أَوَّلًا : الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِرْخَاءِ كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ : 4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى , وَهُوَ اخْتِيَارُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ رِوَايَةُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ , وَقَالُوا : إنَّهُ السُّنَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي : أ - مَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : { كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ . قَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعْلَمُهُ إلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم } . ب - مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ } . ج - مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ { : مَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى الْيُسْرَى } . الثَّانِي : اسْتِحْبَابُ الْإِرْسَالِ وَكَرَاهِيَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ , وَالْجَوَازُ فِي النَّفْلِ , قِيلَ : مُطْلَقًا , وَقِيلَ : إنْ طَوَّلَ . وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُ مَتْنِهِ كَالدَّرْدِيرِ وَالدُّسُوقِيِّ , وَعُلِّلَتْ الْكَرَاهَةُ فِي الْفَرْضِ بِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ اعْتِمَادٌ عَلَى الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ , وَلِذَلِكَ قَالَ الدَّرْدِيرُ : فَلَوْ فَعَلَهُ لَا لِلِاعْتِمَادِ بَلْ اسْتِنَانًا لَمْ يُكْرَهْ , ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ , وَعَلَيْهِ فَيَجُوزُ فِي النَّفْلِ مُطْلَقًا , بِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ فِيهِ بِلَا ضَرُورَةٍ . الثَّالِثِ : إبَاحَةُ الْقَبْضِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ . وَذَكَرَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنْ ابْنِ فَرْحُونٍ : وَأَمَّا إرْسَالُهُمَا " أَيْ الْيَدَيْنِ " بَعْدَ رَفْعِهِمَا فَقَالَ سَنَدٌ : لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا , وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا حَالَ التَّكْبِيرِ , لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَرَكَةِ , وَيَنْبَغِي أَنْ يُرْسِلَهُمَا بِرِفْقٍ . هَذَا , وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْمَالِكِيَّةِ إذْ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ مَا نَصُّهُ : " وَالْقَصْدُ مِنْ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ - يَعْنِي قَبْضَ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ - تَسْكِينُ الْيَدَيْنِ فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ فَلَا بَأْسَ " الرَّابِعِ : مَنْعُ الْقَبْضِ فِيهِمَا , حَكَاهُ الْبَاجِيُّ , وَتَبِعَهُ ابْنُ عَرَفَةَ , وَلَكِنْ قَالَ الْمِسْنَاوِيُّ : هَذَا مِنْ الشُّذُوذِ .
إرْسَالُ الْعَذَبَةِ مِنْ الْعِمَامَةِ وَالتَّحْنِيكُ بِهَا : 5 - أَوْرَدَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنْ الْمَدْخَلِ لِابْنِ الْحَاجِّ أَنَّ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ عَذَبَةٍ وَلَا تَحْنِيكٍ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ , فَإِنْ فَعَلَهُمَا فَهُوَ الْأَكْمَلُ , وَإِنْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ , وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ : وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّك , فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ طَرَفٍ وَلَا تَحْنِيكٍ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ . أَمَّا النَّوَوِيُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا كَرَاهَةَ فِي إرْسَالِ الْعَذَبَةِ وَلَا عَدَمِ إرْسَالِهَا , إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ الْكَمَالَ ابْنَ أَبِي شَرِيفٍ قَدْ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : بِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِنْ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ , قَالَ : وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ الْإِرْسَالُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُهُ خِلَافُ الْأَوْلَى . وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَنَفِيَّةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إرْسَالُ ذَنَبِ الْعِمَامَةِ بِسِنِّ الْكَتِفَيْنِ إلَى وَسَطِ الظَّهْرِ , وَقِيلَ لِمَوْضِعِ الْجُلُوسِ , وَقِيلَ شِبْرًا . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ , قَالَ صَاحِبُ النَّظْمِ : يَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ وَلَوْ شِبْرًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ . وَقَدْ ذَكَرَ السَّخَاوِيُّ عَنْ مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ , ثُمَّ أَرْسَلَهَا مِنْ وَرَائِهِ أَوْ قَالَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ } , وَتَرَدَّدَ رَاوِيهِ فِيهِ , وَرُبَّمَا جَزَمَ بِالثَّانِي .(30/79)
ثَانِيًا : الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى بَعْثِ الرَّسُولِ الْإِرْسَالُ فِي النِّكَاحِ : 6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى صِحَّةِ الْإِرْسَالِ فِي النِّكَاحِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهِ , وَهُنَاكَ تَفْرِيعَاتٌ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ , أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ الرَّجُلُ إلَى امْرَأَةٍ رَسُولًا , أَوْ كَتَبَ إلَيْهَا كِتَابًا قَالَ فِيهِ : تَزَوَّجْتُك , فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ , سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ , لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ هُوَ كَلَامُ الْمُرْسَلِ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَتَهُ , وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ , فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ أَوْ كَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى . وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ زَوَّجْت نَفْسِي يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ أَوْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ . بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا : زَوَّجْت نَفْسِي شَطْرُ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ , وَالشَّهَادَةُ فِي شَطْرَيْ الْعَقْدِ شَرْطٌ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدًا بِالشَّطْرَيْنِ , فَإِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ فَلَمْ يُوجَدْ شَطْرُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ . وَقَوْلُ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ , وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ . هَذَا , وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا فِي قَوْلِهِمَا هَذَا .
الْإِرْسَالُ لِنَظَرِ الْمَخْطُوبَةِ : 7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى : أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَخْطُوبَةِ فَلَهُ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ يَثِقُ بِهَا مِنْ النِّسَاءِ لِتَنْظُرَ لَهُ الْمَخْطُوبَةَ , ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ , اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم إذْ رُوِيَ { أَنَّهُ بَعَثَ أُمَّ سُلَيْمٍ إلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ : اُنْظُرِي عُرْقُوبَيْهَا وَشُمِّي مَعَاطِفَهَا } . رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ . هَذَا , وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشبراملسي فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ . قَوْلُهُ : لَوْ أَمْكَنَهُ إرْسَالُ امْرَأَةٍ تَنْظُرُهَا لَهُ وَتَصِفُهَا لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ , وَقَدْ يَتَوَقَّفُ , إذْ أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْعِيَانِ , فَقَدْ يُدْرِكُ النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ مَا تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ .
الْإِرْسَالُ فِي الطَّلَاقِ : 8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا أَرْسَلَ إلَى زَوْجَتِهِ كِتَابًا ضَمَّنَهُ قَوْلَهُ : أَنْتِ طَالِقٌ , فَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ , سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهَا الْكِتَابُ أَمْ لَمْ يَصِلْ , وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ عِدَّتِهَا مِنْ حِينِ كِتَابَتِهِ الْكِتَابَ . أَمَّا إذَا كَتَبَ إلَيْهَا مَا مُفَادُهُ : إذَا وَصَلَك كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ , فَأَتَاهَا الْكِتَابُ طَلُقَتْ مِنْ تَارِيخِ الْوُصُولِ ; لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ هُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إلَيْهَا .(30/80)
الْإِرْسَالُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ : الْإِرْسَالُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ : 9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ شَخْصٌ إلَى غَيْرِهِ رَسُولًا أَوْ كِتَابًا يَطْلُبُ مِنْهُ فِيهِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا مَا , وَقَبِلَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ خِلَالَ الْمَجْلِسِ الَّذِي تُلِيَ فِيهِ الْكِتَابُ الْمُرْسَلُ , أَوْ سَمَاعُ أَقْوَالِ الرَّسُولِ فَقَدْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , لِأَنَّ الرَّسُولَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْ كَلَامِ الْمُرْسِلِ , نَاقِلٌ كَلَامَهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ , فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ , فَأَوْجَبَ الْبَيْعَ , وَقَبِلَ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ . وَهَذَا الْحُكْمُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ يَسْرِي عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ , وَالْمُكَاتَبَةِ , إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ فِي حُكْمِ الْإِرْسَالِ بِالشِّرَاءِ تَبَعًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ , فَإِذَا أَسْنَدَ الرَّسُولُ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ طُولِبَ بِالثَّمَنِ , لَكِنْ إذَا أَقَرَّ الْمُرْسِلُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ غَرِيمَانِ , فَيَتْبَعُ أَيَّهُمَا شَاءَ , إلَّا أَنْ يَحْلِفَ الْمُرْسِلُ أَنَّهُ دَفَعَ الثَّمَنَ لِلرَّسُولِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ , وَيَتْبَعُ الرَّسُولَ , أَمَّا إذَا أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِالثَّمَنِ , وَإِنَّمَا الَّذِي يُطَالَبُ بِهِ الْمُرْسِلُ . هَذَا , وَقَدْ ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ أَنَّ الرَّسُولَ إذَا قَالَ : بَعَثَنِي فُلَانٌ لِتَبِيعَهُ كَذَا بِمِائَةٍ , أَوْ لِيَشْتَرِيَ مِنْك كَذَا بِمِائَةٍ مَثَلًا , فَرَضِيَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ , لَا يُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ , فَإِنْ أَنْكَرَ فُلَانٌ هَذَا أَنَّهُ أَرْسَلَهُ فَالثَّمَنُ عَلَى الرَّسُولِ . أَمَّا إذَا قَالَ : بَعَثَنِي فُلَانٌ لِأَشْتَرِيَ لَهُ مِنْك , فَيُطَالَبُ الرَّسُولُ بِالثَّمَنِ ; لِأَنَّهُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَسْنَدَ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ , وَفِي الْحَالِ الْأَخِيرَةِ أَسْنَدَ الشِّرَاءَ إلَى نَفْسِهِ . كَمَا أَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْخِيَارِ , وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسِلِ , وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسِلِ إذَا لَمْ يَرَهُ . وَقَدْ عَقَّبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الرَّسُولِ وَقَبْضَهُ لَا يَلْزَمُ الْمُرْسِلَ الْمَتَاعُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتِمَّ رِضَاهُ , وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ , فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ , وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ , فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ .
مِلْكِيَّةُ الشَّيْءِ الْمُرْسَلِ : 10 - قَرَّرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرْسَلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ , حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ , وَمَا دَامَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُرْسِلِهِ , وَقَدْ عَيَّنَهُ لِإِنْسَانٍ فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ مُطْلَقًا .(30/81)
الضَّمَانُ فِي الْإِرْسَالِ : 11 - ذَكَرَ الدَّرْدِيرُ أَنَّهُ إنْ زَعَمَ شَخْصٌ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ زَيْدٍ لِاسْتِعَارَةِ حُلِيٍّ لَهُ مِنْ بَكْرٍ , فَدَفَعَ لَهُ بَكْرٌ مَا طَلَبَ , وَزَعَمَ الرَّسُولُ أَنَّهُ تَلِفَ مِنْهُ , ضَمِنَهُ زَيْدٌ ( الْمُرْسِلُ ) إنْ صَدَّقَهُ فِي الْإِرْسَالِ , وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ وَبَرِئَ , ثُمَّ حَلَفَ الرَّسُولُ : لَقَدْ أَرْسَلَنِي وَأَنَّهُ تَلِفَ لَا تَفْرِيطَ مِنِّي وَبَرِئَ أَيْضًا , وَضَاعَ الْحُلِيُّ هَدَرًا . لَكِنْ الرَّاجِحُ أَنَّ الرَّسُولَ يَضْمَنُ - وَلَا يَبْرَأُ بِالْحَلِفِ - إلَّا لِبَيِّنَةٍ بِالْإِرْسَالِ , فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِلِ . أَمَّا قَاضِي خَانْ فَقَدْ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ : رَجُلٌ بَعَثَ رَسُولًا إلَى بَزَّازٍ أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِثَوْبِ كَذَا وَكَذَا بِثَمَنِ كَذَا وَكَذَا , فَبَعَثَ إلَيْهِ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ , فَضَاعَ الثَّوْبُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْآمِرِ , وَتَصَادَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَقَرُّوا بِهِ , فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ , وَإِنْ بَعَثَ الْبَزَّازُ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ ; لِأَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُسَاوَمَةِ , وَإِنْ كَانَ رَسُولُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَهُ . فَإِذَا وَصَلَ الثَّوْبُ إلَى الْآمِرِ يَكُونُ ضَامِنًا . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلٌ رَسُولًا إلَى رَجُلٍ آخَرَ وَقَالَ لَهُ : ابْعَثْ إلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَقَالَ : نَعَمْ , وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِهِ , كَانَ الْآمِرُ ضَامِنًا لَهَا , إذَا أَقَرَّ أَنَّ رَسُولَهُ قَبَضَهَا . وَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا لِيَسْتَقْرِضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَقْرَضَهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ , إنْ قَالَ الرَّسُولُ أَقْرِضْ فُلَانًا الْمُرْسَلَ . فَهِيَ لِلْمُرْسِلِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ , وَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ : أَقْرِضْنِي لِفُلَانٍ الْمُرْسِلِ فَأَقْرَضَهُ , وَضَاعَ فِي يَدِهِ , فَعَلَى الرَّسُولِ الضَّمَانُ . فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَاضِ يَجُوزُ , وَبِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَجُوزُ , وَالرِّسَالَةُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لِلْآمِرِ جَائِزَةٌ , وَإِنْ أَخْرَجَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ يَقَعُ الْقَرْضُ لِلْآمِرِ , وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بِأَنْ أَضَافَ إلَى نَفْسِهِ يَصِيرُ مُسْتَقْرِضًا لِنَفْسِهِ , وَيَكُونُ مَا اسْتَقْرَضَ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَهُ , وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ . وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الرَّسُولَ إنْ كَانَ رَسُولَ رَبِّ الْمَالِ فَالْوَدِيعُ يَبْرَأُ بِالدَّفْعِ إلَى الرَّسُولِ وَلَوْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ , وَيَرْجِعُ الْكَلَامُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَوَرَثَةِ الرَّسُولِ , فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ كَانَ الضَّمَانُ فِي تَرِكَتِهِ , وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ , حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ أَوْصَلَهُ لِرَبِّ الْمَالِ . وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ الْوَدِيعِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِوُصُولِهِ لِرَبِّ الْمَالِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ , فَإِنْ مَاتَ الرَّسُولُ قَبْلَ الْوُصُولِ رَجَعَ الْوَدِيعُ فِي تَرِكَتِهِ , وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْوُصُولِ فَلَا رُجُوعَ وَهِيَ مُصِيبَةٌ عَلَى الْوَدِيعِ . قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : إنَّ الْوَكِيلَ وَالْمُودَعَ وَالرَّسُولَ مُؤْتَمَنُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْمُودِعِ وَالْمُرْسِلِ , فَإِذَا ذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَدُّوا مَا دُفِعَ إلَيْهِمْ إلَى أَرْبَابِهِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ قَدْ ائْتَمَنُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ , فَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيمَا بَيْنَهُمْ . كَمَا لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا إلَى رَجُلٍ وَقَالَ : ابْعَثْ إلَيَّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَرْضًا , فَقَالَ : نَعَمْ , وَبَعَثَ بِهَا مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ , فَالْآمِرُ ضَامِنٌ لَهَا إذَا أَقَرَّ بِأَنَّ رَسُولَهُ قَدْ قَبَضَهَا , وَإِنْ بَعَثَ بِهَا مَعَ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى تَصِلَ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبَعَثَ إلَى الْمَدْيُونِ رَسُولًا أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْك , فَإِنْ بَعَثَ بِهِ مَعَ رَسُولِ الْآمِرِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ . أَمَّا لَوْ بَعَثَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ بِكِتَابٍ مَعَ رَسُولٍ أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ ثَوْبَ كَذَا بِثَمَنِ كَذَا , فَفَعَلَ , وَبَعَثَ بِهِ مَعَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ , لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْآمِرِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ , وَفِي هَذَا إنَّمَا الرَّسُولُ رَسُولٌ بِالْكِتَابِ . وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُودَعُ ( بِفَتْحِ الدَّالِ ) الْوَدِيعَةَ لِلْمُودِعِ ( بِكَسْرِ الدَّالِ ) بِإِذْنِهِ صَحَّ هَذَا الْإِرْسَالُ , أَمَّا إنْ أَرْسَلَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ مِنْ الرَّسُولِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا , إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ , هِيَ فِيمَا إذَا عَرَضَتْ لِلْمُودَعِ إقَامَةٌ طَوِيلَةٌ فِي الطَّرِيقِ ,(30/82)
كَالسَّنَةِ مَثَلًا فَالْحَقُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَبْعَثَهَا مَعَ غَيْرِهِ - وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا تَلِفَتْ أَوْ أَخَذَهَا اللِّصُّ , بَلْ بَعْثُهَا إلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبٌ وَيَضْمَنُ إنْ حَبَسَهَا , أَمَّا إنْ كَانَتْ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ قَصِيرَةً كَالْأَيَّامِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إبْقَاؤُهَا مَعَهُ , فَإِنْ بَعَثَهَا - بِغَيْرِ إذْنٍ - ضَمِنَهَا إنْ تَلِفَتْ , وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْإِقَامَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُ مُتَوَسِّطَةً , كَالشَّهْرَيْنِ مَثَلًا خُيِّرَ فِي إرْسَالِهَا وَفِي إبْقَائِهَا , فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ أَرْسَلَهَا وَتَلِفَتْ , أَوْ حَبَسَهَا أَيْ وَتَلِفَتْ . وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وَصِيِّ رَبِّ الْمَالِ , إذَا أَرْسَلَ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ , أَوْ سَافَرَ هُوَ بِهِ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ , فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ إذَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ . وَكَذَا الْقَاضِي إذَا بَعَثَ الْمَالَ لِمُسْتَحِقِّهِ مِنْ وَرَثَةٍ أَوْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ , فَضَاعَ أَوْ تَلِفَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ , خِلَافًا لِقَوْلِ أَصْبَغَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ . وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ , فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا , فَبَعَثَ إلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا , فَضَاعَ مِنْ الرَّسُولِ , فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الرَّسُولِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِلُ . فَإِنَّ الْمُرْسِلَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ , وَهِيَ الدَّرَاهِمُ , وَلَمْ يَدْفَعْهَا , وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ , فَصَارَ الرَّسُولُ وَكِيلًا لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ , فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ , اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنْ الدَّرَاهِمِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِلِ . وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أُمِرَ بِقَبْضِهَا فَضَاعَتْ مِنْ الرَّسُولِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ ; لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَوْلُهُ فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ , فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا وَقَالَ : خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا , فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ , فَضَاعَتْ , فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ , يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ , وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ , يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ , وَإِنَّمَا جَعَلَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إلَيْهِ , وَيَرْجِعُ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَجَعَلَ التَّلَفَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ , وَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ ; لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ , فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ; لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .(30/83)
أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ أَوْ عَلَيْهِ : 12 - يَتَبَيَّنُ أَثَرُ الْإِرْسَالِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ , أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ مَا ذُكِرَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَقْوَالٍ , فَالْإِمَامُ الْكَاسَانِيُّ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ رَسُولًا إلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا فَكَتَبَ إلَيْهَا بِذَلِكَ كِتَابًا , فَقَبِلَتْ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ سَمِعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ جَازَ ذَلِكَ ; لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ; لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ , لِأَنَّهُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ . وَكَذَا الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْكَاتِبِ , فَكَانَ سَمَاعُ قَوْلِ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةُ الْكِتَابِ سَمَاعَ قَوْلِ الْمُرْسِلِ وَكَلَامَ الْكَاتِبِ مَعْنًى , وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى , بَيْنَمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا قَالَتْ : زَوَّجْت نَفْسِي يَجُوزُ , وَإِنْ لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَقِرَاءَةَ الْكِتَابِ , إذْ أَنَّ قَوْلَ الزَّوْجِ بِانْفِرَادِهِ عَقْدٌ عِنْدَهُ وَقَدْ حَضَرَ الشَّاهِدَانِ . فَيَتَّضِحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا مَأْخُوذٌ بِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ . هَذَا وَقَدْ أَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ الْكَاسَانِيَّ فِي اعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ لِلْمُرْسِلِ , إذْ ذَكَرَ فِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُودَعَ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إنْ دَفَعَهَا لِلرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ; لِأَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ لِغَيْرِ الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ كَانَ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ , فَلَمَّا تَرَكَهُ صَارَ مُفَرِّطًا , وَأَمَّا إنْ دَفَعَ لَهُ بِإِشْهَادٍ فَقَدْ بَرِئَ , وَيَرْجِعُ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ عَلَى الرَّسُولِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ .(30/84)
ثَالِثًا : الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى الْإِهْمَالِ حُكْمُ ضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ الْحَيَوَانَاتُ وَالْمَوَاشِي الْمُرْسَلَةُ : 13 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مَعْرِضِ بَيَانِهِمْ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى التَّفْرِيقِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ بَيْنَ الدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ وَمَعَهَا رَاكِبٌ , وَالدَّابَّةِ الَّتِي تُتْلِفُهَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ . وَبِنَاءً عَلَى هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَدْ قَالُوا : إذَا أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ مَالًا أَوْ نَفْسًا , لَيْلًا أَوْ نَهَارًا , وَكَانَ مَعَهَا رَاكِبُهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ; لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ , وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا , وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا كَانَ فِعْلُهَا مَنْسُوبًا إلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ , وَلَوْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ مَعَ رَاكِبٍ فَهَلْ يَخْتَصُّ الضَّمَانُ بِالرَّاكِبِ أَوْ يَجِبُ أَثْلَاثًا ؟ وَجْهَانِ : أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ , وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَوْ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ , دُونَ الرَّدِيفِ ؟ وَجْهَانِ : أَوْجَهُهُمَا الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُمَا . أَمَّا إذَا أَتْلَفَتْ الدَّابَّةُ أَمْوَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا رَاكِبٌ فَهُنَا يُنْظَرُ إلَى الزَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْإِتْلَافُ , فَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا , وَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ , لِتَقْصِيرِهِ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا , بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ نَهَارًا , لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي حِفْظِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ نَهَارًا وَالدَّابَّةِ لَيْلًا , وَلَوْ تَعَوَّدَ أَهْلُ الْبَلَدِ إرْسَالَ الدَّوَابِّ وَحِفْظَ الزَّرْعِ لَيْلًا دُونَ النَّهَارِ انْعَكَسَ الْحُكْمُ , فَيَضْمَنُ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ , اتِّبَاعًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَالْعَادَةِ , وَمِنْ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مَا بَحَثَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ لَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِحِفْظِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ضَمِنَ مُرْسِلُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا . هَذَا , وَقَدْ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ الدَّوَابِّ الَّتِي يَلْزَمُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِهَا الْحَمَامَ وَغَيْرَهُ مِنْ الطُّيُورِ وَالنَّحْلَ , إذْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهَا مُطْلَقًا , وَهَذَا الْحُكْمُ حَكَاهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ , وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ إرْسَالُهَا . هَذَا , وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي أَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِي إتْلَافِ الدَّوَابِّ إنْ كَانَ لَيْلًا , أَمَّا إنْ كَانَ نَهَارًا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ . بَيْنَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ بَعْدَ قَلِيلٍ بِإِذْنِ اللَّهِ . هَذَا , وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ بِتَضْمِينِ رَاكِبِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا . أَمَّا حُكْمُ مَا أَتْلَفَهُ الْحَمَامُ وَالنَّحْلُ وَالدَّجَاجُ فَجَاءَ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ : الْأُولَى : تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ حُكْمَهَا كَالْمَاشِيَةِ فِي الْإِتْلَافِ , وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ , إلَّا أَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ قَدْ قَالَ بِصَوَابِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى . أَمَّا الْبَاجِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْمَوَاضِعِ ضَرْبٌ تَنْفَرِدُ فِيهِ الْمَزَارِعُ وَالْحَوَائِطُ , لَيْسَ بِمَكَانِ سَرْحٍ , فَهَذَا لَا يَجُوزُ إرْسَالُ الْمَوَاشِي فِيهِ , وَمَا أَفْسَدَتْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا الضَّمَانُ . وَضَرْبٌ آخَرُ جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَالِ مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا , فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَأَتْلَفَتْهُ الْمَوَاشِي , فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي , سَوَاءٌ وَقَعَ الْإِتْلَافُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا . وَمِنْ الْمُفِيدِ جِدًّا أَنْ نُشِيرَ إلَى مَا ذَكَرَهُ مُؤَلِّفُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ إذْ قَالَ : بِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرْسَلَ فِي أَرْضِهِ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَلَ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَتْلَفَ زَرْعَهَا , يُنْظَرُ فِي الْأَمْرِ عَلَى ضَوْءِ قُرْبِ الْأَرْضِ وَبُعْدِهَا , فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ قَرِيبَةً فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ , وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً إلَّا أَنَّ النَّارَ وَصَلَتْهَا بِسَبَبِ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ . وَهَذَا الرَّأْيُ قَدْ قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا , إلَّا أَنَّ لَهُمْ رَأْيًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ أَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ هُنَا , وَمُفَادُ هَذَا الرَّأْيِ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ , حَيْثُ إنَّهُ إذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا يُتْلِفُهُ , وَإِنْ أَصَابَ الْمُتْلَفَ مِنْ فَوْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ , إذْ(30/85)
لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ , وَالْمُتَسَبِّبُ لَا يَضْمَنُ إلَّا إذَا تَعَدَّى , بَيْنَمَا إذَا أَرْسَلَ الدَّابَّةَ فَأَتْلَفَتْ أَمْوَالَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَوْرِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ; لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِإِرْسَالِهَا فِي الطَّرِيقِ مَعَ إمْكَانِ اتِّبَاعِهَا , إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُفَرِّقْ فِي لُزُومِ الضَّمَانِ بَيْنَ مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ بِإِرْسَالِهِ وَمَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِإِرْسَالِهَا . هَذَا , وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرْسَلَ طَيْرًا سَاقَهُ ( أَيْ سَارَ خَلْفَهُ ) أَوْ لَا , أَوْ أَرْسَلَ دَابَّةً أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ , أَوْ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ بِنَفْسِهَا فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فَلَا ضَمَانَ فِي الْكُلِّ , لِقَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } أَيْ الْمُنْفَلِتَةُ هَدْرٌ . أَمَّا إذَا كَانَ الْمُرْسَلُ مَاءً , فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِحَالَةِ الْمَاءِ الْمُرْسَلِ وَطَبِيعَةِ الْأَرْضِ , فَلَوْ أَرْسَلَ مَاءً فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ إلَى أَرْضِ غَيْرِهِ , فَإِنْ كَانَ مَا أَرْسَلَهُ تَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . وَإِنْ أَرْسَلَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ كَانَ ضَامِنًا , فَإِنْ سَقَى أَرْضَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ حَتَّى جَاوَزَ عَنْ أَرْضِهِ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ طَرَحَ فِي النَّهْرِ تُرَابًا , فَمَالَ الْمَاءُ عَنْ النَّهْرِ حَتَّى غَرَق قَصْرُ إنْسَانٍ , فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْسِلِ ; لِأَنَّهُ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ , وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ , وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ طَرَحَ التُّرَابَ فِي النَّهْرِ وَمَنَعَ الْمَاءَ عَنْ السَّيَلَانِ ; لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ . وَلَوْ فَتَحَ فُوَّهَةَ النَّهْرِ وَأَرْسَلَ مَاءً قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ النَّهْرُ , فَدَخَلَ الْمَاءُ مِنْ فَوْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَرْضِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . هَذَا , وَمِمَّا يَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هُوَ أَنْ نَذْكُرَ الدَّلِيلَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي مُوَافَقَتِهِمْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْمُتْلَفِ لَيْلًا لَا نَهَارًا , وَالدَّلِيلُ هُوَ رِوَايَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةُ { أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ - أَيْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْوَالٍ - فَقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ , وَمَا أَفْسَدَتْ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ } . وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاشِي إرْسَالُهَا نَهَارًا لِلرَّعْيِ وَحِفْظُهَا لَيْلًا , وَعَادَةُ أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا , فَإِذَا أَفْسَدَتْ شَيْئًا لَيْلًا كَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ إنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا , مِثْلَ مَا إذَا لَمْ يَضُمَّهَا وَنَحْوَهُ لَيْلًا , أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ . أَمَّا إذَا ضَمَّهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لَيْلًا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ فَتْحَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا بَابَهَا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا , فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا ; لِأَنَّهُ السَّبَبُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَتْ بِيَدِهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ . ثُمَّ أَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إلَى مَا تَقَدَّمَ , بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَمَرَاعِي . أَمَّا الْقُرَى الْعَامِرَةُ الَّتِي لَا مَرْعَى فِيهَا إلَّا بَيْنَ مَرَاحَيْنِ كَسَاقِيَةٍ وَطُرُقِ زَرْعٍ فَلَيْسَ لَهُ إرْسَالُهَا بِغَيْرِ حَافِظٍ , فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ . وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَادَةَ تُرَاعَى فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , إذْ قَالَ الْحَارِثِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : لَوْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ النَّوَاحِي رَبْطُهَا نَهَارًا وَإِرْسَالُهَا لَيْلًا وَحِفْظُ الزَّرْعِ لَيْلًا , فَالْحُكْمُ هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى مَالِكِهَا فِيمَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا إنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا , لَا نَهَارًا . ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْحَنَابِلَةُ فِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ بِقَوْلِهِمْ : لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ أَرْسَلَ صَيْدًا وَقَالَ : أَعْتَقْتُك , لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ , كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ , وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ , إذْ أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهَا بِذَلِكَ .(30/86)
الْإِرْسَالُ فِي الْقَبْضِ وَالْعَزْلِ : 14 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ : ( إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولًا يَقْبِضُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ , وَرُؤْيَةُ الرَّسُولِ وَقَبْضُهُ لَا يُلْزِمُهُ الْمَتَاعَ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , لِيَتِمَّ رِضَاهُ , وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ , فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ , وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ , فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ , فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ فَرَآهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ فِيهِ خِيَارٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهما الله : لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ ; لِأَنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ , وَالرَّسُولُ وَالْوَكِيلُ فِيهِ سَوَاءٌ , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِإِحْرَازِ الْعَيْنِ وَالْحَمْلِ إلَيْهِ وَالنَّقْلِ إلَى ضَمَانِهِ بِفِعْلِهِ , ثُمَّ خِيَارُهُ لَا يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ فَكَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيلِ , وَكَيْفَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ نَصًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِهِ ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ , وَقَاسَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ بِهِ . فَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه يَقُولُ : التَّوْكِيلُ بِمُطْلَقِ الْقَبْضِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ إتْمَامِ الْقَبْضِ , كَالتَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ إتْمَامِهِ , وَتَمَامُ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ , وَلَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ , فَيَضْمَنُ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ إنَابَةَ الْوَكِيلِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُسْقِطَةِ لِخِيَارِهِ , وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ إلَيْهِ إلَّا تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ , فَأَمَّا إتْمَامُ مَا أُرْسِلَ بِهِ فَلَيْسَ إلَيْهِ , كَالرَّسُولِ بِالْعَقْدِ لَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ . وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ صِفَةَ الرِّسَالَةِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَفَى الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } . وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَالْقَبْضِ , وَلِهَذَا مَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً . وَلَوْ أَرْسَلَ إلَى وَكِيلِهِ رَسُولًا بِعَزْلِهِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَقَالَ لَهُ : إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك وَيَقُولُ : إنِّي عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ , فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ , عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ , صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا , بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ مُعْتَبَرَةً , إنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ , مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ , فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ .
الرُّجُوعُ عَنْ الْإِرْسَالِ : 15 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَحَّ رُجُوعُهُ , لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ وَفْقَ الْمُشَافَهَةِ , وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ , فَهَا هُنَا أَوْلَى , وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ , بِخِلَافِ مَا إذَا وَكَّلَ إنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ , فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ وَيَنْقُلُهُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ , فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا , فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ , فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ , فَشَرَطَ عِلْمَهُ بِالْعَزْلِ , صِيَانَةً عَنْ التَّغْرِيرِ . وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَنْ ابْن سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ شَخْصًا أَرْسَلَ صَدَقَةً مَعَ رَسُولِهِ , ثُمَّ بَدَا لَهُ فَاسْتَرَدَّهَا مِنْ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ , وَإِذَا مَاتَ الْمُرْسِلُ قَبْلَ وُصُولِهَا كَانَتْ تَرِكَةً لِوَرَثَتِهِ .(30/87)
الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ : 16 - إرْسَالُ كَلْبِ الصَّيْدِ , أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَلَّمَةِ , إنْ كَانَ الْحَيَوَانُ يَنْطَلِقُ وَرَاءَ الصَّيْدِ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ وَيَقِفُ بِأَمْرِهِ , فَيَكُونُ الصَّيْدُ مُبَاحَ الْأَكْلِ وَلَوْ لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ . أَمَّا إذَا انْطَلَقَ الْحَيَوَانُ الصَّائِدُ بِنَفْسِهِ فَصَادَ حَيَوَانًا , فَلَا يُؤْكَلُ إلَّا إذَا أُدْرِكَتْ تَذْكِيَتُهُ ; لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إنَّمَا صَادَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ . وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي مُصْطَلَحِهِ
. رَابِعًا : الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ 17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إرْسَالِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ حَقِيقَةً إذَا كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ , وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذَا صَادَهُ فِي الْحِلِّ وَدَخَلَ بِهِ الْحَرَمَ . أَمَّا إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَجِبُ إرْسَالُهُ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ , خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ . وَأَمَّا صَاحِبُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ رَأْيًا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ مِمَّا لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ مُتَقَدِّمٍ . إذْ أَنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ إرْسَالِ الصَّيْدِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِيمَا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمُحْرِمِ , أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ , وَاسْتَدَلَّ عَلَى رَأْيِهِ هَذَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ , وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إرْسَالُهَا , ثُمَّ أَضَافَ قَائِلًا بِأَنَّ مَنْ أَرْسَلَ صَيْدَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ , فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ , وَقِيلَ إذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ , بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ لِأَنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .(30/88)
إسرارٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسرار في اللّغة : الإخفاء . ومنه قوله تعالى : { وإذ أسرّ النّبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً } . وأسررت الشّيء : أخفيته .
أمّا في الاصطلاح فيأتي ( الإسرار ) بالمعاني التّالية :
أ - أن يسمع نفسه دون غيره ، وأدناه ما كان بحركة اللّسان ، وهذا المعنى يستعمله الفقهاء في أقوال الصّلاة والأذكار .
ب - أن يسمع غيره على سبيل المناجاة ، مع الكتمان عن الآخرين ، وهذا المعنى يرد في السّرّ وإفشائه ، ويرجع إليه في مصطلح ( إفشاء السّرّ ) .
ج - أن يخفي فعله عمّن سواه ، وهذا المعنى يرد في أداء العبادات كالصّلاة والزّكاة ونحوهما .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المخافتة :
2 - من معاني المخافتة في اللّغة : خفض الصّوت . أمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في حدّ وجود القراءة على ثلاثة أقوالٍ :
فشرط الهندوانيّ والفضليّ من الحنفيّة لوجودها خروج صوتٍ يصل إلى أذنه ، وبه قال الشّافعيّ . وشرط الإمام أحمد وبشرٌ المريسيّ خروج الصّوت من الفم وإن لم يصل إلى أذنه ، لكن بشرط كونه مسموعاً في الجملة ، حتّى لو أدنى أحدٌ صماخه إلى فيه يسمع ، ولم يشترط الكرخيّ وأبو بكرٍ البلخيّ السّماع ، واكتفيا بتصحيح الحروف .
واختار شيخ الإسلام قاضي خان وصاحب المحيط والحلوانيّ قول الهندوانيّ ، كما في معراج الدّراية . فظهر بهذا أنّ أدنى المخافتة إسماع نفسه ، أو من بقربه من رجلٍ أو رجلين مثلاً ، وأعلاها مجرّد تصحيح الحروف ، كما هو مذهب الكرخيّ ، وأدنى الجهر إسماع غيره ممّن ليس بقربه ، كأهل الصّفّ الأوّل ، وأعلاه لا حدّ له .
ب - الجهر :
3 - من معاني الجهر في اللّغة : رفع الصّوت . يقال : جهر بالقول رفع به صوته .
وفي الاصطلاح : أن يسمع غيره ممّن يليه ، وأعلاه لا حدّ له ، فالجهر مباينٌ للإسرار .
ج - الكتمان :
4 - من معانيه في اللّغة : أنّه خلاف الإعلان . وهو في الاصطلاح : السّكوت عن البيان . قال تعالى { إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون ، إلاّ الّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا ، فأولئك أتوب عليهم وأنا التّوّاب الرّحيم } .
د - الإخفاء :
5 - الإحفاء بمعنى الإسرار لغةً واصطلاحاً ، إلاّ أنّ استعمال الإخفاء يغلب في الأفعال ، أمّا الإسرار فيغلب في الأقوال . وينظر مصطلح ( اختفاءٌ ) .
صفة الإسرار : حكمه التّكليفيّ :
أوّلاً - الإسرار بمعنى إسماع نفسه فقط :
الإسرار في العبادات :
6 - الصّلوات السّرّيّة : المراد بها الّتي لا جهر فيها ، وهي الظّهر والعصر في الفرائص والنّوافل ، وصلاة التّطوّع في النّهار . والإسرار فيها مستحبٌّ عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قولٍ لهم ، وفي آخر مندوبٌ ، وواجبٌ عند الحنفيّة . وإنّما كانت سرّيّةً ، لأنّها صلاة نهارٍ ، وصلاة النّهار عجماء كما ورد في الخبر ، أي ليست فيها قراءةٌ مسموعةٌ ، وذلك بالنّسبة لكلّ مصلٍّ ، سواءٌ أكان إماماً أم منفرداً أم مأموماً عند غير الحنفيّة ، فإنّ المأموم عندهم لا قراءة عليه .
الإسرار في أقوال الصّلاة :
أ - تكبيرة الإحرام :
7 - يستحبّ للإمام أن يجهر بالتّكبير بحيث يسمع المأمومين ليكبّروا ، فإنّهم لا يجوز لهم التّكبير إلاّ بعد تكبيره . فإن لم يمكنه إسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم ، أو ليسمع من لا يسمع الإمام ، لما روى جابرٌ قال « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ خلفه ، فإذا كبّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كبّر أبو بكرٍ ليسمعنا » متّفقٌ عليه .
ب - دعاء الاستفتاح :
8 - وهو ما تستفتح به الصّلاة من الأدعية المأثورة لذلك ، نحو « سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... » أو « وجّهت وجهي ... » وهو سنّةٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للمالكيّة فإنّهم لا يقولون به . والسّنّة عند من يقول بمشروعيّته أن يأتي به سرّاً ، ويكره الجهر به ولا تبطل الصّلاة . انظر ( استفتاحٌ ) .
ت - التّعوّذ :
9 - والقول في الإسرار به كالقول في الاستفتاح سواءٌ .
ث - البسملة لغير المؤتمّ في أوّل كلّ ركعةٍ :
10 - وهي سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ، واجبةٌ عند الشّافعيّة في الصّلاة ، ولا يقول بها المالكيّة في الفرض لكراهيتها في المشهور ، وأجازوها في النّافلة من غير كراهةٍ ، فيسنّ الإسرار بها عند الحنفيّة والحنابلة ، أمّا عند الشّافعيّة فهي تابعةٌ لكيفيّة القراءة من جهرٍ أو إسرارٍ ، وتفصيله في مصطلح ( بسملةٌ ) .
ج – قراءة الفاتحة :
11 – وتقرأ سرّاً في الصّلاة السّرّيّة ، للإمام والمنفرد ، وفي الرّكعتين الثّالثة والرّابعة من الصّلاة الجهريّة للإمام والمنفرد ، أمّا قراءة المأموم لها عند من قال بذلك فهي كلّها سرّيّةٌ . أمّا المنفرد في الصّلاة الجهريّة ، فهو مخيّرٌ بين الجهر والإسرار عند الحنفيّة والحنابلة ، ويستحبّ له الجهر عند الشّافعيّة .
ويسرّ في النّوافل النّهاريّة وجوباً عند الحنفيّة ، واستحباباً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويسرّ في قضاء الصّلاة السّرّيّة إذا قضاها ليلاً ، وصرّح ابن قدامة بأنّه لا يعلم فيه خلافاً . وإذا قضى الصّلاة الجهريّة نهاراً وكان إماماً جهر وجوباً عند الحنفيّة والمالكيّة ، وأسرّ عند الشّافعيّة ، وللحنابلة قولان . ويجهر بالقراءة في الجمعة والعيدين والاستسقاء .
ح - تأمين الإمام والمأموم والمنفرد :
12 - يقولونه سرّاً عند الحنفيّة والمالكيّة ، وجهراً عند الشّافعيّة والحنابلة .(31/1)
واستدلّ القائلون بالإسرار بأنّه دعاءٌ ، والأصل في الأدعية الإسرار ، كالتّشهّد .
واستدلّ من قال بالجهر « بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : آمين ورفع بها صوته » ، « ولأنّه صلى الله عليه وسلم أمر بالتّأمين عند تأمين الإمام »، فلو لم يجهر بها لم يعلّق عليه كحالة الإخفاء .
خ - تسبيح الرّكوع :
13 - الإسرار بالتّسبيح سنّةٌ اتّفاقاً .
د - التّسميع والتّحميد حال رفع الرّأس من الرّكوع للقيام :
14 - يسمّع الإمام جهراً ، ويحمد الجميع سرّاً .
ذ - التّسبيح في السّجدتين :
15 - يقوله المصلّي سرّاً ، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً . وكذلك الأذكار بين السّجدتين ، والتّشهّد الأوّل والأخير ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والأدعية في آخر الصّلاة . أمّا التّسليم فيجهر به الإمام دون المأموم أو المنفرد .
الإسرار بالاستعاذة والبسملة خارج الصّلاة :
16 - للفقهاء والقرّاء في الجهر بالاستعاذة أو الإسرار بها آراءٌ :
أ - استحباب الجهر بها ، وهو قول الشّافعيّة ، وروايةٌ عن أحمد ، والمختار عند أئمّة القرّاء .
ب - لم يخالف في ذلك إلاّ حمزة ومن وافقه .
ج - التّخيير بين الجهر والإسرار ، وهو الصّحيح عند الحنفيّة ، وقولٌ للحنابلة .
د - الإخفاء مطلقاً ، وهو قولٌ للحنفيّة ، وروايةٌ عند الحنابلة ، وروايةٌ عن حمزة .
هـ – الجهر بالتّعوّذ في أوّل الفاتحة فقط ، والإخفاء في سائر القرآن ، وهو روايةٌ ثانيةٌ عن حمزة . وحكم البسملة في ذلك تابعٌ لحكم الاستعاذة ، إلاّ ما روي عن نافعٍ أنّه كان يخفي الاستعاذة ويجهر بالبسملة عند افتتاح السّور ورءوس الآيات في جميع القرآن .
هذا بالنّسبة للرّجل ، أمّا المرأة فجهرها إسماع نفسها فقط ، والجهر في حقّها كالإسرار ، فيكون أعلى جهرها وأدناه واحداً ، وعلى هذا فيستوي في حقّها السّرّ والجهر ، لأنّ صوتها كالعورة ، وربّما كان سماعه فتنةً ، بل جهرها مرتبةٌ واحدةٌ ، وهو أن تسمع نفسها فقط ، وليس هذا إسراراً منها ، بل إسرارها مرتبةٌ أخرى ، وهو أن تحرّك لسانها دون إسماع نفسها ، فليس لإسرارها أعلى وأدنى ، كما أنّ جهرها كذلك .
وانظر للتّفصيل مصطلحي ( استعاذةٌ ) ( وبسملةٌ ) .
ثانياً: الإسرار في الأفعال :
الزّكاة :
17 - قال أبو بكر بن العربيّ : لا خلاف في أنّ إظهار صدقة الفرض أفضل ، كصلاة الفرض وسائر فرائض الشّريعة ، لأنّ المرء يحرز بها إسلامه ويعصم ماله . وقال الحنفيّة والمالكيّة : إنّه لا يشترط علم الفقير أنّ ما أعطي له زكاةٌ على الأصحّ ، لما في ذلك من كسر قلبه ، ولذا فإنّ الإسرار في إعطائها إليه أفضل من إعلانه بها . وقال الشّافعيّة : إنّ الأفضل فيها إظهار إخراجها ليراه غيره فيعمل عمله ، ولئلاّ يساء الظّنّ به . واستحبّ الحنابلة إظهار إخراجها ، سواءٌ أكان الإخراج بموضعٍ يخرج أهله الزّكاة أم لا ، وسواءٌ أنفي عنه ظنّ السّوء بإظهار إخراجها أم لا ، لما فيه من نفي الرّيبة عنه ، ولعلّه يقتدى به ، ومن علم أهليّته أخذ الزّكاة - ولو بغلبة الظّنّ - كره أن يعلمه أنّها زكاةٌ ، ومع عدم عادة الآخذ بأخذ الزّكاة لا يجزئ دفعها إليه إلاّ أن يعلمه أنّها زكاةٌ ، لأنّه لا يقبل زكاةً ظاهراً .
صدقات التّطوّع :
18 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ الإسرار بها أفضل من الجهر ، ولذا يسنّ لمعطيها أن يسرّ بها ، لقوله تعالى { إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي ، وإن تحفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ } . ولما روي عن أبي هريرة مرفوعاً « سبعةٌ يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه وذكر منهم رجلاً تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله » . ولما روي أنّ رسول قال : « صنائع المعروف تقي مصارع السّوء ، وصدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ ، وصلة الرّحم تزيد في العمر » ولأنّ إعطاءها على هذا النّحو يراد به اللّه عزّ وجلّ وحده ، وقد قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما " جعل اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً .
قيام اللّيل :
19 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ المتنفّل ليلاً يخيّر بين الجهر بالقراءة والإسرار بها ، إلاّ أنّه إن كان الجهر أنشط له في القراءة ، أو كان بحضرته من يستمع قراءته ، أو ينتفع بها فالجهر أفضل ، وإن كان قريباً منه من يتهجّد ، أو من يتضرّر برفع صوته فالإسرار أولى ، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء . « قال عبد اللّه بن أبي قيسٍ : سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول اللّه ؟ فقالت : كلّ ذلك كان يفعل . ربّما أسرّ ، وربّما جهر » . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : « كانت قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم باللّيل يرفع طوراً ، يخفض طوراً » وقال المالكيّة : إنّ المستحبّ في نوافل اللّيل الإجهار ، وهو أفضل من الإسرار ، لأنّ صلاة اللّيل تقع في الأوقات المظلمة فينبّه القارئ بجهره المارّة ، وللأمن من لغو الكافر عند سماع القرآن ، لاشتغاله غالباً في اللّيل بالنّوم أو غيره ، بخلاف النّهار . وقال الشّافعيّة : إنّه يسنّ في نوافل اللّيل المطلقة التّوسّط بين الجهر والإسرار إن لم يشوّش على نائمٍ أو مصلٍّ أو نحوه ، إلاّ التّراويح فيجهر بها . والمراد بالتّوسّط أن يزيد على أدنى ما يسمع نفسه من غير أن تبلغ تلك الزّيادة سماع من يليه ، والّذي ينبغي فيه ما قاله بعضهم : إنّه يجهر تارةً ، ويسرّ أخرى .
الأدعية والأذكار في غير الصّلاة :(31/2)
20 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ الإسرار بالأدعية والأذكار من حيث الجملة أفضل من الجهر بها ، فالإسرار بها سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ، ومندوبٌ عند الشّافعيّة . لقوله تعالى : { ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } أي سرّاً في النّفس ، ليبعد عن الرّياء ، وبذلك أثنى اللّه تعالى على نبيّه زكريّا عليه السلام ، إذ قال مخبراً عنه : { إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً } ، ولأنّه أقرب إلى الإخلاص ، وقد ورد « خير الذّكر الخفيّ » .
أمّا في عرفة فرفع الصّوت بذلك وبالتّلبية أفضل من الإسرار به ، إذ رفع الصّوت بالتّلبية والدّعاء بعرفة سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ، ومندوبٌ عند الشّافعيّة ، بحيث لا يجهد نفسه ، ولا يفرط في الجهر بالدّعاء بها ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « جاءني جبريل عليه السلام فقال : يا محمّد ، مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتّلبية ، فإنّها من شعار الحجّ » وقال : « أفضل الحجّ العجّ والثّجّ » فالعجّ : رفعه الصّوت بالتّلبية ، والثّجّ : إسالة دماء الهدي . هذا ، وإنّ لبعض الأذكار صفةً خاصّةً من الجهر أو الإسرار ، كالتّلبية ، والإقامة ، وأذكار ما بعد الصّلاة ، والتّسمية على الذّبيحة ، والأذكار من المرأة ، وتنظر في مواضعها الخاصّة .
الإسرار باليمين :
21 - الإسرار باليمين - إذا أسمع نفسه - كالجهر بها . والإسرار بالاستثناء كالإسرار باليمين متى توافرت عناصره ، وكان الاستثناء متّصلاً بالمستثنى منه ، إلاّ لعارضٍ كسعالٍ أو عطاسٍ أو انقطاع نفسٍ . وتفصيل ذلك يرجع إليه في ( استثناءٌ ) ( وأيمانٌ ) .
الإسرار بالطّلاق :
22 - الإسرار في الطّلاق بإسماع نفسه كالجهر به ، فمتى طلّق امرأته إسراراً بلفظ الطّلاق ، صريحاً كان أو كنايةً مستوفيةً شرائطها على الوجه المذكور ، فإنّ طلاقه يقع ، وتترتّب عليه آثاره ، ومتى لم تتوافر شرائطه فإنّ الطّلاق لا يقع ، كما لو أجراه على قلبه دون أن يتلفّظ به إسماعاً لنفسه أو بحركة لسانه . هذا ، وقد قال المالكيّة في لزومه بكلامه النّفسيّ ، كأن يقول بقلبة أنت طالقٌ : أنّ فيه خلافاً ، والمعتمد عندهم عدم اللّزوم .
والكلام في الاستثناء في الطّلاق كالكلام في الطّلاق .(31/3)
إسفارٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسفار في اللّغة : الكشف ، يقال : سفر الصّبح وأسفر : أي أضاء ، وأسفر القوم : أصبحوا ، وسفرت المرأة : كشفت عن وجهها .
وأكثر استعمال الفقهاء للإسفار بمعنى ظهور الضّوء ، يقال : أسفر بالصّبح : إذا صلاّها وقت الإسفار ، أي عند ظهور الضّوء ، لا في الغلس .
الحكم الإجماليّ :
2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الوقت الاختياريّ في صلاة الصّبح هو إلى وقت الإسفار ، لما روي : « أنّ جبريل عليه السلام صلّى الصّبح بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم حين طلع الفجر ، وصلّى من الغد حين أسفر ، ثمّ التفت وقال : هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك » .
ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ الإسفار بصلاة الصّبح ، وهو أفضل من التّغليس ، في السّفر والحضر ، وفي الصّيف والشّتاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أسفروا بالفجر » ، وفي روايةٍ « نوّروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر » . قال أبو جعفرٍ الطّحاويّ : يبدأ بالتّغليس ويختم بالإسفار جمعاً بين أحاديث التّغليس والإسفار .
مواطن البحث :
3 - يبحث الإسفار في الصّلاة عند الكلام عن وقت صلاة الصّبح ، والأوقات المستحبّة .(32/1)
إسْبَاغٌ
إسْبَاغٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْإِسْبَاغُ لُغَةً : الْإِكْمَالُ وَالتَّوْفِيَةُ , وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ : إبْلَاغُهُ مَوَاضِعَهُ . وَاصْطِلَاحًا : أَنْ يُعِمَّ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ بِالْمَاءِ , بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهَا , وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ : كَمَالُ إتْمَامِ الْوُضُوءِ وَتَوْفِيَتِهِ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْإِسْبَالُ : 2 - الْإِسْبَالُ يَدُلُّ عَلَى : إرْسَالِ الشَّيْءِ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ , كَإِسْبَالِ السِّتْرِ وَالْإِزَارِ , أَيْ إرْخَاؤُهُ , وَالْإِسْدَالُ كَذَلِكَ . فَالْإِسْبَالُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ , وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ , إلَّا مَا وَرَدَ نَصٌّ فِي جَوَازِهِ , كَإِسْبَالِ السِّتْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ مِنْ غَيْرِ مُلَامَسَةٍ لِلْوَجْهِ , بِخِلَافِ الْإِسْبَاغِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ ( ر : إسْبَالٌ ) ب - الْإِسْرَافُ : 3 - الْإِسْرَافُ هُوَ مَا زِيدَ بَعْدَ تَيَقُّنِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمَطْلُوبِ , وَهُوَ مَكْرُوهٌ , بِخِلَافِ الْإِسْبَاغِ . وَمِثْلُهُ إطَالَةُ الْغُرَّةِ تَكُونُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَحْدُودِ , وَفَوْقَ الْوَاجِبِ فِي الْوُضُوءِ , فَهِيَ إسْبَاغٌ وَزِيَادَةٌ . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ : 4 - الْإِسْبَاغُ , إنْ أُرِيدَ بِهِ تَعْمِيمُ الْأَعْضَاءِ الْوَاجِبِ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ , وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالتَّوْفِيَةُ , فَهُوَ مَنْدُوبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , لِحَدِيثِ : { أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ } , وَحَدِيثِ { إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ } . ( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 5 - اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْإِسْبَاغِ يَرِدُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ الْوُضُوءِ .(33/1)
إشارةٌ *
التعريف :
1 - الإشارة لغةً : التّلويح بشيءٍ يفهم منه ما يفهم من النّطق ، فهي الإيماء إلى الشّيء بالكفّ والعين والحاجب وغيرها . وأشار عليه بكذا : أبدى له رأيه ، والاسم الشّورى .
وهي عند الإطلاق حقيقةٌ في الحسّيّة ، وتستعمل مجازاً في الذّهنيّة ، كالإشارة بضمير الغائب ونحوه ، فإن عدّي " إلى " تكون بمعنى الإيماء باليد ، ونحوها ، وإن عدّي ب " على " تكون بمعنى الرّأي .
والإشارة في اصطلاح الفقهاء مثلها في اللّغة ، ويستعملها الأصوليّون في مبحث الدّلالات ، ويعرّفون دلالة الإشارة بأنّها : دلالة اللّفظ على ما لم يقصد به ، ولكنّه لازمٌ له . كدلالة قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً } على صحّة النّكاح بدون ذكر المهر ، لأنّ صحّة الطّلاق فرع صحّة النّكاح .
أمّا عبارة النّصّ فهي المعنى الّذي يتبادر فهمه من صيغته ، ويكون هو المقصود من سياقه ، وسيأتي تفصيل ما يتّصل بذلك في الملحق الأصوليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّلالة :
2 - الدّلالة : كون الشّيء بحيث يفهم منه شيءٌ آخر ، كدلالة اللّفظ على المعنى ، وهي أعمّ من الإشارة .
ب - الإيماء :
3 - الإيماء : مرادفٌ للإشارة لغةً ، وعند الأصوليّين عرّفه بعضهم بأنّه : إلقاء المعنى في النّفس بخفاءٍ .
صفتها : الحكم الإجماليّ :
4 - الإشارة تقوم مقام اللّفظ في أغلب الأمور ، لأنّها تبيّن المراد كالنّطق ، ولكنّ الشّارع يقيّد النّاطقين بالعبارة في بعض التّصرّفات كالنّكاح ، فإذا عجز إنسانٌ عنها ، أقام الشّارع إشارته مقام نطقه في الجملة .
إشارة الأخرس :
5 - إشارة الأخرس معتبرةٌ شرعاً ، وتقوم مقام عبارة النّاطق فيما لا بدّ فيه من العبارة ، إذا كانت معهودةً في جميع العقود كالبيع ، والإجارة ، والرّهن ، والنّكاح ، والحلول : كالطّلاق ، والعتاق ، والإبراء . وغير ذلك كالأقارير - ما عدا الإقرار بالحدود ، ففيه خلافٌ كما يأتي قريباً - والدّعاوى " والإسلام .
وهذا القدر متّفقٌ عليه بين الفقهاء فيما نعلم ، وفي اللّعان والقذف خلافٌ . فقد قال الحنفيّة وبعض الحنابلة : إنّ الإشارة لا تقوم مقام النّطق فيهما ، لأنّ في الإشارة شبهةٌ يدرأ بها الحدّ ، وقال مالكٌ والشّافعيّ وبعض الحنابلة : إشارة الأخرس كنطقه فيهما .
ولا فرق في اعتبار إشارة الأخرس بين أن يكون قادراً على الكتابة ، أو عاجزاً عنها ، ولا بين أن يكون الخرس أصالةً أو طارئاً عند جمهور الفقهاء .
ونقل عن المتولّي من الشّافعيّة : إنّما تعتبر إشارة الأخرس إذا كان عاجزاً عن الكتابة ، لأنّها أضبط . ولم يفرّق المالكيّة بين إشارة الأخرس وكتابته ، فظاهره أنّه لا يشترط لقبول إشارته العجز عن الكتابة .
ويشترط الحنفيّة لقبول إشارته ما يلي :
أ - أن يكون قد ولد أخرس ، أو طرأ عليه الخرس ودام حتّى الموت . وهذه رواية الحاكم عن أبي حنيفة ، وفي هذا من الحرج ما فيه ، وقدّر التّمرتاشيّ الامتداد لسنةٍ .
وفي التتارخانية : أنّه إذا طرأ عليه الخرس ودام حتّى صارت إشارته مفهومةً اعتبرت إشارته كعبارته وإلاّ لم تعتبر .
ب - ألاّ يقدر على الكتابة . جاء في تكملة حاشية ابن عابدين : قال الكمال : قال بعض الشّافعيّة : إن كان يحسن الكتابة لا يقع طلاقه بالإشارة ، لاندفاع الضّرورة بما هو أدلّ على المراد من الإشارة ، وهو قولٌ حسنٌ ، وبه قال بعض مشايخنا .
قال ابن عابدين : بل هذا القول تصريحٌ بما هو مفهومٌ من ظاهر الرّواية ، ففي كافي الحاكم الشّهيد ما نصّه : فإن كان الأخرس لا يكتب ، وكان له إشارةٌ تعرف في طلاقه ، ونكاحه ، وشرائه ، وبيعه فهو جائزٌ ، وإن كان لم يعرف ذلك منه أو شكّ فيه فهو باطلٌ . ثمّ قال : فيفيد أنّه إن كان يحسن الكتابة لا تجوز إشارته .وفي الأشباه والنّظائر : أنّ المعتمد أنّ عدم القدرة على الكتابة ليس شرطاً للعمل بالإشارة .
وقال السّيوطيّ والزّركشيّ من الشّافعيّة : يستثنى من هذه القاعدة المتقدّمة في إقامة إشارة الأخرس مقام نطقه مسائل لا تقوم فيها إشارة الأخرس مقام النّطق ، منها :
( 1 ) إذا خاطب بالإشارة في الصّلاة لا تبطل صلاته في الأصحّ .
( 2 ) إذا نذر بالإشارة لا ينعقد نذره .
( 3 ) إذا شهد بالإشارة لا تقبل شهادته في الأصحّ ، لأنّ إقامتها مقام النّطق للضّرورة ، ولا ضرورة في شهادته لإمكان شهادة النّاطق .
( 4 ) إذا حلف لا يكلّم زيداً فكلّمه بالإشارة لا يحنث .
( 5 ) إذا حلف بالإشارة لا تنعقد يمينه إلاّ في اللّعان .
إقرار الأخرس بما يوجب الحدّ :
6 - اختلف الفقهاء في صحّة إقرار الأخرس بالزّنى وغيره من الحدود . فذهب الشّافعيّة ، والقاضي من الحنابلة ، وابن القاسم من المالكيّة إلى أنّه يحدّ إن أقرّ بالزّنى بإشارته ، قالوا : لأنّ من صحّ إقراره بغير الزّنى صحّ إقراره به . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحدّ بإقراره بالزّنى ، لأنّ الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره ، فيكون ذلك شبهةً في درء الحدّ ، والحدود تدرأ بالشّبهات . وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( حدودٌ ، وإقرارٌ ) .
إشارة الأخرس بالإقرار بما يوجب القصاص :
7 - إشارته في ذلك مقبولةٌ في قول الفقهاء في القصاص ، لأنّه من حقوق العباد .
تقسيم إشارة الأخرس :(34/1)
8 - صرّح الشّافعيّة بأنّه إذا كانت إشارة الأخرس بحيث يفهمها كلّ من وقف عليها فهي صريحةٌ . وإن كان يختصّ بفهمها ذوو الفطنة والذّكاء ، فهي كنايةٌ وإن انضمّ إليها قرائن . وتعرف نيّة الأخرس فيما إذا كانت إشارته كنايةً بإشارةٍ أخرى أو كتابةٍ . أمّا إذا لم يفهم إشارته أحدٌ فهي لغوٌ . وعند المالكيّة لا تكون إشارة الأخرس كنايةً ، فإن كانت مفهمةً فهي صريحةٌ وإلاّ فلغوٌ . ولم نعثر للحنفيّة والحنابلة على قسمة الإشارة من الأخرس إلى صريحٍ وكنايةٍ ، وتفصيل ما يخصّ الإشارة في الطّلاق يأتي في بابه .
إشارة الأخرس بقراءة القرآن :
9 - للفقهاء في المسألة اتّجاهان :
الأوّل : يجب تحريك الأخرس لسانه في تكبير الصّلاة وقراءة القرآن ، لأنّ الصّحيح يلزمه النّطق بتحريك لسانه ، فإذا عجز عن أحدهما لزمه الآخر . وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة ، وقول القاضي من الحنابلة .
والثّاني : لا يجب عليه ذلك ، وهو مذهب المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة .
وخرج بعض الحنفيّة والشّافعيّة على قولهم بوجوب التّحريك ، تحريم تحريك الأخرس لسانه بالقراءة وهو جنبٌ .
الشّهادة بالإشارة :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا تجوز شهادة الأخرس بحالٍ ، وإن فهم إشارته كلّ أحدٍ . لأنّ المعتبر في الشّهادة اليقين ، والإشارة لا تخلو عن احتمالٍ . وذهب المالكيّة إلى أنّها تقبل إذا كانت مفهمةً .
معتقل اللّسان :
11 - مذهب الجمهور ، وهو قولٌ عند الحنابلة صوّبه صاحب الإنصاف أنّ معتقل اللّسان - وهو واسطةٌ بين النّاطق والأخرس - إن كان عاجزاً عن النّطق فهو كالأخرس ، وتقوم إشارته المفهمة مقام العبارة ، فإن أوصى بالإشارة ، أو قرئت عليه الوصيّة ، وأشار أن " نعم " صحّت الوصيّة . والمذهب عند الحنابلة أنّ المعتقل اللّسان لا تصحّ وصيّته .
إشارة النّاطق :
12 - من كان مستطيعاً للنّطق ففي إقامة إشارته مقام النّطق اتّجهان :
الأوّل : أنّها لغوٌ في الجملة . وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ في مسائل معدودةٍ نصّ عليها الحنفيّة والشّافعيّة أقاموا فيها الإشارة مقام النّطق . وإنّما قالوا بإلغائها ، لأنّها مهما قويت دلالتها فإنّها لا تفيد اليقين الّذي تفيده العبارة ،
ومن المسائل الّتي استثنوها :
أ - إشارة المفتي بالجواب .
ب - أمان الكفّار ، ينعقد بالإشارة تغليباً لحقن الدّم ، فلو أشار المسلم إلى الكافر بالأمان ، فانحاز إلى صفّ المسلمين لم يحلّ قتله .
ج - إذا سلّم عليه في الصّلاة فردّ بالإشارة لم تفسد صلاته .
د - الإشارة بالعدد في الطّلاق .
هـ- لو أشار المحرم إلى الصّيد فصيد ، حرم عليه الأكل منه . وزاد الحنفيّة الإشارة بالإقرار بالنّسب لتشوّف الشّرع إلى إثباته ، وبالإسلام والكفر .
الثّاني : أنّ إشارة النّاطق معتبرةٌ كنطقه ، ما دامت مفهومةً بين النّاس ومتعارفاً بينهم على مدلولها . وقالوا : إنّ التّعاقد بالإشارة أولى من التّعاقد بالأفعال ( التّعاطي ) ، لأنّ الإشارة يطلق عليها أنّها كلامٌ . قال اللّه تعالى : { قال : آيتك ألاّ تكلّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إلاّ رمزاً } وهذا مذهب المالكيّة إلاّ في عقد النّكاح خاصّةً ، دون تعيين المنكوحة أو النّاكح .
تعارض عبارة النّصّ مع إشارته :
13 - سبق بيان المراد بعبارة النّصّ وبإشارته ( ر : ف 1 ) ، فإذا تعارضت عبارة نصٍّ وإشارة آخر يرجّح مفهوم العبارة في الجملة ، على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في الملحق الأصوليّ .
ردّ السّلام في الصّلاة :
14 - اختلف الفقهاء في جواز ردّ السّلام في الصّلاة ، فرخّصت طائفةٌ من التّابعين في الرّدّ بالقول كسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وقتادة . وروى عن أبي هريرة أنّه كان إذا سلّم عليه وهو في الصّلاة ردّه حتّى يسمع . وذهب جماعةٌ إلى أنّه يردّ بعد الانصراف من الصّلاة . واتّفق الأئمّة الأربعة على أنّ ردّ السّلام بالقول . في الصّلاة مبطلٌ لها . على اختلافٍ بينهم في بعض التّفصيل . فالرّاجح عند المالكيّة : أنّ الرّدّ بالإشارة واجبٌ .
ويرى الشّافعيّة أنّه يستحبّ الرّدّ بالإشارة . وذهب الأحناف إلى أنّه يكره ردّه بالإشارة باليد ، ولا تفسد به الصّلاة ، جاء في حاشية ابن عابدين : ردّ السّلام بيده لا يفسدها ، خلافاً لمن عزا إلى أبي حنيفة أنّه مفسدٌ ، فإنّه لم يعرف نقله من أحدٍ من أهل المذهب .
وعند الحنابلة يردّ بالإشارة . وقد استدلّ القائلون بالرّدّ بعد الانصراف من الصّلاة بحديث ابن مسعودٍ قال : « كنّا نسلّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في الصّلاة ، فيردّ علينا ، فلمّا رجعنا من عند النّجاشيّ سلّمنا عليه ، فلم يردّ علينا وقال : إنّ في الصّلاة شغلاً » . واستدلّ القائلون بالرّدّ بالإشارة بحديث جابرٍ قال : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثني لحاجةٍ ، ثمّ أدركته وهو يسير فسلّمت عليه فأشار إليّ ، فلمّا فرغ دعاني فقال : إنّك سلّمت عليّ آنفاً وأنا أصلّي » وفي روايةٍ لمسلمٍ : « فلمّا انصرف قال : إنّه لم يمنعني أن أردّ عليك إلاّ أنّي كنت أصلّي » . وحديث ابن عمر عن صهيبٍ أنّه قال : « مررت برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي ، فسلّمت عليه فردّ إليّ إشارةً » .
الإشارة في التّشهّد :(34/2)
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحبّ للمصلّي في التّشهّد الإشارة بسبّابته ، وتسمّى في اصطلاح الفقهاء " المسبّحة " وهي الّتي تلي الإبهام ، ويرفعها عند التّوحيد ولا يحرّكها ، لحديث ابن الزّبير « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا ، ولا يحرّكها » وقيل يحرّكها ، لحديث وائل بن حجرٍ « أنّه صلى الله عليه وسلم : رفع أصبعه فرأيته يحرّكها » وتفصيل كيفيّة الإشارة من حيث عقد الأصابع أو بسطها ، والتّحريك وعدمه يأتي في ( الصّلاة ) .
إشارة المحرم إلى الصّيد :
16 - إذا أشار المحرم إلى صيدٍ ، أو دلّ حلالاً عليه فصاده حرم على المحرم أكله . وهذا القدر لا يعلم فيه خلافٌ بين الفقهاء ، « لحديث أبي قتادة في قصّة اصطياده وهو غير محرمٍ ، قال : فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها » . وإن لم تكن منه إعانةٌ على قتله بشيءٍ حلّ له الأكل منه عند جمهور الفقهاء للحديث السّابق .
واختلف الفقهاء في وجوب الجزاء على المشير ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه الجزاء ، لأنّ الإشارة إلى الصّيد من محظورات الإحرام بدليل تحريم الأكل منه ، فتكون جنايةً على الصّيد بتفويت الأمن على وجهٍ ترتّب عليه قتله ، فصارت كالقتل . وعند المالكيّة والشّافعيّة لا جزاء على المشير ، لأنّ النّصّ علّق الجزاء بالقتل . وليست الإشارة قتلاً .
الإشارة إلى الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ :
17 - اتّفق الفقهاء على استحباب استلام الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ باليد أو غيرها عند الطّواف ، لحديث « ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما تركت استلام هذين الرّكنين في شدّةٍ ولا رخاءٍ منذ رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستلمهما » . كما اتّفقوا على استحباب الإشارة إلى الحجر الأسود عند تعذّر الاستلام ، لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعيرٍ ، كلّما أتى على الرّكن أشار إليه » . واختلفوا في الإشارة إلى الرّكن اليمانيّ عند تعذّر الاستلام . فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشير إليه إن عجز عن استلامه ، وذهب الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه يشير إلى الرّكن اليمانيّ قياساً على الحجر الأسود .
التّسليم بالإشارة :
18 - لا تحصل سنّة ابتداء السّلام بالإشارة باليد أو الرّأس للنّاطق ، ولا يسقط فرض الرّدّ عنه بها . لأنّ السّلام من الأمور الّتي جعل لها الشّارع صيغاً مخصوصةً ، لا يقوم مقامها غيرها ، إلاّ عند تعذّر صيغتها الشّرعيّة . وتكاد تتّفق عبارات الفقهاء على القول : بأنّه لا بدّ من الإسماع ، ولا يكون الإسماع إلاّ بقولٍ . وقد ورد في الحديث : « لا تسلّموا تسليم اليهود ، فإنّ تسليمهم بالأكفّ والرّءوس والإشارة » . وروى علقمة عن عطاء بن أبي رباحٍ قال : « كانوا يكرهون التّسليم باليد » . يعني الصّحابة رضوان الله عليهم .
أمّا الأصمّ ومن في حكمه ، وغير المقدور على إسماعه كالبعيد ، فالإشارة مشروعةٌ في حقّه ، وقال بعض الفقهاء : إذا سلّم على أصمّ لا يسمع ينبغي أن يتلفّظ بالسّلام ، لقدرته عليه ، ويشير باليد . ويسقط قرض الرّدّ من الأخرس بالإشارة ، لأنّه مقدوره ، ويردّ عليه بالإشارة والتّلفّظ معاً . وانظر مصطلح : ( سلامٌ ) .
الإشارة في أصل اليمين :
19 - لا تنعقد يمين النّاطق بالإشارة ، لأنّها لا تنعقد إلاّ بأسماء اللّه وصفاته .
أمّا الأخرس فذهب بعض الفقهاء إلى أنّ يمينه لا تنعقد . وذهب آخرون إلى أنّه إذا كانت له إشارةٌ مفهمةٌ حلف ، وتصحّ يمينه ، وإن كانت غير مفهمةٍ ، ووجبت عليه يمينه ، وقف حتّى تفهم إشارته . ونسب الزّركشيّ هذا للإمام الشّافعيّ . وانظر مصطلح ( أيمانٌ ) .
إشارة القاضي إلى أحد الخصوم :
20 - لا يجوز للحاكم أن يعمل أعمالاً تسبّب التّهمة وسوء الظّنّ في مجلس الحكم ، ممّا يوهم أنّه يفضّله على خصمه ، كالإشارة لأحد الخصمين باليد ، أو بالعين أو بالرّأس ، لأنّ ذلك يسبّب انكساراً لقلب الخصم الآخر ، وقد يحمله ذلك على ترك الدّعوى واليأس من العدالة ، ممّا يترتّب عليه ضياع حقّه . وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء .
وقد روى عمر بن شبّة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أمّ سلمة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتلي بالقضاء بين المسلمين ، فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر » وفي روايةٍ : « فليسوّ بينهم في النّظر والإشارة والمجلس » .
