو واللّعب . ويقال : صفّق له بالبيع والبيعة : أي ضرب يده على يده عند وجوب البيع ، ثمّ استعمل ولو لم يكن هناك ضرب يد على يد . وربحت صفقتك للشّراء . وصفقة رابحة وصفقة خاسرة .
وصفّق بيديه بالتّثقيل : ضرب إحداهما على الأخرى .
وهو في الاصطلاح : لا يخرج عن هذا المعنى . وسواء كان من المرأة في الصّلاة ، بضرب كفّ على كفّ على نحو ما سيأتي في بيان كيفيّته . أو كان منها ومن الرّجل بضرب باطن كفّ بباطن الكفّ الأخرى ، كما هو الحال في المحافل والأفراح .
حكمه التّكليفيّ :
2 - قد يكون التّصفيق من مصلّ ، وقد يكون من غيره .
فما كان من مصلّ : فإمّا أن يكون لتنبيه إمامه على سهو في صلاته ، أو لدرء مارّ أمامه لتنبيهه على أنّه في صلاة ، ومنعه عن المرور أمامه . أو يكون منه فيها على وجه اللّعب .
وما كان من غير المصلّي : فإمّا أن يكون في المحافل كالموالد والأفراح ، أو في أثناء خطبة الجمعة ، أو لطلب الإذن له من مصلّ بالدّخول ، أو للنّداء . ولكلّ من ذلك حكمه .
تصفيق المصلّي لتنبيه إمامه على سهو في صلاته :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو عرض للإمام شيء في صلاته سهواً منه استحبّ لمن هم مقتدون به تنبيهه .
واختلفوا في طريقته بالنّسبة لكلّ من الرّجل والمرأة . هل يكون بالتّسبيح أو بالتّصفيق ؟ فاتّفقوا على استحبابه بالتّسبيح بالنّسبة للرّجل ، واختلفوا في التّصفيق بالنّسبة للمرأة .
فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّه يكون منها بالتّصفيق . لما روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبّح الرّجال ولتصفّق النّساء » ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « التّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء » ومثلهنّ الخناثى في ذلك .
وكره المالكيّة تصفيق المرأة في الصّلاة لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان اللّه » ( ومَنْ ) مِنْ صيغ العموم فشملت النّساء في التّنبيه بالتّسبيح . ولذا قال خليل : ولا يصفّقن . أي النّساء في صلاتهنّ لحاجة . وقوله صلى الله عليه وسلم : « التّصفيق للنّساء » ذمّ له ، لا إذن لهنّ فيه بدليل عدم عملهنّ به .
تصفيق المصلّي لمنع المارّ أمامه :
4 - يختلف حكم درء المارّ بين يدي المصلّي بين كونه رجلاً أو امرأة . فإذا كان المصلّي رجلا كان درؤه للمارّ أمامه بالتّسبيح أو بالإشارة بالرّأس أو العين ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « التّسبيح للرّجال » وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا نابكم في صلاتكم شيء فليسبّح الرّجال » . وكما « فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بولدي أمّ سلمة وهما عمر وزينب رضي الله عنهما حيث كان صلى الله عليه وسلم يصلّي في بيتها فقام ولدها عمر ليمرّ بين يديه ، فأشار إليه أن قف فوقف . ثمّ قامت بنتها زينب لتمرّ بين يديه ، فأشار إليها أن قفي فأبت ومرّت ، فلمّا فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال : هنّ أغلب »
وإن كان المصلّي امرأة كان درؤها للمارّ بالإشارة أو بالتّصفيق ببطن كفّها اليمنى على ظهر أصابع كفّها اليسرى ، لأنّ لها التّصفيق . لا ترفع صوتها بالقراءة والتّسبيح ، لأنّ مبنى حال النّساء على السّتر ، ولا يطلب منها الدّرء به لقوله صلى الله عليه وسلم : « والتّصفيقُ للنّساء » وقوله : « ولْيصفّق النّساء » وهذا هو المسنون عند الحنفيّة .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فلم يقولوا بالتّسبيح للرّجل ، ولا بالتّصفيق للمرأة في دفع المارّ ، بل قالوا : يدفعه المصلّي بما يستطيعه ويقدّم في ذلك الأسهل فالأسهل .
وقال المالكيّة : يندب للمصلّي دفع المارّ بين يديه دفعا خفيفا لا يتلف له شيء ولا يشغله ، فإن كثر منه ذلك أبطل صلاته . وتفصيل ذلك في الكلام على ( سترة الصّلاة ) .
تصفيق الرّجل في الصّلاة :(164/1)
5 - اتّفق الفقهاء على كراهة تصفيق الرّجل في الصّلاة مطلقاً لما روي عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء ، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه ، فحبس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحانت الصّلاة ، فجاء بلال رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا أبا بكر إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد حبس ، وقد حانت الصّلاة ، فهل لك أن تؤمّ النّاس ؟ قال : نعم إن شئت . فأقام بلال وتقدّم أبو بكر رضي الله عنه ، فكبّر للنّاس . وجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمشي في الصّفوف ، حتّى قام في الصّفّ فأخذ النّاس في التّصفيق ، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته ، فلمّا أكثر النّاس التفت فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمره أن يصلّي ، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه ، فحمد اللّه ورجع القهقرى وراءه حتّى قام في الصّفّ . فتقدّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى للنّاس . فلمّا فرغ أقبل على النّاس فقال : يا أيّها النّاس ما لكم حين نابكم شيء في الصّلاة أخذتم في التّصفيق ؟ إنّما التّصفيق للنّساء . من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان اللّه ، فإنّه لا يسمعه أحد حين يقول : سبحان اللّه إلا التفت . يا أبا بكر ما منعك أن تصلّي للنّاس حين أشرت إليك ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . » " ففي هذا الحديث « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم التّصفيق ، ولم يأمرهم بإعادة الصّلاة » . وفيه الدّليل على كراهة التّصفيق للرّجل في الصّلاة .
التّصفيق من مصلّ للإذن للغير بالدّخول :
6 - أجاز المالكيّة والشّافعيّة تنبيه المصلّي غيره . وذلك عند المالكيّة بالتّسبيح مطلقاً ، وأمّا الشّافعيّة فالتّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء لما سبق بيانه ، وكرهه الحنفيّة والحنابلة.
التّصفيق في الصّلاة على وجه اللّعب :
7 - قال الشّافعيّة ، وهو أحد قولي الحنابلة : إنّ التّصفيق في الصّلاة على وجه اللّعب يبطلها وإن كان قليلا ، لمنافاة اللّعب للصّلاة . والأصل في ذلك حديث الصّحيحين : « من نابه شيء في صلاته فليسبّح ، وإنّما التّصفيق للنّساء » . ولمنافاته للصّلاة .
والقول الآخر للحنابلة : أنّه لا يبطلها إن قلّ ، وإن كثر أبطلها ، لأنّه عمل من غير جنسها ، فأبطلها كثيره عمدا كان أو سهوا . وأمّا الحنفيّة فقد قالوا : إنّ ما يعمل عادة باليدين يكون كثيراً ، بخلاف ما يعمل باليد الواحدة فقد يكون قليلاً ، والعمل الكثير الّذي ليس من أفعال الصّلاة ولا لإصلاحها يفسدها . والتّصفيق لا يتأتّى عادة إلا باليدين كلتيهما ، فإنّه والحالة هذه يكون عملا كثيرا في الصّلاة تبطل به ، لمنافاته لأفعالها .
وعند المالكيّة لا يخلو عن كونه عبثا فيها ، ويجري عليه حكم الفعل الكثير ، لأنّه ليس من جنس أفعال الصّلاة كالنّفخ من الفم فيها فإنّه يبطلها ، كالكلام فيها ، يدلّ عليه قول ابن عبّاس رضي الله عنهما : النّفخ في الصّلاة كالكلام .
وقوله صلى الله عليه وسلم لرباح وهو ينفخ في التّراب : « من نفخ في الصّلاة فقد تكلّم » وإذ جرى على التّصفيق في الصّلاة على وجه اللّعب حكم الفعل الكثير فيها كان مبطلاً لها .
كيفيّة التّصفيق :
8 - للمرأة في كيفيّة تصفيقها في الصّلاة طريقتان عند الحنفيّة والشّافعيّة .
إحداهما : أن تضرب بظهور أصابع اليد اليمنى على صفحة الكفّ اليسرى .
ثانيتهما : أن تضرب ببطن كفّها اليمنى على ظهر كفّها اليسرى ، وهو الأيسر والأقلّ عملاً ، وهذا هو المشهور عندهم .
وعند المالكيّة على القول به أن تضرب بظهر أصبعين من يمينها على باطن كفّها اليسرى . وعند الحنابلة : أن تضرب ببطن كفّ على ظهر الأخرى .
التّصفيق أثناء الخطبة :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الإنصات للخطيب - وهو عند الشّافعيّة مستحبّ - وعليه يحرم عند الجمهور كلّ ما ينافي الإنصات إلى الخطيب ، من أكل وشرب ، وتحريك شيء يحصل منه صوت كورق أو ثوب أو سبحة أو فتح باب أو مطالعة في كرّاس . والتّصفيق في أثناء الخطبة يحدث صوتا يشوّش على الخطيب والسّامعين لخطبته ، ولذا كان حراماً لإخلاله بآداب الاستماع وانتهاكه لحرمة المسجد . والحرمة على من صفّق بالمسجد في أثناء الخطبة أو في رحبته آكد ممّن فعل ذلك خارج المسجد ممّن لا يسمعون الخطيب .
التّصفيق في غير الصّلاة والخطبة :
10 - التّصفيق في غير الصّلاة والخطبة جائز إذا كان لحاجة معتبرة كالاستئذان والتّنبيه ، أو تحسين صناعة الإنشاد ، أو ملاعبة النّساء لأطفالهنّ . أمّا إذا كان لغير حاجة ، فقد صرّح بعض الفقهاء بحرمته ، وبعضهم بكراهته . وقالوا : إنّه من اللّهو الباطل ، أو من التّشبّه بعبادة أهل الجاهليّة عند البيت كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ صلاتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية } . أو هو من التّشبّه بالنّساء ، لما جاء في الحديث من اختصاص النّساء بالتّصفيق إذا ناب الإمام شيء في الصّلاة ، في حين أنّ التّسبيح للرّجال .(164/2)
تطبيق *
التّعريف :
1 - التّطبيق في اللّغة : مصدر طبّق ، ومن معانيه : المساواة والتّعميم والتّغطية قال في المصباح : وأصل الطّبق : الشّيء على مقدار الشّيء مطبقا له من جميع جوانبه كالغطاء له ويقال : طبّق السّحاب الجوّ : إذا غشّاه ، وطبّق الماء وجه الأرض : إذا غطّاه ، وطبّق الغيم : عمّ بمطره . وهو في الاصطلاح الفقهيّ : أن يجعل المصلّي بطن إحدى كفّيه على بطن الأخرى ، ويجعلهما بين ركبتيه وفخذيه .
الحكم الإجماليّ :
2 - يرى جمهور الفقهاء كراهة التّطبيق في الرّكوع . واحتجّوا بما روي « عن مصعب بن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال : صلّيت إلى جنب أبي ، فطبّقت بين كفّيّ ، ثمّ وضعتهما بين فخذيّ ، فنهاني أبي وقال : كنّا نفعله فنهينا عنه ، وأمرنا أن نضع أيدينا على الرّكب » . ومن المعروف أنّ قول الصّحابيّ : كنّا نفعل ، وأمرنا ونهينا ، محمول على أنّه مرفوع . واستدلّوا أيضا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه : « إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك ، وفرّج بين أصابعك » .
قال النّوويّ في شرح صحيح مسلم : وذهب عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه وصاحباه علقمة والأسود إلى أنّ السّنّة التّطبيق ، فقد أخرج مسلم عن « علقمة والأسود أنّهما دخلا على عبد اللّه رضي الله عنه فقال : أصلّي من خلفكم ؟ قالا : نعم . فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، ثمّ ركعنا ، فوضعنا أيدينا على ركبنا ، فضرب أيدينا ، ثمّ طبّق بين يديه ، ثمّ جعلهما بين فخذيه ، فلمّا صلّى قال : هكذا فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . قال العينيّ : وأخذ بذلك إبراهيم النّخعيّ وأبو عبيدة .
وعلّل النّوويّ فعلهم : بأنّه لم يبلغهم النّاسخ ، وهو حديث مصعب بن سعد المتقدّم .(165/1)
تطوّع *
التّعريف :
1 - التّطوّع : هو التّبرّع ، يقال : تطوّع بالشّيء : تبرّع به .
وقال الرّاغب : التّطوّع في الأصل : تكلّف الطّاعة ، وهو في التّعارف : التّبرّع بما لا يلزم كالتّنفّل . قال تعالى : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيرَاً فَهُوَ خَيْرٌ لَه } .
والفقهاء عندما أرادوا أن يعرّفوا التّطوّع ، عدلوا عن تعريف المصدر إلى تعريف ما هو حاصل بالمصدر ، فذكروا له في الاصطلاح ثلاثة معان :
الأوّل : أنّه اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات ، أو ما كان مخصوصا بطاعة غير واجبة ، أو هو الفعل المطلوب طلبا غير جازم . وكلّها معان متقاربة .
وهذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفيّة ، وهو مذهب الحنابلة ، والمشهور عند الشّافعيّة .
وهو رأي الأصوليّين من غير الحنفيّة ، وهو ما يفهم من عبارات فقهاء المالكيّة .
والتّطوّع بهذا المعنى يطلق على : السّنّة والمندوب والمستحبّ والنّفل والمرغّب فيه والقربة والإحسان والحسن ، فهي ألفاظ مترادفة .
الثّاني : أنّ التّطوّع هو ما عدا الفرائض والواجبات والسّنن ، وهو اتّجاه الأصوليّين من الحنفيّة ، ففي كشف الأسرار : السّنّة هي الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير افتراض ولا وجوب ، وأمّا حدّ النّفل - وهو المسمّى بالمندوب والمستحبّ والتّطوّع - فقيل : ما فعله خير من تركه في الشّرع . . . إلخ .
الثّالث : التّطوّع : هو ما لم يرد فيه نقل بخصوصه ، بل ينشئه الإنسان ابتداء ، وهو اتّجاه بعض المالكيّة والقاضي حسين وغيره من الشّافعيّة .
هذه هي الاتّجاهات في معنى التّطوّع وما يرادفه . غير أنّ المتتبّع لما ذكره الأصوليّون من غير الحنفيّة ، وما ذكره الفقهاء في كتبهم - بما في ذلك الحنفيّة - يجد أنّهم يتوسّعون بإطلاق التّطوّع على ما عدا الفرائض والواجبات ، وبذلك يكون التّطوّع والسّنّة والنّفل والمندوب والمستحبّ والمرغّب فيه ألفاظا مترادفة ، ولذلك قال السّبكيّ : إنّ الخلاف لفظيّ . غاية الأمر أنّ ما يدخل في دائرة التّطوّع بعضه أعلى من بعض في الرّتبة ، فأعلاه هو السّنّة المؤكّدة ، كالعيدين ، والوتر عند الجمهور ، وكركعتي الفجر عند الحنفيّة . ويلي ذلك المندوب أو المستحبّ كتحيّة المسجد ، ويلي ذلك ما ينشئه الإنسان ابتداء ، لكنّ كلّ ذلك يسمّى تطوّعا . والأصل في ذلك « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للرّجل - الّذي سأل بعدما عرف فرائض الصّلاة والصّيام والزّكاة : هل عليّ غيرها ؟ فقال له : لا ، إلا أن تطوّع » . أنواع التّطوّع :
2 - من التّطوّع ما يكون له نظير من العبادات ، من صلاة وصيام وزكاة وحجّ وجهاد ، وهذا هو الأصل ، وهو المتبادر حين يذكر لفظ التّطوّع . والتّطوّع في العبادات يختلف في جنسه باعتبارات ، فهو يختلف من حيث الرّتبة ، إذ منه ما هو مؤكّد كالرّواتب مع الفرائض ، ومنه ما هو أقلّ رتبة كتحيّة المسجد ، ومنه ما هو أقلّ كالنّوافل المطلقة ليلاً أو نهاراً . ومن ذلك في الصّوم : صيام يومي عاشوراء وعرفة ، فهما أعلى رتبة من الصّيام في غيرهما ، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أفضل منه في غيرها .
كما أنّ التّطوّع في العبادات يختلف في جنسه كذلك من حيث الإطلاق والتّقييد ، فمنه ما هو مقيّد ، سواء أكان التّقييد بوقت أو بسبب ، كالضّحى وتحيّة المسجد والرّواتب مع الفروض . ومنه ما هو مطلق كالنّفل المطلق باللّيل أو بالنّهار .
ويختلف كذلك من حيث العدد كالرّواتب من الفروض ، إذ هي عند الجمهور عشر ، وعند الحنفيّة اثنتا عشرة ركعة : اثنتان قبل الصّبح ، واثنتان قبل الظّهر ( وعند الحنفيّة أربع ) واثنتان بعده ، واثنتان بعد المغرب ، واثنتان بعد العشاء .
والتّطوّع في النّهار واللّيل مثنى مثنى عند الجمهور ، وعند الحنفيّة الأفضل أربع بتسليمة واحدة . ومثل ذلك تطوّع اللّيل عند أبي حنيفة خلافا للصّاحبين ، وبهذا يفتى .
وفي كلّ ما سبق تفصيل كثير ينظر في مصطلح ( السّنن الرّواتب ، ونفل ) وفيما له أبواب من ذلك مثل : عيد - كسوف - استسقاء . . . إلخ .
ومن التّطوّع ما يكون في غير العبادات كطلب علم غير مفروض .
وكذلك من أنواع البرّ والمعروف ، كالتّطوّع بالإنفاق على قريب لم تجب عليه نفقته ، أو على أجنبيّ محتاج ، أو قضاء الدّين عنه ، أو إبراء المعسر ، أو العفو عن القصاص ، أو الإرفاق المعروف بجعل الغير يحصل على منافع العقار ، أو إسقاط الحقوق . . . وهكذا .
ومنه ما يعرف بعقود التّبرّعات ، كالقرض والوصيّة والوقف والإعارة والهبة ، إذ أنّها قربات شرعت للتّعاون بين النّاس .
3 - ومن التّطوّع ما هو عينيّ مطلوب ندبا من كلّ فرد ، كالتّطوّع بالعبادات غير المفروضة من صلاة وصيام . . . ومنه ما هو على الكفاية كالأذان وغيره .
قال النّوويّ وغيره : ابتداء السّلام سنّة مستحبّة ليس بواجب ، وهو سنّة على الكفاية ، فإن كان المسلّم جماعة كفى عنهم تسليم واحد منهم . وتشميت العاطس سنّة على الكفاية .
حكمة مشروعيّة التّطوّع :
4 - التّطوّع يقرّب العبد من ربّه ويزيده ثوابا ، وفي الحديث القدسيّ : « وما يزال عبدي يتقرّبُ إليّ بالنّوافلِ حتّى أحبَّه . . . » الحديث .
والحكمة من مشروعيّة التّطوّع هي :
أ - اكتساب رضوان اللّه تعالى :
وكذلك نيل ثوابه ومضاعفة الحسنات ، وقد ورد في ثواب التّطوّع بالعبادة أحاديث كثيرة منها : قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها » وغير ذلك كثير في شأن الصّلاة .(166/1)
وفي صوم يوم عاشوراء يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي لأحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله » والمراد الصّغائر . حكاه في شرح مسلم عن العلماء ، فإن لم تكن الصّغائر رجي التّخفيف من الكبائر ، فإن لم تكن رفعت الدّرجات ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من صام رمضان ، ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال كان كصيام الدّهر » .
وقال الزّهريّ : في الاعتكاف تفريغ القلب عن أمور الدّنيا ، وتسليم النّفس إلى بارئها ، والتّحصّن بحصن حصين ، وملازمة بيت اللّه تعالى . وقال عطاء : مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم يجلس على بابه ، ويقول : لا أبرح حتّى تقضى حاجتي .
ومثل ذلك في غير العبادات . يقول اللّه تعالى : { مَنْ ذَا الَّذيْ يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَه أَضْعَافَاً كَثِيرَةً } ، ويقول ابن عابدين : من محاسن العاريّة أنّها نيابة عن اللّه تعالى في إجابة المضطرّ ، لأنّها لا تكون إلّا لمحتاج كالقرض ، فلذا كانت الصّدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر .
ب - الأنس بالعبادة والتّهيّؤ لها :
5 - قال ابن دقيق العيد : في تقديم النّوافل على الفرائض معنى لطيف مناسب ، لأنّ النّفوس لانشغالها بأسباب الدّنيا تكون بعيدة عن حالة الخشوع والخضوع والحضور ، الّتي هي روح العبادة ، فإذا قدّمت النّوافل على الفرائض أنست النّفوس بالعبادة ، وتكيّفت بحالة تقرّب من الخشوع .
ج - جبران الفرائض :
6 - قال ابن دقيق العيد : النّوافل الّتي بعد الفرائض هي لجبر النّقص الّذي قد يقع في الفرائض ، فإذا وقع نقص في الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الّذي قد يقع فيه . وفي الحديث : « فإن انتقص من فريضته شيء ، قال الرّبّ عزّ وجلّ : انظروا هل لعبدي من تطوّع ؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة » .
قال المناويّ في شرحه الكبير على الجامع عند قوله صلى الله عليه وسلم : « أوّل ما افترض اللّه على أمّتي الصّلاة ...» واعلم أنّ الحقّ سبحانه وتعالى لم يوجب شيئا من الفرائض غالبا إلا وجعل له من جنسه نافلة ، حتّى إذا قام العبد بذلك الواجب - وفيه خلل ما - يجبر بالنّافلة الّتي هي من جنسه ، فلذا أمر بالنّظر في فريضة العبد ، فإذا قام بها كما أمر اللّه جوزي عليها ، وأثبتت له ، وإن كان فيها خلل كمّلت من نافلته حتّى قال البعض : إنّما تثبت لك نافلة إذا سلمت لك الفريضة . ولذلك يقول القرطبيّ في شرح مسلم : من ترك التّطوّعات ولم يعمل بشيء منها فقد فوّت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما .
د - التّعاون بين النّاس وتوثيق الرّوابط بينهم واستجلاب محبّتهم :
7 - التّطوّع بأنواع البرّ والمعروف ينشر التّعاون بين النّاس ، ولذلك دعا اللّه إليه في قوله : { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ وَالتَّقْوَى } ، ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « واللّه في عَوْنِ العبد ما دام العبد في عون أخيه » وفي فتح الباري عند قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا » . يقول ابن حجر : في الحديث الحضّ على الخير بالفعل ، وبالتّسبّب إليه بكلّ وجه ، والشّفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف ، إذ ليس كلّ أحد يقدر على الوصول إلى الرّئيس . كذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تَهَادُوا تحابُّوا » .
أفضل التّطوّع :
8 - اختلف الفقهاء في أفضل التّطوّع ، فقيل : أفضل عبادات البدن الصّلاة .
ففرضها أفضل من فرض غيرها ، وتطوّعها أفضل من تطوّع غيرها ، لأنّها أعظم القربات ، لجمعها أنواعاً من العبادات لا تجمع في غيرها .
قال بهذا المالكيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة ، ولهم قول آخر بتفضيل الصّيام .
قال صاحب المجموع : وليس المراد بقولهم : الصّلاة أفضل من الصّوم : أنّ صلاة ركعتين أفضل من صيام أيّام أو يوم ، فإنّ الصّوم أفضل من ركعتين بلا شكّ ، وإنّما معناه أنّ من لم يمكنه الجمع بين الاستكثار من الصّلاة والصّوم ، وأراد أن يستكثر من أحدهما ، أو يكون غالبا عليه ، منسوبا إلى الإكثار منه ، ويقتصر من الآخر على المتأكّد منه ، فهذا محلّ الخلاف والتّفصيل . والصّحيح تفضيل الصّلاة .
ويقول الحنابلة : إنّ أفضل تطوّعات البدن الجهاد لقوله تعالى : { فَضَّلَ اللّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهمْ على القَاعِدينَ دَرَجَةً } ثمّ النّفقة فيه لقوله تعالى : { مَثَلُ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } الآية .
ثمّ تعلّم العلم وتعليمه ، لحديث : « فضل العاِلمِ على العابِدِ كفضلي على أدناكم » .
ثمّ الصّلاة أفضل بعد ذلك ، للإخبار بأنّها أحبّ الأعمال إلى اللّه ، ومداومته صلى الله عليه وسلم على نفلها . ونصّ الإمام أحمد على أنّ الطّواف لغريب أفضل منها ، أي من الصّلاة بالمسجد الحرام ، لأنّه خاصّ به يفوت بمفارقته بخلاف الصّلاة ، فالاشتغال بمفضول يختصّ بقعة أو زمنا أفضل من فاضل لا يختصّ ، واختار عزّ الدّين بن عبد السّلام تبعاً للغزاليّ في الإحياء : أنّ أفضل الطّاعات على قدر المصالح النّاشئة عنها .
9 - ويتفاوت ما يتعدّى نفعه في الفضل ، فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق أجنبيّ ، لأنّها صدقة وصلة ونحو ذلك .(166/2)
وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ : لو ملك عقاراً ، وأراد الخروج عنه ، فهل الأولى الصّدقة به حالا ، أم وقفه ؟ قال ابن عبد السّلام : إن كان ذلك في وقت شدّة وحاجة فتعجيل الصّدقة أفضل ، وإن لم يكن كذلك ففيه وقفة ، ولعلّ الوقف أولى ، لكثرة جدواه . وأطلق ابن الرّفعة تقديم صدقة التّطوّع به ، لما فيه من قطع حظّ النّفس في الحال بخلاف الوقف . وفي المنثور أيضاً : مراتب القرب تتفاوت ، فالقربة في الهبة أتمّ منها في القرض ، وفي الوقف أتمّ منها في الهبة ، لأنّ نفعه دائم يتكرّر ، والصّدقة أتمّ من الكلّ ، لأنّ قطع حظّه من المتصدّق به في الحال . وقيل : إنّ القرض أفضل من الصّدقة .
لأنّ « رسول اللّه رأى ليلة أسري به مكتوباً على باب الجنّة : درهم القرض بثمانية عشر ، ودرهم الصّدقة بعشر ، فسأل جبريل : ما بال القرض أفضل من الصّدقة : فقال : لأنّ السّائل يسأل وعنده ، والمقترض لا يقترض إلا من حاجة » .
وتكسّب ما زاد على قدر الكفاية - لمواساة الفقير أو مجازاة القريب - أفضل من التّخلّي لنفل العبادة ، لأنّ منفعة النّفل تخصّه ، ومنفعة الكسب له ولغيره ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : « خير النّاس أنفعهم للنّاس »
وعن عمر بن الخطّاب قال :" إنّ الأعمال تتباهى ، فتقول الصّدقة : أنا أفضلكم ".
وفي الأشباه لابن نجيم : بناء الرّباط بحيث ينتفع به المسلمون ، أفضل من الحجّة الثّانية .
الحكم التّكليفيّ :
10 - الأصل في التّطوّع أنّه مندوب . سواء أكان ذلك في العبادات من صلاة وصيام . . . أم كان في غيرها من أنواع البرّ والمعروف ، كالإعارة والوقف والوصيّة وأنواع الإرفاق . والدّليل على ذلك من الكتاب آيات منها : قوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى } ، وقوله تعالى : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافَاً كَثِيرَةً } .
ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « من صلّى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ له بهنّ بيت في الجنّة »
قوله : « من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال كان كصيام الدّهر » وقوله : « اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة » وقوله : « لا يمنع أحدُكم جارَه أن يَغْرِزَ خشبه في جداره » .
وقد يعرض له الوجوب ، كبذل الطّعام للمضطرّ ، وكإعارة ما يستغنى عنه لمن يخشى هلاكه بعدمها ، وكإعارة الحبل لإنقاذ غريق .
وقد يكون حراماً ، كالعبادة الّتي تقع في الأوقات المحرّمة كالصّلاة وقت طلوع الشّمس أو غروبها ، وكصيام يومي العيد ، وأيّام التّشريق ، وكتصدّق المدين مع حلول دينه والمطالبة به ، وعدم وجود ما يسدّد به دينه .
وقد يكون مكروهاً ، كوقوع الصّلاة في الأوقات المكروهة ، كما أنّه يكره ترك التّسوية في العطيّة لأولاده .
أهليّة التّطوّع :
11 - التّطوّع يكون في العبادات وغيرها ،
أمّا العبادات فإنّه يشترط في المتطوّع بها ما يلي :
أ - أن يكون مسلما ، فلا يصحّ التّطوّع بالعبادات من الكافر ، لأنّه ليس من أهل العبادة .
ب - أن يكون عاقلا ، فلا تصحّ العبادة من المجنون ، لعدم صحّة نيّته . وهذا في غير الحجّ ، لأنّه في الحجّ يحرم عنه وليّه ، وكذلك يحرم الوليّ عن الصّبيّ غير المميّز .
ج - التّمييز ، فلا يصحّ التّطوّع من غير المميّز ، ولا يشترط البلوغ ، لأنّ تطوّع الصّبيّ بالعبادات صحيح .
وأمّا بالنّسبة لغير العبادات : فإنّ الشّرط هو أهليّة التّبرّع من عقل وبلوغ ورشد ، فلا يصحّ تبرّع محجور عليه لصغر أو سفه أو دين أو غير ذلك . وتفصيل هذا ينظر في ( أهليّة ) .
أحكام التّطوّع :
12 - أحكام التّطوّع منها ما يخصّ العبادات ، ومنها ما يشمل العبادات وغيرها ، ومنها ما يخصّ غير العبادات ، وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً ما يخصّ العبادات :
أ - ما تسنّ له الجماعة من صلاة التّطوّع :
13 - تسنّ الجماعة لصلاة الكسوف باتّفاق بين المذاهب ، وتسنّ للتّراويح عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وهي مندوبة عند المالكيّة ، إذ الأفضل الانفراد بها - بعيدا عن الرّياء - إن لم تعطّل المساجد عن فعلها فيها . وتسنّ الجماعة كذلك لصلاة الاستسقاء عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، أمّا عند الحنفيّة فتصلّى جماعة وفرادى عند محمّد ، ولا تصلّى إلّا فرادى عند أبي حنيفة . وتسنّ الجماعة لصلاة العيدين عند المالكيّة والشّافعيّة . أمّا عند الحنفيّة والحنابلة فالجماعة فيها واجبة . ويسنّ الوتر جماعة عند الحنابلة .
وبقيّة التّطوّعات تجوز جماعة وفرادى عند الشّافعيّة والحنابلة ، وتكره جماعة عند الحنفيّة إذا كانت على سبيل التّداعي ، وعند المالكيّة الجماعة في الشّفع والوتر سنّة والفجر خلاف الأولى . أمّا غير ذلك فيجوز فعله جماعة ، إلا أن تكثر الجماعة أو يشتهر المكان فتكره الجماعة حذر الرّياء . والتّفصيل ينظر في ( صلاة الجماعة - نفل ) .
مكان صلاة التّطوّع :
14 - صلاة التّطوّع في البيوت أفضل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم ، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » ويستثنى من ذلك ما شرعت له الجماعة ، ففعله في المسجد أفضل ، ويستثنى كذلك عند المالكيّة صلاة الرّواتب مع الفرائض ، فيندب فعلها في المسجد ، كما أنّ تحيّة المسجد تصلّى في المسجد . ويستحبّ للمصلّي عند الجمهور أن يتنفّل في غير المكان الّذي صلّى فيه المكتوبة .(166/3)
وقال الكاسانيّ من الحنفيّة : يكره للإمام أن يصلّي شيئا من السّنن في المكان الّذي صلّى فيه المكتوبة ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيعجز أحدُكم إذا صلّى أن يتقدّمَ أو يتأخّر » ، ولا يكره ذلك للمأموم ، لأنّ الكراهة في حقّ الإمام للاشتباه ، وهذا لا يوجد في حقّ المأموم ، لكن يستحبّ له أن يتنحّى أيضاً ، حتّى تنكسر الصّفوف ، ويزول الاشتباه على الدّاخل من كلّ وجه .
وقال ابن قدامة : قال أحمد : لا يتطوّع الإمام في مكانه الّذي صلّى فيه المكتوبة . كذا قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . قال أحمد : ومن صلّى وراء الإمام فلا بأس أن يتطوّع مكانه ، فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما . وبهذا قال إسحاق ، وروى أبو بكر حديث عليّ بإسناده . وبإسناده عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يتطوّع الإمام في مقامه الّذي يصلّي فيه المكتوبة » .
صلاة التّطوّع على الدّابّة :
15 - يجوز باتّفاق المذاهب صلاة التّطوّع على الدّابّة في السّفر .
قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر الطّويل قال التّرمذيّ : هذا عند عامّة أهل العلم ،
وقال ابن عبد البرّ : أجمعوا على أنّه جائز لكلّ من سافر سفراً يقصر فيه الصّلاة أن يتطوّع على دابّته حيثما توجّهت ، يومئ بالرّكوع والسّجود ، ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع .
ويجوز عند الحنابلة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر القصير أيضا ، لقوله تعالى : { وَلِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في التّطوّع خاصّة حيث توجّه به بعيرك .
وهذا يتناول بإطلاقه محلّ النّزاع ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره » ، وفي رواية : « كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ، يومئ برأسه » وكان ابن عمر يفعله . وللبخاريّ : « إلا الفرائض » ولمسلم وأبي داود : « غير أنّه لا يصلّي عليها المكتوبة » ولم يفرّق بين قصير السّفر وطويله ، ولأنّ إباحة الصّلاة على الرّاحلة تخفيف في التّطوّع ، كي لا يؤدّي إلى قطعها وتقليلها .
والوتر واجب عند الحنفيّة ، ولهذا لا يؤدّى على الرّاحلة عند القدرة على النّزول . كذلك روى الحسن عن أبي حنيفة أنّ من صلّى ركعتي الفجر على الدّابّة من غير عذر وهو يقدر على النّزول لا يجوز ، لاختصاص ركعتي الفجر بزيادة توكيد وترغيب بتحصيلها وترهيب وتحذير على تركها ، فالتحقت بالواجبات كالوتر . وينظر تفصيل ذلك في : ( نفل - نافلة ).
صلاة التّطوّع قاعداً :
16 - تجوز صلاة التّطوّع من قعود باتّفاق بين المذاهب .
قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً في إباحة التّطوّع جالساً ، وأنّه في القيام أفضل ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى قائما فهو أفضل ، ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم » ولأنّ كثيراً من النّاس يشقّ عليه القيام ، فلو وجب في التّطوّع لترك أكثره ، فسامح الشّارع في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره .
الفصل بين الصّلاة المفروضة وصلاة التّطوّع :
17 - يستحبّ أن يفصل المصلّي بين الصّلاة المفروضة وصلاة التّطوّع بعدها بالأذكار الواردة ، كالتّسبيح والتّحميد والتّكبير ، وهذا عند الجمهور . وعند الحنفيّة يكره الفصل بين المكتوبة والسّنّة ، بل يشتغل بالسّنّة . وللتّفصيل : ( ر : نفل ) .
قضاء التّطوّع :
18 - إذا فات التّطوّع - سواء المطلق ، أو المقيّد بسبب أو وقت - فعند الحنفيّة والمالكيّة لا يقضى سوى ركعتي الفجر ، لما روت أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : « صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العصر ثمّ دخل بيتي فصلّى ركعتين ، فقلت : يا رسول اللّه ، صلّيتَ صلاة لم تكن تصلّيها فقال : قدم عليَّ مالٌ فشغلني عن الرّكعتين كنت أركعهما بعد الظّهر ، فصلّيتهما الآن . فقلت : يا رسول اللّه أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : لا » .
وهذا نصّ على أنّ القضاء غير واجب على الأمّة ، وإنّما هو شيء اختصّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا شركة لنا في خصائصه . وقياس هذا الحديث أنّه لا يجب قضاء ركعتي الفجر أصلا ، إلا أنّا استحسنّا القضاء إذا فاتتا مع الفرض ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما مع الفرض ليلة التّعريس » فنحن نفعل ذلك لنكون على طريقته .
وهذا بخلاف الوتر ، لأنّه واجب عند الحنفيّة ، والواجب ملحق بالفرض في حقّ العمل .
وقال النّوويّ من الشّافعيّة : لو فات النّفل المؤقّت " كصلاة العيد والضّحى " ندب قضاؤه في الأظهر ، لحديث الصّحيحين : « من نسي صلاةً أو نام عنها فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذكرها » ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الفجر لمّا نام في الوادي عن صلاة الصّبح إلى أن طلعت الشّمس » . وفي مسلم نحوه .
« وقضى ركعتي سنّة الظّهر المتأخّرة بعد العصر » ، ولأنّها صلاة مؤقّتة فقضيت كالفرائض ، وسواء السّفر والحضر ، كما صرّح به ابن المقري .
والثّاني : لا يقضى كغير المؤقّت .
والثّالث : إن لم يتبع غيره كالضّحى قضي ، لشبهه بالفرض في الاستقلال ، وإن تبع غيره كالرّواتب فلا . قال الخطيب الشّربينيّ في شرح المنهاج : قضيّة كلامه - أي النّوويّ - أنّ المؤقّت يقضي أبدا وهو الأظهر ، والثّاني : يقضي فائتة النّهار ما لم تضرب شمسه ، وفائتة اللّيل ما لم يطلع فجره . والثّالث : يقضي ما لم يصلّ الفرض الّذي بعده .
وخرج بالمؤقّت ما له سبب كالتّحيّة والكسوف فإنّه لا مدخل للقضاء فيه .(166/4)
نعم لو فاته وِرْدُه من الصّلاة ، فإنّه يندب له قضاؤه كما قاله الأذرعيّ .
وعند الحنابلة ، قال الإمام أحمد : لم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التّطوّع ، إلا ركعتي الفجر والرّكعتين بعد العصر .
وقال القاضي وبعض الأصحاب : لا يقضى إلا ركعتا الفجر وركعتا الظّهر .
وقال ابن حامد : تقضى جميع السّنن الرّواتب ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بعضها ، وقسنا الباقي عليها . وفي شرح منتهى الإرادات : يسنّ قضاء الرّواتب ، إلا ما فات مع فرضه وكثر ، فالأولى تركه ، إلا سنّة الفجر فيقضيها مطلقاً لتأكّدها .
انقلاب الواجب تطوّعاً :
19 - قد ينقلب واجب العبادات إلى تطوّع ، سواء أكان بقصد أم بغير قصد .
ومن ذلك مثلاً في الصّلاة يقول ابن نجيم : لو افتتح الصّلاة بنيّة الفرض ، ثمّ غيّر نيّته في الصّلاة وجعلها تطوّعا ، صارت تطوّعاً .
وفي شرح منتهى الإرادات : إن أحرم مصلٍّ بفرض ، كظهر في وقته المتّسع له ولغيره ، ثمّ قلبه نفلا ، بأن فسخ نيّة الفرضيّة دون نيّة الصّلاة ، صحّت مطلقا ، أي سواء كان صلّى الأكثر منها أو الأقلّ ، وسواء كان لغرض صحيح أو لا ، لأنّ النّفل يدخل في نيّة الفرض ، وكره قلبه نفلا لغير غرض صحيح . ثمّ قال : وينقلب نفلا ما بان عدمه ، كما لو أحرم بفائتة ظنّها عليه ، فتبيّن أنّه لم تكن عليه فائتة ، أو أحرم بفرض ثمّ تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ، لأنّ الفرض لم يصحّ ، ولم يوجد ما يبطل النّفل .
ومن ذلك الصّيام . جاء في شرح منتهى الإرادات : من قطع نيّة صوم نذر أو كفّارة أو قضاء ، ثمّ نوى صوماً نفلا صحّ نفله ، وإن قلب صائم نيّة نذر أو قضاء إلى نفل صحّ ، كقلب فرض الصّلاة نفلاً .
وخالف الحجّاويّ في " الإقناع " في مسألة قلب القضاء ، وكره له ذلك لغير غرض .
ومن ذلك الزّكاة . جاء في بدائع الصّنائع : إذا دفع الزّكاة إلى رجل ، ولم يخطر بباله أنّه ليس ممّن تصرف الزّكاة إليهم وقت الدّفع ، ولم يشكّ في أمره ، فإذا ظهر بيقين أنّه ليس من مصارفها لم تجزئه زكاة ، ويجب عليه الإعادة ، وليس له أن يستردّ ما دفع إليه ، ويقع تطوّعا . ثمّ قال الكاسانيّ في موضع آخر : حكم المعجّل إذا لم يقع زكاة : أنّه إن وصل إلى يد الفقير يكون تطوّعاً ، سواء وصل إلى يده من يد ربّ المال أو من يد الإمام أو نائبه - وهو السّاعي - لأنّه حصل أصل القربة .
وصدقة التّطوّع لا يحتمل الرّجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير .
وفي المهذّب أيضاً : من أحرم بالحجّ في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة ، لأنّها عبادة مؤقّتة ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال ، فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل . وفي الأشباه لابن نجيم : لو أحرم بالحجّ نذراً ونفلاً كان نفلا ، ولو أحرم بالحجّ فرضا وتطوّعا كان تطوّعا عندهما في الأصحّ .
حصول التّطوّع بأداء الفرض وعكسه :
20 - هناك صور يحصل التّطوّع فيها بأداء الفرض ، ولكنّ ثواب التّطوّع لا يحصل إلا بنيّته . جاء في الأشباه لابن نجيم - في الجمع بين عبادتين - قالوا : لو اغتسل الجنب يوم الجمعة للجمعة ولرفع الجنابة ، ارتفعت جنابته ، وحصل له ثواب غسل الجمعة .
وفي ابن عابدين : مَنْ عليه جنابة نسيها واغتسل للجمعة مثلاً ، فإنّه يرتفع حدثه ضمناً ، ولا يثاب ثواب الفرض ، وهو غسل الجنابة ما لم ينوه ، لأنّه لا ثواب إلّا بالنّيّة .
وفي الشّرح الصّغير : تتأدّى تحيّة المسجد بصلاة الفرض فيسقط طلب التّحيّة بصلاته ، فإن نوى الفرض والتّحيّة حصلا ، وإن لم ينو التّحيّة لم يحصل له ثوابها ، لأنّ الأعمال بالنّيّات . ومثل ذلك غسل الجمعة والجنابة ، وصيام يوم عرفة مع نيّة قضاء ما عليه .
وفي القواعد لابن رجب : لو طاف عند خروجه من مكّة طوافاً ينوي به الزّيارة والوداع ، فقال الخرقيّ وصاحب المغني : يجزئه عنهما .
ثانياً ما يشمل العبادات وغيرها من أحكام :
أ - قطع التّطوّع بعد الشّروع فيه :
21 - إذا كان التّطوّع عبادة كالصّلاة والصّيام ، فعند الحنفيّة والمالكيّة : إذا شرع فيه وجب إتمامه ، وإذا فسد وجب قضاؤه ، لأنّ التّطوّع يلزم بالشّروع مُضِيّا وقضاء .
ولأنّ المؤدّى عبادة ، وإبطال العبادة حرام ، لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكمْ } .
وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وحفصة رضي الله عنهما وقد أفطرتا في صوم التّطوّع اقضيا يوما مكانه » .
غير أنّ المالكيّة لا يوجبون القضاء إلا إذا كان الفساد متعمّداً ، فإن كان لعذر فلا قضاء . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يستحبّ الإتمام إذا شرع في التّطوّع ولا يجب ، كما أنّه يستحبّ القضاء إذا فسد ، إلّا في تطوّع الحجّ والعمرة فيجب إتمامهما إذا شرع فيهما ، لأنّ نفلهما كفرضهما نيّة وفدية وغيرهما .
واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة على عدم وجوب الإتمام بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الصّائم المتطوّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر » .
وتنظر التّفاصيل في ( نفل ، صلاة ، صيام ، حجّ ) .
22 - أمّا غير ذلك من التّطوّعات ، فإمّا أن يكون من قبيل عقود التّبرّعات المعروفة كالهبة والعاريّة والوقف والوصيّة ، وإمّا أن يكون من غير ذلك .
فإن كان من عقود التّبرّعات ، فلكلّ عقد حكمه في جواز الرّجوع أو عدم جوازه . ففي الوصيّة مثلا : يجوز باتّفاق الرّجوع فيها ما دام الموصي حيّا .(166/5)
وفي العاريّة والقرض : يجوز الرّجوع بطلب ردّ الشّيء المستعار واسترداد بدل القرض في الحال بعد القبض . وهذا عند غير المالكيّة ، بل قال الجمهور : إنّ المقرض إذا أجّل القرض لا يلزمه التّأجيل ، لأنّه لو لزم فيه الأجل لم يبق تبرّعاً .
ويجوز الرّجوع في الهبة قبل القبض ، فإذا تمّ القبض فلا رجوع عند الشّافعيّة والحنابلة ، إلا فيما وهب الوالد لولده ، وعند الحنفيّة : يجوز الرّجوع إن كانت لأجنبيّ .
وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في أبوابه . وفي ( تبرّع ) .
أمّا غير ذلك من التّبرّعات كالصّدقة والإنفاق وما شابه ذلك ، فإن كان قد مضى فلا رجوع فيه ، ما دام ذلك قد تمّ بنيّة التّبرّع . يقول ابن عابدين : لا رجوع في الصّدقة لأنّ المقصود فيها الثّواب لا العوض . ويقول ابن قدامة : لا يجوز للمتصدّق الرّجوع في صدقته في قولهم جميعا ، لأنّ عمر رضي الله عنه قال في حديثه : من وهب هبة على وجه صدقة فإنّه لا يرجع فيها . ومثل ذلك الإنفاق إذا كان بقصد التّبرّع فلا رجوع فيه .
يقول ابن عابدين : إذا أنفق الوصيّ من مال نفسه على الصّبيّ ، وللصّبيّ مال غائب ، فهو متطوّع في الإنفاق استحساناً ، إلا أن يشهد أنّه قرض ، أو أنّه يرجع به عليه .
ويقول ابن القيّم : المقاصد تغيّر أحكام التّصرّفات ، فالنّيّة لها تأثير في التّصرّفات ، ومن ذلك أنّه لو قضى عن غيره ديناً ، أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك - ينوي التّبرّع والهبة - لم يملك الرّجوع بالبدل ، وإن لم ينو فله الرّجوع . على أنّ في ذلك تفصيلاً وخلافاً بين المذاهب في بعض الفروع ، ومن ذلك مثلا : أنّ الشّافعيّة يجيزون للأب ولسائر الأصول الرّجوع في الصّدقة المتطوّع بها على الولد ، أمّا الواجبة فلا رجوع فيها .
ولا يجيزون للأب الرّجوع في الإبراء لولده عن دينه . بينما يجيز الحنابلة رجوع الأب فيما أبرأ ابنه منه من الدّيون . وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ، صدقة ، إبراء ، هبة ، نفقة ) .
23 - أمّا ما شرع فيه من الصّدقة . فأخرج بعضه ، فلا يلزمه الصّدقة بباقيه .
يقول ابن قدامة : انعقد الإجماع على أنّ الإنسان لو نوى الصّدقة بمال مقدّر ، وشرع في الصّدقة به ، فأخرج بعضه لم تلزمه الصّدقة بباقيه ، وهو نظير الاعتكاف ، لأنّه غير مقدّر بالشّرع فأشبه الصّدقة ، غير أنّ ابن رجب ذكر خلافا في ذلك .
والحطّاب عدّ الأشياء الّتي تلزم بالشّروع ، وهي سبع : الصّلاة والصّوم والاعتكاف والحجّ والعمرة والائتمام والطّواف . ثمّ ذكر ما لا يلزم بالشّروع ، وأنّه لا يجب القضاء بقطعه ، وهو : الصّدقة والقراءة والأذكار والوقف والسّفر للجهاد ، وغير ذلك من القربات .
وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ، صدقة ) .
ب - نيّة التّطوّع :
24 - التّطوّع - إن كان عبادة - فلا بدّ فيه من النّيّة بالإجماع ، لقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » وهي مقصودة بها تمييز العبادات عن العادات ، وتمييز بعض العبادات عن بعض. فالغسل قد يكون تبرّدا وعبادة ، والإمساك عن المفطرات قد يكون حميّة أو تداويا ، ودفع المال يكون صدقة شرعيّة وصلة متعارفة . . وهكذا ، وعلى ذلك فالنّيّة شرط في العبادات باتّفاق ، إلّا أنّ الفقهاء يختلفون في النّيّة في تطوّع العبادات بالنّسبة للتّعيين أو الإطلاق . 25 - والتّطوّع في العبادات ، منه ما هو مطلق كالتّهجّد والصّوم ، ومنه ما هو مقيّد كصلاة الكسوف والسّنن الرّواتب مع الفرائض ، وكصيام عرفة وعاشوراء .
أمّا التّطوّع المطلق ، فيصحّ عند جميع الفقهاء أداؤه دون تعيينه بالنّيّة ، وتكفي نيّة مطلق الصّلاة أو مطلق الصّوم .
أمّا التّطوّع المعيّن كالرّواتب والوتر والتّراويح ، وصلاة الكسوف والاستسقاء ، وصيام يوم عاشوراء ، فإنّه يشترط فيه تعيينه بالنّيّة ، وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض مشايخ الحنفيّة ، غير أنّ المالكيّة حدّدوا المعيّن عندهم بأنّه : الوتر والعيدان وصلاة الكسوف والاستسقاء ورغيبة الفجر ، أمّا غير ذلك فهو من المطلق عندهم .
والصّحيح المعتمد عند الحنفيّة أنّ التّطوّع المعيّن أو المقيّد يصحّ دون تعيينه ، وأنّه يكفي فيه مطلق النّيّة كالتّطوّع المطلق ، وهو ما عليه أكثر مشايخ الحنفيّة .
26 - أمّا غير العبادات من التّطوّعات ، فالأصل أنّه لا مدخل للنّيّة فيها ، إلا أنّ نيّة القربة فيها - امتثالا لأوامر الشّرع الّتي تحثّ على المعروف - مطلوبة لاستحقاق الثّواب ، إذ أنّها لا تتمحّض قربة إلّا بهذه النّيّة .
يقول الشّاطبيّ : المقاصد معتبرة في التّصرّفات من العبادات والعادات . إلى أن قال : وأمّا الأعمال العاديّة - وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نيّة - فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثّواب إلا مع قصد الامتثال ، وفي الأشباه لابن نجيم : لا يتوقّف الوقف ولا الهبة ولا الوصيّة على النّيّة ، فالوصيّة إن قصد التّقرّب بها فله الثّواب ، وإلّا فهي صحيحة فقط ، وكذلك الوقف إن نوى القربة فله الثّواب وإلا فلا ، وعلى هذا سائر القرب لا بدّ فيها من النّيّة ، بمعنى توقّف حصول الثّواب على قصد التّقرّب بها إلى اللّه تعالى .
وفي الشّرح الصّغير : الهبة من التّبرّعات المندوبة كالصّدقة ، وهذا إن صحّ القصد ، وإن استحضر أنّ ذلك ممّا رغّب فيه الشّرع فإنّه يثاب . وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ : عيادة المريض واتّباع الجنازة وردّ السّلام قربة ، لا يستحقّ الثّواب عليها إلا بالنّيّة .
ج - النّيابة في التّطوّع :(166/6)
27 - التّطوّع إن كان من العبادات البدنيّة كالصّلاة والصّوم ، فلا تجوز فيه النّيابة ، لأنّه لا تجوز النّيابة في فرضه في الجملة ، فلا تجوز في نفله . وإن كان مركّبا منهما كالحجّ ، فعند الحنفيّة والحنابلة تصحّ النّيابة فيه ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وأحد قولين معتمدين عند المالكيّة . أمّا غير ذلك من العبادات الماليّة والتّطوّعات بأنواع البرّ والمعروف ، كالصّدقة والهدي والعتق والوقف والوصيّة والهبة والإبراء وغيرها فإنّه تجوز النّيابة فيها . كما أنّه يجوز عند الحنفيّة والحنابلة أن يتطوّع الإنسان بجعل ثواب عمله من صلاة وصيام وحجّ وصدقة وعتق وطواف وعمرة وقراءة وغير ذلك لغيره ، من حيّ أو ميّت . بدليل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « ضحّى بكبشين أملحين ، أحدهما عنه ، والآخر عن أمّته » . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص ، لمّا سأله عن أبيه : لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدّقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك » . قال ابن قدامة : وهذا عامّ في حجّ التّطوّع وغيره ، ولأنّه عمل برّ وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصّدقة والصّيام والحجّ الواجب . « عن أنس رضي الله عنه قال : يا رسول اللّه ، إنّا نتصدّق عن موتانا ، ونحجّ عنهم ، وندعو لهم ، فهل يصل ذلك لهم ؟ قال : نعم ، إنّه ليصل إليهم ، وإنّهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطّبق إذا أهدي إليه » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ من البرّ بعد الموت أن تصلّي لأبويك مع صلاتك ، وأن تصوم لهما مع صومك » وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز فيما عدا الصّلاة والصّيام .
وينظر تفصيل ذلك في : ( نيابة - وكالة - نفل - صدقة - صلاة - وصوم ) .
د - الأجرة على التّطوّع :
28 - الأصل أنّ كلّ طاعة يختصّ بها المسلم لا يجوز أخذ الأجرة عليها ، كالإمامة والأذان والحجّ والجهاد وتعليم القرآن . لما روى عثمان بن أبي العاص قال : « إنّ آخر ما عهد إليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أتَّخِذَ مؤذّناً لا يأخذُ على أذانه أجراً » ولأنّ القربة متى حصلت وقعت عن العامل ، ولهذا تعتبر أهليّته ، فلا يجوز أخذ الأجر عن غيره كما في الصّوم والصّلاة . هذا مذهب الحنفيّة ، وهو رواية عند الحنابلة .
ويصحّ مع الكراهة عند المالكيّة . جاء في الشّرح الصّغير : تكره إجارة الإنسان نفسه في عمل للّه تعالى ، حجّا أو غيره ، كقراءة وإمامة وتعليم علم ، وصحّته مع الكراهة .
كما تكره الإجارة على الأذان ، قال مالك : لأن يؤاجر الرّجل نفسه في عمل اللّبن وقطع الحطب وسوق الإبل أحبّ إليّ من أن يعمل عملا للّه بأجرة .
وقال الشّافعيّة ، كما في نهاية المحتاج : لا تصحّ إجارة مسلم لجهاد ولا لعبادة يجب لها نيّة ، وألحقوا بذلك الإمامة ولو لنفل ، لأنّه حصل لنفسه . أمّا ما لا تجب له نيّة كالأذان فيصحّ الاستئجار عليه ، واستثني ممّا فيه نيّة : الحجّ والعمرة ، فيجوز الاستئجار لهما أو لأحدهما عن عاجز أو ميّت ، وتقع صلاة ركعتي الطّواف تبعا لهما ، وتجوز الإجارة عن تفرقة زكاة وكفّارة وأضحيّة وهدي وذبح وصوم عن ميّت وسائر ما يقبل النّيابة وإن توقّف على النّيّة ، لما فيها من شائبة المال . وتصحّ الإجارة لكلّ ما لا تجب له نيّة .
وتصحّ لتجهيز ميّت ودفنه وتعليم قرآن ولقراءة القرآن عند القبر أو مع الدّعاء .
وفي الاختيارات الفقهيّة لابن تيميّة : لا يجوز للإنسان أن يقبل هديّة من شخص ليشفع له عند ذي أمر ، أو أن يرفع عنه مظلمة ، أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولاية يستحقّها ، أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحقّ لذلك ، وإذا امتنعت الهديّة امتنعت الأجرة من باب أولى . والأصل في ذلك : أنّ من أخذ أجرا على عمل تطوّع - ممّا يجوز عند الفقهاء - فإنّه يعتبر أجيراً ، وليس متطوّعا بالقربات ، لأنّ القرب والطّاعات إذا وقعت بأجرة لم تكن قربة ولا عبادة ، لأنّه لا يجوز التّشريك في العبادة ، لكن إذا كان الرّزق من بيت المال أو من وقف فإنّه يعتبر نفقة في المعنى ، ولا يعتبر أجراً .
جاء في الاختيارات الفقهيّة : الأعمال الّتي يختصّ فاعلها أن يكون من أهل القربة ، هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة ؟ فمن قال : لا يجوز ذلك ، لم يجز الإجارة عليها ، لأنّها بالعوض تقع غير قربة و« إنّما الأعمال بالنّيّات » واللّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه ، ومن جوّز الإجارة جوّز إيقاعها على غير وجه القربة ، وقال : تجوز الإجارة عليها لا فيها من نفع المستأجر ، وأمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة ، بل رزق للإعانة على الطّاعة ، فمن عمل منهم للّه أثيب . وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ والموصى به كذلك ، والمنذور كذلك ، ليس كالأجرة .
ويقول القرافيّ : باب الأرزاق أدخل في باب الإحسان وأبعد عن باب المعاوضة ، وباب الإجارة أبعد من باب المسامحة وأدخل في باب المكايسة ، ثمّ يقول : الأرزاق مجمع على جوازها ، لأنّها إحسان ومعروف وإعانة لا إجارة .
انقلاب التّطوّع إلى واجب :
29 - ينقلب التّطوّع إلى واجب لأسباب متعدّدة منها :
أ - الشّروع :
30 - التّطوّع بالحجّ عند جميع الفقهاء يصير واجباً بالشّروع فيه ، بحيث إذا فسد وجب قضاؤه . ومثل ذلك : الصّلاة والصّيام عند الحنفيّة والمالكيّة .
ب - التّطوّع بالحجّ ممّن لم يحجّ حجّة الإسلام :(166/7)
31 - قال ابن قدامة : من أحرم بحجّ تطوّع - ممّن لم يحجّ حجّة الإسلام - وقع عن حجّة الإسلام ، وبهذا قال ابن عمر وأنس والشّافعيّ ، لأنّه أحرم بالحجّ وعليه فرضه ، فوقع عن فرضه كالمطلق . ولو أحرم بتطوّع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة ، ولأنّها واجبة فهي كحجّة الإسلام . والعمرة كالحجّ فيما ذكرنا لأنّها أحد النّسكين ، فأشبهت الآخر .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى : أنّه إذا نوى حجّة نفل - ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام - وقع عمّا نواه ، لأنّ وقت الحجّ يشبه وقت الصّلاة ( ظرف ) ووقت الصّوم ( معيار ) فأعطي حكمهما ، فيتأدّى فرضه بمطلق النّيّة ، ويقع عن النّفل إذا نواه .
وقال ابن نجيم : لو طاف بنيّة التّطوّع في أيّام النّحر وقع عن الفرض .
وفي البدائع : لو تصدّق بجميع ماله على فقير ، ولم ينو الزّكاة أجزأه عن الزّكاة استحساناً. والقياس : أن لا يجوز ، لأنّ الزّكاة عبادة مقصودة ، فلا بدّ لها من النّيّة .
ووجه الاستحسان أنّ النّيّة وجدت دلالة ، وعلى هذا إذا وهب جميع النّصاب من الفقير ، أو نوى تطوّعاً ، ولو أدّى مائة لا ينوي الزّكاة ، ونوى تطوّعاً ، لا تسقط زكاة المائة وعليه أن يزكّي الكلّ عند أبي يوسف . وعند محمّد يسقط عنه زكاة ما تصدّق ، ولا يسقط عنه زكاة الباقي .
ج - الالتزام أو التّعيين بالنّيّة والقول :
32 - جاء في الدّرّ المختار : لو نذر التّصدّق يوم الجمعة بمكّة بهذا الدّرهم على فلان ، فخالف ، جاز . قال ابن عابدين : فلو خالف في بعضها أو كلّها ، بأن تصدّق في غير يوم الجمعة ببلد آخر بدرهم آخر على شخص آخر جاز ، لأنّ الدّاخل تحت النّذر ما هو قربة ، وهو أصل التّصدّق دون التّعيين ، فبطل التّعيين ولزمه القربة .
ثمّ قال ابن عابدين : وهذا ليس على إطلاقه لما في البدائع : لو قال : للّه عليّ أن أطعم هذا المسكين شيئا سمّاه ولم يعيّنه ، فلا بدّ أن يعطيه للّذي سمّى ، لأنّه إذا لم يعيّن المنذور صار تعيين الفقير مقصودا ، فلا يجوز أن يعطي غيره . وفي الاختيار : لا تجب الأضحيّة على الفقير ، لكنّها تجب بالشّراء ، ويتعيّن ما اشتراه للأضحيّة . فإن مضت أيّام الأضحيّة ولم يذبح ، تصدّق بها حيّة ، لأنّها غير واجبة على الفقير ، فإذا اشتراها بنيّة الأضحيّة تعيّنت للوجوب ، والإراقة إنّما عرفت قربة في وقت معلوم ، وقد فات فيتصدّق بعينها .
وإن كان المضحّي غنيّاً ، وفات وقت الأضحيّة ، تصدّق بثمنها ، اشتراها أو لا ، لأنّها واجبة عليه ، فإذا فات وقت القربة في الأضحيّة تصدّق بالثّمن إخراجا له عن العهدة .
وجاء في نهاية المحتاج : الأضحيّة سنّة ، ولكنّها تجب بالالتزام ، كقوله : جعلت هذه الشّاة أضحيّة كسائر القرب . وفي تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطّاب : الالتزام المطلق يقضى به على الملتزم ، ما لم يفلّس أو يمت أو يمرض .
وقال ابن رشد في نوازله فيمن عزل لمسكين معيّن شيئاً ، وبتّله له بقول أو نيّة ، فلا يجوز له أن يصرفه إلى غيره ، وهو ضامن له إن فعل . ولو نوى أن يعطيه ولم يبتّله له بقول ولا نيّة كره له أن يصرفه إلى غيره . ومعنى بتّله : جعله له من الآن .
وفي الفواكه الدّواني : من أخرج كسرة لسائل فوجده قد ذهب لا يجوز له أكلها ، ويجب عليه أن يتصدّق بها على غيره ، كما قاله مالك . وقال غيره : يجوز له أكلها ، وقال ابن رشد : يحمل كلام غير مالك على ما إذا أخرجها لمعيّن ، فيجوز له أكلها عند عدم وجوده أو عدم قبوله ، وحمل كلام مالك على إخراجها لغير معيّن ، فلا يجوز له أكلها بل يتصدّق بها على غيره ، لأنّه لم يعيّن الّذي يأخذها .
وفي القواعد الفقهيّة لابن رجب : الهدي والأضحيّة يتعيّنان بالتّعيين بالقول بلا خلاف .
وفي تعيينه بالنّيّة وجهان ، فإذا قال : هذه صدقة ، تعيّنت وصارت في حكم المنذورة ، وإذا عيّن بنيّته أن يجعلها صدقة - وعزلها عن ماله - فهو كما لو اشترى شاة ينوي التّضحية.
د - النّذر :
33 - النّذر بالقرب والطّاعات يجعلها واجبة .
قال الكاسانيّ : النّذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة .
وفي فتح العليّ المالك : النّذر المطلق : هو التزام طاعة اللّه تعالى بنيّة القربة .
هـ - استدعاء الحاجة :
34 - قال ابن رجب في قواعده : ما تدعو الحاجة إلى الانتفاع به من الأعيان - ولا ضرر في بذله لتيسّره ، وكثرة وجوده - أو المنافع المحتاج إليها يجب بذله مجّانا بغير عوض في الأظهر ، ومن ذلك وضع الخشب على جدار الجار إذا لم يضرّ ، واختار بعضهم وجوب بذل الماعون ، وهو ما خفّ قدره وسهل ( وجرت العادة ببذله ) ، ومنها : المصحف تجب إعارته لمسلم احتاج القراءة فيه . وفي حاشية الصّاويّ على الشّرح الصّغير : العاريّة مندوبة ، وقد يعرض وجوبها ، كغنيّ عنها لمن يخشى بعدمها هلاكه .
وفي القرض قال : القرض مندوب ، وقد يعرض له ما يوجبه كالقرض لتخليص مستهلك .
و - الملك :
35 - الأصل في العتق أنّه مندوب مرغّب فيه ، لكن يكون واجباً على من ملك أصله أو فرعه ، حيث يعتق عليه بنفس الملك .
أسباب منع التّطوّع :
36 - يمنع التّطوّع لأسباب متعدّدة ، منها :
أ - وقوعه في الأوقات المنهيّ عنها :(166/8)
37 - التّطوّع بالعبادة في الأوقات الّتي نهى الشّارع عن وقوع العبادة فيها ممنوع ، كالصّلاة وقت طلوع الشّمس أو غروبها أو عند الاستواء ، لحديث عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال : « ثلاث ساعات كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغة حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ، وحين تضيف الشّمس للغروب حتّى تغرب » .
ومثل ذلك التّطوّع بالصّوم في أيّام العيد والتّشريق ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ، ويوم النّحر » .
وينظر في صحّة ذلك وتفصيله : ( أوقات الصّلوات - صلاة - نفل - صوم ) .
ب - إقامة الصّلاة المكتوبة :
38 - يمنع التّطوّع بالصّلاة إذا شرع المؤذّن في الإقامة للصّلاة ، أو تضيّق الوقت بحيث لا يتّسع لأداء أيّ نافلة . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلا المكتوبة » . ( ر : أوقات الصّلاة ، نفل ) .
ج - عدم الإذن ممّن يملك الإذن :
39 - من يتوقّف تطوّعه على إذن غيره لا يجوز له أن يتطوّع إلا بعد الإذن له ، وعلى ذلك فلا يجوز للمرأة أن تتطوّع بصوم أو اعتكاف أو حجّ إلا بإذن زوجها ، ولا يصوم الأجير تطوّعا إلا بإذن المستأجر إذا تضرّر بالصّوم ، ولا يجوز للولد البالغ الإحرام بنفل حجّ أو عمرة أو نفل جهاد إلا بإذن الأبوين .
وهذا في الجملة ، وينظر تفصيل ذلك في : ( نفل ، صلاة ، صوم ، حجّ ، إجارة ، أنثى ) .
د - الإفلاس في الحجر بالنّسبة للتّبرّعات الماليّة :
40 - من أحَاط الدّين بماله فإنّه يمنع شرعا من التّصرّف في أيّ وجه من وجوه التّبرّع كالصّدقة والهبة ، وهذا بعد الحجر باتّفاق ، أمّا قبل الحجر ففيه اختلاف الفقهاء ( ر : حجر ، تبرّع ، إفلاس ) .
وتمنع التّبرّعات المنجّزة - كالعتق والهبة المقبوضة والصّدقة وغير ذلك - إن زادت على الثّلث ، وكانت التّبرّعات في مرض الموت ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه تصدّق عليكم قبل وفاتكم بثلث أموالكم » .
ويتوقّف نفاذ تلك التّصرّفات على إجازة الورثة بعد وفاة المورّث . ومن وقف وقفاً مستقلاً ، ثمّ تبيّن أنّ عليه دينا ، ولم يمكن وفاء الدّين إلّا ببيع شيء من الوقف ، وهو في مرض الموت ، بيع باتّفاق العلماء . ويمنع من التّبرّع أيضا من تلزمه نفقة غيره ، بحيث لا يفضل شيء بعد ذلك . جاء في المنثور : القربات الماليّة كالعتق والوقف والصّدقة والهبة إذا فعلها من عليه دين ، أو من تلزمه نفقة غيره ممّا لا يفضل عن حاجته ، يحرم عليه في الأصحّ ، لأنّه حقّ واجب فلا يحلّ تركه لسنّة . وفي القواعد لابن رجب : نصّ أحمد في رواية حنبل فيمن تبرّع بماله بوقف أو صدقة وأبواه محتاجان : أنّ لهما ردّه ، ونصّ في رواية أخرى : أنّ من أوصى لأجانب ، وله أقارب محتاجون ، أنّ الوصيّة تردّ عليهم .
فتخرج من ذلك أنّ من تبرّع ، وعليه نفقة واجبة لوارث أو دين - ليس له وفاء - لهما ردّه . وكلّ هذا في الجملة وينظر في : ( حجر ، تبرّع ، هبة ، وقف ، وصيّة ) .
هـ - التّطوّع بشيء من القربات في المعصية :
41 - لا يجوز التّبرّع بشيء فيه معصية للّه تعالى ، ومن أمثلة ذلك :
- لا تصحّ إعارة الصّيد لمحرم بالحجّ . - لا تصحّ الوصيّة بما هو محرّم ، كالوصيّة للكنيسة ، والوصيّة بالسّلاح لأهل الحرب .
ولا الوصيّة ببناء كنيسة أو بيت نار أو عمارتهما أو الاتّفاق عليهما .
لا يصحّ الوقف على معصية، ولا على ما هو محرّم كالبيع والكنائس وكتب التّوراة والإنجيل. ومن وقف على من يقطع الطّريق لم يصحّ الوقف ، لأنّ القصد بالوقف القربة .
وفي وقف ذلك إعانة على المعصية . وهذا كلّه في الجملة .
وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في : ( الوقف ، والوصيّة ، والهبة ، والتّبرّع )
ثالثاً : ما يخصّ غير العبادات " من أحكام التّطوّع :
الإيجاب والقبول والقبض :
42 - من التّطوّعات ما يحتاج إلى الإيجاب والقبول ، وذلك في عقود التّبرّعات ، مثل العاريّة والهبة والوصيّة لمعيّن ، وكذا الوقف على معيّن - مع اختلاف الفقهاء في ذلك ، واختلافهم في اشتراط القبض أيضا - وتفصيل ذلك فيما يأتي :
أ - العاريّة :
43 - الإيجاب والقبول ركن في عقد العاريّة باتّفاق الفقهاء ، وقد يحلّ التّعاطي محلّ الإيجاب أو القبول . والقبض لا يمنع الرّجوع في العاريّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّها عقد غير لازم عندهم ، وللمعير الرّجوع في العاريّة في أيّ وقت ، سواء أقبضها المستعير أم لم يقبضها ، ويقولون : إنّ المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المستعير ، لأنّها تستوفى شيئا فشيئا ، فكلّما استوفى شيئا فقد قبضه ، والّذي لم يستوفه لم يقبضه ، فجاز الرّجوع فيه ، إلّا أن يكون الرّجوع في حال يستضرّ به المستعير ، كإعارة أرض لزراعة أو دفن ميّت . وهذا في الجملة عندهم ، وينظر تفصيله في : ( عاريّة ) .
أمّا المالكيّة : فالإعارة عقد لازم عندهم ، فهي تفيد تمليك المنفعة بالإيجاب والقبول ، ولا يجوز الرّجوع فيها قبل المدّة المحدّدة ، أو قبل إمكان الانتفاع بالمستعار إن كانت مطلقة . وهذا في الجملة كذلك .
ب - الهبة :
44 - الإيجاب والقبول ركن من أركان الهبة باتّفاق الفقهاء .(166/9)
أمّا القبض فلا بدّ منه لثبوت الملك ، وذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الملك لو ثبت بدونه للزم المتبرّع شيء لم يلتزمه ، وهو التّسلّم ، فلا تملك بالعقد بل بالقبض ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها قالت : « إنّ أبا بكر الصّدّيق كان نحلها جادّ عشرين وسقاً من ماله بالغابة . فلمّا حضرته الوفاة قال : واللّه ، يا بنيّة ما من النّاس أحد أحبّ إليّ غنى بعدي منك ، ولا أعزّ عليّ فقراً بعدي منك ، وإنّي كنت نحلتك جادّ عشرين وسقاً ، فلو كنت جدّدتيه واحتزتيه كان لك ، وإنّما هو اليوم مال وارث » .
وما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة هو رأي بعض الحنابلة . قال المجد بن تيميّة في شرح الهداية : الملك في الموهوب لا يثبت بدون القبض ، وكذا صرّح ابن عقيل الحنبليّ : أنّ القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها ، وكلام الخرقيّ يدلّ عليه . والرّأي الآخر للحنابلة : أنّ الهبة تملك بالعقد ، فيصحّ التّصرّف من الموهوب له فيها قبل القبض ، كذا في المنتهى وشرحه ، وهو الّذي قدّمه في الإنصاف . وعلى رأي الحنفيّة والشّافعيّة ، ومن رأى رأيهم من الحنابلة : يجوز الرّجوع فيها قبل القبض ، لأنّ عقد الهبة لم يتمّ . ولكنّه عند من يرى ذلك من الحنابلة يكون مع الكراهة ، خروجاً من خلاف من قال : إنّ الهبة تلزم بالعقد . وعند المالكيّة : تملك الهبة بالقبول على المشهور ، وللمتّهب طلبها من الواهب إن امتنع ولو عند حاكم ، ليجبره على تمكين الوهوب له منها . لكن قال ابن عبد السّلام : القبول والحيازة معتبران في الهبة ، إلا أنّ القبول ركن والحيازة شرط . أي في تمامها ، فإن عدم لم تلزم ، وإن كانت صحيحة . على أنّ الهبة لو تمّت بالقبض ، فإنّه يجوز الرّجوع فيها عند الحنفيّة إن كانت لأجنبيّ ، أي غير ذي رحم محرم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها » أمّا عند الجمهور فلا يجوز الرّجوع فيها بعد القبض ، إلّا الوالد فيما يهب لولده فإنّه يجوز له الرّجوع لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « العائد في هبته كالعائد في قيئه » . وينظر تفصيل ذلك في ( هبة ) .
ج - الوصيّة لمعيّن :
45 - من أركان الوصيّة الإيجاب من الموصي والقبول من الموصى له المعيّن ، لكنّ القبول لا يعتبر إلّا بعد موت الموصي ، ولا يفيد القبول قبل موته ، لأنّ الوصيّة عقد غير لازم ، والموصي يملك الرّجوع في وصيّته ما دام حيّاً ، وبالقبول يملك الموصى له الموصى به ، ولا يتوقّف الملك على القبض ، وهذا عند الحنفيّة - غير زفر - والمالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند زفر فركن الوصيّة هو الإيجاب فقط من الموصي ، ويثبت الملك للموصى له من غير قبول كالإرث . وينظر تفصيل ذلك في ( وصيّة ) .
د - الوقف على معيّن :
46 - الإيجاب ركن من أركان الوقف ، سواء أكان على معيّن أم لم يكن . أمّا القبول : فإن كان الوقف على معيّن فإنّه يشترط قبوله ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
وعند الحنابلة : لا يفتقر الوقوف على معيّن إلى القبول ، لأنّه إزالة ملك يمنع البيع ، فلم يعتبر فيه القبول كالعتق ، أمّا القبض فليس بشرط عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ، وعند المالكيّة ومحمّد : القبض شرط . وينظر تفصيل ذلك في ( وقف ) .(166/10)
تطيّب *
التّعريف :
1 - التّطيّب في اللّغة : مصدر تطيّب ، وهو التّعطّر . والطّيب هو : العطر ، وهو ما له رائحة مستلذّة ، كالمسك والكافور والورد والياسمين والورس والزّعفران .
ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن هذا المعنى اللّغويّ .
2 - والطّيب ينقسم إلى قسمين : مذكّر ، مؤنّث . فالمذكّر : ما يخفى أثره ، أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ، ويظهر ريحه . والمراد به أنواع الرّياحين ، والورد ، والياسمين . وأمّا المياه الّتي تعصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث . والمؤنّث : هو ما يظهر لونه وأثره ، أي تعلّقه بما مسّه تعلّقا شديدا كالمسك ، والكافور ، والزّعفران .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّزيّن :
3 - التّزيّن : هو اتّخاذ الزّينة ، وهي اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به ، فالتّزيّن ما يحسن به منظر الإنسان .
الحكم التّكليفيّ :
4 - الأصل سنّيّة التّطيّب ، ويختلف الحكم بحسب الأحوال ، على ما سيأتي .
تطيّب الرّجل والمرأة :
5 - يسنّ التّطيّب ، لخبر أبي أيّوب رضي الله عنه مرفوعاً « أربع من سنن المرسلين : الحنّاء ، والتّعطّر ، والسّواك ، والنّكاح » ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم « حبّب إليّ من دنياكم : النّساء والطّيب ، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » .
والطّيب يستحبّ للرّجل داخل بيته وخارجه ، بما يظهر ريحه ويخفى لونه ، كبخور العنبر والعود . ويسنّ للمرأة في غير بيتها بما يظهر لونه ويخفى ريحه ، لخبر رواه التّرمذيّ والنّسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه « طيب الرّجال ما ظهر ريحه وخفي لونه ، وطيب النّساء ما خفي ريحه وظهر لونه » ولأنّها ممنوعة في غير بيتها ممّا ينمّ عليها ، لحديث : « أيّما امرأة استعطرت ، فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية » وفي بيتها تتطيّب بما شاءت ، ممّا يخفى أو يظهر ، لعدم المانع .
التّطيّب لصلاة الجمعة :
6 - يندب التّطيّب لصلاة الجمعة بلا خلاف . لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال :
« قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنّ هذا يوم عيد جعله اللّه للمسلمين ، فمن جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل ، وإن كان طيب فليمسّ منه ، وعليكم بالسّواك » .
وعن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ، ويتطهّر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته ، ثمّ يخرج لا يفرّق بين اثنين ، ثمّ يصلّي ما كتب له ، ثمّ ينصت إذا تكلّم الإمام ، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى » .
التّطيّب لصلاة العيد :
7 - يندب للرّجل قبل خروجه لصلاة العيد أن يتطيّب بما له ريح لا لون له ، وبهذا قال الجمهور . أمّا النّساء فلا بأس بخروجهنّ غير متطيّبات ولا لابسات ثياب زينة أو شهرة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجدَ اللّه ، وليخرجن تَفِلات » والمراد بالتّفلات : غير المتطيّبات .
تطيّب الصّائم :
8 - يباح للصّائم أن يتطيّب عند الحنفيّة .
وقال المالكيّة : يجوز التّطيّب للصّائم المعتكف ، ويكره للصّائم غير المعتكف . قال الدّردير : لأنّ المعتكف معه مانع يمنعه ممّا يفسد اعتكافه ، وهو لزومه المسجد وبعده عن النّساء . وقال الشّافعيّة : يسنّ للصّائم ترك شمّ الرّياحين ولمسها . والمراد أنواع الطّيب ، كالمسك والورد والنّرجس ، إذا استعمله نهارا لما فيها من التّرفّه ، ويجوز له ذلك ليلا ، ولو دامت رائحته في النّهار ، كما في المحرم . وأمّا الحنابلة ، فقالوا : يكره للصّائم شمّ ما لا يأمن أن يجذبه نفسه إلى حلقه كسحيق مسك ، وكافور ، ودهن ونحوها ، كبخور عود وعنبر .
تطيّب المعتكف :
9 - يجوز للمعتكف أن يتطيّب نهاراً أو ليلاً بأنواع الطّيب عند جمهور الفقهاء ، إلا في رواية عن الإمام أحمد أنّه قال : إنّه لا يعجبني أن يتطيّب .
وذلك لأنّ الاعتكاف عبادة تختصّ مكانا ، فكان ترك الطّيب فيه مشروعا كالحجّ .
واستدلّ القائلون بجواز التّطيّب بقوله تعالى : { يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
التّطيّب في الحجّ :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّطيّب أثناء الإحرام في البدن أو الثّوب محظور . أمّا التّطيّب للإحرام قبل الدّخول فيه فهو مسنون استعدادا للإحرام عند الجمهور ، وكرهه مالك لما روي من كراهته عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر رضي الله عنهم ، وجماعة من التّابعين .
ودليل سنّيّة التّطيّب في البدن للإحرام ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » وعنها رضي الله عنها قالت : « كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم » .
والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام ، لصريح حديث عائشة الثّاني . وأمّا المالكيّة : فحظروا بقاء جرم الطّيب وإن ذهبت رائحته .
11 - أمّا التّطيّب في الثّوب للإحرام : فمنعه الجمهور ، وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد. فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب اتّفاقا قياسا للثّوب على البدن .
لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه ، فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه ، وهذا قول سعد بن أبي وقّاص ، وابن الزّبير ، وعائشة ، وأمّ حبيبة رضي الله عنهم ، والثّوريّ وغيرهم .(167/1)
واحتجّ الشّافعيّة بحديثي عائشة رضي الله عنها السّابقين ، وهما صحيحان رواهما البخاريّ ومسلم ، وقالوا : إنّ الطّيب معنى يراد للاستدامة فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنّكاح وسواء فيما ذكر الطّيب الّذي يبقى له جرم بعد الإحرام والّذي لا يبقى ، وسواء الرّجل والمرأة الشّابّة والعجوز . وذهب الحنفيّة - في الأصحّ - إلى عدم جواز التّطيّب للإحرام في الثّوب ، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّبا ، لأنّه بذلك يكون مستعملا للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ، وهو محظور على المحرم ، والفرق : أنّ الطّيب في الثّوب منفصل ، أمّا في البدن فهو تابع له ، وسنّيّة التّطيّب تحصل بتطييب البدن، فأغنى عن تجويزه في الثّوب. وذهب المالكيّة : إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب عليه إزالته عند الإحرام ، سواء كان ذلك في بدنه أو ثوبه ، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب - الّذي تطيّب به قبل الإحرام - وجبت عليه الفدية ، وأمّا إذا كان في الثّوب رائحته ، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ولا فدية .
وأمّا اللّون : ففيه قولان عند المالكيّة ، وهذا كلّه في اليسير ، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية ، واستدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة رضي الله عنه قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة فقال : يا رسول اللّه ، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة ، بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات ، وأمّا الجبّة فانزعها ، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » . فاستدلّوا بهذا الحديث على حظر الطّيب على المحرم في البدن والثّوب .
ويقول ابن قدامة : إن طيّب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه ، فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه ، فإن لبسه افتدى ، لأنّ الإحرام يمنع ابتداء الطّيب ولبس المطيّب دون الاستدامة . وكذلك إن نقل الطّيب من موضع بدنه إلى موضع آخر افتدى ، لأنّه تطيّب في إحرامه ، وكذا إن تعمّد مسّه أو نحّاه من موضعه ثمّ ردّه إليه ، فأمّا إن عرق الطّيب أو ذاب بالشّمس فسال من موضعه إلى موضع آخر ، فلا شيء عليه ، لأنّه ليس من فعله .
قالت عائشة رضي الله عنها : « كنّا نخرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكّة فنضمّد جباهنا بالمسك المطيّب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ، فيراها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا » .
12 - وأمّا التّطيّب بعد الإحرام ، فإنّه يحظر على المحرم استعماله في ثيابه وبدنه ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ولا تلبسوا من الثّياب ما مسّه وَرْس أو زعفران » ولما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال في شأن المحرم الّذي وَقَصَتْه راحلته لا تمسّوه بطيب » ، وفي لفظ « لا تحنّطوه » ووجهه : أنّه لمّا منع الميّت من الطّيب لإحرامه ، فالحيّ أولى . ومتى تطيّب وجبت عليه الفدية ، لأنّه استعمل ما حرّمه الإحرام ولو للتّداوي ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المحرم : الأشعث الأغبر » . والطّيب ينافي الشّعث . ويجب الفداء عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، لأيّ تطيّب ممّا هو محظور ، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً أو مقداراً من الثّوب معيّناً .
وإنّما وجبت الفدية قياساً على الحلق ، لأنّه منصوص عليه في القرآن في قوله تعالى :
{ وَلا تَحْلِقُوا رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَديُ مَحِلَّه ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَو بِه أَذَىً مِنْ رَأْسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ } . ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له ، حين رأى هوامّ رأسه : أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت : نعم قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكة » .
وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ، فقالوا : تجب شاة إن طيّب المحرم عضوا كاملا ، مثل الرّأس واليد والسّاق ، أو ما بلغ عضوا كاملا لو جمع . والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد المجلس ، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة إن شمل عضوا واحدا أو أكثر ، سواء كفّر للأوّل أم لا ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمّد : عليه كفّارة واحدة ، ولو فدى ولم يزل الطّيب لزمه فدية أخرى، لأنّ ابتداءه كان محظوراً ، فيكون لبقائه حكم ابتدائه. ووجه وجوب الشّاة : أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق ، وذلك في العضو الكامل فيترتّب كمال الموجب . وإن طيّب أقلّ من عضو : فعليه أن يتصدّق بنصف صاع من برّ ، لقصور الجناية إلا أن يكون الطّيب كثيرا ، فعليه دم . وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف .
وقال محمّد : يُقَوَّم ما يجب فيه الدّم فيتصدّق بذلك القدر ، حتّى لو طيّب ربع عضو فعليه من الصّدقة قدر ربع شاة ، وهكذا ، لأنّ تطييب عضو كامل ارتفاق كامل ، فكان جناية كاملة ، فيوجب كفّارة كاملة ، وتطييب ما دون العضو الكامل ارتفاق قاصر ، فيوجب كفّارة قاصرة ، إذ الحكم يثبت على قدر السّبب ، إلّا أن يكون الطّيب كثيرا فعليه دم ، ولم يشترط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ، بل يجب بمجرّد التّطيّب .
وأمّا تطييب الثّوب فتجب فيه الفدية عند الحنفيّة بشرطين :
أوّلهما : أن يكون كثيرا ، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحة تزيد على شبر في شبر .
والثّاني : أن يستمرّ نهارا ، أو ليلة . فإن اختلّ أحد هذين الشّرطين وجبت الصّدقة ، وإن اختلّ الشّرطان وجب التّصدّق بقبضة من قمح .(167/2)
والأصل في حظر تطييب الثّوب ولبسه بعد الإحرام قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تلبسوا شيئا من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس » .
والمحرم - ذكرا كان أو غيره - ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره أو ردائه وجميع ثيابه ، وفراشه ونعله ، حتّى لو علق بنعله طيب وجب عليه أن يبادر لنزعه ، ولا يضع عليه ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران أو نحوهما من صبغ له طيب .
واستعمال الطّيب هو : أن يلصق الطّيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطّيب ، ممّا يقصد منه ريحه غالبا ولو مع غيره ، كمسك أو عود ، وكافور ، وورس ، وزعفران ، وريحان ، وورد ، وياسمين ، ونرجس ، وآس ، وسوسن ، ومنثور ، ونمّام ، وغير ما ذكر ، ممّا يتطيّب به ، ويتّخذ منه الطّيب ، أو يظهر فيه هذا الغرض .
13 - ويكره للمحرم شمّ الطّيب ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وقال المالكيّة : يكره شمّ الطّيب مذكّره ومؤنّثه دون مسّ . وأمّا الحنابلة : فقالوا : يحرم تعمّد شمّ الطّيب كالمسك والكافور ونحوهما ، ممّا يتطيّب بشمّه كالورد والياسمين . فإن فعل المحرم ذلك وجب الفداء عليه ، لأنّ الفدية تجب فيما يتّخذ منه ، فكذلك في أصله ، وعن الإمام أحمد رواية أخرى في الورد : لا فدية عليه في شمّه ، لأنّه زهر شمّه على جهته ، أشبه زهر سائر الشّجر ، والأولى تحريمه ، لأنّه ينبت للطّيب ويتّخذ منه ، أشبه الزّعفران ، والعنبر .
ما يباح من الطّيب وما لا يباح بالنّسبة للمحرم :
14 - قال ابن قدامة : النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما لا ينبت للطّيب ولا يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم ، والخزامى ، والفواكه كلّها ، من الأترجّ ، والتّفّاح والسّفرجل ، وغيره ، وما ينبته الآدميّون لغير قصد الطّيب ، كالحنّاء ، والعصفر ، وهذان يباح شمّهما ولا فدية فيهما بلا خلاف ، غير أنّه روي عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ شيئا من نبات الأرض ، من الشّيح والقيصوم وغيرهما ، وقد « روي أنّ أزواج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كنّ يحرمن في المعصفرات » .
الثّاني : ما ينبته الآدميّون للطّيب ولا يتّخذ منه طيب ، كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس ، والبرم ، وفيه وجهان :
أحدهما : يباح بغير فدية ، قاله عثمان بن عفّان ، وابن عبّاس رضي الله عنهم ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق . والآخر : يحرم شمّه ، فإن فعل فعليه الفدية ، وهو قول جابر ، وابن عمر ، والشّافعيّ وأبي ثور ، لأنّه يتّخذ للطّيب ، فأشبه الورد .
الثّالث : ما ينبت للطّيب ، ويتّخذ منه طيب ، كالورد ، والبنفسج ، والخيريّ وهذا إذا استعمله المحرم وشمّه ففيه الفدية ، لأنّ الفدية تجب فيما يتّخذ منه ، فكذلك في أصله .
وإن مسّ المحرم من الطّيب ما يعلق ببدنه ، كالغالية وماء الورد ، والمسك المسحوق الّذي يعلق بأصابعه ، فعليه الفدية ، لأنّه مستعمل للطّيب . وإن مسّ ما لا يعلق بيده ، كالمسك غير المسحوق ، وقطع الكافور ، والعنبر ، فلا فدية ، لأنّه غير مستعمل للطّيب .
فإن شمّه فعليه الفدية لأنّه يستعمل هكذا ، وإن شمّ العود - أي خشب العود - فلا فدية عليه ، لأنّه لا يتطيّب به
تطيّب المحرم ناسياً أو جاهلاً :
15 - إن تطيّب المحرم ناسياً فلا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة ، في المشهور عندهم ، وهو مذهب عطاء ، والثّوريّ ، وإسحاق ، وابن المنذر ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
وإن أخّر ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية عند الحنابلة ، واستدلّ القائلون بعدم وجوب الفدية على النّاسي أيضاً : بخبر يعلى بن أميّة رضي الله عنه « أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة ، وعليه جبّة ، وعليه أثر خلوق ، أو قال : أثر صفرة . فقال : يا رسول اللّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : اخلع عنك الجبّة ، واغسل أثر الخلوق عنك . أو قال : الصّفرة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك » فدلّ ذلك على أنّه عذره لجهله ، والنّاسي في معناه ، وله غسل الطّيب بيده بلا حائل ، لعموم أمره صلى الله عليه وسلم بغسله . وأمّا الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الرّواية الثّانية عن أحمد فقالوا : يجب دم على المحرم البالغ ولو ناسياً إن طيّب عضواً كاملاً ، أو ما يبلغ عضواً لو جمع .
تطيّب المبتوتة :
16 - يحرم على المطلّقة ثلاثاً التّطيّب لوجوب الإحداد عليها ، لأنّها معتدّة بائن من نكاح صحيح ، وهي كالمتوفّى عنها زوجها ، وهذا عند الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّة ، والحنابلة. أمّا المالكيّة فقالوا : إنّ التّطيّب لا يحرم إلا على المتوفّى عنها زوجها ، ومن في حكمها وهي : زوجة المفقود المحكوم بفقده . لقوله تعالى : { وَالّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجَاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَاً }
والقول الآخر للشّافعيّة والحنابلة : لا يحرم التّطيّب ، لأنّ الإحداد لا يجب على المطلّقة ثلاثاً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً » وهذه عدّة الوفاة ، فدلّ على أنّ الإحداد يجب فيها فقط . والمطلّقة بائناً معتدّة عن غير وفاة ، فلم يجب عليها الإحداد كالرّجعيّة ، ولأنّ المطلّقة بائناً فارقها زوجها باختيار نفسه وقطع نكاحها ، فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ، فيجوز لها أن تتطيّب .(167/3)
وزاد الحنفيّة المطلّقة طلقة واحدة بائنة ، وقالوا : يلزمها ترك التّطيّب ، لأنّه يلزمها الحداد ، ولو أمرها المطلّق بتركه ، لأنّه حقّ الشّرع .(167/4)
تعبّديّ *
التّعريف :
1 - التّعبّديّ لغة : المنسوب إلى التّعبّد .
والتّعبّد مصدر تعبّد ، يقال : تعبّد الرّجلُ الرّجل : إذا اتّخذه عبداً ، أو صيّره كالعبد .
وتعبّد اللّه العبدَ بالطّاعة : استعبده ، أي طلب منه العبادة . ومعنى العبادة في اللّغة : الطّاعة والخضوع . ومنه طريق معبّد : إذا كان مذلّلاً بكثرة المشي فيه . ويرد التّعبّد في اللّغة أيضاً بمعنى : التّذلّل ، يقال : تعبّد فلان لفلان : إذا خضع له وذلّ . وبمعنى التّنسّك ، يقال : تعبّد فلان للّه تعالى : إذا أكثر من عبادته ، وظهر فيه الخشوع والإخبات . والتّعبّد من اللّه للعباد : تكليفهم أمور العبادة وغيرها . ويكثر الفقهاء والأصوليّون من استعماله بهذا المعنى ، كقولهم : نحن متعبّدون بالعمل بخبر الواحد وبالقياس ، أي مكلّفون بذلك . ويقولون : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم متعبّدا بشرع من قبله ، أي مكلّفاً بالعمل به .
2 - والتّعبّديّات - في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين - تطلق على أمرين :
الأوّل : أعمال العبادة والتّنسّك. ويرجع لمعرفة أحكامها بهذا المعنى إلى مصطلح ( عبادة ). الثّاني : الأحكام الشّرعيّة الّتي لا يظهر للعباد في تشريعها حكمة غير مجرّد التّعبّد ، أي التّكليف بها ، لاختبار عبوديّة العبد ، فإن أطاع أثيب ، وإن عصى عوقب .
والمراد بالحكمة هنا : مصلحة العبد من المحافظة على نفسه أو عرضه أو دينه أو ماله أو عقله . أمّا مصلحته الأخرويّة - من دخول جنّة اللّه تعالى والخلاص من عذابه - فهي ملازمة لتلبية كلّ أمر أو نهي ، تعبّديّا كان أو غيره .
3 - هذا هو المشهور في تعريف التّعبّديّات . وقد لاحظ الشّاطبيّ في موافقاته أنّ حكمة الحكم قد تكون معلومة على وجه الإجمال ، ولا يخرجه ذلك عن كونه تعبّديّا من بعض الوجوه ، ما لم يعقل معناه على وجه الخصوص . قال : ومن ذلك : طلب الصّداق في النّكاح ، والذّبح في المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول ، والفروض المقدّرة في المواريث ، وعدد الأشهر في عدّة الطّلاق والوفاة ، وما أشبه ذلك من الأمور الّتي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئيّة ، حتّى يقاس عليها غيرها . فإنّا نعلم أنّ الشّروط المعتبرة في النّكاح ، من الوليّ والصّداق وشبه ذلك ، هي لتمييز النّكاح عن السّفاح ، وأنّ فروض المواريث ترتّبت على ترتيب القربى من الميّت ، وأنّ العدد والاستبراءات ، المراد بها استبراء الرّحم خوفا من اختلاط المياه ، ولكنّها أمور جمليّة ، كما أنّ الخضوع والإجلال علّة شرع العبادات . وهذا المقدار لا يقضي بصحّة القياس على الأصل فيها ، بحيث يقال : إذا حصل الفرق بين النّكاح والسّفاح بأمور أخر مثلا ، لم تشترط تلك الشّروط .
ومتى علم براءة الرّحم لم تشرع العدّة بالأقراء ولا بالأشهر ، ولا ما أشبه ذلك .
4 - هذا وقد اختلفت الفقهاء في أنّ التّعبّديّات شُرِعت لنا لحكمة يعلمها اللّه تعالى وخفيت علينا ، أو إنّها شُرِعت لا لحكمة أصلاً غيرَ مجرّد تعبّد اللّه للعباد واستدعائه الامتثال منهم ، اختباراً لطاعة العبد لمجرّد الأمر والنّهي من غير أن يعرف وجه المصلحة فيما يعمل ، بمنزلة سيّد أراد أن يختبر عبيده أيّهم أطوع له ، فأمرهم بالتّسابق إلى لمس حجر ، أو الالتفات يميناً أو يساراً ممّا لا مصلحة فيه غير مجرّد الطّاعة .
5 - قال ابن عابدين نقلاً عن الحلية : أكثر العلماء على القول الأوّل ، وهو المتّجه ، بدلالة استقراء تكاليف اللّه تعالى على كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد .
وكذلك الشّاطبيّ في موافقاته اعتمد الاستقراء دليلاً على أنّ كلّ الأحكام الشّرعيّة معلّلة بمصالح العباد في الدّنيا والآخرة ، وقال : إنّ المعتزلة متّفقون على أنّ أحكامه معلّلة برعاية مصالح العباد ، وهو اختيار أكثر الفقهاء المتأخّرين . قال : ولمّا اضطرّ الرّازيّ إلى إثبات العلل للأحكام الشّرعيّة أثبت ذلك على أنّ العلل بمعنى العلامات المعرّفة للأحكام . وذكر الشّاطبيّ من الأدلّة الّتي استقرأها قوله تعالى في شأن الوضوء والغسل { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } .
وفي الصّيام { كُتِبَ عَلَيكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
وفي القصاص { وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وآيات نحو هذه .(168/1)
وممّن ذهب إلى مثل ذلك ابن القيّم ، حيث قال : قالت طائفة : إنّ عدّة الوفاة تعبّد محض ، وهذا باطل ، فإنّه ليس في الشّريعة حكم واحد إلّا وله معنى وحكمة ، يعقله من يعقله ، ويخفى على من خفي عليه . وقرّر هذا المعنى تقريرا أوسع فقال : شرع اللّه العقوبات ، ورتّبها على أسبابها ، جنسا وقدرا ، فهو عالم الغيب والشّهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ، ومن أحاط بكلّ شيء علما ، وعلم ما كان وما يكون ، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيّها وظاهرها ، ما يمكن اطّلاع البشر عليه وما لا يمكنهم . وليست هذه التّخصيصات والتّقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة ، كما أنّ التّخصيصات والتّقديرات واقعة في خلقه كذلك ، فهذا في خلقه وذاك في أمره ، ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كلّ شيء في موضعه الّذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلّا إيّاه ، كما وضع قوّة البصر والنّور الباصر في العين ، وقوّة السّمع في الأذن ، وقوّة الشّمّ في الأنف ، وخصّ كلّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره ، فشمل إتقانه وإحكامه ، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان ، وأحكمه غاية الإحكام ، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان أولى وأحرى ، ولا يكون الجهل بحكمة اللّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض الحكمة والعلم مسوّغا لإنكاره في نفس الأمر . وسار على هذه الطّريقة وليّ اللّه الدّهلويّ في حجّة اللّه البالغة وقال : إنّ القول الآخر ( الآتي ) تكذّبه السّنّة وإجماع القرون المشهود لها بالخير .
6 - أمّا القول الثّاني بوجود أحكام ولو على سبيل النّدرة قصد منها التّعبّد والامتثال . فيدلّ عليه ما ورد في كتاب اللّه تعالى من قوله تعالى { . . . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتي كَانتْ عَلَيهمْ } أنّه كان قد جعل على من كان قبلنا آصاراً وأغلالاً لتعنّتهم وشقاقهم ، كما ألزم بني إسرائيل بأن تكون البقرة الّتي أمرهم بذبحها لا فارضاً ولا بكراً ، وأن تكون صفراء . وأيضا فإنّ في بعض الابتلاء واستدعاء الطّاعة والامتثال والتّدريب على ذلك مصلحة كبيرة ، لا يزال أولياء الأمور يدرّبون عليها أنصارهم وأتباعهم ، ويبذلون في ذلك الأموال الطّائلة ، ليكونوا عند الحاجة ملبّين للأوامر دون تردّد أو حاجة إلى التّفهّم ، اكتفاء وثقة بأنّ وليّ أمرهم هو أعلم منهم بما يريد .
بل إنّ مصلحة الطّاعة والامتثال والمسارعة إليهما هي الحكمة الأولى المبتغاة من وضع الشّريعة ، بل من الخلق في أساسه ، قال اللّه تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونَ } وقال { يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُه أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُه بِالغَيْبِ } . وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } وقال { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتي كُنْتَ عليها إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلبُ على عَقِبَيهِ } ولكن من فضل اللّه علينا في شريعة الإسلام أنّه جعل غالب أحكامها تراعي مصلحة العباد بالإضافة إلى مصلحة الابتلاء ، ولكن لا يمنع ذلك من وجود أحكام لا تراعي ذلك ، بل قصد بها الابتلاء خاصّة ، وذلك على سبيل النّدرة .
وفي هذا يقول الغزاليّ : عرف من دأب الشّرع اتّباع المعاني المناسبة دون التّحكّمات الجامدة ، وهذا غالب عادة الشّرع . ويقول : حمل تصرّفات الشّارع على التّحكّم أو على المجهول الّذي لا يعرف ، نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز . وقال : ما يتعلّق من الأحكام بمصالح الخلق من المناكحات والمعاملات والجنايات والضّمانات وما عدا العبادات فالتّحكّم فيها نادر ، وأمّا العبادات والمقدّرات فالتّحكّمات فيها غالبة ، واتّباع المعنى نادر .
وصرّح بذلك الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلام في قواعده فقال : يجوز أن تتجرّد التّعبّدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ، ثمّ يقع الثّواب عليها بناء على الطّاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثّواب ولا درء مفسدة غير مفسدة العصيان .
7 - فالتّعبّديّ على القول الأوّل : استأثر اللّه تعالى بعلم حكمته ، ولم يطلع عليها أحداً من خلقه ، ولم يجعل سبيلا للاطّلاع عليه مع ثبوت المصلحة فيه في نفس الأمر ، أخفى ذلك عنهم ابتلاء واختباراً . هل يمتثلون ويطيعون دون أن يعرفوا وجه المصلحة ، أم يعصون اتّباعاً لمصلحة أنفسهم ؟ .
وعلى القول الثّاني : ابتلاهم بما لا مصلحة لهم فيه أصلا غير مجرّد الثّواب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العبادة :
8 - أصل العبادة : الطّاعة والخضوع . والعبادات ، أنواع : منها الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ . وكثير منها معقول المعنى ، بيّنت الشّريعة حكمته ، أو استنبطها الفقهاء . ومن ذلك قوله تعالى في شأن الصّلاة { وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ } وقوله في شأن الحجّ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهمْ } وقول الفقهاء في حكمة التّرخيص في الإفطار في السّفر أثناء رمضان : إنّها دفع المشقّة . فليس شيء من ذلك تعبّديّاً .
وبعض أحكام العبادات غير معقول المعنى ، فيكون تعبّديّا ، ككون رمي الجمار سبعاً سبعاً . وتكون التّعبّديّات أيضا في غير العبادات ، ومن ذلك : استبراء الأمة الّتي اشتراها بائعها في مجلس البيع ، وعادت إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها .(168/2)
ب - حقّ اللّه :
9 - قد يقال في كثير من الأحكام : إنّه لحقّ اللّه ، كالصّلاة والصّوم وسائر العبادات وكحدّ السّرقة وحدّ الزّنى .
ويقال في كثير منها : إنّه لحقّ الإنسان ، كحقّ القصاص وحدّ القذف والدّين والضّمانات . وقد يظنّ أنّ كلّ ما كان منها لحقّ اللّه تعالى أنّه تعبّديّ ، إلا أنّ المراد من" حقّ اللّه تعالى" أنّه لا خيرة فيه للعباد ، ولا يجوز لأحد إسقاطه ، بل لا بدّ للعباد من تنفيذه إذا وجد سببه ، وتمّت شروط وجوبه أو تحريمه . وليس كلّ ما كان لحقّ اللّه تعالى تعبّديّا ، بل يكون تعبّديّا إذا خفي وجه الحكمة فيه . ويكون غير تعبّديّ ، وذلك إذا ظهرت حكمته .
قال الشّاطبيّ : الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على وجه الخصوص في التّعبّدات ، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة ، والصّلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والرّكوع والسّجود ، وكونها على بعض الهيئات دون بعض ، واختصاص الصّيام بالنّهار دون اللّيل ، وتعيين أوقات الصّلوات في تلك الأحيان المعيّنة دون سواها من أحيان النّهار واللّيل ، واختصاص الحجّ بتلك الأعمال المعروفة ، في الأماكن المعلومة ، وإلى مسجد مخصوص ، إلى أشباه ذلك ممّا لا تهتدي العقول إليه بوجه ، ولا تحوم حوله ، يأتي بعض النّاس فيطرق إليه بزعمه حكماً ، يزعم أنّها مقصود الشّارع من تلك الأوضاع ، وجميعها مبنيّ على ظنّ وتخمين غير مطّرد في بابه ، ولا مبنيّ عليه عمل ، بل كالتّعليل بعد السّماع للأمور الشّواذّ ، لجنايته على الشّريعة في دعوى ما ليس لنا به علم ، ولا دليل لنا عليه .
ج - المعلّل بالعلّة القاصرة :
10 - ولمّا كان حكم التّعبّديّات أنّه لا يقاس عليها ، فقد يشتبه بها المعلّل بالعلّة القاصرة ، لأنّه لا يقاس عليه . والفرق بينهما : أنّ التّعبّديّ ليس له علّة ظاهرة ، فيمتنع القياس عليه لأنّ القياس فرع معرفة العلّة ، أمّا المعلّل بالعلّة القاصرة فعلّته معلومة لكنّها لا تتعدّى محلّها ، إذ لم يعلم وجودها في شيء آخر غير الأصل .
مثاله « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين » . وهذا حكم خاصّ به ، وعلّته والمعنى فيه أنّه أوّل من تنبّه وبادر إلى تصديق النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الحادثة بعينها والشّهادة له ، بموجب التّصديق العامّ له صلى الله عليه وسلم . والأوّليّة معنى لا يتكرّر ، فاختصّ به ، فليس ذلك تعبّديّا ، لكون علّته معلومة .
د - المعدول به عن سنن القياس :
11 - ما خالف القياس قد يكون غير معقول المعنى كتخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنكاح تسع نسوة « وإجزاء العناق في التّضحية في حقّ أبي بردة هانئ بن دينار » ، وكتقدير عدد الرّكعات .
وقد يكون معقول المعنى كاستثناء بيع العرايا من النّهي عن بيع التّمر بالتّمر خرصاً .
هـ - المنصوص على علّته :
12 - أورد الشّاطبيّ أنّ بعض ما عرفت علّته قد يكون تعبّديّا . فقال : إنّ المصالح في التّكليف ظهر لنا من الشّارع أنّها على ضربين :
أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنّصّ والسّبر والإشارة والمناسبة ، وهذا هو القسم الظّاهر الّذي نعلّل به ، وتقول : إنّ الأحكام شرعت لأجله .
والثّاني : ما لا يمكن الوصول إليه بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطّلع عليه إلّا بالوحي كالأحكام الّتي أخبر الشّارع فيها أنّها أسباب للخصب والسّعة وقيام أبّهة الإسلام - كقوله تعالى في سياق قصّة نوح : { فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كانَ غَفَّارَاً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَليكمْ مِدْرَارَاً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً } .
فلا يعلم وجه كون الاستغفار سبباً للمطر وللخصب إلا بالوحي .
ولذلك لا يقاس عليه ، فلا يعلم كون الاستغفار سببا في حصول العلم وقوّة الأبدان مثلاً ، فلا يكون إلى اعتبار هذه العلّة في القياس سبيل ، فبقيت موقوفة على التّعبّد المحض . ولذا يكون أخذ الحكم المعلّل بها متعبّدا به ، ومعنى التّعبّد هنا : الوقوف عند ما حدّ الشّارع فيه .
حكمة تشريع التّعبّديّات :
13 - حكمة تشريع التّعبّديّات استدعاء الامتثال ، واختبار مدى الطّاعة والعبوديّة . وقد عبّر عن ذلك الغزاليّ في الإحياء بقوله - في بيان أسرار رمي الجمار - وظّف اللّه تعالى على العباد أعمالا لا تأنس بها النّفوس ، ولا تهتدي إلى معانيها العقول ، كرمي الجمار بالأحجار ، والتّردّد بين الصّفا والمروة على سبيل التّكرار .(168/3)
وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرّقّ والعبوديّة ، فإنّ الزّكاة إرفاق ، ووجهه مفهوم ، وللعقل إليه ميل ، والصّوم كسر للشّهوة الّتي هي آلة عدوّ اللّه ، وتفرّغ للعبادة ، بالكفّ عن الشّواغل . والرّكوع والسّجود في الصّلاة تواضع للّه عزّ وجلّ بأفعال هي هيئة التّواضع ، وللنّفوس السّعي بتعظيم اللّه عزّ وجلّ . فأمّا تردّدات السّعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال ، فلا حظّ للنّفوس فيها ولا أنس للطّبع بها ، ولا اهتداء للعقول إلى معانيها ، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلّا الأمر المجرّد ، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنّه أمر واجب الاتّباع فقط ، وفيه عزل للعقل عن تصرّفه وصرف النّفس والطّبع عن محلّ أنسه . فإنّ كلّ ما أدرك العقل معناه مال الطّبع إليه ميلا ما ، فيكون ذلك الميل معيّنا للأمر وباعثا معه على الفعل ، فلا يكاد يظهر به كمال الرّقّ والانقياد . ولذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحجّ على وجه الخصوص : « لبّيك بحجّة حقّاً ، تعبُّداً ورِقّاً » ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها . وإذا اقتضت حكمة اللّه تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم ، وأن يكون زمامها بيد الشّرع ، فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد ، كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس ، وصرفها عن مقتضى الطّباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق .
طرق معرفة التّعبّديّ :
14 - لم يعرف في تمييز التّعبّديّات عن غيرها من الأحكام المعلّلة وجه معيّن ، غير العجز عن التّعليل بطريق من الطّرق المعتبرة ، على ما هو معلوم في مباحث القياس من علم الأصول . ولذلك يقول ابن عابدين : ما شرعه اللّه إن ظهرت لنا حكمته ، قلنا : إنّه معقول المعنى ، وإلّا قلنا : إنّه تعبّديّ . وإلى هذا يشير كلام الغزاليّ المتقدّم آنفا ، من أنّ المصير إلى التّعبّد نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز .
ومن هنا اختلفت أقوال الفقهاء في اعتبار بعض الأحكام تعبّديّا أو معقول المعنى ، فما يراه بعض الفقهاء تعبّديّا قد يراه البعض الآخر معلّلا بمصالح غلب على ظنّه رعايتها .
فمن ذلك أنّ صاحب الدّرّ المختار قال : إنّ تكرار السّجود أمر تعبّديّ ، أي لم يعقل معناه ، تحقيقا للابتلاء . وقال ابن عابدين : وقيل : إنّه ثنّي ترغيما للشّيطان ، حيث أمر بالسّجود مرّة فلم يسجد ، فنحن نسجد مرّتين . وكون طلاق الحائض بدعيّا ، قيل : هو تعبّديّ .
قال الدّردير : والأصحّ أنّه معلّل بتطويل العدّة ، لأنّ أوّلها من الطّهر بعد الحيض .
والسّعي بين الصّفا والمروة ورمي الجمار يمثّل بها الفقهاء لغير المعقول المعنى ، كما تقدّم عن الغزاليّ . غير أنّ بعض العلماء يعلّلونه وأمثاله ممّا وضع من المناسك على هيئة أعمال بعض الصّالحين ، كالسّعي الّذي جعل على هيئة سعي أمّ إسماعيل عليه السلام بينهما . يقول تقيّ الدّين بن دقيق العيد : في ذلك من الحكمة تذكّر الوقائع الماضية للسّلف الكرام ، وفي طيّ تذكّرها مصالح دينيّة ، إذ يتبيّن في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر اللّه ، والمبادرة إليه ، وبذل الأنفس في ذلك . وبذلك يظهر لنا أنّ كثيراً من الأعمال الّتي وقعت في الحجّ ، ويقال بأنّها " تعبّد " ليست كما قيل . ألا ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تعظيم الأوّلين ، وما كانوا عليه من احتمال المشاقّ في امتثال أمر اللّه ، فكان هذا التّذكّر باعثا لنا على مثل ذلك ، ومقرّراً في أنفسنا تعظيم الأوّلين ، وذلك معنى معقول . ثمّ ذكر أنّ السّعي بين الصّفا والمروة اقتداء بفعل هاجر ، وأنّ رمي الجمار اقتداء بفعل إبراهيم عليه السلام ، إذ رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع .
وابن القيّم في إعلام الموقّعين ، سيرا على خطى شيخه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمهما الله ، رأى كما تقدّم أنّه ليس في الشّريعة تعبّد محض ، وردّ كلّ ما قيل فيه : إنّه مخالف للقياس ، كفرض الصّاع في لبن المصرّاة المردودة على بائعها ، وما قيل من أنّ الشّريعة فرّقت بين المتساويات ، كأمرها بالغسل من بول الجارية وبالنّضح من بول الصّبيّ ، وسوّت بين المفترقات ، كتسويتها بين الخطأ والعمد في وجوب الضّمان . فعلّل كلّ ما قيل فيه ذلك ، وبيّن وجه الحكمة فيه ، وأنّ علّته معقولة ، ويوافق القياس ولا يخالفه ، وأطال في ذلك .
ما تكون فيه التّعبّديّات ، وأمثلة منها :
15 - يذكر بعض الأصوليّين أنّ التّعبّديّات أكثر ما تكون في أصول العبادات ، كاشتراع أصل الصّلاة أو الصّوم أو الاعتكاف . وفي نصب أسبابها ، كزوال الشّمس لصلاة الظّهر ، وغروبها لصلاة المغرب . وفي الحدود والكفّارات . وفي التّقديرات العدديّة بوجه عامّ ، كتقدير أعداد الرّكعات ، وتقدير عدد الجلدات في الحدود ، وتقدير أعداد الشّهود .
وذكر الشّاطبيّ من أمثلة وقوعها في العادات : طلب الصّداق في النّكاح ، وتخصيص الذّبح بمحلّ مخصوص ، والفروض المقدّرة في المواريث ، وعدد الأشهر في عدّة الطّلاق وعدّة الوفاة . ومن أمثلتها عند الحنابلة حديث : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضّأ الرّجل بفضل طهور المرأة » .(168/4)
قال صاحب المغني : منع الرّجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبّديّ غير معقول المعنى ، نصّ عليه أحمد ، ولذلك يباح لامرأة سواها التّطهّر به في طهارة الحدث وغسل النّجاسة وغيرها ، لأنّ النّهي اختصّ بالرّجل ، ولم يعقل معناه ، فيجب قصره على محلّ النّهي . وهل يجوز للرّجل غسل النّجاسة به ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يجوز وهو قول القاضي . والثّاني : يجوز وهو الصّحيح ، لأنّه ماء يطهّر المرأة من الحدث والنّجاسة ، فيزيل النّجاسة إذا فعله الرّجل كسائر المياه .
والحديث لا تعقل علّته ، فيقتصر على ما ورد به لفظه - أي التّطهّر من الحدث لا غير .
الأصل في الأحكام من حيث التّعليل أو التّعبّد :
16 - اختلف الأصوليّون هل الأصل في الأحكام التّعليل أو عدمه ؟ فذهب البعض إلى الأوّل ، فلا تعلّل الأحكام إلّا بدليل . قالوا : لأنّ النّصّ موجب بصيغته لا بالعلّة . ونسب إلى الشّافعيّ رضي الله عنه : أنّ الأصل التّعليل بوصف ، لكن لا بدّ من دليل يميّزه من غيره . قال في التّلويح : والمشهور بين أصحاب الشّافعيّ : أنّ الأصل في الأحكام التّعبّد دون التّعليل . قال : والمختار : أنّ الأصل في النّصوص التّعليل ، وأنّه لا بدّ – أي لصحّة القياس – من دليل يميّز الوصف الّذي هو علّة ، ومع ذلك لا بدّ قبل التّعليل والتّمييز من دليل يدلّ على أنّ هذا الوصف الّذي يريد استخراج علّته معلّل في الجملة .
وذهب الشّاطبيّ إلى أنّ الأمر في ذلك يختلف بين العبادات والمعاملات ، قال : الأصل في العبادات بالنّسبة للمكلّف التّعبّد ، دون الالتفات إلى المعاني ، والأصل في العادات الالتفات إلى المعاني .
17 - فأمّا أنّ الأصل في العبادات التّعبّد ، فيدلّ له أمور منها :
الاستقراء . فالصّلوات خصّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الذّكر في هيئة ما مطلوباً ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأنّ طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطّهور ، وإن أمكنت النّظافة بغيره ، وأنّ التّيمّم - وليست فيه نظافة حسّيّة - يقوم مقام الطّهارة بالماء المطهّر .
وهكذا سائر العبادات كالصّوم والحجّ وغيرهما ، وإنّما فهمنا من حكمة التّعبّد العامّة الانقياد لأوامر اللّه تعالى ، وهذا المقدار لا يعطي علّة خاصّة يفهم منها حكم خاصّ ، فعلمنا أنّ المقصود الشّرعيّ الأوّل التّعبّد للّه بذلك المحدود ، وأنّ غيره غير مقصود شرعاً .
ومنها : أنّه لو كان المقصود التّوسعة في التّعبّد بما حدّ وما لم يحدّ ، لنصب الشّارع عليه دليلا واضحا ، ولمّا لم نجد ذلك كذلك - بل على خلافه - دلّ على أنّ المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ، إلا أن يتبيّن بنصّ أو إجماع معنى مراد في بعض الصّور ، فلا لوم على من اتّبعه . لكنّ ذلك قليل ، فليس بأصل ، وإنّما الأصل ما عمّ في الباب وغلب على الموضع . 18 - ثمّ قال الشّاطبيّ : وأمّا إنّ الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور :
الأوّل : الاستقراء ، فنرى الشّيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدّرهم بالدّرهم إلى أجل : تمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض . وكبيع الرّطب من جنس بيابسه . يمتنع حيث يكون مجرّد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة " كما في تمر العرايا أبيح بيعه بالتّمر توسعة على النّاس " ، ولتعليل النّصوص أحكام العادات بالمصلحة كما في قوله تعالى : { وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ } وفي آية تحريم الخمر { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ وِعنِ الصَّلاةِ فَهلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وفي حديث : « لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان » ونحو ذلك .
والثّاني : أنّ أكثر ما علّل اللّه تعالى في العادات بالمناسب الّذي إذا عرض على العقول تلقّته بالقبول ، ففهمنا من ذلك أنّ قصد الشّارع فيها اتّباع المعاني ، لا الوقوف مع النّصوص . بخلاف العبادات ، فإنّ المعلوم فيها خلاف ذلك ، ولهذا توسّع مالك حتّى قال بقاعدة المصالح المرسلة ، والاستحسان .
والثّالث : أنّ الالتفات إلى المعاني في أمور العادات كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ، حتّى جرت بذلك مصالحهم ، سواء أهل الحكمة الفلسفيّة وغيرهم . إلا أنّهم قصّروا في جملة من التّفاصيل ، فجاءت الشّريعة لتتمّم مكارم الأخلاق . ومن هنا أقرّت الشّريعة جملة من الأحكام الّتي كانت في الجاهليّة ، كالدّية ، والقسامة ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك ممّا كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق الّتي تقبلها العقول .
المفاضلة بين التّعبّديّ ومعقول المعنى :
19 - نقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى التمرتاشية أنّه قال : لم أقف على شيء من ذلك لعلمائنا في هذا ، سوى قولهم : الأصل في النّصوص التّعليل ، فإنّه يشير إلى أفضليّة المعقول معناه . قال : ووقفت على ذلك في فتاوى ابن حجر ، قال : قضيّة كلام ابن عبد السّلام أنّ التّعبّديّ أفضل ، لأنّه بمحض الانقياد ، بخلاف ما ظهرت علّته ، فإنّ ملابسه قد يفعل لتحصيل فائدته ، وخالفه البلقينيّ فقال : لا شكّ أنّ معقول المعنى من حيث الجملة أفضل ، لأنّ أكثر الشّريعة كذلك .
وظاهر كلام الشّاطبيّ الأخذ بقول من يقول : إنّ التّعبّديّ أفضل ، وذلك حيث قال : إنّ التّكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلّف في الدّخول تحتها ثلاثة أحوال :(168/5)
الأوّل : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشّارع في شرعها . وهذا لا إشكال فيه ، ولكن لا ينبغي أن يخلّيه من قصد التّعبّد ، فكم ممّن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها ، فغاب عن أمر الآمر بها . وهي غفلة تفوّت خيرات كثيرة ، بخلاف ما إذا لم يهمل التّعبّد .
ثمّ إنّ المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما علم إلا نادراً ، فإذا لم يثبت الحصر كان قصد تلك الحكمة المعيّنة ربّما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم .
الثّاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشّارع ، ممّا اطّلع عليه أو لم يطّلع عليه .
وهذا أكمل من القصد الأوّل ، إلا أنّه ربّما فاته النّظر إلى التّعبّد .
الثّالث : أن يقصد مجرّد امتثال الأمر ، فهم قصد المصلحة أو لم يفهم . قال : فهذا أكمل وأسلم . أمّا كونه أكمل فلأنّه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبّيا ، إذ لم يعتبر إلّا مجرّد الأمر . وقد وكّل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا وهو اللّه تعالى .
وأمّا كونه أسلم ، فلأنّ العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبوديّة ، فإن عرض له قصد غير اللّه ردّه قصد التّعبّد . فهذا الّذي قاله يتجلّى في التّعبّديّات أكثر ممّا يظهر فيما كان معقول المعنى من الأحكام . ومذهب الغزاليّ في ذلك أيضا أنّ التّعبّديّ أفضل ، كما هو واضح فيما تقدّم النّقل عنه من قوله : إنّ ما لا يهتدى لمعانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس . وفي حاشية ابن عابدين : أنّ هذين القولين في الأفضليّة هما على سبيل الإجمال ، أمّا بالنّظر إلى الجزيئات ، فقد يكون التّعبّديّ أفضل كالوضوء وغسل الجنابة ، فإنّ الوضوء أفضل . وقد يكون المعقول أفضل كالطّواف والرّمي ، فإنّ الطّواف أفضل .
خصائص التّعبّديّات :
20 - من أحكام التّعبّديّات :
أ - أنّه لا يقاس عليها ، لأنّ القياس فرع معرفة العلّة ، والفرض : أنّ التّعبّديّ لم تعرف علّته ، فيمتنع القياس عليه ، ولا يتعدّى حكمه موضعه ، سواء أكان مستثنى من قاعدة عامّة ولا يعقل معنى الاستثناء ، كتخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنكاح تسع نسوة ، وتخصيص أبي بردة بالتّضحية بعناق ، أم لم يكن كذلك ، بل كان حكما مبتدأ ، كتقدير أعداد الرّكعات ، ووجوب شهر رمضان ، ومقادير الحدود والكفّارات وأجناسها ، وجميع التّحكّمات المبتدأة الّتي لا ينقدح فيها معنى ، فلا يقاس عليها غيرها .
21 - وبناء على هذا الأصل وقع الخلاف بين الفقهاء في فروع فقهيّة ، منها : رجم اللّوطيّ ، رفضه الحنفيّة ، وأثبته مالك وأحمد في رواية عنه والشّافعيّ في أحد قوليه .
قال الحنفيّة : لا يجري القياس في الحدود والكفّارات ، لأنّ الحدود مشتملة على تقديرات لا تعرف ، كعدد المائة في حدّ الزّنى ، والثّمانين في القذف ، فإنّ العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد ، قالوا : وما كان يعقل منها - أي من أحكام الحدود - فإنّ الشّبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب عدم إثباته بالقياس ، وهذا كقطع يد السّارق لكونها جنت بالسّرقة فقطعت .
وهكذا اختلاف تقديرات الكفّارات ، فإنّه لا يعقل كما لا تعقل أعداد الرّكعات .
وأجاز غير الحنفيّة القياس في الحدود والكفّارات ، لكن فيما يعقل معناه من أحكامها لا فيما لا يعقل منها ، كما في غير الحدود والكفّارات .
ب - قال الشّاطبيّ : إنّ التّعبّديّات ما كان منها من العبادات فلا بدّ فيه من نيّة كالطّهارة ، والصّلاة ، والصّوم . ومن لم يشترط النّيّة في بعضها فإنّه يبني على كون ذلك البعض معقول المعنى ، فحكمه كما لو كان من أمور العادات .
أمّا صوم رمضان والنّذر المعيّن ، فلم يشترط الحنفيّة لهما تبييت النّيّة ولا التّعيين ، ووجه ذلك عندهم : أنّه لو نوى غيرهما في وقتهما انصرف إليهما ، بناء على أنّ الكفّ عن المفطرات قد استحقّه الوقت ، فلا ينصرف لغيره ، ولا يصرفه عنه قصد سواه . ومن هذا ما قال الحنابلة في غسل القائم من نوم اللّيل يده قبل إدخالها الإناء : إنّه تعبّديّ ، فتعتبر له النّيّة الخاصّة ، ولا يجزئ عن غسلهما نيّة الوضوء أو الغسل ، لأنّهما عبادة مفردة .(168/6)
تعجيل *
التّعريف :
1 - التّعجيل : مصدر عجّل . وهو في اللّغة : الاستحثاث ، وطلب العجلة ، وهي : السّرعة. ويقال : عجّلت إليه المال : أسرعت إليه ، فتعجّله : فأخذه بسرعة وهو في الشّرع : الإتيان بالفعل قبل الوقت المحدّد له شرعاً ، كتعجيل الزّكاة ، أو في أوّل الوقت ، كتعجيل الفطر .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإسراع :
2 - الإسراع : مصدر أسرع ، والسّرعة : اسم منه ، وهي نقيض البطء .
والفرق بين الإسراع والتّعجيل كما قال العسكريّ : إنّ السّرعة التّقدّم فيما ينبغي أن يتقدّم فيه ، وهي محمودة ، ونقيضها مذموم ، وهو : الإبطاء .
والعجلة التّقدّم فيما لا ينبغي أن يتقدّم فيه ، وهي مذمومة ، ونقيضها محمود، وهو : الأناة. فأمّا قوله تعالى { وَعَجِلْتُ إليكَ رَبِّ لِتَرْضَى } فإنّ ذلك بمعنى : أسرعت .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّعجيل مشروع في مواضع : كتعجيل تجهيز الميّت ، وقضاء الدّين .
وغير مشروع في مواضع : كتعجيل الصّلاة قبل وقتها . والمشروع منه تارة يكون واجباً : كتعجيل التّوبة من الذّنب . وتارة يكون مندوباً : كتعجيل الفطر في رمضان .
وتارة يكون مباحاً : كتعجيل الكفّارات ، وتارة يكون مكروهاً أو خلاف الأولى : كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول . وغير المشروع : منه ما يكون باطلاً، كتعجيل الصّلاة قبل وقتها.
أنواع التّعجيل
أوّلاً : التّعجيل بالفعل عند وجود سببه
أ - التّعجيل بالتّوبة من الذّنب :
4 - تجب التّوبة على كلّ مكلّف على الفور عقيب الذّنب .
وقد دلّت على ذلك نصوص الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة . قال اللّه تعالى { إنَّمَا التَّوْبَةُ على اللَّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيهمْ } .
وقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُونَ } .
ونقل القرطبيّ وغيره : الإجماع على وجوب تعجيل التّوبة ، وأنّها على الفور .
ب - التّعجيل بتجهيز الميّت :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب الإسراع بتجهيز الميّت إذا تيقّن موته ، لما ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم - لمّا عاد طلحة بن البراء رضي الله عنه - قال : إنّي لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت ، فآذنوني به ، وعجّلوا ، فإنّه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله » . والصّارف عن وجوب التّعجيل : الاحتياط للرّوح ، لاحتماله الإغماء ونحوه . وفي الحديث « أسرعوا بالجنازة ، فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تقدّمونها إليه ، وإن يكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم » . ويندب تأخير من مات فجأة أو غرقاً .
ج - التّعجيل بقضاء الدّين :
6 - يجب تعجيل الوفاء بالدّين عند استحقاقه ويحرم على القادر المطل فيه .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : مطل الغنيّ ظلم ، فإن أتبع أحدكم على مليء فليتبع » أي فإن أحيل على موسر فليقبل الحوالة .
قال ابن حجر في الفتح : المعنى : أنّه من الظّلم ، وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير عن المطل ، والمراد من المطل هنا : تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذر .
د - التّعجيل بإعطاء أجرة الأجير :
7 - ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقُه» والأمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنّما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل ، إذا طلب ، وإن لم يعرق ، أو عرق وجفّ . وذلك لأنّ أجره عمالة جسده ، وقد عجّل منفعته ، فإذا عجّلها استحقّ التّعجيل . ومن شأن الباعة : إذا سلّموا قبضوا الثّمن عند التّسليم ، فهو أحقّ وأولى ، إذ كان ثمن مهجته ، لا ثمن سلعته ، فيحرم مطله والتّسويف به مع القدرة .
هـ - التّعجيل بتزويج البكر :
8 - استحبّ بعض العلماء التّعجيل بإنكاح البكر إذا بلغت ، لحديث : « يا عليّ : ثلاث لا تؤخّرها : الصّلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيّم إذا وجدت لها كفؤاً »
واستثنوا ذلك من ذمّ العجلة ، وأنّها من الشّيطان .
و - التّعجيل بالإفطار في رمضان :
9 - اتّفق الفقهاء : على أنّ تعجيل الفطر من السّنّة ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم
« لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر » ولحديث أبي ذرّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر ، وأخّروا السّحور » .
وإنّما يسنّ له التّعجيل : إذا تحقّق من غروب الشّمس ، وعدم الشّكّ فيه ، لأنّه إذا شكّ في الغروب حرم عليه الفطر اتّفاقاً ، وأجاز الحنفيّة تعجيل الفطر بغلبة الظّنّ .
ز - تعجيل الحاجّ بالنّفر من منى :
10 - يجوز للحاجّ التّعجّل في اليوم الثّاني من أيّام الرّمي ، لقوله تعالى { فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَينِ فلا إِثْمَ عَلَيهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيهِ لِمَنْ اتَّقَى } ولما روى عبد الرّحمن بن يعمر رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : أيّام منى ثلاث ، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخّر فلا إثم عليه » .
وشرط جوازه عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أن يخرج الحاجّ من منى قبل الغروب ، فيسقط عنه رمي اليوم الثّالث ، فإن لم يخرج حتّى غربت الشّمس لزمه المبيت بمنى ، ورمى اليوم الثّالث . وذلك لأنّ اليوم اسم للنّهار ، فمن أدركه اللّيل فما تعجّل في يومين ، وثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه قال " من غربت عليه الشّمس وهو بمنى ، فلا ينفرن ، حتّى يرمي الجمار من أوسط أيّام التّشريق " .(169/1)
ولم يفرّق الشّافعيّة والحنابلة في هذا الشّرط بين المكّيّ والآفاقيّ .
وذهب المالكيّة : إلى التّفريق بينهما ، وخصّوا شرط التّعجيل بالمتعجّل من أهل مكّة ، وأمّا إن كان من غيرها فلا يشترط خروجه من منى قبل الغروب من اليوم الثّاني ، وإنّما يشترط نيّة الخروج قبل الغروب من اليوم الثّاني .
ولم يشترط الحنفيّة ذلك ، وقالوا : له أن ينفر بعد الغروب مع الكراهة ، ما لم يطلع فجر اليوم الثّالث ، وذلك لأنّه لم يدخل اليوم الآخر ، فجاز له النّفر ، كما قبل الغروب .
واختلف الفقهاء في أهل مكّة هل ينفرون النّفر الأوّل ؟ فقيل : ليس لهم ذلك . فقد ثبت عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : من شاء من النّاس كلّهم أن ينفروا في النّفر الأوّل ، إلّا آل خزيمة ، فلا ينفرون إلّا في النّفر الآخر . وكان أحمد بن حنبل يقول : لا يعجبني لمن نفر النّفر الأوّل أن يقيم بمكّة ، وقال : أهل مكّة أخفّ ، وجعل أحمد معنى قول عمر " إلا آل خزيمة " أي : أنّهم أهل الحرم ، وحمله في المغني على الاستحباب ، محافظة على العموم . وكان مالك يقول في أهل مكّة من كان له عذر فله أن يتعجّل في يومين ، فإن أراد التّخفيف عن نفسه ممّا هو فيه من أمر الحجّ فلا ، فرأى أنّ التّعجيل لمن بعد قطره .
وقال أكثر أهل العلم : الآية على العموم ، والرّخصة لجميع النّاس ، أهل مكّة وغيرهم ، سواء أراد الخارج من منى المقام بمكّة ، أو الشّخوص إلى بلده .
11 - واختلف الفقهاء في الأفضليّة بين التّعجيل والتّأخير ، فذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) : إلى أنّ تأخير النّفر إلى الثّالث أفضل ، للاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم . وذهب المالكيّة : إلى أنّه لا تفضيل بين التّعجيل والتّأخير ، بل هما مستويان . ونصّ الفقهاء على كراهة التّعجيل للإمام ، لأجل من يتأخّر .
وأمّا ثمرة التّعجيل فهي سقوط رمي اليوم الثّالث ، ومبيت ليلته عنه .
ثانياً : تعجيل الفعل قبل وجوبه
أ - التّعجيل بالصّلاة قبل الوقت :
12 - أجمع العلماء : على أنّ لكلّ صلاة من الصّلوات الخمس وقتاً محدّداً ، لا يجوز إخراجها عنه ، لقوله تعالى : { إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ على المُؤْمِنينَ كِتَابَاً مَوْقُوتَاً } أي : محتّمة مؤقّتة : ولحديث المواقيت المشهور .
وقد رخّص الشّارع في تعجيل الصّلاة قبل وقتها في حالات ، منها :
1 - جمع الحاجّ الظّهر والعصر جمع تقديم في عرفة .
ب - جواز الجمع للمسافر بين العصرين " الظّهر والعصر " والعشاءين " المغرب والعشاء " تقديماً عند جمهور العلماء ، خلافاً للحنفيّة .
2 - جواز الجمع للمريض ، جمع تقديم عند المالكيّة والحنابلة .
3 - جواز الجمع بين العشاءين تقديماً ، لأجل المطر والثّلج والبرد عند جمهور العلماء
" المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " وزاد الشّافعيّة جوازه بين العصرين أيضاً .
4 - جواز الجمع بين الصّلاتين ، إذا اجتمع الطّين مع الظّلمة ، عند المالكيّة ، وجوّزه الحنابلة بمجرّد الوحل ، في إحدى الرّوايتين ، وصحّحها ابن قدامة .
5 - جواز الجمع لأجل الخوف عند الحنابلة .
6 - جواز الجمع لأجل الرّيح الشّديدة في اللّيلة المظلمة الباردة ، عند الحنابلة ، في أحد الوجهين ، وصحّحه الآمديّ .
ب - التّعجيل بإخراج الزّكاة قبل الحول :
13 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى جواز تعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول في الجملة ، وذلك لأنّ « العبّاس رضي الله عنه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ ، فرخّص له في ذلك » ، ولأنّه حقّ ماليّ جعل له أجل للرّفق ، فجاز تعجيله قبل أجله ، كالدّين . ولأنّه - كما قال الشّافعيّة - وجب بسببين ، وهما : النّصاب ، والحول : فجاز تقديمه على أحدهما ، كتقديم كفّارة اليمين على الحنث . ومنعه ابن المنذر ، وابن خزيمة من الشّافعيّة ، وأشهب من المالكيّة ، وقال : لا تجزئ قبل محلّه كالصّلاة ، ورواه عن مالك ، ورواه كذلك ابن وهب . قال ابن يونس : وهو الأقرب ، وغيره استحسان .
ونصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : على أنّ تركه أفضل ، خروجاً من الخلاف .
واختلف الفقهاء في المدّة الّتي يجوز تعجيل الزّكاة فيها : فذهب الحنفيّة : إلى جواز تعجيل الزّكاة لسنين ، لوجود سبب الوجوب ، وهو : ملك النّصاب النّامي .
وقيّده الحنابلة بحولين فقط ، اقتصاراً على ما ورد . فقد روى عليّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّل من العبّاس رضي الله عنه صدقة سنتين » لقوله صلى الله عليه وسلم : « أمّا العبّاس فهي عليّ ومثلها معها » ولما روى أبو داود من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلّف من العبّاس صدقة عامين » وهو وجه عند الشّافعيّة ، صحّحه الإسنويّ وغيره ، وعزوه للنّصّ . وذهب الشّافعيّة : إلى عدم جواز تعجيل الزّكاة لأكثر من عام ، وذلك : لأنّ زكاة غير العام الأوّل لم ينعقد حولها ، والتّعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز ، كالتّعجيل قبل كمال النّصاب في الزّكاة العينيّة .
أمّا المالكيّة : فلم يجيزوا تعجيل الزّكاة لأكثر من شهر قبل الحول على المعتمد ، وتكره عندهم بشهر . وفي المسألة تفصيلات تنظر في الزّكاة .
ج - تعجيل الكفّارات :
تعجّل كفّارة اليمين قبل الحنث :
14 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - : إلى جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ، لما روى عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الرّحمن ، إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك ، ثمّ ائت الّذي هو خير » .(169/2)
واستثنى الشّافعيّة الصّوم من خصال الكفّارة ، وقالوا بعدم جواز التّعجيل به قبل الحنث ، وذلك لأنّه عبادة بدنيّة ، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ، كالصّلاة ، وصوم رمضان ، ولأنّه إنّما يجوز التّكفير به عند العجز عن جميع الخصال الماليّة . والعجز إنّما يتحقّق بعد الوجوب . وهو رواية عند الحنابلة .
وذهب الحنفيّة : إلى عدم جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ، لأنّ الكفّارة لستر الجناية ، ولا جناية قبل الحنث .
15 - ثمّ إنّ القائلين بجواز التّعجيل اختلفوا في أيّهما أفضل : التّكفير قبل الحنث أم بعده ؟. فذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، وأحمد في رواية ، وابن أبي موسى ، وصوّبه المرداويّ من الحنابلة : إلى أنّ تأخيرها عن الحنث أفضل ، خروجاً من الخلاف .
والرّواية الأخرى عن أحمد على الصّحيح من المذهب : أنّ التّكفير قبل الحنث وبعده في الفضيلة سواء ، وذلك في غير الصّوم ، لتعجيل النّفع للفقراء .
تعجيل كفّارة الظّهار :
16 - اختلف الفقهاء في جواز تعجيل كفّارة الظّهار قبل العود ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز تعجيلها ، لوجود سببها ، وذلك كتعجيل الزّكاة قبل الحول ، وبعد كمال النّصاب . وذهب المالكيّة : إلى أنّها لا تجزئ قبل العود .
وذهب الشّافعيّة : إلى جواز التّعجيل بكفّارة الظّهار قبل العود به ، وذلك بالمال - وهو التّحرير والإطعام - لا بالصّوم ، والمراد بالعود عندهم : إمساك المظاهر منها مدّة يمكن للمظاهر أن يطلّقها فيها ، مع القدرة على الطّلاق . وصورة التّعجيل في كفّارة الظّهار : أن يظاهر من مطلّقته رجعيّا ، ثمّ يكفّر ، ثمّ يراجعها . وعندهم صور أخرى .
والمراد بالعود عند الحنفيّة : إرادة العزم على الوطء .
وعند المالكيّة هو إرادة الوطء ، مع استدامة العصمة ، كما قاله ابن رشد .
تعجيل كفّارة القتل :
17 - يجوز تعجيل كفّارة القتل بعد الجرح ، وقبل الزّهوق ، وتجزئ عنه ، وذلك لتقدّم السّبب ، كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول . واستثنى الشّافعيّة تعجيل التّكفير بالصّوم ، لأنّه عبادة بدنيّة ، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ، كالصّلاة ، وصوم رمضان .
د - التّعجيل بقضاء الدّين المؤجّل :
18 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجب أداء الدّين المؤجّل قبل حلول أجله ، لكن لو أدّي قبله صحّ ، وسقط عن ذمّة المدين ، وذلك لأنّ الأجل حقّ المدين ، فله إسقاطه ، ويجبر الدّائن على القبول .
هـ – التّعجيل بالحكم قبل التّبيّن :
19 – روي عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه ، أنّه قال : لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتّى يتبيّن له الحقّ ، كما يتبيّن اللّيل من النّهار فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال : صدق . وهذا لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا ابن عبّاس لا تشهد إلا على أمرٍ يضيء لك كضياء هذا الشّمس » وولاية القضاء فوق ولاية الشّهادة ، لأنّ القضاء ملزم بنفسه ، والشّهادة غير ملزمة بنفسها ، حتّى ينضمّ إليها القضاء ، فإذا أخذ هذا على الشّاهد ، كان على القاضي بطريق الأولى .
قال الصّدر الشّهيد في شرح أدب القاضي : وهذا في موضع النّصّ ، وأمّا في غير موضع النّصّ فلا ، لأنّه في غير موضع النّصّ يقضى بالاجتهاد ، والاجتهاد ليس بدليل مقطوع به ، فلا يتبيّن له به الحقّ ، كما يتبيّن اللّيل من النّهار .(169/3)
تعدّد *
التّعريف :
1 - التّعدّد في اللّغة : الكثرة . وهو من العدد : أي الكمّيّة المتألّفة من الوحدات ، فيختصّ التّعدّد بما زاد عن الواحد ، لأنّ الواحد لا يتعدّد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
حكمه التّكليفيّ :
2 - يختلف حكم التّعدّد باختلاف متعلّقه . فيكون : جائزا في حالات ، وغير جائز في حالات أخرى .
أ - تعدّد المؤذّنين :
3 - تعدّد المؤذّنين جائز لمسجد واحد ، لتعدّدهم في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّ ذلك مستحبّ ، ويجوز الزّيادة عن الاثنين .
والمستحبّ أن لا يزيد عن أربعة . وروي : أنّ عثمان كان له أربعة مؤذّنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر كان مشروعا . والتّفصيل في مصطلح : ( أذان ) .
ب - تعدّد الجماعة في مسجد واحد :
4 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : إلى أنّه إذا صلّى إمام الحيّ ، ثمّ حضرت جماعة أخرى كره أن يقيموا جماعة فيه على الأصحّ .
إلا أن يكون مسجد طريق ، ولا إمام له ، ولا مؤذّن فلا يكره إقامة الجماعة فيه حينئذ .
واستدلّوا بما روي عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ليصلح بين الأنصار ، فرجع وقد صلّى في المسجد بجماعة ، فدخل منزل بعض أهله ، فجمع أهله فصلّى بهم جماعة » .
وقالوا : ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لصلّى فيه . كما استدلّوا بأثر عن أنس رضي الله عنه قال : إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة في المسجد ، صلّوا في المسجد فرادى . قالوا : ولأنّ التّكرار يؤدّي إلى تقليل الجماعة ، لأنّ النّاس إذا علموا : أنّهم تفوتهم الجماعة يتعجّلون ، فتكثر الجماعة .
وقال الحنابلة : لا يكره إعادة الجماعة في المسجد . واستدلّوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجة » ، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه : « جاء رجل وقد صلّى الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال : أيّكم يتّجر على هذا ؟ فقام رجل فصلّى معه » وجاء في بعض الرّوايات : « فلمّا صلّيا قال : وهذان جماعة » ولأنّه قادر على الجماعة ، فاستحبّ له فعلها ، كما لو كان المسجد في ممرّ النّاس . والتّفصيل : في مصطلح : ( جماعة ) أو ( صلاة الجماعة ) .
ج - تعدّد الجمعة :
5 - لا يجوز عند جمهور الفقهاء إقامة جمعتين في بلد واحد إلا لضرورة ، كضيق المسجد ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لم يقيموا سوى جمعة واحدة .
وتعدّد الجمعة في البلد الواحد جائز مطلقا عند الحنفيّة ، سواء أكانت هناك ضرورة أم لا ، فصل بين جانبي البلد نهر أم لا ، لأنّ الأثر الوارد بأنّه « لا جمعة إلا في مصر جامع » قد أطلق ، ولم يشترط إلّا أن تقع في مصر ( ر : صلاة الجمعة ) .
د - تعدّد كفّارة الصّوم :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بالجماع ، وأنّها لا تتعدّد بتكرار الجماع في اليوم الواحد ، كما اتّفقوا على تعدّد الكفّارة إذا تكرّر منه الإفساد بالجماع ، بعد التّكفير من الأوّل .
واختلفوا فيما إذا أفسد أيّاما بالجماع قبل التّكفير من الأوّل ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى تعدّد الكفّارة ، لأنّ كلّ يوم عبادة برأسها ، وقد تكرّر منه الإفساد فأشبه الحجين . وعند الحنفيّة : تكفيه كفّارة واحدة ، وهو المعتمد في المذهب .
واختار بعض الحنفيّة : أنّ هذا خاصّ بالإفساد بغير الجماع ، أمّا الإفساد بالجماع فتتعدّد الكفّارة فيه لعظم الجناية . ( ر : كفّارة ) .
هـ - تعدّد الفدية بتعدّد ارتكاب المحظور في الإحرام :
7 - إذا ارتكب في حالة الإحرام جنايات توجب كلّ منها فدية ، فإن كانت الجناية صيداً ففي كلّ منها جزاؤه ، سواء أفعله مجتمعاً ، أم متفرّقاً . كفّر عن الأوّل ، أم لم يكفّر عنه .
وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
وما عدا ذلك ففيه خلاف وتفصيل ويرجع إليه في ( فدية ) ( وإحرام ) .
و - تعدّد الصّفقة :
8 - تتعدّد الصّفقة بتعدّد البائع ، وتعدّد المشتري ، وبتفصيل الثّمن ، وباختلاف المعقود عليه . فإن جمع بين عينين فأكثر في صفقة واحدة جاز ، ويوزّع الثّمن في المثليّ .
وفي العين المشتركة بين اثنين يوزّع على الأجزاء ، وفي غيرهما من المتقوّمات على الرّءوس ، باعتبار القيمة ، فإن بطل العقد في واحد منهما ابتداء صحّ في الآخر ، بأن كان أحدهما قابلا للعقد والآخر غير قابل ، ( ر : عقد - تفريق الصّفقة ) .
ز - تعدّد المرهون أو المرتهن :
9 - إذا رهن دارين له بمبلغ من الدّين ، فقضى حصّة إحدى الدّارين من الدّين لم يستردّها حتّى يقضي باقي الدّين ، لأنّ المرهون محبوس بكلّ الدّين . وكذا إن رهن عيناً واحدة عند رجلين بدين عليه لكلّ واحد منهما ، فقضى دين أحدهما ، لأنّ العين كلّها رهن عند الدّائنين ، وأضيف الرّهن إلى جميع العين في صفقة واحدة . ر : ( رهن ) .
ح - تعدّد الشّفعاء في العقار :
10 - اختلف الفقهاء في حكم الشّفعة إذا استحقّها جمع ، فقال الشّافعيّة : يأخذون على قدر الحصص ، لأنّ الشّفعة من مرافق الملك فيتقدّر بقدره .
وعند الحنفيّة : يوزّع على عدد رءوسهم ، وهو قول عند الشّافعيّة ، لأنّهم استووا في سبب الاستحقاق ، فيستوون في الاستحقاق . ر : ( شفعة )
ط - تعدّد الوصايا :(170/1)
11 - إذا أوصى بوصايا من حقوق اللّه قدّمت الفرائض منها ، سواء قدّمها الموصي أم أخّرها ، لأنّ الفريضة أهمّ من النّافلة ، فإن تساوت وقدّم الموصي بعضها على بعض بما يفيد التّرتيب بدئ بما قدّمه الموصي . ر : ( وصيّة ) .
ي - تعدّد الزّوجات :
12 - تعدّد الزّوجات إلى أربع مشروع ورد به القرآن الكريم في قوله تعالى : { فَانْكِحُوا ما طَابَ لكمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وفي تفصيل مشروعيّة التّعدّد وشروطه ووجوب العدل بين الزّوجات يرجع إلى ( نكاح وقسم ونفقة ) .
ك - تعدّد أولياء النّكاح :
13 - إذا استوى أولياء المرأة في درجة القرابة كالإخوة والأعمام ، يندب تقديم أكبرهم وأفضلهم ، فإن تشاحّوا ولم يقدّموه أقرع بينهم . فإن زوّج أحدهم قبل القرعة بإذنها ، أو زوّجها غير من خرجت له القرعة صحّ . لأنّه صدر من أهله في محلّه ، هذا رأي الشّافعيّة . ولتفصيل الموضوع وآراء الفقهاء يرجع إلى مصطلح ( نكاح ) ( ووليّ ) .
ل - تعدّد الطّلاق :
14 - يملك الزّوج الحرّ على زوجته الحرّة ثلاث تطليقات ، تبين بعدها الزّوجة منه بينونة كبرى ، لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره يدخل بها ، ثمّ يطلّقها أو يموت عنها ، لقوله تعالى { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } إلى قوله { فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيرَه فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُنَاحَ عَليهما أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } .
وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في ( طلاق ) .
م - تعدّد المجنيّ عليه ، أو الجاني :
15 - إذا قتلت جماعة واحداً يُقتلون جميعاً قصاصاً ، وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد ، بشرط أن تكون كلّ جراحة مؤثّرة في إزهاق الرّوح . وإن قتل واحد جماعة يقتل قصاصاً أيضا ، هذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء . والتّفصيل في مصطلح ( قصاص ) ( وجناية ) .
ن - تعدّد التّعزير بتعدّد الألفاظ :
16 - من سبّ رجلا بألفاظ متعدّدة من ألفاظ الشّتم الموجب للتّعزير ، فقد أفتى بعض الحنفيّة - وأيّده ابن عابدين - بأنّه يعزّر لكلّ منها ، لأنّ حقوق العباد لا تتداخل .
وكذا إن سبّ جماعة بلفظ واحد . انظر مصطلح ( تعزير ) .
س - تعدّد القضاة في بلد واحد :
17 - يجوز للإمام تعيين قاضيين فأكثر في بلد واحد ، إلا أن يشترط اجتماعهم على الحكم في القضيّة الواحدة لما يقع بينهم من خلاف في محلّ الاجتهاد . ر : ( قضاء ) .
ع - تعدّد الأئمّة :
18 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا يجوز تنصيب إمامين فأكثر للمسلمين في زمن واحد ، وإن تباعدت أقاليمهم . ر : ( إمامة عظمى ) .(170/2)
تعزية *
التّعريف :
1 - التّعزية لغة : مصدر عزّى : إذا صبّر المصاب وواساه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ وقال الشّربينيّ : هي الأمر بالصّبر والحمل عليه بوعد الأجر ، والتّحذير من الوزر ، والدّعاء للميّت بالمغفرة ،وللمصاب بجبر المصيبة.
الحكم التّكليفيّ :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب التّعزية لمن أصابته مصيبة .
والأصل في مشروعيّتها : خبر : « من عزّى مصاباً فله مثل أجره » .
وخبر « ما من مؤمن يعزّي أخاه بمصيبة إلّا كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة » .
كيفيّة التّعزية ولمن تكون :
3 - يعزّى أهل المصيبة ، كبارهم وصغارهم ، ذكورهم وإناثهم ، إلا الصّبيّ الّذي لا يعقل ، والشّابّة من النّساء ، فلا يعزّيها إلا النّساء ومحارمها ، خوفاً من الفتنة .
ونقل ابن عابدين عن شرح المنية : تستحبّ التّعزية للرّجال والنّساء اللاتي لا يفتنّ .
وقال الدّردير : وندب تعزية لأهل الميّت إلا مخشيّة الفتنة .
مدّة التّعزية :
4 - جمهور الفقهاء : على أنّ مدّة التّعزية ثلاثة أيّام .
واستدلّوا لذلك بإذن الشّارع في الإحداد في الثّلاث فقط ، بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلّا على زوج : أربعة أشهر وعشرا » وتكره بعدها ، لأنّ المقصود منها سكون قلب المصاب ، والغالب سكونه بعد الثّلاثة ، فلا يجدّد له الحزن بالتّعزية ، إلا إذا كان أحدهما ( المعزّى أو المعزّي ) غائباً ، فلم يحضر إلا بعد الثّلاثة ، فإنّه يعزّيه بعد الثّلاثة . وحكى إمام الحرمين وجها وهو قول بعض الحنابلة : أنّه لا أمد للتّعزية ، بل تبقى بعد ثلاثة أيّام ، لأنّ الغرض الدّعاء ، والحمل على الصّبر ، والنّهي عن الجزع ، وذلك يحصل على طول الزّمان .
وقت التّعزية :
5 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ الأفضل في التّعزية أن تكون بعد الدّفن ، لأنّ أهل الميّت قبل الدّفن مشغولون بتجهيزه ، ولأنّ وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر ، فكان ذلك الوقت أولى بالتّعزية . وقال جمهور الشّافعيّة : إلا أن يظهر من أهل الميّت شدّة جزع قبل الدّفن ، فتعجّل التّعزية ، ليذهب جزعهم أو يخفّ . وحكي عن الثّوريّ : أنّه تكره التّعزية بعد الدّفن .
مكان التّعزية :
6 - كره الفقهاء الجلوس للتّعزية في المسجد .
وكره الشّافعيّة والحنابلة الجلوس للتّعزية ، بأن يجتمع أهل الميّت في مكان ليأتي إليهم النّاس للتّعزية ، لأنّه محدث وهو بدعة ، ولأنّه يجدّد الحزن . ووافقهم الحنفيّة على كراهة الجلوس للتّعزية على باب الدّار ، إذا اشتمل على ارتكاب محظور ، كفرش البسط والأطعمة من أهل الميّت . ونقل الطّحطاويّ عن شرح السّيّد أنّه لا بأس بالجلوس لها ثلاثة أيّام من غير ارتكاب محظور . وذهب المالكيّة : إلى أنّ الأفضل كون التّعزية في بيت المصاب . وقال بعض الحنابلة : إنّما المكروه البيتوتة عند أهل الميّت ، وأن يجلس إليهم من عزّى مرّة ، أو يستديم المعزّي الجلوس زيادة كثيرة على قدر التّعزية .
صيغة التّعزية :
7 - قال ابن قدامة : لا نعلم في التّعزية شيئاً محدوداً ، إلا ما روي أنّ الإمام أحمد قال : يروى « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عزّى رجلاً فقال : رحمك اللّه وآجرك » .
وعزّى أحمد أبا طالب ( أحد أصحابه ) فوقف على باب المسجد فقال : أعظم اللّه أجركم وأحسن عزاءكم . وقال بعض أصحابنا إذا عزّى مسلما بمسلم قال : أعظم اللّه أجرك ، وأحسن عزاك ، ورحم اللّه ميّتك . واستحبّ بعض أهل العلم : أن يقول ما روى جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : « لمّا توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجاءت التّعزية ، سمعوا قائلاً يقول : إنّ في اللّه عزاء من كلّ مصيبة ، وخلفاً من كلّ هالك ، ودركاً من كلّ ما فات ، فباللّه فثقوا ، وإيّاه فارجوا ، فإنّ المصاب من حرم الثّواب » .
وهل يعزّى المسلم بالكافر أو العكس ؟
8 - ذهب الأئمّة : الشّافعيّ ، وأبو حنيفة في رواية عنه : إلى أنّه يعزّى المسلم بالكافر ، وبالعكس ، والكافر غير الحربيّ . وذهب الإمام مالك : إلى أنّه لا يعزّى المسلم بالكافر . وقال ابن قدامة من الحنابلة : إن عزّى مسلما بكافر قال : أعظم اللّه أجرك وأحسن عزاءك.
صنع الطّعام لأهل الميّت :
9 - يسنّ لجيران أهل الميّت أن يصنعوا طعاما لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
« اصنعوا لأهل جعفر طعاما ، فإنّه قد جاءهم ما يشغلهم » .
ويكره أن يصنع أهل الميّت طعاما للنّاس ، لأنّ فيه زيادة على مصيبتهم ، وشغلاً على شغلهم ، وتشبّها بأهل الجاهليّة ، لخبر جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي الله عنه : كنّا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميّت ، وصنيعة الطّعام بعد دفنه من النّياحة .(171/1)
تغسيل الميّت *
التّعريف :
1 - التّغسيل في اللّغة : مصدر غسّل بالتّشديد ، بمعنى : إزالة الوسخ عن الشّيء ، بإجراء الماء عليه ، والميّت بالتّخفيف والتّشديد : ضدّ الحيّ ، وأمّا الحيّ - فهو بالتّشديد لا غير - بمعنى من سيموت . ومنه قوله تعالى : { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهمْ مَيِّتُونَ } ويستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، قال تعالى : { لِنُحْيِيَ به بَلْدَةً مَيْتَاً } ولم يقل ميّتة .
فتغسيل الميّت من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول .
وفي الاصطلاح : تعميم بدن الميّت بالماء بطريقة مسنونة .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغسيل الميّت المسلم واجب كفاية ، بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، لحصول المقصود بالبعض ، كسائر الواجبات على سبيل الكفاية. لقوله عليه الصلاة والسلام : « للمسلم على المسلم ستّ وعدّ منها : أن يغسّله بعد موته » والأصل فيه : « تغسيل الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه السلام . ثمّ قالوا : يا بني آدم هذه سنّتكم » .
وأمّا القول بسنّيّة الغسل عند بعض المالكيّة ، فقد اقتصر على تصحيحه ابن الحاجب وغيره.
ما ينبغي لغاسل الميّت ، وما يكره له :
3 - ينبغي أن يكون الغاسل ثقة أميناً ، وعارفاً بأحكام الغسل .
وفي الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لِيغسّل موتاكم المأمونون » .
ولا يجوز له إذا رأى من الميّت شيئاً ممّا يكره أن يذكره إلا لمصلحة ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال : « من غسّل ميّتاً ، فأدّى فيه الأمانة ، ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » .
وإن رأى حسناً مثل أمارات الخير من وضاءة الوجه ونحو ذلك ، استحبّ له إظهاره ليكثر التّرحّم عليه ، ويحصل الحثّ على طريقته ، والتّبشير بجميل سيرته .
إلا إذا كان الميّت مبتدعاً ، ورأى الغاسل منه ما يكره ، فلا بأس أن يحدّث النّاس به ، ليكون زجرا لهم عن البدعة .
كما يستحبّ أن يليّن مفاصله إن سهلت عليه ، وإن شقّ ذلك لقسوة الميّت أو غيرها تركها ، لأنّه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه . ويلفّ الغاسل على يده خرقة خشنة يمسحه بها ، لئلا يمسّ عورته . لأنّ النّظر إلى العورة حرام . فاللّمس أولى ، ويعدّ لغسل السّبيلين خرقة أخرى . قال الشّافعيّة : ويكره للغاسل أن ينظر إلى شيء من بدنه إلّا لحاجة ، أمّا المعيّن فلا ينظر إلا لضرورة .
كما يكره له أن يقف على الدّكّة ، ويجعل الميّت بين رجليه ، بل يقف على الأرض ويقلّبه حين غسله ، كما ينبغي له أن يشتغل بالتّفكّر والاعتبار ، لا بالأذكار الّتي ابتدعوها لكلّ عضو ذكر يخصّه ، فإنّها بدعة .
النّيّة في تغسيل الميّت :
4 - ذهب الحنفيّة إلى : أنّ النّيّة ليست شرطا لصحّة الطّهارة ، بل شرط لإسقاط الفرض عن المكلّفين ، فلو غسّل الميّت بغير نيّة أجزأ لطهارته ، لا لإسقاط الفرض عن المكلّفين . وذهب المالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وظاهر نصّ الشّافعيّ ، ورواية عن الحنابلة إلى : عدم اشتراط النّيّة في تغسيل الميّت ، لأنّ الأصل عند المالكيّة : أنّ كلّ ما يفعله في غيره لا يحتاج فيه إلى نيّة ، كغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً ، ولأنّ القصد التّنظيف ، فأشبه غسل النّجاسة . وذهب الشّافعيّة في قول آخر ، والحنابلة في رواية أخرى إلى وجوب النّيّة ، لأنّ غسل الميّت واجب ، فافتقر إلى النّيّة كغسل الجنابة ، ولمّا تعذّرت النّيّة من الميّت اعتبرت في الغاسل ، لأنّه المخاطب بالغسل .
تجريد الميّت وكيفيّة وضعه حالة الغسل :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو أحد قولي الشّافعيّة ، ورواية عن أحمد إلى أنّه يستحبّ تجريد الميّت عند تغسيله ، لأنّ المقصود من الغسل هو التّطهير وحصوله بالتّجريد أبلغ . ولأنّه لو اغتسل في ثوبه تنجّس الثّوب بما يخرج ، وقد لا يطهر ، وإليه ذهب ابن سيرين . والصّحيح المعروف عند الشّافعيّة ، وهو رواية المرّوذيّ عن أحمد أنّه يغسّل في قميصه . وقال أحمد : يعجبني أن يغسّل الميّت وعليه ثوب رقيق ينزل الماء فيه ، يدخل يده من تحته ، قال : وكان أبو قلابة إذا غسّل ميّتا جلّله بثوب . واعتبره القاضي سنّة ، فقال : السّنّة أن يغسّل الميّت في قميص ، فيمرّ يده على بدنه ، والماء يصبّ .
ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم غسّل في قميصه » .
وأمّا ستر عورته فلا خلاف فيه ، لأنّ ستر العورة واجب ومأمور به ، هذا إذا كان الذّكر يغسّل الذّكر ، والأنثى تغسّل الأنثى ، وأمّا إذا كان الذّكر المحرم يغسّل الأنثى ، وعكسه ، فيستر جميع بدن الميّت . وأمّا كيفيّة وضعه عند تغسيله ، فهي أنّه يوضع على سرير أو لوح هيّئ له ، ويكون موضع رأسه أعلى لينحدر الماء ، ويكون الوضع طولا ، كما في حالة المرض إذا أراد الصّلاة بإيماء .
ومن الحنفيّة من اختار الوضع كما يوضع في القبر . والأصحّ أنّه يوضع كما تيسّر .
عدد الغسلات وكيفيّتها :
6 - قبل أن يبدأ الغاسل بتغسيل الميّت يزيل عنه النّجاسة ، ويستنجيه عند أبي حنيفة ومحمّد . وأمّا إزالة النّجاسة وإنقاؤها فأبو حنيفة ومحمّد يقولان به بلا إجلاس وعصر في أوّل الغسل ، وعند المالكيّة يندب عصر البطن حالة الغسل ، وعند الشّافعيّة والحنابلة يكون إجلاس الميّت وعصر بطنه في أوّل الغسل .
ثمّ يوضّئه وضوءه للصّلاة ، ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه ، وإن كان فيهما أذى أزاله بخرقة يبلّها ويجعلها على أصبعه ، فيمسح أسنانه وأنفه حتّى ينظّفهما . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، وإليه ذهب سعيد بن جبير والنّخعيّ والثّوريّ ، وقال شمس الأئمّة الحلوانيّ : وعليه عمل النّاس اليوم .(172/1)
وأمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فلا يغني ذلك عن المضمضة والاستنشاق .
ويميل رأس الميّت حتّى لا يبلغ الماء بطنه . وكذا لا يؤخّر رجليه عند التّوضئة .
وبعد الوضوء يجعله على شقّه الأيسر فيغسل الأيمن ، ثمّ يديره على الأيمن فيغسل الأيسر ، وذلك بعد تثليث غسل رأسه ولحيته .
والواجب في غسل الميّت مرّة واحدة ، ويستحبّ أن يغسّل ثلاثاً كلّ غسلة بالماء والسّدر ، أو ما يقوم مقامه ، ويجعل في الأخيرة كافوراً ، أو غيره من الطّيب إن أمكن .
وإن رأى الغاسل أن يزيد على ثلاث - لكونه لم ينق ، أو غير ذلك - غسله خمساً أو سبعاً ، ويستحبّ أن لا يقطع إلا على وتر . وقال أحمد : لا يزيد على سبع .
والأصل في هذا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغاسلات ابنته زينب رضي الله عنها
« ابْدَأْن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها ، واغسِلْنَها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً ، أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ ذلك ، بماء وسدر ، واجْعلْنَ في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور » .
ويرى ابن حبيب من المالكيّة أنّه لا بأس عند الوباء وما يشتدّ على النّاس من غسل الموتى لكثرتهم ، أن يجتزئوا بغسلة واحدة بغير وضوء ، يصبّ الماء عليهم صبّاً .
وإن خرج منه شيء وهو على مغتسله ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة - ما عدا أشهب - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، واختاره أبو الخطّاب من الحنابلة : أنّه لا يعاد غسله ، وإنّما يغسل ذلك الموضع ، وإليه ذهب الثّوريّ أيضاً .
وذهب الحنابلة ، وهو قول آخر للشّافعيّة إلى أنّه إن خرج منه شيء وهو على مغتسله غسّله إلى خمس ، فإن زاد فإلى سبع . وإليه ذهب ابن سيرين وإسحاق .
وللشّافعيّة قول ثالث ، وهو أنّه يجب إعادة وضوئه . هذا إذا خرجت النّجاسة قبل الإدراج في الكفن ، وأمّا بعده فجزموا بالاكتفاء بغسل النّجاسة فقط .
7 - يستحبّ أن يحمل الميّت إلى مكان خال مستور لا يدخله إلا الغاسل ، ومن لا بدّ من معونته عند الغسل ، وذكر الرّويانيّ وغيره أنّ للوليّ أن يدخله إن شاء ، وإن لم يغسّل ولم يعن ، وكان ابن سيرين يستحبّ أن يكون البيت الّذي يغسّل فيه الميّت مظلماً .
قال ابن قدامة : فإن لم يكن جعل بينه وبينهم ستراً . قال ابن المنذر : كان النّخعيّ يحبّ أن يغسّل الميّت وبينه وبين السّماء سترة ، وهو ما أوصى به الضّحّاك أخاه سالما ، كما ذكر القاضي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « أتانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن نغسّل ابنته ، فجعلنا بينها وبين السّقف ستراً » .
صفة ماء الغسل :
8 - يشترط لصحّة غسل الميّت في الماء : الطّهوريّة كسائر الطّهارات ، والإباحة كباقي الأغسال ، واستحبّ الحنفيّة أن يكون الماء ساخنا لزيادة الإنقاء ، ويغلى الماء بالسّدر أو غيره ، لأنّه أبلغ في النّظافة وهو المقصود .
وعند المالكيّة يخيّر الغاسل في صفة الماء إن شاء باردا وإن شاء ساخناً .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة عدم غسل الميّت بالماء الحارّ في المرّة الأولى ، إلا لشدّة البرد أو لوسخ أو غيره .
واستحسن الشّافعيّة أن يتّخذ الغاسل إناءين ، والحنابلة أن يتّخذ ثلاثة أوان للماء .
ما يصنع بالميّت قبل التّغسيل وبعده :
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّ استعمال البخور عند تغسيل الميّت مستحبّ ، لئلّا تشمّ منه رائحة كريهة . ويزداد في البخور عند عصر بطنه .
وأمّا تسريح الشّعر ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، فلا يفعل شيء من ذلك عند الحنفيّة ، وهو أيضا قول الحنابلة في العانة ، ورواية عندهم في تقليم الأظفار ، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة في القديم أيضا إلا في تسريح الشّعر واللّحية ، لأنّ ذلك يفعل لحقّ الزّينة ، والميّت ليس بمحلّ الزّينة . فلا يزال عنه شيء ممّا ذكرنا ، وأمّا إن كان ظفره منكسرا فلا بأس بأخذه .
وذهب الشّافعيّة في الجديد إلى أنّه يفعل كلّ ذلك ، وإليه ذهب الحنابلة في قصّ الشّارب ، وهو رواية عندهم في تقليم الظّفر إن كان فاحشاً ، ورواية عن أحمد في حلق العانة . ودليل الجواز قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم » . ولأنّ ترك تقليم الأظفار ونحوها يقبّح منظر الميّت ، فشرعت إزالته .
وأمّا الختان فلا يشرع عند جمهور الفقهاء ، لأنّه إبانة جزء من أعضائه ، كما أنّه لا يحلق رأس الميّت . وحكى أحمد عن بعض النّاس أنّه يختن .
وإذا فرغ الغاسل من تغسيل الميّت نشّفه بثوب ، لئلّا تبتلّ أكفانه . وفي حديث أمّ سليم رضي الله عنها : « فإذا فرغت منها فألقى عليها ثوباً نظيفاً » . وذكر القاضي في حديث ابن عبّاس رضي الله عنه في غسل النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : « فجفّفوه بثوب » .
الحالات الّتي ييمّم فيها الميّت :
10 - ييمّم الميّت في الحالات الآتية :
أ - إذا مات رجل بين نسوة أجانب ، ولم توجد امرأة محرمة ، أو ماتت امرأة بين رجال أجانب ، ولم يوجد محرم . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - في الأصحّ - والحنابلة ، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والنّخعيّ ، وحمّاد ، وابن المنذر .
وأضاف الحنفيّة قولهم : إذا كان بين النّسوة امرأته غسّلته ، فإن لم تكن وكانت معهنّ صبيّة صغيرة ، لم تبلغ حدّ الشّهوة ، وأطاقت الغسل ، علّمنها الغسل ، ويخلّين بينه وبينها حتّى تغسّله ، وتكفّنه ، لأنّ حكم العورة في حقّها غير ثابت . وكذلك إذا ماتت امرأة بين رجال أجانب ، وكان معهم صبيّ لم يبلغ حدّ الشّهوة ، وأطاق الغسل ،علّموه الغسل فيغسّلها.(172/2)
والوجه الثّاني عند الشّافعيّة ، وإليه ذهب أبو الخطّاب من الحنابلة ، وهو قول الحسن ، وإسحاق ، والقفّال ، ورجّحه إمام الحرمين والغزاليّ : أنّ الميّت لا ييمّم في هذه الحالة ، بل يغسّل ويصبّ عليه الماء من فوق القميص ، ولا يمسّ .
وحكى صاحب البيان من الشّافعيّة وجهاً ثالثاً أنّه يدفن ولا ييمّم ولا يغسّل . قال النّوويّ : وهو ضعيف جدّاً . وأمّا كيفيّة التّيمّم ففيها خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( تيمّم ) . ب - إذا مات خنثى مشكل وهو كبير ، على التّفصيل الّذي سيأتي في ف /19 .
ج - إذا تعذّر غسله لفقد ماء حقيقة أو حكما كتقطّع الجسد بالماء ، أو تسلّخه من صبّه عليه .
من يجوز لهم تغسيل الميّت :
أ - الأحقّ بتغسيل الميّت :
11 - الأصل أنّه لا يغسّل الرّجال إلّا الرّجال ، ولا النّساء إلّا النّساء ، لأنّ نظر النّوع إلى النّوع نفسه أهون ، وحرمة المسّ ثابتة حالة الحياة ، فكذا بعد الموت .
واختلفوا في التّرتيب . فذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ للغاسل أن يكون أقرب النّاس إلى الميّت ، فإن لم يعلم الغسل فأهل الأمانة والورع .
ويرى المالكيّة تقديم الحيّ من الزّوجين في غسل صاحبه على العصبة ، ويقضى له بذلك عند التّنازع ، ثمّ الأقرب فالأقرب من عصبته ، ثمّ امرأة محرمة كأمّ وبنت . وإن كان الميّت امرأة ، ولم يكن لها زوج ، أو كان وأسقط حقّه ، يغسّلها أقرب امرأة إليها فالأقرب ، ثمّ أجنبيّة ، ثمّ رجل محرم على التّرتيب السّابق . ويستر وجوبا جميع جسدها ، ولا يباشر جسدها إلا بخرقة كثيفة يلفّها على يده . وعند الشّافعيّة إن كان الميّت رجلا غسّله أقاربه . وهل تقدّم الزّوجة عليهم ، فيه ثلاثة أوجه :
الوجه الأوّل ، وهو الأصحّ : أنّه يقدّم من الرّجال العصبات ، ثمّ الأجانب ، ثمّ الزّوجة ، ثمّ النّساء المحارم .
والوجه الثّاني : يقدّم الرّجال الأقارب ، ثمّ الزّوجة ، ثمّ الرّجال الأجانب ، ثمّ النّساء المحارم. والوجه الثّالث : تقدّم الزّوجة على الجميع . وإن كان الميّت امرأة قدّم نساء القرابة ، ثمّ النّساء الأجانب ، ثمّ الزّوج ، ثمّ الرّجال الأقارب . وذوو المحارم من النّساء الأقارب أحقّ من غيرهم ، وهل يقدّم الزّوج على نساء القرابة ؟ وجهان :
الوجه الأوّل : وهو الأصحّ المنصوص يقدّمن عليه لأنّهنّ أليق .
والثّاني : يقدّم الزّوج لأنّه كان ينظر إلى ما لا ينظرن ، وظاهر كلام الغزاليّ تجويز الغسل للرّجال المحارم مع وجود النّساء ، ولكنّ عامّة الشّافعيّة يقولون : المحارم بعد النّساء أولى.
وذهب الحنابلة إلى أنّ الأولى بالتّغسيل وصيّ الميّت إذا كان عدلا ، ويتناول عمومه ما لو وصّى لامرأته ، وهو مقتضى استدلالهم بأنّ أبا بكر رضي الله عنه وصّى لامرأته فغسّلته . وكذا لو أوصت بأن يغسّلها زوجها . وبعد وصيّه أبوه وإن علا ، ثمّ ابنه وإن نزل ، ثمّ الأقرب فالأقرب كالميراث ، ثمّ الأجانب ، فيقدّم صديق الميّت ، وبعد وصيّها أمّها وإن علت ، فبنتها وإن نزلت ، فبنت ابنها وإن نزل ، ثمّ القربى فالقربى .
ب - تغسيل المرأة لزوجها :
12 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ للمرأة تغسيل زوجها ، إذا لم يحدث قبل موته ما يوجب البينونة . فإن ثبتت البينونة بأن طلّقها بائناً ، أو ثلاثاً ثمّ مات ، لا تغسّله لارتفاع ملك البضع بالإبانة . وأضاف الشّافعيّة أنّه إن طلّقها رجعيّا - ومات أحدهما في العدّة - لم يكن للآخر غسله عندهم لتحريم النّظر في الحياة .
وكذا لا تغسّله عند جمهور الفقهاء إذا حدث ما يوجب البينونة بعد الموت ، كما لو ارتدّت بعده ثمّ أسلمت ، لزوال النّكاح ، لأنّ النّكاح كان قائما بعد الموت فارتفع بالرّدّة ، والمعتبر بقاء الزّوجيّة حالة الغسل لا حالة الموت . ويرى زفر من الحنفيّة أنّ المعتبر بقاء الزّوجيّة حالة الموت ، وعلى هذا فيجوز لها تغسيله عنده ، وإن حدث ما يوجب البينونة بعد موته . والأصل في جواز تغسيل الزّوجة لزوجها ما روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :
« لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّله إلا نساؤه » .
ج - تغسيل الزّوج لزوجته :
13 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ ، وهو رواية عن أحمد إلى أنّه ليس للزّوج غسلها ، وإليه ذهب الثّوريّ ، لأنّ الموت فرقة تبيح أختها وأربعا سواها ، فحرّمت الفرقة النّظر واللّمس كالطّلاق . ويرى المالكيّة والشّافعيّة ، وهو المشهور عند الحنابلة أنّ للزّوج غسل امرأته ، وهو قول علقمة وعبد الرّحمن وقتادة وحمّاد وإسحاق . لأنّ عليّاً رضي الله تعالى عنه غسّل فاطمة رضي الله عنها واشتهر ذلك في الصّحابة فلم ينكروه ، فكان إجماعاً .
ولأنّ « النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله تعالى عنها : ما ضرّك لو متّ قبلي فقمت عليك ، فغسّلتك وكفّنتك ، وصلّيت عليك ، ودفنتك » إلا أنّه يكره مع وجود من يغسّلها ، لما فيه من الخلاف والشّبهة . قال ابن قدامة : وقول الخرقيّ : وإن دعت الضّرورة إلى أن يغسّل الرّجل زوجته فلا بأس . يعني به أنّه يكره له غسلها مع وجود من يغسّلها سواه ، لما فيه من الخلاف والشّبهة . وأمّا المالكيّة والشّافعيّة فقد أطلقوا الجواز . ولا يتأتّى ذلك عند الحنفيّة ، لأنّه ليس للزّوج غسلها عندهم .
د - تغسيل المسلم للكافر وعكسه :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجب على المسلم تغسيل الكافر ، لأنّ الغسل وجب كرامة وتعظيما للميّت ، والكافر ليس من أهل الكرامة والتّعظيم .(172/3)
وذهب الحنفيّة ، وهو قول لأحمد إلى جواز ذلك إذا كان الكافر الميّت ذا رحم محرم من المسلم ، فيجوز عندهم تغسيله عند الاحتياج ، بأن لم يكن هناك من يقوم به من أهل دينه وملّته ، فإن كان ، خلّى المسلم بينه وبينهم .
والأصل في ذلك ما روي « عن عليّ رضي الله عنه لمّا مات أبوه أبو طالب ، جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه عمّك الضّالّ قد توفّي ، فقال : اذهب واغسله وكفّنه وواره » .
ومذهب الشّافعيّة جواز تغسيل المسلمين وغيرهم للكافرين ، وأقاربه الكفّار أحقّ به من أقاربه المسلمين .
وصرّح المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة بأنّ المسلم لا يغسّل الكافر مطلقا ، سواء أكان قريبا منه أم لم يكن .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه ليس للمسلم غسل زوجته الكافرة لأنّ المسلم لا يغسّل الكافر ولا يتولّى دفنه ، ولأنّه لا ميراث بينهما ولا موالاة ، وقد انقطعت الزّوجيّة بالموت . وكذلك لا تغسّله هي عند المالكيّة إلا إذا كانت بحضرة المسلمين . وعند الحنابلة مطلقاً .
لأنّ النّيّة واجبة في الغسل ، والكافر ليس من أهلها .
وعرف من مذهب الشّافعيّة أنّ للزّوج غسل زوجته المسلمة والذّمّيّة ، ولها غسله .
وأمّا عند الحنفيّة : فالمرأة لا تمنع من تغسيل زوجها بشرط بقاء الزّوجيّة ولو كتابيّة .
وأمّا عكس ذلك فلا يتأتّى عندهم في الأصحّ ، وعند أحمد في رواية ، لأنّه ليس للزّوج غسلها مطلقا كما سبق ( ف 13 ) .
تغسيل الكافر للمسلم :
15 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المخرج - مقابل الصّحيح المنصوص - والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ تغسيل الكافر للمسلم ، لأنّ التّغسيل عبادة ، والكافر ليس من أهلها ، فلا يصحّ تغسيله للمسلم كالمجنون . وأيضاً فإنّ النّيّة واجبة في الغسل والكافر ليس من أهلها . وفي الصّحيح المنصوص عند الشّافعيّة أنّ الكافر لو غسّل مسلما فإنّه يكفي .
هـ – تغسيل الرّجال والنّساء للأطفال الصّغار وعكسه :
- 1 - تغسيل الرّجال والنّساء للأطفال الصّغار :
16 - قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المرأة تغسّل الصّبيّ الصّغير . وقيّده الحنفيّة والشّافعيّة بالّذي لا يشتهى ، والمالكيّة بثماني سنين فما دونها ، والحنابلة بما دون سبع سنين .
ثمّ اختلفوا في تحديد السّنّ على أقوال كثيرة فصّلها الفقهاء في ( كتاب الجنائز ) .
أمّا تغسيل الرّجال للصّغيرة فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا بأس للرّجل أن يغسّل الصّبيّة الّتي لا تشتهى إذا ماتت ، لأنّ حكم العورة غير ثابت في حقّها ، وإليه ذهب الثّوريّ وأبو الخطّاب .
ويرى جمهور المالكيّة أنّه يجوز غسل صبيّة رضيعة وما قاربها كزيادة شهر على مدّة الرّضاع ، لا بنت ثلاث سنين . ويرى ابن القاسم منهم أنّه لا يغسّل الرّجل الصّبيّة وإن صغرت جدّا . وقال عيسى : إذا صغرت جدّا فلا بأس .
وصرّح أحمد أنّ الرّجل لا يغسّل الصّبيّة إلا ابنته الصّغيرة ، فإنّه يروى عن ابن قلابة أنّه غسّل بنتا له صغيرة ، وهو قول الحسن أيضا . قال ابن قدامة : الصّحيح ما عليه السّلف من أنّ الرّجل لا يغسّل الجارية ، والتّفرقة بين عورة الغلام والجارية ، لأنّ عورة الجارية أفحش ، ولأنّ العادة معاناة المرأة للغلام الصّغير ، ومباشرة عورته في حال تربيته ، ولم تجر العادة بمباشرة الرّجل عورة الجارية في الحياة ، فكذلك حال الموت .
تغسيل الصّبيّ للميّت :
17 - صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّه يجوز للصّبيّ إذا كان عاقلا أن يغسّل الميّت ، لأنّه تصحّ طهارته فصحّ أن يطهّر غيره ، وهو المتبادر من أقوال المالكيّة والشّافعيّة .
و - تغسيل المحرم الحلال وعكسه ، وكيفيّة تغسيل المحرم :
18 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز تغسيل المحرم الحلال وعكسه ، لأنّ كلّ واحد منهما تصحّ طهارته وغسله ، فكان له أن يغسّل غيره .
وأمّا كيفيّة تغسيل المحرم فاختلف الفقهاء فيها :
ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ إحرامه يبطل بالموت فيصنع به كما يصنع بالحلال .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة : أنّ حكم إحرامه لا يبطل بموته ، فيصنع في تغسيله ما يصنع بالمحرم . وفي الموضوع تفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( إحرام ) .
ز - تغسيل الخنثى المشكل :
19 - إذا كان الخنثى المشكل صغيرا لم يبلغ ، يجوز للرّجال والنّساء تغسيله ، كما يجوز مسّه والنّظر إليه . وأمّا إذا كان كبيراً أو مراهقاً فذهب الحنفيّة ، وهو وجه عند الشّافعيّة إلى أنّه لا يغسّل رجلا ولا امرأة ، ولا يغسّله رجل ولا امرأة ، بل ييمّم .
والأصل عند الشّافعيّة أنّ الخنثى المشكل - إن كان له محرم من الرّجال أو النّساء - غسّله بالاتّفاق ، وإن لم يكن له محرم جاز للرّجال والنّساء غسله صغيراً . فإن كان كبيرا ففيه وجهان : أحدهما : هذا ، والآخر : أنّه يغسّل . قال أحمد : إذا لم تكن له أمة ، ييمّم ، وزاد : أنّ الرّجل أولى بتيميم خنثى في سنّ التّمييز ، وحرم بدون حائل على غير محرم .
ويرى المالكيّة : أنّه إن أمكن وجود أمة له - سواء أكانت من ماله أم من بيت المال ، أم من مال المسلمين - فإنّها تغسّله ، وإلّا ييمّم ، ولا يغسّله أحد سواها .
وذهب الشّافعيّة في وجه آخر إلى أنّه يغسّل إذا لم يكن له محارم .
وفيمن يغسّل أوجه : أصحّها : أنّه يجوز للرّجال والنّساء جميعا للضّرورة ، واستصحابا لحكم الصّغر ، وبه قال أبو زيد .(172/4)
والوجه الثّاني : أنّه في حقّ الرّجال كالمرأة ، وفي حقّ النّساء كالرّجل ، أخذا بالأحوط . والوجه الثّالث : وهو وجه ضعيف عندهم ، أنّه يشترى من تركته جارية لتغسّله ، فإن لم تكن له تركة فمن بيت المال .
من يغسّل من الموتى ومن لا يغسّل :
أ - تغسيل الشّهيد :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّ الشّهيد لا يغسّل ، لما روي « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في شهداء أحد : ادفنوهم بدمائهم » .
ويرى الحسن البصريّ وسعيد بن المسيّب تغسيل الشّهيد .
وإن كان الشّهيد جنباً فذهب أبو حنيفة والحنابلة ، وهو رواية عن الشّافعيّة ، وقول سحنون من المالكيّة إلى أنّه يغسّل . ويرى جمهور المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، والشّافعيّة في الأصحّ أنّه لا يغسّل لعموم الخبر .
وكذلك الحكم فيمن وجب عليه الغسل بسبب سابق على الموت ، كالمرأة الّتي تطهر من حيض أو نفاس ثمّ تستشهد فهي كالجنب .
وأمّا قبل الطّهارة من الحيض أو النّفاس فلا يجب الغسل .
وعن أبي حنيفة في هذه الحالة روايتان : إحداهما : يجب الغسل كالجنب والأخرى لا يجب .
وذهب جمهور الفقهاء - ما عدا أبا حنيفة - إلى أنّ الشّهيد البالغ وغيره سواء ، وإليه ذهب أبو ثور وابن المنذر . والخلاف في هذه المسألة وكذلك في تغسيل من كان به رمق ، والمرتثّ ( وهو من حمل من المعركة جريحا وبه رمق ) ، ومن عاد عليه سلاحه فقتله ، ومن يقتل من أهل العدل في المعركة ، ومن قتل ظلما ، أو دون ماله أو دون نفسه وأهله مبنيّ على خلاف آخر ، وهو أنّ هؤلاء وأمثالهم هل يعتبرون من الشّهداء أم لا ؟ .
فيرجع للتّفصيل إلى مصطلح ( شهيد ) .
ب - تغسيل المبطون والمطعون وصاحب الهدم وأمثالهم :
21 - لا خلاف عند جمهور الفقهاء في أنّ الشّهيد بغير قتل كالمبطون ، والمطعون ، ومنه الغريق ، وصاحب الهدم ، والنّفساء ، ونحوهم يغسّلون ، وإن ورد فيهم لفظ الشّهادة .
ج - تغسيل من لا يدرى حاله :
22 - لو وجد ميّت أو قتيل في دار الإسلام . وكان عليه سيما المسلمين من الختان والثّياب والخضاب وحلق العانة ، فإنّه يجب غسله عند جمهور الفقهاء ، سواء أوجد في دار الإسلام أم دار الحرب . وأمّا إذا لم يكن عليه ذلك فالصّحيح عندهم : أنّه إن وجد في دار الإسلام يغسّل ، وإن وجد في دار الحرب لا يغسّل ، ولأنّ الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها ، يثبت له حكمهم ، ما لم يقم على خلافه دليل .
وصرّح ابن القاسم من المالكيّة بأنّ الميّت إن وجد بفلاة ، لا يدرى أمسلم هو أم كافر ؟ فلا يغسّل . وكذلك لو وجد في مدينة من المدائن في زقاق ، ولا يدرى حاله أمسلم أم كافر ؟ قال ابن رشد : وإن كان مختونا فكذلك ، لأنّ اليهود يختتنون ، وقال ابن حبيب : ومن النّصارى أيضا من يختتن .
د - تغسيل موتى المسلمين عند اختلاطهم بالكفّار :
23 - لو اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين ولم يميّزوا ، فلا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّهم يغسّلون جميعا ، سواء أكان المسلمون أكثر أم أقلّ . أو كانوا على السّواء ، وهذا لأنّ غسل المسلم واجب ، وغسل الكافر جائز في الجملة ، فيؤتى بالجائز في الجملة لتحصيل الواجب .
هـ - تغسيل البغاة وقطّاع الطّريق :
24 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يغسّل البغاة إذا قتلوا في الحرب ، إهانة لهم وزجرا لغيرهم عن فعلهم . وأمّا إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم فإنّهم يغسّلون . وفي رواية عن الحنفيّة ، وهو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّهم يغسّلون . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( بغاة ) . ولم يفرّق الحنفيّة بين البغاة وقطّاع الطّريق في عدم التّغسيل .
و - تغسيل الجنين إذا استهلّ :
25 - إذا خرج المولود حيّا ، أو حصل منه ما يدلّ على حياته من بكاء أو تحريك عضو أو طرف أو غير ذلك ، فإنّه يغسّل بالإجماع ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ الطّفل إذا عرفت حياته واستهلّ ، يغسّل ويصلّى عليه .
كما أنّه يرى جمهور الفقهاء عدم تغسيل من لم يأت له أربعة أشهر ولم يتبيّن خلقه ، إلا ما روي عن ابن سيرين . وما ورد من الغسل في بعض كتب الحنفيّة ، فالمراد هو الغسل في الجملة كصبّ الماء عليه ، من غير وضوء ولا ترتيب .
واختلفوا في الطّفل الّذي ولد لأربعة أشهر أو أكثر ، فالأصحّ عند الحنفيّة ، وهو المذهب للشّافعيّة والحنابلة أنّه يغسّل . وذهب الحنفيّة في رواية ، والمالكيّة ، وهو قول للشّافعيّة إلى أنّه لا يغسّل ، بل يغسل دمه ، ويلفّ في خرقة ويدفن .
ز - تغسيل جزء من بدن الميّت :
26 - إذا بان من الميّت شيء غسّل وحمل معه في أكفانه بلا خلاف .
وأمّا تغسيل بعض الميّت ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه إن وجد الأكثر غسّل ، وإلا فلا .
وذهب الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّه يغسّل سواء في ذلك أكثر البدن وأقلّه لما روي أنّ طائراً ألقى يداً بمكّة زمن وقعة الجمل ، وكانت يد عبد الرّحمن بن عتّاب بن أسيد ، فغسّلها أهل مكّة ، وصلّوا عليها .
أخذ الأجرة على تغسيل الميّت :
27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أخذ الأجرة على تغسيل الميّت جائز ، وأنّه يؤخذ من تركة الميّت ، كالتّجهيز والتّلقين . وصرّح الحنفيّة بأنّ الأفضل أن يغسّل الميّت مجّاناً ، فإن ابتغى الغاسل الأجر جاز إن كان ثمّة غيره ، وإلا فلا ، لتعيّنه عليه ، لأنّه صار واجباً عليه عينا ، ولا يجوز أخذ الأجرة على الطّاعة . وذهب البعض إلى الجواز .
دفن الميّت من غير غسل :(172/5)
28 - لو دفن الميّت بغير غسل ، ولم يهل عليه التّراب ، فلا خلاف أنّه يخرج ويغسّل . وأمّا بعده ، فذهب الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّة إلى أنّه لا ينبش لأجل تغسيله لأنّ النّبش مثلة ، وقد نهي عنها ، ولما فيه من الهتك .
ويرى المالكيّة ، وهو الصّحيح لدى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ينبش ويغسّل ما لم يتغيّر ، ويخاف عليه أن يتفسّخ ، وإليه ذهب أبو ثور .
وفي الموضوع تفصيل يرجع إليه إلى مصطلح ( نبش ) .
ما يترتّب على تغسيل الميّت :
29 - ذهب الحنفيّة ، وهو قول لمالك ، والشّافعيّة في الصّحيح عندهم ، والحنابلة إلى أنّه يستحبّ لغاسل الميّت أن يغتسل . لحديث رواه التّرمذيّ وذكر أيضاً في الموطّأ وهو « من غسّل ميّتا فليغتسل » . وفي قول لمالك ، وهو قول جمهور فقهاء المالكيّة - ما عدا ابن القاسم - أنّه لا غسل على غاسل الميّت ، لأنّ تغسيل الميّت ليس بحدث .
وروي عن أحمد وجوب الغسل على من غسّل الكافر خاصّة ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عليّا رضي الله عنه أن يغتسل ، لمّا غسّل أباه » .
وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( غسل ) .(172/6)
تغيير *
التّعريف :
1 - من معاني التّغيير في اللّغة : التّحويل . يقال : غيّرت الشّيء عن حاله أي حوّلته وأزلته عمّا كان عليه . ويقال : غيّرت الشّيء فتغيّر ، وغيّره إذا بدّله ، كأنّه جعله غير ما كان عليه . وفي التّنزيل العزيز : { ذَلكَ بِأَنَّ اللَّهَ لمْ يَكُ مُغَيِّرَاً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَومٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهمْ } . قال ثعلب : معناه حتّى يبدّلوا ما أمرهم اللّه . وغيّر عليه الأمر حوّله ، وتغايرت الأشياء اختلفت . ومعناه الاصطلاحيّ عند الفقهاء لا يخرج عن معناه اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّبديل :
2 - التّبديل من بدّلت الشّيء تبديلا بمعنى غيّرت صورته تغييراً ، وأبدلته بكذا إبدالاً نحّيت الأوّل ، وجعلت الثّاني مكانه . وفرّق الأصوليّون من الحنفيّة بين بيان التّغيير وبيان التّبديل. فقالوا : بيان التّغيير هو البيان الّذي فيه تغيير لموجب اللّفظ من المعنى الظّاهر إلى غيره. وذلك كالتّعليق بالشّرط المؤخّر في الذّكر ، كما في قول الرّجل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدّار . وبيان التّبديل بيان انتهاء حكم شرعيّ بدليل شرعيّ متراخ ، وهو النّسخ
الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم التّغيير باختلاف موضعه ، وبيان ذلك فيما يأتي :
تغيّر أوصاف الماء في الطّهارة :
3 - أجمع العلماء على أنّ الماء الّذي غيّرت النّجاسة طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف أنّه لا يجوز الوضوء ولا التّطهّر به ، كما أجمعوا على أنّ الماء الكثير المستبحر لا تضرّه النّجاسة الّتي لم تغيّر أحد أوصافه الثّلاثة .
كذلك أجمعوا على أنّ كلّ ما يغيّر الماء - ممّا لا ينفكّ عنه غالبا كالطّين - أنّه لا يسلبه صفة الطّهارة أو التّطهير ، إلا خلافاً شاذّاً روي عن ابن سيرين في الماء الآسن .
وأمّا الماء الّذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطّاهرة الّتي تنفكّ عنه غالبا متى غيّرت أحد أوصافه الثّلاثة ، فإنّه طاهر عند جميع العلماء .
ولكنّهم اختلفوا في طهوريّته ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه غير مطهّر لأنّه لا يتناوله اسم الماء المطلق ، بل يضاف إلى الشّيء الّذي خالطه ، فيقال مثلا : ماء زعفران .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه مطهّر ما لم يكن التّغيّر عن طبخ .
أمّا المتغيّر بالطّبخ مع شيء طاهر فقد أجمعوا على : أنّه لا يجوز الوضوء ولا التّطهّر به . واختلفوا في الماء غير المستبحر إذا خالطته نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه ، فذهب الجمهور إلى الفرق بين الماء القليل والماء الكثير ، فقالوا : إن كان قليلا أصبح نجسا ، وإن كان كثيرا لم يكن نجسا . وهؤلاء اختلفوا في الحدّ بين القليل والكثير ، فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّ الحدّ بينهما هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حرّكه آدميّ من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطّرف الثّاني منه ، أمّا إذا سرت الحركة فيه فهو قليل .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الحدّ في ذلك هو قلّتان من قلال هجر ، مستدلّين بحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث » وفي لفظ « لم ينجس ». ومن العلماء من لم يحدّ في ذلك حدّا وقال : إنّ النّجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغيّر أحد أوصافه ، وهذا مرويّ عن الإمام مالك ، وروي عنه أيضا أنّ هذا الماء مكروه .
وذهب بعض العلماء - ومنهم المالكيّة ، وأهل الظّاهر - إلى أنّه طاهر سواء كان قليلا أو كثيرا . وانظر لتفصيل ذلك الخلاف في بحث ( مياه ) .
تغيير النّيّة في الصّلاة :
4 - أجمع الفقهاء على أنّ تغيير النّيّة في الصّلاة ، ونقلها من فرض إلى آخر ، أو من فرض إلى نفل عالماً عامداً من غير عذر يبطل الصّلاة .
وتنظر تفاصيل هذه المسألة في مصطلح ( تحويل ، ونيّة ) .
تغيّر حالة الإنسان التّكليفيّة في العبادات :
5 - أجمع الفقهاء على أنّه إذا تغيّرت حالة الإنسان التّكليفيّة ، كأن طهرت الحائض أو النّفساء ، أو بلغ الطّفل ، أو أسلم الكافر ، أو أفاق المجنون أو المغمى عليه ، أو أقام المسافر وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء العبادة ، فإنّه يجب عليه الأداء . ولكنّهم اختلفوا فيما إذا حصل هذا التّغيّر في العصر أو العشاء ، هل تجب عليهم صلاة الظّهر في الحالة الأولى ، وصلاة المغرب في الثّانية ؟ .
ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الظّهر والمغرب ، لأنّ وقت الثّانية وقت الأولى حال العذر . وذهب الحنفيّة والحسن البصريّ والثّوريّ إلى أنّه لا تجب عليهم إلّا الصّلاة الّتي زالت في وقتها الأسباب المانعة ، لأنّ وقت الأولى خرج في حال عذرهم .
واختلفوا كذلك في القدر الّذي يتعلّق به الوجوب ، فذهب الجمهور إلى أنّه بمقدار تكبيرة الإحرام ، فمن أدرك من آخر الوقت ما يسع التّحريمة فقد وجبت عليه الصّلاة ، وإلا فلا .
وذهب المالكيّة إلى أنّه بمقدار ركعة فأكثر ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة ، فمن أدرك من آخر الوقت ما يسع ركعة فأكثر فقد وجبت عليه الصّلاة ، وإلّا فلا يجب عليه شيء .
وتجب صلاة الظّهر والمغرب عند المالكيّة ، إذا أدرك من آخر العصر أو العشاء ما يتّسع لخمس ركعات في الحضر وثلاث ركعات في السّفر .
واختلفوا كذلك فيما إذا حاضت المرأة أو نفست أو جنّ العاقل أو أغمي عليه - وقد مضى من الوقت قدر يتّسع للفرض - فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الصّلاة الّتي أدرك بعض وقتها ، وكذلك الّتي قبلها إن كانت تجمع معها وأدرك قدر ما يتّسع لها أيضاً ، لأنّ وقت الثّانية وقت الأولى في حال الجمع .(173/1)
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ حدوث هذه الأعذار يسقط الفرض ، وإن طرأت في آخر الوقت . ويتصوّر في هذه المسألة حدوث الجنون والإغماء والحيض والنّفاس ، بخلاف الكفر والصّبا فلا يتصوّر حدوث الصّبا ، لاستحالة ذلك ، أمّا حدوث الكفر - والعياذ باللّه - فهو ردّة لا تسقط لزوم القضاء إلّا عند الحنفيّة . واختلفوا في مسألة بلوغ الطّفل في وقت الصّلاة - وقد صلّاها وفرغ منها - أو بلغ وهو في الصّلاة ، وكذلك في صومه .
انظر مصطلح ( بلوغ ، صلاة ، صوم ) .
تغيّر الاجتهاد في القبلة :
6 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه إذا تغيّر اجتهاد المصلّي في القبلة من جهة إلى جهة أخرى - وكان في الصّلاة - استدار إلى الجهة الثّانية وأتمّ الصّلاة ، لما روي « أنّ أهل قباء لمّا بلغهم تحويل القبلة من بيت المقدس استداروا كهيئتهم إلى الكعبة ، وأتمّوا صلاتهم ، ولم يأمرهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالإعادة » ، ولأنّ الصّلاة المؤدّاة إلى جهة التّحرّي مؤدّاة إلى القبلة لأنّها هي القبلة ، حال الاشتباه ، ولأنّ تبدّل الرّأي في معنى انتساخ النّصّ ، وهذا لا يوجب بطلان العمل بالمنسوخ في زمان ما قبل النّسخ .
ويشترط المالكيّة لهذا شرطين أوّلهما : أن يكون المصلّي أعمى ، وثانيهما : أن يكون انحرافه عن القبلة قبل تغيّر الاجتهاد يسيرا ، أمّا إذا كان بصيراً أو كان انحرافه عن القبلة كثيرا ، فيقطع صلاته وجوبا ، ويصلّي إلى الجهة الثّانية .
ويرى بعض العلماء ، ومنهم الآمديّ أنّه لا ينقل من جهته الأولى ، ويمضي على اجتهاده الأوّل ، لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد . وإن كان تغيّر الاجتهاد بعد الفراغ من الصّلاة ، ولم يتبيّن الخطأ يقينا ، فلا يعيد ما صلّى بالأوّل بلا خلاف .
أمّا إذا ثبت الخطأ يقينا فقال المالكيّة والشّافعيّة : يعيدها إن فرغ منها ولم يزل في وقتها ، ويقضيها بعد الوقت عند الشّافعيّة . وعند الحنفيّة والحنابلة ، وفي قول مرجوح للشّافعيّة : لا يعيدها إن فرغ منها سواء كان في الوقت أو بعده .
تغيير نصاب الزّكاة في الحول :
7 - أجمع أهل العلم على أنّ بيع النّصاب من عروض التّجارة بمثله أثناء الحول لا يقطع الحول ، لأنّ الزّكاة تجب في قيمة العروض لا في نفسها .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه إذا باع نصابا للزّكاة ممّا يعتبر فيه الحول بجنسه كالإبل بالإبل ، أو البقر بالبقر ، أو الغنم بالغنم ، أو الذّهب بالذّهب ، أو الفضّة بالفضّة ، لم ينقطع الحول وبنى حول البدل على حول النّصاب الأوّل ( المبدل منه ) لأنّه نصاب يضمّ نماؤه في الحول ، فبنى حول بدله من جنسه على حوله كالعروض .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الحول ينقطع بهذه المبادلة ما لم تكن للتّجارة ، فلا ينقطع الحول إلا في الصّرف فينقطع ، ويستأنف حول جديد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » .
أمّا الحنفيّة ، فقد وافقوا المالكيّة والحنابلة في الأثمان ، ووافقوا الشّافعيّة فيما سواها ، لأنّ الزّكاة إنّما وجبت في الأثمان عندهم ، لكونها ثمنا ، بخلاف غيرها من الأموال الأخرى .
أمّا إذا باع نصاباً للزّكاة بغير جنسه ، كإبل ببقر ، فقد اتّفقوا على انقطاع الحول واستئناف حول جديد ، إذا لم يكن هذا فراراً من الزّكاة . وينظر التّفصيل في مصطلح ( زكاة ) .
تغيير الزّوج أو الزّوجة في النّكاح من الحرّيّة والدّين :
8 - إذا خطب الرّجل امرأة بعينها ، فأجيب إلى ذلك ، ثمّ أوجب له النّكاح في غيرها ، وهو يعتقد أنّها الّتي خطبها فقبل ، فلا ينعقد النّكاح . لأنّ القبول انصرف إلى غير من وجد الإيجاب فيه ، وإلى هذا ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ولو نكح ، وشرط فيها إسلاماً ، أو في أحدهما نسباً أو حرّيّة أو بكارة أو شباباً أو تديّناً فأخلف ، فمذهب جمهور الفقهاء ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة صحّة النّكاح . قال الشّافعيّة : لأنّ الخلف في الشّرط لا يوجب فساد البيع مع تأثّره بالشّروط الفاسدة ، فالنّكاح أولى .
قال الحنابلة : ويثبت الخيار لفوات الشّرط أو الوصف المرغوب . وذهب الشّافعيّة في قول مرجوح عندهم إلى عدم صحّة النّكاح ، لأنّه يعتمد الصّفات فتبدّلها كتبدّل العين .
وأجمع أهل العلم على أنّه إذا عتقت الأمة - وزوجها عبد - فلها الخيار في فسخ النّكاح لخبر بريرة رضي الله عنها . قالت عائشة رضي الله عنها « كاتبت بريرة فخيّرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في زوجها ، وكان عبدا فاختارت نفسها » .
ولأنّ عليها ضرراً في كونها حرّة تحت عبد .
واختلفوا فيما إذا عتقت وزوجها حرّ ، فالجمهور على أنّه لا خيار لها ، لأنّها كافأت زوجها في الكمال ، فلم يثبت لها الخيار .
وذهب طاوس وابن سيرين ومجاهد والنّخعيّ والثّوريّ والحنفيّة إلى أنّ لها الخيار . واستدلّوا بما روي في حديث بريرة أنّ زوجها كان حرّا ، كما رواه النّسائيّ في سننه . وأجمع الفقهاء على بقاء نكاح الكتابيّة الّتي أسلم زوجها ، سواء قبل الدّخول أو بعده ، لأنّ للمسلم أن يبتدئ نكاح كتابيّة ، فاستدامته أولى .
كما أجمعوا على أنّه إذا أسلمت الكتابيّة قبل زوجها ، وقبل الدّخول بها تعجّلت الفرقة ، سواء كان زوجها كتابيّاً أم مجوسيّاً أو غيرهما ، إذ لا يجوز لكافر نكاح مسلمة .
واختلفوا فيما إذا أسلم أحد الزّوجين الوثنيّين أو المجوسيّين ، أو كتابيّ متزوّج بوثنيّة . وينظر ذلك في مصطلح ( إسلام ، ونكاح ) .
تغيير المغصوب :
9 - اختلف الفقهاء في حكم تغيير المغصوب .(173/2)
فقال الحنفيّة والمالكيّة : إن غيّر المغصوب فزال اسمه وأعظم منافعه ، كطحن حنطة ، ضمنه الغاصب وملكه ، بلا حلّ انتفاع قبل أداء ضمانه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إن كان التّغيير قد زاد من قيمة المغصوب ، فهو للمالك ولا شيء للغاصب بسببها ، إن كانت الزّيادة أثرا محضا ، وإن نقص من المغصوب فعلى الغاصب ردّه وأرش النّقص . والتّفاصيل في مصطلح : ( غصب ) .
تغيّر حالة الجاني أو المجنيّ عليه :
10 - إذا تغيّر حال الجاني أو المجنيّ عليه من الإسلام إلى الكفر أو العكس ، ففي وجوب القصاص أو عدمه ، ومقدار الدّية مذاهب يرجع إليها في مباحث ( الدّية ، والقصاص ) .(173/3)
تفريط *
التّعريف :
1 - التّفريط في اللّغة : التّقصير والتّضييع ، يقال فرّط في الشّيء وفرّطه : إذا ضيّعه وقدّم العجز فيه ، وفرط في الأمر يفرط فرطاً أي : قصّر فيه وضيّعه حتّى فات .
واصطلاحاً : لا يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإفراط :
2 - الإفراط لغة : الإسراف مجاوزة الحدّ والإفراط كذلك : الزّيادة على ما أمرت ، يقال أفرط إفراطاً : إذا أسرف وجاوز الحدّ . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن معناه اللّغويّ . قال الجرجانيّ في التّعريفات : الفرق بين الإفراط والتّفريط ، أنّ الإفراط يستعمل في تجاوز الحدّ من جانب الزّيادة والكمال ، والتّفريط يستعمل في تجاوز الحدّ من جانب النّقصان والتّقصير ، فالنّسبة بين الإفراط والتّفريط التّضادّ .
الحكم الإجماليّ :
3 - الأصل في التّفريط التّحريم لما فيه من التّضييع لحقوق اللّه تعالى وحقوق الآدميّين ، ومن ذلك عدم أداء الصّلاة حتّى يخرج وقتها إهمالا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أما إنّه ليس في النّوم تفريط ، إنّما التّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتّى يجيء وقت الصّلاة الأخرى » .
أ - التّفريط في العبادات :
4 - هو صورة من صور التّفريط في حقوق اللّه تعالى ، والتّفريط في العبادة إمّا أن يكون بتركها بالكلّيّة ، أو بترك ركن من أركانها ، أو واجب من واجباتها ، أو سنّة من سننها ، أو يكون بأدائها في غير وقتها المحدّد لها شرعاً .
فإن كان التّفريط بتركها بالكلّيّة ، فلا خلاف بين الفقهاء في تفسيق تاركها وتأثيمه وتعزيره إن كان تركها تهاوناً وكسلاً ، وتكفيره إن كان تركها جحوداً .
وإن كان التّفريط بترك ركن من أركان العبادة فإنّه يؤدّي إلى بطلانها ، ويجب عليه الإعادة ، وذلك كمن ترك تكبيرة الإحرام في الصّلاة ، أو الإمساك في الصّوم ، أو الوقوف بعرفة في الحجّ .
وإن كان التّفريط بترك واجب من واجباتها ، فتبطل العبادة إن تركه عمداً ، كمن ترك التّشهّد الأوّل في الصّلاة - عند من يقول بوجوبه في الصّلاة - فإن تركه سهواً أو جهلاً فيمكن تدارك هذا التّفريط بالجبر فيسجد سجود السّهو لترك واجب الصّلاة .
ويجب في ترك الواجب في الحجّ دم حدّاً له .
وترك سنّة من سنن العبادة ، ليس تفريطا عند الجمهور ، ولا إثم فيه ، ولا شيء عليه غير نقصان الثّواب ، وعبادته تقع صحيحة .
ويرى المالكيّة والشّافعيّة مشروعيّة سجود السّهو لترك سنّة من سنن الصّلاة ، أمّا عند الحنفيّة لترك السّنّة تفريط لكنّه لا يوجب فسادا ولا سهوا ، بل إساءة لو عامدا غير مستخفّ ، وقالوا : الإساءة أدون من الكراهة التّحريميّة ، وحكم السّنّة أنّه يندب إلى تحصيلها ، ويلام على تركها مع لحوق إثم يسير .
وهناك تفصيل وخلاف بين المذاهب ينظر في مصطلح ( سجود السّهو ) . وإن كان التّفريط بأداء العبادة في غير وقتها المحدّد لها شرعا ، فإن أدّاها قبل وقتها فلا تصحّ منه لتخلّف الشّرط عنها ، وإن أدّاها بعد خروج وقتها بغير عذر فإنّه آثم ، كأداء الصّلاة بعد خروج الوقت ، وتأخير الزّكاة عن الحول عند من يرى وجوب إخراجها على الفور .
ب - التّفريط في عقود الأمانات :
5 - وهو من صور التّفريط في حقوق العباد . إنّ التّفريط والتّقصير في عقود الأمانات كالوديعة يوجب الضّمان فيها . أمّا إن تلفت العين بغير تعدّ أو تفريط فلا ضمان عليه . ومن صور التّفريط في الأمانات إهمال حفظها في حرز مثلها ، أو أن يودعها عند غير أمين . وكذلك العاريّة والرّهن عند من يعدّها من الأمانات .
وهناك خلاف وتفصيل في المذاهب ينظر في مصطلح ( ضمان ، وتعدّ ، وإعارة ) .
ج - التّفريط في الوكالة :
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الأصل في الوكيل أنّه أمين ، فلا ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط منه ولا تعدّ ، وذلك لأنّه في مقام المالك في اليد والتّصرّف ، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك ، فأصبح كالمودع ، ولأنّ الوكالة عقد إرفاق ومعونة ، والضّمان مناف لذلك بدون موجب قويّ كتفريطه وتعدّيه .وللتّفصيل انظر مصطلح ( ضمان ، وكالة ).
د - تفريط الأجير :
7 - إذا فرّط الأجير فيما وكّل إليه من عمل فتلف ما في يده وجب عليه الضّمان ، لا فرق في ذلك بين الأجير الخاصّ كالخادم والرّاعي ، وبين الأجير المشترك كالخيّاط والصّبّاغ . وهناك تفصيل وخلاف بين المذاهب ينظر في مصطلح ( إجارة ، ضمان ) .
هـ - التّفريط في النّفقة :
8 - إذا فرّط الزّوج في الإنفاق على الزّوجة والأولاد ، أو أنفق عليهم دون كفايتهم ، فللزّوجة أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها وأولادها عرفا بغير إذنه ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة . حين قالت له : إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النّفقة ما يكفيني وولدي : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » وإن لم تقدر على أخذ كفايتها وكفاية ولدها من ماله رفعت أمرها للحاكم .
وهناك تفصيل وخلاف بين المذاهب ينظر في مصطلح : ( نفقة ) .
و - تفريط الوصيّ :
9 - الوصيّ أمين . فلا يضمن ما هلك في يده من مال الموصى عليه ، ويقبل قوله مع يمينه إذا اختلف مع الصّبيّ بعد بلوغه رشيداً . وإنّما يضمن إذا فرّط في مال الموصى عليه ، كما لو دفع المال إلى اليتيم قبل رشده بعد الإدراك فضاع لأنّه دفعه إلى من ليس له أن يدفعه إليه . وللتّفصيل انظر مصطلح ( ضمان ، وصيّ ) .
ز - التّفريط في إنقاذ مال الغير :
10 - من رأى مال غيره معرّضا للضّياع أو التّلف فلم يسع لإنقاذه ، فتلف المال أو ضاع ، فإنّه آثم بالتّفريط في إنقاذه ، لأنّ حفظ مال الغير واجب مع القدرة .(174/1)
واختلف الفقهاء في وجوب ترتّب الضّمان عليه ، فذهب الجمهور إلى أنّه لا ضمان عليه ، والمشهور عند المالكيّة وجوب الضّمان عليه وللتّفصيل انظر : مصطلح ( ضمان ) .
ح - التّفريط في إنقاذ حياة الغير :
11 - من فرّط في إنقاذ حياة إنسان كأن رآه في مهلكة ، فلم يمدّ له يد العون مع قدرته على ذلك ، فهلك الإنسان ، فإنّه آثم لا محالة لوجوب المحافظة على الأنفس ، واختلفوا في ترتّب الضّمان عليه في ذلك .
فذهب الجمهور " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في وجه " إلى أنّه لا ضمان عليه لأنّه لم يهلكه ، لا عن طريق المباشرة ، ولا عن طريق التّسبّب . وذهب المالكيّة والحنابلة في وجه إلى وجوب الضّمان عليه ، لأنّه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه .(174/2)
تفريق *
التّعريف :
1 - التّفريق لغة واصطلاحاً خلاف الجمع يقال : فرّق فلان الشّيء تفريقاً ، وتفرقة إذا بدّده ، وفي الحديث : « لا يجمع بين متفرّق ، ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم التّفريق باختلاف متعلّقه :
أ - تفريق المال المختلط خشية الصّدقة :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز لأرباب الأموال من أهل الزّكاة ، أن يفرّقوا أموالهم المختلطة ، الّتي وجب فيها باجتماعها فرض الزّكاة ، ليسقط عنها الفرض ، أو ليقلّ الواجب . كأن يكون لهما أربعون شاة مختلطة خلطة اشتراك ، أو خلطة جوار فيفرّقاها قبل نهاية الحول ليسقط عنها الفرض بالتّفرقة ، ولا يجوز لأرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم المتفرّقة ليقلّ الواجب . وكذا السّاعي لا يجوز له أن يجمع المتفرّق خشية سقوط الصّدقة أو قلّتها لحديث « لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » .
وانظر تفصيل هذه المسألة في مصطلح ( زكاة ) .
ب - تفريق أيّام الصّوم ، في التّمتّع :
3 - اختلف الفقهاء في جواز وصل المتمتّع صوم الأيّام العشرة إذا لم يصم الثّلاثة في وقتها . وجوّز الحنابلة والمالكيّة الوصل بين الثّلاثة والسّبعة ، أمّا عند الحنفيّة إن لم يصم الثّلاثة في وقتها - وهو يوم قبل التّروية ، ويوم التّروية ، ويوم عرفة - يسقط عنه الصّوم ويعود إلى الهدي . وذهب الشّافعيّة - في الأظهر عندهم - إلى لزوم التّفريق بين الثّلاثة والسّبعة ، والأظهر على هذا - في مدّة التّفريق - أنّها تكون بقدر أربعة أيّام ، ومدّة إمكان السّير إلى أهله على العادة لتتمّ . ولو صام عشرة أيّام متوالية حصلت له الثّلاثة ، ولا يعتدّ بالبقيّة لعدم التّفريق . ويراجع التّفصيل في مصطلح : ( تمتّع ) .
ج - تفريق صوم جزاءات الحجّ :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز تفريق أيّام الصّوم في جزاءات الحجّ بأنواعها المختلفة ، لأنّ اللّه تعالى أمر به مطلقا في أنواعها كلّها ، فلا يتقيّد بالتّتابع من غير دليل .
وينظر للتّفصيل مصطلح ( تتابع ) .
د - تفريق أشواط الطّواف :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا تلبّس بالطّواف ثمّ أقيمت المكتوبة ، فإنّه يقطع الطّواف ويصلّي مع الجماعة ، ويبني على طوافه ، لأنّه فعل مشروع في أثناء الطّواف ، فلم يقطعه كاليسير .
وفي غير المكتوبة اختلف الفقهاء تضييقاً وتوسيعاً . ويرجع إلى مصطلح ( طواف ) .
هـ – التّفريق بين الأمّ وولدها :
6 – لا خلاف بين الفقهاء في حظر التّفريق بين الأمة المملوكة وولدها الصّغير بالبيع حتّى يميّز أو يثغر أو يبلغ ، على اختلاف بين الفقهاء . لحديث « من فرّق بين الوالدة وولدها فرّق اللّه بينه وبين أحبّته يوم القيامة » .
واختلفوا في التّفريق بين الصّغير وبين غير الأمّ من المحارم .
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم التّفريق بين الصّغير وبين محرمه المنفرد ، لحديث عليّ رضي الله عنه ، قال : « أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما ، ففرّقت بينهما فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أدركهما فأرجعهما ، ولا تبعهما إلا جميعاً » ولأنّ بينهما محرميّة ، فلم يجز التّفريق بينهما كالأمّ وولدها . وقال المالكيّة والشّافعيّة : إنّ التّحريم خاصّ بالأمّ وولدها للحديث السّابق .
وصرّح الشّافعيّة بأنّ التّفريق بين البهيمة وولدها حرام ، إلا إن استغنى عنها ، أو بذبحه هو لا بذبحها ، ولا ببيعه للذّبح .
و - تفريق الصّفقة لتعدّد أحد الطّرفين أو تعدّد المبيع :
7 - تفرّق الصّفقة بتفصيل الثّمن من الموجب أو القابل ، كأن يقول في عقد البيع مثلاً : بعتك هذا الثّوب بمائة ، وهذا بخمسين ، فيقبل الآخر فيهما ، سواء فصّل القابل أم لم يفصّل ، فيجوز ردّ أحدهما بعيب ، واستبقاء الآخر . تفريقاً للصّفقة لتعدّدها بتفريق الثّمن .
وكذا إن تعدّد البائع ، أو المشتري ، فيجوز ردّ نصيب أحدهما بعيب ، تفريقا للصّفقة .
أمّا إذا قبل أحد المبيعين ، أو نصيب أحد الطّرفين فلا تفرّق الصّفقة ، لاختلاف الإيجاب والقبول ، فيبطل العقد . هذا التّفصيل للشّافعيّة .
ومذهب الحنفيّة أنّه إذا اتّحد الموجب ، وتعدّد المخاطب ، لم يجز التّفريق بقبول أحدهما ، سواء أكان الموجب بائعا أم مشتريا ، وعلى عكسه لم يجز القبول في حصّة أحدهما .
وإن اتّحدا لم يصحّ قبول المخاطب في البعض ، فلم يصحّ تفريقها مطلقا في الأحوال الثّلاثة ، لاتّحاد الصّفقة في الكلّ . وكذا إن اتّحد العاقدان وتعدّد المبيع ، كأن يوجب بيع مثليّين ، أو قيميّ ومثليّ ، لم يجز تفريقها بالقبول في أحدهما إلا أن يرضى الآخر بذلك بعد القبول في البعض ، ويكون المبيع ممّا ينقسم الثّمن عليه بالأجزاء ، كدار واحدة ، أو موزون ، أو مكيل ، فيكون القبول إيجاباً جديداً والرّضا قبولا .
أمّا إن كان المبيع ممّا لا ينقسم إلا بالقيمة كثوبين أو دارين ، فلا يجوز التّفريق في القبول . فإن بيّن ثمن كلّ واحد منهما بأن كرّر لفظ البيع كأن يقول : بعتك هذين الثّوبين : بعتك هذا بألف وبعتك هذا بألف ، يصحّ التّفريق بالقبول .
أمّا إذا لم يكرّر لفظ البيع وفصّل الثّمن ، قال بعض الحنفيّة تعدّدت الصّفقة ، فيجوز تفريقها بالقبول ، ومنعه آخرون . وقيل : إنّ اشتراط تكرار لفظ البيع للتّعدّد استحسان . وهو قول أبي حنيفة . وعدم اشتراطه قياس . وهو قول الصّاحبين .(175/1)
ومذهب الحنابلة أنّ تفرّق الصّفقة يكون بتعدّد البائع أو المشتري أو المبيع أو بتفصيل الثّمن ، على الصّحيح عندهم . فإذا اشترى اثنان شيئاً ، وشرطا الخيار ، أو وجداه معيباً فرضي أحدهما فللآخر الفسخ بناء على تعدّد الصّفقة بتعدّد الطّرفين . وهو الصّحيح عندهم ، وفي قول لا تفرّق بناء على أنّ الصّفقة لا تتعدّد بتعدّد الطّرفين .
وكذلك لو اشترى واحد من اثنين شيئا وظهر به عيب فله ردّ نصيب أحدهما وإمساك الآخر ، تفريقا للصّفقة ، وهو رأي المالكيّة والتّفصيل في مصطلح ( الرّدّ بالعيب ) .
تفريق الصّفقة المشتملة على ما يجوز بيعه ، وما لا يجوز :
إذا اشتملت الصّفقة على ما يجوز بيعه وما لا يجوز ، فقد اختلف الفقهاء في حكمها على النّحو التّالي :
مذهب الحنفيّة :
8 - ذهب الحنفيّة إلى جواز تفريق الصّفقة ، إذا جمع فيها بين ما يملكه وما لا يملكه ، كداره ودار غيره ، فيصحّ البيع ، وينفذ في ملكه بقسطه من الثّمن باتّفاق أئمّتهم ، ويصحّ في ملك غيره موقوفاً على الإجازة . أمّا إذا جمع فيها بين ميتة ومذكّاة أو خلّ وخمر ، فيبطل فيهما ، إن لم يسمّ لكلّ واحد ثمنا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد .
أمّا إذا سمّى لكلّ واحد منهما ثمناً فاختلفوا فيها : فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّ البيع يبطل فيهما ، لأنّ الميتة والخمر ليسا بمال ، والبيع صفقة واحدة ، فكان القبول في الميتة كالمشروط للبيع في المذبوحة ، وهو شرط فاسد مفسد للعقد في المذبوحة ، بخلاف بيع ما يملكه وما لا يملكه فالبيع موقوف ، وقد دخلا تحت العقد لقيام الماليّة .
وذهب الصّاحبان إلى صحّة العقد في الحلال بقسطه من الثّمن ، إذا سمّي لكلّ منهما قسط من الثّمن . لأنّ الفساد لا يتعدّى المحلّ الفاسد ، وهو عدم الماليّة في الميتة ، فلا يتعدّى إلى غيرها إذ لا موجب لتعدّيه ، لأنّ كلّا منهما قد انفصل عن الآخر بتفصيل الثّمن ، بدليل ما لو كانتا مذكّاتين فتلفت إحداهما قبل القبض بقي العقد في الأخرى .
مذهب المالكيّة :
9 - إذا جمعت الصّفقة بين حلال وحرام بطلت فيهما عندهم ، إذا علم العاقدان الحرام أو علمه أحدهما . أمّا إذا لم يعلما ، كأن باع قلّتي خلّ وخمر على أنّهما خلّ ، فبانت إحداهما خمرا ، أو باع شاتين على أنّهما مذبوحتان فبانت إحداهما ميتة ، فله التّمسّك بالباقي بقسطه من الثّمن ، يرجع على البائع بما يخصّ الخمر والميتة من الثّمن لفساد بيعه .
مذهب الشّافعيّة :
10 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ تفريق الصّفقة ثلاثة أقسام :
أ - أن يكون التّفريق في الابتداء .
ب - أو في الدّوام .
ج - أو في اختلاف الحكم . فأمّا تفريقها ابتداء ، فكأن يبيع حلالاً وحراماً في صفقة واحدة ، كشاة وخنزير ، أو خلّ وخمر ، أو ميتة ومذكّاة ، أو داره ودار غيره بغير إذن صاحبها . فيصحّ البيع في كلّ ذلك فيما يجوز بيعه من الحلال ، وما يملكه بقسطه من الثّمن ، إعطاء لكلّ حكمه ، لأنّ الصّفقة اشتملت على صحيح وفاسد ، فالعدل تصحيحها في الصّحيح ، وقصر الفساد على الفاسد ، كنظيره فيما لو شهد فاسق وعدل . وفي قول يصحّ العقد بجميع الثّمن للحلال ، لأنّ العقد يتوجّه إلى ما يجوز بيعه ، فكان الآخر كالمعدوم . وفي قول : يبطل فيهما ، لأنّ الصّفقة جمعت بين حلال وحرام ، فغلب الحرام ، لقول ابن عبّاس : ما اجتمع حلال وحرام ، إلّا غلب الحرام الحلال ، ولجهالة العوض الّذي يقابل الحلال .
وأمّا تفريق الصّفقة في الدّوام فكأن يبيع شاتين له ، فتلفت إحداهما قبل القبض ، فلا ينفسخ العقد ، بل يتخيّر المشتري بين الفسخ والإجازة ، فإن أجاز يأخذ الباقي بقسطها من الثّمن . وأمّا تفريقها في اختلاف الحكم فكما لو شملت الصّفقة مختلفي الحكم ، كإجارة وبيع بثمن واحد ، أو إجارة وسلم صحّا ، ويوزّع المسمّى على القيمة ، وكذا بيع ونكاح ، فيصحّ النّكاح بلا خلاف ، لأنّ المال ليس شرطا فيه ، وفي البيع والصّداق قولان : الأظهر صحّتهما ، ويوزّع المسمّى على قيمة المبيع ومهر المثل .
مذهب الحنابلة :
11 - قسّم الحنابلة هذه المسألة إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يبيع معلوما ومجهولا في صفقة واحدة بثمن واحد ، كأن يقول بعتك هذه الفرس ، وما في بطن هذه الفرس الأخرى ، بألف . فهذا باطل . لأنّ المجهول لا يصحّ بيعه لجهالته ، فيصير المبيع المعلوم مجهول الثّمن ولا سبيل إلى معرفته ، لأنّ المعرفة إنّما تكون بتقسيط الثّمن على المبيعين ، والمجهول لا يمكن تقويمه فيتعذّر التّقسيط .
ثانيها : أن يكون المبيعان ممّا ينقسم الثّمن عليهما بالأجزاء ، كدار مشتركة بينه وبين غيره باعها بغير إذن شريكه ، ففي ذلك عند الحنابلة وجهان :
أحدهما : يصحّ البيع في ملكه بقسطه من الثّمن ، ويبطل فيما لا يملكه . لأنّ لكلّ واحد منهما حكم المستقلّ لو انفرد ، فإذا جمع بينهما ثبت لكلّ واحد منهما حكمه . وهو كما سبق قول أبي حنيفة وأحد قولي الشّافعيّ .
والوجه الثّاني : لا يصحّ البيع ، لأنّ الصّفقة جمعت حلالاً وحراماً ، فغلب التّحريم ، ولأنّ الصّفقة إذا لم يمكن تصحيحها في جميع المعقود عليه بطلت في الكلّ ، كالجمع بين الأختين . وهو قول للشّافعيّة .
ثالثها : أن يكون المبيعان معلومين ممّا لا ينقسم عليهما الثّمن بالأجزاء ، وأحدهما ممّا يصحّ بيعه والآخر ممّا لا يصحّ ، كخلّ وخمر ، وميتة ومذكّاة ، ومقدور التّسليم وغير مقدور التّسليم ، فيبطل البيع فيما لا يصحّ بيعه ، وفي الآخر روايتان :
إحداهما : يصحّ فيه البيع بقسطه من الثّمن ، وهو الأظهر من قولين للشّافعيّة ، لأنّه يصحّ بيعه منفردا فلم يبطل بانضمام غيره إليه .(175/2)
والثّاني : يبطل فيه أيضا ، وهو قول الشّافعيّة ، لأنّ الثّمن مجهول ، لأنّه يتبيّن بتقسيط الثّمن على القيمة ، وذلك مجهول حين العقد .
ز - تفريق الصّوم في الكفّارات :
12 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب التّتابع في صوم كفّارتي القتل والظّهار ، لثبوت التّتابع فيهما بنصّ القرآن ، في قوله تعالى في كفّارة القتل : { فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ تَوبَةً مِنَ اللَّهِ } وفي كفّارة الظّهار في قوله تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرينِ مُتَتَابِعينِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وثبت التّتابع في صيام كفّارة الوطء في رمضان بالسّنّة الصّحيحة . وذهب إلى ذلك عامّة أهل العلم لما في حديث أبي هريرة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاء إليه رجل فقال : هلكت يا رسول اللّه قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال : هل تجد ما تعتق ؟ قال : لا . قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين . . . » إلى آخر الحديث . والتّفصيل في مصطلح ( تتابع ) .
13 - أمّا كفّارة اليمين فقد اختلف الفقهاء في جواز تفريق الصّوم فيها فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز تفريق الصّوم في كفّارة اليمين ، واستدلّوا بقراءة ابن مسعود ، وأبيّ ، وقد قرآ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتتَابِعَات } .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّتابع في كفّارة اليمين غير واجب ، وهو قول عند الحنابلة ، لأنّ الأمر بالصّوم فيها مطلق ، ولا يجوز تقييده إلا بدليل .
وقد سبق تفصيل هذه المسألة في مصطلح ( تتابع ) .
تتابع قضاء رمضان :
14 - لا يجب التّتابع في قضاء رمضان باتّفاق المذاهب الأربعة .
وسبق التّفصيل في مصطلح ( تتابع ) .(175/3)
تقبيل *
التّعريف :
1 - التّقبيل في اللّغة : مصدر قبّل ، والاسم منه القبلة وهي اللّثمة ، والجمع القبل . يقال قبّلها تقبيلاً أي لثمها وتقبّلت العمل من صاحبه إذا التزمته بعقد .
والقبالة : اسم المكتوب من ذلك لما يلتزمه الإنسان من عمل ودين وغير ذلك .
قال الزّمخشريّ : كلّ من تقبّل بشيء مقاطعة وكتب عليه بذلك كتاباً ، فالكتاب الّذي كتب هو القبالة " بالفتح " والعمل قبالة " بالكسر " .
وتقبيل الخراج : هو أن يدفع السّلطان أو نائبه ، صقعا ، أو بلدة ، أو قرية ، إلى رجل مدّة سنة ، مقاطعة بمال معلوم ، يؤدّيه إليه عن خارج أرضها ، أو جزية رءوس أهلها إن كانوا أهل الذّمّة . وتفصيل الكلام في التّقبيل بهذا الإطلاق ينظر في مصطلح " خراج ، وقبالة " . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني .
أقسام التّقبيل :
2 - ذكر بعض الفقهاء أنّ التّقبيل على خمسة أوجه : قبلة المودّة للولد على الخدّ ، وقبلة الرّحمة لوالديه على الرّأس ، وقبلة الشّفقة لأخيه على الجبهة ، وقبلة الشّهوة لامرأته أو أمته على الفم ، وقبلة التّحيّة للمؤمنين على اليد . وزاد بعضهم قبلة الدّيانة للحجر الأسود . وفيما يلي أحكام التّقبيل بأنواعه المختلفة ، وما ينشأ عنه من آثار :
أحكام التّقبيل أوّلاً :
التّقبيل المشروع :
أ - تقبيل الحجر الأسود :
3 - يسنّ تقبيل الحجر الأسود للحاجّ والمعتمر في حالة الطّواف لمن يقدر عند عامّة الفقهاء ، لما روى ابن عمر « أنّ عمر رضي الله عنه قبّل الحجر ثمّ قال : واللّه لقد علمت أنّك حجر ولولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك » .
فإن عجز عن التّقبيل اقتصر على الاستلام باليد ثمّ قبّلها ، وإن عجز عن الاستلام باليد وكان في يده شيء يمكن أن يستلم الحجر استلمه وقبّله ، وهذا عند جمهور الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه استلم الحجر الأسود باليد ثمّ قبّل يده » ، ولما روي عن ابن عبّاس قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الرّكن بمحجن معه ويقبّل المحجن » .
وقال المالكيّة : إن لم يقدر أن يقبّله لمسه بيده أو بعود ثمّ وضعه على فيه من غير تقبيل . وتفصيله في مصطلح : طواف ، والحجر الأسود " .
ب - تقبيل الرّكن اليمانيّ :
4 - يندب استلام الرّكن اليمانيّ في الطّواف بلا خلاف بين الفقهاء لما روي عن ابن عمر قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر في كلّ طواف » .
أمّا تقبيله فقال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو الصّحيح عند الحنابلة : لا يقبّله : لكنّ الشّافعيّة قالوا : يستلمه باليد ويقبّل اليد بعد استلامه ، وقال المالكيّة : يلمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل .
وقال محمّد من الحنفيّة - وهو قول الخرقيّ من الحنابلة : يقبّله إن تمكّن من ذلك .
هذا وذكر الحنفيّة أنّ تقبيل عتبة الكعبة أيضا من قبلة الدّيانة .
ثانياً : التّقبيل الممنوع :
أ - تقبيل الأجنبيّة :
5 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز لمس وتقبيل المرأة الأجنبيّة ولو للخطبة .
وتفصيل هذه المسائل في مصطلح : ( خطبة ونكاح ) .
ب - تقبيل الأمرد :
6 - الأمرد إذا لم يكن صبيح الوجه فحكمه حكم الرّجال في جواز تقبيله للوداع والشّفقة دون الشّهوة ، أمّا إذا كان صبيح الوجه يشتهى فيأخذ حكم النّساء وإن اتّحد الجنس ، فتحرم مصافحته وتقبيله ومعانقته بقصد التّلذّذ عند عامّة الفقهاء .
وتفصيله في مصطلح : ( أمرد ) .
ج - تقبيل الرّجل للرّجل ، والمرأة للمرأة :
7 - لا يجوز للرّجل تقبيل فم الرّجل أو يده أو شيء منه ، وكذا تقبيل المرأة للمرأة ، والمعانقة ومماسّة الأبدان ، ونحوها ، وذلك كلّه إذا كان على وجه الشّهوة ، وهذا بلا خلاف بين الفقهاء لما روي « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : نهى عن المكامعة وهي : المعانقة ، وعن المعاكمة وهي : التّقبيل » . أمّا إذا كان ذلك على غير الفم ، وعلى وجه البرّ والكرامة ، أو لأجل الشّفقة عند اللّقاء والوداع ، فلا بأس به كما يأتي .
د - تقبيل يد الظّالم :
8 - صرّح الفقهاء بعدم جواز تقبيل يد الظّالم ، وقالوا : إنّه معصية إلا أن يكون عند خوف ، قال صاحب الدّرّ : لا رخصة في تقبيل اليد لغير عالم وعادل ، ويكره ما يفعله الجهّال من تقبيل يد نفسه إذا لقي غيره ، وكذلك تقبيل يد صاحبه عند اللّقاء إذا لم يكن صاحبه عالما ولا عادلا ، ولا قصد تعظيم إسلامه ولا إكرامه .
هـ – تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء :
9 - تقبيل الأرض بين يدي العلماء والعظماء حرام ، والفاعل والرّاضي به آثمان ، لأنّه يشبه عبادة الوثن ، وهل يكفر ؟ إن على وجه العبادة والتّعظيم كفر ، وإن على وجه التّحيّة لا ، وصار آثما مرتكباً للكبيرة ، كما صرّح به صاحب الدّرّ .
و - التّقبيل في الاعتكاف والصّيام :
10 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز تقبيل أحد الزّوجين الآخر في حالة الاعتكاف إن كان بشهوة ، لقوله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ } ، كما اتّفقوا على كراهة التّقبيل في الصّيام لمن يخاف على نفسه المفسد من الإنزال والجماع ، بل صرّح المالكيّة بالحرمة في حالة خوف المفسد والعلم بعدم السّلامة .
وهل يبطل الاعتكاف بالتّقبيل ؟ فيه خلاف وتفصيل يأتي في بيان آثار التّقبيل .
ثالثاً : التّقبيل المباح :
أ - تقبيل المبرّة والإكرام ، وتقبيل المودّة والشّفقة :(176/1)
11 - يجوز تقبيل يد العالم الورع والسّلطان العادل ، وتقبيل يد الوالدين ، والأستاذ ، وكلّ من يستحقّ التّعظيم والإكرام ، كما يجوز تقبيل الرّأس والجبهة وبين العينين ، ولكن كلّ ذلك إذا كان على وجه المبرّة والإكرام ، أو الشّفقة عند اللّقاء والوداع ، وتديّناً واحتراماً مع أمن الشّهوة . وقد ثبت أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من الحبشة وقبّل بين عينيه » وروي « عن ابن عمر رضي الله عنه أنّه كان في سريّة من سرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر قصّة قال : فدنونا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبّلنا يده » . قال ابن بطّال : أنكر مالك تقبيل اليد وأنكر ما روي فيه .
قال الأبهريّ : وإنّما كرهه مالك إذا كان على وجه التّعظيم والتّكبّر .
وأمّا إذا كان على وجه القربة إلى اللّه لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإنّ ذلك جائز .
كذلك يجوز بل يسنّ تقبيل الولد للمودّة على الرّأس والجبهة والخدّ ، لحديث أبي هريرة قال : « قبّل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حسين بن عليّ ، فقال الأقرع بن حابس : إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا ، فقال : من لا يرحم لا يرحم » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « جاء أعرابيّ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أوأملك لك أن نزع اللّه من قلبك الرّحمة ؟ » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « ما رأيت أحداً أشبه سمتا وهديا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من فاطمة ابنته ، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها يقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت له فتقبّله وتجلسه في مجلسها » .
ب - تقبيل الميّت :
12 - يجوز لأهل الميّت وأقربائه وأصدقائه تقبيل وجهه ، لما روت عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ، وهو يبكي أو عيناه تذرفان » وروي كذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت : « أقبل أبو بكر فتيمّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مسجّى ببرد حبرة ، فكشف عنه وجهه ، ثمّ أكبّ عليه فقبّله ، ثمّ بكى ، فقال : بأبي أنت يا رسول اللّه لا يجمع اللّه عليك موتتين » .
ج - تقبيل المصحف :
13 - ذكر الحنفيّة : وهو المشهور عند الحنابلة - جواز تقبيل المصحف تكريماً له ، وهو المذهب عند الحنابلة ، وروي عن أحمد استحبابه ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه : كان يأخذ المصحف كلّ غداة ويقبّله ، ويقول : عهد ربّي ومنشور ربّي عزّ وجلّ ، وكان عثمان رضي الله عنه يقبّل المصحف ويمسحه على وجهه . وقال النّوويّ في التّبيان : روينا في مسند الدّارميّ بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة أنّ عكرمة بن أبي جهل كان يضع المصحف على وجهه ويقول : كتاب ربّي كتاب ربّي . ونقل صاحب الدّرّ عن القنية : وقيل : إنّ تقبيل المصحف بدعة ، وردّه بما تقدّم نقله عن عمر وعثمان .
وروي كذلك عن أحمد : التّوقّف في تقبيل المصحف ، وفي جعله على عينيه ، وإن كان فيه رفعه وإكرامه ، لأنّ ما طريقه التّقرّب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل لا يستحبّ فعله ، وإن كان فيه تعظيم إلا بتوقيف ، ولهذا قال عمر عن الحجر : « لولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك » . ولم نعثر في كتب المالكيّة على حكم لهذه المسألة .
د - تقبيل الخبز والطّعام :
14 - صرّح الشّافعيّة بجواز تقبيل الخبز ، وقالوا : إنّه بدعة مباحة أو حسنة ، لأنّه لا دليل على التّحريم ولا الكراهة ، لأنّ المكروه ما ورد عنه نهي ، أو كان فيه خلاف قويّ ، ولم يرد في ذلك نهي ، فإن قصد بذلك إكرامه لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن ، ودوسه مكروه كراهة شديدة ، بل مجرّد إلقائه في الأرض من غير دوس مكروه .
وقال صاحب الدّرّ من الحنفيّة مؤيّداً قول الشّافعيّة في جواز تقبيل الخبز : وقواعدنا لا تأباه.
أمّا الحنابلة فقالوا : لا يشرع تقبيل الخبز ولا الجمادات إلا ما استثناه الشّرع .
آثار التّقبيل :
أثر التّقبيل في الوضوء :
15 - صرّح الحنفيّة - وهو رواية عند الحنابلة - بعدم انتقاض الوضوء بمسّ الزّوجة ولا بتقبيلها ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثمّ صلّى ولم يتوضّأ » .
وقالوا : إنّ المراد باللّمس في الآية : { أوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ } الجماع كما فسّرها ابن عبّاس رضي الله عنه ، وقد تأكّد ذلك بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال الشّافعيّة - وهو رواية أخرى عند الحنابلة - إنّ اللّمس والتّقبيل ناقضان للوضوء مطلقاً لعموم قوله تعالى : { أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ } ، ولأنّه مظنّة الالتذاذ المثير للشّهوة ، ومثله في ذلك باقي صور التقاء البشرتين بين الرّجل والمرأة ، ولا فرق في ذلك بين اللامس والملموس ، وزاد الشّافعيّة : ولو كان الممسوس ميّتاً .
والمشهور من مذهب أحمد أنّه يجب الوضوء على من قبّل لشهوة ، ولا يجب على من قبّل لرحمة . ولا فرق عنده بين الأجنبيّة والمحرم والصّغيرة الّتي تشتهى - أي ذات سبع سنين فأكثر - والكبيرة ، لعموم النّصّ ، خلافاً للشّافعيّة حيث قالوا بعدم النّقض بلمس ذوات المحارم بنسب أو رضاع أو مصاهرة في الأظهر ، لأنّها ليست محلاً للشّهوة .
أمّا المالكيّة فقد فصّلوا في ذلك فقالوا : تقبيل فم من يلتذّ صاحبه به عادة ناقض لوضوئهما مطلقاً ، وإن لم يقصد اللّذّة أو لم يجدها ، وإن كان بكره أو استغفال ، لأنّ القبلة على الفم لا تنفكّ عن اللّذّة غالباً ، والنّادر لا حكم له .(176/2)
أمّا تقبيل سائر الأعضاء ، فإن قصد به لذّة أو وجدها بدون القصد ينقضه وإلا فلا .
وهذا كلّه إذا كانا بالغين وإلا انتقض وضوء البالغ منهما إذا كان تقبيله لمن يشتهى عادة . والمعتبر عادة النّاس لا عادة المقبّل والمقبّل ، قال الدّسوقيّ : فعلى هذا لو قبّل شيخ شيخة انتقض وضوء كلّ منهما ، لأنّ عادة المشايخ اللّذّة بالنّساء الكبار .
وإذا كان التّقبيل لوداع عند فراق أو لرحمة كتقبيل المريض للشّفقة فلا نقض .
أثر التّقبيل في الصّلاة :
16 - التّقبيل مبطل للصّلاة عند من يقول بنقض الوضوء به ، لأنّ الطّهارة شرط لصحّة الصّلاة عند عامّة الفقهاء ، فإذا انتقض الوضوء بطلت الصّلاة .
كذلك تفسد الصّلاة بالتّقبيل عند الحنفيّة الّذين ذهبوا إلى عدم نقض الوضوء به ، فإنّهم قالوا في التّقبيل بين الزّوجين : لو مسّها بشهوة أو قبّلها ولو بغير شهوة ، أو مصّ صبيّ ثديها وخرج اللّبن تفسد صلاتهما .
لكنّهم صرّحوا بأنّه لو قبّلته وهو في الصّلاة ولم يشتهها لا تفسد صلاته .
أثر التّقبيل على الصّيام :
17 - يكره للصّائم تقبيل الزّوجة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد من الإنزال والجماع ، لما روي أنّ عبد اللّه بن عمر قال : « كنّا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء شابّ فقال يا رسول اللّه - أقبّل وأنا صائم ؟ قال : لا . فجاء شيخ فقال : أقبّل وأنا صائم ؟ قال : نعم ، فنظر بعضنا إلى بعض ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض ؟ إنّ الشّيخ يملك نفسه » . ولأنّه إذا لم يأمن المفسد ربّما وقع في الجماع فيفسد صومه . وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ومحلّ الكراهة إذا كانت القبلة بقصد اللّذّة لا إن كان بدون قصدها ، كأن تكون بقصد وداع أو رحمة فلا كراهة .
وإذا أمن على نفسه وقوع مفسد فلا بأس بالتّقبيل عند جمهور الفقهاء ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبّل ويباشر وهو صائم » .
وقال المالكيّة : تكره القبلة بقصد اللّذّة للصّائم لو علمت السّلامة من خروج منيّ أو مذي ، وإن لم يعلم السّلامة حرمت . واتّفق الفقهاء على أنّ التّقبيل ولو كان بقصد اللّذّة لا يفطر الصّائم ما لم يسبّب الإنزال ، أمّا إذا قبّل وأنزل بطل صومه اتّفاقاً بين المذاهب .
وفي وجوب الكفّارة أو عدمه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( كفّارة ) .
أثر التّقبيل في الاعتكاف :
18 - ذهب جمهور الفقهاء : الحنفيّة والحنابلة ، وهو أظهر الأقوال عند الشّافعيّة ، إلى أنّه يبطل الاعتكاف بالتّقبيل واللّمس إذا أنزل ، لأنّه بالإنزال صار التّقبيل في معنى الجماع .
أمّا إذا لم ينزل فلا يبطل الاعتكاف بالتّقبيل عند الحنفيّة والحنابلة ، وفي الأظهر عند الشّافعيّة ، سواء أكان بشهوة أم بدونها ، كما لا يبطل به الصّوم ، لعدم معنى الجماع ، إلا أنّه حرام إن كان بشهوة ، لقوله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ } . وإن كان بغير شهوة كالتّقبيل على سبيل الشّفقة والاحترام فلا بأس به ، كغسل المرأة رأس زوجها المعتكف ، وترجيل شعره .
وقال المالكيّة - وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة : إذا قبّل وقصد اللّذّة أو لمس أو باشر بقصد اللّذّة أو وجدها بطل الاعتكاف ، أمّا لو قبّل صغيرة لا تشتهى أو قبّل زوجته لوداع أو لرحمة ولم يقصد اللّذّة ولا وجدها لم يبطل .
وهذا إذا كان التّقبيل على غير الفم . أمّا القبلة على الفم فتبطل الاعتكاف مطلقاً ، ولا تشترط فيها الشّهوة عند المالكيّة ، لأنّه يبطله من مقدّمات الوطء ما يبطل الوضوء . والقول الثّالث للشّافعيّة : إنّ التّقبيل لا يبطل الاعتكاف مطلقاً كالحجّ ، لكنّه حرام على كلّ قول .
أثر التّقبيل في الحجّ :
19 - يحرم على المحرم اللّمس والتّقبيل بشهوة ، ويجب على من فعل شيئاً من ذلك الدّم ، سواء أنزل أم لم ينزل ؟ ، لكنّه لا يفسد حجّه عند جمهور الفقهاء : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للمالكيّة حيث قالوا بفساد الحجّ إن أنزل ، وإلا فعليه بدنة .
أمّا القبلة بغير شهوة بأن كانت لوداع أو لرحمة أو بقصد تحيّة القادم من السّفر فلا تفسد الحجّ ، ولا فدية فيها بغير خلاف بين الفقهاء . وتفصيله في مصطلحي : ( إحرام وحجّ ) .
أثر التّقبيل في الرّجعة :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّ اللّمس والتّقبيل بغير شهوة وبغير نيّة الرّجعة لا يعتبر رجعة . واختلفوا فيما إذا كان التّقبيل بشهوة ، فقال الحنفيّة : تصحّ الرّجعة بالوطء ، واللّمس بشهوة ، والتّقبيل بشهوة على أيّ موضع كان فماً ، أو خدّاً أو ذقناً ، أو جبهة ، أو رأساً ، ولو قبّلها اختلاساً ، أو كان الزّوج نائماً ، أو مكرهاً ، أو مجنوناً ، أو معتوهاً ، إن صدّقها الزّوج . ولا فرق بين كون التّقبيل والمسّ والنّظر بشهوة منه أو منها بشرط أن يصدّقها ، أمّا إذا ادّعته وأنكره فلا تثبت الرّجعة .
واشترط المالكيّة في الرّجعة النّيّة ، فالتّقبيل للمرأة المطلّقة رجعيّا رجعة إذا قارنه نيّة الرّجعة ، ولا تصحّ الرّجعة بالفعل دون نيّة ، ولو بأقوى الأفعال كالوطء .
ولا تحصل الرّجعة عند الشّافعيّة - وهو ظاهر كلام الخرقيّ من الحنابلة - بالفعل كالوطء ومقدّماته من اللّمس والتّقبيل ، لأنّ ذلك حرم بالطّلاق ، ومقصود الرّجعة حلّه ، فلا تحصل إلا بالقول . وفي الرّواية الثّانية عند الحنابلة تحصل الرّجعة بالوطء ولو بغير نيّة .
أمّا لو قبّلها أو لمسها بشهوة فالمنصوص عن أحمد أنّه ليس برجعة ، ويعتبر رجعة في وجه عند بعض الحنابلة .
أثر التّقبيل في الظّهار :(176/3)
21 - الظّهار هو : أن يشبّه الزّوج زوجته بمحرّم عليه تأبيداً .
فإذا ظاهر الزّوج من زوجته ، كأن يقول أنت عليّ كظهر أمّي يحرم عليه وطؤها ودواعيه من القبلة واللّمس بشهوة قبل الكفّارة عند الحنفيّة والمالكيّة - وهي رواية عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ ذلك يدعو إلى الوطء ويفضي إليه ، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى منع التّماسّ قبل الكفّارة حيث قال : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَمَاسَّا } ، والتّماسّ شامل للوطء ودواعيه ، فيحرم عليه الكلّ بالنّصّ .
وروي عن محمّد من الحنفيّة جواز التّقبيل للشّفقة ، كأن قدم من سفر مثلاً .
والقول الثّاني للشّافعيّة - وهي الرّواية الثّانية عن أحمد ، أنّه لا بأس بالتّلذّذ بما دون الجماع من القبلة واللّمس والمباشرة فيما دون الفرج . ( ر : ظهار ) .
أثر التّقبيل في الإيلاء :
22 - الإيلاء : حلف الزّوج بالامتناع عن وطئه زوجته مدّة أربعة أشهر أو أكثر .
واتّفق الفقهاء على أنّ الحلف بالامتناع عن التّقبيل واللّمس والمباشرة فيما دون الفرج لا يعتبر إيلاء . واتّفقوا أيضاً على أنّ الفيء أي للرّجوع عن الإيلاء لا يكون إلا بالجماع في الفرج ، فلا ينحلّ الإيلاء بوطء في غير الفرج ، ولا بالتّقبيل أو اللّمس والمباشرة بشهوة ، لأنّ حقّها هو الجماع في القبل ، فلا يحصل الرّجوع بدونه ، ولأنّه هو المحلوف على تركه ، ولا يزول الضّرر إلا بالإتيان به . ( ر : إيلاء ) .
أثر التّقبيل في حرمة المصاهرة :
23 - التّقبيل إذا لم يكن بشهوة لا يؤثّر في حرمة المصاهرة ، فمن قبّل امرأة بغير شهوة فله أن يتزوّج ببنتها أو أمّها ، ويجوز لها الزّواج بأصوله أو فروعه ، وكذلك من قبّل أمّ امرأته بغير شهوة لا تحرم عليه امرأته . وهذا متّفق عليه ، إلا إذا كانت القبلة على الفم ، فخالف في ذلك الحنفيّة ، وألحق بعضهم الخدّ بالفم .
أمّا التّقبيل أو المسّ بشهوة فاختلفوا في انتشار الحرمة بهما ، فقال جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " المباشرة في غير الفرج والتّقبيل ولو بشهوة لا يحرّم على المقبّل أصول من يقبّلها ولا فروعها ، زوجة كانت أم أجنبيّة ، لعموم قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } . وصرّح الحنفيّة بأنّ التّقبيل واللّمس بشهوة يوجب حرمة المصاهرة ، فمن مسّ أو قبّل امرأة بشهوة لا تحلّ له أصولها ولا فروعها ، وحرمت عليها أصوله وفروعه . ومن قبّل أمّ امرأته بشهوة حرمت عليه امرأته .
24 - وإذا أقرّ بالتّقبيل وأنكر الشّهوة ، قيل : لا يصدّق ، لأنّه لا يكون إلا عن شهوة ، فلا يقبل إنكاره إلا أن يظهر خلافه . وقيل : يصدّق ، وقيل : بالتّفصيل بين كونه على الرّأس والجبهة والخدّ فيصدّق ، أو على الفم فلا ، وهذا هو الأرجح .
واستدلّ الحنفيّة على انتشار الحرمة بالمسّ والتّقبيل بشهوة بقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤكُمْ } قالوا : المراد من النّكاح الوطء ، والتّقبيل بشهوة داع إلى الوطء ، فيقام مقامه احتياطا للحرمة . وبما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نظر إلى فرج امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمّها وابنتها ، وحرمت على ابنه وأبيه » .
هذا ولا تنتشر الحرمة بالتّقبيل ولو بشهوة بين الإخوة والأخوات ، فلو قبّل أخت امرأته ولو بشهوة لا تحرم عليه امرأته اتّفاقاً . وتفصيله في مصطلح : ( نكاح ) .(176/4)
تقليد *
التّعريف :
1 - التّقليد لغة : مصدر قلّد ، أي جعل الشّيء في عنق غيره مع الإحاطة به .
وتقول : قلّدت الجارية : إذا جعلت في عنقها القلادة ، فتقلّدتها هي ، وقلّدت الرّجل السّيف فتقلّده : إذا جعل حمائله في عنقه . وأصل القلد ، كما في لسان العرب ، ليّ الشّيء على الشّيء ، نحو ليّ الحديدة الدّقيقة على مثلها ، ومنه : سوار مقلود .
وفي التّهذيب : تقليد البدنة أن يجعل في عنقها عروة مزادة ،أو حلق نعل ، فيعلم أنّها هدي. وقلّد فلاناً الأمر إيّاه . ومنه تقليد الولاة الأعمال .
ويستعمل التّقليد في العصور المتأخّرة بمعنى المحاكاة في الفعل ، وبمعنى التّزييف ، أي صناعة شيء طبقا للأصل المقلّد . وكلا المعنيين مأخوذ من التّقليد للمجتهدين ، لأنّ المقلّد يفعل مثل فعل المقلّد دون أن يدري وجهه . والأمر التّقليديّ ما يفعل اتّباعا لما كان قبل ، لا بناء على فكر الفاعل نفسه ، وخلافه الأمر المبتدع .
ويرد التّقليد في الاصطلاح الشّرعيّ بأربعة معان :
أوّلها : تقليد الوالي أو القاضي ونحوهما ، أي توليتهما العمل ، وينظر في مصطلح :
( تولية ) .
ثانيها : تقليد الهدي بجعل شيء في رقبته ليعلم أنّه هدي .
ثالثها : تقليد التّمائم ونحوها .
رابعها : التّقليد في الدّين وهو الأخذ فيه بقول الغير مع عدم معرفة دليله . أو هو العمل بقول الغير من غير حجّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإشعار :
2 - الإشعار حزّ سنام البدنة حتّى يسيل منها الدّم ليعلم أنّها هدي للكعبة فلا يتعرّض لها أحد .
أحكام التّقليد :
أوّلاً - تقليد الهدي :
3 - الهدي ما يهدى إلى الكعبة من بهيمة الأنعام في الحجّ ليذبح بمكّة تقرّباً إلى اللّه تعالى. وتقليد البهيمة أن يجعل في عنقها ما يدلّ على أنّها هديّة إلى البيت ، فيترك التّعرّض لها من كلّ أحد تعظيما للبيت وما أهدي إليه .
وأصل ذلك في القرآن العظيم ، قال اللّه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلا الهَديَ وَلا القَلائِدَ } قال القرطبيّ : فالشّعائر : جمع شعيرة وهي البدنة تهدى إلى البيت ، وإشعارها أن يحزّ سنامها ليسيل منها الدّم فيعلم أنّها هدي .
والقلائد قيل في تفسيرها : ما كان النّاس يتقلّدونه أمنة لهم . قال ابن عبّاس : ثمّ نسخ ذلك. وقيل المراد بالقلائد : ما يعلّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة على أنّه للّه تعالى ، من نعل أو غيره . وقال اللّه تعالى : { جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البيتَ الحَرَامَ قِيَامَاً لِلنَّاسِ وَالشَّهرَ الحَرَامَ وَالهَديَ وَالقَلائِدَ ذلكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَواتِ وما في الأرضِ وأنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ } أي جعل المذكورات صلاحا ومعاشا يأمن النّاس فيها وبها . وقال القرطبيّ : عظّم اللّه سبحانه في قلوبهم البيت الحرام ، وأوقع في نفوسهم هيبته ، وعظّم بينهم حرمته ، فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميّا بالكون فيه . وكذلك الأشهر الحرم . ثمّ قال : وشرع على ألسنة الرّسل الكرام الهدي والقلائد ، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما أو علّقوا عليه نعلا ، أو فعل الرّجل ذلك بنفسه من التّقليد ، لم يروّعه أحد حيث لقيه ، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه وظلمه ، حتّى جاء اللّه بالإسلام .
ويذكر من حكمة تقليد الهدي أيضاً أن يعلم المساكين بالهدي ، فيجتمعوا له ، وإذا عطبت الهديّة الّتي سيقت إلى البيت تنحر ، ثمّ « تلقى قلادتها في دمها » كما ورد في الحديث ، ليكون ذلك دالا على كونها هدياً يباح أكله لمن شاء .
حكم تقليد الهدي :
4 - تقليد الهدي كان متّبعاً في الجاهليّة . قال القرطبيّ : وهي سنّة إبراهيميّة بقيت في الجاهليّة وأقرّها الإسلام . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي لبّدت رأسي ، وقلّدت هديي ، فلا أحلّ حتّى أنحر » فتقليد الهدي سنّة في الجملة . وهذا متّفق عليه .
وقد قال الشّافعيّ : من ترك الإشعار والتّقليد فلا شيء عليه .
قال المالكيّة : والأولى تقديم التّقليد على الإشعار لأنّه السّنّة ، والحكمة فيه أنّه يفعل كذلك خوفاً من نفارها لو أشعرت أولاً .
وعند الشّافعيّة في ذلك وجهان ، ومنصوص الشّافعيّ في الأمّ تقديم الإشعار .
ما يقلّد من الهدي وما لا يقلّد :
5 - لا خلاف في أنّ من السّنّة تقليد الهدي إن كان من الإبل أو البقر .
أمّا الغنم فقد اختلف في تقليدها ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّها لا تقلّد ، وليس تقليدها سنّة ، قال الحنفيّة : لأنّه غير معتاد ، ولأنّه لا فائدة في تقليدها ، إذ فائدة التّقليد عدم ضياع الهدي ، والغنم لا تترك بل يكون معها صاحبها .
قال القرطبيّ وكأنّهم لم يبلغهم حديث عائشة رضي الله عنها في تقليد الغنم ، ونصّه ، قالت : « أهدى النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة إلى البيت غنماً فقلّدها » أو بلغهم ولكنّهم ردّوه لانفراد الأسود به عن عائشة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يسنّ تقليدها أيضا ، للحديث السّابق ، ولأنّها هدي فتقلّد ، كالإبل . وينصّ الحنفيّة على أنّه ليست كلّ أنواع الهدي تقلّد ، بل يقلّد هدي التّطوّع وهدي التّمتّع والقران ، لأنّه دم نسك ، وفي التّقليد إظهاره وتشهيره فيليق به .
ولم نجد هذا التّفصيل لغير الحنفيّة .
ولا يقلّد دم الجناية ، لأنّ سترها أليق ، ويلحق بها دم الإحصار ، لأنّها دم يجبر به النّقص .
ما يقلّد به ، وكيفيّة التّقليد :(177/1)
6 - يكون التّقليد بأن يجعل في أعناق الهدايا النّعال ، أو آذان القرب وعراها ، أو علاقة إداوة ، أو لحاء شجرة ، أو نحو ذلك . وفي حديث عائشة أنّها « كانت تفتل قلائد هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عهن » والعهن : الصّوف المصبوغ فقد روى أبو هريرة
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة ، قال : اركبها . قال : إنّها بدنة . قال : اركبها قال : فلقد رأيته يساير النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّعل في عنقها » . وفيه أنّه « قلّد بدنه بيده » وفي التّاج والإكليل من كتب المالكيّة يقلّد بما شاء . ومنع ابن القاسم تقليد الأوتار" أي للحديث الوارد في النّهي عنه ،ونصّه « قلّدوا الخيل ولا تقلّدوها الأوتار ». قال ابن عابدين : كيفيّة التّقليد أن يفتل خيطا من صوف أو شعر ويربط به نعلا أو عروة مزادة ، وهي السّفرة من جلد ، أو لحاء شجرة أي قشرها ، أو نحو ذلك ممّا يكون علامة على أنّه هدي .
وقال المالكيّة والشّافعيّة : يكون تقليدها وهي مستقبلة القبلة ، ويقلّد البدنة وهي باركة . وفي كتب الشّافعيّة : أنّه ينبغي إذا قلّد نعلين أن يكون لهما قيمة ليتصدّق بهما .
تقليد الهدي هل يكون به الإنسان محرماً ؟ :
7 - لا ينعقد الإحرام إلا بنيّة الدّخول في النّسك . ولا يشترط مع ذلك تلبية أو ذكر معيّن أو خصوصيّة من خصوصيّات الإحرام كتقليد الهدي . وهذا مذهب المالكيّة على المشهور عندهم والشّافعيّة والحنابلة . وينظر التّفصيل في مصطلح ( إحرام ) .
أمّا الحنفيّة فلا بدّ ليكون الرّجل محرما عندهم ، مع نيّة الدّخول في النّسك من ذكر أو خصوصيّة من خصوصيّات الإحرام .
والخصوصيّات منها : أن يشعر بدنه ، أو يقلّدها ، تطوّعاً ، أو نذراً ، أو جزاء صيد ، أو شيئا من الأشياء ، ويتوجّه معها يريد الحجّ أو العمرة . فمن فعل ذلك فقد أحرم ولو لم يكن منه تلبية . قالوا : لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « من قلّد بدنه فقد أحرم » .
ولأنّ سوق الهدي في معنى التّلبية في إظهار الإجابة ، لأنّه لا يفعله إلا مريد الحجّ أو العمرة ، وإظهار الإجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول ، فيصير به محرماً لاتّصال النّيّة بفعل هو من خصائص الإحرام .
ولو قلّد هدياً دون أن ينوي ، أو دون أن يسوقه متوجّها إلى البيت ، فلا يكون محرماً .
ولو قلّده وأرسل به ولم يسقه لم يصر محرماً ، لحديث عائشة أنّها قالت : « كنت أفتل القلائد لهدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيبعث به ثمّ يقيم فيناً حلالاً » ، قالوا : ثمّ إن توجّه بعد ذلك لم يصر محرما حتّى يلحق الهدي ، لأنّه عند التّوجّه إذا لم يكن بين يديه هدي يسوقه لم يوجد منه إلّا مجرّد النّيّة ، فلا يصير بها محرماً ، إلا هدي التّمتّع والقران فإنّه يكون محرما بتقليده وبالتّوجّه ولو قبل أن يدرك الهدي الّذي بعثه أمامه .
هذا ، وإن كان الهدي الّذي قلّده وساقه من الغنم ، فإنّه لا يصير بذلك محرما عند الحنفيّة ، لأنّ الغنم لا يسنّ تقليدها عندهم كما تقدّم .
تعيّن الهدي ولزومه بالتّقليد :
8 - ينصّ المالكيّة على أنّ الرّجل إذا قلّد الهدي بالنّيّة تعيّن عليه إهداؤه وليس له أن يترك ذلك . قال الدّردير : يجب إنفاذ ما قلّد معيبا لوجوبه بالتّقليد وإن لم يجزه . أي وإن لم يجزئه عن هدي واجب بتمتّع أو قران أو نذر غير أنّهم قالوا : إنّ ما قلّد من الهدي يباع في الدّيون السّابقة ما لم يذبح ، ولا يباع في الدّيون اللاحقة . قالوا : ولو وجد الهدي المسروق أو الضّالّ بعد نحر بدله نحر الموجود أيضا إن قلّد ، لتعيّنه بالتّقليد .
وإن وجد الضّالّ قبل نحر البدل نحرهما معا إن قلّدا لتعيّنهما بالتّقليد . وإن لم يكونا مقلّدين أو كان المقلّد أحدهما دون الآخر ، يتعيّن المقلّد . وجاز بيع الآخر والتّصرّف فيه .
وينصّ الحنابلة أيضا على أنّ التّقليد يجب به ذلك الهدي ، إذا نوى أنّه هدي ، ولو لم يقل بلسانه إنّه هدي ، فيتعيّن بذلك ويصير واجبا معيّنا يتعلّق الوجوب بعينه دون ذمّة صاحبه . وحكمه حينئذ أن يكون في يد صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محلّه ، فإن تلف أو سرق أو ضلّ بغير تفريط لم يلزمه شيء . أمّا الشّافعيّة فيصرّحون بأنّ تقليد الرّجل نعمه وإشعارها لا يكون به النّعم هديا ، ولو نواه ما لم ينطق بذلك ، على المذهب الصّحيح المشهور عندهم ، كما لو كتب الوقف على باب داره .
ثانياً : تقليد التّمائم وما يتعوّذ به :
9 - المراد بتقليد التّمائم والتّعويذات جعلها في عنق الصّبيّ أو الصّبيّة أو الدّابّة ونحوها . كانوا يعتقدون أنّها تجلب الخير أو تدفع الأذى والعين .
وينظر حكم ذلك في مصطلح : ( تعويذة ) .
23 - من أمكنه معرفة جهة القبلة برؤية أو نحوها دون حرج يلحقه حرم عليه الأخذ بالخبر عنها ، وحرم عليه الاجتهاد والتّقليد في ذلك .
وإلا يمكنه العلم أخذ بخبر ثقة يخبر عن علم ، فإن أمكنه ذلك حرم عليه الاجتهاد والتّقليد ، وإلا فعليه أن يجتهد في أدلّة القبلة ولا يقلّد ، ومن عجز عن الاجتهاد في الأدلّة يقلّد ثقة عارفا بأدلّة القبلة . فلو صلّى من غير تقليد معتبر وقد أمكنه أن يقلّد لزمته الإعادة ولو صادفت صلاته القبلة . أمّا ما صلّى بالاجتهاد أو التّقليد وصادف القبلة أو لم يتبيّن الحال فلا إعادة عليه . وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ( استقبال القبلة ) . وقريب من ذلك القول في التّقليد في مواقيت الصّلاة ( ر : أوقات الصّلاة ) .(177/2)
أمّا تقليد أهل الخبرة من المنجّمين والحاسبين إذا اجتهدوا في دخول شهر رمضان مثلاً بالنّظر في الحساب فالمشهور أنّه لا يجب الصّوم ولا الفطر بقولهم تقليدا لهم ولا يجوز . وقال الرّمليّ من الشّافعيّة : يجوز للمنجّم والحاسب أن يعملا بمعرفتهما بل يجب عليهما ذلك ، وليس لأحد تقليدهما . وقال في موضع آخر : إنّ لغيره العمل به .
ولكن عند المالكيّة يجوز التّقليد من الصّائم في الفجر والغروب ولو من قادر على الاجتهاد . وفرّقوا بينه وبين القبلة بكثرة الخطأ فيها . واللّه أعلم .(177/3)
تقلّد *
التّعريف :
1 - التّقلّد : جعل الإنسان القلادة في عنقه . وتقلّد الأمر : احتماله ، وكذلك تقلّد السّيف : إذا جعل حمائله في عنقه . قال الشّاعر : يا ليت زوجك قد غدا متقلّداً سيفاً ورمحاً أي : وحاملا رمحا . يعني أنّ التّقلّد في الأصل للسّيف لا للرّمح ، وإنّما عطف على مثال قولهم : علفتها تبنا وماء بارداً .
الحكم الإجماليّ :
2 - التّقلّد بمعنى وضع القلادة في العنق :
التّزيّن بالقلائد نوع من الزّينة المباحة ، وهي في الغالب المعتاد من زينة النّساء والصّغار . وتباح للنّساء القلائد كلّها ، سواء أكانت من موادّ معتادة ، أو موادّ ثمينة ، كاللّؤلؤ ، والياقوت ، والحجارة الكريمة ، والذّهب ، والفضّة ، وغير ذلك ، فكلّه مباح لهنّ ما لم يخرج إلى حدّ السّرف والخيلاء . ولا يجوز تقليد الصّغار إن كانوا ذكورا قلائد الذّهب أو الفضّة ، لما في الحديث : « الذّهب والحرير حلّ لإناث أمّتي وحرام على ذكورها » على أنّ في ذلك بعض الخلاف وينظر في مصطلح : ( ذهب ) .
وقد ورد في الحديث عن أسماء بنت يزيد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أيّما امرأة تقلّدت قلادة من ذهب قلّدت في عنقها مثله من النّار يوم القيامة » وفي حديث معاوية :
« نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن لبس الذّهب إلا مقطّعاً » لكن قال الخطّابيّ : ذلك في الزّمان الأوّل ثمّ نسخ ، أو الوعيد على الكثير منه الّذي لا تؤدّى زكاته .
تقلّد السّيف في الإحرام :
3 - إذا احتاج المحرم إلى تقلّد السّلاح في الإحرام فله ذلك ، وبهذا قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن المنذر ، ورويت كراهة ذلك عن الحسن البصريّ . واستدلّ للأوّلين « بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا صالح أهل مكّة صلح الحديبية ، كان في الصّلح ألا يدخل المسلمون مكّة إلا بجلبّان السّلاح » " القراب بما فيه " وهذا ظاهر في إباحته عند الحاجة ، لأنّهم كانوا لا يأمنون أهل مكّة أن ينقضوا العهد ويخفروا الذّمّة ، فاشترطوا حمل السّلاح في قرابه . فأمّا من غير خوف ، فقد قال الإمام أحمد : لا ، إلا من ضرورة .
وإنّما منع منه لأنّ ابن عمر قال : لا يحمل السّلاح في الحرم . أي لا من أجل الإحرام ، فيكره حمله للمحرم وغيره في حرم مكّة .
قال ابن قدامة : ولذلك لو حمل قربة في عنقه لا يحرم عليه ذلك ولا فدية فيه . وقد سئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في رقبته كهيئة القربة ، فقال : أرجو أن لا يكون به بأس .(178/1)
تقويم *
التّعريف :
1 - التّقويم : مصدر قوّم ، ومن معانيه التّقدير ، يقال قوّم المتاع إذا قدّره بنقد وجعل له قيمة . والتّقويم في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الأصل في التّقويم أنّه جائز ، وقد يكون واجباً ، كتقويم مال التّجارة لإخراج زكاته ، وكتقويم صيد البرّ إذا قتله المحرم .
تقويم عروض التّجارة :
3 - اتّفق الفقهاء على وجوب تقويم عروض التّجارة لإخراج زكاتها ، مع مراعاة توفّر شروطها من بلوغ النّصاب وحولان الحول .
واختلفوا فيما تقوّم به عروض التّجارة ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ تقويم مال التّجارة يكون بالأنفع للفقراء . بأن تقوّم عروض التّجارة بما يبلغ نصابا من ذهب أو فضّة . وسواء أقوّمت بنقد البلد الغالب - مع كونه الأولى عند الحنابلة لأنّه الأنفع للفقير - أم بغيره . وسواء أبلغت قيمة العروض بكلّ من الذّهب والفضّة نصابا ، أم بلغت نصاباً بأحدهما دون الآخر . فيلتزم في كلّ الحالات تقويم السّلعة بالأحظّ للفقراء .
وذهب المالكيّة إلى تقويم عروض التّجارة بالفضّة ، سواء ما يباع بالذّهب أو ما يباع غالباً بالفضّة ، فيقوّمهما بالفضّة . لأنّها قيم الاستهلاك ولأنّها الأصل في الزّكاة .
فإن كانت العروض تباع بهما ، واستويا بالنّسبة إلى الزّكاة ، يخيّر التّاجر بين تقويمهما بالذّهب أو بالفضّة . وعلى القول بأنّ الذّهب والفضّة أصلان ، فيعتبر الأفضل للمساكين ، لأنّ التّقويم لحقّهم . واشترط المالكيّة لتقويم عروض التّجارة أن ينضّ للتّاجر شيء ولو درهم . ولا يشترط أن ينضّ له نصاب . فإن لم ينضّ له شيء في سنته فلا تقويم ولا زكاة. وليس على التّاجر أن يقوّم عروض تجارته بالقيمة الّتي يجدها المضطرّ في بيع سلعه ، وإنّما يقوّم سلعته بالقيمة الّتي يجدها الإنسان إذا باع سلعته على غير الاضطرار الكثير . وعند الشّافعيّة يختلف تقويم مال التّجارة بحسب اختلاف أحوال رأس المال .
فلرأس المال خمسة أحوال :
الحال الأوّل : أن يكون نقدا نصابا . فيقوّم آخر الحول بما اشتراه به من ذهب أو فضّة ، ويزكّيه إذا بلغ نصابا عند حولان الحول ، وهذا هو المذهب المشهور .
وصورته : أن يشتري عرضا بمائتي درهم ، أو بعشرين دينارا ، فيقوّم آخر الحول به أي بالدّراهم أو بالدّنانير . فإن اشترى بالدّراهم وباع بالدّنانير ، وقصد التّجارة مستمرّ ، وتمّ الحول ، فلا زكاة إن لم تبلغ الدّنانير قيمة الدّراهم .
وهناك قول في المذهب أنّ التّقويم يكون أبدا بغالب نقد البلد .
الحالة الثّانية : أن يكون رأس المال نقدا دون النّصاب ، وفيه وجهان :
أصحّهما : أنّه يقوّم بذلك النّقد .
والثّاني : أنّه يقوّم بغالب نقد البلد .
ومحلّ الوجهين إن لم يملك ما يتمّ به النّصاب . فإن ملك قوّم به .
وصورته : أن يشتري بمائة درهم وهو يملك مائة أخرى ، فلا خلاف أنّ التّقويم بالدّراهم . لأنّه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول ، وابتدأ الحول من حين ملك الدّراهم .
الحال الثّالث : أن يملك بالنّقدين جميعاً . وهو على ثلاثة أضرب .
الأوّل : أن يكون كلّ واحد نصاباً فيقوّم بهما على نسبة التّقسيط يوم الملك .
وطريقة تقويم أحد النّقدين بالآخر .
وصورته : اشترى بمائتي درهم وعشرين دينارا فينظر إن كانت قيمة المائتين عشرين دينارا ، فنصف العرض مشترى بدراهم والآخر بدنانير .
الضّرب الثّاني : أن يكون كلّ واحد منهما دون النّصاب .
فعلى احتمالين : إمّا أن يجعل ما دون النّصاب كالعروض ، فيقوّم الجميع بنقد البلد .
أو أن يجعل كالنّصاب فيقوّم ما ملكه بالدّراهم بدراهم ، وما ملكه بالدّنانير بدنانير .
الضّرب الثّالث : أن يكون أحدهما نصابا والآخر دونه . فيقوّم ما ملكه بالنّقد الّذي هو نصاب بذلك النّقد من حين ملك ذلك النّقد .
وما ملكه بالنّقد الآخر على الوجهين المتقدّمين في الحال الثّاني .
الحال الرّابع : أن يكون رأس المال غير النّقد ، بأن يملك بعرض قنية ، أو ملك بخلع فيقوّم في آخر الحول بغالب نقد البلد من الدّراهم أو الدّنانير ، فإن بلغ به نصاباً زكّاه ، وإلا فلا ، وإن كان يبلغ بغيره نصاباً . فلو جرى في البلد نقدان متساويان ، فإن بلغ بأحدهما نصابا دون الآخر قوّم به . وإن بلغ بهما فعلى أوجه :
أصحّها : يتخيّر المالك فيقوّم بما شاء منهما .
والثّاني : يراعى الأحظّ للفقراء .
والثّالث : يتعيّن التّقويم بالدّراهم لأنّها أرفق .
والرّابع : يقوّم بالنّقد الغالب في أقرب البلاد إليه .
الحال الخامس : أن يملك بالنّقد وغيره . بأن اشترى بمائتي درهم وعرض قنية ، فما قابل الدّراهم يقوّم بها ، وما قابل العرض يقوّم بنقد البلد .
تقويم جزاء الصّيد :(179/1)
4 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى وجوب المثل من النّعم على من قتل صيد الحرم . فيجب عليه أن يذبح مثله من الإبل أو البقر أو الغنم إن كان الصّيد الّذي قتله ممّا له مثل منها . ودليلهم قوله تعالى : { فَجَزَاءٌ مثلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِه ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ولما ورد عن الصّحابة رضي الله عنهم - في تقويم صيد الحرم بما له مثل بما يماثله . ومحلّ تفصيل معرفة المثل في مصطلح ( صيد ، وحرم ، وإحرام ) . وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب المثل من النّعم ، بل يقوّم الصّيد بالمال . لأنّ المثل المطلق ، بمعنى المثل في الصّورة والمعنى ، وهو المشارك في النّوع غير مراد في الآية إجماعاً . فبقي المثل معنى فقط وهو القيمة . وسواء أوجب على قاتل الصّيد المثل من النّعم - على قول الجمهور - أم القيمة على قول الحنفيّة ، فيرجع لمعرفة المماثلة إلى تقويم عدلين من أهل المعرفة والخبرة ، ومن المستحبّ أن يكونا فقيهين .
وذهب المالكيّة - وهو وجه عند الشّافعيّة - إلى عدم جواز كون أحد المقوّمين هو القاتل . قياسا على عدم جواز كون المتلف للمال هو أحد المقوّمين في الضّمان .
وذهب الشّافعيّة - في الصّحيح عندهم - إلى جوازه ، وذلك لأنّه وجب عليه لحقّ اللّه تعالى ، فجاز أن يجعل من يجب عليه الحقّ أمينا فيه ، كربّ المال في الزّكاة . وهذا مقيّد بما إذا قتله خطأ أو مضطرّاً ، أمّا إذا قتله عدواناً فلا يجوز أن يكون أحد المقوّمين ، لأنّه يفسق بتعمّد القتل ، فلا يؤتمن في التّقويم . ويخيّر قاتل الصّيد بين ثلاثة أمور :
إمّا أن يهدي مثل ما قتله من النّعم لفقراء الحرم - إن كان الصّيد له مثل - أو أن يقوّمه بالمال ويقوّم المال طعاما ويتصدّق بالطّعام على الفقراء . وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ الصّيد يقوّم ابتداء بالطّعام ، ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاما أجزأ .
والأمر الثّالث : أن يصوم عن كلّ مدّ من الطّعام يوما ، ودليله ما تقدّم من قوله تعالى :
{ هَدْيَاً بَالِغَ الكَعْبَةِ أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيامَاً } .
ويقوّم الصّيد في اليوم وفي المكان الّذي أصيب فيه ، أو في أقرب المواضع منه .
وتمام ذلك في ( حجّ ، وإحرام ، وصيد ) .(179/2)
تكبير *
التّعريف :
1 - التّكبير في اللّغة : التّعظيم ، كما في قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي فعظّم ، وأن يقال : " اللّه أكبر " روي « أنّه لمّا نزل { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّه أكبر فكبّرت خديجة وفرحت وأيقنت أنّه الوحي » .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّسبيح والتّهليل والتّحميد :
2 - الصّلة بين التّكبير وهذه الألفاظ أنّها كلّها مدائح يمدح بها الإله ويعظّم .
فمن سبّح اللّه فقد عظّمه ونزّهه عمّا لا يليق به من صفات النّقص وسمات الحدوث ، فصار واصفاً له بالعظمة والقدم . وكذا إذا هلّل ، لأنّه إذا وصفه بالتّفرّد والألوهيّة فقد وصفه بالعظمة والقدم ، لاستحالة ثبوت الإلهيّة دونهما .
كما أنّ التّحميد يراد به كثرة الثّناء على اللّه تعالى ، لأنّه هو مستحقّ الحمد على الحقيقة .
أحكام التّكبير :
أوّلاً :
التّكبير في الصّلاة تكبيرة الإحرام :
3 - تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصّلاة .
وهي قول المصلّي لافتتاح الصّلاة ( اللّه أكبر ) أو كلّ ذكر يصير به شارعا في الصّلاة .
وتنظر أحكامها في مصطلح ( تكبيرة الإحرام ) .
أ - تكبيرات الانتقالات :
4- يرى جمهور الفقهاء أنّ تكبيرات الانتقالات سنّة .
قال ابن المنذر : بهذا قال أبو بكر الصّدّيق وعمر وجابر وقيس بن عبادة والشّعبيّ والأوزاعيّ وسعيد بن عبد العزيز وأبو حنيفة ومالك والشّافعيّ ، ونقله ابن بطّال أيضا عن عثمان وعليّ وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن الزّبير ومكحول والنّخعيّ وأبي ثور. ودليل الجمهور حديث المسيء صلاته ، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّمه صلاته ، فعلّمه واجباتها ، فذكر منها تكبيرة الإحرام ، ولم يذكر تكبيرات الانتقالات وهذا موضع البيان ووقته ولا يجوز التّأخير عنه .
أمّا الأحاديث الّتي تثبت التّكبير في كلّ خفض ورفع فمحمولة على الاستحباب ، منها ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصّلاة يكبّر حين يقوم ، ثمّ يكبّر حين يركع ، ثمّ يقول سمع اللّه لمن حمده حين يرفع صلبه من الرّكوع ، ثمّ يقول وهو قائم ربّنا لك الحمد ، ثمّ يكبّر حين يهوي ساجداً ، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه ، ثمّ يكبّر حين يسجد ، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه ، ثمّ يفعل ذلك في الصّلاة كلّها حتّى يقضيها ، ويكبّر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس » . والحديث فيه إثبات التّكبير في كلّ خفض ورفع إلا في رفعه من الرّكوع ، فإنّه يقول : سمع اللّه لمن حمده . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكبّر في كلّ خفض ورفع وقيام وقعود ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما » .
ويرى أحمد بن حنبل في المشهور عنه أنّ تكبير الخفض والرّفع واجب ، وهو قول إسحاق بن راهويه وداود ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به وأمره للوجوب ، وفعله . وقال : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » .
وقد روى أبو داود عن عليّ بن يحيى بن خلّاد عن عمّه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تتمّ صلاة لأحد من النّاس حتّى يتوضّأ - إلى قوله - ثمّ يكبّر ، ثمّ يركع حتّى تطمئنّ مفاصله ، ثمّ يقول سمع اللّه لمن حمده حتّى يستوي قائماً ، ثمّ يقول اللّه أكبر ، ثمّ يسجد حتّى يطمئنّ ساجدا ، ثمّ يقول : اللّه أكبر ويرفع رأسه حتّى يستوي قاعدا ، ثمّ يقول اللّه أكبر ثمّ يسجد حتّى تطمئنّ مفاصله ، ثمّ يرفع رأسه فيكبّر ، فإذا فعل ذلك فقد تمّت صلاته » . وهذا نصّ في وجوب التّكبير .
ولأنّ مواضع هذه الأذكار أركان الصّلاة فكان فيها ذكر واجب كالقيام .
وقال أبو عمر : قد قال قوم من أهل العلم إنّ التّكبير إنّما هو إيذان بحركات الإمام وشعار الصّلاة وليس بسنّة إلا في الجماعة . فأمّا من صلّى وحده فلا بأس أن يكبّر .
حكمة مشروعيّة تكبيرات الانتقالات :
5 - الحكمة في مشروعيّة التّكبير في الخفض والرّفع هي أنّ المكلّف أمر بالنّيّة أوّل الصّلاة مقرونة بالتّكبير ، وكان من حقّه أن يستصحب النّيّة إلى آخر الصّلاة ، فأمر أن يجدّد العهد في أثنائها بالتّكبير الّذي هو شعار النّيّة .