إشارة المحتضر إلى الجاني عليه :
21 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يعتبر قول المحتضر : قتلني فلانٌ ، ولا يكون ذلك لوثاً ، لأنّه لا يقبل دعواه على الغير بالمال ، فلا يقبل ادّعاؤه عليه بالدّم ، ولأنّه مدّعٍ فلا يكون قوله حجّةً على غيره . لحديث : « لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم » فإذا لم تعتبر أقواله فلا تقبل إشارته من باب أولى . وذهب مالكٌ إلى أنّه إذا قال المحتضر الحرّ المسلم البالغ العاقل : قتلني فلانٌ عمداً ، ثمّ مات فإنّه يكون لوثاً ، فيثبت القصاص بعد حلف أولياء الدّم يمين القسامة . أمّا إذا قال : قتلني خطأً ، ففي ذلك عن الإمام مالكٍ روايتان : إحداهما : لا يقبل قوله ، لأنّه يتّهم على أنّه أراد إغناء ورثته .(34/3)
والثّانية : أنّ قوله يقبل ، وتكون معه القسامة ، ولا يتّهم ، لأنّه في حالٍ يصدّق فيه الكاذب ، ويتوب فيه الفاجر ، فمن تحقّق مصيره إلى الآخرة وأشرف على الموت فلا يتّهم في إراقة دم مسلمٍ ظلماً ، وغلبة الظّنّ في هذا ينزل منزلة غلبة الظّنّ في صدق الشّاهد ، والغالب من أحوال النّاس عند الموت التّوبة والاستغفار والنّدم على التّفريط . وتزوّده من دنياه قتل نفسٍ خلاف الظّاهر وغير المعتاد .
إشارة المحتضر إلى تصرّفاتٍ ماليّةٍ :
22 - إذا كان المحتضر قادراً على النّطق فلا تقبل إشارته ، أمّا إذا كان غير قادرٍ على النّطق فإشارته تقوم مقام عبارته . وفي حاشية ابن عابدين : إن لم يكن معتقل اللّسان لم تعتبر إشارته إلاّ في أربعٍ : الكفر ، والإسلام ، والنّسب ، والإفتاء .
وعند المالكيّة : أنّ الإشارة المفهمة كالنّطق مطلقاً . وعلى هذا فإنّ إشارة المحتضر إلى تصرّفٍ ماليٍّ كعبارته ، سواءٌ أكان قادراً على النّطق أم لا .(34/4)
إضجاعٌ *
التعريف :
1 - الإضجاع مصدر أضجع ، يقال : أضجعته إضجاعاً : وضعت جنبه بالأرض . وهو كذلك في الاصطلاح .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - الاضطجاع :
2 - الاضطجاع وضع الإنسان جنبه على الأرض بنفسه ، فهو لازمٌ ، والاضطجاع متعدٍّ . وعلى هذا يكون الفرق بينه وبين الإضجاع ، أنّ الإضجاع يقال فيمن ضجع نفسه . أمّا الإضجاع فإنّه يكون بفعل الغير له . والاضطجاع في السّجود أن يتضامّ فيه ولا يجافي بطنه عن فخذيه .
ب - استلقاءٌ :
3 - الاستلقاء : النّوم على القفا .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - يفصّل الفقهاء في ( الذّبائح ) حكم إضجاع الذّبيحة وإراحتها ، ويتّفقون على أنّ هذا مندوبٌ إليه ، لما ورد فيه من آثارٍ ، ولأنّ فيه إراحةً للذّبيحة وتخفيفاً عنها . كما يتكلّم الفقهاء على الإضجاع في الجنائز عند احتضار الشّخص ، وعند دفنه حيث يسنّ إضجاعه على جنبه الأيمن جهة القبلة ، وهذا موضع اتّفاقٍ بين الفقهاء ، لما ورد في ذلك من الآثار . ( ر : جنازةٌ ) .(35/1)
إعادةٌ *
التعريف :
1 - الإعادة تطلق في اللّغة على : إرجاع الشّيء إلى حاله الأوّل ، كما تطلق على فعل الشّيء مرّةً ثانيةً ، فمن أسماء اللّه تعالى " المعيد " - أي الّذي يعيد الخلق بعد الفناء ، وقوله تعالى { كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده } بهذا المعنى أيضاً .
والفقهاء غالباً ما يطلقون على إرجاع الشّيء إلى مكانه الأوّل لفظ ( الرّدّ ) فيقولون : ردّ الشّيء المسروق ، وردّ المغصوب ، وقد يقولون أيضاً : إعادة المسروق .
أمّا الإعادة بالمعنى الثّاني - وهو فعل الشّيء ثانيةً - فقد عرّفها الغزاليّ من الشّافعيّة : بأنّها " ما فعل في وقت الأداء ثانياً لخللٍ في الأوّل " .
وتعريف الحنفيّة كما ذكر ابن عابدين " الإعادة : فعل مثل الواجب في وقته لخللٍ غير الفساد " . أمّا الحنابلة فهي عندهم : فعل الشّيء مرّةً أخرى .
وقد عرّفها القرافيّ من المالكيّة بأنّها : إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدّم إيقاعها على خللٍ في الإجزاء ، كمن صلّى بدون ركنٍ ، أو في الكمال كمن صلّى منفرداً .
ولعلّ الأحسن من هذا ما عرّفها به بعضهم حيث قال : الإعادة فعل مثل الواجب في وقته لعذرٍ ليشمل نحو إعادة من صلّى منفرداً صلاته مع الجماعة . والكلام في هذا البحث ملحوظٌ فيه التعريف الأعمّ للإعادة وهو تعريف الحنابلة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّكرار :
2 - الفقهاء يستعملون كلمة " إعادةٌ " في إعادة التّصرّف مرّةً واحدةً ، ويستعملون كلمة " تكرارٌ " عندما تكون الإعادة مراراً .
ب - القضاء :
3 - المأمور به إمّا أن يكون لأدائه وقتٌ محدّدٌ ، كالصّلاة والحجّ ونحو ذلك ، وإمّا ألاّ يكون له وقتٌ محدّدٌ ، فالقضاء هو فعل المأمور به بعد خروج وقته المحدّد ، أمّا الإعادة : فهي فعل المأمور به ثانيةً في وقته إن كان له وقتٌ محدّدٌ ، أو في أيّ وقتٍ كان إن لم يكن له وقتٌ محدّدٌ .
ج - الاستئناف :
4 - الاستئناف لا يستعمل إلاّ في إعادة العمل أو التّصرّف من أوّله ، كاستئناف الوضوء ، أمّا الإعادة فإنّها تستعمل في إعادة التّصرّف من أوّله أو إعادة جزءٍ من أجزائه ، كإعادة غسل عضوٍ من أعضاء الوضوء .
الحكم التّكليفيّ :
5 - الإعادة إمّا أن تكون لخللٍ في الفعل الأوّل ، أو لغير خللٍ فيه :
أ - فإن كانت لخللٍ في الفعل الأوّل : فإنّ حكمها يختلف باختلاف هذا الخلل . فإن كان الخلل مفسداً للتّصرّف ، وكان التّصرّف واجباً وجبت إعادة هذا التّصرّف . كما إذا توضّأ وصلّى ثمّ علم أنّ الماء نجسٌ أعاد الوضوء والصّلاة .
أمّا إن كان التّصرّف غير واجبٍ ، وكان الخلل يمنع انعقاده أصلاً ، كفقد شرطٍ من شروط الانعقاد ، فلا يسمّى فعله مرّةً أخرى ( إعادةٌ ) لأنّه لم يوجد في الاعتبار الشّرعيّ .
أمّا إن كان الفعل غير واجبٍ ، وكان الشّروع فيه صحيحاً ، ثمّ طرأ عليه الخلل فأفسده ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادته ، بناءً على اختلافهم في اعتبار الشّروع ملزماً أو غير ملزمٍ . فمن قال : إنّ الشّروع ملزمٌ - كالحنفيّة والمالكيّة - فقد أوجب الإعادة ، ومن قال : إنّ الشّروع غير ملزمٍ - كالشّافعيّة والحنابلة - لم يوجب الإعادة ، كمن شرع في الصّلاة ثمّ ترك إحدى السّجدتين ، أو شرع في الصّيام ثمّ أفطر لعذرٍ أو لغير عذرٍ ، فقال الحنفيّة والمالكيّة : يعيد ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا إعادة عليه .
ومن استحبّ الإعادة منهم استحبّها للخروج من خلاف العلماء . وإن كان الخلل غير مفسدٍ للفعل ، وكان هذا الخلل يوجب الكراهة التّحريميّة ، فإعادة التّصرّف واجبةٌ ، وإن كان يوجب الكراهة التّنزيهيّة فإعادة التّصرّف مستحبّةٌ . فمن ترك الموالاة أو التّرتيب في الوضوء ، فالسّنّة أن يعيد عند من يقول : إنّهما سنّةٌ .
ب - وإن كانت الإعادة لغير خللٍ ، فهي لا تخلو من أن تكون لسببٍ مشروعٍ أو غير مشروعٍ . فإن كانت لسببٍ مشروعٍ كتحصيل الثّواب كانت مستحبّةً ، إن كانت الإعادة في ذلك مشروعةً ، كإعادة الوضوء الّذي تعبّد به لصلاةٍ يريد أداءها وإعادة الصّلاة الّتي صلاّها منفرداً بجماعةٍ .
وكما لو صلّى جماعةً في بيته ثمّ خرج إلى أحد المساجد الثّلاثة ( المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى ) فوجد النّاس يصلّونها جماعةً فأعادها معهم . أمّا إن صلاّها بجماعةٍ ، ثمّ رأى جماعةً أخرى يصلّونها في غير المساجد الثّلاثة ، ففي إعادتها معهم خلافٌ بين العلماء .
أمّا إن كانت لسببٍ غير مشروعٍ فتكره الإعادة ، كالأذان والإقامة فإنّهما لا يعادان بإعادة الصّلاة عند الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة .
أسباب الإعادة :
من أسباب الإعادة ما يلي :
أ - وقوع الفعل غير صحيحٍ لعدم توفّر شروط صحّته :
6 - كمن توضّأ وترك جزءاً يجب غسله من أعضاء الوضوء .
ومن توضّأ أو اغتسل بغير نيّةٍ عند من يشترط النّيّة لهما .
ومن رأوا أسودةً فظنّوها عدوّاً ، فصلّوا صلاة الخوف ، ثمّ تبيّن أنّها غير عدوٍّ .
ب - الشّكّ في وقوع الفعل :
7 - كمن نسي صلاةً من خمس صلواتٍ ، ولا يدري ما هي ، فإنّه يعيد الصّلوات الخمس احتياطاً ، لأنّ الشّكّ قد طرأ على أداء كلّ واحدةٍ منها .
ج - الإبطال بعد الوقوع :
8 - كإعادة ما أبطلته الرّدّة من العبادات ما دام سببها - أي سبب العبادة - باقياً عند المالكيّة والحنفيّة ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : الرّدّة لا تبطل الأعمال أبداً إلاّ إذا اتّصلت بالموت .(36/1)
وعلى هذا فإنّ من صلّى الظّهر ، ثمّ ارتدّ ، ثمّ أسلم قبل العصر ، وجب عليه إعادة الظّهر لأنّ سببه - وهو الوقت - ما زال باقياً ، ومن حجّ ثمّ ارتدّ ، ثمّ أسلم في العام نفسه ، أو بعد أعوامٍ وجب عليه إعادة الحجّ ، لأنّ سببه باقٍ وهو " البيت " .
د - زوال المانع :
9 - كإعادة الصّلاة بالوضوء لمن تيمّم - لوجود عدوٍّ يحول بينه وبين الماء - وجوباً عند الحنفيّة . وكإعادة المتيمّم الصّلاة استحباباً إذا وجد الماء في الوقت عند الحنابلة . وانظر ( التّيمّم ) .
وإذا كان المانع من أمرٍ ليس له بدلٌ ، كمن كان على بدنه نجاسةٌ ، وليس عنده ما يزيلها به ، أو كان في ثوبه نجاسةٌ وليس عنده غيره ، ولا ما يزيلها به ، فإنّه يصلّي فيه ولا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره عند الحنفيّة ، وقال غيرهم يعيد مطلقاً إذا زال المانع كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة عند كلامهم على شروط الصّلاة .
هـ - الافتيات على صاحب الحقّ :
10 - إذا كان لمسجدٍ أهلٌ معلومون ، فصلّى فيه غرباء بأذانٍ وإقامةٍ ، فلا يكره لأهله إعادة الأذان ، وإن صلّى فيه أهله بأذانٍ وإقامةٍ يكره لغير أهله إعادة الأذان فيه ، وإذا أذّن غير المؤذّن الرّاتب ثمّ حضر المؤذّن الرّاتب فله إعادة الأذان .
سقوط الواجب :
11 - إذا أعيد عملٌ لخللٍ غير مفسدٍ ، فهل يسقط ذلك الواجب بالفعل الأوّل أم بالفعل الثّاني ؟ . من الفقهاء من قال : إنّ الواجب يسقط بالفعل الثّاني ، لأنّه الفعل الكامل الخالي من الخلل . وهذا قول الشّعبيّ وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ ومذهب الحنفيّة ، كما قال ابن عابدين . واستدلّوا بحديث يزيد بن الأسود مرفوعاً : « إذا جئت إلى الصّلاة فوجدت النّاس فصلّ معهم ، وإن كنت قد صلّيت تكن لك نافلةً وهذه مكتوبةٌ » .
ومنهم من قال : إنّ الواجب يسقط بالفعل الأوّل لأنّه وقع صحيحاً غير باطلٍ ، ولكنّ فيه شيئاً من الخلل ، والإعادة شرعت لجبر هذا الخلل فيه . وهذا مرويٌّ عن عليٍّ ، وقول الثّوريّ وإسحاق والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بروايةٍ أخرى للحديث السّابق فيها : « إذا صلّيتما في رحالكما ، ثمّ أتيتما مسجد جماعةٍ ، فصلّيا معهم ، فإنّها لكم نافلةٌ » .
أمّا النّيّة في الإعادة : فقد قال ابن عابدين : ينوي بالفعل الثّاني الفرض - إن كان المعاد فرضاً لأنّ ما فعله أوّلاً هو الفرض ، فإعادته : فعله ثانيةً على الوجه نفسه .
أمّا على القول بأنّ الفرض يسقط بالفعل الثّاني فظاهرٌ .
وأمّا على القول بأنّ الفرض يسقط بالفعل الأوّل ، فإنّ المقصود من تكرار الفعل ثانيةً هو جبران نقصان الفعل الأوّل ، فالأوّل فرضٌ ناقصٌ ، والثّاني فرضٌ كاملٌ ، مثل الفعل الأوّل ذاتاً مع وصف الكمال ، ولو كان الفعل الثّاني نفلاً للزم أن تجب القراءة في الرّكعات الأربع للصّلاة المعادة ، وألاّ تشرع الجماعة فيها ، ولم يذكر الفقهاء شيئاً من هذا .
ولا يلزم من كون الصّلاة الثّانية فرضاً عدم سقوط الفرض بالأولى ، لأنّ المراد أنّها تكون فرضاً بعد الوقوع ، أمّا قبله فالفرض هو الأولى ، وحاصله توقّف الحكم بفرضيّة الأولى على عدم الإعادة ، وله نظائر : كسلام من عليه سجود السّهو يخرجه خروجاً موقوفاً ، وكفساد الصّلاة الوقتيّة مع تذكّر صلاةٍ فائتةٍ .(36/2)
إغماءٌ *
التعريف :
1 - الإغماء : مصدر ( أغمي على الرّجل ) مبنيٌّ للمفعول ، والإغماء مرضٌ يزيل القوى ويستر العقل ، وقيل : فتورٌ عارضٌ لا بمخدّرٍ يزيل عمل القوى .
ولا يخرج التعريف الاصطلاحيّ عن هذا .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّوم :
2 - عرّف الجرجانيّ النّوم بأنّه : حالةٌ طبيعيّةٌ تتعطّل معها القوى مع سلامتها .
فبينه وبين الإغماء اشتراكٌ واختلافٌ في تعطّل القوى ، ويختلفان في أنّ الإغماء من المرض ، والنّوم مع السّلامة .
ب - العته :
3 - العته : علّةٌ ناشئةٌ عن الذّات ، توجب خللاً في العقل ، فيصير صاحبه مختلط العقل ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، فالفرق بينه وبين الإغماء : أنّ الإغماء مؤقّتٌ ، والعته مستمرٌّ غالباً ، والإغماء يزيل القوى كلّها ، والعته يضعف القوى المدركة .
ج - الجنون :
4 - الجنون : مرضٌ يزيل العقل ، ويزيد القوى غالباً ، والفرق بينه وبين الإغماء أنّ الجنون يسلب العقل بخلاف الإغماء فإنّه يجعل من وقع به مغلوباً لا مسلوب العقل .
وهناك ألفاظٌ أخرى ذات صلةٍ بالإغماء ، كالسّكر والصّرع والغشي ، تنظر في مواطنها من أصول الفقه عند الكلام على عوارض الأهليّة ، ويتكلّم عنها الفقهاء في نواقض الوضوء والجنايات ، والطّلاق والبيع ونحوه من العقود .
أثر الإغماء في الأهليّة :
5 - الإغماء لا يؤثّر في أهليّة الوجوب لأنّ مناطها الإنسانيّة ، أمّا أهليّة الأداء فإنّه ينافيها ، لأنّ مدارها العقل ، وهو مغلوبٌ على عقله ، وتفصيله في الملحق الأصوليّ .
أثر الإغماء في العبادات البدنيّة :
أ - في الوضوء والتّيمّم :
6 - أجمع الفقهاء على أنّ الإغماء ناقضٌ للوضوء قياساً على النّوم ، بل هو أولى ، لأنّ النّائم إذا أوقظ استيقظ بخلاف المغمى عليه .
ونصّ الفقهاء على أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التّيمّم .
ب - أثر الإغماء في سقوط الصّلاة :
7 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وهو قولٌ عند الحنابلة ، إلى أنّ المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصّلاة إلاّ أن يفيق في جزءٍ من وقتها ، مستدلّين بأنّ أمّ المؤمنين « عائشة رضي الله عنها سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يغمى عليه فيترك الصّلاة ، فقال صلى الله عليه وسلم : ليس من ذلك قضاءٌ ، إلاّ أن يغمى عليه فيفيق في وقتها فيصلّيها » .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إن أغمي عليه خمس صلواتٍ قضاها ، وإن زادت سقط فرض القضاء في الكلّ ، لأنّ ذلك يدخل في التّكرار فأسقط القضاء كالجنون ، وقال محمّدٌ : يسقط القضاء إذا صارت الصّلوات ستّاً ودخل في السّابعة ، لأنّ ذلك هو الّذي يحصل به التّكرار . لكنّ أبا حنيفة وأبا يوسف أقاما الوقت مقام الصّلوات تيسيراً فتعتبر الزّيادة بالسّاعات .
وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى أنّ المغمى عليه يقضي جميع الصّلوات الّتي كانت في حال إغمائه ، مستدلّين بما روي أنّ عمّاراً غشي عليه أيّاماً لا يصلّي ، ثمّ استفاق بعد ثلاثٍ ، فقال ( أي عمّارٌ ) : هل صلّيت ؟ فقالوا : ما صلّيت منذ ثلاثٍ ، فقال : أعطوني وضوءاً فتوضّأ ثمّ صلّى تلك اللّيلة . وروى أبو مجلزٍ أنّ سمرة بن جندبٍ قال : المغمى عليه يترك الصّلاة يصلّي مع كلّ صلاةٍ صلاةً مثلها قال : قال عمران : زعم ، ولكن ليصلّهنّ جميعاً ، وروى الأثرم هذين الحديثين في سننه وهذا فعل الصّحابة وقولهم ، ولا يعرف لهم مخالفٌ فكان إجماعاً . ولأنّ الإغماء لا يسقط فرض الصّيام ، ولا يؤثّر في استحقاق الولاية على المغمى عليه فأشبه النّوم .
ج - أثر الإغماء في الصّيام :
8 - أجمع الفقهاء على أنّ الإغماء لا يسقط قضاء الصّيام ، فلو أغمي على شخصٍ جميع الشّهر ، ثمّ أفاق بعد مضيّه يلزمه القضاء إن تحقّق ذلك ، وهو نادرٌ والنّادر لا حكم له ، إلاّ عند الحسن البصريّ فإنّه يقول : سبب وجوب الأداء لم يتحقّق في حقّه لزوال عقله بالإغماء ، ووجوب القضاء يبتني على وجوب الأداء .
واستدلّ فقهاء المذاهب بأنّ الإغماء عذرٌ في تأخير الصّوم إلى زواله لا في إسقاطه ، لأنّ سقوطه يكون بزوال الأهليّة أو بالحرج ، ولا تزول الأهليّة به ولا يتحقّق الحرج به ، لأنّ الحرج إنّما يتحقّق فيما يكثر وجوده ، وامتداده في حقّ الصّوم نادرٌ ، لأنّه مانعٌ من الأكل والشّرب . وحياة الإنسان شهراً بدون الأكل والشّرب لا يتحقّق إلاّ نادراً فلا يصلح لبناء الحكم عليه .
9 - ومن نوى الصّوم من اللّيل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر فلم يفق حتّى غربت الشّمس ، فقد قال الشّافعيّة والحنابلة : لا يصحّ صومه لأنّ الصّوم هو الإمساك مع النّيّة . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يقول اللّه تعالى : كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي » فأضاف ترك الطّعام والشّراب إليه . فإذا كان مغمًى عليه فلا يضاف الإمساك إليه فلم يجزه . وقال أبو حنيفة : يصحّ صومه لأنّ النّيّة قد صحّت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحّة الصّوم كالنّوم .
ومن أغمي عليه بعد أن نوى الصّيام وأفاق لحظةً في النّهار أجزأه الصّوم ، أيّ لحظةٍ كانت ، اكتفاءً بالنّيّة مع الإفاقة في جزءٍ ، لأنّ الإغماء في الاستيلاء على العقل فوق النّوم ودون الجنون . فلو قيل : إنّ المستغرق منه لا يضرّ لألحق الأقوى بالأضعف . ولو قيل : إنّ اللّحظة منه تضرّ كالجنون لألحق الأضعف بالأقوى فتوسّط بين الأمرين . وقيل : إنّ الإفاقة في أيّ لحظةٍ كافيةٌ . وفي قولٍ ثانٍ للشّافعيّة : إنّ الإغماء يضرّ مطلقاً قلّ أو كثر .
د - أثره في الحجّ :(37/1)
10 - الإغماء كما تقدّم من عوارض الأهليّة . فالمغمى عليه لا يتأتّى منه أداء أفعال الحجّ ، ولكن هل يصحّ إحرام الغير عنه بدون إذنٍ منه ؟ وهل إذا أناب أحداً تقبل الإنابة ؟
قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ المغمى عليه لا يحرم عنه غيره ، لأنّه ليس بزائل العقل وبرؤه مرجوٌّ على القرب . ولو أيس من برئه بأن زاد إغماؤه على ثلاثة أيّامٍ فعند الشّافعيّة يحرم الوليّ عنه في المعتمد ، وقاسوا ذلك على أنّه ليس لأحدٍ أن يتصرّف في ماله وإن لم يبرأ .
ومن يرجى برؤه ليس لأحدٍ أن ينوب عنه ، وإن فعل لم يجزئه عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّه يرجو القدرة على الحجّ بنفسه ، فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن وقعت ، وفارق الميئوس من برئه ، لأنّه عاجزٌ على الإطلاق آيسٌ من القدرة على الأصل فأشبه الميّت . وعند أبي حنيفة أنّ من أغمي عليه فأهلّ عنه رفقاؤه جاز . وقال الصّاحبان : لا يجوز . ولو أمر إنساناً بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه ، أو نام فأحرم المأمور عنه صحّ بإجماع الحنفيّة ، حتّى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال الحجّ جاز . استدلّ الصّاحبان على الأوّل بأنّه لم يحرم بنفسه ولا أذن لغيره به وهذا لأنّه لم يصرّح بالإذن ، والدّلالة تقف على العلم وجواز الإذن به لا يعرفه كثيرٌ من الفقهاء فكيف يعرفه العوامّ ؟ بخلاف ما لو أمر غيره بذلك صريحاً . ولأبي حنيفة أنّه لمّا عاقد رفقاءه عقد الرّفقة فقد استعان بكلّ واحدٍ منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه ، والإحرام هو المقصود بهذا السّفر ، فكان الإذن به ثابتاً دلالةً ، والعلم ثابتٌ نظراً إلى الدّليل ، والحكم يدار عليه .
وعند المالكيّة أنّه لا يصحّ الإحرام عن المغمى . عليه ولو خيف فوات الحجّ ، لأنّه مظنّة عدم الطّول ثمّ إن أفاق في زمنٍ يدرك الوقوف فيه أحرم وأدرك ولا دم عليه في عدم إحرامه من الميقات .
11 - أمّا بالنّسبة للوقوف بعرفة ، فالكلّ مجمعٌ على أنّه لو أفاق المغمى عليه في زمن الوقوف ولو لحظةً أجزأه . وإن لم يفق من إغمائه إلاّ بعد الوقوف فمذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه فاته الحجّ في ذلك العام ، ولا عبرة بإحرام أصحابه عنه ووقوفهم في عرفة . وللشّافعيّة قولان في إجزاء وقوف المغمى عليه أو عدمه .
والحنفيّة يكتفون بالكينونة في محلّ الوقوف وزمنه مع سبق الإحرام ، فوقوف المغمى عليه مجزئٌ . أمّا أثر الإغماء على باقي أعمال الحجّ فينظر في الحجّ .
أثر الإغماء على الزّكاة :
12 - المغمى عليه بالغٌ عاقلٌ فتجب في ماله الزّكاة ، فإذا أغمي عليه بعد وجوبها فلا يتأتّى منه الأداء ، وعليه إذا أفاق قضاؤها ولو امتدّ به الإغماء ، إذ امتداده نادرٌ والنّادر لا حكم له .
أثر الإغماء في التّصرّفات القوليّة :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإغماء كالنّوم بل أشدّ منه في فوت الاختيار ، لأنّ النّوم يمكن إزالته بالتّنبيه بخلاف الإغماء . وتبطل عبادات النّائم في الطّلاق والإسلام والرّدّة والبيع والشّراء . فبطلانها بالإغماء أولى .
واستدلّوا على عدم وقوع طلاق المغمى عليه بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : « كلّ الطّلاق جائزٌ إلاّ طلاق المعتوه والمغلوب على عقله » وقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثةٍ ، عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ ، وعن المعتوه حتّى يعقل » ، وقد أجمعوا على أنّ الرّجل إذا طلّق في حال نومه لا طلاق له ، والمغمى عليه أشدّ حالاً من النّائم . وقال الإمام أحمد في المغمى عليه إذا طلّق فلمّا أفاق علم أنّه كان مغمًى عليه وهو ذاكرٌ لذلك قال : إذا كان ذاكراً لذلك فليس هو مغمًى عليه ، يجوز طلاقه ، ومثل ما ذكر كلّ تصرّفٍ قوليٍّ .
أثر الإغماء في عقود المعاوضة :
14 - كلّ تصرّفٍ قوليٍّ يصدر في حال الإغماء فهو باطلٌ ، لكن إذا تمّ التّصرّف في حال الصّحّة ثمّ طرأ الإغماء لا ينفسخ لتمامه في حالٍ تصحّ فيها . ولا تصحّ وصيّة المغمى عليه في حالة الإغماء المؤقّت ، ولا المغمى عليه الّذي يئس من إفاقته .
إغماء وليّ النّكاح :
15 - قال الشّافعيّة : إذا أغمي على وليّ النّكاح الأقرب فننتظر إفاقته إن كانت قريبةً كيومٍ ويومين وأكثر ، لأنّ من أصول مذهبهم عدم جواز تزويج الوليّ الأبعد مع جمع وجود الوليّ الأقرب ، وقيل : تنتقل الولاية إلى الأبعد .
قالوا : الأحسن في هذا ما قال إمام الحرمين : إن كانت مدّة الإغماء بحيث يعتبر فيها إذن الوليّ الغائب ذهاباً وإياباً انتظر وإلاّ قام الحاكم بالتّزويج . قال الزّركشيّ : لأنّه إذا زوّج الحاكم مع صحّة عبارة الغائب فمع تعذّر ذلك بإغمائه أولى .
إغماء القاضي :
16 - صرّح الشّافعيّة بأنّ القاضي إذا أغمي عليه فإنّه ينعزل عن ولاية القضاء ، وإذا أفاق لا تعود ولايته على الأصحّ ، ولا ينفذ قضاؤه فيما حكم فيه حال إغمائه ، وفي مقابل الأصحّ تعود ولايته إذا أفاق .
أمّا غير الشّافعيّة فإنّهم لم ينصّوا على ذلك صراحةً ، إلاّ أنّ مفهوم النّصوص عندهم تدلّ على أنّ القاضي لا ينعزل بالإغماء ، فقد جاء في ابن عابدين : لو فسق القاضي أو ارتدّ أو عمي ثمّ صلح وأبصر فهو على قضائه . وفي الشّرح الصّغير : لا يعزل القاضي إلاّ بالكفر فقط . وفي شرح منتهى الإرادات : يتعيّن عزل القاضي مع مرضٍ يمنعه من القضاء لدعاء الحاجة إلى إقامة غيره .
أثر الإغماء في التّبرّعات :(37/2)
17 - سبق بيان أنّ التّصرّفات القوليّة كلّها لا تصحّ من المغمى عليه ، فلا تصحّ هبته ولا صدقته ولا وقفه وما إلى ذلك ، لأنّ المغمى عليه مغلوب العقل فلا يتوفّر فيه شرط صحّة التّصرّف . وهذا بإجماع الفقهاء ، ولأنّ التّصرّفات يشترط فيها كمال العقل والمغمى عليه ليس كذلك .
أثر الإغماء في الجنايات :
18 - تقدّم أنّ الإغماء عارضٌ وقتيٌّ تسقط فيه المؤاخذة وفهم الخطاب ، فإنّ حالة المغمى عليه هي سترٌ للعقل ينشأ عنه فقدٌ للوعي وفقدٌ للاختيار ، لذلك كان سبباً من أسباب عدم المؤاخذة بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى حسب البيان السّابق .
أمّا بالنّسبة لحقوق العباد فإنّها لا تسقط . فإذا وقعت منه جرائم أخذ بها . فإذا انقلب النّائم على غيره فمات فإنّه يعامل معاملة المخطئ وتجب الدّية . وإذا أتلف مال إنسانٍ وهو مغمًى عليه وجب عليه ضمان ما أتلف .
هل يعتبر إغماء المعقود عليه عيباً ؟
19 – نصّ الشّافعيّة على أنّ الإغماء إذا تبيّن في الزّوج أو الزّوجة عقيب عقد النّكاح يبيح لكلٍّ من الزّوجين فسخ النّكاح إذا قرّر الأطبّاء اليأس من الإفاقة ، وعلّته أنّ الإغماء المستديم يمنع من الاستمتاع المقصود من النّكاح .
قال الإمام النّوويّ : قد أجمعوا على ثبوت الخيار في البيع بهذه الصّفات ( الجنون مطبقاً أو متقطّعاً ... ) ومثله الإغماء الميئوس منه بقول الأطبّاء . وإذا كان الإغماء الميئوس منه عيباً يفسخ به النّكاح ويردّ به المبيع فهو في الإجارة أولى . هذا ما ذكر الشّافعيّة ، وقواعد غيرهم لا تأباه .(37/3)
إفاضةٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإفاضة في اللّغة : الكثرة والإسالة ، يقال : أفاض الإناء : إذا ملأه حتّى فاض ، أي كثر ماؤه وسال .
ومن معانيها : دفع النّاس من المكان ، يقال : أفاض النّاس من عرفاتٍ : إذا دفعوا منها ، وكلّ دفعةٍ إفاضةٌ . وتأتي في الاصطلاح بهذين المعنيين موافقةً للمعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - تأتي إفاضة الماء بمعنى كثرته مع الإسالة في رفع الحدث الأصغر في الوضوء ، والحدث الأكبر في الغسل من الجنابة والحيض والنّفاس والموت وعند الإسلام ، فتكون الإسالة واجبةً والكثرة مندوبةً ما لم يخرج إلى حدّ السّرف ، كما تجب في تطهير النّجاسات . مثل إزالة النّجاسة عن المكان أو الجسد أو الثّوب ، ( ر : غسلٌ ، وضوءٌ ، نجاسةٌ ) .
3 - وتأتي الإفاضة بالمعنى الثّاني ، كالإفاضة من عرفة ومن مزدلفة ، والإفاضة من منًى ( ر : حجٌّ ) . وتكون هذه الإفاضة صحيحةً شرعاً إذا وافقت وقتها ، وتكون سنّةً إذا وافقت فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم« مثل الإفاضة من عرفة بعد غروب شمس عرفة ، والإفاضة من مزدلفة بعد صلاة الفجر ».
وتكون جائزةً مثل الإفاضة من منًى في اليوم الثّاني للرّمي للمتعجّل ( ر : حجٌّ ) .
4 - كما يضاف طواف الرّكن إلى الإفاضة فيسمّى " طواف الإفاضة " وحكمه أنّه ركنٌ في الحجّ .(38/1)
إفاقةٌ *
التعريف :
1 - يقال لغةً : أفاق السّكران إذا صحا ، وأفاق من مرضه رجعت إليه الصّحّة ، وأفاق عنه النّعاس أقلع . وعند الفقهاء تستعمل الإفاقة بمعنى رجوع عقل الإنسان إليه بعد غيابه عنه بسبب الجنون ، أو الإغماء ، أو السّكر ، أو النّوم .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - يتناول الفقهاء الإفاقة أثناء الكلام عن الجنون ، والإغماء ، والسّكر ، والنّوم ، ويبنون على الإفاقة من هذه العوارض أحكاماً منها ما يلي :
التّطهّر عند الإفاقة :
3 - لا خلاف في انتقاض الوضوء بالجنون أو الإغماء الأصليّ أو العارض ، فإذا أفاق عليه الوضوء للصّلاة ونحوها ، وذكر أغلب الفقهاء أنّه يستحبّ اغتسال المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا ، قال ابن المنذر :« ثبت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء ». الصّلاة بعد الإفاقة :
4 - ذهب الجمهور إلى أنّه إذا أفاق المجنون لا يكلّف قضاء ما فاته حال جنونه ، ووافق الحنفيّة الجمهور في الجنون الأصليّ ( الممتدّ بعد البلوغ ) أمّا الجنون العارض فكالإغماء عندهم .
وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصّلوات الّتي لم يكن مفيقاً في جزءٍ من وقتها ، وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا زاد الإغماء على يومٍ وليلةٍ تسقط به الصّلوات ، وذهب الحنابلة إلى أنّه لا تسقط الصّلاة بالإغماء قياساً على النّوم ، وبالإفاقة من النّوم يطالب بما فاته من صلواتٍ بالغةً ما بلغت .
ولا يخالف أحدٌ من الفقهاء في وجوب الصّلاة الّتي حدثت الإفاقة في وقتها المحدّد لها شرعاً ، وقد بقي من الوقت ما يسع تلك الصّلاة ، وسواءٌ أكانت الإفاقة عن جنونٍ أم غيره ، وذلك لحديث : « رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ ، وعن المعتوه حتّى يعقل » فإن ضاق الوقت عنها كلّها ، فإنّ من الفقهاء من يقول بوجوبها إن بقي من الوقت قدر تكبيرةٍ ، ومنهم من يقول بأنّها تجب إن بقي من الوقت ما يدرك به ركعةً . وهل تسقط تلك الصّلاة لو صلّى صلاةً فائتةً ، وخرج الوقت أم لا ؟ تفصيل ذلك يذكره الفقهاء في ( أوقات الصّلاة ) .
أثر الإفاقة في الصّوم :
5 - من الفقهاء من أوجب صيام الشّهر كلّه إن أفاق المجنون في جزءٍ منه ، ومنهم من لا يجعل للإفاقة أثراً إلاّ في اليوم الّذي حدثت فيه ، أمّا اليوم الّذي لم تحدث فيه إفاقةٌ فإنّه يسقط صومه عند هؤلاء . وذهب البعض إلى أنّ الشّهر يسقط عنه إن كانت إفاقته في ليلةٍ من أوّله أو وسطه أو في آخر يومٍ من رمضان بعد الزّوال .
وعند المالكيّة يقضي المكلّف وإن جنّ سنين عديدةً بعد الإفاقة . يرجع إلى تفصيل أحكام ذلك تحت عنوان ( صومٌ ) . ولو نوى الصّوم ثمّ جنّ أو أغمي عليه ثمّ أفاق في أثناء اليوم فهل يصحّ صومه أو لا ؟ خلافٌ بين الفقهاء ، منهم من يقول بالصّحّة إن كانت الإفاقة في أوّل النّهار ، ومنهم من يشترط للصّحّة أن تكون الإفاقة في طرفي النّهار ، ومنهم من يقول بالصّحّة متى وقعت الإفاقة أثناء اليوم ، فإن لم ينعقد صيامه ثمّ أفاق أثناء النّهار هل يندب له الإمساك أم لا ؟ فيه خلافٌ بين الفقهاء يذكر في ( الصّوم ) .
تأخير حدّ الشّرب للإفاقة :
6 - أجمع الأئمّة الأربعة على أنّه لا يقام الحدّ على من ثبت عليه حدّ الشّرب إلاّ بعد الإفاقة تحصيلاً لمقصود الزّجر ، ولأنّ غيبوبة العقل تخفّف الألم . فإن أقامه الإمام حال السّكر حرم ويجزئه ، وتفصيل ذلك في ( حدّ الشّرب ) .
إفاقة المحجور عليه :
7 - لو أفاق المجنون المحجور عليه فإنّ الحجر ينفكّ بالإفاقة ، ثمّ اختلف هل يحتاج إلى فكّ قاضٍ ، وتفصيله في الحجر .
الإفاقة في الحجّ :
8 - بالإضافة إلى ما تقدّم ، يتكلّم الفقهاء عن الإفاقة في الحجّ ممّن أحرم ثمّ أغمي عليه ، وأدّوا به بقيّة المناسك ، ثمّ أفاق قبل تمام الحجّ أو بعده . وتفصيل ذلك في ( إحرامٌ ) .
تزويج المجنون إذا أفاق :
9 - هل يزوّج الوليّ مولّيه المجنون إن كان جنونه منقطعاً في وقت الإفاقة أم لا . انظر ( نكاحٌ )(39/1)
إفرادٌ *
التعريف :
1 - الإفراد لغةً : مصدر أفرد ، والفرد ما كان وحده ، وأفردته : جعلته واحداً ، وعدّدت الدّراهم أفراداً أي : واحداً واحداً ، وأفردت الحجّ عن العمرة ، فعلت كلّ واحدٍ على حدةٍ . وقد استعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ في مواطن متعدّدةٍ ستأتي :
أ - الإفراد في البيع :
2 - قال الحطّاب : لا يجوز أن يفرد الحنطة في سنبلها بالبيع دون السّنبل .
ب - الإفراد في الوصيّة :
3 - جاء في فتح القدير : يجوز إفراد الأمّ بالوصيّة وكذلك يجوز إفراد الحمل .
ج - الإفراد في الأكل :
4 - جاء في الآداب الشّرعيّة لابن مفلحٍ : يكره القران في التّمر ، وعلى قياسه كلّ ما العادة جاريةٌ بتناوله أفراداً ، وفي الصّحيحين عن ابن عمر قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن القران إلاّ أن يستأذن الرّجل أخاه » .
د - إفراد الحجّ :
5 - هو أن يهلّ بالحجّ مفرداً .
وسيكون البحث هنا خاصّاً بإفراد الحجّ . أمّا المواضع الأخرى فتنظر في مواطنها .
الألفاظ ذات الصّلة :
6 - تقدّم أنّ الإفراد : هو أن يهلّ بالحجّ مفرداً عن العمرة .
أمّا القران : فهو أن يحرم بالعمرة والحجّ معاً فيجمع بينهما في إحرامه ، أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل الطّواف لها .
وأمّا التّمتّع : فهو أن يهلّ بعمرةٍ مفردةٍ من الميقات في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه . وسيأتي ما يفترق به الإفراد عن كلٍّ من التّمتّع والقران .
المفاضلة بين كلٍّ من الإفراد والقران والتّمتّع :
7 - اختلف الفقهاء في الإفراد ، والقران ، والتّمتّع أيّها أفضل ، والاتّجاهات في ذلك كالآتي :
أ - الإفراد أفضل عند المالكيّة والشّافعيّة ، لكنّ أفضليّته عند الشّافعيّة ، وفي قولٍ عند المالكيّة إن اعتمر في نفس العام بعد أداء الحجّ ، ولذلك يقول الشّافعيّة إن لم يعتمر في نفس العام كان الإفراد مكروهاً . واستدلّ القائلون بأفضليّة الإفراد بما صحّ عن جابرٍ وعائشة وابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ » ، ثمّ بالإجماع على أنّه لا كراهة فيه ، وأنّ المفرد لم يربح إحراماً من الميقات ( بالاستغناء عن الرّجوع ثانيةً للإحرام ) ولا ربح استباحة المحظورات .
ب - القول الثّاني : أنّ القران أفضل : وذلك عند الحنفيّة ، وفي قولٍ للإمام أحمد أنّه إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسق الهدي فالتّمتّع أفضل . واستدلّ الحنفيّة على أفضليّة القران بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يا آل محمّدٍ : أهّلوا بحجّةٍ وعمرةٍ معاً » ولأنّ في القران جمعاً بين العبادتين . ويلي القران في الأفضليّة عند الحنفيّة التّمتّع ثمّ الإفراد ، وهذا في ظاهر الرّواية ، لأنّ في التّمتّع جمعاً بين العبادتين فأشبه القران ، ثمّ فيه زيادة نسكٍ وهي إراقة الدّم .
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنّه يلي القران الإفراد ثمّ التّمتّع ، لأنّ المتمتّع سفره واقعٌ لعمرته والمفرد سفره واقعٌ لحجّته . ووافقه في ذلك أشهب من المالكيّة .
ج - التّمتّع أفضل : وهذا عند الحنابلة وفي قولٍ عند الشّافعيّة والمالكيّة ، ويلي التّمتّع عند الحنابلة الإفراد ثمّ القران . واستدلّ الحنابلة على أفضليّة التّمتّع بما روى ابن عبّاسٍ وجابرٌ وأبو موسى وعائشة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لمّا طافوا بالبيت أن يحلّوا ويجعلوها عمرةً » فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ، ولا ينقلهم إلاّ إلى الأفضل ، ولأنّ المتمتّع يجتمع له الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسّهولة مع زيادة نسكٍ فكان ذلك أولى .
8- وقد ذكر الرّمليّ في نهاية المحتاج أنّ منشأ الخلاف اختلاف الرّواة في إحرامه صلى الله عليه وسلم لأنّه صحّ عن جابرٍ وعائشة وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم « أنّه صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ » ، وعن أنسٍ « أنّه قرن » ، وعن ابن عمر « أنّه تمتّع » ، ثمّ قال : إنّ الصّواب الّذي نعتقده أنّه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ ثمّ أدخل عليه العمرة ، وخصّ بجوازه في تلك السّنة للحاجة .
وبهذا يسهل الجمع بين الرّوايات ، فعمدة رواة الإفراد أوّل الإحرام ، ورواة القران آخره ، ومن روى التّمتّع أراد التّمتّع اللّغويّ وهو الانتفاع ، وقد انتفع بالاكتفاء بفعلٍ واحدٍ ، ويؤيّد ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السّنة عمرةً مفردةً ، ولو جعلت حجّته مفردةً لكان غير معتمرٍ في تلك السّنة ، ولم يقل أحدٌ إنّ الحجّ وحده أفضل من القران فانتظمت الرّوايات في حجّته .
حالة وجوب الإفراد ( وجوبه في حقّ المكّيّ ) :
9 - اختلف الفقهاء بالنّسبة للمكّيّ ومن في حكمه هل له تمتّعٌ وقرانٌ ، أم ليس له إلاّ الإفراد خاصّةً ؟ فيرى الجمهور أنّ لأهل مكّة المتعة والقران مثل الآفاقيّ ، ولأنّ التّمتّع الّذي ورد في الآية أحد الأنساك الثّلاثة ، فصحّ من المكّيّ كالنّسكين الآخرين ، ولأنّ حقيقة التّمتّع هو أن يعتمر في أشهر الحجّ ثمّ يحجّ من عامه ، وهذا موجودٌ في المكّيّ .
ويرى الحنفيّة أنّ أهل مكّة ليس لهم تمتّعٌ ولا قرانٌ ، وإنّما لهم الإفراد خاصّةً ، لأنّ شرعهما للتّرفّه بإسقاط إحدى السّفرتين وهذا في حقّ الآفاقيّ .
10 - واختلف الفقهاء أيضاً في حاضري المسجد الحرام . فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّهم أهل الحرم ومن بينه وبين مكّة دون مسافة القصر . فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين . وذهب الحنفيّة إلى أنّهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكّة . وذهب المالكيّة إلى أنّهم أهل مكّة وأهل ذي طوًى .(40/1)
وفي ذلك فروعٌ كثيرةٌ ( ر : حجٌّ - إحرامٌ - ميقاتٌ - تمتّعٌ ) .
نيّة الإفراد :
11 - ويختلف الفقهاء فيما ينعقد به إحرام المفرد : فعند الشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة أنّ الإحرام ينعقد بمجرّد النّيّة مع استحباب التّلفّظ بما أحرم به فيقول : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي وتقبّله منّي . وفي قولٍ للشّافعيّة أنّ الإطلاق أولى ، لأنّه ربّما حصل عارضٌ من مرضٍ أو غيره فلا يتمكّن من صرفه إلى ما لا يخاف فوته ، فإن أحرم إحراماً مطلقاً في أشهر الحجّ صرفه بالنّيّة - لا باللّفظ - إلى ما شاء من النّسكين أو إليهما معاً إن كان الوقت صالحاً لهما . وعند الحنفيّة لا ينعقد الإحرام إلاّ بأمرين : النّيّة والتّلبية ، ولا يصير شارعاً في الإحرام بمجرّد النّيّة ما لم يأت بالتّلبية ، لأنّ التّلبية في الحجّ كتكبيرة الإحرام في الصّلاة . وفي قولٍ عند المالكيّة : ينعقد بالنّيّة مع قولٍ كالتّلبية والإهلال ، أو فعلٍ كالتّوجّه في الطّريق والتّجرّد من المخيط .
على أنّ الّذي ذكر لا يختصّ بالإفراد وحده ، وإنّما ينطبق على القران والتّمتّع ، إذ لا بدّ في أيّ نسكٍ من هذه الأنساك الثّلاثة عند الإحرام بأيٍّ منها من النّيّة على رأي الجمهور ، أو النّيّة والتّلبية على رأي أبي حنيفة . ( ر : إحرامٌ - قرانٌ - تمتّعٌ ) .
التّلبية في الإفراد :
12 - التّلبية في الحجّ على اختلاف حكمها من أنّها سنّةٌ أو واجبةٌ تستوي كيفيّتها والبدء بها بالنّسبة للمحرم بأيّ نسكٍ من الأنساك الثّلاثة . أمّا قطع التّلبية فيكون المتمتّع والمفرد والقارن بالنّسبة لقطعها سواءً . فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يقطع التّلبية عند ابتداء الرّمي . وعند المالكيّة يقطعها إذا وصل لمصلّى عرفة بعد الزّوال ، وإن كان قد وصل قبل الزّوال لبّى إلى الزّوال ، وإن زالت الشّمس قبل الوصول لبّى إلى الوصول . وهناك تفريعاتٌ كثيرةٌ بالنّسبة للتّلبية . ( ر : تلبيةٌ ) .
ما يفترق به المفرد عن المتمتّع والقارن :
أ - الطّواف بالنّسبة للمفرد :
13 - الطّواف في الحجّ ثلاثة أنواعٍ : طواف القدوم إلى مكّة ، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النّحر ، وطواف الوداع . والفرض من ذلك هو طواف الإفاضة ، ويسمّى طواف الزّيارة أو الفرض أو الرّكن ، وما عدا ذلك فهو سنّةٌ أو واجبٌ ينجبر بالدّم على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك ( ر : طوافٌ ) .
والفرض على المفرد من هذه الأنواع هو طواف الإفاضة فقط ، لأنّه الرّكن ، فلا يجب عليه طواف القدوم ، بل يطالب به على سبيل السّنّيّة .
ب - عدم وجوب الدّم على المفرد :
14 - لا يجب على المفرد هديٌ لإحرامه بالحجّ مفرداً بخلاف القارن والمتمتّع فإنّ عليهما الهدي ، لقوله تعالى : { فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي } والقارن كالمتمتّع ، لإحرامه بالنّسكين . إلاّ أنّه يستحبّ للمفرد أن يهدي ويكون تطوّعاً .
ثمّ إنّ جزاء الصّيد وفدية الأذى بالنّسبة للمفرد والقارن والمتمتّع سواءٌ عند الجمهور . ( ر : دمٌ - هديٌ - كفّارةٌ - قرانٌ - تمتّعٌ ) .(40/2)
إفسادٌ *
التعريف :
1 - الإفساد لغةً : ضدّ الإصلاح ، وهو جعل الشّيء فاسداً خارجاً عمّا ينبغي أن يكون عليه . وشرعاً : جعل الشّيء فاسداً ، سواءٌ وجد صحيحاً ثمّ طرأ عليه الفساد - كما لو انعقد الحجّ صحيحاً ثمّ طرأ عليه ما يفسده - أو وجد الفساد مع العقد ، كبيع الطّعام قبل قبضه . وقد فرّق الحنفيّة بين الإفساد والإبطال تبعاً لتفريقهم بين الفاسد والباطل ، فقالوا : الفاسد ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ، والباطل ما ليس مشروعاً بأصله ولا بوصفه . أمّا غير الحنفيّة فالإفساد والإبطال عندهم بمعنًى واحدٍ ، وقد وافقهم الحنفيّة في العبادات . ولبعض المذاهب تفرقةٌ بين الباطل والفاسد في بعض الأبواب : كالحجّ ، والخلع .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - الإتلاف :
2 - الإتلاف في اللّغة : بمعنى الإهلاك يقال : أتلف الشّيء إذا أفناه وأهلكه ، وهو في الشّرع بهذا المعنى ، يقول الكاسانيّ : إتلاف الشّيء إخراجه من أن يكون منتفعاً به منفعةً مطلوبةً منه عادةً . فالإفساد أعمّ من الإتلاف ، فإنّهما يجتمعان في الأمور الحسّيّة ، وينفرد الإفساد في التّصرّفات القوليّة .
ب - الإلغاء :
3 - الإلغاء من معانيه : إبطال العمل بالحكم ، وإسقاطه ، وقد ألغى ابن عبّاسٍ طلاق المكره ، أي أبطله وأسقطه . ويستعمل الأصوليّون الإلغاء في تقسيم العلّة بمعنى عدم تأثير الوصف في الحكم ، وهو المناسب الملغى عندهم ، كما يستعملون الإلغاء في إهدار أثر التّصرّف من فاقد الأهليّة .
ج - التّوقّف :
4 - العقد الموقوف ضدّ النّافذ ، وهو ما توقّف نفاذه على الإجازة من مالكها ، كبيع الفضوليّ . فإنّه يكون بهذا المعنى جائزاً في الجملة ، بخلاف الفاسد ، فإنّه غير مشروعٍ .
الحكم التّكليفيّ :
5 - المقرّر شرعاً أنّ العبادة بعد الفراغ منها صحيحةٌ ، لا يلحقها الإفساد ضرورة أنّ الواقع يستحيل رفعه ، إلاّ بأسبابٍ يصار إليها بالدّليل كالرّدّة ، فإنّها تفسد الأعمال الصّالحة والعبادات ، كما أنّ الإسلام يهدم ما قبله والهجرة تهدم ما قبلها ، وكذلك التّوبة والحجّ المبرور . أمّا بعد الشّروع في العبادة وقبل الفراغ منها ، فيحرم إفساد الفرض بعد التّلبّس به دون عذرٍ شرعيٍّ ، وكذلك النّفل عند الحنفيّة والمالكيّة ، لقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } ولهذا يجب إعادته . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيكره عندهم إفساد النّافلة بعد الشّروع فيها ولا إعادة إن أفسد النّافلة المطلقة ، عدا الحجّ والعمرة فيحرم إفسادهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، وفي روايةٍ أخرى عن أحمد أنّهما كسائر التّطوّعات .
أمّا التّصرّفات اللاّزمة فلا يرد عليها الإفساد بعد نفاذها . إلاّ أنّه يجوز الفسخ برضا العاقدين كما في الإقالة ، وفي العقود غير اللاّزمة من الجانبين يصحّ لكلّ واحدٍ منهما إفسادها متى شاء ، أمّا اللاّزمة من جانبٍ واحدٍ ، فلا يجوز إفسادها ممّن هي لازمةٌ في حقّه ويجوز للآخر . وفي ذلك تفصيلٌ يرجع إليه في تلك العقود والتّصرّفات .
أثر الإفساد في العبادات :
6 - من شرع في عبادةٍ مفروضةٍ فرضاً عينيّاً أو كفائيّاً ، كالصّلاة والصّوم ، فإنّه يجب عليه القيام بها على الوجه المشروع باستيفاء أركانها وشرائطها حتّى تبرأ الذّمّة ، فإذا أفسدها فعليه أداؤها في الوقت ، أمّا بعده فعليه فعلها تامّةٌ ، كما لو صلّى مسافرٌ خلف مقيمٍ ثمّ أفسد صلاته لزمه قضاؤها تامّةً ، لأنّها لا تبرئ الذّمّة بعد الفساد بلا خلافٍ . كما لا يجب المضيّ في فاسدها أو باطلها في الجملة ، لأنّ فاسد العبادات لا يلحق بصحيحها إلاّ في الحجّ والعمرة ، فإنّه يمضي في فاسدهما وعليه القضاء . وهذا مخالفٌ لسائر العبادات حيث إنّ العبادة الفاسدة ينقطع حكمها ولا يبقى شيءٌ من عهدها .
أمّا ما شرع فيه من التّطوّع فإنّه يجب إتمامه ، وإذا أفسده يقضيه وجوباً ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد قالوا : يستحبّ إتمام النّفل الّذي شرع فيه ، كما يستحبّ قضاء ما أفسده بعد الشّروع فيه من النّوافل ، وهذا في غير التّطوّع بالحجّ والعمرة ، حيث يجب إتمامهما إذا شرع فيهما . ولو وقع منه مفسدٌ لهما ، يجب عليه قضاؤهما حينئذٍ مع الجزاء اللاّزم في ذمّته على ما سبق . وينظر تفصيل ذلك في ( الإحرام ، والحجّ ) .
إفساد الصّوم :
7 - أجمع العلماء على أنّ من جامع أو استمنى أو طعم أو شرب عن قصدٍ ، مع ذكر الصّوم في نهاره فقد أفسد صومه ، لقوله تعالى : { فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب اللّه لكم ، وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر }
وقد اختلفوا في مفسداتٍ أخرى للصّوم ، منها ما يرد إلى الجوف من غير منفذ الطّعام والشّراب مثل الحقنة ، ومنها ما يرد إلى باطن الأعضاء ولا يرد الجوف ، مثل أن يرد الدّماغ ولا يرد المعدة . وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذّي على غير المغذّي . فمن رأى أنّ المقصود بالصّوم معنًى معقولٌ لم يلحق المغذّي بغير المغذّي ، ومن رأى أنّها عبادةٌ غير معقولةٍ ، وأنّ المقصود منها إنّما هو الإمساك فقط عمّا يرد الجوف ، سوّى بين المغذّي وغيره . ر : ( احتقانٌ ) ( وصومٌ ) .(41/1)
8 - واختلفوا في الحجامة والقيء . فأمّا الحجامة فقد رأى أحمد وداود والأوزاعيّ وإسحاق بن راهويه أنّها تفسد الصّوم ، وقال المالكيّة والشّافعيّة بالكراهة ، وقال الحنفيّة بعدم الإفساد . والسّبب في ذلك هو تعارض الآثار الواردة في ذلك . وأمّا القيء فالجمهور على أنّ من ذرعه القيء فليس بمفطرٍ ، وأنّ من استقاء فقاء فإنّه يفسد صومه . وفي الموضوع تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إلى مصطلح : ( صومٌ ) ( وقيءٌ ) .
نيّة إفساد العبادة :
9 - نيّة الإفساد يختلف أثرها صحّةً وبطلاناً عند العلماء باختلاف العبادات والأفعال والأحوال . فإذا نوى إفساد الإيمان أو قطعه ، صار مرتدّاً في الحال والعياذ باللّه ، وإن نوى إفساد الصّلاة بعد الفراغ منها لم تبطل ، وكذلك سائر العبادات ، وإن نوى قطع الصّلاة في أثنائها بطلت بلا خلافٍ ، لأنّها شبيهةٌ بالإيمان ، ولو نوى قطع السّفر بالإقامة صار مقيماً . أمّا إذا نوى قطع الصّيام بالأكل أو الجماع في نهاره ، فإنّه لا يفسد صومه حتّى يأكل أو يجامع .
ولو نوى قطع الحجّ أو العمرة لم يبطلا بلا خلافٍ ، لأنّه لا يخرج منهما بالإفساد ، فلا يخرج بالأولى بنيّة الإفساد أو الإبطال . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( نيّةٌ ) وإلى مواطن تلك العبادات .
أثر الشّروط الفاسدة في إفساد العقد :
10 - إفساد العقد بالشّروط الفاسدة يرجع إلى ما يسبّبه من غررٍ أو رباً أو نقصٍ في الملك ، أو اشتراط أمرٍ محظورٍ أو لا يقتضيه العقد ، وفيه منفعةٌ لأحد العاقدين . والعقود عند اقترانها بهذه الشّروط : نوعان :
الأوّل : عقودٌ تفسد عند اقترانها بها ،
والثّاني : عقودٌ تصحّ ، ويسقط الشّرط ، وعلى هذا اتّفقت المذاهب الأربعة .
وقد اختلفت المذاهب في الأثر النّاشئ عن الشّروط : فعند الحنفيّة ، كلّ تصرّفٍ لا يكون الغرض منه مبادلة مالٍ بمالٍ ، لا يفسد بالشّروط الفاسدة ، وما عدا ذلك يعتريه الفساد . فالّذي يفسد بالشّروط الفاسدة مثل : البيع ، والقسمة ، والإجارة ، والّذي لا يفسد مثل : النّكاح والقرض ، والهبة ، والوقف ، والوصيّة .
وكذلك الشّافعيّة ، إذ يفسد العقد عندهم بالشّرط في الجملة ، وعند المالكيّة اشتراط أمرٍ محظورٍ ، أو أمرٍ يؤدّي إلى غررٍ فاحشٍ ، يؤدّي إلى فساد العمد ، فالأمر المحظور مثل : ما إذا اشترى داراً واشترط اتّخاذها مجمعاً للفساد . فالشّرط حرامٌ والبيع فاسدٌ . والغرر الفاحش مثل : ما إذا باع داراً واشترط أن يكون ثمنها يكفيه للنّفقة طول حياته ، فإنّه لا تدرى نفقته ولا كم يعيش .
وخالف الحنابلة فقالوا : هذه الشّروط المحرّمة أو تلك الّتي تؤدّي إلى غررٍ فاحشٍ ، لا تؤدّي إلى إفساد العقد ، وإنّما تلغى ، ويصحّ العقد . أمّا الشّروط الّتي تؤدّي إلى إفساد العقد فهي ، اشتراط عقدٍ في عقدٍ ، أو شرطين في بيعٍ ، أو اشتراط ما ينافي مقصود العقد . مثل : ما إذا اشترط أحد المتبايعين على الآخر عقداً آخر كشرطٍ للبيع ، كأن يقول : بعتك هذه الدّار على أن تبيعني هذه الفرس . فهذا اشتراط عقدٍ في عقدٍ ، ومثل : ما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع ، وكذلك إن شرط أنّ الجارية المبيعة لا تحمل ، أو تضع الولد في وقتٍ بعينه . فهذا اشتراطٌ ينافي مقصود العقد .
إفساد النّكاح :
11 - إفساد النّكاح بعد وجوده صحيحاً لا يسقط حقّ المرأة في الصّداق إن كان بعد الدّخول اتّفاقاً ، أمّا قبل الدّخول فإنّه لا يسقط حقّها في نصف المهر ، إذا وقع الإفساد من جهته ، كردّته . أمّا لو وقع إفساد النّكاح من جهتها ، فلا مهر لها ولا نفقة ، لتسبّبها في إفساد النّكاح الّذي هو موجبٌ للمهر . ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( نكاحٌ ) ( ورضاعٌ ) . أثر الإفساد في التّوارث بين الزّوجين :
12 - إذا وقعت الفرقة بإفساد النّكاح بغير طلاقٍ انتفى التّوارث عند موت أحدهما ، أمّا ما كانت الفرقة فيه بطلاقٍ فإنّه يثبت فيه التّوارث في بعض الأحوال ، كما لو طلّقها في مرض الموت فارّاً من توريثها .
إفساد الزّوجة على زوجها :
13 - يحرم إفساد المرأة على زوجها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من خبّب زوجة امرئٍ أو مملوكه فليس منّا » فمن أفسد زوجة امرئٍ أي : أغراها بطلب الطّلاق أو التّسبّب فيه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر . وقد صرّح الفقهاء بالتّضييق عليه وزجره ، حتّى قال المالكيّة بتأبيد تحريم المرأة المخبّبة على من أفسدها على زوجها معاملةً له بنقيض قصده ، ولئلاّ يتّخذ النّاس ذلك ذريعةً إلى إفساد الزّوجات . ر - ( تخبيبٌ ) .
الإفساد بين المسلمين :
14 - تحرم الوقيعة وإفساد ذات البين بين المسلمين ، لأمرين :
الأوّل : الإبقاء على وحدة المسلمين .
الثّاني : رعاية حرمتهم ، لقوله تعالى : { واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا } ، ولما روي عن ابن عمر أنّه نظر يوماً إلى الكعبة فقال :« ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمةً عند اللّه منك »،ولهذا كان إصلاح ذات البين من أفضل القربات ، وإفساد ذات البين من أكبر الكبائر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة قالوا : بلى ، قال : إصلاح ذات بينٍ ، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة » ولهذا نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن تتبّع عورات المسلمين ، وعن الغيبة ، والنّميمة ، وسوء الظّنّ ، والتّباغض ، والتّحاسد ، وكلّ ما يؤدّي إلى الوقيعة بين المسلمين : فقال صلى الله عليه وسلم : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه إخواناً ، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيّامٍ »(41/2)
أمّا الإفساد في الأرض بقطع الطّريق وسلب الأموال والأعراض وإتلاف النّفوس فهو محرّمٌ ، وعقوبته منصوصٌ عليها في قوله تعالى : { إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض } . وتفصيله في حرابةٌ .
كما نهى الشّارع عن جميع أنواع الإفساد ، بفعل المعاصي ، وإشاعة الفواحش ، وفعل كلّ ما فيه ضررٌ على المسلمين . قال اللّه تعالى : { الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } .(41/3)
إفطارٌ *
التعريف :
1 - الإفطار لغةً : مصدر أفطر : يقال : أفطر الصّائم : دخل في وقت الفطر وكان له أن يفطر ، ومن ذلك حديث : « إذا أقبل اللّيل من هاهنا ، وأدبر النّهار من هاهنا ، وغربت الشّمس ، فقد أفطر الصّائم » . والإفطار في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الأصل في الإفطار بالنّسبة لمن وجب عليه الصّوم الحرمة ، إذ الصّوم معناه الإمساك عن كلّ ما يفطر . أمّا بالنّسبة لصوم رمضان فظاهرٌ ، وأمّا بالنّسبة للصّوم الواجب بالنّذر فكذلك ، لأنّه يسلك بالنّذر مسلك الواجب بالشّرع .
وقد يعرض له الوجوب ، لوجود مانعٍ من الصّوم ، سواءٌ أكان المانع من ناحية الشّخص ، كالمرض ، المؤدّي للهلاك ، وكالحائض والنّفساء ، أم كان المانع من ناحية الأيّام الّتي نهي عن الصّيام فيها كيومي العيد .
3 - وقد يكون الفطر مكروهاً :
كالمسافر الّذي تحقّقت له شرائط السّفر ، فإنّه يجوز له الفطر مع الكراهة عند المالكيّة ، إذ الصّوم أفضل لقوله تعالى : { وأن تصوموا خيرٌ لكم } . وكإفطار من شرع في صوم النّفل إن كان بغير عذرٍ ، لقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } . وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه .
4 - وقد يكون مندوباً :
كما لو كان هناك عذرٌ ، كمساعدة ضيفٍ في الأكل إذا عزّ عليه امتناع مضيفه منه أو عكسه ، فلا يكره الإفطار بل يستحبّ ، لحديث « وإنّ لزورك عليك حقّاً » وحديث : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .
أمّا إذا لم يعزّ على أحدهما امتناع الآخر عن ذلك ، فالأفضل عدم خروجه منه .
5 - وقد يكون مباحاً :
كالمريض الّذي لا يخشى الهلاك ، ولكنّه يخشى زيادة المرض ، وكالحامل الّتي تخاف ضرراً يسيراً على حملها أو نفسها . ومن المباح عند الجمهور الصّيام في السّفر على خلاف الأفضليّة بناءً على اعتباره رخصةً أو عزيمةً .
أثر الإفطار :
أ - في قطع الصّوم المتتابع :
6 - من أفطر بغير عذرٍ في نهار صومٍ واجبٍ يجب فيه التّتابع ، كصومٍ عن كفّارة ظهارٍ أو قتلٍ ، انقطع تتابعه ووجب استئنافه ، فإن كان لعذرٍ فلا ينقطع تتابعه ويبني على ما سبق . وهذا في الجملة .
وللفقهاء تفصيلٌ فيما يعتبر عذراً لا يقطع التّتابع وما لا يعتبر ( ر : صومٌ - كفّارةٌ ) .
ب - في ترتّب القضاء وغيره :
7 - يجب القضاء على من أفطر في صيامٍ واجبٍ وهذا باتّفاقٍ . وفي صيام التّطوّع خلافٌ . وقد يكون مع القضاء فديةٌ أو كفّارةٌ . وفي ذلك تفصيلٌ ينظر في موضعه .(42/1)
إقامة *
التّعريف :
1 - الإقامة في اللّغة مصدر : أقام ، وأقام بالمكان : ثبت به ، وأقام الشّيء : ثبّته أو عدله ، وأقام الرّجل الشّرع : أظهره ، وأقام الصّلاة : أدام فعلها ، وأقام للصّلاة إقامةً : نادى لها . وتطلق الإقامة في الشّرع بمعنيين :
الأوّل : الثّبوت في المكان ، فيكون ضدّ السّفر .
الثّاني : إعلام الحاضرين المتأهّبين للصّلاة بالقيام إليها ، بألفاظٍ مخصوصةٍ وصفةٍ مخصوصةٍ .
أوّلاً : أحكام الإقامة الّتي بمعنى الثّبوت في المكان
أ - إقامة المسافر :
2 - يصبح المسافر مقيماً إذا دخل وطنه ، أو نوى الإقامة في مكان ما بالشّروط الّتي ذكرها الفقهاء ، وينقطع بذلك عنه حكم السّفر ، وتنطبق عليه أحكام المقيم ، كامتناع القصر في الصّلاة ، وعدم جواز الفطر في رمضان . وإقامة الآفاقيّ داخل المواقيت المكانيّة ، أو في الحرم تعطيه حكم المقيم داخل المواقيت أو داخل الحرم من حيث الإحرام ، وطواف الوداع ، والقدوم ، والقران ، والتّمتّع . وينظر تفصيلات ذلك في ( قران - تمتّع - حجّ - إحرام ) .
ب-إقامة المسلم في دار الحرب :
3 - إقامة المسلم في دار الحرب لا تقدح في إسلامه ، إلاّ أنّه إذا كان يخشى على دينه ، بحيث لا يمكنه إظهاره ، تجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام ، لقول اللّه تعالى : « إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنّا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض اللّه واسعةً فتهاجروا فيها » ، وهذا إذا كان يمكنه الهجرة ولم يكن به عجز ، لمرضٍ أو إكراهٍ على الإقامة .
أمّا إذا كان لا يخشى الفتنة ويتمكّن من إظهار دينه مع إقامته في دار الحرب ، فإنّه يستحبّ له الهجرة إلى دار الإسلام ، لتكثير المسلمين ومعونتهم ، ولا تجب عليه الهجرة .
وقد كان العبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقيماً بمكّة مع إسلامه .
وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك : ( ر : جهاد - دار الحرب - دار الإسلام - هجرة ) .
ثانياً : الإقامة للصّلاة
الألفاظ ذات الصّلة بإقامة الصّلاة :
4 - هناك ألفاظ لها صلة بالإقامة للصّلاة منها :
أ - الأذان : يعرّف الأذان بأنّه : إعلام بدخول وقت الصّلاة بألفاظٍ معلومةٍ مأثورةٍ على صفةٍ مخصوصةٍ يحصل بها الإعلام .
فالأذان والإقامة يشتركان في أنّ كلّاً منهما إعلام ، ويفترقان من حيث إنّ الإعلام في الإقامة هو للحاضرين المتأهّبين لافتتاح الصّلاة ، والأذان للغائبين ليتأهّبوا للصّلاة ، كما أنّ صيغة الأذان قد تنقص أو تزيد عن الإقامة على خلافٍ بين المذاهب .
ب - التّثويب : التّثويب عود إلى الإعلام بعد الإعلام . وهو عند الفقهاء ، زيادة " الصّلاة خير من النّوم " .
حكم الإقامة التّكليفيّ :
5 - في حكم الإقامة التّكليفيّ رأيان :
الأوّل : أنّ الإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، وإذا ترك أثموا جميعاً . قال بهذا الحنابلة ، وهو رأي لبعض الشّافعيّة في الصّلوات الخمس ، ولبعضٍ آخر للجمعة فقط . وهو رأي عطاءٍ والأوزاعيّ ، حتّى روي عنهما أنّه إن نسي الإقامة أعاد الصّلاة ، وقال مجاهد : إن نسي الإقامة في السّفر أعاد ، ولعلّه لما في السّفر من الحاجة إلى إظهار الشّعائر . واستدلّ للقول بأنّها فرض كفايةٍ بكونها من شعائر الإسلام الظّاهرة ، وفي تركها تهاون ، فكانت فرض كفايةٍ مثل الجهاد .
الثّاني : أنّ الإقامة سنّة مؤكّدة ، وهو مذهب المالكيّة ، والرّاجح عند الشّافعيّة ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، وقال محمّد بالوجوب ، ولكن المراد بالسّنّة هنا السّنن الّتي هي من شعائر الإسلام الظّاهرة ، فلا يسع المسلمين تركها ، ومن تركها فقد أساء ، لأنّ ترك السّنّة المتواترة يوجب الإساءة وإن لم يكن من شعائر الإسلام ، فهذا أولى ، وفسّر أبو حنيفة السّنّيّة بالوجوب ، حيث قال في التّاركين : أخطئوا السّنّة وخالفوا وأثموا ، والإثم إنّما يلزم بترك الواجب . واحتجّوا للسّنّيّة « بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ المسيء صلاته : افعل كذا وكذا» . ولم يذكر الأذان ولا الإقامة مع أنّه صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء واستقبال القبلة وأركان الصّلاة ولو كانت الإقامة واجبةً لذكرها .
تاريخ تشريع الإقامة وحكمتها :
6 - تاريخ تشريع الإقامة هو تاريخ تشريع الأذان ( ر : أذان ) .
أمّا حكمتها : فهي إعلاء اسم اللّه تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم وإقرار للفلاح والفوز عند كلّ صلاةٍ في اليوم أكثر من مرّةٍ ، لتركيز ذلك في نفس المسلم ، وإظهار لشعيرةٍ من أفضل الشّعائر .
كيفيّة الإقامة :
7 - اتّفقت المذاهب على أنّ ألفاظ الإقامة هي نفس ألفاظ الأذان في الجملة بزيادة : " قد قامت الصّلاة - بعد - حيّ على الفلاح " . وكذلك اتّفقوا على أنّ التّرتيب بين ألفاظها هو نفس ترتيب ألفاظ الأذان ، إلاّ أنّهم اختلفوا في تكرار وإفراد ألفاظها على الوجه الآتي :
اللّه أكبر . تقال في بدء الإقامة " مرّتين " عند المذاهب الثّلاثة ، وأربع مرّاتٍ عند الحنفيّة . أشهد أن لا إله إلاّ اللّه . تقال " مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . تقال " مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . حيّ على الصّلاة . تقال : « مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . حيّ على الفلاح . تقال : « مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . قد قامت الصّلاة . تقال " مرّتين " عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " ومرّةً واحدةً " عند المالكيّة على المشهور .(43/1)
اللّه أكبر . تقال " مرّتين " على المذاهب الأربعة .