مدّ تكبيرات الانتقالات وحذفها :
6 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة على الجديد وهو الصّحيح - وهو ما يؤخذ من عبارات فقهاء الحنابلة - استحباب التّكبير في كلّ ركن عند الشّروع ، ومدّه إلى الرّكن المنتقل إليه حتّى لا يخلو جزء من صلاة المصلّي عن ذكر ، فيبدأ بالتّكبير حين يشرع في الانتقال إلى الرّكوع ، ويمدّه حتّى يصل حدّ الرّاكعين ، ثمّ يشرع في تسبيح الرّكوع ، ويبدأ بالتّكبير حين يشرع في الهويّ إلى السّجود ويمدّه حتّى يضع جبهته على الأرض ، ثمّ يشرع في تسبيح السّجود ، وهكذا يشرع في التّكبير للقيام من التّشهّد الأوّل حين يشرع في الانتقال ويمدّه حتّى ينتصب قائماً .
ويستثني المالكيّة من ذلك تكبير المصلّي في قيامه من اثنتين ، حيث يقولون إنّه لا يكبّر للقيام من الرّكعتين حتّى يستوي قائما لأنّه كمفتتح صلاة . وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز . وقال الشّافعيّة - على القديم المقابل للصّحيح - بحذف التّكبير وعدم مدّه .
وتنظر الأحكام المتعلّقة بترك تكبيرات الانتقالات في ( سجود السّهو ) .
ب - التّكبيرات الزّوائد في صلاة العيدين :(180/1)
7 - قال المالكيّة والحنابلة : إنّ صلاة العيدين فيها ستّ تكبيرات في الأولى وخمس في الثّانية . وروي ذلك عن فقهاء المدينة السّبعة وعمر بن عبد العزيز والزّهريّ والمزنيّ . واستدلّوا بما روي عن ابن عمر أنّه قال : شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبّر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة ، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة .
وبما روي عن عمرو بن عوف المزنيّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كبّر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثّانية خمسا قبل القراءة » .
ويبدو أنّهم يعدّون تكبيرة الإحرام في السّبع في الرّكعة الأولى ، كما يعدّون تكبيرة النّهوض زائدا على الخمس المرويّة في الرّكعة الثّانية بحجّة أنّ العمل بالمدينة كان على هذا .
ويرى الحنفيّة وأحمد في رواية أنّ صلاة العيدين فيها ستّ تكبيرات زوائد ثلاث في الأولى وثلاث في الثّانية . وبهذا قال ابن مسعود وأبو موسى الأشعريّ وحذيفة بن اليمان وعقبة بن عامر وابن الزّبير وأبو مسعود البدريّ والحسن البصريّ ومحمّد بن سيرين والثّوريّ وعلماء الكوفة وهو رواية عن ابن عبّاس .
فقد روى ابن أبي شيبة في مصنّفه عن مسروق قال : كان عبد اللّه بن مسعود يعلّمنا التّكبير في العيدين تسع تكبيرات ، خمس في الأولى وأربع في الآخرة ، ويوالي بين القراءتين ، في الأولى تكبيرة الافتتاح والتّكبيرات الزّوائد وتكبيرة الرّكوع ، والأربعة في الرّكعة الأخيرة ، التّكبيرات الثّلاث الزّوائد وتكبيرة الرّكوع .
وقال الشّافعيّة : إنّ التّكبيرات الزّوائد سبع في الأولى وخمس في الثّانية واحتجّوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكبّر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح » . وبما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يكبّر في الفطر في الأولى سبعا ، وفي الثّانية خمسا سوى تكبيرة الصّلاة » .
وقد ذكر العينيّ تسعة عشر قولا في عدد التّكبيرات الزّوائد ، وقال : الاختلاف محمول على أنّ كلّ ذلك فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الأحوال المختلفة ، لأنّ القياس لمّا لم يدلّ حمل على أنّ كلّ واحد من الصّحابة رضي الله عنهم روى قوله عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكلّ واحد من التّابعين روى قوله عن صحابيّ .
هذا وأمّا الأحكام المتعلّقة بمحلّ التّكبيرات الزّوائد والذّكر بينها ، ورفع اليدين فيها ، ونسيانها ، فتنظر في ( صلاة العيدين ) .
ج - التّكبير في أوّل خطبتي العيدين :
8 - يستحبّ أن يكبّر الإمام في أوّل الخطبة الأولى لصلاة أحد العيدين تسع تكبيرات ، وفي أوّل الثّانية سبعا ، وهذه التّكبيرات ليست من الخطبة ، وهذا عند جمهور الفقهاء .
وقال مالك : السّنّة أن يفتتح خطبته الأولى والثّانية بالتّكبير ، وليس في ذلك حدّ .
وللتّفصيل ( ر : خطبة ) .
د - التّكبير في صلاة الاستسقاء :
9 - ذهب جمهور القائلين بصلاة الاستسقاء ومنهم مالك والثّوريّ والأوزاعيّ وإسحاق وأحمد في المشهور عنه ، وأبو ثور وأبو يوسف ومحمّد وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة إلى أنّه يكبّر في صلاة الاستسقاء كسائر الصّلوات تكبيرة واحدة للافتتاح ، لما روي عن عبد اللّه بن زيد : « استسقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصلّى ركعتين وقلب رداءه » ، وروى أبو هريرة نحوه ولم يذكر التّكبير ، فتنصرف إلى الصّلاة المطلقة .
كما روى الطّبرانيّ بإسناده عن أنس بن مالك « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استسقى فخطب قبل الصّلاة ، واستقبل القبلة ، وحوّل رداءه ، ثمّ نزل فصلّى ركعتين لم يكبّر فيهما إلا تكبيرة » .
وقال الشّافعيّة والحنابلة في صفة صلاة الاستسقاء : إنّه يكبّر فيها كتكبير العيد ، سبعا في الأولى ، وخمسا في الثّانية ، وهو قول سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز ومكحول ومحمّد بن جرير الطّبريّ ، وحكي عن ابن عبّاس .
واستدلّوا بما روي أنّ مروان أرسل إلى ابن عبّاس يسأله عن سنّة الاستسقاء ، فقال :« سنّة الاستسقاء الصّلاة في العيدين ، إلا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قلب رداءه ، فجعل يمينه يساره ويساره يمينه ، وصلّى ركعتين ، كبّر في الأولى سبع تكبيرات ، وقرأ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } وقرأ في الثّانية { هلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيةِ } وكبّر خمس تكبيرات ». وتفصيل صفة صلاة الاستسقاء ينظر في استسقاء ( ف /16 ، ج /3 ، ص /312 ) .
هـ - تكبيرات الجنازة :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ تكبيرات الجنازة أركان لا تصحّ صلاة الجنازة إلا بها . أمّا عدد تكبيرات الجنازة ، فقد قال جماهير العلماء منهم أئمّة المذاهب الأربعة ومحمّد بن الحنفيّة وعطاء بن أبي رباح ومحمّد بن سيرين والنّخعيّ وسويد بن غفلة والثّوريّ : إنّ تكبيرات الجنازة أربع . فقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّ آخر صلاة صلّاها على النّجاشيّ كبّر أربعا وثبت عليها حتّى توفّي » .
وصحّ أنّ أبا بكر صلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكبّر أربعا ، وصلّى صهيب على عمر فكبّر أربعا وصلّى الحسن على عليّ فكبّر أربعا ، وصلّى عثمان على خبّاب فكبّر أربعاً . وذهب قوم منهم عبد الرّحمن بن أبي ليلى وعيسى مولى حذيفة وأصحاب معاذ بن جبل وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنّ التّكبير على الجنائز خمس . قال الحازميّ : وممّن رأى التّكبير على الجنائز خمسا ابن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان .
وقالت فرقة : يكبّر سبعاً ، روي ذلك عن زرّ بن حبيش .
وقال ابن عبّاس وأنس بن مالك وجابر بن زيد : يكبّر ثلاثاً .(180/2)
قال ابن قدامة : إنّ سنّة التّكبير على الجنازة أربع ، ولا تسنّ الزّيادة عليها ، ولا يجوز النّقص منها . وللتّفصيل في أحكام رفع اليدين في تكبيرات الجنازة ، ومتابعة الإمام ، وأحكام المسبوق بتكبير الصّلاة في الجنازة ينظر مصطلح ( صلاة الجنازة ) .
ثانياً
التّكبير خارج الصّلاة
التّكبير في الأذان :
11 - يرى جمهور الفقهاء أنّ التّكبير في أوّل الأذان أربع مرّات . وقال في شرح المشكاة: للاعتناء بشأن هذا المقام الأكبر ، كرّر الدّالّ عليه أربعاً ، إشعاراً بعظيم رفعته .
وذهب المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ التّكبير في أوّل الأذان مرّتان اعتباراً بكلمة الشّهادتين ، حيث يؤتى بها مرّتين ، ولأنّه عمل السّلف بالمدينة .
أمّا التّكبير في آخر الأذان فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه مرّتان فقط .
وللتّفصيل في ألفاظ الأذان . ر : مصطلح ( أذان ، ف /10 ج /2 ص /359 ، /360 ) .
التّكبير في الإقامة :
12 - التّكبير في بدء الإقامة مرّتان عند جمهور الفقهاء ، وأربع مرّات عند الحنفيّة .
أمّا التّكبير في آخر الإقامة فهو مرّتان بالاتّفاق .
وتنظر كيفيّة الإقامة في مصطلح : ( إقامة ف /7 ج /6 ص /7 ، / 6 ) .
رفع الصّوت بالتّكبير عقيب المكتوبة :
13 - يرى جمهور الفقهاء عدم استحباب رفع الصّوت بالتّكبير والذّكر بعد الفراغ من الصّلاة وقد حمل الشّافعيّ الأحاديث الّتي تفيد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالذّكر . ومنها حديث : " ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « كنت أعرف انقضاء صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتّكبير » حملها على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جهر ليعلم الصّحابة صفة الذّكر لا أنّه كان دائماً ، وقال الشّافعيّ : أختار للإمام والمأموم أن يذكرا اللّه بعد الفراغ من الصّلاة ويخفيان ذلك إلا أن يقصدا التّعليم فيعلّما ثمّ يسرّا .
وللتّفصيل في الأدعية والأذكار في غير الصّلاة والمفاضلة بين الجهر والإسرار بها
( ر : ذكر ، وإسرار ف /20 ، ج /4 ، ص /175 ) .
التّكبير في طريق مصلّى العيد :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّكبير جهراً في طريق المصلّى في عيد الأضحى ، أمّا التّكبير في عيد الفطر فيرى جمهور الفقهاء أنّه يكبّر فيه جهراً واحتجّوا بقوله تعالى :
{ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَدَاكُمْ } قال ابن عبّاس : هذا ورد في عيد الفطر بدليل عطفه على قوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ } والمراد بإكمال العدّة بإكمال صوم رمضان .
ولما روى نافع عن عبد اللّه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل بن عبّاس وعبد اللّه بن عبّاس وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن بن أمّ أيمن رافعا صوته بالتّهليل والتّكبير ، ويأخذ طريق الحدّادين حتّى يأتي المصلّى » . وذهب أبو حنيفة إلى عدم الجهر بالتّكبير في عيد الفطر لأنّ الأصل في الثّناء الإخفاء لقوله تعالى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعَاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَولِ } وقوله صلى الله عليه وسلم « خير الذّكر الخفيّ » .
ولأنّه أقرب من الأدب والخشوع ، وأبعد من الرّياء .
ولأنّ الشّرع ورد بالجهر بالتّكبير في عيد الأضحى لقوله تعالى { وَاذْكُرُوا اللَّهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَات } جاء في التّفسير : المراد به التّكبير في هذه الأيّام وليس كذلك يوم الفطر ، لأنّه لم يرد به الشّرع ، وليس في معناه أيضا ، لأنّ عيد الأضحى اختصّ بركن من أركان الحجّ ، والتّكبير شرع علما على وقت أفعال الحجّ ، وليس في شوّال ذلك .
وللتّفصيل في ابتداء التّكبير وانتهائه في العيدين وصفة التّكبير ( ر : صلاة العيدين وعيد ).
التّكبير في أيّام التّشريق :
15 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة التّكبير في أيّام التّشريق إلا أنّهم اختلفوا في حكمه : فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة هو مندوب .
وقال الحنفيّة بوجوبه ، وقد سمّاه الكرخيّ سنّة ثمّ فسّره بالواجب ، فقال : تكبير التّشريق سنّة ماضية ، نقلها أهل العلم ، وأجمعوا على العمل بها .
وقال الكاسانيّ : إطلاق اسم السّنّة على الواجب جائز .
هذا وللتّفصيل في صفة تكبير التّشريق وحكمه ، وفي وقته ، وفي محلّ أدائه ( ر : أيّام التّشريق ف /13 - ج /7 ، ص /325 ، ومصطلح : عيد ) .
التّكبير عند الحجر الأسود :
16 - يسنّ عند ابتداء كلّ طوفة من الطّواف بالكعبة استلام الحجر الأسود إن استطاع ، ويكبّر ويقول : باسم اللّه ، اللّه أكبر ، مع رفع يده اليمنى ، وإن لم يستطع استلامه يكبّر عند محاذاته ويهلّل ويشير إليه .
وروى البخاريّ عن ابن عبّاس قال : « طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير ، وكان كلّما أتى على الرّكن أشار إليه بشيء في يده وكبّر » . وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
التّكبير في السّعي بين الصّفا والمروة :
17 - من سنن السّعي بين الصّفا والمروة التّكبير ، ويندب - بعد أن يرقى على الصّفا والمروة ويرى الكعبة - أن يكبّر ويهلّل ثلاثا ، ثمّ يقول : اللّه أكبر على ما هدانا . .
وهذا بلا خلاف .
التّكبير أثناء الوقوف بعرفة :
18 - التّكبير أثناء الوقوف بعرفة مع رفع اليدين مبسوطتين سنّة عند الحنفيّة ، ومندوب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وكان ابن عمر يقول في عرفة : اللّه أكبر اللّه أكبر وللّه الحمد . اللّه أكبر اللّه أكبر وللّه الحمد ، اللّه أكبر اللّه أكبر وللّه الحمد .
التّكبير عند رمي الجمار :(180/3)
19 - اتّفق الفقهاء على أنّه من السّنّة أن يكبّر مع رمي كلّ حصاة بأن يقول : باسم اللّه واللّه أكبر . ويقطع التّلبية مع أوّل حصاة لما روى الفضل بن عبّاس « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة » .
التّكبير عند الذّبح والصّيد :
20 - يستحبّ أن يقول الشّخص عند الذّبح ، وعند إرسال الجارح ، ورمي السّهم للصّيد
" بسم اللّه واللّه أكبر " وهذا بلا خلاف . لحديث أنس الوارد في البخاريّ ومسلم ولفظه في البخاريّ أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّى وكبّر » وفي مسلم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : بسم اللّه واللّه أكبر » ولما روى عديّ بن حاتم قال : « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّيد فقال إذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه عليه ، فإن وجدته قد قتل فكل » وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين أملحين أقرنين وقال بسم اللّه واللّه أكبر » . وللتّفصيل ر : ( ذبح ، صيد ) .
التّكبير عند رؤية الهلال :
21 - يستحبّ لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال : اللّه أكبر الحمد للّه لا حول ولا قوّة إلا باللّه ، إنّي أسألك خير هذا الشّهر ، وأعوذ بك من شرّ القدر ، ومن سوء الحشر » .
وعن طلحة بن عبيد اللّه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : اللّهمّ أهلّه علينا باليمن والسّلامة والإسلام ، ربّي وربّك اللّه » .(180/4)
تكبيرة الإحرام *
التّعريف :
1 - تكبيرة الإحرام هي : قول المصلّي لافتتاح الصّلاة " اللّه أكبر " أو كلّ ذكر يصير به شارعا في الصّلاة . وسمّيت التّكبيرة الّتي يدخل بها الصّلاة تكبيرة الإحرام لأنّها تحرّم الأشياء المباحة الّتي تنافي الصّلاة ويسمّيها الحنفيّة في الغالب تكبيرة الافتتاح أو التّحريمة . والتّحريم جعل الشّيء محرّما والهاء لتحقيق الاسميّة .
والحكمة من افتتاح الصّلاة بالتّكبيرة هي تنبيه المصلّي على عظم مقام من قام لأداء عبادته من وصفه بأنواع الكمال وأنّ كلّ ما سواه حقير وأنّه جلّ عن أن يكون له شبيه من مخلوق فان ، فيخضع قلبه وتخشع جوارحه ويخلو قلبه من الأغيار فيمتلئ بالأنوار .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصّلاة لقوله تعالى :
{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } والمراد تكبيرة الإحرام لأنّ قوله تعالى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ، وكذا قوله :
{ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } وقوله : { فَاقْرَءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه } ، وقوله : { ارْكَعُوا ، وَاسْجُدُوا } أوامر ومقتضاها الافتراض ولم تفرض خارج الصّلاة فوجب أن يراد بها الافتراض الواقع في الصّلاة إعمالا للنّصوص في حقيقتها .
ولما روى عليّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : مفتاح الصّلاة الوضوء وتحريمها التّكبير وتحليلها التّسليم » وهو حديث حسن كما قال النّوويّ في الخلاصة . وذهب طائفة منهم سعيد بن المسيّب والحسن والحكم والزّهريّ والأوزاعيّ إلى أنّ تكبيرة الإحرام سنّة . كما روي عن مالك في المأموم ما يدلّ على أنّه سنّة ، ولم يختلف قوله في المنفرد والإمام أنّه واجب على كلّ واحد منهما .
3 - هذا وقد اختلف الفقهاء في كون تكبيرة الإحرام ركناً أو شرطاً .
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تكبيرة الإحرام جزء من الصّلاة وركن من أركانها لا تصحّ إلا بها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النّاس إنّما هو التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » فدلّ على أنّ التّكبير كالقراءة ، ولأنّه يشترط لها ما يشترط للصّلاة من استقبال القبلة والطّهارة وستر العورة وهي أمارة الرّكنيّة ، ولأنّه لا يجوز أداء صلاة بتحريمة صلاة أخرى ولولا أنّها من الأركان لجاز كسائر الشّروط .
ويرى الحنفيّة والشّافعيّة في وجه أنّها شرط خارج الصّلاة وليست من نفس الصّلاة . واستدلّوا بقوله تعالى : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } عطف الصّلاة على الذّكر ، والذّكر الّذي تعقبه الصّلاة بلا فصل ليس إلا التّحريمة فيقتضي هذا النّصّ أن يكون التّكبير خارج الصّلاة لأنّ مقتضى العطف المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه إذ الشّيء لا يعطف على نفسه . وقال عليه الصلاة والسلام « تحريمها التّكبير » فأضاف التّحريم إلى الصّلاة والمضاف غير المضاف إليه لأنّ الشّيء لا يضاف إلى نفسه ، ولأجل أنّ تكبيرة الإحرام شرط فهو لا يتكرّر كتكرار الأركان في كلّ صلاة كالرّكوع والسّجود فلو كان ركنا لتكرّر كما تكرّر الأركان .
كما علّلوا كون تكبيرة الإحرام شرطا بأنّ الرّكن هو الدّاخل في الماهيّة والمصلّي لا يدخل في الصّلاة إلا بفراغه من تكبيرة الإحرام . وللتّوسّع فيما يترتّب على الخلاف في كون تكبيرة الإحرام شرطا أو ركنا تنظر أبواب صفة الصّلاة من الكتب الفقهيّة .
شروط صحّة تكبيرة الإحرام :
مقارنتها للنّيّة :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أفضليّة مقارنة تكبيرة الإحرام للنّيّة .
وإنّما اختلفوا في جواز تقديم النّيّة على التّكبير .
فذهب الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة في أحد القولين إلى جواز تقديم النّيّة على التّكبير في الجملة وقالوا : لو نوى عند الوضوء إنّه يصلّي الظّهر مثلا ولم يشتغل بعد النّيّة بعمل يدلّ على الإعراض كأكل وشرب وكلام ونحوها ثمّ انتهى إلى محلّ الصّلاة ولم تحضره النّيّة جازت صلاته بالنّيّة السّابقة . ، لأنّ الصّلاة عبادة فجاء تقديم نيّتها عليها كالصّوم وتقديم النّيّة على الفعل لا يخرجه عن كونه منويّا .
وهذا ما يعبّر عنه الحنفيّة بالمقارنة الحكميّة . وقد ذكر هذا الفريق شروطا لجواز تقديم النّيّة على التّكبير تنظر في أبواب الصّلاة من كتب الفقه وفي مصطلح : ( نيّة ) .
ويرى الشّافعيّة والمالكيّة في القول الآخر وابن المنذر وجوب مقارنة النّيّة للتّكبير لقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَه الدِّينَ } فقوله : { مُخْلِصِينَ } حال لهم في وقت العبادة ، فإنّ الحال وصف هيئة الفاعل وقت الفعل ، والإخلاص هو النّيّة ، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » ولأنّ النّيّة شرط فلم يجز أن تخلو العبادة عنها كسائر الشّروط .
واختار النّوويّ في شرح المهذّب والوسيط تبعا لإمام الحرمين والغزاليّ الاكتفاء بالمقارنة العرفيّة عند العوّام بحيث يعدّ مستحضرا للصّلاة اقتداء بالأوّلين في تسامحهم بذلك .
أمّا إذا تأخّرت النّيّة عن تكبيرة الإحرام فلا تجزئ التّكبيرة وتكون الصّلاة باطلة ، لأنّ الصّلاة عبادة وهي لا تتجزّأ ولو جاز تأخير النّيّة لوقع البعض الّذي لا نيّة فيه غير عبادة وما فيه نيّة عبادة فيلزم التّجزّؤ . بهذا قال الحنفيّة والمالكيّة وللتّفصيل ( ر : نيّة ) .
الإتيان بتكبيرة الإحرام قائماً :(181/1)
5 - يجب أن يكبّر المصلّي قائماً فيما يفترض له القيام « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين وكانت به بواسير صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب » وزاد النّسائيّ « فإن لم تستطع فمستلقيا » .
ويتحقّق القيام بنصب الظّهر فلا يجزئ إيقاع تكبيرة الإحرام جالساً أو منحنياً والمراد بالقيام ما يعمّ الحكميّ ليشمل القعود في نحو الفرائض لعذر .
قال الطّحاويّ : ليس الشّرط عدم الانحناء أصلاً ، بل عدم الانحناء المتّصف بكونه أقرب إلى الرّكوع من القيام . وللفقهاء خلاف وتفصيل في انعقاد صلاة المسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً فحنى ظهره ثمّ كبّر : ( ينظر في مسبوق ) .
النّطق بتكبيرة الإحرام :
6 - يجب على المصلّي النّطق بتكبيرة الإحرام بحيث يسمع نفسه ، إلا أن يكون به عارض من طرش أو ما يمنعه السّماع فيأتي به بحيث لو كان سميعا أو لا عارض به لسمعه .
أمّا تكبير من كان بلسانه خبل أو خرس فينظر في مصطلح : ( خرس ) .
كون تكبيرة الإحرام بالعربيّة :
7 - لا تجوز تكبيرة الإحرام بغير العربيّة لمن يحسن العربيّة ، بهذا قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمّد .
وأمّا من لم يحسن العربيّة فيجوز له التّكبير بلغته في الجملة عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، لأنّ التّكبير ذكر للّه ، وذكر اللّه يحصل بكلّ لسان .
وقال المالكيّة والقاضي أبو يعلى بعدم إجزاء مرادف تكبيرة الإحرام بعربيّة ولا عجميّة فإن عجز عن النّطق بها سقطت ككلّ فرض .
وأجاز أبو حنيفة ترجمة تكبيرة الإحرام لمن يحسن العربيّة ولغيره ، وقال لو افتتح الصّلاة بالفارسيّة وهو يحسن العربيّة أجزأه . وفي شرح الطّحاويّ لو كبّر بالفارسيّة أو بأيّ لسان سواء كان يحسن العربيّة أو لا جاز باتّفاق الإمام وصاحبيه ، وهذا يعني رجوع الصّاحبين إلى قول الإمام في جواز التّكبير بالعجميّة .
وللتّفصيل ( ر : ترجمة ف /9 ، ج /11 ، ص /170 ) وأبواب الصّلاة من كتب الفقه .
الشّروط المتعلّقة بلفظ تكبيرة الإحرام :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في انعقاد الصّلاة بقول المصلّي " اللّه أكبر " ثمّ اختلفوا فيما عداه من ألفاظ التّعظيم هل يقوم مقامه ؟ فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الصّلاة لا تنعقد إلا بقول " اللّه أكبر " ولا يجزئ عندهم غير هذه الكلمة بشروطها الّتي ذكروها بالتّفصيل في كتبهم واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تحريمها التّكبير » .
وقال للمسيء صلاته : « إذا قمت إلى الصّلاة فكبّر » وفي حديث رفاعة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تتمّ صلاة لأحد من النّاس حتّى يتوضّأ فيضع الوضوء مواضعه ثمّ يقول : اللّه أكبر » « وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفتتح الصّلاة بقوله : اللّه أكبر » ولم ينقل عنه العدول عن ذلك حتّى فارق الدّنيا . وهذا يدلّ على أنّه لا يجوز العدول عنه . ويقول الشّافعيّة بمثل ما قال به المالكيّة والحنابلة من أنّه يتعيّن على القادر كلمة التّكبير ولا يجزئ ما قرب منها ، ك : الرّحمن أجلّ ، والرّبّ أعظم " إلا أنّهم يقولون على المشهور بأنّ الزّيادة الّتي لا تمنع اسم التّكبير : كاللّه الأكبر " لا تضرّ ، لأنّه لفظ يدلّ على التّكبير وعلى زيادة مبالغة في التّعظيم وهو الإشعار بالتّخصيص فصار كقوله اللّه أكبر من كلّ شيء . وكذا لا يضرّ عندهم ( اللّه أكبر وأجلّ ) وكذا كلّ صفة من صفاته تعالى إذا لم يطل بها الفصل كقوله : اللّه عزّ وجلّ أكبر ، لبقاء النّظم والمعنى ، بخلاف ما لو تخلّل غير صفاته تعالى أو طالت صفاته تعالى .
ويرى إبراهيم النّخعيّ وأبو حنيفة ومحمّد صحّة الشّروع في الصّلاة بكلّ ذكر هو ثناء خالص للّه تعالى يراد به تعظيمه لا غير مثل أن يقول : اللّه أكبر اللّه الأكبر ، اللّه الكبير ، اللّه أجلّ ، اللّه أعظم ، أو يقول : الحمد للّه أو سبحان اللّه ، أو لا إله إلا اللّه ، وكذلك كلّ اسم ذكر مع الصّفة نحو أن يقول : الرّحمن أعظم ، الرّحيم أجلّ ، سواء كان يحسن التّكبير أو لا يحسن . واحتجّوا بقوله تعالى : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } والمراد منه ذكر اسم الرّبّ لافتتاح الصّلاة لأنّه عقّب الصّلاة الذّكر بحرف يوجب التّعقيب بلا فصل ، والذّكر الّذي تتعقّبه الصّلاة بلا فصل هو تكبيرة الافتتاح ، فقد شرع الدّخول في الصّلاة بمطلق الذّكر فلا يجوز التّقييد باللّفظ المشتقّ من الكبرياء بأخبار الآحاد وبه تبيّن أنّ الحكم تعلّق بتلك الألفاظ من حيث هي مطلق الذّكر ، لا من حيث هي ذكر بلفظ خاصّ . ولأنّ التّكبير هو التّعظيم فكلّ لفظ دلّ على التّعظيم وجب أن يكون الشّروع به ، وفي سنن ابن أبي شيبة أنّ أبا العالية سئل بأيّ شيء كان الأنبياء يفتتحون الصّلاة ؟ قال بالتّوحيد والتّسبيح والتّهليل .
وقال أبو يوسف لا يصير شارعا إلا بألفاظ مشتقّة من التّكبير وهي ثلاثة : اللّه أكبر ، اللّه الأكبر ، اللّه الكبير ، إلا إذا كان لا يحسن التّكبير أو لا يعلم أنّ الشّروع بالتّكبير ، واحتجّ بقوله صلى الله عليه وسلم « وتحريمها التّكبير » والتّكبير حاصل بهذه الألفاظ الثّلاثة .
وممّا يتّصل بالشّروط المتعلّقة بلفظ التّكبير : أنّ الفقهاء اتّفقوا على وجوب تقديم لفظ الجلالة على ( أكبر ) في التّكبير ، فإن نكّسه لا يصحّ لأنّه لا يكون تكبيرا ، كما أنّه لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الاحتراز في التّكبير عن زيادة تغيّر المعنى .(181/2)
فمن قال : ( آللّه أكبر ) بمدّ همزة " اللّه " أو بهمزتين أو قال اللّه أكبار لم يصحّ تكبيره . ولم يختلفوا كذلك في أنّ زيادة المدّ على الألف الّتي بين اللّام والهاء من لفظ الجلالة لا تضرّ ، لأنّ زيادة المدّ إشباع لأنّ اللّام ممدودة فغايته أنّه زاد في مدّ اللّام ولم يأت بحرف زائد . وألحق الشّافعيّة بمبطلات التّكبير زيادة واو ساكنة أو متحرّكة بين كلمتي التّكبير .
ويقول المالكيّة : إنّ زيادة واو قبل همزة اللّه أكبر أو قلب الهمزة واوا لا يبطل به الإحرام ، إلا أنّهم يقولون ببطلان الإحرام بالجمع بين إشباع الهاء من ( اللّه ) وزيادة واو مع همزة " أكبر " . أمّا مجرّد إشباع الهاء من لفظ الجلالة وإن كان خطأ لغة إلّا أنّه لا تفسد به الصّلاة ، بهذا صرّح الحنفيّة ، كما أنّ فقهاء المذاهب الأخرى لم يعدّوه من مبطلات الإحرام .
أمّا تشديد الرّاء من ( أكبر ) فيبطل به الإحرام بالصّلاة عند المالكيّة وهو ما أفتى به ابن رزين من الشّافعيّة . وقال الرّمليّ وابن العماد وغيرهما : إنّه لا يضرّ لأنّ الرّاء حرف تكرير وزيادته لا تغيّر المعنى .
هذا ويرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ الوقفة الطّويلة بين ( اللّه ) ( وأكبر ) مبطلة للإحرام بالصّلاة ، أمّا الوقفة اليسيرة بينهما فلا يبطل بها الإحرام .
ويبقى التّنويه بأنّ الفقهاء ذكروا شروطا كثيرة لصحّة تكبيرة الإحرام .
وبتتبّع عبارات هؤلاء الفقهاء يتبيّن أنّ معظم الشّروط الّتي ذكروها هي نفسها شروط للصّلاة كدخول الوقت واعتقاد دخوله والطّهر من الحدث والخبث وستر العورة والاستقبال وتعيين الفرض في ابتداء الشّروع ونيّة اتّباع الإمام مع نيّة أصل الصّلاة للمقتدي .
ونظراً لأنّ هذه الشّروط تذكر بالتّفصيل في مصطلح ( صلاة ، ونيّة ، واقتداء ) فقد اكتفى هنا بذكر ما تقدّم من الشّروط ، فمن أراد التّوسّع فليراجع هذه المصطلحات وأبواب صفة الصّلاة من كتب الفقه .(181/3)
تكرار *
التّعريف :
1 - التّكرار : الإتيان بالشّيء مرّة بعد أخرى ، وهو اسم مصدر من التّكرير . مصدر كرّر ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " التّكرار " عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإعادة :
2 - من معاني الإعادة : فعل الشّيء مرّة بعد أخرى . ولتفصيل باقي معانيها يرجع إلى مصطلح " إعادة " . والفرق بين التّكرار ، وبين الإعادة - بهذا المعنى - : أنّ التّكرار يقع على إعادة الشّيء مرّة ومرّات ، والإعادة للمرّة الواحدة فكلّ إعادة تكرار ، وليس العكس . حكمه الإجماليّ ومواطنه :
3 - يختلف حكم التّكرار باختلاف مواطنه :
فقد يكون مباحاً ، كتكرار صلاة الاستسقاء في اليوم الثّاني والثّالث عند جمهور الفقهاء . وقال إسحاق : لا يخرج النّاس إلا مرّة واحدة . وهو وجه للشّافعيّة أيضاً .
وقد يكون مندوباً : كتكرار عرض اليمين على المدّعى عليه ثلاثا عند النّكول .
وقد يكون سنّة : كتكرار الغسل في الوضوء والغسل عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة . وأمّا عند المالكيّة فمستحبّ .
وكذلك تكرار مسح الرّأس عند الشّافعيّة . وهو رواية عن أحمد .
وأمّا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الصّحيح من المذهب فلا يسنّ . وروي ذلك عن ابن عمر وابنه سالم ، والنّخعيّ ، ومجاهد ، وطلحة بن مصرف ، والحكم ، وقال التّرمذيّ : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم .
وقد يكون واجباً : كتكرار سجدة التّلاوة بتكرير تلاوة سجدة واحدة في مجلس واحد عند الحنابلة ، وهو أصل المذهب عند المالكيّة ، فإنّهم يقولون بتكرير السّجدة إن كرّر موجبها في وقت واحد . لوجود المقتضي للسّجود إلا المعلّم والمتعلّم .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ من كرّر الآية الواحدة في المجلس الواحد ، أجزأته سجدة واحدة ، وفي الموضوع تفصيل - يرجع فيه إلى ( سجدة التّلاوة ) .
وقد يكون مكروها : كتكرار المسح على الخفّ عند الشّافعيّة ، أو غير جائز كتكراره عند الحنفيّة والمالكيّة . وعند الحنابلة لا يجب تكراره ، بل لا يسنّ .
وقد اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّكرار أو عدم وجوبه في مسائل ، واختلفوا في أخرى .
فمن المسائل المتّفق عليها :
4 - عدم جواز تكرار سجود السّهو ، وعدم تكرار الحجّ وجوباً ، لأنّ سببه البيت ، وأنّه لا يتعدّد ، فلا يتكرّر الوجوب . وعدم جواز تكرار الحدّ ، فإنّ من كرّر جرائم السّرقة ، أو الزّنى ، أو الشّرب ، أو القذف ، قبل إقامة الحدّ ، أقيم عليه حدّ واحد ، وحكي عن ابن القاسم أنّه يحدّ حدّا ثانياً .
ومن المسائل المختلف فيها :
5 - تكرار السّرقة بعد قطع يده ورجله ، ففيه خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح " سرقة " وإلى موطنه من كتب الفقه .
وتكرار صلاة الكسوف وقبول توبة من تكرّرت ردّته - والعياذ باللّه - ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلحي ( صلاة الكسوف ، وتوبة ) ومواطنها من كتب الفقه .
ومنها تكرير الإقرار في وجوب الحدّ : فذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنفيّة - ما عدا زفر - إلى أنّه لا يشترط تكرير الإقرار في وجوب الحدّ ، ويرى الحنابلة وزفر من الحنفيّة وابن شبرمة ، وابن أبي ليلى تكرير الاعتراف مرّتين ، وهو ما روي عن عليّ رضي الله عنه أيضا .
وفي تكرار الطّلاق لمدخول بها وغير مدخول بها ، وتكرار الطّلاق مع العطف وعدمه ، وتكرار يمين الإيلاء في مجلس واحد ، وتكرار الظّهار وأثره في تحريم الزّوجة ، وتعدّد الكفّارة ، خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( اتّحاد المجلس ) الموسوعة 2 /23 ، 24 ومواطنها من كتب الفقه ) . وأمّا مسألة اقتضاء الأمر الخالي عن القرائن - التّكرار أم لا ؟ فموطن تفصيلها الملحق الأصوليّ .(182/1)
تكفين *
التّعريف :
1 - التّكفين : مصدر كفّن ، ومثله الكفن ، ومعناهما في اللّغة : التّغطية والسّتر .
ومنه : سمّي كفن الميّت ، لأنّه يستره . ومنه : تكفين الميّت أي لفّه بالكفن .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ تكفين الميّت بما يستره فرض على الكفاية ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم ، وكفّنوا فيها موتاكم » .
ولما روى البخاريّ عن خبّاب رضي الله عنه قال : « هاجرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه اللّه ، فوقع أجرنا على اللّه ، فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئا ، منهم : مصعب بن عمير ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهديها قتل يوم أحد ، فلم نجد ما نكفّنه إلّا بردة ، إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه ، فأمرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نغطّي رأسه ، وأن نجعل على رجليه من الإذخر » .
صفة الكفن :
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الميّت يكفّن - بعد طهره - بشيء من جنس ما يجوز له لبسه في حال الحياة ، فيكفّن في الجائز من اللّباس .
ولا يجوز تكفين الرّجل بالحرير ، وأمّا المرأة فيجوز تكفينها فيه عند جمهور الفقهاء ، لأنّه يجوز لها لبسه في الحياة ، لكن مع الكراهة ، لأنّ فيه سرفاً ويشبه إضاعة المال ، بخلاف لبسها إيّاه في الحياة ، فإنّه مباح شرعاً .
وعند الحنابلة يحرم التّكفين فيه عند عدم الضّرورة ذكرا كان الميّت أو أنثى ، لأنّه إنّما أبيح الحرير للمرأة حال الحياة ، لأنّها محلّ زينة وقد زال بموتها .
ويستحبّ تحسين الكفن عند الحنفيّة والمالكيّة بأن يكفّن في ملبوس مثله في الجمع والأعياد ما لم يوص بأدنى منه ، فتتّبع وصيّته ، لما روى مسلم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه » .
وأمّا عند الحنابلة فيجب أن يكفّن الميّت في ملبوس مثله في الجمع والأعياد إذا لم يوص بدونه ، لأمر الشّارع بتحسينه .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعتبر في الأكفان المباحة حال الميّت ، فإن كان مكثرا فمن جياد الثّياب ، وإن كان متوسّطا فأوسطها ، وإن كان مقلاً فخشنها .
وتجزئ جميع أنواع القماش ، والخلق إذا غسل والجديد سواء لما روي عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنّه قال : اغسلوا ثوبيّ هذين وكفّنوني فيهما فإنّهما للمهل والصّديد. والأفضل أن يكون التّكفين بالثّياب البيض ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم وكفّنوا فيها موتاكم » .
ويشترط في الكفن ألا يصف البشرة ، لأنّ ما يصفها غير ساتر فوجوده كعدمه ، ويكره إذا كان يحكي هيئة البدن ، وإن لم يصف البشرة .
وتكره المغالاة في الكفن ، لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تغالوا في الكفن فإنّه يسلب سلباً سريعاً » . كما يكره التّكفين بمزعفر ، ومعصفر ، وشعر ، وصوف مع القدرة على غيره ، لأنّه خلاف فعل السّلف .
ويحرم التّكفين بالجلود لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنزع الجلود عن الشّهداء ، وأن يدفنوا في ثيابهم . ولا يكفّن الميّت في متنجّس نجاسة لا يعفى عنها وإن جاز له لبسه خارج الصّلاة مع وجود طاهر ، ولو كان الطّاهر حريراً .
أنواع الكفن : ذهب الحنفيّة إلى أنّ الكفن ثلاثة أنواع :
1 - كفن السّنّة .
2 - كفن الكفاية .
3 - كفن الضّرورة .
4 - أ - كفن السّنّة : هو أكمل الأكفان ، وهو للرّجل ثلاثة أثواب : إزار وقميص ولفافة ، والقميص من أصل العنق إلى القدمين بلا دخريص ولا أكمام . والإزار للميّت من أعلى الرّأس إلى القدم بخلاف إزار الحيّ واللّفافة كذلك . لحديث جابر بن سمرة ، فإنّه قال :
« كفّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب : قميص وإزار ولفافة » .
وللمرأة خمسة أثواب : قميص وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها ، لحديث أمّ ليلى بنت قانف الثّقفيّة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ناول اللّواتي غسّلن ابنته في كفنها ثوبا ثوبا حتّى ناولهنّ خمسة أثواب » ، ولأنّها تخرج فيها حالة الحياة ، فكذا بعد الممات . 5 - ب - كفن الكفاية : هو أدنى ما يلبس حال الحياة ، وهو ثوبان للرّجل في الأصحّ ، لقول أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه حين حضره الموت : كفّنوني في ثوبيّ هذين اللّذين كنت أصلّي فيهما ، واغسلوهما ، فإنّهما للمهل والتّراب .
ولأنّ أدنى ما يلبسه الرّجل في حالة الحياة ثوبان ، لأنّه يجوز له أن يخرج فيهما ، ويصلّي فيهما من غير كراهة ، فكذا يجوز أن يكفّن فيهما أيضاً .
ويكره أن يكفّن في ثوب واحد ، لأنّ في حالة الحياة تجوز صلاته في ثوب واحد مع الكراهة ، فكذا بعد الموت .
والمراهق كالرّجل يكفّن فيما يكفّن فيه الرّجل ، لأنّ المراهق في حال حياته يخرج فيما يخرج فيه البالغ عادة ، فكذا يكفّن فيه ، وإن كان صبيّا لم يراهق ، فإن كفّن في خرقتين إزار ورداء فحسن ، وإن كفّن في إزار واحد جاز ، لأنّه في حال حياته كان يجوز الاقتصار على ثوب واحد في حقّه فكذا بعد الموت .
وأمّا المرأة فأقلّ ما تكفّن فيه ثلاثة أثواب : إزار ورداء وخمار ، لأنّ معنى السّتر في حالة الحياة يحصل بثلاثة أثواب ، حتّى يجوز لها أن تصلّي فيها وتخرج ، فكذا بعد الموت . ويكره أن تكفّن المرأة في ثوبين .(183/1)
وأمّا الصّغيرة فلا بأس بأن تكفّن في ثوبين ، والمراهقة بمنزلة البالغة في الكفن ، والسّقط يلفّ في خرقة ، لأنّه ليس له حرمة كاملة ، ولأنّ الشّرع إنّما ورد بتكفين الميّت ، واسم الميّت لا ينطلق عليه ، كما لا ينطلق على بعض الميّت .
6 - ج - الكفن الضّروريّ للرّجل والمرأة : هو مقدار ما يوجد حال الضّرورة أو العجز بأن كان لا يوجد غيره ، وأقلّه ما يعمّ البدن ، للحديث السّابق في تكفين مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وكذا روي « أنّ حمزة رضي الله عنه لمّا استشهد كفّن في ثوب واحد لم يوجد له غيره » فدلّ على الجواز عند الضّرورة .
7 - وأقلّ الكفن عند المالكيّة ثوب واحد ، وأكثره سبعة .
ويستحبّ الوتر في الكفن ، والأفضل أن يكفّن الرّجل بخمسة أثواب ، وهي : القميص والعمامة والإزار ولفافتان ، ويكره أن يزاد للرّجل عليها . والأفضل أن تكفّن المرأة في سبعة أثواب . درع وخمار وإزار وأربع لفائف ، وندب خمار يلفّ على رأس المرأة ووجهها بدل العمامة للرّجل ، وندب عذبة قدر ذراع تجعل على وجه الرّجل .
8 - وقال الشّافعيّة : أقلّ الكفن ثوب واحد وهو ما يستر العورة .
وفي قدر الثّوب الواجب وجهان : أحدهما : ما يستر العورة ، وهي ما بين السّرّة والرّكبة في الرّجل ، وما عدا الوجه والكفّين في المرأة .
والثّاني : ما يستر جميع بدنه إلا رأس المحرم ووجه المحرمة .
والمستحبّ أن يكفّن الرّجل في ثلاثة أثواب : إزار ولفافتين بيض ، ليس فيها قميص ولا عمامة ، لما روت عائشة رضي الله عنها ، قالت : « كفّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحوليّة ليس فيها قميص ولا عمامة » .
والبالغ والصّبيّ في ذلك سواء ، وإن كفّن في خمسة أثواب لم يكره ، لأنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يكفّن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة ، ولأنّ أكمل ثياب الحيّ خمسة ، ويكره الزّيادة على ذلك ، لأنّه سرف .
وأمّا المرأة فإنّها تكفّن عند الشّافعيّة في خمسة أثواب : إزار ودرع " قميص " وخمار ولفافتين ، لأنّه عليه الصلاة والسلام كفّن فيها ابنته أمّ كلثوم .
لما روت أمّ عطيّة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ناولها إزاراً ودرعاً وخماراً وثوبين » ، ويكره مجاوزة الخمسة في الرّجل والمرأة ، والخنثى كالمرأة .
9 - وقال الحنابلة : الكفن الواجب ثوب يستر جميع بدن الميّت رجلا كان أو امرأة ، والأفضل أن يكفّن الرّجل في ثلاث لفائف ، وتكره الزّيادة على ثلاثة أثواب في الكفن لما فيه من إضاعة المال ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه .
ويجوز التّكفين في ثوبين « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المحرم الّذي وقصته دابّته : اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبين » ، وكان سويد بن غفلة يقول : يكفّن في ثوبين . وقال أحمد : يكفّن الصّبيّ في خرقة ( أي ثوب واحد ) وإن كفّن في ثلاثة فلا بأس .
تعميم الميّت :
10 - الأفضل عند الشّافعيّة والحنابلة أن يكفّن الرّجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره ، فإن كان في الكفن عمامة لم يكره ، لكنّه خلاف الأولى .
وعند المالكيّة الأفضل أن يكفّن الرّجل بخمسة أثواب وهي : قميص وعمامة وإزار ولفافتان. وأمّا عند الحنفيّة فتكره العمامة في الأصحّ ، لأنّها لم تكن في كفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّها لو وجدت العمامة لصار الكفن شفعاً ، والسّنّة أن يكون وتراً ، واستحسنها المتأخّرون من الحنفيّة ، لما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يعمّم الميّت من أهله ويجعل العذبة على وجهه .
على من يجب الكفن :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ كفن الميّت في ماله إن كان له مال ويكفّن من جميع ماله إلا حقّاً تعلّق بعين كالرّهن ، ويقدّم على الوصيّة والميراث ، لأنّ هذا من أصول حوائج الميّت فصار كنفقته في حال حياته وهي مقدّمة على سائر الواجبات .
وإن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته - وإذا تعدّد من وجبت النّفقة عليه فيكون كفنه عليهم ، على ما يعرف في باب النّفقات - كما تلزم كسوته في حال حياته .
وإن لم يكن له مال ولا من ينفق عليه فكفنه في بيت المال ، كنفقته في حال حياته لأنّه أعدّ لحوائج المسلمين .
وإن لم يكن في بيت المال فعلى المسلمين تكفينه ، فإن عجزوا سألوا النّاس ، وإن لم يوجد ذلك غسّل وجعل عليه الإذخر - أو نحوه من النّبات - ودفن ويصلّى على قبره .
وعلى الزّوج تكفين زوجته عند الحنفيّة على قول مفتى به ، والمالكيّة في قول ، والشّافعيّة في الأصحّ ، لأنّ نفقة الزّوجة واجبة على زوجها في حال حياتها ، فكذلك التّكفين وعلّلوا ذلك بأنّ التّفريق في هذا بين الموت والحياة غير معقول .
وأمّا عند المالكيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة ، فلا يلزم الزّوج كفن امرأته ولا مؤنة تجهيزها ، لأنّ النّفقة والكسوة وجبا في حالة الزّواج وقد انقطع بالموت فأشبهت الأجنبيّة . ولا يجب على المرأة كفن زوجها بالإجماع ، كما لا يجب عليها كسوته في حال الحياة .
كيفيّة تكفين الرّجل :(183/2)
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الأكفان تجمّر أي تطيّب أوّلا وتراً قبل التّكفين بها ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا أجْمرْتُم الميّت فأجمروا وتراً » ولأنّ الثّوب الجديد أو الغسيل ممّا يطيّب ويجمّر في حالة الحياة ، فكذا بعد الممات ، ثمّ المستحبّ أن تؤخذ أحسن اللّفائف وأوسعها فتبسط أوّلا ليكون الظّاهر للنّاس حسنها ، فإنّ هذا عادة الحيّ يجعل الظّاهر أفخر ثيابه . ويجعل عليها حنوط ، ثمّ تبسط الثّانية الّتي تليها في الحسن والسّعة عليها ، ويجعل فوقها حنوط وكافور ثمّ تبسط فوقهما الثّالثة ويجعل فوقها حنوط وكافور ، ولا يجعل على وجه العليا ولا على النّعش شيء من الحنوط ، لأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال :" لا تجعلوا على أكفاني حنوطا " ، ثمّ يحمل الميّت مستورا بثوب ويترك على الكفن مستلقيا على ظهره بعد ما يجفّف ، ويؤخذ قطن فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ويشدّ عليه كما يشدّ التّبّان .
ويستحبّ أن يؤخذ القطن ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى جراح نافذة إن وجدت عليه ليخفى ما يظهر من رائحته ، ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السّجود ، كما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال :" تتبع مساجده بالطّيب " ولأنّ هذه المواضع شرّفت بالسّجود فخصّت بالطّيب .
ويستحبّ أن يحنّط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحيّ إذا تطيّب ، ثمّ يلفّ الكفن عليه بأن يثنى من الثّوب الّذي يلي الميّت طرفه الّذي يلي شقّه الأيسر على شقّه الأيمن ، والّذي يلي الأيمن على الأيسر ، كما يفعل الحيّ بالقباء ، ثمّ يلفّ الثّاني والثّالث كذلك ، وإذا لفّ الكفن عليه جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة ، وردّ على وجهه وصدره إلى حيث بلغ ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والسّاقين ، ثمّ تشدّ الأكفان عليه بشداد خيفة انتشارها عند الحمل ، فإذا وضع في القبر حلّ الشّداد ، هذا عند الشّافعيّة والحنابلة .
أمّا عند الحنفيّة فكذلك إلّا أنّه يلبس القميص أوّلا إن كان له قميص ثمّ يعطف الإزار عليه بمثل ما سبق ثمّ تعطف اللّفافة وهي الرّداء كذلك .
أمّا عند المالكيّة فيكون الإزار من فوق السّرّة إلى نصف السّاق تحت القميص واللّفائف فوق ذلك على ما تقدّم ويزاد عليها الحفاظ وهي خرقة تشدّ على قطن بين فخذيه خيفة ما يخرج من المخرجين ، واللّثام وهو خرقة توضع على قطن يجعل على فمه وأنفه خيفة ما يخرج منهما .
كيفيّة تكفين المرأة :
12 م - وأمّا تكفين المرأة فقال الحنفيّة : تبسط لها اللّفافة والإزار على ما تقدّم في الرّجل ، ثمّ توضع على الإزار وتلبس الدّرع ، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدّرع ، ويسدل شعرها ما بين ثدييها من الجانبين جميعا تحت الخمار ، ولا يسدل شعرها خلف ظهرها ، ثمّ يجعل الخمار فوق ذلك ، ثمّ يعطف الإزار واللّفافة كما قالوا في الرّجل : ثمّ الخرقة فوق ذلك تربط فوق الأكفان فوق الثّديين والبطن .
وذهب المالكيّة إلى أنّها تلبس الإزار من تحت إبطيها إلى كعبيها ، ثمّ تلبس القميص ، ثمّ تخمّر بخمار يخمّر به رأسها ورقبتها ، ثمّ تلفّ بأربع لفائف ، ويزاد عليها الحفاظ واللّثام . وعند الشّافعيّة على المفتى به تؤزّر بإزار ، ثمّ تلبس الدّرع ، ثمّ تخمّر بخمار ، ثمّ تدرّج في ثوبين ، قال الشّافعيّ رحمه الله : ويشدّ على صدرها ثوب ليضمّ ثيابها فلا تنتشر .
وأمّا عند الحنابلة ، فتشدّ الخرقة على فخذيها أوّلا ، ثمّ تؤزّر بالمئزر ، ثمّ تلبس القميص ، ثمّ تخمّر بالمقنعة ثمّ تلفّ بلفافتين على الأصحّ .
كيفيّة تكفين المحرم والمحرمة :
13 - قال الشّافعيّة والحنابلة : إذا مات المحرم والمحرمة حرم تطييبهما وأخذ شيء من شعرهما أو ظفرهما ، وحرم ستر رأس الرّجل وإلباسه مخيطا . وحرم ستر وجه المحرمة لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الّذي وقصته ناقته فمات : اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه اللّذين مات فيهما ، ولا تمسّوه بطيب ، ولا تخمّروا رأسه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » .
وعند الحنفيّة والمالكيّة يكفّن المحرم والمحرمة ، كما يكفّن غير المحرم أي يغطّى رأسه ووجهه ويطيّب ، لما روي عن عطاء عن ابن عبّاس « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في المحرم يموت : خمّروهم ولا تشبّهوهم باليهود » . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال في المحرم : إذا مات انقطع إحرامه ،
ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية ، أو علم ينتفع به » . والإحرام ليس من هذه الثّلاثة .
تكفين الشّهيد :(183/3)
14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ شهيد المعركة - الّذي قتله المشركون ، أو وجد بالمعركة جريحا ، أو قتله المسلمون ظلماً ولم يجب فيه مال - يكفّن في ثيابه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « زمّلوهم بدمائهم » وقد روي في ثيابهم ، وعن عمّار وزيد بن صوحان أنّهما قالا : لا تنزعوا عنّي ثوبا . . الحديث ، غير أنّه ينزع عنه الجلود والسّلاح والفرو والحشو والخفّ والمنطقة والقلنسوة ". لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال :" تنزع عنه العمامة والخفّان والقلنسوة ، ولما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم » ولأنّ هذه الأشياء الّتي أمر بنزعها ليست من جنس الكفن ، ولأنّ المراد من قوله صلى الله عليه وسلم « زمّلوهم بثيابهم » الثّياب الّتي يكفّن بها وتلبس للسّتر ، ولأنّ الدّفن بالسّلاح وما ذكر معه كان من عادة أهل الجاهليّة ، فإنّهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التّشبّه بهم .
ويجوز أن يزاد في أكفانهم أو ينقص على أن لا يخرج عن كفن السّنّة ، لما روي عن خبّاب أنّ « حمزة رضي الله عنه لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتّى مدّت على رأسه وجعل على قدميه الإذخر » .
وذاك زيادة ، ولأنّ الزّيادة على ما عليه حتّى يبلغ عدد السّنّة من باب الكمال وأمّا النّقصان فهو من باب دفع الضّرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثّياب ما يضرّ بالورثة تركه عليه .
وعند المالكيّة . أنّ شهيد المعركة يدفن بثيابه الّتي مات فيها وجوبا إن كانت مباحة وإلا فلا يدفن بها ، ويشترط أن تستره كلّه فتمنع الزّيادة عليها ، فإن لم تستره زيد عليها ما يستره ، فإن وجد عريانا ستر جميع جسده .
قال ابن رشد : من عرّاه العدوّ فلا رخصة في ترك تكفينه بل ذلك لازم . وأمّا الزّيادة على ثيابه إذا كان فيها ما يجزيه فلا بأس بها ، وليس لوليّه نزع ثيابه وتكفينه بغيرها .
ويندب دفنه بخفّ وقلنسوة ومنطقة - ما يحتزم به في وسطه - إن قلّ ثمنها وخاتم قلّ ثمنه ، ولا يدفن الشّهيد بآلة حرب قتل وهي معه كدرع وسلاح .
وقال الحنابلة : إنّ شهيد المعركة يجب دفنه في ثيابه الّتي قتل فيها ولو كانت حريراً على ظاهر المذهب . وينزع السّلاح والجلود والفرو والخفّ لحديث ابن عبّاس رضي الله عنه السّابق ، ولا يزاد في ثياب الشّهيد ولا ينقص منها ، ولو لم يحصل المسنون بها لنقصها أو زيادتها . وذكر القاضي في تخريجه أنّه لا بأس بهما ، وجاء في المبدع : فإن سلب ما على الشّهيد من الثّياب ، كفّن بغيرها وجوبا كغيره .
وقال الشّافعيّة : يكفّن شهيد المعركة ندبا في ثيابه لخبر أبي داود بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه قال : « رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو قال : ونحن مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم » والمراد ثيابه الّتي مات فيها واعتاد لبسها غالبا ، وإن لم تكن ملطّخة بالدّم ، ويفهم من عبارتهم أنّه لا يجب تكفينه في ثيابه الّتي كانت عليه وقت استشهاده بل هو أمر مندوب إليه فيجوز أن يكفّن كسائر الموتى ، فإن لم يكن ما عليه سابغا أي ساترا لجميع بدنه تمّم وجوباً ، لأنّه حقّ للميّت ، ويندب نزع آلة الحرب عنه كدرع وخفّ ، وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالبا كجلد وفرو وجبّة محشوّة .
وأمّا شهداء غير المعركة كالغريق والحريق والمبطون والغريب فيكفّن كسائر الموتى وذلك باتّفاق جميع الفقهاء .
إعداد الكفن مقدّماً :
15 - في البخاريّ : عن ابن أبي حازم عن سهل رضي الله عنه : « أنّ امرأة جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها . . . فحسّنها فلان فقال : أكسنيها ما أحسنها . قال القوم : ما أحسنت ، لبسها النّبيّ صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ، ثمّ سألته ، وعلمت أنّه لا يردّ ، قال : إنّي واللّه ما سألته لألبسها ، إنّما سألته لتكون كفني ، قال سهل : فكانت كفنه » .
وهذا الحديث دليل على الجواز ، لعدم إنكار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لذلك .
وفي حاشية ابن عابدين . وينبغي أن لا يكره تهيئة الكفن لأنّ الحاجة إليه متحقّقة غالباً .
وقال الشّافعيّة : لا يندب أن يعدّ لنفسه كفناً لئلا يحاسب على اتّخاذه إلا أن يكون من جهة حلّ أو أثر من ذي صلاح فحسن إعداده ، لكن لا يجب تكفينه فيه كما اقتضاه كلام القاضي أبي الطّيّب وغيره ، بل للوارث إبداله . ولهذا لو نزعت الثّياب الملطّخة بالدّم عن الشّهيد وكفّن في غيرها جاز مع أنّ فيها أثر العبادة الشّاهدة له بالشّهادة ، فهذا أولى .
إعادة تكفين الميّت :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو كفّن الميّت فسرق الكفن قبل الدّفن أو بعده كفّن كفنا ثانيا من ماله أو من مال من عليه نفقته أو من بيت المال ، لأنّ العلّة في المرّة الأولى الحاجة وهي موجودة في الحالة الثّانية .
القطع بسرقة الكفن :
17 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى قطع النّبّاش إذا تحقّقت شروط القطع في السّرقة ، لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من حرّق حرّقناه ، ومن غرّق غرّقناه ، ومن نبش قطعناه » .
ولما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سارق أمواتنا كسارق أحيائنا لأنّ القبر حرز للكفن ، وإن كان الكفن زائداً على كفن السّنّة أو دفن في تابوت فسرق التّابوت لم يقطع ، لأنّ ما زاد على المشروع في الكفن لم يجعل القبر حرزاً له وكذلك التّابوت .(183/4)
وقال أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة : لا قطع على النّبّاش مطلقاً . لقوله صلى الله عليه وسلم « لا قطع على المختفي » - وهو النّبّاش بلغة أهل المدينة - ولأنّ الشّبهة تمكّنت في الملك لأنّه لا ملك للميّت حقيقة ولا للوارث لتقدّم حاجة الميّت ، فتمكّنت الشّبهة المسقطة للقطع ، ووافقهما الشّافعيّة إذا كان الميّت مدفوناً في بريّة لعدم الحرز .
الكتابة على الكفن :
18 - جاء في الجمل على شرح المنهج ، لا يجوز له أن يكتب عليها شيئا من القرآن أو الأسماء المعظّمة صيانة لها من الصّديد ، وبه قال ابن الصّلاح .(183/5)
تلاوة *
التّعريف :
1 - التّلاوة : من تلا بمعنى قرأ ، ويأتي هذا الفعل بمعنى تبع .
وفي الاصطلاح : التّلاوة القراءة . قال تعالى : { يَتْلو عَلَيهمْ آيَاتِه } وفسّر قوله تعالى : { يَتْلُونَه حَقَّ تِلاوَتِهِ } ، باتّباع الأمر والنّهي ،بتحليل حلاله وتحريم حرامه والعمل بما تضمّنه.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّرتيل :
2 - التّرتيل : لغة التّمهّل يقال : رتّلت القرآن ترتيلا أي : تمهّلت في القراءة ولم أعجل . وفي الاصطلاح : التّأنّي في القراءة والتّمهّل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثّغر المرتّل والنّسبة بين التّرتيل والتّلاوة - بمعنى القراءة - : أنّ التّلاوة أعمّ ، والتّرتيل أخصّ ، فكلّ ترتيل تلاوة ولا عكس .
ب - التّجويد :
3 - التّجويد : إعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه ، والمراد بحقّ الحرف ، الصّفة الذّاتيّة الثّابتة له ، كالشّدّة والاستعلاء والمراد بمستحقّ الحرف ، ما ينشأ عن الصّفات الذّاتيّة اللّازمة ، كالتّفخيم وغيره . وهو أخصّ من التّلاوة . ( ر : تجويد ) .
ج - الحدْر :
4 - الحدر هو : الإسراع في القراءة . فهو أخصّ من التّلاوة أيضاً .
الحكم الإجماليّ :
5 - المسلمون متعبّدون بفهم معاني القرآن الكريم وتطبيق أحكامه وإقامة حدوده ، وهم متعبّدون كذلك بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة المتّصلة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد عدّ العلماء القراءة بغير تجويد لحناً ، فقسّموا اللّحن إلى جليّ وخفيّ .
فاللّحن : خلل يطرأ على الألفاظ فيخلّ ، إلا أنّ الجليّ يخلّ إخلالا ظاهرا يشترك في معرفته علماء القراءة وغيرهم ، وهو الخطأ في الإعراب ، والخفيّ يخلّ إخلالا يختصّ بمعرفته علماء القراءة وأئمّة الأداء الّذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ أهل الأداء .
والفقهاء متّفقون على أنّ قراءة القرآن في الصّلاة ركن ، لقوله تعالى : { فَاقْرَءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْه } وإن اختلفوا في تعيين الفاتحة لهذه الفريضة .
ويستحبّ الإكثار من قراءة القرآن وتلاوته خارج الصّلاة . قال تعالى مثنياً على من كان ذلك دأبه : { يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيلِ } ، وفي الصّحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الكتاب وقام به آناء اللّيل وآناء النّهار » ، وروى التّرمذيّ من حديث ابن مسعود : « من قرأ حرفاً من كتاب اللّه فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها » . وفي حديث أبي سعيد « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : يقول الرّبّ عزّ وجلّ من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين ، وفضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه » .
آداب تلاوة القرآن :
6 - يستحبّ الوضوء لقراءة القرآن ، لأنّه أفضل الأذكار ، وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّي كرهت أن أذكر اللّه عزّ وجلّ إلا على طهر » .
قال إمام الحرمين : لكن تجوز القراءة للمحدث حدثاً أصغر لأنّه صحّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مع الحدث » .
وإذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن القراءة حتّى يتمّ خروجها ، وأمّا الجنب والحائض فتحرم عليهما القراءة ، ويجوز لهما النّظر في المصحف وإمراره على القلب ، ولم ير ابن عبّاس بالقراءة للجنب بأساً ، وبه قال الطّبريّ وابن المنذر .
وأمّا متنجّس الفم فتكره له القراءة ، وقيل تحرم كمسّ المصحف باليد النّجسة ، وتسنّ القراءة في مكان نظيف وأفضله المسجد ، وكره قوم القراءة في الحمّام والطّريق ، وعند النّوويّ أنّه لا تكره القراءة فيهما ، وعن الشّعبيّ أنّه تكره القراءة في الحشّ " بيت الخلاء " وفي بيت الرّحا وهي تدور ، ويستحبّ أن يجلس القارئ مستقبلا القبلة في خشوع ووقار مطرقا رأسه ، ويسنّ أن يستاك تعظيماً وتطهيراً ، وقد روى ابن ماجه عن عليّ موقوفا والبزّار بسند جيّد عنه صلى الله عليه وسلم مرفوعاً : « إنّ أفواهكم طرق للقرآن فطيّبوها بالسّواك » ولو قطع القراءة وعاد عن قرب فمقتضى استحباب التّعوّذ إعادة السّواك أيضاً ، ويسنّ التّعوّذ قبل القراءة لقوله تعالى : { فَإذا قَرَأتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ } يعني إذا أردت قراءة القرآن .
وذهب قوم إلى وجوب التّعوّذ لظاهر الأمر فإن كان يقرأ وهو ماش فسلّم على قوم وعاد إلى القراءة كان حسنا إعادة التّعوّذ . وصفته المختارة : " أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم " وكان جماعة من السّلف يزيدون بعد لفظ الجلالة : السّميع العليم ، وعن حمزة أستعيذ ونستعيذ واستعذت ، واختاره صاحب الهداية من الحنفيّة لمطابقة لفظ القرآن ، وهناك صيغ أخرى للاستعاذة . قال الحلوانيّ في جامعه : ليس للاستعاذة حدّ ينتهى إليه ، من شاء زاد ومن شاء نقص ، وفي النّشر لابن الجزريّ : المختار عند أئمّة القراءة الجهر بها ، وقيل : يسرّ مطلقا ، وقيل : فيما عدا الفاتحة ، وقد أطلقوا اختيار الجهر بها ، وقيّده أبو شامة بقيد لا بدّ منه ، وهو أن يكون بحضرة من يسمعه ، قال : لأنّ في الجهر بالتّعوّذ إظهار شعار القراءة ، كالجهر بالتّلبية وتكبيرات العيد .
ومن فوائد الجهر أنّ السّامع ينصت للقراءة من أوّلها لا يفوته منها شيء ، وإذا أخفى التّعوّذ لم يعلم السّامع بها إلا بعد أن يفوته من المقروء شيء ، وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة في الصّلاة وخارجها .(184/1)
قال : واختلف المتأخّرون في المراد بإخفاء الاستعاذة ، فالجمهور على أنّ المراد به الإسرار فلا بدّ من التّلفّظ وإسماع نفسه ، وقيل : الكتمان بأن يذكرها بقلبه بلا تلفّظ ، قال : وإذا قطع القراءة إعراضا أو بكلام أجنبيّ ولو ردّا للسّلام استأنفها ، وإذا كان الكلام بالقراءة فلا. قال : وهل هي سنّة كفاية أو عين حتّى لو قرأ جماعة جملة ، فهل يكفي استعاذة واحد منهم كالتّسمية على الأكل أو لا ؟ لم أر فيه نصّا ، والظّاهر الثّاني ، لأنّ المقصود اعتصام القارئ والتجاؤه باللّه من شرّ الشّيطان ، فلا يكون تعوّذ واحد منهم كافيا عن آخر .
البسملة :
7 - ومن آداب التّلاوة أن يحافظ على قراءة البسملة أوّل كلّ سورة غير براءة ، لأنّ أكثر العلماء على أنّها آية ، فإذا أخلّ بها كان تاركاً لبعض الختمة عند الأكثرين ، فإن قرأ من أثناء سورة استحبّ له أيضا ، نصّ عليه الشّافعيّ فيما نقله العبّاديّ . قال القرّاء : ويتأكّد عند قراءة نحو : { إليهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } ، { وَهو الَّذِيْ أَنْشَأَ جَنَّاتٍ } كما في ذكر ذلك بعد الاستعاذة من البشاعة وإيهام رجوع الضّمير إلى الشّيطان ، قال ابن الجزريّ : والابتداء بالآي وسط " براءة " قلّ من تعرّض له ، وقد صرّح بالبسملة أبو الحسن السّخاويّ ، وردّ عليه الجعبريّ .
النّيّة :
8 - لا تحتاج قراءة القرآن إلى نيّة كسائر الأذكار ، إلا إذا نذرها خارج الصّلاة ، فلا بدّ من نيّة النّذر أو الفرض .
التّرتيل :
9 - يسنّ التّرتيل في قراءة القرآن قال تعالى : { وَرَتِّلْ القُرْآنَ تَرْتِيلاً } وروى أبو داود وغيره عن أمّ سلمة « أنّها نعتت قراءة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قراءة مفسّرة حرفاً حرفاً » . وفي البخاريّ عن أنس « أنّه سئل عن قراءة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدّا ، ثمّ قرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يمدّ اللّه ، ويمدّ الرّحمن ، ويمدّ الرّحيم » . وفي الصّحيحين عن ابن مسعود « أنّ رجلاً قال له إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة ، فقال : هذَّاً كهذِّ الشّعر - يعني الإسراع بالقراءة - إنّ قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع » . وأخرج الآجرّيّ في حملة القرآن عن ابن مسعود ، وقال : لا تنثروه نثر الدّقل - أي التّمر - ولا تهذّوه كهذّ الشّعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكون همّ أحدكم آخر السّورة .
واتّفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع ، قالوا : وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزأين في قدر ذلك الزّمان بلا ترتيل .
ويستحبّ التّرتيل للتّدبّر ، لأنّه أقرب إلى الإجلال والتّوقير وأشدّ تأثيرا في القلب ، ولهذا يستحبّ التّرتيل للأعجميّ الّذي لا يفهم معنى القرآن .
واختلف القرّاء ، هل الأفضل التّرتيل وقلّة القراءة ، أم السّرعة مع كثرتها ؟ وأحسن بعض الأئمّة فقال : إنّ ثواب قراءة التّرتيل أجلّ قدراً ، وثواب الكثرة أكثر عدداً ، لأنّ بكلّ حرف عشر حسنات . وكمال التّرتيل كما قال الزّركشيّ : تفخيم ألفاظه ، والإبانة عن حروفه ، وألا يدغم حرف في حرف ممّا ليس حقّه الإدغام ، وقيل هذا أقلّه ، وأكمله أن يقرأه على منازله إن تهديدا لفظ به لفظ التّهديد ، أو تعظيما لفظ به على التّعظيم .
التّدبّر :
10 - تسنّ القراءة بالتّدبّر والتّفهّم ، فهو المقصود الأعظم ، والمطلوب الأهمّ ، وبه تنشرح الصّدور ، وتستنير القلوب . قال تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاه إليكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وقال :
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتّفكّر في معنى ما يلفظ به فيعرف معنى كلّ آية ، ويتأمّل الأوامر والنّواهي ، ويعتقد قبول ذلك ، فإن كان ممّا قصّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر ، وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل ، أو عذاب أشفق وتعوّذ ، أو تنزيه نزّه وعظّم ، أو دعاء تضرّع وطلب .
تكرير الآية :
11 - لا بأس بتكرير الآية وترديدها ، روى النّسائيّ وغيره عن أبي ذرّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام بآية يردّدها حتّى أصبح : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهمْ عِبَادُكَ } »
البكاء عند التّلاوة :
12 - يستحبّ البكاء عند قراءة القرآن والتّباكي لمن لا يقدر عليه والحزن والخشوع ، قال تعالى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعَاً } وفي الصّحيحين حديث « قراءة ابن مسعود على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه فإذا عيناه تذرفان » .
وعن سعد بن مالك مرفوعاً : « إنّ هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا » .
تحسين الصّوت :
13 - يستحبّ تحسين الصّوت بالقراءة وتزيينها لحديث ابن حبّان وغيره ، « وزيّنوا القرآن بأصواتكم » .
وقال الشّافعيّ : القراءة بالألحان لا بأس بها ، وفي رواية الرّبيع الجيزيّ : إنّها مكروهة ، قال الرّافعيّ : فقال الجمهور : ليست على قولين : بل المكروه أن يفرّط في المدّ وفي إشباع الحركات ، حتّى يتولّد من الفتحة ألف ، ومن الضّمّة واو ، ومن الكسرة ياء ، أو يدغم في غير موضع الإدغام ، فإن لم ينته إلى هذا الحدّ فلا كراهة ، وقال في زوائد الرّوضة : والصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام ، يفسّق به القارئ ، ويأثم المستمع غير المستنكر ، لأنّه عدل به عن نهجه القويم ، قال : وهذا مراد الشّافعيّ بالكراهة .(184/2)
وفيه حديث « اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق ، فإنّه سيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء ، والرّهبانيّة لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم » .
قال النّوويّ : ويستحبّ طلب القراءة من حسن الصّوت ، والإصغاء إليها للحديث الصّحيح ، ولا بأس باجتماع الجماعة في القراءة ولا بإدارتها ، وهي أن يقرأ بعض الجماعة قطعة ثمّ البعض قطعة بعدها .
تفخيم التّلاوة :
14 - تستحبّ قراءة القرآن بالتّفخيم لحديث : « أنزل القرآن بالتّفخيم » قال الحليميّ : ومعناه أنّه يقرؤه على قراءة الرّجال ، ولا يخضع الصّوت فيه ككلام النّساء ، قال : ولا يدخل في هذا كراهة الإمالة الّتي هي اختيار بعض القرّاء ، ويجوز أن يكون القرآن نزل بالتّفخيم ، فرخّص مع ذلك في إمالة ما تحسن إمالته .
الجهر بالقراءة :
15 - وقد وردت أحاديث باستحباب الجهر بالقرآن ، وأخرى باستحباب الإخفاء ، فمن الأوّل حديث الصّحيحين : « ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصّوت يتغنّى بالقرآن يجهر به » ومن الثّاني حديث أبي داود والتّرمذيّ والنّسائيّ : « الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة ، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصّدقة » .
قال النّوويّ : والجمع بينهما أنّ الإخفاء أفضل ، حيث خاف الرّياء ، أو تأذّى مصلّون أو نيام بجهره ، والجهر أفضل في غير ذلك لأنّ العمل فيه أكثر ، ولأنّ فائدته تتعدّى إلى السّامعين ، ولأنّه يوقظ قلب القارئ ويجمع همّه إلى الفكر ، ويصرف سمعه إليه ، ويطرد النّوم ويزيد في النّشاط ، ويدلّ لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح عن أبي سعيد
« اعتكف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف السّتر وقال : ألا إنّ كلّكم مناج لربّه ، فلا يؤذينّ بعضكم بعضاً ، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة » وقال بعضهم يستحبّ الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها ، لأنّ المسرّ قد يملّ فيأنس بالجهر ، والجاهر قد يكلّ فيستريح بالإسرار .
المفاضلة بين قراءة القرآن في المصحف وقراءته عن ظهر قلب :
16 - للفقهاء في المفاضلة بين قراءة القرآن في المصحف ، وقراءته عن ظهر قلب ، ثلاثة اتّجاهات :
أ - أنّ القراءة من المصحف أفضل لأنّ النّظر فيه عبادة فتجتمع القراءة والنّظر .
بهذا قال القاضي حسين والغزاليّ .
روى الطّبرانيّ من حديث أبي سعيد بن عون المكّيّ عن عثمان بن عبيد اللّه بن أوس الثّقفيّ عن جدّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « قراءة الرّجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك ألفي درجة » .
وعن عائشة مرفوعاً : « النّظر في المصحف عبادة ، ونظر الولد إلى الوالدين عبادة » .
ب - يرى أبو محمّد بن عبد السّلام أنّ القراءة عن ظهر قلب أفضل ، لأنّ المقصود من القراءة التّدبّر لقوله تعالى : { لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } والعادة تشهد أنّ النّظر في المصحف يخلّ بهذا المقصود فكان مرجوحاً .
ج - قال النّوويّ في الأذكار : إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التّدبّر والتّفكّر وجمع القلب أكثر ممّا يحصل له من المصحف ، فالقراءة من الحفظ أفضل ، وإن استويا فمن المصحف أفضل . قال وهو مراد السّلف .
قطع القرآن لمكالمة النّاس :
17 - يكره قطع القراءة لمكالمة أحد ، قال الحليميّ : لأنّ كلام اللّه لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره ، وأيّده البيهقيّ بما في الصّحيح كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرغ منه ، وكره أيضا الضّحك والعبث والنّظر إلى ما يلهي .
قراءة القرآن بالعجميّة :
18 - لا يجوز قراءة القرآن بالعجميّة مطلقاً ، سواء أحسن العربيّة أم لا في الصّلاة أم خارجها . وعن أبي حنيفة أنّه يجوز مطلقا ، وعن أبي يوسف ومحمّد يجوز لمن لا يحسن العربيّة ، لكن في شرح البزدويّ أنّ أبا حنيفة رجع عن ذلك ، ووجه المنع أنّه يذهب إعجازه المقصود منه ، وعن القفّال : أنّ القراءة بالفارسيّة لا تتصوّر ، قيل له فإذا لا يقدر أحد أن يفسّر القرآن ، قال : ليس كذلك لأنّ هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد اللّه ويعجز عن البعض ، أمّا إذا أراد أن يقرأه بالفارسيّة فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد اللّه تعالى ، لأنّ التّرجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها ، وذلك غير ممكن بخلاف التّفسير .
وللتّفصيل ( ر : ترجمة ف /5 ، 11 / 168 ) .
القراءة بالشّواذّ :
19 - نقل ابن عبد البرّ الإجماع على عدم جواز القراءة بالشّاذّ ، لكن ذكر موهوب الجزريّ جوازها في غير الصّلاة قياساً على رواية الحديث بالمعنى .
ترتيب القراءة :
20 - الأولى أن يقرأ القارئ على ترتيب المصحف ، لأنّ ترتيبه لحكمة ، فلا يترك التّرتيب إلا فيما ورد فيه الشّرع ، كصلاة صبح يوم الجمعة و { الم تَنْزِيلُ } ، و{ هَلْ أَتَى } ونظائره ، فلو فرّق السّور أو عكسها جاز وترك الأفضل ، وأمّا قراءة السّورة من آخرها إلى أوّلها . فمتّفق على منعه ، لأنّه يذهب بعض نوع الإعجاز ويزيل حكمة التّرتيب . لما روي عن ابن مسعود أنّه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً ؟ قال : ذاك منكوس القلب ، وأمّا خلط سورة بسورة فإنّ تركه من الآداب ، لما أخرج أبو عبيد عن سعيد بن المسيّب « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لبلال : يا بلال قد سمعتك وأنت تقرأ من هذه السّورة ومن هذه السّورة . قال : كلام طيّب يجمع اللّه تعالى بعضه إلى بعض . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلّكم قد أصاب » .(184/3)
وأخرج عن ابن مسعود قال : إذا ابتدأت في سورة فأردت أن تتحوّل منها إلى غيرها فتحوّل إلا { قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ } ، فإذا ابتدأت بها فلا تتحوّل عنها حتّى تختمها .
وقد نقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كلّ سورة .
قال البيهقيّ وأحسن ما يحتجّ به أن يقال : إنّ هذا التّأليف لكتاب اللّه مأخوذ من جهة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأخذه عن جبريل ، فالأولى للقارئ أن يقرأه على التّأليف المنقول .
استماع التّلاوة :
21 - يسنّ الاستماع لقراءة القرآن وترك اللّغط والحديث لحضور القراءة . قال تعالى :
{ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون } قال الشّيخ أبو محمّد بن عبد السّلام : والاشتغال عن السّماع بالتّحدّث بما لا يكون أفضل من الاستماع ، سوء أدب على الشّرع ، وهو يقتضي أنّه لا بأس بالتّحدّث للمصلحة . وللتّفصيل ر : ( استماع ،4 /85 ) .
السّجود للتّلاوة :
22 - في القرآن الكريم أربع عشرة آية فيها السّجود : في الأعراف ، والرّعد ، والنّحل ، والإسراء ، ومريم ، والحجّ ، وفيها سجدتان في بعض المذاهب ، وفي الفرقان ، والنّمل ، والسّجدة " الم تنزيل " و " ص " وفصّلت ، والنّجم ، والانشقاق ، واقرأ ، وزاد بعضهم آخر الحجر ، والسّجود عند الجمهور بقراءة آيات السّجدة مسنون ، وواجب عند الحنفيّة . وتفصيل مواضع السّجود ، وعلى من يجب ، وشروط السّجود ، كلّ ذلك تفصيله في مصطلح ( سجود التّلاوة ) .(184/4)
تلبية *
التّعريف :
1 - التّلبية لغة : إجابة المنادي ، وهي إمّا في الحجّ وإمّا في غيره كالوليمة والتّلبية في غير الحجّ . وقد سبق الكلام عنها في مصطلح ( إجابة ج /1 ص /251 ) .
وأمّا في الحجّ فالمراد بها قول المحرم : لبّيك اللّهمّ لبّيك . أي : إجابتي لك يا ربّ . يقال : لبّى الرّجل تلبية : إذا قال لبّيك . ولبّى بالحجّ كذلك . قال الفرّاء : معنى لبّيك إجابة لك بعد إجابة . وفي حديث الإهلال بالحجّ : « لبّيك اللّهمّ لبّيك » : هو من التّلبية ، وهي إجابة المنادي أي : إجابتي لك يا ربّ . وعن الخليل أنّ تثنية كلمة ( لبّيك ) على جهة التّوكيد . والإجابة وإن كانت لا تخرج في معناها الاصطلاحيّ عن هذا إلّا أنّه قد ورد في الخرشيّ على مختصر خليل : أنّ معنى التّلبية الإجابة : أي : إجابة بعد إجابة وذلك أنّ اللّه تعالى قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالوا بَلَى } فهذه إجابة واحدة ، والثّانية : إجابة قوله تعالى : { وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ } يقال : إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا أذّن بالحجّ أجابه النّاس في أصلاب آبائهم فمن أجابه مرّة حجّ مرّة ، ومن زاد زاد . فالمعنى أجبتك في هذا كما أجبتك في ذلك .
وأوّل من لبّى الملائكة ، وهم أيضا أوّل من كان بالبيت . ومعنى لبّيك كما في حاشية الطّحطاويّ على مراقي الفلاح : أقمت ببابك إقامة بعد أخرى وأجبت نداءك مرّة بعد أخرى . وفي الفواكه الدّواني : أجبتك يا ألّله إجابة بعد إجابة . أو لازمت الإقامة على طاعتك من ألبّ بالمكان إذا لزمه وأقام به . وهي مثنّاة لفظا ومعناها التّكثير لا خصوص الاثنين .
الحكم الإجماليّ :
2 - تلبية المحرم مستحبّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لما روى سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يلبّي إلا لبّى عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتّى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا » .
وهي واجبة عند المالكيّة .
صيغتها المتّفق عليها بين الفقهاء :
3 - وهي تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
كما جاء في خبر الصّحيحين عن ابن عمر أنّ تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك لبّيك . إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك » .
وهل للمحرم أن يزيد عليها أو ينقص منها ؟ .
قال الشّافعيّ وهو قول لمالك : إن زاد على هذا فلا بأس . لما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يزيد فيها : لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك والرّغبة إليك والعمل .
وإذا رأى شيئاً يعجبه قال : لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة . لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والنّاس يصرفون عنه كأنّه أعجبه ما هم فيه . فقال : لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة » .
وذهب الحنابلة وهو قول آخر لمالك إلى أنّه لا يستحبّ الزّيادة على تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا تكره ، وذلك لقول جابر : « فأهلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالتّوحيد لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك لبّيك . إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك » وأهلّ النّاس بهذا الّذي يهلّون . ولزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تلبيته . وكان ابن عمر يلبّي بتلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا « لبّيك . لبّيك . وسعديك والخير بيديك والرّغباء إليك والعمل » .
وزاد عمر لبّيك مرغوباً ومرهوباً إليك ذا النّعماء والفضل الحسن .
ويرى أنّ أنساً كان يزيد لبّيك حقّاً حقّاً تعبّداً ورقّاً . وهذا يدلّ على أنّه لا بأس بالزّيادة ولا تستحبّ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكرّرها ولم يزد عليها .
والقول الثّالث لمالك : كراهة الزّيادة على التّلبية المأثورة عن الرّسول صلى الله عليه وسلم. وذهب الحنفيّة إلى أنّه يندب له أن يزيد عليها ويكره له إنقاصها ، وتكون الزّيادة عليها ممّا هو مأثور فيقول : لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك والرّغباء إليك إله الخلق لبّيك بحجّة حقّا تعبّدا ورقّا . لبّيك إنّ العيش عيش الآخرة . وما ليس مرويّاً فجائز وحسن .
بم تصحّ التّلبية ؟
4 - تصحّ التّلبية عند الحنفيّة والشّافعيّة بغير العربيّة وإن أحسن العربيّة إلا أنّ العربيّة أفضل . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ غير العربيّ يلبّي بلسانه إن لم يقدر عليها بالعربيّة كأن لم يجد من يعلّمه العربيّة ، ومفاد هذا أنّ العربيّ القادر عليها بالعربيّة لا يلبّي بغيرها لأنّه ذكر مشروع فلم تشرع بغير العربيّة مع القدرة عليها كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة فإن لم يقدر على العربيّة لبّى بلغته كالتّكبير في الصّلاة .
رفع الصّوت بالتّلبية :
5 - استحبّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة للمُحْرم أن يرفع صوته بالتّلبية لما روى زيد بن خالد الجهنيّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « جاءني جبريل عليه السلام فقال : يا محمّد مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتّلبية فإنّها من شعائر الحجّ » .
وقال أبو حازم : كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الرَّوحَاء حتّى تبحّ حلوقهم من التّلبية .
وقال سالم : كان ابن عمر يرفع صوته بالتّلبية فلا يأتي الرّوحاء حتّى يَصْحَل صوته .
ولا يجهد نفسه في رفع الصّوت بها زيادة على الطّاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته .(185/1)
وذهب المالكيّة إلى أنّ التّوسّط فيه مندوب فلا يسرّه الملبّي حتّى لا يسمعه من يليه ، ولا يبالغ في رفعه حتّى يعقره فيكون بين الرّفع والخفض ولا يبالغ في أيّهما ، وفي الفواكه الدّواني : هذا في غير المسجد لأنّه لا يجوز رفع الصّوت فيه إلا المسجد الحرام ومسجد منى لأنّهما بنيا للحجّ ، وقيل : للأمن فيهما من الرّياء .
هذا في حقّ الرّجال . أمّا النّساء فإنّه لا خلاف بين الفقهاء في كراهة رفع أصواتهنّ بالتّلبية إلا بمقدار ما تسمع المرأة نفسها أو رفيقتها ، فقد روي عن سليمان بن يسار قال : السّنّة عندهم أنّ المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال وإنّما كره لها رفع الصّوت مخافة الفتنة بها ومثلها الخنثى المشكل في ذلك احتياطاً .
الإكثار من التّلبية :
6 - استحبّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة للمحرم أن يكثر من التّلبية لأنّها شعار النّسك فيلبّي عند اجتماع الرّفاق ، أو متى علا شرفا أو هبط واديا ، وفي أدبار الصّلوات ، وإقبال اللّيل والنّهار . لما روى جابر قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبّي إذا رأى ركبا ، أو صعد أكمة ، أو هبط واديا ، وفي أدبار المكتوبة وآخر اللّيل » ولأنّ في هذه المواضع ترفع الأصوات ويكثر الضّجيج .
وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أفضل الحجّ العجّ والثّجّ » .
وذهب المالكيّة إلى أنّ التّوسّط في ذلك مندوب ، فلا يكثر المحرم من التّلبية حتّى يملّها ويلحقه الضّرر ، ولا يقلّلها حتّى يفوت المقصود منها وهو الشّعيرة .
متى تبدأ التّلبية :
7 - من الأمور المستحبّة لمريد الإحرام بحجّ أو عمرة أو بهما معا متى بلغ ميقاته أن يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام في غير وقت كراهة ، وتجزئ المكتوبة ، فإن كان مفردا بالحجّ قال بلسانه المطابق لجنانه : اللّهمّ إنّى أريد الحجّ فيسّره لي وتقبّله منّي ، كما يفعل ذلك أيضا المعتمر والقارن ، ويشير إلى نوع نسكه ثمّ يلبّي دبر صلاته . وبهذه التّلبية يكون محرما وتسري عليه أحكام الإحرام . هذا ما عليه فقهاء المذاهب الأربعة .
وله الإحرام بها إذا استوت به راحلته ، وإذا بدأ السّير سواء لأنّ الجميع قد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة .
قال الأثرم : سألت أبا عبد اللّه : أيّهما أحبّ إليك . الإحرام في دبر الصّلاة ، أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : كلّ ذلك قد جاء في دبر الصّلاة إذا علا البيداء .
متى تنتهي التّلبية :
8 - تنتهي التّلبية بالنّسبة للحاجّ ابتداء من رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيقطعها مع أوّل حصاة لأخذه في أسباب التّحلّل ، ويكبّر بدل التّلبية مع كلّ حصاة . فقد روى جابر « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أتى إلى منى لم يعرّج إلى شيء حتّى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات وقطع التّلبية عند أوّل حصاة رماها ، ثمّ كبّر مع كلّ حصاة ، ثمّ نحر ، ثمّ حلق رأسه ، ثمّ أتى مكّة فطاف بالبيت » .
وروى الفضل بن العبّاس « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة » وكان الفضل رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره .
ولأنّ التّلبية للإحرام فإذا رمى فقد شرع في التّحلّل فلا معنى للتّلبية .
وللمالكيّة قولان : أحدهما : يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها .
والثّاني : يستمرّ في التّلبية حتّى الشّروع في الطّواف ، والأوّل في رسالة ابن أبي زيد . وشهره ابن بشير ، والثّاني في المدوّنة في قول يقطع التّلبية حين يبتدئ الطّواف .
أمّا المعتمر فيقطع التّلبية متى شرع في الطّواف واستلم الحجر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . لما روى ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر » وأمّا المالكيّة فالمعتبر عندهم أنّ معتمر الميقات من أهل الآفاق وفائت الحجّ أي : المعتمر لفوات الحجّ يلبّي كلّ منهما للحرم لا إلى رؤية البيوت ، ومعتمر الجعرانة والتّنعيم يلبّي للبيوت أي : إلى دخول بيوت مكّة لقرب المسافة استدلالا بما رواه نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال : وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم ينظر في تفصيل ذلك : حجّ - إحرام .(185/2)
تلفيق *
التّعريف :
1 - التّلفيق في اللّغة : الضّمّ ، وهو مصدر لفّق ، ومادّة لفّق لها في اللّغة أكثر من معنى ، فهي تستعمل بمعنى الضّمّ .
والملاءمة ، والكذب المزخرف . والتّلفاق أو اللّفاق بكسرهما : ثوبان يلفّق أحدهما بالآخر .
وفي الاصطلاح : يستعمل الفقهاء التّلفيق بمعنى الضّمّ كما في المرأة الّتي انقطع دمها فرأت يوماً دماً ويوماً نقاء ، أو يومين ويومين بحيث لا يجاوز التّقطّع خمسة عشر يوما عند غير الأكثرين على مقابل الأظهر عند الشّافعيّة .
وكما هو الحال في حصول الرّكعة الملفّقة في صلاة الجمعة للمسبوق .
ويستعملونه أيضا بمعنى التّوفيق والجمع بين الرّوايات المختلفة في المسألة الواحدة ، كما في الرّوايات الموجبة للجعل في ردّ الآبق عند الحنفيّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّفريق :
2 - التّفريق مصدر فرّق ومعناه في اللّغة : الفصل بين الشّيئين والفقهاء يستعملونه أيضا بهذا المعنى كما في التّفريق في صيام التّمتّع بين الثّلاثة والسّبعة الأيّام ، وكما في قسم الصّدقات ، وكما في تفريق طلاق المدخول بها إذا أراد أكثر من واحدة بأن يوقع كلّ طلقة في طهر لم يمسّها فيه ليصيب السّنّة . فالتّفريق ضدّ التّلفيق .
ب - التّقدير :
3 - التّقدير : مصدر قدّر ، ويأتي في اللّغة على وجوه من المعاني .
أحدها : التّروّي والتّفكير في تسوية أمر وتهيئته .
والثّاني : تقديره بعلامات يقطعه عليها وهو بيان المقادير ذرعا ، أو كيلا ، أو وزنا ، أو عدّ ذلك .
والثّالث : أن تنوي أمرا بعزمك عليه . تقول قدّرت أمر كذا وكذا أي نويته وعقدت عليه . ويشترك التّقدير مع التّلفيق في أنّ كلّا منهما فيه جمع بين أمور غير محدّدة .
الأحكام الإجماليّة ومواطن البحث :
ذكر الفقهاء التّلفيق في عدد من المواطن نجملها فيما يلي :
التّلفيق في الحيض إذا تقطّع :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان خمسة عشر يوما فصاعدا فإنّه يكون فاصلا بينهما ، أمّا إذا كان الطّهر الفاصل بين الدّمين أقلّ من هذه المدّة فقد اختلفوا في اعتباره فاصلا أو عدم اعتباره .
5 - فالحنفيّة يجمعون على أنّ الطّهر الفاصل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلاثة أيّام فإنّه لا يعتبر فاصلا . وأمّا فيما عدا ذلك ففيه أربع روايات عن أبي حنيفة :
الأولى : وهي رواية أبي يوسف عنه أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من خمسة عشر يوما يكون طهرا فاسدا ولا يكون فاصلا بين الدّمين بل يكون كلّه كدم متوال ، ثمّ يقدّر ما ينبغي أن يجعل حيضا فيجعل حيضا والباقي يكون استحاضة .
الثّانية : وهي رواية محمّد عنه أنّ الدّم إذا كان في طرفي العشرة فالطّهر المتخلّل بينهما لا يكون فاصلا ويجعل كلّه كدم متوال ، وإن لم يكن الدّم في طرفي العشرة كان الطّهر فاصلا بين الدّمين . ثمّ بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدّمين حيضا يجعل ذلك حيضاً ، وإن أمكن أن يجعل كلّ واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما وهو أوّلهما ، وإن لم يمكن جعل أحدهما حيضا لا يجعل شيء من ذلك حيضاً .
الثّالثة : وهي رواية عبد اللّه بن المبارك عنه أنّ الدّم إذا كان في طرفي العشرة وكان بحال لو جمعت الدّماء المتفرّقة تبلغ حيضاً لا يصير الطّهر فاصلاً بين الدّمين ويكون كلّه حيضاً ، وإن كان بحال لو جمع لا يبلغ حيضا يصير فاصلا بين الدّمين ، ثمّ ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدّمين حيضا يجعل ذلك حيضا ، وإن أمكن أن يجعل كلّ واحد منهما حيضا ، يجعل أسرعهما حيضا وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضاً لا يجعل شيء من ذلك حيضاً .
الرّابعة : وهي رواية الحسن عنه أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلاثة أيّام لا يكون فاصلا بين الدّمين ، وكلّه بمنزلة المتوالي ، وإذا كان ثلاثة أيّام كان فاصلا بينهما . واختار محمّد أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلاثة أيّام لا يعتبر فاصلا ، وإن كان أكثر من الدّمين ، ويكون بمنزلة الدّم المتوالي ، وإذا كان ثلاثة أيّام فصاعدا فهو طهر كثير فيعتبر . لكن ينظر بعد ذلك إن كان الطّهر مثل الدّمين أو أقلّ من الدّمين في العشرة لا يكون فاصلا ، وإن كان أكثر من الدّمين يكون فاصلا . هذا وأقلّ الحيض عند الحنفيّة ثلاثة أيّام وثلاث ليال في ظاهر الرّواية ، وأكثره عشرة أيّام ولياليها ، وأقلّ الطّهر عندهم خمسة عشر يوما ولا غاية لأكثره ، إلا إذا احتيج إلى نصب العادة .
6 - ويرى المالكيّة في مسألة التّقطّع هذه أنّ المرأة تُلَفِّق أي تجمع أيّام الدّم فقط لا أيّام الطّهر على تفصيلها من مبتدأة ومعتادة وحامل .
فتلفّق المبتدأة نصف شهر ، والمعتادة عادتها واستظهارها ، والحامل في ثلاثة أشهر النّصف ونحوه ، وفي ستّة فأكثر عشرين ونحوها ، ثمّ هي بعد ذلك مستحاضة .
وتغتسل الملفّقة وجوباً كلّما انقطع الدّم عنها في أيّام التّلفيق ، إلا أن تظنّ أنّه يعاودها قبل انقضاء وقت الصّلاة الّتي هي فيه ، فلا تؤمر بالغسل ، وتصوم إن كانت قبل الفجر طاهراً ، وتصلّي بعد طهرها فيمكن أن تصلّي وتصوم في جميع أيّام الحيض بأن كان يأتيها ليلا وينقطع قبل الفجر حتّى يغيب الشّفق فلا يفوتها شيء من الصّلاة والصّوم ، وتدخل المسجد ، وتطوف الإفاضة إلّا أنّه يحرم طلاقها ويجبر على مراجعتها .
هذا وأقلّ الحيض عند المالكيّة دفعة ، وأمّا أكثره فيختلف باختلاف الحائض ، فالمبتدأة إن تمادت بها الحيضة فأكثره في حقّها خمسة عشر يوماً .(186/1)
والمعتادة إن لم تختلف عادتها استظهرت عليها بثلاثة أيّام ما لم تجاوز خمسة عشر يوماً ، وإن اختلفت عادتها استظهرت على أكثر عادتها كذلك وهي حائض في أيّام الاستظهار .
7 - ويرى الشّافعيّة في هذه المسألة أنّ التّقطّع لا يخلو ، إمّا أن يجاوز الخمسة عشر ، وإمّا أن لا يجاوزها ، فإن لم يجاوزها فقولان :
أظهرهما عند الأكثرين كما في الرّوضة أنّ الجميع حيض ، ويسمّى القول بذلك " السّحب " بشرط أن يكون النّقاء محتوشا "محاطا " بدمين في الخمسة عشر ، وإلّا فهو طهر بلا خلاف .
والثّاني : حيضها الدّماء خاصّة .وأمّا النّقاء فطهر ويسمّى هذا القول " التّلفيق " أو " اللّقط " وعلى هذا القول إنّما يجعل النّقاء طهرا في الصّوم والصّلاة والغسل ونحوها دون العدّة ، والطّلاق فيه بدعيّ . ثمّ القولان هما في النّقاء الزّائد على الفترة المعتادة ، فأمّا الفترة المعتادة بين دفعتي الدّم فحيض بلا خلاف .
ولا فرق في جريان القولين بين أن يستوي قدر الدّم والنّقاء أو يزيد أحدهما .
أمّا إذا جاوز الدّم بصفة التّلفيق الخمسة عشر صارت مستحاضة كغيرها إذا جاوز دمها تلك المدّة ، وَلا صَائِر إلى الالتقاط من جميع الشّهر وإن لم يزد مبلغ الدّم على أكثر الحيض ، وإذا صارت مستحاضة فالفرق بين حيضها واستحاضتها بالرّجوع إلى العادة ، أو التّمييز كغير ذات التّلفيق .
هذا وأقلّ الحيض عند الشّافعيّة يوم وليلة على المذهب وعليه التّفريع ، وأكثره خمسة عشر يوما وغالبه ستّ أو سبع ، وأقلّ الطّهر بين حيضتين خمسة عشر يوما وغالبه تمام الشّهر بعد الحيض ولا حدّ لأكثره .
8 - ويرى الحنابلة في مسألة التّقطّع هذه أنّ المرأة تغتسل وتصلّي في زمن الطّهر حتّى ولو كان ساعة ، لقول ابن عبّاس : لا يحلّ لها إذا رأت الطّهر ساعة إلا أن تغتسل ، ثمّ إن انقطع الدّم لخمسة عشر فما دون فجميعه حيض ، تغتسل عقيب كلّ يوم وتصلّي في الطّهر ، وإن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة تردّ إلى عادتها .
والأصل المعتبر الّذي تردّ إليه مسائل التّلفيق عندهم حينئذ أنّها إن كانت عادتها سبعة متوالية جلست ، وما وافقها من الدّم فيكون حيضها منه ثلاثة أيّام أو أربعة .
وقالوا : إنّ النّاسية كالمعتادة إن أجلسناها سبعا ، فإن أجلسناها أقلّ الحيض جلست يوما وليلة لا غير ، وإن كانت مميّزة ترى يوما دما أسود ، ثمّ ترى نقاء ، ثمّ ترى أسود إلى عشرة أيّام ، ثمّ ترى دما أحمر وعبر ( أي : تجاوز ) ردّت إلى التّمييز ، فيكون حيضها زمن الدّم الأسود دون غيره ، ولا فرق بين أن ترى الدّم زمنا يمكن أن يكون حيضا كيوم وليلة ، أو دون ذلك كنصف يوم ونصف ليلة . فإن كان النّقاء أقلّ من ساعة فالظّاهر أنّه ليس بطهر لأنّ الدّم يجري تارة وينقطع أخرى .
وإذا رأت ثلاثة أيّام دما ثمّ طهرت اثني عشر يوماً ، ثمّ رأته ثلاثة دماً ، فالأوّل حيض لأنّها رأته في زمان إمكانه .
والثّاني استحاضة لأنّه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض لكونه لم يتقدّمه أقلّ الطّهر ولا من الحيض الأوّل ، لأنّه يخرج عن الخمسة عشر ، والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً .
فإن كان بين الدّمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرّر ، فهما حيضتان لأنّه أمكن جعل كلّ واحد منهما حيضة منفردة لفصل أقلّ الطّهر بينهما ، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما مثل أن ترى يومين دما وتطهر عشرة ، وترى ثلاثة دما وتكرّر فهما حيضة واحدة ، لأنّه لم يخرج زمنهما عن مدّة أكثر الحيض .
وجاء في مطالب أولي النّهى أنّ الطّهر في أثناء الحيضة صحيح تغتسل فيه وتصلّي ونحوه أي : تصوم وتطوف وتقرأ القرآن ، ولا يكره فيه الوطء لأنّه طهر حقيقة .
وقال في الإنصاف : حكمها حكم الطّاهرات في جميع أحكامها على الصّحيح من المذهب . هذا والحنابلة في أقلّ الحيض وأكثره وغالبه كالشّافعيّة ، إلا أنّهم خالفوهم في أقلّ الطّهر الفاصل بين الحيضتين ، حيث قالوا : إنّه ثلاثة عشر يوماً .
والتّفصيل في مصطلح ( حيض ) .
إدراك الجمعة بركعة ملفّقة :
9 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ الجمعة تدرك بركعة ملفّقة من ركوع الأولى وسجود الثّانية ، وقد ذكر الشّافعيّة ذلك في المزحوم الّذي لم يتمكّن من السّجود في الرّكعة الأولى حتّى شرع الإمام في ركوع الرّكعة الثّانية من الجمعة ، فقد ذكروا أنّ المزحوم يراعي نظم صلاة نفسه في قول فيسجد الآن ، ويحسب ركوعه الأوّل في الأصحّ لأنّه أتى به في وقته ، وإنّما أتى بالرّكوع الثّاني لعذر ، فأشبه ما لو والى بين ركوعين ناسياً .
وقيل : يؤخذ بالرّكوع الثّاني لإفراط التّخلّف فكأنّه مسبوق لَحِقَ الآن فركعته ملفّقة من ركوع الرّكعة الأولى ومن سجود الثّانية الّذي أتى به فيها ، وتدرك بها الجمعة في الأصحّ لإطلاق خبر : « من أدرك ركعة من الجمعة فليصلّ إليها أخرى » . وهذا قد أدرك ركعة وليس التّلفيق نقصا في المعذور . وعلى مقابل الأصحّ لا تدرك بها الجمعة لنقصها بالتّلفيق .
هذا والأظهر عند الشّافعيّة متابعة الإمام . لظاهر : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا ركع فاركعوا » ولأنّ متابعة الإمام آكد ، ولهذا يتبعه المسبوق ويترك القراءة والقيام .
وأمّا الحنابلة فقد ذكروا ذلك فيمن زال عذره بعد أن أدرك ركوع الأولى ، وقد رفع إمامه من ركوع الثّانية ، فقد جاء في الإنصاف : أنّه يتابعه في السّجود فتتمّ له ركعة ملفّقة من ركعتي إمامه يدرك بها الجمعة على الصّحيح من المذهب .(186/2)
وتدرك الجمعة عند الشّيخين من الحنفيّة بإدراك الإمام في التّشهّد أو في سجود السّهو ، وعلى هذا فلا يتصوّر التّلفيق عندهما لعدم الحاجة إليه ، وقال محمّد : إنّها تدرك بإدراك أكثر الرّكعة الثّانية مع الإمام .
وذكر صاحب مواهب الجليل من المالكيّة قولين عن ابن القاسم وأشهب فيمن زوحم عن السّجدة الأخيرة في الجمعة بحيث لم يتمكّن من الإتيان بها إلّا بعد سلام الإمام في أنّه يتمّها ظهرا أو جمعة . والتّفصيل في مصطلح ( جمعة ) .
التّلفيق في مسافة القصر لمن كان بعض سفره في البحر وبعضه في البرّ :
10 - يرى المالكيّة على القول الّذي لا يفرّق بين السّفر في البحر والسّفر في البرّ في اعتبار المسافة أنّه إذا سافر وكان بعض سفره في البرّ وبعضه في البحر فإنّه يلفّق أي : يضمّ مسافة أحدهما لمسافة الآخر مطلقا من غير تفصيل .
وجاء في الزّرقانيّ أنّه يلفّق بين مسافة البرّ ومسافة البحر إذا كان السّير في البحر بمجداف ، أو به وبالرّيح ، فإن كان يسير فيه بالرّيح فقط لم يقصر في مسافة البرّ المتقدّمة وهي دون قصر فلا تلفيق .
ولم يفرّق الشّافعيّة وكذا الحنابلة - على الصّحيح من المذهب عندهم - في مسافة القصر بين البرّ والبحر ، بل لو سار في البحر وقطع تلك المسافة في لحظة فإنّه يقصر .
وعند الحنفيّة لا يعتبر السّير في البرّ بالسّير في البحر ، ولا السّير في البحر بالسّير في البرّ ، وإنّما يعتبر في كلّ موضع منهما ما يليق بحاله ، والمختار للفتوى عندهم أن ينظر كم تسير السّفينة في ثلاثة أيّام ولياليها ، إذا كانت الرّياح مستوية معتدلة فيجعل ذلك هو المقدّر ، لأنّه أليق بحاله كما في الجبل . والتّفصيل في مصطلح : ( سفر ) .
التّلفيق في صوم الشّهرين في كفّارة الظّهار وما شابهها :
11 - المراد بالتّلفيق في صوم الكفّارة إتمام الشّهر الأوّل منهما من الشّهر الثّالث .
اتّفق الفقهاء على أنّ المكفّر بالصّوم في كفّارة الظّهار ، أو القتل ، أو الوطء عمدا في نهار رمضان إذا ابتدأ صوم الشّهرين باعتبار الأهلّة فإنّ ذلك يجزئه حتّى وإن كانا ناقصين . واتّفقوا أيضاً على الإجزاء فيما إذا كان أحدهما ناقصا والآخر كاملاً .
واتّفقوا أيضا على الإجزاء فيما لو صام ستّين يوما بغير اعتبار الأهلّة .
واتّفقوا أيضا على أنّه لو ابتدأ الصّيام في أثناء شهر ، ثمّ صام الشّهر الّذي يليه باعتبار الهلال ، ثمّ أكمل الشّهر الأوّل من الشّهر الثّالث تلفيقا وبلغ عدد الأيّام ستّين يوما فإنّه يجزئه . أمّا لو بلغ عدد الأيّام تسعة وخمسين يوما فإنّ ذلك يجزئه عند المالكيّة والحنابلة والصّاحبين والشّافعيّة في الصّحيح ، ولا يجزئه عند أبي حنيفة وعند الشّافعيّة في وجه شاذّ . والتّفصيل في مصطلح ( كفّارة ) .
التّلفيق بين شهادتين لإثبات الرّدّة :
12 - ذهب المالكيّة إلى جواز التّلفيق بين الشّهادتين في الأقوال المختلفة في اللّفظ المتّفقة في المعنى لإثبات الرّدّة ، كما لو شهد أحدهما عليه أنّه قال : لم يكلّم اللّه موسى تكليما ، وشهد آخر عليه أنّه قال : ما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا ، فإنّ القاضي يجمع بين هاتين الشّهادتين لإثبات الرّدّة . أمّا إذا كانت إحدى الشّهادتين على قول ، مثل أن يشهد عليه أنّه قال : في كلّ جنس نذير ، والأخرى على فعل كإلقاء مصحف في قاذورة ، أو كانتا على فعلين مختلفين كالإلقاء المذكور ، وشدّ الزّنّار فلا تلفيق .
هذا وفي قبول الشّهادة لإثبات الرّدّة خلاف بين الفقهاء في أنّها هل تثبت بها مطلقا أي : على وجه الإطلاق أو لا بدّ من التّفصيل ؟ وهل يتعرّض للمشهود عليه إذا أنكر ؟
وهذا بعد اتّفاقهم جميعا على أنّ الشّهادة بها لا يقبل فيها إلا العدول .
فذهب الحنفيّة كما جاء في الدّرّ المختار إلى أنّهم لو شهدوا على مسلم بالرّدّة وهو منكر لا يتعرّض له لا لتكذيب الشّهود والعدول بل لأنّ إنكاره توبة ورجوع يدرأ عنه القتل فقط دون غيره من أحكام الرّدّة ، كحبط عمل وبطلان وقف وبينونة زوجة وإلا أي : إذا لم ينكر فإنّه يقتل كارتداده بنفسه .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة على أحد القولين إلى أنّ الشّهادة بها لا تقبل بإطلاق ، بل لا بدّ من التّفصيل لاختلاف أهل السّنّة في أسباب الكفر فربّما وجب عند بعض دون آخرين . والقول المعتمد عند الشّافعيّة ، وهو أيضا مذهب الحنابلة هو أنّ الشّهادة بها تقبل بإطلاق من غير تفصيل ، حتّى إذا أنكر المشهود عليه لا ينفعه إنكاره بل لا بدّ له من التّوبة وإلا قتل ، لأنّها لخطرها لا يقدّم العدل على الشّهادة بها إلا بعد تحقّقها بأن يذكر موجبها وإن لم يقل عالما مختاراً لاختلاف المذاهب في الكفر وخطر أمر الرّدّة .
والتّفصيل في مصطلح ( ردّة ) .
التّلفيق بين المذاهب :
13 - المراد بالتّلفيق بين المذاهب أخذ صحّة الفعل من مذهبين معا بعد الحكم ببطلانه على كلّ واحد منهما بمفرده ، ومثاله : متوضّئ لمس امرأة أجنبيّة بلا حائل وخرج منه نجاسة كدم من غير السّبيلين ، فإنّ هذا الوضوء باطل باللّمس عند الشّافعيّة ، وباطل بخروج الدّم من غير السّبيلين عند الحنفيّة ، ولا ينتقض بخروج تلك النّجاسة من غير السّبيلين عند الشّافعيّة ، ولا ينتقض أيضا باللّمس عند الحنفيّة ، فإذا صلّى بهذا الوضوء ، فإنّ صحّة صلاته ملفّقة من المذهبين معا ، وقد جاء في الدّرّ المختار : أنّ الحكم الملفّق باطل بالإجماع ، وأنّ الرّجوع عن التّقليد بعد العمل باطل اتّفاقا ، وهو المختار في المذهب لأنّ التّقليد مع كونه جائزا فإنّ جوازه مشروط بعدم التّلفيق كما ذكر ابن عابدين في حاشيته .(186/3)
وفي تتبّع الرّخص ، وفي متتبّعها في المذاهب خلاف بين الأصوليّين والفقهاء :
والأصحّ كما في جمع الجوامع امتناع تتبّعها لأنّ التّتبّع يحلّ رباط التّكليف ، لأنّه إنّما تبع حينئذ ما تشتهيه نفسه .
بل ذهب بعضهم إلى أنّه فسق ، والأوجه كما في نهاية المحتاج خلافه ، وقيل : محلّ الخلاف في حالة تتبّعها من المذاهب المدوّنة وإلا فسّق قطعاً ، ولا ينافي ذلك قول ابن الحاجب كالآمديّ : من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتّفاقاً ، لتعيّن حمله على ما إذا بقي من آثار العمل الأوّل ما يلزم عليه مع الثّاني تركّب حقيقة لا يقول بها كلّ من الإمامين ، كتقليد الشّافعيّ في مسح بعض الرّأس ، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة .
وتتبّعها عند من أجازه مشروط بعدم العمل بقول آخر مخالف لذلك الأخفّ .
وينظر التّفصيل في الملحق الأصوليّ .
هذا والتّلفيق المقصود هنا هو ما كان في المسألة الواحدة بالأخذ بأقوال عدد من الأئمّة فيها أمّا الأخذ بأقوال الأئمّة في مسائل متعدّدة فليس تلفيقا وإنّما هو تنقّل بين المذاهب أو تخيّر منها ، وينظر التّفصيل في مصطلح ( تقليد ) .(186/4)
تلقين *
التّعريف :
1 - التّلقين : مصدر لقّن ، يقال لقّن الكلام : فهمه ، وتلقّنه : أخذه وتمكّن منه ، وقيل : معناه أيضا فهمه . وهذا يصدق على الأخذ مشافهة ، وعلى الأخذ من الكتب ويقال : لقّنه الكلام : ألقاه إليه ليعيده . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذه المعاني اللّغويّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّعريض :
2 - التّعريض في الكلام : ما يفهم به السّامع مراده من غير تصريح ، في حين يكون التّلقين صريحاً غالباً .
ب - التّعليم :
3 - التّعليم : مصدر علّم ، يقال : علّمه العلم والصّنعة وغير ذلك : جعله يعلمها والفرق بين التّعليم والتّلقين : أنّ التّلقين يكون في الكلام فقط ، والتّعليم يكون في الكلام وغيره ، فهو أعمّ من التّلقين .
الحكم الإجماليّ :
تكلّم الفقهاء عن التّلقين في عدّة مواطن منها :
تلقين المحتضر :
4 - إذا احتضر الإنسان وأصبح في حالة النّزع قبل الغرغرة . فالسّنّة أن يلقّن الشّهادة بحيث يسمعها لقوله صلى الله عليه وسلم : « لقّنوا موتاكم لا إله إلا اللّه » وقوله صلى الله عليه وسلم : « من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنّة » .
ولا يلحّ عليه في قولها مخافة أن يضجر ، فإذا قالها المحتضر مرّة لا يعيدها الملقّن ، إلا أن يتكلّم المحتضر بكلام غيرها ، وهذا باتّفاق الفقهاء .
وفي المجموع نقلا عن المحامليّ وغيره : يكرّرها عليه ثلاثاً ، ولا يزاد على ثلاث .
ولا يسنّ زيادة " محمّد رسول اللّه " عند الجمهور لظاهر الأخبار .
وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه يلقّن الشّهادتين بأن يقول الملقّن : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه " ودليلهم : أنّ المقصود تذكّر التّوحيد ، وذلك لا يحصل إلا بالشّهادتين .
ويسنّ أن يكون الملقّن غير متّهم بعداوة أو حسد أو نحو ذلك ، وأن يكون من غير الورثة ، فإن لم يحضر غيرهم ، لقّنه أشفق الورثة ، ثمّ غيره .
التّلقين بعد الموت :
5 - اختلفوا في تلقين الميّت بعد الموت ، فذهب المالكيّة وبعض أصحاب الشّافعيّ والزّيلعيّ من الحنفيّة إلى أنّ هذا التّلقين لا بأس به ، فرخّصوا فيه ، ولم يأمروا به ، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : « لقّنوا موتاكم لا إله إلا اللّه » وقد نقل عن طائفة من الصّحابة ، أنّهم أمروا به كأبي أمامة الباهليّ وغيره ، وصفته أن يقول يا فلان بن فلان : اذكر دينك الّذي كنت عليه وقد رضيت باللّه ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد عليه الصلاة والسلام نبيّا . وقالت طائفة من الفقهاء لا يلقّن ، إذ المراد بموتاكم في الحديث من قرب من الموت ، وفي المغني مع الشّرح الكبير : أمّا التّلقين بعد الدّفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئا ، ولا أعلم فيه للأئمّة قولا سوى ما رواه الأثرم ، فقال : ما رأيت أحدا فعل هذا إلّا أهل الشّام حين مات أبو المغيرة ، جاء إنسان فقال ذلك .
وفي كلّ ذلك تفصيل ، ينظر في ( موت ، جنازة ، احتضار ) .
تلقين المقرّ في الحدود :
6 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّه يسنّ للإمام أو لمن ينوب عنه أن يلقّن المقرّ الرّجوع عن الإقرار في الحدود درءا للحدّ ، لما روي « أنّ ماعزا لمّا أقرّ بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالزّنى لقّنه الرّجوع ، فقال عليه الصلاة والسلام : لعلّك قبّلت ، أو غمزت ، أو نظرت » ، « وقال لرجل سرق : أسرقت ؟ ما إخالك سرقت ؟ } . واختار بعض المالكيّة الأخذ بالاستفسار تعلّقا بما في بعض طرق الحديث الوارد في الزّنى . وللفقهاء تفصيل ينظر في : ( إقرار . حدّ ) .
تلقين الخصم والشّاهد :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين حجّته ، لأنّه بذلك يكسر قلب الخصم الآخر ، ولأنّ فيه إعانة أحد الخصمين فيوجب التّهمة ، غير أنّه إن تكلّم أحدهما أسكت الآخر ليفهم كلامه .
8 - وأمّا بالنّسبة للشّاهد فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز تلقينه في الجملة ، بل يتركه يشهد بما عنده ، فإن أوجب الشّرع قبوله قبله ، وإلا ردّه ، وقال أبو يوسف : لا بأس بتلقين الشّاهد بأن يقول : أتشهد بكذا وكذا ؟ .
وجه قوله : أنّ من الجائز أنّ الشّاهد يلحقه الحصر لمهابة مجلس القضاء فيعجز عن إقامة الحجّة ، فكان التّلقين تقويما لحجّة ثابتة فلا بأس به .
مواطن البحث :
9 - يتكلّم الفقهاء عن التّلقين في مواطن متعدّدة كالجنازة ، والقضاء ، والشّهادة ،والإقرار. وانظر التّفصيل في تلك المصطلحات .(187/1)
تمتّع *
التّعريف :
1 - التّمتّع في اللّغة : الانتفاع ، والمتاع هو كلّ شيء ينتفع به ، وما يتبلّغ به من الزّاد . والمتعة اسم من التّمتّع ، ومنه متعة الحجّ ومتعة الطّلاق ، ونكاح المتعة .
وفي الاصطلاح يطلق التّمتّع على معنيين :
أوّلاً : بمعنى متعة النّكاح وهو العقد على امرأة إلى مدّة معلومة أو مجهولة ، وهو باطل بلا خلاف بين الأئمّة ، لأنّه لا يراد به مقاصد النّكاح ، وتفصيله في مصطلح : ( متعة ) .
وثانياً : بمعنى المتعة بالعمرة إلى الحجّ ، وهو عند الحنفيّة أن يفعل أفعال العمرة أو أكثرها في أشهر الحجّ ، وأن يحجّ من عامه ذلك من غير أن يلمّ بأهله إلماما صحيحا - والإلمام الصّحيح النّزول في وطنه من غير بقاء صفة الإحرام - ويحرم للحجّ من الحرم .
وعند المالكيّة هو أن يحرم بعمرة ويتمّمها في أشهر الحجّ ، ثمّ يحجّ بعدها في عامه .
وعند الشّافعيّة هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ من ميقات بلده أو غيره ، ويفرغ منها ، ثمّ ينشئ حجّا من عامه دون أن يرجع إلى الميقات للإحرام بالحجّ .
وعند الحنابلة هو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحجّ ثمّ يحرم بالحجّ من عامه من مكّة أو قريب منها . وسمّي متمتّعا لتمتّعه بعد تمام عمرته بالنّساء والطّيب وغيرهما ممّا لا يجوز للمحرم ، ولترفّقه وترفّهه بسقوط أحد السّفرين .
هذا هو معنى التّمتّع الّذي يقابل القران والإفراد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإفراد :
2 - الإفراد في الاصطلاح هو أن يهلّ بالحجّ وحده ، ويحرم به منفرداً .
وتفصيله في مصطلح : ( إفراد ) .
ب - القران :
3 - القران في اللّغة : اسم مصدر من قرن بمعنى جمع ، وفي الاصطلاح هو أن يهلّ بالحجّ ، والعمرة من الميقات ، أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ على خلاف ينظر في مصطلح : ( قران )
المفاضلة بين التّمتّع والإفراد والقران :
4 - قال المالكيّة والشّافعيّة : الإفراد أفضل ، لحديث جابر وعائشة رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ القران أفضل - وهذا رواية عن أحمد إذا ساق الهدي - لقوله تعالى : { وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ } وإتمامهما أن يحرم من دويرة أهله ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّ قارناً » . ولحديث أنس قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لبّيك عمرة وحجّا » ، ولأنّ القارن يجمع بين العبادتين بامتداد إحرامهما ، والمشقّة فيه أكثر ، فيكون الثّواب في القران أتمّ وأكمل .
وصرّح الحنابلة - وهو قول عند المالكيّة والشّافعيّة - بأنّ التّمتّع أفضل من الإفراد والقران إذا لم يسق هديا ، وممّن روي عنه اختيار التّمتّع ابن عمر وابن عبّاس وابن الزّبير وعائشة وكثير من التّابعين لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لمّا طافوا بالبيت أن يحلّوا ويجعلوها عمرة » .
فَنَقْلُ النّبيّ إيّاهم من الإفراد والقران إلى التّمتّع يدلّ على أفضليّة التّمتّع .
أركان التّمتّع :
5 - التّمتّع جمع بين نسكي العمرة والحجّ بإحرامين : إحرام من الميقات للعمرة ، وإحرام من مكّة للحجّ ، ولذلك فأركان التّمتّع هي أركان العمرة والحجّ معا فيجب عليه بعد الإحرام الطّواف والسّعي للعمرة ، ثمّ بعد الإحرام للحجّ يجب عليه الإتيان بأركان وأعمال الحجّ كالمفرد ، كما هو مبيّن في مصطلح : ( حجّ ) .
وهناك شروط خاصّة للتّمتّع ذكرها الفقهاء كما يأتي :
شروط التّمتّع :
أ - تقديم العمرة على الحجّ :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ المتمتّع يشترط عليه أن يحرم بالعمرة قبل الإحرام بالحجّ ، ويأتي بأعمالها قبل أن يحرم بالحجّ ، فلو أحرم بالعمرة والحجّ معا من الميقات أو أدخل الحجّ على العمرة قبل الشّروع في أعمالهما يصبح قارناً .
إلا أنّ الحنفيّة قالوا : إذا طاف للعمرة أربعة أشواط قبل الإحرام بالحجّ صحّ تمتّعه .
ب - أن تكون العمرة في أشهر الحجّ :
7 - يشترط للمتمتّع أن تكون عمرته في أشهر الحجّ ، فإن اعتمر في غير أشهر الحجّ وحلّ منها قبل أشهر الحجّ ثمّ أحرم بالحجّ لا يكون متمتّعا . وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء . إلا أنّ الحنفيّة أعطوا الأكثر حكم الكلّ فقالوا : لو طاف للعمرة أربعة أشواط في أشهر الحجّ يعتبر متمتّعا وإن وقع الإحرام والأشواط الثّلاثة قبل أشهر الحجّ .
وقال المالكيّة : يشترط فعل بعض ركن العمرة ولو شوطا من السّعي في وقت الحجّ .
فمن أدّى شوطاً من السّعي وحلّ من عمرته في أشهر الحجّ ثمّ حجّ من عامه فهو متمتّع . وإن حلّ من عمرته قبل أشهر الحجّ فليس بمتمتّع .
أمّا الحنابلة والشّافعيّة في قول - فاشترطوا أن يكون الإحرام بالعمرة وأعمالها في أشهر الحجّ ، فلو أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتّعاً ، وإن وقعت أفعالها في أشهر الحجّ ، لأنّه أتى بالإحرام - وهو نسك لا تتمّ العمرة إلا به - في غير أشهر الحجّ فلم يكن متمتّعا كما لو طاف في غير أشهر الحجّ .
والقول الآخر للشّافعيّة أنّه لو أحرم بالعمرة في غير أشهر الحجّ وأتى بأفعالها في أشهر الحجّ يجب عليه دم التّمتّع ، لأنّ عمرته في الشّهر الّذي يطوف فيه ، واستدامة الإحرام في أشهر الحجّ بمنزلة ابتدائه فيها .
ج - كون الحجّ والعمرة في عام واحد :(188/1)
8 - يشترط في التّمتّع أن تؤدّى العمرة والحجّ في سنة واحدة ، فإن اعتمر في أشهر الحجّ ولم يحجّ ذلك العام بل حجّ العام القابل فليس بمتمتّع وإن بقي حراما إلى السّنة الثّانية وذلك لقوله تعالى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ } وهذا يقتضي الموالاة بينهما ، ولما روى سعيد بن المسيّب قال : كان أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحجّ فإذا لم يحجّوا من عامهم ذلك لم يهدوا .
وهذا الشّرط محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
د - عدم السّفر بين العمرة والحجّ :
9 - اختلفت عبارات الفقهاء في بيان هذا الشّرط :
فقال الحنفيّة : يشترط أن يكون طواف العمرة كلّه أو أكثره والحجّ في سفر واحد ، فإن عاد المتمتّع إلى بلده بعد العمرة ولم يكن ساق الهدي بطل تمتّعه ، لأنّه ألمّ بأهله إلماما صحيحا فانقطع حكم السّفر الأوّل . ولو رجع إلى أهله قبل إتمام الطّواف ثمّ عاد وحجّ ، فإن كان أكثر الطّواف في السّفر الأوّل لم يكن متمتّعا ، وإن كان أكثره في الثّاني كان متمتّعا .
وقال المالكيّة : يشترط عدم رجوعه بعد عمرته إلى بلده أو إلى مثل بلده في البعد عن مكّة ، فإذا رجع لم يكن متمتّعا ولو كان بلده في أرض الحجاز .
وأمّا إذا رجع إلى أقلّ من بلده ثمّ حجّ فإنّه يكون متمتّعا إلا أن يكون بلده بعيدا كتونس ، فإنّ هذا إذا رجع إلى مصر بعد فعل عمرته وقبل حجّه وعاد وأحرم بالحجّ لا يكون متمتّعا .
وقال الشّافعيّة : يشترط أن لا يعود لإحرام الحجّ إلى الميقات ، فإن رجع إلى الميقات فأحرم للحجّ لا يكون متمتّعا ولم يلزمه الدّم .
وقال الحنابلة : يشترط أن لا يسافر بين العمرة والحجّ سفرا بعيدا تقصر في مثله الصّلاة . والأصل في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : إذا اعتمر في أشهر الحجّ ثمّ أقام فهو متمتّع ، فإن خرج ورجع فليس بمتمتّع .
هـ - التّحلّل من العمرة قبل الإحرام بالحجّ :
10 - يشترط للمتمتّع أن يحلّ من العمرة قبل إحرامه بالحجّ ، فإن أدخل الحجّ على العمرة قبل حلّه منها فيكون قارنا وليس متمتّعاً ، وهذا الشّرط متّفق عليه بين الفقهاء ، إلا أنّ الحنفيّة قالوا : إنّ هذا الشّرط لمن لم يسق الهدي ، أمّا من ساق الهدي فلا يحلّ من إحرام العمرة إلى أن يحرم يوم التّروية أو قبله للحجّ كما يحرم أهل مكّة ، فإذا حلق يوم النّحر حلّ من الإحرامين .
و - أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام :
11 - لا خلاف بين الفقهاء أنّ دم التّمتّع لا يجب على حاضري المسجد الحرام فلا تمتّع لهم ، إذ قد نصّ اللّه تعالى في كتابه بقوله سبحانه : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ } .
ولأنّ حاضري المسجد الحرام ميقاتهم مكّة فلا يحصل لهم التّرفّه بترك أحد السّفرين ، ولأنّ المتمتّع من تكون عمرته ميقاتيّة وحجّته مكّيّة ولا كذلك حاضرو المسجد الحرام .
المراد بحاضري المسجد الحرام :
12 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ حاضري المسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبين مكّة " وفي قول عند الشّافعيّة من بينه وبين الحرم " دون مسافة قصر .
وقال الحنفيّة : المراد بحاضري المسجد الحرام أهل مكّة ومن في حكمهم من أهل داخل المواقيت .
وقال المالكيّة : هم مقيمو مكّة ومقيمو ذي طوى .
والعبرة بالتّوطّن ، فلو استوطن المكّيّ المدينة مثلا فهو آفاقيّ ، وبالعكس مكّيّ .
فإن كان للمتمتّع مسكنان أحدهما بعيد ، والآخر قريب اعتبر في كونه من الحاضرين أو غيرهم كثرة إقامته بأحدهما عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو قول القاضي من الحنابلة .
فإن استوت إقامته بهما فليس بمتمتّع عند الحنفيّة ، واعتبر الأهل والمال عند الشّافعيّة والحنابلة باعتبار الأكثريّة .
وقال المالكيّة : لو كان للمتمتّع أهلان أهل بمكّة وأهل بغيرها ، فالمذهب استحباب الهدي ولو غلبت إقامته في أحدهما .
هذا وإذا دخل الآفاقيّ مكّة متمتّعا ناويا الإقامة بها بعد تمتّعه فعليه دم اتّفاقا بين الفقهاء .
ز - عدم إفساد العمرة أو الحجّ :
13 - ذكر الحنفيّة وهو رواية عن أحمد - أنّ من شروط التّمتّع عدم إفساد العمرة أو الحجّ ، فإذا أفسدها لا يعتبر متمتّعا ، وليس عليه دم التّمتّع ، لأنّه لم يحصل له التّرفّه بسقوط أحد السّفرين .
والمشهور عند الحنابلة أنّه إذا أفسد القارن والمتمتّع نسكيهما لم يسقط الدّم عنهما ، قال ابن قدامة : وبه قال مالك والشّافعيّ ، لأنّه ما وجب في النّسك الصّحيح وجب في الفاسد . هذا وقد ذكر بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّه يشترط لوجوب الدّم أن ينوي التّمتّع في ابتداء العمرة أو أثنائها ، ولم يعتبره الآخرون .
14 - ولا يعتبر وقوع النّسكين عن شخص واحد ، فلو اعتمر لنفسه وحجّ عن غيره أو عكسه أو فعل ذلك عن اثنين كان عليه دم التّمتّع لظاهر الآية ، وهذا عند جمهور الفقهاء . وقال المالكيّة : في شرط كونهما عن شخص واحد تردّد ، أنكره ابن عرفة وخليل في مناسكه ، وقال ابن الحاجب : الأشهر اشتراطه .
هذا وقد ذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّ هذه الشّروط معتبرة لوجوب الدّم لا لكونه متمتّعا ، ولهذا يصحّ التّمتّع والقران من المكّيّ في المشهور عندهم . وفي وجه عند الشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة أنّها تشترط لكونه متمتّعا ، فلو فات شرط لا يكون متمتّعا .
سوق الهدي هل يمنع التّحلّل ؟
15 - قال مالك والشّافعيّ ، وهو رواية عند الحنابلة : المتمتّع إذا فرغ من أعمال العمرة يتحلّل ، ساق الهدي أم لم يسق .(188/2)
وصرّح الحنفيّة بأنّ للمتمتّع إن شاء أن يسوق الهدي - وهو أفضل - وفي هذه الحالة إذا دخل مكّة طاف وسعى للعمرة ولا يتحلّل ، ثمّ يحرم بالحجّ يوم التّروية أو قبله كما يحرم أهل مكّة . لقوله صلى الله عليه وسلم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وتحلّلت منها » وهذا ينفي التّحلّل عند سوق الهدي فإذا حلق يوم النّحر حلّ من الإحرامين وذبح دم التّمتّع .
وعدم التّحلّل لمن يسوق الهدي هو مذهب الحنابلة أيضاً في المشهور عندهم .
لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء منه حتّى يقضي حجّه » .
وجوب الهدي في التّمتّع :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب الهدي على المتمتّع وذلك بنصّ القرآن الكريم .
قال تعالى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ }
والهدي الواجب شاة أو بقرة أو بعير أو سبع البقرة أو البعير عند جمهور الفقهاء .
وقال مالك هو بدنة ولا يصحّ سبع بعير أو بقرة .
ووقت وجوبه إحرامه بالحجّ عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو المشهور عند المالكيّة . وفي رواية عندهم وقت وجوبه الوقت الّذي يتعيّن فيه نحره . ووقت ذبحه وإخراجه يوم النّحر عند الجمهور ، ويجوز ذبحه بعد أعمال العمرة ولو قبل الإحرام بالحجّ في الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو الصّحيح عند المالكيّة .
وفي رواية عن أحمد أنّه إن قدّم المتمتّع الهدي قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه ، وإن قدّم في العشر لم ينحر إلا يوم النّحر . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( هدي ) .
بدل الهدي :
17 - اتّفق الفقهاء على أنّ المتمتّع إذا لم يجد الهدي بأن فقده أو ثمنه أو وجده بأكثر من ثمن مثله ، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعة إذا رجع ، وذلك لقوله تعالى :
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } .
وتعتبر القدرة في موضعه ، فمتى عدمه في موضعه جاز له الانتقال إلى الصّيام وإن كان قادرا على الهدي في بلده .
هذا ولا يلزم التّتابع في الصّيام بدل الهدي عند الفقهاء . قال ابن قدامة : لا نعلم فيه مخالفاً. ويندب تتابع الثّلاثة ، وكذا السّبعة عند بعض الفقهاء منهم الشّافعيّة .
وقت الصّيام ومكانه :
أوّلاً - صيام الأيّام الثّلاثة :
18 - جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّ الوقت المختار لصيام الثّلاثة هو أن يصومها ما بين إحرامه بالحجّ ويوم عرفة ، ويكون آخر أيّامها يوم عرفة ، وعلى ذلك يستحبّ له تقديم الإحرام بالحجّ قبل يوم التّروية ليكمل الثّلاثة يوم عرفة ، لأنّ الصّوم بدل الهدي فيستحبّ تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل .
ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يكون الثّلاثة قبل يوم عرفة ، لأنّ صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحبّ . ولا يجوز تقديم الثّلاثة أو يوم منها على الإحرام بالحجّ عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو قول زفر من الحنفيّة لقوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ } ولأنّ الصّوم عبادة بدنيّة فلا يجوز تقديمها على وقت وجوبها كسائر الصّيام الواجب ، ولأنّ ما قبله لا يجوز فيه الدّم فلم يجز بدله .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز تقديم الثّلاثة على الإحرام بالحجّ بعد الإحرام بالعمرة ، وفي رواية عن أحمد إذا حلّ من العمرة .
والدّليل على ذلك أنّ إحرام العمرة أحد إحرامي التّمتّع فجاز الصّوم بعده كإحرام الحجّ .
وأمّا قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ } فالمراد به وقته أو أشهر الحجّ ، لأنّ نفس الحجّ - وهي أفعال معلومة - لا يصلح أن يكون ظرفا لفعل آخر وهو الصّوم .
وأمّا تقديم الصّوم على إحرام العمرة فلا يجوز اتّفاقا لعدم وجود السّبب .
وإن فاته الصّوم حتّى أتى يوم النّحر صام أيّام منى عند المالكيّة - وهو الظّاهر عند الحنابلة - وقال الشّافعيّة : وهو رواية أخرى عند الحنابلة يصومها بعد أيّام التّشريق ، لأنّه صوم مؤقّت فيقضى ، والأظهر عندهم أن يفرّق في قضائها بينها وبين السّبعة بقدر أربعة أيّام
- يوم النّحر وأيّام التّشريق - ومدّة إمكان السّير إلى أهله على العادة الغالبة .
وقال الحنفيّة : لا يجزئه إلّا الدّم ، لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّوم في هذه الأيّام ، ولأنّ الصّوم بدل عن الهدي ولا نظير له في الشّرع ، ولأنّ الإبدال ثبت شرعا على خلاف القياس ، لأنّه لا مماثلة بين الدّم والصّوم فلا يثبت إلا بإثبات الشّارع ، والنّصّ خصّه بوقت الحجّ ، فإذا فات وقته فات هو أيضا فيظهر حكم الأصل وهو الدّم على ما كان .
ثانياً - صيام الأيّام السّبعة :
19 - يصوم المتمتّع سبعة أيّام إذا رجع من الحجّ ليكمل العشرة ، لقوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ } ، والأفضل أن يصوم السّبعة بعد رجوعه إلى أهله ، لما روى ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله » ويجوز صيامها بمكّة بعد فراغه من الحجّ عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - وهو قول عند الشّافعيّة ، إذ المراد من الرّجوع الفراغ من الحجّ ، لأنّه سبب الرّجوع إلى أهله ، فكان الأداء بعد السّبب .
وقال الشّافعيّة في الأظهر : لا يجوز صيامها إلا بعد الرّجوع إلى وطنه وأهله لقوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ } ، فلا يجوز صومها في الطّريق أو في مكّة إلا إذا أراد الإقامة بها .(188/3)
ثالثاً - القدرة على الهدي بعد الشّروع في الصّيام :
20 - من دخل في الصّيام ثمّ قدر على الهدي لم يكن عليه الخروج من الصّوم إلى الهدي إلا أن يشاء ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة .
وقال الحنفيّة : إن وجد الهدي بعد صوم يومين بطل صومه ، ويجب الهدي ، وبعد التّحلّل لا يجب كالمتيمّم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصّلاة .
أمّا المالكيّة فقد فصّلوا في الموضوع وقالوا : إن أيسر بعد الشّروع في الصّوم وقبل إكمال اليوم يجب عليه الرّجوع للهدي ، وإن أيسر بعد إتمام اليوم وقبل إكمال الثّالث يستحبّ له الرّجوع ، وإن أيسر بعد الثّالث يجوز له التّمادي على الصّوم والرّجوع .(188/4)
تمر *
التّعريف :
1 - التّمر : هو اليابس من ثمر النّخل يترك على النّخل بعد إرطابه حتّى يجفّ أو يقارب الجفاف ، ثمّ يقطع ويترك في الشّمس حتّى ييبس . وجمعه تمور وتمران ،ويراد به الأنواع.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّطب :
2 - هو ثمر النّخل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمّر .
ب - البسر :
3 - هو ثمر النّخل إذا أخذ في الطّول والتّلوّن إلى الحمرة أو الصّفرة .
ج - البلح :
4 - هو ثمر النّخل ما دام أخضر قريباً إلى الاستدارة ، إلى أن يغلظ النّوى ، وأهل البصرة يسمّونه الخلال . قال ابن الأثير في بيان تسلسل ثمر النّخل : إنّ أوّله طلع ، ثمّ خلال ، ثمّ بلح ، ثمّ بسر ، ثمّ رطب ، ثمّ تمر .
الحكم الإجماليّ :
5 - يفرّق الفقهاء بين التّمر والرّطب ، وكذلك بين الرّطب والبسر والبلح في بعض الأحكام الفقهيّة : كاشتراط وصف التّمر بالجديد والعتيق لصحّة السّلم ، وعدم اشتراط وصف الرّطب بهما . وتفصيل تقديم الرّطب على التّمر في الإفطار عند جمهور الفقهاء .
فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة استحباب الإفطار على التّمر ، ويكون ترتيبه في الأفضليّة بعد الرّطب وقبل الماء . لحديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء »
وعند الحنفيّة يستحبّ الإفطار على شيء حلو مطلقاً سواء أكان تمرا أم غيره .
وفي الحلف كما إذا حلف لا يأكل هذا الرّطب فصار تمرا فأكله ، أو حلف لا يأكل من هذا البسر فصار رطبا فأكله ، أو كما إذا حلف أنّه لا يأكل تمرا ، فأكل بسراً ، أو بلحاً ،أو رطباً.
ففي كلّ خلاف وتفصيل ينظر في مواطنه ، ومصطلحات : ( سلم ، صوم ، أيمان ) .
ولا يجوز بيع الرّطب بالتّمر عند الأئمّة الثّلاثة وأبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وبه قال سعد بن أبي وقّاص ، وسعيد بن المسيّب ، واللّيث وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك . واستثنى الأئمّة الثّلاثة بيع العرايا ، فأجازوه بشروطه .
ولتفصيل ذلك يرجع إلى مواطنه . وإلى مصطلحات ( بيع ، ربا ، عرايا ) .
6 - أجمع الفقهاء على أنّ التّمر ممّا تجب فيه الزّكاة ، واختلفوا في نصابه ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة وسائر أهل العلم إلى أنّ النّصاب معتبر في التّمر كغيره من الثّمار ، وهو خمسة أوسق ، وقال مجاهد وأبو حنيفة ومن تابعه : تجب الزّكاة في قليل ذلك وكثيره .
وفي الكلام عن باقي مسائل زكاة التّمر تفصيل يرجع إلى موطنه وإلى مصطلح " زكاة " .
7 - وأجمعوا على أنّ التّمر يجزئ في الفطرة ومقدارها منه صاع ، وفي فضل التّمر على غيره في إخراج زكاة الفطر خلاف ينظر في باب الزّكاة عند الكلام عن إخراج زكاة الفطر . مواطن البحث :
تعرّض الفقهاء للكلام على التّمر في البيع ، والرّبا ، والسّلم ، واليمين ، ويرجع فيه إلى مواطنه وإلى مصطلحات : ( بيع ، سلم ، يمين ) .(189/1)
تنجيس *
التّعريف :
1 - التّنجيس مصدر نجّس . يقال : نجّس الشّيء إذا ألحق به نجاسة ، أو نسبه إليها . وإذا أطلق النّجس - بفتحتين - في الشّرع فهو يعمّ بالإضافة إلى النّجاسة الحقيقيّة الّتي هي الخبث ، النّجاسة الحكميّة الّتي هي الحدث ، فالنّجس أعمّ من النّجاسة .
قال صاحب العناية : كما يطلق " النّجس " على الحقيقيّ يطلق على الحكميّ .
وقال القليوبيّ : النّجاسة إمّا حكميّة بأن جاوزت محلّها كالجنابة ، وإمّا عينيّة لم تجاوزه وهذه تطلق على الأعيان النّجسة وعلى الوصف القائم بمحلّها .
وصرّح البهوتيّ : الحدث ليس بنجاسة ، والمحدث ليس نجسا ، والنّجاسة قسمان عينيّة وحكميّة " . والحكميّة عند الحنابلة النّجاسة الطّارئة على محلّ طاهر ويقابلها النّجاسة العينيّة وهي الذّوات النّجسة كالبول . . والنّجاسة العينيّة لا تطهر بغسلها بحال .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّقذير :
2 - القذر لغة : ضدّ النّظافة . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ فالقذر عندهم أعمّ من النّجس ، فكلّ نجس قذر ولا عكس .