لا إله إلاّ اللّه . تقال " مرّةً واحدةً " على المذاهب الأربعة . ويستخلص من ذلك أنّ المذاهب الثّلاثة تختلف عن الحنفيّة بإفراد أكثر ألفاظ الإقامة كما تقدّم . واحتجّوا بما روي عن أنسٍ قال : « أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » . وبما روي عن ابن عمر قال : « إنّما كان الأذان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرّتين مرّتين ، والإقامة مرّةً مرّةً » . أمّا الحنفيّة فيجعلون الإقامة مثل الأذان بزيادة " قد قامت الصّلاة " مرّتين بعد " حيّ على الفلاح " . واحتجّوا بحديث عبد اللّه بن زيدٍ الأنصاريّ ،« أنّه جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه : رأيت في المنام كأنّ رجلاً قام وعليه بردان أخضران ، فقام على حائطٍ فأذّن مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى » ولما روي كذلك عن عبد اللّه بن زيدٍ « فاستقبل القبلة يعني الملك ، وقال : اللّه أكبر . اللّه أكبر .. إلى آخر الأذان . قال ثمّ أمهل هنيهةً ، ثمّ قام فقال مثلها ، ألا أنّه قال : زاد بعد ما قال : حيّ على الفلاح : قد قامت الصّلاة ، قد قامت الصّلاة » . وأمّا المالكيّة فيختلفون عن غيرهم في تثنية قد قامت الصّلاة ، فالمشهور عندهم أنّها تقال مرّةً واحدةً . لما روى أنس قال : « أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » .
حدر الإقامة :
8 - الحدر هو الإسراع وقطع التّطويل .
وقد اتّفق الفقهاء على الحدر في الإقامة والتّرسّل في الأذان ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحدر » ، ولما روى أبو عبيدٍ بإسناده ، عن عمر رضي الله عنه أنّه قال لمؤذّن بيت المقدس : " إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحذم "
قال الأصمعيّ : وأصل الحذم - بالحاء المهملة - في المشي إنّما هو الإسراع .
وقت الإقامة :
9 - شرعت الإقامة أهبةً للصّلاة بين يديها ، تفخيماً لها كغسل الإحرام ، وغسل الجمعة ، ثمّ لإعلام النّفس بالتّأهّب والقيام للصّلاة ، وإعلام الافتتاح . ولا يصحّ تقديمها على وقت الصّلاة ، بل يدخل وقتها بدخول وقت الصّلاة ، ويشترط لها شرطان ، الأوّل : دخول الوقت ، والثّاني : إرادة الدّخول في الصّلاة . فإن أقام قبيل الوقت بجزءٍ يسيرٍ بحيث دخل الوقت عقب الإقامة ، ثمّ شرع في الصّلاة عقب ذلك لم تحصل الإقامة ، وإن أقام في الوقت وأخّر الدّخول في الصّلاة بطلت إقامته إن طال الفصل ، لأنّها تراد للدّخول في الصّلاة فلا يجوز إطالة الفصل .
ما يشترط لإجزاء الإقامة :
10 - يشترط في الإقامة ما يأتي :
دخول الوقت ، ونيّة الإقامة ، والأداء باللّغة العربيّة ، والخلوّ من اللّحن المغيّر للمعنى ، ورفع الصّوت . ولكن رفع الصّوت بالإقامة يكون أخفّ من رفعه بالأذان ، لاختلاف المقصود في كلٍّ منهما . فالمقصود من الأذان : إعلام الغائبين بالصّلاة ، أمّا الإقامة فالمقصود منها طلب قيام الحاضرين فعلاً للصّلاة ، وقد تقدّم ذلك في وقت الإقامة .
وكذلك يشترط التّرتيب بين الكلمات والموالاة بين ألفاظ الإقامة .
وفي هذه الشّروط خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح " أذان " .
شرائط المقيم :
11 - تشترك الإقامة مع الأذان في هذه الشّرائط ونذكرها إجمالاً ، ومن أراد زيادة تفصيلٍ فليرجع إلى مصطلح ( أذان ) ، وأوّل هذه الشّروط .
أ - الإسلام : اتّفق الفقهاء على اشتراط الإسلام في المقيم ، فلا تصحّ الإقامة من الكافر ولا المرتدّ لأنّها عبادة ، وهما ليسا من أهلها .
ب - الذّكورة : اتّفق الفقهاء على عدم جواز أذان المرأة وإقامتها لجماعة الرّجال ، لأنّ الأذان في الأصل للإعلام ، ولا يشرع لها ذلك ، والأذان يشرع له رفع الصّوت ، ولا يشرع لها رفع الصّوت ، ومن لا يشرع في حقّه الأذان لا يشرع في حقّه الإقامة .
وأمّا إذا كانت منفردةً أو في جماعة النّساء ففيه اتّجاهات .
الأوّل : الاستحباب . وهو قول المالكيّة والشّافعيّة ، وهي رواية عند الحنابلة .
الثّاني : الإباحة . وهي رواية عن أحمد .
الثّالث : الكراهة . وهو قول الحنفيّة .
ج - العقل : نصّ فقهاء المذاهب على بطلان أذان وإقامة المجنون والمعتوه والسّكران ، وقالوا : يجب إعادة أذانهم ، ولم يخالف في هذا إلاّ بعض الحنفيّة في السّكران ، حيث قالوا بكراهة أذانه وإقامته واستحباب إعادتهما .
د - البلوغ : للعلماء في إقامة الصّبيّ ثلاثة آراء :
الأوّل : لا تصحّ إقامة الصّبيّ سواء أكان مميّزاً أم غير مميّزٍ ، وهو رأي عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
الثّاني : تصحّ إقامته إن كان مميّزاً عاقلاً ، وهو رأي آخر في تلك المذاهب .
الثّالث : الكراهة إذا كان مميّزاً ، وهو رأي للحنفيّة .
هـ- العدالة : في إقامة الفاسق ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : لا يعتدّ بها ، وهو رأي للحنفيّة ، ورأي للحنابلة .
الثّاني : الكراهة : وهو رأي للحنفيّة ، والشّافعيّة ، والمالكيّة .
الثّالث : يصحّ ويستحبّ إعادته . وهو رأي للحنفيّة والحنابلة .
وينظر تفصيل وتوجيه ذلك في ( الأذان ) .
و-الطّهارة : اتّفق الفقهاء على كراهة الإقامة مع الحدث الأصغر ، لأنّ السّنّة وصل الإقامة بالشّروع بالصّلاة ، واتّفقوا على سنّيّة الإعادة ما عدا الحنفيّة . وفي رأيٍ للحنفيّة أنّ إقامة المحدث حدثاً أصغر جائزة بغير كراهةٍ .
أمّا من الحدث الأكبر ففيه رأيان :
الأوّل : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، إلى كراهة إقامة المحدث حدثاً أكبر .(43/2)
الثّاني : الرّواية الأخرى عند الحنابلة : بطلان الأذان مع الحدث الأكبر ، وهو قول عطاءٍ ومجاهد والأوزاعيّ وإسحاق .
ما يستحبّ في الإقامة :
12 - اتّفقت المذاهب على استحباب الحدر في الإقامة والتّرسّل في الأذان كما مرّ ( ف ) . وفي الوقف على آخر كلّ جملةٍ في الإقامة رأيان :
الأوّل : قال المالكيّة ، وهو رأي للحنفيّة ، الإقامة معربة إن وصل كلمةً بكلمةٍ . فإن وقف المقيم وقف عليها بالسّكون .
الثّاني : قال الحنابلة ، وهو رأي آخر للحنفيّة ، ورأي للمالكيّة : الإقامة على الجزم مثل الأذان ، لما روي عن النّخعيّ موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الأذان جزم ، والإقامة جزم ، والتّكبير جزم » . وفي التّكبيرتين الأوليين أقوال ، فالتّكبيرة الأولى فيها قولان :
الأوّل ، للحنفيّة والمالكيّة : فيها الوقف بالسّكون ، والفتح ، والضّمّ .
الثّاني ، رأي للمالكيّة : فيها السّكون ، أو الضّمّ . أمّا التّكبيرة الثّانية ففيها أيضاً قولان : الأوّل ، رأي للمالكيّة ، ورأي للحنفيّة : الجزم لا غير ، لما روي أنّ « الإقامة جزم » .
الثّاني : الإعراب وهو : الضّمّ ، وهو رأي آخر للمالكيّة ، ورأي للحنفيّة ، والجميع جائز ، ولكن الخلاف في الأفضل والمستحبّ .
13 - ومن مستحبّات الأذان والإقامة عند المذاهب : استقبال القبلة ، غير أنّهم استثنوا من ذلك الالتفات عند الحيعلتين " حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح " . وفي الالتفات عند الحيعلتين في الإقامة ثلاثة آراء .
الأوّل : يستحبّ الالتفات عند الحيعلتين .
الثّاني : يستحبّ إذا كان المكان متّسعاً ، ولا يستحبّ إذا كان المكان ضيّقاً ، أو الجماعة قليلةً . وهذان الرّأيان للحنفيّة والشّافعيّة .
الثّالث : لا يستحبّ أصلاً لأنّ الاستحباب في الأذان كان لإعلام الغائبين ، والإقامة لإعلام الحاضرين المنتظرين للصّلاة ، فلا يستحبّ تحويل الوجه ، وهذا الرّأي للحنابلة ، وهو رأي للحنفيّة ، ورأي للشّافعيّة . ويؤخذ من كلام المالكيّة جواز الالتفات في الحيعلتين . وفي رأيٍ آخر أنّ المستحبّ هو استقبال القبلة في الابتداء .
14 - ويستحبّ فيمن يقيم الصّلاة : أن يكون تقيّاً ، عالماً بالسّنّة ، وعالماً بأوقات الصّلاة ، وحسن الصّوت ، مرتفعه من غير تطريبٍ ولا غناءٍ ، وتفصيل ذلك في الأذان .
15 - واتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ لمقيم الصّلاة أن يقيم واقفاً . وتكره الإقامة قاعداً من غير عذرٍ . فإن كان بعذرٍ فلا بأس . قال الحسن العبديّ : « رأيت أبا زيدٍ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكانت رجله أصيبت في سبيل اللّه ، يؤذّن قاعداً »
ولما روي أنّ « الصّحابة كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ فانتهوا إلى مضيقٍ ، وحضرت الصّلاة ، فمطرت السّماء من فوقهم ، والبلّة من أسفل فيهم ، فأذّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقام ، فتقدّم على راحلته ، فصلّى بهم يومئ إيماءً ، يجعل السّجود أخفض من الرّكوع » . كما تكره إقامة الماشي والرّاكب في السّفر وغيره من غير عذرٍ . لما روي أنّ بلالاً رضي الله عنه « أذّن وهو راكب ، ثمّ نزل وأقام على الأرض ». ولأنّه لو لم ينزل لوقع الفصل بين الإقامة والشّروع في الصّلاة بالنّزول وأنّه مكروه ، ولأنّه يدعو النّاس إلى القيام للصّلاة وهو غير متهيّئٍ لها .
ويرى الحنابلة أنّ إقامة الرّاكب في السّفر بدون عذرٍ جائزةً بدون كراهةٍ .
ما يكره في الإقامة
16 - يكره في الإقامة : ترك شيءٍ من مستحبّاتها الّتي سبقت الإشارة إليها ، وممّا يكره أيضاً : الكلام في الإقامة لغير ضرورةٍ إذا كان كثيراً ، أمّا إن كان الكلام في الإقامة لضرورةٍ مثل ما لو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئرٍ ، أو حيّةً تدبّ إلى غافلٍ ، أو سيّارةً توشك أن تدهمه وجب عليه إنذاره ويبني على إقامته .
أمّا الكلام القليل لغير ضرورةٍ ففيه رأيان :
الأوّل : لا يكره بل يؤدّي إلى ترك الأفضل . قال بهذا الحنفيّة والشّافعيّة ، واستدلّوا لذلك بما ثبت في الصّحيح من « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تكلّم في الخطبة » فالأذان أولى . ألاّ يبطل ، وكذلك الإقامة ، ولأنّهما يصحّان مع الحدث ، وقاعداً ، وغير ذلك من وجوه التّخفيف .
الثّاني : يكره له ذلك ، ويبني على إقامته ، وبهذا قال الزّهريّ والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ الإقامة حدر ، وهذا يخالف الوارد ، ويقطع بين كلماتها . واتّفق الفقهاء على أنّ التّمطيط والتّغنّي والتّطريب بزيادة حركةٍ أو حرفٍ أو مدٍّ أو غيرها في الأوائل والأواخر مكروه ، لمنافاة الخشوع والوقار . أمّا إذا تفاحش التّغنّي والتّطريب بحيث يخلّ بالمعنى فإنّه يحرم بدون خلافٍ في ذلك . لما روي أنّ رجلاً قال لابن عمر :« إنّي لأحبّك في اللّه . قال : وأنا أبغضك في اللّه ، إنّك تتغنّى في أذانك ». قال : حمّاد يعني التّطريب .
إقامة غير المؤذّن :
17 - قال الشّافعيّة والحنابلة : ينبغي أن يتولّى الإقامة من تولّى الأذان . واحتجّوا بما روي عن الحارث الصّدائيّ أنّه قال : « بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى حاجةٍ له فأمرني أن أؤذّن فأذّنت ، فجاء بلال وأراد أن يقيم ، فنهاه عن ذلك وقال : إنّ أخا صداءٍ هو الّذي أذّن ، ومن أذّن فهو الّذي يقيم » ولأنّهما فعلان من الذّكر يتقدّمان الصّلاة ، فيسنّ أن يتولّاهما واحد كالخطبتين ، ووافقهم الحنفيّة على هذا الرّأي إذا كان المؤذّن يتأذّى من إقامة غيره ، لأنّ أذى المسلم مكروه .(43/3)
وقال المالكيّة : لا بأس أن يؤذّن رجل ويقيم غيره ، لما رواه أبو داود في حديث عبد اللّه بن زيدٍ أنّه رأى الأذان في المنام فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : « ألقه على بلالٍ ، فألقاه عليه ، فأذّن بلال ، فقال عبد اللّه : أنا رأيته وأنا كنت أريده قال : أقم أنت » . ولأنّه يحصل المقصود منه ، فأشبه ما لو تولّاهما معاً ، ووافقهم على ذلك الحنفيّة إذا كان المؤذّن لا يتأذّى من إقامة غيره .
إعادة الإقامة في المسجد الواحد :
18 - لو صلّى في مسجدٍ بأذانٍ وإقامةٍ ، هل يكره أن يؤذّن ويقام فيه ثانياً ؟
في المسألة ثلاثة آراء :
الأوّل للحنفيّة ، وهو رأي للمالكيّة ، ورأي ضعيف للشّافعيّة : إذا صلّى في المسجد بأذانٍ وإقامةٍ كره لمن جاء بعدهم أن يؤذّن ويقيم ، وشرط الحنفيّة أن يكون من أذّن وصلّى أوّلاً هم أهل المسجد " أي أهل حيّه " فمن ، جاء بعدهم فأذان الجماعة وإقامتهم لهم أذان وإقامة . الثّاني في الرّأي الرّاجح للمالكيّة والشّافعيّة : يستحبّ أن يؤذّن ويقيم للجماعة الثّانية ، إلاّ أنّه لا يرفع صوته فوق ما يسمعون ، ووافقهم على ذلك الحنفيّة إذا كان المسجد على الطّريق ، وليس له أهل معلومون ، أو صلّى فيه غير أهله بأذانٍ وإقامةٍ ، فإنّه يجوز لأهله أن يؤذّنوا ويقيموا .
الثّالث للحنابلة : الخيار ، إن شاء أذّن وأقام ويخفي أذانه وإقامته ، وإن شاء صلّى من غير أذانٍ ولا إقامةٍ .
ما يقام له من الصّلوات :
19 - يقام للصّلوات الخمس المفروضة في حال الحضر والسّفر والانفراد والجماعة والجمعة . واتّفق الفقهاء على طلب الإقامة لكلٍّ من الصّلاتين المجموعتين ،
لأنّ « الرّسول صلى الله عليه وسلم جمع المغرب والعشاء بمزدلفة وأقام لكلّ صلاةٍ » . ولأنّهما صلاتان جمعهما وقت واحد ، وتصلّى كلّ صلاةٍ وحدها ، فاقتضى أن تكون لكلّ صلاةٍ إقامة .
واتّفق الفقهاء على طلب الإقامة للصّلوات الفوائت ، لما روي عن أبي سعيدٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّه حين شغلهم الكفّار يوم الأحزاب عن أربع صلواتٍ أمر بلالاً أن يؤذّن ويقيم لكلّ واحدةٍ منهنّ ، حتّى قالوا : أذّن وأقام وصلّى الظّهر ، ثمّ أذّن وأقام وصلّى العصر ، ثمّ أذّن وأقام وصلّى المغرب ، ثمّ أذّن وأقام وصلّى العشاء » .
واتّفق الفقهاء على استحباب الإقامة للمنفرد ، سواء صلّى في بيته أو في مكان آخر غير المسجد ، لخبر عقبة بن عامرٍ ، قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : يعجب ربّك من راعي غنمٍ في رأس الشّظيّة للجبل يؤذّن ويقيم للصّلاة ويصلّي ، فيقول اللّه عزّ وجلّ : انظروا إلى عبدي هذا يؤذّن ويقيم الصّلاة يخاف منّي ، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنّة » .
ولكنّه إذا اقتصر على أذان الحيّ وإقامته أجزأه ، لما روي أنّ عبد اللّه بن مسعودٍ « صلّى بعلقمة والأسود بغير أذانٍ ولا إقامةٍ وقال : يكفينا أذان الحيّ وإقامتهم ».
الإقامة لصلاة المسافر :
20 - الأذان والإقامة للفرد والجماعة مشروعان في السّفر كما في الحضر ، سواء أكان السّفر سفر قصرٍ أو دونه .
الأذان للصّلاة المعادة :
21 - في الإقامة للصّلاة المعادة في وقتها للفساد رأيان :
الأوّل : للحنفيّة : تعاد الصّلاة الفاسدة في الوقت بغير أذانٍ ولا إقامةٍ ، وأمّا إن قضوها بعد الوقت قضوها في غير ذلك المسجد بأذانٍ وإقامةٍ .
الثّاني : للمالكيّة : يقام للصّلاة المعادة للبطلان أو الفساد ، ولم يعثر للشّافعيّة والحنابلة على تصريحٍ بذلك ، ولكن قواعدهم لا تأباه .
ما لا يقام له من الصّلوات :
22 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يسنّ الإقامة لغير الصّلوات الخمس والجمعة . فلا أذان ولا إقامة لصلاة الجنازة ولا للوتر ولا للنّوافل ولا لصلاة العيدين وصلاة الكسوف والخسوف والاستسقاء . لما روي عن « جابر بن سمرة قال : صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم العيد غير مرّةٍ ولا مرّتين بغير أذانٍ ولا إقامةٍ » .
وما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً ينادي : الصّلاة جامعة » .
إجابة السّامع للمؤذّن والمقيم :
23 - نصّ الفقهاء على صيغة الإجابة باللّسان فقالوا : يقول السّامع مثل ما يقول المقيم ، إلاّ في الحيعلتين " حيّ على الصّلاة وحيّ على الفلاح" فإنّه يحوقل "لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه " . ويزيد عند إقامة الصّلاة " أقامها اللّه وأدامها " ، لما روى أبو داود بإسناده عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّ بلالاً أخذ في الإقامة فلمّا أن قال : قد قامت الصّلاة ، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أقامها اللّه وأدامها » . وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان الّذي رواه جعفر بن عاصمٍ عن أبيه عن عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال المؤذّن : اللّه أكبر اللّه أكبر ، فقال أحدكم : اللّه أكبر اللّه أكبر » وانظر مصطلح أذان .
وحكم الإجابة باللّسان أنّها سنّة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وأمّا الحنفيّة فإنّ الإجابة عندهم تكون في الأذان دون الإقامة .
الفصل بين الأذان والإقامة :
24 - صرّح الفقهاء باستحباب الفصل بين الأذان والإقامة بصلاةٍ أو جلوسٍ أو وقتٍ يسع حضور المصلّين فيما سوى المغرب ، مع ملاحظة الوقت المستحبّ للصّلاة .(43/4)
وتكره عندهم الإقامة للصّلاة بعد الأذان مباشرةً بدون هذا الفصل ، وذلك لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّه قال لبلالٍ : اجعل بين أذانك وإقامتك نفساً حتّى يقضي المتوضّئ حاجته في مهلٍ ، وحتّى يفرغ الآكل من أكل طعامه في مهلٍ »
وفي روايةٍ : « ليكن بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله ، والشّارب من شربه ، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته » .
ولأنّ المقصود بالأذان إعلام النّاس بدخول الوقت ليتهيّئوا للصّلاة بالطّهارة فيحضروا المسجد ، وبالوصل ينتفي هذا المقصود ، وتفوت صلاة الجماعة على كثيرٍ من المسلمين . وقد ورد عن بعض الفقهاء تحديد مقدار الفصل بين الأذان والإقامة ، فروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ مقدار الفصل في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آيةً ، وفي الظّهر قدر ما يصلّي أربع ركعاتٍ ، يقرأ في كلّ ركعةٍ نحواً من عشر آياتٍ ، وفي العصر مقدار ما يصلّي ركعتين ، يقرأ في كلّ ركعةٍ نحواً من عشر آياتٍ .
أمّا في المغرب : فقد اتّفق الفقهاء على تعجيل الإقامة فيها لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء إلاّ المغرب » لأنّ مبنى المغرب على التّعجيل ، ولما روى أبو أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لن تزال أمّتي بخيرٍ ما لم يؤخّروا المغرب إلى اشتباك النّجوم » وعلى هذا يسنّ أن يكون الفصل بين الأذان والإقامة فيها يسيراً .
وللعلماء في مقدار هذا الفصل اليسير أقوال :
أ - قال أبو حنيفة والمالكيّة : يفصل بين الأذان والإقامة في المغرب قائماً بمقدار ثلاث آياتٍ ، ولا يفصل بالصّلاة ، لأنّ الفصل بالصّلاة تأخير ، كما لا يفصل المقيم بالجلوس ، لأنّه تأخير للمغرب ، ولأنّه لم يفصل بالصّلاة فبغيرها أولى .
ب - وقال أبو يوسف ومحمّد : يفصل بجلسةٍ خفيفةٍ كالجلسة بين الخطبتين ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة والحنابلة ، ووجه قولهم أنّ الفصل مسنون ولا يمكن بالصّلاة ، فيفصل بالجلسة لإقامة السّنّة .
ج - وأجاز الحنابلة وبعض الشّافعيّة الفصل بركعتين بين الأذان والإقامة في المغرب ، أي أنّهما لا يكرهان ولا يستحبّان .
الأجرة على الإقامة مع الأذان :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا وجد من يؤذّن ويقيم محتسباً - ممّن تتحقّق فيه شرائط المؤذّن - فلا يجوز استئجار أحدٍ للأذان والإقامة . وأمّا إذا لم يوجد المتطوّع أو وجد ولم تتحقّق فيه الشّروط فهل يستأجر على الأذان والإقامة ؟
في المسألة ثلاثة آراء :
الأوّل : المنع لأنّه طاعة ، ولا يجوز استئجار أحدٍ على الطّاعة لأنّه عامل لنفسه ، ولما روي أنّ « آخر ما عهد به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعثمان بن العاص رضي الله عنه أن يصلّي بالنّاس صلاة أضعفهم ، وأن يتّخذ مؤذّناً لا يأخذ عليه أجراً » وهذا الرّأي لمتقدّمي الحنفيّة ، وهو رأي للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
الثّاني : الجواز لأنّه كسائر الأعمال ، وهو قول لمتأخّري الحنفيّة ، ورأي للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ووجه ذلك : أنّ بالمسلمين حاجةً إليه ، وقد لا يوجد متطوّع . ولأنّه إذا انقطع له قد لا يجد ما يقيت به عياله .
الثّالث ، وهو رأي للشّافعيّة : يجوز للإمام أن يستأجر دون آحاد النّاس لأنّه هو الّذي يتولّى مصالح المسلمين . ويجوز له الإعطاء من بيت المال .
هذا ، وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لا يجوز الاستئجار على الإقامة فقط بدون الأذان لأنّه عمل قليل . والتّفصيل في مصطلح ( أذان ، وإجارة ) .
الإقامة لغير الصّلاة :
26 - يستحبّ الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى ، لما روي عن أبي رافعٍ قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصّلاة » . وينظر مصطلح ( أذان ) فقرة 51 ( ج 2 ص 372 ) .(43/5)
إقعاء *
التّعريف :
1 - الإقعاء عند العرب : إلصاق الأليتين بالأرض ، ونصب السّاقين ووضع اليدين على الأرض ، وقال ابن القطّاع : أقعى الكلب : جلس على أليتيه ونصب فخذيه ، وأقعى الرّجل : جلس تلك الجلسة .
وللفقهاء في الإقعاء تفسيران :
الأوّل : نحو المعنى اللّغويّ ، وهو اختيار الطّحاويّ من الحنفيّة .
والثّاني : أن يضع أليتيه على عقبيه ، ويضع يديه على الأرض ، وهو اختيار الكرخيّ من الحنفيّة .
وجلسة الإقعاء غير التّورّك والافتراش ، فالافتراش أن يجلس على كعب يسراه بحيث يلي ظهرها الأرض وينصب يمناه . ويخرجها من تحته ، ويجعل بطون أصابعها على الأرض معتمداً عليها لتكون أطراف أصابعه إلى القبلة .
والتّورّك إفضاء ألية وورك وساق الرّجل اليسرى للأرض ، ونصب الرّجل اليمنى على اليسرى ، وباطن إبهام اليمنى للأرض ، فتصير رجلاه معاً من الجانب الأيمن .
الحكم الإجماليّ :
2 - الإقعاء بالمعنى الأوّل مكروه في الصّلاة عند أكثر الفقهاء ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الإقعاء في الصّلاة » . وعند المالكيّة : الإقعاء بهذه الصّورة حرام ، ولكن لا تبطل به الصّلاة . وأمّا الإقعاء بالمعنى الثّاني فمكروه أيضاً عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، إلاّ أنّ الكراهة تنزيهيّة عند الحنفيّة .
استدلّ الحنابلة على هذا الرّأي رواه الحارث عن عليٍّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تقع بين السّجدتين » . وعند الشّافعيّة : الإقعاء بهذه الكيفيّة بين السّجدتين سنّة ، ففي مسلمٍ « الإقعاء سنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم » وفسّره العلماء بهذا ، ونصّ عليه الشّافعيّ في البويطيّ والإملاء في الجلوس بين السّجدتين ، ونقل عن أحمد بن حنبلٍ أنّه قال : لا أفعل ولا أعيب من فعله ، وقال : العبادلة كانوا يفعلونه .
أمّا الإقعاء في الأكل فلا يكره ، روى أنس رضي الله عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً » .(44/1)
إكسال *
التّعريف :
1 - الإكسال لغةً : مصدر أكسل ، وأكسل المجامع : خالط المرأة ولم ينزل ، أو عزل ولم يرد ولداً .
وعند الفقهاء : أن يجامع الرّجل ثمّ يفتر ذكره بعد الإيلاج ، فلا ينزل .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاعتراض :
2 - الاعتراض هو : عدم انتشار الذّكر للجماع . وقد يكون الاعتراض قبل الإيلاج أو بعده . فالاعتراض ليس من الإكسال .
ب - العنّة :
3 - العنّة : عجز الرّجل عن إتيان النّساء ، وقد يكون عنّيناً عن امرأةٍ دون أخرى .
والفرق بين العنّة والإكسال واضح .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - لا يغيّر الإكسال الأحكام المتعلّقة بالجماع ، ولا يختلف الجماع مع الإنزال عنه بدونه ، إلاّ ما حكي عن جماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم ، كانوا يقولون : لا غسل على من جامع فأكسل يعني لم ينزل . ورووا في ذلك أحاديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
أمّا بقيّة الفقهاء فإنّه يجب الغسل عندهم وإن أكسل المجامع ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإن لم ينزل » والتقاء الختانين كناية عن الإيلاج .
قال سهل بن سعدٍ : حدّثني أبيّ بن كعبٍ أنّ : « الماء من الماء » كان رخصةً أرخص فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ نهى عنها .
ولم يختلفوا أنّ الزّنا الّذي يجب به الحدّ يكون بمجرّد إيلاج الحشفة ، ولو لم يكن من إنزالٍ . كذلك يثبت الإحصان بالجماع مع الإكسال عند من يقول : إنّ الإحصان لا يحصل إلاّ بتغييب الحشفة .
وتحصل فيئة المولي إن غيّب حشفته ، وإن لم ينزل . وترفع العنّة بالوطء دون إنزالٍ أيضاً . ويحصل التّحليل لمطلّق المرأة ثلاثاً بمجرّد الإيلاج من الزّوج الآخر ، لحديث عائشة رضي الله عنها : « أنّ رفاعة القرظيّ تزوّج امرأةً ثمّ طلّقها فتزوّجت آخر ، فأتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له : أنّه لا يأتيها وأنّه ليس معه إلاّ مثل هدبةٍ ، فقال : لا . حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » . رواه البخاريّ .
وهذا قول الجمهور ، وقالوا : العسيلة هي : الجماع ، وشذّ الحسن البصريّ فقال : لا يحلّها إلاّ إذا أنزل ، وشذّ سعيد بن المسيّب فقال : يكفي في إحلالها العقد .
وتنظر مسائل أحكام الجماع في مصطلح : ( وطء ) .(45/1)
إمامة الصّلاة *
الإمامة الصّغرى
التّعريف :
1 - الإمامة في اللّغة : مصدر أمّ يؤمّ ، وأصل معناها القصد ، ويأتي بمعنى التّقدّم ، يقال : أمّهم وأمّ بهم : إذا تقدّمهم .
وفي اصطلاح الفقهاء تطلق الإمامة على معنيين : الإمامة الصّغرى ، والإمامة الكبرى . ويعرّفون الإمامة الكبرى بأنّها : استحقاق تصرّفٍ عامٍّ على الأنام ( أي النّاس ) ، وهي رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا خلافةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ( ر : إمامة كبرى ) . أمّا الإمامة الصّغرى ( وهي إمامة الصّلاة ) فهي ارتباط صلاة المصلّي بمصلٍّ آخر بشروطٍ بيّنها الشّرع . فالإمام لم يصر إماماً إلاّ إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته ، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة ، وهو غاية الاقتداء .
وعرّفها بعضهم بأنّها : كون الإمام متّبعاً في صلاته كلّها أو جزءٍ منها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القدوة :
2 - القدوة اسم للاقتداء أي : الاتّباع ، ويطلق على الشّخص المتبوع ، يقال : فلان قدوة أي يقتدى به .
ب - الاقتداء والتّأسّي :
3 - الاقتداء والتّأسّي كلّ منهما بمعنى الاتّباع ، سواء كان ذلك في صلاةٍ أو غيرها ، فالمأموم يقتدي بالإمام ويتأسّى به ، فيعمل مثل عمله ، ويطلق على المقتدى به أنّه قدوة وأسوة .
مشروعيّة الإمامة وفضلها :
4 - إمامة الصّلاة تعتبر من خير الأعمال الّتي يتولّاها خير النّاس ذوو الصّفات الفاضلة من العلم والقراءة والعدالة وغيرها كما سيأتي ، ولا تتصوّر صلاة الجماعة إلاّ بها .
وصلاة الجماعة من شعائر الإسلام ، ومن السّنن المؤكّدة الّتي تشبه الواجب في القوّة عند أكثر الفقهاء ، وصرّح بعضهم بوجوبها ، وتفصيله في مصطلح : ( صلاة الجماعة ) .
وقد صرّح جمهور الفقهاء ، ومنهم الحنفيّة ، وبعض المالكيّة ، وهو رواية في مذهب أحمد : بأنّ الإمامة أفضل من الأذان والإقامة ، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الرّاشدين عليها ، ولهذا أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوم بها أعلم النّاس وأقرؤهم ، كما روي في حديث أبي سعيدٍ الخدريّ . قال : « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا كانوا ثلاثةً فليؤمّهم أحدهم ، وأحقّهم أقرؤهم » .
ولمّا مرض النّبيّ عليه السلام اختار أفضل الصّحابة للإمامة حيث قال : « مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس » ، ففهم الصّحابة من تقديمه في الإمامة الصّغرى استحقاقه الإمامة الكبرى . وفي قولٍ آخر : الأذان أفضل ، وهو قول بعض المالكيّة ، ومذهب الشّافعيّ ، ورواية في مذهب أحمد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الإمام ضامن والمؤذّن مؤتمن ، اللّهمّ أرشد الأئمّة واغفر للمؤذّنين » والأمانة أعلى من الضّمان ، والمغفرة أعلى من الإرشاد . وقال عمر رضي الله عنه : " لولا الخلافة لأذّنت ".
شروط الإمامة :
يشترط لصحّة الإمامة الأمور التّالية :
أ - الإسلام :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في الإمام أن يكون مسلماً . وعلى هذا لا تصحّ الصّلاة خلف من هو كافر يعلن كفره ، أمّا إذا صلّى خلف من لا يعلم كفره ، ثمّ تبيّن أنّه كافر ، فإنّ الحنفيّة والحنابلة قالوا : إذا أمّهم زماناً على أنّه مسلم ، ثمّ ظهر أنّه كان كافراً ، فليس عليهم إعادة الصّلاة ، لأنّها كانت محكوماً بصحّتها ، وخبره غير مقبولٍ في الدّيانات لفسقه باعترافه .
وقال الشّافعيّة : لو بان إمامه كافراً معلناً ، وقيل : أو مخفياً ، وجبت الإعادة ، لأنّ المأموم مقصّر بترك البحث . وقال الشّربينيّ : إنّ الأصحّ عدم وجوب الإعادة إذا كان الإمام مخفياً كفره . ومثله مذهب المالكيّة حيث قالوا : تبطل الصّلاة بالاقتداء بمن كان كافراً ، سواء أكانت سرّيّةً أم جهريّةً ، وسواء أطالت مدّة صلاته إماماً بالنّاس أم لا . وصرّح الحنابلة ، وهو رواية عند المالكيّة ، بعدم جواز إمامة الفاسق ، وهو الّذي أتى بكبيرةٍ كشارب خمرٍ وزانٍ وآكل الرّبا ، أو داوم على صغيرةٍ . لكنّ الحنفيّة والشّافعيّة ذهبوا إلى جواز إمامة الفاسق مع الكراهة ، وهذا هو المعتمد عند المالكيّة إذا لم يتعلّق فسقه بالصّلاة ، وإلاّ بطلت عندهم كقصده الكبر بالإمامة ، وإخلاله بركنٍ أو شرطٍ أو سنّةٍ عمداً . وفي صلاة الجمعة والعيدين جاز إمامة الفاسق بغير كراهةٍ ، مع تفصيلٍ ينظر في مواضعه .
ب - العقل :
6 - يشترط في الإمام أن يكون عاقلاً ، وهذا الشّرط أيضاً متّفق عليه بين الفقهاء ، فلا تصحّ إمامة السّكران ، ولا إمامة المجنون المطبق ، ولا إمامة المجنون غير المطبق حال جنونه ، وذلك لعدم صحّة صلاتهم لأنفسهم فلا تبنى عليها صلاة غيرهم .
أمّا الّذي يجنّ ويفيق ، فتصحّ إمامته حال إفاقته .
ت - البلوغ :
7 - جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - على أنّه يشترط لصحّة الإمامة في صلاة الفرض أن يكون الإمام بالغاً ، فلا تصحّ إمامة مميّزٍ لبالغٍ في فرضٍ عندهم ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تقدّموا صبيانكم » ، ولأنّها حال كمالٍ والصّبيّ ليس من أهلها ، ولأنّ الإمام ضامن وليس هو من أهل الضّمان ، ولأنّه لا يؤمن معه الإخلال بالقراءة حال السّرّ . واستدلّوا كذلك على عدم صحّة إمامة الصّبيّ للبالغ في الفرض أنّ صلاة الصّبيّ نافلة فلا يجوز بناء الفرض عليها .(46/1)
أمّا في غير الفرض كصلاة الكسوف أو التّراويح فتصحّ إمامة المميّز للبالغ عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة - لأنّه لا يلزم منها بناء القويّ على الضّعيف . والمختار عند الحنفيّة عدم جواز إمامة المميّز للبالغ مطلقاً ، سواء أكانت في الفرائض أم في النّوافل ، لأنّ نفل الصّبيّ ضعيف لعدم لزومه بالشّروع ، ونفل المقتدي البالغ قويّ لازم مضمون عليه بعد الشّروع . ولم يشترط الشّافعيّة في الإمام أن يكون بالغاً ، فتصحّ إمامة المميّز للبالغ عندهم مطلقاً ، سواء أكانت في الفرائض أم النّوافل ،
لحديث « عمرو بن سلمة أنّه كان يؤمّ قومه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ أو سبع سنين » لكنّهم قالوا : البالغ أولى من الصّبيّ ، وإن كان الصّبيّ أقرأ أو أفقه ، لصحّة الاقتداء بالبالغ بالإجماع ، ولهذا نصّ في البويطيّ على كراهة الاقتداء بالصّبيّ . أمّا إمامة المميّز لمثله فجائزة في الصّلوات الخمس وغيرها عند جميع الفقهاء .
ث - الذّكورة :
8 - يشترط لإمامة الرّجال أن يكون الإمام ذكراً ، فلا تصحّ إمامة المرأة للرّجال ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء ، لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه » والأمر بتأخيرهنّ نهي عن الصّلاة خلفهنّ . ولما روى جابر مرفوعاً : « لا تؤمّنّ امرأة رجلاً » ولأنّ في إمامتها للرّجال افتتاناً بها .
أمّا إمامة المرأة للنّساء فجائزة عند جمهور الفقهاء - وهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - واستدلّ الجمهور لجواز إمامة المرأة للنّساء بحديث « أمّ ورقة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤمّ نساء أهل دارها » .
لكن كره الحنفيّة إمامتها لهنّ ، لأنّها لا تخلو عن نقصٍ واجبٍ أو مندوبٍ ، فإنّه يكره لهنّ الأذان والإقامة ، ويكره تقدّم المرأة الإمام عليهنّ . فإذا صلّت النّساء صلاة الجماعة بإمامة امرأةٍ وقفت المرأة الإمام وسطهنّ . أمّا المالكيّة فلا تجوز إمامة المرأة عندهم مطلقاً ولو لمثلها في فرضٍ أو نفلٍ . ولا تصحّ إمامة الخنثى للرّجال ولا لمثلها بلا خلافٍ ، لاحتمال أن تكون امرأةً والمقتدي رجلاً ، وتصحّ إمامتها للنّساء مع الكراهة أو بدونها عند جمهور الفقهاء ، خلافاً للمالكيّة حيث صرّحوا بعدم جوازها مطلقاً .
ج - القدرة على القراءة :
9- يشترط في الإمام أن يكون قادراً على القراءة وحافظاً مقدار ما يتوقّف عليه صحّة الصّلاة على تفصيلٍ يذكر في مصطلح ( قراءة ) .
وهذا الشّرط إنّما يعتبر إذا كان بين المقتدين من يقدر على القراءة ، فلا تصحّ إمامة الأمّيّ للقارئ ، ولا إمامة الأخرس للقارئ أو الأمّيّ ، لأنّ القراءة ركن مقصود في الصّلاة ، فلم يصحّ اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه ، ولأنّ الإمام ضامن ويتحمّل القراءة عن المأموم ، ولا يمكن ذلك في الأمّيّ ، ولتفصيل المسألة ( ر : اقتداء ) .
أمّا إمامة الأمّيّ للأمّيّ والأخرس فجائزة ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء .
هذا ، وتكره إمامة الفأفاء ( وهو من يكرّر الفاء ) والتّمتام ( وهو من يكرّر التّاء ) واللّاحن لحناً غير مغيّرٍ للمعنى عند الشّافعيّة والحنابلة . وقال الحنفيّة : الفأفأة ، والتّمتمة ، واللّثغة ( وهي تحرّك اللّسان من السّين إلى الثّاء ، أو من الرّاء إلى الغين ونحوه ) تمنع من الإمامة . وعند المالكيّة في جواز إمامة هؤلاء وأمثالهم خلاف .
ح - السّلامة من الأعذار :
10 - يشترط في الإمام إذا كان يؤمّ الأصحّاء أن يكون سالماً من الأعذار ، كسلس البول وانفلات الرّيح والجرح السّائل والرّعاف ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً ، وإنّما تجوز صلاتهم لعذرٍ ، ولا يتعدّى العذر لغيرهم لعدم الضّرورة ، ولأنّ الإمام ضامن ، بمعنى أنّ صلاته تضمن صلاة المقتدي ، والشّيء لا يضمن ما هو فوقه .
ولا يشترط في المشهور عند المالكيّة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - السّلامة من العذر لصحّة الإمامة ، لأنّ الأحداث إذا عفي عنها في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره .
وأمّا إمامة صاحب العذر لمثله فجائزة باتّفاق الفقهاء مطلقاً ، أو إن اتّحد عذرهما ( ر : اقتداء ) .
خ - القدرة على توفية أركان الصّلاة :
11 - يشترط في الإمام أن يكون قادراً على توفية الأركان ، وهذا إذا كان يصلّي بالأصحّاء ، فمن يصلّي بالإيماء ركوعاً أو سجوداً لا يصحّ أن يصلّي بمن يقدر عليهما عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) خلافاً للشّافعيّة فإنّهم أجازوا ذلك قياساً على صحّة إمامة المستلقي أو المضطجع للقاعد .
واختلفوا في صحّة إمامة القاعد للقائم ، فالمالكيّة والحنابلة لا يجوّزونها ، لأنّ فيه بناء القويّ على الضّعيف ، واستثنى الحنابلة إمام الحيّ إذا كان مرضه ممّا يرجى زواله ، فأجازوا إمامته ، واستحبّوا له إذا عجز عن القيام أن يستخلف ، فإن صلّى بهم قاعداً صحّ . والشّافعيّة يقولون بالجواز ، وهو قول أكثر الحنفيّة ، لحديث عائشة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « صلّى آخر صلاةٍ صلّاها بالنّاس قاعداً ، والقوم خلفه قيام » .
أمّا إمامة العاجز عن توفية الأركان لمثله فجائزة باتّفاق الفقهاء ، وللتّفصيل ( ر : اقتداء ) .
د - السّلامة من فقد شرطٍ من شروط الصّلاة :(46/2)
12 - يشترط في الإمام السّلامة من فقد شرطٍ من شروط صحّة الصّلاة كالطّهارة من حدثٍ أو خبثٍ ، فلا تصحّ إمامة محدثٍ ولا متنجّسٍ إذا كان يعلم ذلك ، لأنّه أخلّ بشرطٍ من شروط الصّلاة مع القدرة على الإتيان به ، ولا فرق بين الحدث الأكبر والأصغر ، ولا بين نجاسة الثّوب والبدن والمكان .
وصرّح المالكيّة والشّافعيّة أنّ علم المقتدي بحدث الإمام بعد الصّلاة مغتفر ، وقال الحنفيّة : من اقتدى بإمامٍ ثمّ علم أنّ إمامه محدث أعاد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أمّ قوماً ثمّ ظهر أنّه كان محدثاً أو جنباً أعاد صلاته » .
وفصّل الحنابلة فقالوا : لو جهله المأموم وحده وعلمه الإمام يعيدون كلّهم ، أمّا إذا جهله الإمام والمأمومون كلّهم حتّى قضوا الصّلاة صحّت صلاة المأموم وحده ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا صلّى الجنب بالقوم أعاد صلاته وتمّت للقوم صلاتهم » . وتفصيله في مصطلح : ( طهارة ) .
ذ - النّيّة :
13 - يشترط في الإمام عند الحنابلة نيّة الإمامة ، فإنّهم قالوا : من شرط صحّة الجماعة : أن ينوي الإمام أنّه إمام وينوي المأموم أنّه مأموم . ولو أحرم منفرداً ثمّ جاء آخر فصلّى معه ، فنوى إمامته صحّ في النّفل ، لحديث ابن عبّاسٍ أنّه قال : « بتّ عند خالتي ميمونة ، فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم متطوّعاً من اللّيل ، فقام إلى القربة فتوضّأ ، فقام فصلّى ، فقمت لمّا رأيته صنع ذلك ، فتوضّأت من القربة ، ثمّ قمت إلى شقّه الأيسر ، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشّقّ الأيمن » .
أمّا في الفرض فإن كان ينتظر أحداً ، كإمام المسجد يحرم وحده ، وينتظر من يأتي فيصلّي معه ، فيجوز ذلك أيضاً .
واختار ابن قدامة أنّ الفرض كالنّفل في صحّة صلاة من أحرم منفرداً ثمّ نوى أن يكون إماماً . وقال الحنفيّة : نيّة الرّجل الإمامة شرط لصحّة اقتداء النّساء إن كنّ وحدهنّ ، وهذا في صلاةٍ ذات ركوعٍ وسجودٍ ، لا في صلاة الجنازة ، لما يلزم من الفساد بمحاذاة المرأة له لو حاذته ، وإن لم ينو إمامة المرأة ونوت هي الاقتداء به لم تضرّه ، فتصحّ صلاته ولا تصحّ صلاتها ، لأنّ الاشتراك لا يثبت دون النّيّة .
ولا يشترط نيّة الإمام الإمامة عند المالكيّة والشّافعيّة ، إلاّ في الجمعة والصّلاة المعادة والمنذورة عند الشّافعيّة ، لكنّه يستحبّ عندهم للإمام أن ينوي الإمامة في سائر الصّلوات للخروج من خلاف الموجب لها ، وليحوز فضيلة الإمامة وصلاة الجماعة .
الأحقّ بالإمامة :
14 - وردت في ذلك الأحاديث التّالية : عن أبي سعيدٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا كانوا ثلاثةً فليؤمّهم أحدهم ، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم » رواه أحمد ومسلم والنّسائيّ . وعن أبي مسعودٍ عقبة بن عمرٍو قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه ، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنّة ، فإن كانوا في السّنّة سواءً فأقدمهم هجرةً ، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سنّاً ، ولا يؤمّنّ الرّجل الرّجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلاّ بإذنه » .
15 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمع قوم وكان فيهم ذو سلطانٍ ، كأميرٍ ووالٍ وقاضٍ فهو أولى بالإمامة من الجميع حتّى من صاحب المنزل وإمام الحيّ ، وهذا إذا كان مستجمعاً لشروط صحّة الصّلاة كحفظ مقدار الفرض من القراءة والعلم بأركان الصّلاة ، حتّى ولو كان بين القوم من هو أفقه أو أقرأ منه ، لأنّ ولايته عامّة ، ولأنّ ابن عمر كان يصلّي خلف الحجّاج . وإن لم يكن بينهم ذو سلطانٍ يقدّم صاحب المنزل ، ويقدّم إمام الحيّ وإن كان غيره أفقه أو أقرأ أو أورع منه ، إن شاء تقدّم وإن شاء قدّم من يريده . لكنّه يستحبّ لصاحب المنزل أن يأذن لمن هو أفضل منه .
واتّفقوا كذلك على أنّ بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال ، ومن استجمع خصال العلم وقراءة القرآن والورع وكبر السّنّ وغيرها من الفضائل كان أولى بالإمامة .
ولا خلاف في تقديم الأعلم والأقرأ على سائر النّاس ، ولو كان في القوم من هو أفضل منه في الورع والسّنّ وسائر الأوصاف .
وجمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ) على أنّ الأعلم بأحكام الفقه أولى بالإمامة من الأقرأ ، لحديث : « مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس » وكان ثمّة من هو أقرأ منه ، لا أعلم منه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أقرؤكم أبيٍّ » ، ولقول أبي سعيدٍ :" كان أبو بكرٍ أعلمنا "، وهذا آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيكون المعوّل عليه . ولأنّ الحاجة إلى الفقه أهمّ منها إلى القراءة ، لأنّ القراءة إنّما يحتاج إليها لإقامة ركنٍ واحدٍ ، والفقه يحتاج إليه لجميع الأركان والواجبات والسّنن .
وقال الحنابلة ، وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة : إنّ أقرأ النّاس أولى بالإمامة ممّن هو أعلمهم ، لحديث أبي سعيدٍ قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا كانوا ثلاثة فليؤمّهم أحدهم ، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم » ولأنّ القراءة ركن لا بدّ منه ، والحاجة إلى العلم إذا عرض عارض مفسد ليمكنه إصلاح صلاته ، وقد يعرض وقد لا يعرض .(46/3)
16 - أمّا إذا تفرّقت خصال الفضيلة من العلم والقراءة والورع وكبر السّنّ وغيرها في أشخاصٍ فقد اختلفت أقوال الفقهاء . فمنهم من قدّم الأعلم على الأقرأ ، وقالوا : إنّما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ ، لأنّ أصحابه كان أقرؤهم أعلمهم ، فإنّهم كانوا إذا تعلّموا القرآن تعلّموا معه أحكامه ، وهذا قول جمهور الفقهاء . والأصل في أولويّة الإمامة حديث أبي مسعودٍ الأنصاريّ أنّ النّبيّ عليه السلام قال : « يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه ، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنّة ، فإن كانوا في السّنّة سواءً فأقدمهم هجرةً ، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سنّاً » .
17 - وفي ترتيب الأولويّة في الإمامة بعد الاستواء في العلم والقراءة ، قال الحنفيّة والشّافعيّة : يقدّم أورعهم أي الأكثر اتّقاءً للشّبهات ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « من صلّى خلف عالمٍ تقيٍّ فكأنّما صلّى خلف نبيٍّ » ولأنّ الهجرة المذكورة بعد القراءة والعلم بالسّنّة نسخ وجوبها بحديث : « لا هجرة بعد الفتح » فجعلوا الورع - وهو هجر المعاصي - مكان تلك الهجرة .
ومثله ما صرّح به المالكيّة حيث قالوا : الأولويّة بعد الأعلم والأقرأ للأكثر عبادةً . ثمّ إن استووا في الورع يقدّم عند الجمهور الأقدم إسلاماً ، فيقدّم شابّ نشأ في الإسلام على شيخٍ أسلم حديثاً . أمّا لو كانوا مسلمين من الأصل ، أو أسلموا معاً فإنّه يقدّم الأكبر سنّاً ، لقوله عليه السلام : « وليؤمّكما أكبركما سنّاً » . ولأنّ الأكبر في السّنّ يكون أخشع قلباً عادةً ، وفي تقديمه كثرة الجماعة .
18 - فإن استووا في الصّفات والخصال المتقدّمة من العلم والقراءة والورع والسّنّ ، قال الحنفيّة يقدّم الأحسن خلقاً ، لأنّ حسن الخلق من باب الفضيلة ، ومبنى الإمامة على الفضيلة ، فإن كانوا فيه سواءً فأحسنهم وجهاً ، لأنّ رغبة النّاس في الصّلاة خلفه أكثر ، ثمّ الأشرف نسباً ، ثمّ الأنظف ثوباً . فإن استووا يقرع بينهم .
وقال المالكيّة : يقدّم بعد الأسنّ الأشرف نسباً ، ثمّ الأحسن صورةً ، ثمّ الأحسن أخلاقاً ، ثمّ الأحسن ثوباً .
والشّافعيّة كالمالكيّة في تقديم الأشرف نسباً ، ثمّ الأنظف ثوباً وبدناً ، وحسن صوتٍ ، وطيّب صفةٍ وغيرها ، ثمّ يقرع بينهم . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا أنّه إن استووا في القراءة والفقه فأقدمهم هجرةً ، ثمّ أسنّهم ، ثمّ أشرفهم نسباً ، ثمّ أتقاهم وأورعهم ، فإن استووا في هذا كلّه أقرع بينهم . ولا يقدّم بحسن الوجه عندهم ، لأنّه لا مدخل له في الإمامة ، ولا أثر له فيها . وهذا التّقديم إنّما هو على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الاشتراط ولا الإيجاب ، فلو قدّم المفضول كان جائزاً اتّفاقاً ما دام مستجمعاً شرائط الصّحّة ، لكن مع الكراهة عند الحنابلة . والمقصود بذكر هذه الأوصاف وربط الأولويّة بها هو كثرة الجماعة ، فكلّ من كان أكمل فهو أفضل ، لأنّ رغبة النّاس فيه أكثر .
اختلاف صفة الإمام والمقتدي :
19 - الأصل أنّ الإمام إذا كان أقوى حالاً من المقتدي أو مساوياً له صحّت إمامته اتّفاقاً ، أمّا إذا كان أضعف حالاً ، كأن كان يصلّي نافلةً والمقتدي يصلّي فريضةً ، أو كان الإمام معذوراً والمقتدي سليماً ، أو كان الإمام غير قادرٍ على القيام مثلاً والمقتدي قادراً ، فقد اختلفت آراء الفقهاء ، وإجمالها فيما يأتي :
أوّلاً : تجوز إمامة الماسح للغاسل وإمامة المسافر للمقيم اتّفاقاً ، وتجوز إمامة المتيمّم للمتوضّئ عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - ، وقيّد الشّافعيّة هذا الجواز بما إذا لم تجب على الإمام الإعادة .
ثانياً : جمهور الفقهاء على عدم جواز إمامة المتنفّل للمفترض ، والمفترض للّذي يؤدّي فرضاً آخر ، وعدم إمامة الصّبيّ للبالغ في فرضٍ ، وإمامة المعذور للسّليم ، وإمامة العاري للمكتسي ، وإمامة العاجز عن توفية ركنٍ للقادر عليه ، مع خلافٍ وتفصيلٍ في بعض الفروع ، أمّا إمامة هؤلاء لأمثالهم فجائزة باتّفاق الفقهاء . وللتّفصيل يرجع إلى بحث : ( اقتداء ) .
موقف الإمام :
20 - إذا كان يصلّي مع الإمام اثنان أو أكثر فإنّ الإمام يتقدّمهم في الموقف ، لفعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعمل الأمّة بذلك . وقد روي أنّ « جابراً وجبّاراً وقف أحدهما عن يمين النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر عن يساره ، فأخذ بأيديهما حتّى أقامهما خلفه » . ولأنّ الإمام ينبغي أن يكون بحالٍ يمتاز بها عن غيره ، ولا يشتبه على الدّاخل ليمكنه الاقتداء به . ولو قام في وسط الصّفّ أو في ميسرته جاز مع الكراهة لتركه السّنّة . ويرى الحنابلة بطلان صلاة من يقف على يسار الإمام ، إذا لم يكن أحد عن يمينه .
ولو كان مع الإمام رجل واحد أو صبيّ يعقل الصّلاة وقف الإمام عن يساره والمأموم عن يمينه ، لما روي عن ابن عبّاسٍ « أنّه وقف عن يسار النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأداره إلى يمينه » . ويندب في هذه الحالة تأخّر المأموم قليلاً خوفاً من التّقدّم . ولو وقف المأموم عن يساره أو خلفه جاز مع الكراهة إلاّ عند الحنابلة فتبطل على ما سبق .
ولو كان معه امرأة أقامها خلفه ، لقوله عليه السلام : « أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه » . ولو كان معه رجل وامرأة أقام الرّجل عن يمينه والمرأة خلفه ، وإن كان رجلان وامرأة أقام الرّجلين خلفه والمرأة وراءهما .
21- والسّنّة أن تقف المرأة الّتي تؤمّ النّساء وسطهنّ ، لما روي أنّ عائشة وأمّ سلمة أمّتا نساءً فقامتا وسطهنّ وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .(46/4)
أمّا المالكيّة فقد صرّحوا بعدم جواز إمامتها ولو لمثلها ، في فريضةٍ كانت أو في نافلةٍ كما تقدّم في شروط الإمامة .
22 - ولا يجوز تأخّر الإمام عن المأموم في الموقف عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به » ومعنى الائتمام الاتّباع ، والمتقدّم غير تابعٍ . وأجاز المالكيّة تأخّره في الموقف إذا أمكن للمأمومين متابعته في الأركان ، لكنّهم صرّحوا بكراهة تقدّم المقتدي على الإمام أو محاذاته له إلاّ لضرورةٍ . والاختيار في التّقدّم والتّأخّر للقائم بالعقب ، وللقاعد بالألية ، وللمضطجع بالجنب .
23 - هذا ، ويكره أن يكون موقف الإمام عالياً عن موقف المقتدين اتّفاقاً ، إلاّ إذا أراد الإمام تعليم المأمومين ، فالسّنّة أن يقف الإمام في موضعٍ عالٍ عند الشّافعيّة ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثمّ قال : { أيّها النّاس : إنّما فعلت هذا لتأتمّوا بي ، ولتعلموا صلاتي » . أمّا إذا أراد الإمام بذلك الكبر فممنوع . ولا بأس عند الحنابلة بالعلوّ اليسير ، وقدّروه بمثل درجة المنبر . وقدّر الحنفيّة العلوّ المكروه بما كان قدر ذراعٍ على المعتمد . ولتفصيل هذه المسائل يراجع مصطلح : ( صلاة الجماعة ) ( واقتداء ) .
من تكره إمامتهم :
24 - إنّ بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال ، فكلّ من كان أكمل فهو أفضل ، وإن تقدّم المفضول على الفاضل جاز وكره وإذا أذن الفاضل للمفضول لم يكره ، وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء . وقد سبق بيانه في بحث الأولويّة .
ثمّ قال الحنفيّة : يكره تقديم العبد لأنّه لا يتفرّغ للتّعلّم ، والأعرابيّ وهو من يسكن البادية لغلبة الجهل عليه ، ويكره تقديم الفاسق لأنّه لا يهتمّ بأمر دينه ، والأعمى لأنّه لا يتوقّى النّجاسة ، كما يكره إمامة ولد الزّنى ، والمبتدع بدعةً غير مكفّرةٍ ، كذلك يكره إمامة أمرد وسفيهٍ ومفلوجٍ وأبرص شاع برصه . ولأنّ في تقديم هؤلاء تنفير الجماعة ، لكنّه إن تقدّموا جاز ، لقوله عليه السلام : « صلّوا خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ » .
والكراهة في حقّهم لما ذكر من النّقائص ، فلو عدمت بأن كان الأعرابيّ أفضل من الحضريّ ، والعبد من الحرّ ، وولد الزّنى من ولد الرّشدة والأعمى من البصير زالت الكراهة . أمّا الفاسق والمبتدع فلا تخلو إمامتهما عن الكراهة بحالٍ ، حتّى صرّح بعضهم بأنّ كراهة تقديمهما كراهة تحريمٍ .
وقال المالكيّة : كره إمامة مقطوع اليد أو الرّجل والأشلّ والأعرابيّ لغيره وإن كان أقرأ ، وكره إمامة ذي السّلس والقروح للصّحيح ، وإمامة من يكرهه بعض الجماعة ، فإن كرهه الكلّ أو الأكثر ، أو ذو الفضل منهم - وإن قلّوا - فإمامته حرام ، لقوله عليه السلام : « لعن رسول اللّه ثلاثةً : رجل أمّ قوماً وهم له كارهون ... » كما كره أن يجعل إماماً راتباً كلّ من الخصيّ أو المأبون أو الأقلف ( غير المختون ) أو ولد الزّنى ، أو مجهول الحال .
وقال الشّافعيّة : يكره إمامة الفاسق والأقلف وإن كان بالغاً ، كما يكره إمامة المبتدع ، ومن يكرهه أكثر القوم لأمرٍ مذمومٍ فيه شرعاً ، والتّمتام والفأفاء ، واللّاحن لحناً غير مغيّرٍ للمعنى ، لكن الأعمى والبصير سيّان في الإمامة ، لتعارض فضيلتهما ، لأنّ الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع ، والبصير ينظر الخبث فهو أحفظ لتجنّبه . وإمامة الحرّ أولى من العبد ، والسّميع أولى من الأصمّ ، والفحل أولى من الخصيّ والمجبوب ، والقرويّ أولى من البدويّ . وقال الحنابلة : تكره إمامة الأعمى والأصمّ واللّحّان الّذي لا يحيل المعنى ، ومن يصرع ، ومن اختلف في صحّة إمامته ، وكذا إمامة الأقلف وأقطع اليدين أو إحداهما ، أو الرّجلين أو إحداهما ، والفأفاء والتّمتام ، وأن يؤمّ قوماً أكثرهم يكرهه لخللٍ في دينه أو فضله . ولا بأس بإمامة ولد الزّنى واللّقيط والمنفيّ باللّعان والخصيّ والأعرابيّ إذا سلم دينهم وصلحوا لها . هذا ، والكراهة إنّما تكون فيما إذا وجد في القوم غير هؤلاء ، وإلاّ فلا كراهة اتّفاقاً .
ما يفعله الإمام قبل بداية الصّلاة :
25 - إذا أراد الإمام الصّلاة يأذن للمؤذّن أن يقيمها ، فإنّ « بلالاً كان يستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم للإقامة » ، ويسنّ للإمام أن يقوم للصّلاة حين يقال ( حيّ على الفلاح ) أو حين قول المؤذّن : ( قد قامت الصّلاة ) أو مع الإقامة أو بعدها بقدر الطّاقة على تفصيلٍ عند الفقهاء ، وإذا كان مسافراً يخبر المأمومين بذلك ليكونوا على علمٍ بحاله ، ويصحّ أن يخبرهم بعدم تمام الصّلاة ليكملوا صلاتهم . كما يسنّ أن يأمر بتسوية الصّفوف فيلتفت عن يمينه وشماله قائلاً : اعتدلوا وسوّوا صفوفكم ، لما روى محمّد بن مسلمٍ قال : « صلّيت إلى جانب أنس بن مالكٍ يوماً فقال : هل تدري لم صنع هذا العود ؟ فقلت : لا واللّه . فقال : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة أخذه بيمينه فقال : اعتدلوا وسوّوا صفوفكم ، ثمّ أخذه بيساره وقال : اعتدلوا وسوّوا صفوفكم » ، وفي روايةٍ : « اعتدلوا في صفوفكم وتراصّوا ، فإنّي أراكم من وراء ظهري » .
ما يفعله الإمام أثناء الصّلاة :
أ - الجهر أو الإسرار بالقراءة :
26 - يجهر الإمام بالقراءة في الفجر والرّكعتين الأوليين من المغرب والعشاء أداءً وقضاءً ، وكذلك في الجمعة والعيدين والتّراويح والوتر بعدها . ويسرّ في غيرها من الصّلوات . والجهر فيما يجهر فيه والمخافتة فيما يخافت فيه واجب على الإمام عند الحنفيّة ، وسنّة عند غيرهم . وتفصيله في مصطلح : ( قراءة ) .
ب - تخفيف الصّلاة :(46/5)
27 - يسنّ للإمام أن يخفّف في القراءة والأذكار مع فعل الأبعاض والهيئات ، ويأتي بأدنى الكمال ، لما روي عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا صلّى أحدكم بالنّاس فليخفّف ، فإنّ فيهم السّقيم والضّعيف والكبير » ، ولحديث معاذٍ أنّه كان يطوّل بهم القراءة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أفتّان أنت يا معاذ ، صلّ بالقوم صلاة أضعفهم » ، لكنّه إن صلّى بقومٍ يعلم أنّهم يؤثرون التّطويل لم يكره ، لأنّ المنع لأجلهم ، وقد رضوا . ويكره له الإسراع ، بحيث يمنع المأموم من فعل ما يسنّ له ، كتثليث التّسبيح في الرّكوع والسّجود ، وإتمام ما يسنّ في التّشهّد الأخير .
ج - الانتظار للمسبوق :
28 - إن أحسّ الإمام بشخصٍ داخلٍ وهو راكع ، ينتظره يسيراً ما لم يشقّ على من خلفه ، وهذا عند الحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، لأنّه انتظار ينفع ولا يشقّ ، فشرع كتطويل الرّكعة وتخفيف الصّلاة ، وقد ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يطيل الرّكعة الأولى حتّى لا يسمع وقع قدمٍ » . وكان ينتظر الجماعة فإن رآهم قد اجتمعوا عجّل ، وإذا رآهم قد أبطئوا أخّر . ويكره ذلك عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة .
د - الاستخلاف :
29 - إذا حدث للإمام عذر لا تبطل به صلاة المأمومين يجوز للإمام أن يستخلف غيره من المأمومين لتكميل الصّلاة بهم ، وهذا عند جمهور الفقهاء .
وفي كيفيّة الاستخلاف وشروطه وأسبابه تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( استخلاف ) .
ما يفعله الإمام عقب الفراغ من الصّلاة :
30 - يستحبّ للإمام والمأمومين عقب الصّلاة ذكر اللّه والدّعاء بالأدعية المأثورة ، منها ما رواه الشّيخان « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قدير ... إلخ » ، كما يستحبّ له إذا فرغ من الصّلاة أن يقبل على النّاس بوجهه يميناً أو شمالاً إذا لم يكن بحذائه أحد ، لما روي عن سمرة قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى صلاةً أقبل علينا بوجهه » .
ويكره له المكث على هيئته مستقبل القبلة ، لما روي عن عائشة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصّلاة لا يمكث في مكانه إلاّ مقدار أن يقول : اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام » ، ولأنّ المكث يوهم الدّاخل أنّه في الصّلاة فيقتدي به . كما يكره له أن يتنفّل في المكان الّذي أمّ فيه .
وإذا أراد الانصراف فإن كان خلفه نساء استحبّ له أن يلبث يسيراً ، حتّى ينصرف النّساء ولا يختلطن بالرّجال ، لما روت أمّ سلمة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلّم قام النّساء حين يقضي سلامه ، فيمكث يسيراً قبل أن يقوم » . ثمّ ينصرف الإمام حيث شاء عن يمينٍ وشمالٍ .
31 - ويستحبّ كذلك للإمام المسافر إذا صلّى بمقيمين أن يقول لهم عقب تسليمه : أتمّوا صلاتكم فإنّا سفر ، لما روي عن عمران بن حصينٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بأهل مكّة ركعتين ، ثمّ قال لهم : صلّوا أربعاً فإنّا سفر » .
هذا ، وقد فرّق الحنفيّة بين الصّلوات الّتي بعدها سنّة وبين الّتي ليست بعدها سنّة ، فقالوا : إن كانت صلاةً لا تصلّى بعدها سنّة ، كالفجر والعصر فإن شاء الإمام قام ، وإن شاء قعد يشتغل بالدّعاء ، مغيّراً هيئته أو منحرفاً عن مكانه . وإن كانت صلاةً بعدها سنّة يكره له المكث قاعداً ، ولكن يقوم ويتنحّى عن ذلك المكان ثمّ يتنفّل .
ووجه التّفرقة عندهم أنّ السّنن بعد الفرائض شرعت لجبر النّقصان ، ليقوم في الآخرة مقام ما ترك فيها لعذرٍ ، فيكره الفصل بينهما بمكثٍ طويلٍ ، ولا كذلك الصّلوات الّتي ليست بعدها سنّة . ولم يعثر على هذه التّفرقة في كتب غير الحنفيّة .
الأجر على الإمامة :
32 - ذهب جمهور الفقهاء : - الشّافعيّة والحنابلة ، والمتقدّمون من الحنفيّة - إلى عدم جواز الاستئجار لإمامة الصّلاة ، لأنّها من الأعمال الّتي يختصّ فاعلها بكونه من أهل القربة ، فلا يجوز الاستئجار عليها كنظائرها من الأذان وتعليم القرآن ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به » . ولأنّ الإمام يصلّي لنفسه ، فمن أراد اقتدى به وإن لم ينو الإمامة ، وإن توقّف على نيّته شيء فهو إحراز فضيلة الجماعة ، وهذه فائدة تختصّ به . ولأنّ العبد فيما يعمله من القربات والطّاعات عامل لنفسه ، قال سبحانه وتعالى : { من عمل صالحاً فلنفسه } ، ومن عمل لنفسه لا يستحقّ الأجر على غيره .
وقال المالكيّة : جاز أخذ الأجرة على الأذان وحده أو مع صلاةٍ ، وكره الأجر على الصّلاة وحدها ، فرضاً كانت أو نفلاً من المصلّين .
والمفتى به عند متأخّري الحنفيّة جواز الاستئجار لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ، ويجبر المستأجر على دفع المسمّى بالعقد أو أجر المثل إذا لم تذكر مدّة .
واستدلّوا للجواز بالضّرورة ، وهي خشية ضياع القرآن لظهور التّواني في الأمور الدّينيّة اليوم . وهذا كلّه في الأجر . وأمّا الرّزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدّى نفعه من هذه الأمور بلا خلافٍ ، لأنّه من باب الإحسان والمسامحة ، بخلاف الإجارة فإنّها من باب المعاوضة ، ولأنّ بيت المال لمصالح المسلمين ، فإذا كان بذله لمن يتعدّى نفعه إلى المسلمين محتاجاً إليه كان من المصالح ، وكان للآخذ أخذه ، لأنّه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح .(46/6)
إمساك *
التّعريف :
1 - من معاني الإمساك في اللّغة القبض . يقال : أمسكته بيدي إمساكاً : قبضته ، ومن معانيه أيضاً الكفّ يقال : أمسكت عن الأمر : كففت عنه .
واستعمله الفقهاء أيضاً في هذين المعنيين في مواضع مختلفةٍ ، لأنّ مرادهم بالإمساك في الجنايات القبض باليد . فإذا أمسك رجل آخر فقتله الثّالث يقتل الممسك قصاصاً عند المالكيّة إذا كان الإمساك بقصد القتل ، وعند غيرهم لا يقتل كما سيأتي . ومرادهم بالإمساك في الصّيام : الكفّ عن المفطرات والامتناع عن الأكل والشّرب والجماع ، كما صرّحوا بذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاحتباس :
2 - الاحتباس لغةً : هو المنع من حرّيّة السّعي ، ويختصّ بما يحبسه الإنسان لنفسه . تقول : احتبست الشّيء : إذا اختصصته لنفسك خاصّةً .
ويطلق الاحتباس عند الفقهاء على تسليم المرأة نفسها لزوجها ، كما قالوا : إنّ النّفقة جزاء الاحتباس . كما يطلقون الاحتباس أو الحبس على الوقف ، لما فيه من منع التّصرّف فيه ، وعلى هذا فالاحتباس أخصّ من الإمساك .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم الإمساك باختلاف الموضوعات الّتي ذكر فيها : من الصّيام ، والصّيد ، والطّلاق ، والقصاص .
أوّلاً : إمساك الصّيد :
3 - يطلق إمساك الصّيد على الاصطياد ، وعلى إبقاء الصّيد في اليد بدلاً من إرساله ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ إمساك صيد البرّ حرام إذا كان في حالة الإحرام ، أو كان في داخل حدود الحرم . وكذلك الدّلالة والإشارة إلى الصّيد والإعانة في قتله ، كما هو مبيّن في مصطلح ( إحرام ) على تفصيلٍ في ذلك .
4 - ويجوز الاصطياد بجوارح السّباع والطّير ، كالكلب والفهد والبازي والشّاهين ، ويشترط في الجارح أن يمسك الصّيد على صاحبه . بشرط كونه معلّماً .
والإمساك على صاحبه شرط من شروط كون الكلب معلّماً عند الجمهور ، فإنّهم صرّحوا أنّ تعليم الكلب هو أنّه إذا أرسل اتّبع الصّيد . وإذا أخذه أمسكه على صاحبه . ولا يأكل منه شيئاً . حتّى لو أخذ صيداً فأكل منه لا يؤكل عند الجمهور ، بدليل قوله تعالى : { فكلوا ممّا أمسكن عليكم } إشارةً إلى أنّ حدّ تعليم الكلب وما هو في معناه هو الإمساك على صاحبه وترك الأكل منه ، والكلب الّذي يأكل إنّما أمسك على نفسه لا على صاحبه ، فكان فعله مضافاً إليه لا إلى المرسل فلا يجوز أكله . واستدلّ لذلك بحديث « عديّ بن حاتمٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : فإن أكل فلا تأكل ، فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه » .
وقال مالك وهو رواية عن أحمد : إنّ الإمساك ليس شرطاً في تعليم الحيوان الّذي يرسل إلى الصّيد . فالحيوان المعلّم هو الّذي إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر ، لأنّ التّعليم إنّما شرط حالة الاصطياد وهي حالة الاتّباع . أمّا الإمساك على صاحبه وترك الأكل فيكونان بعد الفراغ عن الاصطياد فلا يشترطان . وتفصيله في مصطلح ( صيد ) .
ثانياً : الإمساك في الصّيام :
5 - الإمساك عن الأكل والشّرب والجماع بشرائط مخصوصةٍ هو معنى الصّيام عند الفقهاء . وهناك إمساك لا يعدّ صوماً ، لكنّه واجب في أحوالٍ منها : ما إذا أفطر لاعتقاده أنّ اليوم من شعبان ، فتبيّن أنّه من رمضان ، لزمه الإمساك عن جميع المفطرات لحرمة الشّهر ، وإن كان لا يحتسب إمساكه هذا صوماً .
كذلك يلزم إمساك بقيّة اليوم لكلّ من أفطر في نهار رمضان والصّوم لازم له ، كالمفطر بغير عذرٍ ، والمفطر يظنّ أنّ الفجر لم يطلع وقد كان طلع ، أو ظنّ أنّ الشّمس قد غابت ولم تغب ، مع وجوب القضاء عند عامّة الفقهاء .
6- أمّا من يباح له الفطر وزال عذره في نهار رمضان كما لو بلغ الصّبيّ ، أو أفاق المجنون ، أو أسلم الكافر ، أو صحّ المريض أو أقام المسافر ، أو طهرت الحائض والنّفساء ، فالمالكيّة وكذا الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في روايةٍ على عدم وجوب الإمساك عليهم بقيّة يومهم . وصرّح بعضهم باستحباب إمساكهم لحرمة الشّهر .
أمّا الحنفيّة والشّافعيّة في قولهم الثّاني والحنابلة في روايةٍ فقد صرّحوا بوجوب الإمساك عليهم بقيّة يومهم ، كما إذا قامت البيّنة على رؤية هلال رمضان في أثناء النّهار . وللفقهاء في صوم يوم الشّكّ خلاف وتفصيل ، لكن المالكيّة صرّحوا بأنّه يندب الإمساك عن المفطر في يوم الشّكّ بقدر ما جرت العادة بالثّبوت فيه ليتحقّق الحال .
وللتّفصيل في هذه المسائل يرجع إلى مصطلح ( صيام ) .
ثالثاً : الإمساك في القصاص :
7 - إن أمسك شخص إنساناً وقتله آخر فلا خلاف أنّ القاتل يقتل قصاصاً . أمّا الممسك فإن لم يعلم أنّ الجاني كان يريد القتل فلا قصاص عليه اتّفاقاً ، لأنّه متسبّب والقاتل مباشر ، والقاعدة الفقهيّة تقول : ( إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر ) .
كذلك إذا كان الإمساك بقصد القتل بحيث لولا إمساكه له لما أدركه القاتل مع علم الممسك بأنّ الجاني قاصد قتله فقتله الثّالث فالحنفيّة والشّافعيّة على أنّه لا يقتصّ من الممسك ، لتقديم المباشر على المتسبّب .
وقال مالك وهو رواية عن أحمد : يقتصّ من الممسك لتسبّبه كما يقتصّ من القاتل لمباشرته ، لأنّه لو لم يمسكه لما قدر القاتل على قتله ، وبإمساكه تمكّن من قتله ، فيكونان شريكين . وروي عن أحمد أنّ من أمسك شخصاً ليقتله الطّالب يحبس الممسك حتّى يموت . لأنّه أمسك القتيل حتّى الموت . وتفصيله في مصطلح ( قصاص )
رابعاً : الإمساك في الطّلاق :(47/1)
8 - الإمساك من صيغ الرّجعة في الطّلاق الرّجعيّ عند الجمهور ( الحنفيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ) فتصحّ الرّجعة بقوله : مسكتك أو أمسكتك بدون حاجةٍ إلى النّيّة ، لأنّه ورد به الكتاب لقوله تعالى : { فأمسكوهنّ بمعروفٍ } يعني الرّجعة .
وقال المالكيّة وهو القول الثّاني للشّافعيّة : إن قال : أمسكتها ، يكون مراجعاً بشرط النّيّة . ويصير مراجعاً بالإمساك الفعليّ إذا كان بشهوةٍ عند الحنفيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وكذلك عند المالكيّة إذا اقترن الإمساك بالنّيّة . وقال الشّافعيّة : لا تحصل الرّجعة بفعلٍ كوطءٍ ومقدّماته ، لأنّ ذلك حرّم بالطّلاق ومقصود الرّجعة حلّه ، فلا تحصل به .
أمّا الإمساك لغير شهوةٍ فليس برجعةٍ عند عامّة الفقهاء .
9- وذكر الفقهاء أنّ الطّلاق في الحيض طلاق بدعةٍ لكنّه إن حصل وقع ، وتستحبّ مراجعتها عند الجمهور . وقال مالك : يجبر على الرّجعة ، لحديث ابن عمر « مره فليراجعها ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر » .
فإذا راجعها وجب إمساكها عند عامّة الفقهاء حتّى تطهر من الحيض وندب إمساكها حتّى تحيض حيضةً أخرى . وتفصيله في مصطلح ( رجعة ) .(47/2)
إنصات *
التّعريف :
1 - الإنصات لغةً واصطلاحاً : السّكوت للاستماع . وعرّفه البعض بالسّكوت .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستماع :
2 - الاستماع قصد السّماع بغية فهم المسموع أو الاستفادة منه ، فالإنصات سكوت بقصد الاستماع . وفي الفروق في اللّغة : أنّ الاستماع استفادة المسموع بالإصغاء إليه ليفهم ، ولهذا لا يقال إنّ اللّه يستمع .
ب - السّماع :
3 - السّماع مصدر ( سمع ) ولا يشترط في السّماع قصد المسموع ، ويشترط في الإنصات قصده .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - يتناول الفقهاء الإنصات في عدّة مواطن منها :
أ - الإنصات لخطبة الجمعة ، فيرى الجمهور وجوب الإنصات على من حضر الجمعة ، وفيه خلاف وتفصيل وينظر في مصطلح ( استماعٍ ) والإنصات في خطبة العيدين ، حكمه حكم الإنصات في خطبة الجمعة ، صرّح بذلك الحنفيّة ، والشّافعيّة ، ويندب عند المالكيّة .
أمّا الإنصات في الصّلاة عند جهر الإمام بالقراءة ، وكذلك الإنصات لقراءة القرآن الكريم خارجها فهو مطلوب شرعاً لقوله سبحانه : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وتفصيل ذلك كلّه في مصطلح ( استماعٍ ) .(48/1)
إنماء *
التّعريف :
1 - الإنماء لغةً : مصدر أنمى ، وهو من نمى ينمي نمياً ، ونماءً ، وفي لغةٍ : نما ينمو نموّاً ، أي زاد وكثر ، ونمّيت الشّيء تنميةً جعلته ينمو . فالإنماء والتّنمية : فعل ما به يزيد الشّيء ويكثر . ونمى الصّيد : غاب ، والإنماء أن يرمي الصّيد فيغيب عن عينه ثمّ يدركه ميّتاً ، وعن ابن عبّاسٍ مرفوعاً : « كل ما أصميت ، ودع ما أنميت » .
ولا يخرج استعمال الفقهاء له عمّا ورد في المعنى اللّغويّ .
ثمّ النّماء هو الزّيادة ، أي ما يكون نتيجة الإنماء غالباً ، كما يقول الفقهاء ، وقد يكون النّماء ذاتيّاً .
والنّماء نوعان : حقيقيّ وتقديريّ ، فالحقيقيّ الزّيادة بالتّوالد والتّناسل والتّجارات . والتّقديريّ : التّمكّن من الزّيادة بكون المال في يده أو يد نائبه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّثمير والاستثمار :
2 - التّثمير والاستثمار كالإنماء أيضاً ، يقال : ثمّر ماله إذا نمّاه .
ب - التّجارة :
3 - التّجارة تقليب المال بالمعاوضة لغرض الرّبح .
فهي بذلك من الأعمال الّتي يطلب بها زيادة المال وتعتبر وسيلةً من وسائل تنميته .
ج - الاكتساب :
4 - الاكتساب هو طلب الرّزق . وأصل الكسب السّعي في طلب الرّزق والمعيشة ، وفي الحديث : « أطيب ما أكل الرّجل من كسبه ، وولده من كسبه » .
فالاكتساب هو طلب المال ، سواء أكان بتنمية مالٍ موجودٍ ، أم بالعمل بغير مالٍ ، كمن يعمل بأجرةٍ . أمّا الإنماء فهو العمل على زيادة المال ، وبذلك يكون الاكتساب أعمّ من الإنماء .
د - الزّيادة :
5 - الإنماء هو فعل ما يزيد به الشّيء ، كما سبق ، أمّا الزّيادة فهي الشّيء الزّائد أو المزيد على غيره ، وفي الفروق في اللّغة : الفعل نما يفيد زيادةً من نفسه ، وزاد لا يفيد ذلك . يقال : زاد مال فلانٍ بما ورثه عن والده ولا يقال ذلك في نما .
ومعنى ذلك أنّ الإنماء هو العمل على أن تكون الزّيادة نابعةً من نفس الشّيء وليست من خارجٍ ، أمّا الزّيادة فقد تكون من خارجٍ فهي أعمّ .
ويقسّم الفقهاء الزّيادة إلى متّصلةٍ ومنفصلةٍ ، ويقسّمون كلّاً منهما إلى متولّدةٍ وغير متولّدةٍ ، فالزّيادة المتّصلة المتولّدة كالسّمن والجمال ، وغير المتولّدة كالصّبغ والخياطة ، والزّيادة المنفصلة المتولّدة كالولد والثّمر ، وغير المتولّدة كالأجرة .
هـ- الكنز :
6- الكنز مصدر كنز ، وهو أيضاً اسم للمال إذا أحرز في وعاءٍ . وقيل : الكنز المال المدفون ، وتسمّي العرب كلّ كثيرٍ مجموعٍ يتنافس فيه كنزاً ، ويطلق على المال المخزون والمصون ، ومنه قوله تعالى : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ } وفي الحديث : « كلّ مالٍ لا تؤدّى زكاته فهو كنز » .
فالكنز ضدّ الإنماء .
و- تعطيل :
7 - التّعطيل التّفريغ ، والمعطّل الموات من الأرض ، وإبل معطّلة لا راعي لها ، وعطّل الدّار أخلاها ، وتعطّل الرّجل إذا بقي لا عمل له ، ويقول الفقهاء : من تحجّر أرضاً وترك عمارتها ، قيل له : إمّا أن تعمّر وإمّا أن ترفع يدك ، فإن استمرّ تعطيلها فمن عمّرها فهو أحقّ بها ، لقول عمر رضي الله عنه : من تحجّر أرضاً فعطّلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحقّ بها . فالتّعطيل أيضاً ضدّ الإنماء .
ز - القنية :
8 - القنية ( بكسر القاف وضمّها ) الكسبة ، واقتنيته : كسبته ، ويقال : اقتنيته أي اتّخذته لنفسي قنيةً لا للتّجارة ، والقنية الإمساك ، وفي الزّاهر : القنية : المال الّذي يؤثّله الرّجل ويلزمه ، ولا يبيعه ليستغلّه .
والفقهاء يفرّقون في وجوب الزّكاة بين ما يتّخذ للقنية أي للملك وما يتّخذ للتّجارة .
فالقنية أيضاً تعطيل للمال عن الإنماء .
ح - ادّخار :
9 - الادّخار : إعداد الشّيء وإمساكه لاستعماله لوقت الحاجة ، وفي الحديث :
« كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاثٍ ، فأمسكوا ما بدا لكم » .
فالمال في حال الادّخار معطّل عن الإنماء .
أوّلاً :
الإنماء بمعنى زيادة المال
حكم إنماء المال :
تمهيد :
10 - الإنسان بالنّسبة للمال : إمّا أن يكون مالكاً للرّقبة ( العين ) وللتّصرّف فيها ، كالشّيء الّذي يتملّكه الإنسان بشراءٍ أو هبةٍ أو إرثٍ ويكون تحت يده وأهلاً للتّصرّف فيه ، وإمّا أن يكون مالكاً للرّقبة فقط دون التّصرّف كالمحجور عليه ، وإمّا أن يكون مالكاً للتّصرّف فقط دون الرّقبة كالوليّ والوصيّ والوكيل وناظر الوقف والقاضي والسّلطان فيما يرجع إلى بيت المال ، وإمّا أن يكون لا يملك الرّقبة ولا التّصرّف كالغاصب والفضوليّ والمرتهن والمودع والملتقط في مدّة التّعريف .
حكم الإنماء بالنّسبة لمالك الرّقبة والتّصرّف :
مشروعيّته :
11 - إنماء المال الّذي يملكه الإنسان ويملك التّصرّف فيه جائز مشروع ، والدّليل على مشروعيّته ، أنّ اللّه تعالى أحلّ البيع والتّجارة حتّى في مواسم الحجّ ، وذلك العمل وسيلة للإنماء كما يقول الفقهاء .
يقول اللّه تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } ، ويقول : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } ويقول : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه } أي يسافرون للتّجارة ، ويقول : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم } يعني في مواسم الحجّ .(49/1)
كما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقيّ ديناراً ليشتري له شاةً فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينارٍ وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ فدعا له بالبركة » وكذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء » . ويقول : « الجالب مرزوق والمحتكر محروم أو ملعون » ، ويقول : « لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابّة ولا شيء إلاّ كانت له صدقة » . ويقول : « نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح » .
ولتحصيل هذا الغرض ( وهو الإنماء ) أباحت الشّريعة أنواعاً من العقود كالشّركات .
وقد روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربةً ، كذلك بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّاس يتعاملون بالشّركة والمضاربة فأقرّهم ولم ينكر عليهم .
حكمة المشروعيّة :
12 - شرع للإنسان تنمية ماله حفاظاً على المال لمصلحته ومصلحة الجماعة ، والحفاظ على المال مقصد من مقاصد الشّريعة ، ولذلك منع منه السّفهاء حتّى لا يضيّعوه . ومن وسائل حفظه تنميته بتجارةٍ أو زراعةٍ أو صناعةٍ أو غير ذلك ، ولذلك يقول الفقهاء في الحكمة من مشروعيّة الشّركة : الشّركة وضعت لاستنماء المال بالتّجارة لأنّ غالب نماء المال بالتّجارة ، والنّاس في الاهتداء إلى التّجارة مختلفون بعضهم أهدى من بعضٍ ، فشرعت الشّركة لتحصيل غرض الاستنماء ، وحاجة النّاس إلى استنماء المال متحقّقة ، فشرعت هذه العقود لمصالح العباد .
وفي القراض يقول الفقهاء ، إنّ الضّرورة تدعو إليه لاحتياج النّاس إلى التّصرّف في أموالهم وتنميتها بالتّجر فيها ، فهو من المصالح العامّة ، وليس كلّ أحدٍ يقدر عليه بنفسه ، فيضطرّ إلى الاستنابة عليه .
إنماء المال بحسب نيّة الشّخص :
13 - الإنماء نوع من أنواع الاكتساب ، ويختلف حكمه بحسب الغرض منه .
فيفرض إن كان لتحصيل المال بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه .
ويستحبّ الزّائد على الحاجة إذا كان الغرض منه مواساة الفقير ونفع القريب وهو حينئذٍ أفضل من التّفرّغ لنفل العبادة .
ويباح الزّائد إذا كان بغرض التّجمّل والتّنعّم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم . « نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح » .
ويكره ( أي كراهة تحريمٍ ) الزّائد إذا كان للتّفاخر والتّكاثر والبطر والأشر وإن كان من حلٍّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من طلبها حلالاً مكاثراً لها مفاخراً لقي اللّه تعالى وهو عليه غضبان » .
حكم الإنماء بالنّسبة لمن يملك التّصرّف دون الرّقبة
14 - من يملك التّصرّف في المال دون الرّقبة كالوليّ والوصيّ وناظر الوقف والوكيل والقاضي والسّلطان . هؤلاء يتصرّفون فيما يلونه من أموال اليتامى والقصّر وأموال الوقف والموكّل وبيت المال بإذنٍ شرعيٍّ ، وهم أمناء على هذه الأموال ، ونظرهم فيها يكون بما فيه الحظّ لأربابها ، ولذلك يجوز لهم إنماء هذه الأموال لأنّه أوفر حظّاً .
يقول الفقهاء : الوكيل والوصيّ والوليّ والقاضي والسّلطان فيما يرجع إلى بيت المال يتصرّفون بإذنٍ شرعيٍّ .
وللوصيّ دفع المال إلى من يعمل فيه مضاربةً نيابةً عن اليتيم ، وللقاضي - حيث لا وصيّ - إعطاء مال الوقف والغائب واللّقطة واليتيم مضاربةً . ولناظر الوقف تنميته بإيجارٍ أو زرعٍ أو غير ذلك . وللإمام النّظر فيما يرجع إلى بيت المال بالتّثمير والإصلاح ، وقد استدلّ الفقهاء على جواز تصرّف هؤلاء المذكورين بالإنماء فيما يلونه من أموالٍ بالآتي :
أ - ما رواه عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من ولي يتيماً له مال فليتّجر له بماله ولا يتركه حتّى تأكله الصّدقة » .
ب - ما روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربةً ، منهم : عمر وعثمان وعليّ وعبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهم .
ج - ما روي أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم : دفع إلى عروة البارقيّ ديناراً ليشتري له شاةً ، فاشترى شاتين ، فباع إحداهما بدينارٍ ، وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ ، فدعا له بالبركة » .
د - استدلّوا على أنّ الإمام له النّظر في أموال بيت المال بالتّثمير والإصلاح ، بما روي" أنّ عبد اللّه وعبيد اللّه ابني عمر بن الخطّاب أخذا من أبي موسى الأشعريّ - وهو أمير البصرة - مالاً من بيت المال ليبتاعا ويربحا ، ثمّ يؤدّيا رأس المال إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ، فأبى عمر ، وجعل المال قراضاً ، وأخذ نصف الرّبح لبيت المال وترك لهما النّصف ".
هـ - كما ورد أنّ أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه كان يرسل إبل الصّدقة إذا كانت عجافاً إلى الرّبذة وما والاها ترعى هناك .
حكم الإنماء بالنّسبة لمن يملك الرّقبة دون التّصرّف(49/2)
من يملك الرّقبة ولا يملك التّصرّف كالسّفيه عند غير الحنفيّة ، وكالصّغير والمجنون يمنع من التّصرّف في المال ، والحجر عليهم إنّما هو للحفاظ على أموالهم ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا تُؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قِياماً } ، فأضاف الأموال إلى الأولياء ، لأنّهم مدبّروها ، كذلك أمر اللّه تعالى باختبار اليتامى وعدم دفع الأموال إليهم إلاّ عند إيناس الرّشد منهم . يقول تعالى : { وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإنْ آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } ، يقول ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : { فإن آنستم منهم رشداً } أي صلاحاً في أموالهم . فالمنع من التّصرّف نظر لهم لأنّه يمكن تبذير المال بما يعقدونه من بياعاتٍ . لكن إذا أذن الوليّ للصّغير المميّز جاز تصرّفه بالإذن ، أمّا الصّغير غير المميّز والمجنون فلا يصحّ تصرّفهما ولو بالإذن .
حكم الإنماء بالنّسبة لمن لا يملك الرقبة ولا التّصرّف :
15 - من لا يملك الرّقبة ولا التّصرّف ، وله يد على المال ، سواء أكانت يد أمانةٍ كالمودع ، أو كانت يداً معتديةً كيد الغاصب ، فإنّه لا يجوز له الإنماء ، إذ الأصل أنّه لا يجوز تصرّف أحدٍ في غير ملكه بغير إذن مالكه . وانظر للتّفصيل ( غصب . وديعة ) .
وسائل الإنماء
ما يجوز منها وما لا يجوز :
16 - تقدّم أنّ الأصل في إنماء المال أنّه مشروع ، إلاّ أنّه يجب أن يقتصر فيه على الوسائل المشروعة ، كالتّجارة والزّراعة والصّناعة ، مع مراعاة القواعد والشّرائط الشّرعيّة الّتي أوردها الفقهاء للتّصرّفات الّتي تكون سبيلاً إلى الإنماء ، كالبيع والشّركة والمضاربة والمساقاة والوكالة ، وذلك لضمان صحّة هذه العقود ، وليخلص الرّبح من شبهة الحرام ( ر : بيع - شركة - مضاربة ... إلخ ) .
ولذلك يحرم تنمية المال عن طريقٍ غير مشروعٍ كالرّبا والقمار والتّجارة بالخمر ونحو ذلك . لقوله تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الخمر : « لعن اللّه شاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها ... » الحديث . وقوله : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » .
ما يتعلّق بالنّماء من أحكامٍ :
17 - المال سواء أكان في يد مالكه أو يد المتصرّف فيه . أم كان أمانةً أو غصباً ، إذا نما ، سواء أكان نماؤه طبيعيّاً أو ناتجاً بعملٍ ، فلنمائه أحكام ، تختلف باختلاف مواضعها . ولمعرفة تفاصيل ذلك ينظر مصطلح ( زيادة ) .
ثانياً :
الإنماء بمعنى تغيّب الصّيد بعد رميه
18 - التّعبير بالإنماء بمعنى رمي الصّيد حتّى غاب عن العين بعد رميه ، ورد منسوباً لابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما ، والغالب أنّ الفقهاء لا يستعملون هذا اللّفظ ، وإنّما ذكروا المسألة واستدلّوا على رأيهم بقول ابن عبّاسٍ ، جاء في بدائع الصّنائع : إذا رمى الصّيد وتوارى عن عينه وقعد عن طلبه ثمّ وجده لم يؤكل ، فأمّا إذا لم يتوار أو توارى لكنّه لم يقعد عن الطّلب حتّى وجده يؤكل استحساناً ، والقياس أنّه لا يؤكل ، وروي عن ابن عبّاسٍ أنّه سئل عن ذلك فقال : كل ما أصميت ودع ما أنميت .
قال أبو يوسف رحمه الله : الإصماء ما عاينه ، والإنماء ما توارى عنه .
وقال هشام : الإنماء ما توارى عن بصرك ، إلاّ أنّه أقيم الطّلب مقام البصر للضّرورة ، ولا ضرورة عند عدم الطّلب . وفي المغني لابن قدامة : إذا رمى الصّيد فغاب عن عينه فوجده ميّتاً وسهمه فيه ولا أثر به غيره حلّ أكله ، وهذا هو المشهور عن أحمد ، وكذلك لو أرسل كلبه على صيدٍ فغاب عن عينه ثمّ وجده ميّتاً ومعه كلبه حلّ ، وعن أحمد إن غاب نهاراً فلا بأس ، وإن غاب ليلاً لم يأكله ، وعن أحمد ما يدلّ على أنّه إن غاب مدّةً طويلةً لم يبح ، وإن كانت يسيرةً أبيح ، لأنّه قيل له : إن غاب يوماً ؟ قال : يوم كثير . ووجه ذلك قول ابن عبّاسٍ إذا رميت فأقعصت فكل ، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل ، وإن بات عنك ليلةً فلا تأكل ، فإنّك لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك .
وللشّافعيّ فيه قولان لأنّ ابن عبّاسٍ قال : كل ما أصميت ، وما أنميت فلا تأكل .
قال الحكم : الإصماء الإقعاص ، يعني أنّه يموت في الحال ، والإنماء أن يغيب عنك يعني أنّه لا يموت في الحال . وينظر تفصيل الموضوع في ( صيد ) .(49/3)
إهاب *
التّعريف :
1 - الإهاب في اللّغة : الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ .
وظاهر هذا أنّ جلد الإنسان لا يسمّى إهاباً .
ويطلق الفقهاء الإهاب على ما يطلقه عليه أهل اللّغة . قال في فتح القدير : الإهاب : اسم لغير المدبوغ من الجلد . والجلد أعمّ من أن يكون مدبوغاً أو غير مدبوغٍ .
واستعمال الفقهاء الجلد لما هو أعمّ من جلد الحيوان ، فيشمل جلد الإنسان .
الأحكام المتعلّقة بالإهاب :
أ - جلد المذكّى ذكاةً شرعيّةً :
2 - الحيوانات على نوعين : حيوانات مأكولة اللّحم ، وحيوانات غير مأكولة اللّحم . فالحيوانات مأكولة اللّحم إذا ذبحت الذّبح الشّرعيّ كان جلدها طاهراً بالاتّفاق ، وإن لم يدبغ . أمّا الحيوانات غير المأكولة اللّحم فهي على نوعين أيضاً : نجسة في حال الحياة ، وطاهرة . أمّا نجسة العين ، وهي الخنزير بالاتّفاق ، والكلب عند الشّافعيّة والحنابلة ، فإنّ الذّكاة لا تطهّر جلدها .
وأمّا غير نجسة العين ممّا لا يؤكل لحمه ، فقد اختلف الفقهاء في تطهير إهابها بالذّكاة ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يطهر بالذّبح ، وحجّة هؤلاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن افتراش جلود السّباع وركوب النّمور » . وهو عامّ في المذكّى وغيره ، ولأنّه ذبح لا يطهّر اللّحم فلم يطهّر الجلد ، كذبح المجوسيّ أو أيّ ذبحٍ غير مشروعٍ ، فأشبه الأصل ، ثمّ إنّ الدّبغ إنّما يؤثّر في مأكول اللّحم فكذلك ما شبّه به .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى طهارة الإهاب بالذّكاة الشّرعيّة ، واستدلّ هؤلاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « دباغ الأديم ذكاته » ، ولأنّ الذّكاة تعمل عمل الدّباغ في إزالة الرّطوبات النّجسة ، أمّا النّهي عن افتراش جلود السّباع وركوب النّمور فلأنّ ذلك مراكب أهل الخيلاء ، أو لأنّهم كانوا يستعملونها من غير أن تدبغ .
واستثنى الحنفيّة من ذلك إهاب الحيوان الّذي لا يحتمل الدّباغة ، كإهاب الفأرة ، وإهاب الحيّة الصّغيرة - لا ثوبها - فإنّه لا تطهّره الذّكاة .
ب - إهاب الميتة :
3 - إهاب الميتة نجس بلا خلافٍ ، ولا يجوز الانتفاع به قبل الدّباغ بالاتّفاق ، إلاّ ما روي عن محمّد بن شهابٍ الزّهريّ من جواز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدّباغ ، فإذا دبغ فقد اختلف الفقهاء في طهارته بعد الدّباغ على اتّجاهاتٍ .
4 - الاتّجاه الأوّل :
أنّه لا يطهر شيء من الجلود بالدّباغة ، وهو أشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد ، وإحدى الرّوايتين عن الإمام مالكٍ ، قال النّوويّ : وروي هذا القول عن عمر بن الخطّاب - وليس بمحرّرٍ عنه كما حقّقناه - وعن عبد اللّه بن عمر ، وعن عائشة أمّ المؤمنين ، واستدلّ هؤلاء بما رواه عبد اللّه بن عكيمٍ من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهرٍ : « لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ » .
5- الاتّجاه الثّاني :
أنّ جلود الميتة كلّها - ومنها الكلب والخنزير - تطهر بالدّباغة ظاهراً وباطناً ، وهذا المذهب مرويّ عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، ونصره الشّوكانيّ في نيل الأوطار ، واستدلّ هؤلاء بعموم الأحاديث ، إذ أنّ الأحاديث لم تفرّق بين خنزيرٍ وغيره .
6- الاتّجاه الثّالث :
يطهر بالدّباغة جلود جميع الحيوانات الميّتة إلاّ الخنزير ، ويطهر بالدّباغ ظاهر الجلد وباطنه ، ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة ، ولا فرق في ذلك بين مأكول اللّحم وغيره ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واحتجّوا لذلك بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا دبغ الإهاب فقد طهر » ، وأمّا استثناء الخنزير فقد كان بقوله تعالى : { أو لحمَ خِنْزيرٍ فإنّه رجْسٌ } حيث جعلوا الضّمير في ( إنّه ) عائداً إلى المضاف إليه ، وهو كلمة ( خنزيرٍ ) .
7- الاتّجاه الرّابع :
كالثّالث ، إلاّ أنّهم قالوا : إنّ الدّباغة لا تطهّر جلد الخنزير والكلب ، حيث قاسوا الكلب على الخنزير للنّجاسة ، وهو مذهب الشّافعيّ ومحمّد بن الحسن ، وحكاه النّوويّ عن عليّ بن أبي طالبٍ وابن مسعودٍ .
8- الاتّجاه الخامس :
كالثّالث إلاّ أنّهم قالوا : إنّ الدّباغة لا تطهّر جلد الخنزير والكلب والفيل ، وهو قول الإمام محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة .
9- الاتّجاه السّادس :
يطهر بالدّباغة جلد مأكول اللّحم ولا يطهر غيره ، وهو مذهب الأوزاعيّ وعبد اللّه بن المبارك وأبي ثورٍ وإسحاق بن راهويه ، واستدلّ هؤلاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الأهب : « دباغها ذكاتها » أي كذكاتها ( والذّكاة ) المشبّه بها في الحديث لا يحلّ بها غير المأكول ، فكذلك ( الدّباغ ) المشبّه لا يطهّر جلد غير المأكول .
10 - الاتّجاه السّابع :
يطهر بالدّباغ ظاهر جلد الميتة دون باطنه ، وعلى هذا فإنّه يحلّ الانتفاع به في الأشياء اليابسة دون المائعة ، وهو المشهور من مذهب الإمام مالكٍ رحمه الله تعالى .
وشبيه بهذا الاتّجاه إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وهي جواز الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ في اليابسات .
ذبح الحيوان غير المأكول من أجل إهابه :
11 - اختلف الفقهاء في حلّ ذبح أو صيد غير مأكول اللّحم من أجل الانتفاع بجلده أو شعره أو ريشه .
فذهب الشّافعيّة إلى تحريم ذبح ما لا يؤكل ، كبغلٍ وحمارٍ للانتفاع بجلده ، « للنّهي عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكلةٍ » .
وذهب الحنفيّة إلى حلّ اصطياد ما لا يؤكل لحمه ، لمنفعة جلده أو شعره أو ريشه ، لأنّ الانتفاع غاية مشروعة . وهو ما يفهم من مذهب المالكيّة في اعتبار المنفعة مسوّغاً لذكاة ما لا يؤكل . ولم نعثر على مذهب الحنابلة في ذلك .
بيع الحيوان من أجل إهابه :(50/1)
12- اختلف الفقهاء في جواز بيع الحيوان الّذي لا ينتفع به حيّاً من أجل إهابه ، فقال الشّافعيّة : لا يجوز بيعه ، وفي ذلك يقول القاضي زكريّا الأنصاريّ : بيع غير الجوارح المعلّمة كالأسد والذّئب باطل ، ولا نظر لمنفعة الجلد بعد الموت ، ولا لمنفعة الرّيش .
وقد تقدّم أنّ الشّافعيّة والحنابلة لا يبيحون ذبح الحيوان من أجل جلده .
وقال الحنفيّة والمالكيّة : يجوز بيع الحيوان الّذي لا ينتفع به حيّاً ، كالسّبع غير المعلّم والهرّ ونحوه للجلد ، لأنّهم اعتبروا الانتفاع بالجلد منفعةً مشروعةً مقصودةً ، فصار الحيوان منتفعاً به ، فيجوز بيعه .
سلخ إهاب الذّبيحة :
13 - اتّفق الفقهاء على كراهة سلخ إهاب الذّبيحة قبل زهوق روحها ، لنهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ففي حديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء الخزاعيّ على جملٍ أورق ، يصيح في فجاج منًى : « لا تعجّلوا الأنفس أن تزهق » . ولما في ذلك من زيادة ألم الحيوان ، وليس هذا من إحسان الذّبحة الّذي أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله : « وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح » .
فإن سلخ إهابها قبل أن تزهق روحها فقد أساء ، وجاز أكلها ، لأنّ زيادة ألمها لا تقتضي تحريم أكلها .
بيع إهاب الأضحيّة وما في معناه :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز أن يدفع الإهاب ولا شيء من الأضحيّة إلى الجزّار أجرةً له على ذبحها . ولكنّهم اختلفوا في جواز بيع جلد الأضحيّة .
فذهب الحسن البصريّ والنّخعيّ وأبو حنيفة ، وروي ذلك عن الأوزاعيّ إلى جواز بيعه مقايضةً بآلة البيت كالغربال والمنخل ونحو ذلك ، ممّا تبقى عينه دون ما يستهلك ، لأنّه ينتفع به هو وغيره ، فجرى مجرى تفريق اللّحم ، فإن باعه بدراهم كره له ذلك وجاز ، إلاّ أن يتصدّق بالثّمن فلا يكره عند محمّدٍ خاصّةً ، وروي عن ابن عمر وإسحاق بن راهويه . وذهب الأئمّة الثّلاثة مالك والشّافعيّ وأحمد إلى أنّه لا يجوز بيع إهاب الأضحيّة مطلقاً لا بآلة البيت ولا بغيرها . أمّا الكلام عن دباغ الإهاب فينظر في ( دباغةٍ ) .(50/2)
إهلال *
التّعريف :
1 - أصل الإهلال : رفع الصّوت عند رؤية الهلال ، ثمّ كثر استعماله حتّى قيل لكلّ رافعٍ صوته : مهلّ ومستهلّ ، ومن معانيه النّظر إلى الهلال ، وظهور الهلال ، ورفع الصّوت بالتّلبية . ويستعمله الفقهاء بالمعاني السّابقة ، وبمعنى : ذكر اسمٍ معظّمٍ عند الذّبح .
صلته بالاستهلال :
2 - كثيراً ما يأتي الاستهلال بمعنى الإهلال أي : رفع الصّوت ، غير أنّ من الفقهاء من أطلق استهلال الصّبيّ على : كلّ ما يدلّ على حياة المولود ، سواء كان رفع صوتٍ أو حركة عضوٍ بعد الولادة .
الحكم الإجماليّ :
3 - طلب رؤية هلال رمضان ليلة الثّلاثين من شعبان محلّ خلافٍ بين الفقهاء ، بعضهم يقول : يستحبّ للنّاس ترائي الهلال ليلة الثّلاثين من شعبان وتطلّبه ، ليحتاطوا بذلك لصيامهم ، وليسلموا من الاختلاف ، وقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أحصوا هلال شعبان لرمضان » .
والبعض يرى أنّ التماس هلال رمضان يجب على الكفاية ، لأنّه يتوصّل به إلى الفرض .
ولا يثبت هلال سائر الشّهور غير هلال رمضان إلاّ بشهادة رجلين ، بهذا قال العلماء كافّةً إلاّ أبا ثورٍ ، فحكي عنه أنّه يقبل في هلال شوّالٍ عدل واحد كهلال رمضان .
أمّا هلال رمضان ففيه خلاف : فبعض الفقهاء يشترط عدلين ، والبعض يكتفي بواحدٍ .
وأكثر الفقهاء على أنّ من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصّوم ، وتجب عليه الكفّارة لو جامع فيه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » .
وقال أبو حنيفة : يلزمه الصّوم ، ولكن إن جامع فيه فلا كفّارة وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثورٍ وإسحاق بن راهويه : لا يلزمه الصّوم .
ومن رأى هلال شوّالٍ وحده لزمه الفطر كذلك عند أغلب الفقهاء ، للحديث السّابق ، وقال مالك واللّيث وأحمد : لا يجوز له الأكل فيه .
وظهور الهلال في النّهار يعتدّ به عند بعض الفقهاء للّيلة التّالية ، ويفرّق آخرون بين ظهوره قبل الزّوال فيكون للّيلة الماضية ، وبعده فيكون للّيلة التّالية .
وظهور الهلال في بلدٍ يوجب الصّيام على أهلها ، أمّا غير أهل بلد الرّؤية ففي وجوب الصّوم عليهم خلاف بين الفقهاء . ولهم في ذلك تفصيلات موطنها مصطلح : ( الصّوم ) .
4 - والإهلال بالنّسك بمعنى الإحرام ، وهو إمّا أن يكون بحجٍّ أو عمرةٍ أو بهما ، ويفصّل الفقهاء أحكامه في الحجّ عند الكلام عن التّمتّع ، والإفراد ، والقران ، وفي الإحرام من الميقات بالحجّ أو العمرة أو بهما . كما يكون الإهلال بمعنى التّلبية ، ورفع الصّوت بها . وينظر مصطلح ( إحرامٍ ) ( ج 2 ص 128 ) .
5 - والإهلال بالذّبح يجب أن يكون باسم اللّه . فإن أهلّ بالذّبح لغير اللّه ، وذلك بأن يذكر عليه اسم غير اللّه سبحانه ، كأن يقول : باسم المسيح أو العذراء مثلاً ، فلا يحلّ أكل المذبوح . وهذا في الجملة ، ولهذه المسألة تفصيلات يذكرها الفقهاء في الصّيد والذّبائح والأضحيّة ، وقد أفرد ابن نجيمٍ رسالةً لهذه المسألة .
مواطن البحث :
6 - بالإضافة إلى المواطن السّابقة ، يتكلّم الفقهاء عن إهلال المولود في الصّلاة عليه ، وفي التّسمية ، وفي الإرث ، والجناية عليه . وتفصيل ذلك كلّه ذكر في مبحث ( استهلالٍ ) .(51/1)
إياس *
التّعريف :
1- الإياس من الشّيء ، واليأس منه : انقطاع الرّجاء والطّمع والأمل فيه ( واليأس ) مصدر يئس ييأس فهو يائس . وقد ورد في كلام العرب كثيراً : أيس ييأس فهو آيس .
هذا ، ويقال للرّجل يائس وآيس ، وللمرأة يائسة وآيسة ، لكن إن أريد يأسها من الحيض خاصّةً قيل : هي آيس ، بدون تاءٍ ، وهو الأحرى على قواعد اللّغة ، ويرد فيها أيضاً في كلام الفقهاء كثيراً : آيسة .
هذا ، ويرد اليأس والإياس في كلام الفقهاء بمعنيين :
الأوّل ، وهو اصطلاح لهم : أن يكون بمعنى انقطاع الحيض عن المرأة بسبب الكبر والطّعن في السّنّ .
والثّاني : هو المعنى اللّغويّ المتقدّم ، ومنه قولهم : اليأس من رحمة اللّه ، وقولهم : توبة اليائس أي توبة من يئس من الحياة . وفيما يلي بيان أحكام هذين المعنيين .
أوّلاً :
الإياس بمعنى انقطاع الحيض بسبب الكبر :
2 - الإياس دور من حياة المرأة ، ينقطع فيه الحيض والحمل ، بسبب تغيّراتٍ تطرأ على جسمها . ويرافق هذا الانقطاع اضطراب في وظائف الأعضاء ، واضطرابات نفسيّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القعود :
3 - قعود المرأة بمعنى إياسها . فقد فسّره أهل اللّغة بانقطاع الحيض والولد عنها . قال ابن السّكّيت : امرأة قاعد إذا قعدت عن المحيض . فإذا أردت القعود قلت : هي قاعدة . وجمعها قواعد . وقد فسّر قوله تعالى : { والقواعدُ من النّساءِ } بمن انقطع عنهنّ الحيض .
وقال الزّجّاج : هنّ اللّاتي قعدن عن الأزواج .
ب - العقر والعقم :
4 - المرأة العاقر : هي الّتي لا تلد . ويقال للرّجل أيضاً : عاقر ، إن كان لا يولد له . والعقم أيضاً في المرأة والرّجل ، يقال : قد عقمت المرأة بمعنى : أعقمها اللّه . فهي عقيم ومعقومة . ويقال للرّجل أيضاً : عقيم ، إن كان لا يولد له .
ويظهر أنّ المرأة يقال لها : عاقر وعقيم ، إذا كانت لا تحمل ولو كانت ذات حيضٍ ، وبهذا تخالف الآيسة ، فإنّ المرأة لا تكون آيسةً إلاّ إذا امتنع عنها الحيض بسبب السّنّ ، ثمّ إن امتنع الحيض بسبب ذلك امتنع الحمل عادةً ولا بدّ . فكلّ آيسةٍ عقيم ، ولا عكس .
ج - امتداد الطّهر :
5 - قد يمتنع الحيض عن المرأة قبل سنّ الإياس لعارضٍ من هزالٍ أو مرضٍ أو رضاعٍ ، فلا يسمّى ذلك يأساً . وقد يكون امتناعه لسببٍ غير معلومٍ ، فيقال لها في كلّ تلك الأحوال ( ممتدّة الطّهر ) أو ( منقطعة الحيض ) . وفرّق في ( الدّرّ المنتقى ) بين هذين الاصطلاحين فقال : منقطعة الحيض : هي الّتي بلغت بالسّنّ ولم تحض قطّ . ومرتفعة الحيض : هي من حاضت ولو مرّةً ، ثمّ ارتفع حيضها وامتدّ طهرها ، ولذا تسمّى ممتدّة الطّهر .
سنّ الإياس :
6 - يقرّر الأطبّاء أنّ وظيفة الحمل لدى المرأة تستمرّ لديها بعد البلوغ خمس وثلاثون عاماً ، تتعطّل لديها بعدها وظيفة الحمل والإنجاب . وقد اختلف الفقهاء في تحديد سنّ الإياس على أقوالٍ : - 1 - فقال بعضهم : لا حدّ لأكثره . وعليه فأيّ سنٍّ رأت فيها الدّم فهو حيض . ولو كان ذلك بعد السّتّين . وهذا قول بعض الحنفيّة . قالوا : لا يحدّ الإياس بمدّةٍ ، بل إياسها أن تبلغ من السّنّ ما لا يحيض مثلها فيه . فإذا بلغته ، وانقطع دمها ، حكم بإياسها . فما رأته بعد الانقطاع حيض ، فيبطل به الاعتداد بالأشهر ، وتفسد الأنكحة أي يظهر فساد نكاحها إن كانت اعتدّت بالأشهر وتزوّجت ، ثمّ رأت الدّم .
- 2 - وقيل : يحدّ بخمسٍ وخمسين سنةً . وهو قول عند الحنفيّة ، هو رواية الحسن عن أبي حنيفة ، قيل فيه إنّ عليه الاعتماد ، وإنّ عليه أكثر المشايخ ، فما رأته من الدّم بعدها فليس بحيضٍ في ظاهر المذهب ، إلاّ إذا كان دماً خالصاً فحيض ، حتّى يبطل به الاعتداد بالأشهر ، إن جاءها قبل تمام الأشهر لا بعدها ، حتّى لا تفسد الأنكحة ، قالوا : وهو المختار للفتوى ، وعليه فالنّكاح إن وقع بعد انقضاء الأشهر ثمّ رأت الدّم جائز .
- 3 - وقيل يحدّ بخمسين سنةً ، وهو قول للحنفيّة ، قال صاحب الدّرّ : عليه المعوّل والفتوى في زماننا . وهو رواية عن أحمد . واحتجّ أصحاب هذا القول بقول عائشة رضي الله عنها :" لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين ".
- 4 - وقيل يحدّ سنّ اليأس بالنّسبة إلى كلّ امرأةٍ بيأس نساء عشيرتها من الأبوين ، لتقاربهنّ في الطّبع . فإذا بلغت السّنّ الّذي ينقطع فيه حيضهنّ فقد بلغت سنّ اليأس ، وهذا أحد قولي الشّافعيّ .
- 5 - والقول الجديد للشّافعيّ : المعتبر سنّ اليأس لجميع النّساء بحسب ما يبلغ الخبر عنهنّ . وأقصاه فيما علم اثنتان وستّون سنةً . وقيل : ستّون . وقيل خمسون .
- 6 - وقيل بالتّفريق بين بعض الأجناس وبعضٍ ، فهو للعربيّات ستّون عاماً ، وللعجميّات خمسون . وهو رواية عن أحمد . قال ابن قدامة : لأنّ العربيّة أقوى طبيعةً .(52/1)
- 7 - وذهب المالكيّة ، والحنابلة فيما نقله الخرقيّ عن أحمد إلى أنّ الإياس له حدّان : أعلى وأدنى . فأقلّه عندهم جميعاً خمسون سنةً . وأعلاه عند المالكيّة سبعون . قالوا : فمن بلغت سبعين فدمها غير حيضٍ قطعاً . ومن لم تبلغ خمسين فدمها حيض قطعاً . ولا يسأل النّساء - أي ذوات الخبرة - فيهما . وما بين ذلك يرجع فيه للنّساء ، لأنّه مشكوك فيه . وأعلاه عند أحمد على هذه الرّواية ستّون سنةً ، تيأس بعدها يقيناً . وما بين الخمسين والسّتّين من الدّم مشكوك فيه ، لا تترك له الصّوم والصّلاة . وتقضي الصّوم المفروض احتياطاً . قال ابن قدامة : الصّحيح إن شاء اللّه أنّه متى بلغت المرأة خمسين فانقطع حيضها عن عادتها عدّة مرّاتٍ لغير سببٍ فقد صارت آيسةً ، لأنّ وجود الحيض في حقّ هذه نادر ، بدليل قلّة وجوده ، وقول عائشة :" لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين "فإذا انضمّ إلى هذا انقطاعه عن العادة مرّاتٍ حصل اليأس من وجوده ، فلها حينئذٍ أن تعتدّ بالأشهر ، وإن انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه - أي فتتربّص تسعة أشهرٍ لاستبراء الرّحم ، وثلاثة أشهرٍ للعدّة - وإن رأت الدّم بعد الخمسين على العادة الّتي كانت تراه فيها فهو حيض في الصّحيح ، لأنّ دليل الحيض الوجود في زمن الإمكان ، وهذا يمكن وجود الحيض فيه ، وإن كان نادراً .
وإن رأته بعد السّتّين فقد تيقّن أنّه ليس بحيضٍ لأنّه لم يوجد ذلك .
اشتراط انقطاع الدّم مدّةً قبل الحكم بالإياس :
7 - ذكر هذا الشّرط الحنفيّة في سياق القول بأنّ سنّ الإياس خمسون أو خمس وخمسون عاماً ، قالوا : يشترط للحكم بالإياس في هذه المدّة أن ينقطع الدّم عنها مدّةً طويلةً ، وهي ستّة أشهرٍ في الأصحّ . قالوا : والأصحّ ألاّ يشترط أن يكون انقطاع ستّة أشهرٍ بعد مدّة الإياس . بل لو كان منقطعاً قبل مدّة الإياس ، ثمّ تمّت مدّة الإياس ، وطلّقها زوجها يحكم بإياسها وتعتدّ بثلاثة أشهرٍ . ولم يتعرّض لهذا الشّرط غير الحنفيّة فيما اطّلعنا عليه .
إياس من لم تحض :
8 - لم يعرض لهذه المسألة بالنّصّ عليها فيما اطّلعنا عليه غير الحنفيّة . فقد قالوا : إنّ المرأة إذا بلغت بالسّنّ ، واستمرّ امتناع الحيض ، فإنّها يحكم بإياسها متى بلغت ثلاثين عاماً . نقله في البحر عن الجامع .
ومقتضى إطلاق غيرهم أنّه لا يحكم بإياسها إلاّ متى بلغت سنّ الإياس المعتبر ، كغيرها .
السّنّة والبدعة في تطليق الآيسة :
9 - السّنّة في طلاق المرأة أن يكون في طهرٍ لم يأتها فيه زوجها ، أو أثناء الحمل .
أمّا طلاقها أثناء الحيض ، أو في طهرٍ أصابها فيه ، فإنّه طلاق بدعيّ .
وأمّا الآيسة من الحيض فقد قيل : لا سنّة لطلاقها ولا بدعة ، وقال الحنفيّة : السّنّة في طلاقها أن تطلق على رأس كلّ شهرٍ طلقةً .
وقيل : طلاقها طلاق سنّيّ ولو بعد الوطء . وينظر تفصيل ذلك في ( طلاقٍ ) .
عدّة طلاق الآيسة :
10 - تعتدّ ذات الأقراء من الطّلاق بثلاثة أقراءٍ .
والحامل عدّتها إلى وضع حملها ، أمّا الّتي أيست من الحيض ، إن كانت حرّةً فعدّتها من الطّلاق ثلاثة أشهرٍ من حين الطّلاق . وهذا متّفق عليه . لقول اللّه تعالى : { واللّائي يَئِسْنَ من المحيضِ من نسائِكم إنِ ارْتَبْتُم فعِدَّتُهُنَّ ثَلاثةُ أشْهُرٍ } . والتّفصيل في ( عدّةٍ ) .
من تأخذ حكم الآيسة من النّساء :
11 - إنّ المطلّقة إذا ارتفع حيضها ، وعرفت ما رفعه من رضاعٍ أو مرضٍ أو نفاسٍ ، فإنّها تنتظر زوال العارض وعود الدّم وإن طال ، إلاّ أن تصير في سنّ اليأس ، فعند ذلك تعتدّ عدّة الأيسات .
أمّا إن كان ارتفاع حيضها لسببٍ لا تعلمه ، وكانت حرّةً ، فقد قيل : تتربّص سنةً : تسعة أشهرٍ للحمل ، ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهرٍ كالآيسة . وقيل في مدّة تربّصها غير ذلك ( ر : عدّة ) .
أحكام اللّباس والنّظر ونحوهما بالنّسبة للآيسة :
12 - إنّ المرأة إذا اجتمع لها مع الإياس انقطاع رجائها في النّكاح ثبت لها نوع من الرّخصة في كمال الاستتار . قال اللّه تعالى : { والقواعدُ من النّساءِ اللّاتي لا يَرْجُون نِكاحاً فليسَ عليهنّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهنّ غيرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزينَةٍ } ، قال القرطبيّ في تفسيرها : هنّ العجّز اللّواتي قعدن عن التّصرّف من السّنّ ، وقعدن عن الولد والمحيض . هذا قول أكثر العلماء . وقال أبو عبيدة : هنّ اللّاتي قعدن عن الولد ، وليس ذلك بمستقيمٍ ، لأنّ المرأة تقعد عن الولد ، وفيها مستمتع . وإنّما خصّ القواعد بهذا الحكم - وهو جواز وضع الجلباب أو الرّداء عنهنّ ، إذا كان ما تحته من الثّياب ساتراً لما يجب ستره - لانصراف الأنفس عنهنّ ، وقيل : لا بأس بالنّظر منها إلى ما يظهر غالباً وهو مذهب الحنابلة ، إذ لا مذهب للرّجال فيهنّ ، فأبيح لهنّ ما لم يبح لغيرهنّ ، وأزيل عنهنّ كلفة التّحفّظ المتعبة لهنّ .
ثانياً :
الإياس بمعنى انقطاع الرّجاء
13 - الإياس من حصول بعض الأشياء جائز ولا بأس به . بل استحضار الإياس من بعض الأشياء البعيدة الحصول قد يكون راحةً للنّفس من تطلّبها . وفي الحديث « أجمع الإياس ممّا في أيدي النّاس » . ولكن لا يجوز للمؤمن اليأس من روح اللّه ورحمته .
ومن أمثلة الإياس من رحمة اللّه الإياس من الرّزق أو نحوه كالولد ، أو وجود المفقود ، أو يأس المريض من العافية ، أو يأس المذنب من المغفرة .(52/2)
والإياس من رحمة اللّه تعالى منهيّ عنه . وقد عدّه العلماء من الكبائر . قال ابن حجرٍ المكّيّ : عدّ ذلك كبيرةً هو ما أطبقوا عليه ، لما ورد فيه من الوعيد الشّديد . كقوله تعالى : { إنّه لا يَيْأسُ من رَوْحِ اللّه إلاّ القومُ الكافرون } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يقنطُ من رحمةِ ربّه إلاّ الضّالّون } . وروى ابن أبي حاتمٍ والبزّار عن ابن عبّاسٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل : ما الكبائر ؟ فقال : الشّرك باللّه ، والإياس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه ، وهذا أكبر الكبائر » قيل : والأشبه أن يكون الحديث موقوفاً ، وبكونه أكبر الكبائر صرّح ابن مسعودٍ كما رواه عبد الرّزّاق والطّبرانيّ . ثمّ قال ابن حجرٍ : وإنّما كان اليأس من رحمة اللّه من الكبائر لأنّه يستلزم تكذيب النّصوص القطعيّة . ثمّ هذا اليأس قد ينضمّ إليه حالة هي أشدّ منه ، وهي التّصميم على عدم وقوع الرّحمة له ، وهذا هو القنوط ، بحسب ما دلّ عليه سياق الآية : { وإنْ مَسَّهُ الشّرُّ فيئوس قنوط } وتارةً ينضمّ إليه أنّه مع اعتقاده عدم وقوع الرّحمة له يرى أنّه سيشدّد عذابه كالكفّار . وهذا هو المراد بسوء الظّنّ باللّه تعالى .
وقد ورد النّهي عن اليأس من الرّزق في مثل قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحبّةٍ وسواءٍ ابني خالد « لا تيأسا من الرّزق ما تهزهزت رءوسكما » .
وورد النّهي عن القنوط بسبب الفقر والحاجة أو حلول المصيبة في مثل قوله تعالى : { وإذا أَذَقْنَا النّاسَ رحمةً فَرِحُوا بها وإنْ تُصِبْهم سيّئةٌ بما قَدَّمَتْ أَيْدِيْهم إذا هم يَقْنطون أوَلم يَرَوْا أنَّ اللّه يَبْسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ وَيَقْدِرُ إنّ في ذلك لآياتٍ لِقَومٍ يؤمنون } .
وورد النّهي عن اليأس من مغفرة الذّنوب في قوله تعالى : { قلْ يا عبادِيَ الّذين أسْرَفُوا على أنفسِهم لا تَقْنَطُوا من رحمةِ اللّه إنَّ اللّه يَغْفِرُ الذّنوبَ جميعاً إنّه هو الغفورُ الرّحيمُ } .
فإنّ اللّه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، فرحمته وسعت كلّ شيءٍ . ومن أجل ذلك فالإنابة إلى اللّه تعالى مطلوبة ، وباب التّوبة إليه من الذّنوب جميعاً مفتوح للعبد ما لم يغرغر ، أي حين ييأس من الحياة .
فتوبة اليائس - وهي توبة من يئس من الحياة كالمحتضر - المشهور أنّها غير مقبولةٍ ، كإيمان اليائس . وهو قول الجمهور . وفرّق بعض الحنفيّة بين توبة اليائس وإيمان اليائس ، فقالوا بقبول الأوّل دون الثّاني ( ر : احتضار . توبة ) .
أمّا من مات على كفره فإنّه هو اليائس حقّاً من مغفرة اللّه ورحمته ، لقوله تعالى : { والّذين كفروا بآياتِ اللّه وَلِقَائِه أولئك يَئِسُوا من رحمتي وأولئك لهم عذابٌ أليم } ، بخلاف من مات على الإيمان فإنّ الرّحمة ترجى له .(52/3)
إيماء *
التّعريف :
1 - الإيماء لغةً : الإشارة باليد أو بالرّأس أو بالعين أو بالحاجب .
وقال الشّربينيّ : الإيماء لغةً : هو الإشارة الخفيّة . وسواء أكانت الإشارة حسّيّةً أم معنويّةً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
2 - والإيماء في اصطلاح الأصوليّين : دلالة النّصّ على التّعليل بالقرينة ،لا بصراحة اللّفظ.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإشارة :
3 - الإشارة لغةً أعمّ من الإيماء ، عند من يرى أنّ الإيماء إشارة خفيّة .
أمّا من يرى أنّه مطلق الإشارة فهما مترادفان .
وفي الاصطلاح عند الأصوليّين : الإشارة دلالة اللّفظ على معنى لم يسق الكلام لأجله . نحو دلالة قوله تعالى : { وعلى المولودِ له رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهنّ } على أنّ النّسب يثبت للأب ، وأنّ الأب لا يشاركه أحد في النّفقة على الولد ، فالإيماء عندهم أخصّ من الإيماء عند غيرهم من الفقهاء واللّغويّين ، سواء أخذ في مفهوم الإيماء الإشارة مطلقاً أو الخفيّة .
وأجاز الغزاليّ تسمية الإيماء إشارةً .
ب - الدّلالة :
4 - الدّلالة أن يكون الشّيء بحالةٍ يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر ، وقيل : كون الشّيء بحيث يفهم منه شيء آخر ، والأوّل يسمّى الدّالّ ، والثّاني يسمّى المدلول .
والدّلالة اللّفظيّة إمّا على تمام ما وضع له اللّفظ ، أو على جزئه ، أو على خارجٍ عنه لازمٍ له ، كدلالة لفظ " السّقف " على الحائط أو التّحيّز أو الظّلّ ، ومن هذه الدّلالة الالتزاميّة الإيماء ، لأنّه دلالة اللّفظ غير الموضوع للتّعليل على التّعليل .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً : عند الفقهاء :
5 - المصلّي العاجز عن الرّكوع أو السّجود لمرضٍ أو خوفٍ أو نحوهما ، يصلّي بالإيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه . ويذكر الفقهاء أحكام ذلك في أبواب صلاة المريض ، وأبواب صلاة الخوف . وفي اعتبار الإيماء بالرّأس ونحوه في العقود والتّصرّفات من النّاطق والأخرس والمعتقل لسانه تفصيل ( ر : إشارة . وعقد ، وطلاق ) .
وفي مفسدات الصّلاة في بعض الأحوال عند بعض الأئمّة ( ر : مفسدات الصّلاة ) .
ثانياً : عند الأصوليّين :
6 - الإيماء عند أكثر الأصوليّين نوع من أنواع المنطوق . لكنّه غير صريحٍ . ويذكرونه في الدّلالات من مباحث الألفاظ ، ومسالك العلّة من مباحث القياس .
أنواع الإيماء :
7 - أنواع الإيماء كثيرة ، حتّى قال الغزاليّ : وجوه التّنبيه لا تنضبط إلاّ أنّهم ذكروا الأنواع التّالية :
أ - أن يقع الحكم في جواب سؤالٍ . ومثاله « قول الرّجل الأنصاريّ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : واقعت أهلي في نهار رمضان . فقال : أعتق رقبةً » فإنّه يدلّ على أنّ الوقاع في نهار رمضان علّة للإعتاق . ووجه فهم التّعليل هنا : أنّ غرض الأنصاريّ معرفة حكم ما فعل ، وما ذكره النّبيّ صلى الله عليه وسلم جواب له ليحصل غرضه ، فصار الجواب مقدّراً فيه السّؤال ، كأنّه قال : كفّر لأنّك واقعت . وهو لو صرّح بحرف التّعليل بقوله : كفّر لأنّك واقعت ، لم يكن مومئاً للعلّيّة ، بل يكون مصرّحاً بها .
وقد يجتمع التّصريح بالعلّة والإيماء بها ، ومثاله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن بيع الرّطب بالتّمر ، فقال : أينقص الرّطب إذا يبس ؟ قال : نعم . قال : فلا ، إذن » فإنّ " إذن " صريح في التّعليل . ولو لم يذكر " إذن " لفهم التّعليل من القرينة ، فاجتمعا .
ب - أن يقترن الوصف المناسب بالحكم في كلام المتكلّم : ومثاله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الهرّة : إنّها ليست بنجسٍ ، إنّها من الطّوّافين عليكم » ، فأفهم أنّ علّة طهارتها الطّواف ، إذ لو لم يكن هذا الوصف علّةً لكان لغواً ، أو - على تعبير بعض الأصوليّين - لكان بعيداً جدّاً ، فيحمل الوصف على التّعليل ، صيانةً لكلام الشّارع عن اللّغو والعبث .
ج - ومنه أن يفرّق بين حكمين بوصفين ، فيعلم أنّ أحدهما علّة لأحد الحكمين ، والآخر علّة للآخر . والتّفريق يكون بطرقٍ :
- 1 - إمّا بصيغة صفةٍ . مثل حديث « للفارس سهمان وللرّاجل سهم » ومثل « القاتل لا يرث » وقد ثبت من الدّين بالضّرورة توريث العصبات وغيرهم من أصحاب الفروض .
- 2 - وإمّا بصيغة الغاية ، نحو { ولا تَقْرَبُوهنّ حتّى يَطْهُرنَ } .
- 3 - وإمّا بصيغة الشّرط ، نحو « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ » ناط الجواز باختلاف الجنس .
- 4 - أو بصيغة استدراكٍ . نحو { لا يؤاخذُكم اللّهُ باللّغوِ في أيمانِكم ولكن يُؤاخِذُكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ } فدلّ على أنّ الانعقاد علّة الكفّارة .
- 5 - أو بصيغة استثناءٍ نحو قوله تعالى : { فنصفُ ما فرضْتُم إلاّ أن يَعْفُون } يفيد علّيّة العفو لسقوط المطالبة بالمهر .
الإيماء بذكر النّظير :
8 - قد يكون الإيماء إلى العلّة بذكر نظيرٍ لمحلّ السّؤال .
ومثاله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ من جهينة ، وقد سألته : إنّ أمّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت ، أفأحجّ عنها ؟ قال : نعم حجّي عنها ، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا اللّه فاللّه أحقّ بالوفاء » .
سألته عن دين اللّه فذكر نظيره ، وهو دين الآدميّ . فنبّه على التّعليل به ، وإلاّ لزم العبث . ففهم منه أنّ نظيره - وهو دين اللّه - كذلك علّة لمثل ذلك الحكم ، وهو وجوب القضاء .
مراتب الإيماء :(53/1)
9 - أ - قد يذكر الحكم والوصف كلّ منهما صريحاً ، نحو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » فهذا إيماء إلى أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم ، ومثل : أكرم العلماء وأهن الجهّال فهو إيماء إلى أنّ علّة الإكرام العلم ، وعلّة الإهانة الجهل .
فهذا النّوع إيماء بالاتّفاق .
ب - وقد يذكر الوصف صريحاً والحكم مستنبط . نحو { وأحلّ اللّه البيع } فالوصف إحلال البيع ، والحكم الصّحّة ، أو يذكر الحكم والوصف مستنبط ، نحو : حرّمت الخمر ، ولا تذكر الشّدّة المطربة ، وهي الوصف . فقد اختلف في هذين النّوعين فقيل : هما من الإيماء ، وقيل : لا لعدم الاقتران بين الحكم والوصف لفظاً .(53/2)
احتقان
التّعريف
1 - الاحتقان لغةً : مصدر احتقن ، بمعنى احتبس . يقال : حقن الرّجل بوله : حبسه وجمعه ، فهو حاقن ومطاوعه : الاحتقان : وحقنت المريض إذا أوصلت الدّواء إلى باطنه بالمحقن . ويطلق في الشّريعة على احتباس البول ، كما يطلقونه على تعاطي الدّواء بالحقنة في الدّبر .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الاحتباس . مصدر احتبس . يقال : حبسته فاحتبس بمعنى منعته فامتنع . فالاحتباس أعمّ . الحصر : هو الإحاطة والمنع والحبس . يقال حصره العدوّ في منزله : حبسه ، وأحصره المرض : منعه من السّفر . ويطلق على احتباس النّجو من ضيق المخرج ، فهو كذلك أعمّ . الحقب : حقب بالكسر حقباً فهو حقيب : تعسّر عليه البول ، أو أعجله . وقيل : الحاقب الّذي احتبس غائطه . فهو على المعنى الثّاني مباين للاحتقان . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يختلف حكم الاحتقان تبعاً لإطلاقاته ، فيطلق الاحتقان على امتناع خروج البول لمرض أو غيره ، وهذا هو الاحتقان الطّبيعيّ . ويعتبر أحد الأعذار الّتي يسقط معها الحكم التّكليفيّ ما دامت موجودةً . أمّا منع الإنسان نفسه من خروج البول عند الشّعور بالحاجة للتّبوّل فهو الحقن . ويسمّى الإنسان حينئذ حاقناً . وحكمه التّكليفيّ الكراهة أو الحرمة - على خلاف سيأتي ذكره - في حالتي الصّلاة ، والقضاء بين النّاس . ويطلق الاحتقان أيضاً على تعاطي الدّواء أو الماء عن طريق الشّرج ، وحكمه التّكليفيّ تارةً الإباحة ، وتارةً الحظر ، على خلاف وتفصيل سيأتي بيانه . ودليل حكم الحقن في الصّلاة أو القضاء بين النّاس هو حديث عائشة ، رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ولا وهو يدافع الأخبثين » وحديث « لا يحلّ لامرئ مسلم أن ينظر في جوف امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » . وحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الّذي رواه أبو بكرة عنه قال : « لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان » . وقاسوا عليه الحاقن . ودليل الاحتقان للتّداوي هو دليل التّداوي نفسه بشروط . ( ر : تداوي ) .
أوّلاً - احتقان البول وضوء الحاقن :
4 - في المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينتقض وضوء الحاقن ؛ لأنّهم اعتبروا لانتقاض الوضوء الخروج الفعليّ من السّبيلين ، لا الخروج الحكميّ . والحاقن لم يخرج منه شيء من السّبيلين . أمّا المالكيّة فإنّهم اعتبروا الخروج الفعليّ أو الحكميّ ناقضاً للوضوء ، واعتبروا الحقن الشّديد خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . ولكنّهم انقسموا إلى رأيين في تحديد درجة الاحتقان الّتي تنقض الوضوء ، فقال بعضهم : إذا كان الاحتقان شديداً بحيث يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة حقيقةً أو حكماً ، كما لو كان يقدر على الإتيان بها بعسر ، فقد أبطل الحقن الوضوء ، فليس له أن يفعل به ما يتوقّف على الطّهارة ، كمسّ المصحف . واعتبروا هذا خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . وقال البعض الآخر : الحقن الشّديد ينقض الوضوء ، وإن لم يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة .
صلاة الحاقن :
5 - للفقهاء في حكم صلاة الحاقن اتّجاهان : فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّ صلاة الحاقن مكروهة ، لما ورد من الأحاديث السّابقة . وقال الخراسانيّون وأبو زيد المروزيّ من الشّافعيّة : إذا كانت مدافعة الأخبثين شديدةً لم تصحّ الصّلاة . واستدلّ الجميع بحديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان » . وما روى ثوبان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا يحلّ لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » ، فالقائلون بالكراهة حملوا النّهي في الأحاديث على الكراهة . وأخذ بظاهر الحديث أصحاب الرّأي الثّاني فحملوه على الفساد . أمّا المالكيّة فقد ذهبوا إلى أنّ الحقن الشّديد ناقض للوضوء ، فتكون صلاته باطلةً .
إعادة الحاقن للصّلاة :
6 - لم يقل بإعادة صلاة الحاقن أحد ممّن قال بصحّة الصّلاة مع الكراهة ، إلاّ الحنابلة على رأي ، فقد صرّحوا بإعادة الصّلاة للحاقن لظاهر الحديثين السّابقين . وقد تقدّم أنّ المالكيّة يرون بطلان صلاة الحاقن حقناً شديداً فلا بدّ من إعادتها .
الحاقن وخوف فوت الوقت :
7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا كان في الوقت متّسع فينبغي أن يزيل العارض أوّلاً ، ثمّ يشرع في الصّلاة . فإن خاف فوت الوقت ففي المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّه يصلّي وهو حاقن ، ولا يترك الوقت يضيع منه ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا بالإعادة في الظّاهر عند ابن أبي موسى للحديث . وذهب الشّافعيّة في رأي آخر حكاه المتولّي إلى أنّه يزيل العارض أوّلاً ويتوضّأ وإن خرج الوقت ، ثمّ يقضيها ، لظاهر الحديث ؛ ولأنّ المراد من الصّلاة الخشوع ، فينبغي أن يحافظ عليه وإن فات الوقت .
الحاقن وخوف فوت الجماعة أو الجمعة :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن خاف فوت الجماعة أو الجمعة صلّى وهو حاقن ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأولى ترك الجماعة وإزالة العارض ، وذهب الحنابلة إلى أنّه يعتبر عذراً مبيحاً لترك الجماعة والجمعة ، لعموم لفظ الحديث ، وهو عامّ في كلّ صلاة . أمّا رأي المالكيّة في حقن البول فقد سبق .
قضاء القاضي الحاقن :(54/1)
9 - لا يعلم خلاف بين أهل العلم في أنّ القاضي لا ينبغي له أن يحكم ، وهو حاقن ، ولكنّهم اختلفوا في حكم قضائه ونفاذ حكمه على رأيين : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة ، وقول شريح وعمر بن عبد العزيز ، إلى أنّه يكره أن يقضي القاضي وهو حاقن ؛ لأنّ ذلك يمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الّذي يتوصّل به إلى إصابة الحقّ في الغالب ، فهو في معنى الغضب المنصوص عليه في الحديث المتّفق عليه عن أبي بكرة أنّه قال . سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان . . » . فإذا قضى وهو حاقن ينفذ قضاؤه قياساً على قضاء الغضبان عند الجمهور . وذهب الحنابلة في رأي ثان لهم ، حكاه القاضي أبو يعلى ، إلى أنّه لا يجوز قضاء القاضي وهو حاقن . فإذا حكم وهو على تلك الحالة لا ينفذ قضاؤه ؛ لأنّه منهيّ عنه في الحديث المتقدّم ، والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وقيل عند الحنابلة : إنّما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل أن يتّضح له الحكم في المسألة . فأمّا إن اتّضح له الحكم ثمّ عرض الغضب لا يمنعه ؛ لأنّ الحقّ قد استبان قبل الغضب فلا يؤثّر الغضب فيه .
ثانياً - الاحتقان للتّداوي
10 - في نقض وضوء المحتقن في القبل أو الدّبر ثلاثة اتّجاهات : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى نقض الوضوء . وذكروا أنّه إذا أدخل رجل أو امرأة في القبل أو الدّبر شيئاً من حقنة أو نحوها ، ثمّ خرج ، انتقض الوضوء ، سواء اختلط به أذًى أم لا ، ولكنّهم اختلفوا في تعليل ذلك تبعاً لقواعدهم : فقال الحنفيّة : إنّ هذه الأشياء وإن كانت طاهرةً في نفسها لكنّها لا تخلو عن قليل النّجاسة يخرج معها ، والقليل من السّبيلين ناقض . وعلّل الشّافعيّة ذلك بقولهم : إنّ الدّاخل إذا خرج يعتبر خروجاً من السّبيلين ، فينتقض الوضوء ، سواء اختلط به أم لا ، وسواء أخرج كلّه أو قطعة منه ؛ ؛ لأنّه خارج من السّبيل وذهب المالكيّة : إلى أنّه لا ينقض الوضوء وذكروا أنّ إدخال الحقنة في الدّبر لا ينقض الوضوء مع احتمال أن يصحبها نجاسة عند خروجها ؛ وعلّلوا ذلك بقولهم : إنّه خارج غير معتاد فلا ينقض الوضوء ، مثل الدّود والحصى ولو صاحبه بلل . وذهب الحنابلة إلى التّفصيل : فاتّفقوا على أنّه إذا كان الدّاخل حقنةً أو قطناً أو غيره ، فإن خرج وعليه بلل نقض الوضوء . ؛ لأنّ البلل لو خرج منفرداً لنقض ؛ ؛ لأنّه خارج من السّبيلين ، فأشبه سائر ما يخرج منهما ، وإن خرج الدّاخل وليس عليه بلل ظاهر ففيه وجهان : الأوّل : ينقض الوضوء ؛ لأنّه خارج من السّبيلين ، فأشبه سائر ما يخرج منهما . والثّاني : لا ينقض ؛ لأنّه ليس بين المثانة والجوف منفذ فلا يكون خارجاً من الجوف .
احتقان الصّائم :
11 - احتقان الصّائم إمّا أن يكون في دبر أو في قبل أو في جراحة جائفة ( أي الّتي تصل إلى الجوف ) الاحتقان في الدّبر : في المسألة رأيان :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المشهور ، وهو المذهب عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ الاحتقان في الدّبر يفطر الصّائم ، وعليه القضاء ، لقول عائشة رضي الله عنها : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة هل من كسرة ؟ فأتيته بقرص ، فوضعه في فيه ، فقال : يا عائشة هل دخل بطني منه شيء ؟ كذلك قبلة الصّائم ، إنّما الإفطار ممّا دخل وليس ممّا خرج » . وعن ابن عبّاس وعكرمة : الفطر ممّا دخل وليس ممّا خرج . ولأنّ هذا شيء وصل إلى جوفه باختياره ، فأشبه الأكل ، ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن . غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّاخل مائعاً . ولم يشترط ذلك غيرهم ، وذهب المالكيّة في غير المشهور عندهم ، وهو رأي القاضي حسين من الشّافعيّة - وصف بأنّه شاذّ - وهو اختيار ابن تيميّة ، إلى أنّه إذا احتقن الصّائم في الدّبر لا يفطر ، وليس عليه قضاء . وعلّلوا ذلك بأنّ الصّيام من دين المسلمين الّذي يحتاج إلى معرفته الخاصّ والعامّ ، فلو كانت هذه الأمور ممّا حرّمها اللّه سبحانه لكان واجباً على الرّسول صلى الله عليه وسلم بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصّحابة ، وبلّغوه الأمّة ، كما بلّغوا سائر شرعه ، فلمّا لم ينقل أحد من أهل العلم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنّه لم يذكر شيئاً من ذلك .
( الاحتقان في القبل ) :
13 - الاحتقان في القبل إذا لم يصل إلى المثانة فلا شيء فيه ، ولا يؤدّي إلى فطر عند الجمهور . وذهب الشّافعيّة في أصحّ الوجوه عندهم إلى أنّه يفطر ، وفي وجه لهم : إن جاوز الحشفة أفطر وإلاّ فلا . أمّا إذا وصل المثانة فإنّ حكم الاحتقان بالنّسبة لقبل المرأة يأخذ حكم الاحتقان في الدّبر . وأمّا الاحتقان ؛ في قبل الرّجل ( الإحليل ) فإن وصل إلى المثانة ففيه رأيان : ذهب أبو حنيفة ومحمّد والمالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ورأي للشّافعيّة ، إلى أنّه لا يفطر وليس عليه شيء . وعلّلوا ذلك بأنّه لم يرد فيه نصّ ، ومن قاسه على غيره جانب الحقّ ؛ لأنّ هذا لا ينفذ إلى الجوف ولا يؤدّي إلى التّغذية الممنوعة . وذهب أبو يوسف والشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، وهو قول للحنابلة ، إلى أنّه إذا قطّر في إحليله فسد صومه ؛ لأنّ هذا شيء وصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل . الاحتقان في الجائفة :(54/2)
14 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّه إذا تداوى بما يصل إلى جوفه فسد صومه ؛ ؛ لأنّه يصل إلى الجوف ؛ ولأنّ غير المعتاد كالمعتاد ، ولأنّه أبلغ وأولى ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم وسلّم « أمر بالإثمد عند النّوم ، وقال ليتّقه الصّائم » ولأنّه وصل إلى جوفه باختياره ، فأشبه الأكل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « الفطر ممّا دخل » . وذهب المالكيّة ، وهو رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّه لا يفسد الصّوم ، وعلّل ابن تيميّة ذلك بما سبق في الاحتقان مطلقاً .