قال الشّربينيّ الخطيب : وأكمل الغسل إزالة القذر طاهراً كان كالمنيّ أو نجسا كالودي .
وقال الدّسوقيّ : الاستقذار علّة تقتضي النّجاسة ما لم يعارضها معارض ، كمشقّة التّكرار في نحو المخاط والبصاق .
ب - التّطهير :
3 - التّطهير مصدر طهّر ، والطّهر والطّهارة لغة : نقيض النّجاسة ، والطّهارة النّزاهة والنّظافة عن الأقذار . والتّطهير شرعاً : رفع ما يمنع الصّلاة وما في معناه من حدث أو نجاسة بالماء ، أو رفع حكمه بالتّراب .
والطّهارة نوعان : طهارة كبرى ، وهي الغسل أو نائبه وهو التّيمّم عن الجنابة ، وطهارة صغرى ، وهو الوضوء أو نائبه وهو التّيمّم عن الحدث . فالتّطهير ضدّ التّنجيس .
الحكم الإجماليّ :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أكل المتنجّس أو استعماله حرام في الجملة ، ولا يحلّ إلا بتطهّره أو تطهيره . وكيفيّة تطهير المتنجّس تختلف باختلاف المنجّس .
فإن كان المنجّس كلباً فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يطهر المتنجّس إلا بغسله سبعاً إحداهنّ بالتّراب . واشترط الشّافعيّة التّراب في التّطهير من نجاسة الكلب فلا يقوم غيره مقامه ، وذهب الحنابلة إلى قيام الأشنان والصّابون وغيرهما من المنظّفات مقام التّراب ولو مع وجوده وعدم تضرّر المحلّ به . وقد ألحق الشّافعيّة والحنابلة الخنزير بالكلب في وجوب غسل المتنجّس به سبعا إحداهنّ بالتّراب .
وخصّ المالكيّة الغسل سبعا بما إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء فقط ، ولا يشترط التّتريب عندهم ، وأمّا إذا أدخل الكلب رجله أو لسانه بلا تحريك في الإناء ، أو كان الإناء فارغا ولعقه الكلب فلا يستحبّ غسله عندهم ، والحكم بالغسل سبعا تعبّديّ عند المالكيّة وذلك لأنّهم يقولون بطهارة الكلب .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المتنجّس بريق الكلب كالمتنجّس بغيره من النّجاسات ، وذلك لأنّ الكلب عندهم ليس بنجس العين بل نجاسته بنجاسة لحمه ودمه ، وأمّا شعره فطاهر .
وإن كان المنجّس بول صبيّ لم يطعم غير لبن الآدميّة فإنّه يطهر عند الجمهور بالنّضح ، ولم يفرّق الحنفيّة بين بول الصّبيّ وغيره من النّجاسات .
5 - وأمّا إن كان المنجّس غير الكلب والخنزير المغلّظة نجاستها وبول الصّبيّ الّذي لم يطعم غير اللّبن نظر ، فإن كانت النّجاسة مرئيّة على المتنجّس فلا يطهر المحلّ إلا بغسلها وزوال عينها ، ويجب كذلك أن يزول الأثر ، إن كان ممّا يزول أثره ، فإن عسر لم يشترط زواله غير الطّعم فيجب إزالته سواء عسر زواله أم لا ، وأمّا اللّون والرّيح فلا يشترط زوالهما إن عسرا ، سواء بقي أحدهما أو بقيا معا ، وذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم : إلى عدم طهارة المتنجّس إن بقي اللّون والرّيح معا لقوّة دلالتهما على بقاء العين .
6 - وإن كانت النّجاسة غير مرئيّة على المتنجّس فذهب الحنفيّة إلى عدم طهارتها إلا بالغسل ولو دون الثّلاث وهو مفوّض إلى غالب رأيه وأكبر ظنّه بأنّها طهرت وليست الغسلات الثّلاث بلازمة ، وذهب المالكيّة إلى أنّه إذ ميّز موضع النّجاسة من الثّوب والبدن غسله وحده ، وإن لم يميّز غسل الجميع .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكفي في التّطهير في هذه الحالة جري الماء على موضع النّجاسة . ولم يفرّق الحنابلة في أصل المذهب بين النّجاسة المرئيّة وغيرها وقالوا : بوجوب الغسل سبعا ، وإن لم ينقّ المحلّ المتنجّس بالسّبع زاد حتّى ينقّى المحلّ ، لكن نصّ أحمد في رواية أبي داود واختاره في المغني أنّه لا يجب في الغسل عدد اعتمادا على أنّه لم يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم شيء في غير الكلب لا في قوله ولا في فعله والعبرة بالإنقاء . وعند الجمهور إنّ منيّ الآدميّ طاهر ، ويجب غسله رطبا وفركه يابساً ، وعند الحنفيّة نجس ولكن يطهر بالحكّ والفرك إذا أصاب الثّوب وكان جافّا ، أمّا إن كان رطبا فلا بدّ من غسله . 7 - ثمّ هناك من المتنجّسات ما لا يمكن تطهيره كالزّيت والدّهن المائع واللّبن والعسل وغيرها من الموائع غير الماء إذا وقعت فيها نجاسة .
وعند الحنفيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة يمكن تطهيره ، وذلك بأن يصبّ فيه ماء بقدره حتّى يعود إلى مكانه ، والدّهن يصبّ عليه الماء فيغلي فيعلو الدّهن الماء فيرفع بشيء ، يفعل هكذا ثلاث مرّات . أمّا إن كان الدّهن جامداً ووقعت فيه نجاسة فإنّه يقوّر مكان النّجاسة وما حولها ، وقد توسّع الحنفيّة في المطهّرات كثيرا حتّى أوصلوها إلى نيّف وثلاثين .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( نجاسة ) .(190/1)
تنجيس *
التّعريف :
1 - التّنجيس مصدر نجّس . يقال : نجّس الشّيء إذا ألحق به نجاسة ، أو نسبه إليها . وإذا أطلق النّجس - بفتحتين - في الشّرع فهو يعمّ بالإضافة إلى النّجاسة الحقيقيّة الّتي هي الخبث ، النّجاسة الحكميّة الّتي هي الحدث ، فالنّجس أعمّ من النّجاسة .
قال صاحب العناية : كما يطلق " النّجس " على الحقيقيّ يطلق على الحكميّ .
وقال القليوبيّ : النّجاسة إمّا حكميّة بأن جاوزت محلّها كالجنابة ، وإمّا عينيّة لم تجاوزه وهذه تطلق على الأعيان النّجسة وعلى الوصف القائم بمحلّها .
وصرّح البهوتيّ : الحدث ليس بنجاسة ، والمحدث ليس نجسا ، والنّجاسة قسمان عينيّة وحكميّة " . والحكميّة عند الحنابلة النّجاسة الطّارئة على محلّ طاهر ويقابلها النّجاسة العينيّة وهي الذّوات النّجسة كالبول . . والنّجاسة العينيّة لا تطهر بغسلها بحال .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّقذير :
2 - القذر لغة : ضدّ النّظافة . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ فالقذر عندهم أعمّ من النّجس ، فكلّ نجس قذر ولا عكس .
قال الشّربينيّ الخطيب : وأكمل الغسل إزالة القذر طاهراً كان كالمنيّ أو نجسا كالودي .
وقال الدّسوقيّ : الاستقذار علّة تقتضي النّجاسة ما لم يعارضها معارض ، كمشقّة التّكرار في نحو المخاط والبصاق .
ب - التّطهير :
3 - التّطهير مصدر طهّر ، والطّهر والطّهارة لغة : نقيض النّجاسة ، والطّهارة النّزاهة والنّظافة عن الأقذار . والتّطهير شرعاً : رفع ما يمنع الصّلاة وما في معناه من حدث أو نجاسة بالماء ، أو رفع حكمه بالتّراب .
والطّهارة نوعان : طهارة كبرى ، وهي الغسل أو نائبه وهو التّيمّم عن الجنابة ، وطهارة صغرى ، وهو الوضوء أو نائبه وهو التّيمّم عن الحدث . فالتّطهير ضدّ التّنجيس .
الحكم الإجماليّ :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أكل المتنجّس أو استعماله حرام في الجملة ، ولا يحلّ إلا بتطهّره أو تطهيره . وكيفيّة تطهير المتنجّس تختلف باختلاف المنجّس .
فإن كان المنجّس كلباً فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يطهر المتنجّس إلا بغسله سبعاً إحداهنّ بالتّراب . واشترط الشّافعيّة التّراب في التّطهير من نجاسة الكلب فلا يقوم غيره مقامه ، وذهب الحنابلة إلى قيام الأشنان والصّابون وغيرهما من المنظّفات مقام التّراب ولو مع وجوده وعدم تضرّر المحلّ به . وقد ألحق الشّافعيّة والحنابلة الخنزير بالكلب في وجوب غسل المتنجّس به سبعا إحداهنّ بالتّراب .
وخصّ المالكيّة الغسل سبعا بما إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء فقط ، ولا يشترط التّتريب عندهم ، وأمّا إذا أدخل الكلب رجله أو لسانه بلا تحريك في الإناء ، أو كان الإناء فارغا ولعقه الكلب فلا يستحبّ غسله عندهم ، والحكم بالغسل سبعا تعبّديّ عند المالكيّة وذلك لأنّهم يقولون بطهارة الكلب .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المتنجّس بريق الكلب كالمتنجّس بغيره من النّجاسات ، وذلك لأنّ الكلب عندهم ليس بنجس العين بل نجاسته بنجاسة لحمه ودمه ، وأمّا شعره فطاهر .
وإن كان المنجّس بول صبيّ لم يطعم غير لبن الآدميّة فإنّه يطهر عند الجمهور بالنّضح ، ولم يفرّق الحنفيّة بين بول الصّبيّ وغيره من النّجاسات .
5 - وأمّا إن كان المنجّس غير الكلب والخنزير المغلّظة نجاستها وبول الصّبيّ الّذي لم يطعم غير اللّبن نظر ، فإن كانت النّجاسة مرئيّة على المتنجّس فلا يطهر المحلّ إلا بغسلها وزوال عينها ، ويجب كذلك أن يزول الأثر ، إن كان ممّا يزول أثره ، فإن عسر لم يشترط زواله غير الطّعم فيجب إزالته سواء عسر زواله أم لا ، وأمّا اللّون والرّيح فلا يشترط زوالهما إن عسرا ، سواء بقي أحدهما أو بقيا معا ، وذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم : إلى عدم طهارة المتنجّس إن بقي اللّون والرّيح معا لقوّة دلالتهما على بقاء العين .
6 - وإن كانت النّجاسة غير مرئيّة على المتنجّس فذهب الحنفيّة إلى عدم طهارتها إلا بالغسل ولو دون الثّلاث وهو مفوّض إلى غالب رأيه وأكبر ظنّه بأنّها طهرت وليست الغسلات الثّلاث بلازمة ، وذهب المالكيّة إلى أنّه إذ ميّز موضع النّجاسة من الثّوب والبدن غسله وحده ، وإن لم يميّز غسل الجميع .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكفي في التّطهير في هذه الحالة جري الماء على موضع النّجاسة . ولم يفرّق الحنابلة في أصل المذهب بين النّجاسة المرئيّة وغيرها وقالوا : بوجوب الغسل سبعا ، وإن لم ينقّ المحلّ المتنجّس بالسّبع زاد حتّى ينقّى المحلّ ، لكن نصّ أحمد في رواية أبي داود واختاره في المغني أنّه لا يجب في الغسل عدد اعتمادا على أنّه لم يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم شيء في غير الكلب لا في قوله ولا في فعله والعبرة بالإنقاء . وعند الجمهور إنّ منيّ الآدميّ طاهر ، ويجب غسله رطبا وفركه يابساً ، وعند الحنفيّة نجس ولكن يطهر بالحكّ والفرك إذا أصاب الثّوب وكان جافّا ، أمّا إن كان رطبا فلا بدّ من غسله . 7 - ثمّ هناك من المتنجّسات ما لا يمكن تطهيره كالزّيت والدّهن المائع واللّبن والعسل وغيرها من الموائع غير الماء إذا وقعت فيها نجاسة .
وعند الحنفيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة يمكن تطهيره ، وذلك بأن يصبّ فيه ماء بقدره حتّى يعود إلى مكانه ، والدّهن يصبّ عليه الماء فيغلي فيعلو الدّهن الماء فيرفع بشيء ، يفعل هكذا ثلاث مرّات . أمّا إن كان الدّهن جامداً ووقعت فيه نجاسة فإنّه يقوّر مكان النّجاسة وما حولها ، وقد توسّع الحنفيّة في المطهّرات كثيرا حتّى أوصلوها إلى نيّف وثلاثين .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( نجاسة ) .(191/1)
تنزيه *
التّعريف :
1 - التّنزيه عن المكروه : التّبعيد عنه .
وتنزيه اللّه تعالى : تبعيده عمّا لا يجوز عليه من النّقائص ، وأصل النّزه : البعد .
والتّنزّه : التّباعد ومنه فلان يتنزّه عن الأقذار : أي يباعد نفسه عنها .
قال صاحب القاموس : وأرض نزهة ونزهة ونزيهة : بعيدة عن الرّيف وغمق المياه وذبّان القرى وومد البحار وفساد الهواء .
ومثل التّنزيه التّقديس والتّكريم ومنه اسمه تعالى " القدّوس " ومنه " الأرض المقدّسة " .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للكلمة عن معناها اللّغويّ .
الحكم التّكليفيّ :
1 - تنزيه اللّه تعالى :
2 - أجمعت الأمّة وتواترت الأدلّة على تنزيه اللّه تعالى عن الشّريك ، وعن الولد ، والوالد ، والزّوج ، وعلى أنّ كلّ من أشرك مع اللّه إلها آخر فهو كافر . قال تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ له بِهِ فَإنَّمَا حِسَابُه عِنْدَ رَبِّهِ إنَّه لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ } .
وقال تعالى : { قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَم يَكُنْ له كُفْواً أحَد } .
وقال تعالى { وَأنَّه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدَاً } .
3 - كما اتّفق أهل الملّة على أنّ اللّه تعالى ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، موصوف بصفات الكمال ، منزّه عن صفات النّقص { لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهو السَّمِيعُ البَصِيرُ } قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات اللّه بشيء ، بل يصفه بما وصف به نفسه ، واعتقاد اتّصاف اللّه - عزّ وجلّ - بالنّقص صريحا كفر ، وأمّا اعتقاد أمر يلزم منه النّقص أو يفهم بطريق الاجتهاد فمختلف فيه ، لأنّ لازم القول ليس بقول . وجمهور الفقهاء ، والمتكلّمين قالوا : هم فسّاق عصاة ضلّال .
4 - واتّفق الفقهاء على أنّ المسلم إذا سبّ اللّه يقتل ، لأنّه بذلك كافر مرتدّ ، وأسوأ من الكافر ، فإنّ الكافر يعظّم الرّبّ ، ويعتقد أنّ ما هو عليه من الدّين الباطل ليس باستهزاء باللّه ولا مسبّة له .
واختلف في قبول توبته ، والجمهور على قبولها .
وكذا من سخر باسم من أسماء اللّه تعالى ، أو بأمره ، أو بوعده ، أو وعيده كفر .
وأمّا الذّمّيّ ، فقد قال ابن تيميّة : الّذي عليه عامّة المتقدّمين - أي من أصحاب الإمام أحمد - ومن تبعهم من المتأخّرين إقرار نصوص أحمد على حالها وهو قد نصّ في مسائل سبّ اللّه ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع ، وعلى أنّه يقتل وفي ذلك تفصيل يرجع إليه في مصطلح ( سبّ ) .
2 - تنزيه الأنبياء : عليهم الصلاة والسلام :
أ - عن الخطأ أو الكذب في الرّسالة :
5 - أجمعت الأمّة على أنّ الرّسل والأنبياء معصومون عن الكذب والخيانة - ولو قلّت - والعصمة لهم واجبة . وأنّه لا يصحّ ولا يجوز عليهم ألا يبلّغوا ما أنزل إليهم ، أو يخبروا عن شيء منه بخلاف ما هو به ، لا قصداً وعمداً ، ولا سهواً ، وغلطا فيما يبلّغ .
أمّا تعمّد الخلف في ذلك فمنتف ، بدليل المعجزة القائمة مقام قول اللّه فيما قال - اتّفاقا - وبإطباق أهل الملّة - إجماعا - وكذا لا يجوز وقوعه على جهة الغلط - إجماعا - .
والنّبيّ معصوم عن الكذب في أقواله في أمور الدّنيا ، لأنّ الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار - على أيّ وجه كان - استريب بخبره واتّهم في حديثه ، ولم يقع قوله في النّفوس موقعاً .
ب - تنزيه الأنبياء عن السّبّ والاستهزاء :
6 - كلّ من سبّ نبيّا من الأنبياء ، أو عابه ، أو ألحق به نقصا في نفسه ، أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرّض به ، أو شبّهه بشيء على طريق السّبّ له ، أو الإزراء به ، أو التّصغير لشأنه ، أو الغضّ منه ، أو العيب له ، فهو كافر .
وكذلك من لعنه ، أو دعا عليه ، أو تمنّى مضرّة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذّمّ ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ، ومنكر من القول وزور ، أو عيّره بشيء ممّا جرى من البلاء والمحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشريّة الجائزة والمعهودة لديه .
قال إسحاق بن راهويه : أجمع المسلمون على أنّ من سبّ اللّه ، أو رسولا من رسله ، أو دفع شيئاً ممّا أنزل اللّه - عزّ وجلّ - أو قتل نبيّا من أنبياء اللّه - عزّ وجلّ - أنّه كافر بذلك ، وإن كان مقرّاً بكلّ ما أنزل اللّه .
والسّابّ إن كان مسلما فإنّه يكفر ويقتل بغير خلاف ، وهو مذهب الأئمّة الأربعة وغيرهم ، وإن كان ذمّيّا فإنّه يقتل عند الجمهور ، وقال الحنفيّة : لا يقتل ،ولكن يعزّر على إظهار ذلك. وللتّفصيل ينظر مصطلح ( سبّ ) .
تنزيه الملائكة :
7 - أجمع المسلمون على أنّ الملائكة مؤمنون مكرّمون ، واتّفق أئمّة المسلمين على أنّ حكم المرسلين منهم حكم النّبيّين في العصمة والتّبليغ .
واختلفوا في غير المرسلين منهم ، والصّواب عصمة جميعهم ، وتنزيه مقامهم الرّفيع عن جميع ما يحطّ من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم .
وأدلّتهم في ذلك قوله تعالى { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، وقوله
{ يَخَافُونَ رَبَّهم مِنْ فَوقِهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ } ، وقوله عزّ وجلّ { وَمَنْ عِنْدَه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } .
قال القاضي عياض : من سبّ أحدا من الملائكة المنصوص عليهم أو جملتهم يقتل .
تنزيه القرآن الكريم :
أ - تنزيه القرآن عن التّحريف والتّبديل :(192/1)
8 - القرآن محفوظ عن التّحريف والتّبديل باتّفاق المسلمين ، قال تعالى : { إنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا له لَحَافِظُونَ } ، وقال عزّ من قائل { لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وقال سبحانه وتعالى { وَلَو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيه اخْتِلافَاً كَثِيراً } .
فمن جحد حرفا من القرآن أو آية ، أو كذّب به أو بشيء منه ، أو كذّب بشيء ممّا صرّح به فيه من حكم أو خبر ، أو أثبت ما نفاه ، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك ، أو شكّ في شيء من ذلك فهو كافر .
ب - تنزيه القرآن عن الامتهان :
9 - من استخفّ بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه ، أو سبّ شيئاً منه ، أو ألقاه في القاذورات ، أو ألقى ورقة فيها شيء من القرآن ، أو لطّخ المصحف بنجس من غير عذر ، ولا قرينة تدلّ على عدم الاستهزاء - وإن ضعفت - فهو كافر ، بإجماع علماء المسلمين . ولا تجوز كتابة القرآن بشيء نجس ، كما يحرم على المحدث مسّ المصحف وحمله .
ج - تنزيه القرآن عن الوقوع في أيدي الكفّار :
10 - تحرم المسافرة بالمصحف إلى أرض العدوّ إذا خيف وقوعه في أيديهم لحديث الصّحيحين « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ » . ويحرم بيع المصحف من الكافر .
تنزيه كتب التّفسير والحديث والعلوم الشّرعيّة :
11 - يجب تنزيه كتب التّفسير والحديث والعلوم الشّرعيّة عن الامتهان .
فمن ألقى ورقة فيها شيء من علم شرعيّ ، أو فيها اسم اللّه تعالى ، أو اسم نبيّ ، أو ملك ، في نجاسة ، أو لطّخ ذلك بنجس - ولو معفوّا عنه - حكم بكفره ، إذا قامت الدّلالة على أنّه أراد الإهانة للشّرع . ورأى بعض الفقهاء وجوب صيانة كتب العلم الشّرعيّ عن الوقوع بأيدي الكفّار - سواء ببيع أو غيره - خوفاً عليها من الامتهان .
والمسألة خلافيّة ويرجع إليها في أبواب الجهاد والبيع .
تنزيه الصّحابة :
12 - قال السّيوطيّ : الصّحابة كلّهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً } أي عدولاً ، وقال تعالى : { كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } والخطاب فيها للموجودين حينئذ ، وقال صلى الله عليه وسلم : « خير النّاس قرني » . قال إمام الحرمين : والسّبب في عدم الفحص عن عدالتهم : أنّهم حملة الشّريعة ، فلو ثبت توقّف في روايتهم لانحصرت الشّريعة على عصره صلى الله عليه وسلم ولمّا استرسلت على سائر الأعصار ، وقيل : يجب البحث عن عدالتهم مطلقاً ، وقيل : بعد وقوع الفتن . وقالت المعتزلة : عدول إلا من قاتل عليّاً ، وقيل : إذا انفرد ، وقيل : إلا المقاتِل والمقاتَل ، وهذا كلّه ليس بصواب إحساناً للظّنّ بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد المأجور فيه كلّ منهم .
وقال المازريّ في شرح البرهان : لسنا نعني بقولنا : الصّحابة عدول " كلّ من رآه صلى الله عليه وسلم يوما ما أو زاره لماما ، أو اجتمع به لغرض وانصرف ، وإنّما نعني به الّذين لازموه وعزّروه ونصروه . قال العلائيّ : وهذا قول غريب يخرج كثيرا من المشهورين بالصّحبة والرّواية عن الحكم بالعدالة ، كوائل بن حجر ، ومالك بن الحويرث ، وعثمان بن أبي العاص وغيرهم ، ممّن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم عنده إلا قليلا وانصرف ، وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ومن لم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل ، والقول بالتّعميم هو الّذي صرّح به الجمهور وهو المعتبر . وفي المسألة تفصيلات أخرى تنظر في الملحق الأصوليّ .
وقال ابن حمدان الحنبليّ : يجب حبّ كلّ الصّحابة ، والكفّ عمّا جرى بينهم - كتابة ، وقراءة ، وإقراء ، وسماعاً ، وتسميعا - ويجب ذكر محاسنهم ، والتّرضّي عنهم ، والمحبّة لهم ، وترك التّحامل عليهم ، واعتقاد العذر لهم ، وأنّهم إنّما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفراً ولا فسقاً ، بل ربّما يثابون عليه ، لأنّه اجتهاد سائغ .
13 - وسبّ آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه ، وتنقّصهم حرام .
قال صلى الله عليه وسلم : « اللّه اللّه في أصحابي ، لا تتّخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني ، فقد آذى اللّه ، ومن آذى اللّه يوشك أن يأخذه » .
وقال السّبكيّ والزّركشيّ من الشّافعيّة : وينبغي أن يكون الخلاف فيما إذا سبّه لأمر خاصّ به . أمّا لو سبّه لكونه صحابيّاً فينبغي القطع بتكفيره ، لأنّ ذلك استخفاف بحقّ الصّحبة ، وفيه تعريض بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
واختلفوا في كفر من سبّ الشّيخين ، ومذهب الحنفيّة تكفير من سبّ الشّيخين أو أحدهما ، ومذهب الجمهور على خلافه .
قال أبو زرعة الرّازيّ : إذا رأيت الرّجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعلم أنّه زنديق ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عندنا حقّ ، والقرآن حقّ ، وإنّما أدّى إلينا هذا القرآن والسّنن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وإنّما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسّنّة ، والجرح أولى بهم ، وهم زنادقة .
تنزيه نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم :(192/2)
14 - من قذف عائشة بما برّأها اللّه منه كفر بلا خلاف ، وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد من الأئمّة . روي عن مالك أنّه قال : من سبّ أبا بكر جلد ، ومن سبّ عائشة قتل ، قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن ، لأنّ اللّه تعالى قال : { يَعِظُكُمْ اللَّهُ أنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أبَدَاً إنْ كُنْتُم مُؤمِنينَ } .
وهل تعتبر سائر زوجات الرّسول صلى الله عليه وسلم كعائشة ؟ فيه قولان :
أحدهما : أنّه كسابّ غيرهنّ من الصّحابة .
الثّاني : أنّه من قذف واحدة من أمّهات المؤمنين فهو كقذف عائشة ، وذلك لأنّ هذا فيه عار وغضاضة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهنّ بعده قال تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه لَعَنَهم اللَّهُ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ } .
واختار الثّاني جمهور العلماء .
تنزيه مكّة المكرّمة :
15 - يتأكّد وجوب ترك المعاصي في مكّة المكرّمة وحرمها ، لأنّ المعصية أشدّ فيها من غيرها لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيه بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ } .
قال مجاهد : تضاعف السّيّئات بمكّة كما تضاعف الحسنات . ويجب تنزيهها عن القتال فيها قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ، ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخّص لقتال رسول اللّه فيه ، فقولوا إنّ اللّه عزّ وجلّ أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنّما أذن لي فيها ساعة من نهار ، ثمّ عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس » .
16 - ويجب تنزيهها عن حمل السّلاح لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السّلاح » .
17 - ويجب تنزيهها عن دخول الكفّار . قال تعالى : { إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الكافر لا يمكّن من دخول حرم مكّة ، لا مقيماً ولا مارّاً به .
ومذهب الحنفيّة أنّه يمنع الكافر من استيطان مكّة ، ولكن لو دخل بتجارة جاز ولا يطيل .
تنزيه المدينة المنوّرة :
18 - يجب تنزيه المدينة عن إرادة أهلها بسوء فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه اللّه في النّار ذوب الرّصاص أو ذوب الملح في الماء » . ويجب تنزيهها عن الإحداث فيها : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين » .
تنزيه المساجد عن النّجاسات والقاذورات :
19 - اتّفق الفقهاء من حيث الجملة على وجوب تنزيه المساجد عن النّجاسات والقاذورات. فلا يجوز إدخال النّجاسة إلى المسجد ، أو أن يدخله من على بدنه أو ثيابه نجاسة ، أو جراحة ، وقيّده الشّافعيّة بخشية تلويث المسجد ، كما لا يجوز بناؤه بمتنجّس .
ولا يجوز البول والتّغوّط فيه لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ، ولا القذر ، إنّما هي لذكر اللّه ، والصّلاة ، وقراءة القرآن » . واختلف في اتّخاذ إناء للبول فيه في المسجد :
فالأصحّ عند الشّافعيّة المنع ، وهو عند المالكيّة جائز إذا اتّخذه البائت ليلا في المسجد إذا خاف أن يسبقه البول قبل خروجه من المسجد ، وتحرم الحجامة والفصد فيه .
وكذلك يحرم فيه الجماع لقوله تعالى : { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُم عَاكِفُونَ في المَسَاجِدِ } . ويجوز الوضوء في المسجد إذا أمن تلويثه بغسالته ، ولا تجوز إزالة النّجاسة العالقة بالأعضاء .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى عدم حرمة الفُساء في المسجد ، والأولى اجتنابه لقوله صلى الله عليه وسلم : « فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم » .
وذهب المالكيّة إلى التّحريم حملاً للحديث عليه . ولا يجوز البصاق في المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم : « البزاق في المسجد خطيئة وكفّارتها دفنها » .
ويكره إدخال الرّوائح الكريهة إلى المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا ، أو فليعتزل مساجدنا » .
وتفصيل هذه الأحكام في مصطلحي : ( مسجد ونجاسة ) .
تنزيه المساجد عن دخول الجنب والحائض :
20 - اتّفق الفقهاء - من حيث الجملة - على تحريم دخول الجنب والحائض المسجد وتحريم مكثهما فيه .
واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولونَ وَلا جُنُبَاً إلا عَابِرِي سَبِيلٍ } . أي لا تقربوا موضع الصّلاة وهو المسجد حالة السّكر والجنابة . كما استدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها : « جاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابنا شارعة في المسجد فقال : وجّهوا هذه البيوت عن المسجد ثمّ دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد فقال : وجّهوا هذه البيوت عن المسجد فإنّي لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب » .
واختلف الفقهاء في جواز مرور الحائض والجنب من المسجد :
فذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو قول سفيان الثّوريّ وإسحاق بن راهويه إلى تحريم مرور الحائض والجنب في المسجد . واستدلّوا بإطلاق حديث عائشة المتقدّم حيث لم يقيّد التّحريم بشيء فبقي على إطلاقه فيفيد تحريم المكث والمرور .
إلا أنّه يباح لهما المرور للضّرورة كالخوف على النّفس والمال .(192/3)
وحملوا قوله تعالى : { وَلا جُنُبَاً إلا عَابِرِي سَبِيلٍ } على المسافر الّذي لا يجد الماء فيتيمّم . والمراد بكلمة " إلا " في الآية " لا " أي : لا عابري سبيل ." والصّلاة " في الآية المقصود بها حقيقتها لا مواضعها . وعند الحنفيّة إذا اضطرّ لدخول المسجد أو المكث فيه لخوف تيمّم وجوبا . نقل ابن عابدين عن العناية : مسافر مرّ بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا يجد غيره ، فإنّه يتيمّم لدخول المسجد عندنا .
وعند الحنفيّة أيضاً لو احتلم في المسجد وأراد الخروج تيمّم ندباً ، فالحنفيّة يفرّقون بين الدّخول في المسجد والخروج منه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز مرور الجنب في المسجد لحاجة أو لغير حاجة .
والأولى عدم العبور إلا لحاجة خروجاً من خلاف أبي حنيفة . وكذلك جواز مرور الحائض بشرط أن تأمن تلويث المسجد فإن خافت تلويثه حرم عليها المرور .
وبجواز مرور الجنب في المسجد قال عبد اللّه بن مسعود وابن عبّاس وسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وسعيد بن جبير وعمرو بن دينار ومحمّد بن سلمة .
واستدلّوا بقوله تعالى : { وَلا جُنُبَاً إلا عَابِرِي سَبِيلٍ } أي لا تقربوا مواضع الصّلاة لأنّه ليس في الصّلاة عبور سبيل إنّما العبور في موضع الصّلاة وهو المسجد .
كما استدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه قال : كان أحدنا يمرّ في المسجد جنباً مجتازاً وفي حديث عائشة : « إنّ حيضتك ليست في يدك » .
وذهب المزنيّ وابن المنذر وزيد بن أسلم إلى جواز مكث الجنب في المسجد مطلقاً . مستدلّين بحديث أبي هريرة « المسلم لا ينجس » وبأنّ المشرك يمكث في المسجد ، فالمسلم الجنب أولى ، وبأنّ الأصل عدم التّحريم وليس لمن حرّم دليل صحيح صريح .
وينظر تفصيل الأحكام في مصطلح : ( مسجد ، جنابة ، حيض ) .
تنزيه المساجد عن الخصومة ورفع الصّوت :
21 - تكره الخصومة في المسجد ، ورفع الصّوت ، ونشدان الضّالّة ، والبيع ، والإجارة ، ونحوها من العقود ، لحديث أبي هريرة « من سمع رجلاً ينشد ضالّة في المسجد فليقل : لا ردّها اللّه عليك ، فإنّ المساجد لم تبن لهذا » . وفي رواية « إذا رأيتم من يبيع ، أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح اللّه تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالّة فقولوا : لا ردّها اللّه عليك » . وقد اختلف العلماء في هذه المسائل بين كراهة وتحريم ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( مسجد ) .
تنزيه المساجد عن المجانين والصّبيان :
22 - يكره إدخال البهائم ، والمجانين ، والصّبيان الّذين لا يميّزون المسجد ، لأنّه لا يؤمن تلويثهم إيّاه . ولا يحرم ذلك لأنّه ثبت في الصّحيحين « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى حاملاً أمامة بنت زينب رضي الله عنهما وكذلك طاف على بعير » .
وهناك أحكام أخرى كثيرة تتعلّق بتنزيه المساجد تنظر في مصطلح : ( مسجد )(192/4)
تنشيف *
التّعريف :
1 - التّنشيف لغة مصدر نشّف ، يقال : نشّف الماء تنشيفاً أخذه بخرقة ونحوها .
قال ابن الأثير : أصل النّشف دخول الماء في الأرض والثّوب ، يقال نشفت الأرض الماء تنشّفه نشفاً : شربته ، ومنه الحديث « كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم نشّافة ينشّف بها غسالة وجهه » يعني منديلاً يمسح بها وضوءه .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ، فقالوا : المراد بالتّنشيف أخذ الماء بخرقة مثلاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّجفيف :
2 - التّجفيف لغة معناه التّيبيس ، وهو مستعمل عند الفقهاء بنفس المعنى .
والفرق بين التّنشيف والتّجفيف ، أنّ التّنشيف يكون غالبا بتشرّب الماء بخرقة أو صوفة ونحوهما ، أمّا التّجفيف فيكون بذلك وبغيره كالمسح بالتّراب ، والوضع في الشّمس أو الظّلّ وما إلى ذلك ، فالتّجفيف أعمّ من التّنشيف .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّنشيف بعد الوضوء والغسل : لا بأس بالتّنشيف والمسح بالمنديل أو الخرقة بعد الوضوء والغسل ، بهذا قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة ، وحكى ابن المنذر إباحة التّنشيف عن عثمان بن عفّان والحسين بن عليّ وأنس بن مالك وبشر بن أبي مسعود والحسن البصريّ وابن سيرين وعلقمة والأسود ومسروق والضّحّاك والثّوريّ وإسحاق . واستدلّ القائلون بجواز التّنشيف بعدّة أحاديث منها : حديث أمّ هانئ عند الشّيخين « قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة ثمّ أخذ ثوبه فالتحف به » وهذا ظاهر في التّنشيف .
وحديث قيس بن سعد « أتانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوضعنا له ماء فاغتسل ، ثمّ أتيناه بملحفة ورسيّة فاشتمل بها فكأنّي أنظر إلى أثر الورس على عكنه » . وحديث سلمان أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « توضّأ فقلب جبّة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه » . وحديث أبي بكر « كانت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم خرقة يتنشّف بها بعد الوضوء » وحديث أبي مريم إياس بن جعفر عن رجل من الصّحابة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضّأ » .
وكره التّنشيف بعد الوضوء والغسل ابن أبي ليلى وسعيد بن المسيّب والنّخعيّ ومجاهد وأبو العالية ، واستدلّوا بما رواه ابن شاهين في النّاسخ والمنسوخ من حديث أنس « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء » ولا أبو بكر ولا عمر ولا ابن مسعود .
وحكي كراهته عن ابن عبّاس في الوضوء دون الغسل . ونهى عنه جابر بن عبد اللّه .
المفاضلة بين التّنشيف وتركه بعد الوضوء :
4 - اختلف القائلون بجواز التّنشيف في المفاضلة بين فعله وتركه بعد الوضوء على النّحو التّالي : ذهب المالكيّة والحنابلة - وهو أصحّ أقوال الشّافعيّة - إلى أفضليّة ترك التّنشيف لحديث ميمونة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اغتسل قالت : فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض بيده » . هذا إذا لم يحتج إليه لخوف برد أو التصاق نجاسة أو نحوه وإلا فلا يسنّ تركه . قال الأذرعيّ : بل يتأكّد سنة إذا خرج عقب الوضوء في محلّ النّجاسات عند هبوب الرّيح وكذا لو آلمه شدّة برد الماء أو المرض أو الجرح أو كان يتيمّم أثره أو نحوها . ويرى الحنفيّة والشّافعيّة في قول أفضليّة التّنشيف والتّمسّح بمنديل بعد الوضوء .
وتنظر التّفاصيل في ( غسل ، ووضوء ) .
تنشيف الميّت :
5 - يندب تنشيف الميّت بخرقة طاهرة قبل إدراجه في الكفن لئلا تبتلّ أكفانه فيسرع إليه الفساد ، وفي حديث « أمّ سليم فإذا فرغت منها فألق عليها ثوباً نظيفاً » وذكر القاضي في حديث ابن عبّاس في « غسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال فجفّفوه بثوب » .
وللتّفصيل ينظر ( ر : تكفين ) .(193/1)
تنعيم *
التّعريف :
1 - التّنعيم موضع في الحلّ في شمال مكّة الغربيّ ، وهو حدّ الحرم من جهة المدينة المنوّرة . قال الفاسيّ : المسافة بين باب العمرة وبين أعلام الحرم في هذه الجهة الّتي في الأرض لا الّتي على الجبل اثنا عشر ألف ذراع وأربعمائة ذراع وعشرون ذراعا بذراع اليد. وإنّما سمّي التّنعيم بهذا الاسم لأنّ الجبل الّذي عن يمين الدّاخل يقال له ناعم والّذي عن اليسار يقال له منعم أو نعيم والوادي نعمان .
الأحكام المتعلّقة بالتّنعيم :
2 - أجمع الفقهاء على أنّ المعتمر المكّيّ لا بدّ له من الخروج إلى الحلّ ثمّ يحرم من الحلّ ليجمع في النّسك بين الحلّ والحرم ، وهذا بخلاف الحاجّ المكّيّ ومن في حكمه فإنّه يحرم من منزله ، وعلّلوه بأنّه يخرج إلى عرفة وهي من الحلّ فيجمع بذلك بين الحلّ والحرم . والمراد بالمكّيّ هو من كان بمكّة سواء أكان من أهلها أم لا .
ثمّ اختلفوا في أفضل بقاع الحلّ للاعتمار :
فذهب المالكيّة وجمهور الشّافعيّة - وهو أحد وجهين عند الحنابلة - إلى أنّ أفضل البقاع من أطراف الحلّ لإحرام العمرة الجعرانة ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة » . ولبعدها عن مكّة ، ثمّ يلي الجعرانة في الفضل التّنعيم ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تعتمر منها » .
وزاد الشّافعيّة والحنابلة بعد التّنعيم الحديبية لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم همّ بالاعتمار منها فصدّه الكفّار . وقال الحنفيّة والحنابلة في وجه وأبو إسحاق الشّيرازيّ من الشّافعيّة : إنّ أفضل جهات الحلّ التّنعيم فالإحرام منه للعمرة أفضل من الإحرام لها من الجعرانة ، وذلك « لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرّحمن بن أبي بكر بأن يذهب بأخته عائشة إلى التّنعيم لتحرم منه » . والدّليل القوليّ مقدّم - عندهم - على الدّليل الفعليّ .
قال الطّحاويّ وذهب قوم إلى أنّه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكّة إلا التّنعيم ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت الّتي للحجّ .
قال ابن سيرين : بلغني « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل مكّة التّنعيم » .
ثمّ قال الطّحاويّ : وخالفهم آخرون فقالوا : ميقات العمرة الحلّ وإنّما أمر عائشة بالإحرام من التّنعيم لأنّه كان أقرب الحلّ إلى مكّة . ثمّ روي « عن عائشة في حديثها أنّها قالت : فكان أدنانا من الحرم التّنعيم فاعتمرت منه » .
قال فثبت بذلك أنّ التّنعيم وغيره سواء في ذلك . أي في الإجزاء .(194/1)
الخلاصة في أحكام التهجد
ففي الموسوعة الفقهية
إحْيَاءُ اللَّيْلِ التَّعْرِيفُ :
1 - الْإِحْيَاءُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ حَيًّا , وَيُرِيدُ الْفُقَهَاءُ مِنْ قَوْلِهِمْ : " إحْيَاءُ اللَّيْلِ " قَضَاءَ اللَّيْلِ أَوْ أَكْثَرَهُ بِالْعِبَادَةِ , كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْمُدَّةُ هِيَ أَكْثَرُ اللَّيْلِ , وَيَكُونُ الْعَمَلُ عَامًّا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - قِيَامُ اللَّيْلِ : 2 - الْمُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَغْرِقًا لِأَكْثَرِ اللَّيْلِ , بَلْ يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ سَاعَةٍ مِنْهُ . أَمَّا الْعَمَلُ فِيهِ فَهُوَ الصَّلَاةُ دُونَ غَيْرِهَا . وَقَدْ يُطْلِقُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ عَلَى إحْيَاءِ اللَّيْلِ . فَقَدْ قَالَ فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ : مَعْنَى الْقِيَامِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا مُعْظَمَ اللَّيْلِ بِطَاعَةٍ , وَقِيلَ سَاعَةً مِنْهُ , يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَسْبِقُهُ نَوْمٌ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ لَا يَسْبِقُهُ نَوْمٌ . ب - التَّهَجُّدُ : 3 - التَّهَجُّدُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ نَوْمٍ . وَلَكِنْ يُطْلِقُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ مُطْلَقًا .
-----------------
تهجّد *
التّعريف :
1 - التّهجّد في اللّغة : من الهجود ويطلق على النّوم والسّهر . يقال هجد : نام باللّيل فهو هاجد والجمع هجود مثل : راقد ورقود وقاعد وقعود .
وهجد . صلّى باللّيل ، ويقال : تهجّد : إذا نام . وتهجّد : إذا صلّى فهو من الأضداد .
وفي لسان العرب : قال الأزهريّ : المعروف في كلام العرب أنّ الهاجد هو النّائم . هجد هجودا إذا نام . وأمّا المتهجّد فهو القائم إلى الصّلاة من النّوم . وكأنّه قيل له متهجّد لإلقائه الهجود عن نفسه .
وقد فسّرت عائشة رضي الله عنها وابن عبّاس رضي الله عنهما ومجاهد { نَاشِئَةَ اللَّيلِ } بالقيام للصّلاة بعد النّوم ، فيكون موافقا للتّهجّد .
وفي الاصطلاح : هو صلاة التّطوّع في اللّيل بعد النّوم .
وقال أبو بكر بن العربيّ : في معنى التّهجّد ثلاثة أقوال :
الأوّل : أنّه النّوم ثمّ الصّلاة ثمّ النّوم ثمّ الصّلاة .
الثّاني : أنّه الصّلاة بعد النّوم .
والثّالث : أنّه بعد صلاة العشاء . ثمّ قال عن الأوّل : إنّه من فهم التّابعين الّذين عوّلوا على « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينام ويصلّي ، وينام ويصلّي » .
والأرجح عند المالكيّة الرّأي الثّاني .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - قيام اللّيل :
2 - الأصل في قيام اللّيل أن يطلق على الاشتغال فيه بالصّلاة دون غيرها .
وقد يطلق على الاشتغال بمطلق الطّاعة من تلاوة وتسبيح ونحوهما .
وقيام اللّيل قد يسبقه نوم بعد صلاة العشاء وقد لا يسبقه أمّا التّهجّد فلا يكون إلا بعد نوم .
ب - إحياء اللّيل :
3 - المراد بإحياء اللّيل قضاؤه أو أكثره بالعبادة كالصّلاة ، والذّكر ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك ، فبينهما عموم وخصوص وجهيّ ، فالإحياء أخصّ لشموله اللّيل كلّه أو أكثره ، والتّهجّد أخصّ لكونه بالصّلاة دون غيرها . وتفصيله في مصطلح ( إحياء اللّيل ) .
حكمه :
4 - التّهجّد مسنون في حقّ الأمّة لقوله تعالى : { وَمِن اللَّيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لكَ } .
أي فريضة زائدة على الفريضة بالنّسبة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على التّهجّد ، ولما ورد في شأنه من الأحاديث الدّالّة على سنّيّته ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بصلاة اللّيل ، فإنّه دأب الصّالحين قبلكم ، وقربة إلى ربّكم ، ومكفّرة للسّيّئات ، ومنهاة عن الإثم » .
وقوله عليه الصلاة والسلام :« أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل »والمراد بها التّهجّد.
وأمّا في حقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد اختلف العلماء في وجوبه أو نفله على قولين : ينظر في مصطلح : ( اختصاص ) .
وقته :
5 - أفضل أوقات التّهجّد جوف اللّيل الآخر لما روى عمرو بن عبسة قال : « قلت : يا رسول اللّه : أيّ اللّيل أسمع ؟ قال : جوف اللّيل الآخر فصلّ ما شئت » .
فلو جعل اللّيل نصفين أحدهما للنّوم والآخر للقيام فالأخير أفضل ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الأخير فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » متّفق عليه .
قال الحنفيّة والشّافعيّة : لو أراد أن يجعله أثلاثا فيقوم ثلثه وينام ثلثيه ، فالثّلث الأوسط أفضل من طرفيه ، لأنّ الغفلة فيه أتمّ ، والعبادة فيه أفضل والمصلّين فيه أقلّ .(195/1)
ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ذاكر اللّه في الغافلين مثل الشّجرة الخضراء في وسط الشّجر » والأفضل مطلقاً عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة السّدس الرّابع والخامس من اللّيل ، لما روى عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أحبّ الصّلاة إلى اللّه عزّ وجلّ صلاة داود عليه السلام كان ينام نصف اللّيل ويقوم ثلثه وينام سدسه » . وأمّا المالكيّة فأفضله عندهم ثلثه الأخير لمن تكون عادته الانتباه آخر اللّيل ، أمّا من كان غالب حاله أن لا ينتبه آخره بأن كان غالب أحواله النّوم إلى الصّبح ، فالأفضل أن يجعله أوّل اللّيل احتياطا .
عدد ركعاته :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ أقلّها ركعتان خفيفتان لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قام أحدكم من اللّيل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين » . واختلفوا في أكثرها فقال الحنفيّة : منتهى ركعاته ثماني ركعات .
قال ابن الهمام : الظّاهر « أنّ أقلّ تهجّده صلى الله عليه وسلم كان ركعتين ، وأنّ منتهاه كان ثماني ركعات » وستأتي الرّوايات الدّالّة على ذلك .
وقال المالكيّة : أكثره عشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة فقد روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي باللّيل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة » وروي أنّه كان يصلّي فيه اثنتي عشرة ركعة ثمّ يوتر بواحدة . ينظر في مصطلح : ( اختصاص ) .
وقال الشّافعيّة : لا حصر لعدد ركعاته وهو ما يؤخذ من عبارات فقهاء الحنابلة .
لخبر : « الصّلاة خير موضوع من شاء أقلّ ومن شاء أكثر » .
ركعات تهجّده صلى الله عليه وسلم :
7 - قال ابن قدامة : اختلف في عدد ركعات تهجّده صلى الله عليه وسلم فروي أنّه ثلاث عشرة ركعة لما روى ابن عبّاس قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعة » أخرجه مسلم .
وقالت عائشة : « ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثمّ يصلّي أربعا فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ، ثمّ يصلّي ثلاثاً » . وفي لفظ قالت : « كانت صلاته في شهر رمضان وغيره باللّيل ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر » وفي لفظ : « منها الوتر وركعتا الفجر » .
وفي لفظ « كان يصلّي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر » . وفي لفظ « كان يصلّي فيما بين العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلّم من كلّ ركعتين ويوتر بواحدة » .
ترك التّهجّد لمعتاده :
8 - يكره لمن اعتاد التّهجّد أن يتركه بلا عذر « لقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمرو يا عبد اللّه لا تكن مثل فلان كان يقوم من اللّيل فترك قيام اللّيل » متّفق عليه .
وقوله صلى الله عليه وسلم « أحبّ الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلّ »
وقول عائشة رضي الله عنها : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى صلاة داوم عليها » هذا وتفصيل ذلك كلّه وما عداه ممّا هو متّصل به من صفة صلاته وما يقوله المتهجّد إذا قام من اللّيل يتهجّد وما يقرأ في تهجّده ، وإسراره بالقراءة وجهره بها ، وهل تهجّده في البيت أفضل منه في المسجد أو العكس ، وإيقاظه من يطمع في تهجّده إذا لم يخف ضررا ، وهل إطالة القيام أفضل من تكثير الرّكعات أو العكس ، تفصيل ذلك كلّه يرجع إليه في بحثي : ( قيام اللّيل ، وإحياء اللّيل ) .
------------------(195/2)
( صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ ) التَّعْرِيفُ : 1 - تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الصَّلَاةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي مُصْطَلَحِ : ( صَلَاةٌ ) . وَالتَّرَاوِيحُ : جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ , أَيْ تَرْوِيحَةٌ لِلنَّفْسِ , أَيْ اسْتِرَاحَةٌ , مِنْ الرَّاحَةِ وَهِيَ زَوَالُ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ , وَالتَّرْوِيحَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْجِلْسَةِ مُطْلَقَةً , وَسُمِّيَتْ الْجِلْسَةُ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِالتَّرْوِيحَةِ لِلِاسْتِرَاحَةِ , ثُمَّ سُمِّيَتْ كُلُّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَرْوِيحَةً مَجَازًا , وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِالتَّرَاوِيحِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِيهَا وَيَجْلِسُونَ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ . وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ : هِيَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ , مَثْنَى مَثْنَى , عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهَا , وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهَا . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( إحْيَاءُ اللَّيْلِ ) : 2 - إحْيَاءُ اللَّيْلِ , وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا قِيَامَ اللَّيْلِ , هُوَ : إمْضَاءُ اللَّيْلِ , أَوْ أَكْثَرِهِ فِي الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . ( ر : إحْيَاءُ اللَّيْلِ ) . وَإِحْيَاءُ اللَّيْلِ : يَكُونُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ , وَيَكُونُ بِأَيٍّ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَلَيْسَ بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ . أَمَّا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فَتَكُونُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً . ب - التَّهَجُّدُ : 3 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ : مِنْ الْهُجُودِ , وَيُطْلَقُ الْهُجُودُ عَلَى النَّوْمِ وَعَلَى السَّهَرِ , يُقَالُ : هَجَدَ إذَا نَامَ بِاللَّيْلِ , وَيُقَالُ أَيْضًا هَجَدَ : إذَا صَلَّى اللَّيْلَ , فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ , وَيُقَالُ : تَهَجَّدَ إذَا أَزَالَ النَّوْمَ بِالتَّكَلُّفِ . وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ : صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ . وَالتَّهَجُّدُ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ , فِي أَيِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ . أَمَّا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ النَّوْمِ , وَهِيَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً . ج - التَّطَوُّعُ : 4 - التَّطَوُّعُ هُوَ : مَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا , وَسُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى , وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ أَوْ النَّافِلَةِ تَنْقَسِمُ إلَى نَفْلٍ مُقَيَّدٍ وَمِنْهُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ , وَإِلَى نَفْلٍ مُطْلَقٍ أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( تَطَوُّعٌ ) . د - الْوِتْرُ : 5 - الْوِتْرُ هُوَ : الصَّلَاةُ الْمَخْصُوصَةُ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وِتْرٌ لَا شَفْعٌ .
----------------
الْأَوْقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلنَّفْلِ : 10 - النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ تُشْرَعُ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ , وَتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَفْضَلُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ , وَأَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ } وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَالَ { : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ } . وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ . وَالْأَفْضَلُ فِعْلُ الْوِتْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ , فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَوَّلِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ , وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ , فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ } اُنْظُرْ : ( صَلَاةُ الْوِتْرِ ) .
------------------(195/3)
قِيَامُ اللَّيْلِ التَّعْرِيفُ : 1 - ( الْقِيَامُ فِي اللُّغَةِ : نَقِيضُ الْجُلُوسِ ) . وَاللَّيْلُ فِي اللُّغَةِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ . وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ : قَضَاءُ اللَّيْلِ وَلَوْ سَاعَةً بِالصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا , وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لِأَكْثَرِ اللَّيْلِ . وَيَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أَنَّهُ يَحْصُلُ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ جَمَاعَةً وَالْعَزْمِ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ جَمَاعَةً , لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ , وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ } . وَجَاءَ فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ : مَعْنَى الْقِيَامِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا مُعْظَمَ اللَّيْلِ بِطَاعَةٍ , وَقِيلَ : سَاعَةً مِنْهُ , يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : ( التَّهَجُّدُ ) : 2 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْهُجُودِ , وَيُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَالسَّهَرِ : يُقَالُ : هَجَدَ : نَامَ بِاللَّيْلِ , فَهُوَ هَاجِدٌ , وَالْجَمْعُ هُجُودٌ , وَهَجَدَ : صَلَّى بِاللَّيْلِ , وَيُقَالُ تَهَجَّدَ : إذَا نَامَ , وَتَهَجَّدَ إذَا صَلَّى , فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ , وَمِنْهُ قِيلَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ : التَّهَجُّدُ . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ , هَجَدَ , هُجُودًا إذَا نَامَ , وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ , وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ مُتَهَجِّدٌ لِإِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ . وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهم , وَمُجَاهِدٌ , قوله تعالى : { نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } , بِالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ , فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلتَّهَجُّدِ . وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ : فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ التَّهَجُّدَ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ , وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ : { يَحْسِبُ أَحَدُكُمْ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ , إنَّمَا التَّهَجُّدُ : الْمَرْءُ يُصَلِّي الصَّلَاةَ بَعْدَ رَقْدَةٍ } , وَقِيلَ : إنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ مُطْلَقًا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( تَهَجُّدٌ ف 4 - 6 ) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَالتَّهَجُّدِ : أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ أَعَمُّ مِنْ التَّهَجُّدِ . الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ : 3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ , وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي فَرْضِيَّتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( اخْتِصَاصٌ ف 4 ) . كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ , قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ , وَقَدْ صَرَّحَتْ الْأَحَادِيثُ بِفَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ , كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ , فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ , وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إلَى رَبِّكُمْ , وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ , وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ } .(195/4)
مَا يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ : يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مَا يَلِي : أ - الِافْتِتَاحُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ : 14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَائِمِ اللَّيْلِ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ } , وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : { لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّيْلَةَ , فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ . . . } الْحَدِيثَ . ب - مَا يَقُولُهُ الْقَائِمُ لِلتَّهَجُّدِ : 15 - اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَقُولُهُ قَائِمُ اللَّيْلِ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ , تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ سُلَيْمَانُ الْجَمَلُ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسْتَيْقِظُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ , وَأَنْ يَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ وَلَوْ أَعْمَى وَتَحْتَ سَقْفٍ , وَأَنْ يَقْرَأَ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ . وَعَنْ عُبَادَةَ رضي الله عنه , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَعَارَّ اسْتَيْقَظَ , مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , الْحَمْدُ لِلَّهِ , وَسُبْحَانَ اللَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ , ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي , أَوْ دَعَا , اُسْتُجِيبَ لَهُ , فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ , قَالَ : اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ , أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ , وَلَك الْحَمْدُ لَك مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ , وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ , وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ , وَلَك الْحَمْدُ , أَنْتَ الْحَقُّ , وَوَعْدُك الْحَقُّ , وَلِقَاؤُك حَقٌّ , وَقَوْلُكَ حَقٌّ , وَالْجَنَّةُ حَقٌّ , وَالنَّارُ حَقٌّ , وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ , وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ , وَالسَّاعَةُ حَقٌّ , اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت , وَبِك آمَنْت , وَعَلَيْك تَوَكَّلْت , وَإِلَيْك أَنَبْت , وَبِك خَاصَمْت , وَإِلَيْك حَاكَمْت , فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت , وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت , أَنْتَ الْمُقَدِّمُ , وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ , لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَوْ لَا إلَهَ غَيْرُك } وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ : " وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " . ج - كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ : 16 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إنَّ قَائِمَ اللَّيْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا , غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا : إنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ مَا لَمْ يُؤْذِ نَائِمًا وَنَحْوَهُ , وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ , أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ , أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا , فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ , وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ , أَوْ مَنْ يَسْتَضِرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ , فَالْإِسْرَارُ أَوْلَى , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ : { سَأَلْت عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها , كَيْفَ كَانَ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ , رُبَّمَا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ , وَرُبَّمَا جَهَرَ } , وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : { كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ يَرْفَعُ طَوْرًا وَيَخْفِضُ طَوْرًا } . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْجَهْرُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ , وَإِلَّا حَرُمَ , وَالسِّرُّ فِيهَا خِلَافُ الْأَوْلَى . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يُسَنُّ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ إنْ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا . د - ( إيقَاظُ مِنْ يُرْجَى تَهَجُّدُهُ ) : 17 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَامَ يَتَهَجَّدُ أَنْ يُوقِظَ مَنْ يَطْمَعُ فِي تَهَجُّدِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ , فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا , وَالذَّاكِرَاتِ } . هـ - ( إطَالَةُ الْقِيَامِ وَتَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ ) : 18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ ,(195/5)
وَالشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , إلَى أَنَّ طُولَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ , فَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا مَثَلًا وَطَوَّلَ الْقِيَامَ أَفْضَلُ مِمَّنْ صَلَّى ثَمَانِيًا وَلَمْ يُطَوِّلْهُ , لِلْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِطُولِ الْقِيَامِ , وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ } وَالْقُنُوتُ : الْقِيَامُ . ; وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ التَّهَجُّدَ , وَكَانَ يُطِيلُهُ , وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَا يُدَاوِمُ إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ . وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ : هَذَا إنْ صَلَّى قَائِمًا , فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَالْأَقْرَبُ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ أَفْضَلُ , لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُعُودِ الَّذِي لَا مَشَقَّةَ فِيهِ , حَيْثُ زَادَتْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ بِالرُّكُوعَاتِ وَالسُّجُودَاتِ وَغَيْرِهَا . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ , وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ , فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { عَلَيْك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ , فَإِنَّك لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَك اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً , وَحَطَّ عَنْك بِهَا خَطِيئَةً } ; وَلِأَنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَآكَدُ , بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ , وَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى , بِخِلَافِ الْقِيَامِ , فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي النَّفْلِ , وَيُبَاحُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لِلْوَالِدَيْنِ , وَالْحَاكِمِ , وَسَيِّدِ الْقَوْمِ وَالِاسْتِكْثَارُ مِمَّا هُوَ آكَدُ وَأَفْضَلُ أَوْلَى . وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ , وَهُوَ : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ , لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ . و - نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ : 19 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَنْوِيَ الشَّخْصُ قِيَامَ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى , وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
----------------(195/6)
تيامن *
التّعريف :
1 - التّيامن مصدر تيامن إذا أخذ ذات اليمين ، ومثله يامن . وتيمّنت به مثل تبرّكت وزنا ومعنى . ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن أصل المعنى اللّغويّ فالتّيامن : البدء باليمين في الوضوء واللّبس ، وسقي الماء . . إلخ . ومثله التّيمّن قال ابن منظور : التّيمّن : الابتداء في الأفعال باليد اليمنى ، والرّجل اليمنى ، والجانب الأيمن .
الحكم التّكليفيّ :
2 - التّيامن سنّة لحديث عائشة رضي الله عنها « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعجبه التّيمّن في شأنه كلّه في طهوره وترجّله وتنعّله » . ويتبيّن ذلك فيما يأتي :
الغسل :
3 - تقديم الشّقّ الأيمن على الشّقّ الأيسر في الأغسال المفروضة والمسنونة سنّة لحديث عائشة السّابق . فيغسل الشّقّ الأيمن المقبل منه والمدبر ، ثمّ الأيسر كذلك .
الوضوء :
4 - التّيامن في الوضوء سنّة ، من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوءه - فيغسل يده اليمنى قبل اليد اليسرى ، والرّجل اليمنى قبل الرّجل اليسرى ، للتّأسّي بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان يفعل ذلك في وضوئه على الدّوام .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا توضّأتم فابدءوا بميامنكم » .
مسح الخفّين :
5 - الأفضل تقديم الرّجل اليمنى على اليسرى في مسح الخفّين والجوربين لحديث عائشة السّابق .
التّيمّم :
6 - تقديم اليمين على اليسار في التّيمّم سنّة . فيمسح يده اليمنى قبل اليد اليسرى لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمّار بن ياسر رضي الله عنهما قال : « بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرّغت في الصّعيد كما تتمرّغ الدّابّة ، ثمّ أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : إنّما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ، حتّى قال ثمّ ضرب بشماله على يمينه ، وبيمينه على شماله » .
دخول المسجد :
7 - يستحبّ التّيامن عند دخول المسجد والبيت ، وعند الخروج من الخلاء ، لما روي عن أنس رضي الله عنه أنّه قال : « من السّنّة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى ، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى » فيقدّم رجله اليمنى عند دخول المسجد والبيت ، وعند الخروج من الخلاء ويؤخّر رجله اليسرى .
اللّباس :
8 - يستحبّ الابتداء باليمين في اللّباس ، فيدخل كمّه الأيمن قبل الأيسر في لبس الجبّة والقميص وغيرهما ، ويدخل رجله اليمنى قبل اليسرى في لبس السّراويل ، والنّعال ، والأخفاف ، وأشباهها . لحديث عائشة رضي الله عنها السّابق .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين ، وإذا انتزع فليبدأ بالشّمال لتكن اليمنى أوّلهما تنعل وآخرهما تنزع » .
وعن حفصة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ، ويجعل شماله لما سوى ذلك » .
الصّلاة :
9 - يسنّ للمصلّي التّيامن عند التّسليم في آخر الصّلاة فيبدأ بالالتفات إلى جهة يمينه .
لما روي « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يسلّم عن يمينه السّلام عليكم ورحمة اللّه حتّى يرى بياض خدّه الأيمن وعن يساره السّلام عليكم ورحمة اللّه حتّى يرى بياض خدّه الأيسر » . ويستحبّ أيضاً الوقوف عن يمين الإمام إذا كان منفردا مع الإمام .
لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه » . فلو وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام أداره الإمام إلى اليمين .
وصرّح الحنابلة بأنّه لو أكمل ركعة من الصّلاة وهو عن يسار الإمام مع خلوّ يمينه بطلت صلاته لكن لو كبّر عن يسار الإمام ثمّ انتقل إلى يمينه قبل إتمام الرّكعة صحّت صلاته . ويستحبّ الوقوف عن يمين الصّفّ إذا كانوا جماعة لحديث البراء قال : « كنّا إذا صلّينا خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه » . ويستحبّ الصّلاة في ميمنة المسجد إذا كان يصلّي منفرداً .
الأذان :
10 - يبدأ المؤذّن في الأذان للصّلاة بالالتفات إلى يمينه عند الحيعلة الأولى وهي " حيّ على الصّلاة " ثمّ إلى اليسار عند قوله " حيّ على الفلاح " لفعل بلال رضي الله عنه ذلك . وتقدّم الأذن اليمنى على اليسرى عند الأذان في أذن المولود فيؤذّن في أذنه اليمنى أوّلا ثمّ يقيم في أذنه اليسرى ، وذلك ليسبق ذكر اللّه تعالى إلى مسامع الطّفل قبل أيّ شيء آخر ، ولما فيه من طرد الشّيطان عنه فإنّه يدبر عند سماع الأذان كما ورد في الخبر .
غسل الميّت :
11 - يستحبّ تقديم غسل الجانب الأيمن من الميّت على الجانب الأيسر ، فيغسّل شقّه الأيمن ممّا يلي القفا والظّهر إلى القدم ، ثمّ يحرفه إلى شقّه الأيمن فيغسّل شقّه الأيسر كذلك. لحديث أمّ عطيّة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهنّ في غسل ابنته زينب رضي الله عنها : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها » .
خصال الفطرة :
12 - يستحبّ تقديم اليمين في السّواك فيبدأ بجانب الفم الأيمن قبل الأيسر ، ويمسك السّواك بيده اليمنى لا اليسرى لحديث : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ التّيمّن في شأنه كلّه في طهوره وترجّله وتنعّله وسواكه » .
ويستحبّ التّيامن في تقليم الأظافر . فيقدّم تقليم أظافر اليد اليمنى على تقليم أظافر اليد اليسرى ، وأظافر الرّجل اليمنى على تقليم أظافر الرّجل اليسرى .
الحلق :(196/1)
13 - يستحبّ التّيامن في حلق الرّأس فيقدّم الشّقّ الأيمن على الشّقّ الأيسر ، ولكنّهم اختلفوا هل العبرة بيمين المحلوق أو بيمين الحالق ؟ .
فذهب الجمهور إلى أنّ العبرة بيمين المحلوق فيبدأ بشقّ رأسه الأيمن ثمّ الشّقّ الأيسر . ودليل الجمهور في ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ، ثمّ أتى منزله بمنى ونحر ، ثمّ قال للحلّاق : خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر ، ثمّ جعل يعطيه النّاس » .
وفي رواية : « لمّا رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلّاق شقّه الأيمن فحلقه ، ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاريّ رضي الله عنه فأعطاه إيّاه ، ثمّ ناوله الشّقّ الأيسر فقال : احلق : فحلقه ، فأعطاه أبا طلحة فقال : اقسمه بين النّاس » .
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّ العبرة بما على يمين الحالق وهو شقّ رأس المحلوق الأيسر
إدارة الإناء :
14 - يسنّ إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدئ بالشّرب إذا كان عنده جلساء آخرون وأراد أن يعمّم عليهم وإن كان من على يساره أفضل من الّذي على يمينه لما روي عن أنس رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابيّ ، وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه ، فشرب فقال عمر رضي الله عنه : أعط أبا بكر يا رسول اللّه فأعطى الأعرابيّ الّذي عن يمينه ثمّ قال : الأيمن فالأيمن » . ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام : واللّه يا رسول اللّه لا أوثر بنصيبي منك أحداً . فتلّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يده » . وهذا الغلام هو عبد اللّه بن عبّاس رضي الله عنهما .
النّوم :
15 - يستحبّ النّوم على الشّقّ الأيمن لثبوت ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقّه الأيمن ثمّ قال : اللّهمّ أسلمت نفسي إليك ، ووجّهت وجهي إليك ، وفوّضت أمري إليك ، وألجأت ظهري رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك . آمنت بكتابك الّذي أنزلت وبنبيّك الّذي أرسلت » . وعنه رضي الله عنه قال : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « إذا أتيت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن وقل » : وذكر نحوه : وفيه : « واجعلهنّ آخر ما تقول » .
وهناك أمور يسنّ فعلها باليمين دون اليسار إلا للضّرورة ، منها : استلام الحجر الأسود ، ورمي الجمار ، والمصافحة ، والأكل والشّرب وتفصيل كلّ ذلك في مواضعه .(196/2)
تيمّم *
التّعريف :
1 - التّيمّم لغة : القصد والتّوخّي والتّعمّد . يقال : تيمّمه بالرّمح تقصّده وتوخّاه وتعمّده دون من سواه ، ومثله : تأمّمه . ومنه قوله تعالى : { وَلا تَيَمَّمُوا الخبيثَ منه تُنْفِقُونَ } . وفي الاصطلاح : عرّفه الحنفيّة بأنّه مسح الوجه واليدين عن صعيد مطهّر ، والقصد شرط له ، لأنّه النّيّة ، فهو قصد صعيد مطهّر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة .
وعرّفه المالكيّة : بأنّه طهارة ترابيّة تشتمل على مسح الوجه واليدين بنيّة .
وعرّفه الشّافعيّة : بأنّه إيصال التّراب إلى الوجه واليدين بدلاً عن الوضوء أو الغسل ، أو بدلا عن عضو من أعضائهما بشرائط مخصوصة .
وعرّفه الحنابلة : بأنّه مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص .
مشروعيّة التّيمّم :
2 - يجوز التّيمّم في السّفر والحضر بشرطهما كما سيأتي ، وقد ثبتت مشروعيّته بالكتاب والسّنّة والإجماع . فمن الكتاب : قوله تعالى : { وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ أو جَاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ من الغَائطِ أو لامَسْتُم النِّسَاءَ فلمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّبَاً فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُمْ وَأيْديكمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَفوَّاً غَفورَاً } .
وقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّبَاً فَامْسَحُوا بِوجُوهِكمْ وَأيديكمْ منه } .
وأمّا السّنّة فحديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :
« جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » أي : له صلى الله عليه وسلم ولأمّته .
وقد أجمع المسلمون على أنّ التّيمّم مشروع بدلا عن الوضوء والغسل في أحوال خاصّة .
3 - وسبب نزول آية التّيمّم هو « ما وقع لعائشة رضي الله عنها في غزوة بني المصطلق والمسمّاة غزوة المريسيع لمّا أضلّت عقدها . فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبه فحانت الصّلاة وليس مع المسلمين ماء ، فأغلظ أبو بكر رضي الله عنه على عائشة وقال : حبست رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على غير ماء فنزلت آية التّيمّم ، فجاء أسيد بن حضير رضي الله عنه فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر » .
اختصاص هذه الأمّة بالتّيمّم :
4 - التّيمّم من الخصائص الّتي اختصّ اللّه بها هذه الأمّة ، فعن جابر رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد قبلي . نصرت بالرّعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشّفاعة ، وكان النّبيّ يبعث في قومه خاصّة وبعثت إلى النّاس عامّة » . وهذا الحديث الشّريف مصداق قول اللّه تعالى : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجعَلَ عَليكمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكمْ } .
التّيمّم رخصة :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّيمّم رخصة للمسافر والمريض ، وقال الحنابلة وبعض الشّافعيّة إنّه عزيمة .
واختلف المالكيّة في التّيمّم للمسافر ، فظاهر قول الرّسالة : إنّه عزيمة ، وفي مختصر ابن جماعة : إنّه رخصة ، وقال التّادليّ : والحقّ عندي أنّه عزيمة في حقّ العادم للماء ، رخصة في حقّ الواجد العاجز عن استعماله .
ثمّ إنّ وجه التّرخيص هو في أداة التّطهير إذ اكتفى بالصّعيد الّذي هو ملوّث ، وهو أيضا في محلّ التّطهير لاقتصاره على شطر أعضاء الوضوء . ومن ثمرة الخلاف : ما لو تيمّم في سفر معصية لفقد الماء فإن قلنا رخصة وجب القضاء وإلّا لم يجب .
شروط وجوب التّيمّم :
6 - يشترط لوجوب التّيمّم ما يلي :
أ - البلوغ : فلا يجب التّيمّم على الصّبيّ لأنّه غير مكلّف .
ب - القدرة على استعمال الصّعيد .
ج - وجود الحدث النّاقض . أمّا من كان على طهارة بالماء فلا يجب عليه التّيمّم .
أمّا الوقت فإنّه شرط لوجوب الأداء عند البعض لا لأصل الوجوب ، ومن ثمّ فلا يجب التّيمّم إلّا إذا دخل الوقت عندهم . فيكون الوجوب موسّعا في أوّله ومضيّقا إذا ضاق الوقت .
هذا وللتّيمّم شروط وجوب وصحّة معا وهي :
أ - الإسلام : فلا يجب التّيمّم على الكافر لأنّه غير مخاطب ، ولا يصحّ منه لأنّه ليس أهلا للنّيّة .
ب - انقطاع دم الحيض والنّفاس .
ج - العقل .
د - وجود الصّعيد الطّهور . فإنّ فاقد الصّعيد الطّهور لا يجب عليه التّيمّم ولا يصحّ منه بغيره حتّى ولو كان طاهرا فقط ، كالأرض الّتي أصابتها نجاسة ثمّ جفّت ، فإنّها تكون طاهرة تصحّ الصّلاة عليها ، ولا تكون مطهّرة فلا يصحّ التّيمّم بها . ثمّ إنّ الإسلام والعقل والبلوغ ووجود الحدث النّاقض للطّهارة ، وانقطاع دم الحيض والنّفاس ، شروط تنظر في مصطلحي ( وضوء ، وغسل ) لأنّ التّيمّم بدل عنهما . وسيأتي تفصيل بقيّة الشّروط .
أركان التّيمّم :
7 - للتّيمّم أركان أو فرائض ، والرّكن ما توقّف عليه وجود الشّيء ، وكان جزءا من حقيقته ، وبناء على هذا قالوا : للتّيمّم ركنان هما : الضّربتان ، واستيعاب الوجه واليدين إلى المرفقين بالمسح فقط . واختلفوا في النّيّة هل هي ركن أم شرط ؟
أ - النّيّة :
8 - ذهب الجمهور إلى أنّ النّيّة عند مسح الوجه فرض ، وذهب بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة إلى أنّها شرط .
ما ينويه بالتّيمّم :
9 - قال الحنفيّة : يشترط لصحّة نيّة التّيمّم الّذي تصحّ به الصّلاة أن ينوي أحد أمور ثلاثة : إمّا نيّة الطّهارة من الحدث ، أو استباحة الصّلاة ، أو نيّة عبادة مقصودة لا تصحّ بدون طهارة كالصّلاة ، أو سجدة التّلاوة ، أو صلاة الجنازة عند فقد الماء .(197/1)
وأمّا عند وجوده إذا خاف فوتها فإنّما تجوز به الصّلاة على جنازة أخرى إذا لم يكن بينهما فاصل . فإن نوى التّيمّم فقط من غير ملاحظة استباحة الصّلاة ، أو رفع الحدث القائم به ، لم تصحّ الصّلاة بهذا التّيمّم ، كما إذا نوى ما ليس بعبادة أصلا كدخول المسجد ، ومسّ المصحف ، أو نوى عبادة غير مقصودة لذاتها ، كالأذان ، والإقامة ، أو نوى عبادة مقصودة تصحّ بدون طهارة كالتّيمّم لقراءة القرآن ، أو للسّلام ، أو ردّه من المحدث حدثا أصغر ، فإن تيمّم الجنب لقراءة القرآن صحّ له أن يصلّي به سائر الصّلوات ، وأمّا تعيين الحدث أو الجنابة فلا يشترط عندهم ، ويصحّ التّيمّم بإطلاق النّيّة ، ويصحّ أيضا بنيّة رفع الحدث ، لأنّ التّيمّم رافع له كالوضوء .
ويشترط عندهم لصحّة النّيّة : الإسلام ، والتّمييز ، والعلم بما ينويه ، ليعرف حقيقة المنويّ. وعند المالكيّة ينوي بالتّيمّم استباحة الصّلاة أو فرض التّيمّم ، ووجب عليه ، ملاحظة الحدث الأكبر إن كان عليه بأن ينوي استباحة الصّلاة من الحدث الأكبر ، فإن لم يلاحظه بأن نسيه أو لم يعتقد أنّه عليه لم يجزه وأعاد تيمّمه ، هذا إذا لم ينو فرض التّيمّم ، أمّا إذا نوى فرض التّيمّم فيجزيه عن الأكبر والأصغر وإن لم يلاحظ ، ولا يصلّى فرض عند المالكيّة بتيمّم نواه لغيره . قال في المقدّمات : ولا صلاة بتيمّم نواه لغيرها .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ينوي استباحة الصّلاة ونحوها ممّا تفتقر استباحته إلى طهارة . كطواف ، وحمل مصحف ، وسجود تلاوة ، ولو تيمّم بنيّة الاستباحة ظانّا أنّ حدثه أصغر فبان أكبر أو عكسه صحّ ، لأنّ موجبهما واحد ، وإن تعمّد لم يصحّ في الأصحّ لتلاعبه .
فلو أجنب في سفره ونسي ، وكان يتيمّم وقتا ، ويتوضّأ وقتا ، أعاد صلاة الوضوء فقط . ولا تكفي عند الشّافعيّة نيّة رفع الحدث الأصغر ، أو الأكبر ، أو الطّهارة عن أحدهما ، لأنّ التّيمّم لا يرفعه لبطلانه بزوال مقتضيه ، « ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص وقد تيمّم عن الجنابة من شدّة البرد : يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب ؟ » .
قال الرّمليّ : وشمل كلامه ( النّوويّ ) ما لو كان مع التّيمّم غسل بعض الأعضاء ، وإن قال بعضهم : إنّه يرفعه حينئذ . ولو نوى فرض التّيمّم ، أو فرض الطّهر ، أو التّيمّم المفروض ، أو الطّهارة عن الحدث أو الجنابة لم يكف في الأصحّ لأنّ التّيمّم ليس مقصودا في نفسه ، وإنّما يؤتى به عن ضرورة ، فلا يجعل مقصودا ، بخلاف الوضوء .
والقول الثّاني عندهم : يكفي كالوضوء . ويجب قرن النّيّة بنقل الصّعيد الحاصل بالضّرب إلى الوجه ، لأنّه أوّل الأركان ، وكذا يجب استدامتها إلى مسح شيء من الوجه على الصّحيح . فلو زالت النّيّة قبل المسح لم يكف ، لأنّ النّقل وإن كان ركنا فهو غير مقصود في نفسه . وينوي عند الحنابلة استباحة ما لا يباح إلّا بالتّيمّم ، ويجب تعيين النّيّة لما تيمّم له كصلاة ، أو طواف ، أو مسّ مصحف من حدث أصغر أو أكبر أو نجاسة على بدنه ، لأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث وإنّما يبيح الصّلاة ، فلا بدّ من تعيين النّيّة تقوية لضعفه .
وصفة التّعيين : أن ينوي استباحة صلاة الظّهر مثلا من الجنابة إن كان جنبا ، أو من الحدث إن كان محدثا ، أو منهما إن كان جنبا محدثا ، وما أشبه ذلك .
وإن تيمّم لجنابة لم يجزه عن الحدث الأصغر ،لأنّهما طهارتان فلم تؤدّ إحداهما بنيّة الأخرى. ولا يصحّ التّيمّم بنيّة رفع حدث لأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث عند الحنابلة كالمالكيّة والشّافعيّة ، لحديث أبي ذرّ : « فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك » .
نيّة التّيمّم لصلاة النّفل وغيره :
10 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من نوى بتيمّمه فرضا ونفلا صلّى به الفرض والنّفل ، وإن نوى فرضا ولم يعيّن فيأتي بأيّ فرض شاء ، وإن عيّن فرضا جاز له فعل فرض واحد غيره ، وإن نوى الفرض استباح مثله وما دونه من النّوافل ، وذلك لأنّ النّفل أخفّ ، ونيّة الفرض تتضمّنه . أمّا إذا نوى نفلا أو أطلق النّيّة كأن نوى استباحة الصّلاة بلا تعيين فرض أو نفل لم يصلّ إلا نفلا ، لأنّ الفرض أصل والنّفل تابع فلا يجعل المتبوع تابعا ، وكما إذا أحرم بالصّلاة مطلقا بغير تعيين فإنّ صلاته تنعقد نفلا .
والمالكيّة كالشّافعيّة والحنابلة إلا أنّهم صرّحوا بوجوب نيّة الحدث الأكبر إن كان عليه حال نيّة استباحة الصّلاة ، فإن لم يلاحظه بأن نسيه أو لم يعتقد أنّ الحدث الأكبر عليه لم يجزه وأعاد أبدا . ويندب عند المالكيّة نيّة الحدث الأصغر إذا نوى استباحة الصّلاة ، أو استباحة ما منعه الحدث ، لكن لو نوى فرض التّيمّم فلا تندب نيّة الأصغر ولا الأكبر ، لأنّ نيّة الفرض تجزئ عن كلّ ذلك .
وإذا تيمّم لقراءة قرآن ونحو ذلك لا يجوز للمتيمّم أن يصلّي به . وذهب الحنفيّة إلى جواز صلاة الفرض والنّفل سواء نوى بتيمّمه الفرض أو النّفل ، لأنّ التّيمّم بدل مطلق عن الماء ، وهو رافع للحدث أيضا عندهم .
ب - مسح الوجه واليدين :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أركان التّيمّم مسح الوجه واليدين ، لقوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُمْ وَأَيديكمْ منه } .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ مسح الوجه فرض ، ومسح اليدين فرض آخر .
لكن ذهب المالكيّة إلى أنّ الفرض الأوّل هو الضّربة الأولى ، والفرض الثّاني هو تعميم مسح الوجه واليدين .(197/2)
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ المطلوب في اليدين هو مسحهما إلى المرفقين على وجه الاستيعاب كالوضوء . لقيام التّيمّم مقام الوضوء فيحمل التّيمّم على الوضوء ويقاس عليه . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الفرض مسح اليدين في التّيمّم إلى الكوعين ، ومن الكوعين إلى المرفقين سنّة ، لحديث « عمّار بن ياسر : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتّيمّم للوجه والكفّين » . فقد ورد عن عبد الرّحمن بن أبزى قال : « جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب فقال : إنّي أجنبت فلم أصب الماء . فقال عمّار بن ياسر لعمر بن الخطّاب : أما تذكر أنّا كنّا في سفر أنا وأنت ، فأمّا أنت فلم تصلّ ، وأمّا أنا فتمعّكت فصلّيت ، فذكرت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كان يكفيك هكذا ، فضرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكفّيه الأرض ونفخ فيهما ، ثمّ مسح بهما وجهه وكفّيه » .
ثمّ إنّ المفروض عند الحنفيّة والشّافعيّة ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين ، وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الضّربة الأولى فرض ، والثّانية سنّة .
وسبب اختلاف الفقهاء في هذا هو أنّ آية التّيمّم مجملة ، والأحاديث الواردة متعارضة ، فحديث عمّار المتقدّم فيه ضربة واحدة للوجه والكفّين ، وهناك أحاديث تصرّح بالضّربتين كحديث ابن عمر : « التّيمّم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين » . وروى أبو داود :
« أنّه صلى الله عليه وسلم تيمّم بضربتين مسح بإحداهما وجهه وبالأخرى ذراعيه » .
واتّفق الفقهاء على إزالة الحائل عن وصول التّراب إلى العضو الممسوح كنزع خاتم ونحوه بخلاف الوضوء . وذلك لأنّ التّراب كثيف ليس له سريان الماء وسيلانه . ومحلّ الوجوب عند الشّافعيّة في الضّربة الثّانية ويستحبّ في الأولى ، ويجب النّزع عند المسح لا عند نقل التّراب . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب تخليل الأصابع بباطن الكفّ أو الأصابع كي يتمّ المسح . والتّخليل عند الشّافعيّة والحنابلة مندوب احتياطا . وأمّا إيصال التّراب إلى منابت الشّعر الخفيف فليس بواجب عندهم جميعا لما فيه من العسر بخلاف الوضوء .
ج - التّرتيب :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّرتيب في التّيمّم بين الوجه واليدين ليس بواجب بل مستحبّ ، لأنّ الفرض الأصليّ المسح ، وإيصال التّراب وسيلة إليه فلا يجب التّرتيب في الفعل الّذي يتمّ به المسح .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّرتيب فرض كالوضوء . وذهب الحنابلة إلى أنّ التّرتيب فرض عندهم في غير حدث أكبر ، أمّا التّيمّم لحدث أكبر ونجاسة ببدن فلا يعتبر فيه ترتيب .
د - الموالاة :
13 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ الموالاة في التّيمّم سنّة كما في الوضوء ، وكذا تسنّ الموالاة بين التّيمّم والصّلاة . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الموالاة في التّيمّم عن الحدث الأصغر فرض ، وأمّا عن الحدث الأكبر فهي فرض عند المالكيّة دون الحنابلة .
وزاد المالكيّة وجوب الموالاة بين التّيمّم وبين ما يفعل له من صلاة ونحوها .
الأعذار الّتي يشرع بسببها التّيمّم :
14 - المبيح للتّيمّم في الحقيقة شيء واحد . وهو العجز عن استعمال الماء ، والعجز ، إمّا لفقد الماء وإمّا لعدم القدرة على استعماله مع وجوده :
أوّلاً : فقد الماء :
أ - فقد الماء للمسافر :
15 - إذا فقد المسافر الماء بأن لم يجده أصلا ، أو وجد ماء لا يكفي للطّهارة حسّا جاز له التّيمّم ، لكن يجب عند الشّافعيّة والحنابلة أن يستعمل ما تيسّر له منه في بعض أعضاء الطّهارة ثمّ يتيمّم عن الباقي لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » ويكون فقد الماء شرعا للمسافر بأن خاف الطّريق إلى الماء ، أو كان بعيدا عنه فلا يكلّف المسافر حينئذ بطلبه .
ويشترط عند الشّافعيّة والحنابلة لمن ظنّ وجود الماء أو شكّ في وجوده - ومثله عند الشّافعيّة مارّ توهّم وجوده - أن يطلبه فيما قرب منه لا فيما بعد .
حدّ البعد عن الماء :
16 - اختلف الفقهاء في حدّ البعد عن الماء الّذي يبيح التّيمّم : فذهب الحنفيّة إلى أنّه ميل وهو يساوي أربعة آلاف ذراع . وحدّده المالكيّة بميلين ، والشّافعيّة بأربعمائة ذراع ، وهو حدّ الغوث وهو مقدار غلوة " رمية سهم " ، وذلك في حالة توهّمه للماء أو ظنّه أو شكّه فيه ، فإن لم يجد ماء تيمّم ، وكذلك الحكم عند الحنفيّة فأوجبوا طلب الماء إلى أربعمائة خطوة إن ظنّ قربه من الماء مع الأمن .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن تيقّن فقد الماء حوله تيمّم بلا طلب ، أمّا إذا تيقّن وجود الماء حوله طلبه في حدّ القرب - وهو ستّة آلاف خطوة - ولا يطلب الماء عند الشّافعيّة سواء في حدّ القرب أو الغوث إلّا إذا أمن على نفسه وماله وانقطاعه عن الرّفقة .
وقال المالكيّة : إذا تيقّن أو ظنّ الماء طلبه لأقلّ من ميلين ، ويطلبه عند الحنابلة فيما قرب منه عادة . هذا فيما إذا لم يجد الماء ، أمّا إذا وجد الماء عند غيره أو نسيه في رحله فهل يجب عليه شراؤه أو قبول هبته ؟
الشّراء :
17 - يجب على واجد الماء عند غيره أن يشتريه إذا وجده بثمن المثل أو بغبن يسير ، وكان ما عنده من المال فاضلا عن حاجته . فإن لم يجده إلا بغبن فاحش أو لم يكن معه ثمن الماء تيمّم . وزاد المالكيّة والقاضي من الحنابلة أنّه إن لم يكن له مال اشتراه في ذمّته إن كان غنيّا في بلده أو يرجو الوفاء ببيع شيء ، أو اقتضاء دين ، أو نحو ذلك ، وقالوا أيضا بوجوب اقتراض الماء أو ثمنه إذا كان يرجو وفاءه .
الهبة :(197/3)
18 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة إلى أنّه لو وهب له ماء أو أعير دلوا وجب عليه القبول ، أمّا لو وهب ثمنه فلا يجب قبوله بالاتّفاق لعظم المنّة .
ب - فقد الماء للمقيم :
19 - إذا فقد المقيم الماء وتيمّم فهل يعيد صلاته أم لا ؟ فيه خلاف بين العلماء : فذهب الجمهور – الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة – إلى أنّه لا يعيد ، لأنّ الشّرط هو عدم الماء فأينما تحقّق جاز التّيمّم . ويعيد عند المالكيّة المقصّر في طلب الماء ندبا في الوقت ، وصحّت صلاته إن لم يعد ، كواجد الماء الّذي طلبه طلبا لا يشقّ عليه بقربه بعد صلاته لتقصيره ، أو وجد الماء في رحله بعد طلبه . أمّا خارج الوقت فلا يعيد ، وقد اختلف المالكيّة في تيمّم الصّحيح الحاضر الفاقد للماء لصلاة الجمعة إذا خشي فواتها بطلب الماء ، ففي المشهور من المذهب لا يتيمّم لها فإن فعل لم يجزه ، لأنّ الواجب عليه أن يصلّي الظّهر ، وخلاف المشهور يتيمّم لها ولا يدعها وهو أظهر مدركا من المشهور .
أمّا إذا كان فرض التّيمّم لعدم الماء بالمرّة فيصلّيها بالتّيمّم ولا يدعها ، ويصلّي الظّهر وهو ظاهر نقل الحطّاب عن ابن يونس ، ولا خلاف في هذا عند المالكيّة .
وكذا عند المالكيّة لا يتيمّم الحاضر الصّحيح الفاقد للماء لجنازة إلّا إذا تعيّنت عليه بأن لم يوجد غيره من متوضّئ أو مريض أو مسافر . ولا يتيمّم لنفل استقلالا ، ولا وترا إلا تبعا لفرض بشرط أن يتّصل النّفل بالفرض حقيقة أو حكما ، فلا يضرّ الفصل اليسير .
وعند الشّافعيّة قال النّوويّ في المجموع :مذهبنا أنّه لا يجوز لعادم الماء التّيمّم إلا بعد طلبه. ثمّ قال : وهذا هو مذهب العراقيّين وبعض الخراسانيّين .
وقال جماعات من الخراسانيّين : إن تحقّق عدم الماء حواليه لم يلزمه الطّلب ، وبهذا قطع إمام الحرمين والغزاليّ وغيرهما إذ اختاره الرّويانيّ ، ومنهم من ذكر فيه وجهين : قال الرّافعيّ : أصحّ الوجهين في هذه الصّورة أنّه لا يجب الطّلب .
وقال الخطيب الشّربينيّ : إن تيقّن المسافر أو المقيم فقد الماء تيمّم بلا طلب ، لأنّ طلب ما علم عدمه عبث ، وقيل : لا بدّ من الطّلب لأنّه لا يقال لمن لم يطلب لم يجد .
ثمّ قال : وإن توهّمه أي جوّزه تجوّزا راجحا وهو الظّنّ ، أو مرجوحا وهو الوهم ، أو مستويا وهو الشّكّ ، طلبه بعد دخول الوقت وجوبا ، لأنّ التّيمّم طهارة ضرورة ، ولا ضرورة مع الإمكان . ومثل ذلك قاله القليوبيّ وغيره من متأخّري الشّافعيّة .
نسيان الماء :
20 - لو نسي الماء في رحله وتيمّم وصلّى فإن تذكّره قطع صلاته وأعادها إجماعا ، أمّا إذا أتمّ صلاته ثمّ تذكّر الماء فإنّه يقضي صلاته عند الشّافعيّة في الأظهر ، والحنابلة سواء في الوقت أو خارجه . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا تذكّر في الوقت أعاد صلاته ، أو خارج الوقت فلا يقضي . وسبب القضاء تقصيره في الوقوف على الماء الموجود عنده ، فكان كما لو ترك ستر العورة وصلّى عريانا ، وكان في رحله ثوب نسيه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يقضي لأنّ العجز عن استعمال الماء قد تحقّق بسبب الجهالة والنّسيان ، فيجوز التّيمّم كما لو حصل العجز بسبب البعد أو المرض أو عدم الدّلو والرّشاء. وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يعيد إذا كان هو الواضع للماء في الرّحل أو غيره بعلمه سواء كان بأمره أو بغير أمره ، أمّا لو كان الواضع للماء غيره وبلا علمه فلا إعادة اتّفاقا عندهم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أضلّ رحله في رحال وطلبه بإمعان فلم يجده فلا إعادة عليه فإن لم يمعن في الطّلب قضى لتقصيره .
ثانياً : عدم القدرة على استعمال الماء :
21 - يجب على من وجد الماء أن يستعمله في عبادة وجبت عليه لا تصحّ إلّا بالطّهارة ، ولا يجوز العدول عن ذلك إلى التّيمّم إلّا إذا عدمت قدرته على استعمال الماء ، ويتحقّق ذلك بالمرض ، أو خوف المرض من البرد ونحوه ، أو العجز عن استعماله .
أ - المرض :
اتّفق الفقهاء على جواز التّيمّم للمريض إذا تيقّن التّلف ، وكذلك عند الأكثرين إذا خاف من استعمال الماء للوضوء أو الغسل على نفسه ، أو عضوه هلاكه ، أو زيادة مرضه ، أو تأخّر برئه ، ويعرف ذلك بالعادة أو بإخبار طبيب حاذق مسلم عدل ، واكتفى بعض الحنفيّة بأن يكون مستورا أي غير ظاهر الفسق ، وصرّح الشّافعيّة في الأظهر - والحنابلة زيادة على ما تقدّم - خوف حدوث الشّين الفاحش .
وقيّده الشّافعيّة بما يكون في عضو ظاهر ، لأنّه يشوّه الخلقة ويدوم ضرره ، والمراد بالظّاهر عند الشّافعيّة ما يبدو عند المهنة غالبا كالوجه واليدين .
وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ المريض الّذي لا يقدر على الحركة ولا يجد من يستعين به يتيمّم كعادم الماء ولا يعيد .
وقال الحنفيّة : فإن وجد من يوضّئه ولو بأجر المثل وعنده مال لا يتيمّم في ظاهر المذهب .
ب - خوف المرض من البرد ونحوه :(197/4)
22 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّيمّم في السّفر والحضر - خلافا لأبي يوسف ومحمّد في الحضر - لمن خاف من استعمال الماء في شدّة البرد هلاكا ، أو حدوث مرض ، أو زيادته ، أو بطء برء إذا لم يجد ما يسخّن به الماء ، أو لم يجد أجرة الحمّام ، أو ما يدفئه ، سواء في الحدث الأكبر أو الأصغر ، لإقرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه على تيمّمه خوف البرد وصلاته بالنّاس إماما ولم يأمره بالإعادة . وذهب الحنفيّة إلى أنّ جواز التّيمّم للبرد خاصّ بالجنب ، لأنّ المحدث لا يجوز له التّيمّم للبرد في الصّحيح خلافا لبعض المشايخ إلّا إذا تحقّق الضّرر من الوضوء فيجوز التّيمّم حينئذ .وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المتيمّم للبرد - على الخلاف السّابق - لا يعيد صلاته. وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعيد صلاته في الأظهر إن كان مسافرا ، والثّاني : لا يعيد لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ، أمّا إذا تيمّم المقيم للبرد فالمشهور كما قال الرّافعيّ القطع بوجوب الإعادة ، وقال النّوويّ : إنّ جمهور الشّافعيّة قطعوا به .
ج - العجز عن استعمال الماء :
23 - يتيمّم العاجز الّذي لا قدرة له على استعمال الماء ولا يعيد كالمكره ، والمحبوس ، والمربوط بقرب الماء ، والخائف من حيوان ، أو إنسان في السّفر والحضر ، لأنّه عادم للماء حكما ، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسّه بشرته فإنّ ذلك خير » .
واستثنى الحنفيّة ممّا تقدّم المكره على ترك الوضوء فإنّه يتيمّم ويعيد صلاته .
د - الحاجة إلى الماء :
24 - يتيمّم ولا يعيد من اعتقد أو ظنّ أنّه يحتاج الماء الّذي معه ولو في المستقبل ، لنحو عطش إنسان معصوم الدّم ، أو حيوان محترم شرعا - ولو كلب صيد أو حراسة - عطشا مؤدّيا إلى الهلاك أو شدّة الأذى ، وذلك صونا للرّوح عن التّلف ، بخلاف الحربيّ ، والمرتدّ ، والكلب غير المأذون فيه ، فإنّه لا يتيمّم بل يتوضّأ بالماء الّذي معه لعدم حرمة هؤلاء . وسواء أكانت الحاجة للماء للشّرب ، أم العجن ، أم الطّبخ . ومن قبيل الاحتياج للماء إزالة النّجاسة غير المعفوّ عنها به ، سواء أكانت على البدن أم الثّوب ، وخصّها الشّافعيّة بالبدن ، فإن كانت على الثّوب توضّأ بالماء وصلّى عريانا إن لم يجد ساترا ولا إعادة عليه .
التّيمّم للنّجاسة :
25 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إن كانت على بدنه نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء ، أو خوف الضّرر باستعماله تيمّم لها وصلّى ، وعليه القضاء عند الشّافعيّة ، وهو رواية للحنابلة . والمذهب عند الحنابلة أنّه لا قضاء عليه ، واستدلّوا بعموم الحديث السّابق ذكره « الصّعيد الطّيّب طهور المسلم » . ونقل ابن قدامة عن أكثر الفقهاء أنّ من على بدنه نجاسة وعجز عن غسلها يصلّي بحسب حاله بلا تيمّم ولا يعيد .
ما يجوز به التّيمّم :
26 - اتّفق الفقهاء على جواز التّيمّم بالصّعيد الطّاهر ، وهو شرط عند الجمهور ، فرض عند المالكيّة . قال اللّه تعالى : { فَتَيَمَّموا صَعِيدَاً طَيِّبَاً } .
وقد اختلفوا في المراد بالصّعيد هل هو وجه الأرض أو التّراب المنبت ؟ أمّا جواز المسح على التّراب المنبت فبالإجماع ، وأمّا غيره ممّا على وجه الأرض ، فقد اختلف الفقهاء فيه ، فذهب المالكيّة وأبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ المراد بالصّعيد وجه الأرض ، فيجوز عندهم التّيمّم بكلّ ما هو من جنس الأرض ، لأنّ الصّعيد مشتقّ من الصّعود وهو العلوّ ، وهذا لا يوجب الاختصاص بالتّراب ، بل يعمّ كلّ ما صعد على الأرض من أجزائها . والدّليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بالأرض » من غير فصل ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً » واسم الأرض يتناول جميع أنواعها .
والطّيّب عندهم هو الطّاهر ، وهو الأليق هنا ، لأنّه شرع مطهّرا ، والتّطهير لا يقع إلا بالطّاهر ، مع أنّ معنى الطّهارة صار مرادا بالإجماع حتّى لا يجوز التّيمّم بالصّعيد النّجس . وقد اختلفوا في بعض ما يجوز به التّيمّم ، فذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز التّيمّم بالتّراب - وهو الأفضل من غيره عند وجوده - والرّمل ، والحصى ، والجصّ الّذي لم يحرق بالنّار ، فإن أحرق أو طبخ لم يجز التّيمّم به .
ويجوز التّيمّم بالمعادن ما دامت في مواضعها ولم تنقل من محلّها إذا لم تكن من أحد النّقدين - الذّهب أو الفضّة - أو من الجواهر كاللّؤلؤ ، فلا يتيمّم على المعادن من شبّ ، وملح ، وحديد ، ورصاص ، وقصدير ، وكحل ، إن نقلت من محلّها وصارت أموالا في أيدي النّاس.
ولا يجوز التّيمّم بالخشب والحشيش سواء أوجد غيرهما أم لا ، لأنّهما ليسا من أجزاء الأرض ، وفي المسألة خلاف وتفصيل عند المالكيّة .
ويجوز التّيمّم عندهم بالجليد وهو الثّلج المجمّد من الماء على وجه الأرض أو البحر ، حيث عجز عن تحليله وتصييره ماء ، لأنّه أشبه بجموده الحجر فالتحق بأجزاء الأرض .
وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّه يجوز التّيمّم بكلّ ما كان من جنس الأرض ، ثمّ اختلفا ، فقال أبو حنيفة : يجوز التّيمّم بكلّ ما هو من جنس الأرض التزق بيده شيء أو لا ، لأنّ المأمور به هو التّيمّم بالصّعيد مطلقا من غير شرط الالتزاق ، ولا يجوز تقييد المطلق إلّا بدليل . وقال محمّد : لا يجوز إلّا إذا التزق بيده شيء من أجزائه ، فالأصل عنده أنّه لا بدّ من استعمال جزء من الصّعيد ولا يكون ذلك إلّا بأن يلتزق بيده شيء منه .(197/5)
فعلى قول أبي حنيفة يجوز التّيمّم بالجصّ ، والنّورة ، والزّرنيخ ، والطّين الأحمر ، والأسود ، والأبيض ، والكحل ، والحجر الأملس ، والحائط المطيّن ، والمجصّص ، والملح الجبليّ دون المائيّ ، والآجرّ ، والخزف المتّخذ من طين خالص ، والأرض النّديّة ، والطّين الرّطب.
ولكن لا ينبغي أن يتيمّم بالطّين ما لم يخف ذهاب الوقت ، لأنّ فيه تلطيخ الوجه من غير ضرورة فيصير بمعنى المثلة ، وإن كان لو تيمّم به أجزأه عندهما ، لأنّ الطّين من أجزاء الأرض ، فإن خاف ذهاب الوقت تيمّم وصلّى عندهما . ويحوز التّيمّم عندهما بالغبار بأن ضرب يده على ثوب ، أو لبد ، أو صفة سرج ، فارتفع غبار ، أو كان على الحديد ، أو على الحنطة ، أو الشّعير ، أو نحوها غبار ، فتيمّم به أجزأه في قولهما ، لأنّ الغبار وإن كان لطيفا فإنّه جزء من أجزاء الأرض فيجوز التّيمّم به ، كما يجوز بالكثيف بل أولى .
وقد روي أنّ عبد اللّه بن عمر - رضي الله عنهما - كان بالجابية فمطروا فلم يجدوا ماء يتوضّئون به ، ولا صعيدا يتيمّمون به ، فقال ابن عمر : لينفض كلّ واحد منكم ثوبه ، أو صفة سرجه ، وليتيمّم ، وليصلّ ، ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعا . ولو كان المسافر في طين وردغة لا يجد ماء ولا صعيدا وليس في ثوبه وسرجه غبار لطّخ ثوبه أو بعض جسده بالطّين فإذا جفّ تيمّم به . أمّا ما لم يكن من جنس الأرض فلا يجوز التّيمّم به اتّفاقا عند الحنفيّة . فكلّ ما يحترق بالنّار فيصير رمادا كالحطب والحشيش ونحوهما ، أو ما ينطبع ويلين كالحديد ، والصّفر ، والنّحاس ، والزّجاج ونحوها ، فليس من جنس الأرض .
كما لا يجوز التّيمّم بالرّماد لأنّه من أجزاء الحطب فليس من أجزاء الأرض .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز التّيمّم إلّا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد غير محترق لقوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِوجوهِكُمْ وَأيديكمْ منه } وهذا يقتضي أنّه يمسح بجزء منه ، فما لا غبار له كالصّخر ، لا يمسح بشيء منه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « جعل التّراب لي طهوراً » .
فإن كان جريشا أو نديّا لا يرتفع له غبار لم يكف . لأنّ الصّعيد الطّيّب هو التّراب المنبت ، وقد سئل ابن عبّاس رضي الله عنهما أيّ الصّعيد أطيب فقال : الحرث ، وهو التّراب الّذي يصلح للنّبات دون السّبخة ونحوها . وأضاف الشّافعيّة إلى التّراب الرّمل الّذي فيه غبار ، وعن أحمد روايتان الجواز وعدمه ، وعن أبي يوسف روايتان أيضا .
ولا يجوز عندهم جميعا - الشّافعيّة وأحمد وأبو يوسف - التّيمّم بمعدن كنفط ، وكبريت ، ونورة ، ولا بسحاقة خزف ، إذ لا يسمّى ذلك ترابا . ولا بتراب مختلط بدقيق ونحوه كزعفران ، وجصّ ، لمنعه وصول التّراب إلى العضو ، ولا بطين رطب ، لأنّه ليس بتراب ، ولا بتراب نجس كالوضوء باتّفاق العلماء . لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّبَاً } .
وقال الشّافعيّة إنّ ما استعمل في التّيمّم لا يتيمّم به كالماء المستعمل .
وزاد الحنابلة المغصوب ونحوه فلا يجوز التّيمّم به . ويجوز المسح بالثّلج عند الحنابلة على أعضاء الوضوء إذا تعذّر تذويبه لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » . ثمّ إذا جرى الماء على الأعضاء بالمسّ لم يعد الصّلاة لوجود الغسل وإن كان خفيفا ، وإن لم يسل أعاد صلاته ، لأنّه صلّى بدون طهارة كاملة .
كيفيّة التّيمّم :
27 - اختلف الفقهاء في كيفيّة التّيمّم :
أ - فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّيمّم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين لقوله صلى الله عليه وسلم : « التّيمّم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين » .
ب - وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ التّيمّم الواجب ضربة واحدة ، لحديث عمّار « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في التّيمّم : إنّما كان يكفيك ضربة واحدة للوجه واليدين » واليد إذا أطلقت لا يدخل فيها الذّراع كما في اليد المقطوعة في السّرقة .
والأكمل عنهم ضربتان وإلى المرفقين كالحنفيّة والشّافعيّة . وصورته - عندهم جميعا - في مسح اليدين بالضّربة الثّانية : أن يمرّ اليد اليسرى على اليد اليمنى من فوق الكفّ إلى المرفق ، ثمّ باطن المرفق إلى الكوع ( الرّسغ ) ، ثمّ يمرّ اليمنى على اليسرى كذلك .
والمقصود من التّيمّم إيصال التّراب إلى الوجه واليدين ، فبأيّ صورة حصل استيعاب العضوين بالمسح أجزأه تيمّمه .
سواء احتاج إلى ضربتين أو أكثر ، وعلى هذا اتّفق الفقهاء .
سنن التّيمّم :
يسنّ في التّيمّم أمور :
أ - التّسمية :
28 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّسمية سنّة في أوّل التّيمّم كالوضوء بأن يقول : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ويكتفي عند الحنفيّة ببسم اللّه ، وقيل : الأفضل ذكرها كاملة . وذهب المالكيّة إلى أنّ التّسمية فضيلة - وهي عندهم أقلّ من السّنّة - أمّا عند الحنابلة فالتّسمية واجبة كالتّسمية في الوضوء .
ب - التّرتيب :
29 - يسنّ التّرتيب عند الحنفيّة والمالكيّة بأن يمسح الوجه أوّلا ثمّ اليدين ، فإن عكس صحّ تيمّمه ، إلّا أنّه يشترط عند المالكيّة أن يعيد مسح اليدين إن قرب المسح ولم يصلّ به ، وإلّا بطل التّيمّم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب التّرتيب كالوضوء .
ج - الموالاة :
30 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ الموالاة سنّة .(197/6)
وذهب المالكيّة والحنابلة وهو قول الشّافعيّ في القديم إلى وجوب الموالاة بحيث لو كان المستعمل ماء لا يجفّ العضو السّابق قبل غسل الثّاني كما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صفة الوضوء المنقولة عنه حيث لم يقع فيها الفصل بين أعضاء الوضوء .
د - سنن أخرى :
31 - ذهب الحنفيّة إلى سنّيّة الضّرب بباطن الكفّين وإقبال اليدين بعد وضعهما في التّراب وإدبارهما مبالغة في الاستيعاب ، ثمّ نفضهما اتّقاء تلويث الوجه ، نقل ذلك عن أبي حنيفة . وذهبوا أيضا إلى سنّيّة تفريج الأصابع ليصل التّراب إلى ما بينها ، وذهب المالكيّة إلى سنّيّة الضّربة الثّانية ليديه والمسح إلى المرفقين ، وأن لا يمسح بيديه شيئا بعد ضربهما بالأرض قبل مسح الوجه واليدين ، فإن فعل كره وأجزأه ، وهذا لا يمنع من نفضهما نفضا خفيفا . ومن الفضائل عندهم في التّيمّم استقبال القبلة ، والبدء باليمنى ، وتخليل الأصابع .
وعند الشّافعيّة يسنّ البداءة بأعلى الوجه ، وتقديم اليمنى ، وتفريق الأصابع في الضّربة الأولى ، وتخليل الأصابع بعد مسح اليدين احتياطا ، وتخفيف الغبار لئلّا تتشوّه به خلقته . ويسنّ عندهم أيضا الموالاة بين التّيمّم والصّلاة خروجا من خلاف من أوجبها - وهم المالكيّة - ويسنّ أيضا إمرار اليد على العضو كالدّلك في الوضوء ، وعدم تكرار المسح ، واستقبال القبلة ، والشّهادتان بعده كالوضوء فيهما .
ويسنّ نزع الخاتم في الضّربة الأولى باعتبار اليد فيها أداة للمسح ، وفي الثّانية هي محلّ للتّطهير ، وهو ركن فيجب ، ويسنّ السّواك قبله ، ونقل التّراب إلى أعضاء التّيمّم . ويستحبّ عند الحنابلة تخليل الأصابع أيضاً .
مكروهات التّيمّم :
32 - يكره تكرار المسح بالاتّفاق ، ويكره عند المالكيّة كثرة الكلام في غير ذكر اللّه ، وإطالة المسح إلى ما فوق المرفقين ، وهو المسمّى بالتّحجيل .
وقال الشّافعيّة : يكره تكثير التّراب وتجديد التّيمّم ولو بعد فعل صلاة ، ومسح التّراب عن أعضاء التّيمّم ، فالأحبّ أن لا يفعله حتّى يفرغ من الصّلاة .
وعند الحنابلة : يكره الضّرب أكثر من مرّتين ، ونفخ التّراب إن كان خفيفا .
نواقض التّيمّم :
33 - ينقض التّيمّم ما يأتي :
أ - كلّ ما ينقض الوضوء والغسل ، لأنّه بدل عنهما ، وناقض الأصل ناقض لخلفه ، وانظر مصطلحي ( وضوء وغسل ) .
ب - رؤية الماء أو القدرة على استعمال الماء الكافي ولو مرّة عند الحنفيّة والمالكيّة ، ولو لم يكف عند الشّافعيّة والحنابلة وذلك قبل الصّلاة لا فيها باتّفاق الفقهاء ، بشرط أن يكون الماء فاضلا عن حاجته الأصليّة ، لأنّ الماء المشغول بالحاجة كالمعدوم .
وقال الحنفيّة : إنّ مرور نائم أو ناعس متيمّم على ماء كاف يبطل تيمّمه كالمستيقظ أمّا رؤية الماء في الصّلاة فإنّها تبطل التّيمّم عند الحنفيّة والحنابلة ، لبطلان الطّهارة بزوال سببها ، ولأنّ الأصل إيقاع الصّلاة بالوضوء . ولا تبطله عند المالكيّة ، ولا عند الشّافعيّة بالنّسبة للمسافر في محلّ لا يغلب فيه وجود الماء ، لوجود الإذن بالدّخول في الصّلاة بالتّيمّم ، والأصل بقاؤه ، ولقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعمَالَكُمْ } وقد كان عمله سليما قبل رؤية الماء والأصل بقاؤه ، وقياسا على رؤية الماء بعد الفراغ من الصّلاة .
أمّا بالنّسبة لصلاة المقيم بالتّيمّم فإنّها تبطل عند الشّافعيّة إذا رأى الماء في أثناء الصّلاة وتلزمه الإعادة لوجود الماء ، لكن ليس مطلقا ، بل قيّد الشّافعيّة ذلك بكونه في محلّ يغلب فيه الماء ، أمّا إذا كان المقيم في محلّ لا يغلب فيه وجود الماء فلا إعادة عليه ، وحكمه حينئذ حكم المسافر .
وأمّا إذا رأى الماء بعد انتهاء الصّلاة ، فإن كان بعد خروج وقت الصّلاة فلا يعيدها المسافر باتّفاق الفقهاء ، وإن كان في أثناء الوقت لم يعدها باتّفاق الفقهاء أيضا بالنّسبة للمسافر ، وذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّ المقيم في محلّ يغلب فيه وجود الماء إذا تيمّم لفقد الماء فإنّه يعيد صلاته لندور الفقد وعدم دوامه وفي قول : لا يقضي واختاره النّوويّ ، لأنّه أتى بالمقدور ، وفي قول : لا تلزمه الصّلاة في الحال بل يصبر حتّى يجده في الوقت ، بخلاف المسافر فإنّه لا يعيد إلّا إذا كان في محلّ يغلب فيه وجود الماء كما سبق .
ج - زوال العذر المبيح له ، كذهاب العدوّ والمرض والبرد ، لأنّ ما جاز بعذر بطل بزواله .
د - خروج الوقت : فإنّه يبطل التّيمّم عند الحنابلة سواء أكان في أثناء الصّلاة أم لا ، وإن كان في أثناء الصّلاة تبطل صلاته ، لأنّها طهارة انتهت بانتهاء وقتها ، كما لو انقضت مدّة المسح وهو في الصّلاة .
هـ - الرّدّة : ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الرّدّة - والعياذ باللّه - لا تبطل التّيمّم فيصلّي به إذا أسلم ، لأنّ الحاصل بالتّيمّم الطّهارة ، والكفر لا ينافيها كالوضوء ، ولأنّ الرّدّة تبطل ثواب العمل لا زوال الحدث .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الرّدّة تبطل التّيمّم لضعفه بخلاف الوضوء لقوّته .
و - الفصل الطّويل : ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الفصل الطّويل بين التّيمّم والصّلاة لا يبطله ، والموالاة ليست واجبة بينهما .(197/7)
وذهب المالكيّة إلى أنّ الفصل الطّويل بين التّيمّم والصّلاة يبطله لاشتراطهم الموالاة بينه وبين الصّلاة . وذهب الجمهور إلى أنّه لا يكره للرّجل أن يصيب زوجته إذا كان عادما للماء لحديث أبي ذرّ رضي الله عنه قلت يا رسول اللّه إنّي أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلّي بغير طهور فقال صلى الله عليه وسلم : « الصّعيد الطّيّب وضوء المسلم » . وذهب المالكيّة وهي رواية للحنابلة إلى كراهة نقض الوضوء أو الغسل لمن هو فاقد الماء إلا لضرر يصيب المتوضّئ من حقن أو غيره ، أو لضرر يصيب تارك الجماع ، فإن كان ثمّ ضرر فلا كراهة حينئذ .
تيمّم العاصي بسفره ومرضه :
34 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة وهو الصّحيح عند المالكيّة والمذهب عند الحنابلة وقول بعض الشّافعيّة - إلى جواز تيمّم العاصي بسفره أو مرضه ، لأنّه من أهل الرّخصة كغيره ، والأدلّة عامّة تشمل الطّائع والعاصي ولم تفرّق بينهما ، ولأنّ العاصي قد أتى بما أمر به فخرج من عهدته ، وإنّ القبح المجاور لا يعدم المشروعيّة . هذا على القول بأنّه رخصة ، أمّا إذا قلنا : إنّ التّيمّم عزيمة فحينئذ لا يجوز تركه عند وجود شرطه .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّ العاصي بسفره ، ومن سافر ليتعب نفسه أو دابّته عبثا يلزمه أن يصلّي بالتّيمّم ويقضي ، لأنّه من أهل الرّخصة . وذهب الشّافعيّة أيضا إلى أنّ العاصي بمرضه ليس من أهل الرّخصة ، فإن عصى بمرضه لم يصحّ تيمّمه حتّى يتوب .
التّيمّم بدل عن الماء :
35 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّ التّيمّم ينوب عن الوضوء من الحدث الأصغر ، وعن الغسل من الجنابة والحيض والنّفاس فيصحّ به ما يصحّ بهما من صلاة فرض أو سنّة وطواف وقراءة للجنب ومسّ مصحف وغير ذلك ممّا يعلم من مصطلحي ( وضوء وغسل ). وقد اختلفوا في مرجع الضّمير في قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } بناء على اختلافهم في قوله تعالى : { أو لامَسْتُمْ النِّسَاءَ } فمن ذهب من العلماء إلى أنّ الملامسة هي الجماع . قال : إنّ الضّمير يعود على المحدث مطلقا ، سواء أكان الحدث أصغر أم أكبر .
أمّا من ذهب منهم إلى أنّ الملامسة بمعنى اللّمس باليد قال : إنّ الضّمير يعود على المحدث حدثا أصغر فقط ، وبذلك تكون مشروعيّة التّيمّم للجنب ثابتة بالسّنّة . كحديث عمران بن حصين قال : « كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفر فصلّى بالنّاس ، فإذا هو برجل معتزل . فقال : ما منعك أن تصلّي ؟ قال : أصابتني جنابة . ولا ماء . قال : عليك بالصّعيد فإنّه يكفيك » . وكحديث جابر قال : « خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه ثمّ احتلم ، فسأل أصحابه ، هل تجدون لي رخصة في التّيمّم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلمّا قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ، فقال : قتلوه قتلهم اللّه ، ألا سألوا إذ لم يعلموا ، فإنّما شفاء العيّ السّؤال ، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصر ، أو يعصب على جرحه ثمّ يمسح عليه ، ويغسل سائر جسده » . فيدلّ هذا الحديث على جواز العدول عن الغسل إلى التّيمّم إذا خاف الضّرر . ومثل حديث « عمرو بن العاص : أنّه لمّا بعث في غزوة ذات السّلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيمّمت ثمّ صلّيت بأصحابي صلاة الصّبح ، فلمّا قدمنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فقال : يا عمرو ، صلّيت بأصحابك وأنت جنب ، فقلت : ذكرت قول اللّه تعالى : { وَلا تَقْتُلوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمَاً } فتيمّمت ، ثمّ صلّيت ، فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا » . فيدلّ هذا الحديث على جواز التّيمّم من شدّة البرد .
نوع بدليّة التّيمّم عن الماء :
36 - اختلف الفقهاء في نوع البدل هل هو بدل ضروريّ أو بدل مطلق ؟ فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّيمّم بدل ضروريّ ولذلك فإنّ الحدث لا يرتفع بالتّيمّم ، فيباح للمتيمّم الصّلاة مع قيام الحدث حقيقة للضّرورة ، كطهارة المستحاضة لحديث أبي ذرّ : « فإذا وجدت الماء فأمسّه جلدك فإنّه خير لك » .
ولو رفع التّيمّم الحدث لم يحتج إلى الماء إذا وجده ، وإذا رأى الماء عاد الحدث ، ممّا يدلّ على أنّ الحدث لم يرتفع ، وأبيحت له الصّلاة للضّرورة . إلّا أنّ الحنابلة أجازوا بالتّيمّم الواحد صلاة ما عليه من فوائت في الوقت إن كانت عليه خلافا للمالكيّة والشّافعيّة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّيمّم بدل مطلق ، وليس ببدل ضروريّ ، فالحدث يرتفع بالتّيمّم إلى وقت وجود الماء في حقّ الصّلاة المؤدّاة لقوله صلى الله عليه وسلم « التّيمّم وضوء المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يحدث » . أطلق النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء على التّيمّم وسمّاه به . والوضوء مزيل للحدث فكذا التّيمّم ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » والطّهور اسم للمطهّر ، والحديث يدلّ على أنّ الحدث يزول بالتّيمّم إلى حين وجود الماء ، فإذا وجد الماء عاد حكم الحديث .
ثمرة هذا الخلاف :
37 - يترتّب على خلاف الفقهاء في نوع بدليّة التّيمّم ما يلي :
أ - وقت التّيمّم :(197/8)
ذهب الجمهور إلى عدم صحّة التّيمّم إلّا بعد دخول وقت ما يتيمّم له من فرض أو نفل له وقت مخصوص . واستدلّوا للفرض بقوله تعالى : { إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ } والقيام إلى الصّلاة بعد دخول الوقت لا قبله . كما استدلّوا للنّفل بقوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت الأرض كلّها لي ولأمّتي مسجدا وطهورا ، فأينما أدركت رجلاً من أمّتي الصّلاة فعنده مسجده وعنده طهوره » . وإنّما جاز قبل الوقت لكونه رافعا للحدث بخلاف التّيمّم ، فإنّه طهارة ضروريّة فلذلك لم يجز قبل الوقت . أمّا صلاة الجنازة أو النّفل الّذي لا وقت له ، أو الفوائت الّتي أراد قضاءها ،فإنّه لا وقت لهذا التّيمّم ما لم يكن في وقت منهيّ عن الصّلاة فيه شرعاً. وذهب الحنفيّة إلى جواز التّيمّم قبل الوقت ولأكثر من فرض ولغير الفرض أيضا لأنّ التّيمّم يرتفع به الحدث إلى وجود الماء ، وليس بمبيح فقط ، وقاسوا ذلك على الوضوء ، ولأنّ التّوقيت لا يكون إلا بدليل سمعيّ ، ولا دليل فيه .
تأخير الصّلاة بالتّيمّم إلى آخر الوقت :
38 - اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّ تأخير الصّلاة بالتّيمّم لآخر الوقت أفضل من تقديمه لمن كان يرجو الماء آخر الوقت ، أمّا إذا يئس من وجوده فيستحبّ له تقديمه أوّل الوقت عند الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة - .
وقيّد الحنفيّة أفضليّة التّأخير إلى آخر الوقت أن لا يخرج وقت الفضيلة لا مطلقاً ، حتّى لا يقع المصلّي في كراهة الصّلاة بعد وقت الفضيلة .
واختلفوا في صلاة المغرب هل يؤخّر أم لا ؟ ذهب إلى كلّ فريق من الحنفيّة .
وأمّا المالكيّة فقد فصّلوا في هذه المسألة ، فقالوا : استحباب التّأخير لمن كان يرجو وجود الماء ظنّا أو يقينا ، أمّا إذا كان متردّداً أو راجياً له فيتوسّط في فعل الصّلاة .
والقول باستحباب التّأخير هو قول ابن القاسم وهو المعتمد في المذهب ، لأنّ مريد الصّلاة حين حلّت الصّلاة ووجب عليه القيام لها غير واجد للماء فدخل في قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّبَاً } . فكان مقتضى الأمر وجوب التّيمّم أوّل الوقت لكنّه أخّر نظرا لرجائه ، فجعل له حالة وسطى وهي الاستحباب .
وذهب ابن حبيب من المالكيّة إلى أنّ التّيمّم في أوّل الوقت إنّما هو لحوز فضيلته ، وإذا كان موقنا بوجود الماء في الوقت وجب عليه التّأخير ليصلّي بالطّهارة الكاملة ، فإن خالف وتيمّم وصلّى كانت صلاته باطلة ويعيدها أبدا .
والشّافعيّة خصّوا أفضليّته تأخير الصّلاة بالتّيمّم بحالة تيقّن وجود الماء آخر الوقت - مع جوازه في أثنائه - لأنّ الوضوء هو الأصل والأكمل ، فإنّ الصّلاة به - ولو آخر الوقت - أفضل منها بالتّيمّم أوّله . أمّا إذا ظنّ وجود الماء في آخره ، فتعجيل الصّلاة بالتّيمّم أفضل في الأظهر ، لأنّ فضيلة التّقديم محقّقة بخلاف فضيلة الوضوء .
والقول الثّاني : التّأخير أفضل . أمّا إذا شكّ فالمذهب تعجيل الصّلاة بالتّيمّم .
ومحلّ الخلاف إذا اقتصر على صلاة واحدة ، فإن صلّى أوّل الوقت بالتّيمّم وبالوضوء في أثنائه فهو النّهاية في إحراز الفضيلة .
وذهب الحنابلة إلى أنّ تأخير الصّلاة بالتّيمّم أولى بكلّ حال وهو المنصوص عن أحمد ، لقول عليّ - رضي الله عنه - في الجنب : يتلوّم ما بينه وبين آخر الوقت ، فإن وجد الماء وإلّا تيمّم ولأنّه يستحبّ التّأخير للصّلاة إلى ما بعد العشاء وقضاء الحاجة كي لا يذهب خشوعها ، وحضور القلب فيها ، ويستحبّ تأخيرها لإدراك الجماعة ، فتأخيرها لإدراك الطّهارة المشترطة أولى .
ما يجوز فعله بالتّيمّم الواحد :
39 - لمّا كان التّيمّم بدلا عن الوضوء والغسل يصحّ به ما يصحّ بهما كما سبق ، لكن على خلاف بين الفقهاء فيما يصحّ بالتّيمّم الواحد . فذهب الحنفيّة إلى أنّ المتيمّم يصلّي بتيمّمه ما شاء من الفرائض والنّوافل ، لأنّه طهور عند عدم الماء كما سبق .
واستدلّوا بحديث : « الصّعيد الطّيّب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين » وبالقياس على الوضوء ، وعلى مسح الخفّ ، ولأنّ الحدث الواحد لا يجب له طهران .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يصلّي بتيمّم واحد فرضين ، فلا يجوز للمتيمّم أن يصلّي أكثر من فرض بتيمّم واحد ، ويجوز له أن يجمع بين نوافل ، وبين فريضة ونافلة إن قدّم الفريضة عند المالكيّة . أمّا عند الشّافعيّة فيتنفّل ما شاء قبل المكتوبة وبعدها لأنّها غير محصورة ، واستدلّوا بقول ابن عبّاس رضي الله عنه من السّنّة أن لا يصلّي الرّجل بالتّيمّم إلا صلاة واحدة ثمّ يتيمّم للصّلاة الأخرى .
وهذا مقتضى سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولأنّه طهارة ضرورة ، فلا يصلّي بها فريضتين ، كما استدلّوا بأنّ الوضوء كان لكلّ فرض لقوله تعالى : { إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ } والتّيمّم بدل عنه ، ثمّ نسخ ذلك في الوضوء ، فبقي التّيمّم على ما كان عليه ، ولقول ابن عمر يتيمّم لكلّ صلاة وإن لم يحدث .
وذهب الحنابلة إلى أنّه إذا تيمّم صلّى الصّلاة الّتي حضر وقتها ، وصلّى به فوائت ويجمع بين صلاتين ، ويتطوّع بما شاء ما دام في الوقت ، فإذا دخل وقت صلاة أخرى بطل تيمّمه وتيمّم ، واستدلّ الحنابلة بأنّه كوضوء المستحاضة يبطل بدخول الوقت .
ويجوز عند المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ . صلاة الجنازة مع الفرض بتيمّم واحد ، لأنّ صلاة الجنازة لمّا كانت فرض كفاية سلك بها مسلك النّفل في جواز التّرك في الجملة . ويجوز بالتّيمّم أيضا قراءة القرآن إن كان جنبا ومسّ المصحف ، ودخول المسجد للجنب ، أمّا المرور فيجوز بلا تيمّم .(197/9)
وعند الشّافعيّة يجدّد التّيمّم للنّذر لأنّه كالفرض في الأظهر ، ولا يجمعه في فرض آخر . ويصحّ عند الشّافعيّة لمن نسي صلاة من الصّلوات الخمس أن يصلّيها جميعا بتيمّم واحد ، لأنّه لمّا نسي صلاة ولم يعلم عينها وجب عليه أن يصلّي الخمس لتبرأ ذمّته بيقين .
وإنّما جاز تيمّم واحد لهنّ لأنّ المقصود بهنّ واحدة والباقي وسيلة .
وعند المالكيّة يتيمّم خمسا لكلّ صلاة تيمّم خاصّ بها ، ولا يجمع بين فرضين بتيمّم واحد .
ما يصحّ فعله بالتّيمّم مع وجود الماء :
40 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يصحّ فعل عبادة مبنيّة على الطّهارة بالتّيمّم عند وجود الماء إلّا لمريض ، أو مسافر وجد الماء لكنّه محتاج إليه ، أو عند خوف البرد كما سيأتي . وعلى هذا فمن فعل شيئا من العبادات المبنيّة على الطّهارة بالتّيمّم مع وجود الماء في غير الأحوال المذكورة بطلت عبادته ولم تبرأ ذمّته منها .
وذهب الحنفيّة - في المفتى به عندهم - إلى جواز التّيمّم لخوف فوت صلاة جنازة - أي : فوت جميع تكبيراتها - أمّا إذا كان يرجو أن يدرك بعض تكبيراتها فلا يتيمّم لأنّه يمكنه أداء الباقي وحده ، سواء كان بلا وضوء ، أو كان جنبا ، أو حائضا ، أو نفساء إذا انقطع دمها على العادة . لكنّهم اشترطوا في الحائض أن يكون انقطاع دمها لأكثر الحيض .
أمّا إذا كان الانقطاع لتمام العادة فلا بدّ أن تصير الصّلاة دينا في ذمّتها ، أو تغتسل ، أو يكون تيمّمها كاملا بأن يكون عند فقد الماء .
ولو جيء بجنازة أخرى إن أمكنه التّوضّؤ بينهما ، ثمّ زال تمكّنه أعاد التّيمّم وإلّا لا يعيد ، وعند محمّد يعيد على كلّ حال . واختلفوا في وليّ الميّت ، هل يجوز له التّيمّم لأنّ له حقّ التّقدّم ، أو ينتظر لأنّ له حقّ الإعادة ولو صلّوا ؟ فيه خلاف في النّقل عن أبي حنيفة . ويجوز التّيمّم عند وجود الماء أيضا لخوف فوت صلاة العيد بفراغ إمام ، أو زوال شمس ولو بناء على صلاته بعد شروعه متوضّئا وسبق حدثه فيتيمّم لإكمال صلاته ، بلا فرق بين كونه إماما أو مأموما في الأصحّ ، لأنّ المناط خوف الفوت لا إلى بدل .
وكذا كلّ صلاة غير مفروضة خاف فوتها ككسوف وخسوف ، وسنن رواتب ولو سنّة فجر خاف فوتها وحدها ، لأنّها تفوت لا إلى بدل ، وهذا على قياس أبي حنيفة وأبي يوسف ، أمّا على قياس محمّد فلا يتيمّم لها ، لأنّها إذا فاتته لاشتغاله بالفريضة مع الجماعة يقضيها بعد ارتفاع الشّمس عنده ، وعندهما لا يقضيها ، ويجوز التّيمّم عند الحنفيّة أيضا عند وجود الماء لكلّ ما يستحبّ له الطّهارة ، ولا تشترط كنوم وسلام وردّ سلام ، ولدخول مسجد والنّوم فيه ، وإن لم تجز به الصّلاة .
وقال ابن عابدين : إنّ التّيمّم لما لا تشترط له الطّهارة غير معتبر أصلا مع وجود الماء إلّا إذا كان ممّا يخاف فوته لا إلى بدل ، فلو تيمّم المحدث للنّوم ، أو لدخول المسجد مع قدرته على الماء فهو لغو ، بخلاف تيمّمه لردّ السّلام مثلا لأنّه يخاف فوته لأنّه على الفور ، ولذا فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم . قال ابن عابدين : وهو الّذي ينبغي التّعويل عليه .
ولم نجد لهذه المسألة ذكرا عند بقيّة المذاهب .
ولا يجوز التّيمّم عند الحنفيّة مع وجود الماء لخوف فوت جمعة ووقت ، ولو وترا ، لفواتها إلى بدل . وقال زفر : يتيمّم لفوات الوقت . قال الحلبيّ : فالأحوط أن يتيمّم ويصلّي ثمّ يعيد. قال ابن عابدين : وهذا - قول الحلبيّ - قول متوسّط بين القولين وفيه الخروج عن العهدة بيقين ، ثمّ رأيته منقولا في التتارخانية عن أبي نصر بن سلّام وهو من كبار الأئمّة الحنفيّة ، فينبغي العمل به احتياطا ، ولا سيّما وكلام ابن الهمام يميل إلى ترجيح قول زفر .
حكم فاقد الطّهورين :
41 - فاقد الطّهورين هو الّذي لم يجد ماء ولا صعيدا يتيمّم به ، كأن حبس في مكان ليس فيه واحد منهما ، أو في موضع نجس ليس فيه ما يتيمّم به ، وكان محتاجاً للماء الّذي معه لعطش ، وكالمصلوب وراكب سفينة لا يصل إلى الماء ، وكمن لا يستطيع الوضوء ولا التّيمّم لمرض ونحوه . فذهب جمهور العلماء إلى أنّ صلاة فاقد الطّهورين واجبة لحرمة الوقت ولا تسقط عنه مع وجوب إعادتها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ولا تجب إعادتها عند الحنابلة ، أمّا عند المالكيّة فإنّ الصّلاة عنه ساقطة على المعتمد من المذهب أداء وقضاء . وفي مسألة صلاة فاقد الطّهورين تفصيلات يرجع إليها في مصطلح : ( صلاة ) .
التّيمّم للجبيرة والجرح وغيرهما :
42 - اتّفق الفقهاء على أنّ من كان في جسده كسور أو جروح أو قروح ونحو ذلك ، فإن لم يخف ضررا أو شيئا وجب غسلها في الوضوء والغسل ، فإن خاف شيئاً من ذلك فيجوز المسح على الجرح ونحوه ، ويجوز التّيمّم وذلك في أحوال خاصّة يذكر تفصيلها والخلاف فيها في مصطلح : ( جبيرة ) .(197/10)
ثنيّ *
التّعريف :
1 - الثّنيّ في اللّغة : الّذي يلقي ثنيّته والجمع ثنيان وثناء ، والأنثى ثنيّة وجمعها ثنيّات ، ويكون ذلك في ذوات الظّلف والخفّ والحافر .
والثّنيّة : واحدة الثّنايا وهي من الأسنان الأربع الّتي في مقدّم الفم ثنتان من فوق وثنتان من أسفل . والثّنيّة أيضا طريق العقبة بين الجبلين .
2 - واختلفت أقوال الفقهاء في المراد بالثّنيّة على النّحو التّالي :
أ - الثّنيّ من الإبل :
الثّنيّ من الإبل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ما كان له خمس سنين وطعن في السّادسة ، وعند المالكيّة ابن ستّ سنين ، وهو ما رواه حرملة عن الشّافعيّ .
ب - من البقر والجاموس :
يرى الحنفيّة والحنابلة ، وهو مذهب المالكيّة والمشهور عند الشّافعيّة ، أنّ الثّنيّ من البقر والجاموس ما استكمل سنتين ودخل في الثّالثة .
وذهب المالكيّة في قول : وهو ما رواه حرملة عن الشّافعيّ إلى أنّه ما استكمل ثلاث سنين ، ودخل في الرّابعة . وللشّافعيّة قول ثالث : وهو أنّ الثّنيّ من البقر ما استكمل سنة .
ج - من الضّأن والمعز :
ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو قول للمالكيّة ، ورواية عن الشّافعيّة إلى أنّه ما استكمل سنة ودخل في الثّانية .
والمذهب عند المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، أنّه ما استكمل سنتين ودخل في الثّالثة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الجذع :
3 - الجذع بفتحتين قبل الثّنيّ ، وليس تسميته بسنّ تسقط أو تنبت ، والجمع جذعان وجذاع ، والأنثى جذعة ، والجمع جذعات ، وجذاع ، وهي في اللّغة لولد الشّاة في السّنة الثّانية ، ولولد البقرة وولد ذات الحافر في السّنة الثّالثة ، وللإبل في السّنة الخامسة .
وأمّا في الاصطلاح فاختلف الفقهاء فيه على أقوال ينظر تفصيلها في مصطلح : ( جذع ) .
ب - الحقّ :
4 - الحقّ بالكسر ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين وقد دخل في الرّابعة ، والأنثى حقّة وحقّ أيضا وإنّما سمّيت بذلك لأنّها استحقّت أن تركب ويحمل عليها ، ويطرقها الفحل .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
5 - تعرّض الفقهاء للثّنيّ في أبواب الزّكاة ، والأضحيّة ، والهدي ، وذهبوا إلى جواز دفع الثّنيّ من الإبل ، والبقر ، والضّأن ، والمعز في الزّكاة ، وإجزائه في الأضحيّة .
واختلفوا في المراد به على ما سبق ( ف 2 ) .(198/1)
ثَول *
التّعريف :
1 - الثّول داء يشبه الجنون ، قال صاحب القاموس : الثّول استرخاء في أعضاء الشّاء خاصّة ، أو كالجنون يصيبها فلا تتبع الغنم وتستدير في مرتعها . وقال ابن الأثير : هو داء يأخذ الغنم كالجنون يلتوي معه عنقها ، وقيل هو داء يأخذ في ظهورها ورءوسها فتخرّ منه ، والثّولاء من الشّاء ، وغيرها المجنونة ، والذّكر أثول .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ . قال الرّمليّ : الثّولاء هي المجنونة الّتي تستدبر الرّعي ولا ترعى إلاّ القليل ، وذلك يورث الهزال .
الألفاظ ذات الصّلة :
الهيام :
2 - من معاني الهيام أنّه داء يصيب الإبل من ماء تشربه مستنقعا ، أو هو عطش شديد لا ترتوي معه بالماء ، فتهيم في الأرض ولا ترعى . والواحد هيمان ، والأنثى هيمى والصّلة بين الهيماء والثّولاء أنّ كلا منهما مصابة بآفة تمنعها من السّوم والرّعي .
الحكم الإجماليّ :
3 - يرى الشّافعيّة والمالكيّة على المذهب عدم إجزاء الثّولاء في الأضحيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة خصّوا عدم الإجزاء بالشّاة دائمة الجنون الّتي فقدت التّمييز بحيث لا تهتدي لما ينفعها ولا تجانب ما يضرّها ، أمّا الجنون غير الدّائم فلا يضرّ عندهم .
وذهب الحنفيّة وابن عبد البرّ من المالكيّة إلى جواز التّضحية بالثّولاء ، إلاّ أنّ الحنفيّة قيّدوا جواز التّضحية بها بما إذا كانت تعتلف ، أمّا إذا كان الثّول يمنعها من الرّعي والاعتلاف فلا تجوز ; لأنّه يفضي إلى هلاكها فكان عيبا فاحشا . كما قيّد ابن عبد البرّ جواز التّضحية بالثّولاء بكونها سمينة . ولم نر نصّاً في ذلك للحنابلة . وللتّفصيل : ( ر : أضحيّة ) .(199/1)
جباية *
التّعريف :
1 - الجباية في اللّغة : الجمع والتّحصيل يقال : جبيت المال والخراج أجبيه جباية ، جمعته ، وجبوته أجبوه جباوة مثله ، والجابية حوض ضخم .
والجابي : هو الّذي يجمع الخراج ، وكذا من يجمع الماء للإبل ، والجباوة : اسم الماء المجموع . ولا يخرج اصطلاح الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحساب :
2 - الحساب هو العمل الّذي يحتاج إليه في ضبط المال الّذي يجمعه الجباة ، ومعرفة مورده ومصرفه ، ومعناه في اللّغة ، إحصاء المال وعدّه ، والحساب ، من وسائل ضبط الجباية . ب - الخرص :
3 - الخرص تقدير ما على النّخل ونحوه من ثمر ، بالظّنّ والفرق بين الخرص والجباية ، أنّ الخارص عمله التّقدير ، والجابي عمله الجمع .
ج - العرافة :
4 - العرافة ومعناها في اللّغة : تدبير القوم والقيام على سياستهم ، والعريف عند الفقهاء هو الّذي يعرّف الجابي أرباب الصّدقات إذا لم يعرفهم .
د - الكتابة :
5 - الكتابة : تقييد ما يدفعه أرباب الأموال من الصّدقة . وهي من وسائل ضبط الجباية .
حكم الجباية :
6 - جباية ما أوجبه الشّرع لبيت المال واجبة على الإمام . قال الماورديّ : والّذي يلزمه - أي الإمام - من الأمور عشرة أشياء .. ثمّ أورد منها : " جباية الفيء والصّدقات على ما أوجبه الشّرع نصّا واجتهادا من غير عسف " .
محلّ الجباية :
الجباية تكون في الأموال الّتي ترد إلى بيت المال كبعض أموال الزّكاة وأموال الفيء .
وفيما يلي ما يتعلّق بجباية كلّ منهما .
أ - جباية الزّكاة :
7 - جباية الزّكاة واجبة ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السّعاة » ، ولأنّ في النّاس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه ، ومنهم من يبخل ، فوجب أن يبعث من يأخذ . وعمل الجابي إنّما يكون في الأموال الّتي ولّاه الإمام جبايتها . وقد ذكر الفقهاء شروطا للعاملين عليها ، وهي تشمل العاملين على جبايتها ، وذكروا أيضا ما يستحقّه العامل من جاب وغيره مقابل عمله ، وذكروا أيضا الكيفيّة الّتي تتمّ بها جباية الزّكاة . وفيما يلي بيان النّقاط التّالية :
أوّلاً - شروط الجابي :
ذكر الفقهاء للجابي شروطاً هي :
- أ - الإسلام :
8 - اشتراط الإسلام هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو المذهب عند الحنابلة لقوله تعالى : { يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً منْ دُونِكمْ } ولأنّ العمل الّذي يقوم به الجابي وغيره في الزّكاة إنّما هو ولاية فاشترط فيها الإسلام كسائر الولايات ، وفي رواية عند الحنابلة لا يشترط إسلامه ، لأنّه يأخذ أجراً مقابل جبايته .
ب - أن يكون مكلّفاً :
9 - وهو أن يكون الجابي بالغا عاقلا لعدم أهليّة الصّغير والمجنون للقبض ، ولأنّ عمله ولاية ، وغير المكلّف لا ولاية له .
ج - الكفاية :
10 - ذكر هذا الشّرط الحنابلة في كتبهم ، والمراد بالكفاية أهليّته للقيام بعمله ، والقدرة على تحمّل أعبائه ، فإنّ الأمانة وحدها لا تفي ما لم يصحبها القوّة على العمل والكفاية فيه .
د - العلم بأحكام ما يجبى من زكاة وغيرها :
11 - ذكر هذا الشّرط المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، والمراد به أن يكون العامل على الزّكاة من جاب وغيره عالما بحكمها لئلاّ يأخذ غير الواجب أو يسقط واجباً ، أو يدفع لغير المستحقّ أو يمنع مستحقّا .
وعبارة أبي إسحاق الشّيرازيّ : ولا يبعث إلاّ فقيها لأنّه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ، ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض من مسائل الزّكاة وأحكامها . وقد ذكر الحنابلة أنّ العامل إن كان من عمّال التّفويض ، أي من الّذين يفوّض إليهم عموم الأمر ، فإنّه يشترط علمه بأحكام الزّكاة ، لأنّه إذا لم يكن عالما بذلك لم تكن فيه كفاية له ، وإن كان العامل منفّذا وقد عيّن له الإمام ما يأخذه جاز أن لا يكون عالما بأحكام الزّكاة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يبعث العمّال ويكتب لهم ما يأخذون » وكذلك كتب أبو بكر لعمّاله .
هـ - العدالة والأمانة :
12 - ذكر هذا الشّرط المالكيّة والشّافعيّة وجعل بعض الحنابلة الأمانة شرطا مستقلّا والمراد بالعدالة أن لا يكون فاسقا ، لأنّ الفاسق لا ولاية له ، والمراد بالعدالة هنا كما جاء في الدّسوقيّ والخرشيّ من كتب المالكيّة عدالة كلّ واحد فيما يفعله ، فعدالة المفرّق في تفرقتها ، والجابي في جبايتها ، وهكذا ، وليس المراد بها عدالة الشّهادة أو الرّواية .