الاحتقان بالمحرّم :
15 - أجاز العلماء استعمال الحقنة في الدّواء من مرض أو هزال بطاهر ، ولم يجز الحنفيّة استعمال الحقنة للتّقوّي على الجماع أو السّمن . أمّا بالنّسبة للاحتقان بالمحرّم فقد منعه العلماء من غير ضرورة لعموم النّهي عن المحرّم . أمّا إذا كان الاحتقان لضرورة ، ومتعيّناً ، فقد أجاز الحنفيّة والشّافعيّة الاحتقان لضرورة إذا كانت الضّرورة يخشى معها على نفسه ، وأخبره طبيب مسلم حاذق أنّ شفاءه يتعيّن التّداوي بالمحرّم ، على أن يستعمل قدر حاجته . وقالوا : إنّ حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » نفى الحرمة عند العلم بالشّفاء ، فصار معنى الحديث : إنّ اللّه تعالى أذن لكم بالتّداوي ، وجعل لكلّ داء دواءً ، فإذا كان في ذلك الدّواء شيء محرّم وعلمتم أنّ فيه الشّفاء فقد زالت حرمة استعماله ؛ لأنّ اللّه تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم . وأيّد هذا ابن حزم . أمّا إذا كان التّداوي بالمحرّم لتعجيل الشّفاء ففي المسألة رأيان للحنفيّة والشّافعيّة . فبعضهم منعه لعدم الضّرورة في ذلك ما دام هناك ما يحلّ محلّه . وبعضهم أجازه إذا أشار بذلك طبيب مسلم حاذق . ويرى المالكيّة وهو رأي للحنابلة : أنّه لا يجوز الطّلاء ولا الاحتقان والتّداوي بالخمر والنّجس ، ولو أدّى ذلك إلى الهلاك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها » ؛ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر له النّبيذ يصنع للدّواء فقال : « إنّه ليس بدواء ولكنّه داء » .
حقن الصّغير باللّبن وأثره في تحريم النّكاح
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المرجوح عندهم ، وهو رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة واللّيث بن سعد ، إلى أنّه إذا حقن الصّغير في الشّرج باللّبن فلا يترتّب عليه حرمة النّكاح . وعلّلوا ذلك بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حرّم بالرّضاعة الّتي تقابل المجاعة ، ولم يحرّم بغيرها شيئاً ، فلا يقع تحريم ما لم تقابل به المجاعة ؛ ولأنّه لا ينبت اللّحم ، ولا ينشز العظم ، ولا يكتفي به الصّبيّ . وفي رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة يثبت التّحريم . وعلّلوا ذلك بأنّ ما في الحقنة يصل إلى الجوف فيكون غذاءً . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان حقن الصّغير باللّبن في مدّة الرّضاع للغذاء وقبل أن يستغني ، فالرّاجح ترتّب التّحريم .
نظر الحاقن إلى العورة :
17 - منع العلماء النّظر إلى العورة إلاّ في حالات الضّرورة الّتي تختلف باختلاف الأحوال . وعدّوا من هذه الضّرورة الاحتقان . فإذا انتفت الضّرورة حرم النّظر إلى العورة . وللتّفصيل : ( ر : تطبيب . ضرورة . عورة )(54/3)
الخلاصة في أحكام الاحتلام
ففي الموسوعة الفقهية :
احتلام
التّعريف
1 - من معاني الاحتلام في اللّغة رؤيا المباشرة في المنام . ويطلق في اللّغة أيضاً على الإدراك والبلوغ . ومثله الحلم . وهو عند الفقهاء اسم لما يراه النّائم من المباشرة ، فيحدث معه إنزال المنيّ غالباً .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - أ - الإمناء : يذكر الاحتلام ويراد به الإمناء ، إلاّ أنّ الإمناء أعمّ منه ، إذ لا يقال لمن أمنى في اليقظة محتلم .
ب - الجنابة : أعمّ من وجه من الاحتلام فقد تكون من الاحتلام ، وقد تكون من غيره كالتقاء الختانين كما أنّ الاحتلام قد يكون بلا إنزال فلا تحصل الجنابة .
ج - البلوغ : البلوغ يحصل بعلامات كثيرة منها الاحتلام ، فهو علامة البلوغ .
ممّن يكون الاحتلام ؟
3 - الاحتلام كما يكون من الرّجل يكون من المرأة ، فقد روى مسلم والبخاريّ أنّ « أمّ سليم حدّثت أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : نعم إذا رأت الماء . »
بم يتحقّق احتلام المرأة ؟
4 - للفقهاء في حصول الاحتلام من المرأة ثلاثة آراء :
أ - حصول الاحتلام بوصول المنيّ إلى ظاهر الفرج . وهو قول الحنابلة ، وظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو قول الشّافعيّة بالنّسبة للثّيّب . والمراد بظاهر الفرج : ما يظهر عند قضاء الحاجة ، أو عند الجلوس عند القدمين .
ب - حصول الاحتلام بوصول المنيّ خارج الفرج ، وهو قول المالكيّة مطلقاً ، وقول الشّافعيّة بالنّسبة للبكر ؛ لأنّ داخل فرجها كباطن الجسم . ح - حصول الاحتلام بمجرّد إنزال المرأة في رحمها وإن لم يخرج المنيّ إلى ظاهر الفرج ؛ لأنّ منيّ المرأة عادةً ينعكس داخل الرّحم ليتخلّق منه الولد ، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة .
أثر الاحتلام في الغسل ؟
5 - إن كان المحتلم كافراً ثمّ أسلم فللعلماء في ذلك رأيان : الأوّل : وجوب الغسل من الجنابة ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة والأصحّ عند الحنفيّة ، وهو قول للمالكيّة ، لبقاء صفة الجنابة بعد الاحتلام ، ولا يجوز أداء الصّلاة ونحوها إلاّ بزوال الجنابة . الثّاني : ندب الغسل ، وهو قول ابن القاسم والقاضي إسماعيل من المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة ؛ لأنّ الكافر وقت الاحتلام لم يكن مكلّفاً بفروع الشّريعة .
الاحتلام بلا إنزال :
6 - من احتلم ولم يجد منيّاً فلا غسل عليه . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم . ولو استيقظ ووجد المنيّ ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل ، لما روت عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام ، قال : يغتسل ، وعن الرّجل يرى أنّه احتلم ولا يجد البلل قال : لا غسل عليه » . ولا يوجد من يقول غير ذلك ، إلاّ وجهاً شاذّاً للشّافعيّة ، وقولاً للمالكيّة .
7 - وإذا رأى المنيّ في فراش ينام فيه مع غيره ممّن يمكن أن يمني ، ونسبه كلّ منهما لصاحبه ، فالغسل مستحبّ لكلّ واحد منهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يلزم ، ولا يجوز أن يصلّي أحدهما خلف الآخر قبل الاغتسال ، للشّكّ ، وهو لا يرتفع به اليقين . وقال الحنفيّة بوجوب الغسل على كلّ منهما . وفصّل المالكيّة فقالوا : إنّه إن كانا زوجين وجب على الزّوج وحده . ؛ لأنّ الغالب خروج المنيّ من الزّوج وحده ، ويعيد الصّلاة من آخر نومة ، ويجب عليهما معاً الغسل إن كانا غير زوجين . ولا فرق بين الزّوجين وغيرهما عند بقيّة المذاهب .
8 - والثّوب الّذي ينام فيه هو وغيره كالفراش عند الشّافعيّة والحنابلة ، ويعيد كلّ صلاة لا يحتمل خلوّها عن الإمناء قبلها عند الشّافعيّة ومن آخر نومة عند الحنابلة ما لم تظهر أمارة على أنّه حدث قبلها . وقال المالكيّة يستحبّ الغسل .
9 - ولو استيقظ فوجد شيئاً وشكّ في كونه منيّاً أو غيره ( والشّكّ : استواء الطّرفين دون ترجيح أحدهما على الآخر ) فللفقهاء في ذلك عدّة آراء : أ - وجوب الغسل ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنفيّة أوجبوا الغسل إن تذكّر الاحتلام وشكّ في كونه منيّاً أو مذياً ، أو منيّاً أو ودياً ، وكذا إن شكّ في كونه مذياً أو ودياً ؛ ؛ لأنّ المنيّ قد يرقّ لعارض كالهواء ، لوجود القرينة ، وهي تذكّر الاحتلام . فإن لم يتذكّر الاحتلام فالحكم كذلك عند أبي حنيفة ومحمّد ، أخذاً بالحديث « في جوابه صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يجد البلل ولم يذكر احتلاماً قال : يغتسل » . للإطلاق في كلمة « البلل » . وقال أبو يوسف : لا يجب ، وهو القياس ؛ لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ ، وهذا كلّه مقيّد عند الحنفيّة والحنابلة بألاّ يسبقه انتشار قبل النّوم ، فإن سبقه انتشار ترجّح أنّه مذي . وزاد الحنابلة : أو كانت بها إبردة ؛ لاحتمال أن يكون مذياً ، وقد وجد سببه . ويجب منه حينئذ الوضوء ، وقصر المالكيّة وجوب الغسل على ما إذا كان الشّكّ بين أمرين أحدهما منيّ . فإن شكّ في كونه واحداً من ثلاثة فلا يجب الغسل ، لضعف الشّكّ بالنّسبة للمنيّ ، لتعدّد مقابله .
ب - عدم وجوب الغسل ، وهو وجه للشّافعيّة ، وقول مجاهد وقتادة ؛ ؛ لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ . والأولى الاغتسال لإزالة الشّكّ . وأوجبوا من ذلك الوضوء مرتّباً .
ج - التّخيير في اعتباره واحداً ممّا اشتبه فيه ، وهو مشهور مذهب الشّافعيّة ، وذلك لاشتغال ذمّته بطهارة غير معيّنة .
د - وللشّافعيّة وجه آخر وهو لزوم مقتضى الجميع . أي الغسل والوضوء ، للاحتياط .
أثر الاحتلام في الصّوم والحجّ :(55/1)
10 - لا أثر للاحتلام في الصّوم ، ولا يبطل به باتّفاق ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « ثلاث لا يفطرن الصّائم : الحجامة ، والقيء ، والاحتلام » ، ولأنّ فيه حرجاً ، لعدم إمكان التّحرّز عنه إلاّ بترك النّوم ، والنّوم مباح ، وتركه غير مستطاع . ولأنّه لم توجد صورة الجماع ، ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بمباشرة ولا أثر له كذلك في الحجّ باتّفاق .
أثر الاحتلام في الاعتكاف
11 - يتّفق الفقهاء على أنّ الاعتكاف لا يبطل بالاحتلام ، ولا يفسد إن خرج المعتكف للاغتسال خارج المسجد ، إلاّ في حالة واحدة ذكرها الحنفيّة وهي إن أمكنه الاغتسال في المسجد ، ولم يخش تلويثه فإن خيف تلويثه منع ؛ لأنّ تنظيف المسجد واجب . وبقيّة الفقهاء منهم من يجيز الخروج للاغتسال ولو مع أمن المسجد في التّلوّث ، ومنهم من يوجب الخروج ويحرّم الاغتسال في المسجد مطلقاً ، فإن تعذّر الخروج فعليه تيمّم . والخروج لا يقطع التّتابع باتّفاق ما لم يطل .
12 - وفي اعتبار زمن الجنابة من الاعتكاف خلاف بين الفقهاء . فالشّافعيّة لا يعدّون زمن الجنابة من الاعتكاف إن اتّفق المكث معها لعذر أو غيره ؛ لمنافاة ذلك للاحتلام ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة ، ويحسب عند الحنابلة ، فقد صرّحوا بعدم قضائه لكونه معتاداً ، ولا كفّارة فيه .
البلوغ بالاحتلام :
13 - يتّفق الفقهاء على أنّ البلوغ يحصل بالاحتلام مع الإنزال ، وينقطع به اليتم لما روي عن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : « لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى اللّيل » .***************
وفي موسوعة الفقه الأزهرية :
احْتِلام
--------------------------------------------------------------------------------
المعنى اللغوى:
جاء فى المصباح: احتلم: رأى فى منامه رؤيا، وحلم الصبى واحتلم: أدرك وبلغ مبلغ الرجال فهو حالم ومحتلم.
وفى القاموس: الإحتلام الجماع فى النوم والاسم الحلم.
المعنى الفقهى:
والفقهاء يتناولون الاحتلام بمعنيين:
الأول: الإدراك وبلوغ مبلغ الرجال.
والثانى: الجماع فى المنام.
كما يعتبرون الاحتلام بالمعنى الثانى فى الجملة سبيلا إلى تحقيق الاحتلام بالمعنى الأول.
جلس فى حاشية ابن عابدين (1): الاحتلام من الحلم اسم لما يراه النائم. ثم غلب على ما يراه من الجماع.
وفى موضع آخر يقول (2): أنه غلب لفظ الاحتلام فى هذا دون غيره من أنواع المنام لكثرة الإستعمال فيه.
هذا وسيبين من إيراد الفروع أن معناه يختلف فى بعضها عنه فى البعض الآخر، فهو فى بعض الفروع يستعمل بالمعنى الأول وفى بعضها يستعمل بالمعنى الثانى.
أثر الاحتلام فى الطهارة
مذهب الحنفية:
جاء فى التنوير وشرحه وحاشية ابن عابدين (3): " فرض الغسل عند خروج منى منفصل عن مقره بشهوة ولو حكما كمحتلم " فإنه لا لذة له يقينا لفقد إدراكه.
قال الرحمتى: أى إذا رأى البلل ولم يذكر اللذة لأنه يمكن أنه أدركها ثم ذهل عنها فجعلت اللذة حاصلة حكما.
وفرض عند رؤية متيقظ منياً أو مذياً وإن لم يتذكر الاحتلام إلا إذا علم أنه مذى أو شك أنه مذى أو ودى أو كان ذكره منتشرا قبيل النوم فلا غسل عليه اتفاقا كالودى إلا إذا نام مضطجعا أو تيقن أنه منى أو تذكر حلما فعليه الغسل، ولا يفترض الغسل أن تذكر ولو مع اللذة أو الإنزال ولم ير بللا إجماعا، وكذا المرأة مثل الرجل على المذهب، ولو وجد بين الزوجين ماء ولا مميز ولا تذكر، ولا نام قبلهما غيرهما اغتسلا.
قال ابن عابدين: والتقييد بالزوجين، الظاهر أنه اتفاقى جريا على الغالب. ونقل عن الطحطاوى أن الأجنبى والأجنبية كذلك.
وفى شرح درر الحكام شرح عزم الأحكام (4) تعليقا على قوله: " وعند رؤية مستيقظ منيا أو مذيا وإن لم يتذكر حلما " أن المذى ماء رقيق أبيض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله، أما الودى فهو كما
جاء فى شرح العينى على الكنز (5): ماء غليظ بعقب البول . وعلق على عبارة " كذا المرأة فى الأصح " فقال: أن هذا احتراز عن ما قيل لو احتلمت المرأة ولم يخرج منها المنى أن وجدت لذة الإنزال فعليها الغسل لأن ماءها ينزل من صدرها إلى رحمها بخلاف الرجل حيث يشترط الظهور فى حق الغسل.
وفى صحيح البخارى (6) فى كتابى العلم والغسل: " أن أم سليم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله أن الله لا يستحى من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هى احتلمت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " نعم إذا رأت الماء ". وقد علق عليه الكرمانى فقال نقلا عن ابن بطال: لا خلاف أن النساء إذا أحتلمن أن عليهن الغسل وحكمهن حكم الرجال.
مذهب المالكية:
جاء فى الشرح الكبير على متن خليل (7): " يجب غسل ظاهر الجسد بمنى أو بسبب خروجه من رجل أو امرأة. وان بنوم أى فيه بلذة معتادة أو لا، بل ولو بلا لذة أصلا على المعتمد".
وقد فسر خروج المنى ببروزه عن الفرج
فى حق المرأة لا مجرد إحساسها بانفصاله خلافا لسند حيث قال: خروج ماء المرأة ليس بشرط فى جنابتها، ومحل الخلاف فى اليقظة، أما فى النوم فلابد من بروزه منها قطعا.
مذهب الشافعية:
جاء فى متن أبى شجاع وشرحه الإقناع (8): " من موجبات الغسل إنزال المنى.. وفى البِكْر لابد من بروزه إلى الظاهر كما إنه فى حق الرجل لابد مع بروزه عن الحشفة، والأصل فيه خبر مسلم " إنما الماء من الماء "، وخبر الصحيحين: عن أم سليم. وذكر الحديث السابق.(55/2)
وفسر البجرمى فى حاشيته كلمة " احتلمت " فى الحديث بقوله: " أى رأت فى منامها "، وفسر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا رأت الماء " أى المنى إذا استيقظت. قال: وجعل رؤية المنى شرطا للغسل يدل على أنها إذا لم تر الماء لا غسل عليها.
ثم قال (9): لو رأى فى فراشه أو ثوبه منيا لا يحتمل أنه من غيره لزمه الغسل وإعادة كل صلاة لا يحتمل خلوها منه، ويسن إعادة كل صلاة يحتمل خلوها عنه، وأن أحتمل كونه من آخر نام معه فى فراشه مثلا فإنه يسن لهما الغسل والإعادة. وعلق البجرمى على قوله " لا يحتمل أنه من غيره " فقال: بأن نام وحده أو مع من لا يتصور إنزاله كالممسوح، لزمه الغسل وأن لم يتذكر احتلاما.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة (10): الموجب للغسل خروج المنى، وروى مسلم فى صحيحه عن أم سليم، وذكر الحديث السابق برواية مسلم، ثم قال: انه متفق عليه. فخروج المنى الدافق بشهوة يوجب الغسل من الرجل والمرأة فى يقظة أو نوم وهو قول عامة الفقهاء.
ثم فسر رؤية الماء الواردة فى الحديث بالاحتلام، وقال: إنما يخرج فى الاحتلام بالشهوة.
ثم قال: سئل أحمد عن رجل رأى فى المنام أنه يجامع فاستيقظ فلم يجد شيئا، فلما مشى خرج منه المنى، قال: يغتسل.
ثم قال: إن احتلم أو جامع فأمنى ثم أغتسل ثم خرج منه منى فالمشهور عن أحمد أنه لا غسل عليه.
وقال الخلال: تواترت الروايات عن أبى عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء، وإذا رأى أنه احتلم ولم يجد منيا فلا غسل عليه.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنهم من أهل العلم، وأن اتجه فرأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل لا نعلم فيه خلافا أيضا.
وروى ذلك عن عمر وعثمان وبعض الصحابة وجماعة من التابعين ومالك و الشافعى.
ونقل (11) عن عمر رضى الله عنه أنه صلي الفجر بالمسلمين ثم خرج إلى الجرف( موضع قرب المدينة) فرأى فى ثوبه احتلاما فقال: ما أرانى إلا قد احتلمت فاغتسل وغسل ثوبه وصلى وأطال فى الاستدلال.
ثم قال: إذا انتبه فوجد بللا لا يعلم هو منى أو غيره.
فقال أحمد: إذا وجد بلة اغتسل الا أن يكون به أبرده أو لاعب أهله فإنه ربما خرج منه المذى فأرجو ألا يكون به بأس، وكذلك إذا كان انتشر من أول الليل بتذكر أو رؤية لا غسل عليه، وهو قول الحسن لأنه مشكوك فيه يحتمل أنه مذى وقد وجد سببه فلا يجب الغسل مع الشك، وإن لم يكن وجد ذلك فعليه الغسل لخبر عائشة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما. ففال: يغتسل، ولأن الظاهر أنه احتلام.
وقد توقف أحمد فى هذه المسألة فى مواضع.
ونقل عن مجاهد وقتادة خلاف ذلك.
ثم قال: وأن رأى فى ثوبه منيا وكان مما لا ينام فيه غيره فعليه الغسل لأن عمر وعثمان اغتسلا حين رأياه فى ثوبهما، ولأنه لا يحتمل أن يكون إلا منه ويعيد الصلاة من أحدث نومة نامها فيه، إلا أن يرى أمارة تدل على أنه صلى قبلها فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها، وإن كان الرائى له غلاما يمكن وجود المنى منه كابن اثنتى عشرة سنة فهو كالرجل لأنه وجد دليله وهو محتمل للوصول فإن كان أقل من ذلك فلا غسل عليه لأنه لا يحتمل، فتعين حمله على أنه من غيره، فأما إن رأى الرجل منيا فى ثوب ينام فيه هو وغيره ممن يحتلم فلا غسل على واحد منهما لأن كل واحد منهما بالنظر إليه مفردا يحتمل لا يكون منه فوجوب الغسل عليه مشكوك فيه.
مذهب الظاهرية:
ويمثله قول ابن حزم (12): الجنابة هى الماء الذى يكون من نوعه الولد، ثم ساق حديث أم سليم السابق، ثم قال: فهذا هو الماء الذى يوجب الغسل وهو واضح فى أن ماء الاحتلام الذى ورد فى الحديث عندهم يوجب الغسل.
ثم قال (13) : وكيفما خرجت الجنابة المذكورة.. فالغسل واجب لقوله تعالى: " وإن كنتم جنبا فاطهروا" ولأمره عليه الصلاة والسلام: " إذا فَضَحَ الماء ( أى دفق) أن يغتسل "، وهذا عموم لكل من خرجت منه الجنابة فيشمل الإحتلام.
مذهب الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (14): إن من موجبات الغسل الإمناء بشهوة إجماعا لقوله عليه الصلاة والسلام: " الماء من الماء ". وقال: إن الأكثر على أن المرأة كالرجل ولها ماء لقوله عليه الصلاة والسلام: " إن للمرأة ماء كماء الرجل ".
وأورد صاحب جواهر الأخبار الحديث: فى تعليقه بما يفيد دخول الاحتلام دخولا أوليا. قال: روى عن على قال: دخلت أنا ورسول الله على عائشة قبل أن يأمر بالستر دوننا فإذا عندها نسوة من الأمصار فقالت عائشة: يا رسول الله، هؤلاء النسوة جئنك يسألنك عن أشياء يستحين من ذكرها، فقال: " إن الله لا يستحى من الحق ".
قالت: المرأة ترى فى منامها ما يراه الرجل، هل عليها الغسل؟ قال: " عليها الغسل، إن لها ماء كماء الرجل، ولكن الله أسَّر ماءها وأظهر ماء الرجل". ثم ساق حديث أم سليم. وقال صاحب البحر (15): لابد من تيقن المنى ويكفى ظن الشهوة إذ سئل النبى عليه الصلاة والسلام عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام، قال: يغتسل لا العكس إذ لا دليل والأصل الطهارة.
ثم قال: ولا شىء فى الشهوة ما لم يمن لقوله عليه الصلاة والسلام. " لمن احتلم ولم يجد بللا لا غسل عليك "، ويغتسل أن تيقن المنى فى ثوب لم يلبسه غيره ولا أغتسل بعد أقرب نومة عن جنابة ولم يجوز أن يكون من غيره لقوله صلى الله عليه وسلم لمن وجد البلل ولم يذكر الاحتلام يغتسل (16).
مذهب الشيعة الجعفرية:
يقتضى أن الاحتلام مع الإنزال يوجب الغسل. جاء فى الروضة البهية: " أن موجب الجنابة شيئان: الأول الإنزال للمنى يقظة ونوما.. الخ.
مذهب الإباضية (17):(55/3)
من موجبات الغسل الاحتلام وهو يكون بالمنى والمذى والودى. أما المنى فالاغتسال منه واجب، وأما المذى ففيه اختلاف. وأما الودى فليس يجب فيه غير الوضوء.
وجاء فى النيل وشرحه (18): أجمعوا على وجوب الطهارة من حيض ووطء ولو بلا إنزال أو بالإنزال ولو باحتلام ولو كان ذلك لامرأة على الصحيح.
ثم قال: ولزم الغسل ببلل الليل غير ذى بوادر، قيل مطلقا وقيل إن وجدت معه رائحة ورؤيا ( أى حلم) وقيل أن وجده فى فراش لا ينام فيه غيره أو فى ثوبه مما يلى ذكره أو عليه أو فى فخذه.
أثر الاحتلام فى الصوم
اتفقت المذاهب الثمانية على أن الاحتلام لا يفسد الصوم وان أختلف مسلكهم فى توجيه ذلك كما يتبين من عباراتهم.
مذهب الحنفية(19) :
أورد صاحب التنوير وشارحه الحصكفى الاحتلام فيما لا يفسد الصوم، وقد أستدل لذلك صاحب الاختيار (20) وقال: وأما إذا نام فاحتلم فلقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو سعيد الخدرى : ثلاثة لا يفطرن الصائم: القىء والحجامة والاحتلام ".
مذهب المالكية:
جاء فى متن خليل (21): إن صحة الصوم تتحقق بترك منى يقظة بلذة معتادة. وعلق على ذلك الدسوقى بقوله، وأحترز بقوله يقظة بلذة معتادة عن الاحتلام…… الخ.
مذهب الشافعية (22):
إن الفكر بشهوة لا يفسد الصوم إذ هو إنزال من غير مباشرة فأشبه الاحتلام ومثله فى الإقناع للخطيب (23).
مذهب الحنابلة (24):
يقول ابن قدامة إن الاحتلام لا يفسد الصوم لأنه لا فعل له به.
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم (25): لا ينقض الصوم حجامة أو احتلام... الخ.
ثم قال (26): أما الاحتلام فلا خلاف فى أنه لا ينقض الصوم إلا ممن لا يعتد به.
مذهب الزيدية (27):
يفسد الصوم بالإمناء الشهوة فى اليقظة والإمناء بالنظر، قيل لا يفسد كالاحتلام وقيل إن كان عن أول نظرة كالمحتلم.
مذهب الشيعة الجعفرية:
جاء فى شرائع الإسلام (28) : ولو احتلم بعد نية الصوم نهارا لم يفسد صومه.
مذهب الإباضية:
جاء فى النيل وشرحه (29): من لزمه غسل نهارا فى نوم أو ضرورة أو نسيان من الليل فضيعه أفطر وأعاد ما مضى، وقيل يومه، وقيل إن منع مانع من الاغتسال فلا إفطار حتى يضيع قدر الاغتسال ، وزاد (30) أنه إذا لم يبطله التشاغل بشىء عن إتيان الاغتسال مثل أن يشتغل بعمل وهو يسخن الماء فلا بأس.
وجاء فى الموضوع نفسه عن حاجب أحد فقهاء المذهب: إن من لزمته الجنابة نهارا باحتلام فاستنجى وغسل رأسه فقط صح صومه و أعاد صلاته.
الاحتلام مظهر للبلوغ
لا خلاف فى أن الاحتلام مظهر من مظاهر البلوغ.
يقول الألوسى (31): اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبى فقد بلغ و إنما يختلفون فى التعبير عنه وتصويره أو الاستدلال له، وإليك بعض ما جاء فى كتب المذاهب:
مذهب الحنفية:
قال الكاسانى (32): البلوغ فى الغلام يعرف بالاحتلام والإحبال والإنزال، وفى الجارية بالحيض والاحتلام والحبل فإن لم يوجد شىء من ذلك فيعبر بالسن، أما معرفة البلوغ بالاحتلام فبما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاث.. و عد منها الصبى حتى يحتلم، فجعل عليه الصلاة والسلام الاحتلام غاية لارتفاع الخطاب والخطاب بالبلوغ فدل على أن البلوغ يثبت بالاحتلام، ولأن البلوغ والإدراك عبارة عن بلوغ المرء كمال الحال وذلك بكمال القوة والمقدرة من حيث سلامة الأسباب والآلات، هى إمكان إستعمال سائر الجوارح السليمة وذلك لا يتحقق على الكمال إلا عند الاحتلام ولأن الله تعالى أمر بابتغاء الولد والتكليف بذلك إنما يتوجه فى وقت لو ابتغى فيه الولد لوجد ولا يكون ذلك إلا فى خروج الماء للشهوة وذلك فى حق الصبى بالاحتلام فى المتعارف ولأنه عند الاحتلام يخرج عن حيز الأولاد ويدخل فى حيز الأباء لأن عنده يصير من أهل العلوق فكان الاحتلام علما على البلوغ.
مذهب المالكية:
قال الدردير فى الشرح الكبير حاشية الدسوقى (33): من علامات البلوغ الحلم أى الإنزال مطلقا وإن كان الأصل غير الإنزال فى النوم.
وعلق الدسوقى على قوله " وإن كان الأصل غير " بقوله: أى وان كان المعنى الأصلى للحلم الإنزال.
مذهب الشافعية:
قال الخطيب (34): البلوغ يُحْمل بأشياء عد فى منها الإمناء لقوله تعالى : " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم " وقال الحلم والاحتلام، وهو لغة: ما يراه النائم. والمراد به هنا خروج المنى فى نوم أو يقظة بجماع أو غيره.
مذهب الحنابلة:
يقول ابن قدامة (35): يحصل البلوغ بأحد أشياء: خروج المنى من قبله فى يقظة أو منام أو احتلام لا نعلم فى ذلك خلافا، و أستدل بآيه: " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم "، وقوله: "والذين لم يبلغوا الحلم منكم ".
وقول النبى صلي الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث.. " الحديث، وعد منها الاحتلام. وقوله: " خذ من كل حالم دينارا ".
قال ابن المنذر: واجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم (36): الأم أحق بحضانة الولد الصغير والابنة الصغيرة، حتى تبلغ المحيض أو الاحتلام أو الإنبات.
مذهب الزيدية:
قال صاحب البحر(37): " واحتلام الذكر مع إنزاله بلوغ إجماعا، وكذا الأنثى على المذهب لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يتم بعد الاحتلام، والإمناء بشهوة فى اليقظة بلوغ إذ هو العلة فى بلوغ المحتلم.
مذهب الإمامية:
يقول صاحب الروضة (38): البلوغ الذى يجب معه العبادة: الاحتلام أو الإنبات أى فى شعر العانة، أو السن، وعرف الاحتلام بأنه خروج المنى من قبله مطلقا فى الذكر والأنثى ومن فرجيه فى الخنثى.
مذهب الإباضية:(55/4)
وقال الإباضية (39): فى كتاب طلعة الشمس على الألفية: أن فى نفس البلوغ خفاء فنصب له العلامات الظاهرة كإنبات الشعر والاستحلام والحيض.
الاحتلام بالنسبة للاستئذان
فى دخول المنازل
يقول الله تعالى: " يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات.. " الآية. ويقول: " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما أستأذن الذين من قبلهم " ويقول المفسرون (40): إن الآية الأولى تبين حكم الأطفال من أنهم لا يحتاجون إلى الاستئذان، فى غير الأوقات الثلاث. والآية الثانية تبين حالة إذا بلغوا.
وقوله " كما استأذن الذين من قبلهم " اى الذين ذكروا فى آية " يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا ".
وجاء فى الفقه الإباضى (41): وجاز دخول طفل على والده ولو بلا أذن فى غير قائلة وقبل فجر وبعد عشاء، وكره فى هذه الأوقات دخول بغير إذن لطفل فى سن الخامسة أو طفلة كذلك، و استئذان من بلغ الحلم ليس محل اختلاف إنما يختلف أسلوب الفقهاء فى طريق الإستئذان وعدد مراته ( انظر: استئذان ).
ولا خلاف بين الفقهاء فى أن التكليف لا يكون إلا للبالغ العاقل، وأن البلوغ يتحقق بالاحتلام على ما بينا.
يقول ابن أمير الحاج: " التقرير والتحبير على التحرير (42): إن الشرع أقام اعتدال الحال بالبلوغ عن عقل بلا عته مقام العقل فى توجيه الخطاب تيسيرا على العباد، ثم صار صفة الكمال الذى يتوهم وجوده.
قيل: هذا الحد ساقط الاعتبار، كما سقط توهم بقاء النقصان بعد هذا الحد. ويقول ابن قدامة (43): قال ابن المنذر وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل.. الخ.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) حاشية ابن عابدين ج1 ص 120 طبعة المطبعة العثمانية سنة 1324 هجرية .
(2) ج5 ص105.
(3) ج1 ص 117.
(4) ج1 ص 20.
(5) العينى على الكنز ج1 ص 11 مطبعة وادى النيل بمصر.
(6) البخارى شرح الكرمانى ج2 ص 159، ج3 ص 145.
(7) راجع حاشية الدسوقى على الدرديرج1 ص 126 مطبعة دار احياء الكتب العربية عيسى الحلبى
(8) المرجع السابق ج1 ص 203.
(9) ج1 ص 200 مطبعة دار احياء الكتب العربية عيسى الحلبى.
(10) المغنى ج1 ص 199 طبعة المنار الثالثة سنة 1367 هجرية .
(11) المرجع السابق ج1 ص 202.
(12) المحلى ج1 ص 223 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(13) المرجع السابق ج1 ص 224.
(14) ج1 ص 97 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(15) ج ص 98.
(16) الروضة البهية ج1 ص 28 طبع دار الكتاب العربى.
(17) الوضع ص 52 مطبعة الفجالة الجديدة الطبعة الأولى.
(18) النيل وشرحه ج1 ص 15 طبعة يوسف البارونى وشركاه .
(19) تنوير الأبصر وشارحه مع حاشية ابن عابدين ج2 ص 106 المطبعة العثمانية سنة 1324 هجرية .
(20) الاختبار ج1 ص 132 مطبعة الحلبى سنة 1355.
(21) متن خليل و الشرح الكبير للدردير حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج1 ص 523 المطبعة الأزهرية.
(22) نهاية المحتاج شرح المنهاج ج3 ص 170 طبعة الحلبى سنة 1357 هجرية .
(23) الإقناع مع حاشية البجرمى ج2 ص 329 المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هجرية .
(24) المغنى لابن قدامة ج3 ص 115 طباعة دار المنار سنة 1368 هجرية .
(25) المحلى لابن حزم ج1 ص 501 ، مطبعة الإمام بالقاهرة.
(26) ج1 ص 503.
(27) البحر الزخار ج2 ص 251 مطبعة السعادة بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1366 هجرية .
(28) ج1 ص 99 طبعة دار الحياة ببرورت.
(29) ج2 ص 197.
(30) المرجع السابق ص 260.
(31) روح المعانى ج18 ص 210،المطبعة النبوية بالقاهرة.
(32) بدائع الصنائع ج7 ص 171 طبعة شركة المطبوعات العالمية بمصر الطبعة الأولى سنة 1327 هجرية .
(33) ج3 ص 294.
(34) البجرمى على الإقناع ج3 ص 73 المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هجرية .
(35) المغنى ج4 ص 459 طبعة المنار الطبعة الثانية سنة 1367 هجرية .
(36) المحلى ج10 ص 323 إدارة الطباعة المنيرية.
(37) البحر الزخار ج1 ص 49 طبع بمطبعة السعادة بالقاهرة.
(38) الروضة البهية ج1 ص 155.
(39) ج2 ص 245 طبعة الموسوعات باب الخلق.
(40) روح المعانى ج18 ص 215،المطبعة النبوية بالقاهرة.
(41) شرح النيل ج 2 ص 713.
(42) ج3 ص 164 الطبعة الأميرية.
(43) المغنى ج4 ص 459.(55/5)
اختضاب
التّعريف
1 - الاختضاب لغةً : استعمال الخضاب . والخضاب هو ما يغيّر به لون الشّيء من حنّاء وكتم ونحوهما . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الصّبغ والصّباغ :
2 - الصّبغ ما يصطبغ به من الإدام ، ومنه قوله تعالى : { وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن وصبغ للآكلين } . قال المفسّرون : المراد بالصّبغ في الآية الزّيت ؛ لأنّه يلوّن الحبّ إذا غمس فيه ، والمراد أنّه إدام يصبغ به .
ب - التّطريف :
3 - التّطريف لغةً : خضب أطراف الأصابع ، يقال : طرفت الجارية بنانها إذا خضّبت أطراف أصابعها بالحنّاء ، وهي مطرّفة .
ج - النّقش :
4 - النّقش لغةً . النّمنمة ، يقال : نقشه ينقشه نقشاً وانتقشه : نمنمه فهو منقوش . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - يختلف حكم الخضاب تبعاً للونه ، وللمختضب ، رجلاً كان أو امرأةً . وسيأتي . المفاضلة بين الاختضاب وعدمه :
6 - نقل الشّوكانيّ عن القاضي عياض قوله : اختلف السّلف من الصّحابة والتّابعين في الاختضاب ، وفي جنسه ، فقال بعضهم : ترك الاختضاب أفضل ، استبقاءً للشّيب ، وروى حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّهي عن تغيير الشّيب . وقال بعضهم : الاختضاب أفضل لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « غيّروا الشّيب ، ولا تشبّهوا باليهود » . وفي رواية زيادة « والنّصارى » ، ولقوله : « إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون فخالفوهم » فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ العلّة في الصّباغ وتغيير الشّيب هي مخالفة اليهود والنّصارى . وبهذا يتأكّد استحباب الاختضاب . وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها . واختضب جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك . ثمّ قد كان أكثرهم يختضب بالصّفرة ، منهم ابن عمر وأبو هريرة ، واختضب جماعة منهم بالحنّاء والكتم ، وبعضهم بالزّعفران ، واختضب جماعة بالسّواد ، منهم عثمان بن عفّان والحسن والحسين وعقبة بن عامر وغيرهم . ونقل الشّوكانيّ عن الطّبريّ قوله : الصّواب أنّ الأحاديث الواردة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتغيير الشّيب وبالنّهي عنه كلّها صحيحة ، وليس فيها تناقض . بل الأمر بالتّغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة ، والنّهي لمن له شمط فقط ، واختلاف السّلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك ، مع أنّ الأمر والنّهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض .
7 - وقد جاءت أحاديث في صحيح البخاريّ تدلّ على اختضاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجاءت أحاديث تنفي اختضابه ، فمن الأولى : ما ورد عن عثمان بن عبد اللّه بن موهب قال : « دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر رسول اللّه فإذا هو مخضوب » . ومنها ما ورد أنّ ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصّفرة حتّى تملأ ثيابه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ، ولم يكن شيء أحبّ إليه منها ، وكان يصبغ بها ثيابه حتّى عمامته . ومن الثّانية قول أنس رضي الله عنه : « ما خضّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنّه لم يبلغ منه الشّيب إلاّ قليلاً ، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت » . ومنها قول أبي جحيفة رضي الله عنه : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء » يعني عنفقته . وقال الشّوكانيّ : « لو فرض عدم ثبوت اختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان قادحاً في سنّيّة الاختضاب ، لورود الإرشاد إليها قولاً في الأحاديث الصّحيحة » . وقال الطّبريّ في الجمع بين الأحاديث المثبتة لاختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والأحاديث النّافية لاختضابه : « من جزم بأنّه خضّب فقد حكى ما شاهد ، وكان ذلك في بعض الأحيان ، ومن نفى ذلك فهو محمول على الأكثر الغالب من حاله " صلى الله عليه وسلم .
بم يكون الاختضاب ؟
8 - كون الاختضاب بالحنّاء ، وبالحنّاء مع الكتم ، وبالورس والزّعفران ، والسّواد ، بغير ذلك . أوّلاً - الاختضاب بغير السّواد الاختضاب بالحنّاء والكتم :
9 - يستحبّ الاختضاب بالحنّاء والكتم ، لحديث : « غيّروا الشّيب » ، فهو أمر ، وهو للاستحباب ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم » ، فإنّه يدلّ على أنّ الحنّاء والكتم من أحسن الصّباغات الّتي يغيّر بها الشّيب . وأنّ الصّبغ غير مقصور عليهما ، بل يشاركهما غيرهما من الصّباغات في أصل الحسن لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال : اختضب أبو بكر بالحنّاء والكتم ، واختضب عمر بالحنّاء بحتاً .
الاختضاب بالورس والزّعفران
10 - الاختضاب بالورس والزّعفران يشارك الاختضاب بالحنّاء والكتم في أصل الاستحباب . وقد اختضب بهما جماعة من الصّحابة . روى أبو مالك الأشجعيّ ، عن أبيه ، قال : « كان خضابنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الورس والزّعفران » ، وقال الحكم بن عمرو الغفاريّ : دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر ، وأنا مخضوب بالحنّاء ، وأخي مخضوب بالصّفرة ، فقال عمر : هذا خضاب الإسلام . وقال لأخي رافع : هذا خضاب الإيمان .
الاختضاب بالسّواد(56/1)
11 - اختلف الفقهاء في حكم الاختضاب بالسّواد : فالحنابلة والمالكيّة والحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - يقولون : بكراهة الاختضاب بالسّواد في غير الحرب . أمّا في الحرب فهو جائز إجماعاً ، بل هو مرغّب فيه ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم شأن أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه لمّا جيء إليه عام الفتح ، ورأسه يشتعل شيباً : اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيّره ، وجنّبوه السّواد » . وقال الحافظ في الفتح : إنّ من العلماء من رخّص في الاختضاب بالسّواد للمجاهدين ، ومنهم من رخّص فيه مطلقاً ، ومنهم من رخّص فيه للرّجال دون النّساء ، وقد استدلّ المجوّزون للاختضاب بالسّواد بأدلّة : منها : قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما اختضبتم به لهذا السّواد ، أرغب لنسائكم فيكم ، وأهيب لكم في صدور أعدائكم » . ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يأمر بالخضاب بالسّواد ، ويقول : هو تسكين للزّوجة ، وأهيب للعدوّ . ومنها أنّ جماعةً من الصّحابة اختضبوا بالسّواد ، ولم ينقل الإنكار عليهم من أحد ، منهم عثمان وعبد اللّه بن جعفر والحسن والحسين . وكان ممّن يختضب بالسّواد ويقول به محمّد بن إسحاق صاحب المغازي ، وابن أبي عاصم ، وابن الجوزيّ . ومنها ما ورد عن ابن شهاب قال : « كنّا نختضب بالسّواد إذ كان الوجه جديداً ( شباباً ) فلمّا نفض الوجه والأسنان ( كبرنا ) تركناه » . وللحنفيّة رأي آخر بالجواز ، ولو في غير الحرب ، وهذا هو مذهب أبي يوسف . وقال الشّافعيّة بتحريم الاختضاب بالسّواد لغير المجاهدين ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يكون قوم في آخر الزّمان يخضبون بالسّواد ، لا يريحون رائحة الجنّة » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « في شأن أبي قحافة : وجنّبوه السّواد » ، فالأمر عندهم للتّحريم ، وسواء فيه عندهم الرّجل والمرأة .
اختضاب الأنثى
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ تغيير الشّيب بالحنّاء أو نحوه مستحبّ للمرأة كما هو مستحبّ للرّجل ، للأخبار الصّحيحة في ذلك . وتختصّ المرأة المزوّجة ، والمملوكة باستحباب خضب كفّيها وقدميها بالحنّاء أو نحوه في كلّ وقت عدا وقت الإحرام ؛ لأنّ الاختضاب زينة ، والزّينة مطلوبة من الزّوجة لزوجها ومن المملوكة لسيّدها ، على أن يكون الاختضاب تعميماً ، لا تطريفاً ولا نقشاً ؛ لأنّ ذلك غير مستحبّ . ويجوز لها - بإذن زوجها أو سيّدها تحمير الوجنة ، وتطريف الأصابع بالحنّاء مع السّواد . وفي استحباب خضب المرأة المزوّجة لكفّيها ما ورد عن « ابن ضمرة بن سعيد عن جدّته عن امرأة من نسائه قال : وقد كانت صلّت القبلتين مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قالت : دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : اختضبي ، تترك إحداكنّ الخضاب حتّى تكون يدها كيد الرّجل ؟ » قال : فما تركت الخضاب حتّى لقيت اللّه عزّ وجلّ ، وإن كانت لتختضب وإنّها لابنة ثمانين . أمّا المرأة غير المزوّجة وغير المملوكة فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : كراهة اختضابها في كفّيها وقدميها لعدم الحاجة مع خوف الفتنة ، وحرمة تحمير وجنتيها وحرمة تطريف أصابعها بالحنّاء مع السّواد . . ويرى الحنابلة جواز الاختضاب للأيّم ، لما ورد عن جابر مرفوعاً : « يا معشر النّساء اختضبن ، فإنّ المرأة تختضب لزوجها ، وإنّ الأيّم تختضب تعرّض للرّزق من اللّه عزّ وجلّ » أي لتخطب وتتزوّج .
وضوء المختضب وغسله :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّ وجود مادّة على أعضاء الوضوء أو الغسل تمنع وصول الماء إلى البشرة - حائل بين صحّة الوضوء وصحّة الغسل . والمختضب وضوءه وغسله صحيحان ؛ لأنّ الخضاب بعد إزالة مادّته بالغسل يكون مجرّد لون ، واللّون وحده لا يحول بين البشرة ووصول الماء إليها ، ومن ثمّ فهو لا يؤثّر في صحّة الوضوء أو الغسل .
الاختضاب للتّداوي :
14 - اتّفق الفقهاء على جواز الاختضاب للتّداوي ، لخبر سلمى - مولاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم - « أنّه كان إذا اشتكى أحد رأسه قال : اذهب فاحتجم ، وإذا اشتكى رجله قال : اذهب فاخضبها بالحنّاء » ، وفي لفظ لأحمد : قالت : « كنت أخدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة إلاّ أمرني أن أضع عليها الحنّاء » .
الاختضاب بالمتنجّس وبعين النّجاسة
15 - يرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ما خضّب أو صبغ بمتنجّس يطهر بغسله ثلاثاً فلو اختضب الرّجل أو اختضبت المرأة بالحنّاء المتنجّس وغسل كلّ ثلاثاً طهر . أمّا إذا كان الاختضاب بعين النّجاسة فلا يطهر إلاّ بزوال عينه وطعمه وريحه وخروج الماء صافياً ، ويعفى عن بقاء اللّون ؛ لأنّ الأثر الّذي يشقّ زواله لا يضرّ بقاؤه . ومن هذا القبيل المصبوغ بالدّم ( فهو نجس ) ، والمصبوغ بالدّودة غير المائيّة الّتي لها دم سائل فإنّها ميتة يتجمّد الدّم فيها وهو نجس .
الاختضاب بالوشم :
16 - الوشم هو غرز الجلد بالإبرة حتّى يخرج الدّم ثمّ يذرّ عليه كحل أو نيلة ليخضرّ أو يزرقّ وهو حرام مطلقاً لخبر الصّحيحين : « لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنّامصة والمتنمّصة » ؛ ولأنّه إذا غرز محلّ الوشم بإبرة ثمّ حشي بكحل أو نيلة ليخضرّ تنجّس الكحل بالدّم فإذا جمد الدّم والتأم الجرح بقي محلّه أخضر ، فإذا غسل ثلاثاً طهر . ويرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوشم كالاختضاب أو الصّبغ بالمتنجّس ، فإذا غسل ثلاثاً طهر ؛ لأنّه أثر يشقّ زواله إذ لا يزول إلاّ بسلخ الجلد أو جرحه .
الاختضاب بالبياض(56/2)
17 - يكره خضب اللّحية السّوداء بالبياض كالكبريت ونحوه إظهاراً لكبر السّنّ ترفّعاً على الشّباب من أقرانه ، وتوصّلاً إلى التّوقير والاحترام من إخوانه ، وأمثال ذلك من الأغراض الفاسدة . ويفهم من هذا أنّه إذا كان لغرض صحيح فهو جائز .
اختضاب الحائض :
18 - جمهور الفقهاء على جواز اختضاب الحائض لما ورد « أنّ امرأةً سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت : تختضب الحائض ؟ فقالت : قد كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونحن نختضب فلم يكن ينهانا عنه » ، ولما ورد أنّ نساء ابن عمر كنّ يختضبن وهنّ حيّض . وقد قال ابن رشد : لا إشكال في جواز اختضاب الحائض والجنب لأنّ صبغ الخضاب الّذي يحصل في يديها لا يمنع من رفع حدث الجنابة والحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت . ولا وجه للقول بالكراهة .
اختضاب المرأة المحدّة
19 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة المحدّة على زوجها يحرم عليها أن تختضب مدّة عدّتها ؛ لما ورد من حديث لأمّ سلمة قالت : « دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين توفّي أبو سلمة فقال لي : لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب . قالت : قلت : بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » .
خضاب رأس المولود :
20 - اتّفق الفقهاء - مالك والشّافعيّ - وأحمد والزّهريّ وابن المنذر على كراهة تلطيخ رأس الصّبيّ بدم العقيقة ؛ لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ، وأميطوا عنه الأذى » ، فهذا يقتضي ألاّ يمسّ بدم لأنّه أذًى ، ولما روي عن يزيد بن عبد المزنيّ عن أبيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « يعقّ عن الغلام ولا يمسّ رأسه بدم » ولأنّ هذا تنجيس له فلا يشرع . واتّفقوا على جواز خضب رأس الصّبيّ بالزّعفران وبالخلوق ( أي الطّيب ) ، لقول بريدة : كنّا في الجاهليّة إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاةً ولطّخ رأسه بدمها ، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كنّا نذبح شاةً ونحلق رأسه ونلطّخه بزعفران ، ولقول عائشة رضي الله عنها « : كانوا في الجاهليّة إذا عقّوا عن الصّبيّ خضّبوا قطنةً بدم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه ، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا مكان الدّم خلوقاً » زاد أبو الشّيخ « : ونهى أن يمسّ رأس المولود بدم » . أمّا الحنفيّة فإنّ العقيقة عندهم غير مطلوبة .
اختضاب الرّجل والخنثى :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للرّجل أن يختضب في رأسه ولحيته لتغيير الشّيب بالحنّاء ونحوه للأحاديث الواردة في ذلك ، وجوّزوا له أن يختضب في جميع أجزاء بدنه ما عدا الكفّين والقدمين ، فلا يجوز له أن يختضب فيهما إلاّ لعذر ؛ لأنّ في اختضابه فيهما تشبّهاً بالنّساء ، والتّشبّه بالنّساء محظور شرعاً . وقال أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة بحرمته . وقال بعض الحنابلة وصاحب المحيط من الحنفيّة بكراهته وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء » . وحكم الخنثى المشكل كحكم الرّجل في هذا .
اختضاب المحرم
22 - ذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمحرم الاختضاب بالحنّاء في أيّ جزء من البدن ما عدا الرّأس ؛ لأنّ ستر الرّأس في الإحرام بأيّ ساتر ممنوع . وقد ذكر القاضي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « إحرام الرّجل في رأسه ، وإحرام المرأة في وجهها » . ولا بأس باختضاب المرأة بالحنّاء ونحوه ، لما روي عن عكرمة أنّه قال : « كانت عائشة وأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحنّاء وهنّ حرم » . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام في جميع أجزاء جسده ، ما عدا اليدين والرّجلين فيحرم خضبهما بغير حاجة . وكرهوا للمرأة الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام ، إلاّ إذا كانت معتدّةً من وفاة فيحرم عليها ذلك ، كما يحرم عليها الاختضاب إذا كان نقشاً ، ولو كانت غير معتدّة . وقال الأحناف والمالكيّة : لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحنّاء ونحوه في أيّ جزء من البدن سواء أكان رجلاً أم امرأةً ؛ لأنّه طيب والمحرم ممنوع من الطّيب ، وقد روي « أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأمّ سلمة : لا تطيّبي وأنت محرمة ولا تمسّي الحنّاء فإنّه طيب » .(56/3)
ادّخار
التّعريف
1 - أصل كلمة " ادّخار " في اللّغة هو " اذتخار " فقلب كلّ من الذّال والتّاء دالاً مع الإدغام فتحوّلت الكلمة إلى ( ادّخار ) . ومعنى ادّخر الشّيء : خبّأه لوقت الحاجة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الاكتناز :
2 - الاكتناز لغةً : إحراز المال في وعاء أو دفنه ، وشرعاً : هو المال الّذي لم تؤدّ زكاته ولو لم يكن مدفوناً . فالادّخار أعمّ في اللّغة والشّرع من الاكتناز .
ب - الاحتكار :
3 - الاحتكار لغةً : حبس الشّيء انتظاراً لغلائه . وشرعاً : اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء . فالادّخار أعمّ من الاحتكار ؛ لأنّه يكون فيما يضرّ حبسه وما لا يضرّ .
ادّخار الدّولة الأموال من غير الضّروريّات :
4 - الأموال إمّا أن تكون بيد الدّولة ، أو بيد الأفراد . فإن كانت بيد الدّولة ، وقد فاضت عن مصارف بيت المال ، ففي جواز ادّخار الدّولة لها اتّجاهات : الاتّجاه الأوّل : لا يجوز للدّولة ادّخار شيء من الأموال ، بل عليها تفريقها على من يعمّ به صلاح المسلمين ، ولا تدّخرها ، وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وهو قول للحنابلة . وقد استدلّوا على ذلك بفعل الخلفاء الرّاشدين وبمبادئ الشّريعة ، أمّا فعل الخلفاء الرّاشدين : فقد روي ذلك عن عمر وعليّ وصنيعهما ببيت المال ، قال عمر بن الخطّاب لعبد اللّه بن أرقم : « اقسم بيت مال المسلمين في كلّ شهر مرّةً ، اقسم بيت مال المسلمين في كلّ جمعة مرّةً ، اقسم بيت مال المسلمين في كلّ يوم مرّةً " ، ثمّ قال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين لو أبقيت في بيت المال بقيّةً تعدّها لنائبة أو صوت مستغيث ، فقال عمر للرّجل الّذي كلّمه : جرى الشّيطان على لسانك ، لقّنني اللّه حجّتها ووقاني شرّها ، أعدّ لها ما أعدّ لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طاعة اللّه ورسوله . وكان عليّ بن أبي طالب كما كان عمر ، فقد ورد أنّ عليّاً رضي الله عنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرّات ، ثمّ آتاه مال من أصبهان ، فقال : اغدوا إلى عطاء رابع ، إنّي لست بخازن . وأمّا مبادئ الشّريعة ، فإنّها تفرض على أغنياء المسلمين القيام برفع النّوائب عند نزولها . الاتّجاه الثّاني : أنّ على الدّولة ادّخار هذا الفائض عن مصارف بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث ، لأنّ ذلك تقتضيه مصلحة المسلمين من سرعة التّصرّف لرفع النّائبات عنهم . وإلى هذا ذهب الحنفيّة ، وهو قول للحنابلة . الاتّجاه الثّالث : وهو للمالكيّة ، فإنّهم قالوا : إذا استوت الحاجة في كلّ البلدان فإنّ الإمام يبدأ بمن جبي فيهم المال حتّى يغنوا غنى سنة ، ثمّ ينقل ما فضل لغيرهم ويوقف لنوائب المسلمين ، فإن كان غير فقراء البلد أكثر حاجةً فإنّ الإمام يصرف القليل لأهل البلد الّذي جبي فيهم المال ثمّ ينقل الأكثر لغيرهم .
ادّخار الأفراد :
5 - الأموال في يد الأفراد إمّا أن تكون أقلّ من النّصاب أو أكثر ، فإن كانت أكثر من النّصاب فإمّا أن تكون قد أدّيت زكاتها أو لم تؤدّ ، فإن أدّيت زكاتها فإمّا أن تكون زائدةً عن حاجاته الأصليّة أو غير زائدة عن حاجاته الأصليّة .
6 - فإن كانت الأموال الّتي بيد الفرد دون . النّصاب حلّ ادّخارها ؛ لأنّ ما دون النّصاب قليل ، والمرء لا يستغني عن ادّخار القليل ولا تقوم حاجاته بغيره .
7 - وإن كانت أكثر من النّصاب ، وصاحبها لا يؤدّي زكاتها ، فهو ادّخار حرام ، وهو اكتناز بالاتّفاق . قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض ، وأيّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض . وروي نحوه عن عبد اللّه بن عبّاس وجابر بن عبد اللّه ، وأبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً . واكتناز المال حرام بنصّ القرآن الكريم حيث قال اللّه تعالى : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .(57/1)
8 - وإن كانت الأموال المدّخرة أكثر من النّصاب ، وصاحبها يؤدّي زكاتها ، وهي فائضة عن حاجاته الأصليّة ، فقد وقع الخلاف في حكم ادّخارها : فذهب جمهور العلماء من الصّحابة وغيرهم إلى جوازه ، ومنهم عمر وابنه وابن عبّاس وجابر . ويستدلّ لما ذهبوا إليه بآيات المواريث ؛ لأنّ اللّه جعل في تركة المتوفّي أنصباء لورثته ، وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك المتوفّون أموالاً مدّخرةً ، كما يستدلّ لهم بحديث سعد بن أبي وقّاص المشهور « إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفّفون النّاس في أيديهم » . وهذا نصّ في أنّ ادّخار شيء للورثة بعد أداء الحقوق الماليّة الواجبة من زكاة وغيرها خير من عدم التّرك . وذهب أبو ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه إلى أنّ ادّخار المال الزّائد عن حاجة صاحبه - من نفقته ونفقة عياله - هو ادّخار حرام وإن كان يؤدّي زكاته وكان رضي الله عنه يفتي بذلك ، ويحثّ النّاس عليه ، فنهاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما - وكان أميراً على الشّام - عن ذلك ؛ لأنّه خاف أن يضرّه النّاس في هذا ، فلم يترك دعوة النّاس إلى ذلك ، فشكاه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة المنوّرة ، وأنزله الرّبذة ، فبقي فيها إلى أن توفّاه اللّه تعالى . وكان أبو ذرّ رضي الله عنه يحتجّ لما ذهب إليه بجملة من الأدلّة ، منها قوله تعالى في سورة التّوبة : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم } ، ويقول : إنّ هذه الآية محكمة غير منسوخة . ويحتجّ بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عليّ رضي الله عنه أنّه مات رجل من أهل الصّفّة ، وترك دينارين ، أو درهمين ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كيّتان ، صلّوا على صاحبكم » وبما رواه ابن أبي حاتم عن ثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلاّ جعل اللّه بكلّ قيراط صفحةً من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه » . وعن ثوبان قال : « كنّا في سفر ونحن نسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال المهاجرون : لوددنا أنّا علمنا أيّ المال نتّخذه ، إذ نزل في الذّهب والفضّة ما نزل ، فقال عمر : إن شئتم سألت رسول اللّه عن ذلك ، فقالوا : أجل ، فانطلق ، فتبعته أوضع على بعيري ، فقال يا رسول اللّه : إنّ المهاجرين لمّا أنزل اللّه في الذّهب والفضّة ما أنزل قالوا : وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير نتّخذه ، قال : نعم ، فيتّخذ أحدكم لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وزوجةً تعين أحدكم على إيمانه » .
9 - وذهب البعض إلى أنّ ادّخار الأموال يكون حراماً وإن أدّى المدّخر زكاتها إذا لم يؤدّ صاحبها الحقوق العارضة فيها ، كإطعام الجائع ، وفكّ الأسير وتجهيز الغازي ونحو ذلك . وذهب عليّ بن أبي طالب إلى أنّه لا يحلّ لرجل أن يدّخر أربعة آلاف درهم فما فوق وإن أدّى زكاتها ، وكان رضي الله عنه يقول : « أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز » . وكأنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى أنّ القيام بالحاجات الأصليّة للمرء لا يتطلّب أكثر من أربعة آلاف درهم في أحسن الأحوال ، فإن حبس الشّخص مبلغاً أكبر من هذا فقد حبس خيره عن النّاس ، وعن الفقراء بشكل خاصّ ، وهو أمر لا يجوز ، فقد كان رضي الله عنه يقول : « إنّ اللّه فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي فقراءهم ، وإن جاعوا وعروا وجهدوا فبمنع الأغنياء ، وحقّ على اللّه أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذّبهم عليه .
صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
10 - يختلف حكم الادّخار باختلاف الباعث عليه : فإن كان ادّخار ما يتضرّر النّاس بحبسه طلباً للرّبح ، فذلك ممّا يدخل في باب الاحتكار ( ر : احتكار ) . وإن كان لتأمين حاجات نفسه وعياله فهو الادّخار . واتّفق الفقهاء على جواز الادّخار في الجملة دون تقييد بمدّة عند الجمهور ، وهو الأوجه عند الشّافعيّة - ولهم وجه آخر أنّه يكره ادّخار ما فضل عن كفايته لمدّة سنة . ودليلهم في ذلك : ما رواه البخاريّ في كتاب النّفقات عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثمّ يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال اللّه ، فعمل بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حياته » . وبما رواه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النّضير ويحبس ؛ لأهله قوت سنتهم » . على أنّ الحطّاب نقل عن النّوويّ إجماع العلماء على أنّه إن كان عند إنسان ( أي ما يحتاجه النّاس ) أو اضطرّ النّاس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعاً للضّرر عن النّاس . وهو ما يتّفق مع قاعدة : ( يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع ضرر عامّ ) .
ادّخار لحوم الأضاحيّ :
11 - يجوز ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث في قول عامّة أهل العلم . ولم يجزه عليّ ولا ابن عمر رضي الله عنهما ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث . وللجمهور أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم » رواه مسلم - وروت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّما نهيتكم للدّافّة الّتي دفّت . فكلوا وتزوّدوا وتصدّقوا وادّخروا » . وقال أحمد فيه أسانيد صحاح . أمّا عليّ وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا سمعوا النّهي فرووا على ما سمعوا .(57/2)
ادّخار الدّولة الضّروريّات لوقت الحاجة :
12 - إذا توقّعت الدّولة نزول نازلة بالمسلمين من جائحة أو قحط أو حرب أو نحو ذلك وجب عليها أن تدّخر لهم من الأقوات والضّروريّات ما ينهض بمصالحهم ، ويخفّف عنهم شدّة هذه النّازلة ، واستدلّ لذلك بقصّة يوسف عليه السلام مع ملك مصر . وقد قصّ اللّه تعالى علينا ذلك من غير نكير ، وليس في شرعنا ما يخالفه ، فقال جلّ شأنه : { يوسف أيّها الصّدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلّي أرجع إلى النّاس لعلّهم يعلمون قال : تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلاّ قليلاً ممّا تأكلون ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلاّ قليلاً ممّا تحصنون } . قال القرطبيّ في تفسيره لهذه الآيات : « وهذا يدلّ على جواز احتكار الطّعام لوقت الحاجة » .
إخراج المدّخرات وقت الضّرورة :
13 - يتّفق الفقهاء على أنّ من ادّخر شيئاً من الأقوات الضّروريّة لنفسه أو لعياله واضطرّ إليه أحد غيره كان عليه بذله له إن لم يكن محتاجاً إليه حالاً ؛ لأنّ الضّرر لا يزال بالضّرر . ويأثم بإمساكه عنه مع استغنائه ، وإن كانوا قد اختلفوا هل يبذله له بالقيمة أو بدونها . ومحلّ تفصيل ذلك مصطلح : ( اضطرار ) . دليل وجوب الإخراج في هذه الحال من السّنّة ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له » . وعن جابر بن عبد اللّه قال « : بعث رسول اللّه بعثاً قبل السّاحل فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح ، وهم ثلاثمائة وأنا فيهم ، فخرجنا حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق فني الزّاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كلّه ، فكان مزودي تمر ، فكان يقوتنا كلّ يوم قليلاً قليلاً حتّى فني ، فلم يكن يصيبنا إلاّ تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ، فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت » - أخرجه البخاريّ في أوّل كتاب الشّركة . قال في عمدة القاريّ : قال القرطبيّ : جمع أبي عبيدة الأزواد وقسمها بالسّويّة إمّا أن يكون حكماً حكم به لمّا شاهد من الضّرورة ، وخوفه من تلف من لم يبق معه زاد ، فظهر أنّه وجب على من معه أن يواسي من ليس له زاد ، أو يكون عن رضاً منهم ، وقد فعل ذلك غير مرّة سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ادّخار غير الأقوات :
14 - ادّخار غير الأقوات الضّروريّة جائز بالاتّفاق كالأمتعة والأواني ونحو ذلك . وعلى الدّولة أن تدّخر من غير الضّروريّة ما قد ينقلب ضروريّاً في وقت من الأوقات كالخيل مثلاً والكراع والسّلاح ونحو ذلك ، فإنّه غير ضروريّ في أوقات السّلم ، ولكنّه يصبح ضروريّاً أيّام الحرب ، وعلى الدّولة بذله للمحتاج حين اضطراره إليه .(57/3)
ادّهان
التّعريف
1 - الادّهان في اللّغة : الاطّلاء بالدّهن ، والدّهن ما يدهن به من زيت وغيره . والاطّلاء أعمّ من الادّهان ؛ لأنّه يكون بالدّهن وغيره ، كالاطّلاء بالنّورة . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ . الحكم الإجماليّ :
2 - الادّهان بالطّيب أو بغيره ممّا لا نجاسة فيه مستحبّ في الجملة بالنّسبة للإنسان ، إذ هو من التّجمّل المطلوب لكلّ مسلم ، وهو من الزّينة الّتي يشملها قول اللّه تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده } . وقد رويت في الحثّ على الادّهان أحاديث كثيرة ، منها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « استاكوا عرضاً وادّهنوا غبّاً » وورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكثر دهن رأسه ولحيته . ويستحبّ أن يكون الادّهان غبّاً ، وهو أن يدهن ، ثمّ يترك حتّى يجفّ الدّهن ، ثمّ يدهن ثانياً ، وقيل : يدهن يوماً ويوماً لا . ويتأكّد استحباب الادّهان لصلاة الجمعة ، والعيد ، ومجامع النّاس . وسواء في ذلك الرّجال والصّبيان والعبيد ، إلاّ النّساء ، فلا يجوز لمن أراد منهنّ حضور الجمعة . ويستثنى من الحكم بعض الحالات الّتي يحرم فيها الادّهان أو يكره ، كحالات الإحرام بالحجّ أو العمرة والاعتكاف ، والصّوم ، والإحداد بالنّسبة للمرأة .
3 - أمّا الادّهان بالنّسبة لغير الإنسان ، كدهن الحبل ، والعجلة ، والسّفينة ، والنّعل ، وغير ذلك ، فهو جائز بما لا نجاسة فيه ، أمّا المتنجّس ففيه خلاف على أساس جواز الانتفاع بالمتنجّس أو عدم الانتفاع به . مواطن البحث :
4 - للادّهان أحكام متعدّدة في كثير من المسائل الفقهيّة مفصّلة أحكامها في أبوابها ، ومن ذلك ادّهان المحرم في باب الحجّ ، والمعتكف في باب الاعتكاف ، والصّائم في باب الصّوم ، والمحدّة في باب العدّة . كذلك الادّهان بالمتنجّس في باب الطّهارة والنّجاسة .(58/1)
الخلاصة في أحكام الاستتار
وفي الموسوعة الفقهية :
استتارٌ
التّعريف
1 - الاستتار في اللّغة : التّغطّي والاختفاء . يقال : استتر وتستّر أي تغطّى ، وجاريةٌ مستترةٌ أي مخدّرةٌ . وقد استعمله الفقهاء بهذا المعنى ، كما استعملوه بمعنى اتّخاذ السّترة في الصّلاة . والسّترة ( بالضّمّ ) هي في الأصل : ما يستتر به مطلقاً ، ثمّ غلب في الاستعمال الفقهيّ على : ما ينصب أمام المصلّي ، من عصاً أو تسنيم ترابٍ أي تكويمه ونحوه ، لمنع المرور أمامه . ويسمّى ستر الصّدقة إخفاؤها .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
2 - يختلف حكم الاستتار تبعاً للأحوال والأفعال الّتي يكون فيها ، على ما سيأتي : الاستتار ( بمعنى اتّخاذ المصلّي سترةً ) 3 - اتّخاذ السّترة للمصلّي مشروعٌ اتّفاقاً ؛ لحديث : « ليستتر أحدكم ولو بسهمٍ » . ثمّ اختلف الفقهاء في حكمه بين الوجوب والسّنّة أو الاستحباب ، على تفصيلٍ موطنه مصطلح : ( سترة المصلّي ) .
الاستتار حين الجماع :
4 - يشمل الاستتار هنا أمرين : الأوّل : الاستتار عن أعين النّاس حين الوطء . الثّاني : عدم التّجرّد حين الوطء .
أمّا الأوّل : فإمّا أن يكون الوطء في حالة انكشاف العورة ، أو في حالة عدم انكشافها . ففي حالة انكشاف العورة انعقد الإجماع على فرضيّة الاستتار ، أمّا في حالة عدم ظهور شيءٍ من العورة فقد اتّفق الفقهاء على أنّ الاستتار سنّةٌ . وأنّ من يتهاون فيه فقد خالف السّنّة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أتى أحدكم أهله فليستتر » . وحملوا الأمر على النّدب ولما في ذلك من الدّناءة والإخلال بالمروءة .
وأمّا الثّاني : ( عدم التّجرّد حين الجماع ) وإن لم يكن معهما أحدٌ يطّلع عليهما ، فقد اختلف الفقهاء فيه ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يجوز للرّجل أن يجرّد زوجته للجماع ، وقيّده الحنفيّة بكون البيت صغيراً ، ويستدلّ لذلك بحديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدّه قال : « قلت : يا رسول اللّه عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك ، قلت : يا رسول اللّه ، أرأيت إن كان القوم بعضهم من بعضٍ ؟ قال : إن استطعت ألاّ تريها أحداً فلا ترينّها . قلت يا رسول اللّه ، فإن كان أحدنا خالياً ، قال : فاللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » وبحديث عبد اللّه بن عمر قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إيّاكم والتّعرّي ، فإنّ معكم من لا يفارقكم إلاّ عند الغائط ، وحين يفضي الرّجل إلى أهله ، فاستحيوهم وأكرموهم » . وذهب الحنابلة إلى أنّه يكره ، لحديث عتبة بن عبدٍ السّلميّ ، قال : « قال رسول اللّه : إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ، ولا يتجرّدا تجرّد العيرين » .
ما يخلّ بالاستتار :
5 -أ - يخلّ بالاستتار وجود شخصٍ مميّزٍ مستيقظٍ معهما في البيت ، سواءٌ أكان زوجةً ، أم سرّيّةً ، أم غيرهما ، يرى أو يسمع الحسّ ، وبه قال الجمهور ، وقد سئل الحسن البصريّ عن الرّجل يكون له امرأتان في بيتٍ ، قال : كانوا يكرهون أن يطأ إحداهما والأخرى ترى أو تسمع .
ب - ويخلّ بالاستتار وجود نائمٍ ، نصّ على ذلك المالكيّة ، فقال الرّهونيّ في حاشيته على شرح الزّرقانيّ لمتن خليلٍ : لا يجوز للرّجل أن يصيب زوجته أو أمته ومعه في البيت أحدٌ يقظان أو نائمٌ ، لأنّ النّائم قد يستيقظ فيراهما على تلك الحال .
ج - ويخلّ بالاستتار عند جمهور المالكيّة وجود صغيرٍ غير مميّزٍ ، اتّباعاً لابن عمر الّذي كان يخرج الصّبيّ في المهد عندما يريد الجماع . وذهب الجمهور - ومنهم بعض المالكيّة - إلى أنّ وجود غير المميّز لا يخلّ بالاستتار ؛ لما فيه من مشقّةٍ وحرجٍ .
الآثار المرتّبة على ترك الاستتار في الجماع :
6 - من حقّ المرأة الامتناع عن إجابة طلب زوجها إلى فراشه ، إن كان ممّن لا يستتر عن النّاس حين الجماع ، ولا تصير ناشزاً بهذا الامتناع ؛ لأنّه امتناعٌ بحقٍّ ؛ ولأنّ الحياء والمروءة يأبيان ذلك ، نصّ على ذلك الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وقواعد المالكيّة والحنابلة لا تأباه .
الاستتار عند قضاء الحاجة :
7 - يشمل هذا أمرين : الاستتار عن النّاس ، والاستتار عن القبلة إن كان خارج البنيان . أمّا الأوّل ، فالأصل وجوب ستر العورة عند قضاء الحاجة ، بحضور من لا يحلّ له النّظر إليها ، وتفصيله في مصطلح ( عورةٌ ) ، كما أنّه يسنّ عند بعض الفقهاء استتار شخص الإنسان عند إرادة الغائط .
وأمّا الاستتار عن القبلة بساترٍ فإنّ بعض الفقهاء يرى جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة ، إن استتر عن القبلة بساترٍ . ويرى بعضهم تحريم استقبال القبلة واستدبارها مطلقاً ، وتفصيل ما يتّصل بالاستتار عن القبلة في مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .
الاستتار حين الاغتسال :
أ - وجوب الاستتار عمّن لا يحلّ له النّظر إليه :
8 - الأمر الّذي لا خلاف فيه هو : افتراض الاستتار حين الاغتسال ، بحضرة من لا يجوز له النّظر إلى عورة المغتسل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك » . وعن أمّ هانئٍ قالت : « ذهبت إلى رسول اللّه عام الفتح فوجدته يغتسل ، وفاطمة تستره فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا أمّ هانئٍ » . ( ر : عورةٌ ) فإذا لم يمكنه الاغتسال إلاّ بكشف عورته أمام واحدٍ من هؤلاء ، فقد صرّح الحنفيّة بأنّ كشف العورة حينئذٍ لا يسقط وجوب الغسل عليه – إن كان رجلاً بين رجالٍ ، أو امرأةً بين نساءٍ – لأمرين . الأوّل : نظر الجنس إلى الجنس أخفّ من النّظر إلى الجنس الآخر .(59/1)
والثّاني : أنّ الغسل فرضٌ فلا يترك لكشف العورة . أمّا إن كانت امرأةٌ بين رجالٍ ، أو رجلٌ بين نساءٍ ، أو خنثى بين رجالٍ أو نساءٍ ، أو هما معاً ، فلا يجوز لهؤلاء الكشف عن عوراتهم للغسل ، بل يتيمّمون ، لكن شارح منية المصلّي لم يسلّم بهذا التّفصيل ؛ لأنّ ترك المنهيّ عنه مقدّمٌ على فعل المأمور ، وللغسل خلفٌ وهو التّيمّم . وعموم كلام الحنابلة ، في تحريم كشف العورة عند الاغتسال بحضور من يحرم نظره إليها ، يشعر بأنّهم يخالفون الحنفيّة . والّذي يؤخذ من كلام المالكيّة ، والشّافعيّة أنّه لو ترتّب على القيام بالطّهارة المائيّة كشف العورة ، فإنّه يصار إلى التّيمّم ؛ لأنّ ستر العورة لا بدل له ؛ ولأنّه واجبٌ للصّلاة والصّيانة عن العيون ، ويباح فعل المحظور من أجله ، كاستتار الرّجل بالحرير إذا تعيّن . أمّا الطّهارة المائيّة فلها بدلٌ ، ولا يباح فعل المحظور من أجلها ومن هنا كان السّلف والأئمّة الأربعة يتشدّدون في المنع من دخول الحمّام إلاّ بمئزرٍ . وروى ابن أبي شيبة في ذلك آثاراً عن عليّ بن أبي طالبٍ ومحمّد بن سيرين وأبي جعفرٍ محمّد بن عليٍّ وسعيد بن جبيرٍ ، حتّى بلغ الأمر بعمر بن الخطّاب أنّه كتب : لا يدخلنّ أحدٌ الحمّام إلاّ بمئزرٍ ، وبعمر بن عبد العزيز أن كتب إلى عامله بالبصرة أمّا بعد : فمر من قبلك ألاّ يدخلوا الحمّام إلاّ بمئزرٍ ، وأخذ يفرض العقوبات الرّادعة على من دخل الحمّام بغير مئزرٍ ، وعلى صاحب الحمّام الّذي أدخله . وعن عبادة قال : رأيت عمر بن عبد العزيز يضرب صاحب الحمّام ومن دخله بغير إزارٍ .
ب - استتار المغتسل بحضور الزّوجة :
9 - ممّا لا خلاف فيه أيضاً : أنّ لكلّ واحدٍ من الزّوجين أن يغتسل بحضور الآخر ، وهو بادي العورة . للحديث المتقدّم : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك » . ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أغتسل أنا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ من قدحٍ ، يقال له : الفرق » ، متّفقٌ عليه .
استتار المغتسل منفرداً :
10 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه يجوز للمنفرد أن يغتسل عرياناً . واستدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ، ينظر بعضهم إلى بعضٍ ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه آدرّ - منفوخ الخصية - فذهب مرّةً يغتسل ، فوضع ثوبه على حجرٍ ، ففرّ الحجر بثوبه ، فخرج موسى في إثره يقول : ثوبي يا حجر ، حتّى نظر بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا : واللّه ما بموسى من بأسٍ ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضرباً » . وعن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال : بينا أيّوب يغتسل عرياناً فخرّ عليه جرادٌ من ذهبٍ ، فجعل أيّوب يحتشي في ثوبه ، فناداه ربّه : يا أيّوب ألم أكن أغنيتك عمّا ترى ؟ قال : بلى وعزّتك ، ولكن لا غنى بي عن بركتك » . فقد قصّ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك دون نكيرٍ ، فهو دليلٌ على الجواز ؛ لأنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه . وسئل الإمام مالكٌ عن الغسل في الفضاء ، فقال : لا بأس به ، فقيل : يا أبا عبد اللّه إنّ فيه حديثاً ، فأنكر ذلك ، وقال تعجّباً : لا يغتسل الرّجل في الفضاء ؟ ، وجه إجازة مالكٍ للرّجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمن أن يمرّ به أحدٌ ، وأنّ الشّرع إنّما قرّر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدم دون سواهم من الملائكة ، إذ لا يفارقه الحفظة الموكّلون به في حالٍ من الأحوال ، قال تعالى : { ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيبٌ عتيدٌ } . وقال تعالى : { وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون } : ولهذا قال مالكٌ تعجّباً : لا يغتسل الرّجل في الفضاء ، إذ لا فرق في حقّ الملائكة بين الفضاء وغيره . ولكن هذا جوازٌ مقرونٌ بالكراهة التّنزيهيّة ، ولذلك يندب له الاستتار . لما رواه البخاريّ تعليقاً ، ووصله غيره ، عن معاوية بن حيدة ، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك . قلت : يا رسول اللّه فإن كان أحدنا خالياً ؟ قال : فاللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » . وذهب عبد الرّحمن بن أبي ليلى إلى وجوب الاستتار حين الغسل ، ولو كان في خلوةٍ . مستدلاًّ بالحديث الّذي أخرجه أبو داود والنّسائيّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز - أي بالخلاء - فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ حليمٌ حييٌّ ستّيرٌ ، يحبّ الحياء والسّتر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر » .
استتار المرأة المتزيّنة :
11 - يجب على المرأة الاستتار عن غير الزّوج والمحارم ، بستر عورتها وعدم إبداء زينتها ، لقوله تعالى : « يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ » . وفيما يجب ستره عن المحارم وغيرهم ، وفي ستر الوجه والكفّين والقدمين خلافٌ وتفصيلٌ موطنه مصطلح : ( تزيّنٌ ) ( وعورةٌ ) .
الاستتار من عمل الفاحشة :
12 - من ابتلي بمعصيةٍ ، كشرب الخمر والزّنا ، فعليه أن يستتر بذلك ، ولا يجاهر بفعله السّيّئ ، كما ينبغي لمن علم بفاحشته أن يستر عليه وينصحه ، ويمنعه عن المنكر بالوسيلة الّتي يستطيعها .(59/2)
13 - وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المرء إذا وقع منه ما يعاب عليه يندب له السّتر على نفسه ، فلا يعلم أحداً ، حتّى القاضي ، بفاحشته لإقامة الحدّ أو التّعزير عليه ، لما رواه البخاريّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين ، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملاً ، ثمّ يصبح وقد ستره اللّه تعالى ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر اللّه عنه » . وقوله صلى الله عليه وسلم « من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر اللّه ، فإنّه من يبدي لنا من صفحته نقم عليه كتاب اللّه » . وقال أبو بكرٍ الصّدّيق : لو أخذت شارباً لأحببت أن يستره اللّه ، ولو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره اللّه ، وأنّ الصّحابة أبا بكرٍ وعمر وعليّاً وعمّار بن ياسرٍ وأبا هريرة وأبا الدّرداء والحسن بن عليٍّ وغيرهم ، قد أثر عنهم السّتر على معترفٍ بالمعصية ، أو تلقينه الرّجوع من إقراره بها ، ستراً عليه ، وستر معترف المعصية على نفسه أولى من ستر غيره عليه . والجهر بالمعصية عن جهلٍ ، ليس كالجهر بالمعصية تبجّحاً . قال ابن حجرٍ : فإنّ من قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربّه . وقال الخطيب الشّربينيّ : وأمّا التّحدّث بها تفكّهاً فحرامٌ قطعاً .
أثر الاستتار بالمعصية :
14 - يترتّب على الاستتار بالمعصية :
أ - عدم إقامة العقوبة الدّنيويّة ؛ لأنّ العقوبات لا تجب إلاّ بعد إثباتها . ( ر : إثباتٌ ) فإذا استتر بها ولم يعلنها ولم يقرّ بها ولم ينله أيّ طريقٍ من طرق الإثبات ، فلا عقوبة .
ب - عدم شيوع الفاحشة ، قال اللّه تعالى : { إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون } .
ج - من ارتكب معصيةً فاستتر بها فهو أقرب إلى أن يتوب منها ، فإن تاب سقطت عنه المؤاخذة ، فإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ اللّه تعالى فإنّ التّوبة تسقط المؤاخذة ؛ لأنّ اللّه أكرم الأكرمين ، ورحمته سبقت غضبه ، فلذلك إذا ستره في الدّنيا لم يفضحه في الآخرة . وإن كانت تتعلّق بحقٍّ من حقوق العباد ، كقتلٍ وقذفٍ ونحو ذلك ، فإنّ من شروط التّوبة فيها أداء هذه الحقوق لأصحابها ، أو عفو أصحابها عنها ، ولذلك وجب على من استتر بالمعصية المتعلّقة بحقّ آدميٍّ أن يؤدّي هذا الحقّ لصاحبه . ( ر : التّوبة ) .
===========
الستر أمام الصبي عنوان الفتوى
عبد الله الفقيه اسم المفتى
23123 رقم الفتوى
06/06/2005 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
هل يجوز للمرأة المرتدية للنقاب إن تكشف وجهها وشعرها أمام أطفال أقل من عشر سنوات؟
وما هو سن الولد الذى يجب أن تستر المرأه وجهها أمامه؟
نص الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالطفل المذكور ما دام صبيا غير مميز، فلا يلزمك أن تستتري أمامه.
فقد قال ابن قدامة في "المغني": فأما الغلام فما دام طفلا غير مميز لا يجب الاستتار منه في شيء. انتهى.
فإذا وصل إلى مرحلة المراهقة وهي ما قارب خمس عشرة سنة فيجب عليك ارتداء الحجاب أمامه. قال أحمد بن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج: والأصح أن المراهق وهو من قارب الاحتلام أي باعتبار غالب سنه وهو قرب الخمسة عشر لا التسع ويحتمل خلافه كالبالغ فيلزمها الاحتجاب منه كالمجنون. انتهى.
ولا حرج عليك في النظر إلى وجهه بغير شهوة، لما ثبت في الصحيحين وللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد. انتهى.
والله أعلم.
=======================
حجاب المرأة المسلمة عنوان الفتوى
فيصل مولوي اسم المفتى
21364 رقم الفتوى
13/10/2004 تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
أنا فتاة مسلمة أعيش في بلاد أجنبية مع عائلتي وأنا أصلي والحمد لله وألبس الحجاب ولكن لا ألبس الجلباب ألبس تنانير طويلي تغطي أقدامي ولكن التنانير التي ألبسها تنانير (جينز) وأنا أريد النصح منكم فهل هذا خطأ أم مباح أنا متوترة لا أعرف وأنا أنوي أن ألبس الجلباب عندما أتزوج إن شاء الله و لكن أريد النصح بسرعة أرجوكم وجزاكم الله ألف خير.
نص الفتوى
أختي السائلة سلام الله عليك ورحمته وبركاته، وبعد
القصد من تشريع الحجاب هو استتار المرأة عن عيون من لا يحل له النظر إليها، فبأي صفة حصل الستر على الوجه الشرعي أجزأ وسواء كان ذلك قبل الزواج أو بعده فلا دخل للزواج في هذا الأمر.
وصفة الحجاب الشرعي أن لا يصف جسد المرأة وذلك بأن يكون واسعا ولا يشف عما تحته فلا يكون رقيقا ويستر ما أمر الله بستره من جسد المرأة وهو كل الجسد على رأي فريق من العلماء وكل الجسد ما عدا الوجه والكفين والقدمين على خلاف بين العلماء حول الأعضاء الثلاثة وبما أنني لا أعرف صفة تنانير الجينز التي تتحدثين عنها فيجب عليك تطبيق القواعد عليها فإن وفت بالغرض فلا حرج في لبسها وإن كانت تحدد مفاتن الجسد لأنها ضيقة أو لا تستر الجسد بشكل كاف فعليك ألا تلبسيها(59/3)
يقول فضيلة الشيخ المستشار فيصل مولوي:محددا صفة الباس الشرعي للمرأة وما يجب أن يتوافر فيه "ورد في كتاب الله تعالى الحديث عن لباس المرأة المسلمة في قوله تعالى: {.. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ..} وقوله عزّ وجلّ: {.. يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ..}. الآية الأولى تتحدّث عن الخمار وتأمر المرأة المسلمة أن تسدله على الجيب، وهو شقّ في طول القميص، وبهذا تستر صدرها وعنقها. الآية الثانية تتحدّث عن الجلباب وهو ثوب واسع يستر المرأة من فوق إلى تحت، فأُمرنَ بإدنائه عليهنّ، حتّى يغطّي جميع البدن، على خلاف معروف بين الفقهاء حول وجوب ستر الوجه أيضاً أو أفضلية ذلك مع جواز الكشف.
وقد وردت أيضاً آيتان أخريان يتعلّق حكمهما بلباس المرأة المسلمة وهما:
- قوله تعالى: {.. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ..} فواجب المرأة الأول أن تستقرّ في بيتها لتقوم بواجبها تجاه زوجها وأولادها، وإذا خرجت من البيت لحاجتها فيجب عليها أن لا تتبرّج تبرّج أهل الجاهلية، والتبرّج هو إظهار ما يحسن ستره من الجسم، أو تغطيته بثياب رقاق تثير الفتنة، كما كان يفعل أهل الجاهلية.
- قوله تعالى: {.. وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ..}. والزينة كما يقول القرطبي قسمان: خلقية وهو الوجه لأنّه أصل الزينة. ومكتسبة، وهو ما تحاول المرأة أن تتزيّن به كالثياب والحلي والكحل. والآية الكريمة تنهى عن إظهار الزينة الخلقية - إلاّ الوجه والكفّين حسب قول أكثر المفسّرين - ومن البديهي أيضاً أنّها تنهى عن الزينة المكتسبة ومنها الثياب إذا كانت تؤدّي إلى الفتنة وإثارة الغريزة كما تفعل ذلك الزينة الخلقية.
ويستنتج من كلّ هذه الآيات أنّ اللباس الشرعي للمرأة المسلمة هو الذي يغطّي جميع بدنها - مع الخلاف المعروف بالنسبة للوجه والكفّين - وأن يكون واسعاً غير ضيّق حتّى لا يصف محاسن الجسم، وأن لا يكون رقيقاً شفّافاً تظهر من خلفه معالم الجسم، فهذا هو التبرّج وإبداء الزينة المنهي عنه.
ثانياً: أمّا في السنّة فقد صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يؤكّد الشروط الثلاثة الآنفة الذكر ويفصّلها ويزيد عليها منها:
أ - حديث أبي هريرة (صنفان من أهل النار لم أرهما - وذكر الصنف الثاني - .. نساء كاسيات عاريات .. لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها ..) وهؤلاء هنّ النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر فهنّ كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة كما يقول الحافظ بن عبد البرّ.
ب - وحديث ابن عمر: (من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلّة يوم القيامة، ثمّ ألهب فيه ناراً) وثوب الشهرة هو الذي يلفت نظر الناس، ويجعل لابسه مشتهراً بينهم، ويحصل ذلك بالرفيع من الثياب وبالوضيع منها إذا كان يخالف ما عليه الناس، فالمطلوب الوسط في كلّ شيء.
ج - وحديث أبي هريرة: (لعن رسول الله صلّى الله وعليه وسلّم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل)، والتشبّه باللباس فرع من كلّ أنواع التشبّه بين النساء والرجال، وقد صحّ أيضاً عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه لعن: (المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال).
وبناءً على ذلك نقول:
1 - لا يسترط في زي المرأة المسلمة لون معيّن، واختيار اللون الأسود اعتادته كثير من النساء الفاضلات لأنّه اقتداءً بنساء الصحابة، وهو أبعد عن الشهرة والتبرّج، لكن السواد ليس شرطاً إلزامياً، ويمكن للمرأة المسلمة أن تلبس من أيّ لون شاءت إلاّ الأحمر القاني - وهو المقصود بالثياب المعصفرة التي نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - كما يمكن للمرأة المسلمة أن تلبس لباساً ملوّناً ولو كان الأحمر أحد ألوانه، بشرط واحد أن لا تجعله كثرة الألوان زينة تلفت النظر بشكل غير اعتيادي وتجعله من لباس الشهرة المنهي عنه، أو تدخله في باب التبرّج.
2 - لا يشترط في جلباب المرأة المسلمة صفة معيّنة أو شكل معيّن طالما أنّه واسع لا يصف أجزاء الجسم، وكثيف لا يظهر من ورائه شيء. ويمكن لدور الأزياء أن تتفنّن في أشكال الجلابيب إذا التزمت بالشروط الشرعية المذكورة آنفاً.
3 - أمّا لبس البنطلون الواسع الذي لا يصف العورة وليس شفّافاً، فهو لا يخلو من التشبّه بلباس الرجل، لكن إذا كانت المرأة تلبس فوقه الجلباب، أو أي ثوب واسع يصل إلى ما تحت الركبة، فإنّه عندئذ يكون أحسن ستراً ممّن تلبس الجرابات ولا يغطّي جلبابها ما تحت الركبة. لذلك أرى أنّه لا يجوز لبس البنطلون للنساء إلاّ إذا لبسن فوقه الجلباب أو المعطف الذي يغطّي الركبة كحدّ أدنى.
أسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ نساءنا وبناتنا من كلّ أنواع الفتن.
=====================(59/4)
استتارٌ
التّعريف
1 - الاستتار في اللّغة : التّغطّي والاختفاء . يقال : استتر وتستّر أي تغطّى ، وجاريةٌ مستترةٌ أي مخدّرةٌ . وقد استعمله الفقهاء بهذا المعنى ، كما استعملوه بمعنى اتّخاذ السّترة في الصّلاة . والسّترة ( بالضّمّ ) هي في الأصل : ما يستتر به مطلقاً ، ثمّ غلب في الاستعمال الفقهيّ على : ما ينصب أمام المصلّي ، من عصاً أو تسنيم ترابٍ أي تكويمه ونحوه ، لمنع المرور أمامه . ويسمّى ستر الصّدقة إخفاؤها .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
2 - يختلف حكم الاستتار تبعاً للأحوال والأفعال الّتي يكون فيها ، على ما سيأتي : الاستتار ( بمعنى اتّخاذ المصلّي سترةً ) 3 - اتّخاذ السّترة للمصلّي مشروعٌ اتّفاقاً ؛ لحديث : « ليستتر أحدكم ولو بسهمٍ » . ثمّ اختلف الفقهاء في حكمه بين الوجوب والسّنّة أو الاستحباب ، على تفصيلٍ موطنه مصطلح : ( سترة المصلّي ) .
الاستتار حين الجماع :
4 - يشمل الاستتار هنا أمرين : الأوّل : الاستتار عن أعين النّاس حين الوطء . الثّاني : عدم التّجرّد حين الوطء .
أمّا الأوّل : فإمّا أن يكون الوطء في حالة انكشاف العورة ، أو في حالة عدم انكشافها . ففي حالة انكشاف العورة انعقد الإجماع على فرضيّة الاستتار ، أمّا في حالة عدم ظهور شيءٍ من العورة فقد اتّفق الفقهاء على أنّ الاستتار سنّةٌ . وأنّ من يتهاون فيه فقد خالف السّنّة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أتى أحدكم أهله فليستتر » . وحملوا الأمر على النّدب ولما في ذلك من الدّناءة والإخلال بالمروءة .
وأمّا الثّاني : ( عدم التّجرّد حين الجماع ) وإن لم يكن معهما أحدٌ يطّلع عليهما ، فقد اختلف الفقهاء فيه ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يجوز للرّجل أن يجرّد زوجته للجماع ، وقيّده الحنفيّة بكون البيت صغيراً ، ويستدلّ لذلك بحديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدّه قال : « قلت : يا رسول اللّه عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك ، قلت : يا رسول اللّه ، أرأيت إن كان القوم بعضهم من بعضٍ ؟ قال : إن استطعت ألاّ تريها أحداً فلا ترينّها . قلت يا رسول اللّه ، فإن كان أحدنا خالياً ، قال : فاللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » وبحديث عبد اللّه بن عمر قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إيّاكم والتّعرّي ، فإنّ معكم من لا يفارقكم إلاّ عند الغائط ، وحين يفضي الرّجل إلى أهله ، فاستحيوهم وأكرموهم » . وذهب الحنابلة إلى أنّه يكره ، لحديث عتبة بن عبدٍ السّلميّ ، قال : « قال رسول اللّه : إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ، ولا يتجرّدا تجرّد العيرين » .
ما يخلّ بالاستتار :
5 -أ - يخلّ بالاستتار وجود شخصٍ مميّزٍ مستيقظٍ معهما في البيت ، سواءٌ أكان زوجةً ، أم سرّيّةً ، أم غيرهما ، يرى أو يسمع الحسّ ، وبه قال الجمهور ، وقد سئل الحسن البصريّ عن الرّجل يكون له امرأتان في بيتٍ ، قال : كانوا يكرهون أن يطأ إحداهما والأخرى ترى أو تسمع .
ب - ويخلّ بالاستتار وجود نائمٍ ، نصّ على ذلك المالكيّة ، فقال الرّهونيّ في حاشيته على شرح الزّرقانيّ لمتن خليلٍ : لا يجوز للرّجل أن يصيب زوجته أو أمته ومعه في البيت أحدٌ يقظان أو نائمٌ ، لأنّ النّائم قد يستيقظ فيراهما على تلك الحال .
ج - ويخلّ بالاستتار عند جمهور المالكيّة وجود صغيرٍ غير مميّزٍ ، اتّباعاً لابن عمر الّذي كان يخرج الصّبيّ في المهد عندما يريد الجماع . وذهب الجمهور - ومنهم بعض المالكيّة - إلى أنّ وجود غير المميّز لا يخلّ بالاستتار ؛ لما فيه من مشقّةٍ وحرجٍ .
الآثار المرتّبة على ترك الاستتار في الجماع :
6 - من حقّ المرأة الامتناع عن إجابة طلب زوجها إلى فراشه ، إن كان ممّن لا يستتر عن النّاس حين الجماع ، ولا تصير ناشزاً بهذا الامتناع ؛ لأنّه امتناعٌ بحقٍّ ؛ ولأنّ الحياء والمروءة يأبيان ذلك ، نصّ على ذلك الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وقواعد المالكيّة والحنابلة لا تأباه .
الاستتار عند قضاء الحاجة :
7 - يشمل هذا أمرين : الاستتار عن النّاس ، والاستتار عن القبلة إن كان خارج البنيان . أمّا الأوّل ، فالأصل وجوب ستر العورة عند قضاء الحاجة ، بحضور من لا يحلّ له النّظر إليها ، وتفصيله في مصطلح ( عورةٌ ) ، كما أنّه يسنّ عند بعض الفقهاء استتار شخص الإنسان عند إرادة الغائط .
وأمّا الاستتار عن القبلة بساترٍ فإنّ بعض الفقهاء يرى جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة ، إن استتر عن القبلة بساترٍ . ويرى بعضهم تحريم استقبال القبلة واستدبارها مطلقاً ، وتفصيل ما يتّصل بالاستتار عن القبلة في مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .
الاستتار حين الاغتسال :
أ - وجوب الاستتار عمّن لا يحلّ له النّظر إليه :
8 - الأمر الّذي لا خلاف فيه هو : افتراض الاستتار حين الاغتسال ، بحضرة من لا يجوز له النّظر إلى عورة المغتسل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك » . وعن أمّ هانئٍ قالت : « ذهبت إلى رسول اللّه عام الفتح فوجدته يغتسل ، وفاطمة تستره فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا أمّ هانئٍ » . ( ر : عورةٌ ) فإذا لم يمكنه الاغتسال إلاّ بكشف عورته أمام واحدٍ من هؤلاء ، فقد صرّح الحنفيّة بأنّ كشف العورة حينئذٍ لا يسقط وجوب الغسل عليه – إن كان رجلاً بين رجالٍ ، أو امرأةً بين نساءٍ – لأمرين . الأوّل : نظر الجنس إلى الجنس أخفّ من النّظر إلى الجنس الآخر .(60/1)
والثّاني : أنّ الغسل فرضٌ فلا يترك لكشف العورة . أمّا إن كانت امرأةٌ بين رجالٍ ، أو رجلٌ بين نساءٍ ، أو خنثى بين رجالٍ أو نساءٍ ، أو هما معاً ، فلا يجوز لهؤلاء الكشف عن عوراتهم للغسل ، بل يتيمّمون ، لكن شارح منية المصلّي لم يسلّم بهذا التّفصيل ؛ لأنّ ترك المنهيّ عنه مقدّمٌ على فعل المأمور ، وللغسل خلفٌ وهو التّيمّم . وعموم كلام الحنابلة ، في تحريم كشف العورة عند الاغتسال بحضور من يحرم نظره إليها ، يشعر بأنّهم يخالفون الحنفيّة . والّذي يؤخذ من كلام المالكيّة ، والشّافعيّة أنّه لو ترتّب على القيام بالطّهارة المائيّة كشف العورة ، فإنّه يصار إلى التّيمّم ؛ لأنّ ستر العورة لا بدل له ؛ ولأنّه واجبٌ للصّلاة والصّيانة عن العيون ، ويباح فعل المحظور من أجله ، كاستتار الرّجل بالحرير إذا تعيّن . أمّا الطّهارة المائيّة فلها بدلٌ ، ولا يباح فعل المحظور من أجلها ومن هنا كان السّلف والأئمّة الأربعة يتشدّدون في المنع من دخول الحمّام إلاّ بمئزرٍ . وروى ابن أبي شيبة في ذلك آثاراً عن عليّ بن أبي طالبٍ ومحمّد بن سيرين وأبي جعفرٍ محمّد بن عليٍّ وسعيد بن جبيرٍ ، حتّى بلغ الأمر بعمر بن الخطّاب أنّه كتب : لا يدخلنّ أحدٌ الحمّام إلاّ بمئزرٍ ، وبعمر بن عبد العزيز أن كتب إلى عامله بالبصرة أمّا بعد : فمر من قبلك ألاّ يدخلوا الحمّام إلاّ بمئزرٍ ، وأخذ يفرض العقوبات الرّادعة على من دخل الحمّام بغير مئزرٍ ، وعلى صاحب الحمّام الّذي أدخله . وعن عبادة قال : رأيت عمر بن عبد العزيز يضرب صاحب الحمّام ومن دخله بغير إزارٍ .
ب - استتار المغتسل بحضور الزّوجة :
9 - ممّا لا خلاف فيه أيضاً : أنّ لكلّ واحدٍ من الزّوجين أن يغتسل بحضور الآخر ، وهو بادي العورة . للحديث المتقدّم : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك ، أو ما ملكت يمينك » . ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أغتسل أنا والنّبيّ صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ من قدحٍ ، يقال له : الفرق » ، متّفقٌ عليه .
استتار المغتسل منفرداً :
10 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه يجوز للمنفرد أن يغتسل عرياناً . واستدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ، ينظر بعضهم إلى بعضٍ ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه آدرّ - منفوخ الخصية - فذهب مرّةً يغتسل ، فوضع ثوبه على حجرٍ ، ففرّ الحجر بثوبه ، فخرج موسى في إثره يقول : ثوبي يا حجر ، حتّى نظر بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا : واللّه ما بموسى من بأسٍ ، وأخذ ثوبه ، فطفق بالحجر ضرباً » . وعن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال : بينا أيّوب يغتسل عرياناً فخرّ عليه جرادٌ من ذهبٍ ، فجعل أيّوب يحتشي في ثوبه ، فناداه ربّه : يا أيّوب ألم أكن أغنيتك عمّا ترى ؟ قال : بلى وعزّتك ، ولكن لا غنى بي عن بركتك » . فقد قصّ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك دون نكيرٍ ، فهو دليلٌ على الجواز ؛ لأنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه . وسئل الإمام مالكٌ عن الغسل في الفضاء ، فقال : لا بأس به ، فقيل : يا أبا عبد اللّه إنّ فيه حديثاً ، فأنكر ذلك ، وقال تعجّباً : لا يغتسل الرّجل في الفضاء ؟ ، وجه إجازة مالكٍ للرّجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمن أن يمرّ به أحدٌ ، وأنّ الشّرع إنّما قرّر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدم دون سواهم من الملائكة ، إذ لا يفارقه الحفظة الموكّلون به في حالٍ من الأحوال ، قال تعالى : { ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيبٌ عتيدٌ } . وقال تعالى : { وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون } : ولهذا قال مالكٌ تعجّباً : لا يغتسل الرّجل في الفضاء ، إذ لا فرق في حقّ الملائكة بين الفضاء وغيره . ولكن هذا جوازٌ مقرونٌ بالكراهة التّنزيهيّة ، ولذلك يندب له الاستتار . لما رواه البخاريّ تعليقاً ، ووصله غيره ، عن معاوية بن حيدة ، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك . قلت : يا رسول اللّه فإن كان أحدنا خالياً ؟ قال : فاللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » . وذهب عبد الرّحمن بن أبي ليلى إلى وجوب الاستتار حين الغسل ، ولو كان في خلوةٍ . مستدلاًّ بالحديث الّذي أخرجه أبو داود والنّسائيّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز - أي بالخلاء - فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ حليمٌ حييٌّ ستّيرٌ ، يحبّ الحياء والسّتر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر » .
استتار المرأة المتزيّنة :
11 - يجب على المرأة الاستتار عن غير الزّوج والمحارم ، بستر عورتها وعدم إبداء زينتها ، لقوله تعالى : « يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ » . وفيما يجب ستره عن المحارم وغيرهم ، وفي ستر الوجه والكفّين والقدمين خلافٌ وتفصيلٌ موطنه مصطلح : ( تزيّنٌ ) ( وعورةٌ ) .
الاستتار من عمل الفاحشة :
12 - من ابتلي بمعصيةٍ ، كشرب الخمر والزّنا ، فعليه أن يستتر بذلك ، ولا يجاهر بفعله السّيّئ ، كما ينبغي لمن علم بفاحشته أن يستر عليه وينصحه ، ويمنعه عن المنكر بالوسيلة الّتي يستطيعها .(60/2)
13 - وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المرء إذا وقع منه ما يعاب عليه يندب له السّتر على نفسه ، فلا يعلم أحداً ، حتّى القاضي ، بفاحشته لإقامة الحدّ أو التّعزير عليه ، لما رواه البخاريّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين ، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملاً ، ثمّ يصبح وقد ستره اللّه تعالى ، فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربّه ويصبح يكشف ستر اللّه عنه » . وقوله صلى الله عليه وسلم « من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر اللّه ، فإنّه من يبدي لنا من صفحته نقم عليه كتاب اللّه » . وقال أبو بكرٍ الصّدّيق : لو أخذت شارباً لأحببت أن يستره اللّه ، ولو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره اللّه ، وأنّ الصّحابة أبا بكرٍ وعمر وعليّاً وعمّار بن ياسرٍ وأبا هريرة وأبا الدّرداء والحسن بن عليٍّ وغيرهم ، قد أثر عنهم السّتر على معترفٍ بالمعصية ، أو تلقينه الرّجوع من إقراره بها ، ستراً عليه ، وستر معترف المعصية على نفسه أولى من ستر غيره عليه . والجهر بالمعصية عن جهلٍ ، ليس كالجهر بالمعصية تبجّحاً . قال ابن حجرٍ : فإنّ من قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربّه . وقال الخطيب الشّربينيّ : وأمّا التّحدّث بها تفكّهاً فحرامٌ قطعاً .
أثر الاستتار بالمعصية :
14 - يترتّب على الاستتار بالمعصية :
أ - عدم إقامة العقوبة الدّنيويّة ؛ لأنّ العقوبات لا تجب إلاّ بعد إثباتها . ( ر : إثباتٌ ) فإذا استتر بها ولم يعلنها ولم يقرّ بها ولم ينله أيّ طريقٍ من طرق الإثبات ، فلا عقوبة .
ب - عدم شيوع الفاحشة ، قال اللّه تعالى : { إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون } .
ج - من ارتكب معصيةً فاستتر بها فهو أقرب إلى أن يتوب منها ، فإن تاب سقطت عنه المؤاخذة ، فإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ اللّه تعالى فإنّ التّوبة تسقط المؤاخذة ؛ لأنّ اللّه أكرم الأكرمين ، ورحمته سبقت غضبه ، فلذلك إذا ستره في الدّنيا لم يفضحه في الآخرة . وإن كانت تتعلّق بحقٍّ من حقوق العباد ، كقتلٍ وقذفٍ ونحو ذلك ، فإنّ من شروط التّوبة فيها أداء هذه الحقوق لأصحابها ، أو عفو أصحابها عنها ، ولذلك وجب على من استتر بالمعصية المتعلّقة بحقّ آدميٍّ أن يؤدّي هذا الحقّ لصاحبه . ( ر : التّوبة ) .(60/3)
*استجمارٌ
التّعريف
1 - الاستجمار لغةً : الاستنجاء بالحجارة ، مأخوذٌ من الجمرات والجمار ، وهي الأحجار الصّغيرة . واستجمر واستنجى واحدٌ .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
2 - الاستنجاء بالحجر ونحوه وحده ، أو بالماء وحده واجبٌ عند الجمهور على التّخيير ، وسنّةٌ مؤكّدةٌ عند الحنفيّة ، والجمع بينهما أفضل . ولكن يتعيّن الاستنجاء بالماء في المنيّ ، والحيض ، والنّفاس ، وفي البول ، والغائط إذا انتشر انتشاراً كثيراً ، واختلف في بول المرأة . وتفصيل أحكام الاستجمار في مصطلح « استنجاءٌ » .(61/1)
*استحاضةٌ
التعريف
1 - الاستحاضة لغةً : مصدر استحيضت المرأة فهي مستحاضةٌ . والمستحاضة من يسيل دمها ولا يرقأ ، في غير أيّامٍ معلومةٍ ، لا من عرق الحيض بل من عرقٍ يقال له : العاذل . وعرّف الحنفيّة الاستحاضة بأنّها : دم عرقٍ انفجر ليس من الرّحم . وعرّفها الشّافعيّة بأنّها : دم علّةٍ يسيل من عرقٍ من أدنى الرّحم يقال له العاذل ، قال الرّمليّ : الاستحاضة دمٌ تراه المرأة غير دم الحيض والنّفاس ، سواءٌ اتّصل بهما أم لا . وجعل من أمثلتها الدّم الّذي تراه الصّغيرة .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - الحيض :
2 - الحيض دمٌ ينفضه رحم امرأةٍ بالغةٍ لا داء بها ولا حبل ، ولم تبلغ سنّ الإياس
ب - النّفاس :
3 - النّفاس دمٌ يخرج عقب الولادة ، وهذا القدر لا خلاف فيه ، وزاد المالكيّة في الأرجح : ومع الولادة ، وزاد الحنابلة : مع ولادةٍ وقبلها بيومين أو ثلاثةٍ .
4 - وتفترق الاستحاضة عن الحيض والنّفاس بأمورٍ منها :
أ - الحيض له وقتٌ ، وذلك حين تبلغ المرأة تسع سنين فصاعداً ، فلا يكون المرئيّ فيما دونه حيضاً ، وكذلك ما تراه بعد سنّ اليأس لا يكون حيضاً عند الأكثر ، أمّا الاستحاضة فليس لها وقتٌ معلومٌ .
ب - الحيض دمٌ يعتاد المرأة في أوقاتٍ معلومةٍ من كلّ شهرٍ ، أمّا الاستحاضة فهي دمٌ شاذٌّ يخرج من فرج المرأة في أوقاتٍ غير معتادةٍ .
ج - الحيض دمٌ طبيعيٌّ لا علاقة له بأيّ سببٍ مرضيٍّ ، في حين أنّ دم الاستحاضة دمٌ ناتجٌ عن فسادٍ أو مرضٍ أو اختلال الأجهزة أو نزف عرقٍ .
د - لون دم الحيض أسود ثخينٌ منتنٌ له رائحةٌ كريهةٌ غالباً ، بينما لون دم الاستحاضة أحمر رقيقٌ لا رائحة له .
هـ – دم النّفاس لا يكون إلاّ مع ولادةٍ . الاستمرار عند الحنفيّة :
5 – الاستحاضة غالباً ما تحصل بالاستمرار ، وهو : زيادة الدّم عن أكثر مدّة الحيض أو النّفاس ، وهذا عند الحنفيّة إذ لم يعتبر الاستمرار بهذا المعنى غيرهم ، والاستمرار إمّا أن يكون في المعتادة أو في المبتدأة .
الاستمرار في المعتادة :
6 - إذا استمرّ دم المعتادة وجاوز أكثر الحيض فطهرها وحيضها ما اعتادت ، وتردّ إلى عادتها في الحيض والطّهر في جميع الأحكام ، بشرط أن يكون طهرها المعتاد أقلّ من ستّة أشهرٍ ، أمّا إذا كان طهرها أكثر من ستّة أشهرٍ فلا تردّ إلى عادتها في الطّهر ، وقد بيّن ابن عابدين سبب ذلك فقال : لأنّ الطّهر بين الدّمين أقلّ من أدنى مدّة الحمل عادةً ، وأدنى مدّة الحمل كما هو معلومٌ ستّة أشهرٍ . وللعلماء عدّة أقوالٍ لتقدير طهر المرأة في مثل هذه الحالة أقواها قولان ، وهما :
أ - يقدّر طهرها بستّة أشهرٍ إلاّ ساعةً ؛ تحقيقاً للتّفاوت بين طهر الحمل وطهر الحيض .
ب - يقدّر طهرها بشهرين ، وهو ما اختاره الحاكم الشّهيد . قال ابن عابدين : إنّ أكثر العلماء يقولون بالأوّل ، ولكن الفتوى على الثّاني ؛ لأنّه أيسر على المفتي والنّساء .
الاستمرار في المبتدأة :
7 - ذكر البركويّ أربع حالاتٍ للمبتدأة ، وهذا عند الحنفيّة ، أمّا عند الأئمّة الثّلاثة : الشّافعيّ ، وأحمد ، ومالكٍ ، فسيأتي بيان أحوالها في الموضع التّالي . وثلاثٌ من حالات المبتدأة تتّصل بموضوع الاستمرار ، أمّا الحالة الرّابعة للمبتدأة عند الحنفيّة فستأتي ف 13 حالات الاستمرار في المبتدأة :
8 - الأولى : أن يستمرّ بها الدّم من أوّل ما بلغت ، فحينئذٍ يقدّر حيضها من أوّل الاستمرار عشرة أيّامٍ ، وطهرها عشرين ثمّ ذلك دأبها ، وإذا صارت نفساء فنفاسها يقدّر بأربعين يوماً ، ثمّ بعد النّفاس يقدّر بعشرين يوماً طهراً ، إذ لا يتوالى نفاسٌ وحيضٌ عند الحنفيّة ، بل لا بدّ من طهرٍ تامٍّ بينهما ، ولمّا كان تقديره بين الحيضتين عشرين ، فليكن كذلك بين النّفاس والحيض تقديراً مطّرداً .
الثّانية : أن ترى دماً وطهراً فاسدين ، والدّم الفاسد عند الحنفيّة ما زاد على عشرة أيّامٍ ، والطّهر الفاسد ما نقص عن خمسة عشر يوماً ، فلا يعتدّ بما رأت من حيث نصب العادة به ، بل يكون حيضها عشرةً ، ولو حكماً ، من حين استمرّ بها الدّم ، ويكون طهرها عشرين ، وذلك دأبها حتّى ترى دماً وطهراً صحيحين . بيان ذلك : مراهقةٌ ( أي مقاربةٌ للبلوغ ) رأت أحد عشر يوماً دماً وأربعة عشر طهراً ، ثمّ استمرّ بها الدّم ، فحيضها عشرةٌ وطهرها عشرون ، والطّهر النّاقص الفاصل بين الدّمين يعتبر كالدّم المستمرّ حكماً ، وعليه تكون هذه كالّتي استمرّ بها الدّم من أوّل ما بلغت ، فيكون حيضها عشرة أيّامٍ من أوّل أيّام الدّم الأحد عشر وطهرها عشرين . هذا إذا كان الطّهر فاسداً بأن كان أقلّ من خمسة عشر يوماً ، أمّا إذا كان خمسة عشر يوماً فأكثر وقد فسد بمخالطته دم الاستحاضة ، كمبتدأةٍ رأت أحد عشر دماً وخمسة عشر طهراً ثمّ استمرّ بها الدّم ، فالدّم الأوّل فاسدٌ لزيادته على العشرة ، والطّهر صحيحٌ ظاهراً لأنّه تامٌّ إذ هو خمسة عشر يوماً ، ولكنّه فاسدٌ في المعنى لأنّ أوّله دمٌ ، وهو اليوم الزّائد على العشرة ، وليس من الحيض عند الحنفيّة ؛ لأنّ أكثر الحيض عشرة أيّامٍ فقط عندهم فهو من الطّهر ، وبما أنّ الطّهر خالطه الدّم في أوّله فلا يصلح أن يكون عادةً . قال ابن عابدين في شرح رسالة الحيض : والحاصل أنّ فساد الدّم يفسد الطّهر المتخلّل فيجعله كالدّم المتوالي ، فتصير المرأة كأنّها ابتدئت بالاستمرار ، ويكون حيضها عشرةً وطهرها عشرين ، ولكن إن لم يزد الدّم والطّهر على ثلاثين يعتبر ذلك من أوّل ما رأت ، وإن زاد يعتبر من أوّل الاستمرار الحقيقيّ ، ويكون جميع ما بين دم الحيض الأوّل ودم الاستمرار طهراً .(62/1)
الثّالثة : أن ترى دماً صحيحاً ، وطهراً فاسداً ، فإنّ الدّم الصّحيح يعتبر عادةً لها فقط ، فتردّ إليه في زمن الاستمرار ، ويكون طهرها أثناء الاستمرار بقيّة الشّهر . فلو رأت المبتدأة خمسةً دماً وأربعة عشر طهراً ثمّ استمرّ الدّم ، فحيضها خمسةٌ وطهرها بقيّة الشّهر خمسةٌ وعشرون ، فتصلّي من أوّل الاستمرار أحد عشر يوماً تكملة الطّهر ، ثمّ تترك الصّلاة خمسةً ، ثمّ تغتسل وتصلّي خمسةً وعشرين وهكذا ، وكذلك الحكم إذا كان الطّهر فاسداً في المعنى فقط ، كما لو رأت المبتدأة ثلاثةً دماً وخمسة عشر طهراً ، ثمّ يوماً دماً ثمّ خمسة عشر طهراً ثمّ استمرّ بها الدّم ، فإنّ اليوم الّذي رأت فيه الدّم - وقد توسّط بين الطّهرين - أفسدهما معاً لأنّه لا يعتبر حيضاً فهو من الطّهر ، وعليه : فالأيّام الثّلاثة الأولى حيضٌ ، وواحدٌ وثلاثون يوماً طهرٌ ، ثمّ تستأنف من أوّل الاستمرار فثلاثةٌ حيضٌ ، وسبعةٌ وعشرون طهرٌ ، وهكذا دأبها ، وبهذا تشترك هذه المسألة مع السّابقة في الحكم ، من حيث نصب العادة عند الاستمرار في كلّ شهرٍ . وإذا كان الطّهر الثّاني الّذي مرّ بها قبل الاستمرار طهراً فاسداً - لأنّه أقلّ من خمسة عشر يوماً - فالحكم يختلف عمّا تقرّر ؛ لأنّه أمكن اعتبار اليوم الّذي رأت فيه الدّم بعد الخمسة عشر الأولى من أيّام الحيض . فلو رأت المراهقة ثلاثة أيّامٍ دماً ، ثمّ خمسة عشر يوماً طهراً ، ثمّ يوماً دماً ، ثمّ أربعة عشر يوماً طهراً ، ثمّ استمرّ بها الدّم ، فالأيّام الثّلاثة الأول دمٌ صحيحٌ ، فهو حيضٌ ، والخمسة عشر بعدها طهرٌ صحيحٌ ، واليوم الّذي بعدها مع اثنين ممّا بعده حيضٌ ، ثمّ طهرها خمسة عشر ، اثنا عشر من أيّام الانقطاع الّتي سبقت الاستمرار ، وثلاثةٌ من أوّل الاستمرار ، ولهذا تصلّي من أوّل الاستمرار ثلاثةً ثمّ تعتبر حائضاً ثلاثةً فتترك فيها الصّلاة ، ثمّ تغتسل وتصلّي خمسة عشر يوماً ، وهكذا يقدّر حيضها بثلاثةٍ وطهرها بخمسة عشر .
أمّا الحالة الرّابعة فستبحث في الفقرة استحاضة المبتدأة بالحمل .
استحاضة المبتدأة بالحيض ، والمبتدأة بالحمل :
9 - المبتدأة بالحيض هي الّتي كانت في أوّل حيضٍ فابتدأت بالدّم ، واستمرّ بها . فعند الحنفيّة تقدّم تفصيل حكمها .
10 - وعند المالكيّة تعتبر المبتدأة بأترابها ، فإن تجاوزتهنّ فرواية ابن القاسم في المدوّنة : تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوماً ، ثمّ هي مستحاضةٌ تغتسل وتصلّي وتصوم . وفي رواية ابن زيادٍ عن مالكٍ : أنّها تقتصر على عوائد أترابها أي في السّنّ ، فتأخذ بعوائدهنّ في الحيض من قلّة الدّم وكثرته ، يقال إنّها تقيم قدر أيّام لدّاتها ، ثمّ هي مستحاضةٌ بعد ذلك تصلّي وتصوم ، إلاّ أن ترى دماً تستكثره لا تشكّ فيه أنّه دم حيضةٍ . وقالوا أيضاً : إنّ المستحاضة إذا عرفت أنّ الدّم النّازل هو دم الحيض ، بأن ميّزته بريحٍ أو ثخنٍ أو لونٍ أو تألّمٍ ، فهو حيضٌ بشرط أن يتقدّمه أقلّ الطّهر ، وهو خمسة عشر يوماً ، فإن لم تميّز ، أو ميّزت قبل تمام أقلّ الطّهر فهي مستحاضةٌ أي باقيةٌ على أنّها طاهرةٌ ، ولو مكثت على ذلك طول حياتها .
11 - وأمّا المبتدأة بالحيض عند الشّافعيّة ، فقد قالوا : المبتدأة إمّا أن تكون مميّزةً لما تراه أو لا ، فإذا كانت المبتدأة مميّزةً لما تراه بأن ترى في بعض الأيّام دماً قويّاً وفي بعضها دماً ضعيفاً ، أو في بعضها دماً أسود وفي بعضها دماً أحمر ، وجاوز الدّم أكثر الحيض ، فالضّعيف أو الأحمر استحاضةٌ وإن طال ، والأسود أو القويّ حيضٌ إن لم ينقص الأسود أو القويّ عن أقلّ الحيض ، وهو يومٌ وليلةٌ عندهم ، ولا جاوز أكثر الحيض وهو خمسة عشر يوماً أيضاً ، حتّى لو رأت يوماً وليلةً أسود ثمّ اتّصل به الضّعيف ، وتمادى سنين كان طهراً ، وإن كانت ترى الدّم دائماً ؛ لأنّ أكثر الطّهر لا حدّ له ، فإن فقد شرطٌ من ذلك كأن رأت الأسود أقلّ من يومٍ وليلةٍ أو ستّة عشر ، أو رأت الضّعيف أربعة عشر ، أو رأت أبداً يوماً أسود ويومين أحمر فحكمها كحكم غير المميّزة لما تراه . والمبتدأة غير المميّزة عند الشّافعيّة ، بأن رأت الدّم بصفةٍ واحدةٍ أو بصفاتٍ مختلفةٍ لكن فقدت شرطاً من شروط التّمييز الّتي ذكرت ، فإن لم تعرف وقت ابتداء دمها فحكمها حكم المتحيّرة ، كما ذكره الرّافعيّ وسيأتي بيانه ، وإن عرفته فالأظهر أنّ حيضها يومٌ وليلةٌ من أوّل الدّم وإن كان ضعيفاً ؛ لأنّ ذلك هو المتيقّن ، وما زاد مشكوكٌ فيه ، فلا يحكم بأنّه حيضٌ ، وطهرها تسعةٌ وعشرون يوماً تتمّة الشّهر .(62/2)
12 - وأمّا الحنابلة فقالوا : إنّ المبتدأة إمّا أن تكون مميّزةً لما تراه أو لا ، فإن كانت مميّزةً عملت بتمييزها إن صلح الأقوى أن يكون حيضاً ، بأن لم ينقص عن يومٍ وليلةٍ ، ولم يزد على خمسة عشر يوماً ، وإن كانت غير مميّزةٍ قدّر حيضها بيومٍ وليلةٍ ، وتغتسل بعد ذلك وتفعل ما تفعله الطّاهرات . وهذا في الشّهر الأوّل والثّاني والثّالث ، أمّا في الشّهر الرّابع فتنتقل إلى غالب الحيض ، وهو ستّة أيّامٍ أو سبعةٌ باجتهادها أو تحرّيها . وقال صاحب مطالب أولي النّهى في شرح غاية المنتهى : لو رأت يوماً وليلةً دماً أسود ، ثمّ رأت دماً أحمر ، وجاوز خمسة عشر يوماً ، فحيضها زمن الدّم الأسود ، وما عداه استحاضةٌ لأنّه لا يصلح حيضاً . أو رأت في الشّهر الأوّل خمسة عشر يوماً دماً أسود ، وفي الشّهر الثّاني أربعة عشر ، وفي الشّهر الثّالث ثلاثة عشر ، فحيضها زمن الأسود . وإن لم يكن دمها متميّزاً ، بأن كان كلّه أسود أو أحمر ونحوه ، أو كان متميّزاً ، ولم يصلح الأسود ونحوه أن يكون حيضاً بأن نقص عن يومٍ وليلةٍ ، أو زاد عن الخمسة عشر يوماً ، فتجلس أقلّ الحيض من كلّ شهرٍ لأنّه اليقين حتّى تتكرّر استحاضتها ثلاثاً ؛ لأنّ العادة لا تثبت بدونها ، ثمّ تجلس بعد التّكرار من مثل أوّل وقت ابتداءٍ بها إن علمته من كلّ شهرٍ ستّاً أو سبعاً بتحرٍّ ، أو تجلس من أوّل كلّ شهرٍ هلاليٍّ إن جهلته ، أي : وقت ابتدائها بالدّم ستّاً أو سبعاً من الأيّام بلياليها بتحرٍّ في حال الدّم وعادة أقاربها النّساء ، ونحوه ، لحديث « حمنة بنت جحشٍ قالت : يا رسول اللّه إنّي أستحاض حيضةً كبيرةً شديدةً ، قد منعتني الصّوم والصّلاة ، فقال : تحيضي في علم اللّه ستّاً أو سبعاً ثمّ اغتسلي » . ويتّجه احتمالٌ قويٌّ بوجوب قضاء من جهلت وقت ابتدائها بالدّم نحو صومٍ كطوافٍ واعتكافٍ واجبين فيما فعلته أي الصّوم ونحوه قبل التّحرّي ، كمن جهل القبلة وصلّى بلا تحرٍّ فيقضي ولو أصاب .
13 - وأمّا المبتدأة بالحمل : وهي الّتي حملت من زوجها قبل أن تحيض إذا ولدت فرأت الدّم زيادةً عن أربعين يوماً عند الحنفيّة ، والحنابلة فالزّيادة استحاضةٌ عند الحنفيّة ؛ لأنّ الأربعين للنّفاس كالعشرة للحيض ، فالزّيادة في كلٍّ منهما استحاضةٌ دون نظرٍ إلى تمييزٍ أو عدمه . أمّا عند الحنابلة فإن أمكن أن يكون حيضاً فحيضٌ ، وإلاّ فاستحاضةٌ ؛ لأنّه يتصوّر عندهم اقتران الحيض بالنّفاس . وعند المالكيّة ، والشّافعيّة الزّيادة على السّتّين استحاضةٌ ، وفرّقوا بين المميّزة لما ترى وغير المميّزة ، كما في الحيض . فإذا بلغت بالحمل وولدت واستمرّ بها الدّم ، ولم تر طهراً صحيحاً بعد ولادتها وانتهاء مدّة نفاسها - وهي أربعون يوماً عند الحنفيّة ، والحنابلة - فيقدّر طهرها بعد الأربعين بعشرين يوماً ، ثمّ بعده يكون حيضها عشرةً وطهرها عشرين ، وهذا شأنها ما دامت حالة الاستمرار قائمةً بها . وإذا ولدت فرأت أربعين يوماً دماً ، ثمّ خمسة عشر طهراً ، ثمّ استمرّ بها الدّم ، فحيضها عشرةٌ من أوّل الاستمرار ، وطهرها خمسة عشر ، أي تردّ إلى عادتها في الطّهر إذا كان طهراً صحيحاً خمسة عشر يوماً فأكثر ، وكذلك يكون هذا الرّدّ إذا رأت ستّة عشر يوماً طهراً فما فوقها إلى واحدٍ وعشرين ، فعندئذٍ يقدّر حيضها بتسعةٍ وطهرها بواحدٍ وعشرين ، ثمّ كلّما زاد الطّهر نقص من الحيض مثله إلى أن يكون حيضها ثلاثةً ، وطهرها سبعةً وعشرين ، فإذا زاد الطّهر على سبعةٍ وعشرين فحيضها عشرةٌ من أوّل الاستمرار ، وطهرها مثل ما رأيت قبل الاستمرار كائناً ما كان عدده . بخلاف ما إذا كان طهرها ناقصاً عن خمسة عشر يوماً فإنّه يقدّر بعد الأربعين - الّتي هي مدّة نفاسها - بعشرين وحيضها بعشرةٍ ، فهي بمنزلة الّذي وضعت واستمرّ بها الدّم ابتداءً ، وإذا كان طهرها الّذي رأته بعد الأربعين الّتي للنّفاس كاملاً خمسة عشر يوماً فأكثر ، وقد زاد دمها على أربعين في النّفاس بيومٍ مثلاً ، فسد هذا الطّهر في المعنى ؛ لأنّه خالطه دمٌ يوم تؤمر بالصّلاة فيه ، ولهذا لا يصلح لاعتباره عادةً لها ، فيقدّر حيضها وطهرها حسب التّفصيل التّالي : فإذا كان بين نهاية النّفاس - الأربعين - وأوّل الاستمرار عشرون يوماً فأكثر ، كأن زاد دمها على الأربعين بخمسةٍ أو ستّةٍ وطهرت بعده خمسة عشر ثمّ استمرّ بها الدّم ، فإنّه يقدّر حيضها من أوّل الاستمرار بعشرة أيّامٍ ، وطهرها بعشرين ، وهكذا دأبها . وإن كان بين النّفاس وأوّل الاستمرار أقلّ من عشرين كأن زاد دمها على الأربعين بيومٍ أو يومين فإنّه يكمل طهرها إلى العشرين ، ويؤخذ من أوّل الاستمرار ما يتمّ به تكميل هذه العشرين ، ثمّ يقدّر حيضها بعد ذلك بعشرةٍ وطهرها بعشرين وهكذا . والجدير بالذّكر أنّ المبتدأة بالحيض أو النّفاس إذا انقطع دمها لأقلّ من عشرة أيّامٍ في الحيض ، ولأقلّ من أربعين في النّفاس ، فإنّها تغتسل وتصلّي في آخر الوقت ، وتصوم احتياطاً ، ولا يحلّ لزوجها وطؤها حتّى يستمرّ الانقطاع إلى تمام العشرة في الحيض ، هذا إذا انقطع لتمام ثلاثة أيّامٍ ، أمّا إذا انقطع لأقلّ من ثلاثةٍ فهو استحاضةٌ وليس بحيضٍ ، فتتوضّأ وتصلّي في آخر الوقت . وهذا كلّه عند الحنفيّة .(62/3)
14 - أمّا أحكام المبتدأة بالحمل عند الشّافعيّة والمالكيّة فقولهم هنا كأقوالهم في المبتدأة بالحيض . والمالكيّة قالوا : تعتبر المبتدأة بأترابها ، فإن تمادى بها الدّم فالمشهور أنّها تعتكف ستّين يوماً ، ثمّ هي مستحاضةٌ تغتسل ، وتصوم وتصلّي ، وتوطأ . فإذا عبر الدّم السّتّين عند الشّافعيّة فينزل منزلة عبوره أكثر الحيض ؛ لأنّ النّفاس كالحيض في غالب أحكامه ، فكذلك في الرّدّ إليه ، فيقاس بما ذكر في الحيض وفاقاً وخلافاً ، فينظر هنا أيضاً إذا كانت المرأة مبتدأةً في النّفاس أم معتادةً ، مميّزةً لما تراه أم غير مميّزةٍ ، ويقاس بما تقدّم في الحيض ، فتردّ المبتدأة المميّزة إلى التّمييز شرط ألاّ يزيد القويّ على ستّين عند الشّافعيّة والمالكيّة ، وغير المميّزة تردّ إلى لحظةٍ في الأظهر عند الشّافعيّة ، والمعتادة المميّزة تردّ إلى التّمييز لا العادة في الأصحّ ، وغير المميّزة الحافظة تردّ إلى العادة ، وتثبت العادة بمرّةٍ في الأصحّ عند الشّافعيّة ، وأمّا النّاسية لعادتها فتردّ إلى مردّ المبتدأة في قولٍ ، وتحتاط في القول الآخر . أمّا الحنابلة فيرون أنّ النّفساء إذا زاد دمها على الأربعين ، ووافق عادة حيضٍ فهو حيضٌ ، وما زاد فهو استحاضةٌ . وإن لم يوافق عادة حيضٍ فما زاد على الأربعين استحاضةٌ ، ولم يفرّقوا بين مبتدأةٍ بالحمل أو معتادةٍ له .
استحاضة ذات العادة :
أ - ذات العادة بالحيض :
15 - مذهب الحنفيّة في ذات العادة بالحيض - وهي الّتي تعرف شهرها ووقت حيضها وعدد أيّامها أنّه : إذا رأت المعتادة ما يوافق عادتها من حيث الزّمن والعدد ، فكلّ ما رأته حيضٌ . وإذا رأت ما يخالف عادتها من حيث الزّمن أو العدد أو كلاهما ، فحينئذٍ قد تنتقل العادة وقد لا تنتقل ، ويختلف حكم ما رأت ، فتتوقّف معرفة حال ما رأت من الحيض والاستحاضة على انتقال العادة . فإن لم تنتقل كما إذا زاد الدّم عن العشرة ردّت إلى عادتها ، فيجعل المرئيّ في العادة حيضاً ، والباقي الّذي جاوز العادة استحاضةً . وإن انتقلت العادة فكلّ ما رأته حيضٌ . وتفصيل قاعدة انتقال العادة وحالاتها وأمثلتها في مصطلح ( حيضٌ ) .
16 - وعند المالكيّة : أقوالٌ متعدّدةٌ أشار إليها ابن رشدٍ في المقدّمات أشهرها : أنّها تبقى أيّامها المعتادة ، وتستظهر ( أي تحتاط ) بثلاثة أيّامٍ ، ثمّ تكون مستحاضةً تغتسل وتصلّي وتصوم وتطوف ويأتيها زوجها ، ما لم تر دماً تنكره بعد مضيّ أقلّ مدّة الطّهر من يوم حكم باستحاضتها ، وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مالكٍ في المدوّنة . وعلى هذه الرّواية تغتسل عند تمام الخمسة عشر يوماً استحباباً لا إيجاباً . وهذا كلّه إذا لم تكن مميّزةً ، أمّا المميّزة فتعمل بتمييزها من رؤية أوصاف الدّم وأحواله من التّقطّع والزّيادة واللّون ، فتميّز به ما هو حيضٌ ، وما هو استحاضةٌ . وإذا أتاها الحيض في وقته ، وانقطع بعد يومٍ أو يومين أو ساعةٍ ، وأتاها بعد ذلك قبل طهرٍ تامٍّ ، فإنّها تلفّق أيّام الدّم بعضها إلى بعضٍ ، فإن كانت معتادةً فتلفّق عادتها واستظهارها ، وإن كانت مبتدأةً لفّقت نصف شهرٍ ، وإن كانت حاملاً في ثلاثة أشهرٍ فأكثر لفّقت نصف شهرٍ ونحوه ، أو بعد ستّة أشهرٍ لفّقت عشرين يوماً ونحوها . والأيّام الّتي استظهرت بها هي فيها حائضٌ ، وهي مضافةٌ إلى الحيض ، إن رأت الدّم فيها بعد ذلك وإن لم تره ، وأيّام الطّهر الّتي كانت تلغيها عند انقطاع الدّم في خلال ذلك ، وكانت لا ترى فيها دماً هي فيها طاهرةٌ ، تصلّي فيها ويأتيها زوجها وتصومها ، وليست تلك الأيّام بطهرٍ تعتدّ به في عدّةٍ من طلاقٍ ؛ لأنّ الّذي قبل تلك الأيّام من الدّم ، والّتي بعد تلك الأيّام قد أضيفت بعضها إلى بعضٍ وجعل حيضةً واحدةً ، وكلّ ما بين ذلك من الطّهر ملغًى ، ثمّ تغتسل بعد الاستظهار ، وتصلّي ، وتتوضّأ لكلّ صلاةٍ ، إن رأت الدّم في تلك الأيّام ، وتغتسل كلّ يومٍ إذا انقطع عنها الدّم من أيّام الطّهر .
17 - أمّا عند الشّافعيّة فالمعتادة بالحيض إمّا أن تكون غير مميّزةٍ لما ترى بأن كان الدّم بصفةٍ واحدةٍ ، أو كان بصفاتٍ متعدّدةٍ ، وفقدت شرط التّمييز ، ولكن سبق لها حيضٌ وطهرٌ ، وهي تعلم أيّام حيضها وطهرها قدراً ووقتاً فتردّ إليهما قدراً ووقتاً ، وتثبت العادة بمرّةٍ في الأصحّ . وأمّا المعتادة المميّزة فيحكم بالتّمييز لا بالعادة في الأصحّ ، كما لو كانت عادتها خمسةً من أوّل كلّ شهرٍ وباقيه طهرٌ ، فاستحيضت فرأت عشرةً سواداً من أوّل الشّهر وباقيه حمرةً ، فحيضتها العشرة السّواد وما يليه استحاضةٌ . والقول الثّاني يحكم بالعادة ، فيكون حيضها الخمسة الأولى . والأوّل أصحّ لأنّ التّمييز علامةٌ قائمةٌ في شهر الاستحاضة ، فكان اعتباره أولى من اعتبار عادةٍ انقضت .(62/4)
18 - أمّا الحنابلة : فقالوا لا تخلو المستحاضة من أربعة أحوالٍ : مميّزةٍ لا عادة لها ، ومعتادةٍ لا تمييز لها ، ومن لها عادةٌ وتمييزٌ ، ومن لا عادة لها ولا تمييز . أمّا المميّزة : وهي الّتي لدمها إقبالٌ وإدبارٌ ، بعضه أسود ثخينٌ منتنٌ ، وبعضه أحمر مسرّقٌ أو أصفر أو لا رائحة له ، ويكون الدّم الأسود أو الثّخين لا يزيد عن أكثر الحيض ، ولا ينقص عن أقلّه ، فحكم هذه : أنّ حيضها زمان الدّم الأسود أو الثّخين أو المنتن ، فإن انقطع فهي مستحاضةٌ ، تغتسل للحيض ، وتتوضّأ بعد ذلك لكلّ صلاةٍ وتصلّي . أمّا المستحاضة الّتي لها عادةٌ ولا تمييز لها ؛ لكون دمها غير منفصلٍ أي على صفةٍ لا تختلف ، ولا يتميّز بعضه من بعضٍ ، أو كان منفصلاً ، إلاّ أنّ الدّم الّذي يصلح للحيض دون أقلّ الحيض ، أو فوق أكثره ؟ فهذه لا تمييز لها ، فإن كانت لها عادةٌ قبل أن تستحاض جلست أيّام عادتها ، واغتسلت عند انقضائها ، ثمّ تتوضّأ بعد ذلك لوقت كلّ صلاةٍ . والقسم الثّالث : من لها عادةٌ وتمييزٌ ، فاستحيضت ، ودمها متميّزٌ ، بعضه أسود وبعضه أحمر ، فإن كان الأسود في زمن العادة فقد اتّفقت العادة والتّمييز في الدّلالة فيعمل بهما ، وإن كان أكثر من العادة أو أقلّ - ويصلح أن يكون حيضاً - ففيه روايتان : الرّواية الأولى : اعتبار العادة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لأمّ حبيبة إذ سألته عن الدّم : « امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثمّ اغتسلي وصلّي » ولأنّ العادة أقوى . والثّانية : يقدّم التّمييز فيعمل به وتدع العادة . أمّا القسم الرّابع : وهي الّتي لا عادة لها ولا تمييز فسيأتي تفصيله في موضوع ( استحاضة من ليس لها عادةٌ ) .
ب - ذات العادة في النّفاس :
19 - إذا رأت ذات العادة بالنّفاس زيادةً عن عادتها ، فإن كانت عادتها أربعين فعند الحنفيّة الزّيادة استحاضةٌ ، وإن كانت عادتها دون الأربعين ، وكانت الزّيادة إلى الأربعين أو دونها ، فما زاد يكون نفاساً ، وإن زاد على الأربعين تردّ إلى عادتها فتكون عادتها نفاساً ، وما زاد على العادة يكون استحاضةً . أمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فما ذكر في الحيض للمعتادة يذكر هنا أيضاً . حيث ذهب مالكٌ والشّافعيّ إلى أنّ أكثر النّفاس ستّون يوماً . فعند المالكيّة الزّائد عن السّتّين كلّه استحاضةٌ ولا تستظهر ، فإنّ الاستظهار خاصٌّ بالحيض ، وأمّا عند الشّافعيّة فما زاد على السّتّين فهو استحاضةٌ فإذا عبر دم النّفساء السّتّين ففيه طريقان : أصحّهما أنّه كالحيض إذا عبر الخمسة عشر في الرّدّ إلى التّمييز إن كانت مميّزةً لما ترى ، أو العادة إن كانت معتادةً غير مميّزةٍ ، والثّاني له ثلاثة أوجهٍ : الأوّل : أصحّهما كالطّريق الأوّل أي أنّه كالحيض . الثّاني : أنّ السّتّين كلّها نفاسٌ ، وما زاد على السّتّين استحاضةٌ ، اختاره المزنيّ . الثّالث : أنّ السّتّين نفاسٌ ، والّذي بعده حيضٌ فعلى هذا قال أبو الحسن بن المرزبانيّ : قال صاحبا التّتمّة والعدّة : إن زاد الدّم بعد السّتّين حكمنا بأنّها مستحاضةٌ في الحيض . وهذا الوجه ضعيفٌ جدّاً ، وهو أضعف من الّذي قبله . وقالت الحنابلة : إن زاد دم النّفساء على أربعين يوماً وأمكن جعله حيضاً فهو حيضٌ ، وإلاّ فهو استحاضةٌ . ولم نقف فيما بين أيدينا من مراجع الحنابلة أنّهم تحدّثوا عن عادة في النّفاس .
استحاضة من ليس لها عادةٌ معروفةٌ :
20 - من لم يكن لها عادةٌ معروفةٌ في الحيض - بأن كانت ترى شهراً ستّاً وشهراً سبعاً - فاستمرّ بها الدّم ، فإنّها تأخذ في حقّ الصّلاة والصّوم والرّجعة بالأقلّ ، وفي حقّ انقضاء العدّة والوطء بالأكثر ، فعليها أن تغتسل في اليوم السّابع لتمام اليوم السّادس وتصلّي فيه ، وتصوم إن كان دخل عليها شهر رمضان احتياطاً . وإذا كانت هذه تعتبر حيضةً ثالثةً يكون قد سقط حقّ الزّوج في مراجعتها . وأمّا في انقضاء العدّة للزّواج من آخر ، وحلّ استمتاع الزّوج بها فتأخذ بالأكثر ؛ لأنّ تركها التّزوّج مع جوازه أولى من أن تتزوّج بدون حقّ التّزوّج ، وكذا ترك الوطء مع احتمال الحلّ ، أولى من الوطء مع احتمال الحرمة ، فإذا جاء اليوم الثّامن فعليها أن تغتسل ثانياً ، وتقضي اليوم السّابع الّذي صامته ؛ لأنّ الأداء كان واجباً ، ووقع الشّكّ في السّقوط ، إن لم تكن حائضاً فيه صحّ صومها ولا قضاء عليها ، وإن كانت حائضاً فعليها القضاء ، فلا يسقط القضاء بالشّكّ . وليس عليها قضاء الصّلوات ؛ لأنّها إن كانت طاهرةً في هذا اليوم فقد صلّت ، وإن كانت حائضاً فيه فلا صلاة عليها ، وبالتّالي لا قضاء عليها . ولو كانت عادتها خمسةً فحاضت ستّةً ، ثمّ حاضت حيضةً أخرى سبعةً ، ثمّ حاضت حيضةً أخرى ستّةً ، فعادتها ستّةٌ بالإجماع حتّى ينبني الاستمرار عليها . أمّا عند أبي يوسف فلأنّ العادة تنتقل بالمرّة الواحدة ، وإنّما ينبني الاستمرار على المرّة الأخيرة لأنّ العادة انتقلت إليها ، وأمّا عند أبي حنيفة ومحمّدٍ فلأنّ العادة وإن كانت لا تنتقل إلاّ بالمرّتين فقد رأت السّتّة مرّتين . وكذلك الحكم في جميع ما ذكر لمن ليس لها عادةٌ معروفةٌ في النّفاس .
استحاضة المتحيّرة :(62/5)
21 - المتحيّرة : هي الّتي نسيت عادتها بعد استمرار الدّم وتوصف بالمحيّرة بصيغة اسم الفاعل ، لأنّها تحيّر المفتي ، وبصيغة اسم المفعول لأنّها حيّرت بسبب نسيانها ، وتدعى أيضاً المضلّة ؛ لأنّها أضلّت عادتها . ومسائل المحيّرة من أصعب مسائل الحيض وأدقّها ، ولها صورٌ كثيرةٌ وفروعٌ دقيقةٌ ، ولهذا يجب على المرأة حفظ عادتها في الزّمان والعدد . وجميع الأحكام في هذه المسألة تبنى على الاحتياط ، وإن كان هناك تشديدٌ في بعض الصّور فليس القصد التّشديد لأنّها لم ترتكب محظوراً . وتفصيل أحكام المتحيّرة في مصطلحها .
ما تراه المرأة الحامل من الدّم أثناء حملها :
22 - إذا رأت المرأة الحامل الدّم حال الحبل وقبل المخاض ، فليس بحيضٍ وإن كان ممتدّاً بالغاً نصاب الحيض ، بل هو استحاضةٌ عند الحنفيّة والحنابلة . وكذلك ما تراه حالة المخاض وقبل خروج أكثر الولد عند الحنفيّة ، أمّا الحنابلة فقد نصّوا على أنّ الدّم الّذي تراه الحامل قبل الولادة بيومين أو ثلاثةٍ دم نفاسٍ وإن كان لا يعدّ من مدّة النّفاس . واستدلّ الحنفيّة : بقول عائشة الحامل لا تحيض ومثل هذا لا يعرف بالرّأي . وقال الشّافعيّ : هو حيضٌ في حقّ ترك الصّوم والصّلاة وحرمة القربان ، لا في حقّ أقراء العدّة ، واحتجّ بما يروى عنه صلى الله عليه وسلم « أنّه قال لفاطمة بنت أبي حبيشٍ : إذا أقبل قرؤك فدعي الصّلاة » من غير فصلٍ بين حالٍ وحالٍ . ولأنّ الحامل من ذوات الأقراء إلاّ أنّ حيضها لا يعتبر في حقّ أقراء العدّة ؛ لأنّ المقصود من أقراء العدّة فراغ الرّحم ، وحيضها لا يدلّ على ذلك . أمّا المالكيّة فإنّهم نصّوا على أنّ الحامل إذا رأت دماً في الشّهر الأوّل أو الثّاني يعتبر حيضاً ، وتعامل كأنّها حاملٌ ؛ لأنّ الحمل لا يستبين - عادةً - في هذه المدّة ، وأمّا إذا رأت دماً في الشّهر الثّالث أو الرّابع أو الخامس واستمرّ كان أثر حيضها عشرين يوماً ، وما زاد فهو استحاضةٌ . وإنّما فرّقوا في أكثر الحيض بين الحامل وغيرها ؛ لأنّ الحمل يحبس الدّم ، فإذا خرج كان زائداً ، وربّما استمرّ لطول المكث . وأمّا إن رأته في الشّهر السّابع أو الثّامن أو التّاسع واستمرّ نازلاً كان أكثر الحيض في حقّها ثلاثين يوماً . وأمّا إن رأته في الشّهر السّادس فظاهر المدوّنة أنّ حكمها حكم ما إذا حاضت في الشّهر الثّالث ، وخالف في ذلك شيوخ إفريقيّة فرأوا أنّ حكمه حكم ما بعده وهو المعتمد . وبعد هذه المدّة يعتبر استحاضةً .
ما تراه المرأة من الدّم بين الولادتين : إن كانت حاملاً بتوأمين :
23 - التّوأم : اسم ولدٍ إذا كان معه آخر في بطنٍ واحدٍ ، فالتّوأمان هما الولدان في بطنٍ واحدٍ إذا كان بينهما أقلّ من ستّة أشهرٍ ، يقال لكلّ واحدٍ توأمٌ ، وللأنثى توأمةٌ . فإن كان بين الأوّل والثّاني أقلّ من ستّة أشهرٍ فالدّم الّذي تراه النّفساء بين الولادتين دمٌ صحيحٌ ، أي نفاسٌ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمّدٍ وزفر دمٌ فاسدٌ أي استحاضةٌ ، وذلك بناءً على أنّ المرأة إذا ولدت وفي بطنها ولدٌ آخر ، فالنّفاس من الولد الأوّل عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمّدٍ وزفر من الولد الثّاني ، وانقضاء العدّة بالولد الثّاني بالإجماع . وجه قول محمّدٍ وزفر : أنّ النّفاس يتعلّق بوضع ما في البطن ، كانقضاء العدّة ، فيتعلّق بالولد الأخير ، وهذا لأنّها لا تزال حبلى ، وكما لا يتصوّر انقضاء عدّة الحمل بدون وضع الحمل ، لا يتصوّر وجود النّفاس من الحبلى ؛ لأنّ النّفاس بمنزلة الحيض ، فكان الموجود قبل وضع الولد الثّاني نفاساً من وجهٍ دون وجهٍ ، فلا تسقط الصّلاة عنها بالشّكّ . ولأبي حنيفة وأبي يوسف : أنّ النّفاس إن كان دماً يخرج عقيب الولادة فقد وجد بولادة الأوّل ، بخلاف انقضاء العدّة ؛ لأنّه يتعلّق بفراغ الرّحم ولم يوجد ، وبقاء الولد الثّاني في البطن لا ينافي النّفاس . ويتّفق الحنابلة في إحدى الرّوايتين مع الشّيخين ، وفي الرّواية الثّانية مع محمّدٍ وزفر وذكر أبو الخطّاب أنّ أوّل النّفاس من الولد الأوّل . وتبدأ للثّاني بنفاسٍ جديدٍ .
24 - وعند المالكيّة : الدّم الّذي بين التّوأمين نفاسٌ ، وقيل حيضٌ ، والقولان في المدوّنة . وعند الشّافعيّة : ثلاثة أوجهٍ كالّتي رويت عن الحنابلة .
أحكام المستحاضة :
25 - دم الاستحاضة حكمه كالرّعاف الدّائم ، أو كسلس البول ، حيث تطالب المستحاضة بأحكامٍ خاصّةٍ تختلف عن أحكام الأصحّاء ، وعن أحكام الحيض والنّفاس ، وهي :(62/6)
أ - يجب ردّ دم الاستحاضة ، أو تخفيفه إذا تعذّر ردّه بالكلّيّة ، وذلك برباطٍ أو حشوٍ أو بالقيام أو بالقعود ، كما إذا سال أثناء السّجود ولم يسل بدونه ، فتومئ من قيامٍ أو من قعودٍ ، وكذا لو سال الدّم عند القيام صلّت من قعودٍ ؛ لأنّ ترك السّجود أو القيام أو القعود أهون من الصّلاة مع الحدث . وهكذا إذا كانت المستحاضة تستطيع منع سيلان الدّم بالاحتشاء فيلزمها ذلك ، فإذا نفذت البلّة أو أخرجت الحشوة المبتلّة انتقض وضوءها . فإذا ردّت المستحاضة الدّم بسببٍ من الأسباب المذكورة أو نحوها خرجت عن أن تكون صاحبة عذرٍ . واعتبر المالكيّة المستحاضة صاحبة عذرٍ كمن به سلسٌ ، فإذا فارقها الدّم أكثر زمن وقت الصّلاة لم تعدّ صاحبة عذرٍ . ونصّ المالكيّة على أنّها إذا رأت الدّم عند الوضوء فإذا قامت ذهب عنها ، قال مالكٌ : تشدّ ذلك بشيءٍ ولا تترك الصّلاة . ويستثنى من وجوب الشّدّ أو الاحتشاء أمران : الأوّل : أن تتضرّر المستحاضة من الشّدّ أو الاحتشاء . الثّاني : أن تكون صائمةً فتترك الاحتشاء نهاراً لئلاّ يفسد صومها . وإذا قامت المستحاضة ومن في حكمها من المعذورين بالشّدّ أو الاحتشاء ثمّ خرج الدّم رغم ذلك ولم يرتدّ ، أو تعذّر ردّه واستمرّ وقت صلاةٍ كاملٍ ، فلا يمنع خروج الدّم أو وجوده من صحّة الطّهارة والصّلاة ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « قالت فاطمة بنت أبي حبيشٍ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّي امرأةٌ أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصّلاة ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ ذلك عرقٌ ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصّلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدّم وصلّي » ، وفي روايةٍ : « توضّئي لكلّ صلاةٍ » ، وفي روايةٍ : « توضّئي لوقت كلّ صلاةٍ » ، وفي روايةٍ أخرى : « وإن قطر الدّم على الحصير » . وذكر الحنفيّة للمستحاضة ولغيرها من المعذورين ثلاثة شروطٍ : الأوّل : شرط الثّبوت : حيث لا يصير من ابتلي بالعذر معذوراً ، ولا تسري عليه أحكام المعذورين ، حتّى يستوعبه العذر وقتاً كاملاً لصلاةٍ مفروضةٍ ولو حكماً ، وليس فيه انقطاعٌ - في جميع ذلك الوقت - زمناً بقدر الطّهارة والصّلاة ، وهذا شرطٌ متّفقٌ عليه بين الفقهاء . الثّاني : شرط الدّوام ، وهو أن يوجد العذر في كلّ وقتٍ آخر ، سوى الوقت الأوّل الّذي ثبت به العذر ولو مرّةً واحدةً . الثّالث : شرط الانقطاع ، وبه يخرج صاحبه عن كونه معذوراً ، وذلك بأن يستمرّ الانقطاع وقتاً كاملاً فيثبت له حينئذٍ حكم الأصحّاء من وقت الانقطاع .
ما تمتنع عنه المستحاضة :
26 - قال البركويّ من علماء الحنفيّة : الاستحاضة حدثٌ أصغر كالرّعاف . فلا تسقط بها الصّلاة ولا تمنع صحّتها أي على سبيل الرّخصة للضّرورة ، ولا تحرّم الصّوم فرضاً أو نفلاً ، ولا تمنع الجماع - لحديث حمنة : أنّها كانت مستحاضةً وكان زوجها يأتيها - ولا قراءة قرآنٍ ، ولا مسّ مصحفٍ ، ولا دخول مسجدٍ ، ولا طوافاً إذا أمنت التّلويث . وحكم الاستحاضة كالرّعاف الدّائم ، فتطالب المستحاضة بالصّلاة والصّوم . وكذلك الشّافعيّة ، والحنابلة ، قالوا : لا تمنع المستحاضة عن شيءٍ ، وحكمها حكم الطّاهرات في وجوب العبادات ، واختلف عن أحمد في الوطء ، فهناك روايةٌ أخرى عنه بالمنع كالحيض ما لم يخف على نفسه الوقوع في محظورٍ . وقال المالكيّة كما في الشّرح الصّغير : هي طاهرٌ حقيقةً . وهذا في غير المستحاضة المتحيّرة ، فإنّ لها أحكاماً خاصّةً تنظر تحت عنوان ( متحيّرةٌ ) .
طهارة المستحاضة :
27 - يجب على المستحاضة عند الشّافعيّة ، والحنابلة الاحتياط في طهارتي الحدث والنّجس ، فتغسل عنها الدّم ، وتحتشي بقطنةٍ أو خرقةٍ دفعاً للنّجاسة أو تقليلاً لها ، فإن لم يندفع الدّم بذلك وحده تحفّظت بالشّدّ والتّعصيب . وهذا الفعل يسمّى استثفاراً وتلجّماً ، وسمّاه الشّافعيّ التّعصيب . قال الشّافعيّة : وهذا الحشو والشّدّ واجبٌ إلاّ في موضعين : أحدهما أن تتأذّى بالشّدّ . والثّاني : أن تكون صائمةً فتترك الحشو نهاراً وتقتصر على الشّدّ والتّلجّم فإذا استوثقت على الصّفة المذكورة ، ثمّ خرج دمها بلا تفريطٍ لم تبطل طهارتها ولا صلاتها 28 - وأمّا إذا خرج الدّم لتقصيرها في التّحفّظ فإنّه يبطل طهرها . وأمّا عند الحنفيّة فيجب على المعذور ردّ عذره ، أو تقليله إن لم يمكن ردّه بالكلّيّة . وبردّه لا يبقى ذا عذرٍ . أمّا إن كان لا يقدر على الرّبط أو منع النّشّ فهو معذورٌ . وأمّا غسل المحلّ وتجديد العصابة والحشو لكلّ فرضٍ ، فقال الشّافعيّة : ينظر إن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثيرٌ ، أو ظهر الدّم على جوانبها ، وجب التّجديد بلا خلافٍ ؛ لأنّ النّجاسة كثرت وأمكن تقليلها والاحتراز عنها . فإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدّم ، فوجهان عند الشّافعيّة ، أصحّهما : وجوب التّجديد كما يجب تجديد الوضوء ، والثّاني : إذ لا معنى للأمر بإزالة النّجاسة مع استمرارها ، بخلاف الأمر بتجديد طهارة الحدث مع استمراره فإنّه معهودٌ في التّيمّم . وعند الحنابلة لا يلزمها إعادة الغسل والعصب لكلّ صلاةٍ إن لم تفرّط ، قالوا : لأنّ الحدث مع قوّته وغلبته لا يمكن التّحرّز منه ، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت « اعتكف مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أزواجه ، فكانت ترى الدّم والصّفرة والطّست تحتها وهي تصلّي » رواه البخاريّ .
ب - حكم ما يسيل من دم المستحاضة على الثّوب :(62/7)
28ـ إذا أصاب الثّوب من الدّم مقدار مقعّر الكفّ فأكثر وجب عند الحنفيّة غسله ، إذا كان الغسل مفيداً ، بأن كان لا يصيبه مرّةً بعد أخرى ، حتّى لو لم تغسل وصلّت لا يجوز ، وإن لم يكن مفيداً لا يجب ما دام العذر قائماً . أي إن كان لو غسلت الثّوب تنجّس ثانياً قبل الفراغ من الصّلاة ، جاز ألاّ تغسل ؛ لأنّ في إلزامها التّطهير مشقّةً وحرجاً . وإن كان لو غسلته لا يتنجّس قبل الفراغ من الصّلاة ، فلا يجوز لها أن تصلّي مع بقائه ، إلاّ في قولٍ مرجوحٍ . وعند الشّافعيّة إذا تحفّظت لم يضرّ خروج الدّم ، ولو لوّث ملبوسها في تلك الصّلاة خاصّةً . ولا يضرّ كذلك عند الحنابلة ؛ لقولهم : إن غلب الدّم وقطر بعد ذلك لم تبطل طهارتها .
متى يلزم المستحاضة أن تغتسل :
29 - نقل صاحب المغني في ذلك أقوالاً : الأوّل : تغتسل عندما يحكم بانقضاء حيضها أو نفاسها . وليس عليها بعد ذلك إلاّ الوضوء ويجزيها ذلك . وهذا رأي جمهور العلماء . « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ : إنّما ذلك عرقٌ وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت فدعي الصّلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي ، وتوضّئي لكلّ صلاةٍ » قال التّرمذيّ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . ولحديث عديّ بن ثابتٍ عن أبيه عن جدّه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة : تدع الصّلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتصلّي ، وتتوضّأ لكلّ صلاةٍ » . الثّاني : أنّها تغتسل لكلّ صلاةٍ . روي ذلك عن عليٍّ وابن عمر وابن عبّاسٍ وابن الزّبير ، وهو أحد قولي الشّافعيّ في المتحيّرة ؛ لأنّ عائشة روت « أنّ أمّ حبيبة استحيضت ، فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكلّ صلاةٍ » متّفقٌ عليه . إلاّ أنّ أصحاب القول الأوّل قالوا : إنّ ذكر الوضوء لكلّ صلاةٍ زيادةٌ يجب قبولها . ومن هنا قال المالكيّة والحنابلة : يستحبّ لها أن تغتسل لكلّ صلاةٍ . ويكون الأمر في الحديث للاستحباب . الثّالث : أنّها تغتسل لكلّ يومٍ غسلاً واحداً ، روي هذا عن عائشة وابن عمر وسعيد بن المسيّب . الرّابع : تجمع بين كلّ صلاتي جمعٍ بغسلٍ واحدٍ ، وتغتسل للصّبح .
وضوء المستحاضة وعبادتها :
30 - قال الشّافعيّ : تتوضّأ المستحاضة لكلّ فرضٍ وتصلّي ما شاءت من النّوافل ، لحديث فاطمة بنت أبي حبيشٍ السّابق ؛ ولأنّ اعتبار طهارتها ضرورةٌ لأداء المكتوبة ، فلا تبقى بعد الفراغ منها . وقال مالكٌ في أحد قولين : تتوضّأ لكلّ صلاةٍ ، واحتجّ بالحديث المذكور . فمالكٌ عمل بمطلق اسم الصّلاة ، والشّافعيّ قيّده بالفرض ؛ لأنّ الصّلاة عند الإطلاق تنصرف إلى الفرض ، والنّوافل أتباع الفرائض ؛ لأنّها شرعت لتكميل الفرائض جبراً للنّقصان المتمكّن فيها ، فكانت ملحقةً بأجزائها ، والطّهارة الواقعة لصلاةٍ مفروضةٍ واقعةٌ لها بجميع أجزائها ، بخلاف فرضٍ آخر لأنّه ليس بتبعٍ ، بل هو أصلٌ بنفسه . والقول الثّاني للمالكيّة : أنّ تجديد الوضوء لوقت كلّ صلاةٍ مستحبٌّ ، وهو طريقة العراقيّين من المالكيّة . وعند الحنفيّة والحنابلة : تتوضّأ المستحاضة وأمثالها من المعذورين لوقت كلّ صلاةٍ مفروضةٍ ، وتصلّي به في الوقت ما شاءت من الفرائض والنّذور والنّوافل والواجبات ، كالوتر والعيد وصلاة الجنازة والطّواف ومسّ المصحف . واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ : « وتوضّئي لوقت كلّ صلاةٍ » . ولا ينتقض وضوء المستحاضة بتجدّد العذر ، بعد أن يكون الوضوء في حال سيلان الدّم . قال الحنفيّة : فلو توضّأت مع الانقطاع ثمّ سال الدّم انتقض الوضوء . ولو توضّأت من حدثٍ آخر - غير العذر - في فترة انقطاع العذر ، ثمّ سال الدّم انتقض الوضوء أيضاً . وكذا لو توضّأت من عذر الدّم ، ثمّ أحدثت حدثاً آخر انتقض الوضوء . بيان ذلك : لو كان معها سيلانٌ دائمٌ مثلاً ، وتوضّأت له ، ثمّ أحدثت بخروج بولٍ انتقض الوضوء .
31 - ثمّ اختلف الحنفيّة في طهارة المستحاضة ، هل تنتقض عند خروج الوقت ؟ أم عند دخوله ؟ أم عند كلٍّ من الخروج والدّخول ؟ قال أبو حنيفة ومحمّدٌ : تنتقض عند خروج الوقت لا غير ؛ لأنّ طهارة المعذور مقيّدةٌ بالوقت فإذا خرج ظهر الحدث . وقال زفر : عند دخول الوقت لا غير ، وهو ظاهر كلام أحمد ؛ لحديث « توضّئي لكلّ صلاةٍ » وفي روايةٍ « لوقت كلّ صلاةٍ » . وقال أبو يوسف : عند كلٍّ منهما ، أي للاحتياط . وهو قول أبي يعلى من الحنابلة . وثمرة الخلاف تظهر في موضعين : أحدهما : أن يوجد الخروج بلا دخولٍ ، كما إذا توضّأت في وقت الفجر ثمّ طلعت الشّمس ، فإنّ طهارتها تنتقض عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدٍ لوجود الخروج ، وعند زفر وأحمد لا تنتقض لعدم دخول الوقت ؛ لأنّ من طلوع الشّمس إلى الظّهر ليس بوقت صلاةٍ ، بل هو وقتٌ مهملٌ . والثّاني : أن يوجد الدّخول بلا خروجٍ ، كما إذا توضّأت قبل الزّوال ثمّ زالت الشّمس ، فإنّ طهارتها لا تنتقض عند أبي حنيفة ومحمّدٍ لعدم الخروج ، وعند أبي يوسف وزفر وأحمد تنتقض لوجود الدّخول . فلو توضّأت لصلاة الضّحى أو لصلاة العيد فلا يجوز لها أن تصلّي الظّهر بتلك الطّهارة ، على قول أبي يوسف وزفر وأحمد ، بل تنتقض الطّهارة لدخول وقت الظّهر . وأمّا على قول أبي حنيفة ومحمّدٍ فتجوز لعدم خروج الوقت . أمّا عند الشّافعيّة فينتقض وضوءها بمجرّد أداء أيّ فرضٍ ، ولو لم يخرج الوقت أو يدخل كما تقدّم . وأمّا عند المالكيّة فهي طاهرٌ حقيقةً على ما سبق .
برء المستحاضة وشفاؤها :(62/8)
32 - عند الشّافعيّة إذا انقطع دم المستحاضة انقطاعاً محقّقاً حصل معه برؤها وشفاؤها من علّتها ، وزالت استحاضتها ، نظر : إن حصل هذا خارج الصّلاة :
أ - فإن كان بعد صلاتها ، فقد مضت صلاتها صحيحةً ، وبطلت طهارتها فلا تستبيح بها بعد ذلك نافلةً .
ب - وإن كان ذلك قبل الصّلاة بطلت طهارتها ، ولم تستبح تلك الصّلاة ولا غيرها . أمّا إذا حصل الانقطاع في نفس الصّلاة ففيه قولان : أحدهما : بطلان طهارتها وصلاتها . والثّاني : لا تبطل كالتّيمّم . والرّاجح الأوّل . وإذا تطهّرت المستحاضة وصلّت فلا إعادة عليها . ولا يتصوّر هذا التّفصيل عند الحنفيّة ؛ لأنّهم يعتبرونها معذورةً لوجود العذر في الوقت ولو لحظةً كما سبق . ولا يتصوّر هذا عند المالكيّة أيضاً ؛ لأنّها طاهرٌ حقيقةً . أمّا الحنابلة فعندهم تفصيلٌ . قالوا : إن كان لها عادةٌ بانقطاعٍ زمناً يتّسع للوضوء والصّلاة تعيّن فعلهما فيه . وإن عرض هذا الانقطاع لمن عادتها الاتّصال بطلت طهارتها ، ولزم استئنافها . فإن وجد الانقطاع قبل الدّخول في الصّلاة لم يجز الشّروع فيها . وإن عرض الانقطاع في أثناء الصّلاة أبطلها مع الوضوء . ومجرّد الانقطاع يوجب الانصراف إلاّ أن يكون لها عادةٌ بانقطاعٍ يسيرٍ . ولو توضّأت ثمّ برئت بطل وضوءها إن وجد منها دمٌ بعد الوضوء .
عدّة المستحاضة :
33 - سبقت الإشارة إلى بعض أحكامها . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عدّةٌ ) .(62/9)
*استحدادٌ
التّعريف
1 - الاستحداد لغةً : مأخوذٌ من الحديدة ، يقال : استحدّ إذا حلق عانته . استعمل على طريق الكناية والتّورية . والتعريف الاصطلاحيّ لا يفترق عن المعنى اللّغويّ ، حيث عرّفه الفقهاء بقولهم : الاستحداد حلق العانة ، وسمّي استحداداً ، لاستعمال الحديدة وهي : الموسى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإحداد :
2 - الإحداد : مصدر أحدّ . وإحداد المرأة على زوجها تركها للزّينة ، فعلى هذا يكون الاستحداد مخالفاً للإحداد ، ولا يشترك معه في وجهٍ من الوجوه .
ب - التّنوّر :
3 - التّنوّر هو : الطّلاء بالنّورة . يقال : تنوّر . تطلّى بالنّورة ليزيل الشّعر . والنّورة من الحجر الّذي يحرق ، ويسوّى من الكلس ، ويزال به الشّعر . فعلى هذا يكون الاستحداد أعمّ في الاستعمال من التّنوّر ، لأنّه كما يكون بالحديدة يكون بغيرها كالنّورة وغيرها .
حكمه التّكليفيّ :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستحداد سنّةٌ للرّجال والنّساء على السّواء . وصرّح الشّافعيّة ، والمالكيّة دون غيرهم بالوجوب للمرأة إذا طلب منها زوجها ذلك .
دليل مشروعيّته :
5 - يستدلّ على مشروعيّة الاستحداد بالسّنّة ؛ لما روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه قال : الفطرة خمسٌ ، أو خمسٌ من الفطرة : الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر ، وقصّ الشّارب » . ولما روي عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : عشرٌ من الفطرة : قصّ الشّارب ، وإعفاء اللّحية ، والسّواك ، والاستنشاق ، وقصّ الأظافر ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء » - قال زكريّا - ( الرّاوي ) : ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة .
ما يتحقّق به الاستحداد :
6 - اختلف الفقهاء فيما يتحقّق به الاستحداد على أقوالٍ . فقال الحنفيّة : السّنّة الحلق للرّجل ، والنّتف للمرأة . وقال المالكيّة : الحلق للرّجل والمرأة ، ويكره النّتف للمرأة ؛ لأنّه يعدّ من التّنمّص المنهيّ عنه ، وهذا رأي بعض الشّافعيّة . وقال جمهور الشّافعيّة : النّتف للمرأة الشّابّة ، والحلق للعجوز . ونسب هذا الرّأي إلى ابن العربيّ . وقال الحنابلة : لا بأس بالإزالة بأيّ شيءٍ ، والحلق أفضل .
وقت الاستحداد :
7 - يكره تركه بعد الأربعين ، كما أخرجه مسلمٌ من حديث أنسٍ : « وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألاّ يترك أكثر من أربعين يوماً » . والضّابط في ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان والأماكن ، بشرط ألاّ يتجاوز الأربعين يوماً ، وهو التّوقيت الّذي جاء في الحديث الصّحيح .
الاستعانة بالآخرين في الاستحداد :
8 - الأصل عند الفقهاء جميعاً أنّه يحرم على الإنسان ذكراً كان أو أنثى أن يظهر عورته لأجنبيٍّ إلاّ لضرورةٍ . ويرجع إلى تفصيل ذلك في : ( استتارٌ ، وعورةٌ ) . واعتبر الفقهاء حلق العانة لمن لا يستطيع أن يحلقها بالحديدة أو يزيلها بالنّورة ضرورةً .
آداب الاستحداد :
9 - تكلّم الفقهاء على آداب الاستحداد في ثنايا الكلام على الاستحداد ، وخصال الفطرة ، والعورة . فقالوا : يستحبّ أن يبدأ في حلق العانة من تحت السّرّة ، كما يستحبّ أن يحلق الجانب الأيمن ، ثمّ الأيسر ، كما يستحبّ أن يستتر ، وألاّ يلقي الشّعر في الحمّام أو الماء ، وأن يواري ما يزيله من شعرٍ وظفرٍ .
مواراة الشّعر المزال أو إتلافه :
10 - صرّح الفقهاء باستحباب مواراة شعر العانة بدفنه ؛ لما روى الخلاّل بإسناده عن ممل بنت مشرّحٍ الأشعريّة قالت : « رأيت أبي يقلّم أظافره ، ويدفنها ويقول : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك » . وسئل أحمد ، يأخذ الرّجل من شعره وأظافره أيلقيه أم يدفنه ؟ قال : يدفنه ، قيل : بلغك في ذلك شيءٌ ؟ قال : كان ابن عمر يدفنه . وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشّعر والأظافر » ، قال الحافظ ابن حجرٍ : وقد استحبّ أصحابنا دفنها ؛ لكونها أجزاءٍ من الآدميّ ، ونقل ذلك عن ابن عمر وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب .(63/1)
*استخارةٌ
التّعريف
1 - الاستخارة لغةً : طلب الخيرة في الشّيء . يقال : استخر اللّه يخر لك . وفي الحديث : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها » .
واصطلاحاً : طلب الاختيار . أي طلب صرف الهمّة لما هو المختار عند اللّه والأولى ، بالصّلاة ، أو الدّعاء الوارد في الاستخارة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الطّيرة :
2 - الطّيرة : ما يتشاءم به من الفأل الرّديء ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم « أنّه كان يحبّ الفأل ، ويكره الطّيرة » .
ب - الفأل :
3 - الفأل ما يستبشر به ، كأن يكون مريضاً فيسمع من يقول : يا سالمٌ ، أو يكون طالباً فيسمع من يقول : يا واجدٌ ، وفي الحديث : « كان صلى الله عليه وسلم يحبّ الفأل » .
ج - الرّؤيا :
4 - الرّؤيا بالضّمّ مهموزاً ، وقد يخفّف : ما رأيته في منامك .
د - الاستقسام :
5 - الاستقسام بالأزلام : هو ضربٌ بالقداح ليخرج له قدحٌ منها يأتمر بما كتب عليه ، وهو منهيٌّ عنه لقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } .
هـ - الاستفتاح :
6 - الاستفتاح : طلب النّصر وفي الحديث : « كان صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين » وبعض النّاس قد يستفتح ويستطلع الغيب من المصحف أو الرّمل أو القرعة ، وهذا لا يجوز لحرمته . قال الطّرطوشي وأبو الحسن المغربيّ وابن العربيّ : هو من الأزلام ، لأنّه ليس لأحدٍ أن يتعرّض للغيب ويطلبه ؛ لأنّ اللّه قد رفعه بعد نبيّه صلى الله عليه وسلم إلاّ في الرّؤيا .
صفتها : حكمها التّكليفيّ :
7 - أجمع العلماء على أنّ الاستخارة سنّةٌ ، ودليل مشروعيّتها ما رواه البخاريّ عن جابرٍ رضي الله عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها ، كالسّورة من القرآن : إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ يقول » : إلخ ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من سعادة ابن آدم استخارة اللّه عزّ وجلّ » .
حكمة مشروعيّتها :
8 - حكمة مشروعيّة الاستخارة ، هي التّسليم لأمر اللّه ، والخروج من الحول والطّول ، والالتجاء إليه سبحانه . للجمع بين خيري الدّنيا والآخرة . ويحتاج في هذا إلى قرع باب الملك ، ولا شيء أنجع لذلك من الصّلاة والدّعاء ؛ لما فيها من تعظيم اللّه ، والثّناء عليه ، والافتقار إليه قالاً وحالاً .
سببها : ما يجري فيه الاستخارة :
9 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ الاستخارة تكون في الأمور الّتي لا يدري العبد وجه الصّواب فيها ، أمّا ما هو معروفٌ خيره أو شرّه كالعبادات وصنائع المعروف والمعاصي والمنكرات فلا حاجة إلى الاستخارة فيها ، إلاّ إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحجّ مثلاً في هذه السّنّة ؛ لاحتمال عدوٍّ أو فتنةٍ ، والرّفقة فيه ، أيرافق فلاناً أم لا ؟ وعلى هذا فالاستخارة لا محلّ لها في الواجب والحرام والمكروه ، وإنّما تكون في المندوبات والمباحات . والاستخارة في المندوب لا تكون في أصله ؛ لأنّه مطلوبٌ ، وإنّما تكون عند التّعارض ، أي إذا تعارض عنده أمران أيّهما يبدأ به أو يقتصر عليه ؟ أمّا المباح فيستخار في أصله . وهل يستخير في معيّنٍ أو مطلقٍ ؟ اختار بعضهم الأوّل ؛ لظاهر الحديث . لأنّ فيه « إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر » إلخ ، واختار ابن عرفة الثّاني ، وقال الشّعرانيّ : وهو أحسن ، وقد جرّبناه فوجدناه صحيحاً .
متى يبدأ الاستخارة ؟
10 - ينبغي أن يكون المستخير خالي الذّهن ، غير عازمٍ على أمرٍ معيّنٍ ، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : « إذا همّ » يشير إلى أنّ الاستخارة تكون عند أوّل ما يرد على القلب ، فيظهر له ببركة الصّلاة والدّعاء ما هو الخير ، بخلاف ما إذا تمكّن الأمر عنده ، وقويت فيه عزيمته وإرادته ، فإنّه يصير إليه ميلٌ وحبٌّ ، فيخشى أن يخفى عنه الرّشاد ؛ لغلبة ميله إلى ما عزم عليه . ويحتمل أن يكون المراد بالهمّ العزيمة ؛ لأنّ الخاطر لا يثبت فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التّصميم على فعله من غير ميلٍ . وإلاّ لو استخار في كلّ خاطرٍ لاستخار فيما لا يعبأ به ، فتضيع عليه أوقاته . ووقع في حديث أبي سعيدٍ « إذا أراد أحدكم أمراً فليقل ... » .
الاستشارة قبل الاستخارة :
11 - قال النّوويّ : يستحبّ أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النّصيحة والشّفقة والخبرة ، ويثق بدينه ومعرفته . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } وإذا استشار وظهر أنّه مصلحةٌ ، استخار اللّه تعالى في ذلك . قال ابن حجرٍ الهيثميّ : حتّى عند المعارض ( أي تقدّم الاستشارة ) لأنّ الطّمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النّفس لغلبة حظوظها وفساد خواطرها . وأمّا لو كانت نفسه مطمئنّةً صادقةٌ إرادتها متخلّيةً عن حظوظها ، قدّم الاستخارة .
كيفيّة الاستخارة :
12 - ورد في الاستخارة حالاتٌ ثلاثٌ :
الأولى : وهي الأوفق ، واتّفقت عليها المذاهب الأربعة ، تكون بركعتين من غير الفريضة بنيّة الاستخارة ، ثمّ يكون الدّعاء المأثور بعدها .
الثّانية : قال بها المذاهب الثّلاثة : الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، تجوز بالدّعاء فقط من غير صلاةٍ ، إذا تعذّرت الاستخارة بالصّلاة والدّعاء معاً .(64/1)
الثّالثة : ولم يصرّح بها غير المالكيّة ، والشّافعيّة ، فقالوا : تجوز بالدّعاء عقب أيّ صلاةٍ كانت مع نيّتها ، وهو أولى ، أو بغير نيّتها كما في تحيّة المسجد . ولم يذكر ابن قدامة إلاّ الحالة الأولى ، وهي الاستخارة بالصّلاة والدّعاء . وإذا صلّى الفريضة أو النّافلة ، ناوياً بها الاستخارة ، حصل له بها فضل سنّة صلاة الاستخارة ، ولكن يشترط النّيّة ؛ ليحصل الثّواب قياساً على تحيّة المسجد ، وعضّد هذا الرّأي ابن حجرٍ الهيثميّ ، وقد خالف بعض المتأخّرين في ذلك ونفوا حصول الثّواب واللّه أعلم .
وقت الاستخارة :
13 - أجاز القائلون بحصول الاستخارة بالدّعاء فقط وقوع ذلك في أيّ وقتٍ من الأوقات ؛ لأنّ الدّعاء غير منهيٍّ عنه في جميع الأوقات . أمّا إذا كانت الاستخارة بالصّلاة والدّعاء فالمذاهب الأربعة تمنعها في أوقات الكراهة . نصّ المالكيّة والشّافعيّة صراحةً على المنع غير أنّ الشّافعيّة أباحوها في الحرم المكّيّ في أوقات الكراهة ، قياساً على ركعتي الطّواف . لما روي عن جبير بن مطعمٍ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : يا بني عبد منافٍ لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى في أيّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ » . وأمّا الحنفيّة والحنابلة فلعموم المنع عندهم . فهم يمنعون صلاة النّفل في أوقات الكراهة ، لعموم أحاديث النّهي ، ومنها : روى ابن عبّاسٍ قال : « شهد عندي رجالٌ مرضيّون ، وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الصّلاة بعد الصّبح حتّى تشرق الشّمس ، وبعد العصر حتّى تغرب » . وعن « عمرو بن عبسة قال : قلت يا رسول اللّه : أخبرني عن الصّلاة . قال : صلّ صلاة الصّبح ، ثمّ اقصر عن الصّلاة حين تطلع الشّمس حتّى ترتفع ، فإنّها تطلع بين قرني الشّيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفّار ، ثمّ صلّ فإنّ الصّلاة محضورةٌ مشهودةٌ حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح ، ثمّ اقصر عن الصّلاة فإنّه حينئذٍ تسجر جهنّم ، فإذا أقبل الفيء فصلّ ، فإنّ الصّلاة مشهودةٌ محضورةٌ حتّى تصلّي العصر ، ثمّ اقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس ، فإنّها تغرب بين قرني الشّيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفّار »
كيفيّة صلاة الاستخارة :
14 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الأفضل في صلاة الاستخارة أن تكون ركعتين . ولم يصرّح الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، بأكثر من هذا ، أمّا الشّافعيّة فأجازوا أكثر من الرّكعتين ، واعتبروا التّقييد بالرّكعتين لبيان أقلّ ما يحصل به .
القراءة في صلاة الاستخارة :
15 - فيما يقرأ في صلاة الاستخارة ثلاثة آراءٍ :
أ - قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : يستحبّ أن يقرأ في الرّكعة الأولى بعد الفاتحة { قل يا أيّها الكافرون } ، وفي الثّانية { قل هو اللّه أحدٌ } . وذكر النّوويّ تعليلاً لذلك فقال : ناسب الإتيان بهما في صلاةٍ يراد منها إخلاص الرّغبة وصدق التّفويض وإظهار العجز ، وأجازوا أن يزاد عليهما ما وقع فيه ذكر الخيرة من القرآن الكريم .
ب - واستحسن بعض السّلف أن يزيد في صلاة الاستخارة على القراءة بعد الفاتحة بقوله تعالى : { وربّك يخلق ما يشاء ويختار . ما كان لهم الخيرة سبحان اللّه وتعالى عمّا يشركون . وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون . وهو اللّه لا إله إلاّ هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } . في الرّكعة الأولى ، وفي الرّكعة الثّانية قوله تعالى : { وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً }
ج - أمّا الحنابلة وبعض الفقهاء فلم يقولوا بقراءةٍ معيّنةٍ في صلاة الاستخارة .
دعاء الاستخارة :
16 - روى البخاريّ ومسلمٌ عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها ، كالسّورة من القرآن إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثمّ ليقل : اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنّك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علاّم الغيوب . اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسّره لي ، ثمّ بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أنّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاصرفه عنّي واصرفني عنه . واقدر لي الخير حيث كان ، ثمّ رضّني به . قال : ويسمّي حاجته » . قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : يستحبّ افتتاح الدّعاء المذكور وختمه بالحمد للّه والصّلاة والتّسليم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
استقبال القبلة في الدّعاء :
17 - يستقبل القبلة في دعاء الاستخارة رافعاً يديه مراعياً جميع آداب الدّعاء .
موطن دعاء الاستخارة :
18 - قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة : يكون الدّعاء عقب الصّلاة ، وهو الموافق لما جاء في نصّ الحديث الشّريف عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وزاد الشّوبريّ وابن حجرٍ من الشّافعيّة ، والعدويّ من المالكيّة جوازه في أثناء الصّلاة في السّجود ، أو بعد التّشهّد .
ما يطلب من المستخير بعد الاستخارة :
19 - يطلب من المستخير ألاّ يتعجّل الإجابة ؛ لأنّ ذلك مكروهٌ ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول : دعوت فلم يستجب لي » . كما يطلب منه الرّضا بما يختاره اللّه له .
تكرار الاستخارة :(64/2)
20 - قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : ينبغي أن يكرّر المستخير الاستخارة بالصّلاة والدّعاء سبع مرّاتٍ ؛ لما روى ابن السّنّيّ عن أنسٍ . قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا أنس إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربّك فيه سبع مرّاتٍ ، ثمّ انظر إلى الّذي يسبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه » . ويؤخذ من أقوال الفقهاء أنّ تكرار الاستخارة يكون عند عدم ظهور شيءٍ للمستخير ، فإذا ظهر له ما ينشرح به صدره لم يكن هناك ما يدعو إلى التّكرار . وصرّح الشّافعيّة بأنّه إذا لم يظهر له شيءٌ بعد السّابعة استخار أكثر من ذلك . أمّا الحنابلة فلم نجد لهم رأياً في تكرار الاستخارة في كتبهم الّتي تحت أيدينا رغم كثرتها .
النّيابة في الاستخارة :
21 - الاستخارة للغير قال بجوازها المالكيّة ، والشّافعيّة أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم « من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه » . وجعله الحطّاب من المالكيّة محلّ نظرٍ . فقال : هل ورد أنّ الإنسان يستخير لغيره ؟ لم أقف في ذلك على شيءٍ ، ورأيت بعض المشايخ يفعله . ولم يتعرّض لذلك الحنابلة ، والحنفيّة .
أثر الاستخارة :
أ - علامات القبول :
22 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ علامات القبول في الاستخارة انشراح الصّدر ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدّم في ( فقرة 20 ) : « ثمّ انظر إلى الّذي سبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه » أي فيمضي إلى ما انشرح به صدره ، وشرح الصّدر : عبارةٌ عن ميل الإنسان وحبّه للشّيء من غير هوًى للنّفس ، أو ميلٍ مصحوبٍ بغرضٍ ، على ما قرّره العدويّ . قال الزّملكانيّ من الشّافعيّة : لا يشترط شرح الصّدر . فإذا استخار الإنسان ربّه في شيءٍ فليفعل ما بدا له ، سواءٌ انشرح له صدره أم لا ، فإنّ فيه الخير ، وليس في الحديث انشراح الصّدر .
ب - علامات عدم القبول :
23 - وأمّا علامات عدم القبول فهو : أن يصرف الإنسان عن الشّيء ، لنصّ الحديث ، ولم يخالف في هذا أحدٌ من العلماء ، وعلامات الصّرف : ألاّ يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه معلّقاً به ، وهذا هو الّذي نصّ عليه الحديث : « فاصرفه عنّي واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثمّ رضّني به » .(64/3)
*استصباحٌ
التعريف
1 - الاستصباح في اللّغة : مصدر استصبح بمعنى : أوقد المصباح ، وهو الّذي يشتعل منه الضّوء . واستصبح بالزّيت ونحوه : أي أمدّ به مصباحه ، كما في حديث جابرٍ في السّؤال عن شحوم الميتة .. « ويستصبح بها النّاس » : أي يشعلون بها سرجهم " ولم يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى ، فقد ورد في طلبة الطّلبة الاستصباح بالدّهن : إيقاد المصباح ، وهو السّراج . وفي المصباح المنير استصبحت بالمصباح ، واستصبحت بالدّهن : نوّرت به المصباح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاقتباس :
2 - الاقتباس له معانٍ عدّةٌ أهمّها : طلب القبس ، وهو الشّعلة من النّار ، فإذا كان بهذا المعنى فهو يختلف عن الاستصباح ، كما ظهر من التعريف . والفرق واضحٌ بين طلب الشّعلة ، وإيقاد الشّيء لتتكوّن لنا شعلةٌ ، فالإيقاد سابقٌ لطلب الشّعلة . أمّا كون الاقتباس بمعنى تضمين المتكلّم كلامه - شعراً كان أو نثراً - شيئاً من القرآن الكريم ، أو الحديث النّبويّ الشّريف ، على وجهٍ لا يكون فيه إشعارٌ بأنّه من القرآن أو الحديث ، فهو بعيدٌ جدّاً عن معنى الاستصباح .
ب - الاستضاءة :
3 - الاستضاءة مصدر : استضاء . والاستضاءة : طلب الضّوء . يقال : استضاء بالنّار : أي استنار بها ، أي انتفع بضوئها ، فإيقاد السّراج غير الانتفاع بضوئه ، إذ أنّه يكون سابقاً للاستضاءة .
حكم الاستصباح :
4 - يختلف حكم الاستصباح باختلاف ما يستصبح به ، والمكان الّذي يستصبح فيه ، فإن كان ما يستصبح به طاهراً فبها ، وإلاّ فيفرّق بين ما هو نجسٌ وما هو متنجّسٌ ، وما إذا كان في المسجد وما إذا كان في غيره .
أ - فإن كان ما يستصبح به نجساً بعينه ، كشحم الخنزير ، أو شحم الميتة ، فجمهور الفقهاء على حرمة الاستصباح به ، سواءٌ أكان في المسجد أم في غيره ، وذلك للأدلّة التّالية : أوّلاً : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لمّا سئل عن الانتفاع بشحوم الميتة باستصباحٍ وغيره قال : لا ، هو حرامٌ » .
ثانياً : وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تنتفعوا من الميتة بشيءٍ » .
ثالثاً : ولأنّه مظنّة التّلوّث به ، ولكراهة دخان النّجاسة .
ب - وإن كان متنجّساً ، أي أنّ الوقود طاهرٌ في الأصل ، وأصابته نجاسةٌ ، فإن كان الاستصباح به في المسجد فجمهور الفقهاء على عدم جواز ذلك . أمّا إن كان الاستصباح بالمتنجّس في غير المسجد ، فيجوز عند جمهور الفقهاء ، لأنّ الوقود يمكن الانتفاع به من غير ضررٍ ، فجاز كالطّاهر . وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « في العجين الّذي عجن بماءٍ من آبار ثمود أنّه نهاهم عن أكله ، وأمرهم أن يعلفوه النّواضح » ( الإبل الّتي يستقى عليها ) وهذا الوقود ليس بميتةٍ ، ولا هو من شحومها فيتناوله الخبر .
حكم استعمال مخلّفاتهما :
5 - إذا استصبح بالمتنجّس ، أو النّجس فلا بأس بدخانه أو رماده عند الحنفيّة والمالكيّة ، إذا لم يكن يعلق بالثّياب ، وذلك لاضمحلال النّجاسة بالنّار ، وزوال أثرها ، فمجرّد الملاقاة لا ينجّس ، بل ينجّس إذا علق . والظّاهر أنّ المراد بالعلوق أن يظهر أثره ، أمّا مجرّد الرّائحة فلا . وكذلك يرون أنّ العلّة في جواز الانتفاع هي التّغيّر وانقلاب الحقيقة ، وأنّه يفتى به للبلوى . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيرون أنّ المتنجّس كالنّجس ؛ لأنّه جزءٌ يستحيل منه ، والاستحالة لا تطهر ، فإن علق شيءٌ وكان يسيراً عفي عنه ؛ لأنّه لا يمكن التّحرّز منه فأشبه دم البراغيث ، وإن كان كثيراً لم يعف عنه . وقيل أيضاً بأنّ دخان النّجاسة نجسٌ ، ولا شكّ أنّ ما ينفصل من الدّخان يؤثّر في الحيطان ، وذلك يؤدّي إلى تنجيسها فلا يجوز . وينظر تفصيل هذا في ( نجاسةٌ ) .
آداب الاستصباح :
6 - يستحبّ عند جمهور الفقهاء إطفاء المصباح عند النّوم ، خوفاً من الحريق المحتمل بالغفلة ، فإن وجدت الغفلة حصل النّهي . وقد وردت أحاديث كثيرةٌ للرّسول صلى الله عليه وسلم تدلّ على هذا ، منها حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : خمّروا الآنية » أي غطّوها « وأجيفوا الأبواب » أي أغلقوها « وأطفئوا المصابيح ، فإنّ الفويسقة ربّما جرّت الفتيلة ، فأحرقت أهل البيت » . قال ابن مفلحٍ : يستحبّ إطفاء النّار عند النّوم ؛ لأنّها عدوٌّ مزمومٌ بزمامٍ لا يؤمن لهبها في حالة نوم الإنسان . أمّا إن جعل المصباح في شيءٍ معلّقٍ أو على شيءٍ لا يمكن الفواسق والهوامّ التّسلّق إليه فلا أرى بذلك بأساً .(65/1)
*استطلاق البطن
التعريف
1 - استطلاق البطن في اللّغة : هو مشيه ، وكثرة خروج ما فيه . والمعنى الاصطلاحيّ هو المعنى اللّغويّ ، فقد عرّفه الفقهاء بقولهم : استطلاق البطن هو : جريان ما فيه من الغائط .
الحكم الإجماليّ :
2 - استطلاق البطن من الأعذار الّتي تبيح العبادة مع وجود العذر . وشروط اعتباره عذراً هو : أن يستوعب وجوده تمام وقت صلاةٍ مفروضةٍ ، وهذا عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . وعند المالكيّة : يعتبر عذراً إن لازم الحدث كلّ الوقت ، أو أغلبه ، أو نصفه . ويختلف المالكيّة في المقصود بالوقت ، هل هو وقت الصّلاة أو الوقت مطلقاً ؟ أي غير مقيّدٍ بكونه وقت صلاةٍ ، فيشمل ما بين طلوع الشّمس والزّوال على قولين : أظهرهما : أنّه وقت الصّلاة ؛ لأنّ غير وقت الصّلاة لا عبرة بمفارقته وملازمته ، إذ ليس هو مخاطباً حينئذٍ بالصّلاة . والوضوء واجبٌ لوقت كلّ صلاةٍ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . وذلك لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المستحاضة : « أنّها تتوضّأ لكلّ صلاةٍ » . وينتقض الوضوء بخروج الوقت عند الشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبي حنيفة ومحمّدٍ . وينتقض عند زفر بدخول الوقت . وبأيّهما عند أبي يوسف . أمّا المالكيّة : فعندهم أنّ الوضوء لا ينتقض ، وهو ( أي الوضوء ) غير واجبٍ ولا مستحبٍّ لمن لازمه الحدث كلّ الوقت ، ومستحبٌّ فقط لمن لازمه الحدث أكثر الوقت أو نصفه ، وقيل : إن لازمه نصفه وجب الوضوء لكلّ صلاةٍ .(66/1)
استغفارٌ *
التعريف :
1 - الاستغفار في اللّغة : طلب المغفرة بالمقال والفعال .
وعند الفقهاء : سؤال المغفرة كذلك ، والمغفرة في الأصل : السّتر ، ويراد بها التّجاوز عن الذّنب وعدم المؤاخذة به ، وأضاف بعضهم : إمّا بترك التّوبيخ والعقاب رأساً ، أو بعد التّقرير به فيما بين العبد وربّه . ويأتي الاستغفار بمعنى الإسلام .
قال اللّه تعالى : { وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون } أي يسلمون قاله مجاهدٌ وعكرمة . كذلك يأتي الاستغفار بمعنى الدّعاء والتّوبة ، وستأتي صلته بهذه الألفاظ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّوبة :
2 - الاستغفار والتّوبة يشتركان في أنّ كلاًّ منهما رجوعٌ إلى اللّه سبحانه ، كذلك يشتركان في طلب إزالة ما لا ينبغي ، إلاّ أنّ الاستغفار طلبٌ من اللّه لإزالته .
والتّوبة سعيٌ من الإنسان في إزالته . وعند الإطلاق يدخل كلٌّ منهما في مسمّى الآخر ، وعند اقترانهما يكون الاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، ففي التّوبة أمران لا بدّ منهما : مفارقة شيءٍ ، والرّجوع إلى غيره ، فخصّت التّوبة بالرّجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفراد أحدهما يتناول كلٌّ منهما الآخر . وعند المعصية يكون الاستغفار المقرون بالتّوبة عبارةٌ عن طلب المغفرة باللّسان ، والتّوبة عبارةٌ عن الإقلاع عن الذّنب بالقلب والجوارح .
ب - الدّعاء :
3 - كلّ دعاءٍ فيه سؤال الغفران فهو استغفارٌ . إلاّ أنّ بين الاستغفار والدّعاء عموماً وخصوصاً من وجهٍ ، يجتمعان في طلب المغفرة ، وينفرد الاستغفار إن كان بالفعل لا بالقول ، كما ينفرد الدّعاء إن كان بطلب غير المغفرة .
الحكم التّكليفيّ للاستغفار :
4 - الأصل في الاستغفار أنّه مندوبٌ إليه ، لقول اللّه سبحانه . { واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ } يحمل على النّدب ، لأنّه قد يكون من غير معصيةٍ ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى الوجوب كاستغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكالاستغفار من المعصية .
وقد يخرج إلى الكراهة كالاستغفار للميّت خلف الجنازة ، صرّح بذلك المالكيّة .
وقد يخرج إلى الحرمة ، كالاستغفار للكفّار .
الاستغفار المطلوب :
5 - الاستغفار المطلوب هو الّذي يحلّ عقدة الإصرار ، ويثبت معناه في الجنان ، لا التّلفّظ باللّسان ، فإن كان باللّسان - وهو مصرٌّ على المعصية - فإنّه ذنبٌ يحتاج إلى استغفارٍ . كما روي : « التّائب من الذّنب ، كمن لا ذنب له ، والمستغفر من الذّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربّه » ويطلب للمستغفر بلسانه أن يكون ملاحظاً لهذه المعاني بجنانه ، ليفوز بنتائج الاستغفار ، فإن لم يتيسّر له ذلك فيستغفر بلسانه ، ويجاهد نفسه على ما هنالك ، فالميسور لا يسقط بالمعسور .
فإن انتفى الإصرار ، وكان الاستغفار باللّسان مع غفلة القلب ، ففيه رأيان :
الأوّل : وصفه بأنّه توبة الكذّابين ، وهو قول المالكيّة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة جعلوه معصيةً لاحقةً بالكبائر ، وقال الآخرون : بأنّه لا جدوى منه فقط .
الثّاني : اعتباره حسنةً وهو قول الحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الاستغفار عن غفلةٍ خيرٌ من الصّمت وإن احتاج إلى استغفارٍ ، لأنّ اللّسان إذا ألف ذكراً يوشك أن يألفه القلب فيوافقه عليه ، وترك العمل للخوف منه من مكايد الشّيطان .
صيغ الاستغفار :
6 - ورد الاستغفار بصيغٍ متعدّدةٍ ، والمختار منها ما رواه البخاريّ عن شدّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سيّد الاستغفار أن تقول : اللّهمّ أنت ربّي لا إله إلاّ أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شرّ ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت » .
7 - ومن أفضل أنواع الاستغفار أن يقول العبد : « أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه » . وهذا على سبيل المثال وليس الحصر كما أنّ بعض الأوقات وبعض العبادات تختصّ بصيغٍ مأثورةٍ تكون أفضل من غيرها وينبغي التّقيّد بألفاظها ، وموطن بيانها غالباً كتب السّنّة والأذكار والآداب ، في أبواب الدّعاء والاستغفار والتّوبة .
وإذا كانت صيغ الاستغفار السّابقة مطلوبةً فإنّ بعض صيغه منهيٌّ عنها ، ففي الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ اغفر لي إن شئت ، اللّهمّ ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإنّ اللّه لا مستكره له »
استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
8 - استغفار النّبيّ عليه الصلاة والسلام واجبٌ عليه ، لقوله تعالى : { فاعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ، وقد ذكر الفقهاء والمفسّرون وجوهاً عديدةً في استغفاره صلى الله عليه وسلم منها : أنّه يراد به ما كان من سهوٍ أو غفلةٍ ، أو أنّه لم يكن عن ذنبٍ ، وإنّما كان لتعليم أمّته ، ورأي السّبكيّ : أنّ استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً ، وهو : تشريفه من غير أن يكون ذنبٌ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى . وقد ثبت« أنّه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر في اليوم الواحد سبعين مرّةً ، ومائة مرّةٍ »، بل كان أصحابه يعدّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم :
« ربّ اغفر لي وتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الغفور مائة مرّةٍ » .
الاستغفار في الطّهارة :
أوّلاً : الاستغفار عقب الخروج من الخلاء :(67/1)
9 - يندب الاستغفار بعد قضاء الحاجة ، وعند الخروج من الخلاء . روى التّرمذيّ أنّه « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك » .
ووجه سؤال المغفرة هنا كما قال ابن العربيّ - هو العجز عن شكر النّعمة في تيسير الغذاء ، وإيصال منفعته ، وإخراج فضلته .
ثانياً : الاستغفار بعد الوضوء :
10 - يسنّ الاستغفار ضمن الذّكر الوارد عند إتمام الوضوء روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من توضّأ فقال : سبحانك اللّهمّ ، وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك ، وأتوب إليك ، كتب في رقٍّ ، ثمّ جعل في طابعٍ ، فلم يكسر إلى يوم القيامة » وقد وردت صيغٌ أخرى تتضمّن الاستغفار عقب الانتهاء من الوضوء وأثناءه يذكرها الفقهاء في سنن الوضوء .
الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه :
11 - يستحبّ عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، الاستغفار عند دخول المسجد وعند الخروج منه . لما ورد عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالت : « كان رسول اللّه إذا دخل المسجد صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب فضلك » والوارد في كتب الحنفيّة أنّ المصلّي يقول عند دخول المسجد : « اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك » وعند خروجه : « اللّهمّ إنّي أسألك من فضلك » .
الاستغفار في الصّلاة :
أوّلاً - الاستغفار في افتتاح الصّلاة :
12 - جاء الاستغفار في بعض الرّوايات الّتي وردت في دعاء الافتتاح في الصّلاة ،
وأخذ بذلك الشّافعيّة مطلقاً ، والحنفيّة والحنابلة في صلاة اللّيل ، منها ما رواه أبو بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت التّوّاب الرّحيم » . ويكره الافتتاح في المكتوبة عند المالكيّة ومحلّ الاستغفار في دعاء الافتتاح يذكره الفقهاء في سنن الصّلاة ، أو في كيفيّة الصّلاة .
ثانياً : الاستغفار في الرّكوع والسّجود والجلوس بين السّجدتين :
13 يسنّ الدّعاء بالمغفرة في الرّكوع عند الشّافعيّة ، والحنابلة . روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللّهمّ وبحمدك اللّهمّ اغفر لي يتأوّل القرآن »، أي يحقّق قوله تعالى : { فسبّح بحمد ربّك واستغفره } » متّفقٌ عليه . إلاّ أنّ الشّافعيّة يجعلون ذلك للمنفرد ، ولإمام قومٍ محصورين رضوا بالتّطويل . ولا يأتي بغير التّسبيح في الرّكوع عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، غير أنّ الحنفيّة يجيزون الاستغفار عند الرّفع من الرّكوع .
14 - وفي السّجود يندب الدّعاء بالمغفرة كذلك عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، لحديث عائشة السّابق .
15 - وفي الجلوس بين السّجدتين يسنّ الاستغفار عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو قولٌ عن أحمد ، والأصل في هذا ما روى حذيفة « أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السّجدتين : ربّ اغفر لي ، ربّ اغفر لي » . وإنّما لم يجب الاستغفار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء صلاته . والمشهور عند الحنابلة أنّه واجبٌ ، وهو قول إسحاق وداود ، وأقلّه مرّةً واحدةً ، وأقلّ الكمال ثلاثٌ ، والكمال للمنفرد ما لا يخرجه إلى السّهو ، وبالنّسبة للإمام : ما لا يشقّ على المصلّين .
الاستغفار في القنوت :
16 - جاء الاستغفار في ألفاظ القنوت ، قنوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقنوت عمر ، وألفاظه كبقيّة الألفاظ الواردة ، ولم نقف على أمرٍ يخصّه ، إلاّ ما ذكره المالكيّة والحنفيّة بأنّ الدّعاء بالمغفرة يقوم مقام القنوت عند العجز عنه .
الاستغفار بعد التّشهّد الأخير :
17 - يندب الاستغفار بعد التّشهّد الأخير ، ورد في السّنّة « اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، وإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم » متّفقٌ عليه . كذلك ورد « اللّهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به منّي أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلاّ أنت »
الاستغفار عقب الصّلاة :
18 - يسنّ الاستغفار عقب الصّلاة ثلاثاً ، لما روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال :« من قال أستغفر اللّه العظيم الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، ثلاث مرّاتٍ ، غفر اللّه ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر »
ووردت رواياتٌ أخرى يذكرها الفقهاء في الذّكر الوارد عقب الصّلاة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر اللّه عزّ وجلّ ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزّحف »
الاستغفار في الاستسقاء :
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحصل الاستسقاء بالاستغفار وحده .(67/2)
غير أنّ أبا حنيفة يقصره على ذلك ، مستدلاًّ بقول اللّه سبحانه { فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السّماء عليكم مدراراً } لأنّ الآية دلّت على أنّ الاستغفار وسيلةٌ للسّقيا . بدليل { يرسل السّماء عليكم مدراراً } ولم تزد الآية الكريمة على الاستغفار ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه خرج إلى الاستسقاء ولم يصلّ بجماعةٍ ، بل صعد المنبر ، واستغفر اللّه ، وما زاد عليه ، فقالوا : ما استسقيت يا أمير المؤمنين ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السّماء الّتي بها يستنزل الغيث .
20 - وبقيّة الفقهاء والقائلون بندب صلاة الاستسقاء والخطبتين ، أو الخطبة الواحدة ، يسنّ عندهم الإكثار من الاستغفار في الخطبة ، وتبدّل تكبيرات الافتتاح الّتي في خطبتي العيدين بالاستغفار في خطبتي الاستسقاء عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، وصيغته كما أوردها النّوويّ في مجموعه " أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه " . ويكبّر كخطبتي العيدين عند الحنابلة ، ونفى الحنفيّة التّكبير ولم يتعرّضوا للاستغفار في الخطبة .
الاستغفار للأموات :
21 - الاستغفار عبادةٌ قوليّةٌ يصحّ فعلها للميّت . وقد ثبت في السّنّة الاستغفار للأموات ، ففي صلاة الجنازة ورد الدّعاء للميّت بالمغفرة ، لكن لا يستغفر لصبيٍّ ونحوه .
وتفصيل أحكامه يذكرها الفقهاء في صلاة الجنازة . وعقب الدّفن يندب أن يقف جماعةٌ يستغفرون للميّت ، لأنّه حينئذٍ في سؤال منكرٍ ونكيرٍ ، روى أبو داود بإسناده عن عثمان قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرّجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التّثبّت فإنّه الآن يسأل » وصرّح بذلك جمهور الفقهاء .
22 - ومن آداب زيارة القبور عند الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، الدّعاء بالمغفرة لأهلها عقب التّسليم عليهم ، واستحسن ذلك الحنابلة .
23 - وهذا كلّه يخصّ المؤمن ، أمّا الكافر الميّت فيحرم الاستغفار له بنصّ القرآن والإجماع .
الاستغفار عن الغيبة :
24 - اختلف العلماء في حقّ الّذي اغتاب ، هل يلزمه استحلال من اغتيب ، مع الاستغفار له ، أم يكفيه الاستغفار ؟ .
الأوّل : إذا لم يعلم من اغتيب فيكفي الاستغفار ، وهو مذهب الشّافعيّة ، والحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة ، ولأنّ إعلامه ربّما يجرّ فتنةً ، وفي إعلامه إدخال غمٍّ عليه . لما روى الخلاّل بإسناده عن أنسٍ مرفوعاً « كفّارة من اغتيب أن يستغفر له » . فإن علم فلا بدّ من استحلاله مع الاستغفار له .
الثّاني : يكفي الاستغفار سواءٌ علم الّذي اغتيب أم لم يعلم ، ولا يجب استحلاله ، وهو قول الطّحاويّ من الحنفيّة . والمالكيّة على أنّه لا بدّ من استحلال المغتاب إن كان موجوداً ، فإن لم يجده ، أو أحداً من ورثته استغفر له .
وفي استحلال الورثة خلافٌ بين الفقهاء يذكر في التّوبة .
الاستغفار للمؤمنين :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ التّعميم في الدّعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ، لخبر « ما من دعاءٍ أحبّ إلى اللّه تعالى من أن يقول العبد : اللّهمّ اغفر لأمّة محمّدٍ مغفرةً عامّةً » وفي روايةٍ أنّه « قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلاةٍ ، وقمنا معه ، فقال أعرابيٌّ وهو في الصّلاة : اللّهمّ ارحمني ومحمّداً ، ولا ترحم معنا أحداً ، فلمّا سلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأعرابيّ : لقد حجّرت واسعاً » . ولا بأس أن يخصّ الإنسان نفسه بالدّعاء ، لحديث أبي بكرة ، وأمّ سلمة ، وسعد بن أبي وقّاصٍ : « اللّهمّ إنّي أعوذ بك ، وأسألك ... » إلخ وهذا يخصّ نفسه الكريمة ، ذلك ما لم يكن في القنوت ، وخلفه من يؤمّن ، لخبر ثوبان « لا يؤمّ رجلٌ قوماً فيخصّ نفسه بدعوةٍ دونهم ، فإن فعل فقد خانهم »
الاستغفار للكافر :
26 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستغفار للكافر محظورٌ ، بل بالغ بعضهم فقال : إنّ الاستغفار للكافر يقتضي كفر من فعله ، لأنّ فيه تكذيباً للنّصوص الواردة الّتي تدلّ على أنّ اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به ، وأنّ من مات على كفره فهو من أهل النّار .
27 - وأمّا من استغفر للكافر الحيّ رجاء أن يؤمن فيغفر له ، فقد صرّح الحنفيّة بإجازة ذلك ، وجوّز الحنابلة الدّعاء بالهداية ، ولا يستبعد ذلك من غيرهم ، كذلك استظهر بعضهم جواز الدّعاء لأطفال الكفّار بالمغفرة ، لأنّ هذا من أحكام الآخرة .
تكفير الذّنوب بالاستغفار :
28 - الاستغفار إن كان بمعنى التّوبة فإنّه يرجى أن يكفّر به الذّنوب إن توافرت فيه شروط التّوبة ، يقول اللّه سبحانه : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً } ويقول صلى الله عليه وسلم رسول اللّه : « من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ ، فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فرّ من الزّحف » وقد قيل : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار فالمراد بالاستغفار هنا التّوبة .
29 - فإن كان الاستغفار على وجه الافتقار والانكسار دون تحقّق التّوبة ،
فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فالشّافعيّة قالوا : إنّه يكفّر الصّغائر دون الكبائر ، وقال المالكيّة والحنابلة : إنّه تغفر به الذّنوب ، ولم يفرّقوا بين صغيرةٍ وكبيرةٍ ، وهو ما صرّحت به بعض كتب الحنفيّة . لقوله صلى الله عليه وسلم : « الاستغفار ممحاةٌ للذّنوب » .
الاستغفار عند النّوم :(67/3)
30 - يستحبّ الاستغفار عند النّوم مع بعض الأدعية الأخرى ، ليكون الاستغفار خاتمة عمله إذا رفعت روحه ، روى التّرمذيّ عن أبي سعيدٍ : « من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ثلاث مرّاتٍ غفر اللّه له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر » .
الدّعاء بالمغفرة للمشمّت :
31 - يسنّ للعاطس أن يدعو بالمغفرة لمن شمّته بقوله : " يرحمك اللّه " فيقول له العاطس : " يغفر اللّه لنا ولكم " أو يقول له : " يهديكم اللّه ويصلح بالكم " أو يقول : " يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم " ، لما في الموطّأ عن نافعٍ أنّ ابن عمر كان إذا عطس فقيل له : يرحمك اللّه ، قال : يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم .
اختتام الأعمال بالاستغفار :
32 - المتتبّع للقرآن الكريم والأذكار النّبويّة يجد اختتام كثيرٍ من الأعمال بالاستغفار ،
فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بالاستغفار بقوله تعالى : { فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً } .
33 - وفي اختتام الصّلاة ، وتمام الوضوء يندب الاستغفار كما تقدّم .
34 - والاستغفار في نهاية المجلس كفّارةٌ لما يقع في المجلس من لغطٍ ، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك » .
35 - ومن آكد أوقات الاستغفار : السّحر - آخر اللّيل - لقوله تعالى : { وبالأسحار هم يستغفرون } وللخبر الصّحيح : « ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلةٍ إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الأخير ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » .(67/4)
استفتاحٌ *
التعريف : المعنى اللّغويّ :
1 - الاستفتاح : طلب الفتح ، والفتح نقيض الإغلاق . ومنه فتح الباب ، واستفتحه : إذا طرقه ليفتح له . ويكون الفتح أيضاً بمعنى القضاء والحكم ، ومنه قول اللّه تعالى مخبراً عن شعيبٍ : { ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين } . وفي حديث ابن عبّاسٍ : ما كنت أدري ما قول اللّه تعالى : { ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ } حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ، أي أحاكمك .
والاستفتاح طلب القضاء . ويكون الفتح بمعنى النّصر ، واستفتح : طلب النّصر . ومنه الآية : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } . وفي تاج العروس : في المستدرك على ما قاله الفيروز آباديّ : إنّ فتح عليه يكون بمعنى عرّفه وعلّمه . قال : وقد فسّر به قوله تعالى : { قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم } .
المعنى الاصطلاحيّ :
2 - يستعمل الفقهاء الاستفتاح بمعانٍ :
الأوّل : استفتاح الصّلاة ، وهو الذّكر الّذي الّذي تبدأ به الصّلاة بعد التّكبير . وقد يقال له : دعاء الاستفتاح . وإنّما سمّي بذلك لأنّه أوّل ما يقوله المصلّي بعد التّكبير ، فهو يفتتح به صلاته ، أي يبدؤها به .
الثّاني : استفتاح القارئ إذا ارتجّ عليه ، أي استغلق عليه باب القراءة ، فلم يتمكّن منها ، فهو يعيد الآية ويكرّرها ليفتح عليه من يسمعه .
الثّالث : طلب النّصرة .
استفتاح الصّلاة :
3 - يعبّر عنه بعض الفقهاء أيضاً بدعاء الاستفتاح ، وبالافتتاح ، وبدعاء الافتتاح . إلاّ أنّ الأكثر يقولون : الاستفتاح . واستفتح : أي قال الذّكر الوارد في موضعه بعد التّكبير .
الألفاظ ذات الصّلة :
الثّناء :
4 - الثّناء لغةً : المدح ، وفي الاصطلاح : ما كان من ذكر اللّه تعالى وصفاً له بأوصافه الحميدة ، وشكراً له على نعمه الجليلة ، سواءٌ كان بالصّيغة الواردة : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ " ، أو غيرها ممّا يدلّ على المعنى المذكور .
أمّا الدّعاء فليس ثناءً . وهذا هو الجاري مع الاستعمال اللّغويّ .
وفي اصطلاحٍ آخر : الثّناء لكلّ ما يستفتح به ولو كان دعاءً . قال الإمام الرّافعيّ : وكلّ واحدٍ من هذين الذّكرين ، أعنى " وجّهت وجهي ... " وسبحانك اللّهمّ ... " يسمّى دعاء الاستفتاح وثناءه . وعلى ذلك فالاستفتاح أخصّ من الثّناء .
حكم الاستفتاح :
5 - قال جمهور الفقهاء : الاستفتاح سنّةٌ ، لما ورد في الأحاديث الّتي سيأتي ذكرها في الصّيغ المأثورة في الاستفتاح . وذهبت طائفةٌ من أصحاب الإمام أحمد إلى وجوب الذّكر الّذي هو ثناءٌ ، كالاستفتاح بنحو " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " وهو اختيار ابن بطّة وغيره ، وذكر هذا روايةً عن أحمد . وخالف في ذلك مالكٌ ، ففي المدوّنة قال ابن القاسم : كان مالكٌ لا يرى هذا الّذي يقول النّاس " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك " . وكان لا يعرفه . ثمّ نقل من رواية ابن وهبٍ بسنده إلى أنس بن مالكٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر وعثمان كانوا يفتتحون الصّلاة بالحمد للّه ربّ العالمين » : قال : وقال مالكٌ : من كان وراء الإمام ، ومن هو وحده ، ومن كان إماماً فلا يقل : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ... إلخ " . ولكن يكبّرون ثمّ يبتدئون القراءة . وقد صرّح فقهاء المالكيّة بأنّ الحكم كراهة الفصل بين التّكبير والقراءة بدعاءٍ . سواءٌ أكان دعاء الاستفتاح أو غيره . إلاّ أنّ في كفاية الطّالب : أنّ هذا هو المشهور عن مالكٍ ، ثمّ قال : واستحبّ بعضهم الفصل بينهما بلفظ : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ " .
وقال العدويّ معلّقاً على ذلك : في قوله والمشهور عن مالكٍ إلخ إشارةً إلى أنّ هذا القول لمالكٍ " إلاّ أنّه ليس مشهوراً عنه . ثمّ قد جاء في جواهر الإكليل تعليقاً على قول خليلٍ بالكراهة : أي يكره على المشهور للعمل ، وإن صحّ الحديث به - يعني ما قاله الدّسوقيّ : لأنّه لم يصحبه عملٌ - ثمّ قال : وعن مالكٍ ندب قوله قبلها - أي قبل تكبيرة الإحرام - : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ ، وجّهت وجهي ... إلخ ، اللّهمّ باعد ... إلخ . قال ابن حبيبٍ : يقوله بعد الإقامة وقبل الإحرام . قال في البيان : وذلك حسنٌ .. ا هـ . وكذلك نقل الرّافعيّ من الشّافعيّة عن مالكٍ قوله : لا يستفتح بعد التّكبير إلاّ بالفاتحة ، والدّعاء والتّعوّذ يقدمهما على التّكبير . فكأنّ خلاف المالكيّة في الاستفتاح راجعٌ إلى موضعه ، فعندهم يكون قبل التّكبير ، وعند غيرهم بعده . هذا وقد استثنى الشّافعيّة حالة خشية خروج الوقت قبل تمام الصّلاة ، فلا يأتي بدعاء الاستفتاح إلاّ حيث لم يخف خروج شيءٍ من الصّلاة عن وقتها ، فإن خاف خروج شيءٍ من الصّلاة عن الوقت حرم الإتيان بدعاء الاستفتاح . وهو في هذا مخالفٌ لبقيّة سنن الصّلاة ، فإنّ السّنن يأتي بها إذا أحرم في وقتٍ يسعها وإن لزم صيرورتها قضاءً ، قال الشبراملسي : ويمكن الفرق بين الافتتاح وبقيّة السّنن بأنّه عهد طلب ترك دعاء الافتتاح في الجنازة ، وفيما لو أدرك الإمام في ركوعٍ أو اعتدالٍ ، فانحطّت رتبته عن بقيّة السّنن . أو بأنّ السّنن شرعت مستقلّةً وليست مقدّمةً لشيءٍ ، بخلاف دعاء الافتتاح ، فإنّه شرع مقدّمةً لغيره ، يعني للقراءة . قالوا : ولو خشي إن اشتغل بدعاء الاستفتاح فوت الصّلاة لهجوم الموت عليه فيها ، أو خشيت طروّ دم الحيض ، فلا يشتغل به كذلك .
صيغ الاستفتاح المأثورة :(68/1)
6 - ورد في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم استفتاح الصّلاة بصيغٍ مختلفةٍ أشهرها ثلاثٌ :
الأولى : عن عائشة رضي الله عنها " قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصّلاة قال : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » . وصحّ عن عمر أنّه استفتح به . وجمهور الفقهاء لم يذكروا في هذه الصّيغة " وجلّ ثناؤك " ، وذكرها الحنفيّة . ففي شرح منية المصلّي : إن زاد في دعاء الاستفتاح بعد قوله : وتعالى جدّك " وجلّ ثناؤك " لا يمنع من زيادته ، وإن سكت عنه لا يؤمر به ، لأنّه لم يذكر في الأحاديث المشهورة . وقد روي عن بعض الصّحابة من قولهم .
الثّانية : عن عليٍّ رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة قال : وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين . إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين » - وفي روايةٍ : « وأنا أوّل المسلمين - اللّهمّ أنت الملك لا إله إلاّ أنت ، أنت ربّي ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعاً ، إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت ، واصرف عنّي سيّئها لا يصرف عنّي سيّئها إلاّ أنت ، لبّيك وسعديك ، والخير كلّه في يديك ، والشّرّ ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك » .
هل يقول ( وأنا من المسلمين ) أو ( أوّل المسلمين ) ؟ :
7 – ودعاء التّوجّه الّذي تضمّنه حديث عليٍّ رضي الله عنه ، وردت فيه هذه الكلمة بروايتين : الأولى " وأنا من المسلمين " والثّانية " وأنا أوّل المسلمين " وكلتا الرّوايتين صحيحتان . فلو قال المستفتح : " وأنا من المسلمين "- وهو الأولى- فهو موافقٌ للسّنّة ، ولا خلاف في ذلك . وإن قال : " وأنا أوّل المسلمين " ففي قولٍ عند الحنفيّة : تفسد صلاته ، لأنّ قوله هذا كذبٌ ، فليس هو أوّل المسلمين من هذه الأمّة ، بل أوّلهم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم . والأصحّ عندهم أنّ صلاته لا تفسد ، لأنّه تالٍ للآية وحاكٍ لا مخبرٌ . ومن أجل ذلك إذا قصد الإخبار كان كاذباً ، وتفسد صلاته قطعاً . وكذا قال الإمام الشّافعيّ في الأمّ : يجعل مكان " وأنا أوّل المسلمين : وأنا من المسلمين " . وقال البيجوريّ : أو يقول وأنا أوّل المسلمين ، نظراً للفظ الآية ، ولا يقصد بذلك أنّه أوّل المسلمين حقيقةً وإلاّ كفر . أي لإنكاره إسلام المسلمين قبله . وقال ابن علاّن : ظاهر كلام أئمّتنا أنّ المرأة تقول : " وما أنا من المشركين " ، وتقول : " وأنا من المسلمين " ، لأنّ مثل ذلك سائغٌ لغةً ، شائعٌ استعمالاً .
وفي التّنزيل { وكانت من القانتين } . وقد « لقّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا من المسلمين وما أنا من المشركين فاطمة رضي الله عنها في ذبح الأضحيّة » . قال : وقياس ذلك أن تأتي المرأة أيضاً بـ ( حنيفاً مسلماً ) بالتّذكير ، على إرادة الشّخص ، محافظةً على الوارد ما أمكن ، فهما حالان من الفاعل أو المفعول .