والعدالة والعلم بحكمها شرطان عند المالكيّة في العمل والإعطاء من الزّكاة .
و - كونه من غير آل البيت :
13 - يجوز اتّفاقا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة استعمال ذوي القربى على الصّدقات إن دفعت إليهم أجرتهم من غير الزّكاة .
أمّا إن كان ما يأخذونه على عملهم من الزّكاة فقد اختلف الفقهاء .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة إلى عدم جواز إعطائهم عن العمل منها تنزيها لقرابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شبهة أخذ الصّدقة ، لأنّ « الفضل بن العبّاس ، والمطّلب بن ربيعة سألا النّبيّ صلى الله عليه وسلم العمالة على الصّدقات فقال : إنّ الصّدقة لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد » وهو نصّ في التّحريم لا تجوز مخالفته .
وجوّز بعض الشّافعيّة في وجه كون العامل من ذوي القربى وأن يعطى على عمله من سهم الزّكاة ، لأنّ ما يأخذه العامل على سبيل العوض عن عمله .
وذهب الباجيّ من المالكيّة إلى جواز استعمال ذوي القربى في الأعمال الأخرى للزّكاة كالحراسة والسّوق ، لأنّها إجارة محضة .
ثانياً - مقدار ما يستحقّه مقابل عمله :(200/1)
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ العامل من جاب وغيره يستحقّ أجرا على عمله ولكنّهم اختلفوا في مقدار ما يستحقّه مقابل عمله ، وفي كونه يتقيّد بالثّمن ، وفي كون ما يأخذه أجرة . فذهب الحنفيّة إلى أنّ الجابي في الصّدقة يعطى بقدر عمله ما يسعه وأعوانه زاد على الثّمن أو نقص وإن جاوزت كفايته نصف ما جمع من الزّكاة فلا يزاد على النّصف لأنّ التّنصيف عين الإنصاف ، وإنّما يعطى كفايته لأنّه فرّغ نفسه للعمل لمصلحة الفقراء ، فيكون كفايته في الزّكاة كالمقاتلة والقاضي ، وليس ذلك بالإجارة لأنّه عمل غير معلوم ، وما يأخذه العامل من الزّكاة إنّما يأخذه عمالة ، لأنّ أصحاب الأموال لو حملوا الزّكاة إلى الإمام لا يستحقّ العامل شيئا ولو هلك ما جمعه من الزّكاة لم يستحقّ العامل شيئا كالمضارب إذا هلك مال المضاربة ، إلاّ أنّ فيه شبه الصّدقة بدليل سقوط الزّكاة عن أرباب الأموال .
ولذا لا تحلّ للعامل الهاشميّ تنزيها له عن تلك الشّبهة بخلاف الغنيّ ، لأنّه لا يوازيه في الكرامة ، كما لا تحلّ للإمام أو القاضي ، لأنّ رزقهما في بيت المال .
وذكر المالكيّة أنّ الجابي يأخذ أجرة مثله ولا تتقيّد تلك الأجرة بالثّمن ولا بالنّصف ، بل إنّ الزّكاة تدفع كلّها له إن لم يف بعضها بأجرة المثل .
وذكروا أيضا أنّ الجباة لا تدفع أجورهم من الزّكاة إلاّ بوصف الفقر ، فإن لم يكونوا فقراء أخذوا أجورهم من بيت المال مقابل عملهم ، ومثل الجباة في هذا حرّاس زكاة الفطر ، أو حرّاس زكاة المال ، وأمّا ما سوى هؤلاء من العاملين فإنّهم يأخذون أجورهم من الزّكاة بأحد وصفين : الفقر ، أو العمل ، أو بهما معا . إن لم يف أحدهما بالأجرة ، ولا يأخذ الجابي عندهم بوصف العزم إذا كان مديانا بإعطاء الإمام ، لأنّه يقسمها فلا يحكم لنفسه .
ومذهب الشّافعيّة وجوب صرف جميع الزّكاة إلى جميع الأصناف الثّمانية ، مع وجوب التّسوية بين حصص الأصناف الثّمانية ، فيكون لكلّ صنف من الأصناف الثّمانية ثمن ما جمع من الزّكاة . ويستحقّ العامل عند الشّافعيّة من جاب وغيره قدر أجرة عمله قلّ أم كثر ، وهذا متّفق عليه ، فإن كان نصيبه من الزّكاة وهو الثّمن قدر أجرته فقط أخذه ، وإن كان أكثر من أجرته أخذ أجرته والباقي للأصناف بلا خلاف ، لأنّ الزّكاة منحصرة في الأصناف فإذا لم يبق للعامل فيها حقّ تعيّن الباقي للأصناف ، وإن كان أقلّ من أجرته وجب إتمام أجرته بلا خلاف ، وذكر صاحب المهذّب في الجهة الّتي تتمّم منها تلك الأجرة أربع طرق الصّحيح منها عنده وعند الأصحاب كما جاء في المجموع أنّها على قولين : أصحّهما يتمّم من سهام بقيّة الأصناف وهذا الخلاف إنّما هو في جواز التّتميم من سهام بقيّة الأصناف . وأمّا بيت المال فيجوز التّتميم منه بلا خلاف ، فلو رأى الإمام أن يجعل أجرة العامل كلّها من بيت المال ويقسم جميع الزّكوات على بقيّة الأصناف جاز ، لأنّ بيت المال لمصالح المسلمين وهذا من المصالح ، صرّح بهذا كلّه صاحب الشّامل وآخرون ، ونقل الرّافعيّ اتّفاق الأصحاب عليه .
وذكر الحنابلة أنّ للإمام تعيين أجرة الجابي قبل بعثه من غير شرط ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عمر رضي الله عنه ساعياً ولم يجعل له أجرة فلمّا جاء أعطاه » ، فإن عيّن له أجرة دفعها إليه .
وإلاّ دفع إليه أجرة مثله . ويدفع منها أجرة الحاسب ، والكاتب ، والعدّاد ، والسّائق ، والرّاعي ، والحافظ ، والحمّال ، والكيّال ، ونحو ذلك ، لأنّه من مؤنتها فقدّم على غيره .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه يستحبّ البدء بالعامل لأنّه يأخذ على وجه العوض ، وغيره يأخذ على وجه المواساة .
ثالثاً - كيفيّة جباية الزّكاة :
15 - المال الّذي تجب فيه الزّكاة منه ما يعتبر فيه الحول ومنه ما لا يعتبر فيه ، فالمال الّذي لا يعتبر فيه الحول كالزّروع والثّمار لا يجبى إلاّ وقت الوجوب وهو وقت إدراك الثّمار واشتداد الحبّ . ولكن يخرص ، أي يقدّر ما فيه من الثّمر لتحديد الواجب فيه من الزّكاة . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( خرص ) .
وأمّا المال الّذي يعتبر فيه الحول كزكاة النّعم مثلاً ، فإنّ السّاعي يعيّن شهرا محدّداً من السّنة يأتي فيه أصحاب الأموال لجباية زكاته .
واستحبّ الشّافعيّ أن يكون ذلك الشّهر هو المحرّم لأنّه أوّل السّنة ، ويستحبّ عدّ الماشية على من تؤخذ منه على الماء أو في الأفنية لما روي عن عبد اللّه بن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تؤخذ صدقات النّاس على مياههم ، أو عند أفنيتهم » وإن أخبره صاحب المال بعدده قبل منه ، وإن قال لم يكمل الحول أو فرّقت زكاته ونحو هذا ممّا يمنع الأخذ منه قبل منه ولم يحلّفه ، لأنّ الزّكاة عبادة وحقّ للّه تعالى فلا يحلف عليها كالصّلاة ، ويستحبّ أن لا يأخذ كرائم المال « لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فإن هم أطاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم » وذلك لأنّ الزّكاة مواساة للفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء . ولا يأخذ من أردئها بل يأخذ الوسط .
ويستحبّ للجابي إذا قبض الصّدقة أن يدعو للمزكّي ، لقول اللّه تعالى : { خُذْ مِنْ أمْوَالِهم صَدَقَةً تُطَهِّرْهم وتُزَكِّيهمْ بها وَصلِّ عليهم إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهمْ } وروى عبد اللّه بن أبي أوفى قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللّهمّ صلّ على آل فلان فأتاه أبي بصدقة فقال : اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى » ولا يجب الدّعاء .(200/2)
قال ابن حجر : لأنّه لو كان واجبا لعلّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم السّعاة ، ولأنّ سائر ما يأخذه الإمام من الكفّارات والدّيون وغيرهما لا يجب عليه فيها الدّعاء ، فكذلك الزّكاة ، وأمّا الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصّا به لكون صلاته سكنا بخلاف غيره .
ومن الدّعاء أن يقول : آجرك اللّه فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وجعله اللّه طهوراً ، ويستحبّ للمعطي أن يقول : اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً .
ونقل وجه لبعض الشّافعيّة أنّ دعاء قابض الصّدقة لدافعها واجب عملاً بظاهر الآية لقوله تعالى : { وَصَلِّ عَليهمْ } .
رابعاً - جباية الفيء :
16 - الفيء من موارد بيت المال ، وهو المال المأخوذ من الكفّار بغير قتال ولا إيجاف خيل أو ركاب . ويشمل الفيء عدداً من الأموال منها ما هرب عنه الكفّار بغير قتال ، ومنها الجزية ، والخراج ، والعشور .
أ - جباية الجزية :
17 - الجزية لغة : اسم للمال المأخوذ من أهل الذّمّة . واصطلاحاً عبارة عن وظيفة أو مال يؤخذ من الكافر في كلّ عام مقابل إقامته في ديار الإسلام .
أمّا الإنابة في أدائها ومقدارها ومتى تجب وعلى من تجب فينظر في ذلك مصطلح :( جزية ).
18 - وأمّا كيفيّة جبايتها فقد أورد بعض الفقهاء منهم الخراسانيّون من الشّافعيّة صوراً لكيفيّة الصّغار منها : الوارد في الآية ، ومنها أنّ الجزية تؤخذ من الذّمّيّ وهو قائم ، ويكون القابض قاعدا ، وتكون يد القابض أعلى من يد الذّمّيّ ، ويقول له القابض أعط يا عدوّ اللّه . وقال النّوويّ والرّافعيّ : إنّ الأصحّ عند الشّافعيّة تفسير الصّغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم ، ونقل عميرة البرلّسيّ نحوه من كلام الشّافعيّ في الأمّ فقد قال : إن أخذ الجزية منهم أخذها بأحمال ولم يضرّ أحد منهم ولم ينله بقول قبيح . قالوا : وأشدّ الصّغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطرّ إلى احتماله .
وقريب من ذلك ما ذكره الحنابلة من أنّ أهل الذّمّة لا يعذّبون في أخذ الجزية .
فعن هشام بن عروة قال : مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشّام قد أقيموا في الشّمس فقال : ما شأنهم ؟ قالوا حبسوا في الجزية ، فقال هشام : أشهد لسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ اللّه يعذّب الّذين يعذّبون النّاس في الدّنيا » .
وروي أنّ عمر أتي بمال كثير قال أبو عبيد أحسبه الجزية فقال : إنّي لأظنّكم قد أهلكتم النّاس ؟ قالوا واللّه ما أخذنا إلاّ عفواً صفواً قال بلا سوط ولا نوط . قالوا : نعم . قال : الحمد للّه الّذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني .
ب - جباية الخراج :
19 - الخراج في اللّغة : اسم للكراء والغلّة ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الخراج بالضّمان » وهو عند الفقهاء ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدّى عنها لبيت المال . ، والأرض المختصّة بوضع الخراج عليها هي الّتي صولح عليها المشركون من أرضهم على أنّها لهم ولنا عليها الخراج . وكذلك الأرض الّتي فتحت عنوة عند من يقول بوضع الخراج عليها . فأمّا مقدار الخراج المأخوذ فينظر في مصطلح : ( خراج ) .
ج - جباية عشور أهل الذّمّة :
20 - العشر ضريبة من أهل الذّمّة عن أموالهم الّتي يتردّدون بها متاجرين إلى دار الحرب ، أو يدخلون بها من دار الحرب إلى دار الإسلام ، أو ينتقلون بها من بلد في دار الإسلام إلى بلد آخر ، تؤخذ منهم في السّنة مرّة ما لم يخرجوا من دار الإسلام ثمّ يعودوا إليها مثلها عشور أهل الحرب من التّجّار كذلك إذا دخلوا بتجارتهم إلينا مستأمنين .
ما يشترط في جابي الخراج :
21 - يرسل الإمام بعض أهل الخبرة ليقدّر ما يوضع على الأرضين الخراجيّة من الخراج فإذا استقرّ ذلك وعلم يرسل الإمام من يجبي الخراج في موعده حسب التّقدير السّابق ، ويشترط في من يقوم بجباية عموم ما استقرّ من أموال الفيء من خراج وغيره ، الإسلام ، والحرّيّة ، والأمانة ، والاضطلاع بالحساب والمساحة ، ولا يشترط أن يكون فقيها مجتهداً ، لأنّه يتولّى قبض ما استقرّ بوضع غيره .
فإن كانت ولايته على نوع خاصّ من أموال الفيء فإنّه يعتبر ما وليه منها ، وحينئذ لا يخلو حاله عن أحد أمرين إمّا أن لا يستغني فيه عن الاستنابة ، وإمّا أن يستغني عنها ، فإن لم يستغن فيه عن الاستنابة اعتبر فيه الإسلام والحرّيّة مع اضطلاعه بشروط ما ولي من مساحة أو حساب ، ولم يجز أن يكون ذمّيّا ولا عبدا لأنّ فيها ولاية ، وإن استغنى عن الاستنابة جاز أن يكون عبدا لأنّه كالرّسول المأمور . وأمّا كونه ذمّيّا فينظر فيما ردّ إليه من مال الفيء ، فإن كانت معاملته فيه مع المسلمين كالخراج الموضوع على رقاب الأرضين إذا صارت في أيدي المسلمين ففي جواز كونه ذمّيّا وجهان .
هذا وإذا بطلت ولاية العامل فقبض مال الفيء مع فساد ولايته برئ الدّافع ممّا عليه إذا لم ينهه عن القبض ، لأنّ القابض منه مأذون له ، وإن فسدت ولايته وجرى في القبض مجرى الرّسول ، ويكون الفرق بين صحّة ولايته وفسادها أنّ له الإجبار على الدّفع مع صحّة الولاية وله الإجبار مع فسادها ، فإن نهي عن القبض مع فساد ولايته لم يكن له القبض ولا الإجبار ولم يبرأ الدّافع بالدّفع إليه إذا علم بنهيه . وفي براءته إذا لم يعلم بالنّهي وجهان ، بناء على عزل الوكيل إذا تصرّف من غير علم بالعزل . هذا ويعيّن الجابي شهراً من السّنة لجباية تلك الأموال ، وأمّا ما يأخذه مقابل عمله فهو كما ذكر المالكيّة كفاية سنة ويقدّمه الإمام على غيره عند القسمة بعد آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
محاسبة الإمام للجباة :(200/3)
22 - يجب على الإمام محاسبة الجباة تأسّيا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأنّه فعل ذلك فقد جاء في صحيح البخاريّ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللّتبيّة فلمّا جاء حاسبه » وهو أصل في محاسبة الجباة . ويجب على الجباة أن يكونوا صادقين مع الإمام فلا يخفوا شيئا من المال الّذي جمعوه لأنّه من الأمانة . وقد قال اللّه تعالى : { يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسول وتَخُونُوا أَمانَاتِكم وأَنْتم تعلمون } . وقد توعّد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عديّ أبي عميرة الكنديّ قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة قال : فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأنّي أنظر إليه فقال يا رسول اللّه : اقبل عنّي عملك قال : وما لك قال : سمعتك تقول كذا وكذا قال : وأنا أقول الآن ، من استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره ، فما أوتي منه أخذ ، وما نهي عنه انتهى » .
وليس للجباة أن يدّعوا أنّ بعضه أهدي إليهم ، وما أهدي إليهم بسبب العمل يردّ إلى بيت المال « لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يقبل ذلك من ابن اللّتبيّة حين قدم بعد أن استعمله على الصّدقة وقال هذا لكم وهذا لي أهدي لي ، بل قام على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال : ما بال عامل أبعثه فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أيهدى إليه أم لا والّذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، بعير له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرتي إبطيه ثمّ قال : اللّهمّ هل بلّغت مرّتين » .(200/4)
جبر *
التّعريف :
1 - الجبر في اللّغة خلاف الكسر . يقال : جبر عظمه جبراً أي أصلحه بعد كسر ، ويأتي بمعنى الإحسان إلى الرّجل فيقال : جبره جبرا إذا أحسن إليه ، وأغناه بعد فقر . ويأتي بمعنى التّكميل فيقال : من ترك واجبا من واجبات الحجّ أو أتى بمحظور فيه : جبره بالدّم .
كما يقال : جبر المزكّي ما أخرجه إذا لم يجد السّنّ الواجب في زكاة إبله فأخرج ما دونه ودفع الفضل ، ويسمّى دفع الفضل جبرانا ، ويأتي بمعنى الإكراه على الشّيء ، فيقال : جبره على الأمر جبرا ، وحكى الأزهريّ : جبره جبوراً وأجبره إجباراً : أكرهه عليه .
والاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن هذه المعاني اللّغويّة .
الحكم التّكليفيّ :
2 - يختلف حكم الجبر باختلاف ما يطلق عليه . فالجبر بمعنى الإكراه : قد يكون مشروعاً . كإجبار القاضي المدين الممتنع عن أداء الدّين الحالّ بلا عذر شرعيّ على أداء الدّين بطلب صاحبه . وقد يكون غير مشروع كإجبار الشّخص على بيع ماله ، أو طلاق زوجة بغير مقتضى شرعيّ ، فيحرم .
أمّا الجبر بمعنى التّكميل فيكون إذا ترك واجبا في الحجّ أو ارتكب محظورا فيه . وكذا إذا لم يجد في زكاة الإبل السّنّ الواجبة فأراد أن ينزل إلى ما تحتها فيجب دفع الجبران عليه . والجبر بمعنى إصلاح العظم بعد كسره مشروع إذا خيف ضرر بفوات العضو ، أو هلاك النّفس . وتفصيله في : ( تداو ) .
أمّا الجبر : بمعنى الإجبار فينظر في مصطلح : ( إجبار - وإحالاته ) .
المسح على الجبيرة :
3 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في وجوب المسح على موضوع الجبر إذا شدّت عليه جبيرة ، وهو من أعضاء الوضوء وتعذّر الغسل على العضو ، أو وجب عليه الغسل كالجنب. وفي ذلك تفصيل واختلاف يرجع إليه في مصطلح : ( جبيرة ، مسح ، تيمّم ) .
جبر واجب الزّكاة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من وجب عليه في زكاة إبله سنّ معيّنة فلم يجدها يجوز له العدول إلى ما تحتها مع الجبر ، ويسمّى في عرف الفقهاء جبرانا ، أو يأخذ المصدّق سنّا فوقها ويعطي المزكّي الجبران ، ثمّ اختلفوا في الجبران هل هو محدّد شرعا ؟ فذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّ الجبر محدّد شرعا : وهو شاتان ، أو عشرون درهما ، وكما يشرع الجبران بين سنّ وسنّ تالية لها ، يشرع بين السّنّ والسّنّ الأعلى من الّتي تليها إن عدمت التّالية فيدفع جبرانين أو ثلاثا ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة .
فإذا كان واجبه بنت مخاض فلم يجدها ، فله أن يصعد إلى بنت لبون فيأخذ جبرانا ، وهو شاتان ، أو عشرون درهما ، وإن كان واجبه بنت لبون فلم يجدها ، له أن ينزل إلى بنت مخاض ، فيدفع الجبران ، وهكذا .
وعند الحنفيّة يجب عليه الفضل بين الواجب وبين ما لديه ، وهو الفرق بين قيمتيهما .
وقال المالكيّة : يجب تحصيل الواجب فلا يجوز للسّاعي أخذ ما فوق الواجب ودفع الجبران . أمّا إذا نزل إلى ما تحت الواجب ، ودفع إليه ثمنا جاز . والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ) .
الجبر بالدّم :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ : من ترك واجبا من واجبات الحجّ كالإحرام من الميقات ، ورمي الجمار كلّها أو بعضها ، ولم يتمكّن من الإتيان به ، يجب عليه الجبر بالدّم ، ولا يجبر بالدّم إلاّ ما كان واجبا . أمّا أركان الحجّ فلا تجبر إذا تركت ، وأمّا تفصيل ما يعتبر واجبا يجبر بالدّم ، واختلاف الفقهاء فيه ، ونوع الجبر ، فيرجع إلى مصطلح : ( حجّ ) .(201/1)
جبهة *
التّعريف :
1 - الجبهة من الوجه معروفة هي مستوى ما بين الحاجبين إلى النّاصية ، وقال الأصمعيّ : هي موضع السّجود ، والجمع جباه .
أمّا في الاصطلاح فلها إطلاقان : فالجبهة من الوجه الّتي يجب غسلها في الوضوء ، عرّفها الفقهاء في أبواب الوضوء بأنّها ما ارتفع عن الحاجبين إلى مبدأ الرّأس ، وهو أوّل شعر الرّأس المعتاد ، فتشمل الجبينين .
وعرّفوها في أبواب الصّلاة بأنّها مستدير ما بين الحاجبين ، وبأنّها ما اكتنفه الجبينان ، وبهذا المعنى لا تشمل الجبينين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الجبين :
2 - الجبين فوق الصّدغ ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وعن شمالها فإذا أردنا بالجبهة مستدير ما بين الحاجبين إلى النّاصية فالجبين والجبهة متباينان ، أمّا إن أردنا بالجبهة ما ارتفع عن الحاجبين إلى مبدأ الرّأس فالجبين جزء من الجبهة .
ب - النّاصية :
3 - النّاصية قصاص الشّعر من مقدّم الرّأس ، ونقل عن الأزهريّ قوله : النّاصية عند العرب منبت الشّعر في مقدّم الرّأس لا الشّعر الّذي تسمّيه العامّة النّاصية وقدّرها الحنفيّة بربع الرّأس ، لأنّها أحد جوانبه كما علّله الزّيلعيّ .
وعلى ذلك فالنّاصية مقدّم الرّأس ابتداء من منبت الشّعر فوق الجبهة .
الأحكام المتعلّقة بالجبهة :
أوّلاً - غسل الجبهة في الوضوء ومسحها في التّيمّم :
4 - الجبهة جزء من الوجه ، ولهذا يجب غسلها في الوضوء ومسحها في التّيمّم ، وذلك بنصّ الآية الكريمة : { يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا إذا قُمْتُم إلى الصَّلاةِ فَاغْسلُوا وجوهَكمْ ... } . ويدخل في غسل الجبهة أساريرها ، وهي خطوط الجبهة وانكماشها إن لم تلحق به مشقّة كما صرّح به المالكيّة . وتفصيله في مصطلح : ( وضوء ، وتيمّم ) .
ثانياً - وضع الجبهة على الأرض في السّجود :
5 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة - إلى أنّ أقلّ السّجود وضع بعض جبهة المصلّي على ما يصلّى عليه من الأرض ، أو غيرها ، فتفرض السّجدة على أيسر جزء من الجبهة لمن كان قادرا ، وذلك في الجملة ، حتّى لو ترك السّجود عليها حال الاختيار لا يجزيه ، لحديث ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال : « أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء : الجبهة ، واليدين ، والرّكبتين ، والرّجلين » . وزاد في رواية : « وأشار بيده على أنفه » ، وفي رواية النّسائيّ : « ووضع يده على جبهته وأمرّها على أنفه وقال : هذا واحد » .
وفي المسألة تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( سجود ) .
ثالثاً - تقبيل الجبهة :
6 - صرّح الفقهاء بجواز تقبيل الرّجل جبهة الرّجل ، ووجهه ، ورأسه ، إذا كان على وجه المبرّة والإكرام ، أو الشّفقة عند اللّقاء والوداع ، واحتراما مع أمن الشّهوة .
وقد ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عانق جعفراً حين قدم من الحبشة وقبّل بين عينيه » . وللتّفصيل يراجع مصطلح : ( تقبيل ) .
رابعاً - شجاج الجبهة :
7 - ذكر الفقهاء أنواع شجاج الوجه والجبهة ، وأجمعوا على أنّ في الموضحة منها قصاصاً إذا كانت عمداً ، والموضحة هي الجرح الّذي يظهر العظم بعد خرق الجلدة .
وإنّما شرع القصاص في الموضحة هو تيسير ضبطها وإمكان الاستيفاء فيها دون حيف . أمّا الأنواع الأخرى من الشّجاج فلا قصاص فيها لعسر ضبطها وصعوبة استيفاء مثلها .
وإذا سقط القصاص بسبب عسر ضبطها ففيها الدّية المحدّدة لها شرعاً ، وإلاّ فحكومة عدل . وتفصيل الموضوع في مصطلح : ( قصاص - جناية - ديات - حكومة عدل ) .
مواطن البحث :
ذكر الفقهاء أحكام الجبهة في مباحث الوضوء والسّجدة ، ومسائل النّظر والمسّ ، وبحث القصاص والجنايات ونحوها .(202/1)
جبيرة *
التّعريف :
1 - الجبيرة لغة : العيدان الّتي تشدّ على العظم لتجبره على استواء .
وجمعها : جبائر ، وهي من جبرت العظم جبرا من باب قتل أي : أصلحته ، فجبر هو أيضا ، جبرا وجبورا أي : صلح ، فيستعمل لازما ومتعدّيا ، وجبرت اليد : وضعت عليها الجبيرة ، وجبر العظم : جبره ، والمجبّر الّذي يجبر العظام المكسورة . وفي الاصطلاح لا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ، إلاّ أنّ المالكيّة فسرّوا الجبيرة بمعنى أعمّ فقالوا : الجبيرة ما يداوي الجرح سواء أكان أعوادا ، أم لزقة ، أم غير ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - اللّصوق واللّزوق
2 - اللّصوق واللّزوق - بفتح اللّام - ما يلصق على الجرح للدّواء . قال في المصباح : ثمّ أطلق على الخرقة ونحوها إذا شدّت على العضو للتّداوي . وفي كتب الشّافعيّة : اللّصوق ما كان على جرح من قطنة أو خرقة أو نحوهما ، والجبيرة ما كانت على كسر .
ب - العصابة :
3 - العصابة - بكسر العين - اسم ما يشدّ به من عصب رأسه عصبه تعصيبا : شدّه وكلّ ما عصب به كسر أو قرح من خرقة أو غيرها فهو عصاب له ، وتعصّب بالشّيء : تقنّع به . والعمائم يقال لها العصائب ، والعصابة : العمامة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لها عن المعنى اللّغويّ . وبذلك تكون العصابة عندهم أعمّ من الجبيرة وقال المالكيّة : العصابة : ما يربط فوق الجبيرة .
حكم المسح على الجبيرة :
4 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة المسح على الجبائر في حالة العذر نيابة عن الغسل أو المسح الأصليّ في الوضوء أو الغسل أو التّيمّم ، على ما يأتي : والأصل في ذلك ما روي
« عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال : كسر زندي يوم أحد فسقط اللّواء من يدي فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في يساره فإنّه صاحب لوائي في الدّنيا والآخرة ، فقلت : يا رسول اللّه ما أصنع بالجبائر ؟ فقال : امسح عليها » .
وروى جابر رضي الله عنه « أنّ رجلاً أصابه حجر فشجّه في رأسه ثمّ احتلم ، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التّيمّم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : قتلوه قتلهم اللّه . ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنّما شفاء العيّ السّؤال إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب »
ولأنّ الحاجة تدعو إلى المسح على الجبائر ، لأنّ في نزعها حرجا وضرراً .
والمسح على الجبيرة واجب عند إرادة الطّهارة ، وذلك بشروط خاصّة سيأتي بيانها ، والوجوب هنا بمعنى الإثم بالتّرك مع فساد الطّهارة والصّلاة ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة في المذهب ، والحنابلة ، وأبي يوسف ، ومحمّد من الحنفيّة .
وقال أبو حنيفة : يأثم بتركه فقط مع صحّة وضوئه ، وروي أنّه رجع إلى قول الصّاحبين . وقال بعض الشّافعيّة : يغسل الصّحيح ويتيمّم ولا يمسح على الجبيرة .
وفي حكم المسح على الجبيرة المسح على العصابة أو اللّصوق ، أو ما يوضع في الجروح من دواء يمنع وصول الماء - كدهن أو غيره - .
شروط المسح على الجبيرة :
5 - يشترط لجواز المسح على الجبيرة ما يأتي :
أ - أن يكون غسل العضو المنكسر أو المجروح ممّا يضرّ به ، وكذلك لو كان المسح على عين الجراحة ممّا يضرّ بها ، أو كان يخشى حدوث الضّرر بنزع الجبيرة .
ب - ألاّ يكون غسل الأعضاء الصّحيحة يضرّ بالأعضاء الجريحة فإن كان يضرّ بها ففرضه التّيمّم . وهذا باتّفاق .
ج - قال الحنفيّة والمالكيّة : إن كانت الأعضاء الصّحيحة قليلة جدّا كيد واحدة ، أو رجل واحدة ، ففرضه التّيمّم إذ التّافه لا حكم له .
د - اشترط الشّافعيّة في الصّحيح المشهور وهي رواية عن الإمام أحمد أن تكون الجبيرة موضوعة على طهارة مائيّة لأنّه حائل يمسح عليه فكان من شرط المسح عليه تقدّم الطّهارة كسائر الممسوحات ، فإن خالف ووضعها على غير طهر وجب نزعها ، وذلك إن لم يخف ضررا بنزعها ، فإن خاف الضّرر لم ينزعها ويصحّ مسحه عليها ، ويقضي لفوات شرط وضعها على طهر .
والرّواية الثّانية عند الحنابلة وهي مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة - قال عنه النّوويّ : إنّه شاذّ - : لا يشترط تقدّم الطّهارة على شدّ الجبيرة .
قال الخلّال : روى حرب وإسحاق والمروزيّ في ذلك سهولة عن أحمد ، واحتجّ بقول ابن عمر ، لأنّ هذا ممّا لا ينضبط ويغلظ على النّاس جدّا فلا بأس به ، ولأنّ المسح عليها جاز دفعاً لمشقّة نزعها ، ونزعها يشقّ إذا لبسها على غير طهارة كمشقّته إذا لبسها على طهارة.
كيفيّة تطهّر واضع الجبيرة :
6 - إذا أراد واضع الجبيرة الطّهارة فليفعل ما يأتي :
1 - يغسل الصّحيح من أعضائه .
2 - يمسح على الجبيرة . وهذا باتّفاق إلاّ في قول عند الشّافعيّة أنّه يكفيه التّيمّم ولا يمسح الجبيرة بالماء ، والمذهب وجوب المسح .
ويجب استيعاب الجبيرة بالمسح عند المالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، ومقابله أنّ مسح الأكثر كاف لأنّه قائم مقام الكلّ ذكر ذلك الحسن بن زياد .
أمّا عند الشّافعيّة فقد ذكر النّوويّ في المجموع أنّ فيه وجهين مشهورين أصحّهما : عند الأصحاب يجب الاستيعاب لأنّه أجيز للضّرورة فيجب مسح الجميع ، والوجه الثّاني : يجزئه ما يقع عليه الاسم ، لأنّه مسح على حائل منفصل فهو كمسح الخفّ .
هذا إذا كانت الجبيرة موضوعة على قدر الجراحة فقط . فإن كانت زائدة عن قدر الجراحة فعند الحنفيّة والمالكيّة يمسح على الزّائد تبعا إن كان غسل ما تحت الزّائد يضرّ .(203/1)
وعند الشّافعيّة والحنابلة يمسح من الجبيرة على كلّ ما حاذى محلّ الحاجة ولا يجب المسح على الزّائد بدلا عمّا تحتها ، ويكفي المسح على الجبيرة مرّة واحدة ، وإن كانت في محلّ يغسل ثلاثا . قال الحنفيّة : وهو الأصحّ ، ومقابله : يسنّ تكرار المسح لأنّه بدل عن الغسل ، والغسل يسنّ تكراره فكذا بدله ، وهذا إذا لم تكن على الرّأس .
3 - زاد الشّافعيّة في الأصحّ وجوب التّيمّم مع الغسل والمسح .
قال النّوويّ : وأمّا التّيمّم مع غسل الصّحيح ومسح الجبيرة بالماء ففيه طريقان أصحّهما وأشهرهما والّتي قطع الجمهور بها أنّ فيه قولين أصحّهما عند الجمهور وجوبه وهو نصّه في الأمّ ومختصر البويطيّ والكبير ، والثّاني : لا يجب وهو نصّه في القديم وظاهر نصّه في المختصر وصحّحه الشّيخ أبو حامد ، والجرجانيّ ، والرّويانيّ ، في الحلية .
والطّريق الثّاني حكاه الخراسانيّون وصحّحه المتولّي منهم ، أنّه إن كان ما تحت الجبيرة عليلا لا يمكن غسله لو كان ظاهرا وجب التّيمّم كالجريح ، وإن أمكن غسله لم يجب التّيمّم كلابس الخفّ ، والمذهب الوجوب قال في المهذّب : لحديث جابر رضي الله عنه « أنّ رجلاً أصابه حجر فشجّه في رأسه ثمّ احتلم فسأل أصحابه هل تجدون رخصة لي في التّيمّم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب » .
وذكر الحنابلة وجوب التّيمّم مع الغسل والمسح في حالتين : إحداهما : فيما لو وضع الجبيرة على غير طهارة وخاف من نزعها على القول بأنّ تقدّم الطّهارة شرط المسح على الجبيرة . والثّانية : أنّ واضع الجبيرة إذا جاوز بها موضع الحاجة فإنّه يغسل الصّحيح ويمسح على الجبيرة ويتيمّم لما زاد على قدر الحاجة .
جاء ذلك في كشّاف القناع وشرح منتهى الإرادات ولم يذكرا فيه خلافاً . إلاّ أنّ ابن قدامة جعله احتمالا فقال : ويحتمل أن يتيمّم مع مسح الجبيرة فيما إذا تجاوز بها موضع الحاجة ، لأنّ ما على موضع الحاجة يقتضي المسح والزّائد يقتضي التّيمّم .
4 - إن كانت العصابة بالرّأس ، فإن كان بقي من الرّأس قدر ما يكفي المسح عليه مسح عليه وإلاّ فعلى العصابة ، وهذا عند من يقول بأنّ الفرض هو مسح بعض الرّأس ، كالحنفيّة والشّافعيّة وفي قول عند الحنابلة ، أمّا عند من يقول بأنّ الفرض هو مسح جميع الرّأس كالمالكيّة فإنّه يمسح على العصابة وعلى ما بقي من الرّأس ، وهذا في الوضوء ، أمّا في الغسل فإنّه يمسح على العصابة ، ويغسل ما بقي .
ما ينقض المسح على الجبيرة :
7 - ينتقض المسح على الجبيرة بما يأتي :
أ - سقوطها أو نزعها لبرء الكسر أو الجرح . وعلى ذلك إن كان محدثا وأراد الصّلاة توضّأ وغسل موضع الجبيرة إن كانت الجراحة على أعضاء الوضوء وهذا باتّفاق .
وإن لم يكن محدثا فعند الحنفيّة والمالكيّة يغسل موضع الجبيرة لا غير ، لأنّ حكم الغسل وهو الطّهارة في سائر الأعضاء قائم لانعدام ما يرفعها وهو الحدث فلا يجب غسلها .
وعند الشّافعيّة يغسل موضع الجبائر وما بعده مراعاة للتّرتيب ،وعند الحنابلة يبطل وضوءه. أمّا بالنّسبة للغسل إن كان مسح عليها في غسل يعمّ البدن فيكفي بعد سقوطها وهو غير محدث غسل موضعها فقط ، ولا يحتاج إلى إعادة غسل ولا وضوء ، لأنّ التّرتيب والموالاة ساقطان في الطّهارة الكبرى .
ب - سقوط الجبيرة لا عن برء يبطل الطّهارة عند الحنابلة وفي قول عند الشّافعيّة ، وعلى ذلك يجب استئناف الوضوء أو استكمال الغسل .
وعند المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ينتقض مسح الجبيرة فقط ، فإذا سقطت لا عن برء أعادها إلى موضعها وأعاد مسحها فقط ، أمّا عند الحنفيّة فلا ينتقض شيء فيعيد الجبيرة إلى موضعها ولا يجب عليه إعادة المسح . وهذا كلّه إذا كان في غير الصّلاة .
فإن كان في الصّلاة وسقطت الجبيرة عن برء بطلت الصّلاة باتّفاق ، وإن سقطت لا عن برء بطلت الصّلاة عند الجمهور ، ومضى عليها ، ولا يستقبل عند الحنفيّة .
الفرق بين المسح على الجبيرة والمسح على الخفّ :
8 - يفارق المسح على الجبيرة المسح على الخفّ من وجوه كثيرة ، وقد توسّع الحنفيّة في ذكر هذه الفروق حتّى أوصلها ابن عابدين إلى سبعة وثلاثين فرقاً .
وأهمّ هذه الفروق ما يلي :
أ - لا يجوز المسح على الجبيرة إلاّ عند الضّرر بنزعها ، والخفّ بخلاف ذلك .
ب - المسح على الجبيرة مؤقّت بالبرء لا بالأيّام ، والمسح على الخفّ مؤقّت بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيّام بلياليها للمسافر ، وهذا عند غير المالكيّة .
أمّا المالكيّة فإنّهم يتّفقون مع الجمهور في توقيت المسح على الجبيرة بالبرء ، ولا توقيت في المسح على الخفّ عندهم ، وإن كان يندب نزعه كلّ أسبوع .
ج - يمسح على الجبيرة في الطّهارة الكبرى ( الغسل ) لأنّ الضّرر يلحق بنزعها ، أمّا الخفّ فيجب نزعه في الطّهارة الكبرى .
د - يجمع في الجبيرة بين مسح على جبيرة رجل وغسل الأخرى ،بخلاف المسح على الخفّ.
هـ - يجب استيعاب الجبيرة بالمسح عند المالكيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة وذلك بخلاف الخفّ .
و - لا يشترط تقدّم الطّهارة على وضع الجبيرة عند الحنفيّة والمالكيّة وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة وفي رواية عن الإمام أحمد ، أمّا الخفّ فإنّه يشترط للبسه أن يكون على طهارة .
ز - ينتقض المسح على الجبيرة بسقوطها أو نزعها عن برء باتّفاق ، وكذلك سقوطها لا عن برء عند غير الحنفيّة .(203/2)
أمّا الخفّ فيبطل المسح عليه مطلقا عند نزعه خلافا لما اختاره ابن تيميّة من أنّه لا يبطل بالنّزع قياسا على عدم بطلان الوضوء بإزالة شعر الرّأس الممسوح عليه .
ح - لو كان على عضويه جبيرتان فرفع إحداهما لا يلزمه رفع الأخرى ، بخلاف الخفّين ، لأنّ لبسهما جميعا شرط بخلاف الجبيرتين .
ط - يترك المسح على الجبيرة إن ضرّ بخلاف الخفّ .(203/3)
جذع *
التّعريف :
1 - الجذع بفتحتين : هو من بهيمة الأنعام ما قبل الثّنيّ . قال في القاموس : الجذع اسم له في زمن وليس بسنّ تنبت أو تسقط ، والجمع جذعان وجذاع ، والأنثى جذعة ، والجمع جذعات . وأجذع ولد الشّاة أي صار في السّنة الثّانية ، وأجذع ولد البقرة وذي الحافر صار في السّنة الثّالثة ، وأجذع ولد النّاقة أي صار في السّنة الخامسة .
والجذعمة : بمعنى الصّغير ، ومنه قول عليّ رضي الله عنه : " أسلم واللّه أبو بكر وأنا جذعمة " وأصله جذعة ، والميم زائدة .
وأمّا في الشّرع فاختلفت أقوال الفقهاء في الجذع على النّحو التّالي :
أ - الجذع من الإبل :
2 - الجذع من الإبل عند الحنفيّة والشّافعيّة ، والحنابلة هو ما أكمل أربع سنين ، ودخل في الخامسة ، وعند المالكيّة هو ما كان ابن خمس سنين وطعن في السّادسة .
ب - الجذع من البقر :
3 - يرى الحنفيّة ، والشّافعيّة في المشهور من المذهب وهو قول عند المالكيّة والحنابلة : أنّ الجذع من البقر هو ما استكمل سنة وطعن في الثّانية .
وفي قول للمالكيّة : الجذع ما كان له سنتان .
وللشّافعيّة قول آخر : وهو أنّ الجذع من البقر ما له ستّة أشهر .
ج - الجذع من الضّأن والمعز :
4 - اختلفت أقوال الفقهاء في المراد بالجذع من الضّأن ، فصاحب الهداية من الحنفيّة فسّره بأنّ الجذع من الضّأن ما له ستّة أشهر ، وفي شرح المنتقى وهو قول أكثر الحنفيّة : الجذع ما أتى عليه أكثر الحول ، ثمّ اختلفوا في تفسير الأكثر :
ففي المحيط : ما دخل في الشّهر الثّامن . وفي الخزانة : ما أتى عليه ستّة أشهر وشيء . وذكر الزّعفرانيّ : أنّه ابن سبعة أشهر ، وروي عنه ثمانية ، أو تسعة ، وما دونه حمل . وعند المالكيّة أنّ الجذع من الضّأن والمعز هو ابن ستّة أشهر ، وقيل ثمانية ، وقيل عشرة . والأصحّ عند الشّافعيّة وهو وجه للمالكيّة أنّ الجذع ما دخل في السّنة الثّانية .
وعند الشّافعيّة وجهان آخران : الوجه الأوّل : الجذعة ما لها ستّة أشهر .
والوجه الثّاني : إذا بلغ الضّأن ستّة أشهر وهو من شابّين فهو جذع ، وإن كان من هرمين فلا يسمّى جذعاً حتّى يبلغ ثمانية أشهر .
ويرى الحنابلة أنّ الجذع من الضّأن ما له ستّة أشهر ، ودخل في السّابعة ، وقال وكيع : الجذع من الضّأن يكون ابن سبعة أو ستّة أشهر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الثّنيّ :
5 - الثّنيّ في اللّغة الّذي يلقي ثنيّته ويكون ذلك في الظّلف ( الغنم والبقر ) والحافر ( الخيل والبغال والحمير ) في السّنة الثّالثة ، وفي الخفّ ( الإبل ) في السّنة السّادسة .
وأمّا في الاصطلاح فاختلف الفقهاء في المراد به تبعا لاختلاف أنواع الأنعام .
وتفصيله في مصطلح : ( ثنيّ ) .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجزئ في الأضحيّة والهدي إلاّ الجذع من الضّأن والثّنيّ من غيره ، وإليه ذهب اللّيث وأبو عبيد ، وأبو ثور وإسحاق .
وقال ابن عمر والزّهريّ : لا يجزئ الجذع من الضّأن ، لأنّه لا يجزئ من غير الضّأن ، فلا يجزئ منه كالحمل . وقال عطاء والأوزاعيّ : يجزئ الجذع من جميع الأجناس إلاّ المعز . وفي وجه عند الشّافعيّة يجزئ الجذع من المعز وهو شاذّ .
7- وأمّا في الزّكاة فاتّفقوا على أنّه يؤخذ من الإبل الجذعة في إحدى وستّين إلى خمس وسبعين ، ومن البقر الجذع أو الجذعة في ثلاثين إلى تسع وثلاثين .
واختلفوا في الغنم . فيرى الشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية عن أبي حنيفة أنّه يجزئ الجذع من الضّأن ولا يجزئ من المعز إلاّ الثّنيّ .
وذهب الحنفيّة في الصّحيح إلى أنّه لا يجزئ الجذع في زكاة الشّياه .
وعند المالكيّة يجزئ ، سواء أكان من الضّأن أم من المعز .
وتفصيل ذلك في أبواب : ( الزّكاة ، والأضحيّة ، والهدي ) .(204/1)
جراح *
التّعريف :
1 - الجراح لغة ، جمع جرح وهو من الجَرح - بفتح الجيم - وفعله من باب نفع . يقال : جرحه يجرحه جرحا إذا أثّر فيه بالسّلاح . والجُرح - بضمّ الجيم - الاسم ، والجمع جروح ، وجراح ، وجاء جمعه على أجراح ، والجراحة اسم الضّربة أو الطّعنة . ويقال امرأة جريح ورجل جريح ، والاستجراح : النّقصان والعيب والفساد . يقال استجرحت الأحاديث أي فسدت وجرّح رواتها ، ويقال جرحه بلسان جرحا عابه وتنقّصه ، ومنه جرح الشّاهد إذا طعن فيه وردّ قوله وأظهر فيه ما تردّ به شهادته .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للجراح عن معناها اللّغويّ .
ويطلق بعض الفقهاء لفظ الجراح على أبواب الجنايات تغليباً لأنّها أكثر طرق الزّهوق ، واستعمل بعضهم لفظ " الجنايات " لأنّها أعمّ من الجراح ، فهي تشمل القتل بالسّمّ ، أو بالمثقّل ، أو بالخنق أو بغير ذلك من مسائل القتل غير الجراح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الشّجاج :
2 - الشّجاج جمع شجّة ، وهي الجرح يكون في الوجه والرّأس في الأصل ، ولا يكون في غيرهما من الجسم ، ثمّ استعمل في غيرها من الأعضاء .
واصطلاحاً : يستعمل بعض الفقهاء لفظ " الشّجاج " في جراح الوجه والرّأس ، وأطلق لفظ " جراح " على ما كان في غير الوجه والرّأس .
ومنهم من استعمل الشّجاج والجراح استعمالا واحدا ، في الجراح في جميع الجسم .
ومن فرّق في استعمال اللّفظ اعتمد على اللّغة لما ثبت من مغايرة العرب في الاستعمال بينهما ، كما اعتمد على المعنى ، فإنّ الأثر المترتّب على شجاج الوجه والرّأس يختلف عن أثر الجراح في سائر البدن . وذلك لبقاء أثر الشّجاج غالبا فيلحق المشجوج الشّين بخلاف سائر البدن ، لأنّ الشّين لا يلحق غالباً إلاّ فيما يظهر كالوجه والرّأس ، أمّا سائر البدن فالغالب فيه أن يغطّى فلا يظهر فيه الشّين . وقال ابن عرفة - من المالكيّة - في بيان متعلّق الجناية في غير النّفس : " إن أفاتت بعض الجسم فقطع ، وإلاّ فإن أزالت اتّصال عظم لم يبن فكسر ، وإلاّ فإن أثّرت في الجسم فجرح ، وإلاّ فإتلاف منفعة " .
ب - الفصد :
3 - الفصد شقّ العرق وقطعه ، يقال فصده يفصده فصداً وفصاداً فهو مفصود وفصيد . وفصد النّاقة عند العرب في الجاهليّة شقّ عرقها ليستخرج دم العرق فيشربه ، وسمّي " الفصيد " والفصد أخصّ من الجراح ، لأنّ الفصد يكون في العرق فقط ، أمّا الجراح فتكون في العرق وغيره .
الحكم التّكليفيّ :
4 - يحرم إحداث جرح في معصوم الدّم أو ماله ، وصيد الحرم وصيد البرّ عموما بالنّسبة للمحرم بغير حقّ كالدّفاع عن النّفس ويترتّب على الجراح أحكام تختلف باختلاف مواضعها.
تطهّر الجرح :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الواجب في حقّ الجريح الّذي يتضرّر من غسل جراحته ، أن يمسح على عين الجراحة إذا كان المسح عليها لا يضرّه ، وإلاّ وجب عليه أن يمسح على الجبيرة .
وخوف الضّرر المجيز للمسح هو الخوف المجيز للتّيمّم . على تفصيل ينظر في : ( جبيرة ).
وفي الطّهارة من الجنابة عند الحنفيّة لو كان أكثر البدن أو نصفه جريحا فالواجب في حقّه التّيمّم ، والكثرة تعتبر بعدد الأعضاء ، وإن كان أكثره صحيحاً غسل الصّحيح ومسح الجريح ، وإن ضرّه المسح تركه .
ولا يجمع بين الغسل والتّيمّم إذ لا نظير له في الشّرع لأنّه جمع بين البدل والمبدل .
وفصّل المالكيّة في حال الجرح ، فله عندهم حالتان :
الأولى : أن لا يتضرّر من غسل الجزء الصّحيح المحيط بالجرح ، فالواجب في حقّه مسح الجرح وجوبا إذا خاف الهلاك أو شدّة الضّرر ، وجوازا إن خاف شدّة الألم .
والثّانية : أن يتضرّر من غسل الصّحيح المحيط بالجرح ، ففرضه التّيمّم سواء أكان الصّحيح هو الأكثر أو الأقلّ . كما لو عمّت الجراحة جميع جسده وتعذّر الغسل ففرضه التّيمّم .
وإن تكلّف الجريح وغسل الجرح أو غسله مع الصّحيح الضّارّ غسله أجزأ ، لإتيانه بالأصل ، وإن تعذّر وشقّ مسّ الجرح بالماء ، والجراحة واقعة في أعضاء تيمّمه تركها بلا غسل ولا مسح ; لتعذّر مسّها وتوضّأ وضوءا ناقصاً ، بأن يغسل أو يمسح ما عداها من أعضاء الوضوء ، وإن كانت الجراح في غير أعضاء التّيمّم ففي المسألة أربعة أقوال :
أوّلها : يتيمّم ليأتي بطهارة ترابيّة كاملة .
بخلاف ما لو توضّأ كانت طهارته ناقصة لعدم إمكانه غسل الجرح .
ثانيها : يغسل ما صحّ ويسقط محلّ الجراح لأنّ التّيمّم إنّما يكون عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله .
ثالثها : يتيمّم إن كانت الجراحة أكثر من الصّحيح لأنّ الأقلّ تابع للأكثر .
رابعها : يجمع بين الغسل والتّيمّم فيغسل الصّحيح ويتيمّم للجريح ، ويقدّم الغسل .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ الجريح المحدث إذا أراد الوضوء أو الغسل ، وخاف من استعمال الماء الخوف المجوّز للتّيمّم ، بأن كان يتضرّر من غسل الجراحة أو مسحها ، لزمه غسل الصّحيح والتّيمّم عن الجريح . وهو مخيّر في غسل الجنابة ، فإن شاء غسل الصّحيح ثمّ تيمّم عن الجريح ، وإن شاء تيمّم ثمّ غسل إذ لا ترتيب في طهارته .
أمّا في الوضوء فالتّرتيب واجب ، فلا ينتقل من عضو إلى آخر حتّى يكمل طهارته ، فإذا كانت الجراحة في الوجه مثلا ، وجب تكميل طهارة الوجه أوّلا ، فإن شاء غسل صحيحه ثمّ تيمّم عن جريحه ، وإن شاء تيمّم ثمّ غسل ، فيخيّر بلا أولويّة عند الحنابلة لأنّه عضو واحد لا يراعى فيه التّرتيب . والأولى عند الشّافعيّة تقديم التّيمّم .
أمّا لو غسل صحيح وجهه ثمّ تيمّم لجريحه وجريح يديه تيمّما واحدا لم يجزئه ; لأنّه يؤدّي إلى سقوط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حالة واحدة فيفوت التّرتيب .(205/1)
ونصّ الحنابلة على أنّه إذا أمكنه المسح بالماء على الجرح وجب مسحه لأنّ الغسل مأمور به والمسح بعضه ، فوجب كمن عجز عن الرّكوع والسّجود وقدر على الإيماء .
فإن كان الجرح نجسا تيمّم ولم يمسح ، فإن كانت النّجاسة معفوّاً عنها ألغيت وكفت نيّة رفع الحدث ، وإلاّ نوى رفع الحدث والنّجاسة .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( طهارة ، وتيمّم ، وجبيرة ، ووضوء ) .
غسل الميّت الجريح :
6 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الميّت المجروح ، والمجدور ، وذا القروح ، ومن تهشّم تحت الهدم وشبههم ، إن أمكن تغسيله غسّل ، وإلاّ صبّ عليه الماء من غير ذلك .
فإن زاد أمره على ذلك أو خشي من صبّ الماء تزلّعه أو تقطّعه فإنّه ييمّم .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ينتقل إلى التّيمّم عند تعذّر الغسل لخوف تهرّيه ، لأنّ التّطهير لا يتعلّق بإزالة نجاسة فوجب الانتقال فيه عند العجز عن الماء إلى التّيمّم كغسل الجنابة .
أمّا لو كان به قروح وخيف من غسله إسراع البلى إليه بعد الدّفن وجب غسله لأنّ الجميع صائرون إلى البلى . ولم يوقف على قول للحنفيّة في هذه المسألة .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( غسل ، وموت ) .
حكم جريح المعركة :
7 - الأصل أنّ الشّهيد - وهو من مات في المعركة بقتال الكفّار - لا يغسّل ، أمّا إذا جرح في المعركة ورفع من المعترك حيّا ، فأكل أو شرب أو نام أو تكلّم أو طال بقاؤه عرفا أو تداوى ، أو ارتفق بمرافق الحياة ، ثمّ مات بعد ذلك ، فذهب الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة - إلى أنّه يغسّل ويصلّى عليه ، ولا تسقط عنه الشّهادة بل هو شهيد عند اللّه تعالى . ودليلهم على ذلك « تغسيله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ » ولأنّ الارتفاق لا يكون إلاّ من ذي حياة مستقرّة ، والأصل وجوب الغسل والصّلاة ، ولأنّ بالارتفاق خفّ أثر الظّلم فلم يكن في معنى شهيد المعركة الّذي يموت في أرضها . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ من مات بعد انقضاء القتال بجراحة يقطع بموته منها ، وفيه حياة مستقرّة فغير شهيد في الأظهر ولهم في غيره تفصيل ينظر في مصطلح شهيد .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( شهيد ، جنائز ، غسل ، ارتثاث ) .
حكم الجروح الواقعة على الرّأس والوجه وسائر البدن :
8 - اتّفق الفقهاء على وجوب القصاص في الجراح الواقعة على الرّأس والوجه من حيث الجملة وعلى خلاف في التّفصيل . والأصل فيه قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَليهمْ فيها أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ والعَينَ بالعَينِ والأَنْفَ بالأَنْفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجُروحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ به فهو كَفَّارَةٌ له وَمَنْ لم يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ اللَّهُ فأولئكَ هم الظَّالِمُونَ } وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث « أنس في قصّة عمّته الرّبيّع لمّا كسرت ثنيّة جارية وطلبوا العفو فأبوا ، وعرضوا الأرش فأبوا ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كتاب اللّه القصاص » .
وقسّم الفقهاء أنواع الجروح حسب موقعها ودرجتها وأثرها إلى أقسام ، فالّذي يقع في الرّأس والوجه فيسمّى شجاجاً ، وينظر تفصيله في مصطلح ( شجاج ) .
9- وأمّا الجراح في سائر البدن ، فالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يقتصّ منها إذا أمكن استيفاؤها ، بأن تنتهي إلى حدّ كأن تنتهي إلى عظم بشرط ألا تكسره ، أو تنتهي إلى مفصل كالكوع والمرفق والكعب .
والقاعدة عند الشّافعيّة أنّ ما لا قصاص فيه من الجراح إذا كان على الرّأس والوجه لا قصاص فيه إذا كان في سائر البدن .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا قصاص في جراح سائر البدن لأنّه لا يمكن استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة . بل تجب فيها حكومة عدل بشرط أن تبرأ ويبقى لها أثر ، أمّا إذا لم يبق لها أثر فلا شيء فيها في قول أبي حنيفة رضي الله عنه .
10 - فإذا صار الأمر إلى الدّية لعدم وجوب القصاص ، أو للعفو إلى الدّية ، وكانت الجروح ممّا فيه أرش ، مقدّر شرعا ، فدية الموضحة خمسة أبعرة ، والهاشمة عشرة ، والمنقّلة خمسة عشر ، وفي المأمومة ثلث الدّية ، وفي الجائفة ثلث الدّية .
جرح حيوان تعذّر ذبحه :
11 - إذا جرح الصّائد حيوانا مأكولا ، تعذّر ذبحه بآلة محدّدة ، أو بإرسال جارحة ، كالكلب ، ونحوه ، فمات في الحال ، قبل التّمكّن من ذبحه حلّ أكله ، لخبر : « ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه عليه فكل ، ليس الظّفر ، والسّنّ » وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
والتّفصيل في مصطلح : ( صيد ) أو مصطلح : ( جارحة ) .
جرح الصّيد :
12 - لا يجوز التّعرّض لصيد الحرم البرّيّ لمحرم ، ولا حلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه لا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده » كما لا يجوز لمحرم أن يتعرّض لصيد برّيّ وحشيّ مطلقا لقوله تعالى : { يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيدَ وأنْتُم حُرمٌ } فإذا جرح صيد الحرم ، أو جرح محرم صيداً برّيّاً ، فإن أزمنه لزمه جميع قيمته ، لأنّ الإزمان كالإتلاف . وإلاّ لزمه قيمة ما نقص من قيمة مثله .
والتّفصيل في مصطلح : ( صيد ، وإحرام ) .
تملّك الصّيد بالجرح :
13 - يملك الصّيد بالجرح إذا أبطل به عدوه وطيرانه إن كان الصّيد ممّا يمتنع بهما ، ويكفي في الجرح إبطال شدّة عدوه بحيث يسهل لحاقه . وإن جرحه اثنان فإن تعاقب جرحهما فهو لمن أزمنه أو ذفّفه ( أجهز عليه ) وإن أثخنه الأوّل ، وقتله الثّاني فهو للأوّل ، ويضمن الثّاني للأوّل قيمته ، لأنّه بالرّمي أتلف صيداً مملوكاً .
وإن جرحا معاً فقتلاه كان الصّيد حلالا ، وملكاه . والتّفصيل في مصطلح : ( صيد ) .(205/2)
جرب *
التّعريف :
1 - الجرب في اللّغة بثر يعلو أبدان النّاس والحيوانات يتآكل منه الجلد ، وربّما حصل معه هزال إذا كثر ومن إطلاقاته أيضا : العيب والنّقيصة ، يقال به جرب ، أي : عيب ونقيصة . ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة الجرب عن معناه اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجرب إذا كان كثيرا بأن وصل إلى اللّحم فإنّه يمنع الإجزاء في الأضحيّة ; لأنّه يفسد اللّحم ويعتبر نقصاً ، لأنّ اللّحم هو المقصود في الأضحيّة .
واختلفوا فيما إذا كان قليلاً بأن كان في الجلد ولم يؤثّر في اللّحم ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والحنابلة ، وهو وجه عند الشّافعيّة اختاره إمام الحرمين ، والغزاليّ ، إلى أنّه لا يمنع الإجزاء في الأضحيّة .
وذهب الشّافعيّة في الجديد وهو الصّحيح عندهم إلى أنّ الجرب قليله وكثيره يمنع الإجزاء في الأضحيّة .
وحكم الهدي في السّلامة من الجرب وسائر العيوب حكم الأضحيّة .
ويرتّب الفقهاء على الجرب أحكاما أخرى منها جواز لبس الحرير للمصاب به ، لأنّه صلى الله عليه وسلم « أرخص لعبد الرّحمن بن عوف والزّبير في لبسه لحكّة كانت بهما » . متّفق عليه . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( حرير ) .
ومنها اعتباره عيباً في الدّوابّ المبيعة لو كان قليلاً .
وينظر تفصيله في باب الخيار عند الكلام عن خيار العيب .
ومنها اعتباره عيباً في أيّ من الزّوجين ، وينظر في مصطلح : ( عيب ) ( ونكاح ) .(206/1)
جرموق
التّعريف
1 - الجرموق بضمّ الجيم والميم فارسيّ معرّب وهو شيء يلبس فوق الخفّ لشدّة البرد ، أو حفظه من الطّين وغيره ، ويكون من الجلد غالباً ، ويقال له الموق أيضاً ، والجمع جراميق . وفي اصطلاح الفقهاء هو خفّ فوق خفّ وإن لم يكن واسعاً .
وقد فسّره مالك : بأنّه جورب مجلّد من تحته ومن فوقه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخفّ :
2 - الخفّ ما يلبس في الرّجل من جلد رقيق وجمعه أخفاف .
والمراد به في باب الطّهارة : هو السّاتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه .
ب - الجورب ، واللّفافة :
3 - الجورب ما يلبس في الرّجل تحت الحذاء من غير الجلد .
واللّفافة كذلك ممّا ليس بمخيط . فالفرق بين الخفّ والجرموق والجورب : أنّ الخفّ لا يكون إلاّ من جلد ونحوه ، والجرموق يكون من جلد وغيره ، والجورب لا يكون من جلد .
الحكم الإجماليّ وموطن البحث :
4 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّ الجرموقين إذا لبسا وحدهما بدون خفّين يجوز المسح عليهما ، واختلفوا فيما إذا لبسا فوق الخفّين :
فذهب الحنفيّة والحنابلة وهو المذهب لدى المالكيّة ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، إلى أنّه يجوز المسح على الجرموقين . لما روي عن بلال « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضّأ ويمسح على عمامته وموقيه » .
ولأنّ الجرموق يشارك الخفّ في إمكان قطع السّفر به ، فيشاركه في جواز المسح عليه ، ولذا شاركه في حالة الانفراد . وأيضا الجرموق فوق الخفّ بمنزلة خفّ ذي طاقين وذا يجوز ، فكذا ذلك ، ولأنّ شدّة البرد قد تحوج إلى لبسه ، وفي نزعه عند كلّ وضوء مشقّة . وقال مالك في رواية : إنّه لا يمسح على الجرموقين أصلاً .
وهو الأظهر عند الشّافعيّة فيما إذا لبسهما فوق الخفّين . وفي شروط جواز المسح على الجرموقين خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( مسح ) ومصطلح : ( المسح على الخفّين ).(207/1)
جرّة *
التّعريف :
1 - الجرّة بالكسر ما تخرجه الإبل ونحوها من ذوات الخفّ والظّلف من كروشها فتجترّه المعدة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - اختلف الفقهاء في حكم جرّة الحيوان هل هي طاهرة أم نجسة ؟
فذهب الحنفيّة ما عدا زفر ، والشّافعيّة في المذهب ، إلى أنّها نجسة كروثه ، لأنّه واراه جوفه ، كالماء إذا وصل إلى جوفه ، فحكمه حكم بوله ، فكذا الجرّة يكون حكمها حكم الرّوث.
وأمّا المالكيّة والحنابلة ، وزفر من الحنفيّة فلا يتأتّى ذلك عندهم لأنّ أرواث مباح الأكل طاهرة عندهم ، فتثبت طهارة الجرّة بالأولى .
والقول بطهارة أرواث ما يؤكل لحمه وجرّته وجه للشّافعيّة أيضاً اختاره الرّويانيّ وأبو سعيد الإصطخريّ في أحد قوليه وبه قال عطاء ، والنّخعيّ ، والثّوريّ .
وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( نجاسة ، وطهارة ) .(208/1)
جزم *
التّعريف :
1 - الجزم في اللّغة : القطع ، يقال جزمت الشّيء جزما من باب ضرب : قطعته ، وجزمت الحرف في الإعراب قطعته عن الحركة وأسكنته ، وأفعل ذلك جزما أي حتما لا رخصة فيه ، وهو كما يقال قولا واحدا ، وحكم جزم ، وقضاء حتم أي لا ينقض ولا يردّ ، وجزمت النّخل صرمته ، وجزم اليمين أمضاها قاطعة لا رجعة فيها .
وفي الاصطلاح لا يخرج معناه عن المعنى اللّغويّ .
وعند الأصوليّين هو : الاقتضاء الملزم في خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين ، فقد عرّفوا الحكم بأنّه : خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء . والاقتضاء الطّلب ، فيتناول اقتضاء الوجود ، واقتضاء العدم ، وقالوا : إن كان الطّلب جازما : فإن كان طلب الفعل فهو الإيجاب . أو طلب التّرك فهو التّحريم . وإن كان غير جازم . فإن ترجّح جانب الوجود فهو النّدب ، وإن ترجّح جانب التّرك فهو الكراهة . ويقابله : التّخيير .
وهو التّسوية بين جانبي الفعل والتّرك من غير ترجيح لأحدهما . والثّابت به الإباحة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العزم والقصد والنّيّة :
2 - العزم هو القصد المؤكّد يقال : عزمت على كذا عَزماً وعُزماً وعزيمة إذا أردت فعله ، وصمّمت عليه . وفي الاصطلاح قال ابن عابدين : العزم اسم للإرادة المتقدّمة على الفعل ، فإذا اقترن بالفعل فهو القصد . وإن اقترن به مع دخوله تحت المنويّ عليه فهو النّيّة .
ب - الهمّ :
3 - الهمّ هو أوّل العزم على الفعل إذا أردته ولم تفعله وهو عقد القلب على فعل شيء خير أو شرّ قبل أن يفعل .
ج - التّعليق :
4 - التّعليق مصدر علّق بالتّشديد تعليقاً يقال : علّقت الشّيء على غيره أي : جعلته معلّقا عليه ، يوجد بوجوده ، وينعدم بعدمه ، وهو مقابل الجزم ، لأنّ الجزم قطع في الحال ، والتّعليق مؤخّر إلى وجود المعلّق عليه أو عدم وجوده .
د - التّردّد :
5 - التّردّد هو : مصدر تردّد في الأمر تردّدا أي لم يجزم به ولم يقطع .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم الجزم باختلاف مواضعه على التّفصيل الآتي :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب الجزم بالنّيّة ، لأنّها شرط لانعقاد العبادات لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّما الأعمال بالنّيّات » والنّيّة هي : الإرادة الجازمة القاطعة . وليست مطلق إرادة ، فيخلّ بها كلّ ما ينافي الجزم ، من تردّد أو تعليق ، فإذا علّق نيّة العبادة بالمشيئة ، فإن قصد التّعليق أو أطلق بطلت لمنافاة ذلك لجزم النّيّة . أمّا إذا قصد تبرّكا ، فلا تبطل . ويضرّ التّعليق بغير المشيئة مطلقا كحصول شيء ، وإن لم يكن متوقّعا ، وكذا التّردّد في النّيّة ، فلو نوى ليلة الثّلاثين من شعبان : صوم غد إن كان من رمضان ، لم يصحّ صومه وإن كان من رمضان ، لتردّد النّيّة . والتّفصيل في مصطلح : ( نيّة ) .
أمّا إذا حدث التّردّد في نيّة الخروج من العبادة في أثناء العبادة : فقد قسّم الشّافعيّة العبادة إلى أقسام أربعة :
أ - الإسلام ، والصّلاة :
7 - لو نوى في الرّكعة الأولى الخروج من الصّلاة في الرّكعة الثّانية ، أو علّق الخروج بشيء يوجد في الصّلاة قطعاً بطلت صلاته في الحال ، لأنّه مأمور بجزم النّيّة في جميع صلاته وليس هذا بجازم . وكذا لو علّق الخروج عن الإسلام بشيء والعياذ باللّه ،فإنّه يكفر. والمراد بالتّردّد : أن يطرأ شكّ في أثناء العبادة يناقض جزم النّيّة الّتي ابتدأ بها عبادته . أمّا ما يجري في الفكر فلا تبطل به الصّلاة ، وقد يقع ذلك في الإيمان باللّه ، فلا تأثير له ، لحديث : « إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلّم ».
ب - الحجّ والعمرة :
8 - إن نوى الخروج من الحجّ أو العمرة ، أو نوى قطعهما لم ينقطعا بلا خلاف ، لأنّه لا يخرج منهما بالإفساد ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء . والتّفصيل في : ( إحرام ف /128 ).
ج - الصّوم ، والاعتكاف :
9 - إذا جزم في أثنائهما بنيّة الخروج منهما ففي بطلانهما وجهان للشّافعيّة ، والأصحّ منهما وهو الظّاهر من مذهب الحنابلة لا يبطلان ، لأنّ الواقع يستحيل رفعه .
والتّفصيل في الموطن الأصليّ لهما .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّلاة والصّوم والاعتكاف إن كان رفض النّيّة في الأثناء بطلت العبادة قطعا ، وعليه القضاء والكفّارة في الصّوم . وإن كان الرّفض بعد تمام العبادة فأظهر القولين المرجّحين وأقواهما أنّ العبادة لا ترفض لأنّ الواقع يستحيل رفعه .
د - الوضوء :
10 - إن نوى قطعه في أثنائه لم يبطل ما مضى منه على أصحّ الوجهين للشّافعيّة .
أمّا عند الحنابلة فعليه الاستئناف إذ لم يصحّ ما فعله . لكنّه يحتاج إلى نيّة لما بقي ، وإن نوى قطعه بعد الفراغ منه لم يبطل على المذهب عند الشّافعيّة كما لو نوى قطع الصّلاة ، والصّوم ، والاعتكاف والحجّ بعد الفراغ منها عند الشّافعيّة والحنابلة ، أمّا الحنفيّة فلا يشترطون النّيّة في الوضوء .
وذهب المالكيّة إلى أنّ رفض نيّة الوضوء والغسل إن كان بعد الفراغ منهما فلا يضرّ الرّفض ولا يعتبر من النّواقض . وإن كان رفض النّيّة في أثنائهما فالرّاجح البطلان وتجب الإعادة . والتّيمّم يبطل بالرّفض في الأثناء وبعده لأنّه طهارة ضعيفة ، واستظهر بعضهم أنّه كالوضوء . والتّفصيل في مبحث : ( الوضوء ) .
صور مستثناة من اشتراط الجزم في النّيّة لانعقاد العبادة :(209/1)
11 - الأصل في العبادة : اشتراط جزم النّيّة وعدم التّردّد فيها ، أو التّعليق في شيء كما ذكرنا . وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة صورا تنعقد العبادة فيها مع التّردّد في النّيّة ، أو تعليقها ، وأورد الشّافعيّة من صور التّردّد :
أ - إذا اشتبه عليه ماء وماء ورد فتوضّأ بكلّ مرّة صحّ وضوءه ، ويغتفر التّردّد في النّيّة للضّرورة .
ب - إذا تيقّن أنّ عليه صلاة من الخمس ولم يذكرها صلّى الخمس وصحّت صلاته .
12 - ومن صور التّعليق في العبادات :
في الطّهارة : إن شكّ في الحدث فنوى الوضوء إن كان محدثا وإلاّ فتجديد صحّ .
وفي الصّلاة : شكّ في قصر إمامه فقال : إن قصر قصرت ، وإلاّ أتممت ،فبان قاصراً قصر. وإذا كانت عليه فائتة ، وشكّ في أدائها فقال : أصلّي عنها إن كانت وإلاّ فنافلة ، فبانت أنّها عليه أجزأته . وإذا اختلط مسلمون بكفّار أو شهداء بغيرهم صلّى على كلّ واحد بنيّة الصّلاة عليه إن كان مسلما أو غير شهيد .
وفي الزّكاة : إذا نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقيا ، وإلاّ ففي الحاضر ، فبان باقيا أجزأه عنه . أو تالفا أجزأه عن الحاضر . والتّفصيل في مواطنها الأصليّة .
وفي الحجّ ، كأن يقول مريد الإحرام : إن كان زيد محرما فقد أحرمت ، فإن كان زيد محرماً انعقد إحرامه . وكذا لو أحرم يوم الثّلاثين من رمضان ، وهو شاكّ فقال : إن كان من رمضان فإحرامي : عمرة ، أو من شوّال فحجّ ، فكان شوّالا كان إحرامه صحيحاً .
الجزم بالصّيغة في العقود :
13 - يختلف الجزم بالصّيغة في العقود باختلاف العقد ،وقد قسّم الفقهاء العقود إلى ما يلي:
أ - ما كان التّأقيت ركنا فيه كالإجارة ، والمساقاة ، والهدنة ، فلا يكون إلاّ مؤقّتا .
ب - ما ليس كذلك ، ولا ينافيه التّأقيت ، كالقراض ، يذكر فيه مدّة يمنع بعدها من الشّراء ، وكالإذن المقيّد بزمان ، كالوكالة ، ونحوها فلا يضرّه التّأقيت .
ج - ما لا يقبل التّأقيت بحال : كالنّكاح ، والبيع ، والوقف ، فيجب فيه الجزم بالصّيغة وعدم تأقيتها . والتّفصيل في مواطنها . وفي تعليق صيغ العقود بشرط تفصيل وخلاف بين الفقهاء يرجع فيه إلى مصطلح : ( تعليق ، وعقد ) .(209/2)
جلوس *
التّعريف :
1 - الجلوس في اللّغة من جلس ، يجلِس بالكسر جلوساً ، والمجلس بكسر اللّام موضع الجلوس ، وبفتحها المصدر . والجَلسة بالفتح للمرّة ، وبالكسر للهيئة الّتي يكون عليها الجالس كجلسة الاستراحة والتّشهّد ، وجلسة الفصل بين السّجدتين ، لأنّها نوع من أنواع الجلوس . ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة ( جلوس ) عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القعود :
2 - القعود مصدر قعد يقعد ، والقعدة بالفتح للمرّة ، وبالكسر للهيئة نحو : قعد قعدة المصلّي . والفرق بين الجلوس والقعود : أنّ الجلوس قد يذكر ويراد به القعود ، كما يقال : جلس متربّعاً وقعد متربّعاً ، وقد يفارق الجلوس القعود ، ومنه : جلس بين شعبها ، أي : حصل وتمكّن ، إذ لا يسمّى هذا قعوداً . ويقال أيضاً : جلس متّكئاً ، ولا يقال : قعد متّكئاً بمعنى الاعتماد على أحد الجانبين . وعلى هذا فالجلوس أعمّ من القعود .
وقيل : الجلوس هو الانتقال من سفل إلى علو ، والقعود عكسه ، فعلى الأوّل يقال لمن هو نائم أو ساجد : " اجلس " . وعلى الثّاني يقال لمن هو قائم " اقعد " .
ب - الاحتباء :
3 - الاحتباء في اللّغة ، قعود الشّخص على مقعدته ، وضمّ فخذيه إلى بطنه ، واشتمالهما مع ظهره بثوب أو نحوه أو باليدين .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى فالاحتباء نوع من الجلوس .
ج - الافتراش :
4 - للافتراش في اللّغة معنيان :
المعنى الأوّل : البسط ، كما يقال : افترش ذراعيه إذا بسطهما على الأرض ، كالفراش له . والثّاني : الجلوس على ما فرشه ، ومنه : افتراش البساط .
وافتراش المرأة : اتّخاذها زوجة .
والفقهاء يطلقون الافتراش على هذين المعنيين وهو أيضا عندهم هيئة من الجلوس في التّشهّد ، واختلفوا في كيفيّته . وينظر التّفصيل في كتاب الصّلاة .
د - التّورّك :
5 - التّورّك مأخوذ من الورك ، وهو ما فوق الفخذ ، يقال : نام متورّكاً أي معتمداً على أحد وركيه واختلف في التّورّك في التّشهّد ففسّره بعضهم بأنّه وضع الورك على الرّجل اليمنى وفسّره آخرون بأنّه نصب الرّجل اليمنى ووركه بالأرض وإخراج رجله اليسرى من جهة يمينه . فالتّورّك على هذا هيئة من هيئات الجلوس فهو أخصّ من الجلوس .
وينظر تفصيله في مصطلح " تورّك " .
أحكام تتعلّق بالجلوس :
أداء الأذان والإقامة جالساً :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّه يكره أن يؤذّن المؤذّن جالساً إلاّ لعذر ، أو إذا كان يؤذّن لنفسه كما يقول الحنفيّة والمالكيّة ، « لأمره صلى الله عليه وسلم بلالاً بالقيام بقوله : قم فناد بالصّلاة » . وكان مؤذّنو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يؤذّنون قياماً ، ولأنّ القيام أبلغ في الإعلام ، كما أنّ الأذان والإقامة قاعداً خلاف المتوارث .
وقال ابن حامد من الحنابلة : إن أذّن قاعدا بطل ، وكذلك قال الشّيخ تقيّ الدّين إلى عدم إجزاء أذان القاعد ، وحكى أبو البقاء : أنّه يعيد إن أذّن قاعداً .
وأمّا صاحب العذر فلا بأس أن يؤذّن جالساً ، قال الحسن بن محمّد العبديّ : رأيت أبا زيد صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكانت رجله أصيبت في سبيل اللّه يؤذّن قاعداً .
جلوس المؤذّن بين الأذان والإقامة :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يندب للمؤذّن الفصل بين الأذان والإقامة ، وذلك يكون بالصّلاة المندوبة ، فإن لم يصلّ ، أو لم يكن الوقت وقت جواز يفصل بينهما بجلسة عند الجمهور فيما سوى المغرب .
وقال أبو حنيفة : الفصل في المغرب لا يكون بجلسة بل بسكتة .
وقال المالكيّة : لا يفصل بين أذان المغرب وإقامته لصلاة .
وعند الحنابلة وأبي يوسف ومحمّد يجلس جلسة خفيفة مقدار الجلسة بين الخطبتين ، لما روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « جلوس المؤذّن بين الأذان والإقامة في المغرب من السّنّة » .
والخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في الأفضليّة ، فلو جلس لا يكره عنده أيضاً .
والرّاجح عند الشّافعيّة أن يفصل في المغرب بركعتين اعتباراً بسائر الصّلوات ، وفي قول : يفصل بينهما بسكتة لطيفة أو نحوها كقعود لطيف ، لضيق وقتها .
الجلوس قبل تحيّة المسجد :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يكره الجلوس قبل تحيّة المسجد ، لما روى أبو قتادة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يركع ركعتين » ، واختلفوا في فواتها بالجلوس ، فإذا جلس قبل الصّلاة يسنّ له أن يقوم فيصلّي ، لحديث سليك الغطفانيّ ونصّه : عن جابر بن عبد اللّه قال : « جاء سليك الغطفانيّ يوم الجمعة ، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجلس فقال له : يا سليك ، قم فاركع ركعتين ، وتجوّز فيهما . ثمّ قال : إذا جاء أحدكم يوم الجمعة ، والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما » . والمذهب عند الشّافعيّة أنّها تفوت به فلا يفعلها بعده .
وتمامه في مصطلح : ( تحيّة المسجد ) .
الجلوس عند العجز عن القيام في الصّلاة :
9 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجلوس بدل عن القيام في صلاة الفريضة عند العجز عن القيام ، فمن لا يطيق القيام له أن يصلّي جالساً ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » .
وفي بيان العجز تفصيل ينظر في مصطلح : ( صلاة المريض ) .
10 - وأمّا أداء صلاة النّفل جالساً فقال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً في إباحة التّطوّع جالساً ، ولكنّه خلاف الأولى ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى قائماً فهو أفضل ، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم » .(210/1)
وفي لفظ مسلم « صلاة الرّجل قاعداً نصف الصّلاة » .
ولأنّ كثيراً من النّاس يشقّ عليهم طول القيام ، فلو وجب في التّطوّع لترك أكثره ، فسامح الشّارع في ترك القيام فيه ترغيباً في تكثيره ، كما سامح في فعله على الرّاحلة في السّفر .
وأمّا السّنن الرّواتب فقد صرّح بعض الفقهاء أنّ الجلوس فيها مع القدرة على القيام مكروه .
الجلوس بين السّجدتين :
11 - ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه ركن ، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السّجدة لم يسجد حتّى يستوي جالساً » . وقال أبو يوسف من الحنفيّة بفرضيّته .
وهو سنّة عند الحنفيّة في المشهور من المذهب ، وروي وجوبه . يقول ابن عابدين : وهو الموافق للأدلّة ، وعليه الكمال بن الهمام ومن بعده من المتأخّرين .
وصفة الجلوس بين السّجدتين عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف الافتراش .
وعند المالكيّة التّورّك كجلوس التّشهّد ، ولا خلاف في وضع اليدين على الفخذين عند الجميع ، لأنّه من تمام صفة الجلوس . وفي التّعديل في الجلسة بين السّجدتين ، وكذلك في الذّكر المسنون فيها وقدره خلاف وتفصيل يرجع إلى مصطلح : ( تعديل ) ( ودعاء ) .
جلسة الاستراحة :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو مقابل الأصحّ لدى الشّافعيّة ، والصّحيح من المذهب لدى الحنابلة إلى أنّ المصلّي إذا قام من السّجدة الثّانية لا يجلس جلسة الاستراحة ، ويكره فعلها تنزيهاً لمن ليس به عذر .
وروي ذلك عن عمر وعليّ وابن مسعود ، وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم ، وبه قال الثّوريّ وإسحاق ، قال التّرمذيّ : وعليه العمل عند أهل العلم ،وقال أبو الزّناد : تلك السّنّة.
ويرى الشّافعيّة في الأصحّ وهو رواية ثانية عن أحمد اختارها الخلّال أنّه يسنّ بعد السّجدة الثّانية جلسة للاستراحة في كلّ ركعة تقوم عنها ، لما روى مالك بن الحويرث : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السّجود قبل أن ينهض في الرّكعة الأولى » . وصفة الجلوس هنا كالجلوس بين السّجدتين قدراً وهيئة ، ويكره تطويله ، وهذا يخالف قول الرّافعيّ : " أنّها خفيفة " وقول النّوويّ في مجموعه " أنّها خفيفة جدّاً " .
ثمّ قطع الرّافعيّ : بأنّها للفصل بين الرّكعتين ، وحكى النّوويّ وجهاً أنّها : من الثّانية ، وهناك وجه ثالث أبداه صاحب الذّخائر وهو : أنّها من الرّكعة الأولى .
ومن خصائص جلسة الاستراحة عند من يقول بها - أنّها لا يدعو فيها بشيء .
الجلوس في التّشهّد :
13 - ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والطّحاويّ والكرخيّ من الحنفيّة ، وهو وجه عند الحنابلة إلى أنّ الجلوس في التّشهّد الأوّل سنّة ، لأنّه يسقط بالسّهو فأشبه السّنن .
وفي قول عند الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة أنّه واجب حتّى يجب بتركه ساهيا سجود السّهو ، ولا يجب إلاّ بترك الواجب .
وأمّا في التّشهّد الأخير ، فيرى الحنفيّة أنّ الجلوس فيه فرض ، وقدره بقدر قراءة التّشهّد إلى " عبده ورسوله " ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : « فإذا فعلت ذلك ، أو قضيت هذا فقد تمّت صلاتك » علّق التّمام بالقعدة .
ويرى المالكيّة أنّ الجلوس للتّشهّدين سنّة ، قال ابن جزيّ : وفي المذهب أنّ الجلوس الأخير واجب ، والأصحّ أنّ الواجب منه مقدار السّلام .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجلوس في القعدة الأخيرة ركن ، وإليه ذهب عمر وابنه وأبو مسعود البدريّ رضي الله عنهم ، والحسن . وروي عن أحمد أنّه سنّة .
وأمّا هيئة الجلوس في التّشهّد فالافتراش للرّجل ، والتّورّك للمرأة عند الحنفيّة سواء أكان في القعدة الأولى أم الأخيرة . وعند المالكيّة هيئة الجلوس في التّشهّد الأخير التّورّك . وصرّح الشّافعيّة بأنّه لا يتعيّن للقعود هيئة للإجزاء ، فكيفما قعد في جلساته أجزأه ، لكنّ السّنّة في جلوس آخر الصّلاة التّورّك وفي أثنائها الافتراش .
ويرى الحنابلة أنّ هيئة الجلوس في التّشهّد الأوّل بالنّسبة للرّجل هي الافتراش ، وفي الثّاني التّورّك .
وأمّا المرأة فلها الخيار في أن تجلس متربّعة ، لأنّ ابن عمر رضي الله عنه كان يأمر النّساء أن يتربّعن في الصّلاة ، أو أن تسدل رجليها فتجعلهما في جانب يمينها ، والمنصوص عن أحمد : أنّ السّدل أفضل ، لأنّه غالب فعل عائشة رضي الله عنها ، ولأنّه أشبه بجلسة الرّجل.
وقال الشّافعيّة يسنّ التّورّك في كلّ تشهّد يسلّم فيه وإن لم يكن ثانياً ، كتشهّد الصّبح والجمعة ، لأنّه تشهّد يسنّ تطويله فسنّ فيه التّورّك كالثّاني .
ولا يتورّك الرّجل عند الحنابلة إلاّ في التّشهّد الأخير من صلاة فيها تشهّدان .
واستدلّ الحنابلة بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : « في كلّ ركعتين : التّحيّة ، وكان يفرش رجله اليسرى ، وينصب رجله اليمنى » ، ولأنّ التّشهّد الثّاني إنّما تورّك فيه للفرق بين التّشهّدين ، وما ليس فيه إلاّ تشهّد واحد لا اشتباه فيه ، فلا حاجة إلى الفرق .
الجلوس بين كلّ ترويحتين في قيام رمضان :
14 - صرّح الحنفيّة بأنّ المصلّي يخيّر بين كلّ ترويحتين بين الجلوس ذاكراً أو ساكتاً ، وبين صلاته نافلة منفرداً ، وهذا الجلوس سنّة كما يفيده كلام الكنز ، ومستحبّ كما صرّح به في الهداية والزّيلعيّ .(210/2)
والمذهب عند الحنابلة وهو المتبادر من كلام المالكيّة والشّافعيّة ، أنّه يجوز أن يستريح بعد كلّ أربع ركعات في صلاة التّراويح بجلسة يسيرة ، قال الحنابلة : وهو فعل السّلف ، ولا بأس بتركه ، ولا يدعو الإمام في الجلوس على الصّحيح من المذهب عند الحنابلة .
الجلوس قبل الخطبتين وبعد الصّعود إلى المنبر :
15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الخطيب يجلس إذا صعد المنبر في الجمعة ، واختلفوا في خطبة العيدين : فذهب الحنفيّة ، وهو وجه عند كلّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجلس ، لأنّ الجلوس لانتظار فراغ المؤذّن من الأذان في الجمعة ، وهو غير مشروع في العيدين ، فلا حاجة إلى الجلوس .
وذهب المالكيّة وهو الصّحيح المنصوص عليه عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة إلى أنّه يجلس إذا صعد المنبر ليستريح ، ولأنّه أهدى لما يريد أن يفتتحه ، وفيه زيادة وقار .
حكم الجلوس بين الخطبتين ومقداره :
16 - ذهب الحنفيّة ، وجمهور المالكيّة ، والحنابلة في الصّحيح من المذهب إلى أنّ الجلوس بين خطبتي الجمعة ، والعيدين سنّة ، لما روي عن أبي إسحاق قال : رأيت عليّاً يخطب على المنبر فلم يجلس حتّى فرغ .
ويرى الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد أنّ الجلوس بينهما بطمأنينة شرط من شروط الخطبة ، لخبر الصّحيحين« أنّه صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما ». ولا خلاف بين الفقهاء أنّ صفة هذه الجلسة أن تكون خفيفة ، وأمّا مقدارها فقد قيل : مقدار قراءة ثلاث آيات ، وقال جماعة من الفقهاء : بقدر سورة الإخلاص ، وقيل : مقدار الجلسة بين السّجدتين لأنّه فصل بين مشتبهتين .
الخطبة جالساً :
17 - من خطب جالساً : فإن كان لعذر فلا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجوز ، لأنّ الصّلاة تصحّ من القاعد العاجز عن القيام فالخطبة أولى ، وكذلك الحكم إن كان بغير عذر في خطبتي العيد دون الجمعة ، عند الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة لأنّ خطبة العيد ليست واجبة فأشبهت صلاة النّافلة ، ولما روي أنّ عثمان رضي الله عنه لمّا أسنّ كان يخطب جالساً ، وفي هذه الحالة ، فيفصل بينهما بسكتة .
الجلوس على الحرير :
18 - اختلف الفقهاء في جواز الجلوس على الحرير : فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة - وقيل : أبو يوسف أيضاً مع محمّد - أنّه حرام ، لما رواه حذيفة قال : « نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والدّيباج وأن يجلس عليه » . وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جوازه ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « جلس على مرفقة حرير » ، وكان على بساط ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفقة حرير . وأيضاً روي أنّ أنساً رضي الله تعالى عنه حضر وليمة فجلس على وسادة حرير ، ولأنّ الجلوس على الحرير استخفاف وليس بتعظيم ، فجرى مجرى الجلوس على بساط فيه تصاوير .
وهذا في الخالص منه ، وأمّا في غيره ففيه تفصيل ينظر في مصطلح : ( حرير ) .
الجلوس للأكل والشّرب :
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يندب الجلوس للأكل والشّرب وأنّ الشّرب قائماً بلا عذر خلاف الأولى عند جمهور الفقهاء .
وأمّا هيئة الجلوس للأكل فقد صرّح فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة بأنّ أحسن الجلسات للأكل الإقعاء على الوركين ونصب الرّكبتين ، ثمّ الجثيّ على الرّكبتين وظهور القدمين ، ثمّ نصب الرّجل اليمنى ، والجلوس على اليسرى .
والمندوب عند المالكيّة أن يقيم ركبته اليمنى أو مع اليسرى ، أو أن يجلس كالصّلاة ،
« وجثا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرّة على ركبته » .
أمّا الحنابلة فاستحسنوا أثناء الأكل الجلوس على الرّجل اليسرى ، ونصب اليمنى أو التّربّع . ويستحبّ للضّيف أن لا يطيل الجلوس من غير حاجة بعد الفراغ من الأكل ، بل يستأذن ربّ المنزل وينصرف لقوله تعالى : { فإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا } وتفصيل ذلك في مصطلح : ( أكل ).
جلوس من يتبع الجنازة قبل وضعها :
20 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يكره لمتّبع الجنازة الجلوس قبل وضعها ، ولا بأس بالجلوس بعد الوضع ، لما روي عن عبادة بن الصّامت « أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يجلس حتّى يوضع الميّت في اللّحد ، فكان قائماً مع أصحابه على رأس قبر ، فقال يهوديّ : هكذا نصنع بموتانا ، فجلس صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه : خالفوهم » .أي في القيام. ثمّ صرّح الحنفيّة أنّ الكراهة هنا تحريميّة للنّهي عن ذلك ، فيما روي عن أبي سعيد مرفوعا : « إذا اتّبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتّى توضع » وفي رواية أبي هريرة : « حتّى توضع بالأرض » . وعند المالكيّة لا بأس بالجلوس عند القبر قبل أن توضع الجنازة عن الأعناق . وعند الشّافعيّة هو بالخيار إن شاء قام منتظراً ، وإن شاء جلس .
الجلوس للتّعزية :
21 - ذهب جمهور المتقدّمين من الحنفيّة إلى أنّه يرخّص الجلوس في المصيبة ثلاثة أيّام للرّجال في غير مسجد ، أمّا فيه فيكره ، ولا تجلس النّساء قطعاً .
وفي الظّهيريّة : لا بأس به لأهل الميّت في البيت أو المسجد والنّاس يأتونهم ويعزّونهم .
وقال المالكيّة يجوز أن يجلس الرّجل للتّعزية . لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت : « لمّا قتل زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد اللّه بن رواحة رضي الله تعالى عنهم ، جلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن » .(210/3)
وقال متأخّرو فقهاء الحنفيّة : يكره له الجلوس في بيته حتّى يأتي إليه من يعزّي ، بل إذا فرغ ، ورجع النّاس من الدّفن فليتفرّقوا ويشتغل النّاس بأمورهم ، وصاحب البيت بأمره . وإلى الكراهة ذهب الشّافعيّة والحنابلة في المذهب ، والكراهة عند الشّافعيّة تنزيهيّة إن لم يكن معها محدث آخر . ونقل عن أحمد : الرّخصة لأهل الميّت .
أمّا الجلوس على باب دار الميّت : فصرّح الحنفيّة بأنّه مكروه ، لأنّه عمل أهل الجاهليّة وقد نهي عنه . وصرّح الحنابلة بجوازه حيث قالوا : لا بأس بالجلوس بقرب دار الميّت ليتّبع الجنازة ، أو يخرج وليّه فيعزّيه ، لأنّه فعله السّلف . وانظر مصطلح : ( تعزية ) .
الجلوس على القبور :
22 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجلوس على القبور إذا كان لبول أو غائط فلا يجوز قولا واحداً . واختلفوا فيما إذا كان لغير ذلك .
فقال الحنفيّة وهو المذهب عندهم ، والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يكره الجلوس على القبور ، لما روى أبو مرثد الغنويّ " أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلّوا إليها » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر » .
قال الحنفيّة والشّافعيّة : وإن أراد الجلوس أثناء زيارة القبور يجلس بعيداً أو قريباً بحسب مرتبته في حال حياته . وعبارة الشّافعيّة : ينبغي للزّائر أن يدنو من القبر بقدر ما كان يدنو من صاحبه في الحياة لو زاره .
ويرى الطّحاويّ من الحنفيّة ، ونسب القول إلى أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد جواز الجلوس على القبر ، وهو ما ذهب إليه المالكيّة أيضاً ، لما روي أنّ عليّاً رضي الله عنه كان يتوسّد القبر ، ويجلس عليه .قال الطّحاويّ : وتنتفي الكراهة مطلقاً إذا كان الجلوس للقراءة.
الجلوس في المسجد للقضاء :
23 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في الصّحيح من المذهب ، والحنابلة إلى جواز جلوس القاضي في المسجد للحكم ، والجامع أولى ، لأنّه أشهر ، ويختار مسجداً في وسط البلد ، لئلاّ يبعد على قاصديه . والدّليل على ذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « كان يفصل بين الخصوم في المسجد » ، فقد روي أنّه عليه الصلاة والسلام قال : « إنّما بنيت المساجد لذكر اللّه وللحكم » ولئلاّ يشتبه على الغرباء مكانه .
وكذا الخلفاء الرّاشدون بعده ، وكان عليّ رضي الله تعالى عنه له دكّة في مسجد الكوفة .
وصرّح المالكيّة بأنّه إذا جلس للقضاء في المسجد ، فإنّه يجلس بغير يوم عيد فطر أو أضحى ، ويكره جلوسه يوم عيد ، لأنّه يوم فرح وسرور ، ومصافاة لا يوم مخاصمة .
وبغير يوم قدوم الحاجّ وخروجه ، لاشتغال النّاس فيه بتهنئة القادمين ، أو وداع الخارجين ، وبغير يوم التّروية ويوم عرفة . وروى ابن حبيب من المالكيّة أنّ القاضي يجلس برحاب المسجد الخارجة عنه واستحسن صاحب جواهر الإكليل هذا ، مستدلّا بقوله صلى الله عليه وسلم : « جنّبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم » .
ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يجلس القاضي في دار لا في مسجد ، فيكره عندهم اتّخاذه مجلسا للحكم في الأصحّ ، صوناً له عن ارتفاع الأصوات ، واللّغط الواقعين بمجلس القضاء عادة ، ولأنّ القضاء قد يحضره مشرك وهو نجس بالنّصّ .
وذكر الفقهاء لجلوس القاضي آداباً كثيرة منها :
- أن يكون مجلسه فسيحاً ، واسعاً لئلاّ يتأذّى بضيقه الحاضرون .
- وأن يكون بارزاً ، ظاهراً ، ليعرف القاضي من يراه .
- وأن يكون مصوناً من أذى حرّ وبرد وريح وغبار ودخان ، لائقاً بالوقت من صيف وشتاء. - وأن يبسط له شيء ، ولا يجلس على التّراب ولا على الحصير ، لأنّ ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم .
وفي الجلوس بين يدي القاضي ، والعدل بين الخصم في مجلسه تفصيل ينظر في ( قضاء ) .
حدّ المرأة وهي جالسة :
24 - ذهب الحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - والمالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّ المرأة تضرب في جميع الحدود الّتي فيها الضّرب جالسة ، لما روي عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال : تضرب المرأة جالسة ، والرّجل قائماً ، ولأنّ المرأة عورة ، وجلوسها أستر لها . ويرى أبو يوسف وابن أبي ليلى أنّها تحدّ قائمة ، كما تلاعن .
وأمّا الرّجل فلم يقل بضربه جالساً في الحدود إلاّ المالكيّة والحنابلة في رواية ، لأنّ اللّه تعالى لم يأمر بالقيام ، ولأنّه مجلود في حدّ ، فأشبه المرأة .
الجلوس للتّبوّل :
25 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ الجلوس أثناء التّبوّل لئلاّ يترشّش عليه ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : من الجفاء أن تبول وأنت قائم .
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : « من حدّثكم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدّقوه ، ما كان يبول إلاّ قاعداً » .
وقال التّرمذيّ : هذا أصحّ شيء في الباب ، وقال النّوويّ في شرح مسلم : وقد روي في النّهي أحاديث لا تثبت ، ولكن حديث عائشة رضي الله عنها ثابت ، فلذا قال العلماء يكره إلاّ لعذر . وهي كراهة تنزيه لا تحريم . وقد رويت الرّخصة في ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد ، وأنس وأبي هريرة وعروة .
وروى حذيفة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً » ، رواه البخاريّ وغيره . وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .(210/4)
جمار *
التّعريف :
1 - الجمار بالكسر والجمرات جمع الجمرة ، ومن معاني الجمرة في اللّغة الحصاة ، فالجمار الأحجار الصّغار . وفي الاصطلاح تطلق الجمار على معان :
أ - جمرات المناسك الثّلاث الأولى والوسطى وجمرة العقبة .
والجمرات هي : المواضع الّتي ترمى بالحصيات ، وهي بمنى ، والأولى منها هي الّتي تلي مسجد الخيف ، والوسطى الّتي بينها وبين جمرة العقبة والأخيرة جمرة العقبة .
وهي أقرب الثّلاث إلى مكّة . قال صاحب مرآة الحرمين : وهي - أي في زمنه - حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار في عرض نحو مترين أقيم على قطعة من صخرة مرتفعة عن الأرض بنحو متر ونصف ومن أسفل هذا الحائط حوض من البناء تسقط إليه حجارة الرّجم . وورد في شفاء الغرام نقلا عن الأزرقيّ : ومن جمرة العقبة وهي أوّل الجمار ممّا يلي مكّة إلى الجمرة الوسطى أربعمائة ذراع وسبعة وثمانون ذراعاً واثنا عشر أصبعاً ، ومن الجمرة الوسطى إلى الجمرة الثّالثة وهي الّتي تلي مسجد منى ثلثمائة ذراع وخمسة أذرع ، ومن الّتي تلي مسجد منى إلى أوسط باب مسجد الخيف ألف ذراع وثلثمائة ذراع وواحد وعشرون ذراعا . وقال في مرآة الحرمين : المسافة الّتي بين جمرة العقبة والجمرة الوسطى (116,77) متراً ، والّتي بين الجمرة الأولى والوسطى ( 156,40 ) متراً .
قال المحبّ الطّبريّ : وليس للمرمى حدّ معلوم غير أنّ كلّ جمرة عليها علم ، وهو عمود معلّق هناك فيرمى تحته وحوله ولا يبعد عنه احتياطاً ، وحّده بعض المتأخّرين بثلاثة أذرع من سائر الجوانب إلاّ في جمرة العقبة فليس لها إلاّ وجه واحد لأنّها تحت جبل .
والمقصود من رمي الجمار التّعبّد للّه تعالى وحده بما لا حظّ للنّفس فيه قال أبو حامد الغزاليّ رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحجّ من الإحياء : وأمّا رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرّقّ والعبوديّة ، وانتهاضاً لمجرّد الامتثال من غير حظّ للنّفس والعقل في ذلك. ثمّ ليقصد به التّشبّه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه اللّه تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجّه شبهة أو يفتنه بمعصية ، أمره اللّه عزّ وجلّ أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله . ورد في بعض الأحاديث « أنّ إبليس عرض له هنالك أي وسوس له ليشغله عن أداء المناسك فكان يرميه كلّ مرّة فيخنس ثمّ يعود » . وروى الطّبرانيّ والحاكم والبيهقيّ عن ابن عبّاس : « لمّا أتى خليل اللّه المناسك عرض له الشّيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتّى ساخ في الأرض ثمّ عرض له عند الجمرة الثّانية فرماه بسبع حصيات حتّى ساخ في الأرض ثمّ ذكر الجمرة الثّالثة كذلك » .
وروى ابن إسحاق أنّه : " لمّا فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له طف به سبعاً " ، ثمّ ساق الحديث وفيه " أنّه لمّا دخل منى وهبط من العقبة تمثّل له إبليس عند جمرة العقبة فقال له جبريل : كبّر وارمه سبع حصيات ، فرماه فغاب عنه ، ثمّ برز له عند الجمرة الوسطى ، فقال له جبريل : كبّر وارمه ، فرماه إبراهيم سبع حصيات ، ثمّ برز له عند الجمرة السّفلى ، فقال له جبريل : كبّر وارمه ، فرماه سبع حصيات مثل حصى الخذف ، فغاب عنه إبليس " .
ب - الحصيات الّتي يرمى بها في منى ، وتسمّى الحصيات السّبع جمرة أيضاً ، تسمية للكلّ باسم البعض .
ج - الأحجار الصّغيرة الّتي يستنجى بها ، ومنه حديث : « إذا استجمر أحدكم فليوتر » .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً - الجمار بمعنى الحصيات الّتي يرمى بها :
2 - رمي الجمار واجب في الحجّ باتّفاق الفقهاء ، ويجب في تركه دم .
وعدد الجمار سبعون : سبعة لرمي جمرة العقبة يوم النّحر والباقي لثلاثة أيّام منى كلّ يوم ثلاث جمرات بإحدى وعشرين ، وذلك لمن لم يتعجّل ، أمّا للمتعجّل فتسعة وأربعون . وتفصيله في مصطلح : ( حجّ ، ورمي الجمار ) .
صفة جمار الرّمي :
3 - يشترط في الجمار أن تكون من حجر ، وذلك عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - ، فلا يجوز بذهب ، وفضّة ، وحديد ، ورصاص ، وخشب ، وطين ، وبذر ، وتراب ، ولؤلؤ ، وإثمد ، وجصّ عندهم ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بالرّمي بمثل حصى الخذف » ، فلا يتناول غيره .
وأجاز الشّافعيّة أن تكون الجمار من كلّ أنواع الحجر .
أمّا الحنفيّة فقد ذهبوا إلى أنّه يجوز أن تكون الجمار من كلّ ما كان من جنس الأرض ، كالحجر والمدر والطّين ، وكلّ ما يجوز التّيمّم به .
ولا يجوز بخشب وعنبر ولؤلؤ وجواهر لأنّها ليست من جنس الأرض .
واشترط بعض الحنفيّة في الجمار أن يكون رميها باستهانة ، فلا يجوز عندهم بالفيروزج والياقوت مع أنّهما من جنس الأرض لعدم حصول الاستهانة بهما .
ويجزئ مع الكراهة الرّمي بالجمار المتنجّسة ، فإن غسلها زالت النّجاسة ، ولا يستحبّ غسلها إلاّ إذا كانت متنجّسة بيقين .
حجم الجمار :
4 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة وهو المختار عند الحنفيّة إلى أنّ الجمرة تكون مقدار الباقلاّ ، أي قدر الفولة ، وقيل : قدر الحمّصة ، أو النّواة ، أو الأنملة .
وهذا بيان المندوب ، ويجوز الرّمي بالأكبر مع الكراهة .
وقال الحنابلة : تكون حصى الجمار أكبر من الحمّص ودون البندق ، كحصى الخذف ، فلا يجزئ صغير جدّاً ولا كبير . والأصل فيه حديث مسلم : « عليكم بحصى الخذف » .
مكان التقاط الجمار :
5 - يستحبّ التقاط الجمار السّبعة لرمي جمرة العقبة من مزدلفة ، أو من الطّريق ، وما عدا السّبعة ليس له مكان مخصوص . وقيل : يؤخذ سبعون حصاة من مزدلفة .(211/1)
ولا خلاف في جواز أخذها من حيث كان ، لكنّه يكره أخذها من عند الجمرة ، وصرّح الحنابلة بأنّه إن رمى بحجر أخذه من المرمى لم يجزه . ويكره كذلك التقاطها من مكان نجس ، أو أن تكون متنجّسة . ويكره أيضاً أن يلتقط حجراً فيكسره سبعين حجراً صغيراً .
كيفيّة رمي الجمار :
6 - يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي سبعاً بسبع حصيات ، فلو رماها دفعة واحدة كانت عن واحدة . ويكبّر مع كلّ حصاة . فإذا كان اليوم الثّاني من أيّام النّحر رمى الجمار الثّلاث بعد الزّوال يبتدئ بالجمرة الأولى الّتي تلي مسجد الخيف ، وكذلك في اليوم الثّالث والرّابع إن أقام . وإن نفر إلى مكّة في اليوم الثّالث سقط عنه رمي اليوم الرّابع .
وتفصيله في مصطلح : ( حجّ ، ورمي الجمار ) .
ويشترط حصول الجمار في المرمى عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - وإن لم يبق فيه . ولا يشترط ذلك عند الحنفيّة ، فلو وقعت على ظهر رجل أو جمل إن وقعت بنفسها بقرب الجمرة أجزأ ، وإلاّ لم يجزئ .
وقت رمي الجمار :
7 - الوقت المسموح لرمي جمرة العقبة من طلوع شمس يوم النّحر إلى زوالها .
أمّا الجمار في الأيّام الثّلاث الأخرى فوقتها بعد الزّوال .
وفي شروط رمي الجمار وما يترتّب على تأخيرها أو تركها ، بعضها أو كلّها تفصيل في المذاهب ينظر في مصطلح : ( حجّ ، ورمي الجمار ) .
ثانياً - الجمار الّتي يستنجى بها :
8 - ورد في الحديث : « من استجمر فليوتر » ومعنى الاستجمار استعمال الحجارة ونحوها في إزالة ما على السّبيلين من النّجاسة .
والجمهور على أنّ الاستجمار كما يكون بالحجارة يكون بكلّ جامد يحصل به الإنقاء والتّنظيف ، كمدر وخرقة ونحوهما . وذهبوا إلى أنّ الاستنجاء بالماء أفضل .
واتّفق الفقهاء على أفضليّة الجمع بينهما . وتفصيل هذه المسائل في مصطلح :( استجمار ).(211/2)
جماعة *
التّعريف :
1 - الجماعة في اللّغة من الجمع : والجمع تأليف المتفرّق وضمّ الشّيء بتقريب بعضه من بعض ، يقال : جمعته فاجتمع . والجماعة عدد من النّاس يجمعهم غرض واحد .
وقد استعملوها في غير النّاس حتّى قالوا : جماعة الشّجر وجماعة النّبات ، وبهذا المعنى تطلق على عدد كلّ شيء وكثرته . والجماعة ، والجميع ، والمجمعة ، والمجمع كالجمع .
وفي اصطلاح الفقهاء تطلق الجماعة على عدد من النّاس .
يقول الكاسانيّ : " الجماعة مأخوذ من معنى الاجتماع ، وأقلّ ما يتحقّق به الاجتماع اثنان " ويقول : " أقلّ الجماعة اثنان إمام ومأموم " .
وتطلق أيضاً على فعل الصّلاة مجتمعين كما يقولون : " الجماعة سنّة مؤكّدة ، أي فعل الصّلاة جمعاً بإمام ومأموم " . قد يراد من الجماعة الاتّحاد وعدم الفرقة ، كما ورد في الحديث : « الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب » .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم الجماعة باختلاف مواضعها كما يلي :
صلاة الجماعة :
2 - صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ اتّفاقاً لما ورد في الحديث : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة » .
واتّفق الفقهاء على أنّ الجماعة شرط في صحّة صلاة الجمعة ، وهي فرض على الرّجال القادرين عليها بشروط تفصّل في موضعها ، واختلفوا في شرطيّتها لصحّة صلاة العيدين . أمّا في سائر الفروض ، فالجماعة سنّة مؤكّدة عند المالكيّة وهو رواية عند الحنفيّة ، لأنّ
« النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكم بأفضليّة صلاة الجماعة عن صلاة الفذّ ، ولم ينكر على اللّذين قالا : صلّينا في رحالنا » ولو كانت واجبة لأنكر عليهما .
وقال الحنابلة وهو المختار عند الحنفيّة : إنّها واجبة ، فيأثم تاركها بلا عذر ويعزّر وتردّ شهادته . وقيل : إنّها فرض كفاية في البلد بحيث يظهر الشّعار في القرية فيقاتل أهلها إذا تركوها . ويستدلّون للوجوب بقوله تعالى : { وإذا كُنتَ فيهم فَأقَمتَ لهم الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهم معكَ } فأمر بالجماعة حال الخوف ففي غيره أولى ، وبما ورد في حديث أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لقد هممت أن آمر بالصّلاة فتقام ، ثمّ آمر رجلا يصلّي بالنّاس ، ثمّ أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصّلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنّار » أمّا النّساء ففي أدائهنّ للصّلاة جماعة تفصيل ينظر في : ( صلاة الجماعة ). وهي فرض كفاية عند الشّافعيّة في الصّحيح من المذهب .
أقلّ الجماعة :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ صلاة الجماعة تنعقد باثنين : إمام ومأموم .
وذلك في غير الجمعة والعيدين . لحديث أبي موسى مرفوعاً : « اثنان فما فوقهما جماعة ».
ويشترط جمهور الفقهاء لانعقاد الجماعة في الفروض أن يكون الإمام والمأموم كلاهما بالغين ولو كان المأموم امرأة ، فلا تنعقد بصبيّ في فرض لأنّ صلاتهما فرض ، وصلاة الصّبيّ نفل . أمّا في النّوافل فتنعقد الجماعة بصبيّين ، أو بالغ وصبيّ اتّفاقاً .
وظاهر كلام الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد إلى أنّها تنعقد بصغير في الفرض أيضاً إذا كان الإمام بالغاً . وتفصيله في مصطلح : ( صلاة الجماعة ) .
وهناك شروط لانعقاد الجماعة في الجمعة والعيدين تفصيلها في مصطلحيهما .
قتل الجماعة بالواحد :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الجماعة إذا قتلوا واحداً اقتصّ منهم جميعاً .
قالوا : لأنّ زهوق الرّوح لا يتجزّأ ، واشتراك الجماعة فيما لا يتجزّأ يوجب التّكامل في حقّ كلّ واحد منهم ، فيضاف إلى كلّ واحد منهم . قالوا : ولإجماع الصّحابة على ذلك .
فقد روي أنّ امرأة بمدينة صنعاء غاب عنها زوجها وترك عندها ابناً له من غيرها ، فاتّخذت لنفسها خليلاً ، فاجتمع على قتل الغلام خليل المرأة ، ورجل آخر ، والمرأة وخادمها ، فقطعوه أعضاء ، وألقوا به في بئر ثمّ ظهر الحادث وفشا بين النّاس ، فأخذ أمير اليمن خليل المرأة فاعترف ، ثمّ اعترف الباقون ، فكتب إلى عمر بن الخطّاب فكتب إليه عمر أن اقتلهم وقال : « واللّه لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً » .
وكذلك قتل عليّ ثلاثة بواحد ، وقتل المغيرة سبعة بواحد ، ولم ينكر عليهم .
قالوا : ولأنّ القتل بطريق التّغالب غالب ، والقصاص شرع لحكمة الزّجر ، فيجعل كلّ واحد منهم كالمنفرد فيجري القصاص عليهم جميعا تحقيقا لمعنى الإحياء ، ولولا ذلك للزم سدّ باب القصاص وفتح باب التّفاني ، إذ لا يوجد القتل من واحد غالباً .
وخالف في ذلك بعض الصّحابة منهم ابن الزّبير ، وروي عن ابن عبّاس ، وهو رواية عن أحمد . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( قصاص ، وتواطؤ ) .
القصاص من الواحد بقتل الجماعة :
5 - إذا قتل واحد جماعة ، قتل قصاصاً باتّفاق الفقهاء .
وفي وجوب شيء من المال مع ذلك خلاف وتفصيل ينظر في : ( قصاص ) .
لزوم جماعة المسلمين :
6 - ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تلزم جماعة المسلمين وإمامهم » . قال في الفتح : اختلفوا في هذا الأمر ، فقال قوم : هو للوجوب ، والجماعة السّواد الأعظم ، وقال قوم : الجماعة الصّحابة ، وقال بعضهم : الجماعة أهل العلم ، قال الطّبريّ : والصّواب أنّ المراد من الخبر لزوم الجماعة الّذين في طاعة من اجتمعوا على تأييده ، فمن نكث عن بيعته خرج عن الجماعة .(212/1)
7- وفي شرح الطّحاويّة : " نتبع أهل السّنّة والجماعة " ، والسّنّة طريقة الرّسول صلى الله عليه وسلم والجماعة جماعة المسلمين : هم الصّحابة والتّابعون بإحسان إلى يوم الدّين ... « قال عليه الصلاة والسلام : إنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة كلّها في النّار إلاّ واحدة وهي الجماعة » ، وفي رواية « قالوا : من هي يا رسول اللّه ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي » . وتفصيل هذه المسائل في مصطلحات : ( إمامة كبرى ، بغي ، بيعة ) .(212/2)
جمع الصّلوات *
التّعريف :
1 - الجمع ضدّ التّفريق ، وجمع الشّيء إذا جاء به من هنا وهنا وضمّ بعضه إلى بعض . والمراد بجمع الصّلوات عند الفقهاء : هو أداء الظّهر مع العصر ، والمغرب مع العشاء تقديماً أو تأخيراً .
الحكم التّكليفيّ :
2 - أجمع الفقهاء على مشروعيّة الجمع بين الظّهر والعصر في عرفات جمع تقديم في وقت الظّهر ، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة في وقت العشاء للحاجّ ، لأنّ الرّسول فعل هذا في حجّة الوداع ، فعن جابر رضي الله عنه قال في صفة حجّه صلى الله عليه وسلم « فأتى بطن الوادي فخطب النّاس ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر ، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئاً » . ولكنّهم اختلفوا في تحديد علّة هذه الرّخصة هل هي السّفر أو هي النّسك ؟ فذهب الحسن البصريّ ، وابن سيرين ، ومكحول ، والنّخعيّ وأبو حنيفة ، وهو قول للشّافعيّة إلى أنّ هذا الجمع من أجل النّسك ، ولهذا فلا فرق في ذلك عندهم بين المسافر والحاضر ، ولا بين العرفيّ والمكّيّ وغيرهم بعرفة ، ولا بين المزدلفيّ وغيره بمزدلفة . وذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والرّاجح عند الشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ الجمع بعرفة ومزدلفة رخصة من أجل السّفر ، واحتجّوا بالأحاديث الصّحيحة المشهورة في الجمع في أسفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأخرى كما يأتي .
الجمع للسّفر :
3 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الجمع بين الظّهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم ، أو جمع تأخير بسبب السّفر الطّويل الّذي تقصر فيه الرّباعية ما لم يكن سفر معصية للأدلّة الآتية :
أ - عن أنس رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر ثمّ نزل فجمع بينهما » الحديث .
وفي رواية : « فإن زاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر ثمّ ركب » .
وفي رواية أخرى : « كان صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشّمس صلّى الظّهر والعصر جميعاً ثمّ ارتحل » .
ب - وعن معاذ رضي الله عنه قال : « خرجنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلّي الظّهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً » .
أمّا المالكيّة فلا يشترط للجمع في السّفر عندهم طول مسافة السّفر أو قصرها ، فإذا نوى الإقامة في أثناء إحدى الصّلاتين عند التّقديم بطل الجمع .
ولا يشترط فيه إقامة أربعة أيّام لبطلان الجمع .
وأحوال جواز الجمع في السّفر أو عدمه كالآتي :
أ - يرخّص الجمع بين الظّهر والعصر جمع تقديم بشرطين :
أحدهما : أن تزول عليه الشّمس بالمكان الّذي نزل فيه للرّاحة .
ثانيهما : أن ينوي الارتحال قبل دخول وقت العصر والنّزول في مكان آخر بعد غروب الشّمس .
ب - وإن نوى النّزول قبل اصفرار الشّمس صلّى الظّهر أوّل وقتها ، وأخّر العصر وجوباً حتّى ينزل ليوقعها في وقتها الاختياريّ ، فإن قدّمها مع الظّهر أجزأت ، وندب إعادتها في وقتها عند نزوله .
ج - وإن نوى النّزول بعد الاصفرار وقبل الغروب صلّى الظّهر قبل أن يرتحل وهو مخيّر في العصر إن شاء قدّمها مع الظّهر ، وإن شاء أخّرها حتّى ينزل هذا إذا زالت عليه الشّمس أثناء نزوله .
فإن زالت عليه الشّمس أثناء سيره فأحواله هي :
أ - إن نوى النّزول وقت اصفرار الشّمس أو قبله أخّر الظّهر ، ليجمعها مع العصر جمع تأخير وقت نزوله وجوباً على ما قال الدّسوقيّ وجوازاً على ما قال اللّخميّ .
ب - وإن نوى النّزول بعد الغروب جمع بينهما جمعاً صوريّاً ، وهو أن يصلّي الظّهر آخر وقته الاختياريّ ، والعصر أوّل وقته الاختياريّ .
هذا بالنّسبة للظّهر والعصر . ومثلهما المغرب والعشاء مع مراعاة ما يدخل به وقت العشاء وهو الشّفق وما يخرج به وهو الفجر .
4 - وذهب الأوزاعيّ إلى جواز جمع التّأخير فقط للمسافر عملاً برواية من حديث أنس رضي الله عنه وهي قوله : « فإن زاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر ثمّ ركب » . وذهب الحسن البصريّ ، والنّخعيّ ، وابن سيرين ، ومكحول ، وأبو حنيفة إلى أنّه لا يجوز الجمع للمسافر لا تقديماً ولا تأخيراً ، وتأوّلوا ما ورد من جمعه صلى الله عليه وسلم بأنّه جمع صوريّ ، وهو أنّه أخّر الظّهر إلى آخر وقتها وقدّم العصر في أوّل وقتها وفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء .
واستدلّوا بأدلّة منها :
أ - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال . « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة بغير ميقاتها إلاّ صلاتين جمع بين المغرب والعشاء » .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس في النّوم تفريط إنّما التّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتّى يجيء وقت الأخرى ، فمن فعل ذلك فليصلّها حين ينتبه لها ، فإذا كان الغد فليصلّها عند وقتها » .
ج - واحتجّوا بأنّ مواقيت الصّلاة ثبتت بالتّواتر وأحاديث الجمع آحاد فلا يجوز ترك المتواتر بخبر الواحد .
5- وقد اتّفق القائلون بجواز الجمع بسبب السّفر على أنّه يجوز الجمع للمسافر بين الصّلاتين - الظّهر والعصر أو المغرب والعشاء - في وقت الأولى منهما وفي وقت الثّانية كذلك .
غير أنّه إن كان نازلاً في وقت الأولى فالأفضل أن يقدّم الثّانية في وقت الأولى ، وإن كان سائرا فيها فالأفضل أن يؤخّرها إلى وقت الثّانية ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما « ألا أخبركم عن صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشّمس وهو في المنزل أي مكان النّزول في السّفر قدّم العصر إلى وقت الظّهر ويجمع بينهما في الزّوال ، وإذا سافر قبل الزّوال أخّر الظّهر إلى وقت العصر ثمّ جمع بينهما في وقت العصر » .(213/1)
ولأنّ هذا أرفق بالمسافر فكان أفضل .
أمّا إن كان سائراً في وقتيهما أو نازلاً فيه وأراد جمعهما ، فالأفضل تأخير الأولى منهما إلى وقت الثّانية ، لأنّ وقت الثّانية وقت للأولى حقيقة بخلاف العكس .
ويرى الأوزاعيّ عدم جواز جمع التّقديم .
شروط صحّة جمع التّقديم :
6 - ذهب جمهور الفقهاء القائلين بجواز الجمع إلى أنّه يشترط لجمع التّقديم أربعة شروط : أوّلها : البداءة بالأولى من الصّلاتين كالظّهر والمغرب لأنّ الوقت لها والثّانية تبع لها والتّابع لا يتقدّم على متبوعه ، فلو صلّى العصر قبل الظّهر أو العشاء قبل المغرب لم يصحّ الظّهر في الصّورة الأولى ، ولا العشاء في الثّانية ، وعليه أن يعيدها بعد الأولى إذا أراد الجمع . ثانيها : نيّة الجمع ومحلّها الفاضل أوّل الصّلاة الأولى ويجوز في أثنائها إلى سلامها .
ثالثها : الموالاة بين الصّلاتين وهي أن لا يفصل بينهما زمن طويل ، أمّا الفصل اليسير فلا يضرّ ، لأنّ من العسير التّحرّز منه . فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع سواء أفرّق بينهما لنوم ، أم سهو ، أم شغل ، أم غير ذلك .
والمرجع في الفصل اليسير والطّويل العرف كما هو الشّأن في الأمور الّتي لا ضابط لها في الشّرع أو في اللّغة كالحرز والقبض وغيرهما .
وقدّر بعض الحنابلة والشّافعيّة الفصل اليسير بقدر الإقامة ، وزاد الحنابلة وقدر الوضوء . رابعها : دوام سفره حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثّانية ، فإذا نوى الإقامة أثناء الصّلاة الأولى ، أو وصل إلى بلده وهو في الأولى ، أو صار مقيماً بين الصّلاتين انقطع الجمع لزوال سببه ، ولزمه تأخير الثّانية إلى وقتها .
شروط صحّة جمع التّأخير :
7 - يشترط لصحّة جمع التّأخير نيّة الجمع قبل خروج وقت الأولى بزمن لو ابتدئت فيه كانت أداء ، فإن أخّرها بغير نيّة الجمع أثم وتكون قضاء لخلوّ وقتها عن الفعل أو العزم . وزاد الشّافعيّة شرطاً آخر لجمع التّأخير وهو دوام سفره إلى تمام الصّلاتين ، فإن أقام قبل فراغه منهما أصبحت الأولى قضاء .
أمّا الحنابلة فيشترطون استمرار السّفر إلى حين دخول وقت الثّانية ، وعليه فلا يضرّ زوال السّفر قبل فعل الصّلاتين وبعد دخول وقت الثّانية .
8- وقد اختلف الفقهاء في جواز الجمع في السّفر القصير .
فذهب الشّافعيّة في الرّاجح عندهم والحنابلة إلى أنّه لا يجوز الجمع في السّفر القصير ، لأنّ الجمع رخصة ثبتت لدفع المشقّة في السّفر فاختصّت بالطّويل كالقصر ، ولأنّه إخراج عبادة عن وقتها فلم يجز في السّفر القصير كالفطر في الصّوم ، ولأنّ دليل الجمع فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم والفعل لا صيغة له وإنّما هو قضيّة عين ، فلا يثبت حكمها إلاّ في مثلها ، ولم ينقل أنّه صلى الله عليه وسلم جمع إلاّ في سفر طويل .
وذهب الشّافعيّة في المرجوح عندهم إلى جواز الجمع في السّفر القصير لأنّ أهل مكّة يجمعون بعرفة ومزدلفة وهو سفر قصير .
وتفصيل ما يتّصل بالسّفر قصراً وطولاً ينظر في : ( صلاة المسافر ) .
هذا وروي عن أحمد أنّ الجمع لا يجوز إلاّ إذا كان سائراً في وقت الأولى فيؤخّر إلى وقت الثّانية ثمّ يجمع بينهما .
والرّواية الثّانية جواز تقديمه الصّلاة الثّانية ليصلّيها مع الأولى على ما سبق .
الجمع للمرض :
9 - اختلف الفقهاء في جواز الجمع للمريض فذهب المالكيّة والحنابلة إلى جواز الجمع بين الظّهر والعصر وبين المغرب والعشاء بسبب المرض .
واستدلّوا بما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الظّهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر »
وفي رواية : « من غير خوف ولا سفر » .
وقد أجمعوا على أنّ الجمع لا يكون إلاّ لعذر فيجمع للمرض .
وقد ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش رضي الله عنهما لمّا كانتا مستحاضتين بتأخير الظّهر وتعجيل العصر والجمع بينهما بغسل واحد » .
ثمّ إنّ هؤلاء الفقهاء قاسوا المرض على السّفر بجامع المشقّة فقالوا : إنّ المشقّة على المريض بجامع في إفراد الصّلوات أشدّ منها على المسافر .
إلاّ أنّ المالكيّة يرون أنّ الجمع الجائز بسبب المرض هو جمع التّقديم فقط لمن خاف الإغماء أو الحمّى أو غيرهما . وإن سلم من هذه الأمراض ولم تصبه أعاد الثّانية في وقتها .
أمّا الحنابلة فيرون أنّ المريض مخيّر بين التّقديم والتّأخير كالمسافر ، فإن استوى عنده الأمران فالتّأخير أولى ، لأنّ وقت الثّانية وقت للأولى حقيقة بخلاف العكس ، والمرض المبيح للجمع عند الحنابلة هو ما يلحقه به بتأدية كلّ صلاة في وقتها مشقّة وضعف . وألحقوا المستحاضة ، ومن به سلس بول ، ومن في معناهما كالمرضع بالمريض في جواز الجمع . وإلى رأي المالكيّة والحنابلة في جواز الجمع للمريض ذهب جماعة من فقهاء الشّافعيّة منهم القاضي حسين ، وابن المقري ، والمتولّي ، وأبو سليمان الخطّابيّ .
وقال الإمام النّوويّ : هذا الوجه قويّ جدّاً .
قال القاضي حسين : يجوز الجمع بعذر المرض تقديماً وتأخيراً والأولى أن يفعل أرفقهما به. وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يجوز الجمع بسبب المرض لأنّه لم يثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولأنّ أخبار المواقيت ثابتة فلا تترك أو تخالف بأمر محتمل وغير صريح ، ولا سيّما أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم مرض أمراضاً كثيرة ولم ينقل جمعه بالمرض صريحاً .
الجمع للمطر ، والثّلج ، والبرد ، ونحوها :(213/2)
10 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر المبلّل للثّياب والثّلج والبرد لما في الصّحيحين عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظّهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً » زاد مسلم « من غير خوف ولا سفر » .
قال كلّ من الإمام مالك والشّافعيّ رحمهما الله : أرى ذلك بعذر المطر . ولم يأخذ الجمهور بالرّواية الأخرى وهي قوله : « من غير خوف ولا مطر » لأنّها تخالف رواية الجمهور . ولأنّه ثبت أنّ ابن عبّاس وابن عمر رضي الله عنهم كانا يجمعان بسبب المطر .
وهو قول الفقهاء السّبعة والأوزاعيّ .
إلاّ أنّ الجمهور اختلفوا في مسائل منها :
أ - يرى المالكيّة والحنابلة أنّه لا يجوز الجمع بين الظّهر والعصر بسبب المطر ونحوه لما روي أنّ أبا سلمة بن عبد الرّحمن قال : « إنّ من السّنّة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء » . ولأنّ المشقّة في المغرب والعشاء أشدّ لأجل الظّلمة .
أمّا الشّافعيّة فيرون أنّه يجوز الجمع بين الظّهر والعصر كذلك بسبب المطر ونحوه ، لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما المتقدّم ذكره ولأنّ العلّة هي وجود المطر سواء أكان ذلك في اللّيل أم في النّهار .
ب - أنّهم اختلفوا في حكم جمع التّقديم والتّأخير :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة في الجديد إلى جواز جمع التّقديم فقط دون جمع التّأخير لأنّ استدامة المطر ليست مؤكّدة ، فقد ينقطع المطر فيؤدّي إلى إخراج الصّلاة عن وقتها من غير عذر . وذهب الحنابلة إلى جواز جمع التّأخير بسبب المطر كالسّفر ، وإلى هذا ذهب الإمام الشّافعيّ في القديم .
ج - يشترط المالكيّة والشّافعيّة للجمع بسبب المطر البداءة بالأولى من الصّلاتين ونيّة الجمع بينهما والموالاة على التّفصيل الّذي سبق في الجمع بسبب السّفر ( ف / 3 ) .
وهناك شروط أخرى اشترطها المالكيّة والشّافعيّة للجمع بسبب المطر منها :
أولاً : وجود المطر في أوّل الصّلاتين وعند السّلام من الأولى وعند دخول الثّانية .
ثانياً : الرّخصة خاصّة بالمصلّي جماعة في مسجد ، فلا يجمع المصلّي في بيته وهذا أحد القولين عند الحنابلة . والأرجح عند الحنابلة : أنّ الرّخصة عامّة فلا فرق بين من يصلّي جماعة في مسجد وبين غيره ممّن يصلّي في غير مسجد أو منفرداً ، لأنّه قد روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمع في المطر » وليس بين حجرته والمسجد شيء .
ولأنّ العذر إذا وجد استوى فيه وجود المشقّة وغيره .
د - يرى المالكيّة وهو القول الأصحّ عند الحنابلة :
أنّ الطّين أو الوحل عذر يبيح الجمع كالمطر ، لأنّه يلوّث الثّياب والنّعال ويتعرّض الإنسان فيه للزّلق وتتأذّى نفسه وثيابه ، وهذا أعظم من البلل وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة .
إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : إن اجتمع المطر والطّين والظّلمة ، أو اثنان منها ، أو انفرد المطر جاز الجمع ، بخلاف انفراد الظّلمة ، وفي انفراد الطّين قولان ، والمشهور عدم الجمع . والمعتمد عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز الجمع بسبب الطّين أو الوحل قالوا لأنّ ذلك كان على زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنّه جمع من أجله .
ز - يرى الحنابلة في الرّاجح عندهم أنّه يجوز الجمع من أجل الرّيح الشّديدة في اللّيلة الباردة لأنّ ذلك عذر في ترك الجمعة والجماعة ، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في اللّيلة المطيرة ، أو اللّيلة الباردة ذات الرّيح صلّوا في رحالكم » .
والوجه الثّاني عندهم أنّه لا يباح الجمع من أجل الرّيح .
لأنّ المشقّة فيها دون المشقّة في المطر فلم يصحّ إلحاقها بالمطر .
أمّا المالكيّة والشّافعيّة فلا يجيزون الجمع من أجل الرّيح الشّديدة والظّلمة ، لأنّهما كانتا في زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنّه جمع من أجلهما .
الجمع للخوف :
11 - ذهب الحنابلة وبعض الشّافعيّة وهو رواية عند المالكيّة إلى جواز الجمع بسبب الخوف واستدلّوا بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظّهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً » زاد مسلم « من غير خوف ولا سفر » وهذا يدلّ على أنّ الجمع للخوف أولى .
وذهب أكثر الشّافعيّة وهو الرّواية الأخرى للمالكيّة إلى عدم جواز الجمع للخوف لثبوت أحاديث المواقيت ولا تجوز مخالفتها إلاّ بنصّ صريح غير محتمل .
وقد سبق أنّ الحنفيّة لا يجيزون الجمع لسفر ولا لمطر ولا لغيرهما من الأعذار الأخرى .
الجمع بدون سبب :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز الجمع لغير الأعذار المذكورة ، لأنّ أخبار المواقيت الثّابتة لا تجوز مخالفتها إلاّ بدليل خاصّ ، ولأنّه تواتر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم المحافظة على أوقات الصّلوات حتّى « قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة لغير ميقاتها إلاّ صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع » أي بمزدلفة " الحديث .
وذهب طائفة من الفقهاء منهم - أشهب من المالكيّة ، وابن المنذر من الشّافعيّة ، وابن سيرين وابن شبرمة - إلى جواز الجمع لحاجة ما لم يتّخذ ذلك عادة .(213/3)
قال ابن المنذر : يجوز الجمع في الحضر من غير خوف ، ولا مطر ، ولا مرض . وهو قول جماعة من أهل الحديث لظاهر حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمع بين الظّهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر » فقيل لابن عبّاس لم فعل ذلك قال : أراد أن لا يحرج أمّته . ولما روي من الآثار عن بعض الصّحابة والتّابعين رضي الله عنهم من أنّهم كانوا يجمعون لغير الأعذار المذكورة .(213/4)
جمّاء
التّعريف
1 - الجمّاء في اللّغة : جمّت الشّاة جمما ، إذا لم يكن لها قرن والذّكر أجمّ ، والأنثى جمّاء ، يقال : شاة جمّاء وكبش أجمّ .
والجلح في البقر مثل الجمم في الشّاء . وقيل : الجلحاء كالجمّاء : الشّاة الّتي لا قرن لها . وفي الحديث : « لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء من الشّاة القرناء » أي إذا نطحتها .
قال الأزهريّ : وهذا يبيّن أنّ الجلحاء من الشّاة والبقر بمنزلة الجمّاء الّتي لا قرن لها . واستعمل الفقهاء اللّفظين فيما لا قرن له من غنم أو بقر .
الألفاظ ذات الصّلة :
القصماء والعضباء :
2 - القصماء والعضباء : مكسورتا القرن . وفي اللّسان : القصماء من المعز : الّتي انكسر قرناها من طرفيهما إلى المشاشة . والعضباء : الشّاة المكسورة القرن الدّاخل وهو المشاش. أمّا العضباء من الإبل فهي الّتي شقّت أذنها والعضباء من الخيل ما قطع ربع أذنها فأكثر . وقد فسّر المالكيّة والحنابلة العضباء بأنّها الشّاة الّتي ذهب نصف قرنها فأكثر .
وفي المهذّب : العضباء : هي الّتي انكسر قرنها .
وفي المجموع : العضباء هي : مكسورة ظاهر القرن وباطنه .
والقصماء - وتسمّى العصماء - فسّرها الشّافعيّة والحنابلة بأنّها الّتي انكسر غلاف قرنها . فالجمّاء هي : المخلوقة بلا قرن .
والعضباء والقصماء أو العصماء هي مكسورة القرن بعد وجوده .
الحكم الإجماليّ :
3 - الجمّاء من البقر والغنم - وهي المخلوقة بلا قرن - تجزئ في الأضحيّة والهدي عند الحنفيّة والمالكيّة وعند الحنابلة عدا ابن حامد وعند الشّافعيّة مع الكراهة .
ودليل الجواز أنّ القرن لا يتعلّق به مقصود ولا يؤثّر في اللّحم ولم يرد فيه نهي ، وقد روي أنّ « عليّاً رضي الله عنه سئل عن القرن فقال : لا يضرّك ، أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن » . لكنّ ذات القرن أفضل باتّفاق ، للحديث الصّحيح « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين » .
وقال ابن حامد من الحنابلة : لا تجزئ الجمّاء في أضحيّة أو هدي لأنّ ذهاب أكثر من نصف قرن يمنع ، فذهاب جميعه أولى ، ولأنّ ما منع منه العور ومنع منه العمى ، وكذلك ما منع منه العضب يمنع منه كونه أجمّ أولى .
4 - أمّا مكسورة القرن سواء أكانت عضباء أم قصماء فإنّها تجزئ عند الحنفيّة إذا لم يبلغ الكسر المشاش ، فإذا بلغ الكسر المشاش فإنّها لا تجزئ .
وتجزئ عند المالكيّة إن برئ الكسر ولم يدم ، فإن كان الكسر يدمى فلا تجزئ ، لأنّه مرض ، والمراد عدم البرء لا خصوص سيلان الدّم .
وقال الشّافعيّة : يجوز مع الكراهة التّضحية بمكسورة القرن سواء أدمى قرنها أم لا إذا لم يؤثّر في اللّحم ، لأنّ القرن لا يتعلّق به كبير غرض ، فإن أثّر الكسر في اللّحم فلا تجزئ . وقيّد الحنابلة الإجزاء وعدمه بالمساحة . فإن كان الذّاهب أكثر قرنها فإنّها لا تجزئ ، لأنّ الأكثر كالكلّ ، ولحديث عليّ رضي الله تعالى عنه قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضحّى بأعضب الأذن والقرن » ، قال قتادة : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيّب فقال : العضب : النّصف أو أكثر من ذلك .
وعن الإمام أحمد روايتان فيما زاد على الثّلث .
إحداهما : إن كان دون النّصف جاز واختاره الخرقيّ .
والثّانية : إن كان ثلث القرن فصاعداً لم يجز وإن كان أقلّ جاز ولا يجزئ عند الحنابلة العصماء وهي الّتي انكسر غلاف قرنها .
5- ومستأصلة القرنين دون أن تدمى ، أي مكسورتهما من أصلهما ، ففيها قولان عند المالكيّة . قال ابن حبيب : لا تجزئ ، وقال ابن الموّاز : تجزئ وهو المنقول عن كتاب محمّد بن القاسم .
والمفهوم من كلام الحنابلة أنّها لا تجزئ عندهم إذ لا يجزئ عندهم ما ذهب نصف قرنها .(214/1)
جنائز *
التّعريف :
1 - الجنائز جمع جنازة بالفتح الميّت ، وبالكسر السّرير الّذي يوضع عليه الميّت ، وقيل عكسه ، أو بالكسر : السّرير مع الميّت ، فإن لم يكن عليه الميّت فهو سرير ونعش وقيل : في كلّ منهما لغتان .
أحكام المحتضر :
تعريف المحتضر :
2 - المحتضر هو من حضره الموت وملائكته ، والمراد من قرب موته ، وعلامة الاحتضار - كما أوردها ابن عابدين - أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان ، ويعوجّ أنفه ، وينخسف صدغاه ، ويمتدّ جلد خصيتيه لانشمار الخصيتين بالموت ، وتمتدّ جلدة وجهه فلا يرى فيها تعطّف . وللمحتضر أحكام تنظر في مصطلح : ( احتضار ) .
ما ينبغي فعله بعد الموت ، وما لا ينبغي فعله :
أولاً : ما ينبغي فعله بعد الموت :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا مات الميّت شدّ لحياه ، وغمّضت عيناه ، « فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة ، وقد شقّ بصره فأغمضه وقال : إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر » ويتولّى أرفق أهله به إغماضه بأسهل ما يقدر عليه ، ويشدّ لحياه بعصابة عريضة يشدّها في لحيه الأسفل ويربطها فوق رأسه .
ويقول مغمضه : « بسم اللّه وعلى ملّة رسول اللّه » ، اللّهمّ يسّر عليه أمره ، وسهّل عليه ما بعده ، وأسعده بلقائك ، واجعل ما خرج إليه خيراً ممّا خرج منه .
ويليّن مفاصله ، ويردّ ذراعيه إلى عضديه ، ويردّ أصابع كفّيه ، ثمّ يمدّها ، ويردّ فخذيه إلى بطنه ، وساقيه إلى فخذيه ، ثمّ يمدّها ، وهو أيضاً ممّا اتّفق عليه .
ويستحبّ أن ينزع عنه ثيابه الّتي مات فيها ، ويسجّى جميع بدنه بثوب " فعن عائشة رضي الله تعالى عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين توفّي سجّي ببرد حبرة »
ويترك على شيء مرتفع من لوح أو سرير ، لئلاّ تصيبه نداوة الأرض فيتغيّر ريحه .
ويجعل على بطنه حديد ، أو طين يابس ، لئلاّ ينتفخ ، وهذا متّفق عليه في الجملة .
الإعلام بالموت :
4 - يستحبّ أن يعلم جيران الميّت وأصدقاؤه حتّى يؤدّوا حقّه بالصّلاة عليه والدّعاء له ، روى سعيد بن منصور عن النّخعيّ : لا بأس إذا مات الرّجل أن يؤذن صديقه وأصحابه ، إنّما يكره أن يطاف في المجلس فيقال : أنعي ( فلاناً ) لأنّ ذلك من فعل أهل الجاهليّة ، وروي نحوه باختصار عن ابن سيرين ، وإليه ذهب الحنفيّة والشّافعيّة .
وكره بعض الحنفيّة النّداء في الأسواق قال في النّهاية : إن كان عالماً ، أو زاهداً ، أو ممّن يتبرّك به ، فقد استحسن بعض المتأخّرين النّداء في الأسواق لجنازته وهو الأصحّ ، ولكن لا يكون على هيئة التّفخيم ، وينبغي أن يكون بنحو ، مات الفقير إلى اللّه تعالى فلان بن فلان ، ويشهد له أنّ أبا هريرة كان يؤذن بالجنازة فيمرّ بالمسجد فيقول : عبد اللّه دعي فأجاب ، أو أمة اللّه دعيت فأجابت . وعند الحنابلة لا بأس بإعلام أقاربه وإخوانه من غير نداء .
وقال ابن العربيّ من المالكيّة : يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات :
الأولى : إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصّلاح فهذا سنّة .
والثّانية : الدّعوة للمفاخرة بالكثرة فهذا مكروه .
والثّالثة : الإعلام بنوع آخر كالنّياحة ونحو ذلك فهذا محرّم .
وفي الشّرح الصّغير كره صياح بمسجد أو ببابه بأن يقال : فلان قد مات فاسعوا إلى جنازته مثلاً ، إلاّ الإعلام بصوت خفيّ أي من غير صياح فلا يكره .
فالنّعي منهيّ عنه اتّفاقاً ، وهو أن يركب رجل دابّة يصيح في النّاس أنعى فلاناً ، أو كما مرّ عن النّخعيّ ، أو أن ينادى بموته ، ويشاد بمفاخره . وبه يقول الحنفيّة والشّافعيّة .
وينظر التّفصيل في مصطلح : ( نعي ) .
قضاء الدّين :
5 - يستحبّ أن يسارع إلى قضاء دينه أو إبرائه منه ، وبه قال أحمد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً « نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه » .
قال السّيوطيّ : سواء ترك الميّت وفاء أم لا ،
وشذّ الماورديّ فقال : إنّ الحديث محمول على من يخلّف وفاء .
وقال الحنابلة : إن تعذّر الوفاء استحبّ لوارثه أو غيره أن يتكفّل عنه ، والكفالة بدين الميّت قال بصحّتها أكثر الأئمّة ، خلافاً لأبي حنيفة ، فإنّه لا تصحّ عنده الكفالة بدين على ميّت مفلس ، وإن وعد أحد بأداء دين الميّت صحّ عنده عدة لا كفالة .
وذهب الطّحطاويّ إلى قول الجمهور .
تجهيز الميّت :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّه إن تيقّن الموت يبادر إلى التّجهيز ولا يؤخّر " لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله » .
وتشهد له أحاديث الإسراع بالجنازة ، وسيأتي عند الكلام عن حمل الجنازة .
فإن مات فجأة ترك حتّى يتيقّن موته ، وهو مفاد كلام الشّافعيّ في الأمّ .
وفي الغاية سنّ إسراع تجهيزه إن مات غير فجأة ، وينتظر من مات فجأة بنحو صعقة ، أو من شكّ في موته ، حتّى يعلم بانخساف صدغيه إلخ . وبه يقول المالكيّة ففي مقدّمات ابن رشد يستحبّ أن يؤخّر دفن الغريق مخافة أن يكون الماء غمره فلا تتبيّن حياته .
ثانياً : ما لا ينبغي فعله بعد الموت :
قراءة القرآن عند الميّت :
7 - تكره عند الحنفيّة قراءة القرآن عند الميّت حتّى يغسّل ، وأمّا حديث معقل بن يسار مرفوعاً « اقرءوا سورة يس على موتاكم » فقال ابن حبّان : المراد به من حضره الموت ، ويؤيّده ما أخرجه ابن أبي الدّنيا وابن مردويه مرفوعاً « ما من ميّت يقرأ عنده يس إلاّ هوّن اللّه عليه » وخالفه بعض متأخّري المحقّقين ، فأخذ بظاهر الخبر وقال : بل يقرأ عليه بعد موته وهو مسجّى ، وفي المسألة خلاف عند الحنفيّة أيضاً .(215/1)
قال ابن عابدين : الحاصل أنّ الميّت إن كان محدثاً فلا كراهة ، وإن كان نجساً كره . والظّاهر أنّ هذا أيضاً إذا لم يكن الميّت مسجّى بثوب يستر جميع بدنه ، وكذا ينبغي تقييد الكراهة بما إذا قرأ جهراً . وعند المالكيّة يكره قراءة شيء من القرآن مطلقاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يقرأ عند الميّت قبل الدّفن لئلاّ تشغلهم القراءة عن تعجيل تجهيزه ، خلافاً لابن الرّفعة وبعضهم ، وجوّزه الرّمليّ بحثا . أمّا بعد الدّفن فيندب عندهم .
ولم نعثر على تصريح للحنابلة في غير المحتضر .
النّوح والصّياح على الميّت :
8 - يكره النّوح ، والصّياح ، وشقّ الجيوب ، في منزل الميّت ، وفي الجنائز ، أو في محلّ آخر للنّهي عنه ، ولا بأس بالبكاء بدمع قال الحنفيّة : والصّبر أفضل .
فقد روى الشّيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برئ من الصّالقة والحالقة والشّاقّة » . وأخرجا من حديث ابن مسعود « ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهليّة » .
وأمّا البكاء بغير صوت فيدلّ على جوازه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابن لابنته ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه ، وقال : هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده » .
وقول عمر : - في حقّ نساء خالد بن الوليد - دعهنّ يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة ذكره البخاريّ تعليقاً .
وفي الصّبر روى البخاريّ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة تبكي عند قبر فقال : اتّقي اللّه واصبري » . والمراد بالكراهة كراهة التّحريم عند الحنفيّة . وقال السّرّاج : قد أجمعت الأمّة على تحريم النّوح ، والدّعوى بدعوى الجاهليّة ، ذكره الطّحطاويّ .
والمراد بالبكاء في حديث : « إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه » النّدب ، والنّياحة ، وإنّما يعذّب الميّت إذا أوصى بذلك .
وفي غاية المنتهى من كتب الحنابلة لا يكره بكاء على ميّت قبل موت ولا بعده ، بل استحباب البكاء رحمة للميّت سنّة صحيحة ، وحرم ندب وهو بكاء مع تعديد محاسنه ، ونوح وهو رفع صوت بذلك برقّة وشقّ ثوب ، وكره استدامة لبس مشقوق ، وحرم لطم خدّ ، وخمشه ، وصراخ ، ونتف شعر ونشره وحلقه ، وعدّ في ( الفصول ) من المحرّمات إظهار الجزع ، لأنّه يشبه التّظلّم من الظّالم ، وهو عدل من اللّه سبحانه . قال صاحب الغاية : ( ويتّجه ) ومثله إلقاء تراب على الرّأس ، ودعاء بويل وثبور ، ويباح يسير ندبة لم تخرج مخرج نوح ، نحو يا أبتاه يا ولداه ، فإن زاد يصير ندباً ويجب منعه لأنّه محرّم .
شقّ بطن الميّتة لإخراج الجنين :
9 - ذهب الحنفيّة وهو قول ابن سريج وبعض الشّافعيّة ، إلى أنّه إن ماتت امرأة والولد يضطرب في بطنها يشقّ بطنها ويخرج الولد ، وقال محمّد بن الحسن لا يسع إلاّ ذلك . ومذهب الشّافعيّة وهو المتّجه عند الحنابلة ، أنّه يشقّ للولد إن كان ترجى حياته .
فإن كان لا ترجى حياته فالأصحّ أنّه لا يشقّ . وعند أحمد حرم شقّ بطنها وأخرج نساء لا رجال من ترجى حياته ، فإن تعذّر لم تدفن حتّى يموت ، فإن لم يوجد نساء لم يسط عليه الرّجال ، لما فيه من هتك حرمة الميّتة ، ويترك حتّى يتيقّن موته .
وعنه يسطو عليه الرّجال والأولى بذلك المحارم .
وقال ابن القاسم من المالكيّة : لا يبقر بطن الميّتة إذا كان جنينها يضطرب في بطنها .
وقال سحنون منهم : سمعت أنّ الجنين إذا استيقن بحياته وكان معروف الحياة ، فلا بأس أن يبقر بطنها ويستخرج الولد .
وفي الشّرح الصّغير لا يشقّ بطن المرأة عن جنين ولو رجي حياته على المعتمد ، ولكن لا تدفن حتّى يتحقّق موته ولو تغيّرت .
واتّفقوا على أنّه إن أمكن إخراجه بحيلة غير الشّقّ وجبت .
غسل الميّت :
9 م - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغسيل الميّت واجب كفاية بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وتفصيل أحكامه في مصطلح : ( تغسيل الميّت ) .
تكفين الميّت :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ تكفين الميّت بما يستره فرض على الكفاية .
وتفصيل أحكامه ينظر في مصطلح : ( تكفين ) .
حمل الجنازة :
حكم الحمل وكيفيّته :
11 - أجمع الفقهاء على أنّ حمل الجنازة فرض على الكفاية ، ويجوز الاستئجار على حمل الجنازة .
وأمّا كيفيّة حمل الجنازة وعدد حامليها فيسنّ عند الحنفيّة أن يحملها أربعة رجال ، فإذا حملوا الميّت على سرير أخذوه بقوائمه الأربع وبه وردت السّنّة ، فقد روى ابن ماجه عن ابن مسعود قال : « من اتّبع جنازة فليحمل بجوانب السّرير كلّها فإنّه من السّنّة ، ثمّ إن شاء فليتطوّع وإن شاء فليدع » .
12 - ثمّ إنّ في حمل الجنازة شيئين : نفس السّنّة ، وكمالها ، أمّا نفس السّنّة فهي أن تأخذ بقوائمها الأربع على طريق التّعاقب بأن يحمل من كلّ جانب عشر خطوات .
وأمّا كمال السّنّة ، فهو أن يبدأ الحامل بحمل الجنازة من جانب يمين مقدّم الميّت وهو يسار الجنازة ... فيحمله على عاتقه الأيمن ، ثمّ المؤخّر الأيمن للميّت على عاتقه الأيمن ، ثمّ المقدّم الأيسر للميّت على عاتقه الأيسر ، ثمّ المؤخّر الأيسر للميّت على عاتقه الأيسر .
ويكره حملها بين العمودين ، بأن يحملها رجلان أحدهما يحمل مقدّمها والآخر مؤخّرها ، لأنّه يشقّ على الحاملين ، ولا يؤمن من سقوط الجنازة . إلاّ عند الضّرورة ، مثل ضيق المكان أو قلّة الحاملين أو نحو ذلك ، وعليه حمل ما روي من الحمل بين العمودين .(215/2)
وعند الشّافعيّة الأفضل أن يجمع في حمل الجنازة بين التّربيع والحمل بين العمودين ، وقد روي من فعل ابن عمر وسالم ، فإن أراد أحدهما فالحمل بين العمودين أفضل ، والتّربيع أن يحملها أربعة من جوانبها الأربعة ، والحمل بين العمودين أن يحملها ثلاثة رجال ، أحدهم يكون في مقدّمها ، يضع الخشبتين الشّاخصتين على عاتقيه والمعترضة بينهما على كتفيه ، والآخران يحملان مؤخّرها ، كلّ واحد منهما خشبة على عاتقه ، فإن عجز المتقدّم عن حمل المقدّم وحده أعانه رجلان خارج العمودين فيصيرون خمسة .
وعند الحنابلة يستحبّ التّربيع في حمله ، وهو أن يضع قائمة السّرير اليسرى المقدّمة " عند السّير " على كتفه اليمنى ، ثمّ ينتقل إلى المؤخّرة ، ثمّ يضع القائمة اليمنى على كتفه اليسرى ، ثمّ ينتقل إلى المؤخّرة ، وإن حمل بين العمودين فحسن .
وفي غاية المنتهى : كره الآجرّيّ وغيره التّربيع مع زحام ، ولا يكره الحمل بين العمودين كلّ واحد على عاتق ، والجمع بينهما أولى .
وأمّا المالكيّة فقالوا : حمل الميّت ليس له كيفيّة معيّنة ، فيجوز أن يحمله أربعة أشخاص ، وثلاثة ، واثنان بلا كراهة ، ولا يتعيّن البدء بناحية من السّرير ( النّعش ) .
13 - وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا بأس بأن يأخذ السّرير بيده أو يضع على المنكب - يعني بعد أخذ قائمة السّرير باليد لا ابتداء كما تحمل الأثقال - .
وصرّح الشّافعيّة بحرمة حمل الجنازة على هيئة مزرية ، كحمله في قفّة ، وغرارة ، ونحو ذلك ، ويحرم كذلك حمله على هيئة يخاف منها سقوطه .
ويكره له أن يضع نصفه على المنكب ونصفه على أصل العنق ، ويكره عند الحنفيّة حمله على الظّهر والدّابّة بلا عذر .
أمّا إذا كان عذر بأن كان المحلّ بعيدا يشقّ حمل الرّجال له ، أو لم يكن الحامل إلاّ واحدا ، فحمله على ظهره فلا كراهة إذن وفاقاً للشّافعيّة .
وعند الحنابلة أيضا لا يكره حملها على دابّة لغرض صحيح ، وذكر الإسبيجابيّ من الحنفيّة أنّ الصّبيّ الرّضيع ، أو الفطيم ، أو من جاوز ذلك قليلاً ، إذا مات فلا بأس أن يحمله رجل واحد على يديه ، ويتداوله النّاس بالحمل على أيديهم ، ولا بأس بأن يحمله على يديه وهو راكب ، وإن كان كبيرا يحمل على الجنازة ، واتّفقوا على أنّه لا يكره حمل الطّفل على اليدين بل يندب ذلك عند المالكيّة ، وزاد الحنابلة أنّه لا يكره حمل جنازة الكبير بأعمدة عند الحاجة.
ويسرع بالميّت وقت المشي بلا خبب ، وحدّه أن يسرع به بحيث لا يضطرب الميّت على الجنازة ، ويكره بخبب لقوله صلى الله عليه وسلم : « أسرعوا بالجنازة » أي ما دون الخبب كما في رواية ابن مسعود ، « سألنا رسول صلى الله عليه وسلم اللّه عن المشي خلف الجنازة فقال : ما دون الخبب » قال الحافظ ابن حجر : نقل ابن قدامة أنّ الأمر فيه للاستحباب بلا خلاف بين العلماء .
وأمّا ما يحكى عن الشّافعيّ والجمهور أنّه يكره الإسراع الشّديد ، فقال الحافظ ابن حجر : مال عياض إلى نفي الخلاف فقال : من استحبّه أراد الزّيادة على المشي المعتاد ، ومن كرهه أراد الإفراط فيه كالرّمل .
وكذا يستحبّ الإسراع بتجهيزه كلّه من حين موته ، فلو جهّز الميّت صبيحة يوم الجمعة يكره تأخير الصّلاة عليه ليصلّي عليه الجمع العظيم ، ولو خافوا فوت الجمعة بسبب دفنه يؤخّر الدّفن ، وقال المالكيّة والشّافعيّة أيضاً ، بالإسراع بتجهيزه إلاّ إذا شكّ في موته ، ويقدّم رأس الميّت في حال المشي بالجنازة .
تشييع الجنازة :
14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تشييع الرّجال للجنازة سنّة ، لحديث البراء بن عازب : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم باتّباع الجنائز » والأمر هنا للنّدب لا للوجوب للإجماع ، وقال الزّين بن المنير من المالكيّة : إنّ اتّباع الجنازة من الواجبات على الكفاية . وقال الشّيخ مرعي الحنبليّ : اتّباع الجنائز سنّة .
قال الحنفيّة اتّباع الجنائز أفضل من النّوافل إذا كان لجوار وقرابة ، أو صلاح مشهور ، والأفضل لمشيّع الجنازة المشي خلفها ، وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق على ما حكاه التّرمذيّ " لحديث « الجنازة متبوعة ولا تتبع ، ليس معها من تقدّمها » إلاّ أن يكون خلفها نساء فالمشي أمامها أحسن ، ولكن إن تباعد عنها بحيث يعدّ ماشياً وحده أو تقدّم الكلّ ، وتركوها خلفهم ليس معها أحد أو ركب أمامها كره ، وأمّا الرّكوب خلفها فلا بأس به ، والمشي أفضل ، والمشي عن يمينها أو يسارها خلاف الأولى ، لأنّ فيه ترك المندوب وهو اتّباعها .
وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : المشي أمام الجنازة أفضل ، لما روي أنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة » .
وروي عن الصّحابة كلا الأمرين وقد قال عليّ : إنّ فضل الماشي خلفها على الّذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذّ . وقال الثّوريّ : كلّ ذلك في الفضل سواء .
15 - وأمّا النّساء فلا ينبغي لهنّ عند الحنفيّة أن يخرجن في الجنازة ، ففي الدّرّ يكره خروجهنّ تحريماً ، قال ابن عابدين : لقوله عليه الصلاة والسلام : « ارجعن مأزورات غير مأجورات » . ولحديث أمّ عطيّة : « نهينا عن اتّباع الجنائز ، ولم يعزم علينا » .
ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة : « لعلّك بلغت معهم الكدى » " المقابر " .
وأمّا عند الشّافعيّة فقال النّوويّ : مذهب أصحابنا أنّه مكروه ، وليس بحرام ، وفسّر قول أمّ عطيّة « ولم يعزم علينا » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عنه نهي كراهية تنزيه ، لا نهي عزيمة وتحريم .(215/3)
وأمّا المالكيّة ففي الشّرح الصّغير : جاز خروج متجالَّةٍ " كبيرة السّنّ " لجنازة مطلقاً ، وكذا شابّة لا تخشى فتنتها ، لجنازة من عظمت مصيبته عليها ، كأب ، وأمّ ، وزوج ، وابن ، وبنت ، وأخ ، وأخت ، أمّا من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقاً .
وقال الحنابلة : كره أن تتبع الجنازة امرأة وحكى الشّوكانيّ عن القرطبيّ أنّه قال : إذا أمن من تضييع حقّ الزّوج والتّبرّج وما ينشأ من الصّياح ونحو ذلك فلا مانع من الإذن لهنّ ، ثمّ قال الشّوكانيّ : هذا الكلام هو الّذي ينبغي اعتماده في الجمع بين الأحاديث المتعارضة .
قال الحنفيّة : وإذا كان مع الجنازة نائحة أو صائحة زجرت ، فإن لم تنزجر فلا بأس بأن يمشي معها ، لأنّ اتّباع الجنازة سنّة فلا يتركه لبدعة من غيره ، لكن يمشي أمام الجنازة كما تقدّم .
وقال الحنابلة : حرم أن يتبعها المشيّع مع منكر ، نحو صراخ ، ونوح ، وهو عاجز عن إزالته ، ويلزم القادر إزالته .
ما ينبغي أن يفعل مع الجنازة وما لا ينبغي :
اتّباع الجنازة بمبخرة أو نار :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجنازة لا تتبع بنار في مجمرة " مبخرة " ولا شمع .
وفي مراقي الفلاح : لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ، ويكره تجمير القبر .
إلاّ لحاجة ضوء أو نحوه . لحديث أبي داود مرفوعاً : « لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار » .
الجلوس قبل وضع الجنازة :
17 - يكره لمتّبع الجنازة أن يجلس قبل وضعها للنّهي عن ذلك . فعن أبي هريرة مرفوعاً : « من تبع جنازة فلا يقعدن حتّى توضع » .
قال الطّحطاويّ : إنّ في الجلوس قبل وضعها ازدراء بها ، قال الحازميّ : وممّن رأى ذلك الحسن بن عليّ ، وأبو هريرة ، وابن عمر ، وابن الزّبير ، والأوزاعيّ ، وأهل الشّام ، وأحمد ، وإسحاق ، وذكر النّخعيّ والشّعبيّ أنّهم كانوا يكرهون أن يجلسوا حتّى توضع عن مناكب الرّجال وبه قال محمّد بن الحسن .
قال ابن حجر في الفتح : ذهب أكثر الصّحابة والتّابعين إلى استحباب القيام ، كما نقله ابن المنذر ، وهو قول الأوزاعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمّد بن الحسن ، والمختار عند الشّافعيّة استحباب القيام مع الجنازة حتّى توضع ، قال الحازميّ : وخالفهم في ذلك آخرون ، ورأوا الجلوس أولى ، وقال بعض السّلف : يجب القيام . فإذا وضعت الجنازة على الأرض عند القبر فلا بأس بالجلوس ، وإنّما يكره قبل أن توضع عن مناكب الرّجال .
والأفضل أن لا يجلسوا ما لم يسوّوا عليه التّراب لرواية أبي معاوية عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة « حتّى توضع في اللّحد » وخالفه الثّوريّ وهو أحفظ فقال : « في الأرض » . ونقل حنبل " من أصحاب أحمد " لا بأس بقيامه على القبر حتّى تدفن جبراً وإكراماً ، وكان أحمد إذا حضر جنازة وَلِيَها لم يجلس حتّى تدفن .
القيام للجنازة :
18 - مذهب الحنفيّة وأحمد لا يقوم للجنازة إذا مرّت به إلاّ أن يريد أن يشهدها ، وكذا إذا كان القوم في المصلّى ، وجيء بجنازة ، قال بعضهم : لا يقومون إذا رأوها قبل أن توضع الجنازة عن الأعناق وهو الصّحيح ، وما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتّى تخلفكم أو توضع » منسوخ بما روي من طرق عن عليّ رضي الله عنه قال : « قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ قعد » ، قال الحازميّ : قال أكثر أهل العلم : ليس على أحد القيام لجنازة ، وبه قال مالك وأهل الحجاز والشّافعيّ وأصحابه ، وذهبوا إلى أنّ الأمر بالقيام منسوخ ، وكذا قال القاضي عياض .
وقال الحنابلة : كره قيام لها - أي للجنازة - لو جاءت أو مرّت به وهو جالس ، وقال في المغني : « كان آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ترك القيام للجنازة » ، والأخذ بآخر الأمرين أولى . وفي شرح مسلم : المشهور في مذهبنا أنّ القيام ليس مستحبّاً . وقالوا : هو منسوخ بحديث عليّ ثمّ قال النّوويّ : اختار المتولّي من أصحابنا أنّ القيام مستحبّ وهذا هو المختار ، فيكون الأمر به للنّدب ، والقعود لبيان الجواز ، ولا يصحّ دعوى النّسخ في مثل هذا ، لأنّ النّسخ إنّما يكون إذا تعذّر الجمع ولم يتعذّر .
قال القليوبيّ من الشّافعيّة : وهذا هو المعتمد . وحكى القاضي عياض عن أحمد ، وإسحاق ، وابن حبيب وابن الماجشون المالكيّين أنّهم قالوا : هو مخيّر .
الصّمت في اتّباع الجنازة :
19 - ينبغي لمن تبع الجنازة أن يطيل الصّمت ، ويكره رفع الصّوت بالذّكر وقراءة القرآن وغيرهما ، لما روي عن قيس بن عبادة أنّه قال : « كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصّوت عند ثلاثة : عند القتال ، وعند الجنازة ، والذّكر » .
وهذه الكراهة قيل : كراهة تحريم ، وقيل : ترك الأولى . فإن أراد أن يذكر اللّه تعالى ففي نفسه ، أي سرّاً بحيث يسمع نفسه ، وفي السّراج : يستحبّ لمن تبع الجنازة أن يكون مشغولاً بذكر اللّه تعالى ، أو التّفكّر فيما يلقاه الميّت ، وأنّ هذا عاقبة أهل الدّنيا ، وليحذر عمّا لا فائدة فيه من الكلام ، فإنّ هذا وقت ذكر وموعظة ، فتقبح فيه الغفلة ، فإن لم يذكر اللّه تعالى فيلزم الصّمت ، ولا يرفع صوته بالقراءة ولا بالذّكر ، ولا يغترّ بكثرة من يفعل ذلك ، وأمّا ما يفعله الجهّال من القراءة مع الجنازة من رفع الصّوت والتّمطيط فيه فلا يجوز بالإجماع . وروى ابن أبي شيبة عن المغيرة قال : كان رجل يمشي خلف الجنازة ويقرأ سورة الواقعة فسئل إبراهيم النّخعيّ عن ذلك فكرهه ، ولا يسع أحداً يقدر على إنكاره أن يسكت عنه ولا ينكر عليه ، وعن إبراهيم النّخعيّ أنّه كان ينكر أن يقول الرّجل وهو يمشي معها : استغفروا له يغفر اللّه لكم .(215/4)
وقال ابن عابدين : إذا كان هذا في الدّعاء والذّكر فما ظنّك بالغناء الحادث في زماننا .
قال الحنفيّة : ولا ينبغي أن يرجع من يتبع جنازة حتّى يصلّي عليها ، لأنّ الاتّباع كان للصّلاة عليها ، فلا يرجع قبل حصول المقصود ، وبعد ما صلّى لا يرجع إلاّ بإذن أهل الجنازة قبل الدّفن ، وبعد الدّفن يسعه الرّجوع بغير إذنهم . وبه قال المالكيّة وزادوا أنّ الانصراف قبل الصّلاة يكره ولو أذن أهلها ، وبعد الصّلاة لا يكره إذا طوّلوا ولم يأذنوا .
فإذا وضعوها للصّلاة عليها وضعوها عرضاً للقبلة ، هكذا توارثه النّاس .
وقال المالكيّة : كره صياح خلفها ب استغفروا لها ونحوه .
وقال الشّافعيّة أيضاً : يكون رفع الصّوت بالذّكر بدعة ، وقالوا : يكره اللّغط في الجنازة . وقال الشّيخ مرعي الحنبليّ : وقول القائل معها : استغفروا له ونحوه بدعة ، وحرّمه أبو حفص ، وسنّ كون تابعها متخشّعاً متفكّراً في مآله ، متّعظاً بالموت وما يصير إليه الميّت .
الصّلاة على الجنازة :
20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة على الجنازة فرض على الكفاية ، واختلف فيه قول المالكيّة فقال ابن عبد الحكم : فرض على الكفاية وهو قول سحنون ، وعليه الأكثر وشهره الفاكهانيّ ، وقال أصبغ : سنّة على الكفاية .
ونصّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الجماعة ليست شرطاً لصحّة الصّلاة على الجنازة وإنّما هي سنّة .
وقال المالكيّة : من شرط صحّتها الجماعة كصلاة الجمعة ، فإن صلّي عليها بغير إمام أعيدت الصّلاة ما لم يفت ذلك .
21 - وأركان صلاة الجنازة عند الحنفيّة : التّكبيرات والقيام ، فلا تصحّ من القاعد أو الرّاكب من غير عذر ، فلو تعذّر النّزول عن الدّابّة لطين ونحوه جاز أن يصلّي عليها راكبا استحساناً ، ولو كان الوليّ مريضا فأمّ قاعدا والنّاس قيام أجزأهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمّد : تجزئ الإمام فقط .
وقال المالكيّة : أركانها خمسة : أوّلها : النّيّة : ثانيها : أربع تكبيرات ، ثالثها : دعاء بينهنّ ، وأمّا بعد الرّابعة فإن أحبّ دعا وإن أحبّ لم يدع ، رابعها : تسليمة واحدة يجهر بها الإمام بقدر التّسميع ، خامسها : قيام لها لقادر .
وقال الشّافعيّة : أركانها النّيّة ، والتّكبيرات وقراءة الفاتحة ، والصّلاة على النّبيّ ، وأدنى الدّعاء للميّت ، والتّسليمة الأولى ، وكذلك يجب القيام على المذهب إن قدر عليه ، فلو صلّوا جلوساً من غير عذر أو ركباناً أعادوا .
وقال الحنابلة : أركانها قيام لقادر في فرضها ، وتكبيرات أربع ، وقراءة الفاتحة على غير المأموم ، والصّلاة على النّبيّ ، وأدنى دعاء لميّت ( ويتّجه ) يخصّه به بنحو اللّهمّ ارحمه فلا يكفي قوله : اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا ، وسلام ، وترتيب .
شروط صلاة الجنازة :
22 - يشترط لصحّة صلاة الجنازة ما يشترط لبقيّة الصّلوات من الطّهارة الحقيقيّة بدناً وثوباً ومكاناً ، والحكميّة ، وستر العورة ، واستقبال القبلة ، والنّيّة ، سوى الوقت .
وشرط الحنفيّة أيضاً ما يلي :
أوّلها : إسلام الميّت لقوله تعالى : { ولا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أبداً } .
والثّاني : طهارته من نجاسة حكميّة وحقيقيّة في البدن ، فلا تصحّ على من لم يغسّل ، ولا على من عليه نجاسة ، وهذا الشّرط عند الإمكان فلو دفن بلا غسل ولم يمكن إخراجه إلاّ بالنّبش سقط الغسل وصلّي على قبره بلا غسل للضّرورة - هذه رواية ابن سماعة عن محمّد ، وصحّح في غاية البيان معزيّا إلى القدوريّ وصاحب التّحفة أنّه لا يصلّى عليه ، لأنّها بلا غسل غير مشروعة - بخلاف ما إذا لم يهل عليه التّراب ، فإنّه يخرج ويغسّل ويصلّى عليه. ولو صلّي عليه بلا غسل جهلاً مثلاً ، ثمّ دفن ولا يخرج إلاّ بالنّبش أعيدت الصّلاة على قبره استحسانا ، ويشترط طهارة الكفن إلاّ إذا شقّ ذلك ، لما في خزانة الفتاوى من أنّه إن تنجّس الكفن بنجاسة الميّت لا يضرّ ، دفعا للحرج ، بخلاف الكفن المتنجّس ابتداء .
وكذا لو تنجّس بدنه بما خرج منه ، إن كان قبل أن يكفّن غسّل وبعده لا ، وأمّا طهارة مكان الميّت ، ففي الهنديّة والفوائد التّاجيّة أنّها ليست بشرط ، وفي مراقي الفلاح والقنية أنّها شرط ، فإذا كان المكان نجساً ، وكان الميّت على الجنازة " النّعش " تجوز الصّلاة ، وإن كان على الأرض ففي الفوائد لا يجوز ، ومال إلى الجواز قاضي خان ، وجزم في القنية بعدمه . وجه الجواز أنّ الكفن حائل بين الميّت والنّجاسة ، ووجه عدم الجواز أنّ الكفن تابع فلا يعدّ حائلاً . والحاصل أنّه إن كان المراد بمكان الميّت الأرض ، وكان الميّت على الجنازة ، فعدم اشتراط طهارة الأرض متّفق عليه . وإن كان المراد الجنازة فالظّاهر أنّه تختلف الأقوال فيه كما اختلفت فيما إذا كان الميّت موضوعاً على الأرض النّجسة .
قال في القنية : الطّهارة من النّجاسة في ثوب وبدن ومكان ، وستر العورة شرطان في حقّ الميّت والإمام جميعاً ، فلو أمّ بلا طهارة ، والقوم بها أعيدت ، وبعكسه لا ، لسقوط الفرض بصلاة الإمام .
والثّالث : تقديم الميّت أمام القوم فلا تصحّ على ميّت موضوع خلفهم .
والرّابع : حضوره أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه .
والخامس : وضعه على الأرض أو على الأيدي قريباً منها .
والسّادس : ستر عورته - هذا هو المذكور في الدّرّ المختار .
والسّابع : قال صاحب الدّرّ : بقي من الشّروط بلوغ الإمام ، فلو أمّ صبيّ في صلاة الجنازة ينبغي أن لا يجوز وهو الظّاهر ، لأنّها من فروض الكفاية ،وهو ليس من أهل أداء الفرائض. ولكن نقل في الأحكام عن جامع الفتاوى سقوط الفرض بفعله .(215/5)
والثّامن : محاذاة الإمام جزءا من أجزاء الميّت إذا كان الميّت واحداً ، وأمّا إذا كثرت الموتى فيجعلهم صفّا ويقوم عند أفضلهم ، قال ابن عابدين : الأقرب كون المحاذاة شرطاً .
وقال الحنابلة : لا يجب أن يسامت الإمام الميّت فإن لم يسامته كره ، وفي تعليق الغاية : لعلّه ما لم يفحش عرفاً ، فلا تصحّ إن فحش .
23 - وقد وافق الحنابلة الحنفيّة على اشتراط إسلام الميّت وطهارته ، وستر عورته ، وحضوره بين يدي المصلّي من الشّروط الّتي ترجع إلى الميّت ، وعلى اشتراط كون المصلّي مكلّفاً ، واجتنابه النّجاسة ، واستقباله القبلة ، وستر العورة ، والنّيّة ، من الّتي ترجع إلى المصلّي . وخالفوهم في اشتراط حضور الجنازة فجوّزوا الصّلاة على غائب عن بلد دون مسافة قصر ، أو في غير قبلته ، وعلى غريق وأسير ونحوه ، إلى شهر بالنّيّة ، وأمّا ما اشترطوه من حضوره بين يدي المصلّي ، فمعناه أن لا تكون الجنازة محمولة ، ولا من وراء حائل ، كحائط قبل دفن ، ولا في تابوت مغطّى .
ووافق الشّافعيّة الحنابلة على عدم اشتراط حضوره ، وتجويز الصّلاة على الغائب ، ووافقت المالكيّة الحنفيّة على اشتراط حضوره ، وأمّا وضعه أمام المصلّي بحيث يكون عند منكبي المرأة ووسط الرّجل فمندوب عندهم ، وعند الحنفيّة أيضاً ، إلاّ أنّ محاذاة الإمام بجزء من الميّت شرط عند الحنفيّة .
وخالف المالكيّة والشّافعيّة الحنفيّة في اشتراط وضعه على الأرض ، فقالوا : تجوز الصّلاة على المحمول على دابّة ، أو على أيدي النّاس ، أو على أعناقهم .
وانفرد المالكيّة باشتراط الإمامة في صلاة الجنازة على ما صرّح به ابن رشد ، وصرّح غيره بصحّة صلاة المنفرد عليه ، ففي الشّرح الصّغير إن صلّى عليها منفرداً أعيدت ندباً جماعة .
والواجب عند الحنفيّة في صلاة الجنازة التّسليم مرّتين بعد التّكبيرة الرّابعة ، وعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة التّسليم مرّة واحدة ركن ، قالوا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « وتحليلها التّسليم » في الصّلاة .
وورد التّسليم مرّة واحدة على الجنازة عن ستّة من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والتّسليمة الثّانية مسنونة عند الشّافعيّة جائزة عند الحنابلة .
وأمّا سننها فتفصيلها كما يلي :
الأولى : قيام الإمام بحذاء صدر الميّت ذكرا كان الميّت أو أنثى سنّة عند الحنفيّة ، وفي حواشي الطّحطاويّ على المراقي ما يدلّ على أنّه مستحبّ .
وقال المالكيّة : ليس لصلاة الجنازة سنن بل لها مستحبّات ، منها وقوف الإمام والمنفرد حذاء وسط الرّجل ، ومنكبي المرأة والخنثى .
وقال الشّافعيّة : إنّهما يقومان عند رأس الرّجل ، وعند عجز المرأة أو الخنثى .
وقال الحنابلة : عند صدر الرّجل ، ووسط الأنثى ، وسنّ ذلك من خنثى .
الثّانية : الثّناء بعد التّكبيرة الأولى سنّة عند الحنفيّة وهو اختيار الخلّال من الحنابلة وهو : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك .
وقال الشّافعيّة والحنابلة والطّحاويّ من الحنفيّة : لا استفتاح منه ولكن النّقل والعادة أنّهم يستفتحون بعد تكبيرة الافتتاح .
وقال في " سكب الأنهر " الأولى ترك : " وجلّ ثناؤك " إلاّ في صلاة الجنازة ، وقال ابن عابدين : مقتضى ظاهر الرّواية حصول السّنّة بأيّ صيغة من صيغ الحمد .
وقال المالكيّة : لا ثناء في التّكبيرة الأولى ، ولكن ابتداء الدّعاء بحمد اللّه والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مندوب ، أي بعد التّكبيرة الثّانية .
وقال الحنابلة أيضاً : لا يستفتح . وجاء قراءة الفاتحة بقصد الثّناء كذا نصّ عليه الحنفيّة ، وقال عليّ القاريّ : يستحبّ قراءتها بنيّة الدّعاء خروجا من الخلاف .
الثّالثة : ومن السّنن عند الحنفيّة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّكبيرة الثّانية بقوله : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد إلى آخره ، لأنّ تقديم الصّلاة على الدّعاء وتقديم الثّناء عليهما سنّة ، قالوا : وينبغي أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الدّعاء أيضاً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اجعلوني في أوّل الدّعاء وأوسطه وآخره » . وقال المالكيّة : الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مندوبة عقب كلّ تكبيرة قبل الشّروع في الدّعاء ، بأن يقول : الحمد للّه الّذي أمات وأحيا ، والحمد للّه الّذي يحيي الموتى وهو على كلّ شيء قدير ، اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وبارك على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد ، كما يدعو كما سيأتي ، وهي عند الشّافعيّة والحنابلة ركن كما مرّ .
25 - الرّابعة : ومن السّنن عند الحنفيّة دعاء المصلّي للميّت ولنفسه " وإذا دعا لنفسه قدّم نفسه على الميّت لأنّ من سنّة الدّعاء أن يبدأ فيه بنفسه " ولجماعة المسلمين ، وذلك بعد التّكبيرة الثّالثة ، ولا يتعيّن للدّعاء شيء سوى كونه بأمور الآخرة ، ولكن إن دعا بالمأثور عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو أحسن وأبلغ لرجاء قبوله .
فمن المأثور ما حفظ عوف بن مالك من دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم على جنازة « اللّهمّ اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسّع مدخله ، واغسله بالماء والثّلج والبرد ، ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنّة ، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النّار » .
وفي الأصل روايات أخر ، منها : ما رواه أبو حنيفة في مسنده من حديث أبي هريرة :(215/6)
« اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وذكرنا وأنثانا ، وصغيرنا وكبيرنا » .
وزاد أحمد وأصحاب السّنن إلاّ النّسائيّ « اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام ، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإيمان » . وفي رواية « اللّهمّ إن كان محسناً فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته ، اللّهمّ لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنّا بعده » .
فإن كان الميّت صغيراً فعن أبي حنيفة ينبغي أن يقول : اللّهمّ اجعله لنا فرطاً ، واجعله لنا أجراً وذخراً ، اللّهمّ اجعله لنا شافعاً ومشفّعاً ، مقتصراً عليه كما هو في متون المذهب ، أو بعد الدّعاء المذكور كما في حواشي الطّحطاويّ على المراقي وغيرها .
وقال الشّوكانيّ : إذا كان الميّت طفلا استحبّ أن يقول : اللّهمّ اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً . وهذا كلّه إذا كان يحسن ذلك فإن كان لا يحسن يأتي بأيّ دعاء شاء ، وقال في الدّرّ : لا يستغفر فيها لصبيّ ، ومجنون ، ومعتوه ، لعدم تكليفهم ، ولا ينافي هذا قوله : " وصغيرنا وكبيرنا " لأنّ المقصود الاستيعاب .
وقال الحنابلة : إن كان صغيراً أو استمرّ مجنوناً قال : اللّهمّ اجعله ذخراً لوالديه ... إلخ وظاهره الاقتصار عليه .
وصرّح الشّافعيّة بأنّ هذا الدّعاء يكون بدل الدّعاء المذكور للبالغين ، وهو ظاهر كلام المالكيّة أيضاً ، فكأنّ أقوال الأربعة اتّفقت في الدّعاء للصّغير بهذه الصّيغة .
الدّعاء للميّت :
26 - الدّعاء عند المالكيّة والحنابلة ركن ، ولكن عند المالكيّة يدعو عقب كلّ تكبيرة حتّى الرّابعة ، وفي قول آخر عندهم لا يجب بعد الرّابعة كما تقدّم ، وأقلّ الدّعاء أن يقول : اللّهمّ اغفر له ونحو ذلك ، وأحسنه أن يدعو بدعاء أبي هريرة وهو أن يقول : بعد حمد اللّه تعالى والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم : اللّهمّ إنّه عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، كان يشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمّداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به ، اللّهمّ إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيّئاته ، اللّهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده .
ويقول في المرأة : اللّهمّ إنّها أمتك وبنت عبدك وبنت أمتك ، ويستمرّ في الدّعاء المتقدّم بصيغة التّأنيث ، ويقول في الطّفل الذّكر : اللّهمّ إنّه عبدك وابن عبدك أنت خلقته ورزقته ، وأنت أمتّه وأنت تحييه ، اللّهمّ اجعله لوالديه سلفاً وذخراً ، وفرطاً وأجراً ، وثقّل به موازينهما ، وأعظم به أجورهما ، ولا تفتنّا وإيّاهما بعده ، اللّهمّ ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم . ويزيد في الكبير : وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله ، وعافه من فتنة القبر وعذاب جهنّم . فإن كان يصلّي على ذكر وأنثى معا يغلّب الذّكر على الأنثى فيقول : إنّهما عبداك وابنا عبديك وابنا أمتيك ... إلخ .
وكذا إذا كان يصلّي على جماعة من رجال ونساء ، فإنّه يغلّب الذّكور على الإناث فيقول : اللّهمّ إنّهم عبيدك وأبناء عبيدك ... إلخ . فإن كان يصلّي على نساء يقول : اللّهمّ إنّهنّ إماؤك ، وبنات عبيدك ، وبنات إمائك كنّ يشهدن .. إلخ .
ويزيد على الدّعاء المذكور في حقّ كلّ ميّت بعد التّكبيرة الرّابعة " اللّهمّ اغفر لأسلافنا ، وأفراطنا ، ومن سبقنا بالإيمان ، اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإيمان ، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإسلام ، واغفر للمسلمين والمسلمات ، ثمّ يسلّم .
والفرض عند الشّافعيّة أدنى دعاء للميّت كما تقدّم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا صلّيتم على الميّت فأخلصوا له الدّعاء » .
ويشترط فيه أن يكون بعد التّكبيرة الثّالثة ، وأن يكون مشتملاً على طلب الخير للميّت الحاضر ، فلو دعا للمؤمنين بغير دعاء له لا يكفي ، إلاّ إذا كان صبيّاً ، فإنّه يكفي كما يكفي الدّعاء لوالديه ، وأن يكون المطلوب به أمراً أخرويّاً كطلب الرّحمة والمغفرة وإن كان الميّت غير مكلّف ، ولا يتقيّد المصلّي في الدّعاء بصيغة خاصّة ، والأفضل أن يدعو بالدّعاء المشهور الّذي انتخبه الشّافعيّ من مجموع أحاديث وهو : « اللّهمّ هذا عبدك وابن عبديك ، خرج من روح الدّنيا وسعتها ، ومحبوبه وأحبّائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه ، كان يشهد أن لا إله إلاّ أنت ، وأنّ محمّداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به ، اللّهمّ إنّه نزل بك وأنت خير منزول به ، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غنيّ عن عذابه ، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له ، اللّهمّ إن كان محسناً فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ، ولقه برحمتك رضاك وقه فتنة القبر وعذابه ، وافسح له في قبره ، وجاف الأرض عن جنبيه ، ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتّى تبعثه آمناً إلى جنّتك برحمتك يا أرحم الرّاحمين » .
27 - ويستحبّ أن يقول قبله : الدّعاء الّذي رواه التّرمذيّ : « اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام ، ومن توفّيته منّا فتوفّه على الإيمان ، اللّهمّ لا تحرمنا أجره » .
ويندب أن يقول : بين الدّعاءين المذكورين : اللّهمّ اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسّع مدخله ، واغسله بالماء والثّلج والبرد ، ونقّه من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وأعذه من عذاب القبر وفتنته ، ومن عذاب النّار .(215/7)
وينبغي أن يلاحظ المصلّي في دعائه التّذكير والتّأنيث ، والتّثنية والجمع ، بما يناسب حال الميّت الّذي يصلّي عليه ، وله أن يذكّر مطلقا بقصد الشّخص ، وأن يؤنّث مطلقاً بقصد الجنازة ، ويصحّ أن يقول في الدّعاء على الصّغير بدل الدّعاء المذكور : اللّهمّ اجعله فرطاً لأبويه ، وسلفاً ، وذخراً وعظة ، واعتباراً وشفيعاً ، وثقّل به موازينهما ، وأفرغ الصّبر على قلوبهما ، ولا تفتنهما بعده ، ولا تحرمهما أجره .
ويتأدّى الرّكن عند الحنابلة بأدنى دعاء للميّت يخصّه به نحو اللّهمّ ارحمه .
ومحلّ الدّعاء عندهم بعد التّكبيرة الثّالثة ويجوز عقب الرّابعة ، ولا يصحّ عقب سواهما . والمسنون الدّعاء بما ورد ، ومنه : اللّهمّ اغفر لحيّنا وميّتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، إنّك تعلم منقلبنا ومثوانا ، وأنت على كلّ شيء قدير ، اللّهمّ من أحييته منّا فأحيه على الإسلام والسّنّة ، ومن توفّيته منّا فتوفّه عليهما ، اللّهمّ اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسّع مدخله ، واغسله بالماء والثّلج والبرد ، ونقّه من الذّنوب والخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وزوجا خيرا من زوجه ، وأدخله الجنّة ، وأعذه من عذاب القبر ، ومن عذاب النّار ، وافسح له في قبره ونوّر له فيه ، وهذا الدّعاء للميّت الكبير ذكرا كان أو أنثى إلاّ أنّه يؤنّث الضّمائر في الأنثى . وإن كان الميّت صغيراً أو بلغ مجنوناً واستمرّ على جنونه حتّى مات قال في الدّعاء : اللّهمّ اجعله ذخراً لوالديه ، وفرطاً وأجراً ، وشفيعاً مجاباً ، اللّهمّ ثقّل به موازينهما ، وأعظم به أجورهما ، وألحقه بصالح سلف المؤمنين ، واجعله في كفالة إبراهيم ، وقه برحمتك عذاب الجحيم ، يقال ذلك في الذّكر والأنثى إلاّ أنّه يؤنّث في المؤنّث .
28 - وليس لصلاة الجنازة عند المالكيّة سنن بل لها مستحبّات ، وهي الإسرار بها ، ورفع اليدين عند التّكبيرة الأولى فقط ، حتّى يكونا حذو أذنيه ، وابتداء الدّعاء بحمد اللّه ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ووقوف الإمام عند وسط الرّجل ، وعند منكبي المرأة ، وأمّا المأموم فيقف خلف الإمام كما يقف في غيرها من الصّلاة ، وجهر الإمام بالسّلام والتّكبير بحيث يسمع من خلفه ، وأمّا غيره فيسرّ فيها .
وقال الشّافعيّة : سنّتها التّعوّذ قبل الفاتحة والتّأمين ، والإسرار بالقراءة والدّعاء وسائر الأقوال فيها ولو فعلت ليلا ، عدا التّكبير والسّلام فيجهر بها ، وفعل الصّلاة في جماعة ، وأن يكونوا ثلاثة صفوف فأكثر إذا أمكن ، وأقلّ الصّفّ اثنان ولو بالإمام ، ولا تكره مساواة المأموم للإمام في الوقوف ، حينئذ واختيار أكمل صيغ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مذكور في سنن الصّلاة ، والصّلاة على الآل دون السّلام عليهم ، وعلى النّبيّ عليه الصلاة والسلام ، والتّحميد قبل الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء المأثور في صلاة الجنازة والتّسليمة الثّانية ، وأن يقول بعد التّكبيرة الرّابعة قبل السّلام : اللّهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده . ثمّ يقرأ { الَّذينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَولَه يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهمْ وَيُؤمنونَ بهِ } وأن يقف الإمام أو المنفرد عند رأس الرّجل ، وعند عجز الأنثى أو الخنثى ، وأن يرفع يديه عند كلّ تكبيرة ثمّ يضعهما تحت صدره ، وأن لا ترفع الجنازة حتّى يتمّ المسبوق صلاته ، وإن تكرّر الصّلاة عليه من أشخاص متغايرين ، أمّا إعادتها ممّن أقاموها أوّلا فمكروهة . ومن السّنن ترك دعاء الافتتاح ، وترك السّورة ، ويكره أن يصلّى عليه قبل أن يكفّن .
وقال الحنابلة : سننها فعلها في جماعة ، وأن لا ينقص عدد كلّ صفّ عن ثلاثة إن كثر المصلّون ، وإن كانوا ستّة جعلهم الإمام صفّين ، وإن كانوا أربعة جعل كلّ اثنين صفّاً ، ولا تصحّ صلاة من صلّى خلف الصّفّ وحده كغيرها من الصّلاة ، وأن يقف الإمام والمنفرد عند صدر الرّجل ووسط الأنثى ، وأن يسرّ بالقراءة والدّعاء فيها وقد ذكروا التّعوّذ والتّسمية قبل قراءة الفاتحة ، ولم يطّلع على تصريح لهم بسنّيّتها .
29 - وإذا كان القوم سبعة قاموا ثلاثة صفوف يتقدّم واحد ويقوم خلفه ثلاثة ، وخلفهم اثنان ، وخلفهما واحد ، وهذا عند الحنفيّة .
وقال الحنابلة : يسنّ أن لا تنقص الصّفوف عن ثلاثة ، ولا ينقص عدد كلّ صفّ عن ثلاثة إن كثر المصلّون ، وإن كانوا ستّة جعلهم الإمام صفّين ، وإن كانوا أربعة جعل كلّ اثنين صفّاً ، ولا تصحّ صلاة من صلّى خلف الصّفّ وحده .
وقال الشّافعيّة : من سننها أن يكون ثلاثة صفوف إذا أمكن ، وأقلّ الصّفّ اثنان ولو بالإمام ، ولا تكره مساواة المأموم للإمام في الوقوف حينئذ .
وقد روى التّرمذيّ من حديث مالك بن هبيرة مرفوعاً : « من صلّى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب » ، وفي رواية : « إلاّ غفر له » وقد كان مالك بن هبيرة يصفّ من يحضر الصّلاة على الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلّوا أو كثروا .
صفة صلاة الجنازة :
30 - مذهب الحنفيّة أنّ الإمام يقوم في الصّلاة على الجنازة بحذاء الصّدر من الرّجل والمرأة ، وهذا أحسن مواقف الإمام من الميّت للصّلاة عليه ، وإن وقف في غيره جاز . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه قال : يقوم بحذاء الوسط من الرّجل ، وبحذاء الصّدر من المرأة ، وهو قول ابن أبي ليلى .(215/8)
وعند المالكيّة يندب أن يقف الإمام وسط الذّكر وحذو منكبي غيره ، ومذهب الشّافعيّة أنّ الإمام يقوم ندبا عند رأس الرّجل ، وعجيزة المرأة ، لما روي أنّ « أنساً صلّى على رجل فقام عند رأسه ، وعلى امرأة فقام عند عجيزتها ، فقال له العلاء بن زياد : هكذا كانت صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المرأة عند عجيزتها وعلى الرّجل عند رأسه ؟ قال : نعم » قالوا : لأنّه أبلغ في صيانة المرأة عن الباقين .
فإن وقف من الرّجل والمرأة في أيّ مكان جاز وخالف السّنّة .
وقال الحنابلة : يقوم عند صدر رجل ، وقيل عند رأسه ، ووسط امرأة ، وبين الصّدر والوسط من الخنثى ، لحديث أنس « وفيه أنّه صلّى على امرأة فقام وسط السّرير » .
31 - وينوي الإمام والمأمومون ، ثمّ يكبّر ومن خلفه أربع تكبيرات ، وهو متّفق عليه عند الفقهاء ، وبه قال الثّوريّ وابن المبارك وإسحاق . وعليه العمل عند أكثر أهل العلم كما قال التّرمذيّ وابن المنذر - ولو ترك واحدة منها لم تجز صلاته .
قال الحنفيّة : ولو كبّر الإمام خمساً لم يتبع ، لأنّه منسوخ ، ولكن ينتظر سلامه في المختار ليسلّم معه على الأصحّ ، وفي رواية يسلّم المأموم إذا كبّر إمامه التّكبيرة الزّائدة .
وقال الشّافعيّة : لو كبّر الإمام خمساً لم يتابعه المأموم في الخامسة ، بل يسلّم أو ينتظر ليسلّم معه وهذا هو الأصحّ ، وخلاف الأصحّ أنّه لو تابعه لم يضرّ .
وقال الحنابلة : الأولى أن لا يزاد على أربع تكبيرات ويتابع إمامه فيما زاد إلى سبع فقط ، ويحرم سلام قبله ، إن جاوز سبعاً .
قال الحنفيّة : فإذا كبّر الأولى مع رفع يديه أثنى على اللّه كما مرّ .
وعند الشّافعيّة والحنابلة إذا كبّر الأولى تعوّذ وسمّى وقرأ الفاتحة .
وقال الحنفيّة والمالكيّة : ليس في صلاة الجنازة قراءة .
وإذا كبّر الثّانية يأتي بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهي الصّلاة الإبراهيميّة الّتي يأتي بها في القعدة الأخيرة من ذوات الرّكوع ، وإذا كبّر الثّالثة يدعو للميّت ويستغفر له كما تقدّم ، ثمّ يكبّر الرّابعة ولا دعاء بعد الرّابعة ، وهو ظاهر مذهب الحنفيّة ومذهب الحنابلة ، وقيل عند الحنفيّة : يقول : { رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَةً ... } إلخ
وقيل : { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا } إلخ ، وقيل : يخيّر بين السّكوت والدّعاء ، وعند الشّافعيّة والمالكيّة يدعو بعد الرّابعة أيضاً ثمّ يسلّم تسليمة واحدة أو تسليمتين على الخلاف المتقدّم . وينوي التّسليم على الميّت مع القوم كما في الدّرّ ومراقي الفلاح .
وفي الهنديّة : لا ينوي التّسليم على الميّت .
ولا يجهر بما يقرأ عقب كلّ تكبيرة سواء في الفاتحة أو غيرها ليلاً كانت الصّلاة أو نهاراً . وهل يرفع صوته بالتّسليم ؟ لم يتعرّض له الحنفيّة في ظاهر الرّواية ، وذكر الحسن بن زياد أنّه لا يرفع ، لأنّه للإعلام ولا حاجة إليه ، لأنّ التّسليم مشروع عقب التّكبير بلا فصل ، لكن العمل على خلافه ، وفي جواهر الفتاوى : يجهر بتسليم واحد .
وروى محمّد في موطّئه أنّ ابن عمر كان إذا صلّى على جنازة سلّم حتّى يسمع من يليه ، قال محمّد : وبهذا نأخذ فيسلّم عن يمينه ويساره ويسمع من يليه وهو قول أبي حنيفة .
وقال أبو يوسف : إنّه لا يجهر كلّ الجهر ولا يسرّ كلّ الإسرار .
وعند المالكيّة يجهر الإمام بالتّسليم بقدر التّسميع ، ويندب لغير الإمام إسرارها .
وقال النّوويّ : قال جمهورهم : يسلّم تسليمة واحدة .
واختلفوا هل يجهر الإمام بالتّسليم ؟
فأبو حنيفة والشّافعيّ يقولان : يجهر ، وعن مالك روايتان ، وفي المدوّنة قال مالك في السّلام على الجنائز : يسمع نفسه وكذلك من خلف الإمام وهو دون سلام الإمام ، تسليمة واحدة للإمام وغيره ، وفي رواية يسلّم الإمام واحدة قدر ما يسمع من يليه ، ويسلّم من وراءه واحدة في أنفسهم ، وإن أسمعوا من يليهم لم أر بذلك بأساً ،
وقالت الحنابلة : يسلّم بلا تشهّد واحدة عن يمينه ، ويجوز تلقاء وجهه ، ويجوز ثانية .
ولا يرفع يديه في غير التّكبيرة الأولى عند الحنفيّة في ظاهر الرّواية ، وكثير من مشايخ بلخ اختاروا الرّفع في كلّ تكبيرة . وبه قال مالك ، فقد روي عنه لا ترفع الأيدي في الصّلاة على الجنازة إلاّ في أوّل تكبيرة ، وروي عنه أنّه يعجبني أن يرفع يديه في التّكبيرات الأربع . والرّاجح في مذهبهم الأوّل وهو الّذي ذهب إليه الثّوريّ ، وفي الشّرح الصّغير : ندب رفع اليدين حذو المنكبين عند التّكبيرة الأولى فقط ، وفي غير الأولى خلاف الأولى .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : يسنّ أن يرفع يديه في كلّ تكبيرة .
ما يفعل المسبوق في صلاة الجنازة :(215/9)
32 - إذا جاء رجل وقد كبّر الإمام التّكبيرة الأولى ولم يكن حاضراً انتظره حتّى إذا كبّر الثّانية كبّر معه ، فإذا فرغ الإمام كبّر المسبوق التّكبيرة الّتي فاتته قبل أن ترفع الجنازة ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمّد رضي الله عنهما . وقال أبو يوسف يكبّر حين يحضر ، وكذا إن جاء وقد كبّر الإمام تكبيرتين أو ثلاثاً ، فإن لم ينتظر المسبوق وكبّر قبل تكبير الإمام الثّانية أو الثّالثة أو الرّابعة لم تفسد صلاته ، ولكن لا يعتدّ بتكبيرته هذه ، وإن جاء وقد كبّر الإمام أربعا ولم يسلّم لا يدخل معه في رواية أبي حنيفة ، والأصحّ أنّه يدخل ، وعليه الفتوى ، ثمّ يكبّر ثلاثاً قبل أن ترفع الجنازة متتابعاً لا دعاء فيها - وهو قول أبي يوسف - ولو رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرّواية أنّه لا يأتي بالتّكبير . وعن محمّد إن كانت إلى الأرض أقرب يكبّر وإلاّ فلا ، وهو الّذي ينبغي أن يعوّل عليه كما في الشرنبلالية .
هذا إذا كان غائباً ثمّ حضر ، وأمّا إذا كان حاضراً مع الإمام فتغافل ولم يكبّر مع الإمام أو تشاغل بالنّيّة فأخّر التّكبير ، فإنّه يكبّر ولا ينتظر تكبيرة الإمام الثّانية في قولهم جميعاً ، لأنّه لمّا كان مستعدّاً جعل كالمشارك .
وقال المالكيّة : إذا جاء والإمام مشتغل بالدّعاء فإنّه يجب عليه أن لا يكبّر حتّى إذا كبّر الإمام كبّر معه ، فإن لم ينتظر وكبّر صحّت صلاته ولكن لا تحتسب تكبيرته هذه ، سواء انتظر أو لم ينتظر ، وإذا سلّم الإمام قضى المأموم ما فاته من التّكبير سواء رفعت الجنازة فوراً أو بقيت ، إلاّ أنّه إذا بقيت الجنازة دعا عقب كلّ تكبيرة يقضيها ، وإن رفعت فوراً والى التّكبير ولا يدعو لئلاّ يكون مصلّياً على غائب ، والصّلاة على الغائب غير مشروعة عندهم ، أمّا إذا كان الإمام ومن معه قد فرغوا من التّكبيرة الرّابعة فلا يدخل المسبوق معه على الصّحيح ، لأنّه في حكم التّشهّد ، فلو دخل معه يكون مكرّراً الصّلاة على الميّت وتكرارها مكروه عندهم. وقال الشّافعيّة : إذا جاء المأموم وقد فرغ الإمام من التّكبيرة الأولى أو غيرها ، واشتغل بما بعدها من قراءة أو غيرها ، فإنّه يدخل معه ولا ينتظر الإمام حتّى يكبّر التّكبيرة التّالية ، إلاّ أنّه يسير في صلاته على نظم الصّلاة لو كان منفرداً ، فبعد أن يكبّر التّكبيرة الأولى يقرأ من الفاتحة ما يمكنه قراءته قبل تكبير الإمام ويسقط عنه الباقي ، ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الثّانية وهكذا ، فإذا فرغ الإمام أتمّ المأموم صلاته على النّظم المذكور ، ويأتي بالأذكار في مواضعها ، سواء بقيت الجنازة أو رفعت ، وإذا لم يمكنه قراءة شيء من الفاتحة إن كبّر إمامه عقب تكبير المسبوق للإحرام كبّر معه وتحمّل الإمام عنه كلّ الفاتحة . وفي التّنبيه : من سبقه الإمام ببعض التّكبيرات دخل في الصّلاة وأتى بما أدرك ، فإذا سلّم الإمام كبّر ما بقي متوالياً .
وقال الحنابلة : من سبق ببعض الصّلاة كبّر ودخل مع الإمام حيث أدركه ولو بين تكبيرتين ندباً كالصّلاة ، أو كان إدراكه له بعد تكبيرة الرّابعة قبل السّلام ، فيكبّر للإحرام معه ويقضي ثلاث تكبيرات استحباباً ، ويقضي مسبوق ما فاته قبل دخوله مع الإمام على صفته ، لأنّ القضاء يحكي الأداء كسائر الصّلوات ، ويكون قضاؤه بعد سلام الإمام كالمسبوق في الصّلاة. قال البهوتيّ : قلت : لكن إن حصل له عذر يبيح ترك جمعة وجماعة صحّ أن ينفرد ويتمّ لنفسه قبل سلامه ، فإن أدركه المسبوق في الدّعاء تابعه فيه ، فإذا سلّم الإمام كبّر وقرأ الفاتحة بعد التّعوّذ والبسملة ، ثمّ كبّر وصلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ كبّر وسلّم ; لما تقدّم من أنّ المقضيّ أوّل صلاته ، فيأتي فيه بحسب ذلك ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم « وما فاتكم فأتمّوا » وإنّما يظهر إذا كان الدّعاء بعد الرّابعة أو بعد الثّالثة ، لكنّه لم يأت بها لنوم أو سهو ونحوه . وإلاّ لزم عليه الزّيادة على أربع ، وتركها أفضل .
فإن كان أدركه في الدّعاء وكبّر الأخيرة معه فإذا سلّم الإمام كبّر وقرأ الفاتحة ، ثمّ كبّر وصلّى عليه صلى الله عليه وسلم ثمّ سلّم من غير تكبير ، لأنّ الأربع تمّت . وإن كبّر مع الإمام التّكبيرة الأولى ولم يكبّر الثّانية والثّالثة يكبّرهما ، ثمّ يكبّر مع الإمام الرّابعة .
ترك بعض التّكبيرات :
33 - ولو سلّم الإمام بعد الثّالثة ناسيا كبّر الرّابعة ويسلّم .
وقال الحنابلة : إن ترك غير مسبوق تكبيرة عمدا بطلت ، وإن ترك سهوا فإن كان مأموما كبّرها ما لم يطل الفصل ( أي بعد السّلام ) ، وإن كان إماما نبّهه المأمومون فيكبّرها ما لم يطل الفصل ، وصحّت صلاة الجميع ، فإن طال أو وجد مناف استأنف ، وصحّت صلاة المأمومين إن نووا المفارقة .
وقال الشّافعيّة : تبطل صلاة الجميع إن كان النّقص قصدا من الإمام ، وإن كان سهوا تداركه الإمام والمأموم كالصّلاة ، ولا سجود للسّهو هنا .
وقال المالكيّة : إن كان النّقص من الإمام عمداً بطلت صلاة الجميع ، وإن سهوا سبّح له المأمومون ، فإن رجع عن قرب وكمّل التّكبير كمّلوه معه وصحّت صلاة الجميع ، وإن لم يرجع أو لم يتنبّه إلاّ بعد زمن طويل كمّلوا هم ، وصحّت صلاتهم وبطلت صلاته .
الصّلاة على جنائز مجتمعة :(215/10)
34 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمعت جنائز يجوز أن يصلّى عليهم مجتمعين أو فرادى ثمّ اختلفوا فقال الحنفيّة : فالإمام إن شاء صلّى على كلّ واحدة على حدة ، وإن شاء صلّى على الكلّ دفعة واحدة بالنّيّة على الجميع ، كذا في معراج الدّراية والبدائع ، وفي الدّرّ : إفراد الصّلاة على كلّ واحدة أولى من الجمع - لأنّ الجمع مختلف فيه - فإذا أفرد يصلّي على أفضلهم أوّلا ، ثمّ على الّذي يليه في الفضل إن لم يسبقه غيره ، وإلاّ يصلّي على الأسبق أوّلا ولو كان مفضولاً .
والمذهب عند الشّافعيّة : أنّ الإفراد أفضل من أن يصلّي عليهم دفعة واحدة لأنّه أكثر عملا وأرجى للقبول . وقال الحنابلة وهو قول صاحب التّنبيه من الشّافعيّة إذا اجتمعت جنائز فجمعهم في الصّلاة عليهم أفضل من الصّلاة على كلّ واحد منهم منفرداً ، وذلك لأجل المحافظة على الإسراع والتّخفيف .
ثمّ قال الحنفيّة إن صلّى عليهم دفعة فإن شاء جعلهم صفّاً واحداً عرضاً ، وإن شاء وضع واحدا بعد واحد ممّا يلي القبلة ليقوم بحذاء الكلّ ، هذا جواب ظاهر الرّواية .
وروي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنّ الثّاني أولى ، لأنّ السّنّة هي قيام الإمام بحذاء الميّت ، وهو يحصل في الثّاني دون الأوّل ، فإذا صفّهم صفّاً واحداً عرضاً قام عند أفضلهم إذا اختلفوا في الفضل ، وإن تساووا قام عند أسنّهم ، " أكبرهم سنّا " .
وقال مالك : أرى ذلك واسعاً إن جعل بعضهم خلف بعض ، أو جعلوا صفّاً واحداً ، ويقوم الإمام وسط ذلك ويصلّي عليهم . وإن كانوا غلماناً ذكوراً أو نساء جعل الغلمان ممّا يلي الإمام والنّساء من خلفهم ممّا يلي القبلة ، وإن كنّ نساء صنع بهنّ كما يصنع بالرّجال كلّ ذلك واسع بعضهم خلف بعض صفّاً واحداً .
وقال الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - والحنابلة : إنّ الجنائز توضع أمام الإمام بعضها خلف بعض ، والقول الثّاني عند الشّافعيّة : أنّها توضع بين يدي الإمام صفّاً واحداً عن يمينه فيقف هو في محاذاة الآخر منهم ، فإن كانوا رجالا ونساء يتعيّن عند الشّافعيّة القول الأوّل .
وإن وضعوا واحداً بعد واحد ممّا يلي القبلة ينبغي أن يكون أفضلهم ممّا يلي الإمام ، كذا روي عن أبي حنيفة أنّه يوضع أفضلهم وأسنّهم ممّا يلي الإمام ، وقال أبو يوسف : الأحسن عندي أن يكون أهل الفضل ممّا يلي الإمام . ثمّ إن وضع رأس كلّ واحد منهم بحذاء رأس صاحبه فحسن ، وإن وضع شبه الدّرج كما قال ابن أبي ليلى ، وهو أن يكون رأس الثّاني عند منكب الأوّل فحسن أيضاً ، كذا روي عن أبي حنيفة .
وقال الشّافعيّة : يوضع بعضهم خلف بعض ليحاذي الإمام الجمع .
وقال الحنابلة : يتعيّن أن يكون رأس كلّ واحد منهم بحذاء رأس صاحبه إن كانوا من نوع واحد ، فإن كانوا أكثر من نوع سوّى بين رءوس كلّ نوع ويجعل وسط المرأة حذاء صدر الرّجل . وترتيبهم في الوضع عند اختلاف النّوع لا خلاف فيه بين المذاهب ، فتوضع الرّجال ممّا يلي الإمام ، ثمّ الصّبيان ، ثمّ الخناثى ، ثمّ النّساء ، ثمّ المراهقات .
ولو كان الكلّ رجالاً يوضع أفضلهم وأسنّهم ممّا يلي الإمام .
وهذا إن جيء بهم دفعة واحدة فإن جيء بهم متعاقبين وكانوا من نوع واحد يقدّم الأسبق .
وقال مالك والشّافعيّ : إن افتتح المصلّي الصّلاة على جنازة فكبّر واحدة أو اثنتين ، ثمّ أتي بجنازة أخرى وضعت حتّى يفرغ من الصّلاة على الجنازة الّتي كانت قبلها ، لأنّه افتتح الصّلاة ينوي بها غير هذه الجنازة المؤخّرة ، ثمّ يصلّي على الجنازة المؤخّرة .
وإذا كبّر الإمام على جنازة فجيء بأخرى مضى على صلاته على الأولى ، فإذا فرغ استأنف على الثّانية ، وإن كان لمّا وضعوا الثّانية كبّر الأخرى ينويهما فهي للأولى أيضاً ، ولا يكون للثّانية ، وإن كبّر الثّانية ينوي الثّانية وحدها فهي للثّانية وقد خرج من الأولى ، فإذا فرغ أعاد الصّلاة على الأولى وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة .
وقال الحنابلة : لو كبّر فجيء بأخرى كبّر ثانية ونواهما ، فإن جيء بثالثة كبّر ثالثة ونوى الجنائز الثّلاث ، فإن جيء برابعة كبّر رابعة ونوى الكلّ ، فيصير مكبّراً على الأولى أربعاً وعلى الثّانية ثلاثاً ، وعلى الثّالثة اثنتين ، وعلى الرّابعة واحدة ، فيأتي بثلاث تكبيرات أخر ، فيتمّ التّكبيرات سبعا ، يقرأ في خامسة ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسادسة ، ويدعو بسابعة ، فيصير مكبّراً على الأولى سبعاً ، وعلى الثّانية ستّاً ، وعلى الثّالثة خمساً ، وعلى الرّابعة أربعاً . فإن جيء بخامسة لم ينوها بل يصلّي عليها بعد سلامه ، وكذا لو جيء بثانية عقب التّكبيرة الرّابعة ، لأنّه لم يبق من السّبع أربع ، ولا بدّ من أربع تكبيرات ، ولا يجوز أن يزيد على سبع تكبيرات .
35 - ويرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لو صلّى النّساء جماعة على جنازة قامت الّتي تؤمّ وسطهنّ كما في الصّلاة المفروضة المعهودة .
وعند المالكيّة لا تصلّي النّساء جماعة ، بل يصلّين فرادى في آن واحد ، لأنّهنّ لو صلّين واحدة بعد واحدة لزم تكرار الصّلاة وهو مكروه عندهم .
الحدث في صلاة الجنازة :
36 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن كان الإمام على غير الطّهارة تعاد الصّلاة ، وإن كان الإمام على طهارة والقوم على غير طهارة صحّت صلاة الإمام ولا تعاد الصّلاة عليه .
وقال الشّافعيّ : لو صلّى الإمام غير متوضّئ ومن خلفه متوضّئون أجزأت صلاتهم ، وإن كانوا كلّهم غير متوضّئين أعادوا ، وإن كان فيهم ثلاثة فصاعداً متوضّئون أجزأت .(215/11)
وقال مالك : إذا أحدث إمام الجنازة يأخذ بيد رجل فيقدّمه فيكبّر ما بقي على هذا الّذي قدّمه ، ثمّ إن شاء رجع بعد أن يتوضّأ فصلّى ما أدرك وقضى ما فاته ، وإن شاء ترك ذلك .
ولو أحدث الإمام في صلاة الجنازة فقدّم غيره جاز وهو الصّحيح ، فإذا عاد بعد التّوضّؤ بنى على صلاته وهذا عند الحنفيّة .
وقال الشّافعيّ : إن أحدث الإمام انصرف وتوضّأ وكبّر من خلفه ما بقي من التّكبير فرادى لا يؤمّهم أحد .
الصّلاة على القبر :
37 - لو دفن الميّت قبل الصّلاة أو قبل الغسل فإنّه يصلّى عليه وهو في قبره ما لم يعلم أنّه تمزّق ، وهذا مذهب الحنفيّة .
وقال مالك : لا يصلّى على القبر كما في بداية المجتهد ، وفي مقدّمات ابن رشد إن دفن قبل أن يصلّى عليه أخرج وصلّي عليه ما لم يفت ، فإن فات صلّي عليه في قبره ، وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب ، وقيل : إنّه إن فات لم يصلّ عليه لئلاّ يكون ذريعة للصّلاة على القبور وهو مذهب أشهب وسحنون .
واختلف بم يكون الفوت ؟ فقيل : يفوت بأن يهال عليه التّراب بعد نصب اللّبن ، وإن لم يفرغ من دفنه وما لم يهل عليه التّراب ، وإن نصب اللّبن فإنّه يخرج ويصلّى عليه ، وهو قول أشهب . وقيل : إنّه لا يفوت إلاّ بالفراغ من الدّفن وهو قول ابن وهب .
وقيل : إنّه لا يفوت وإن فرغ من دفنه ويخرج ويصلّى عليه ما لم يخش عليه التّغيّر وهو قول سحنون وعيسى بن دينار ورواية عن ابن القاسم ، وإنّما يصلّى عليه في القبر ما لم يطل حتّى يغلب على الظّنّ أنّه قد فني بالبلى أو غيره .
وأمّا إذا صلّي على الميّت مرّة فلا تعاد الصّلاة عليه دفن أو لم يدفن .
وقال مالك في الحديث الّذي جاء فيه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى عليها وهي في قبرها » . قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل .
وعند الشّافعيّة يجوز الصّلاة على المقبور لكلّ من فاتته الصّلاة عليه قبل دفنه ، وقيل : يصلّي عليه من كان من أهل الصّلاة عليه عند الموت أبداً ، وقيل : إلى شهر ، وقيل : ما لم يبل جسده ، والمعتمد عندهم الجواز لمن كان من أهل فرض الصّلاة عليه وقت الموت . وعند أحمد يجوز لمن فاتته الصّلاة على الميّت أن يصلّي على قبره إلى شهر من دفنه وزيادة يسيرة كيومين ويحرم بعدها ، وحكي عن الأوزاعيّ تجويزه الصّلاة على القبر ولم يحك عنه التّحديد .
وحكي عن إسحاق بن راهويه أنّه قال : يصلّي الغائب إلى شهر ، والحاضر إلى ثلاث . وحكى التّرمذيّ عن ابن المبارك أنّه قال : إذا دفن الميّت ولم يصلّ عليه صلّي على القبر .
الصّلاة على الجنازة في المسجد :
38 - مذهب الحنفيّة أنّه تجوز الصّلاة على الجنازة في الجبّانة والأمكنة والدّور وهي فيها سواء ، ويكره في الشّارع وأراضي النّاس ، وكذا تكره في المسجد الّذي تقام فيه الجماعة سواء كان الميّت والقوم في المسجد ، أو كان الميّت خارج المسجد والقوم في المسجد ، أو الميّت في المسجد ، والإمام والقوم خارج المسجد ، وهو المختار .
ومحصّل كلام ابن عابدين في الصّلاة على الجنازة في المسجد ، أنّ البلاد الّتي جرت فيها العادة بالصّلاة عليها في المسجد لتعذّر غيره أو لتعسّره ، بسبب اندراس المواضع الّتي كانت يصلّى فيها عليها ، ينبغي الإفتاء بالقول بكراهة التّنزيه الّذي هو خلاف الأولى ، ولا يكره لعذر المطر ونحوه ، كاعتكاف الوليّ ، ومن له حقّ التّقدّم ويصلّي فيه غيره تبعاً له ، وأمّا المسجد الّذي خصّص لأجل صلاة الجنازة فلا يكره فيه .
وقال مالك : أكره أن توضع الجنازة في المسجد ، فإن وضعت قرب المسجد للصّلاة عليها فلا بأس أن يصلّي من في المسجد عليها بصلاة الإمام الّذي يصلّي عليها إذا ضاق خارج المسجد بأهله ، وفي الشّرح الصّغير كره إدخالها المسجد ولو بغير صلاة .
وقال الشّافعيّة : تندب الصّلاة على الميّت في المسجد إذا أمن تلويثه ، أمّا إذا خيف تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله ، وحجّة جواز الصّلاة على الجنازة في المسجد ، لأنّه « صلى الله عليه وسلم صلّى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء » كما رواه مسلم .
قال الشّافعيّة . فالصّلاة عليه لذلك ، ولأنّ المسجد أشرف .
وقال الحنابلة : تباح الصّلاة على الجنازة في المسجد مع أمن تلويث ، فإن لم يؤمن لم يجز.
الصّلاة على الجنازة في المقبرة :
39 - فيها للفقهاء قولان : أحدهما : لا بأس بها ، وهو مذهب الحنفيّة كما تقدّم ورواية عن أحمد ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى على قبر وهو في المقبرة » .
وقال ابن المنذر : ذكر نافع أنّه صلّي على عائشة وأمّ سلمة وسط قبور البقيع ، صلّى على عائشة أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر ، وفعل ذلك عمر بن عبد العزيز .
والقول الثّاني : يكره ذلك ، روي ذلك عن عليّ وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وابن عبّاس ، وبه قال عطاء والنّخعيّ والشّافعيّ وإسحاق وابن المنذر وهو رواية أخرى عن أحمد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « والأرض كلّها مسجد إلاّ المقبرة والحمّام »
ولأنّه ليس بموضع للصّلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمّام .
من يصلّى عليه ومن لا يصلّى عليه :
40 - يرى الحنفيّة أنّه يصلّى على كلّ مسلم مات بعد الولادة صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى ، حرّاً كان أو عبداً ، إلاّ البغاة وقطّاع الطّريق ومن بمثل حالهم .
وكره مالك لأهل الفضل الصّلاة على أهل البدع .
قال الدّردير : وكره صلاة فاضل على بدعيّ لم يكفر ببدعته .
وقال مالك في المدوّنة : إذا قتل الخوارج فذلك أحرى عندي أن لا يصلّى عليهم .(215/12)
وقال الحنابلة : حرّم أن يعود أو يغسّل مسلم صاحب بدعة مكفّرة ، أو يكفّنه ، أو يصلّى عليه ، أو يتبع جنازته .
وقال أحمد : أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تصلّوا عليهم .
ويرى الحنفيّة أنّ من قتل نفسه ولو عمدا يغسّل ويصلّى عليه ، به يفتى وإن كان أعظم وزرا من قاتل غيره . وقال أبو يوسف : يغسّل ولا يصلّى عليه ، والقتل أعمّ من أن يكون بسيف أو إلقاء في بحر أو نار .
وقال مالك : يصلّى على الّذين كابروا - أي البغاة - ولا يصلّي عليهم الإمام ، وقال : يصلّى على قاتل نفسه ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين وإثمه على نفسه .
وقال الحنابلة : لا يسنّ للإمام الأعظم وإمام كلّ قرية وهو واليها في القضاء ، الصّلاة على غالّ وقاتل نفسه عمداً ، وإن صلّى عليهما فلا بأس به .
وقال الشّوكانيّ : ذهب مالك والشّافعيّ وأبو حنيفة وجمهور العلماء إلى أنّه يصلّى على الفاسق ، وقالوا : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما لم يصلّ على من قتل نفسه زجراً للنّاس ، وصلّت عليه الصّحابة » .
ويرى الحنفيّة أنّ من قتل أحد أبويه لا يصلّى عليه إهانة ، قال أبو يوسف : لا يصلّى على كلّ من يقتل على متاع يأخذه ، ومن قتل بحقّ بسلاح أو غيره كما في القود والرّجم يغسّل ويصلّى عليه ، ويصنع به ما يصنع بالموتى ، والّذي صلبه الإمام ففيه روايتان عن أبي حنيفة روى أبو سليمان عنه أنّه لا يصلّى عليه ،
وقال مالك : كلّ من قتله الإمام على قصاص ، أو في حدّ من الحدود ، فإنّ الإمام لا يصلّي عليه والنّاس يصلّون عليه وكذا المرجوم .
ولا يصلّى على من لم يستهلّ بعد الولادة كما تقدّم .
وإذا اختلط موتانا بكفّار صلّي عليهم مطلقا في أوجه الأقوال .
أمّا الشّافعيّة فلم يستثنوا من الصّلاة على الميّت إلاّ الكافر والمرتدّ .
من له ولاية الصّلاة على الميّت :
41 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ أولى النّاس بالصّلاة على الميّت السّلطان إن حضر ثمّ نائبه وهو أمير المصر ، ثمّ القاضي ، فإن لم يحضر فصاحب الشّرط ثمّ خليفة الوالي ، ثمّ خليفة القاضي ، ثمّ إمام الحيّ .
قال الحصكفيّ : فيه إيهام ، وذلك أنّ تقديم الولاة واجب وتقديم إمام الحيّ مندوب فقط بشرط أن يكون أفضل من الوليّ ، وإلاّ فالوليّ أولى ، وبشرط أن لا يكون ساخطا عليه حال حياته لوجه صحيح . والمراد بإمام الحيّ إمام المسجد الخاصّ بالمحلّة ، وإمام المسجد الجامع
- وعبّر عنه في كتاب المنية بإمام الجمعة - أولى من إمام الحيّ ، وأمّا إمام مصلّى الجنازة فاستظهر المقدسيّ أنّه كالأجنبيّ فالوليّ مقدّم عليه .
ثمّ الوليّ بترتيب عصوبة الإنكاح إلاّ الأب فإنّه يقدّم على الابن اتّفاقاً إلاّ أن يكون الابن عالماً والأب جاهلاً فالابن أولى ، فلا ولاية للنّساء ولا للزّوج إلاّ أنّه أحقّ من الأجنبيّ ، والتّقييد بالعصوبة لإخراج النّساء فقط ، فذوو الأرحام وهم داخلون في الولاية وهم أولى من الأجنبيّ. والمراد بالوليّ الذّكر المكلّف فلا حقّ للصّغير ولا للمعتوه .
42 - وتفصيل الإجمال أنّه يقدّم في الصّلاة على الميّت أبوه ، ثمّ ابنه ، ثمّ ابن ابنه وإن سفل ، ثمّ الجدّ وإن علا ، ثمّ الأخ الشّقيق ، ثمّ الأخ لأب ، ثمّ ابن الأخ الشّقيق ، وهكذا الأقرب فالأقرب كترتيبهم في النّكاح .
ومن له ولاية التّقدّم فهو أحقّ بالصّلاة على الميّت ممّن أوصى له الميّت بالصّلاة عليه ، لأنّ الوصيّة باطلة على المفتى به عند الحنفيّة ، وفي نوادر ابن رستم الوصيّة جائزة ومع ذلك يقدّم من له حقّ التّقدّم .
وقال أبو يوسف : القريب أولى من السّلطان . ولا ولاية للزّوج عند الحنفيّة لانقطاع الصّلة بالموت لكن إن لم يكن للزّوجة الميّتة وليّ فالزّوج أولى ، ثمّ الجيران أولى من الأجنبيّ . ولو ماتت امرأة ولها زوج وابن عاقل بالغ منه ، فالولاية للابن دون الزّوج ، لكن يكره للابن أن يتقدّم أباه ، وينبغي أن يقدّمه ، فإن كان لها ابن من زوج آخر فلا بأس أن يتقدّم ، لأنّه هو الوليّ ، وتعظيم زوج أمّه غير واجب عليه .
وقال المالكيّة : الأحقّ بالصّلاة عليه وصيّ الميّت إن كان أوصى إليه رجاء بركته وإلاّ فلا ، ثمّ الخليفة وهو الإمام الأعظم ، وأمّا نائبه فلا حقّ له في التّقدّم إلاّ إذا كان نائبه في الحكم والخطبة ، ثمّ أقرب العصبة فيقدّم الابن ، ثمّ ابنه ثمّ الأب ، ثمّ الأخ ، ثمّ ابن الأخ ، ثمّ الجدّ ، ثمّ العمّ ، ثمّ ابن العمّ وهكذا . ولا حقّ لزوج الميّتة في التّقدّم ويكون بعد العصبة ، فإن لم يوجد عصبة فالأجانب سواء ، إلاّ أنّه يقدّم الأفضل منهم .
وقال الشّافعيّة : الأولى بالصّلاة عليه أبو الميّت وإن علا ، ثمّ ابنه وإن سفل ، ثمّ الأخ الشّقيق ، ثمّ الأخ لأب ، ثمّ ابن الأخ الشّقيق ، ثمّ ابن الأخ لأب ، ثمّ بقيّة العصبة على ترتيب الميراث ، فإن لم يكن فالإمام الأعظم ، أو نائبه عند انتظام بيت المال ، ثمّ ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب . وإذا أوصى بالصّلاة لغير من يستحقّ التّقدّم ممّن ذكر فلا تنفذ وصيّته .
ولا حقّ للزّوج حيث وجد معه غيره من الأجانب ، ولا حقّ للزّوجة حيث وجد معها ذكر ، فإن لم يوجد فالزّوج مقدّم على الأجانب . والمرأة تصلّي وتقدّم بترتيب الذّكور .
وقال الحنابلة : الأولى بالصّلاة عليه إماماً وصيّه العدل ، ثمّ السّلطان ، ثمّ نائبه ، ثمّ أبو الميّت وإن علا ، ثمّ ابنه وإن نزل ، ثمّ الأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث ، ثمّ ذوو الأرحام ، ثمّ الزّوج ، ونائب الوليّ بمنزلته بخلاف نائب الوصيّ فلا يكون بمنزلته .(215/13)
وقال الحنفيّة : ولو كان الوليّان في درجة واحدة فأكبرهما سنّا أولى ، ولهما أن يقدّما غيرهما فلو قدّم كلّ واحد منهما رجلاً على حدة فالّذي قدّمه الأكبر أولى .
وليس لأحدهما أن يقدّم إنساناً إلاّ بإذن الآخر ، إلاّ إن قدّما الأسنّ لسنّه " لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الكبر الكبر » ولغيره من الأحاديث .
وإذا أراد أحد الوليّين المتساويين درجة أن يستخلف غيره كان الآخر أولى بأن يستخلفه . فإن تشاجر الوليّان فتقدّم أجنبيّ بغير إذنهما فصلّى ، ينظر إن صلّى الأولياء معه جازت الصّلاة ولا تعاد ، وإن لم يصلّوا معه فلهم إعادة الصّلاة لعدم سقوط حقّهم وإن تأدّى الفرض ، ولا يعيد مع الأولياء من صلّى مع غيرهم .
وقال المالكيّة : إن تعدّدت العصبة المتساوون في القرب من الميّت ، قدّم الأفضل منهم لزيادة فقه أو حديث أو نحو ذلك ، وكذا الأجانب إذا لم يوجد غيرهم يقدّم الأفضل منهم كما في صلاة الجماعة .
وقال الشّافعيّة : بتقديم الأسنّ إذا استوى الولاة وتشاحّوا ، إلاّ أن تكون حالة الأسنّ غير محمودة ، فكان أفضلهم وأفقههم أحبّ ، فإن تقاربوا فأسنّهم ، لأنّ الغرض هنا الدّعاء ودعاء الأسنّ أقرب للإجابة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يستحيي أن يردّ دعوة ذي الشّيبة في الإسلام » وإن استووا وقلّما يكون ذلك فلم يصطلحوا أقرع بينهم .
وقال الحنابلة : إذا تساوى الأولياء قدّم من كان أولاهم بالإمامة في الصّلوات الخمس ، فإن استووا فيه أيضاً أقرع بينهم ، وتكره إمامة غير الأولى بلا إذنه مع حضوره ، لكن يسقط به الفرض ، فإن صلّى الأولى خلفه صار إذناً ، وإلاّ فله أن يعيدها ، لأنّها حقّه ، ويجوز أن يعيدها من صلّاها تبعاً للأولى .
43 - وعند الشّافعيّة والحنابلة : تسنّ الصّلاة على الجنازة لكلّ من لم يصلّ أوّلا ، سواء أكان أولى بالصّلاة عليه أم لم يكن .
وقال في الأمّ : إن سبق الأولياء بالصّلاة على الجنازة ثمّ جاء وليّ آخر أحببت أن لا توضع للصّلاة ثانية ، وإن فعل فلا بأس إن شاء اللّه .
وعند مالك لا تعاد الصّلاة على الجنازة مرّة أخرى .
ما يفسد صلاة الجنازة وما يكره فيها :
44 - تفسد صلاة الجنازة عند الحنفيّة بما تفسد به سائر الصّلوات من الحدث العمد والكلام ، والعمل الكثير وغيرها من مبطلات الصّلاة ، إلاّ المحاذاة فإنّها غير مفسدة في هذه الصّلاة ، لأنّ فساد الصّلاة بالمحاذاة عرف بالنّصّ ، والنّصّ ورد في الصّلاة المطلقة فلا يلحق بها غيرها ، ولهذا لم يلحق بها سجدة التّلاوة حتّى لم تكن المحاذاة فيها مفسدة ، وكذا القهقهة في هذه الصّلاة لا تنقض الطّهارة ، لأنّ القهقهة مبطلة بالنّصّ الوارد في صلاة مطلقة ، فلا يجعل وارداً في غيرها .
وتكره الصّلاة على الجنازة عند طلوع الشّمس وعند غروبها ، وعند انتصاف النّهار ، لحديث عقبة بن عامر : « ثلاث ساعات نهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نصلّي فيها وأن نقبر فيها موتانا » . والمراد بقبر الموتى الصّلاة على الجنازة دون الدّفن .
وإنّما تكره الصّلاة على الجنازة كراهة تحريم عند الحنفيّة إذا حضرت في هذه الأوقات في ظاهر الرّواية ، كما في مراقي الفلاح ، ولكن في تحفة الفقهاء الأفضل أن يصلّي على جنازة حضرت في تلك الأوقات ولا يؤخّرها ، بل قال الزّيلعيّ : إنّ التّأخير مكروه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه : « ثلاث لا تؤخّرها ، الصّلاة إذا آنت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيّم إذا وجدت لها كفئاً » . أمّا إذا حضرت قبل الوقت المكروه فأخّرها حتّى صلّى في الوقت المكروه فإنّها لا تصحّ وتجب إعادتها .
ولا يكره أن يصلّى على الجنازة بعد صلاة الفجر ، أو بعد صلاة العصر ، وكذا بعد طلوع الفجر ، وبعد الغروب قبل صلاة المغرب ، لكن يبدأ بعد الغروب بصلاة المغرب أوّلا ، ثمّ بالجنازة ثمّ بالسّنّة .
قال ابن نجيم : ولعلّه لبيان الأفضليّة ، وفي الحلية : الفتوى على تأخير صلاة الجنازة عن سنّة الجمعة ، فعلى هذا تؤخّر عن سنّة المغرب ، لأنّها آكد .
وقال ابن المبارك : معنى هذا الحديث « أو أن نقبر فيها موتانا » يعني الصّلاة على الجنازة ، وكرهها ابن المبارك عند طلوع الشّمس وعند غروبها ، وإذا انتصف النّهار حتّى تزول الشّمس " كما قال أبو حنيفة " وهو قول أحمد وإسحاق وهو قول مالك والأوزاعيّ وهو قول ابن عمر .
وقال الشّافعيّة : إذا وقع الدّفن في هذه الأوقات بلا تعمّد فلا يكره .
والنّهي عند الشّافعيّ محمول على الصّلوات الّتي لا سبب لها .
التّعزية ، والرّثاء ، وزيارة القبور ونحو ذلك :
45 - قال الطّحطاويّ : إذا فرغوا من دفن الميّت يستحبّ الجلوس ( المكث ) عند قبره بقدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه ، « فقد روى مسلم عن عمرو بن العاص أنّه قال : إذا دفنتموني فشنّوا عليّ التّراب شنّاً ، ثمّ أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتّى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربّي » يتلون القرآن ويدعون للميّت .
فقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنّه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه ، فقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التّثبيت فإنّه الآن يسأل».
وكان ابن عمر يستحبّ أن يقرأ على القبر بعد الدّفن أوّل سورة البقرة وخاتمتها .(215/14)
والتّلقين بعد الدّفن لا يؤمر به وينهى عنه . وظاهر الرّواية عند الحنفيّة يقتضي النّهي عنه ، وبه قالت المالكيّة فقد ذهبوا إلى أنّ التّلقين بعد الدّفن وحاله مكروه ، وإنّما يندب حال الاحتضار فقط ، واستحبّه الشّافعيّة فقالوا : والتّلقين هنا أن يقول الملقّن مخاطباً للميّت :
« يا فلان بن فلانة ، - إن كان يعرف اسم أمّه وإلاّ نسبه إلى حوّاء عليها السلام -، ثمّ يقول بعد ذلك اذكر العهد الّذي خرجت عليه من الدّنيا ، شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وأنّ الجنّة حقّ ، والنّار حقّ ، وأنّ البعث حقّ ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ، وأنّك رضيت باللّه ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ، وبالقرآن إماماً ، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً » .
وقال الحنابلة : استحبّ الأكثر تلقينه ، فيقوم عند رأسه بعد تسوية التّراب فيقول : " وذكروا نحو ما ذكرته الشّافعيّة من كلمات التّلقين " .
46 - قال كثير من متأخّري الحنفيّة : يكره الاجتماع عند صاحب الميّت حتّى يأتي إليه من يعزّي بل إذا رجع النّاس من الدّفن ليتفرّقوا ويشتغلوا بأمورهم ، وصاحب الميّت بأمره . ويكره الجلوس على باب الدّار للمصيبة ، فإنّ ذلك عمل أهل الجاهليّة ، ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك .وفي الدّرّ المختار : لا بأس بالجلوس للتّعزية في غير مسجد ثلاثة أيّام. قال ابن عابدين : استعمال لا بأس هنا على حقيقته فإنّه خلاف الأولى صرّح به في شرح المنية . أمّا في مسجد فيكره كما في البحر عن المجتبى ، وجزم به في شرح المنية والفتح . وهذا إذا لم يكن الجلوس مع ارتكاب محظور من فرش البسط ، واتّخاذ الأطعمة من أهل الميّت ، وإلاّ كانت بدعة مستقبحة ، كما في مراقي الفلاح وحواشيه .
ونقل في النّهر عن التّجنيس أنّه لا بأس بالجلوس لها ثلاثة أيّام ، وكونه على باب الدّار مع فرش بسط على قوارع الطّريق من أقبح القبائح .
قال ابن عابدين : الظّاهر أنّه لا تنتفي الكراهة بالجلوس في المسجد وقراءة القرآن ، حتّى إذا فرغوا قام وليّ الميّت وعزّاه النّاس كما يفعل في زماننا لكون الجلوس مقصوداً للتّعزية لا للقراءة ، ولا سيّما إذا كان هذا الاجتماع والجلوس في المصيبة ثلاثة أيّام جاءت الرّخصة فيه ، ولا تجلس النّساء قطعاً . وفرّق صاحب الظّهيريّة بين الجلوس في البيت أو المسجد والجلوس على باب الدّار ، فحكم على الأوّل أنّه لا بأس به وقال في الثّاني : يكره الجلوس على باب الدّار للتّعزية ، لأنّه عمل أهل الجاهليّة وقد نهي عنه ، وما يصنع في بلاد العجم من فرش البسط ، والقيام على قوارع الطّريق من أقبح القبائح ، ووافق الشّافعيّة الحنفيّة في كراهية الجلوس للتّعزية .
وكذا الحنابلة قالوا : كره جلوس مصاب لها ، وجلوس معزّية كذلك ، لا بقرب دار الميّت ليتبع الجنازة ، أو ليخرج وليّه فيعزّيه ، وقال المالكيّة : يباح الجلوس لقبول التّعزية .
47 - ويستحبّ التّعزية للرّجال والنّساء اللّاتي لا يفتنّ لقوله عليه الصلاة والسلام : « من عزّى أخاه بمصيبة كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة » .
وتفصيل باقي أحكام التّعزية ينظر في مصطلح : ( تعزية ) .
صنع الطّعام لأهل الميّت :
48 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ لجيران الميّت والأباعد من قرابته تهيئة طعام لأهل الميّت يشبعهم يومهم وليلتهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم » ويلحّ عليهم في الأكل ، لأنّ الحزن يمنعهم فيضعفهم ، وبه قالت المالكيّة ، إلاّ إذا اجتمعوا على محرّم من ندب ولطم ونياحة ، فلا يندب تهيئة الطّعام لهم . ويسنّ ذلك عند الحنابلة ثلاثاً لأهل الميّت لا لمن يجتمع عندهم ، فإنّه يكره لهم ، إلاّ أن يكونوا ضيوفاً .
واتّفق الفقهاء على أنّه تكره الضّيافة من أهل الميّت لأنّها شرعت في السّرور لا في الشّرور ، وهي بدعة مستقبحة ، وقال عليه الصلاة والسلام : « لا عقر في الإسلام » وهو الّذي كان يعقر عند القبر من إبل ، أو بقر ، أو شاة .
وصرّح الحنابلة بأنّه يكره الأكل من طعام أهل الميّت ، فإن كان من تركة وفي مستحقّيها محجور عليه حرّم فعله والأكل منه ، وكره الذّبح والأضحيّة عند القبر ، والأكل منه .
وصرّح الحنابلة والشّافعيّة ، بأنّه يحرم تهيئة الطّعام لنائحات ، لأنّه إعانة على المعصية ، وصرّح الحنفيّة بأنّه يكره اتّخاذ الطّعام في أيّام متعارف عليها كاليوم الأوّل ، والثّالث ، وبعد الأسبوع . ونقل الطّعام إلى القبر في المواسم ، واتّخاذ الدّعوة لقراءة القرآن ، وجمع الصّلحاء والقرّاء للختم ، أو لقراءة سورتي الأنعام والإخلاص .
على أنّه إذا اتّخذ الطّعام للفقراء كان حسناً ، وقال في المعراج : هذه الأفعال كلّها للسّمعة والرّياء ، فيحترز عنها ، لأنّهم لا يريدون به وجه اللّه تعالى .
وفي غاية المنتهى للحنابلة : ومن المنكر وضع طعام أو شراب على القبر ليأخذه النّاس .
وصول ثواب الأعمال للغير :
49 - ومن صام أو صلّى أو تصدّق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز ، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السّنّة والجماعة ، واستثنى مالك والشّافعيّ العبادات البدنيّة المحضة ، كالصّلاة والتّلاوة ، فلا يصل ثوابها إلى الميّت عندهما ، ومقتضى تحرير المتأخّرين من الشّافعيّة انتفاع الميّت بالقراءة لا حصول ثوابها له .
وللعلّامة ابن القيّم كلام مشبع في هذه المسألة ، فراجع كتاب الرّوح " له " .(215/15)
وقال بعض المالكيّة : إنّ القراءة تصل للميّت وأنّها عند القبر أحسن مزية .
وقال ابن قدامة : وأيّ قربة فعلها وجعل ثوابها للميّت المسلم نفعه ذلك إن شاء اللّه ، أمّا الدّعاء والاستغفار والصّدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات ممّا يدخله النّيابة ، وقد قال اللّه تعالى { والَّذينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهم يَقولونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنا ولإخْوَانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بالإيمَانِ } وقال تعالى : { واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللمؤمنينَ والمُؤمناتِ } « ودعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة حين مات » ، « وللميّت الّذي صلّى عليه في حديث عوف بن مالك ، ولكلّ ميّت صلّى عليه » ، « وسأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت فينفعها إن تصدّقت عنها ؟ قال : نعم » ، رواه أبو داود .
وروي ذلك عن سعد بن عبادة ، « وجاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّ فريضة اللّه في الحجّ أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الرّاحلة أفأحجّ عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم ، قال : فدين اللّه أحقّ أن يقضى »
وقال للّذي سأله « إنّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : نعم » .
وهذه أحاديث صحاح ، وفيها دلالة على انتفاع الميّت بسائر القرب ، لأنّ الصّوم والحجّ والدّعاء والاستغفار عبادات بدنيّة وقد أوصل اللّه نفعها إلى الميّت فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ " يس " ، وتخفيف اللّه تعالى عن أهل المقابر بقراءته ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص : « لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه ، أو تصدّقتم عنه ، أو حججتم عنه ، بلغه ذلك » وهذا عامّ في حجّ التّطوّع وغيره ، ولأنّه عمل برّ وطاعة ، فوصل نفعه وثوابه ، كالصّدقة ، والصّيام ، والحجّ الواجب ، وقال الشّافعيّ : ما عدا الواجب والصّدقة والدّعاء والاستغفار لا يفعل عن الميّت ، ولا يصل ثوابه إليه ، لقول اللّه تعالى : { وأنْ ليسَ للإنْسانِ إلاّ مَا سَعَى } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاثة : إلاّ من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له »
ولأنّ نفعه لا يتعدّى فاعله ، فلا يتعدّى ثوابه . وقال بعضهم : إذا قرئ القرآن عند الميّت أو أهدي إليه ثوابه كان الثّواب لقارئه ، ويكون الميّت كأنّه حاضرها وترجى له الرّحمة .(215/16)
جنابة *
التّعريف :
1 - الجنابة لغة : ضدّ القرب والقرابة ، وجنب الشّيء ، وتجنّبه ، وجانبه ، وتجانبه ، واجتنبه : بعد عنه ، والجنابة في الأصل : البعد ، ويقال : أجنب الرّجل وجنب - وزّان قرب - فهو جنب من الجنابة ، قال الأزهريّ : إنّما قيل له جنب ، لأنّه نهي أن يقرب مواضع الصّلاة ما لم يتطهّر ، فتجنّبها وأجنب عنها ، أي تنحّى عنها ، وقيل : لمجانبته النّاس ما لم يغتسل .
والجنب يستوي فيه الذّكر والأنثى ، والواحد ، والتّثنية ، والجمع ، لأنّه على صيغة المصدر. أمّا تعريفها اصطلاحاً فقد قال النّوويّ : تطلق الجنابة في الشّرع على من أنزل المنيّ ، وعلى من جامع ، وسمّي جنباً ، لأنّه يجتنب الصّلاة والمسجد والقراءة ويتباعد عنها ، وفي نهاية المحتاج : الجنابة شرعاً أمر معنويّ يقوم بالبدن يمنع صحّة الصّلاة حيث لا مرخّص .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحدث :
2 - الحدث لغة : الحالة النّاقضة للطّهارة شرعاً .
واصطلاحاً : الوصف الشّرعيّ الحكميّ الّذي يحلّ في الأعضاء ويزيل الطّهارة ، وقيل : الأسباب الّتي توجب الوضوء أو الغسل . فالحدث أعمّ من الجنابة ، لأنّها تختصّ بما يوجب الغسل . أمّا الحدث فيوجب الغسل أو الوضوء .
ب - الخبث :
3 - الخبث لغة : النّجس . واصطلاحاً : العين المستقذرة شرعاً أي النّجاسة الحقيقيّة . فالفرق بينه وبين الجنابة أنّها نجاسة معنويّة .
ج - النّجس :
4 - النّجس : اسم لكلّ مستقذر ، والنّجس ضدّ الطّاهر ، وهو لغة يعمّ الحقيقيّ والحكميّ ، وعرفا يختصّ بالحقيقيّ كالخبث ، فلا يقال في عرف الشّارع لمن وجب عليه الغسل إنّه نجس ، فبينهما تباين .
د - الطّهارة :
5 - الطّهارة لغة : النّزاهة والنّظافة ، واصطلاحاً : رفع ما يمنع الصّلاة وما في معناها من حدث أو نجاسة بالماء أو بالصّعيد الطّاهر ، فالطّهارة ضدّ الجنابة .
أسباب الجنابة :
للجنابة سببان :
6 - أحدهما : غيبوبة الحشفة أو قدرها من مقطوعها في قبل أو دبر امرأة أو رجل ، وسواء أحصل إنزال أم لم يحصل ، وهذا بالنّسبة للبالغين من الرّجال والنّساء باتّفاق ، قال الشّافعيّ : والعرب تسمّي الجماع - وإن لم يكن معه إنزال - جنابة ، والجنابة تحصل لمن وقع الوطء منه ، أو وقع عليه .
وزاد جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّ الجنابة تحصل بذلك ولو كان الوطء لغير مشتهى كميّتة وبهيمة .
وقال الحنفيّة : لا تحدث الجنابة بذلك إلاّ إذا كان مع الإيلاج إنزال ، لأنّ الفعل في ذلك ليس نظير الفعل في فرج الإنسان في السّببيّة ، وبالنّسبة لغير البالغين قال الشّافعيّة : يجنب الصّغير بإيلاجه على الوصف السّابق ، وكذا الصّغيرة تجنب بالإيلاج فيها ، وسواء في هذا المميّز وغيره ، وكذا قال الحنابلة ، إلاّ أنّهم قيّدوا ذلك بما إذا كان غير البالغ ممّن يجامع مثله وهو ابن عشر وبنت تسع ، قال الإمام أحمد : إن كان الواطئ صغيراً ، أو الموطوءة صغيرة وجب عليهما الغسل وقال : إذا أتى على الصّبيّة تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل ، وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع المرأة يكون عليهما جميعاً الغسل ؟ قال : نعم ، قيل له : أنزل أو لم ينزل ؟ قال : نعم .
قال ابن قدامة : وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب ، وهو قول أصحاب الرّأي وأبي ثور ، لأنّ الصّغيرة لا يتعلّق بها المأثم ، ولا هي من أهل التّكليف ، ولا تجب عليها الصّلاة الّتي تجب الطّهارة لها ، لكن قال ابن قدامة : لا يصحّ حمل كلام أحمد على الاستحباب لتصريحه بالوجوب ، واحتجّ بفعل عائشة رضي الله عنها وروايتها للحديث العامّ في الصّغير والكبير ، ولأنّها أجابت بفعلها وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقولها : « فعلته أنا ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا » فكيف تكون خارجة منه .
وبقول الحنابلة قال أشهب وسحنون من المالكيّة . لكن المعتمد عند المالكيّة أنّ الصّغير المطيق لا يجنب بإيلاجه أو الإيلاج فيه ، وكذا الصّغيرة المطيقة لا تجنب بالإيلاج فيها ، ويجنب البالغ بإيلاجه في الصّغيرة المطيقة ، وتجنب البالغة بإيلاج الصّغير فيها إذا أنزلت ، والقول بالغسل على الصّغير عند من قال به ليس معناه التّأثيم بتركه ، بل معناه أنّه شرط لصحّة الصّلاة والطّواف ، وهكذا . ولذلك لو أخّره لم يأثم ، وإنّما يبقى في حقّه شرطاً كما في حقّ الكبير ، حتّى إذا بلغ قبل أن يغتسل كان حكم الحدث في حقّه باقيا ويلزمه الغسل ، ويستوي في حصول الجنابة بالإيلاج أن يحدث ذلك مع نائم ، أو مجنون ، أو مكره .
أمّا بالنّسبة للخنثى المشكل ففيه خلاف ينظر في ( خنثى مشكل ، وغسل ) .
7- الثّاني : خروج المنيّ بشهوة من رجل أو امرأة ، سواء أكان عن احتلام أم استمناء ،
أم نظر ، أم فكر ، أم تقبيل ، أم غير ذلك ، وهذا باتّفاق .
واشتراط الشّهوة لحصول الجنابة هو ما قال به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، ولذلك لا تحصل الجنابة عندهم بخروجه لمرض ، أمّا الشّافعيّة فإنّ الجنابة تحصل عندهم بخروج المنيّ من مخرجه المعتاد مطلقا بشهوة أو غيرها .(216/1)
وخروج المنيّ بالنّسبة للمرأة هو بروزه إلى محلّ استنجائها ، وهو ما يظهر منها عند جلوسها لقضاء حاجتها وهذا ما قال به المالكيّة خلافاً لسند ، وهو قول الشّافعيّة بالنّسبة للثّيّب ، وقالوا بالنّسبة للبكر لو أنزلت المنيّ إلى فرجها لم يلزمها الغسل حتّى يخرج من فرجها ، لأنّ داخل فرجها في حكم الباطن ، ولهذا لا يلزمها تطهيره في الاستنجاء والغسل ، فأشبه إحليل الذّكر . ولم يفرّق الحنفيّة بين بكر وثيّب بل هي تجنب عندهم ولو لم يصل المنيّ إلى ظاهر فرجها . قالوا : لأنّ له داخلاً وخارجاً والخارج منهما له حكم الظّاهر .
ومن أحسّ بانتقال المنيّ عند الشّهوة فأمسك ذكره فلم يخرج المنيّ فلا يعتبر جنباً عند الجمهور ، وهو ظاهر قول الخرقيّ من الحنابلة وإحدى الرّوايتين عن أحمد ، والمشهور عند أحمد أنّه يعتبر جنباً ويجب عليه الغسل ، وأنكر أن يكون الماء يرجع ، ولم يذكر القاضي خلافاً في وجوب الغسل قال : لأنّ الجنابة تباعد الماء عن محلّه ، وقد وجد ، فتكون الجنابة موجودة فيجب الغسل بها ، ولأنّ الغسل تراعى فيه الشّهوة وقد حصلت بانتقاله فأشبه ما لو ظهر . واستدلّ ابن قدامة على عدم وجود الجنابة لعدم خروج المنيّ ، بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّق الاغتسال على الرّؤية وفضخه بقوله : « إذا رأت الماء » « و إذا فضخت الماء فاغتسل » فلا يثبت الحكم بدونه ، ولا يجوز أن يسمّى جنباً لمجانبته الماء ، ولا يحصل إلاّ بخروجه منه .
وكلام أحمد إنّما يدلّ على أنّ الماء إذا انتقل لزم منه الخروج وإنّما يتأخّر . ويعتبر جنباً من انتقل منيّه من محلّه بشهوة وخرج لا عن شهوة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي حنيفة ومحمّد خلافاً لأبي يوسف ، إذ المعتبر عنده هو الانفصال مع الخروج عن شهوة .
ما ترتفع به الجنابة :
8 - سبق بيان أنّ الجنابة تكون بالجماع ولو بدون إنزال أو بخروج المنيّ من غير جماع على التّفصيل السّابق ، وترتفع الجنابة بما يأتي :
أ - بالغسل ، والدّليل على وجوب الغسل من الجماع ولو من غير إنزال قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان فقد وجب الغسل » متّفق عليه وزاد مسلم : « وإن لم ينزل » . والمراد بالتقاء الختانين تغييب الحشفة في الفرج ، وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة ، قال النّوويّ : وبهذا قال جمهور العلماء من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم ، وكان الحكم على خلاف ذلك فنسخ كما قال النّوويّ وابن قدامة ، والآثار الّتي رويت عن الصّحابة قالوها قبل أن يبلغهم النّسخ ، قال سهل بن سعد السّاعديّ حدّثني أبيّ بن كعب أنّ « الماء من الماء » كان رخصة أرخص فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ نهى عنها . وينظر تفصيل ذلك في ( غسل ) .
والدّليل على وجوب الغسل بنزول المنيّ من غير جماع ما روته أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : « جاءت أمّ سليم امرأة أبي طلحة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه : إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت . قال : نعم إذا رأت الماء » .
9 - ب - التّيمّم : اختلف الفقهاء في أنّ التّيمّم هل هو رافع للجنابة ، أو غير رافع لها ؟ ومع اختلاف الفقهاء في ذلك إلاّ أنّهم متّفقون في الجملة على أنّ التّيمّم يباح به ما يباح بالغسل من الجنابة .
فذهب الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة وابن تيميّة وهو رواية عن أحمد واختارها ابن الجوزيّ إلى أنّ التّيمّم يرفع الحدث ، لأنّه بدل مطلق عن الماء ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسّه بشرته فإنّ ذلك خير » فقد سمّى التّيمّم وضوءا ، والوضوء مزيل للحدث ، وقال صلى الله عليه وسلم : « جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً » ، والطّهور اسم للمطهّر فدلّ على أنّ الحدث يزول بالتّيمّم ، إلاّ أنّ زواله مؤقّت إلى غاية وجود الماء ، فإذا وجد الماء يعود الحدث السّابق ، ولكن في المستقبل لا في الماضي ، فلم يظهر في حقّ الصّلاة المؤدّاة ، ولهذا يجوز التّيمّم قبل دخول الوقت عند الحنفيّة ، وقال القرافيّ : الحدث هو المنع الشّرعيّ من الصّلاة ، وهذا الحدث الّذي هو المنع متعلّق بالمكلّف ، وهو بالتّيمّم قد أبيحت له الصّلاة إجماعاً وارتفع المنع إجماعاً ، لأنّه لا منع مع الإباحة فإنّهما ضدّان والضّدّان لا يجتمعان ، وإذا كانت الإباحة ثابتة قطعا ، والمنع مرتفع قطعا كان التّيمّم رافعاً للحدث قطعاً . والمشهور عند المالكيّة والصّحيح عند الشّافعيّة وعند الحنابلة - غير من ذكر - أنّ التّيمّم لا يرفع الحدث ، لأنّه بدل ضروريّ ، أو طهارة ضرورة ، ولما روى عمران بن حصين « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى ثمّ رأى رجلاً معتزلاً لم يصلّ مع القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلّي مع القوم ؟ فقال : يا رسول اللّه أصابتني جنابة ولا ماء فقال : عليك بالصّعيد فإنّه يكفيك ، فلمّا حضر الماء أعطى النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الرّجل إناء من ماء فقال اغتسل به » . وحديث « عمرو بن العاص حين تيمّم وهو جنب وصلّى بالنّاس فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : صلّيت بأصحابك وأنت جنب » .(216/2)
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه أنّه كان يعزب في الإبل وتصيبه الجنابة فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : « إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسّه بشرته » . قال النّوويّ : وكلّها أحاديث صحاح ظاهرة في أنّ الحدث ما ارتفع ، إذ لو ارتفع لم يحتج إلى الاغتسال .
ما يحرم فعله بسبب الجنابة :
10 - يحرم على الجنب الصّلاة سواء أكانت فرضاً أم نفلاً ، لأنّ الطّهارة شرط صحّة الصّلاة ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طهور » .
وهذا باتّفاق . ويشمل ذلك سجدة التّلاوة وصلاة الجنازة .
11 - ويحرّم كذلك الطّواف فرضاً كان أو نفلاً ، لأنّه في معنى الصّلاة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الطّواف بالبيت صلاة إلاّ أنّ اللّه أحلّ لكم فيه الكلام » ولذلك لا يصحّ الطّواف ممّن كان جنباً ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، أمّا عند الحنفيّة فإنّ طواف الجنب صحيح ولكن عليه بدنة ، لأنّ الطّهارة في الطّواف عندهم ليست شرطاً وإنّما هي واجبة ، وقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال : البدنة تجب في الحجّ في موضعين : إذا طاف جنباً ، والثّاني : إذا جامع بعد الوقوف .
12 - ويحرم على الجنب مسّ المصحف بيده أو بشيء من جسده ، سواء أكان مصحفاً جامعاً للقرآن ، أم كان جزءاً أم ورقاً مكتوباً فيه بعض السّور ، وكذا مسّ جلده المتّصل به ، وذلك لقوله تعالى : { لا يَمَسُّه إلاّ المُطَهَّرُونَ } وفي كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : « أن لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر » .
13 - ويحرم على الجنب كذلك حمل القرآن إلاّ إذا كان بأمتعة ، والأمتعة هي المقصودة ، أو كان حمله لضرورة ، كخوف عليه من نجاسة أو غير ذلك .
وأجاز الحنابلة حمله بعلّاقة ، قال ابن قدامة : يجوز حمل المصحف بعلّاقته وهذا قول أبي حنيفة وروي ذلك عن الحسن وعطاء وطاوس والشّعبيّ والقاسم وأبي وائل والحكم وحمّاد ; لأنّه غير ماسّ له كما لو حمله في رحله .
14 - ويحرم عند الحنفيّة مسّ كتب التّفسير ، لأنّه يصير بمسّها ماسّاً للقرآن ، وهو قول ابن عرفة من المالكيّة ، والعبرة عند الشّافعيّة بالقلّة والكثرة ، فإن كان القرآن أكثر كبعض كتب غريب القرآن حرم مسّه ، وإن كان التّفسير أكثر لا يحرم مسّه في الأصحّ .
وأجاز ذلك المالكيّة - غير ابن عرفة - والحنابلة لأنّه لا يقع عليها اسم مصحف .
15 - ويحرم عند الحنفيّة وفي وجه للشّافعيّة والحنابلة مسّ الدّراهم الّتي عليها شيء من القرآن ، لأنّ الدّراهم كالورقة الّتي كتب فيها قرآن ، وكره ذلك عطاء والقاسم والشّعبيّ ، وأجاز ذلك المالكيّة ، وهو الأصحّ من وجهين مشهورين عند الشّافعيّة وفي وجه عند الحنابلة ، لأنّه لا يقع عليها اسم المصحف فأشبهت كتب الفقه ، ولأنّ في الاحتراز من ذلك مشقّة ، والحاجة تدعو إلى ذلك ، والبلوى تعمّ ، فعفي عنه .
16 - ويحرم على الجنب أن يكتب القرآن ، وذلك عند المالكيّة ، وهو وجه مشهور عند الشّافعيّة ، وقال محمّد بن الحسن : أحبّ إليّ أن لا يكتب ، لأنّ كتابة الحروف تجري مجرى القراءة .
17 - ويحرم على الجنب قراءة القرآن عند عامّة العلماء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلاّ الجنابة وعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال :
« لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن » . وروي عن ابن عبّاس وسعيد بن المسيّب أنّه يجوز للجنب قراءة كلّ القرآن . قال القاضي أبو الطّيّب وابن الصّبّاغ وغيرهما : اختاره ابن المنذر ويجوز عند الجميع تلاوة ما لم يقصد به القرآن كالأدعية والذّكر البحت .
18 - ويحرم على الجنب دخول المسجد واللّبث فيه ، وأجاز الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة عبوره ، للاستثناء الوارد في قوله تعالى : { ولا جُنُبَاً إلاّ عَابِري سَبيلٍ } .
ومنع الحنفيّة وهو المذهب عند المالكيّة العبور إلاّ بالتّيمّم .
19 - ويحرم الاعتكاف للجنب لقوله تعالى : { ولا جُنُبَاً إلاّ عَابِري سَبيلٍ } .
وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( اعتكاف ) .
ما يستحبّ وما يباح للجنب :
20 - يباح للجنب الذّكر والتّسبيح والدّعاء لما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ أحيانه » .
21 - يستحبّ للجنب إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يشرب أو يطأ ثانياً أن يغسل فرجه ويتوضّأ وضوءه للصّلاة ، وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول عند المالكيّة : لما روى مسلم : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضّأ وضوءه ». وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أتى أحدكم أهله ثمّ أراد أن يعود فليتوضّأ بينهما وضوءاً » رواه مسلم .
وفي القول الثّاني للمالكيّة : أنّ الوضوء للنّوم أو لمعاودة الأهل واجب ، لأنّ الجنب مأمور بالوضوء قبل النّوم ، فهل الأمر للإيجاب أو للنّدب ؟ قولان .(216/3)
وأجاز الحنفيّة للجنب إذا أراد النّوم أو معاودة الأهل الوضوء وعدمه ، قال الكاسانيّ : لا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله ، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : « يا رسول اللّه أينام أحدنا وهو جنب ؟ قال : نعم » ، ويتوضّأ وضوءه للصّلاة ، وله أن ينام قبل أن يتوضّأ وضوءه للصّلاة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمسّ ماء » ولأنّ الوضوء ليس بقربة بنفسه وإنّما هو لأداء الصّلاة ، وليس في النّوم ذلك - وهو قول ابن المسيّب .
لكن استحبّ الحنفيّة بالنّسبة للأكل والشّرب لمن كان جنباً أن يتمضمض ويغسل يديه ، وهو قول ابن المسيّب ، وحكي ذلك عن الإمام أحمد وإسحاق ، وقال مجاهد : يغسل كفّيه .
22 - يصحّ من الجنب أداء الصّوم بأن يصبح صائماً قبل أن يغتسل فإنّ « عائشة وأمّ سلمة قالتا : نشهد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن كان ليصبح جنباً من غير احتلام ثمّ يغتسل ثمّ يصوم » .
23 - يصحّ أذان الجنب مع الكراهة وهذا في الجملة .
وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( أذان ) .
24 - تجوز خطبة الجمعة ممّن كان جنباً مع الكراهة عند المالكيّة ، وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو قول الإمام أحمد ، وفي القديم عند الشّافعيّة ، لأنّ الطّهارة في خطبة الجمعة سنّة عند هؤلاء وليست شرطاً ، ولأنّها من باب الذّكر ، والجنب لا يمنع من الذّكر ، فإن خطب جنباً واستخلف في الصّلاة أجزأه ، كما يقول المالكيّة ، وقال الإمام أحمد فيمن خطب وهو جنب ثمّ اغتسل وصلّى بهم أجزأه ، وفي الجديد عند الشّافعيّة وهو الأشبه بأصول مذهب الحنابلة ، كما قال ابن قدامة أنّ الطّهارة من الجنابة شرط فلا تصحّ الخطبة بدونها . وينظر تفصيل ذلك في : ( صلاة الجمعة ، خطبة ) .
أثر الجنابة في الصّوم :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجنابة إذا كانت بالجماع عمداً في نهار رمضان فإنّها تفسد الصّوم ، وتجب الكفّارة ، وكذلك القضاء ، إلاّ في قول عند الشّافعيّة أنّه لا يجب القضاء مع الكفّارة ، لأنّ الخلل الحاصل قد انجبر بالكفّارة ، وفي قول آخر للشّافعيّة أنّ القضاء لا يسقط إلاّ إن كفّر بالصّوم ، ولكن الأصحّ عندهم أنّ القضاء واجب مع الكفّارة .
والدّليل على وجوب الكفّارة ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول اللّه هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال لا . قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال لا . قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكينا ؟ قال لا . قال فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق : المكتل - قال : أين السّائل ؟ فقال أنا . قال : خذ هذا فتصدّق به . فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ؟ فواللّه ما بين لابتيها - يريد الحرّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي . فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ثمّ قال : أطعمه أهلك » .
والكفّارة فيما سبق إنّما تجب إذا كان الجماع عمداً ، فإن كان نسياناً فلا تجب الكفّارة عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وفي قول عن الإمام أحمد لكن ظاهر مذهب الحنابلة أنّ العمد والنّسيان سواء في وجوب الكفّارة والقضاء ، كما أنّه لا يجب القضاء بالنّسيان أيضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وفي قول عند الحنابلة ،
قال الحنفيّة : عدم وجوب القضاء استحسان ، لأنّه لم يفطر ، والقياس وجوب القضاء .
وعند المالكيّة وهو القول الآخر للحنابلة يجب القضاء .
ولا تجب الكفّارة بالجماع عمداً في صوم غير رمضان وهذا باتّفاق .
26 - أمّا إذا كانت الجنابة بالإنزال بغير جماع في نهار رمضان . فإن كان عن احتلام فلا يفسد الصّوم بالإجماع لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ثلاث لا يفطرن الصّائم : الحجامة ، والقيء والاحتلام » . ولأنّه لا صنع له فيه ، وإن كانت الجنابة بالإنزال عن تعمّد بمباشرة فيما دون الفرج ، أو قبلة ، أو لمس بشهوة ، أو استمناء فسد الصّوم عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وعامّة مشايخ الحنفيّة ، وبفساد الصّوم يجب القضاء دون الكفّارة عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وظاهر مذهب الحنابلة ، ومقابل المعتمد عند المالكيّة ، والمعتمد عند المالكيّة وجوب الكفّارة مع القضاء ، وهو قول للإمام أحمد ، والرّجل والمرأة في ذلك سواء. أمّا الجنابة الّتي تكون بالإنزال عن نظر أو فكر فلا تفسد الصّوم عند الحنفيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة والحنابلة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلّم » .
وفي قول عند الشّافعيّة : إن كرّر النّظر فأنزل فسد صومه ، وهو قول الإمام أحمد ، وفي قول آخر عند الشّافعيّة : إن اعتاد الإنزال بالنّظر فسد صومه ، وحكي عن أبي حفص البرمكيّ من الحنابلة أنّه لو فكّر فأنزل فسد صومه ، واختاره ابن عقيل .
وعند المالكيّة إن داوم الفكر أو النّظر فأنزل فعليه القضاء والكفّارة ، وإن كانت عادته عدم الإنزال فأنزل فسد صومه ، وفي وجوب الكفّارة وعدمها قولان ، وإن لم يدم النّظر أو الفكر فأنزل فعليه القضاء فقط ، إلاّ إذا كانت عادته الإنزال فقولان في الكفّارة وعدمها .
أثر الجنابة في الحجّ :(216/4)
27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجنابة إذا كانت بجماع فإن كانت قبل الوقوف بعرفة فسد الحجّ وعليه المضيّ فيه والقضاء ، وعليه بدنة عند الجمهور ، وشاة عند الحنفيّة .
ويستوي في هذا الرّجل والمرأة ، والعمد والنّسيان عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وفي القديم عند الشّافعيّة ، وفي الجديد لا يفسد بالجماع نسياناً .
وإن كانت الجنابة بالجماع بعد الوقوف بعرفة فعند الحنفيّة لا يفسد الحجّ وعليه بدنة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الحجّ عرفة » فمن وقف بعرفة فقد تمّ حجّه .
وعند الشّافعيّة والحنابلة في الجملة ، إن كانت الجنابة بالجماع بعد الوقوف بعرفة وقبل التّحلّل الأوّل فسد الحجّ ويجب المضيّ فيه وعليه القضاء مع وجوب بدنة عند الحنابلة وشاة عند الشّافعيّة ، وإن كانت الجنابة بعد التّحلّل الأوّل لم يفسد الحجّ عندهما وعليه كفّارة ، قيل بدنة وقيل شاة . ولا يفسد الحجّ بالجنابة بغير الجماع كأن كان بمباشرة أو قبلة أو لمس ، وسواء أكانت الجنابة بذلك قبل الوقوف بعرفة أم بعده مع وجوب الكفّارة على الخلاف هل هي بدنة أو شاة ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وقد فصّل المالكيّة القول فقالوا : إنّ الحجّ يفسد بالجنابة بالجماع ومقدّماته سواء أكان ذلك عمدا أم سهوا وذلك إن وقعت الجنابة على الوجه الآتي .
أ - إذا كانت قبل الوقوف بعرفة .
ب - إذا كانت في يوم النّحر " أي بعد الوقوف بعرفة " . ولكن قبل رمي جمرة العقبة وقبل الطّواف . ولا يفسد الحجّ إن وقع الجماع أو مقدّماته يوم النّحر بعد رمي جمرة العقبة أو بعد الطّواف . أو وقع الجماع أو مقدّماته بعد يوم النّحر ولو قبل الطّواف والرّمي وعليه الهدي . وإذا فسد الحجّ عليه المضيّ فيه والقضاء .
والعمرة تفسد بما سبق بيانه في المذاهب قبل التّحلّل منها عند الجمهور ، وعند الحنفيّة قبل أن يطوف أربعة أشواط ، فإن كانت الجنابة بعد طواف أربعة أشواط فلا تفسد وعليه شاة . وفي كلّ ما سبق تفصيلات كثيرة تنظر في ( حجّ ، عمرة ، إحرام ) .(216/5)
جنون *
التّعريف :
1 - الجنون في اللّغة : مصدر جنّ الرّجل بالبناء للمجهول ، فهو مجنون : أي زال عقله أو فسد ، أو دخلته الجنّ ، وجنّ الشّيء عليه : ستره .
وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفه الفقهاء والأصوليّون بعبارات مختلفة منها : أنّه اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلاّ نادراً .
وقيل : الجنون اختلال القوّة المميّزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا تظهر آثارها ، وأن تتعطّل أفعالها .
وعرّفه صاحب البحر الرّائق بأنّه : اختلال القوّة الّتي بها إدراك الكلّيّات .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّهش :
2 - الدّهش في اللّغة : مصدر دهش ، يقال دهش الرّجل أي تحيّر ، أو ذهب عقله من ذهل أو وله ، ودهش أيضاً على ما لم يسمّ فاعله فهو مدهوش .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين فهم يطلقونه على المتحيّر وعلى ذاهب العقل ، وقد جعل الحنفيّة المدهوش الّذي ذهب عقله داخلاً في المجنون .
ب - العته :
3 - العته في اللّغة : نقصان العقل من غير جنون أو دهش . وهو عند الفقهاء والأصوليّين آفة توجب خللاً في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، وكذا سائر أموره .
والفرق بين الجنون والعته ، أنّ المعتوه قليل الفهم مختلط الكلام ، فاسد التّدبير ، لكن لا يضرب ولا يشتم بخلاف المجنون .
وصرّح الأصوليّون بأنّ حكم المعتوه حكم الصّبيّ المميّز ، إلاّ أنّ الدّبوسيّ قال : تجب عليه العبادات احتياطاً ، وقال صدر الإسلام : إنّ العته نوع جنون فيمنع أداء الحقوق جميعاً .
ج - السّفه :
4 - السّفه لغة : نقص في العقل ، وأصله الخفّة والتّحرّك ، يقال : تسفّهت الرّياح الثّوب : إذا استخفّته ، وحرّكته ، ومنه زمام سفيه أي خفيف .
وفي اصطلاح الفقهاء : خفّة تبعث الإنسان على العمل في ماله بخلاف مقتضى العقل والشّرع مع قيام العقل حقيقة . قال الحنفيّة : فالسّفه لا يوجب خللاً ،ولا يمنع شيئاً من أحكام الشّرع. وقيل السّفه صفة لا يكون الشّخص معها مطلق التّصرّف كأن يبلغ مبذّراً يضيّع المال في غير وجهه الجائز ، وأمّا عرفاً : فهو بذاءة اللّسان والنّطق بما يستحيا منه . وفي جواهر الإكليل : السّفيه : البالغ العاقل الّذي لا يحسن التّصرّف في المال فهو خلاف الرّشيد .
د - السكر :
5 - اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف السّكر : فعند أبي حنيفة والمزنيّ من الشّافعيّة : السّكر نشوة تزيل العقل ، فلا يعرف السّماء من الأرض ، ولا الرّجل من المرأة ، وصرّح ابن الهمام بأنّ تعريف السّكر بما مرّ إنّما هو في السّكر الموجب للحدّ ، وأمّا تعريفه في غير وجوب الحدّ فهو عند أئمّة الحنفيّة كلّهم : اختلاط الكلام والهذيان . ويقرب من هذا تعريف الشّافعيّ للسّكران : بأنّه الّذي اختلط كلامه المنظوم ، وانكشف سرّه المكتوم .
وقال ابن سريج : الرّجوع فيه إلى العادة ، فإذا انتهى تغيّره إلى حالة يقع عليه فيها عادة اسم السّكران ، فهو المراد بالسّكران ، قال الرّافعيّ وهو الأقرب .
وقيل : السّكر حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة من الخمر ونحوه ، فيتعطّل معه العقل المميّز بين الأمور الحسنة والقبيحة .
هـ - الصّرع :
6 - الصّرع لغة : علّة تمنع الدّماغ من فعله منعا غير تامّ ، فتتشنّج الأعضاء .
أقسام الجنون :
7 - جاء في كشف الأسرار : الجنون يكون أصليّاً إذا كان لنقصان جبل عليه دماغه وطبع عليه في أصل الخلقة فلم يصلح لقبول ما أعدّ لقبوله من العقل ، وهذا النّوع ممّا لا يرجى زواله . ويكون عارضاً : إذا زال الاعتدال الحاصل للدّماغ خلقة إلى رطوبة مفرطة ، أو يبوسة متناهية ، وهذا النّوع ممّا يرجى زواله بالعلاج بما خلق اللّه تعالى من الأدوية . والجنون الأصليّ لا يفارق العارض في شيء من الأحكام .
8- وينقسم الجنون أيضاً إلى مطبق وغير مطبق : والمراد بالمطبق الملازم الممتدّ . والامتداد ليس له ضابط عامّ بل يختلف باختلاف العبادات ، كما صرّح به ابن الهمام من الحنفيّة حيث قال : إنّ قدر الامتداد المسقط في الصّلوات بالزّيادة على يوم وليلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف وبصيرورتها ستّاً عند محمّد ، وفي الصّوم باستغراق الشّهر ليله ونهاره ، وفي الزّكاة باستغراق الحول كلّه في الأصحّ ، وغير الممتدّ ما كان أقلّ من ذلك .
فالجنون إن كان ممتدّاً سقط معه وجوب العبادات فلا تشغل بها ذمّته ، وإن كان غير ممتدّ وهو طارئ لم يمنع التّكليف ولا ينفي أصل الوجوب ، لأنّ الوجوب بالذّمّة ، وهي ثابتة ، ولذلك يرث ويملك ، وإن كان غير ممتدّ ، وكان أصليّاً فحكمه عند محمّد حكم الممتدّ ، لأنّه ناط الإسقاط بالكلّ من الامتداد والأصالة ، وقال أبو يوسف : حكمه حكم الطّارئ فيناط الإسقاط بالامتداد .
أثر الجنون في الأهليّة :
9 - الجنون من عوارض أهليّة الأداء وهو يزيلها من أصلها ، فلا تترتّب على تصرّفاته آثارها الشّرعيّة ، لأنّ أساس أهليّة الأداء في الإنسان التّمييز والعقل ، والمجنون عديم العقل والتّمييز . ولا يؤثّر الجنون في أهليّة الوجوب ، لأنّها ثابتة لكلّ إنسان ، فكلّ إنسان أيّاً كان له أهليّة الوجوب ، لأنّ أهليّته للوجوب هي حياته الإنسانيّة .
وما وجب على المجنون بمقتضى أهليّته للوجوب من واجبات ماليّة يؤدّيها عنه وليّه .
فإذا جنى على نفس أو مال يؤاخذ ماليّاً لا بدنيّاً ، ففي القتل يضمن دية القتيل ولا يقتصّ منه ، لقول عليّ رضي الله عنه : " عمد الصّبيّ والمجنون خطأ " وكذلك يضمن ما أتلفه من مال الغير . وتفصيله في الملحق الأصوليّ .(217/1)
أثر الجنون في العبادات البدنيّة :
أ - في الوضوء والتّيمّم :
10 - أجمع الفقهاء على أنّ الجنون قليلاً كان أو كثيراً ناقص للوضوء .
كما صرّحوا بأنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التّيمّم أيضاً .
ب - أثر الجنون في سقوط الصّلاة :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المجنون غير مكلّف بأداء الصّلاة في حال جنونه ، فلا تجب الصّلاة على مجنون لا يفيق ، لأنّ أهليّة الأداء تفوت بزوال العقل . لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يعقل » .
واختلفوا في وجوب القضاء عليه بعد الإفاقة : فذهب الحنفيّة ما عدا محمّداً إلى أنّ من جنّ يوما وليلة ، ثمّ أفاق قضى الخمس ، وإن زاد الجنون وقت صلاة سادسة لا يقضي ، لأنّ ذلك يدخل في التّكرار فسقط القضاء للحرج ، وقال محمّد : يسقط القضاء إذا صارت الصّلوات ستّاً ودخل في السّابعة ، لأنّ ذلك هو الّذي يحصل به التّكرار .
وأمّا أبو حنيفة وأبو يوسف فأقاما الوقت في دخول الصّلوات في حدّ التّكرار مقام الصّلاة تيسيرا ، فتعتبر الزّيادة بالسّاعات .
ويرى المالكيّة أنّ الجنون إذا ارتفع ، وقد بقي من الوقت ما يسع أقلّ من ركعة سقطت الصّلاتان ، هذا إذا كان في وقت مشترك بين الصّلاتين .
وإن بقي ما يسع ركعة فأكثر إلى تمام صلاة واحدة وجبت الأخيرة وسقطت الأولى ، وإن بقي زيادة على ذلك بمقدار ركعة من الصّلاة الأخرى وجبت الصّلاتان ، وإن ارتفع في وقت مختصّ بصلاة واحدة وجبت المختصّة بالوقت .
وقد فصّل الشّافعيّة الكلام فقالوا : الجنون مانع من وجوب الصّلاة وله ثلاثة أحوال :
1 - لا تجب على المجنون الصّلاة ولا قضاؤها إذا استغرق الوقت جميعاً ، قلّ الجنون أو كثر .
2 - أن يوجد في أوّل الوقت ، ويخلو آخره : فينظر إن بقي الوقت قدر ركعة ، وامتدّت السّلامة من الجنون قدر إمكان الطّهارة ، وتلك الصّلاة ، لزمه فرض الوقت .
3 - أن يخلو أوّل الوقت أو أوسطه عن الجنون ثمّ يطرأ ، ففي القدر الماضي من الوقت : إن كان قدرا يسع تلك الصّلاة وجب القضاء على المذهب .
وخرج ابن سريج قولاً : أنّه لا يجب إلاّ إذا أدرك جميع الوقت ، أمّا إذا كان الماضي من الوقت لا يسع تلك الصّلاة ، فلا يجب على المذهب ، وبه قطع جمهور الشّافعيّة .
وأمّا عند الحنابلة فلا يقضي المجنون الصّلاة إذا أفاق لعدم لزومها له ، إلاّ أن يفيق في وقت الصّلاة فيصير كالصّبيّ يبلغ ، وذلك لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة ... » الحديث ولأنّ مدّته تطول غالباً ، فوجوب القضاء عليه يشقّ فعفي عنه .
ج - أثر الجنون في الصّوم :
12 - اتّفق الأئمّة على أنّ الجنون مسقط للصّوم إذا كان مطبقاً ، وذلك بأن يمتدّ إلى أن يستغرق شهر رمضان ، لأنّه لم يشهد الشّهر ، وهو السّبب لوجوب الصّوم ، ولذا فلا يجب الصّوم على المجنون . واختلفوا في وجوب القضاء عليه إذا أفاق في جزء من شهر رمضان ، فذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية إلى وجوب القضاء سواء أفاق ليلاً أم نهاراً ، لأنّه شهد الشّهر ، إذ المراد من قوله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكم الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه ... } شهود بعضه ، لأنّه لو أراد شهود كلّه لوقع الصّوم بعد رمضان ، وأنّه خلاف الإجماع .
قال في شرح كشف الأسرار : ذكر في الكامل نقلا عن شمس الأئمّة الحلوانيّ ، إنّه إن كان مفيقاً في أوّل ليلة من رمضان فأصبح مجنوناً ، واستوعب الجنون باقي الشّهر لا يجب عليه القضاء وهو الصّحيح ، لأنّ اللّيل لا يصام فيه ، فكان الجنون والإفاقة فيه سواء ، وكذا لو أفاق في ليلة من الشّهر ثمّ أصبح مجنوناً .
وفرّق محمّد بن الحسن في حكم الجنون بين ما إذا كان أصليّاً وما إذا كان عارضاً بعد البلوغ ، وهذا ما اختاره بعض المتأخّرين من الحنفيّة ، وفي الشرنبلالية : ليس على المجنون الأصليّ قضاء ما مضى من الأيّام قبل إفاقته في الأصحّ .
وخلاصة القول : أنّه إذا استوعب الجنون الشّهر كلّه لا قضاء عليه بلا خلاف مطلقاً ، وإلاّ ففيه الخلاف المذكور .
ويرى المالكيّة أنّ المجنون لا يصحّ صومه ولكن لا يجب القضاء عليه في المشهور ، وقيل : لا يجب عليه قضاء ما كثر من السّنين .
وهناك قول ثالث عندهم وهو : أنّه إن بلغ مجنونا لم يقض بخلاف من بلغ صحيحاً ثمّ جنّ . وذهب الشّافعيّة في الأصحّ وهو قول زفر من الحنفيّة إلى أنّ المجنون لو أفاق في بعض شهر رمضان لم يجب عليه قضاء ما مضى كالصّبيّ إذا بلغ ، أو الكافر إذا أسلم في خلال الشّهر .
ويرى الحنابلة وهو وجه عند الشّافعيّة أنّ الجنون حكمه حكم الإغماء ، أي يمنع صحّة الصّوم ، إلاّ أنّه إذا وجد في جميع النّهار لم يجب قضاؤه .
د - أثر الجنون في الحجّ :
13 - الجنون كما سبق من عوارض الأهليّة ، فالمجنون لا يتأتّى منه أداء أفعال الحجّ ، وكذلك لو وقف بعرفة وهو مجنون ولم يفق حتّى خرج منها لم يجزئه ، ثمّ العقل شرط لصحّة التّكليف عند الحنفيّة في الأظهر والحنابلة ، فلا يصحّ أن يحرم الوليّ عن المجنون ، ولكن لو وجب الحجّ على المجنون قبل طروّ جنونه صحّ الإحجاج عنه ، وأمّا عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنفيّة فشرط الصّحّة المطلقة الإسلام وليس العقل ، فيجوز للوليّ أن يحرم عن المجنون . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حجّ ) .
هـ - أثر الجنون في الزّكاة :(217/2)
14 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه تجب الزّكاة في مال المجنون ويخرجها الوليّ من ماله ، فإن لم يخرج ، أخرج المجنون بعد الإفاقة زكاة ما مضى ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من ولي يتيماً له مال ، فليتّجر له ، ولا يتركه حتّى تأكله الصّدقة » وروي موقوفاً على عمر رضي الله عنه ، وإنّما تأكله الصّدقة بإخراجها ، وإنّما يجوز للوليّ إخراجها إذا كانت واجبة ، لأنّه ليس له أن يتبرّع بمال اليتيم ، ولأنّ الشّارع جعل ملك النّصاب سببا في الزّكاة والنّصاب موجود ، والخطاب بإخراجها يتعلّق بالوليّ . والمجنون والصّبيّ سواء في هذا الحكم .
ويروى ذلك عن جماعة من كبار الصّحابة فيهم عمر ، وعليّ ، وابن عمر ، وعائشة ، والحسن بن عليّ ، وجابر رضي الله عنهم ، وبه قال جابر بن زيد ، وابن سيرين ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق وأبو ثور وغيرهم .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا زكاة في مال المجنون ، لأنّه غير مخاطب بالعبادة ، والزّكاة من أعظم العبادات ، فلا تجب عليه كالصّلاة والحجّ ولقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يعقل » . وقال عليّ رضي الله تعالى عنه : لا تجب عليه الزّكاة حتّى تجب عليه الصّلاة ، وإليه ذهب الحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، وأبو وائل ، والنّخعيّ .
وحدّ امتداد الجنون في حقّ الزّكاة عندهم أن يستغرق الحول ، وروى هشام عن أبي يوسف أنّ امتداده في حقّ الزّكاة بأكثر السّنة ونصف السّنة ملحق بالأقلّ ، لأنّ كلّ وقتها الحول ، إلاّ أنّه مديد جدّاً ، فقدّر بأكثر الحول عملا بالتّيسير والتّخفيف ، فإنّ اعتبار أكثر السّنة أيسر وأخفّ على المكلّف ، وإذا بلغ الصّبيّ مجنوناً ، وهو مالك لنصاب فزال جنونه بعد مضيّ ستّة أشهر ثمّ تمّ الحول من وقت البلوغ وهو مفيق ، وجبت عليه الزّكاة عند محمّد ، لأنّه يفرّق بين الجنون الأصليّ والعارض ، ولا تجب عند أبي يوسف ، بل يستأنف الحول من وقت الإفاقة ، لأنّه بمنزلة الصّبيّ الّذي بلغ الآن عنده ، ولو كان الجنون عارضاً فزال بعد ستّة أشهر ، تجب الزّكاة بالإجماع ، لأنّه زال قبل الامتداد عند الكلّ .
ويحكى عن ابن مسعود ، والثّوريّ ، والأوزاعيّ أنّهم قالوا : تجب الزّكاة في الحال ، لكنّه لا يخرج حتّى يفيق . وتفصيله في مصطلح : ( إفاقة ) .
أمّا زكاة زرع المجنون فلا خلاف في وجوبها فيه ، وكذلك صدقة الفطر عند الجمهور ، وقال محمّد وزفر من الحنفيّة : لا تجب صدقة الفطر في مال المجنون فيضمنها الوليّ والوصيّ لو أدّياها من ماله .
و - أثر الجنون في التّصرّفات القوليّة :
15 - أجمع الفقهاء على أنّ الجنون كالإغماء والنّوم ، بل هو أشدّ منهما في فوات الاختيار وتبطل عبارات المغمى عليه ، والنّائم في التّصرّفات القوليّة ، كالطّلاق ، والإسلام ، والرّدّة ، والبيع ، والشّراء وغيرها من التّصرّفات القوليّة ، فبطلانها بالجنون أولى ، لأنّ المجنون عديم العقل والتّمييز والأهليّة ، واستدلّوا لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يعقل » .
ومثل ذلك كلّ تصرّف قوليّ لما فيه من الضّرر .
ز - أثر الجنون في عقود المعاوضة :
16 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ كلّ تصرّف قوليّ يصدر في حال الجنون فهو باطل ، فالمجنون لا تصحّ عقوده لرجحان جانب الضّرر نظراً إلى سفهه ، وقلّة مبالاته ، وعدم قصده المصالح .
ح - أثر الجنون في التّبرّعات :
17 - سبق بيان أنّ التّصرّفات القوليّة لا تصحّ من المجنون ، لأنّ بالجنون تسلب الولايات ، واعتبار الأقوال ، فلا تصحّ هبته ولا صدقته ، ولا وقفه ، ولا وصيّته ، وما إلى ذلك ، لأنّ التّصرّفات يشترط فيها كمال العقل ، والمجنون مسلوب العقل أو مختلّه ، وعديم التّمييز والأهليّة ، وهذا بإجماع الفقهاء .
ط - أثر الجنون في الولاية :
18 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أنّ الجنون يزيل الولاية ، لعدم تمييزه ، ولأنّ الولاية إنّما ثبتت نظراً للمولى عليه عند عجزه عن النّظر لنفسه ، ومن لا عقل له لا يمكنه النّظر ، وأيضا المجنون لا يلي نفسه ، فلا يلي غيره بالأولى .
ي - جنون القاضي :
19 - أجمع الفقهاء على أنّ القاضي لا بدّ أن يكون عاقلاً ، فلا يصحّ قضاء المجنون ، لأنّ القضاء ولاية ، والمجنون لا ولاية له ، ولأنّ بالجنون تسلب الولايات واعتبار الأقوال ، وكذلك إذا جنّ القاضي فينعزل ولا ينفذ حكمه .
وإذا زال الجنون لا تعود ولايته ، إلاّ في رواية للشّافعيّة تعود من غير استئناف توليته .
ك - أثر الجنون في الجنايات :
20 - تقدّم أنّ الجنون عارض من عوارض الأهليّة يطرأ على العقل فيذهب به ، ولذلك تسقط فيه المؤاخذة والخطاب لعدم وجود العقل الّذي هو وسيلة فهم دليل التّكليف .(217/3)
فالجنون سبب من أسباب عدم المؤاخذة بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى حسب البيان السّابق ، ولا حدّ على المجنون ، لأنّه إذا سقط عنه التّكليف في العبادات ، والإثم في المعاصي فالحدّ المبنيّ على الدّرء بالشّبهات أولى ، وأمّا بالنّسبة لحقوق العباد كالضّمان ونحوه فلا يسقط ، لأنّه ليس تكليفا له ، بل هو تكليف للوليّ بأداء الحقّ الماليّ المستحقّ في مال المجنون ، فإذا وقعت منه جرائم ، أخذ بها ماليّاً لا بدنيّاً ، وإذا أتلف مال إنسان وهو مجنون وجب عليه الضّمان ، وإذا قتل فلا قصاص وتجب دية القتيل ، كذلك لا يتمّ إحصان الرّجم والقذف إلاّ بالعقل ، فالمجنون لا يكون محصنا لأنّه لا خطاب بدون العقل .
لا جزية على المجنون :
21 - ذهب الجمهور إلى أنّه لا جزية على المجنون ، لأنّ الجزية شرعت جزاء عن الكفر وحملا للكافر على الإسلام ، فتجري مجرى القتل ، فمن لا يعاقب بالقتل ، لا يؤخذ بالجزية ، والمجنون لا يجوز قتله ، فلا جزية عليه . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( جزية ) .
هل يعتبر الجنون عيباً في النّكاح ؟ :
22 - اختلف الفقهاء في النّكاح ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجنون في كلّ من الزّوجين يعتبر عيباً يفسخ به النّكاح مطبقاً كان أو متقطّعاً ، فإذا وجد أحد الزّوجين بالآخر جنونا ، يثبت الخيار في فسخ النّكاح لفوات الاستمتاع المقصود منه ، ثمّ اشترط المالكيّة لثبوت الخيار كون الجنون موجودا حين عقد النّكاح ، فإن حدث بعده فلا خيار للزّوج إن ابتليت به المرأة ، ولها الخيار إن ابتلي الزّوج به لدفع الضّرر الدّاخل على المرأة .
وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد صرّحوا باشتراط عدم العلم بالجنون حال العقد لثبوت الخيار ، أمّا العالم به فلا خيار له .
وصرّح الحنفيّة بأنّه لا خيار للزّوج ، وكذلك الزّوجة لا خيار لها عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وهو قول عطاء ، والنّخعيّ ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن زياد ، وأبي قلابة ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعيّ ، والثّوريّ ، والخطّابيّ ، وفي المبسوط ، أنّه مذهب عليّ ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، ويرى محمّد أنّ لها الخيار ، لأنّه لا تنتظم بينهما المصالح ، فيثبت لها الخيار دفعا للضّرر عنها بخلاف الزّوج ، لأنّه يقدر على دفعه بالطّلاق .
طروء الجنون على من صحّ تصرّفه :
23 - سبق بيان أنّ التّصرّفات القوليّة لا تصحّ من المجنون ، كما أنّ العقوبة البدنيّة تسقط عنه إذا ارتكب ما يوجب القصاص أو الحدّ . لكن إذا تصرّف وهو عاقل ثمّ طرأ عليه الجنون أثناء سريان التّصرّف ومباشرته ، كما هو الحال في الوصيّة ، والوكالة ، والشّركة مثلاً ، أو كان ارتكب ما يوجب القصاص ، أو الحدّ وهو عاقل ثمّ جنّ قبل القصاص ، أو قبل إقامة الحدّ ، فإنّ الحكم يختلف ، وفيما يلي بيان حكم بعض المسائل .
أوّلاً - في التّصرّفات القوليّة :
أ - الوصيّة :
24 - لا تصحّ الوصيّة من المجنون ابتداء وهذا باتّفاق . أمّا إذا أوصى العاقل ثمّ جنّ فقد قال الكاسانيّ : لو جنّ جنونا مطبقا بطلت وصيّته ، لأنّ الوصيّة عقد جائز ( أي غير لازم ) كالوكالة فيكون لبقائه حكم الإنشاء كالوكالة ، فتعتبر أهليّة العقد إلى وقت الموت ، ونصّ ابن عابدين على أنّ من أوصى بوصيّة ثمّ جنّ ، فإن أطبق الجنون حتّى بلغ ستّة أشهر بطلت وإلاّ فلا . وظاهر كلام الجمهور أنّ الوصيّة لا تبطل بجنون الموصي بعد الوصيّة .
فقد قال المالكيّة : لا تصحّ الوصيّة من المجنون إلاّ حال إفاقته .
وفي قواعد الأحكام : إذا جنّ الموجب بين الإيجاب والقبول بطل إيجابه بخلاف الوصيّة فإنّها لا تبطل بالموت فالأولى أن لا تبطل بما دونه .
وفي شرح منتهى الإرادات من كان يفيق أحيانا ووصّى في إفاقته صحّت وصيّته .
هذا بالنّسبة للموصي . أمّا بالنّسبة للوصيّ فالأصل أنّه يشترط فيه أن يكون عاقلاً ، لأنّ المجنون لا يلي أمر نفسه فلا يكون له التّصرّف في شؤون غيره بطريق الأولى .
فإن طرأ عليه الجنون فإنّ الفقهاء يختلفون في صحّة الوصيّة إليه ، تبعاً لاختلافهم في الوقت المعتبر لتوافر العقل فيه ، وذلك على الاتّجاهات التّالية :
أ - يعتبر اشتراط توافر العقل عند الإيصاء من الموصي وعند موته دون اعتبار ما بينهما حتّى لو أوصى إلى العاقل ثمّ تغيّرت حاله فجنّ بعد الوصيّة وقبل الموت ثمّ عاد فكان عند موت الموصي عاقلا صحّت الوصيّة إليه ، لأنّ الشّرط موجود حال العقد وحال الموت فصحّت الوصيّة كما لو لم تتغيّر حاله ، ولأنّ حال العقد حال الإيجاب ، وحال الموت حال التّصرّف فاعتبر فيهما .
وهذا هو الأصل عند الحنابلة وهو ظاهر كلام الحنفيّة وفي قول عند الشّافعيّة .
ب - يعتبر اشتراط العقل في الموصى إليه عند الإيصاء وما بعده إلى وقت الموت أي ابتداء ودواما وعلى ذلك لو جنّ الموصي بعد الإيصاء إليه لم تصحّ وصيّته ، لأنّ كلّ وقت من ذلك يجوز أن يستحقّ فيه التّصرّف بأن يموت الموصي فاعتبرت الشّروط في الجميع ، وبهذا قال المالكيّة وهو قول عند الشّافعيّة واحتمال للحنابلة ذكره صاحب المغني .
ج - يعتبر اشتراط العقل عند موت الموصي فقط ، وعلى هذا لو أوصى إلى مجنون فأفاق قبل وفاة الموصي صحّت الوصيّة ، لأنّ التّصرّف بعد الموت فاعتبرت الشّروط عنده كما تعتبر عدالة الشّهود عند الأداء ، أو الحكم دون التّحمّل ، وهذا هو الأصحّ والمعتمد عند الشّافعيّة ، وهو ما صرّح به صاحب شرح منتهى الإرادات من الحنابلة .(217/4)
وإذا طرأ الجنون على الوصيّ بعد انتقال الوصاية إليه بموت الموصي انعزل عن الوصاية فإذا أفاق فلا تعود الوصاية إليه إلاّ بعقد جديد كما يقول الشّافعيّة والحنابلة .
جاء في نهاية المحتاج ينعزل الوصيّ بالجنون ولا تعود الولاية بعد الإفاقة إلاّ بتولية جديدة . وفي المغني وكشّاف القناع : إن زالت الوصاية بعد الموت وانعزل ثمّ عادت الصّفات المعتبرة لم تعد وصايته ، لأنّها زالت فلا تعود إلاّ بعقد جديد ، قال في الكشّاف : إن أمكن بأن قال الموصي مثلاً : إن انعزلت لفقد صفة ثمّ عدت إليها فأنت وصيّي .
لكن في منتهى الإرادات وشرحه ما يخالف ذلك فقد جاء فيه : إن عاد الوصيّ إلى حاله بعد تغيّره عاد إلى عمله لزوال المانع .
وعند الحنفيّة ما يفيد بقاءه إن لم يعزل قال ابن عابدين نقلاً عن الخانيّة : لو جنّ الوصيّ مطبقا ينبغي للقاضي أن يبدّله ، ولو لم يفعل حتّى أفاق فهو على وصايته .
وعند المالكيّة ينعزل الوصيّ بالجنون ويقيم الحاكم غيره مقامه .
ب - طروء الجنون على الوليّ في النّكاح :
25 - يشترط في الوليّ أن يكون عاقلاً والمجنون ليس من أهل الولاية ، لأنّه لا ولاية له على نفسه فلا يكون له ولاية على غيره .
وإذا طرأ الجنون على من له ولاية النّكاح ، فإن كان جنونه مطبقاً سلبت ولايته وانتقلت لمن بعده ، ولا ينتظر إفاقته في تزويج مولّيته ، وإنّما يزوّجها من انتقلت إليه الولاية من الأولياء ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض فقهاء المالكيّة .
وإن كان الجنون غير مطبق تثبت له الولاية في حال إفاقته لأنّه لا يستديم زوال عقله فهو كالإغماء ، فلا تزوّج مولّيته بل تنتظر إفاقته ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة ، وهو ما صحّحه الرّافعيّ من الشّافعيّة .
وعند بعض المالكيّة لا تسلب ولاية المجنون ولو مطبقاً ، ولا تزوّج ابنته لأنّ برأه مرجوّ ، قاله التّتّائيّ .
وصحّح النّوويّ في الرّوضة أنّ الجنون سالب للولاية ، سواء أكان مطبقاً أم منقطعاً .
ولو زال الجنون عادت الولاية لزوال المانع ، وإن زوّجها من انتقلت إليه الولاية فقد قال الشّافعيّة على ما جاء في مغني المحتاج : لو زوّج الأبعد فادّعى الأقرب أنّه زوّج بعد تأهّله ، قال الماورديّ : فلا اعتبار بهما ، والرّجوع فيه إلى قول الزّوجين ، لأنّ العقد لهما فلا يقبل فيه قول غيرهما ، وجزم فيما لو زوّجها بعد تأهّل الأقرب أنّه لا يصحّ سواء أعلم بذلك أم لم يعلمه . وفي المهذّب قال : إن زوّجها من انتقلت إليه الولاية قبل أن يعلم بعودة ولاية الأوّل ففيه وجهان بناء على القولين في الوكيل إذا باع ما وكّل في بيعه قبل أن يعلم بالعزل .
وقال الحنابلة : إن زوّج من انتقلت إليه الولاية وكان الأقرب قد صار أهلاً بعد إفاقته ، ولكنّه لم يعلم عند التّزويج أنّه صار أهلاً وإنّما علم أنّه عاد أهلاً بعد تزويجها لم يعد العقد .
وكذا إن زال المانع وصار أهلاً بعد العقد لم يعد العقد .
ج - طروء الجنون على الحاضن :
26 - يشترط في الحاضن العقل فلا حضانة لمجنون ، وإذا كان الحاضن عاقلاً ثمّ طرأ عليه الجنون زالت ولاية الحضانة وانتقلت لمن بعده من الأولياء .
وتعود الحضانة بزوال الجنون لزوال المانع . قال ابن عابدين : يعود الحقّ بزوال مانعه ، وهذا ليس من قبيل عدد السّاقط ، وإنّما معناه منع منه مانع كقولهم : تسقط الولاية بالجنون ثمّ تعود بزوال ذلك ، وهذا باتّفاق. وينظر تفصيل ذلك في : ( حضانة ) .
د - طروء الجنون على ناظر الوقف :
27 - إذا طرأ الجنون على ناظر الوقف زالت ولايته ، فإذا زال الجنون وأفاق عادت ولايته على الوقف . وينظر تفصيل ذلك في : ( وقف ) .
هـ – الوكالة :
28 – طروء الجنون المطبق على الموكّل أو الوكيل يبطل عقد الوكالة ، لأنّ الوكالة عقد جائز ( غير لازم ) فيكون لبقائه حكم الإنشاء ، والوكالة تعتمد العقل في الموكّل والوكيل ، فإذا انتفى العقل انتفت صحّة الوكالة لانتفاء ما تعتمد عليه وهو أهليّة التّصرّف .
وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
لكن الحنفيّة يقولون : إذا كانت الوكالة لازمة بحيث لا يملك الموكّل عزل الوكيل كالعدل إذا سلّط على بيع الرّهن ، وكان التّسليط مشروطا في عقد الرّهن فلا ينعزل الوكيل بجنون الموكّل ، وإن كان الجنون مطبقاً ، لأنّ الوكالة متى كانت لازمة بحيث لا يقدر الموكّل على عزل الوكيل لا يكون لبقاء الوكالة حكم الإنشاء ، وكان الوكيل في هذه الوكالة بمنزلة المالك من حيث إنّه لا يملك الموكّل عزله ، ومن ملك شيئا من جهة أخرى ثمّ جنّ المملّك فإنّه لا يبطل ملكه كما لو ملك عيناً فكذا إذا ملك التّصرّف .وفي ذلك تفصيلات تنظر في : ( وكالة ).
وعند الحنفيّة أيضاً : إذا أفاق الموكّل بعد جنونه تعود الوكالة ، ولا تعود الوكالة بإفاقة الوكيل بعد جنونه ، لأنّ الجنون مبطل للأهليّة على وجه لا يحتمل العود إلاّ على سبيل النّدرة. وعند الشّافعيّة لا تعود الوكالة بإفاقة أحدهما ، فقد جاء في مغني المحتاج ينعزل الوكيل بخروج الموكّل أو الوكيل عن أهليّة التّصرّف بجنون وإن زال عن قرب ، لأنّه لو قارن منع الانعقاد ، فإذا طرأ قطعه .
وعند المالكيّة قال الدّسوقيّ : لا ينعزل الوكيل بجنونه أو جنون موكّله ، إلاّ أن يطول جنون الموكّل جدّا ، فينظر له الحاكم . وفي منح الجليل قال ابن عرفة نقلاً عن المازريّ : جنون الوكيل لا يوجب عزله إن برأ ، فكذا جنون الموكّل وإن لم يبرأ .
وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في مصطلح : ( وكالة ) .(217/5)
والكلام في الوكالة يعتبر مثالا للعقود الجائزة كالشّركة ، والمضاربة ، والجعالة ، وغيرها ، وهي تبطل بجنون أحد العاقدين في الجملة .
وعند الحنفيّة تبطل الشّركة بجنون أحد الشّريكين جنوناً مطبقاً ، فالشّركة قائمة إلى أن يتمّ إطباق الجنون فتنفسخ ، فإذا عمل بعد ذلك فالرّبح كلّه للعامل والخسارة عليه .
وعند الحنابلة بعد أن تكلّموا على بطلان الوكالة بجنون الموكّل أو الوكيل قالوا : وكذلك كلّ عقد جائز من الطّرفين كشركة ، ومضاربة ، وجعالة ، يبطل بالجنون المطبق من أحدهما . وتنظر التّفصيلات في أبوابها .
و - طروء الجنون على من له الخيار في البيع :
أ - في خيار المجلس :
29 - خيار المجلس يجعل العقد غير لازم إلى أن يتمّ التّفرّق من المجلس أو يتمّ التّخاير ، وهذا عند من يقول بخيار المجلس ، وهم الشّافعيّة والحنابلة .
وإذا طرأ الجنون على أحد العاقدين في مجلس العقد قبل التّفرّق أو التّخاير ، فالأصحّ عند الشّافعيّة انتقال الخيار إلى الوليّ من حاكم أو غيره ، كالموكّل عند موت الوكيل ، وإلى السّيّد عند موت المكاتب ، أو العبد المأذون ، ومقابل الأصحّ أنّ الخيار يسقط ، لأنّ مفارقة العقل ليست أولى من مفارقة المكان .
وعلى الصّحيح من مذهب الحنابلة ، كما في الإنصاف وغيره ، أنّ الجنون الطّارئ لا يقطع الخيار ، والمجنون على خياره إذا أفاق من جنونه ، ولا يثبت الخيار لوليّه ، لأنّ الرّغبة في المبيع وعدمه ، لا تعلم إلاّ من جهته .
وقيل : وليّه أيضاً يليه في حال جنونه . قاله في الرّعاية .
ويتوجّه كما في مطالب أولي النّهى ، أنّ انتقال الخيار إلى الوليّ إنّما هو في حالة الجنون المطبق ، لليأس من إفاقته ، قال : وهذا مبنيّ على قول مرجوح .
ب - في خيار الشّرط :
30 - في البيع بشرط الخيار إذا طرأ الجنون على من له الخيار ، فعند الشّافعيّة والحنابلة لا ينقطع خياره ، ويقوم وليّه أو الحاكم مقامه ، فيفعل ما فيه الحظّ من الفسخ أو الإجازة . وقال الشّافعيّة كما في المجموع للنّوويّ : إذا جنّ أحد العاقدين في مدّة الخيار وأقام القاضي قيّما يقوم مقامه في الخيار ، ففسخ القيّم أو أجاز ، فأفاق العاقد وادّعى أنّ الغبطة خلاف ما فعله القيّم ، قال القاضي حسين وغيره : ينظر الحاكم في ذلك فإن وجد الأمر كما يقول المفيق مكّنه من الفسخ والإجازة ، ونقض فعل القيّم ، وإن لم يكن ما ادّعاه المفيق ظاهراً ، فالقول قول القيّم مع يمينه ، لأنّه أمين فيما فعله ، إلاّ أن يقيم المفيق بيّنة بما ادّعاه .
وقد فصّل المالكيّة في طروء الجنون على أحد العاقدين ، قالوا : إذا جنّ من له الخيار وعلم أنّه لا يفيق أو يفيق بعد وقت طويل يضرّ الانتظار إليه بالعاقد الآخر ، فإنّ السّلطان أو نائبه ينظر له في الأصلح من إمضاء أو ردّ .
أمّا إن كان يفيق بعد أيّام الخيار وما ألحق بها بقرب ، بحيث لا يضرّ الصّبر إليه على الآخر فإنّه تنتظر إفاقته ولا ينظر السّلطان . ولو لم ينظر السّلطان حتّى مضى يوم أو يومان من أيّام الخيار فزال الجنون احتسب ما مضى من المدّة على الظّاهر ، ولو لم ينظر السّلطان حتّى أفاق بعد أمد الخيار لا يستأنف له أجل على الظّاهر والمبيع لازم لمن هو بيده .
وإذا نظر السّلطان في الأصلح من الإمضاء أو الرّدّ ، وأفاق المجنون فلا يعتبر اختياره بل ما نظره السّلطان هو المعتبر .
واعتبر الحنفيّة على ما جاء في فتح القدير والفتاوى الهنديّة أنّ الجنون الطّارئ على أحد المتعاقدين في مدّة الخيار هو من المعاني الّتي ينفذ بها البيع إذا مضت أيّام الخيار وهو على جنونه . ولو أفاق في مدّة الخيار فقد حكي عن الطّواويسيّ أنّه لا يكون على خياره .
وقال الإسبيجابيّ وشمس الأئمّة الحلوانيّ : الأصحّ أنّه على خياره وهو منصوص في المأذون ، كذا في الذّخيرة . وقال في الفتاوى الهنديّة : التّحقيق أنّ الجنون لا يسقط الخيار .
طروء الجنون على الموجب قبل القبول :
31 - تحدّث الفقهاء عمّا لو طرأ الجنون على الموجب في العقد قبل قبول الطّرف الآخر . قال الشّافعيّة : لو جنّ الموجب بين الإيجاب والقبول بطل إيجابه .
وقال ابن قدامة : إن أوجب النّكاح ثمّ زال عقله بجنون بطل حكم الإيجاب ولم ينعقد بالقبول بعده . وتنظر تفصيلات ذلك في مواضعه .
طروء الجنون على من وجب عليه قصاص أو حدّ :
أ - في القصاص :
32 - لا خلاف أنّ من قتل غيره وهو مجنون فلا قصاص عليه ، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يبلغ ، وعن المجنون حتّى يفيق » ولأنّ المجنون ليس له قصد صحيح .
أمّا من ارتكب جريمة القتل وهو عاقل ثمّ جنّ ، فعند الشّافعيّة والحنابلة لا يسقط عنه القصاص ، ويقتصّ منه في حال جنونه سواء ثبتت عليه الجناية ببيّنة أو إقرار ، لأنّ رجوعه غير مقبول .
أمّا الحنفيّة فلهم تفصيل آخر ، قالوا : إن جنّ القاتل قبل القضاء عليه أو جنّ بعد القضاء عليه وقبل دفعه للوليّ سقط القصاص استحساناً ، وانقلب دية في ماله لتمكّن الخلل في الوجوب ، وإن جنّ بعد دفعه لأولياء القتيل فلهم قتله ، لأنّ شرط وجوب القصاص عليه كونه مخاطبا حال الوجوب ، وذلك بالقضاء ويتمّ بالدّفع إلى أولياء القتيل ، وهذا فيمن كان جنونه مطبقا ، أمّا من كان يجنّ ويفيق فإنّه يقتصّ منه في إفاقته .
واختلفت أقوال المالكيّة : فعند مالك ينتظر إفاقة المجنون فيقتصّ منه حال إفاقته .(217/6)
قال ابن الموّاز : فإن أيس من إفاقته كانت الدّية عليه في ماله ، ولا يقتل وهو مجنون ، وقال المغيرة : يسلّم إلى أولياء المقتول إن شاءوا قتلوه وإن شاءوا عفوا عنه وليس لهم أن يلزموه الدّية ، وقال اللّخميّ : أرى أن يكون الخيار لأولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدّية من ماله إن كان له مال وإلاّ اتّبعوه بها .
ولو أشكل على البيّنة أقتل في حال عقله أو جنونه ، فقال بعض القرويّين : لا يلزمه شيء وهو الصّواب ، لأنّه شكّ في المقضيّ عليه ، لأنّ القاضي لا يحكم عليه إلاّ بعد أن تشهد البيّنة عنده أنّه قتل حال كونه في عقله .
ب - في الحدود :
33 - اتّفق الفقهاء - بالنّسبة لحدّ الرّدّة - على أنّ من ارتدّ وهو عاقل ثمّ جنّ ، فلا يقام عليه الحدّ حال جنونه ، بل ينتظر حتّى يفيق ويستتاب ، لأنّه قد يعقل ويعود إلى الإسلام ، ولأنّ المرتدّ يقتل بالإصرار على الرّدّة ، والمجنون لا يوصف بالإصرار ولا يمكن استتابته . هذا وقد صرّح الشّافعيّة بأنّ من ارتدّ واستتيب فلم يتب ثمّ جنّ ، فإنّه يجوز قتله حال جنونه ، ولم أعثر على مثل هذا الحكم عند غير الشّافعيّة ، وإن كانت قواعدهم لا تأباه ، لأنّ الغاية من انتظار إفاقته هي الاستتابة وقد حصلت .
أمّا بالنّسبة لبقيّة الحدود فهناك فرق بيّن في استيفاء الحدّ ، وبين ما يثبت بالإقرار وما يثبت بالبيّنة على ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة .
جاء في مغني المحتاج : من أقرّ بما يوجب حدّ اللّه تعالى ثمّ جنّ لا يقام عليه حينئذ احتياطاً ، لأنّه قد يرجع عن الإقرار ، فلو استوفي منه حينئذ لم يجب فيه شيء ، بخلاف ما لو ثبت ببيّنة أو أقرّ بقذف ثمّ جنّ فإنّه يستوفى منه في جنونه لأنّه لا يسقط برجوعه .
وقال ابن قدامة : من ثبت عليه الحدّ بإقراره ثمّ جنّ لم يقم عليه الحدّ حال جنونه ، لأنّ رجوعه يقبل ، فيحتمل أنّه لو كان صحيحاً رجع .
وصرّح المالكيّة والحنفيّة بأنّ من ارتكب ما يوجب حدّاً ثمّ جنّ فلا يقام عليه الحدّ حتّى يفيق. وينظر تفصيل ذلك في أبوابه من : ( زنى ، وقذف ، وسرقة ... إلخ ) .(217/7)
جهة *
التّعريف :
1 - الجهة والوجهة لغة ، واصطلاحاً : الموضع الّذي تتوجّه إليه وتقصده . ومن ذلك قولهم ضلّ وجهة أمره ، أي قصده ، وقلت كذا على جهة الوجوب وفعلت ذلك على جهة العدل ، والقبلة جهة ، فالجهة كلّ مكان استقبلته وأخذت فيه .
الألفاظ ذات الصّلة :
الحيّز :
2 - معنى الحيّز في اللّغة - كما جاء في المصباح - النّاحية كالحوز ويجمع على أحياز والقياس أحواز ، وأحياز الدّار نواحيها ومرافقها . وجاء في المغرب أنّ الحوز معناه الجمع ومراد الفقهاء به بعض النّواحي كالبيت من الدّار مثلاً .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
ذكر الفقهاء لفظ الجهة وما يتعلّق به من الأحكام في عدد من المواطن نجملها فيما يلي :
أ - استقبال القبلة في الصّلاة :
3 - من شروط صحّة الصّلاة استقبال القبلة عند أداء الصّلاة للقادر على ذلك ، لقوله تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } .
وتفصيل القول في ذلك ينظر في بحث ( استقبال ، قبلة ) .
ب - ترك استقبال واستدبار القبلة عند قضاء الحاجة :
4 - ذهب الحنفيّة إلى كراهة استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة سواء أكان ذلك في المباني أم في الصّحراء ; لأنّ جهة القبلة أشرف الجهات ، إلاّ أنّ أبا حنيفة قال : إنّ الاستدبار لا بأس به ; لأنّه غير مستقبل للقبلة .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز ذلك في المباني إلاّ أنّ الشّافعيّة ذكروا أنّ على الشّخص أن يترك ذلك أدبا إلاّ أنّه لا يحرم . وألحق المالكيّة بالمباني مراحيض السّطوح ، وفضاء المنازل ، وفضاء المدن عند وجود السّاتر .
وأمّا الاستقبال والاستدبار في الصّحراء بلا ساتر فهو حرام اتّفاقاً ، وأمّا عند وجود السّاتر فذهب الحنابلة والمالكيّة في قول إلى الجواز ، وذهب المالكيّة في قول آخر إلى عدمه . وانظر للتّفصيل بحث : ( قضاء الحاجة ) .
ج - اختلاف القابض والدّافع في الجهة :
5 - يرجع الحكم في هذه المسألة إلى قاعدة فقهيّة ذكرها الزّركشيّ في المنثور وهي إذا اختلف القابض والدّافع في الجهة أي سبب الدّفع فالقول قول الدّافع ، ومن فروعها أنّه لو كان عليه دينان بأحدهما رهن ثمّ دفع المداين دراهم وقال أقبضتها عن الدّين الّذي به الرّهن وأنكره القابض فالقول قول الدّافع ، وسواء اختلفا في نيّته أو في لفظه .
والاعتبار في أداء الدّين بقصد المؤدّي حتّى لو ظنّ المستحقّ أنّه يودعه عنده ونوى من هو عليه الدّين برئت ذمّته وصار المدفوع ملكا للقابض .
6- ومن الفروع الّتي ذكرها الحنفيّة في اختلاف القابض والدّافع في الجهة أنّه لو بعث لامرأته شيئا فقالت هو هديّة ، وقال : هو من المهر ، فالقول له في غير المهيّإ للأكل ، لأنّه المملّك فكان أعرف بجهة التّمليك ، كما إذا قال أودعتك هذا الشّيء فقالت بل وهبته لي ، وكذا الظّاهر يشهد له ، لأنّه يسعى في إسقاط ما في ذمّته إلاّ في الطّعام المهيّإ للأكل كالشّواء ، واللّحم المطبوخ ، والفواكه الّتي لا تبقى ، فإنّ القول قولها فيه استحسانا لجريان العادة بإهدائها فكان الظّاهر شاهداً لها بخلاف ما إذا لم يكن مهيّأ للأكل كالعسل ، والسّمن ، والجوز واللّوز .
وذكر المالكيّة في مسائل الرّهن أنّ المرهون إذا وجد في يد الرّاهن وادّعى الرّاهن أنّه دفع الدّين المرهون فيه واستلم الرّهن من مرتهنه وأنكر ذلك المرتهن وادّعى سقوطه منه فإنّه يقضى للرّاهن بدفع الدّين المرهون فيه للمرتهن إن طال الزّمان كعشرة أيّام وإلاّ فالقول للمرتهن .
وذكر الحنابلة في اختلاف الزّوجين في قدر الصّداق ، أو عينه ، أو صفته ، أو جنسه ، أنّه لو دفع الزّوج إليها ألفا ، أو دفع إليها عرضا ، واختلفا في نيّته ، فقال : دفعته صداقا ، وقالت : هبة ، فالقول قوله بلا يمين لأنّه أعلم بنيّته . وإن اختلفا في لفظه فقالت : قد قلت لي : خذي هذا هبة أو هديّة ، فأنكر ذلك وادّعى أنّه من المهر فالقول قوله بيمينه ، لأنّها تدّعي عليه عقدا على ملكه وهو ينكره فأشبه ما لو ادّعت عليه بيع ملكه لها .
د - الوقف على جهة :
7 - يجوز الوقف على جهة لا تنقطع اتّفاقا ، كالوقف على الفقراء ، وكلفظ صدقة موقوفة ، وكموقوفة للّه تعالى ، وكموقوفة على وجوه البرّ ، لأنّه عبارة عن الصّدقة ، وأمّا الجهة الّتي تنقطع فلا يجوز الوقف عليها عند أبي حنيفة ومحمّد ، لأنّ حكم الوقف زوال الملك بغير تمليك ، وأنّه بالتّأبيد كالعتق ، ولهذا كان التّوقيت مبطلا له كالتّوقيت في البيع .
وقال من عداهما من الفقهاء : إذا سمّى فيه جهة تنقطع جاز .
واختلفوا في ماله إذا انقطعت الجهة على تفصيل يذكر في مصطلح : ( وقف ) .
هـ - الجهة في الميراث :
8 - تطلق الجهة في الميراث ويراد بها السّبب من أسباب الإرث ، وهي القرابة ، أو النّكاح ، أو الولاء ، واختلف في التّوريث بجهة الإسلام . وتطلق الجهة ويراد بها الانتساب إلى نوع من أنواع الإرث ، كجهة الفرض ، أو جهة التّعصيب .
وتطلق الجهة ويراد بها الانتساب إلى جهة من جهات العصوبة ، وهي عند الحنابلة والصّاحبين من الحنفيّة ستّ : وهي البنوّة ، ثمّ الأبوّة ، ثمّ الأخوّة ، ثمّ بنو الأخوّة ، ثمّ العمومة ، ثمّ الولاء . وعند أبي حنيفة خمس بعدم الاعتداد بجهة بني الأخوّة . وتطلق الجهة ويراد بها الانتساب إلى جهة الأب أو جهة الأمّ . وفي ذلك تفصيل ينظر في ( إرث ) .
و - الوصيّة لجهة :(218/1)
9 - تجوز الوصيّة لجهة مشروعة ، كجهة القربى ، أو عمران المساجد مثلاً ، وأمّا جهة المعصية فلا تجوز الوصيّة لها .
ز - جهات التّبعيّة في الإسلام :
10 - جهات التّبعيّة في الإسلام اثنتان : أن يسلم أحد أبوي الصّغير ، وتبعيّته للدّار بأن سبي ولم يكن معه أحد من أبويه إذا أدخله السّابي إلى دار الإسلام ، وكذلك اللّقيط في دار الإسلام يكون مسلماً ولو كان ملتقطه ذمّيّاً . وعند ابن القيّم : اليتيم الّذي مات أبواه وكفله أحد المسلمين يتبع كافله وحاضنته في الدّين ( ر : إسلام ) .(218/2)
جهر *
التّعريف :
1 - الجهر لغة : إعلان الشّيء وعلوّه . ويقال جهرت بالكلام أعلنت به ، ورجل جهير الصّوت ، أي عاليه . قال أبو هلال العسكريّ : وأصله رفع الصّوت ، يقال جهر بالقراءة إذا رفع صوته بها . وفي القرآن { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي بقراءتك في صلاتك . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ الأوّل وهو الإعلان .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - منها : الإسرار ، والمخافتة ، والكتمان ، وقد تقدّم الكلام فيها تحت عنوان ( إسرار ) . ومنها الإظهار ، والإفشاء ، والإعلان ، وتقدّم الكلام فيها تحت عنوان ( إظهار ) .
حدّ الجهر والإسرار :
3 - اختلف الفقهاء في تقدير الحدّ الأعلى والأدنى لكلّ من الجهر والإسرار .
فقال ابن عابدين : أدنى المخافتة إسماع نفسه أو من بقربه من رجل أو رجلين مثلاً ، وأعلاها مجرّد تصحيح الحروف .
وأدنى الجهر إسماع غيره ممّن ليس بقربه كأهل الصّفّ الأوّل ، وأعلاه لا حدّ له .
وعند المالكيّة : أعلى السّرّ حركة اللّسان فقط ، وأدناه سماع نفسه .
وأمّا الجهر فأقلّه أن يسمع نفسه ومن يليه ، وأعلاه لا حدّ له .
وبهذا قال الكرخيّ وأبو بكر البلخيّ من الحنفيّة . وجهر المرأة إسماعها نفسها فقط .
وعند الشّافعيّة : السّرّ إسماع نفسه حيث لا مانع ، والجهر أن يسمع من يليه .
وعند الحنابلة : أدنى الجهر أن يسمع نفسه ، وأدنى الجهر للإمام سماع غيره ولو واحداً ممّن وراءه .
الأحكام المتعلّقة بالجهر :
أ - الجهر بأقوال الصّلاة :
4 - الجهر بالتّكبير : ذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب الإسرار بالتّكبيرات في حقّ المأموم والمنفرد . ومحلّ الإسرار في حقّ المأموم إن لم يكن مبلّغاً وإلاّ جهر بقدر الحاجة . وقال المالكيّة : يندب الجهر بتكبيرة الإحرام لكلّ مصلّ .
أمّا غيرها من التّكبير فالأفضل فيه الإسرار في حقّ غير الإمام .
أمّا الإمام فيسنّ جهره بالتّكبير اتّفاقاً ليتمكّن المأموم من متابعته فيه لقوله صلى الله عليه وسلم « فإذا كبّر فكبّروا » .
الجهر بالتّعوّذ :
5 - ذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة على الأظهر إلى سنّيّة الإسرار بالتّعوّذ في الصّلاة ولو كانت جهريّة . لأنّ الجهر به لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وعن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما أنّهما قالا : أربع يخفيهنّ الإمام وذكر منها التّعوّذ ، ولأنّ الأصل في الأذكار هو الإخفاء لقوله تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } فلا يترك إلاّ لضرورة .
ويرى الشّافعيّة - على القول الثّاني مقابل الأظهر - استحباب الجهر بالتّعوّذ في الصّلاة ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه كان يجهر به .
وقال ابن أبي ليلى - وهو القول الثّالث للشّافعيّة - الجهر والإسرار سواء ولا ترجيح وهما حسنان . ويكره التّعوّذ عند المالكيّة قبل الفاتحة والسّورة بفرض أصليّ أسرّ به أو جهر ، وجاز بنفل . واختار موفّق الدّين ابن قدامة الجهر بالتّعوّذ في الجنازة .
قال في الفروع : إنّه المنصوص عن أحمد تعليما للسّنّة .
وللتّفصيل في صفة التّعوّذ ومحلّه وسائر الأحكام المتعلّقة به ( ر : استعاذة ) .
الجهر بالبسملة :
6 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه تسنّ قراءة البسملة سرّاً في الصّلاة السّرّيّة والجهريّة . قال التّرمذيّ : وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التّابعين ، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ . وهذا ما حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وعمّار بن ياسر وابن الزّبير ، والحكم ، وحمّاد ، والأوزاعيّ ، والثّوريّ ، وابن المبارك . وروي عن أنس رضي الله عنه أنّه قال : « صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم » .
وقال أبو هريرة « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجهر بها » .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ السّنّة الجهر بالتّسمية في الصّلاة الجهريّة في الفاتحة وفي السّورة بعدها . فقد روى ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جهر ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم » ، ولأنّها تقرأ على أنّها آية من القرآن بدليل أنّها تقرأ بعد التّعوّذ فكان سنّتها الجهر كسائر الفاتحة .
قال النّوويّ : الجهر بالتّسمية قول أكثر العلماء من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من الفقهاء والقرّاء ، ثمّ ذكر الصّحابة الّذين قالوا به منهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وعمّار بن ياسر ، وأبيّ بن كعب ، وابن عمر ، وابن عبّاس .
وحكى القاضي أبو الطّيّب وغيره عن ابن أبي ليلى والحكم أنّ الجهر والإسرار سواء .
ويرى المالكيّة على المشهور كراهة استفتاح القراءة في الصّلاة ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم مطلقاً في أمّ القرآن وفي السّورة الّتي بعدها سرّاً وجهراً .
قال القرافيّ من المالكيّة : الورع البسملة أوّل الفاتحة خروجا من الخلاف إلاّ أنّه يأتي بها سرّاً ويكره الجهر بها . ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( ر : بسملة ) .
الجهر بالقراءة :
أ - جهر الإمام :
7 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يسنّ للإمام أن يجهر بالقراءة في الصّلاة الجهريّة كالصّبح ، والجمعة ، والأوليين من المغرب والعشاء .(219/1)
ويرى الحنفيّة أنّه يجب على الإمام مراعاة الجهر فيما يجهر به - وهو الفجر ، والمغرب والعشاء في الأوليين ، وكذا كلّ صلاة من شرطها الجماعة ، كالجمعة ، والعيدين ، والتّرويحات - ويجب عليه المخافتة فيما يخافت به ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم واظب على الجهر فيما يجهر به والمخافتة فيما يخافت به » .
وذلك دليل الوجوب ، وعلى هذا عمل الأمّة .
ب - جهر المأموم :
8 - ذهب القائلون بقراءة المأموم وراء الإمام إلى سنّيّة الإسرار ، ويكره له الجهر سواء أسمع قراءة الإمام أم لا . ودليل كراهة الجهر حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما
« أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلّى الظّهر ، فجعل رجل يقرأ خلفه بـ { سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فلمّا انصرف قال : أيّكم قرأ أو أيّكم القارئ ؟ فقال رجل : أنا ، فقال : قد ظننت أنّ بعضكم خالجنيها » ومعنى خالجنيها جادلنيها ونازعنيها .
ج - جهر المنفرد :
9 - يسنّ للمنفرد الجهر في الصّبح ، والأوليين من المغرب والعشاء عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد .
ويرى الحنفيّة والحنابلة على المذهب أنّ المنفرد يخيّر فيما يجهر به إن شاء جهر وإن شاء خافت . وذكر الكرخيّ من الحنفيّة إن شاء جهر بقدر ما يسمع أذنيه ولا يزيد على ذلك . وذكر في عامّة الرّوايات مفسّرا أنّه بين خيارات ثلاثة : إن شاء جهر وأسمع غيره ، وإن شاء جهر وأسمع نفسه ، وإن شاء أسرّ القراءة .
قال الزّيلعيّ : ولكن لا يبالغ في الجهر مثل الإمام لأنّه لا يسمع غيره .
ونقل الأثرم وغيره أنّ ترك الجهر للمنفرد أفضل .
الجهر بالتّأمين :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الصّلاة إن كانت سرّيّة فالإسرار بالتّأمين سنّة في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد .
وأمّا إن كانت جهريّة فقد اختلفوا في الجهر والإسرار بالتّأمين حسب الاتّجاهات التّالية : ذهب الحنفيّة وابن حبيب من المالكيّة والطّبريّ إلى أنّه يسنّ الإسرار بالتّأمين للمنفرد والإمام والمأموم جميعاً . فقد روى أحمد وأبو داود والدارقطني من حديث وائل « أنّه عليه الصلاة والسلام قال : آمين وخفض بها صوته » . وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : يخفي الإمام أربعاً : التّعوّذ ، والبسملة ، وآمين ، وربّنا لك الحمد . ويروى مثل قوله عن جماعة من الصّحابة بعضهم يقول : أربع يخفيهنّ الإمام ، وبعضهم يقول خمسة ، وبعضهم يقول ثلاثة ، وكلّهم يعدّ التّأمين منها . ولأنّه دعاء فيكون مبناه على الإخفاء ، ولأنّه لو جهر بها عقيب الجهر بالقرآن لأوهم أنّها من القرآن فيمنع منه دفعا للإيهام .
وبمثل ما ذهب إليه هذا الفريق يقول المالكيّة في حقّ المنفرد والمأموم . أمّا الإمام فلا يؤمّن أصلاً على المشهور من المذهب عندهم .
ويرى الحنابلة سنّيّة الجهر بالتّأمين في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد جميعاً فيما يجهر فيه بالقراءة .
وبهذا قال الشّافعيّة اتّفاقا في حقّ الإمام والمنفرد . أمّا المأموم فالمذهب عندهم أنّه يجهر . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( آمين ) .
الجهر بالتّسميع :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ جهر الإمام بالتّسميع " سمع اللّه لمن حمده " ليسمع المأمومون ويعلموا انتقاله كما يجهر بالتّكبير .
أمّا المؤتمّ والمنفرد فيسمع نفسه . وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة ) .
الجهر بالتّشهّد :
12 - أجمع العلماء على الإسرار بالتّشهّد وكراهة الجهر به ، واحتجّوا بحديث عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه قال : « من سنّة الصّلاة أن يخفي التّشهّد » . قال النّوويّ : إذا قال الصّحابيّ : من السّنّة كذا كان بمعنى قوله قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
هذا هو المذهب الصّحيح المختار الّذي عليه جمهور العلماء من الفقهاء والمحدّثين وأصحاب الأصول المتكلّمين . وللتّفصيل انظر مصطلح ( تشهّد ، ف /7 ج /12 ص /38 ) .
الجهر بالقنوت :
13 - اختلف الفقهاء في صفة دعاء القنوت من الجهر والمخافتة .
فذهب المالكيّة - وهو المختار عند الحنفيّة - إلى استحباب الإخفاء في دعاء القنوت في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد جميعاً ، لأنّه دعاء ، والمسنون في الدّعاء الإخفاء ، قال اللّه تعالى{ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم :« خير الذّكر الخفيّ ». وذكر القاضي في شرحه مختصر الطّحاويّ : أنّه إن كان منفردا فهو بالخيار إن شاء جهر وأسمع غيره ، وإن شاء جهر وأسمع نفسه ، وإن شاء أسرّ كما في القراءة ، وإن كان إماما يجهر بالقنوت لكن دون الجهر بالقراءة في الصّلاة والقوم يتابعونه هكذا إلى قوله ( إنّ عذابك بالكفّار ملحق ) وإذا دعا الإمام بعد ذلك قال أبو يوسف : يتابعونه ويقرءون .
وفي قول محمّد لا يقرءون ولكن يؤمِّنون . وقال بعضهم : إن شاء القوم سكتوا .
ويرى الشّافعيّة أنّ الإمام يجهر بالقنوت . وقال الماورديّ : وليكن جهره به دون الجهر بالقراءة ، فإن أسرّ الإمام بالدّعاء حصّل سنّة القنوت وفاته سنّة الجهر . أمّا المنفرد فيسرّ به ، وأمّا المأموم فيؤمّن خلف الإمام جهرا للدّعاء ، ويقول الثّناء سرّا أو يستمع لإمامه . ويوافق الحنابلة الشّافعيّة في استحباب جهر الإمام بالقنوت ، وتأمين المأموم للدّعاء .
أمّا المنفرد فيجهر بالقنوت كالإمام على الصّحيح من المذهب عند الحنابلة .
قال ابن قيّم الجوزيّة ، والإنصاف الّذي يرتضيه العالم المنصف أنّه صلى الله عليه وسلم جهر وأسرّ وقنت وترك ، وكان إسراره أكثر من جهره ، وتركه القنوت أكثر من فعله . وللتّفصيل في صفة القنوت ومحلّ أدائه ومقداره ودعائه ( ر : قنوت ، وتر ) .(219/2)
الجهر بالتّسليم للخروج من الصّلاة :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في سنّيّة الجهر بالتّسليمة الأولى في حقّ الإمام ، واختلفوا فيما سوى ذلك . فيرى الحنابلة - وهو ما يؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة - أنّه يسنّ جهر الإمام بالتّسليمتين . فقد عدّ أبو السّعود جهر الإمام بالسّلام مطلقاً من سنن الصّلاة . وقال الشّربينيّ الخطيب : يسنّ للمأموم كما في التّحقيق أن لا يسلّم إلاّ بعد فراغ الإمام من تسليمتيه .
وصرّح البجيرميّ بكراهة مقارنة المأموم مع الإمام في السّلام .
فيسنّ جهر الإمام بالسّلام ليسمع المأمومين فيعلموا فراغه من تسليمتيه ويتابعوه .
والسّنّة في السّلام أن يكون جهر الإمام بالتّسليمة الثّانية أخفض من الأولى وقد روي عن أحمد أنّه يجهر بالتّسليمة الأولى وتكون الثّانية أخفى من الأولى . لأنّ الجهر في غير القراءة إنّما شرع للإعلام بالانتقال من ركن إلى ركن وقد حصل العلم بالجهر بالتّسليمة الأولى فلا يشرع الجهر بغيرها . وكان ابن حامد يخفي الأولى ويجهر بالثّانية لئلاّ يسبقه المأمومون بالسّلام . وللتّفصيل ( ر : تسليم وصلاة ، وأبواب صفة الصّلاة من كتب الفقه ) .
الجهر بالتّبليغ :
15 - يسنّ للإمام الجهر بتكبيرات الصّلاة كلّها وبقوله : " سمع اللّه لمن حمده " حتّى بزوائد العيدين ليعلم المأمومون انتقالاته من ركن إلى ركن ويتابعوه في تكبيرات العيدين ، فإن كان الإمام ضعيف الصّوت لمرض أو غيره فلم يصل جهره إلى جميع المقتدين فيجهر المؤذّن أو غيره . من المأمومين جهراً يسمع النّاس ، فقد أخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال : « اشتكى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر رضي الله عنه يسمع النّاس تكبيره » ، وفي رواية لمسلم أيضاً « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه خلفه فإذا كبّر كبّر أبو بكر ليسمعنا » .
وللتّفصيل ( ر : تبليغ ) .
الجهر في الصّلاة المقضيّة :
16 - يرى المالكيّة والشّافعيّة في قول إيقاع المقضيّة على حسب ما كانت الصّلاة وقت أدائها من جهر وإسرار ، فالاعتبار عندهم بوقت الفائتة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ من فاتته العشاء فصلّاها بعد طلوع الشّمس إن أمّ فيها جهر كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين قضى الفجر غداة ليلة التّعريس بجماعة .
وإن أمّ ليلاً في صلاة النّهار يخافت ولا يجهر فإن جهر ساهيا كان عليه سجود السّهو . والمنفرد إذا قضى الصّلوات الّتي يجهر بها فهو مخيّر بين الجهر والإسرار ، ويرى بعض علماء الحنفيّة أنّ الجهر أفضل من الإسرار .
وذهب الشّافعيّة على الأصحّ إلى أنّ الاعتبار بوقت القضاء .
فالمقضيّة يجهر فيها من مغيب الشّمس إلى طلوعها ، ويسرّ من طلوعها إلى غروبها . ويرى الحنابلة أنّ المصلّي يسرّ في قضاء صلاة جهريّة إذا قضاها في نهار - ولو جماعة - اعتبارا بزمن القضاء ، كصلاة سرّ قضاها ولو ليلاً اعتباراً بالمقضيّة .
ويجهر بالقراءة في صلاة جهريّة قضاها ليلاً في جماعة اعتباراً بزمن القضاء وشبّهها بالأداء لكونها في جماعة ، فإن قضاها منفرداً أسرّها لفوات شبهها بالأداء .
الجهر في موضع الإسرار والعكس :
17 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الجهر فيما يجهر به والإخفات فيما يخافت فيه سنّة من سنن الصّلاة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب الجهر فيما يجهر به والمخافتة فيما يخافت فيه .
ثمّ اختلفوا فيما يوجبه الجهر في موضع الإسرار أو العكس :
فذهب الشّافعيّة والأوزاعيّ إلى أنّ من جهر في موضع الإسرار أو أسرّ في موضع الجهر لم تبطل صلاته ولا سجود سهو عليه ، ولكنّه ارتكب مكروها .
وبهذا يقول الحنابلة إن ترك الجهر والإخفات في موضعهما عمداً .
وإن ترك سهواً ففي مشروعيّة السّجود من أجله روايتان عن أحمد :
إحداهما : لا يشرع كما هو مذهب الشّافعيّ والأوزاعيّ . والثّانية : يشرع .
ويرى الحنفيّة أنّه لو جهر الإمام فيما يخافت فيه أو خافت فيما يجهر به تلزمه سجدة السّهو ، لأنّ الجهر في موضعه والمخافتة في موضعها من الواجبات ، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليهما ، فبتركهما يلزم سجود السّهو .
هذا في حقّ الإمام ، أمّا المنفرد فلا سهو عليه ،لأنّ الجهر والمخافتة من خصائص الجماعة. وعدّ المالكيّة الجهر فيما يجهر فيه والسّرّ فيما يسرّ فيه من السّنن المؤكّدة الّتي تنجبر بالسّجود . وقالوا : لا سجود في يسير جهر في سرّيّة بأن أسمع نفسه ومن يليه فقط ، أو يسير سرّ في جهريّة ، ولا في إعلان أو إسرار في مثل آية في محلّ سرّ أو جهر .
وعبّر الدّردير عن حاصل المذهب المالكيّ في المسألة بقوله : إنّ من ترك الجهر فيما يجهر فيه وأتى بدله بالسّرّ فقد حصل منه نقص ، لكن لا سجود عليه إلاّ إذا اقتصر على حركة اللّسان . وإنّ من ترك السّرّ فيما يسرّ فيه وأتى بدله بالجهر فقد حصل منه زيادة ، لكن لا سجود عليه بعد السّلام ، إلاّ إذا رفع صوته فوق سماع نفسه ومن يلاصقه ، بأن كان يسمعه من بعد عنه بنحو صفّ فأكثر .
الجهر في النّوافل :
18 - لا خلاف بين الفقهاء في سنّيّة الإسرار في نوافل النّهار المطلقة .
أمّا نوافل اللّيل فيرى المالكيّة وصاحب التّتمّة من الشّافعيّة سنّيّة الجهر فيها .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المنفرد يخيّر بين الجهر والإخفاء ، لأنّ النّوافل تبع للفرائض لكونها مكمّلات لها فيخيّر فيها المنفرد كما يخيّر في الفرائض . وإن كان إماماً جهر لما ذكر من أنّها اتّباع الفرائض ، ولهذا يخفي في نوافل النّهار ولو كان إماماً .(219/3)
ويقول الحنابلة : إنّ المتنفّل ليلا يراعي المصلحة ، فإن كان بحضرته أو قريباً منه من يتأذّى بجهره أسرّ ، وإن كان من ينتفع بجهره جهر .
وقال صاحب التّهذيب من الشّافعيّة : يتوسّط ( المتنفّل ليلاً ) بين الجهر والإسرار .
هذا إن لم يشوّش على نائم أو مصلّ أو نحوه وإلاّ فالسّنّة الإسرار .
قال المحبّ بن نصر اللّه الكتّانيّ : والأظهر أنّ النّهار هنا من طلوع الشّمس لا من طلوع الفجر ، واللّيل من غروب الشّمس إلى طلوعها .
وأمّا أحكام الجهر بالقراءة في النّوافل غير المطلقة ، كصلاة العيدين ، والكسوف ، والاستسقاء ، والتّراويح ، والوتر ، فتنظر في مصطلحاتها وفي أبوابها من كتب الفقه .
إسرار المرأة وجهرها في الصّلاة :
19 - ذهب أكثر الشّافعيّة والحنابلة في قول إلى أنّ المرأة إن كانت خالية أو بحضرة نساء أو رجال محارم جهرت بالقراءة ، وإن صلّت بحضرة أجنبيّ أسرّت .
ويرى المالكيّة كراهة الجهر بالقراءة للمرأة في الصّلاة . وصرّحوا بأنّه يجب عليها إن كانت بحضرة أجانب يخشون من علوّ صوتها الفتنة إسماعها نفسها فقط . ويؤخذ من عبارات فقهاء الحنفيّة - وهو وجه عند الشّافعيّة وقول آخر عند الحنابلة - أنّ المرأة تسرّ مطلقاً . قال ابن الهمام : لو قيل إذا جهرت بالقراءة في الصّلاة فسدت كان متّجها .
وهذا هو أحد الوجهين عند الشّافعيّة .
وقال النّوويّ : حيث قلنا : تسرّ فجهرت لا تبطل صلاتها على الصّحيح .
قال المرداويّ : يحتمل أن يكون الخلاف هنا مبنيّا على الخلاف في كون صوتها عورة أم لا . وللتّفصيل ( ر : عورة ، قراءة ، صلاة ) .
ب - الجهر خارج الصّلاة :
الجهر بالنّيّة :
20 - يرى جمهور الفقهاء ، أنّه لو نوى بقلبه ولم يتكلّم بنيّة فإنّه يجوز .
وذهب الشّافعيّة في وجه شاذّ إلى أنّه يشترط نطق اللّسان . وقال النّوويّ : وهو غلط .
ثمّ اختلف الجمهور في المفاضلة بين النّطق بالنّيّة وتركه .
فذهب أكثرهم إلى أولويّة النّطق بالنّيّة ما لم يجهر بها ، لأنّه أتى بالنّيّة في محلّها وهو القلب ونطق بها اللّسان . وذلك زيادة كمال .
وقال بعضهم إنّ النّطق باللّسان مكروه ولو سرّاً ويحتمل ذلك وجهين : أحدهما أنّه قد يكون صاحب هذا القول يرى أنّ النّطق بها بدعة إذ لم يأت في كتاب ولا سنّة .
ويحتمل أن يكون ذلك لما يخشى أنّه إذا نطق بها بلسانه قد يسهو عنها بقلبه وإذا كان ذلك كذلك فتبطل صلاته لأنّه أتى بالنّيه في غير محلّها .
قال ابن قيّم الجوزيّة : « كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصّلاة قال : اللّه أكبر ، ولم يقل شيئاً قبلها ، ولا تلفّظ بالنّيّة ألبتّة ولا قال : أصلّي للّه صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماماً أو مأموماً ولا قال : أداء ، ولا قضاء ، ولا فرض الوقت » .
ونقل الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة اتّفاق الأئمّة على عدم مشروعيّة الجهر بالنّيّة وتكريرها وقال : الجاهر بها مستحقّ للتّعزير بعد تعريفه لا سيّما إذا أذى به أو كرّره .
وللتّفصيل : ( ر : نيّة ) .
الجهر بالتّعوّذ عند قراءة القرآن خارج الصّلاة :
21 - يستحبّ التّعوّذ للقارئ خارج الصّلاة بالإجماع . أمّا حكم الجهر بالتّعوّذ أو الإسرار به عند قراءة القرآن ففيه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( استعاذة ، ف 8 / ج 4 / ص 7 - 8 ، وتلاوة ، ف /6 ج /13 ص /252 - 253 ) .
الجهر بالبسملة عند قراءة القرآن :
22 - تستحبّ قراءة البسملة في أوّل كلّ سورة سوى براءة فإنّ أكثر العلماء قالوا : إنّها آية حيث تكتب في المصحف وقد كتبت في أوائل السّور سوى براءة ، فإذا قرأها كان متيقّنا قراءة الختمة أو السّورة ، فإذا أخلّ بالبسملة كان تاركا لبعض القرآن عند الأكثرين .
قال ابن مفلح : فإن قرأها في غير صلاة فإن شاء جهر بالبسملة وإن شاء لم يجهر نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود ومهنّا . تفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( بسملة ) .
الجهر بالتّسمية على الطّعام :
23 - أجمع العلماء على استحباب التّسمية على الطّعام في أوّله .
وقالوا : يستحبّ أن يجهر بالتّسمية ليكون فيه تنبيه لغيره على التّسمية وليقتدى به في ذلك. وللتّفصيل : ( ر : أكل ، وبسملة ) .
الجهر بقراءة القرآن خارج الصّلاة :
24 - جاءت آثار بفضيلة الجهر ورفع الصّوت بالقرآن ، وآثار بفضيلة الإسرار وخفض الصّوت . فمن الأوّل حديث : « ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصّوت يتغنّى بالقرآن يجهر به » . ومن الثّاني حديث : « الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة ، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصّدقة » .
قال النّوويّ : والجمع بينهما أنّ الإخفاء أفضل حيث خاف الرّياء أو تأذّى مصلّون أو نيام بجهره ، والجهر أفضل في غير ذلك ، لأنّ العمل فيه أكبر ولأنّه يتعدّى نفعه إلى غيره ، ولأنّه يوقظ قلب القارئ ، ويجمع همّه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ، ويطرد النّوم ويزيد النّشاط . ويدلّ لهذا الجمع ما ورد عن أبي سعيد أنّه قال : « اعتكف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف السّتر وقال : ألا إنّ كلّكم مناج لربّه ، فلا يؤذينّ بعضكم بعضاً ، ولا يرفع بعضكم على بعضكم في القراءة » .
وقال بعضهم : يستحبّ الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها ، لأنّ المسرّ قد يملّ فيأنس بالجهر ، والجاهر قد يكلّ فيستريح بالإسرار ، إلاّ أنّ من قرأ باللّيل جهر بالأكثر ، وإن قرأ بالنّهار أسرّ بالأكثر ، إلاّ أن يكون بالنّهار في موضع لا لغو فيه ولا صخب ولم يكن في صلاة فيرفع صوته بالقرآن .(219/4)
هذا وصرّح العلماء أنّ من جملة الآداب ألاّ يجهر بين مصلّين أو نيام أو تالين جهرا ، وبحضرة من يطالع أو يدرس أو يصنّف .
وفي الفتح عن الخلاصة : رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالإثم على القارئ . وعلى هذا لو قرأ على السّطح والنّاس نيام يأثم ، لأنّه يكون سببا لإعراضهم عن استماعه ، أو لأنّه يؤذيهم بإيقاظهم .
الجهر بالأذان والإقامة :
25 - من السّنّة أن يجهر بالأذان فيرفع به صوته ، لأنّ المقصود وهو الإعلام يحصل به ، ولهذا كان الأفضل أن يؤذّن في موضع يكون أسمع للجيران كالمئذنة ونحوها ، ولا ينبغي أن يجهد نفسه . وكذا يجهر بالإقامة لكن دون الجهر بالأذان ، لأنّ المطلوب من الإعلام بها دون المقصود من الأذان . وللتّفصيل ( ر : أذان : وإقامة ) .
الجهر بالخطبة :
26 - يستحبّ للخطيب أن يرفع صوته بالخطبة زيادة على أصل الجهر الواجب .
قال جابر : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه ، وعلا صوته ، واشتدّ غضبه ، حتّى كأنّه منذر جيش يقول : صبّحكم ومسّاكم ... »
قال النّوويّ بعد أن ذكر الحديث : يستدلّ به على أنّه يستحبّ للخطيب أن يفخّم أمر الخطبة ويرفع صوته ويجزل كلامه ويكون مطابقا للفصل الّذي يتكلّم فيه من ترغيب أو ترهيب .
هذا ويكون الجهر في الخطبة الثّانية أخفض من الأولى عند الحنفيّة .
ولم نعثر في المذاهب الأخرى على تفرقة بين الخطبة الأولى والثّانية من حيث الجهر والإخفاء . وللتّفصيل ( ر : خطبة ) .
الجهر والإسرار بالأذكار :
27 - نقل ابن بطّال وآخرون أنّ جمهور الفقهاء متّفقون على عدم استحباب رفع الصّوت بالذّكر والتّكبير . ويؤيّد ذلك قوله تعالى { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }. وبما روي عن « أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكنّا إذا أشرفنا على واد هلّلنا وكبّرنا ارتفعت أصواتنا فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّاس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً إنّه معكم سميع قريب » .
وحمل الشّافعيّ الأحاديث الّتي تفيد رفع الصّوت بالذّكر على أنّه صلى الله عليه وسلم جهر وقتاً يسيراً حتّى يعلّمهم ( الصّحابة ) صفة الذّكر لا أنّهم جهروا دائماً ، وقال : فأختار للإمام والمأموم أن يذكرا اللّه تعالى بعد الفراغ من الصّلاة ويخفيان ذلك ، إلاّ أن يكون إماما يريد أن يتعلّم منه فيجهر حتّى يعلم أنّه تعلّم منه ثمّ يسرّ .
قال ابن علّان : يسنّ الإسرار في سائر الأذكار ، إلاّ في القنوت للإمام ، والتّلبية ، وتكبير ليلتي العيد ، وعند رؤية الأنعام في عشر ذي الحجّة ، وبين كلّ سورتين من الضّحى إلى آخر القرآن ، وذكر السّوق ، وعند صعود الهضبات ، والنّزول من الشّرفات .
وذهب بعض السّلف إلى أنّه يستحبّ رفع الصّوت بالتّكبير والذّكر عقيب المكتوبة ، واستدلّوا بما رواه مسلم عن ابن عبّاس أنّ « رفع الصّوت بالذّكر حين ينصرف النّاس من المكتوبة كان على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن عبّاس : كنت أعلم - إذا انصرفوا - بذلك إذا سمعته » ولأنّه أكثر عملاً وأبلغ في التّدبّر ، ونفعه متعدّ لإيقاظ قلوب الغافلين . وخير ما يقال في هذا المقام ، ما قاله صاحب مراقي الفلاح في الجمع بين الأحاديث وأقوال العلماء الّذين اختلفوا في المفاضلة بين الإسرار بالذّكر والدّعاء والجهر بهما " أنّ ذلك يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والأوقات والأغراض ، فمتى خاف الرّياء أو تأذّى به أحد كان الإسرار أفضل ، ومتى فقد ما ذكر ، كان الجهر أفضل " .
وللتّفصيل ( ر : إسرار ، وذكر ) .
الجهر بالدّعاء :
28 - الدّعاء سرّا أفضل منه جهرا في الجملة لقوله تعالى { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ولأنّه أقرب إلى الإخلاص وبذلك أثنى اللّه تعالى على نبيّه زكريّا إذ قال مخبراً عنه { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا } والشّريعة مقرّرة أنّ السّرّ فيما لم يعترض من أعمال البرّ أعظم أجراً من الجهر . وعدّ الغزاليّ خفض الصّوت بين المخافتة والجهر من آداب الدّعاء ، واستدلّ بما روي أنّ أبا موسى الأشعريّ قال : « قدمنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلمّا دنونا من المدينة كبّر ، وكبّر النّاس ورفعوا أصواتهم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّاس : إنّ الّذي تدعون ليس بأصمّ ولا غائب إنّ الّذي تدعون بينكم وبين أعناق رقابكم » وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله عزّ وجلّ { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي بدعائك . وقال الخطّابيّ : يكره فيه الجهر الشّديد بالصّوت . وللتّفصيل ( ر : دعاء ) .
الجهر بالتّكبير في طريق مصلّى العيد :
29 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّكبير جهرا في طريق المصلّى في عيد الأضحى .
أمّا التّكبير في عيد الفطر فيرى جمهور الفقهاء أنّه يكبّر فيه جهراً ، ويرى أبو حنيفة عدم الجهر بالتّكبير في عيد الفطر .
وللتّفصيل ( ر : تكبير ، ف /14 ، ج /13 ، ص /213 وصلاة العيدين ، وعيد ) .
الجهر بالتّكبير في ليلتي العيدين :(219/5)
30 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة على القول المقابل للمشهور بأنّه يستحبّ للنّاس رفع الصّوت بالتّكبير في ليلتي العيدين في مساجدهم ومنازلهم وطرقهم وأسواقهم ، وكان ابن عمر في فتية بمنى يسمعه أهل المسجد فيكبّرون ، ويكبّر أهل الأسواق حتّى ترتجّ منى تكبيرا . قال أحمد : كان ابن عمر يكبّر في العيدين جميعا ويعجبنا ذلك . ويستثنى من طلب رفع الصّوت المرأة ، وظاهر أنّ محلّه إذا حضرت مع الجماعة ولم يكونوا محارم لها ، ومثلها الخنثى . وحكى ابن المنذر عن أكثر العلماء أنّه لا يكبّر ليلة العيد وإنّما يكبّر عند الغدوّ إلى صلاة العيد . قال : وبه أقول . وللتّفصيل في أنواع تكبيرات العيدين ، وصفتها ، وحكمها ، ووقتها ، وسائر الأحكام المتعلّقة بها ، ينظر ( عيد ) و ( صلاة العيد ) ويرجع أيضا إلى مصطلحي ( أيّام التّشريق ) ( وتكبير ) .
الجهر بالتّلبية :
31 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يستحبّ للمحرم أن يرفع صوته بالتّلبية .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يندب له التّوسّط في تصويته بها فلا يبالغ في رفعه ، ولا في خفض. وللتّفصيل : ( ر : تلبية ف 5 ج 13 ص 263 ) .
الجهر بالسّوء من القول :
32 - يجب الإنكار على من تكلّم بسوء فيمن كان ظاهره السّتر والصّلاح ولم يظهر ظلمه ; لأنّ اللّه تعالى قد أخبر بقوله { لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } أي أنّه لا يحبّ ذلك ، وما لا يحبّه يكون محظوراً ، فعلينا أن نكرهه وننكره .(219/6)
جهل *
التّعريف :
1 - الجهل لغة : نقيض العلم . يقال جهلت الشّيء جهلا وجهالة بخلاف علمته ، وجهل على غيره سفه أو خطأ .
وجهل الحقّ أضاعه ، فهو جاهل وجهل . وجهّلته - بالتّثقيل - نسبته إلى الجهل .
وفي الاصطلاح : هو اعتقاد الشّيء على خلاف ما هو عليه ، وهو قسمان : بسيط ومركّب .
أ - الجهل البسيط : هو عدم العلم ممّن شأنه أن يكون عالماً .
ب - الجهل المركّب : عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع .
وقد سبق في مصطلح " جهالة " التّفرقة بين مصطلحي ( جهل وجهالة ) في استعمال الفقهاء لهما حيث يستعملون الجهل في حالة اتّصاف الإنسان به في اعتقاده أو قوله أو فعله ، ويستعملون الجهالة في حالة اتّصاف الشّيء المجهول بها ( ر : جهالة ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّسيان :
2 - النّسيان لغة لفظ مشترك بين معنيين :
أحدهما : ترك الشّيء عن ذهول وغفلة ، وذلك خلاف الذّكر له .
والثّاني : التّرك عن تعمّد ومنه قوله تعالى : { ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بَينَكُمْ } أي : لا تقصدوا التّرك والإهمال . ونسيت ركعة أهملتها ذهولا ، وقال الزّمخشريّ : من المجاز نسيت الشّيء تركته . وفي الاصطلاح : هو الغفلة عن معلوم في غير حال السّنّة ، فلا ينافي الوجوب أي : نفس الوجوب ، لا وجوب الأداء .
قال القرافيّ : النّسيان لا إثم فيه من حيث الجملة ، بخلاف الجهل بما يتعيّن على الإنسان تعلّمه . والنّسيان أيضا يهجم على العبد قهرا لا حيلة له في دفعه عنه ، والجهل له حيلة في دفعه بالتّعلّم . قال التّهانويّ : وكذا الغفلة والذّهول والجهل البسيط بعد العلم يسمّى نسياناً . قال الآمديّ : إنّ الذّهول والغفلة والنّسيان عبارات مختلفة ، لكن يقرب أن تكون معانيها متّحدة ، وكلّها مضادّة للعلم ، بمعنى أنّه يستحيل اجتماعها معه .
ب - السّهو :
3 - السّهو في اللّغة من سها يسهو سهواً : أي غفل ، والسّهوة : الغفلة .
وفرّقوا بين السّاهي والنّاسي بأنّ النّاسي ، إذا ذكّرته تذكّر ، والسّاهي بخلافه .
وفي الاصطلاح قال التّهانويّ : ويقرب منه أي من ( الجهل ) السّهو وكأنّه جهل بسيط سببه عدم استثبات التّصوّر حتّى إذا نبّه السّاهي أدنى تنبيه تنبّه .
أقسام الجهل :
ينقسم الجهل إلى قسمين :
أوّلاً - الجهل الباطل الّذي لا يصلح عذراً :
4 - وهذا القسم لا يصلح أن يكون عذرا في الآخرة وإن كان قد يصلح عذراً في أحكام الدّنيا كقبول عقد الذّمّة من الذّمّيّ حتّى لا يقتل ، ولكن لا يكون عذرا في الآخرة حتّى أنّه يعاقب فيها . ومن أمثلة ذلك جهل الكفّار بصفات اللّه تعالى وأحكام الآخرة ، فإنّه لا يصلح عذراً أصلاً ، لأنّه مكابرة وعناد بعد وضوح الدّلائل على وحدانيّة اللّه تعالى وربوبيّته ، بحيث لا يخفى على أحد من حدوث العالم المحسوس ، وكذا على حقّيّة الرّسول من القرآن وغيره من المعجزات . وكذا جهل صاحب الهوى الّذي يقول بحدوث صفات اللّه تعالى ، أو يقول بعدم إثبات صفة له سبحانه .
هذا ما قاله الحمويّ ، وقال الزّركشيّ : الجهل بالصّفة هل هو جهل بالموصوف مطلقاً أو من بعض الوجوه ؟ المرجّح الثّاني ، لأنّه جاهل بالذّات من حيث صفاتها لا مطلقاً ، ومن ثمّ لا نكفّر أحدا من أهل القبلة .
ومن هذا القسم أيضاً جهل من خالف في اجتهاده الكتاب أو السّنّة المشهورة أو الإجماع ، أو عمل بالغريب على خلاف الكتاب أو السّنّة المشهورة فإنّه ليس بعذر أصلاً .
ثانياً - الجهل الّذي يصلح عذراً :
5 - الجهل الّذي يصلح أن يكون عذرا هو الجهل الّذي يكون في موضع الاجتهاد الصّحيح ، بأن لا يكون مخالفا للكتاب أو السّنّة أو الإجماع ، وذلك كالمحتجم إذا أفطر على ظنّ أنّ الحجامة مفطرة لا تلزمه الكفّارة ، لأنّ جهله في موضع الاجتهاد الصّحيح .
وتفصيله في مصطلح : ( حجامة ) .
ومن الجهل الّذي يصلح عذراً ، الجهل بالشّرائع في دار الحرب يكون عذرا من مسلم أسلم فيها ولم يهاجر ، حتّى لو مكث فيها ولم يعلم أنّ عليه الصّلاة والزّكاة وغيرهما ولم يؤدّها لا يلزمه قضاؤها خلافا لزفر لخفاء الدّليل في حقّه ، وهو الخطاب لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسّماع وتقديرا بالشّهرة ، فيصير جهله بالخطاب عذراً .
بخلاف الذّمّيّ إذا أسلم في دار الإسلام لشيوع الأحكام والتّمكّن من السّؤال .
قال السّيوطيّ : كلّ من جهل تحريم شيء ممّا يشترك فيه غالب النّاس لم يقبل منه دعوى الجهل إلاّ أن يكون قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك ، كتحريم الزّنى ، والقتل ، والسّرقة ، والخمر ، والكلام في الصّلاة ، والأكل في الصّوم .
وقال الزّركشيّ : لو شهدا بقتل ثمّ رجعا وقالا تعمّدنا ، لكن ما عرفنا أنّه يقتل بشهادتنا فلا يجب القصاص في الأصحّ ، إذ لم يظهر تعمّدهما للقتل ، لأنّ ذلك ممّا يخفى على العوّام . ومن هذا القبيل أعني الّذي يقبل فيه دعوى الجهل مطلقاً لخفائه كون التّنحنح مبطلاً للصّلاة ، أو كون القدر الّذي أتى به من الكلام محرّماً ، أو النّوع الّذي تناوله مفطراً ، فالأصحّ في الصّور الثّلاث عدم البطلان . ولا تقبل دعوى الجهل في الأمور المشتهرة بين النّاس كثبوت الرّدّ بالعيب ، والأخذ بالشّفعة من رجل قديم الإسلام ، بخلاف ما لا يعرفه إلاّ الخواصّ .
6- هذا ويعقد الأصوليّون من الحنفيّة بابا لعوارض الأهليّة ، ويجعلون الجهل من العوارض المكتسبة ، وقد قسّم صاحب مسلّم الثّبوت الجهل إلى أنواع هي :
الأوّل : الجهل الّذي يكون من مكابرة العقل وترك البرهان القاطع وهو جهل الكافر ، لا يكون عذرا بحال ، بل يؤاخذ به في الدّنيا والآخرة .(220/1)
الثّاني : الجهل الّذي يكون عن مكابرة العقل وترك الحجّة الجليّة أيضا ، لكن المكابرة فيه أقلّ منها في الأوّل ، لكون هذا الجهل ناشئاً عن شبهة منسوبة إلى الكتاب أو السّنّة .
وهذا الجهل للفرق الضّالّة من أهل الأهواء ، وهذا الجهل لا يكون عذراً ، ولا نتركهم على جهلهم ، فإنّ لنا أن نأخذهم بالحجّة لقبولهم التّديّن بالإسلام .
الثّالث : جهل نشأ عن اجتهاد ودليل شرعيّ لكن فيما لا يجوز فيه الاجتهاد بأن يخالف الكتاب أو السّنّة المشهورة أو الإجماع .
وحكمه :أنّه وإن كان عذراً في حقّ الإثم لكن لا يكون عذراً في الحكم حتّى لا ينفذ القضاءبه.
الرّابع : جهل نشأ عن اجتهاد فيه مساغ كالمجتهدات وهو عذر ألبتّة وينفذ القضاء على حسبه .
الخامس : جهل نشأ عن شبهة وخطأ كمن وطئ أجنبيّة يظنّ أنّها زوجته ، وهذا عذر يسقط الحدّ .
السّادس : جهل لزمه ضرورة بعذر وهو أيضا عذر يسقط به الحدّ ، كجهل المسلم في دار الحرب أحكام الإسلام فلا يحدّ بالشّرب . وتفصيله في الملحق الأصوليّ .
الجهل بالتّحريم مسقط للإثم والحكم في الظّاهر :
7 - الجهل بالتّحريم مسقط للإثم والحكم في الظّاهر لمن يخفى عليه لقرب عهده بالإسلام ونحوه ، فإن علمه وجهل المرتّب عليه لم يعذر .
ولهذا لو جهل تحريم الكلام في الصّلاة عذر ، ولو علم التّحريم وجهل الإبطال بطلت .
وإن علم أنّ جنس الكلام يحرم ولم يعلم أنّ التّنحنح والمقدار الّذي نطق به محرّم فمعذور في الأصحّ . وقد ذكر الزّركشيّ هنا تنبيهين :
أحدهما : أنّ هذا لا يختصّ بحقوق اللّه تعالى ، بل يجري في حقوق الآدميّين ، ففي تعليق القاضي حسين : لو أنّ رجلاً قتل رجلاً وادّعى الجهل بتحريم القتل وكان مثله يخفى عليه ذلك يقبل قوله في إسقاط القصاص وعليه الدّية مغلّظة ، قال الزّركشيّ : وفيما قاله القاضي نظر قويّ .
الثّاني : أنّ إعذار الجاهل من باب التّخفيف لا من حيث جهله .
ولهذا قال الشّافعيّ : لو عذر الجاهل لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم ، إذ كان يحطّ عن العبد أعباء التّكليف ، ويريح قلبه من ضروب التّعنيف ، فلا حجّة للعبد في جهله بالحكم بعد التّبليغ والتّمكين ، { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } .
قال القاضي حسين : كلّ مسألة تدقّ ويغمض معرفتها هل يعذر فيها العامّيّ ؟ وجهان : أصحّهما : نعم .
الجهل بمعنى اللّفظ مسقط لحكمه :
8 - إذا نطق الأعجميّ بكلمة كفر ، أو إيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو نحوه ، ولا يعرف معناه لا يؤاخذ بشيء منه ، لأنّه لم يلتزم بمقتضاه ، ولم يقصد إليه .
وكذلك إذا نطق العربيّ بما يدلّ على هذه العبارة بلفظ أعجميّ لا يعرف معناه ، فإنّه لا يؤاخذ . نعم . لو قال الأعجميّ : أردت به ما يراد عند أهله فوجهان : أصحّهما : كذلك ، لأنّه لم يرده ، فإنّ الإرادة لا تتوجّه إلاّ إلى معلوم أو مظنون ، لأنّه إذا لم يعرف معنى اللّفظ لم يصحّ قصده . ولو نطق العربيّ بكلمات عربيّة لكنّه لا يعرف معانيها في الشّرع ، مثل قوله لزوجته : أنت طالق للسّنّة أو للبدعة ، وهو جاهل بمعنى اللّفظ ، أو نطق بلفظ الخلع أو النّكاح ، ففي القواعد للشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام أنّه لا يؤاخذ بشيء ، إذ لا شعور له بمدلوله حتّى يقصده باللّفظ . قال : وكثيرا ما يخالع الجهّال من الّذين لا يعرفون مدلول لفظ الخلع ويحكمون بصحّته للجهل بهذه القاعدة .
من علم تحريم شيء وجهل ما يترتّب عليه :
9 - كلّ من علم تحريم شيء وجهل ما يترتّب عليه لم يفده ذلك ، كمن علم تحريم الزّنى والخمر وجهل وجوب الحدّ يحدّ بالاتّفاق ، لأنّه كان حقّه الامتناع ، وكذا لو علم تحريم القتل وجهل وجوب القصاص يجب القصاص ، أو علم تحريم الكلام في الصّلاة ، وجهل كونه مبطلا يبطل ، أو علم تحريم الطّيب على المحرم وجهل وجوب الفدية تجب .
الجهل عذر في المنهيّات في حقوق اللّه تعالى :
10 - الجهل عذر في حقّ اللّه تعالى في المنهيّات دون المأمورات ، والأصل فيه حديث « معاوية بن الحكم لمّا تكلّم في الصّلاة ، ولم يؤمر بالإعادة لجهله بالنّهي » .
وحديث يعلى بن أميّة : حيث « أمر صلى الله عليه وسلم أعرابيّا بنزع الجبّة عنه وهو محرم ، ولم يأمره بالفدية لجهله » .
واحتجّ به الشّافعيّ على أنّ من وطئ في الإحرام جاهلاً فلا فدية عليه . والفرق بينهما من جهة المعنى أنّ المقصود من المأمورات إقامة مصالحها . وذلك لا يحصل إلاّ بفعلها ، والمنهيّات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانا للمكلّف بالانكفاف عنها ، وذلك إنّما يكون بالتّعمّد لارتكابها ، ومع الجهل لم يقصد المكلّف ارتكاب المنهيّ ، فعذر بالجهل فيه .
أمّا في حقوق الآدميّين فقد لا يعذر ، كما لو ضرب مريضاً جهل مرضه ضرباً يقتل المريض يجب القصاص في الأصحّ . بخلاف ما لو حبس من به جوع وعطش ولم يعلم بحاله مدّة لا يموت فيها الشّبعان عند الحبس فلا قصاص .
وكأنّ الفرق أنّ أمارات المرض لا تخفى بخلاف الجوع .
أحكام الجهل :
للجهل أحكام خاصّة في الفقه الإسلاميّ نجملها فيما يلي :
جهل المرأة عادتها :
11 - المرأة إذا جهلت عادتها لنسيان أو جنون ونحوهما " وهي المتحيّرة " سمّيت بذلك لتحيّرها في أمرها ، وهي المستحاضة غير المميّزة . لها ثلاثة أحوال ، لأنّها إمّا أن تكون ناسية للقدر والوقت ، أو للقدر دون الوقت ، أو بالعكس .
وفي ذلك خلاف وتفصيل يذكره الفقهاء في ( حيض ) .
الجهل بوقت الصّلاة :(220/2)
12 - من جهل الوقت لعارض كغيم ، أو حبس وعدم ثقة يخبره به عن علم ، اجتهد جوازا إن قدر على اليقين بالصّبر أو الخروج ورؤية الشّمس مثلا ، وإلاّ فوجوباً بورد من قرآن ، ودرس ، ومطالعة وصلاة وغير ذلك . وتفصيله في : ( صلاة ) .
الجهل بالنّجاسة في الصّلاة :
13 - ذهب الجمهور إلى أنّ من صلّى حاملا نجاسة غير معفوّ عنها ولا يعلمها تبطل صلاته وعليه قضاؤها لقوله تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّر } .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الطّهارة من الخبث ليست شرطاً في الصّحّة إلاّ حال الذّكر والقدرة على المشهور . وتفصيله في مصطلح : ( صلاة ) .
الجهل بالمطهّر وساتر العورة :
14 - إذا اختلط ماء طاهر بآخر نجس ، ولم يعلم الطّاهر منهما ، هل يجتهد ويتحرّى ويتطهّر ويصلّي أم يصلّي بالتّيمّم ؟ في ذلك خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحي : ( ماء وصلاة ) . ومثله إذا اشتبهت عليه ثياب طاهرة بأخرى نجسة لم يجد غيرها ، ولن يجد ما يطهّرها به واحتاج إلى الصّلاة فيجب عليه الاجتهاد والتّحرّي عند الجمهور ، ويصلّي بما غلب على ظنّه طهارته . وتفصيله في مصطلح : ( صلاة ) .
وينظر مصطلح اشتباه من الموسوعة ( ف / 13 ج /4 ص /294 ) .
الجهل بالقبلة :
15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ استقبال القبلة من شروط صحّة الصّلاة لقوله تعالى :
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }
ومن جهل القبلة يسأل من يعلمها ، فإذا تعذّر السّؤال اجتهد .
على تفصيل ينظر في مصطلحي : ( استقبال ، واشتباه ) .
الجهل بالفاتحة :
16 - من جهل الفاتحة بأن لم يمكنه معرفتها لعدم معلّم أو مصحف أو نحو ذلك ، أتى في الصّلاة ببدلها من القرآن الكريم ، فإن لم يعلم شيئاً من القرآن ، أتى بالذّكر بلسان عربيّ ، لما روى أبو داود وغيره « أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه : إنّي لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً فعلّمني ما يجزيني عنه . فقال : قل : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه » . ولا يجزئ بالأعجميّة عند الجمهور ، ويجزئ عند أبي حنيفة ، وتفصيله في مصطلح : ( صلاة ) .
الجهل بوجوب الصّلاة :
17 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ تارك الصّلاة إن جحدها وهو عالم بوجوبها يكفر ، إلاّ إذا كان جاهلا بوجوبها كأن كان قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ في بادية ، أو جزيرة بعيدة عن العلماء . وتفصيله في : ( ردّة ، صلاة ) .
الجهل بمبطلات الصّلاة :
18 - اختلف الفقهاء هل يعذر من يجهل مبطلات الصّلاة ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّكلّم في الصّلاة يبطلها عالما كان المتكلّم أو جاهلاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا تكلّم قليلًا جاهلاً بتحريم الكلام في الصّلاة لا تبطل صلاته إن قرب عهده بالإسلام ، أو نشأ بعيدا عن العلماء ، بخلاف من بعد إسلامه وقرب من العلماء لتقصيره بترك العلم . وتفصيله في مصطلح : ( صلاة ) .
قضاء الفوائت المجهولة :
19 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من عليه فوائت لا يدري عددها وتركها لعذر وجب عليه أن يقضي حتّى يتّقين براءة ذمّته من الفروض .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يعمل بأكبر رأيه ، فإن لم يكن له رأي يقضي حتّى يتيقّن أنّه لم يبق عليه شيء .
وأمّا من ترك لغير عذر ففيه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( قضاء الفوائت ) .
الجهل بوقت الصّوم :
20 - لو اشتبه رمضان على أسير ومحبوس ونحوهما ، صام وجوباً شهراً بالاجتهاد ، كما في اجتهاده للصّلاة في القبلة ونحوها ، وذلك بأمارة كخريف ، أو حرّ ، أو برد ، فلو صام بغير اجتهاد فوافق رمضان لم يجزئه لتردّده في النّيّة ، ( انظر : اشتباه ، ف /15 ج /4 ص /296 ، وصوم ) .
جماع الصّائم في رمضان جاهلا بالتّحريم :
21 - لا كفّارة على الصّائم الجاهل بتحريم الجماع في نهار رمضان إذا جامع على خلاف بين الفقهاء . وتفصيله في مصطلح ( صوم ، كفّارة ) .
جماع محرم جاهلا بالتّحريم :
22 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ الجماع في حالة الإحرام جناية يجب فيها الجزاء ، سواء في ذلك العالم والجاهل وغيرهما .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ في بادية بعيدة عن العلماء لا يفسد إحرامه بالجماع ونحو ذلك .
وقد سبق ذلك في مصطلح ( إحرام ، ف /170 ج /2 ص /190 ) .
الجهل لا يعفي من ضمان المتلفات :
23 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجهل بكون المال المتلف مال الغير لا يعفيه من الضّمان . وتفصيله في مصطلح ( ضمان ) .
الحجر على الطّبيب الجاهل :
24 - صرّح الحنفيّة بالحجر على المفتي الماجن والطّبيب الجاهل ، والمكاري المفلس . والطّبيب الجاهل : هو من يسقي النّاس دواء مهلكاً ، وإذا قوي عليهم المرض لا يقدر على إزالة ضرره . وتفصيله في مصطلح : ( حجر ) .
طلاق من جهل معنى الطّلاق :
25 - لا يقع طلاق من يجهل معنى اللّفظ الدّالّ على الطّلاق .
قال في المغني : إن قال الأعجميّ لامرأته أنت طالق ولا يفهم معناه لم تطلق ، لأنّه ليس بمختار للطّلاق فلم يقع طلاقه كالمكره . وتفصيله في : ( طلاق ) .
الجهل بتحريم الزّنى :
26 - يعذر الجاهل بتحريم الزّنى إن كان قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ في بادية بعيدة عن العلماء أو كان مجنوناً فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام ، وعند المالكيّة قولان .
وتفصيله في مصطلح : ( حدود ، زنى ) .
الجهل بتحريم السّرقة :(220/3)
27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ يد السّارق تقطع - بشرطه - سواء كان عالماً بالتّحريم أم جاهلاً وذهب الشّافعيّة إلى أنّ يد السّارق الجاهل لا تقطع . وتفصيله في : ( سرقة ) .
الجهل بتحريم الخمر :
28 - اتّفق الفقهاء على أنّ من شرب الخمر وهو يجهل أنّها خمر لا يحدّ ، أمّا إذا شرب الخمر وهو يعلم أنّها خمر لكنّه ادّعى الجهل بالتّحريم ففيه خلاف بين الفقهاء .
ينظر تفصيله في ( حدود ، سكر ) .
تولية الجاهل بالأحكام الشّرعيّة القضاء :
29 - الأصل فيمن يولّى القضاء أن يكون عالما بالأحكام الشّرعيّة ، ويجوز تولية غيره القضاء عند الضّرورة بأن لم يوجد العالم . وهناك تفصيل ينظر في مصطلح : ( قضاء ) .
الجهل بالبيعة للإمام الأوّل :
30 - إذا عقدت البيعة لإمامين وجهل السّابق منهما بطل العقد فيهما عند الشّافعيّة . وللإمام أحمد روايتان . وقد سبق في مصطلح ( الإمامة الكبرى ، وبيعة ) .
التّلفّظ بكلمة الكفر مع الجهل :
31 - قال الحمويّ : إنّ من تلفّظ بلفظ الكفر عن اعتقاد لا شكّ أنّه يكفر ، وإن لم يعتقد أنّها لفظ الكفر إلاّ أنّه أتى به عن اختيار فيكفر عند عامّة العلماء ، ولا يعذر بالجهل .
وقال بعضهم : لا يكفر ، والجهل عذر وبه يفتى ، لأنّ المفتي مأمور أن يميل إلى القول الّذي لا يوجب التّكفير ، ولو لم يكن الجهل عذراً لحكم على الجهّال أنّهم كفّار ، لأنّهم لا يعرفون ألفاظ الكفر ، ولو عرفوا لم يتكلّموا ، قال بعض الفضلاء : وهو حسن لطيف .
وروي أنّ امرأة في زمن محمّد بن الحسن قيل لها : إنّ اللّه يعذّب اليهود والنّصارى يوم القيامة ، قالت : لا يفعل اللّه بهم ذلك فإنّهم عباده ، فسئل محمّد بن الحسن عن ذلك فقال : ما كفرت فإنّها جاهلة ، فعلّموها حتّى علمت .
وقال في مغني المحتاج : يكفر من نسب الأمّة إلى الضّلال ، أو الصّحابة إلى الكفر ، أو أنكر إعجاز القرآن أو غيّر شيئا منه ، أو أنكر الدّلالة على اللّه في خلق السّماوات والأرض بأن قال : ليس في خلقهما دلالة عليه تعالى ، أو أنكر بعث اللّه الموتى من قبورهم بأن يجمع أجزاءهم الأصليّة ويعيد الأرواح إليها ، أو أنكر الجنّة أو النّار ، أو الحساب أو الثّواب أو العقاب أو أقرّ بها لكن قال : المراد بها غير معانيها ، أو قال : إنّي دخلت الجنّة وأكلت من ثمارها وعانقت حورها ، أو قال : الأئمّة أفضل من الأنبياء ، هذا إن علم ما قاله لا إن جهل ذلك لقرب إسلامه ، أو بعده عن المسلمين فلا يكفر لعذره . وتفصيله في مصطلح : ( ردّة ).(220/4)
جَلَّالَة *
التّعريف :
1 - الجَلّالة : الدّابّة الّتي تتبع النّجاسات وتأكل الجلّة ، وهي البعرة والعذرة .
وأصله من جلّ فلان البعر جلّا التقطه فهو جالّ ، وجلّال مبالغة ومنه الجلّالة .
والمراد بالجلّالة على ما نصّ الشّافعيّة : كلّ دابّة علفت بنجس ولو من غير العذرة ، كالسّخلة الّتي ارتضعت بلبن نحو كلبة أو أتان .
الحكم التّكليفيّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أكل لحم الجلّالة - وهي الدّابّة الّتي تأكل العذرة أو غيرها من النّجاسات - وشرب لبنها وأكل بيضها مكروه ، إذا ظهر تغيّر لحمها بالرّائحة ، والنّتن في عرقها . وفي قول عند الشّافعيّة ورواية عن أحمد : يحرم لحمها ، ولبنها .
والأصل في ذلك : حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلّالة أن يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها ولا يحمل عليها إلاّ الأدم ، ولا يذكّيها النّاس حتّى تعلف أربعين ليلة » . أمّا إذا لم يظهر منها تغيّر بريح ، أو نتن ، فلا كراهة عند الشّافعيّة وإن كانت لا تأكل إلاّ النّجاسة .
وقال الحنابلة : يكره أكل لحمها وشرب لبنها إذا كان أكثر علفها النّجاسة ، وإن لم يظهر منها نتن أو تغيّر ، ونقل صاحب المغني عن اللّيث قوله : إنّما كانوا يكرهون الجلّالة الّتي لا طعام لها إلاّ الرّجيع ( الرّوث والعذرة ) وما أشبهه .
وذهب المالكيّة إلى أنّ لحم الجلّالة لا كراهة فيه وإن تغيّر من ذلك .
زوال الكراهة بالحبس :
3 - لا خلاف بين الفقهاء الّذين يقولون بحرمة أكل لحم الجلّالة ، أو كراهته في أنّ الحرمة أو الكراهة تزول بالحبس على العلف الطّاهر .
ثمّ اختلفوا في مدّة الحبس : فقال الشّافعيّة : يحبس النّاقة أربعين يوماً ، والبقرة ثلاثين ، والشّاة سبعة أيّام ، والدّجاجة ثلاثة أيّام .
وعند الحنفيّة : تحبس الدّجاجة ثلاثة أيّام ، والشّاة أربعة ، والنّاقة والبقرة عشرة أيّام . وعن أحمد روايتان في ذلك : إحداهما : تحبس الجلّالة ثلاثاً ، سواء أكانت طيراً أو بهيمة ، وقالوا : إنّ ما طهّر حيواناً في مدّة حبسه وعلفه طهّر الآخر ، ولأنّ ابن عمر كان يحبسها ثلاثاً إذا أراد أكلها .
والرّواية الثّانية تحبس البدنة ، والبقرة أربعين يوماً .
ونقل صاحب المغني عن الحسن البصريّ : أنّه رخّص في لحومها ، وألبانها ، لأنّ الحيوان لا يتنجّس بأكل النّجاسات بدليل أنّ شارب الخمر ، لا يحكم بتنجيس أعضائه ، والكافر الّذي يأكل الخنزير والمحرّمات لم يقل أحد بنجاسة ظاهره ، ولو نجس بذلك لما طهر بالإسلام والاغتسال . ولو نجست الجلّالة لما طهرت بالحبس .
ركوب الجلّالة :
4 - يكره ركوب الجلّالة بلا حائل ، لحديث ابن عمر : قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الجلّالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها » .
ولأنّها ربّما عرقت فتلوّث بعرقها .
سؤر الجلّالة :
5 - صرّح الحنفيّة بكراهية شرب سؤر الجلّالة .
التّضحية بالجلّالة :
6 - صرّح الحنفيّة : أنّ الجلّالة لا تجزئ في الأضحيّة : إذا كانت لا تأكل غير النّجاسة .(221/1)
جِلد *
التّعريف :
1 - الجلد في اللّغة : ظاهر البشرة ، قال الأزهريّ : الجلد غشاء جسد الحيوان ، والجمع جلود ، قال اللّه تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهمْ بَدَّلْنَاهمْ جُلُودَاً غَيرَها } . وقد يجمع على أجلاد . ويطلق على الجلد أيضاً ( المسك ) وسمّي الجلد جلداً لأنّه أصلب من اللّحم ، من الجلد وهو صلابة البدن . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأديم :
2 - الأديم : الجلد المدبوغ ، أو الجلد ما كان ، أو أحمره .
والأدمة : باطن الجلدة الّتي تلي اللّحم والبشرة ظاهرها ، أو الأدمة ظاهر الجلدة الّذي عليه الشّعر والبشرة باطنها ، وما ظهر من جلدة الرّأس .
ويطلق بعض الفقهاء لفظ الأديم على الجلد ، وبعضهم يطلقه على المدبوغ من الجلد ، وبالإطلاق الأوّل يكون الأديم مرادفا للجلد . وبالإطلاق الثّاني يكون غير مرادف .
ب - الإهاب :
3 - الإهاب : الجلد من البقر والغنم والوحش ، أو هو ما لم يدبغ وفي الحديث : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » والجمع في القليل آهبة وفي الكثير أهب ، وربّما استعير لجلد الإنسان ، قال أبو منصور الأزهريّ : جعلت العرب جلد الإنسان إهاباً ، وأنشد قول عنترة :
فشككت بالرّمح الأصمّ إهابه .
وعن عائشة في وصف أبيها رضي الله تعالى عنهما : حقن الدّماء في أهبها ، أي أبقى دماء النّاس في أجسادها .
ويطلق الفقهاء لفظ الإهاب على الجلد قبل دباغه ، فإذا دبغ لم يسمّ إهاباً .
ج - فروة :
4 - الفروة : الجلد الّذي عليه شعر ، أو صوف وجلدة الرّأس بما عليها من الشّعر .
وجمع الفروة : فراء . والجلد إذا لم يكن عليه وبر أو صوف لم يسمّ فروة بل يسمّى جلداً . والفروة أخصّ من الجلد .
د - المسك :
5 - المسك الجلد ، وخصّ به بعضهم جلد السّخلة ، وفي حديث عليّ رضي الله عنه : ما كان على فراشي إلاّ مسك كبش أي جلده ، والمسكة : القطعة من الجلد .
فالمسك إن خصّ به جلد السّخلة أخصّ من الجلد ، وإلاّ فهو مرادف له .
الحكم التّكليفيّ :
تختلف الأحكام التّكليفيّة المتعلّقة بالجلد باختلاف المواطن :
أوّلاً : مسّ جلد المصحف :
6 - اتّفق جمهور الفقهاء على أنّه يحرم على المحدث حدثاً أكبر ، أو أصغر مسّ المصحف ، ومنه جلده المتّصل به لأنّه يشمله اسم المصحف ويدخل في بيعه .
وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه يجوز للمحدث حدثاً أكبر مسّ جلد المصحف وموضع البياض منه ، قال ابن عابدين : وهذا أقرب إلى القياس ، والمنع أقرب إلى التّعظيم ،والصّحيح المنع. وينظر تفصيل القول في مسّ المصحف والخلاف فيه في مصطلح : ( مصحف ) .
ثانياً : تعلّق الجلد المنزوع بمحلّ الطّهارة :
7 - اتّفق جمهور الفقهاء على أنّه : إن كشط جلد وتقلّع من الذّراع ، وتعلّق به أو بالمرفق وتدلّى من أحدهما ، وجب غسل ظاهر هذا الجلد وباطنه ، وغسل ما ظهر بعد الكشط ، والتّقلّع من الذّراع عند الوضوء لأنّه من محلّ الفرض ، وإن كشط الجلد من الذّراع وبلغ تقلّعه إلى العضد ، ثمّ تدلّى منه فلا يجب غسله ، لأنّه صار في غير محلّ الفرض ، وهو العضد ، وإن تقلّع من العضد وتدلّى منه فلا يجب غسله ، لأنّه تدلّى من غير محلّ الفرض ، وإن تقلّع من العضد وبلغ التّقلّع إلى الذّراع ، ثمّ تدلّى منه لزمه غسله لأنّه صار من الذّراع ، وإن تقلّع من أحدهما والتحم بالآخر لزمه غسل ما حاذى منه محلّ الفرض ، لأنّه بمنزلة الجلد الّذي على الذّراع إلى العضد ، فإن كان متجافياً عن ذراعه لزم غسل ما تحته من محلّ الفرض في الوضوء .
ثالثاً - طهارة الجلد بالذّكاة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ جلد الحيوان الّذي يؤكل لحمه يطهر بالذّكاة الشّرعيّة ، لأنّه جلد طاهر من حيوان طاهر مأكول ، فجاز الانتفاع به بعد الذّكاة كاللّحم .
واختلفوا في أثر الذّكاة في تطهير جلد ما لا يؤكل لحمه :
فذهب الشّافعيّة والحنابلة وأكثر المالكيّة وجملة الشّرّاح منهم ، إلى أنّ الحيوان الّذي لا يؤكل لحمه لا تعمل الذّكاة فيه ، ولا تؤثّر في طهارة جلده ، بل يكون نجساً بهذه الذّكاة كما ينجس بالموت ، لأنّ هذه الذّكاة لا تطهّر اللّحم ولا تبيح أكله ، كذبح المجوس ، وكلّ ذبح غير مشروع ، فلا يطهر بها الجلد ، لأنّ المقصود الأصليّ بالذّبح أكل اللّحم ، فإذا لم يبحه هذا الذّبح فلأن لا يبيح طهارة الجلد أولى .
وفرّق بعض المالكيّة بين المتّفق على تحريم أكله كالخنزير ، والمختلف في تحريم أكله كالحمار ، والمكروه أكله كالسّبع ، قالوا : إنّ المختلف في تحريم أكله يطهر جلده بالذّكاة لكن لا يؤكل ، وأمّا مكروه الأكل فإن ذكّي لأكل لحمه طهر جلده تبعاً له ، وإن ذكّي لأخذ الجلد فقط طهر ولم يؤكل اللّحم لأنّه ميتة لعدم نيّة ذكاته بناء على تبعّض النّيّة وهو الرّاجح ، وعلى عدم تبعّضها يؤكل .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ ما يطهر جلده - عندهم - بالدّباغ يطهر بالذّكاة الشّرعيّة إلاّ الخنزير ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « دباغ الأديم ذكاته » .
ألحق الذّكاة بالدّباغ ثمّ الجلد يطهر بالدّباغ كذا بالذّكاة لأنّ الذّكاة تشارك الدّباغ في إزالة الدّماء السّائلة والرّطوبة النّجسة فتشاركه في إفادة الطّهارة .
رابعاً - ذبح الحيوان الّذي لا يؤكل لأخذ جلده :(222/1)
9 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز ذبح الحيوان الّذي لا يؤكل لحمه لأخذ جلده ، قال النّوويّ : مذهبنا أنّه لا يجوز ، وسواء في هذا الحمار الزّمن والبغل المكسّر وغيرهما ، وقال أبو حنيفة : يجوز ذبحه لجلده وعن مالك روايتان أصحّهما عنه جوازه والثّانية تحرّمه. وقال الحنابلة : لا يجوز ذبح الحيوان غير المأكول لأجل جلده ، قال الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة : ولو كان في النّزع .
خامساً - تطهير الجلد بالدّباغ :
10 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة على أنّ جلد الميتة - بصفة عامّة - يطهر بالدّباغ للأحاديث الصّحيحة في ذلك ، ومنها « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » وحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « قال في شاة ميمونة : هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ، قالوا : يا رسول اللّه ، إنّها ميتة ، قال : إنّما حرم أكلها » .
وقالوا : إنّه جلد طاهر طرأت عليه نجاسة فجاز أن يطهّر كجلد المذكّاة إذا تنجّس ، لأنّ نجاسة الميتة لما فيها من الرّطوبات والدّماء السّائلة ، وأنّها تزول بالدّباغ فتطهر كالثّوب النّجس إذا غسل ، ولأنّ الدّباغ يحفظ الصّحّة على الجلد ، ويصلحه للانتفاع به كالحياة ، ثمّ الحياة تدفع النّجاسة عن الجلد فكذلك الدّباغ .
ثمّ قال الحنفيّة : كلّ إهاب دبغ وهو يحتمل الدّباغة طهر ، وما لا يحتملها لا يطهر ، إلاّ أنّ جلد الخنزير لا يطهر ، لأنّ الخنزير نجس العين بمعنى أنّ ذاته بجميع أجزائه نجسة حيّاً وميّتاً فليست نجاسته لما فيه من الدّم كنجاسة غيره من الحيوانات ، فلذا لم يقبل التّطهير في ظاهر الرّواية إلاّ في رواية عن أبي يوسف ذكرها في كتاب " منية المصلّي " .
وقال الشّافعيّة : كلّ الجلود النّجسة بعد الموت تطهر بالدّباغ إلاّ الكلب والخنزير والمتولّد من أحدهما ، فلا يطهر جلدهما بالدّباغ ، لأنّ الدّباغ كالحياة ، ثمّ الحياة لا تدفع النّجاسة عن الكلب والخنزير فكذلك الدّباغ ، ولا يزيد الدّباغ على الحياة .
وقال الحنفيّة : الدّباغ تطهير للجلود ، ولا يحتاج بعده إلى تطهير بالماء .
وقال الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - لا يطهر الجلد المدبوغ حتّى يغسل بالماء ، لأنّ ما يدبغ به تنجّس بملاقاة الجلد ، فإذا زالت نجاسة الجلد بقيت نجاسة ما يدفع به ، فوجب أن يغسل حتّى يطهر .
وذهب المالكيّة - في المشهور عندهم - والحنابلة - في المشهور في المذهب وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد - إلى أنّ جلد الميتة نجس ولو دبغ ، ولا يفيد دبغه طهارته ، ولكن يجوز استعماله في غير المائعات . ومقابل المشهور عند المالكيّة خمسة أقوال ، وعند الحنابلة : أنّه يطهر بالدّباغ جلد ما كان طاهرا في حال الحياة .
وفي بقيّة مذاهب الفقهاء في طهارة الجلد بالدّباغ تفصيل أورده النّوويّ في المجموع .
وفي الدّباغ ، وما يدبغ به ، والحاجة إلى فعل للدّبغ ، وغير ذلك .. تفصيل ينظر في مصطلح : ( دباغة ) .
سادساً - الاستنجاء بالجلد :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز الاستنجاء بيابس ، جامد ، طاهر منقّ ، قالع للنّجاسة ، غير مؤذ ولا محرّم ، فلا يجوز الاستنجاء بمبتلّ ، أو نجس ، أو أملس ، أو محدّد ، أو محرّم لكونه مطعوماً أو حقّاً للغير أو لشرفه .
ولهم في الاستنجاء بالجلد غير المأكول تفصيل : قال الحنفيّة - كما ورد في الفتاوى الهنديّة - يجوز الاستنجاء بنحو حجر منقّ كالمدر والتّراب والعود والخرقة والجلد وما أشبهها . وذهب المالكيّة إلى أنّ الجلد المذكّى الّذي تحلّه الذّكاة يطهر بها ، ولكنّه لا يجوز الاستنجاء به لأنّه مطعوم .
أمّا غير المذكّى فإنّه لا يطهر بالدّباغ ولذلك لا يجوز الاستنجاء به أيضا لنجاسته .
وقال الشّافعيّة : الطّاهر من الجلد ضربان :
الأوّل : جلد المأكول المذكّى ولو غير مدبوغ ، والمدبوغ من غير المأكول ، أمّا غير المدبوغ ففي جواز الاستنجاء به قولان :
أحدهما : الجواز كالثّياب وسائر الأعيان وإن كان فيه حرمة ، فليست هي بحيث تمنع الاستعمال في سائر النّجاسات فكذلك في هذه النّجاسة .
وأصحّهما : المنع ، لأمرين : أحدهما أنّ فيه دسومة تمنع التّنشيف .
والثّاني : أنّه مأكول حيث يؤكل الجلد التّابع للرّؤوس والأكارع تبعا لها ، فصار كسائر المطعومات . ومنهم من قال : لا يجوز بلا خلاف ، وإليه مال الشّيخ أبو حامد وكثيرون ، وحملوا ما نقل من تجويز الاستنجاء على ما بعد الدّباغ .
والضّرب الثّاني : وهو المدبوغ ، وفيه قولان : أصحّهما : الجواز لأنّ الدّباغ يزيل ما فيه من الدّسومة ، ويقلبه عن طبع اللّحوم إلى طبع الثّياب .
والثّاني : لا يجوز لأنّه من جنس ما يؤكل ويجوز أكله إذا دبغ وإن كان جلد ميتة على اختلاف فيه . ومنهم من قال : يجوز بلا خلاف ، وما نقل من المنع محمول على ما قبل الدّباغ . وعند الحنابلة : المشهور في المذهب أنّ الدّبغ لا يطهّر جلد الميتة بل يظلّ نجساً ، فلا يجوز الاستنجاء به ، وجلد الحيوان المذكّى يحرم الاستنجاء به لأنّ له حرمة الطّعام .
سابعاً - طهارة الشّعر على الجلد :(222/2)
12 - الشّعر على جلد الحيّ الطّاهر حال حياته طاهر باتّفاق الفقهاء . والشّعر على جلد الإنسان الميّت طاهر عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الصّحيح في مذهب الشّافعيّة . والشّعر من ميتة غير الإنسان فيه خلاف : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - فيما رجّحه الخرقيّ وابن قدامة - إلى أنّ شعر الحيوان " الطّاهر حال حياته " لا ينجس بالموت لأنّ المعهود فيه قبل الموت الطّهارة فكذا بعده ، ولأنّ الموت لا يحلّه إذ ليس فيه حياة فلم ينجس بالموت والدّليل على أنّه لا حياة فيه أنّه لا يحسّ ولا يتألّم ، ولا يحسّ الحيوان في حياته ولا يتألّم بقطع الشّعر أو قصّه ، ولو كانت في الشّعر حياة لتألّم الحيوان بقصّه أو قطعه كما يتألّم بقطع عضو من أعضائه أو جزء من أجزائه .
وذهب الشّافعيّة - في الصّحيح - إلى أنّ شعر ميتة الحيوان الطّاهر حال حياته غير الآدميّ ينجس بالموت ، لقول اللّه تعالى : { حُرِّمَتْ عليكم المَيْتةُ } وهو عامّ للشّعر وغيره . والصّحيح عندهم أنّ الشّعر لا يطهر بدباغ الجلد الّذي عليه الشّعر . وفي الموضوع عندهم اختلاف في الأقوال وخلاف بين فقهاء المذهب ينظر تفصيله في مصطلح : ( شعر ) .
ثامناً - أكل الجلد :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الحيوان المأكول المذكّى ، يؤكل جلده قبل الدّبغ ما لم يغلظ ويخشن ويصر جنساً آخر غير اللّحم ، لأنّ الذّكاة تحلّ لحمه وجلده وسائر ما يجوز أكله منه. أمّا الحيوان المأكول الّذي مات أو ذكّي ذكاة غير شرعيّة ، فإنّ جلده قبل دبغه لا يؤكل ، لقول اللّه تعالى : { حُرِّمَتْ عليكم المَيْتةُ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما حرم من الميتة لحمها » والجلد جزء من الميتة فحرم أكله كسائر أجزائها .
هذا عن الحكم قبل الدّباغ ، أمّا بعده : فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة في القديم المفتى به إلى تحريم أكل جلد الميتة بعد الدّباغ للآية والحديث السّابقين ، سواء أكان من حيوان مأكول أم غير مأكول .
تاسعاً - لبس الجلد واستعماله :
14 - يختلف حكم لبس جلد الحيوان تبعاً للحكم بطهارته على التّفصيل السّابق ( ف /10 ) إلاّ أنّ من قال بنجاسة شيء منه فصّل في حكم اللّبس والاستعمال .
فقال الشّافعيّة : يجوز استعمال جلد الميتة في اليابس دون الرّطب قبل الدّبغ ، صرّح به الماورديّ وغيره ، ونقله الرّويانيّ عن الأصحاب ، أمّا لبسه فلا يجوز .
وأمّا بعد الدّباغ : فللفقهاء تفصيل فيه : قال : الحنفيّة : جلد الميتة - عدا الخنزير - يطهر بالدّباغ ، ويجوز لبسه واستعماله والانتفاع به .
وقال المالكيّة في المشهور عندهم وهو رواية للحنابلة : جلد الميتة بعد دبغه يجوز استعماله في اليابسات لحديث ميمونة رضي الله عنها .
ولأنّ الصّحابة رضي الله عنهم لمّا فتحوا فارس انتفعوا بسروجهم وأسلحتهم ، وذبائحهم ميتة ، ولأنّه انتفاع من غير ضرر أشبه الاصطياد بالكلب . وزاد المالكيّة جواز استعماله في الماء وحده من بين سائر المائعات ، ولا يجوز بيعه ، ولا الصّلاة فيه ولا عليه .
واختلف الفقهاء في لبس واستعمال جلود الثّعالب والسّباع : فذهب الشّافعيّة - في المشهور عندهم - والحنابلة إلى أنّه لا يجوز لبس جلود السّباع أو الرّكوب عليها ، أو الانتفاع بها لحديث أبي المليح عامر بن أسامة عن أبيه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن جلود السّباع » . « وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنّه قال لمعاوية رضي الله عنه : أنشدك باللّه هل تعلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السّباع والرّكوب عليها ؟ قال : نعم » . وكذلك حكم جلود الثّعالب عند الشّافعيّة لا تصحّ الصّلاة فيها على الأصحّ لعدم طهارة الشّعر الّذي على تلك الجلود بالدّباغ .
وعند الحنابلة روايتان تبنيان على الحكم على حلّها ، فإن قيل بتحريمها فحكم جلودها حكم جلود بقيّة السّباع ، وكذلك السّنانير البرّيّة ، فأمّا الأهليّة فمحرّمة ، وهل تطهر جلودها بالدّباغ ؟ يخرّج على روايتين .
وفي الفتاوى الهنديّة عن أبي حنيفة قال : لا بأس بالفرو من السّباع كلّها وغير ذلك من الميتة المدبوغة والمذكّاة ، وقال : ذكاتها دباغها ، وفيها : ولا بأس بجلود النّمور والسّباع كلّها إذا دبغت أن يجعل منها مصلّى .
وقال المالكيّة : تجوز الصّلاة على جلود السّباع إذا ذكّيت ، وكلّ ما ذكّي الحكم فيه كذلك على المشهور .
عاشراً - نزع الملابس الجلديّة للشّهيد :
15 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه ينزع عن الشّهيد عند دفنه الجلد ، والسّلاح والفرو ، والحشو ، والخفّ ، والمنطقة ، والقلنسوة ، وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالباً ، لما روي عن عبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم » .
وذلك على تفصيل ينظر في مصطلح : ( شهيد ) .
حادي عشر : بيع جلد الأضحيّة :
16 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم بيع جلد الأضحيّة ، كما لا يجوز بيع لحمها أو أيّ جزء من أجزائها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث قتادة بن النّعمان : « ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحيّ فكلوا وتصدّقوا واستمتعوا بجلودها » .
وقال الحنفيّة بكراهة بيع جلد الأضحيّة ، على تفصيل ينظر في مصطلح : ( أضحيّة ) .
ثاني عشر : السّلم في الجلد :
17 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ السّلم في الجلد جائز ، لأنّ التّفاوت فيه معلوم ( أي منضبط ) فلم يمنع صحّة السّلم فيه .(222/3)
وقال الحنفيّة : لا خير في السّلم في جلود الإبل والبقر ، والغنم ، لأنّ الجلود لا توزن عادة ولكنّها تباع عدداً ، وهي عدديّة متفاوتة فيها الصّغير وفيها الكبير فلا يجوز السّلم فيها ، وهذا مبنيّ على السّلم في الحيوان . والسّلم في الحيوان عندنا لا يجوز ، فكذلك في أبعاض الحيوان ، ولهذا لا يجوز السّلم في الأكارع والرّؤوس ، وكذلك لا يجوز السّلم في الأدم والورق لأنّه مجهول فيه الصّغير والكبير ، إلاّ أن يشترط من الأدم ضرباً معلوم الطّول والعرض والجودة فحينئذ يجوز السّلم فيه كالثّياب ، وكذلك الأدم إذا كان يباع وزناً ، فإنّه يجوز السّلم فيه بذكر الوزن إذا كان على وجه لا تمكن المنازعة بينهما في التّسليم والتّسلّم . وقال الشّافعيّة : لا يجوز السّلم في الجلد لاختلاف أجزائه في الرّقّة والغلظ ، نعم يصحّ السّلم في قطع منه مدبوغة وزناً .
ثالث عشر : الإجارة على سلخ حيوان بجلده :
18 - لا يجوز استئجار سلّاخ لسلخ حيوان بجلد ذلك الحيوان ، لأنّ الإجارة تفسد بجهالة المسمّى كلّه أو بعضه ، وهنا تفسد الإجارة بالغرر لأنّه لا يدري أيتقطّع الجلد حال سلخه أم ينفصل سليما ، وهل يكون ثخيناً أم رقيقاً ، ولأنّه لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع فلا يجوز أن يكون عوضاً في الإجارة ، فإن سلخ على ذلك فله أجر مثله .
رابع عشر : ضمان الجلد :
19 - للفقهاء في ضمان جلد الميتة قبل دبغه وبعد دبغه خلاف وتفصيل ، بعد اتّفاقهم على ضمان جلد الحيوان المذكّى .
قال الحنفيّة : يحرم الانتفاع بجلد الميتة قبل الدّباغ والحرمة لا تستلزم زوال الملك ، وعن أبي يوسف : لو جزّ صوف شاة ميّتة كان له أن ينتفع به ، ولو وجده صاحب الشّاة في يده كان له أن يأخذه منه ، ولو دبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذه بعد أن يعطيه ما زاد في الدّباغ . وقالوا : لو غصب جلد ميتة فدبغه بما له قيمة كالقرظ والعفص فلصاحب الجلد أن يأخذه ، ويردّ على الغاصب ما زاد الدّباغ فيه ، وإن استهلك الغاصب الجلد لم يضمن عند أبي حنيفة ، ويضمنه مدبوغاً ويعطي ما زاد الدّباغ فيه عند أبي يوسف ومحمّد ، ولو هلك في يد الغاصب لم يضمنه بإجماعهم .
ولو دبغ الغاصب الجلد بما لا قيمة له كالتّراب والشّمس فهو لمالكه بلا شيء ، ولو استهلكه الغاصب ضمن قيمته مدبوغا ، وقيل طاهرا غير مدبوغ .
وقال المالكيّة : من غصب جلد ميتة فعليه قيمته دبغ أم لم يدبغ .
وقال الشّافعيّة - في الأصحّ الّذي نقله النّوويّ وغيره - لو أخذ جلد ميتة فدبغه طهر وإن كان مالكه رفع يده عنه ثمّ أخذه الدّابغ فهو للدّابغ ، وإن كان غصبه فهو للمغصوب منه ، لأنّه فرع ملكه ، فإن تلف في يد الغاصب ضمنه ، ولو أعرض المالك عنه وهو ممّن يعتدّ بإعراضه ملكه آخذه ، وإذا لم يعرض عنه لزم الغاصب ردّه ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » لأنّه منتفع به ، ولو أتلف جلداً لم يدبغ ، فادّعى مالكه تذكيته والمتلف عدمها ، صدّق المتلف بيمينه لأنّ الأصل عدم التّذكية .
وقال الحنابلة : لا يلزم ردّ جلد ميتة غصب لأنّه لا يطهر بدبغ على الصّحيح من المذهب ، ويتّجه باحتمال قويّ أنّه يلزم ردّه أي جلد الميتة الّذي دبغ إن كان باقياً لمن يرى طهارته .
خامس عشر : القطع بسرقة الجلد :
20 - جلد الحيوان المأكول المذكّى ، مال طاهر يقطع سارقه إذا بلغت قيمته ما يقطع فيه مع توفّر بقيّة الشّروط لإقامة حدّ السّرقة ، وبهذا قال الفقهاء .
أمّا جلد الميتة قبل دبغه فلا قطع في سرقته باتّفاق الفقهاء .
وجلد الميتة بعد دبغه يقطع في سرقته عند المالكيّة والشّافعيّة بشروط القطع ، لكنّ عبارة المالكيّة في القيمة الّتي يقطع فيها : جلد ميتة المأكول أو غيره يقطع سارقه بعد الدّبغ إن زاد دبغه على قيمة أصله نصاباً ، بأن يقال ما قيمته غير مدبوغ أن لو كان يباع للانتفاع به فإذا قيل : درهمان فيقال : وما قيمته مدبوغاً فإذا قيل : خمسة قطع ، فإن لم يبلغ بعد دبغه نصابا لم يقطع سارقه كما لو سرقه غير مدبوغ .
وقال محمّد بن الحسن : لو سرق جلود السّباع المدبوغة وقيمتها مائة لا يقطع ، ولو جعلت مصلّاة أو بساطا قطع لأنّها خرجت من أن تكون جلود السّباع لتغيّر اسمها ومعناها .(222/4)
حائل *
التّعريف :
1 - الحائل في اللّغة اسم فاعل من حالت المرأة حيالا إذا لم تحمل .
ويستعمل وصفاً لكلّ أنثى لم تحمل من الحيوان والنّبات . وضدّ الحائل : الحامل .
والحائل أيضاً : السّاتر والحاجز ، والحاجب من حال يحول حيلولة بمعنى حجز ومنع الاتّصال ، يقال : حال النّهر بيننا حيلولة أي حجز .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن المعنيين السّابقين .
الألفاظ ذات الصّلة :
السّترة :
1 - السّترة هي ما ينصبه المصلّي قدّامه علامة للصّلاة من عصا أو تسنيم تراب أو غيره ،وسمّيت سترة لأنّها تستر المارّ من المرور أي تحجبه فهي أخصّ من الحائل بمعنى الحاجز.
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً - حكم الحائل " بمعنى غير الحامل :
3 - الحوائل من النّساء يجوز نكاحهنّ إذا لم يكن هناك مانع شرعيّ ، كالعدّة من الطّلاق أو الوفاة ، وإذا طلّقن فعدّتهنّ ثلاثة قروء - حيض أو أطهار - على خلاف في ذلك عند الفقهاء ، أو ثلاثة أشهر لمن لم يحضن لصغر أو كبر . ( ر : نكاح ، وعدّة ) .
وتختلف الحامل عن الحائل بأحكام مبيّنة في مصطلحي : ( حمل ، وحامل ) .
ثانياً - حكم الحائل بمعنى الحاجز :
أ - في الوضوء :
4 - من نواقض الوضوء عند جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " لمس الرّجل المرأة وعكسه دون حائل . لقوله تعالى : { أو لامَسْتُم النِّسَاءَ } .
وكذلك مسّ قبل الآدميّ ينتقض به الوضوء عند الجمهور إذا كان بغير حائل لما ورد في الحديث : « من مسّ فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضّأ » .
وينتقض الوضوء بمسّ حلقة الدّبر على الجديد عند الشّافعيّة وهي رواية عن أحمد .
وقال الحنفيّة : لا ينتقض الوضوء بمسّ المرأة ولو بغير حائل ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثمّ خرج إلى الصّلاة ولم يتوضّأ » . وقالوا : إنّ المراد من اللّمس في الآية الجماع ، كما فسّرها ابن عبّاس رضي الله عنه . كذلك لا ينتقض الوضوء بمسّ الفرج عند الحنفيّة ولو بغير حائل ، « لقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن عليّ حين سأله هل في مسّ الذّكر وضوء ؟ قال : لا هل هو إلاّ مضغة منك أو بضعة منك » . وتفصيله في مصطلح : ( وضوء ، ولمس ) .
ب - في الغسل :
5 - من موجبات الغسل إيلاج الحشفة أو قدرها في قبل أو دبر على الفاعل والمفعول به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل » .
فإذا كان الإيلاج بغير حائل وجب الغسل اتّفاقاً . أنزل أو لم ينزل .
أمّا إذا كان بحائل ففيه خلاف ينظر في مصطلح : ( غسل ، وجنابة ) .
ج - في استقبال القبلة :
6 - الفرض في استقبال القبلة في الصّلاة على من يعاين الكعبة إصابة عينها ، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقينا ، وهذا بالاتّفاق . أمّا غير المعاين الّذي بينه وبين الكعبة حائل فهو كالغائب على الأصحّ عند الحنفيّة ، فيكفيه استقبال الجهة .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الفرض لمن قرب منها إصابة العين ، ثمّ فصّل الحنابلة فقالوا : إن تعذّرت إصابة العين بحائل أصليّ ، كجبل ونحوه اجتهد إلى عينها ، ومع حائل غير أصليّ كالمنازل لا بدّ من تيقّنه محاذاة القبلة بنظر أو خبر ثقة .
ولم يفرّق الشّافعيّة بين الحائل الخلقيّ والحادث فقالوا : لو كان حاضراً بمكّة وحال بينه وبين الكعبة حائل خلقيّ كجبل ، أو حادث كبناء جاز له الاجتهاد إذا فقد ثقة يخبره ، لما في تكليفه المعاينة من المشقّة .
وتفصيله في مصطلح : ( استقبال القبلة ، ج 4/ ص 64 / 65 ) .
د - مسّ المصحف :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم بالحدث مسّ المصحف بلا حائل . قال تعالى : { لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ } . وفي كتابه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم « أن لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر » . واختلفوا في مسّه بحائل ، كغلاف أو كمّ أو نحوهما .
فالمالكيّة والشّافعيّة يقولون بالتّحريم مطلقاً ولو كان بحائل .
وقال الشّافعيّة : ولو كان الحائل ثخيناً ، حيث يعدّ ماسّاً عرفاً .
وصرّح المالكيّة بحرمة مسّ المصحف وإن مسّه بقضيب ونحوه وكذلك مسّ جلد المصحف وحمله وإن بعلّاقة أو وسادة إلاّ بأمتعة قصد حملها .
والصّحيح عند الحنابلة جواز مسّ المصحف للمحدث بحائل ممّا لا يتبعه في البيع ككيس وكمّ . لأنّ النّهي إنّما ورد عن مسّه ، ومع الحائل إنّما يكون المسّ للحائل دون المصحف .
ومثله ما عند الحنفيّة حيث فرّقوا بين الحائل المنفصل والمتّصل فقالوا : يحرم مسّ المصحف للمحدث إلاّ بغلاف متجاف - أي غير مخيط - أو بصرّة . والمراد بالغلاف ما كان منفصلاً كالخريطة ونحوها ، لأنّ المتّصل بالمصحف منه ، وعلى ذلك الفتوى .
وتفصيله في بحث : ( مصحف ) .
هـ – الاقتداء من وراء حائل :
8 – جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة ورواية عند الحنابلة " على أنّه لا يصحّ الاقتداء إذا حال بين الإمام والمقتدي جدار كبير أو باب مغلق يمنع المقتدي من الوصول إلى إمامه لو قصد الوصول إليه . ويصحّ إذا كان الحائل صغيرا لا يمنع ذلك .
وذهب المالكيّة وهو رواية عند الحنابلة إلى عدم التّفريق بين ما إذا كان الجدار كبيراً أو صغيراً فقالوا بجواز الاقتداء إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما . واتّفقوا على عدم صحّة الاقتداء إذا حال بين الإمام والمقتدي نهر كبير تجري فيه السّفن ، ومثله الطّريق الّذي يمكن أن تجري فيه عجلة عند أكثر الفقهاء .
وتفصيله في مصطلح : ( اقتداء ، ج /6 ، ص /23 ، 24 ) .(223/1)
حاقن
التّعريف
1 - الحاقن لغة : من حقن الشّيء يحقنه حقنا حبسه فهو محقون وحقين ، وحقن الرّجل بوله حبسه ، وبعير محقان يحقن البول فإذا بال أكثر منه واحتقن المريض احتبس بوله . والحاقن هو الّذي له بول شديد . وفي الحديث : { لا رأي لحاقن ، ولا لحاقب ، ولا لحازق } .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الحاقب :
2 - الحاقب لغة من حقب بالكسر فهو حقب إذا تعسّر عليه البول ، أو احتبس ، والحاقب أيضا هو الّذي احتاج إلى الخلاء فلم يتبرّز أو حصر غائطه وفي الحديث : { لا رأي لحاقن ، ولا لحاقب ولا لحازق } . والحقب حبل يشدّ به رحل البعير إلى بطنه كي لا يتقدّم إلى كاهله وهو غير الحزام ، والحقبة من الدّهر مدّة لا وقت لها ، والأحقاب الدّهور ، ومنه قوله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } . وحقبت السّماء حقبا إذا لم تمطر ، وحقب المطر حقبا إذا احتبس ، وكلّ ماء احتبس فقد حقب . والحاقب في اصطلاح الفقهاء : هو المدافع للغائط .
ب - الحصر :
3 - الحصر هو احتباس البطن وقد حصر وأحصر ويقال حصر غائطه وأحصر بغائطه وحصر عليه بوله وخلاؤه . والحصر مصدر حصر يحصر حصرا ، إذا لم يقدر على الكلام ، والحصور الكتوم للسّرّ الحابس له لا يبوح به ، وحصر صدره ضاق وحصره المرض والعدوّ ، وأحصره إذا حبسه ومنعه من المضيّ لحاجته .
ج - الحازق :
4 - الحازق المحصور بالرّيح ، والحاقب المحصور بالبول والغائط ، وقيل الحازق المحصور بالبول والغائط ، وقيل : الحازق الّذي ضاق خفّه فحزق قدمه أي ضغطها . ( الحكم التّكليفيّ ) :
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ صلاة الحاقن وهو المدافع للبول ، وصلاة الحاقب وهو المدافع للغائط مكروهة أي كراهة تنزيه . وذهب الحنفيّة إلى أنّها مكروهة تحريما لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا صلاة بحضرة الطّعام ولا وهو يدافعه الأخبثان } . والحكمة في النّهي عن ذلك أنّه يخلّ بالخشوع وبذلك يستحبّ له أن يفرغ نفسه من ذلك قبل دخول الصّلاة وإن فاتته الجماعة . وفي قول للشّافعيّة : يستحبّ للحاقن أو الحاقب أن يفرغ نفسه من ذلك وإن فاته الوقت . وتختصّ الكراهة عند الشّافعيّة والحنابلة بما إذا بدأ الصّلاة وهو حاقب ، أمّا إذا طرأ له وهو في الصّلاة فليس له الخروج من الصّلاة إذا كانت مفروضة إلاّ إن ظنّ بكتمه ضررا . أمّا عند الحنفيّة فصلاة الحاقب أو الحاقن مكروهة ، سواء طرأ له ذلك قبل شروعه في الصّلاة أو بعد شروعه فيها ، فإن شغله ذلك عن الصّلاة قطعها إن لم يخف فوات الوقت ، وإن أتمّها على هذه الحالة أثم ، لما رواه أبو داود : { لا يحلّ لرجل يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يصلّي وهو حقن حتّى يتخفّف } ومثله الحاقب . وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة . وذهب القاضي حسين من الشّافعيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه إذا انتهت به مدافعة الأخبثين إلى أن ذهب خشوعه لم تصحّ صلاته لحديث مسلم : { لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان } . ويرى المالكيّة أنّ صلاة الحاقن والحاقب باطلة إذا كان في الإتيان بها معه مشقّة أو مشغلة .
( قضاء الحاقن ) :
6 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو أحد القولين لدى الحنابلة إلى أنّه يكره للقاضي أن يقضي وهو حاقن أو حاقب ; لأنّ ذلك يمنع حضور القلب واستيفاء الرّأي ويشغل الفكر الموصّل إلى إصابة الحقّ غالبا ولأنّه في معنى الغضب الّذي ورد فيه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان } . ولكن إذا حكم القاضي وهو بهذه الحالة نفذ قضاؤه . وذهب الحنابلة في الرّاجح عندهم إلى أنّه يحرم قضاء القاضي وهو حاقن أو حاقب . فإن خالف وحكم فأصاب الحقّ نفذ حكمه . وفي قول آخر للحنابلة : لا ينفذ قضاؤه في هذه الحالة ; لأنّ النّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وجرى مثل هذا الخلاف بين الحنابلة في إفتاء الحاقن والحاقب . فمنهم من قال : بتحريمه وعدم صحّته . ومنهم من قال : لا يفتي المفتي وهو حاقب أو حاقن ، فإن أفتى وأصاب صحّت فتواه مع الكراهة .(224/1)
حجاز
التّعريف
1 - الحجاز لغة من الحجز ، وهو الفصل بين الشّيئين . قال الأزهريّ : الحجز أن يحجز بين متقاتلين ، والحجاز الاسم وكذا الحاجز ، قال اللّه تعالى : { وجعل بين البحرين حاجزا } أي حجازا بين ماء ملح وماء عذب لا يختلطان ، وذلك الحجاز قدرة اللّه . ويقال للجبال أيضا حجاز ، أي لأنّها تحجز بين أرض وأرض . والحجاز البلد المعروف ، سمّي بذلك من الحجز الّذي هو الفصل بين الشّيئين ، قيل : لأنّه فصل بين الغور ( أي تهامة ) والشّام والبادية . وقيل : لأنّه فصل بين تهامة ونجد . وقال الأزهريّ : سمّي حجازا لأنّ الحرار حجزت بينه وبين عالية نجد . وقد اختلفت عبارات اللّغويّين في بيان ما يدخل تحت اسم الحجاز وبيان حدوده ، فقال ياقوت الحمويّ : الحجاز الجبل الممتدّ الّذي حال بين الغور ، غور تهامة ، ونجد ، ثمّ نقل عن الأصمعيّ الحجاز من تخوم صنعاء من العبلاء وتبالة إلى تخوم الشّام . وقريب منه قول هشام الكلبيّ إنّ جبل السّراة من قعرة اليمن إلى أطراف بوادي الشّام سمّته العرب حجازا ، فصار ما خلفه إلى سيف البحر غور تهامة ، وما دونه في شرقيّه إلى أطراف العراق والسّماوة نجدا . والجبل نفسه وهو سراته وما احتجز به في شرقيّه من الجبال وانحاز إلى ناحية فيه هو الحجاز . وأمّا في اصطلاح الفقهاء وخاصّة عند الشّافعيّة والحنابلة الّذين قصروا حكم جزيرة العرب الوارد في الحديث ، فبيان مرادهم بالحجاز كما يلي : قال الشّافعيّ : والحجاز مكّة والمدينة واليمامة ومخاليفها كلّها . ثمّ قال : « ولا يتبيّن أن يمنعوا ركوب بحر الحجاز ، ويمنعون من المقام في سواحله ، وكذلك إن كانت في بحر الحجاز جزائر وجبال تسكن منعوا من سكناها لأنّها من أرض الحجاز » . ا هـ . وذكر في المنهاج وشرحه من مدن الحجاز وقراه : مكّة والمدينة واليمامة وقراها كالطّائف ووجّ وجدّة والينبع وخيبر ، ( وأضاف عميرة البرلّسيّ فدكا ) . وقال الشّافعيّة : إنّ الكافر يمنع من الإقامة بجزائر بحر الحجاز ولو كانت خرابا ، ومن الإقامة في بحر في الحجاز ولو في سفينة . وفسّر القليوبيّ اليمامة بأنّها البلد الّتي كان فيها مسيلمة ، والّتي سمّيت باسمها زرقاء اليمامة . وهذا يقتضي أنّ الحجاز عند الشّافعيّة - وعند الحنابلة كما يأتي - يشمل ما هو شرقيّ جبال الحجاز حتّى اليمامة وقراها وهي منطقة الرّياض الآن ، أو ما كان يسمّى قديما العرض أو العارض وهي بعض العروض ، جاء في معجم البلدان : العروض اليمامة والبحرين وما والاهما . وليست البحرين وقاعدتها هجر من الحجاز . وكذلك فسّره الحنابلة : فإنّهم عندما تعرّضوا لما يمنع الكفّار من سكناه بيّنوا أنّ المراد بجزيرة العرب في الحديث ( الحجاز ) . جاء في المغني : قال أحمد ، في حديث { أخرجوا المشركين من جزيرة العرب } : جزيرة العرب المدينة وما والاها ، قال ابن قدامة : يعني أنّ الممنوع من سكنى الكفّار المدينة وما والاها وهو مكّة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها . وجاء في كلامه ما يدلّ على أنّ تيماء وفيدا ونحوهما لا يمنع أهل الذّمّة من سكناها وكذلك اليمن ونجران وتيماء وفيد من بلاد طيئ . وجاء في مطالب أولي النّهى : يمنع أهل الذّمّة من الإقامة بالحجاز ، وهو ما حجز بين تهامة ونجد . والحجاز كالمدينة واليمامة وخيبر والينبع وفدك وقراها ، وفدك قرية بينها وبين المدينة يومان . وقال ابن تيميّة : ومن الحجاز تبوك ونحوها ، وما دون المنحنى وهو عقبة الصّوّان يعتبر من الشّام كمعان .
الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بالحجاز :
2 - الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بجزيرة العرب ومنها الحجاز ترجع أساسا إلى أربعة أحكام : الأوّل : أنّها لا يسكنها غير المسلمين . والثّاني : أنّها لا يدفن بها أحد من غير المسلمين . والثّالث : أنّها لا يبقى بها دار عبادة لغير المسلمين . والرّابع : أنّها زكويّة كلّها لا يؤخذ من أرضها خراج . وقد ذكر ذلك وأدلّته وتفصيله والخلاف فيه تحت عنوان ( أرض العرب ) لكنّ المراد هنا بيان أنّ أرض العرب نوعان : الأوّل : ما اتّفق فيه الفقهاء على أنّه مراد بأرض العرب الواردة أحكامها في الأحاديث ، فتنطبق عليه الأحكام المذكورة إجماعا ، وهو أرض الحجاز . والثّاني : ما اختلف في أنّه مراد بالأحاديث الواردة في شأن أرض العرب وهو ما عدا أرض الحجاز ، كالبحرين ، واليمن ، وما وراء جبال طيئ إلى حدود العراق . فالحنفيّة والمالكيّة يرون أنّها مرادة بالأحاديث الواردة وتنطبق عليها أحكامها . والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّها غير مرادة ولا تنطبق عليها تلك الأحكام . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( أرض العرب ) .(225/1)
حجامة
التّعريف
1 - الحجامة : مأخوذة من الحجم أي المصّ . يقال : حجم الصّبيّ ثدي أمّه إذا مصّه . والحجّام المصّاص ، والحجامة صناعته والمحجم يطلق على الآلة الّتي يجمع فيها الدّم وعلى مشرط الحجّام فعن ابن عبّاس : الشّفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكيّة نار . والحجامة في كلام الفقهاء قيّدت عند البعض بإخراج الدّم من القفا بواسطة المصّ بعد الشّرط بالحجم لا بالفصد . وذكر الزّرقانيّ أنّ الحجامة لا تختصّ بالقفا بل تكون من سائر البدن . وإلى هذا ذهب الخطّابيّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الفصد :
2 - فصد يفصد فصدا وفصادا : شقّ العرق لإخراج الدّم . وفصد النّاقة شقّ عرقها ليستخرج منه الدّم فيشربه . فالفصد والحجامة يجتمعان في أنّ كلّا منهما إخراج للدّم ، ويفترقان في أنّ الفصد شقّ العرق ، والحجامة مصّ الدّم بعد الشّرط .
( الحكم التّكليفيّ ) :
3 - التّداوي بالحجامة مندوب إليه ، وورد في ذلك عدّة أحاديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منها قوله : { خير ما تداويتم به الحجامة } ومنها قوله : { خير الدّواء الحجامة } . ومنها ما رواه الشّيخان : { إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الدّاء ، وما أحبّ أن أكتوي } .
الأحكام المتعلّقة بالحجامة :
4 - اعتنى الفقهاء ببيان أحكام الحجامة من حيث تأثيرها على الطّهارة ، وعلى الصّوم ، وعلى الإحرام . ومن حيث القيام بها ، وأخذ الأجر عليها ، والتّداوي بها . تأثير الحجامة على الطّهارة :
5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ خروج الدّم بالحجامة ناقض من نواقض الوضوء . قال السّرخسيّ : الحجامة توجب الوضوء وغسل موضع المحجمة عندنا ، لأنّ الوضوء واجب بخروج النّجس ، فإن توضّأ ولم يغسل موضع المحجمة ، فإن كان أكثر من قدر الدّرهم لم تجزه الصّلاة ، وإن كان دون ذلك أجزأته . والفصد مثل الحجامة في نقض الوضوء . فإذا افتصد وخرج منه دم كثير ، وينتقض أيضا إذا مصّت علقة عضوا وأخذت من الدّم قدرا يسيل منها لو شقّت . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الحجامة والفصد ومصّ العلق لا يوجب واحد منها الوضوء . قال الزّرقانيّ : لا ينتقض الوضوء بحجامة من حاجم ومحتجم وفصد . وفي الأمّ " لا وضوء في قيء ولا رعاف ولا حجامة ولا شيء خرج من الجسد وأخرج منه غير الفروج الثّلاثة القبل والدّبر والذّكر » . وذهب الحنابلة إلى أنّ ما خرج من الدّم موجب للوضوء إذا كان فاحشا . وفي حدّ الفاحش عندهم خلاف : فقيل : الفاحش ما وجده الإنسان فاحشا كثيرا . قال ابن عقيل : إنّما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط النّاس لا المتبذّلين ولا الموسوسين . وقيل : هو مقدار الكفّ . وقيل : عشرة أصابع .
تأثير الحجامة على الصّوم :
6 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الحجامة جائزة للصّائم إذا كانت لا تضعفه ، ومكروهة إذا أثّرت فيه وأضعفته ، يقول ابن نجيم : الاحتجام غير مناف للصّوم وهو مكروه للصّائم . إذا كان يضعفه عن الصّوم ، أمّا إذا كان لا يضعفه فلا بأس به . وذهب المالكيّة إلى أنّ المحتجم إمّا أن يكون ضعيف البدن لمرض أو خلقة . وفي كلّ إمّا أن يغلب على ظنّه أنّ الاحتجام لا يضرّه ، أو يشكّ أو يغلب على ظنّه أنّه إن احتجم لا يقوى على مواصلة الصّوم . فمن غلب على ظنّه أنّه لا يتضرّر بالحجامة جاز له أن يحتجم . ومن غلب على ظنّه أنّه سيعجز عن مواصلة الصّوم إذا هو احتجم حرم عليه . إلاّ إذا خشي على نفسه هلاكا أو شديد أذى بتركه ، فيجب عليه أن يحتجم ويقضي إذا أفطر ولا كفّارة عليه . ومن شكّ في تأثير الحجامة على قدرته على مواصلة الصّوم فإن كان قويّ البنية جاز له ، وإن كان ضعيف البدن كره له .
والفصادة مثل الحجامة فتكره للمريض دون الصّحيح كما في الإرشاد . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يفطر الصّائم بالفصد أو الحجامة يقول الخطيب الشّربينيّ : أمّا الفصد فلا خلاف فيه ، وأمّا الحجامة فلأنّه { صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم } . وهو ناسخ لحديث : { أفطر الحاجم والمحجوم } . وذهب الحنابلة إلى أنّ الحجامة تؤثّر في الحاجم والمحجوم ويفطر كلّ منهما . يقول ابن قدامة : الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم ، وبه قال إسحاق وابن المنذر . ومحمّد بن إسحاق بن خزيمة ، وهو قول عطاء وعبد الرّحمن بن مهديّ . وكان الحسن ومسروق وابن سيرين لا يرون للصّائم أن يحتجم . وكان جماعة من الصّحابة يحتجمون ليلا في الصّوم منهم ابن عمر وابن عبّاس وأبو موسى وأنس . واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم { أفطر الحاجم والمحجوم } .
تأثير الحجامة على الإحرام :(226/1)
7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الحجامة لا تنافي الإحرام . قال ابن نجيم : وممّا لا يكره له أيضا - أي للمحرم - الاكتحال بغير المطيّب وأن يختتن ويفتصد . ويقلع ضرسه ، ويجبر الكسر ، ويحتجم » . فالحجامة إذا لم يترتّب عليها قلع الشّعر لا تكره للمحرم ، أمّا إذا ترتّب على ذلك قلع شعر ، فإن حلق محاجمه واحتجم فيجب عليه دم . ولا يضرّ تعصيب مكان الفصد : يقول ابن عابدين : ( وإن لزم تعصيب اليد لما قدّمناه من أنّ تعصيب غير الوجه والرّأس إنّما يكره له بغير عذر ) . وذهب المالكيّة إلى أنّ الحجامة في الإحرام : إن كانت لعذر فجواز الإقدام عليها ثابت قولا واحدا ، وإن كانت لغير عذر حرمت إن لزم قلع الشّعر . وكرهت إن لم يلزم منه ذلك ، لأنّ الحجامة قد تضعفه قال مالك : لا يحتجم المحرم إلاّ من ضرورة . علّق عليه الزّرقانيّ أي يكره لأنّه قد يؤدّي إلى ضعفه كما كره صوم يوم عرفة للحاجّ مع أنّ الصّوم أخفّ من الحجامة . واستدلّوا بما روى مالك في الموطّأ عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم فوق رأسه } ، وفي رواية الصّحيحين وسط رأسه ، وفي رواية علّقها البخاريّ { احتجم من شقيقة كانت به } وللنّسائيّ من وثء ( وهو رضّ العظم بلا كسر ) وهو يومئذ بلحي جمل ولأبي داود والحاكم والنّسائيّ عن أنس { على ظهر القدم من وجع كان به } ولفظ الحاكم { على ظهر القدمين } : يقول الزّرقانيّ : وهذا يدلّ على تعدّدها منه في الإحرام . وعلى الحجامة في الرّأس وغيره للعذر . وهو إجماع ، ولو أدّت إلى قلع الشّعر . لكن يفتدي إذا قلع الشّعر . وأمّا الفصد فيقول الزّرقانيّ : وجاز فصد لحاجة وإلاّ كره إن لم يعصبه ، فإن عصّبه ولو لضرورة افتدى . وعند الشّافعيّة قال النّوويّ : إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمّنت قطع شعر فهي حرام لقطع الشّعر وإن لم تتضمّنه جازت . واستدلّ بما روى البخاريّ عن ابن بحينة رضي الله عنه قال : { احتجم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحي جمل في وسط رأسه } . واستدلّ بهذا الحديث على جواز الفصد ، وبطّ الجرح ، وقطع العرق ، وقلع الضّرس ، وغير ذلك من وجوه التّداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم من تناول الطّيب ، وقطع الشّعر ، ولا فدية عليه في شيء من ذلك . وذهب الحنابلة إلى جواز الاحتجام للمحرم إذا لم يقلع شعرا دون تفصيل ، وإن اقتلع شعرا من رأسه أو من بدنه فإن كان لغير عذر حرم . وإن كان لعذر جاز . ويجب على من اقتلع شعرا بسبب الحجامة فدية في ثلاث شعرات مدّ عن كلّ واحدة . وإن كانت أربع شعرات فأكثر وجب عليه صيام ثلاثة أيّام أو إطعام ثلاثة آصع أو ذبح شاة . والفصد مثل الحجامة في الأحكام .
امتهان الحجامة وأخذ الأجر عليها :
8 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في قول ) إلى جواز اتّخاذ الحجامة حرفة وأخذ الأجرة عليها ، واستدلّوا بما روى ابن عبّاس قال : { احتجم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجّام أجره } ، ولو علمه حراما لم يعطه وفي لفظ { لو علمه خبيثا لم يعطه } . ولأنّها منفعة مباحة فجاز الاستئجار عليها كالبناء والخياطة ، ولأنّ بالنّاس حاجة إليها ولا نجد كلّ أحد متبرّعا بها ، فجاز الاستئجار عليها كالرّضاع . وذهب الحنابلة في قول آخر نسبه القاضي إلى أحمد قال : لا يباح أجر الحجّام ، فإذا أعطي شيئا من غير عقد ولا شرط فله أخذه ، ويصرفه في علف دوابّه ومؤنة صناعته ، ولا يحلّ له أكله ، واستدلّ لهذا القول بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { كسب الحجّام خبيث } .
ضمان الحجّام :
9 - الحجّام لا يضمن إذا فعل ما أمر به وتوفّر شرطان :
أ - أن يكون قد بلغ مستوى في حذق صناعته يمكّنه من مباشرتها بنجاح .
ب - أن لا يتجاوز ما ينبغي أن يفعل في مثله . وتفصيله في تداو وتطبيب .(226/2)
حجّ
الحجّ التّعريف
1 - الحجّ : بفتح الحاء ويجوز كسرها ، هو لغة القصد ، حجّ إلينا فلان : أي قدم ، وحجّه يحجّه حجّا : قصده . ورجل محجوج ، أي مقصود . هذا هو المشهور . وقال جماعة من أهل اللّغة : الحجّ : القصد لمعظّم . والحجّ بالكسر : الاسم . والحجّة : المرّة الواحدة ، وهو من الشّواذّ ، لأنّ القياس بالفتح . تعريف الحجّ اصطلاحا :
2 - الحجّ في اصطلاح الشّرع : هو قصد موضع مخصوص ( وهو البيت الحرام وعرفة ) في وقت مخصوص ( وهو أشهر الحجّ ) للقيام بأعمال مخصوصة وهي الوقوف بعرفة ، والطّواف ، والسّعي عند جمهور العلماء ، بشرائط مخصوصة يأتي بيانها .
( الألفاظ ذات الصّلة )
العمرة :
3 - وهي قصد البيت الحرام للطّواف والسّعي وتفصيله في مصطلح : ( عمرة ) .
الحكم التّكليفيّ للحجّ :
4 - الحجّ فرض عين على كلّ مكلّف مستطيع في العمر مرّة ، وهو ركن من أركان الإسلام ، ثبتت فرضيّته بالكتاب والسّنّة والإجماع .
أ - أمّا الكتاب : فقد قال اللّه تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين } . فهذه الآية نصّ في إثبات الفرضيّة ، حيث عبّر القرآن بصيغة { وللّه على النّاس } وهي صيغة إلزام وإيجاب ، وذلك دليل الفرضيّة ، بل إنّنا نجد القرآن يؤكّد تلك الفرضيّة تأكيدا قويّا في قوله تعالى : { ومن كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين } فإنّه جعل مقابل الفرض الكفر ، فأشعر بهذا السّياق أنّ ترك الحجّ ليس من شأن المسلم ، وإنّما هو شأن غير المسلم .
ب - وأمّا السّنّة فمنها حديث ابن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وصيام رمضان ، والحجّ } . وقد عبّر بقوله : { بني الإسلام ... } فدلّ على أنّ الحجّ ركن من أركان الإسلام . وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال : { خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : أيّها النّاس قد فرض اللّه عليكم الحجّ فحجّوا فقال رجل : أكلّ عام يا رسول اللّه ؟ فسكت حتّى قالها ثلاثا ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ... } . وقد وردت الأحاديث في ذلك كثيرة جدّا حتّى بلغت مبلع التّواتر الّذي يفيد اليقين والعلم القطعيّ اليقينيّ الجازم بثبوت هذه الفريضة .
ج - وأمّا الإجماع : فقد أجمعت الأمّة على وجوب الحجّ في العمر مرّة على المستطيع ، وهو من الأمور المعلومة من الدّين بالضّرورة يكفر جاحده .
وجوب الحجّ على الفور أو التّراخي :
5 - اختلفوا في وجوب الحجّ عند تحقّق الشّروط هل هو على الفور أو على التّراخي ؟ . ذهب أبو حنيفة في أصحّ الرّوايتين عنه وأبو يوسف ومالك في الرّاجح عنه وأحمد إلى أنّه يجب على الفور ، فمن تحقّق فرض الحجّ عليه في عام فأخّره يكون آثما ، وإذا أدّاه بعد ذلك كان أداء لا قضاء ، وارتفع الإثم . وذهب الشّافعيّ والإمام محمّد بن الحسن إلى أنّه يجب على التّراخي ، فلا يأثم المستطيع بتأخيره . والتّأخير إنّما يجوز بشرط العزم على الفعل في المستقبل ، فلو خشي العجز أو خشي هلاك ماله حرم التّأخير ، أمّا التّعجيل بالحجّ لمن وجب عليه فهو سنّة عند الشّافعيّ ما لم يمت ، فإذا مات تبيّن أنّه كان عاصيا من آخر سنوات الاستطاعة . استدلّ الجمهور على الوجوب الفوريّ بالآتي :
أ - الحديث : { من ملك زادا . وراحلة تبلّغه إلى بيت اللّه ، ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا } .
ب - المعقول : وذلك أنّ الاحتياط في أداء الفرائض واجب ، ولو أخّر الحجّ عن السّنة الأولى فقد يمتدّ به العمر وقد يموت فيفوت الفرض ، وتفويت الفرض حرام ، فيجب الحجّ على الفور احتياطا . واستدلّ الشّافعيّة ومن معهم بما يلي :
أ - أنّ الأمر بالحجّ في قوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت } مطلق عن تعيين الوقت ، فيصحّ أداؤه في أيّ وقت ، فلا يثبت الإلزام بالفور ، لأنّ هذا تقييد للنّصّ ، ولا يجوز تقييده إلاّ بدليل ، ولا دليل على ذلك . وهذا بناء على الخلاف أنّ الأمر على الفور أو للتّراخي ( انظر مصطلح : أمر ) .
ب - ( أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكّة عام ثمان من الهجرة ، ولم يحجّ إلاّ في السّنة العاشرة ولو كان واجبا على الفوريّة لم يتخلّف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن فرض عليه ) .
فضل الحجّ :(227/1)
6 - تضافرت النّصوص الشّرعيّة الكثيرة على الإشادة بفضل الحجّ ، وعظمة ثوابه وجزيل أجره العظيم عند اللّه تعالى . قال اللّه تعالى : { وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللّه في أيّام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ... } . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { من حجّ للّه فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه } . وعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { ما من يوم أكثر أن يعتق اللّه فيه عبدا من النّار من يوم عرفة ، وإنّه ليدنو ثمّ يباهي بهم الملائكة ... } ومعنى يدنو : يتجلّى عليهم برحمته وإكرامه . وعن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهما ينفيان الفقر والذّنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذّهب والفضّة ، وليس للحجّة المبرورة ثواب إلاّ الجنّة } . وعن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { الحجّاج والعمّار وفد اللّه ، إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم } . { وعن عائشة رضي الله عنها ، قلت يا رسول اللّه : نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال : لا ، لكنّ أفضل الجهاد حجّ مبرور } . وعن أبي هريرة { رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان باللّه ورسوله ، قيل ثمّ ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل اللّه ، قيل : ثمّ ماذا ؟ قال : حجّ مبرور } .
حكمة مشروعيّة الحجّ :
7 - شرعت العبادات لإظهار عبوديّة العبد لربّه ومدى امتثاله لأمره ، ولكن من رحمة اللّه تعالى أنّ أكثر هذه العبادات لها فوائد تدركها العقول الصّحيحة وأظهر ما يكون ذلك في فريضة الحجّ . وتشتمل هذه الفريضة على حكم جليلة كثيرة تمتدّ في ثنايا حياة المؤمن الرّوحيّة ، ومصالح المسلمين جميعهم في الدّين والدّنيا ، منها :
أ - أنّ في الحجّ إظهار التّذلّل للّه تعالى ، وذلك لأنّ الحاجّ يرفض أسباب التّرف والتّزيّن ، ويلبس ثياب الإحرام مظهرا فقره لربّه ، ويتجرّد عن الدّنيا وشواغلها الّتي تصرفه عن الخلوص لمولاه ، فيتعرّض بذلك لمغفرته ورحماه ، ثمّ يقف في عرفة ضارعا لربّه حامدا شاكرا نعماءه وفضله ، ومستغفرا لذنوبه وعثراته ، وفي الطّواف حول الكعبة البيت الحرام يلوذ بجناب ربّه ويلجأ إليه من ذنوبه ، ومن هوى نفسه ، ووسواس الشّيطان .
ب - أنّ أداء فريضة الحجّ يؤدّي شكر نعمة المال ، وسلامة البدن ، وهما أعظم ما يتمتّع به الإنسان من نعم الدّنيا ، ففي الحجّ شكر هاتين النّعمتين العظيمتين ، حيث يجهد الإنسان نفسه " وينفق ماله في طاعة ربّه والتّقرّب إليه سبحانه ، ولا شكّ أنّ شكر النّعماء واجب تقرّره بداهة العقول ، وتفرضه شريعة الدّين .
ج - يجتمع المسلمون من أقطار الأرض في مركز اتّجاه أرواحهم ، ومهوى أفئدتهم ، فيتعرّف بعضهم على بعض ، ويألف بعضهم بعضا ، هناك حيث تذوب الفوارق بين النّاس ، فوارق الغنى والفقر ، فوارق الجنس واللّون ، فوارق اللّسان واللّغة ، تتّحد كلمة الإنسان في أعظم مؤتمر بشريّ اجتمعت كلمة أصحابه على البرّ والتّقوى وعلى التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر ، هدفه العظيم ربط أسباب الحياة بأسباب السّماء .
شروط فرضيّة الحجّ :
8 - شروط الحجّ صفات يجب توفّرها في الإنسان لكي يكون مطالبا بأداء الحجّ ، مفروضا عليه ، فمن فقد أحد هذه الشّروط لا يجب عليه الحجّ ولا يكون مطالبا به ، وهذا الشّروط خمسة هي : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرّيّة ، والاستطاعة ، وهي متّفق عليها بين العلماء ، قال الإمام ابن قدامة في المغني : لا نعلم في هذا كلّه اختلافا » . الشّرط الأوّل : الإسلام :
9 - أ - لو حجّ الكافر ثمّ أسلم بعد ذلك تجب عليه حجّة الإسلام ، لأنّ الحجّ عبادة ، بل هو من أعظم العبادات والقربات ، والكافر ليس من أهل العبادة .
ب - ولو أسلم وهو معسر بعد استطاعته في الكفر ، فإنّه لا أثر لها .
ج - وقد أجمع العلماء على أنّ الكافر لا يطالب بالحجّ بالنّسبة لأحكام الدّنيا ، أمّا بالنّسبة للآخرة فقد اختلفوا في حكمه ، هل يؤاخذ بتركه أو لا يؤاخذ . وبيان ذلك في المصطلح الأصوليّ .
( الشّرط الثّاني ) : العقل :
10 - يشترط لفرضيّة الحجّ العقل ، لأنّ العقل شرط للتّكليف والمجنون ليس مكلّفا بفروض الدّين ، بل لا تصحّ منه إجماعا ، لأنّه ليس أهلا للعبادة ، فلو حجّ المجنون فحجّه غير صحيح ، فإذا شفي من مرضه وأفاق إلى رشده تجب عليه حجّة الإسلام . روى عليّ بن أبي طالب عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يفيق ، وعن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يحتلم } .
( الشّرط الثّالث ) : البلوغ :
11 - يشترط البلوغ ، لأنّ الصّبيّ ليس بمكلّف ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : { رفعت امرأة صبيّا لها فقالت : يا رسول اللّه ألهذا حجّ ؟ قال : نعم ولك أجر } . فلو حجّ الصّبيّ صحّ حجّه وكان تطوّعا ، فإذا بلغ الصّبيّ وجب عليه حجّة الفريضة ، بإجماع العلماء ، لأنّه أدّى ما لم يجب عليه ، فلا يكفيه عن الحجّ الواجب بعد البلوغ ، لما روى ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { إذا حجّ الصّبيّ فهي له حجّة حتّى يعقل ، وإذا عقل فعليه حجّة أخرى ، وإذا حجّ الأعرابيّ فهي له حجّة ، فإذا هاجر فعليه حجّة أخرى } .
( الشّرط الرّابع ) : الحرّيّة :(227/2)
12 - العبد المملوك لا يجب عليه الحجّ ، لأنّه مستغرق في خدمة سيّده ، ولأنّ الاستطاعة شرط ولا تتحقّق إلاّ بملك الزّاد والرّاحلة ، والعبد لا يتملّك شيئا ، فلو حجّ المملوك ولو بإذن سيّده صحّ حجّه وكان تطوّعا لا يسقط به الفرض ، ويأثم إذا لم يأذن له سيّده بذلك . ويجب عليه أن يؤدّي حجّة الإسلام عندما يعتق ، للحديث السّابق .
( الشّرط الخامس ) : الاستطاعة :
13 - لا يجب الحجّ على من لم تتوفّر فيه خصال الاستطاعة لأنّ القرآن خصّ الخطاب بهذه الصّفة في قوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا } .
وخصال الاستطاعة الّتي تشترط لوجوب الحجّ قسمان : شروط عامّة للرّجال والنّساء ، وشروط تخصّ النّساء . القسم الأوّل : شروط عامّة للرّجال والنّساء : شروط الاستطاعة العامّة أربع خصال : القدرة على الزّاد وآلة الرّكوب ، وصحّة البدن ، وأمن الطّريق ، وإمكان السّير . الخصلة الأولى :
14 - تشترط لوجوب الحجّ القدرة على الزّاد وآلة الرّكوب ، والنّفقة ذهابا وإيابا عند الجمهور ومنهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويختصّ اشتراط القدرة على آلة الرّكوب بمن كان بعيدا عن مكّة . قال في " الهداية " : وليس من شرط الوجوب على أهل مكّة ومن حولها الرّاحلة لأنّه لا تلحقهم مشقّة زائدة في الأداء ، فأشبه السّعي إلى الجمعة » . والأظهر أنّ الّذي يكون عند الحنفيّة بعيدا عن مكّة هو : من بينه وبين مكّة ثلاثة أيّام فصاعدا ، أمّا ما دونه فلا ، إذا كان قادرا على المشي " يعني مسافة القصر في السّفر . وتقدّر ب ( 81 ) كيلو متر تقريبا . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فهو من كان بينه وبين مكّة مرحلتان ، وهي مسافة القصر عندهم . وتقدّر عندهم بنحو المسافة السّابقة .
15 - وقد وقع الخلاف بين العلماء في شرطيّة الزّاد وآلة الرّكوب لوجوب الحجّ ، وكانوا يركبون الدّوابّ . لذلك عبّروا بقولهم : الزّاد والرّاحلة " وهي الجمل المعدّ للرّكوب لأنّه المعروف في زمانهم . وهذا الخلاف في أمرين : الأمر الأوّل : خالف المالكيّة الجمهور في اشتراط القدرة على الرّاحلة وإن كانت المسافة بعيدة فقالوا : يجب عليه الحجّ إذا كان صحيح البنية يقدر على المشي بلا مشقّة عظيمة ، وهو يملك الزّاد . واستدلّ المالكيّة بقول اللّه تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا } . وجه الاستدلال أنّ " من كان صحيح البدن قادرا على المشي وله زاد فقد استطاع إليه سبيلا فيلزمه فرض الحجّ » . واستدلّ الجمهور بما ورد من الأحاديث الكثيرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه فسّر السّبيل باستطاعة الزّاد والرّاحلة ، مثل حديث أنس : { قيل يا رسول اللّه ما السّبيل ؟ قال : الزّاد والرّاحلة } . فقد فسّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الاستطاعة المشروطة " بالزّاد والرّاحلة جميعا " وبه تبيّن أنّ القدرة على المشي لا تكفي لاستطاعة الحجّ » .
الأمر الثّاني : اختلف العلماء في الزّاد ووسائل المواصلة هل يشترط ملكيّة المكلّف لما يحصّلها به أو لا يشترط ؟ فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ ملك ما يحصّل به الزّاد ووسيلة النّقل ( مع ملاحظة ما ذكرنا عند المالكيّة ) شرط لتحقّق وجوب الحجّ ، وفي هذا يقول ابن قدامة : ولا يلزمه الحجّ ببذل غيره له ، ولا يصير مستطيعا بذلك ، سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيّا ، وسواء بذل له الرّكوب والزّاد ، أو بذل له مالا » . وذهب الشّافعيّ فيما يروى عنه إلى أنّه يجب الحجّ بإباحة الزّاد والرّاحلة إذا كانت الإباحة ممّن لا منّة له على المباح له ، كالوالد إذا بذل الزّاد والرّاحلة لابنه .
( شروط الزّاد وآلة الرّكوب ) :
16 - ذكر العلماء شروطا في الزّاد وآلة الرّكوب المطلوبين لاستطاعة الحجّ ، هي تفسير وبيان لهذا الشّرط ، نذكرها فيما يلي :
أ - أنّ الزّاد الّذي يشترط ملكه هو ما يحتاج إليه في ذهابه وإيابه من مأكول ومشروب وكسوة بنفقة وسط لا إسراف فيها ولا تقتير ، فلو كان يستطيع زادا أدنى من الوسط الّذي اعتاده لا يعتبر مستطيعا للحجّ ، ويتضمّن اشتراط الزّاد أيضا ما يحتاج إليه من آلات للطّعام والزّاد ممّا لا يستغني عنه . واعتبر المالكيّة القدرة على الوصول إلى مكّة ، ولو بلا زاد وراحلة لذي صنعة تقوم به ، ولا تزري بمثله ، أمّا الإياب فلا يشترط القدرة على نفقته عندهم إلاّ أن يعلم أنّه إن بقي هناك ضاع وخشي على نفسه ولو شكّا ، فيراعى ما يبلّغه ويرجع به إلى أقرب المواضع لمكّة ، ممّا يمكنه أن يعيش به بما لا يزري به من الحرف .
ب - صرّح الفقهاء بأنّه يشترط في الرّاحلة أن تكون ممّا يصلح لمثله إمّا بشراء أو بكراء . وعند المالكيّة " لا يعتبر إلاّ ما يوصّله فقط " ، إلاّ أن يكون عليه مشقّة فادحة فيخفّف عنه بما تزول به المشقّة الفادحة . وهذا المعنى ملحوظ عند غيرهم فيما يصلح لمثلة إذا كان يشقّ عليه مشقّة شديدة فيخفّف عنه بما يزيلها . ج - إن ملك الزّاد ووسيلة النّقل يشترط أن يكون فاضلا عمّا تمسّ إليه الحاجة الأصليّة مدّة ذهابه وإيابه ، عند الجمهور . أمّا المالكيّة فاعتبروا ما يوصّله فقط ، إلاّ أن يخشى الضّياع ، وهو بناء على وجوب الحجّ على الفور عندهم . وفي هذا تفصيل نوضّحه في الأمور الّتي تشملها الحاجة الأصليّة .
خصال الحاجة الأصليّة :
17 - خصال الحاجة الأصليّة ثلاث :(227/3)
أ - نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم مدّة ذهابه وإيابه عند الجمهور ( خلافا للمالكيّة كما نوضّح في الخصلة التّالية ) ، لأنّ النّفقة حقّ للآدميّين ، وحقّ العبد مقدّم على حقّ الشّرع . لما روى عبد اللّه بن عمرو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت } .
ب - ما يحتاج إليه هو وأهله من مسكن ، وممّا لا بدّ لمثله كالخادم وأثاث البيت وثيابه بقدر الاعتدال المناسب له في ذلك كلّه ، عند الجمهور خلافا للمالكيّة أيضا . وقال المالكيّة في هاتين الخصلتين : يبيع في زاده داره الّتي تباع على المفلس وغيرها ممّا يباع على المفلس من ماشية وثياب ولو لجمعته إن كثرت قيمتها ، وخادمه ، وكتب العلم ولو محتاجا إليها . وإن كان يترك ولده وزوجته لا مال لهم ، فلا يراعي ما يؤول إليه أمره وأمر أهله وأولاده في المستقبل ، وإن كان يصير فقيرا لا يملك شيئا ، أو يترك أولاده ونحوهم للصّدقة ، إن لم يخش هلاكا فيما ذكر أو شديد أذى » . وهذا لأنّ الحجّ عندهم واجب على الفور كما قدّمنا .
ج - قضاء الدّين الّذي عليه ، لأنّ الدّين من حقوق العباد ، وهو من حوائجه الأصليّة ، فهو آكد ، وسواء كان الدّين لآدميّ أو لحقّ اللّه تعالى كزكاة في ذمّته أو كفّارات ونحوها . فإذا ملك الزّاد والحمولة زائدا عمّا تقدّم - على التّفصيل المذكور - فقد تحقّق فيه الشّرط ، وإلاّ بأن اختلّ شيء ممّا ذكر لم يجب عليه الحجّ .
18 - ويتعلّق بذلك فروع نذكر منها :
أ - من كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته ، بحيث لو باع الجزء الفاضل عن حاجته من الدّار الواسعة لوفّى ثمنه للحجّ يجب عليه البيع عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ولا يجب عليه بيع الجزء الفاضل عند الحنفيّة .
ب - كذلك لو كان مسكنه نفيسا يفوق على مثله لو أبدل دارا أدنى لو في تكاليف الحجّ يجب عليه عند الثّلاثة ، ولا يجب عند الحنفيّة .
ج - من ملك بضاعة لتجارته هل يلزمه صرف مال تجارته للحجّ ؟ ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط لوجوب الحجّ بقاء رأس مال لحرفته زائدا على نفقة الحجّ ، ورأس المال يختلف باختلاف النّاس ، والمراد ما يمكنه الاكتساب به قدر كفايته وكفاية عياله لا أكثر ، لأنّه لا نهاية له . وعند الشّافعيّة قولان : الأصحّ أنّه يلزمه صرف مال تجارته لنفقة الحجّ ولو لم يبق له رأس مال لتجارته . وهو مذهب المالكيّة كما سبق نقل كلامهم .
د - إذا ملك نقودا لشراء دار يحتاج إليها وجب عليه الحجّ إن حصلت له النّقود وقت خروج النّاس للحجّ ، وإن جعلها في غيره أثم . أمّا قبل خروج النّاس للحجّ فيشتري بالمال ما شاء ، لأنّه ملكه قبل الوجوب على ما اختاره ابن عابدين .
هـ - من وجب عليه الحجّ وأراد أن يتزوّج وليس عنده من المال إلاّ ما يكفي لأحدهما ، ففيها التّفصيل الآتي :
1 - أن يكون في حالة اعتدال الشّهوة ، فهذا يجب عليه تقديم الحجّ على الزّواج عند الجمهور ، إذا ملك النّفقة في أشهر الحجّ ، أمّا إن ملكها في غيرها فله صرفها حيث شاء . أمّا الشّافعيّة فالصّحيح عندهم أنّه يلزمه الحجّ ويستقرّ في ذمّته ، وله صرف المال إلى النّكاح وهو أفضل .
2 - أن يكون في حالة توقان نفسه والخوف من الزّنى ، فهذا يكون الزّواج في حقّه مقدّما على الحجّ اتّفاقا .
و - قال ابن عابدين في حاشيته : تنبيه : ليس من الحوائج الأصليّة ما جرت به العادة المحدثة لرسم الهديّة للأقارب والأصحاب ، فلا يعذر بترك الحجّ لعجزه عن ذلك ... » . وهذا لا يتصوّر فيه خلاف بعد ما ذكرناه ، وهو يدلّ على إثم من أخّر الحجّ بسبب هذه التّقاليد الفاسدة .
الخصلة الثّانية للاستطاعة : صحّة البدن :
19 - إنّ سلامة البدن من الأمراض والعاهات الّتي تعوق عن الحجّ شرط لوجوب الحجّ . فلو وجدت سائر شروط وجوب الحجّ في شخص وهو مريض زمن أو مصاب بعاهة دائمة ، أو مقعد أو شيخ كبير لا يثبت على آلة الرّكوب بنفسه فلا يجب عليه أن يؤدّي بنفسه فريضة اتّفاقا . لكن اختلفوا هل صحّة البدن شرط لأصل الوجوب ، أو هي شرط للأداء بالنّفس : ذهب الشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة إلى أنّ صحّة البدن ليست شرطا للوجوب ، بل هي شرط للّزوم الأداء بالنّفس ، فمن كان هذا حاله يجب عليه الحجّ ، بإرسال من ينوب عنه . وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك : إنّها شرط للوجوب ، وبناء على ذلك لا يجب على فاقد صحّة البدن أن يحجّ بنفسه ولا بإنابة غيره ، ولا الإيصاء بالحجّ عنه في المرض . استدلّ الأوّلون : بأنّه صلى الله عليه وسلم فسّر الاستطاعة بالزّاد والرّاحلة ، وهذا له زاد وراحلة فيجب عليه الحجّ . واستدلّ أبو حنيفة ومالك بقوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } وهذا غير مستطيع بنفسه فلا يجب عليه الحجّ . 20 - وتفرّع على ذلك مسائل ، نذكر منها :
أ - من كان قادرا على الحجّ بمساعدة غيره كالأعمى ، وجب عليه الحجّ بنفسه إذا تيسّر له من يعينه ، تبرّعا أو بأجرة ، إن كان قادرا على أجرته ، إذا كانت أجرة المثل ، ولا يكفيه حجّ الغير عنه إلاّ بعد أن يموت . ومن لم يستطع الحجّ بنفسه بمساعدة غيره وجب عليه أن يرسل غيره ، ليحجّ عنه . ويجب على المريض أن يوصي بالحجّ عنه بعد موته . هذا على مذهب الصّاحبين والجمهور . أمّا على مذهب أبي حنيفة فلا يجب عليه شيء ، لأنّ الحجّ غير واجب عليه . أمّا المالكيّة فقد وافقوا الجمهور في هذه المسألة ، لكن على أساس مذهبهم في مسألة الرّكوب السّابقة ( فقرة 15 ) وأوجبوا عليه المشي إن كان يقدر على المشي .(227/4)
ب - إذا وجدت شروط الحجّ مع صحّة البدن فتأخّر حتّى أصيب بعاهة تمنعه من الحجّ ولا يرجى زوالها فالحجّ واجب عليه اتّفاقا ، ويجب عليه أن يرسل شخصا يحجّ عنه باتّفاق العلماء . أمّا إذا أصيب بعاهة يرجى زوالها فلا تجوز الإنابة ، بل يجب عليه الحجّ بنفسه عند زوالها عنه .
الخصلة الثّالثة : أمن الطّريق :
21 - أمن الطّريق يشمل الأمن على النّفس والمال ، وذلك وقت خروج النّاس للحجّ ، لأنّ الاستطاعة لا تثبت دونه . ووقع الخلاف في أمن الطّريق كما في صحّة البدن : فمذهب المالكيّة والشّافعيّة ورواية أبي شجاع عن أبي حنيفة ورواية عن أحمد أنّه شرط الوجوب . لأنّ الاستطاعة لا تتحقّق بدون أمن الطّريق . وفي رواية أخرى عند أبي حنيفة وأحمد ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ورجّحه المتأخّرون من الحنفيّة والحنابلة أنّ أمن الطّريق شرط للأداء بالنّفس لا لأصل الوجوب . واستدلّوا بنحو أدلّتهم في إيجاب الحجّ على من فقد شرط صحّة البدن . وعلى هذا المذهب الأخير من استوفى شروط الحجّ عند خوف الطّريق فمات قبل أمنه يجب عليه أن يوصي بالحجّ . أمّا إذا مات بعد أمن الطّريق فتجب عليه الوصيّة بالحجّ عنه اتّفاقا .
الخصلة الرّابعة : إمكان السّير :
22 - إمكان السّير أن تكمل شرائط الحجّ في المكلّف والوقت متّسع يمكنه الذّهاب للحجّ . وهذا شرط لأصل الوجوب عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وشرط للأداء عند الحنابلة . وعبّر الحنفيّة عن هذا الشّرط بالوقت . وجعله بعضهم شرطا مفردا من شرائط وجوب الحجّ . وفسّروا هذا الشّرط بأنّه أشهر الحجّ ، أو وقت خروج أهل بلده إن كانوا يخرجون قبلها ، فلا يجب الحجّ إلاّ على القادر فيها ، أو في وقت خروجهم . وفسّر غيرهم إمكان السّير بوقت الخروج للحجّ . 23 - واستدلّ الجمهور على أنّ إمكان السّير شرط لوجوب الحجّ بالآتي :
أ - أنّ إمكان السّير من لواحق الاستطاعة وهي شرط لوجوب الحجّ .
ب - أنّ ذلك بمنزلة دخول وقت الوجوب ، كدخول وقت الصّلاة ، فإنّها لا تجب قبل وقتها ، إلاّ أنّ ذلك يختلف باختلاف البلدان ، فيعتبر وقت الوجوب في حقّ كلّ شخص عند خروج أهل بلده ، فالتّقييد بأشهر الحجّ في الآية إنّما هو بالنّسبة إلى أهل أمّ القرى ومن حولها ، وللإشعار بأنّ الأفضل أن لا يقع الإحرام فيما قبلها على مقتضى قواعد الحنفيّة من أنّ الإحرام شرط ، خلافا للشّافعيّة من أنّه لا يجوز الإحرام قبل الأشهر لكونه ركنا » . واستدلّ الحنابلة على أنّ إمكان السّير شرط للّزوم أداء الحجّ بنفسه بأنّه يتعذّر الأداء دون القضاء ، كالمرض المرجوّ برؤه ، وعدم الزّاد والرّاحلة يتعذّر معه الجميع .
القسم الثّاني : الشّروط الخاصّة بالنّساء :
24 - ما يخصّ النّساء من شروط الاستطاعة شرطان لا بدّ منهما لكي يجب الحجّ على المرأة يضافان إلى خصال شرط الاستطاعة الّتي ذكرناها . هذان الشّرطان هما : الزّوج أو المحرم ، وعدم العدّة . أوّلا - الزّوج أو المحرم الأمين :
25 - يشترط أن يصحب المرأة في سفر الحجّ زوجها أو محرم منها ، إذا كانت المسافة بينها وبين مكّة ثلاثة أيّام ، وهي مسيرة القصر في السّفر ، وإلى هذا ذهب الحنفيّة والحنابلة . واستدلّوا بحديث ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { لا تسافر المرأة ثلاثا إلاّ ومعها ذو محرم } . وتوسّع الشّافعيّة والمالكيّة فسوّغوا الاستبدال بالمحرم : ذهب الشّافعيّة إلى أنّها إن وجدت نسوة ثقات : اثنتين فأكثر تأمن معهنّ على نفسها كفى ذلك بدلا عن المحرم أو الزّوج بالنّسبة لوجوب حجّة الإسلام على المرأة . وعندهم " الأصحّ أنّه لا يشترط وجود محرم لإحداهنّ ، لأنّ الأطماع تنقطع بجماعتهنّ . فإن وجدت امرأة واحدة ثقة فلا يجب عليها الحجّ ، لكن يجوز لها أن تحجّ معها حجّة الفريضة أو النّذر ، بل يجوز لها أن تخرج وحدها لأداء الفرض أو النّذر إذا أمنت . وزاد المالكيّة توسّعا فقالوا : المرأة إذا لم تجد المحرم أو الزّوج ولو بأجرة تسافر لحجّ الفرض أو النّذر مع الرّفقة المأمونة ، بشرط أن تكون المرأة بنفسها هي مأمونة أيضا . والرّفقة المأمونة جماعة مأمونة من النّساء ، أو الرّجال الصّالحين . قال الدّسوقيّ : وأكثر ما نقله أصحابنا اشتراط النّساء » . أمّا حجّ النّفل فلا يجوز للمرأة السّفر له إلاّ مع الزّوج أو المحرم فقط اتّفاقا ، ولا يجوز لها السّفر بغيرهما ، بل تأثم به .
( نوع الاشتراط للمحرم ) :
26 - اختلفوا في الزّوج أو المحرم هل هو شرط وجوب أو شرط للزوم الأداء بالنّفس : ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الرّاجح عندهم وهو رواية عن أبي حنيفة إلى أنّ المحرم شرط لوجوب الحجّ ، ويحلّ محلّه عند فقده الرّفقة المأمونة عند الشّافعيّة والمالكيّة على الوجه الّذي ذكرناه . والرّاجح عند الحنفيّة أنّ الزّوج أو المحرم شرط للّزوم الأداء بالنّفس . وأدلّة الفريقين هي ما سبق الاستدلال به في صحّة البدن وأمن الطّريق ( ف 19 و 21 ) .
( المحرم المشروط للسّفر ) 27 - المحرم الأمين المشروط في استطاعة المرأة للحجّ هو كلّ رجل مأمون عاقل بالغ يحرم عليه بالتّأبيد التّزوّج منها سواء كان التّحريم بالقرابة أو الرّضاعة أو الصّهريّة ... ونحو ذلك يشترط في الزّوج عند الحنفيّة والحنابلة بزيادة شرط الإسلام في المحرم . وقال المالكيّة بذلك في حقيقة المحرم لكن لا يشترط في المحرم البلوغ بل التّمييز والكفاية . وعند الشّافعيّة : يكفي المحرم الذّكر ، وإن لم يكن ثقة فيما يظهر ، لأنّ الوازع الطّبيعيّ أقوى من الشّرعيّ ، إذا كان له غيرة تمنعه أن يرضى بالزّنى » .(227/5)
فروع تتعلّق بالمسألة :
28 - أ - يشترط لوجوب الحجّ على المرأة أن تكون قادرة على نفقة نفسها ونفقة المحرم إن طلب منها النّفقة ، لأنّه يستحقّها عليها عند الحنفيّة . وكذلك عبّر بالنّفقة ابن قدامة من الحنابلة . وعبّر المالكيّة والشّافعيّة وابن مفلح من الحنابلة بالأجرة . والمراد أجرة المثل . ولو امتنع المحرم عن الخروج إلاّ بأجرة لزمتها إن قدرت عليها ، وحرم عليها الخروج مع الرّفقة المأمونة وهذا عند المالكيّة . وأمّا عند الشّافعيّة فهي مخيّرة بين أن تكون في صحبة زوج أو محرم أو رفقة مأمونة .
ب - الزّوج إذا حجّ مع امرأته فلها عليه النّفقة ، نفقة الحضر لا السّفر ، وليس له أن يأخذ منها أجرا مقابل الخروج معها عند الحنفيّة ، وهو ظاهر كلام الحنابلة ، لأنّهم خصّوا المحرم بأخذ الأجرة . وعند المالكيّة والشّافعيّة له أخذ الأجرة إذا كانت أجرة المثل .
ج - إذا وجدت محرما لم يكن للزّوج منعها من الذّهاب معه لحجّ الفرض ، ويجوز أن يمنعها من النّفل عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وقال الشّافعيّة : ليس للمرأة الحجّ إلاّ بإذن الزّوج فرضا كان أو غيره " لأنّ في ذهابها تفويت حقّ الزّوج ، وحقّ العبد مقدّم ، لأنّه فرض بغير وقت إلاّ في العمر كلّه ، " فإن خافت العجز البدنيّ بقول طبيبين عدلين لم يشترط إذن الزّوج » . واستدلّ الجمهور بأنّ حقّ الزّوج لا يقدّم على فرائض العين كصوم رمضان ، فليس للزّوج منع زوجته منه ، لأنّه فرض عين عليها .
ثانيا - عدم العدّة :
29 - يشترط ألا تكون المرأة معتدّة عن طلاق أو وفاة مدّة إمكان السّير للحجّ ، وهو شرط متّفق عليه بين العلماء على تفاصيل فيه . والدّليل على ذلك أنّ اللّه تعالى نهى المعتدّات عن الخروج من بيوتهنّ بقوله تعالى : { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة } ، والحجّ يمكن أداؤه في وقت آخر ، فلا تلزم بأدائه وهي في العدّة . وقد عمّم الحنفيّة هذا الشّرط لكلّ معتدّة سواء كانت عدّتها من طلاق بائن أو رجعيّ ، أو وفاة ، أو فسخ نكاح . ونحو ذلك عند المالكيّة . وفصّل الحنابلة فقالوا : لا تخرج المرأة إلى الحجّ في عدّة الوفاة ، ولها أن تخرج إليه في عدّة الطّلاق المبتوت ، وذلك لأنّ لزوم البيت فيه واجب في عدّة الوفاة ، وقدّم على الحجّ لأنّه يفوت ، والطّلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك . وأمّا عدّة الرّجعيّة فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النّكاح ، لأنّها زوجة . ونحو ذلك عند الشّافعيّة ، فقد صرّحوا بأنّ للزّوج أن يمنع المطلّقة الرّجعيّة للعدّة ، وذلك لأنّه يحقّ للزّوج عندهم منعها عن حجّة الفرض في مذهبهم . 30 - ثمّ اختلف الحنفيّة في عدم العدّة : هل هو شرط وجوب أو شرط أداء ، والأظهر أنّه شرط للزوم الأداء بالنّفس . أمّا عند الجمهور فهو شرط للوجوب .
( فروع ) :
31 - لو خالفت المرأة وخرجت للحجّ في العدّة صحّ حجّها ، وكانت آثمة .
ب - إن خرجت من بلدها للحجّ وطرأت عليها العدّة ففيها تفصيل عند الحنفيّة : إن طلّقها زوجها طلاقا رجعيّا تبعت زوجها ، رجع أو مضى ، لم تفارقه ، والأفضل أن يراجعها . وإن كان بائنا أو مات عنها فإن كان إلى منزلها أقلّ من مدّة السّفر وإلى مكّة مدّة سفر فإنّه يجب أن تعود إلى منزلها ، وإن كانت إلى مكّة أقلّ مضت إلى مكّة ، وإن كانت إلى الجانبين أقلّ من مدّة السّفر فهي بالخيار إن شاءت مضت ، وإن شاءت رجعت إلى منزلها سواء كانت في المصر أو غيره ، وسواء كان معها محرم أو لا ، إلاّ أنّ الرّجوع أولى . وإن كان من الجانبين مدّة سفر فإن كانت في المصر فليس لها أن تخرج بغير محرم بلا خلاف ، وإن كان ذلك في مفازة أو قرية لا تأمن على نفسها ومالها فلها أن تمضي إلى موضع الأمن ثمّ لا تخرج منه حتّى تمضي عدّتها . ونحوه عند الحنابلة : قال في المغني : وإذا خرجت للحجّ فتوفّي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتدّ في منزلها ، وإن تباعدت مضت في سفرها » . وقال المالكيّة : إذا خرجت مع زوجها لحجّ الفريضة فمات أو طلّقها في ثلاثة أيّام أو نحوها أنّها ترجع إذا وجدت ثقة ذا محرم ، أو ناسا لا بأس بهم . وإن بعدت أو كانت أحرمت أو أحرمت بعد الطّلاق أو الموت ، وسواء أحرمت بفرض أو نفل أو لم تجد رفقة ترجع معهم فإنّها تمضي ... » . وفي حجّ التّطوّع : ترجع لتتمّ عدّتها في بيتها إن علمت أنّها تصل قبل انقضاء عدّتها ، إن وجدت ذا محرم أو رفقة مأمونة . وإلاّ تمادت مع رفقتها ... " أمّا الشّافعيّة فعندهم تفصيل في المسألة كقولهم في مسألة إذن الزّوج في خروج الزّوجة للحجّ حتّى لو طرأت العدّة بعد الإحرام : إذا خرجت بغير إذنه فله منعها وتحليلها ، وإن خرجت بإذنه فليس له منعها ولا تحليلها .
شروط صحّة الحجّ : شروط صحّة الحجّ أمور تتوقّف عليها صحّة الحجّ وليست داخلة فيه . فلو اختلّ شيء منها كان الحجّ باطلا ، وهي : الشّرط الأوّل : الإسلام :
32 - يشترط الإسلام لأنّ الكافر ليس أهلا للعبادة ولا تصحّ منه ، فلا يصحّ حجّ الكافر أصالة ولا نيابة ، فإن حجّ أو حجّ عنه ثمّ أسلم ، وجبت عليه حجّة الإسلام .
( الشّرط الثّاني ) : العقل :
33 - يشترط العقل لأنّ المجنون ليس أهلا للعبادة أيضا ولا تصحّ منه . فلو حجّ المجنون فحجّه غير صحيح ، وإذا أفاق وجبت عليه حجّة الإسلام . لكن يصحّ أن يحجّ عن المجنون وليّه ويقع نفلا .
الشّرط الثّالث : الميقات الزّمانيّ :(227/6)
34 - ذكر اللّه تعالى للحجّ زمانا لا يؤدّى في غيره ، في قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } . قال عبد اللّه بن عمر وجماهير الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم : هي شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة » . ووقع الخلاف في نهار يوم النّحر ، فقال الحنفيّة والحنابلة : هو من أشهر الحجّ . وقال الشّافعيّة : آخر أشهر الحجّ ليلة النّحر ، وليس نهار يوم النّحر منها . ووسّع المالكيّة فقالوا : آخر أشهر الحجّ نهاية شهر ذي الحجّة . وامتداد الوقت بعد ليلة النّحر إلى آخر ذي الحجّة عند المالكيّة إنّما هو بالنّظر إلى جواز التّحلّل من الإحرام وكراهة العمرة فقط . فلو فعل شيئا من أعمال الحجّ خارج وقت الحجّ لا يجزيه ، فلو صام المتمتّع أو القارن ثلاثة أيّام قبل أشهر الحجّ لا يجوز ، وكذا السّعي بين الصّفا والمروة عقب طواف القدوم لا يقع عن سعي الحجّ إلاّ فيها . نعم أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة الإحرام بالحجّ قبلها مع الكراهة عندهم . ( انظر مصطلحي إحرام فقرة 34 ، وأشهر الحجّ ) . ولا يصحّ الإحرام بالحجّ قبل وقته عند الشّافعيّة ، فلو أحرم به في غير وقته انعقد عمرة على الصّحيح عندهم .
الشّرط الرّابع : الميقات المكانيّ :
35 - هناك أماكن وقّتها الشّارع أي حدّدها لأداء أركان الحجّ ، لا تصحّ في غيرها . فالوقوف بعرفة ، مكانه أرض عرفة . والطّواف بالكعبة ، مكانه حول الكعبة . والسّعي ، مكانه المسافة بين الصّفا والمروة . ونفصّل توقيت المكان لكلّ منسك في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
شروط إجزاء الحجّ عن الفرض :
36 - شروط إجزاء الحجّ عن الفرض ثمانية وهي :
أ - الإسلام : وهو شرط لوقوعه عن الفرض والنّفل ، بل لصحّته من أساسه كما هو معلوم .
ب - بقاؤه على الإسلام إلى الموت من غير ارتداد عياذا باللّه تعالى ، فإن ارتدّ عن الإسلام بعد الحجّ ثمّ تاب عن ردّته وأسلم وجب عليه الحجّ من جديد عند الحنفيّة والمالكيّة ، ورواية عن أحمد . وقال الشّافعيّة وهو رواية عن أحمد : لا تجب عليه حجّة الإسلام مجدّدا بعد التّوبة عن الرّدّة . استدلّ الحنفيّة والمالكيّة ومن معهم بقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطنّ عملك .. } فقد جعلت الآية الرّدّة نفسها محبطة للعمل . واستدلّ الشّافعيّ بقوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون } . فقد دلّت الآية على أنّ إحباط الرّدّة للعمل مشروط بالموت كافرا .
د - الحرّيّة : فإذا حجّ العبد ثمّ عتق لا تسقط عنه حجّة الإسلام . وقد سبق الكلام فيها . ( فقرة 12 ) .
هـ - البلوغ : فإذا حجّ الصّبيّ ثمّ بلغ فعليه حجّة الإسلام . وقد سبق الكلام فيه ( فقرة 11 و 12 ) .
و - الأداء بنفسه إن قدر عليه : بأن يكون صحيحا مستكملا شروط وجوب أداء الحجّ بنفسه ، فإنّه حينئذ إذا أحجّ عنه غيره صحّ الحجّ ووقع نفلا ، وبقي الفرض في ذمّته . أمّا إذا اختلّ شرط من شروط وجوب الأداء بنفسه فأحجّ عنه غيره صحّ وسقط الفرض عنه ، بشرط استمرار العذر إلى الموت .
ز - عدم نيّة النّفل : فيقع الحجّ عن الفرض بنيّة الفرض في الإحرام ، وبمطلق نيّة الحجّ . أمّا إذا نوى الحجّ نفلا وعليه حجّة الفرض أو نذر ، فإنّه يقع نفلا عند الحنفيّة والمالكيّة . ويقع عن الفرض أو النّذر عند الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة . يدلّ للأوّلين حديث { وإنّما لكلّ امرئ ما نوى } . وهذا نوى النّفل فلا يقع عن الفرض ، لأنّه ليس له إلاّ ما نواه . واستدلّ للآخرين بأنّه قول ابن عمر وأنس . وأنّ المراد بالحديث غير الحجّ .
ح - عدم النّيّة عن الغير : وهذا محلّ اتّفاق إذا كان المحرم بالحجّ قد حجّ عن نفسه قبل ذلك ، فإن نوى عن غيره وقع عن غيره اتّفاقا . أمّا إذا لم يكن حجّ عن نفسه حجّة الإسلام ونوى عن غيره فإنّه يقع عن الغير مع الكراهة عند الحنفيّة والمالكيّة ، ويقع عن نفسه عند الشّافعيّة والحنابلة . ويأتي مزيد تفصيل لذلك في بحث الحجّ عن الغير .
كيفيّات الحجّ :
37 - يؤدّى الحجّ على ثلاث كيفيّات ، وهي :
أ - الإفراد : وهو أن يهلّ الحاجّ أي ينوي الحجّ فقط عند إحرامه ثمّ يأتي بأعمال الحجّ وحده .
ب - القران : وهو أن يهلّ بالعمرة والحجّ جميعا ، فيأتي بهما في نسك واحد . وقال الجمهور : إنّهما يتداخلان ، فيطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا ويجزئه ذلك عن الحجّ والعمرة . وقال الحنفيّة : يطوف القارن طوافين ويسعى سعيين ، طواف وسعي للعمرة ، ثمّ طواف الزّيارة والسّعي للحجّ . ويجب على القارن أن ينحر هديا بالإجماع . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قران ) . ج - التّمتّع : وهو أن يهلّ بالعمرة فقط في أشهر الحجّ ، ويأتي مكّة فيؤدّي مناسك العمرة ، ويتحلّل . ويمكث بمكّة حلالا ، ثمّ يحرم بالحجّ ويأتي بأعماله . ويجب عليه أن ينحر هديا بالإجماع . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تمتّع ) .
مشروعيّة كيفيّات الحجّ :(227/7)
38 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة كلّ كيفيّات الحجّ الّتي ذكرناها . ويستدلّ لذلك بالكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا } ، وقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } وقوله : { فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي } . وأمّا السّنّة : فمنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : { خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام حجّة الوداع ، فمنّا من أهلّ بعمرة ، ومنّا من أهلّ بحجّة وعمرة ، ومنّا من أهلّ بالحجّ . وأهلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالحجّ . فأمّا من أهلّ بالحجّ ، أو جمع الحجّ والعمرة فلم يحلّوا حتّى كان يوم النّحر } . وأمّا الإجماع : فقد تواتر عمل الصّحابة ومن بعدهم على التّخيير بين هذه الأوجه كما نصّ على ذلك الأئمّة ، ومن ذلك :
1 - تصريح الإمام الشّافعيّ الّذي نقلناه سابقا ، وقوله " ثمّ ما لا أعلم فيه خلافا " 2 - قال القاضي حسين من الشّافعيّة : وكلّها جائزة بالإجماع " 3 - قال الإمام النّوويّ : وقد انعقد الإجماع بعد هذا - أي بعد الخلاف الّذي نقل عن بعض الصّحابة - على جواز الإفراد والتّمتّع والقران من غير كراهة " 4 - قال الخطّابيّ : لم تختلف الأمّة في أنّ الإفراد والقران ، والتّمتّع بالعمرة إلى الحجّ كلّها جائزة » .
هدي التّمتّع والقران :
38 - يجب بإجماع العلماء على القارن والمتمتّع أن يذبح هديا ، لقوله تعالى : { فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي } . وتفصيله في ( هدي ، وتمتّع ، وقران ) .
المفاضلة بين كيفيّات أداء الحجّ :
39 - فضّل كلّ كيفيّة من كيفيّات الحجّ طائفة من العلماء ، وذلك بسبب اختلاف الرّوايات في حجّه صلى الله عليه وسلم ولاستنباطات قوّة ذلك التّفضيل عند كلّ جماعة :
أ - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الإفراد بالحجّ أفضل ، وبه قال عمر بن الخطّاب ، وعثمان ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر ، والأوزاعيّ ، وأبو ثور . ومن أدلّتهم :
1 - حديث عائشة السّابق ، وفيه قولها : { وأهلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالحجّ } . وغيره من أحاديث تفيد أنّه صلى الله عليه وسلم كان مفردا بالحجّ .
2 - أنّه أشقّ عملا من القران ، وليس فيه استباحة محظور كما في التّمتّع ، فيكون أكثر ثوابا . إلاّ أنّ المالكيّة فضّلوا الإفراد ، ثمّ القران ، ثمّ التّمتّع ، وقدّم الشّافعيّة التّمتّع على القران . وشرط تفضيل الإفراد على غيره - على ما صرّح به الشّافعيّة - " أن يحجّ ثمّ يعتمر في سنته ، فإن أخّر العمرة عن سنة الحجّ فكلّ واحد من التّمتّع والقران أفضل منه ، بلا خلاف ، لأنّ تأخير العمرة عن سنة الحجّ مكروه » .
ب - ذهب الحنفيّة إلى أنّ أفضلها القران ، ثمّ التّمتّع ، ثمّ الإفراد ، وهو قول سفيان الثّوريّ والمزنيّ صاحب الشّافعيّ . وابن المنذر ، وأبي إسحاق المروزيّ . ومن أدلّتهم :
1 - حديث عمر رضي الله عنه { سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول : أتاني اللّيلة آت من ربّي ، فقال : صلّ في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجّة } . فقد أمر اللّه نبيّه بإدخال العمرة على الحجّ بعد أن كان مفردا ، ولا يأمره إلاّ بالأفضل . وهذا يجمع بين الرّوايات المختلفة في حجّه صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه متعيّن . 2 - أنّه أشقّ لكونه أدوم إحراما ، وأسرع إلى العبادة ، ولأنّ فيه جمعا بين العبادتين فيكون أفضل .
ج - ذهب الحنابلة إلى أنّ التّمتّع أفضل ، فالإفراد ، فالقران . " وممّن روي عنه اختيار التّمتّع : ابن عمر ، وابن عبّاس ، وابن الزّبير ، وعائشة ، والحسن ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والقاسم ، وسالم ، وعكرمة ، وهو أحد قولي الشّافعيّ » . ومن أدلّتهم :
1 - قوله صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر - : { لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ ، وليجعلها عمرة } . فقد أمر أصحابه بالتّمتّع ، وتمنّاه لنفسه ، ولا يأمر ولا يتمنّى إلاّ الأفضل .
2 - أنّ المتمتّع ، يجتمع له الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ ، مع كمالهما ، وكمال أفعالهما ، على وجه اليسر والسّهولة ، مع زيادة نسك ، لكان ذلك أولى .
صفة أداء الحجّ بكيفيّاته كلّها : ونقسم أعمال الحجّ لتسهيل فهم أدائها إلى قسمين :
أ - أعمال الحجّ حتّى قدوم مكّة .
ب - أعمال الحجّ بعد قدوم مكّة . أعمال الحجّ حتّى قدوم مكّة :(227/8)
40 - من أراد الحجّ فإنّه يشرع بالاستعداد للإحرام ( انظر مصطلح إحرام ، وخصوصا ف 117 ) ، وينوي في إحرامه الكيفيّة الّتي يريد أداء الحجّ عليها ، فإن أراد الإفراد نوى الحجّ ، وإن أراد القران نوى الحجّ والعمرة ، وإن أراد التّمتّع نوى العمرة فقط . فإذا دخل مكّة بادر إلى المسجد الحرام ، وتوجّه إلى الكعبة المعظّمة بغاية الخشوع والإجلال ، ويبدأ بالطّواف من الحجر الأسود ، فيطوف سبعة أشواط ، وهذا الطّواف هو طواف القدوم للمفرد بالحجّ ، وهو طواف العمرة لمن أحرم متمتّعا ( انظر تمتّع ) . أمّا إن كان قارنا فيقع عن القدوم عند الجمهور ، وعن العمرة عند الحنفيّة ، وعليه أن يطوف طوافا آخر للقدوم عندهم ( انظر مصطلح قران ) . ويقطع المتمتّع التّلبية بشروعه بالطّواف ، ولا يقطعها المفرد والقارن حتّى يشرع في الرّمي يوم النّحر ( انظر تلبية ) . ويستلم الحجر في ابتداء الطّواف ويقبّله ، وكلّما مرّ به ، إن تيسّر ذلك من غير إيذاء لأحد ، وإلاّ لمسه بيده أو بشيء يمسكه بها وقبّله ، وإلاّ أشار بيديه ، وإن كان يريد السّعي بعده فيسنّ له أن يضطبع في أشواط طوافه هذا كلّها ، ويرمل في الثّلاثة الأولى . وليكثر من الدّعاء والذّكر في طوافه كلّه ، ولا سيّما المأثور ( انظر مصطلح : طواف ) . وإذا فرغ من طوافه يصلّي ركعتي الطّواف عند مقام إبراهيم إن أمكن ، ثمّ إن أراد السّعي يذهب إلى الصّفا ويسعى بين الصّفا والمروة سبعة أشواط ، مراعيا أحكام السّعي وآدابه . ( انظر : سعي ) . وهذا السّعي يقع عن الحجّ للمفرد ، وعن العمرة للمتمتّع ، وعن الحجّ والعمرة للقارن ، على ما هو مذهب الجمهور في القران ، أمّا عند الحنفيّة فعن العمرة فقط للقارن ، وعليه سعي آخر للحجّ عندهم ( انظر مصطلح : قران ) . وهنا يحلق المتمتّع رأسه بعد السّعي أو يقصّره ( انظر حلق ) ، وقد حلّ من إحرامه . ( انظر : إحرام : ف 126 ) . أمّا المفرد والقارن فهما على إحرامهما إلى أن يتحلّلا بأعمال يوم النّحر .
أعمال الحجّ بعد قدوم مكّة :
41 - يمكث الحاجّ في مكّة بعد القدوم وما ذكرنا فيه - إلى يوم التّروية ليؤدّي سائر المناسك ويؤدّي أعمال الحجّ هذه في ستّة أيّام كما يلي : يوم التّروية :
42 - وهو يوم الثّامن من ذي الحجّة ، وينطلق فيه الحجّاج إلى منى ، ويحرم المتمتّع بالحجّ ، أمّا المفرد والقارن فهما على إحرامهما ، ويبيتون بمنى اتّباعا للسّنّة ، ويصلّون فيها خمس صلوات : الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر . وهذا فجر يوم عرفة .
يوم عرفة :
43 - وهو يوم عظيم يؤدّي فيه الحجّاج الوقوف بعرفة ركن الحجّ الّذي يتوقّف على فواته بطلان الحجّ ، ثمّ المبيت بالمزدلفة .
أ - الوقوف بعرفة : وفيه يسنّ أن يخرج الحاجّ من منى إلى عرفة بعد طلوع الفجر ، وعرفة كلّها موقف إلاّ بطن عرنة ، ويسنّ ألا يدخل عرفة إلاّ بعد الزّوال ، وبعد أن يجمع الظّهر والعصر تقديما ، فيقف بعرفة مراعيا أحكامه وسننه وآدابه ، ويستمرّ إلى غروب الشّمس ، ولا يجاوز عرفة قبله ، ويتوجّه إلى اللّه في وقوفه خاشعا ضارعا بالدّعاء والذّكر والقرآن والتّلبية ... حتّى يدفع من عرفة .
ب - المبيت بالمزدلفة : إذا غربت شمس يوم عرفة يسير الحاجّ من عرفة إلى المزدلفة ، ويجمع بها المغرب والعشاء تأخيرا ، ويبيت فيها ، وهو واجب عند الجمهور سنّة عند الحنفيّة ، ثمّ يصلّي الفجر ويقف للدّعاء ، والوقوف بعد الفجر واجب عند الحنفيّة سنّة عند الجمهور إلاّ أنّ الحنفيّة يرون أنّه إذا نفر لعذر كزحمة قبل الفجر فلا شيء عليه . ويستمرّ واقفا يدعو ويهلّل ويلبّي حتّى يسفر جدّا ، لينطلق إلى منى . ويستحبّ له أن يلقط الجمار ( الحصيات الصّغار ) من المزدلفة ، ليرمي بها ، وعددها سبعون ، للرّمي كلّه ، وإلاّ فسبعة يرمي بها يوم النّحر .
يوم النّحر :
44 - يسنّ أن يدفع الحاجّ من مزدلفة إلى منى يوم النّحر قبل طلوع الشّمس ، ليؤدّي أعمال النّحر ، وهو أكثر أيّام الحجّ عملا ، ويكثر في تحرّكه من الذّكر والتّلبية والتّكبير . وأعمال هذا اليوم هي :
أ - رمي جمرة العقبة : فيجب على الحاجّ في هذا اليوم رمي جمرة العقبة وحدها ، وتسمّى الجمرة الكبرى . يرميها بسبع حصيات ، ويكبّر مع كلّ حصاة ، ويقطع التّلبية مع ابتداء الرّمي .
ب - نحر الهدي ، وهو واجب على المتمتّع والقارن ، سنّة لغيرهما .
ج - الحلق أو التّقصير : والحلق أفضل للرّجال ، مكروه كراهة شديدة للنّساء .
د - طواف الزّيارة : ويأتي ترتيبه بعد الأعمال السّابقة ، فيفيض الحاجّ أي يرحل إلى مكّة ليطوف الزّيارة ، وهو طواف الرّكن في الحجّ . وإن كان قدّم السّعي فلا يضطبع ولا يرمل في هذا الطّواف ، لأنّه لم يبق سعي بعده ، وإن لم يقدّم السّعي فليسع بعد الطّواف ، ويضطبع ويرمل في طوافه ، كما هي السّنّة في كلّ طواف بعده سعي .
هـ - السّعي بين الصّفا والمروة : لمن لم يقدّم السّعي من قبل .
و - التّحلّل : ويحصل بأداء الأعمال الّتي ذكرناها ، وهو قسمان : التّحلّل الأوّل : أو الأصغر : تحلّ به محظورات الإحرام عدا النّساء . ويحصل بالحلق عند الحنفيّة ، وبالرّمي عند المالكيّة والحنابلة ، وبفعل ثلاثة من أعمال يوم النّحر ( استثني منها الذّبح حيث لا دخل له في التّحلّل ) عند الشّافعيّة . التّحلّل الثّاني : أو الأكبر : تحلّ به كلّ محظورات الإحرام حتّى النّساء . ويحصل بطواف الإفاضة فقط بشرط الحلق عند الحنفيّة ، وبالإفاضة مع السّعي عند المالكيّة والحنابلة ، وباستكمال الأعمال الأربعة عند الشّافعيّة .
أوّل وثاني أيّام التّشريق :(227/9)
45 - هما ثاني وثالث أيّام النّحر ، وفيهما ما يلي : أ - المبيت بمنى ليلتي هذين اليومين : وهو واجب عند الجمهور سنّة عند الحنفيّة .
ب - رمي الجمار الثّلاث : يرميها على التّرتيب : الجمرة الأولى أو الصّغرى وهي أقرب الجمرات إلى مسجد الخيف بمنى ، ثمّ الجمرة الثّانية أو الوسطى ، ثمّ الثّالثة الكبرى جمرة العقبة . يرمي كلّ واحدة بسبع حصيات ، ويدعو بين كلّ جمرتين .
ج - النّفر الأوّل : يحلّ للحاجّ إذا رمى جمار اليوم الثّاني من أيّام التّشريق أن يرحل إلى مكّة ، ويسقط عنه رمي اليوم الثّالث ، إذا جاوز حدود منى قبل غروب الشّمس عند الجمهور ، وقبل فجر ثالث أيّام التّشريق عند الحنفيّة .
د - التّحصيب : وهو مستحبّ عند الجمهور ، فينزل الحاجّ بالمحصّب عند وصوله مكّة إن تيسّر له ليذكر اللّه تعالى فيه ويصلّي .
ثالث أيّام التّشريق :
46 - هو رابع أيّام النّحر ، وفيه :
أ - الرّمي : يجب رمي الجمار الثّلاث في هذا اليوم على من تأخّر ، فلم ينفر النّفر الأوّل ، وينتهي وقته ووقت الرّمي كلّه أيضا قضاء وأداء بغروب شمس هذا اليوم اتّفاقا . وتنتهي بغروبه مناسك منى .
ب - النّفر الثّاني : ينفر أي يرحل سائر الحجّاج في هذا اليوم إلى مكّة بعد رمي الجمار ، ولا يشرع المكث بمنى بعد ذلك .
ج - التّحصيب : عند وصول مكّة ، كما مرّ ذكره ، في النّفر الأوّل .
د - المكث بمكّة : تنتهي المناسك بنهاية أعمال منى - عدا طواف الوداع - ويمكث الحاجّ بمكّة إلى وقت سفره في عبادة ، وذكر ، وطواف ، وعمل خير . ويأتي المفرد بالعمرة ، فإنّ وقتها كلّ أيّام السّنة عدا يوم عرفة وأربعة أيّام بعده فتكره فيها كراهة تحريم عند الحنفيّة . ( انظر مصطلح : إحرام : ف 38 ) ( وعمرة ) .
طواف الوداع :
46 م - إذا أراد الحاجّ السّفر من مكّة يجب عليه عند الجمهور أن يطوف بالبيت طواف الوداع ، والمعنى الملاحظ في هذا الطّواف أن يكون آخر العهد بالبيت ، ولا رمل في هذا الطّواف ولا اضطباع ، وبعد أن يصلّي ركعتي الطّواف ، يأتي زمزم ويشرب من مائها مستقبل البيت ، ويتشبّث بأستار الكعبة ، ويستلم الحجر الأسود إن تيسّر له من غير إيذاء أحد ، ثمّ يسير إلى باب الحرم ووجهه تلقاء الباب ، داعيا بالقبول ، والغفران ، وبالعود مرّة بعد مرّة ، وألاّ يكون ذلك آخر العهد من هذا البيت العتيق .
أركان الحجّ ) :
47 - أركان الحجّ فيما اتّجه إليه جمهور الفقهاء أربعة : الإحرام . والوقوف بعرفة . والطّواف وهو طواف الزّيارة . والسّعي . وأركان الحجّ عند الحنفيّة ركنان : الوقوف بعرفة ، وطواف الزّيارة . وعند الشّافعيّة ستّ : الأربع المذكورة عند الجمهور والحلق أو التّقصير ، والتّرتيب بين معظم الأركان . الرّكن الأوّل : الإحرام :
48 - الإحرام في اللّغة : الدّخول في الحرمة . وفي الاصطلاح : الإحرام بالحجّ : نيّة الحجّ عند الجمهور . والنّيّة مع التّلبية وهي قول : لبّيك اللّهمّ - عند الحنفيّة . والإحرام ركن من أركان الحجّ عند الجمهور ، وشرط من شروط صحّته عند الحنفيّة . وهو عندهم شرط من وجه ركن من وجه . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحرام ) .
الرّكن الثّاني : الوقوف بعرفة :
49 - المراد من الوقوف بعرفة : وجود الحاجّ في أرض ( عرفة ) ، بالشّروط والأحكام المقرّرة . والوقوف بعرفة ركن أساسيّ من أركان الحجّ ، يختصّ بأنّه من فاته فقد فاته الحجّ . وقد ثبتت ركنيّة الوقوف بعرفة بالأدلّة القاطعة من الكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا القرآن فقوله تعالى : { ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس } . فقد ثبت أنّها نزلت تأمر بالوقوف بعرفة . وأمّا السّنّة : فعدّة أحاديث ، أشهرها حديث : { الحجّ عرفة } . وأمّا الإجماع : فقد صرّح به عدد من العلماء ، وقال ابن رشد : أجمعوا على أنّه ركن من أركان الحجّ ، وأنّه من فاته فعليه حجّ قابل » .
وقت الوقوف بعرفة :
50 - يبدأ وقت الوقوف بعرفة من زوال الشّمس يوم عرفة - وهو تاسع ذي الحجّة - ويمتدّ إلى طلوع الفجر الصّادق يوم عيد النّحر حتّى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه باطلا اتّفاقا في الجملة . وقد أجمعوا على أنّ آخر وقت وقوف عرفة هو طلوع الفجر يوم النّحر . أمّا ابتداء وقت الوقوف بعرفة فقد وقع فيه اختلاف : ذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة ) على أنّ أوّله زوال شمس يوم عرفة . وذهب مالك : إلى أنّ وقت الوقوف هو اللّيل ، فمن لم يقف جزءا من اللّيل لم يجزئ وقوفه وعليه الحجّ من قابل ، وأمّا الوقوف نهارا فواجب ينجبر بالدّم بتركه عمدا بغير عذر . وعند الحنابلة : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النّحر "
الزّمن الّذي يستغرقه الوقوف : أمّا الزّمن الّذي يستغرقه الوقوف ففيه تفصيل :
51 - قسم الحنفيّة والحنابلة زمان الوقوف إلى قسمين :
أ - زمان الرّكن : الّذي تتأدّى به فريضة الوقوف بعرفة : وهو أن يوجد في عرفة خلال المدّة الّتي عرّفناها عند كلّ ، ولو زمانا قليلا جدّا .(227/10)
ب - زمان الواجب : وهو أن يستمرّ من وقف بعد الزّوال إلى أن تغرب الشّمس ، فلا يجاوز حدّ عرفة إلاّ بعد الغروب ، ولو بلحظة . وهو المقصود بقولهم : أن يجمع بين اللّيل والنّهار بعرفة . فلو فارق عرفة قبل الغروب وجب عليه دم عند الجمهور ، أمّا إذا لم يقف بعرفة إلاّ بعد المغرب فلا شيء عليه . وأمّا المالكيّة فزمان الرّكن عندهم هو الوقوف ليلا ، أمّا نهارا فواجب . وأمّا الشّافعيّة : فالمعتمد عندهم أنّ الجمع بين اللّيل والنّهار بعرفة سنّة ليس واجبا ، لكن يستحبّ له بتركه الفداء استحبابا ، وفي أيّ وقت وقف بعرفة من بعد الزّوال إلى فجر يوم النّحر أجزأه .
الثّالث : طواف الزّيارة :
52 - طواف الزّيارة يؤدّيه الحاجّ بعد أن يفيض من عرفة ويبيت بالمزدلفة ، ويأتي منى يوم العيد فيرمي وينحر ويحلق ثمّ بعد ذلك يفيض إلى مكّة فيطوف بالبيت سمّي طواف الزّيارة لأنّ الحاجّ يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكّة ، بل يرجع ليبيت بمنى . ويسمّى أيضا طواف الإفاضة ، لأنّ الحاجّ يفعله عند إفاضته من منى إلى مكّة . وعدد أشواط الطّواف سبعة ، وكلّها ركن عند الجمهور . وقال الحنفيّة : الرّكن هو أكثر السّبعة ، والباقي واجب ينجبر بالدّم . ويجب المشي في الطّواف على القادر عليه عند الجمهور ، وهو سنّة عند الشّافعيّة . ويسنّ الرّمل والاضطباع في الطّواف إذا كان سيسعى بعده وإلاّ فلا يسنّ . ويصلّي بعد الطّواف ركعتين وجوبا عند الجمهور وسنّة عند الشّافعيّة . وتفصيله في مصطلح : ( طواف ) . ركنيّة طواف الزّيارة :
53 - ثبت فرضيّة طواف الزّيارة بالكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } فقد أجمع العلماء على أنّ الآية في طواف الإفاضة ، فيكون فرضا بنصّ القرآن . وأمّا السّنّة : فقد { حجّت أمّ المؤمنين صفيّة بنت حييّ رضي الله عنها مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحاضت ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أحابستنا هي ؟ قالوا : إنّها قد أفاضت . قال : فلا إذن } . فدلّ الحديث على أنّ طواف الإفاضة فرض لا بدّ منه ، ولولا فرضيّته لم يمنع من لم يأت به عن السّفر . وعليه الإجماع .
شروط طواف الزّيارة :
54 - يشترط في طواف الزّيارة شروط خاصّة به سوى الشّروط العامّة للطّواف وهذه الشّروط الخاصّة هي :
أ - أن يكون مسبوقا بالإحرام ، لتوقّف احتساب أيّ عمل من أعمال الحجّ على الإحرام .
ب - أن يكون مسبوقا بوقوف عرفة ، فلو طاف للإفاضة قبل الوقوف بعرفة لا يسقط به فرض الطّواف ، إجماعا .
ج - النّيّة : بأن يقصد أصل الطّواف . أمّا نيّة التّعيين فليست شرطا في طواف الإفاضة عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ) لدخوله في نيّة الحجّ . لذلك صرّحوا بشرطيّة عدم صرفه لغيره ، كطلب غريم ، أو هرب من ظالم . أمّا الحنابلة : فقد اشترطوا تعيين الطّواف في النّيّة .
د - الوقت : فلا يصحّ طواف الإفاضة قبل الوقت المحدّد له شرعا . وهو وقت موسّع يبتدئ من طلوع الفجر الثّاني يوم النّحر عند الحنفيّة والمالكيّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ أوّل وقت طواف الإفاضة بعد منتصف ليلة النّحر لمن وقف بعرفة قبله . استدلّ الحنفيّة والمالكيّة بأنّ : ما قبل الفجر من اللّيل وقت الوقوف بعرفة ، والطّواف مرتّب عليه " ، فلا يصحّ أن يتقدّم ويشغل شيئا من وقت الوقوف . واستدلّ الشّافعيّة بقياس الطّواف على الرّمي ، لأنّهما من أسباب التّحلّل ، فإنّه بالرّمي للجمار والذّبح والحلق يحصل التّحلّل الأوّل ، وبالطّواف يحصل التّحلّل الأكبر ( بشرط السّعي ) ، فكما أنّ وقت الرّمي يبدأ عندهم بعد نصف اللّيل فكذا وقت طواف الإفاضة . والأفضل عند العلماء أداؤه يوم النّحر بعد الرّمي والحلق . 55 - وأمّا آخر وقت طواف الفرض فليس لآخره حدّ معيّن لأدائه فرضا ، بل جميع الأيّام واللّيالي وقته إجماعا . لكنّ الإمام أبا حنيفة أوجب أداءه في أيّام النّحر ، فلو أخّره حتّى أدّاه بعدها صحّ ، ووجب عليه دم جزاء تأخيره عنها . وهو المفتى به في المذهب . والمشهور عند المالكيّة أنّه لا يلزمه بالتّأخير شيء إلاّ بخروج ذي الحجّة ، فإذا خرج لزمه دم . وذهب الصّاحبان ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، إلى أنّه لا يلزمه شيء بالتّأخير أبدا . استدلّ أبو حنيفة بأنّ اللّه تعالى عطف الطّواف على الذّبح في الحجّ ، فقال : { فكلوا منها } ، ثمّ قال : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } ، فكان وقتهما واحدا ، فيكره تأخير الطّواف عن أيّام النّحر ، وينجبر بالدّم . إلاّ أنّ المالكيّة نظروا إلى شهر ذي الحجّة أنّه تقام فيه أعمال الحجّ ، فسوّوا بين كلّ أيّامه ، وجعلوا التّأخير عنه موجبا للفداء . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة ، بأنّ الأصل عدم التّأقيت ، وليس هناك ما يوجب فعله في أيّام النّحر ، فلا يلزم الحاجّ فدية إذا أخّر طواف الإفاضة إلى ما بعد أيّام النّحر . فإذا تأخّر طواف الإفاضة عن أيّام النّحر أو شهر ذي الحجّة ، فإنّه لا يسقط أبدا ، وهو محرم عن النّساء أبدا إلى أن يعود فيطوف . ولا يكفي الفداء عن أداء طواف الإفاضة إجماعا ، لأنّه ركن ، وأركان الحجّ لا يجزئ عنها البدل ، ولا يقوم غيرها مقامها ، بل يجب الإتيان بها بعينها .
الرّابع : السّعي بين الصّفا والمروة : المراد بالسّعي بين الصّفا والمروة قطع المسافة بينهما سبع مرّات ، بعد أن يكون طاف بالبيت . حكم السّعي :(227/11)
56 - ذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ السّعي ركن من أركان الحجّ لا يصحّ بدونه ، حتّى لو ترك الحاجّ خطوة منه يؤمر بأن يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه ، ويخطو تلك الخطوة . وهو قول عائشة وعروة بن الزّبير . وذهب الحنفيّة إلى أنّ السّعي واجب في الحجّ وليس بركن ، وهو مذهب الحسن البصريّ وسفيان الثّوريّ . وركن السّعي عند الجمهور سبعة أشواط ، حتّى لو ترك شيئا منها لم يتحلّل من إحرامه ، أمّا الحنفيّة فإنّ ركن السّعي أكثر أشواط السّعي ، والثّلاثة الباقية ليست ركنا ، وتنجبر بالفداء . والمشي للقادر واجب في السّعي عند الحنفيّة والمالكيّة ، سنّة عند الشّافعيّة والحنابلة .
واجبات الحجّ :
57 - الواجب في الحجّ : هو ما يطلب فعله ويحرم تركه ، لكن لا تتوقّف صحّة الحجّ عليه ، ويأثم تاركه ، إلاّ إذا تركه بعذر معتبر شرعا ، ويجب عليه الفداء بجبر النّقص . وواجبات الحجّ قسمان : القسم الأوّل : الواجبات الأصليّة ، الّتي ليست تابعة لغيرها . القسم الثّاني : الواجبات التّابعة لغيرها . وهي أمور يجب مراعاتها في أداء ركن أو واجب من أعمال الحجّ . أوّلا : واجبات الحجّ الأصليّة : المبيت بمزدلفة :
58 - المزدلفة تسمّى " جمعا " أيضا ، لاجتماع النّاس بها ليلة النّحر . واتّفق الفقهاء على أنّ المبيت بالمزدلفة واجب ليس بركن . ثمّ اختلفوا في مقداره ووقته . فذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ زمن الوقوف الواجب هو المكث بالمزدلفة من اللّيل ، ثمّ اختلف أصحاب هذا الرّأي . فذهب المالكيّة إلى أنّ النّزول بالمزدلفة قدر حطّ الرّحال في ليلة النّحر واجب ، والمبيت بها سنّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب الوجود بمزدلفة بعد نصف اللّيل ، ولو ساعة لطيفة : أي فترة ما من الزّمن ولو قصيرة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه ما بين طلوع الفجر يوم النّحر وطلوع الشّمس ، فمن حصّل بمزدلفة في هذا الوقت فترة من الزّمن فقد أدرك الوقوف ، سواء بات بها أو لا ، ومن لم يحصّل بها فيه فقد فاته الوقوف الواجب بالمزدلفة . وعليه دم إلاّ إن تركه لعذر كزحمة فلا شيء عليه . واتّفقوا على أنّ الحاجّ يجمع في المزدلفة بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير ، وهذا الجمع سنّة عند الجمهور ، واجب عند الحنفيّة .
ثانيا : رمي الجمار :
59 - الرّمي لغة : القذف . والجمار : الأحجار الصّغيرة ، جمع جمرة ، وهي الحصاة . ورمي الجمار واجب في الحجّ ، أجمعت الأمّة على وجوبه . والرّمي الواجب لكلّ جمرة ( أي موضع الرّمي ) هو سبع حصيات بالإجماع أيضا . توقيت الرّمي وعدده :
60 - أيّام الرّمي أربعة : يوم النّحر العاشر من ذي الحجّة ، وثلاثة أيّام بعده وتسمّى " أيّام التّشريق " الرّمي يوم النّحر :
61 - واجب الرّمي في هذا اليوم هو رمي جمرة العقبة وحدها فقط ، يرميها بسبع حصيات . ووقت الرّمي هذا يبدأ من طلوع فجر يوم النّحر عند الحنفيّة والمالكيّة . ومن منتصف ليلة يوم النّحر لمن وقف بعرفة قبله عند الشّافعيّة والحنابلة . وآخر وقت الرّمي عند الحنفيّة إلى فجر اليوم التّالي ، وعند المالكيّة إلى المغرب . حتّى يجب الدّم في المذهبين بتأخير رمي يوم عن الوقت المذكور . وآخر وقت الرّمي عند الشّافعيّة والحنابلة . يمتدّ إلى آخر أيّام التّشريق . الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق :
62 - يجب في هذين اليومين رمي الجمار الثّلاث على التّرتيب : أوّلا الجمرة الصّغرى ، الّتي تلي مسجد الخيف بمنى ، ثمّ الوسطى ، بعدها ، ثمّ جمرة العقبة ، يرمي كلّ جمرة منها بسبع حصيات . ويبدأ وقت الرّمي في هذين اليومين بعد الزّوال ، ولا يجوز قبله عند جمهور العلماء ، وهي الرّواية الظّاهرة عن أبي حنيفة . وروى الحسن عن أبي حنيفة : « إن كان من قصده أن يتعجّل في النّفر الأوّل فلا بأس أن يرمي في اليوم الثّالث قبل الزّوال ، وإن رمى بعده فهو أفضل ، وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجوز أن يرمي إلاّ بعد الزّوال ، وذلك لدفع الحرج ، لأنّه إذا نفر بعد الزّوال لا يصل إلى مكّة إلاّ باللّيل ، فيحرج في تحصيل موضع النّزول . أمّا الوقت المسنون فيمتدّ من زوال الشّمس إلى غروبها . وأمّا نهاية وقت الرّمي : فقيّده الحنفيّة والمالكيّة في كلّ يوم بيومه ، كما في يوم النّحر . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ آخر الوقت بغروب شمس اليوم الرّابع من أيّام النّحر ، وهو آخر أيّام التّشريق . النّفر الأوّل :
63 - إذا رمى الحاجّ الجمار ثاني أيّام التّشريق يجوز له أن ينفر - أي يرحل - إلى مكّة ، إن أحبّ التّعجّل في الانصراف من منى ، ويسمّى هذا اليوم يوم النّفر الأوّل ، وبه يسقط رمي اليوم الثّالث من أيّام التّشريق اتّفاقا . ومذهب الأئمّة الثّلاثة : له أن ينفر قبل غروب الشّمس ، ومذهب الحنفيّة : له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرّابع من أيّام النّحر . الرّمي ثالث أيّام التّشريق :
64 - يجب رمي الجمار الثّلاث في هذا اليوم على من تأخّر ولم ينفر من منى " النّفر الأوّل " ووقته عند الجمهور بعد الزّوال ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن يقدّم الرّمي في هذا اليوم قبل الزّوال بعد طلوع الفجر . واتّفقوا على أنّ آخر وقت الرّمي في هذا اليوم غروب الشّمس ، وأنّ وقت الرّمي لهذا اليوم ولقضاء ما قبله ينتهي أيضا بغروب شمس اليوم الرّابع ، لخروج وقت المناسك بغروب شمسه . النّفر الثّاني :(227/12)
65 - إذا رمى الحاجّ الجمار الثّلاث في اليوم الثّالث من أيّام التّشريق وهو رابع أيّام النّحر انصرف من منى إلى مكّة ، ولا يسنّ له أن يقيم بمنى ، بعد الرّمي ، ويسمّى يوم النّفر الثّاني ، وبه تنتهي مناسك منى .
النّيابة في الرّمي : الرّمي عن الغير :
66 - المعذور الّذي لا يستطيع الرّمي بنفسه كالمريض يجب أن يستنيب من يرمي عنه ، وينبغي أن يكون النّائب قد رمى عن نفسه ، فإن لم يكن رمى عن نفسه فليرم عن نفسه الرّمي كلّه ليومه أوّلا ، ثمّ ليرم عمّن استنابه ، ويجزئ هذا الرّمي عن الأصيل عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . إلاّ أنّ الحنفيّة قالوا : لو رمى حصاة لنفسه وأخرى للآخر جاز ولكره . وقال الشّافعيّة : إنّ الإنابة خاصّة بمريض لا يرجى شفاؤه قبل انتهاء أيّام التّشريق ، وعند الشّافعيّة قول : إنّه يرمي حصيات الجمرة عن نفسه أوّلا ، ثمّ يرميها عن نائبه إلى أن ينتهي من الرّمي . وهو مخلص حسن لمن خشي خطر الزّحام . ومن عجز عن الاستنابة كالصّبيّ ، والمغمى عليه ، فيرمي عن الصّبيّ وليّه ، وعن المغمى عليه رفاقه ، ولا فدية عليه ، وإن لم يرم عند الحنفيّة . وقال المالكيّة : فائدة الاستنابة أن يسقط الإثم عنه إن استناب وقت الأداء . " وإلاّ فالدّم عليه استناب أم لا ، وإنّما وجب عليه الدّم دون الصّغير ومن ألحق به لأنّه المخاطب بسائر الأركان "
الحلق والتّقصير :
67 - اتّفق جمهور العلماء على أنّ حلق شعر الرّأس أو تقصيره واجب من واجبات الحجّ ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وذهب الشّافعيّ في المشهور عنه وهو الرّاجح في المذهب إلى أنّه ركن في الحجّ . واختلفوا في القدر الواجب حلقه أو تقصيره . فعند المالكيّة والحنابلة الواجب حلق جميع الرّأس أو تقصيره ، وقال الحنفيّة : يكفي مقدار ربع الرّأس ، وعند الشّافعيّة : يكفي إزالة ثلاث شعرات أو تقصيرها . 68 - والجمهور على أنّ الحلق أو التّقصير لا يختصّ بزمان ولا مكان ، لكنّ السّنّة فعله في الحرم أيّام النّحر . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الحلق يختصّ بأيّام النّحر ، وبمنطقة الحرم ، فلو أخلّ بأيّ من هذين لزمه الدّم ، ويحصل له التّحلّل بهذا الحلق .
رابعا : المبيت بمنى ليالي أيّام التّشريق :
69 - منى : بالكسر والتّنوين شعيب بين جبال ، طوله ميلان وعرضه يسير . والمبيت بها ليالي أيّام التّشريق واجب عند جمهور الفقهاء ، يلزم الدّم لمن تركه بغير عذر . وذهب الحنفيّة إلى أنّ المبيت بها سنّة ، والقدر الواجب للمبيت عند الجمهور هو مكث أكثر اللّيل .
خامسا : طواف الوداع :
70 - طواف الوداع يسمّى طواف الصّدر ، وطواف آخر العهد : وذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة إلى أنّ طواف الوداع واجب ، وذهب المالكيّة إلى أنّه سنّة . استدلّ الجمهور على وجوبه بأمره صلى الله عليه وسلم كما روى ابن عبّاس رضي الله عنه قال : { أمر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلاّ أنّه خفّف عن المرأة الحائض } . واستدلّ المالكيّة على أنّه سنّة ، بأنّه جاز للحائض تركه دون فداء ، ولو وجب لم يجز للحائض تركه .
شروط وجوبه :
71 - أن يكون الحاجّ من أهل الآفاق ، عند الحنفيّة والحنابلة ، فلا يجب على المكّيّ ، لأنّ الطّواف وجب توديعا للبيت ، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكّة لأنّهم في وطنهم وألحق الحنفيّة من كان من منطقة المواقيت ، لأنّ حكمهم حكم أهل مكّة . وقال الحنابلة : لا يسقط إلاّ عمّن كان منزله في الحرم فقط . وعند المالكيّة والشّافعيّة يطلب طواف الوداع في حقّ كلّ من قصد السّفر من مكّة ، ولو كان مكّيّا إذا قصد سفرا تقصر فيه الصّلاة . ووصفه المالكيّة بأنّه سفر بعيد كالجحفة لا قريبا كالتّنعيم إذا خرج للسّفر لا ليقيم بموضع آخر أو بمسكنه ، فإن خرج ليقيم بموضع آخر أو بمسكنه طلب منه ، ولو كان الموضع الّذي خرج إليه قريبا . 72 - الطّهارة من الحيض والنّفاس : فلا يجب على الحائض والنّفساء ، ولا يسنّ أيضا حتّى إنّهما لا يجب عليهما دم بتركه ، لما سبق من حديث ابن عبّاس : { إلاّ أنّه خفّف عن الحائض } وكذا حديث عائشة في قصّة صفيّة لمّا حاضت فقد سافر بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم دون أن تطوف للوداع . فأمّا الطّهارة من الجنابة فليست بشرط لوجوب طواف الوداع ، فيكون واجبا على المحدث والجنب ، لأنّه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة في الحال بالغسل أو التّيمّم . وإذا طهرت الحائض قبل أن تفارق بنيان مكّة يلزمها طواف الصّدر ، وإن جاوزت جدران مكّة ثمّ طهرت لم يلزمها طواف الصّدر ، اتّفاقا بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . لأنّها حين خرجت من العمران صارت مسافرة ، بدليل جواز القصر ، فلا يلزمها العود ولا الدّم . 73 - أن يكون قد أدّى مناسك الحجّ مفردا أو متمتّعا أو قارنا . فلا يجب على المعتمر عند الحنفيّة وحدهم ، ولو كان آفاقيّا ، وكأنّهم نظروا إلى المقصود ، وهو ختم أعمال الحجّ ، فلا يطلب من المعتمر .
شروط صحّته :
74 - يشترط لصحّة طواف الوداع ما يأتي :
أ - أصل نيّة الطّواف لا التّعيين .
ب - أن يكون مسبوقا بطواف الزّيارة .(227/13)
ج - الوقت : ووقت طواف الوداع عند الحنفيّة يمتدّ عقب طواف الزّيارة لو تأخّر سفره ، وكلّ طواف يفعله الحاجّ بعد طواف الزّيارة يقع عن طواف الصّدر . أمّا السّفر فور الطّواف فليس من شرائط جوازه عند الحنفيّة ، حتّى لو كان للصّدر ، ثمّ تشاغل بمكّة بعده حتّى ولو أقام أيّاما كثيرة ، لا يجب عليه طواف آخر ، لأنّ المراد أن يكون آخر عهده بالبيت نسكا ، لا إقامة ، والطّواف آخر مناسكه بالبيت ، إلاّ أنّ المستحبّ أن يؤخّر طواف الصّدر إلى الوقت الّذي يريد أن يسافر . فيه . وعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وقته بعد فراغه من جميع أموره ، وعزمه على السّفر ، ويغتفر له أن يشتغل بعده بأسباب السّفر ، كشراء الزّاد ، وحمل الأمتعة ونحو ذلك ولا يعيده ، لكن إن مكث بعده مشتغلا بأمر آخر غير أسباب السّفر كشراء متاع ، أو زيارة صدّيق ، أو عيادة مريض احتاج إلى إعادة الطّواف .
واجبات الحجّ التّابعة لغيرها :
75 - واجبات الحجّ التّابعة لغيرها هي أمور يجب أداؤها في ضمن ركن من أركان الحجّ ، أو ضمن واجب أصليّ من واجباته . وتجد دراستها في المصطلحات الّتي تخصّ أركان الحجّ أو واجباته ، سوى ترتيب أعمال يوم النّحر ، فندرسه هنا ، ونشير إلى ما سواه إشارة سريعة . أوّلا : واجبات الإحرام :
76 - أ - كون الإحرام من الميقات المكانيّ ، لا بعده ( انظر إحرام ف 31 - 32 ) ب - التّلبية وهي واجبة عند المالكيّة ويسنّ قرنها بالإحرام ، وشرط في الإحرام عند الحنفيّة ، وسنّة عند الجمهور ( انظر إحرام : ف 29 ) .
ج - اجتناب محظورات الإحرام ( انظر إحرام : ف 31 و 55 - 94 ) .
ثانيا : واجبات الوقوف بعرفة :
77 - هي امتداد الوقوف إلى ما بعد المغرب على تفصيل المذاهب ، سوى الشّافعيّة فإنّه سنّة عندهم . وقال المالكيّة : الوقوف بعد المغرب هو الرّكن ، وقبله واجب .
ثالثا : واجبات الطّواف :
78 - أ - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأشواط الثّلاث الأخيرة من الطّواف واجبة . وهي عند الجمهور ركن في الطّواف ( ف 128 ) ( وانظر مصطلح طواف ) .
ب - أوجب الحنفيّة الأمور التّالية في الطّواف ، وقال الجمهور هي من شروط صحّته . وهذه الأمور هي :
1 - الطّهارة من الأحداث والأنجاس .
2 - ستر العورة .
3 - ابتداء الطّواف من الحجر .
4 - التّيامن ، أي كون الطّائف عن يمين البيت .
5- دخول الحجر ( أي الحطيم ) في ضمن الطّواف .
ج - أوجب الحنفيّة الأمور التّالية في الطّواف وهي سنّة عند غيرهم :
1 - المشي للقادر عليه .
2 - ركعتا الطّواف .
3 - إيقاع طواف الرّكن في أيّام النّحر .
رابعا : واجبات السّعي :
79 - أ - المشي للقادر عليه عند الحنفيّة . وذهب الجمهور إلى أنّه سنّة .
ب - إكمال أشواط السّعي إلى سبعة بعد الأربعة الأولى عند الحنفيّة ، وكلّها ركن عند الجمهور .
خامسا : واجب الوقوف بالمزدلفة :
80 - أوجب الحنفيّة جمع صلاتي المغرب والعشاء تأخيرا في المزدلفة ، وهو سنّة عند الجمهور .
سادسا : واجبات الرّمي :
81 - يجب عدم تأخير رمي يوم لتاليه عند الحنفيّة ، وإلى المغرب عند المالكيّة . سابعا : واجبات ذبح الهدي :
82 - أ - أن يكون الذّبح في أيّام النّحر .
ب - أن يكون في الحرم .
ثامنا : واجبات الحلق والتّقصير :
83 - أ - كون الحلق في أيّام النّحر عند الحنفيّة والمالكيّة .
ب - كون الحلق في الحرم عند الحنفيّة فقط .
تاسعا : ترتيب أعمال يوم النّحر :
84 - يفعل الحاجّ بمنى يوم النّحر ثلاثة أعمال على هذا التّرتيب : رمي جمرة العقبة ، ثمّ ذبح الهدي إن كان قارنا أو متمتّعا ( ر : ف 5 - 7 ) ثمّ الحلق أو التّقصير . ثمّ يذهب إلى مكّة فيطوف طواف الزّيارة . والأصل في هذا التّرتيب هو فعله صلى الله عليه وسلم : عن أنس بن مالك رضي الله عنه : { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النّحر ، ثمّ رجع إلى منزله بمنى ، فدعا بذبح فذبح ، ثمّ دعا بالحلّاق فأخذ بشقّ رأسه الأيمن ، فجعل يقسم بين من يليه الشّعرة والشّعرتين ، ثمّ أخذ بشقّ رأسه الأيسر فحلقه } وفي حديث جابر : { ثمّ ركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت } . حكم هذا التّرتيب :(227/14)
85 - مع اتّفاقهم على مشروعيّة هذا التّرتيب فقد اختلفوا فيه : والسّبب في هذا الاختلاف هو ورود حديث آخر يدلّ على أنّ التّرتيب سنّة ، لا فداء على من تركه . ذلك هو حديث عبد اللّه بن عمرو { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف في حجّة الوداع فجعلوا يسألونه ، فقال رجل : لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ؟ قال : اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال : لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ؟ قال : ارم ولا حرج فما سئل يومئذ عن شيء قدّم ولا أخّر إلاّ قال : افعل ولا حرج } . فذهب الحنفيّة والمالكيّة ورواية عن أحمد إلى وجوب ترتيب أعمال يوم النّحر على تفصيل فيه ، أخذ كلّ منهم به للتّوفيق بين الأدلّة . وذهب الشّافعيّ والصّاحبان ورواية عن أحمد إلى أنّ التّرتيب سنّة ، واستدلّوا بحديث عبد اللّه بن عمرو الأخير ، فإنّ قوله : فما سئل يومئذ .. يدلّ بعمومه على سنّيّة التّرتيب . أمّا الأوّلون فاستدلّوا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه يدلّ على الوجوب ، ثمّ ذهبوا مذاهب في كيفيّة التّرتيب : فذهب الحنفيّة إلى وجوب التّرتيب بين أعمال منى حسب الوارد ، أمّا التّرتيب بينها وبين طواف الإفاضة فسنّة . واستدلّوا بأدلّة منها : مراعاة اتّباع فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما نصّ عليه حديث أنس ، وقوله تعالى : { ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ، ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّوّفوا بالبيت العتيق } . وجه الاستدلال أنّه أمر بقضاء التّفث وهو الحلق مرتّبا على الذّبح ، فدلّ على وجوب التّرتيب . وقال المالكيّة : الواجب في التّرتيب : تقديم الرّمي على الحلق وعلى طواف الإفاضة ، وغير ذلك من التّرتيب لا يجب ، بل هو سنّة . استدلّوا على وجوب تقديم الرّمي على الحلق بأنّه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التّحلّل الأوّل ، ولا يحصل التّحلّل الأوّل إلاّ برمي جمرة العقبة . واستدلّوا على عدم وجوب تقديم الذّبح على الحلق بحديث عبد اللّه بن عمرو السّابق ، أخذا بالتّقديم والتّأخير المنصوص عليه في الحديث ، وفسّروا فما سئل عن شيء قدّم ولا أخّر ... بأنّ المراد ممّا ذكر في صدر الحديث لتقديمه وتأخيره . وأخذ الإمام أحمد في رواية الوجوب عنه بلفظ " لم أشعر " فقال : يجب التّرتيب على العالم به الذّاكر له ، أمّا الجاهل والنّاسي فلا شيء عليه ، وقيّدوا شطر الحديث الأخير " فما سئل ... " لهذا المعنى ، أي قال : { لا حرج } فيما قدّم وأخّر ، من غير شعور . والحاصل كما قال ابن قدامة : لا نعلم خلافا بينهم في أنّ مخالفة التّرتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الإجزاء ، ولا يمنع وقوعها موقعها ، وإنّما اختلفوا في وجوب الدّم على ما ذكرنا » .
التّحلّل من إحرام الحجّ :
86 - يحصل التّحلّل بأداء أركان الحجّ وواجباته رمي جمرة العقبة ، والحلق ، والتّحلّل من إحرام الحجّ . وهذا التّحلّل قسمان : التّحلّل الأوّل أو الأصغر ، والتّحلّل الثّاني أو الأكبر ، وقد سبق التّحلّل في مصطلح : ( إحرام ) ( ف 122 - 125 ) .
سنن الحجّ ومستحبّاته وممنوعاته ومباحاته الأوّل : سنن الحجّ :
87 - السّنن في الحجّ يطلب فعلها ، ويثاب عليها ، لكن لا يلزم بتركها الفداء من دم أو صدقة . أوّلا : طواف القدوم :
88 - ويسمّى طواف القادم ، طواف الورود ، وطواف الوارد ، وطواف التّحيّة لأنّه شرع للقادم والوارد من غير مكّة لتحيّة البيت . ويسمّى أيضا طواف اللّقاء ، وأوّل عهده بالبيت ، وطواف القدوم سنّة للآفاقيّ القادم من خارج مكّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، تحيّة للبيت العتيق ، لذلك يستحبّ البدء به دون تأخير ، وسوّى الشّافعيّة بين داخلي مكّة المحرم منهم وغير المحرم في سنّيّة طواف القدوم . وذهب المالكيّة إلى أنّه واجب ، من تركه لزمه الدّم . ووجوب طواف القدوم عند المالكيّة على كلّ من أحرم من الحلّ ، سواء كان من أهل مكّة أو غيرها ، وسواء كان إحرامه من الحلّ واجبا كالآفاقيّ القادم محرما بالحجّ ، أم ندبا كالمقيم بمكّة الّذي معه نفس ( متّسع من الوقت ) وخرج من الحرم فأحرم من الحلّ ، وسواء كان أحرم بالحجّ مفردا أم قارنا ، وكذا المحرم من الحرم إن كان يجب عليه الإحرام من الحلّ ، بأن جاوز الميقات حلالا مخالفا للنّهي . وهو واجب على هؤلاء ما لم يكن أحدهم مراهقا ، وهو من ضاق وقته حتّى خشي فوات الوقوف بعرفات . والأصل فيه فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت في أوّل حديث جابر قوله : { حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الرّكن فرمل ثلاثا ومشى أربعا } . وعن عائشة رضي الله عنها : { إنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة أنّه توضّأ ثمّ طاف ... } الحديث . فاستدلّ المالكيّة بذلك على الوجوب بقوله : { خذوا عنّي مناسككم } . وقال الجمهور : إنّ القرينة قامت على أنّه غير واجب لأنّ المقصود به التّحيّة ، فأشبه تحيّة المسجد ، فيكون سنّة .
متى يسقط طواف القدوم :
89 - يسقط طواف القدوم عمّن يلي :
أ - المكّيّ . ومن في حكمه ، وهو الآفاقيّ إذا أحرم من مكّة ، وشرط فيه المالكيّة أن لا يكون وجب عليه الإحرام من الحلّ ، كما سبق ، ووسّع الحنفيّة فقالوا : يسقط عمّن كان منزله في منطقة المواقيت لأنّ لها حكم مكّة . وعلّة سقوط طواف القدوم عن هؤلاء أنّه شرع للقدوم ، والقدوم في حقّهم غير موجود .(227/15)
ب - المعتمر والمتمتّع ولو آفاقيّا عند الجمهور ، لدخول طواف الفرض عليه ، وهو طواف العمرة ، فطواف القدوم عندهم خاصّ بمن أحرم بالحجّ مفردا ، أو قارنا بين الحجّ والعمرة ، وتفرّد الحنابلة فقالوا : يطوف المتمتّع للقدوم قبل طواف الإفاضة ، ثمّ يطوف طواف الإفاضة .
ج - من قصد عرفة رأسا للوقوف يسقط عنه طواف القدوم ، " لأنّ محلّه المسنون قبل وقوفه " ، وقرّر المالكيّة أنّه إذا أحرم بالحجّ من الحرم أو أحرم به من الحلّ ولكنّه مراهق أو أحرم بالعمرة من الحلّ ثمّ أردف بالحجّ عليها في الحرم فإنّه لا يطالب بطواف القدوم وإذا لم يطالب بطواف القدوم فإنّه يؤخّر السّعي إلى طواف الإفاضة ، لأنّه سيأتي أنّه يجب أن يكون السّعي عقب أحد طوافي الحجّ فلمّا سقط طواف القدوم تعيّن أن يكون عقب طواف الإفاضة .
فروع :
89 م - الأوّل : قال في التّوضيح : ومتى يكون الحاجّ مراهقا إن قدم يوم عرفة أحببت تأخير طوافه ، وإن قدم يوم التّروية أحببت تعجيله وله في التّأخير سعة وفي المختصر عن مالك ، إن قدم يوم عرفة فليؤخّره إن شاء وإن شاء طاف وسعى ، وإن قدم يوم التّروية ومعه أهل فليؤخّر إن شاء ، وإن لم يكن معه أهل فليطف وليسع . ومعنى ذلك أنّ الاشتغال يوم عرفة بالتّوجّه إلى عرفة أولى ، وأمّا يوم التّروية فمن كان معه أهل كان في شغل ممّا لا بدّ للمسافر بالأهل منه . انتهى . وقال ابن فرحون : لأنّه بأهله في شغل ، وحال المنفرد أخفّ ، وقال قبله : والمراهق هو الّذي يضيق وقته عن إيقاعه طواف القدوم والسّعي وما لا بدّ له من أحواله ويخشى فوات الحجّ إن تشاغل بذلك فله تأخير الطّواف ، ثمّ ذكر ما قاله أشهب ونقله عن مالك في المختصر انتهى من مناسكه .
الثّاني : حكم من أحرم بالقرآن من الحلّ حكم من أحرم بالحجّ من الحلّ في وجوب طواف القدوم عليه وتعجيل السّعي بعده ، فإن ترك ذلك وهو غير مراهق فعليه الدّم ، وإن كان مراهقا فلا دم عليه قاله في المدوّنة . الثّالث : إذا أردف الحجّ على العمرة في الحلّ فحكمه حكم من أحرم بالقران من الحلّ في وجوب طواف القدوم والسّعي بعده إذا لم يكن مراهقا وهو ظاهر . الرّابع : إذا أحرم بالقرآن من مكّة أو بالعمرة من مكّة ثمّ أردف عليها حجّة وصار قارنا فإنّه يلزمه الخروج للحلّ على المشهور ، فإذا دخل من الحلّ لا يطوف ولا يسعى لأنّه أحرم من مكّة . قاله ابن رشد عن ابن القاسم ونقله ابن عرفة وقد تقدّم ذلك عند قوله ولها وللقران الحلّ .
الخامس : من أحرم بالحجّ أو بالقران من الحلّ ومضى إلى عرفات ولم يدخل مكّة وليس بمراهق فإنّه بمنزلة من ترك طواف القدوم ويجب عليه الدّم . قاله في المدوّنة وكلام المصنّف في مناسكه يوهم سقوط الدّم وليس كذلك . وقال الحنابلة : لا يسقط طواف القدوم عمّن تأخّر عنه إلى الوقوف ، فإذا قدم مكّة يبدأ طواف القدوم قبل طواف الزّيارة .
د - قرّر المالكيّة أنّه يسقط طواف القدوم عن الحائض والنّفساء والمغمى عليه والنّاسي ، إلاّ أن يزول المانع ويتّسع الزّمن لطواف القدوم فإنّه حينئذ يجب .
وقت طواف القدوم :
90 - يبدأ وقت طواف القدوم حين دخول مكّة ، ويستحبّ أن يبادر به قبل استئجار المنزل ونحو ذلك ، لأنّه تحيّة البيت العتيق ، وآخر وقته وقوفه بعرفة عند الجمهور ، لأنّه بعد الوقوف مطالب بطواف الفرض ، وهو طواف الزّيارة .
كيفيّة طواف القدوم :
91 - كيفيّة طواف القدوم كطواف الزّيارة ، إلاّ أنّه لا اضطباع فيه ولا رمل ، ولا سعي لأجله ، إلاّ إذا أراد تقديم سعي الحجّ إليه ، فإنّه يسنّ له عندئذ الاضطباع والرّمل في الطّواف ، لأنّ الرّمل والاضطباع سنّة في كلّ طواف بعده سعي .
ثانيا : خطب الإمام :
92 - وهي سنّة في ثلاثة مواضع عند الحنفيّة والمالكيّة ، وأربعة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وتؤدّى الخطب كلّ واحدة خطبة واحدة بعد صلاة الظّهر ، إلاّ خطبة يوم عرفة ، فإنّها خطبتان بعد الزّوال قبل الصّلاة . ويفتتح الخطبة بالتّلبية إن كان محرما ، وبالتّكبير إن لم يكن محرما . ( الخطبة الأولى ) :
93 - تسنّ هذه الخطبة في مكّة يوم السّابع من ذي الحجّة قبل يوم التّروية بيوم ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة ، والغرض منها أن يعلّمهم المناسك . عن ابن عمر رضي الله عنه قال : { كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التّروية بيوم خطب النّاس فأخبرهم بمناسكهم } . ( الخطبة الثّانية ) :
94 - وتسنّ هذه الخطبة يوم عرفة بعرفات ، قبل الصّلاة اتّفاقا ، كما ثبت في حديث جابر وغيره . وهذه الخطبة خطبتان يفصل بينهما بجلسة كما في خطبة الجمعة ، يبيّن لهم في أولاهما ما أمامهم من المناسك ويحرّضهم على إكثار الدّعاء والابتهال ، ويبيّن لهم ما يهمّهم من الأمور الضّروريّة لشؤون دينهم ، واستقامة أحوالهم . ( الخطبة الثّالثة ) :
95 - الخطبة الثّالثة تكون بمنى في اليوم الحادي عشر من ذي الحجّة عند الحنفيّة والمالكيّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها تكون بمنى يوم النّحر . استدلّ الشّافعيّة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم { أنّه خطب يوم النّحر بمنى } . وأجاب الحنفيّة بأنّ المقصود من الخطبة التّعليم وإجابة عن أسئلة وجّهت إليه صلى الله عليه وسلم ويوم النّحر يوم اشتغال بأعمال كثيرة وهي الرّمي والذّبح والحلق والطّواف . ( الخطبة الرّابعة ) :
96 - زاد الشّافعيّة والحنابلة خطبة رابعة : هي بمنى ثاني أيّام التّشريق ، يعلّمهم فيها جواز النّفر فيه وغير ذلك ، ويودّعهم .
ثالثا : المبيت بمنى ليلة يوم عرفة :(227/16)
97 - يسنّ للحاجّ أن يخرج من مكّة إلى منى يوم التّروية ، بعد طلوع الشّمس ، فيصلّي بمنى خمس صلوات هي : الظّهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والفجر ، وذلك سنّة باتّفاق الأئمّة . وقد ثبت في حديث جابر : { فلمّا كان يوم التّروية توجّهوا إلى منى فأهلّوا بالحجّ ، وركب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى بهم الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثمّ مكث قليلا حتّى طلعت الشّمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة } .
رابعا : السّير من منى إلى عرفة :
98 - السّير من منى إلى عرفة صباحا بعد طلوع شمس يوم عرفة سنّة عند الجمهور وهو مندوب عند الحنابلة . والأصل فيه فعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر : { ثمّ مكث قليلا حتّى طلعت الشّمس وأمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ... فأجاز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة .. }
خامسا : المبيت بالمزدلفة ليلة النّحر :
99 - يسنّ للحاجّ أن يبيت بالمزدلفة ليلة عيد النّحر ، ويمكث بها حتّى يطلع الفجر ، ثمّ يقف للدّعاء ويمكث فيها حتّى يسفر جدّا ، ثمّ يدفع إلى منى فهذا سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة ، مندوب عند المالكيّة ، مستحبّ عند الحنابلة . إنّما الواجب الوقوف الّذي سبق ذكره وذلك لفعله صلى الله عليه وسلم : قال جابر : { حتّى أتى المزدلفة ، فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبّح بينهما شيئا ، ثمّ اضطجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى طلع الفجر وصلّى الفجر حين تبيّن له الصّبح بأذان وإقامة ، ثمّ ركب القصواء حتّى أتى المشعر الحرام ... }
( مستحبّات الحجّ ) :
100 - مستحبّات الحجّ يحصل بها الأجر لكن دون أجر السّنّة ، ولا يلزم تاركها الإساءة بخلاف السّنّة . ومستحبّات الحجّ كثيرة نذكر طائفة هامة منها فيما يلي : أوّلا : العجّ :
101 - وهو رفع الصّوت بالتّلبية باعتدال ، وهو مستحبّ للرّجال ، عملا بحديث السّائل : { أيّ الحجّ أفضل ؟ قال صلى الله عليه وسلم : العجّ ، والثّجّ } . ثانيا : الثّجّ :
102 - وهو ذبح الهدي تطوّعا ، لما مرّ في الحديث ، وقد أكثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من هدي التّطوّع جدّا ، حتّى بلغ مجموع هديه في حجّته مائة من الإبل . قال الإمام النّوويّ : اتّفقوا على أنّه يستحبّ لمن قصد مكّة بحجّ أو عمرة أن يهدي هديا من الأنعام ، ونحره هناك ، ويفرّقه على المساكين الموجودين في الحرم " ثالثا : الغسل لدخول مكّة للآفاقيّ :
103 - وذلك عند ذي طوى ، كما ورد في السّنّة ، أو غيره من مداخل مكّة ، وقد ثبت أنّه : كان يغتسل لدخول مكّة » . رابعا : الغسل للوقوف بالمزدلفة بعد نصف اللّيل :
104 - صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة ، حتّى جعل الشّافعيّة التّيمّم بديلا عنه عند العجز عن الماء قال النّوويّ : يستحبّ أن يغتسل بالمزدلفة بعد نصف اللّيل ، للوقوف بالمشعر الحرام ، وللعيد ، ولما فيها من الاجتماع ، فإن عجز عن الماء تيمّم كما سبق » . خامسا : التّعجيل بطواف الإفاضة :
105 - وذلك بأدائه يوم عيد النّحر ، اتّباعا لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم . كما في حديث جابر سادسا : الإكثار من الدّعاء والتّلبية والأذكار المتكرّرة في الأحوال :
106 - كالأدعية المأثورة في المناسك ، ولا سيّما وقوف عرفة ، وغير ذلك ، فهذا به روح شعائر الحجّ . كما جاء في الحديث : { إنّما جعل رمي الجمار والسّعي بين الصّفا والمروة لإقامة ذكر اللّه } . سابعا : التّحصيب :
107 - وهو النّزول بوادي المحصّب ، أو الأبطح في النّفر من منى إلى مكّة عند انتهاء المناسك ، ويقع المحصّب عند مدخل مكّة بين الجبلين ، إلى المقبرة المسمّاة بالحجون . وقد اتّصل بناء مكّة به في زمننا بل تجاوزه لما وراءه . والتّحصيب مستحبّ عند الجمهور ، سنّة عند الحنفيّة ، بأن ينزل الحاجّ فيه في نفره من منى ويصلّي فيه الظّهر والعصر والمغرب والعشاء . استدلّ الجمهور بما أخرجه الشّيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت : { إنّما نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المحصّب ليكون أسمح لخروجه ، وليس بسنّة فمن شاء نزله ، ومن شاء لم ينزله } واستدلّ الحنفيّة على السّنّيّة بحديث { أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول اللّه أين تنزل غدا في حجّته . قال : وهل ترك عقيل لنا من دار ثمّ قال : نحن نازلون بخيف بني كنانة ، حيث قاسمت قريش على الكفر } وحيث أصبح المحصّب الآن ضمن البنيان فيمكث الحاجّ فيه ما تيسّر تحصيلا للسّنة قدر الإمكان في هذا الموضع الّذي يثير تلك الذّكرى من جهاد النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ممنوعات الحجّ :
108 - ممنوعات الحجّ أقسام : مكروهات ، ومحرّمات ، ومفسدات . أمّا المكروهات : فهي ترك سنّة من سنن الحجّ ، وهو مكروه تنزيها عند الحنفيّة . ويلزم فيه الإساءة ، ولا يجب فداء . وأمّا المحرّمات : فيدخل فيها ترك الواجبات ، ويسمّيه الحنفيّة : مكروها كراهة تحريم . وحكمه إثم من ارتكبه بغير عذر ولزوم الفداء فيه اتّفاقا على التّفصيل الآتي : أمّا المفسدات وسائر محرّمات الحجّ فإنّها متعلّقة بالإحرام لا تختصّ بالحجّ . ( انظر في المصطلح : إحرام ف 55 وما بعد و 171 - 173 ) .
مباحات الحجّ :
109 - ليس للحجّ مباحات خاصّة به ، سوى المباحات الّتي لا تخلّ بمحظورات الإحرام ( فانظر في المصطلح : إحرام : ف 99 - 107 ) .
أحكام خاصّة بالحجّ :(227/17)
110 - تتناول هذه الأحكام الموضوعات التّالية : حجّ المرأة الحائض والنّفساء . حجّ الصّبيّ . حجّ المغمى عليه . الحجّ عن الغير . الأوّل - حجّ المرأة والحائض والنّفساء :
111 - تختصّ المرأة دون الرّجل بعدّة أحكام في الحجّ ، بعضها يتعلّق بالإحرام ، فينظر فيه ، وبعضها يتعلّق بمناسك الحجّ ، وسبقت في مواضعها . ونبيّن هنا أحكاما أخرى هامة ، هي أحكام حجّ الحائض والنّفساء ، وله صور متعدّدة نبيّن حكمها فيما يلي :
أ - أن تحرم المرأة بالحجّ مفردة أو قارنة ، ثمّ يمنعها الحيض أو النّفاس من أداء الطّواف ، فإنّها تمكث حتّى تقف بعرفة وتأتي بكافّة أعمال الحجّ فيما عدا الطّواف والسّعي ، فإذا طهرت تطوف طوافا واحدا وتسعى سعيا واحدا إن كانت مفردة . وتطوف طوافين وتسعى سعيا للحجّ والعمرة إن كانت قارنة ، حسبما يجب عند الحنفيّة ، وطوافا وسعيا واحدا للقران عند غير الحنفيّة ، ولا يسقط عنها طواف الوداع في هاتين الصّورتين اتّفاقا . ويسقط عنها طواف القدوم ، أمّا عند الجمهور فلأنّه سنّة فات وقتها ، وأمّا عند المالكيّة فلكونه عذرا يسقط به ، ولو كان واجبا ، إلاّ أن يزول المانع ويتّسع الزّمن لطواف القدوم ، فإنّه حينئذ يجب عليها .
ب - أن تحرم بالعمرة ثمّ تحيض أو تنفس قبل الوقوف بعرفة ، ولا يتّسع الوقت كي تطهر وتعتمر قبل الإحرام بالحجّ : قرّر الحنفيّة في هذه الصّورة : أنّ المرأة تحرم بالحجّ أي تنويه وتلبّي ، وتؤدّي أعمال الحجّ كما ذكرنا بالنّسبة للمفردة ، وتصبح بهذا رافضة للعمرة ، أي ملغية لها ، وتحتسب لها حجّة فقط ، فإذا أرادت العمرة تهلّ بها بعد الفراغ من أعمال الحجّ وليس لها إرداف الحجّ على العمرة عندهم . أمّا غير الحنفيّة فقالوا : لا تلغي العمرة ، بل تحرم بالحجّ ، وتصبح قارنة ، فتحتسب لها العمرة ، وقد كفى عنها طواف الحجّ وسعيه تبعا لمذهبهم في طواف القارن وسعيه أنّهما يجزئان عن الحجّ والعمرة ( انظر مصطلح قران ) . وعليها هدي القران عندهم ، ولا يسقط عنها طواف الوداع اتّفاقا .
ج - لو حاضت في أيّام النّحر بعد أن مضت عليها فترة تصلح للطّواف فأخّرت طواف الإفاضة عن وقته بسبب الحيض وجب عليها دم بهذا التّأخير عند الحنفيّة . أمّا إذا حاضت قبل يوم النّحر أو بعده بوقت يسير لا يكفي للإفاضة فتأخّر طوافها عن وقته بسبب ذلك فلا جزاء عليها ولا إثم . ولا يتصوّر عند المالكيّة ذلك ، لأنّ وقت طواف الإفاضة الواجب يمتدّ عندهم لآخر ذي الحجّة ، ولا عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّه لا وقت يلزم الجزاء بتأخيره عنه عندهم .
د - إن حاضت بعد الوقوف وطواف الزّيارة فإنّها تتمّ أعمال الحجّ ، ثمّ تنصرف ، ويسقط عنها طواف الوداع ، إن فارقت مكّة قبل أن تطهر اتّفاقا بين العلماء ، ولا يجب عليها الفداء بتركه .
حجّ الصّبيّ :
112 - لا يجب الحجّ على الصّبيّ قبل البلوغ إجماعا ، لكن إذا فعله صحّ منه ، وكان نفلا ، وعليه حجّة أخرى إذا بلغ إجماعا . وتتفاوت كيفيّة إحرام الصّبيّ وأدائه المناسك بتفاوت سنّه هل هو مميّز أو لا . وقد سبق بيان ذلك مفصّلا في مصطلح إحرام فانظره ( ف 131 - 136 ) ويلحق بالصّبيّ غير المميّز المجنون جنونا مطبقا باتّفاقهم .
حجّ المغمى عليه والنّائم المريض :
113 - إن أغمي عليه قبل الإحرام أحرم عنه رفقته عند أبي حنيفة ، على ما سبق بيانه مع بيان كيفيّة الأعمال في مصطلح إحرام ( ف 138 - 142 ) ، وإن أغمي عليه بعد الإحرام فهذا حمله متعيّن على رفقائه على التّفصيل التّالي :
1 - الوقوف بعرفة : على التّفصيل السّابق بالنّسبة لركن الوقوف ، ولا سيّما في مذهب المالكيّة ، ومثله النّائم المريض الّذي لم يفق مدّة مكثه حتّى دفع مع النّاس .
2 - يحمل المغمى عليه رفاقه في الطّواف ويطوفون به ، ويجزئ الطّواف الواحد عن الحامل والمحمول ، إن نواه الحامل عن نفسه وعن المحمول ، وإن كان بغير أمر المغمى عليه . أمّا المريض النّائم فإن كان الطّواف بأمره وحملوه من فوره ، أي من ساعته عرفا وعادة يجوز ، إلاّ بأن طافوا به من غير أن يأمر بالطّواف به ، أو فعلوه لكن لا من فوره فلا يجزيه الطّواف . هذا كلّه عند الحنفيّة . أمّا على مذهب غيرهم فينتظر به حتّى يفيق ، ويستوفي شروط الطّواف ، الّتي منها الطّهارتان ( انظر طواف ) .
3 - ويمكن أن يسعى به باتّفاقهم ، لعدم اشتراط النّيّة والطّهارتين في السّعي .
4 - ويحلق له رفاقه ، لعدم اشتراط النّيّة فيه .
5- ويرمي عنه رفاقه ، على التّفصيل فيه ( انظر مصطلح : رمي ) 6 - ويسقط عنه طواف الوداع إذا سافر به رفقته ، ولم يتمكّن منه .
الحجّ عن الغير : مشروعيّة الحجّ عن الغير :(227/18)
114 - ذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى مشروعيّة الحجّ عن الغير وقابليّته للنّيابة ، وذهب مالك على المعتمد في مذهبه إلى أنّ الحجّ لا يقبل النّيابة لا عن الحيّ ولا عن الميّت ، معذورا أو غير معذور . وقالوا : إنّ الأفضل أن يتطوّع عنه وليّه بغير الحجّ ، كأن يهدي أو يتصدّق عنه ، أو يدعو له ، أو يعتق . استدلّ الجمهور على مشروعيّة حجّ الإنسان عن غيره بالسّنّة الثّابتة المشهورة ، وبالعقل . أمّا السّنّة : فمنها حديث ابن عبّاس رضي الله عنه قال : { جاءت امرأة من خثعم عام حجّة الوداع ، قالت : يا رسول اللّه : إنّ فريضة اللّه على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الرّاحلة ، فهل يقضي عنه أن أحجّ عنه ؟ قال : نعم } . وعن ابن عبّاس أيضا : { أنّ امرأة من جهينة جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ أمّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت أفأحجّ عنها ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم حجّي عنها ، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته ؟ .. اقضوا اللّه ، فاللّه أحقّ بالوفاء } . وأمّا العقل ، فقال الكمال بن الهمام : وكان مقتضى القياس أن لا تجري النّيابة في الحجّ ، لتضمّنه المشقّتين البدنيّة والماليّة ، والأولى لم تقم بالآمر ، لكنّه تعالى رخّص في إسقاطه بتحمّل المشقّة الأخرى ، أعني إخراج المال عند العجز المستمرّ إلى الموت ، رحمة وفضلا ، وذلك بأن يدفع نفقة الحجّ إلى من يحجّ عنه ، بخلاف حال القدرة فإنّه لم يعذره لأنّ تركه ليس إلاّ لمجرّد إيثار راحة نفسه على أمر ربّه ، وهو بهذا يستحقّ العقاب ، لا التّخفيف في طريق الإسقاط ، وإنّما شرط دوامه ( أي العذر ) إلى الموت لأنّ الحجّ فرض العمر ... " وقال ابن قدامة : هذه عبادة تجب بإفسادها الكفّارة ، فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله ، كالصّوم إذا عجز عنه افتدى بخلاف الصّلاة » . وأخذ المالكيّة بالأصل ، وهو عدم جريان النّيابة في العبادة البدنيّة ، كالصّوم .
شروط الحجّ الفرض عن الغير : أوّلا - شروط وجوب الإحجاج :
115 - يتضمّن ذلك شروط الأصيل المحجوج عنه لحجّة الفرض . يشترط لوجوب الإحجاج عن المكلّف عند الجمهور - خلافا للمالكيّة - : العجز عن أداء الحجّ الواجب عليه . ويشمل ذلك ما يلي :
أ - كلّ من وجب عليه الحجّ وهو قادر على الحجّ بنفسه وحضره الموت يجب عليه الوصيّة بالإحجاج عنه عند الحنفيّة . سواء حجّة الإسلام ، أو النّذر ، أو القضاء . ولم يوقف الشّافعيّة وجوب الإحجاج عنه على الوصيّة إجراء للحجّ مجرى الدّيون . أمّا المالكيّة : فلا يوجبون عليه الوصيّة ، ولا يسقط عنه الفرض بأداء الغير عنه - كما هو أصل مذهبهم الّذي عرفناه - لكن إذا أوصى نفذت وصيّته ، وإن لم يوص لم يرسل من يحجّ عنه .
ب - من توفّرت فيه سائر شروط وجوب الحجّ واختلّ شيء من شروط الأداء بالنّفس ، يجب عليه أن يحجّ عن نفسه ، أو يوصي بالإحجاج عنه إذا لم يرسل من يحجّ عنه .
ج - من توفّرت فيه شروط وجوب الحجّ بنفسه فلم يحجّ حتّى عجز عن الأداء بنفسه يجب عليه أن يحجّ عنه في حال حياته ، أو يوصي بالإحجاج عنه بعد موته . ويتحقّق العجز بالموت ، أو بالحبس ، والمنع ، والمرض الّذي لا يرجى زواله كالزّمانة والفالج ، والعمى والعرج ، والهرم الّذي لا يقدر صاحبه على الاستمساك ، وعدم أمن الطّريق ، وعدم المحرم بالنّسبة للمرأة ، إذا استمرّت هذه الآفات إلى الموت .
ثانيا : شروط النّائب عن غيره في الحجّ :
116 - اشترط الشّافعيّة والحنابلة لإجزاء الحجّ الفرض عن الأصيل أن يكون النّائب قد حجّ حجّة الإسلام عن نفسه أوّلا ، وإلاّ كانت الحجّة عن نفسه ، ولم تجزئ عن الأصيل ، وهو قول الأوزاعيّ وإسحاق بن راهويه . واكتفى الحنفيّة بأهليّة المأمور لصحّة الحجّ ، بأن يكون مسلما عاقلا ، فأجازوا أن يكون المأمور لم يحجّ عن نفسه حجّة الإسلام ( وهو المسمّى صرورة ) ، وأجازوا حجّ العبد ، والمراهق عن غيرهم ، وتصحّ هذه الحجّة البدليّة وتبرأ ذمّة الأصيل ، مع الكراهة التّنزيهيّة بالنّسبة للآمر ، والكراهة التّحريميّة بالنّسبة للمأمور إن كان تحقّق وجوب الحجّ عليه . ونحو ذلك عند المالكيّة في الحجّ عن الميّت يصحّ على القول بوجوب الحجّ على التّراخي عندهم ، أمّا على وجوبه على الفور فيحرم الحجّ عنه . استدلّ الأوّلون : بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبّيك عن شبرمة . قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي . قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حجّ عن نفسك ، ثمّ حجّ عن شبرمة } . واستدلّ الحنفيّة بإطلاق حديث الخثعميّة السّابق ، فإنّه صلى الله عليه وسلم قال لها : { حجّي عن أبيك } من غير استخبارها عن حجّها لنفسها قبل ذلك ، وترك الاستفصال يتنزّل منزلة عموم المقال .
ثالثا : شروط صحّة الحجّ الواجب عن الغير :(227/19)
117 - أ - يشترط أن يأمر الأصيل بالحجّ عنه ، باتّفاق العلماء بالنّسبة للحيّ . أمّا الميّت فلا يجوز حجّ الغير عنه بدون وصيّته عند الحنفيّة والمالكيّة . واستثنى الحنفيّة ، إذا حجّ أو أحجّ عن مورثه بغير إذنه فإنّه يجزيه ، وتبرأ ذمّة الميّت إن شاء اللّه تعالى ، مستدلّين بحديث الخثعميّة ، فإنّه لم يفصّل في حقّ السّائل هل أوصى أو لم يوص ، وهو وارث . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه : من مات وعليه حجّ وجب الإحجاج عنه من جميع تركته ، سواء أوصى به أم لا ، كما تقضى منها ديونه سواء أوصى بها أم لا . فلو لم يكن له تركة استحبّ لوارثه أن يحجّ عنه ، فإن حجّ عنه بنفسه أو أرسل من حجّ عنه سقط الحجّ عن الميّت ، ولو حجّ عنه أجنبيّ جاز ، وإن لم يأذن له الوارث ، كما يقضى دينه بغير إذن الوارث " ومأخذهم تشبيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحجّ بالدّين ، فأجروا على قضاء الحجّ أحكام الدّيون . فإذا مات والحجّ في ذمّته يجب الإحجاج عنه من رأس المال ولو لم يوص ، وهو مقدّم على وفاء الدّيون ، عند الشّافعيّة . وقال الحنابلة : من ضاق ماله وكان عليه دين يحاصّ نفقة الحجّ من الدّين ، ويؤخذ للحجّ حصّته فيحجّ بها من حيث تبلغ .
ب - أن تكون نفقة الحجّ من مال الآمر كلّها أو أكثرها عند الحنفيّة ، سوى دم القران والتّمتّع ، فهما على الحاجّ عندهم . لكن إذا تبرّع الوارث بالحجّ عن مورثه تبرأ ذمّة الميّت إن لم يكن أوصى بالإحجاج عنه إن شاء اللّه . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد أجازوا أن يتبرّع بالحجّ عن غير الميّت مطلقا ، كما يجوز أن يتبرّع بقضاء دينه . وأمّا المالكيّة فالأمر عندهم في هاتين المسألتين تابع للوصيّة ، ولتنفيذها بعقد الإجارة ، أو لتبرّع النّائب ، لا لإسقاط الفريضة عن الميّت . وأمّا الحيّ المعضوب : إذا بذل له المال أو الطّاعة فلا يلزمه قبول ذلك للإحجاج عن نفسه عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وقال الشّافعيّة : لو بذل له ولده أو أجنبيّ مالا للأجرة لم يجب قبوله في الأصحّ . ولو وجد مالا أقلّ من أجرة المثل ورضي به الأجير لزمه الاستئجار ، لأنّه مستطيع ، والمنّة فيه ليست كالمنّة في المال . ولو لم يجد أجرة وبذل له ولده الطّاعة بأن يذهب هو بنفسه للحجّ عنه وجب عليه قبوله ، وهو الإذن له في ذلك ، لأنّ المنّة في ذلك ليست كالمنّة في المال . لحصول الاستطاعة ، وكذا الأجنبيّ في الأصحّ . ويشترط للزوم قبول طاعتهم أربعة شروط : أن يثق بالبازل ، وأن لا يكون عليه حجّ ولو نذرا ، وأن يكون ممّن يصحّ منهم حجّة الإسلام ، وأن لا يكونا معضوبين .
ج - يشترط أن يحجّ عنه من وطنه إن اتّسع ثلث التّركة ، وإن لم يتّسع يحجّ عنه من حيث يبلغ عند الحنفيّة والمالكيّة . وعند الشّافعيّة والحنابلة يعتبر اتّساع جميع مال الميّت ، لأنّه دين واجب ، فكان من رأس المال كدين الآدميّ . لكن عند الشّافعيّة يجب قضاؤه عنه من الميقات لأنّ الحجّ يجب من الميقات ، وقال الحنابلة : الحجّ على الميّت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه » .
د - النّيّة : أي نيّة الحاجّ المأمور أداء الحجّ عن الأصيل . بأن ينوي بقلبه ويقول بلسانه ( والتّلفّظ أفضل ) : أحرمت بالحجّ عن فلان ، ولبّيك بحجّة عن فلان . وإن اكتفى بنيّة القلب كفى ذلك ، اتّفاقا . ولو نسي اسمه ونوى أن يكون الحجّ عن الشّخص المقصود أن يحجّ عنه يصحّ ، ويقع الحجّ عن الأصيل .
هـ - أن يحجّ المأمور بنفسه : نصّ عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة . فلو مرض المأمور أو حبس فدفع المال إلى غيره بغير إذن المحجوج عنه لا يقع الحجّ عن الميّت ، والحاجّ الأوّل والثّاني ضامنان لنفقة الحجّ ، إلاّ إذا قال الآمر بالحجّ : اصنع ما شئت فله ، حينئذ أن يدفع المال إلى غيره ، ويقع الحجّ عن الآمر .
و - أن يحرم بالحجّ من ميقات الشّخص الّذي يحجّ عنه من غير مخالفة . ولو أمره بالإفراد فقرن عن الآمر فيقع ذلك عن الآمر في مذهب الشّافعيّ والصّاحبين استحسانا ، وأمّا عند أبي حنيفة فهو مخالف ضامن من النّفقات ولا يقع عن الآمر . أمّا إذا أمره بالإفراد فتمتّع عن الآمر لم يقع حجّه عنه ولا يجوز ذلك عن حجّة الإسلام ، ويضمن اتّفاقا عند أئمّة الحنفيّة ، والشّافعيّة . وسوّى المالكيّة بين القران والتّمتّع إذا فعلا وكان الإفراد يجزئ إن كان الشّرط من الوصيّ لا الأصيل . وصحّح الحنابلة الحجّ عن الأصيل في كلّ الحالات ويرجع على الأجير بفرق أجرة المسافة ، أو توفير الميقات .
حجّ النّفل عن الغير : مشروعيّته :
118 - اتّفق الجمهور على مشروعيّة حجّ النّفل عن الغير بإطلاق ، وهو مذهب الحنفيّة وأحمد . وأجازه المالكيّة أيضا مع الكراهة فيه وفي النّيابة في الحجّ المنذور . أمّا الشّافعيّة ففصّلوا وقالوا : لا تجوز الاستنابة في حجّ النّفل عن حيّ ليس بمعضوب ، ولا عن ميّت لم يوص به . أمّا الميّت الّذي أوصى به والحيّ المعضوب إذا استأجر من يحجّ عنه ، ففيه قولان مشهوران للشّافعيّة : أصحّهما الجواز ، وأنّه يستحقّ الأجرة . والقول الآخر عدم الجواز ، لأنّه إنّما جاز الاستنابة في الفرض للضّرورة ، ولا ضرورة ، فلم تجز الاستنابة فيه ، كالصّحيح ، ويقع عن الأجير ، ولا يستحقّ الأجرة . ويدلّ للجمهور على صحّة حجّ النّفل عن الغير المستطيع بنفسه أنّها حجّة لا تلزمه بنفسه ، فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب . ولأنّه يتوسّع في النّفل ما لا يتوسّع في الفرض ، فإذا جازت النّيابة في الفرض فلأن تجوز في النّفل أولى .
شروطه :(227/20)
119 - يشترط لصحّة حجّ النّفل عن الغير : الإسلام ، والعقل ، والتّمييز ، وقيّده الحنفيّة بالمراهق ، وأن يكون النّائب قد حجّ الفرض عن نفسه ، وليس عليه حجّ آخر واجب ، وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة . كما يشترط نيّة الحاجّ النّائب الحجّة عن الأصيل .
الاستئجار على الحجّ : مشروعيّته :
120 - ذهب أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وهو الأشهر عن أحمد إلى أنّه لا يجوز الاستئجار على الحجّ . وذهب الشّافعيّ إلى الجواز ، وبه أخذ المالكيّة ، مراعاة لخلاف الشّافعيّة في جواز النّيابة في حجّ النّفل . فلو عقدت الإجارة للحجّ عن الغير فهي عند أبي حنيفة باطلة ، لكنّ الحجّة عن الأصيل صحيحة ، على التّحقيق في المذهب ، ويسمّون الأجير : مأمورا ، ونائبا ، وقالوا له نفقة المثل في مال الأصيل ، لأنّه حبس نفسه لمنفعة الأصيل فوجبت نفقته في ماله .
الإخلال بأركان الحجّ :
121 - لا يتمّ الحجّ إن أخلّ بركن من أركانه . ثمّ إن ترك ركن من أركان الحجّ إمّا أن يكون بمانع قاهر أو بغير ذلك . ترك ركن من الحجّ بمانع قاهر : ( الإحصار ) :
122 - ترك ركن أو أكثر من أركان الحجّ بمانع قاهر سبق بحثه تفصيلا في مصطلح : ( إحصار ) . ترك ركن من الحجّ لا بمانع قاهر : أوّلا : ترك الوقوف بعرفة : ( الفوات ) :
123 - أجمع العلماء على أنّ من فاته الوقوف بعرفة بأن " طلع عليه الفجر يوم النّحر ولم يقف بعرفة فقد فاته الحجّ . ويسمّى ذلك ( الفوات ) » . ثمّ إن أراد التّحلّل من الإحرام فيتحلّل بأعمال العمرة . على تفصيل ينظر في ( فوات ) . ثانيا : ترك طواف الزّيارة :
124 - طواف الزّيارة ركن لا يسقط بتركه إذا فات وقته ، ولا ينجبر بشيء ، ويظلّ الحاجّ محرما بالنّسبة للتّحلّل الأكبر ( مصطلح إحرام ف 124 ) ، حتّى يؤدّيه . فإن ترك طواف الزّيارة أو ترك شيئا من شروطه ، أو ركنا ، ولو شوطا أو أقلّ من شوط يجب عليه أن يرجع إلى مكّة ويؤدّيه . وإذا رجع فإنّه يرجع بإحرامه الأوّل ، لا يحتاج إلى إحرام جديد ، وهو محرم عن النّساء إلى أن يعود ويطوف ، وهذا عند الجمهور ، والحنفيّة معهم على وجه الإجمال . وقال الحنابلة : يجدّد إحرامه ليطوف في إحرام صحيح " أي إنّه يدخل مكّة بعمرة . أمّا تفصيل مذهب الحنفيّة : ففيه فروع . اختصّوا بها بناء على مذهبهم في شروط الطّواف وركنه وواجباته ( انظر مصطلح طواف ) . ثالثا : ترك السّعي :
125 - السّعي عند الجمهور ركن لا يحلّ الحاجّ من الإحرام بدونه ، فمن تركه عاد لأدائه لزاما على التّفصيل السّابق في الرّجوع لطواف الزّيارة بالنّسبة للجمهور . أمّا عند الحنفيّة وهو قول عند الحنابلة فإنّه يحلّ بدون سعي ، لأنّ السّعي واجب عندهم ، ينجبر بالدّم ( ف 56 ) ، فإن أراد أداءه فإنّه يدخل مكّة بإحرام جديد معتمرا ، ثمّ يأتي بالسّعي ، وإن ترك ثلاثة أشواط فأقلّ صحّ سعيه عند الحنفيّة ، وعليه لكلّ شوط صدقة نصف صاع من برّ أو صاع من تمر أو شعير .. ( انظر مصطلح : سعي ) .
الإخلال بواجبات الحجّ :
126 - يجب على من ترك واجبا من واجبات الحجّ الفداء ، وهو ذبح شاة ، باتّفاق الفقهاء ، جبرا للنّقص الحادث بترك الواجب ، إلاّ إذا تركه لعذر معتبر شرعا . وما صرّحوا بالعذر فيه : ترك المشي في الطّواف أو في السّعي ، لمرض أو كبر سنّ ، على القول بوجوب المشي فيهما ، فإنّه يجوز للمعذور أن يطوف أو يسعى محمولا ، ولا فداء عليه . وثمّة مسائل تحتاج لإيضاح خاصّ لحكم تركها ، وهي : أوّلا : ترك الوقوف بالمزدلفة :
127 - اتّفقوا على أنّ من ترك الوقوف بالمزدلفة لعذر أنّه لا فداء عليه . وصرّح الحنفيّة بثبوت العذر في ترك الوقوف بالمزدلفة ، كالمرض ، والضّعف الجسميّ كما في الشّيخ الفاني ، وكذا خوف الزّحام على المرأة ، وضعفة الأهل . وصرّح الشّافعيّة بالعذر لمن انتهى إلى عرفات ليلة النّحر واشتغل بالوقوف عن المبيت بالمزدلفة فلا شيء عليه باتّفاق الأصحاب ، ولو أفاض من عرفات إلى مكّة وطاف الإفاضة بعد نصف ليلة النّحر ففاته المبيت بالمزدلفة بسبب الطّواف فلا شيء عليه ، لأنّه اشتغل بركن فأشبه المشتغل بالوقوف ، أي : إلاّ أن يمكنه العود إلى المزدلفة قبل الفجر فيلزمه العود إليها . ومثل هذا من بادرت إلى الطّواف خوف طروء نحو حيض . وجميع أعذار منى تأتي هنا .
ثانيا : ترك المبيت بمنى ليالي التّشريق :
128 - والجزاء فيه واجب عند الأئمّة الثّلاثة ، لوجوب هذا المبيت عندهم ( ف 69 ) قال المالكيّة : إن ترك المبيت بها جلّ ليلة فدم ، وكذا ليلة كاملة أو أكثر ، وظاهره ولو كان التّرك لضرورة ... " ولم يسقطوا الدّم بترك المبيت إلاّ للرّعاء وأهل السّقاية ( انظر مبيت ) . وأوجب الشّافعيّة وكذا الحنابلة في ترك المبيت كلّه دما واحدا ، وفي ترك ليلة مدّا من الطّعام ، وفي ترك ليلتين مدّين ، إذا بات ليلة واحدة ، إلاّ إذا ترك المبيت لعذر فلا شيء عليه ، كأهل سقاية العبّاس ، ورعاء الإبل فلهم ترك المبيت ليالي منى من غير دم ، ومثلهم من يخاف على نفس أو مال ، أو ضياع مريض بلا متعهّد ، أو موت نحو قريب في غيبته .
ثالثا : ترك الرّمي :(227/21)