الثّالثة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كبّر في الصّلاة سكت هنيهةً قبل القراءة . فقلت يا رسول اللّه : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، في إسكاتك بين التّكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول : اللّهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب . اللّهمّ نقّني من خطاياي كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس . اللّهمّ اغسلني من خطاياي بالثّلج وبالماء والبرد » .
مذاهب الفقهاء في الصّيغة المختارة :
8 - اختلف الفقهاء فيما يختارونه من الصّيغ المأثورة على أقوالٍ :
الأوّل : قال جمهور الحنفيّة ، والحنابلة : يستفتح ب ( سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ ) مقتصراً عليه ، فلا يأتي ب ( وجّهت وجهي ... إلخ ) ولا غيره في الفريضة .
الثّاني : مذهب الشّافعيّة في معتمدهم ، وقول الآجرّيّ من الحنابلة : اختيار الاستفتاح بما في خبر عليٍّ " وجّهت وجهي ... " . قال النّوويّ من الشّافعيّة : والّذي يلي هذا الاستفتاح في الفضل حديث أبي هريرة يعني " اللّهمّ باعد ... إلخ " .
الثّالث : مذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، وجماعةٍ من الشّافعيّة ، منهم أبو إسحاق المروزيّ ، والقاضي أبو حامدٍ ، وهو اختيار الوزير ابن هبيرة من أصحاب الإمام أحمد : أن يجمع بين الصّيغتين الواردتين " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " " ووجّهت وجهي ... " ونسبه صاحب الإنصاف إلى ابن تيميّة هذا ، وقد استحبّ النّوويّ أيضاً أن يكون الاستفتاح بمجموع الصّيغ الواردة كلّها لمن صلّى منفرداً ، وللإمام إذا أذن له المأمومون وجميع الآراء السّابقة إنّما هي بالنّسبة للفريضة .
أمّا في النّافلة ، وخاصّةً في صلاة اللّيل ، فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على الجمع بين الثّناء ودعاء التّوجّه . قال ابن عابدين : لحمل ما ورد من الأخبار عليها ، فيقوله - أي التّوجّه - في صلاة اللّيل ، لأنّ الأمر فيها واسعٌ . وفي صحيح مسلمٍ « أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة » - وفي روايةٍ « إذا استفتح الصّلاة - كبّر ثمّ قال : وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات والأرض حنيفاً ... » وكذا قال أحمد عن سائر الأخبار في الاستفتاح سوى " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " : إنّما هي عندي في التّطوّع .
كيفيّة الإتيان بدعاء الاستفتاح ، وموضعه :
الإسرار بدعاء الاستفتاح :(68/2)
9 - اتّفق القائلون بسنّيّة الاستفتاح ، على أنّ سنّته أن يقوله المصلّي سرّاً ، سواءٌ أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً ، ودليله حديث أبي هريرة المتقدّم . وأمّا ما ورد من فعل عمر رضي الله عنه أنّه كان يجهر بهذه الكلمات : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " فقد حمله الفقهاء على قصد تعليمه النّاس . قال النّوويّ من الشّافعيّة : السّنّة فيه الإسرار ، فلو جهر به كان مكروهاً ، ولا تبطل صلاته .
موضع الاستفتاح من الصّلاة :
10 - تقدّم أنّ المالكيّة يخالفون في موضع الاستفتاح ، فيمنعون وقوعه بين التّكبير والقراءة ، وأنّ ابن حبيبٍ منهم صرّح بأنّه يأتي به قبل تكبيرة الإحرام ( ف 5 ) .
أمّا جمهور الفقهاء غير المالكيّة فعندهم أنّ الاستفتاح في الرّكعة الأولى ، بعد تكبيرة الإحرام ، وقبل التّعوّذ والشّروع في القراءة . وبعض من اختار منهم الاستفتاح " بسبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " أجاز أن يقول دعاء التّوجّه قبل تكبيرة الإحرام والنّيّة ( ف 5 ) وقد سبق ما يتّصل بموضع الاستفتاح عند الفقهاء .
ويتعلّق بهذا الأمر مسألتان :
الأولى : عند الشّافعيّة والحنابلة سنّته أن يتّصل بتكبيرة الإحرام ، بمعنى ألاّ يفصل بين تكبيرة الإحرام وبين الاستفتاح تعوّذٌ أو دعاءٌ ، أو قراءةٌ . واستثنى الشّافعيّة - كما في حاشية القليوبيّ - تكبيرات العيد فلا يفوت الاستفتاح بقولها ، لندرتها . أمّا لو كبّر تكبيرة الإحرام ، ثمّ سكت ، ثمّ استفتح فلا بأس . فلو كبّر ، ثمّ تعوّذ سهواً أو عمداً لم يعد إلى الاستفتاح ، لفوات محلّه ، ولا يتداركه في باقي الرّكعات . قال النّوويّ من الشّافعيّة : وهذا هو المذهب ، ونصّ عليه الشّافعيّ في الأمّ ، وقال الشّيخ أبو حامدٍ في تعليقه : إذا تركه وشرع في التّعوّذ يعود إليه . وقال النّوويّ : لكن لو خالف . وأتى به بعد التّعوّذ كره ، ولم تبطل صلاته ، لأنّه ذكرٌ ، كما لو دعا أو سبّح في غير موضعه . وسيأتي لهذا المعنى تكميلٌ واستثناءٌ عن الحنابلة في مسألة استفتاح المسبوق .
الثّانية : لا يشرع لترك الاستفتاح عمداً أو سهواً ، أو لجهر الإمام به أو لغير ذلك سجود سهوٍ . وهذا عند كلّ من يرى أنّ الاستفتاح مستحبٌّ ، وهو قول جمهور الحنابلة . أمّا من قال بأنّه واجبٌ - كما تقدّم نقله عن بعض الحنابلة - فينبغي إذا نسيه أن يسجد للسّهو . والعلّة لترك سجود السّهو أنّ السّجود زيادةٌ في الصّلاة ، فلا يجوز إلاّ بتوقيفٍ .
استفتاح المأموم :
11 - لا إشكال في مشروعيّة استفتاح كلٍّ من الإمام والمنفرد ، إلاّ من حيث إنّ الإمام يراعي من خلفه ، من حيث التّطويل والاختصار فيما يستفتح به .
أمّا المأموم فيتعلّق باستفتاحه مسألتان :
الأولى : يستفتح المأموم سواءٌ استفتح إمامه أم لم يستفتح . قال في شرح منية المصلّي من كتب الحنفيّة : تسعة أشياء إذا لم يفعلها الإمام لا يتركها القوم ، فذكر منها : الاستفتاح . وهو يفهم أيضاً من كلام الشّافعيّة والحنابلة .
الثّانية : إذا لم يستفتح المأموم حتّى شرع الإمام في القراءة ، فقد اختلف الفقهاء في هذا على آراءٍ : الأوّل : قال الحنفيّة : لا يأتي المأموم بدعاء الاستفتاح إذا شرع الإمام في القراءة ، سواءٌ أكان الإمام يجهر بقراءته أم يخافت . وفي قولٍ عندهم : يستفتح المأموم إن كان الإمام يخافت بقراءته قال ابن عابدين : وهذا هو الصّحيح ، وعليه الفتوى . وعلّله في الذّخيرة بما حاصله أنّ الاستماع في غير حالة الجهر ليس بفرضٍ ، بل يسنّ .
الثّاني . قال الشّافعيّة : يسنّ للمأموم أن يستفتح ، ولو كان الإمام يجهر والمأموم يسمع قراءته . وفرّقوا بينه وبين قراءة المأموم للسّورة بعد الفاتحة - فإنّه يسنّ للمأموم الإنصات لها - وبين الافتتاح - فيسنّ أن يقرأه - بأنّ قراءة الإمام تعدّ قراءةً للمأموم ، فأغنت عن قراءته ، وسنّ استماعه لها ، ولا كذلك الافتتاح ، فإنّ المقصود منه الدّعاء للإمام ، ودعاء الشّخص لنفسه لا يعدّ دعاءً لغيره . ومع هذا فقد قالوا : يسنّ له الإسراع به إذا كان يسمع قراءة إمامه .
الثّالث : قال الحنابلة : يستحبّ للمأموم أن يستفتح في الصّلوات الّتي يسرّ فيها الإمام ، أو الّتي فيها سكتاتٌ يمكن فيها القراءة . وفي كشّاف القناع : أنّ المأموم يستفتح أيضاً ولو كان الإمام يجهر ، إذا كان المأموم لا يسمع قراءته . قالوا : أمّا إن لم يسكت الإمام أصلاً فلا يستفتح المأموم . وإن سكت الإمام قدراً يتّسع للاستفتاح استفتح المأموم على الصّحيح ، فإن كان المأموم ممّن يرى القراءة خلف الإمام استفتح .
استفتاح المسبوق :(68/3)
12 - عند الحنفيّة : لا يستفتح المسبوق إذا أدرك الإمام حال القراءة ، وفي قولٍ : يستفتح إن كان الإمام يخافت . ثمّ إنّه إذا قام يقضي ما فاته يستفتح مرّةً أخرى . ووجهه : أنّ القيام إلى قضاء ما سبق يعتبر كتحريمةٍ أخرى ، للخروج به من حكم الاقتداء إلى حكم الانفراد . أمّا إن أدركه في الرّكوع أو في السّجدة الأولى من الرّكعة فإنّه يتحرّى في الإتيان بالثّناء ( الاستفتاح ) ، فإن كان أكبر رأيه أنّه لو أتى به يدرك الإمام في شيءٍ من الرّكوع فإنّه يأتي به قائماً ثمّ يركع ، لإمكان إحراز الفضيلتين معاً ، فلا يفوت إحداهما . ومحلّ الاستفتاح هو القيام ، فيفعله فيه . أمّا إن كان أكبر رأيه أنّه لو اشتغل بالاستفتاح لا يدرك الإمام في شيءٍ من الرّكوع ، أو السّجدة الأولى من الرّكعة ، فإنّه يركع ، أو يسجد مع الإمام لئلاّ تفوته فضيلة الجماعة في الرّكعة أو السّجدتين ، وذلك أولى من إحراز فضيلة الثّناء ، لأنّ سنّيّة الجماعة آكد وأقوى من سنّيّته . وعند الشّافعيّة : يستفتح المأموم إذا أدرك الإمام في قيام الرّكعة الأولى أو غيرها ، وغلب على ظنّه أنّه مع اشتغاله به يدرك الفاتحة قبل ركوع إمامه . فإن خاف ألاّ يدرك الفاتحة ، فإنّه يشتغل بها ويترك الاستفتاح ، لأنّها واجبةٌ والاستفتاح سنّةٌ . أمّا لو أدرك المسبوق الإمام في غير القيام : إمّا في الرّكوع ، وإمّا في السّجود ، وإمّا في التّشهّد ، فإنّه يحرم معه ، ويأتي بالذّكر الّذي يأتي به الإمام ، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح في الحال ولا فيما بعد . واستثنوا من ذلك حالتين . قال النّوويّ : لو أدرك الإمام في القعود الأخير ، فكبّر للإحرام ، فسلّم الإمام قبل قعوده لا يقعد ، ويأتي بدعاء الاستفتاح . فإن قعد قبل أن يستفتح فسلّم الإمام فقام ، فإنّه لا يأتي بدعاء الاستفتاح . وكذلك قالوا : لو أمّن الإمام يؤمّن المسبوق ، ثمّ يأتي بالاستفتاح ، لأنّ التّأمين فاصلٌ يسيرٌ . وعند الحنابلة : إذا أدرك المسبوق الإمام فيما بعد الرّكعة الأولى لم يستفتح ، بناءً على الرّواية المعتمدة من أنّ ما يدركه المسبوق مع إمامه هو آخر صلاته لا أوّلها ، فإذا قام للقضاء استفتح . نصّ عليه أحمد . أمّا على الرّواية الأخرى عن أحمد - أنّ ما يدركه المسبوق مع إمامه هو أوّل صلاته - فإنّه يستفتح بعد تكبيرة الإحرام . أمّا إذا أدركه في قيام الرّكعة الأولى ، فكما تقدّم في استفتاح المأموم ( ف 9 ) .
الصّلوات الّتي يدخلها الاستفتاح والّتي لا يدخلها :
13 - الاستفتاح - عند غير المالكيّة - سنّةٌ في كلّ الصّلوات وفي جميع الأحوال .
قال النّوويّ : الاستفتاح مستحبٌّ لكلّ مصلٍّ ، من إمامٍ ، ومأمومٍ ، ومنفردٍ ، وامرأةٍ ، وصبيٍّ ، ومسافرٍ ، ومفترضٍ ، ومتنفّلٍ ، وقاعدٍ ، ومضطجعٍ ، وغيرهم . قال : ويدخل فيه النّوافل المرتّبة والمطلقة ، والعيد ، والكسوف في القيام الأوّل ، والاستسقاء .
غير أنّ بعضهم استثنى صلاة الجنازة . وفيها - وفي الاستفتاح في صلاة العيدين ، وصلاة قيام اللّيل - كلامٌ نورده فيما يلي :
أوّلاً : الاستفتاح في صلاة الجنازة :
14 - اختلف الفقهاء في الاستفتاح في صلاة الجنازة على أقوالٍ :
القول الأوّل . قول الحنفيّة : إنّ الاستفتاح فيها سنّةٌ بعد التّكبيرة الأولى ، ويقتصر عليه ، فلا يقرأ الفاتحة ، إذ لا تشرع القراءة عندهم في صلاة الجنازة . قالوا : إلاّ أن يقرأ الفاتحة بنيّة الثّناء ، لا بنيّة القراءة ، ولا يكره ذلك . وقالوا : يقدّم الثّناء على اللّه ( أي بعد التّكبيرة الأولى ) والصّلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ( أي بعد التّكبيرة الثّانية ) على الدّعاء ، لأنّ سنّة الدّعاء أن يتقدّم عليه حمد اللّه والصّلاة على رسوله .
والقول الثّاني ، وهو أصحّ قولي الشّافعيّة ، والرّواية المعتمدة عند الحنابلة : أنّ صلاة الجنازة مستثناةٌ فلا يشرع فيها استفتاحٌ أصلاً ، قال الشّافعيّة : ولو على غائبٍ أو قبرٍ ، قالوا : لأنّها مبنيّةٌ على التّخفيف والاختصار . ولذلك لم يشرع فيها قراءة سورةٍ بعد الفاتحة . والقول الآخر للشّافعيّة ، والرّواية الأخرى عن الإمام أحمد : أنّه يستحبّ الاستفتاح فيها كغيرها من الصّلوات .
ثانياً : الاستفتاح في صلاة العيد :
15 - مذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والمقدّم عند الحنابلة : أنّ الاستفتاح في صلاة العيد بعد تكبيرة الإحرام وقبل التّكبيرات الأخرى ( الزّوائد ) في أوّل الرّكعة . فيكبّر للإحرام ، ثمّ يثني ، ثمّ يكبّر التّكبيرات ، ثمّ يقرأ الفاتحة . وفي روايةٍ أخرى عن أحمد : يستفتح بعد التّكبيرات الزّوائد ، وقبل القراءة ونقله الكاسانيّ عن ابن أبي ليلى .
ثالثاً : الاستفتاح في النّوافل :
16 - يرى الحنابلة : أنّ صلاة النّافلة إذا كانت بأكثر من سلامٍ واحدٍ كما في التّراويح ، والضّحى ، وصلاة السّنّة الرّاتبة ، إذا كانت أربعاً وصلاّها بسلامين ، فإنّه يستفتح في كلّ ركعتين على الأصل ، لأنّ كلّ ركعتين صلاةٌ مستقلّةٌ . وفي قولٍ آخر عندهم : يكتفي باستفتاح واحدٍ في أوّل صلاته . وإن صلّى النّافلة الرّباعيّة بسلامٍ واحدٍ ، فقد قال الحنفيّة : إنّ النّافلة الرّباعيّة نوعان : النّوع الأوّل : شبّهوه بالفريضة لتأكّده ، وهو الأربع قبل صلاة الظّهر ، والأربع قبل صلاة الجمعة ، والأربع بعد صلاة الجمعة ، فهذا النّوع ليس فيه إلاّ استفتاحٌ واحدٌ فقط ، وهو ما يقوله في أوّل الرّكعة الأولى .(68/4)
والنّوع الثّاني : ما عدا ذلك من النّوافل ، وفي هذا النّوع استفتاحٌ آخر يقوله في أوّل القيام في الرّكعة الثّالثة . قالوا : وهكذا الحكم لو نذر أن يصلّي أربعاً . ووجّهوه بأنّه وإن كان فرضاً ، إلاّ أنّه في الأصل نفلٌ عرض له الافتراض . قالوا : يستفتح المرّة الأخرى ، لأنّ كلّ اثنتين من الأربع صلاةٌ على حدةٍ ، أي من بعض الأوجه . قال ابن عابدين : وهذه المسألة ليست مرويّةً عن المتقدّمين . وإنّما هي اختيار بعض المتأخّرين . قال : وفي المسألة قولٌ ثانٍ : أنّه يستفتح مرّةً واحدةً فقط كالنّوع الأوّل .
استفتاح القارئ :
17 - الاستفتاح أن يطلب القارئ بقوله أو حالة الفتح إذا ارتجّ عليه ، فلم يعلم ما يقرأ ، سواءٌ أكان في قراءةٍ فنسي ما بعد الآية الّتي يقرؤها ، أم أراد ابتداء القراءة فلم يعلم ما يقول . والفتح عليه أن تخبره بما نسيه . وقد ذكر ابن عابدين أنّه يكره للإمام أن يلجئ المأموم إلى الفتح عليه . وللإمام بدل ذلك أن يركع إذا قرأ قدر الفرض . وإن لم يقرأ قدر الفرض فإنّه يستخلف . وانظر تفصيل ذلك في ( إمامةٌ ) ( وفتحٌ على الإمام ) .
الاستفتاح ( بمعنى الاستنصار ) :
18 - يستحبّ عند القتال أن يدعو المسلمون اللّه تعالى أن يفتح عليهم ، وأن ينصرهم على عدوّهم . وقد روي من ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذكارٌ معيّنةٌ في وقائع مختلفةٍ ر : ( دعاءٌ ) و ( جهادٌ ) .
الاستفتاح ( بمعنى طلب العلم بالمغيب ) :
19 - تقدّم أوّل هذا البحث أنّ استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى دائرٌ في كلام العوّام . وأنّه يقلّ في كلام الفقهاء . وفي حكمه قولان للفقهاء في استفتاح الفأل في المصحف :
الأوّل : أنّه حرامٌ . نقل عن ابن العربيّ المالكيّ ، وهو ظاهر ما نقله البهوتيّ عن الشّيخ ( ابن تيميّة ) . وصرّح به القرافيّ والطّرطوشيّ من المالكيّة ، قال الطّرطوشيّ : لأنّه من باب الاستقسام بالأزلام ، لأنّ المستقسم يطلب قسمه من الغيب ، وكذلك من أخذ الفأل من المصحف أو غيره إنّما يعتقد هذا المقصد إن خرج جيّداً اتّبعه ، أو رديّاً اجتنبه ، فهو عين الاستقسام بالأزلام الّذي ورد القرآن بتحريمه فيحرم .
الثّاني : أنّه مكروهٌ ، وهو ظاهر كلام الشّافعيّة .
الثّالث : الجواز ، ونقل فعله عن ابن بطّة من الحنابلة .(68/5)
استقاءةٌ *
التعريف :
1 - الاستقاءة : طلب القيء ، وهو استخراج ما في الجوف عمداً .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ . فإن ذرعه القيء أي : غلبه وسبقه فهو يختلف عن الاستقاءة الّتي بها طلبٌ واستدعاءٌ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستقاءة الواردة عند الفقهاء أكثر ما يكون ورودها في الصّيام ، لتأثيرها فيه .
ويرى جمهور الفقهاء أنّ الصّائم إذا استقاء متعمّداً أفطر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ذرعه القيء وهو صائمٌ فليس عليه قضاءٌ ، ومن استقاء فليقض » .
وعند الحنفيّة : إن استقاء عامداً ملء الفم أفطر ، لأنّ ما دون ملء الفم تبعٌ للرّيق .
مواطن البحث :
3 - يأتي الكلام عن الاستقاءة في الغالب في باب الصّوم ، عند الكلام عمّا يفسد الصّيام . كما ترد في نواقض الوضوء .(69/1)
استقبالٌ *
التعريف :
1 - الاستقبال في اللّغة : مصدر استقبل الشّيء إذا واجهه ، والسّين والتّاء فيه ليستا للطّلب ، فاستفعل هنا بمعنى فعل ، كاستمرّ واستقرّ ومثله المقابلة . ويقابله بهذا المعنى الاستدبار . ويرد الاستقبال في اللّغة أيضاً بمعنى : الاستئناف ، يقال اقتبل الأمر واستقبله : إذا استأنفه . وقد استعمله الفقهاء بهذين الإطلاقين فيقولون : استقبال القبلة أي مقابلتها ويقولون : استقبل حول الزّكاة أي : ابتدأه واستأنفه . وزاد الشّافعيّة إطلاقه على طلب القبول الّذي يقابل الإيجاب في العقود ، فقالوا : يصحّ البيع بالاستقبال ، ومثّلوا له بنحو : اشتر منّي ، فإنّه استقبالٌ قائمٌ مقام الإيجاب ، ومثل البيع الرّهن ، فيصحّ بنحو : ارتهن داري بكذا .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستئناف :
2 - الاستئناف : ابتداء الأمر ، وعليه فهو مرادفٌ للاستقبال في أحد إطلاقاته .
ب - المسامتة :
3 - المسامتة بمعنى : المقابلة والموازاة ، وهي مرادفةٌ للاستقبال عند الّذين فسّروا الاستقبال بمعنى التّوجّه إلى الشّيء بعينه بلا انحرافٍ يمنةً ولا يسرةً .
وأمّا الّذين لم يشترطوا في الاستقبال هذا الشّرط كالمالكيّة فإنّهم فرّقوا بينهما ، فخصّوا المسامتة باستقبال عين الشّيء تماماً بجميع البدن ، وجعلوا الاستقبال أعمّ من ذلك ، لصدقه بخروج شيءٍ من البدن عن محاذاة العين .
ج - المحاذاة :
4 - المحاذاة بمعنى : الموازاة . وما قيل في المسامتة يقال هنا أيضاً .
د - الالتفات :
5 - الالتفات صرف الوجه ذات اليمين أو الشّمال . وقد يراد به الانحراف بالوجه والصّدر أيضاً كما ورد في مسند الإمام أحمد : « فجعلت تلتفت خلفها » ومعلومٌ أنّ التّحوّل إلى خلفٍ لا يكون إلاّ بالوجه والصّدر .
6 - هذا والاستقبال عند الفقهاء قد يكون إلى القبلة ، وقد يكون إلى غير القبلة .
واستقبال القبلة قد يكون في الصّلاة ، وقد يكون في غيرها وسيأتي بيان هذه الأقسام واحداً بعد الآخر .
استقبال القبلة في الصّلاة :
7 - المراد بالقبلة موضع الكعبة ، لأنّه لو نقل بناؤها إلى موضعٍ آخر وصلّي إليه لم يجز . وسمّيت بذلك لأنّ النّاس يقابلونها في صلاتهم .
وما فوق الكعبة إلى السّماء يعدّ قبلةً ، وهكذا ما تحتها مهما نزل ، فلو صلّى في الجبال العالية والآبار العميقة جاز ما دام متوجّهاً إليها ، لأنّها لو زالت صحّت الصّلاة إلى موضعها ، ولأنّ المصلّي على الجبل يعدّ مصلّياً إليها .
استقبال الحجر :
8 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو استقبل المصلّي الحجر دون الكعبة لم يجزه ، لأنّ كونه من البيت مظنونٌ لا مقطوعٌ به ، وهو لا يكتفى به في القبلة احتياطاً ، وهذا هو الصّحيح عند الشّافعيّة . وذهب الحنابلة واللّخميّ من المالكيّة إلى جواز الصّلاة إلى الحجر ، لأنّه من البيت ، للحديث الصّحيح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « الحجر من البيت » .
وفي روايةٍ : « ستّ أذرعٍ من الحجر من البيت » ولأنّه لو طاف فيه لم يصحّ طوافه . وهو وجهٌ مشهورٌ عند الشّافعيّة ، وإن كان خلاف الأصحّ في مذهبهم ، وقدّره الحنابلة بستّ أذرعٍ وشيءٍ ، فمن استقبل عندهم ما زاد على ذلك لم تصحّ صلاته ألبتّة . على أنّ هذا التّقدير بالنّسبة لغير الطّواف ، أمّا بالنّسبة له فلا بدّ من خروجه عن جميعه احتياطاً .
حكم استقبال القبلة في الصّلاة :
9 - لا خلاف في أنّ من شروط صحّة الصّلاة استقبال القبلة ، لقوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } أي جهته .
ويستثنى من ذلك أحوالٌ لا يشترط فيها الاستقبال ، كصلاة الخوف ، والمصلوب ، والغريق ، ونفل السّفر المباح وغيرها ، ونصّوا على أنّ نيّة الاستقبال ليست بشرطٍ على الرّاجح ، انظر الكلام على النّيّة في الصّلاة .
ترك الاستقبال :
10 - ذكر الحنفيّة أنّ من مفسدات الصّلاة تحويل المصلّى صدره عن القبلة بغير عذرٍ اتّفاقاً ، وإن تعمّد الصّلاة إلى غير القبلة على سبيل الاستهزاء يكفر ، وهذا متّفقٌ مع القواعد العامّة للشّريعة . وفصّل الحنفيّة فيما إذا صلّى بلا تحرٍّ فظهر أنّه أصاب القبلة أثناء الصّلاة بطلت صلاته ، لبناء القويّ على الضّعيف ، فإن ظهر ذلك بعد الصّلاة صحّت صلاته ، لأنّ ما فرض لغيره - كالاستقبال المشروط لصحّة الصّلاة - يشترط حصوله لا تحصيله ، وقد حصل وليس فيه بناء القويّ على الضّعيف .
وقال المالكيّة : إن أدّاه اجتهاده لجهةٍ فخالفها وصلّى متعمّداً بطلت صلاته وإن صادف القبلة ، ويعيد أبداً . وأمّا لو صلّى لغيرها ناسياً وصادف القبلة فهل يجري فيه من الخلاف ما يجري في النّاسي إذا أخطأ ، أو يجزم بالصّحّة لأنّه صادف وهو الظّاهر ؟ .
وذكر الشّافعيّة أنّه لا يسقط استقبالها بجهلٍ ولا غفلةٍ ولا إكراهٍ ولا نسيانٍ ، فلو استدبر ناسياً لم يضرّ لو عاد عن قربٍ . ويسنّ عند ذلك أن يسجد للسّهو لأنّ تعمّد الاستدبار مبطلٌ . وهذا بخلاف ما لو أميل عنها قهراً فإنّها تبطل ، وإن قلّ الزّمن لندرة ذلك . ولو دخل في الصّلاة باجتهادٍ ثمّ ظهر الخطأ بطلت صلاته .(70/1)
وأطلق الحنابلة القول بأنّ من مبطلات الصّلاة استدبار القبلة حيث شرط استقبالها . كما نصّوا في باب شروط الصّلاة على أنّ هذه الشّروط لا تسقط عمداً أو سهواً أو جهلاً . هذا ، ولا بدّ من القول أنّ المالكيّة والحنابلة نصّوا على أنّ المصلّي إذا حوّل وجهه وصدره عن القبلة لم تفسد صلاته ، حيث بقيت رجلاه إلى القبلة . ونصّ المالكيّة على أنّه يكره له ذلك بلا ضرورةٍ ، وقالوا : إنّ هذه الكراهة في حقّ معاين الكعبة حيث لم يخرج شيءٌ من بدنه ، فإن خرج منه شيءٌ ولو أصبعاً من سمتها بطلت صلاته .
ما يتحقّق به استقبال القبلة في الصّلاة :
11 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يشترط في استقبال القبلة في الصّلاة أن يكون بالصّدر لا بالوجه ، خلافاً لما قد يتوهّم من ظاهر قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } لأنّ المراد بالوجه هنا الذّات ، والمراد من الذّات بعضها وهو الصّدر فهو مجازٌ مبنيٌّ على مجازٍ . ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يشترط الاستقبال بالقدمين .
أمّا الاستقبال بالوجه فهو سنّةٌ ، وتركه مكروهٌ عند الأئمّة الأربعة . وهذا في حقّ القائم والقاعد . أمّا الّذي يصلّي مستلقياً أو مضطجعاً لعجزه فيجب عليهما الاستقبال بالوجه ، على تفصيلٍ يذكر في صلاة المريض . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط في الاستقبال التّوجّه بالصّدر أيضاً ، وإنّما الّذي لا بدّ منه فهو التّوجّه بالرّجلين . على أنّ الفقهاء تعرّضوا لأعضاءٍ أخرى يستقبل بها المصلّي القبلة في مناسباتٍ كثيرةٍ في كتاب الصّلاة ، نكتفي بالإشارة إلى بعضها دون تفصيلٍ لكونها بتلك المواطن ألصق ، ولسياق الفقهاء أنسب من جهةٍ ، وتفادياً للتّكرار من جهةٍ أخرى . ومن ذلك : استحباب الاستقبال ببطون أصابع اليدين في تكبيرة الإحرام وباليدين وبأصابع الرّجلين في السّجود ، وبأصابع يسراه في التّشهّد . وذلك حين الكلام على " صفة الصّلاة " . فمن أرادها بالتّفصيل فليرجع إلى مواطنها هناك .
استقبال المكّيّ للقبلة :
استقبال المكّيّ المعاين :
12 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ من كان يعاين الكعبة فعليه إصابة عينها في الصّلاة ، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقيناً ، ولا يكفي الاجتهاد ولا استقبال جهتها ، لأنّ القدرة على اليقين والعين تمنع من الاجتهاد والجهة المعرّضين للخطأ . وأيضاً فإنّ من انحرف عن مقابلة شيءٍ فهو ليس متوجّهاً نحوه . وذكر المالكيّة والشّافعيّة وابن عقيلٍ من الحنابلة - وأقرّوه - أنّ المصلّي في مكّة وما في حكمها ممّن تمكنه المسامتة لو استقبل طرفاً من الكعبة ببعض بدنه وخرج باقيه - لو عضواً واحداً - عن استقبالها لم تصحّ صلاته . وفي قولٍ عند الشّافعيّة والحنابلة يكفي التّوجّه ببعض بدنه .
صلاة الجماعة قرب الكعبة :
13 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو ما يستفاد من كلام الحنابلة - أنّه إن امتدّ صفٌّ طويلٌ بقرب الكعبة وخرج بعضهم عن المحاذاة بطلت صلاته ، لعدم استقبالهم لها ، بخلاف البعد عنها ، فيصلّون في حالة القرب دائرةً أو قوساً إن قصروا عن الدّائرة ، لأنّ الصّلاة بمكّة تؤدّى هكذا من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا .
استقبال المكّيّ غير المعاين :
14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من بينه وبين الكعبة حائلٌ فهو كالغائب على الأصحّ ، فيكفيه استقبال الجهة ، وسيأتي تفصيل مذهبهم في إصابة الجهة في " استقبال البعيد عن مكّة " . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أن من لم يصلّ بالمسجد من أهل مكّة ومن ألحق بهم عليه إصابة العين ، وهو قولٌ ضعيفٌ عند الحنفيّة . وتفصيل مذهب الحنابلة أنّهم أوجبوا إصابة العين يقيناً على من كان من أهل مكّة أو ناشئاً بها من وراء حائلٍ محدثٍ كالحيطان .
وأمّا من لم يكن من أهلها وهو غائبٌ عن الكعبة ففرضه الخبر ، كما إذا وجد مخبراً يخبره عن يقينٍ ، أو كان غريباً نزل بمكّة فأخبره أهل الدّار بها .
وعند الشّافعيّة يجب على من نشأ بمكّة وهو غائبٌ عن الكعبة إصابة العين إن تيقّن إصابتها ، وإلاّ جاز له الاجتهاد لما في تكليفه المعاينة من المشقّة إذا لم يجد ثقةً يخبره عن علمٍ .
الاستقبال عند صلاة الفريضة في الكعبة :(70/2)
15 -ذهب جمهور العلماء إلى صحّة صلاة الفريضة داخل الكعبة . منهم الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والثّوريّ ، لحديث بلالٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في الكعبة » . قال الحنفيّة : ولأنّ الواجب استقبال جزءٍ منها غير معيّنٍ ، وإنّما يتعيّن الجزء قبلةً بالشّروع في الصّلاة والتّوجّه إليه . ومتى صار قبلةً فاستدبار غيره لا يكون مفسداً . وعلى هذا ينبغي أنّه لو صلّى ركعةً إلى جهةٍ أخرى لم يصحّ ، لأنّه صار مستدبراً الجهة الّتي صارت قبلةً في حقّه بيقينٍ بلا ضرورةٍ . ومذهب المالكيّة والحنابلة لا تصلّى الفريضة والوتر في الكعبة ، لأنّها من المواطن السّبع الّتي نهى عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريباً ، ولما في ذلك من الإخلال بالتّعظيم ، ولقوله تعالى : { وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } قالوا : والشّطر : الجهة . ومن صلّى فيها أو على سطحها فهو غير مستقبلٍ لجهتها ، ولأنّه قد يكون مستدبراً من الكعبة ما لو استقبله منها وهو في خارجها صحّت صلاته ، ولأنّ النّهي عن الصّلاة على ظهرها قد ورد صريحاً في حديث عبد اللّه بن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « سبع مواطن لا تجوز فيها الصّلاة : ظهر بيت اللّه والمقبرة » ... إلخ ، وفيه تنبيهٌ على النّهي عن الصّلاة فيها لأنّها سواءٌ في المعنى . وتوجّه المصلّي في داخلها إلى الجدار لا أثر له ، إذ المقصود البقعة ، بدليل أنّه يصلّي للبقعة حيث لا جدار .
وإنّما جاز على أبي قبيسٍ مع أنّه أعلى من بنائها لأنّ المصلّي عليه مصلٍّ لها ، وأمّا المصلّي على ظهرها فهو فيها . وهناك قولٌ للمالكيّة بجواز الصّلاة في الكعبة مع الكراهة .
الاستقبال عند صلاة الفريضة فوق الكعبة :
16 - وأمّا صلاة الفريضة على ظهر الكعبة فقد أجازها الحنفيّة والشّافعيّة ، لكن مع الكراهة عندهم . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم جواز الفرض والوتر عليها لما تقدّم في المسألة السّابقة .
صلاة النّافلة في الكعبة وعليها :
17 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى جواز صلاة النّفل المطلق داخل الكعبة ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى فيها »، وللأدلّة السّابقة على صحّة صلاة الفريضة ، وأمّا السّنن الرّواتب فذهب جمهور الفقهاء إلى جوازها في الكعبة كذلك . وللمالكيّة ثلاثة أقوالٍ : الحرمة بأدلّتهم على منع الفريضة ، والجواز قياساً على النّفل المطلق ، والثّالث الكراهة وهو الرّاجح . وذهب أصبغ من المالكيّة ومحمّد بن جريرٍ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فيما حكي عنه إلى أنّه لا تصحّ صلاة النّافلة فيها . أمّا صلاة النّافلة على ظهرها فتجوز عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وفي قولٍ للمالكيّة بناءً على أنّه يكفي استقبال الهواء أو استقبال قطعةٍ من البناء ولو من حائط السّطح .
هذا ، وقد نصّ الشّافعيّة على جوازها مع الكراهة لبعده عن الأدب كما تقدّم في الفريضة . هذا ، وما ورد في شأن الصّلاة في الكعبة يرد في الحجر ( الحطيم ) لأنّه جزءٌ من الكعبة .
18 - وذهب الحنفيّة والمالكيّة ، إلى أنّ الصّلاة الّتي تجوز في الكعبة ، تصحّ لأيّ جهةٍ ولو لجهة بابها مفتوحاً ، ولو لم يستقبل شيئاً في هذه الحال ، لأنّ القبلة هي العرصة والهواء إلى عنان السّماء ، وليست هي البناء ، بدليل أنّه لو نقل إلى عرصةٍ أخرى وصلّى إليه لم يجز ، ولأنّه لو صلّى على جبل أبي قبيسٍ جازت بالإجماع ، مع أنّه لم يصلّ إلى البناء . وشرط الشّافعيّة لجواز الصّلاة في الكعبة وعليها أن يستقبل جداراً منها أيّاً كان ، أو يستقبل الباب إن كان مفتوحاً وكان له عتبةٌ قدر ثلثي ذراعٍ بذراع الآدميّ تقريباً على الصّحيح المشهور ، لأنّ هذا المقدار هو سترة المصلّي فاعتبر فيه قدرها . واختار أكثر الحنابلة أن يشترط أن يكون بين يديه شيءٌ منها شاخصٌ يتّصل بها ، كالبناء والباب ولو مفتوحاً ، فلا اعتبار بالآجرّ غير المبنيّ ، ولا الخشب غير المسمور ، لأنّه غير متّصلٍ ، لكنّهم لم يقدّروا ارتفاع الشّاخص . وفي روايةٍ عن أحمد أنّه يكفي أن يكون بين يديه شيءٌ من الكعبة إذا سجد ، وإن لم يكن شاخصٌ ، اختارها الموفّق في المغني وغيره وهي المذهب .
استقبال البعيد عن مكّة :
19 - مذهب الحنفيّة ، وهو الأظهر عند المالكيّة ، والحنابلة ، وهو قولٌ للشّافعيّ : أنّه يكفي المصلّي البعيد عن مكّة استقبال جهة الكعبة باجتهادٍ ، وليس عليه إصابة العين ، فيكفي غلبة ظنّه أنّ القبلة في الجهة الّتي أمامه ، ولو لم يقدّر أنّه مسامتٌ ومقابلٌ لها . وفسّر الحنفيّة جهة الكعبة بأنّها الجانب الّذي إذا توجّه إليه الإنسان يكون مسامتاً للكعبة ، أو هوائها تحقيقاً أو تقريباً . واستدلّوا بالآية الكريمة : { وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } وقالوا : شطر البيت نحوه وقبله ، كما استدلّوا بحديث : « ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ » وهذا كلّه في غير المدينة المنوّرة ، وما في حكمها من الأماكن المقطوع بقبلتها ، على ما سيأتي في استقبال المحاريب إن شاء اللّه . والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو قولٌ لابن القصّار عند المالكيّة ، وروايةٌ عن أحمد اختارها أبو الخطّاب من الحنابلة : أنّه تلزم إصابة العين . واستدلّوا بقوله تعالى : { وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } أي جهته ، والمراد بالجهة هنا العين ؛ وكذا المراد بالقبلة هنا العين أيضاً ، لحديث الصّحيحين : « أنّه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل الكعبة ، وقال : هذه القبلة » فالحصر هنا يدفع حمل الآية على الجهة . وإطلاق الجهة على العين حقيقةٌ لغويّةٌ وهو المراد هنا .(70/3)
استقبال أهل المدينة وما في حكمها :
20 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ ، وهو قولٌ للحنابلة إلى أنّ الواجب على أهل المدينة - كغيرها - الاجتهاد لإصابة جهة الكعبة ، وهو جارٍ مع الأصل في أمر القبلة .
وقال الحنفيّة في الرّاجح ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو قولٌ للحنابلة ( وأرادوا بالمدنيّ من في مسجده صلى الله عليه وسلم أو قريباً منه ) : يجب على المصلّي في المدينة إصابة عين القبلة« لثبوت محراب مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي »، فهو كما لو كان مشاهداً للبيت ، بل أورد القاضي عياضٌ في الشّفاء أنّه رفعت له الكعبة حين بنى مسجده صلى الله عليه وسلم .
استقبال محاريب الصّحابة والتّابعين :
21 - ذهب الجمهور إلى أنّ محاريب الصّحابة ، كجامع دمشق ، وجامع عمرٍو بالفسطاط ، ومسجد الكوفة والقيروان والبصرة ، لا يجوز الاجتهاد معها في إثبات الجهة ، لكن لا يمنع ذلك من الانحراف اليسير يمنةً أو يسرةً ، ولا تلحق بمحاريب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز فيها أدنى انحرافٍ . وكذلك محاريب المسلمين ، ومحاريب جادّتهم أي معظم طريقهم وقراهم القديمة الّتي أنشأتها قرونٌ من المسلمين ، أي جماعاتٌ منهم صلّوا إلى هذا المحراب ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه طعن فيها ، لأنّها لم تنصب إلاّ بحضرة جمعٍ من أهل المعرفة بالأدلّة ، فجرى ذلك مجرى الخبر . لكن قال الحنابلة : إن فرض من كان فيها إصابة العين ببدنه بالتّوجّه إلى قبلته ، معلّلين ذلك باتّفاق الصّحابة عليه .
الإخبار عن القبلة :
22 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا لم يكن ثمّة محاريب منصوبةً في الحضر ، فيسأل من يعلم بالقبلة ممّن تقبل شهادته من أهل ذلك المكان ممّن يكون بحضرته .
أمّا غير مقبول الشّهادة ، كالكافر والفاسق والصّبيّ فلا يعتدّ بإخباره فيما هو من أمور الدّيانات ما لم يغلب على الظّنّ صدقه . وأمّا إذا لم يكن من أهل ذلك المكان فلأنّه يخبر عن اجتهادٍ ، فلا يترك اجتهاده باجتهاد غيره .
وأمّا إذا لم يكن بحضرته من أهل المسجد أحدٌ فإنّه يتحرّى ولا يجب عليه قرع الأبواب .
وأمّا في المفازة فالدّليل عليها النّجوم كالقطب ، وإلاّ فمن أهلها العالم بها ممّن لو صاح به سمعه ، والاستدلال بالنّجوم في المفازة مقدّمٌ على السّؤال ، والسّؤال مقدّمٌ على التّحرّي .
اختلاف المخبرين :
23 - صرّح الشّافعيّة عند اختلاف اثنين في الإخبار عن القبلة : أنّه يتخيّر فيأخذ بقول أحدهما ، وقيل : يتساقطان ويجتهد لنفسه ، ولا يأخذ بقول أحدهما إلاّ عند العجز عن الاجتهاد ، وفي هذه الحالة اضطرّ للأخذ بقول أحدهما ، أمّا في غير هذه الحالة فالمخبران اختلفا في علامةٍ واحدةٍ لعارضٍ فيها وهو موجبٌ للتّساقط .
وما صرّحوا به لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى .
أدلّة القبلة :
24 - سبق ما يتّصل بالاستدلال على القبلة بالمحاريب ، فإن لم توجد فهناك علاماتٌ يمكن الاعتماد عليها عند أهل الخبرة بها ، منها :
أ - النّجوم :
وأهمّها القطب ، لأنّه نجمٌ ثابتٌ ويمكن به معرفة الجهات الأربع ، وبذلك يمكن معرفة القبلة ولو على سبيل التّقريب . وتختلف قبلة البلاد بالنّسبة إليه اختلافاً كبيراً .
ب - الشّمس والقمر :
يمكن التّعرّف بمنازل الشّمس والقمر على الجهات الأربع ، وذلك في أيّام الاعتدالين ( الرّبيعيّ والخريفيّ ) بالنّسبة للشّمس ، واستكمال البدر فيه بالنّسبة للقمر . وفي غير الاعتدالين ينظر إلى اتّجاه تلك المنازل ، وهو معروفٌ لأهل الخبرة فيرجع إليهم فيه ، وفي كتب الفقه تفاصيل عن ذلك . ويتّبع ذلك الاستدلال بمطالع الشّمس والقمر ومغاربهما .
ج - الإبرة المغناطيسيّة :
من الاستقراء المفيد لليقين تبيّن أنّها تحدّد جهة الشّمال تقريباً ، وبذلك تعرف الجهات الأربع وتحدّد القبلة .
ترتيب أدلّة القبلة :
25 - ذكر الحنفيّة أنّ الدّليل على القبلة في المفاوز والبحار النّجوم كالقطب ، فإن لم يمكن لوجود غيمٍ أو لعدم معرفته بها فعليه أن يسأل عالماً بها ، فإن لم يكن من يسأله أو لم يخبره المسئول عنها فيتحرّى . وذكر الشّافعيّة أنّه لو تعارضت الأدلّة على القبلة فينبغي تقديم خبر جمعٍ بلغ عددهم حدّ التّواتر ، لإفادته اليقين ، ثمّ الإخبار عن علمٍ برؤية الكعبة ، ثمّ رؤية المحاريب المعتمدة ، ثمّ رؤية القطب .
وأمّا بيت الإبرة فقد صرّح الشّافعيّة بأنّ المجتهد مخيّرٌ بينها وبين الاجتهاد . وأمّا الحنابلة فإنّهم قالوا : إنّ خبر المخبر عن يقينٍ مقدّمٌ على الاجتهاد .
تعلّم أدلّة القبلة :
26 - تعلّم العلامات الّتي تعرف بها القبلة مطلوبٌ شرعاً ، وقد صرّح الشّافعيّة في الأصحّ عندهم بأنّ هذا واجبٌ على سبيل الكفاية . وقد يصبح تعلّم هذه العلامات واجباً عينيّاً ، كمن سافر سفراً يجهل معه اتّجاه القبلة ، ويقلّ فيها العارفون بها ، وكانت عنده قدرةٌ على تعلّم هذه العلامات ، وكلّ ذلك تحقيقاً لإصابة القبلة . وهل يجوز تعلّمها من كافرٍ ؟ قواعد الشّريعة لا تمنع ذلك . لأنّه لا يعتمد عليه في اتّجاه القبلة ، وإنّما في معرفة العلامات الّتي لا يختلف فيها الكافر عن المسلم ، وذلك كتعلّم سائر العلوم .
الاجتهاد في القبلة :
27 - اتّفقت المذاهب الأربعة على وجوب الاجتهاد في القبلة في الجملة .(70/4)
قال الشّافعيّة والحنابلة : إن فقد المصلّي ما ذكر من الرّؤية والمحاريب والمخبر وأمكنه الاجتهاد ، بأن كان بصيراً يعرف أدلّة القبلة وجب عليه الاجتهاد وإن كان جاهلاً بأحكام الشّرع ، إذ كلّ من علم أدلّة شيءٍ كان مجتهداً فيه ، ولأنّ ما وجب عليه اتّباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه ، وذكروا أيضاً أنّ من وجب عليه الاجتهاد حرم عليه التّقليد ، لأنّه يتمكّن من استقبالها بدليله . وقالوا : أنّه إذا ضاق عليه الوقت عن الاجتهاد صلّى حسب حاله ولا يقلّد ، كالحاكم لا يسعه تقليد غيره ، ولكنّه يعيد الصّلاة .
وصرّح ابن قدامة بأنّ شرط الاجتهاد لا يسقط بضيق الوقت مع إمكانه .
الشّكّ في الاجتهاد وتغيّره :
28 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تغيّر اجتهاد المجتهد عمل بالاجتهاد الثّاني حتماً ، إن ترجّح على الأوّل ، وعمل بالأوّل إن ترجّح على الثّاني . وقال الحنابلة : وإن شكّ في اجتهاده لم يزل عن جهته ، لأنّ الاجتهاد ظاهرٌ فلا يزول عنه بالشّكّ . ولا يعيد ما صلّى بالاجتهاد الأوّل ، كالحاكم لو تغيّر اجتهاده في الحادثة الثّانية عمل فيها بالاجتهاد الثّاني ، ولم ينقض حكمه الأوّل بغير خلافٍ ، لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المصلّي بالاجتهاد في القبلة إذا تحوّل رأيه استدار وبنى على ما مضى من صلاته . ولا فرق بين تغيّر اجتهاده في أثناء الصّلاة وبعدها ، فإن كان فيها استدار وبنى على ما مضى من صلاته ، حتّى إنّه لو صلّى أربع ركعاتٍ لأربع جهاتٍ بالاجتهاد جاز ، لأنّه مجتهدٌ أدّاه اجتهاده إلى جهةٍ ، فلم تجز له الصّلاة إلى غيرها ، كما لو أراد صلاةً أخرى ، وليس فيه نقضٌ لاجتهاده ، لأنّا لم نلزمه إعادة ما مضى ، وإنّما نلزمه العمل به في المستقبل .
أمّا عند المالكيّة فإن تبيّن لمن صلّى بالاجتهاد خطأ اجتهاده في الصّلاة يقيناً أو ظنّاً وهو في الصّلاة قطعها وجوباً . أمّا بعد إتمام الصّلاة فإنّه يعيدها ندباً لا وجوباً . قياساً على القاضي إذا تبيّن له خطأ الدّليل قبل بتّ الحكم ، فإنّه لا يجوز له الحكم باجتهاده الأوّل ، وإن حكم به نقض . أمّا إن شكّ وهو في الصّلاة فإنّه يتمّ صلاته على اجتهاده الأوّل .
الاختلاف في الاجتهاد في القبلة :
29 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه إذا اختلف اجتهاد مجتهدين لم يتّبع أحدهما صاحبه ولا يؤمّه ، لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز الائتمام . وعند ابن قدامة أنّ قياس المذهب جواز ذلك . وهو مذهب أبي ثورٍ ، ذلك أنّ كلّ واحدٍ منهما يعتقد صحّة صلاة الآخر ، وأنّ فرضه التّوجّه إلى ما توجّه إليه ، فلم يمنع اختلاف الجهة الاقتداء به ، كالمصلّين حول الكعبة . ولو اتّفقا في الجهة واختلفا في الانحراف يميناً أو شمالاً فالمذهب صحّة الائتمام بلا خلافٍ لاتّفاقهما في الجهة ، وهي كافيةٌ في الاستقبال . وقال الشّافعيّة : لو اجتهد اثنان في القبلة ، واتّفق اجتهادهما ، فاقتدى أحدهما بالآخر ، ثمّ تغيّر اجتهاد واحدٍ منهما لزمه الانحراف إلى الجهة الثّانية ، وينوي المأموم المفارقة وإن اختلفا تيامناً وتياسراً ، وذلك عذرٌ في المفارقة فلا تفوته فضيلة الجماعة ، ومحلّ ذلك حيث علم المأموم بانحراف إمامه ، فإن لم يعلم به إلاّ بعد السّلام فالأقرب وجوب الإعادة .
وقال الحنفيّة : لو سلّم الإمام فتحوّل رأي مسبوقٍ ولاحقٍ استدار المسبوق ، لأنّه منفردٌ فيما يقضيه ، واستأنف اللاّحق ، لأنّه مقتدٍ فيما يقضيه .
والمقتدي إذا ظهر له وراء الإمام أنّ القبلة غير الجهة الّتي يصلّي إليها الإمام لا يمكنه إصلاح صلاته ، لأنّه إن استدار خالف إمامه في الجهة قصداً وهو مفسدٌ ، وإلاّ كان متمّاً صلاته إلى ما هو غير القبلة عنده وهو مفسدٌ أيضاً .
خفاء القبلة على المجتهد :
30 - خفاء القبلة على المجتهد إمّا أن يكون قبل الصّلاة أو في أثنائها ، وإمّا أن يكون قبل التّحرّي أو بعده ، وسنتناول بالبحث كلاًّ على حدةٍ .
خفاء القبلة قبل الصّلاة والتّحرّي :
31 - ذكر الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة أنّ من عجز عن معرفة القبلة بالاستدلال ، وخفيت عليه الأدلّة لفقدها أو لغيمٍ أو حبسٍ أو التباسٍ مع ظهورها ، حيث تعارضت عنده الأمارات ، فإنّه يتحرّى ويصلّي ، وتصحّ صلاته عندئذٍ ، لأنّه بذل وسعه في معرفة الحقّ مع علمه بأدلّته ، أشبه الحاكم إذا خفيت عليه النّصوص ، وقد روى عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : « كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلةٍ مظلمةٍ ، فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجلٍ منّا حياله ، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل : { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } » وعرّف الحنفيّة التّحرّي بأنّه بذل الجهود لنيل المقصود . وأفاد ابن عابدين بأنّ قبلة التّحرّي مبنيّةٌ على مجرّد شهادة القلب من غير أمارةٍ ، وعبّر المالكيّة بأنّه يتخيّر جهةً من الجهات الأربع يصلّي إليها صلاةً واحدةً ، ولا إعادة لسقوط الطّلب عنه ، وهذا ما رجّحه ابن عابدين من الحنفيّة على قول بعضهم بتكرار الصّلاة إلى الجهات الأربع في حالة التّحرّي وعدم الرّكون إلى جهةٍ .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يصلّي كيف كان لحرمة الوقت ، ويقضي لندرته .
ترك التّحرّي :(70/5)
32 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ العاجز عن معرفة القبلة بالأدلّة لا يجوز أن يشرع في الصّلاة دون أن يتحرّى وإن أصاب ، لتركه فرض التّحرّي ، إلاّ أنّه لا يعيد إن علم إصابته بعد فراغه اتّفاقاً عند الحنفيّة ، بخلافٍ إذا علم الإصابة قبل التّمام ، فإنّ صلاته تبطل لأنّه بني قويّاً على ضعيفٍ خلافاً لأبي يوسف . وعند المالكيّة أنّ المجتهد الّذي تخفى عليه أدلّة القبلة يتخيّر جهةً من الجهات الأربع ، ويصلّي إليها ويسقط عنه الطّلب لعجزه ،
وقال الشّافعيّة والحنابلة : يعيد من صلّى بلا تحرٍّ أو تعذّر عليه التّحرّي ، سواءٌ ظهر له الصّواب أثناء الصّلاة أو بعدها .
ظهور الصّواب للمتحرّي :
33 - ذكر الحنفيّة أنّ المتحرّي إن ظهر صوابه في أثناء الصّلاة فالصّحيح أنّها لا تفسد ، وعند بقيّة المذاهب لا خلاف في صحّتها . وعبارة البحر الرّائق : والصّحيح كما في المبسوط والخانيّة أنّه لا يلزمه استئناف الصّلاة ، لأنّ صلاته كانت جائزةً ما لم يظهر الخطأ ،
فإذا تبيّن أنّه أصاب لا يتغيّر حاله . وقيل : تفسد ، لأنّ افتتاح الصّلاة كان ضعيفاً ، وقد قوي حاله بظهور الصّواب ، ولا يبنى القويّ على الضّعيف .
التّقليد في القبلة :
34 - ذكر الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة أنّه لا يقلّد المجتهد مجتهداً غيره ، لأنّ القدرة على الاجتهاد تمنع من التّقليد .
ومن علم أدلّة القبلة لا يجوز له أن يقلّد غيره مطلقاً ، وأمّا غير المجتهد فعليه أن يقلّد المجتهد ، لقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون } . وإذا كان هناك أكثر من مجتهدٍ فالمقلّد له أن يختار أحدهم ، والأولى أن يختار من يثق به أكثر من غيره .
ترك التّقليد :
35 - ليس لمن فرضه التّقليد ووجد من يقلّده أن يستقبل بمجرّد ميل نفسه إلى جهة ، فقد ذكر الحنفيّة ، والمالكيّة : أنّه إن ترك التّقليد واختار له جهةً تركن لها نفسه وصلّى لها كانت صلاته صحيحةً إن لم يتبيّن خطؤه ، وزاد المالكيّة : فإن تبيّن الخطأ في الصّلاة قطعها حيث كان كثيراً ، وإن تبيّن بعدها فقولان بالإعادة أبداً أو في الوقت ، كما سيأتي في " تبيّن الخطأ في الصّلاة " . وذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه تلزمه الإعادة مطلقاً وإن صادف القبلة .
استقبال الأعمى ومن في ظلمةٍ للقبلة :
36 - ذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّ الأعمى عليه أن يسأل عن القبلة ، لأنّ معظم الأدلّة تتعلّق بالمشاهدة . قال الحنفيّة : فإن لم يجد من يسأله عنها تحرّى ، وكذا لو سأله عنها فلم يخبره ، حتّى إنّه لو أخبره بعدما صلّى لا يعيد . ولو لم يسأله وتحرّى : إن أصاب جاز وإلاّ لا . ولو شرع في الصّلاة إلى غير القبلة فسوّاه رجلٌ إليها ، فإن كان وجد الأعمى وقت الشّروع من يسأله عنها فلم يسأله لم تجز صلاته ، وإلاّ بنى على ما مضى منها ، ولا يجوز لهذا الرّجل الاقتداء به . وذكر المالكيّة أنّه لا يجوز له تقليد المجتهد بل عليه أن يسأل عن الأدلّة عدلاً في الرّواية ليهتدي بها إلى القبلة .
تبيّن الخطأ في القبلة :
37 - أطلق الحنفيّة القول بأنّ المصلّي الّذي لم يشكّ في القبلة ولم يتحرّ إذا ظهر له خطؤه في القبلة وهو في الصّلاة فسدت صلاته ، بخلاف من خفيت عليه القبلة فشكّ فيها وتحرّى ، ثمّ ظهر له خطؤه وهو في الصّلاة استدار إلى الجهة الّتي انتهى إليها تحرّيه ، أمّا إذا ظهر له خطؤه بعد انتهاء الصّلاة فإنّ صلاته صحيحةٌ .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الإعادة على المجتهد والمقلّد إذا كانت علامات القبلة ظاهرةً ثمّ تبيّن الخطأ فيها ، لأنّه لا عذر لأحدٍ في الجهل بالأدلّة الظّاهرة . أمّا دقائق علم الهيئة وصور النّجوم الثّوابت فهو معذورٌ في الجهل بها فلا إعادة عليه . ولم يفرّق الحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأظهر عندهم بين ما إذا كانت الأدلّة ظاهرةً فاشتبهت عليه أو خفيت ، وبين ما إذا كانت أدلّةٌ خفيّةٌ ، لأنّه أتى بما أمر في الحالين وعجز عن استقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الإعادة .
أمّا في القول الأظهر للشّافعيّة فتلزمه الإعادة لأنّه أخطأ في شرطٍ من شروط الصّلاة .
العجز عن استقبال القبلة في الصّلاة :
38 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ من به عذرٌ حسّيٌّ يمنعه من الاستقبال كالمريض ، والمربوط يصلّي على حسب حاله ، ولو إلى غير القبلة ، لأنّ الاستقبال شرطٌ لصحّة الصّلاة وقد عجز عنه فأشبه القيام . واشترط الشّافعيّة ، والصّاحبان من الحنفيّة لسقوط القبلة عنه أن يعجز أيضاً عمّن يوجّهه ولو بأجر المثل ، كما استظهره . الشّيخ إسماعيل النّابلسيّ وابن عابدين . وبالنّسبة لإعادة الصّلاة فإنّ في ذلك خلافاً تفصيله في مباحث الصّلاة . وأمّا أبو حنيفة فذهب إلى أنّه لا يشترط ذلك ، لأنّ القادر بقدرة غيره عاجزٌ .
وبقولهما جزم في المنية والمنح والدّرّ والفتح بلا حكاية خلافٍ . ولو وجد أجيراً بأجرة مثله فينبغي أن يلزمه استئجاره إذا كانت الأجرة دون نصف درهمٍ ، والظّاهر أنّ المراد به أجرة المثل كما فسّروه في التّيمّم .(70/6)
أمّا من به عذرٌ شرعيٌّ يمنعه من الاستقبال فقد تعرّض الفقهاء للصّور الآتية منه وهي : الخوف على النّفس ، وذكره الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وذلك كالخوف من سبعٍ وعدوٍّ ، فله حينئذٍ أن يتوجّه إلى جهةٍ قدر عليها ، ومثله الهارب من العدوّ راكباً يصلّي على دابّته . وذكر الحنفيّة من صور العذر : الخوف من الانقطاع عن رفقته ، لما في ذلك من الضّرر . وذكر الشّافعيّة من ذلك : الاستيحاش وإن لم يتضرّر بانقطاعه عن رفقته . وذكر الحنفيّة والمالكيّة من الأعذار : الخوف من أن تتلوّث ثيابه بالطّين ونحوه لو نزل عن دابّته . واشترط الحنفيّة عجزه عن النّزول ، فإن قدر عليه نزل وصلّى واقفاً بالإيماء ، وإن قدر على القعود دون السّجود أومأ قاعداً . وعدّ الحنفيّة والشّافعيّة من الأعذار : ما لو خاف على ماله - ملكاً أو أمانةً - لو نزل عن دابّته . وذكر الحنفيّة والشّافعيّة من الأعذار : العجز عن الرّكوب فيمن احتاج في ركوبه بعد نزوله للصّلاة إلى معينٍ ولا يجده ، كأن كانت الدّابّة جموحاً ، أو كان هو ضعيفاً فله ألاّ ينزل . ومن الأعذار : الخوف وقت التحام القتال ، فقد اتّفقت المذاهب الأربعة على أن يسقط شرط الاستقبال في حال المسايفة وقت التحام الصّفوف في شدّة الخوف إذا عجز المصلّي عنه . ولمعرفة ماهيّة هذا القتال ، وما يلحق به ، ووقت صلاته ، وإعادتها حين الأمن ، وبقيّة أحكامها ( ر : صلاة الخوف ) .
استقبال المتنفّل على الرّاحلة في السّفر :
39 - اتّفق الفقهاء على جواز التّنفّل على الرّاحلة في السّفر لجهة سفره ولو لغير القبلة ولو بلا عذرٍ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم : « كان يصلّي على راحلته في السّفر حيثما توجّهت به » وفسّر قوله تعالى : { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } بالتّوجّه في نفل السّفر . وفي الشّروط المجوّزة لذلك خلافٌ فصّله الفقهاء في مبحث صلاة المسافر ، والصّلاة على الرّاحلة .
استقبال المتنفّل ماشياً في السّفر :
40 - مذهب أبي حنيفة ، ومالكٍ ، وإحدى الرّوايتين عن أحمد ، وهو كلام الخرقيّ من الحنابلة : أنّه لا يباح للمسافر الماشي الصّلاة في حال مشيه ، لأنّ النّصّ إنّما ورد في الرّاكب ، فلا يصحّ قياس الماشي عليه ، لأنّه يحتاج إلى عملٍ كثيرٍ ، ومشيٌ متتابعٌ ينافي الصّلاة فلم يصحّ الإلحاق . ومذهب عطاءٍ ، والشّافعيّ ، وهو ثانية الرّوايتين عن أحمد اختارها القاضي من الحنابلة : أنّ له أن يصلّي ماشياً قياساً على الرّاكب ، لأنّ المشي إحدى حالتي سير المسافر ، ولأنّهما استويا في صلاة الخوف فكذا في النّافلة .
والمعنى فيه أنّ النّاس محتاجون إلى الأسفار ، فلو شرطا فيها الاستقبال للتّنفّل لأدّى إلى ترك أورادهم أو مصالح معايشهم . ومذهب الحنابلة ، والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ عليه أن يستقبل القبلة لافتتاح الصّلاة ، ثمّ ينحرف إلى جهة سيره ، قال الشّافعيّة : ولا يلزمه الاستقبال في السّلام على القولين .
استقبال المفترض على السّفينة ونحوها :
41 - اتّفقت المذاهب الأربعة على وجوب استقبال المفترض على السّفينة في جميع أجزاء صلاته ، وذلك لتيسّر الاستقبال عليه . ونصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يدور معها إذا دارت . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( الصّلاة في السّفينة ) .
استقبال القبلة في غير الصّلاة :
42 - قرّر الفقهاء أنّ جهة القبلة هي أشرف الجهات ، ولذا يستحبّ المحافظة عليها حين الجلوس ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ سيّد المجالس ما استقبل القبلة » . قال صاحب الفروع : ويتّجه في كلّ طاعةٍ إلاّ لدليلٍ . وقد يكون المراد من التّوجّه إليها تغليط الأمر وإلقاء الرّهبة في قلب من طلب منه التّوجّه إليها ، كما في تغليظ القاضي اليمين على حالفها بذلك ( ر : إثباتٌ ف 26 ) . على أنّه قد يعرض للإنسان أحوالٌ ترفع هذا الاستحباب ، بل قد يكون استقبالها حراماً أو مكروهاً ( ر : قضاء الحاجة . استنجاءٌ ) .
والجمهور على أنّ زائر قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستدبر القبلة ويستقبل القبر الشّريف .
استقبال غير القبلة في الصّلاة :
43 - الأصل في استقبال المصلّي للأشياء الإباحة ، ما دام متوجّهاً إلى جهة القبلة ، لكن هناك أشياء معيّنةٌ نهي المصلّي عن أن يجعلها أمامه لاعتباراتٍ خاصّةٍ فيها ، كأن يكون في وجودها أمامه تشبّهٌ بالمشركين ، كما في الصّنم والنّار والقبر ، أو لكونها قذرةً أو نجسةً يصان وجه المصلّي ونظره عنها ، كما في الصّلاة إلى الحشّ والمجزرة ، أو قد يكون أمامه ما يشوّش عليه فكره كما في الصّلاة إلى الطّريق . وقد تناولها الفقهاء بالبحث في الكلام على مكروهات الصّلاة . وقد يكون ذلك الشّيء الّذي أمام المصلّي أمراً مرغوباً فيه ، لكونه علامةً على موضع سجوده لمنع المارّين من المرور فيما بينه وبينه ، كما في الصّلاة إلى السّترة . وقد بحثها الفقهاء ضمن سنن الصّلاة .
استقبال غير القبلة في غير الصّلاة :
44 - الأصل في توجّه الإنسان إلى الأشياء في غير الصّلاة الإباحة أيضاً ، ولكن قد يطلب التّوجّه إلى المواطن الشّريفة في الأحوال الشّريفة طلباً لخيرها وفضلها ، كاستقبال السّماء بالبصر وببطون الكفّين في الدّعاء .
كما يطلب عدم التّوجّه إليها في الأحوال الخسيسة ، كاستقبال قاضي الحاجة بيت المقدس أو المصحف الشّريف ( ر : قضاء الحاجة ) . وقد يطلب تجنّب استقبالها صيانةً له عنها لنجاستها أو حفظاً لبصره عن النّظر إليها ، كاستقبال قاضي الحاجة مهبّ الرّيح ، واستقبال المستأذن للدّخول باب المكان الّذي يريد الدّخول إليه .(70/7)
وقد يطلب الاستقبال حفاظاً على الآداب ومكارم الأخلاق وتوفيراً لحسن الإصغاء ، كما في استقبال الخطيب للقوم واستقبالهم له ، واستقبال الإمام النّاس بعد الصّلاة المكتوبة . وكما في استقبال الضّيوف والمسافرين إبقاءً على الرّوابط الاجتماعيّة متينةً . ومن هذه الطّاعات : الوضوء ، والتّيمّم ، والأذان والإقامة ، ومنه الدّعاء بعد الوضوء ، والدّعاء في الاستسقاء ، والذّكر ، وقراءة القرآن ، وانتظار الصّلاة في المسجد ، والحجّ في مواطن كثيرةٍ ، تعلم بتتبّع كتاب الحجّ كالإهلال ، وشرب ماء زمزم ، وتوجيه الهدي حين الذّبح للقبلة ، وقضاء القاضي بين الخصوم ، كما هو مبيّنٌ في مواضعها . كما يستحبّ استقبال القبلة في مواطن خاصّةٍ طلباً لبركتها وكمال العمل باستقبالها ، كما في توجيهٍ المحتضر إليها ، وكذا الميّت في قبره عند الدّفن ( ر : كتاب الجنائز ) ، ومثله من أراد أن ينام ، أو أراد أن يذبح ذبيحةً فيسنّ له أن يستقبل بها القبلة ( ر : كتاب الذّبائح ) .(70/8)
استلامٌ *
التعريف :
1 - من معاني الاستلام في اللّغة : اللّمس باليد أو الفم . والاستلام مأخوذٌ إمّا من السّلام أي التّحيّة ، وإمّا من السّلام أي الحجارة ، لما فيه من لمس الحجر .
ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني عند الكلام عن الطّواف . وقد شاع استعمال الاستلام بمعنى التّسلّم ، فيرجع إليه بهذا المعنى في مصطلح : ( تسلّمٌ ) .
الحكم الإجماليّ :
2 - يتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ استلام الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ باليد في أوّل الطّواف ، روى ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلاّ الحجر والرّكن اليمانيّ » . وقال ابن عمر :« ما تركت استلام هذين الرّكنين : اليمانيّ والحجر منذ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدّةٍ ولا رخاءٍ » . ولأنّ الرّكن اليمانيّ مبنيٌّ على قواعد إبراهيم عليه السلام ، فسنّ استلامه ، كاستلام الرّكن الّذي فيه الحجر . والاستلام في كلّ طوفةٍ كالمرّة الأولى عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وقال المالكيّة بالاستحباب . والاستلام بالفم كالاستلام باليد بالنّسبة للحجر ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : إنّ الاستلام باليد يكون بعد العجز عن الاستلام بالفم . وفي استلام اليمانيّ بالفم خلافٌ بين الفقهاء يذكر في أحكام الطّواف . وعند العجز عن الاستلام باليد يستلم الإنسان بشيءٍ في يده . فإن لم يمكنه استلامه أصلاً أشار إليه وكبّر لحديث ابن عبّاسٍ قال : « طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعيرٍ كلّما أتى الرّكن أشار إليه وكبّر » .
وبعد الانتهاء من ركعتي الطّواف يسنّ كذلك العود لاستلام الحجر الأسود . وهذا كلّه بالنّسبة للرّجل ، ويختلف الحال بالنّسبة للمرأة في بعض الأحوال . واستلام الحجر والرّكن اليمانيّ تعبّديٌّ وخصوصيّةٌ لهما ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في أحكام الطّواف .(71/1)
استماعٌ *
التعريف :
1 - الاستماع لغةً واصطلاحاً : قصد السّماع بغية فهم المسموع أو الاستفادة منه .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - السّماع :
2 - الاستماع لا يكون استماعاً إلاّ إذا توفّر فيه القصد ، أمّا السّماع فإنّه قد يكون بقصدٍ ، أو بدون قصدٍ . وغالب استعمال الفقهاء للسّماع ينصرف إلى استماع آلات الملاهي ، أي بالقصد .
ب - استراق السّمع :
الاستماع قد يكون على سبيل الاستخفاء ، وقد يكون على سبيل المجاهرة ، ولكنّ استراق السّمع لا يكون إلاّ على سبيل الاستخفاء ، ولذلك قالوا : استراق السّمع هو الاستماع مستخفياً ( ر : استراق السّمع ) .
ج - التّجسّس :
الاستماع لا يكون إلاّ بالسّمع ، أمّا التّجسّس فإنّه يكون بالسّمع وبغيره فضلاً عن أنّ التّجسّس يكون على سبيل الاستخفاء ، في حين أنّ الاستماع يكون على سبيل الاستخفاء ، أو على سبيل المجاهرة ( ر : تجسّسٌ ) .
د - الإنصات :
الإنصات هو السّكوت للاستماع . ويكون الاستماع إمّا لصوت الإنسان ، أو الحيوان ، أو الجماد .
النّوع الأوّل : استماع صوت الإنسان .
أ - حكم استماع القرآن خارج الصّلاة :
3 - الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم حين يقرأ واجبٌ إن لم يكن هناك عذرٌ مشروعٌ لترك الاستماع . وقد اختلف الحنفيّة في هذا الوجوب ، هل هو وجوبٌ عينيٌّ ، أو وجوبٌ كفائيٌّ ؟ قال ابن عابدين : الأصل أنّ الاستماع للقرآن فرض كفايةٍ ، لأنّه لإقامة حقّه ، بأن يكون ملتفتاً إليه غير مضيّعٍ ، وذلك يحصل بإنصات البعض ، كما في ردّ السّلام .
ونقل الحمويّ عن أستاذه قاضي القضاة يحيى الشّهير بمنقاري زاده : أنّ له رسالةً حقّق فيها أنّ سماع القرآن فرضٌ عينٍ . نعم إنّ قوله تعالى في سورة الأعراف { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قد نزلت لنسخ جواز الكلام أثناء الصّلاة . إلاّ أنّ العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب ، ولفظها يعمّ قراءة القرآن في الصّلاة وفي غيرها .
وعند الحنابلة : يستحبّ استماع قراءة القرآن الكريم .
4 - ويعذر المستمع بترك الاستماع لتلاوة القرآن الكريم ، ولا يكون آثماً بذلك - بل الآثم هو التّالي ، على ما ذكره ابن عابدين - إذا وقعت التّلاوة بصوتٍ مرتفعٍ في أماكن الاشتغال ، والمستمع في حالة اشتغالٍ ، كالأسواق الّتي بنيت ليتعاطى فيها النّاس أسباب الرّزق ، والبيوت في حالة تعاطي أهل البيت أعمالهم من كنسٍ وطبخٍ ونحو ذلك ، وفي حضرة ناسٍ يتدارسون الفقه ، وفي المساجد ، لأنّ المساجد إنّما بنيت للصّلاة ، وقراءة القرآن تبعٌ للصّلاة ، فلا تترك الصّلاة لسماع القرآن فيه . وإنّما سقط إثم ترك الاستماع للقرآن في حالات الاشتغال دفعاً للحرج عن النّاس . قال تعالى - { وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ } وإنّما أثم القارئ بذلك ، لأنّه مضيّعٌ لحرمة القرآن .
ب - طلب تلاوته للاستماع إليه :
5 - يستحبّ للمسلم أن يطلب ممّن يعلم منه إجادة التّلاوة للقرآن الكريم مع حسن الصّوت التّلاوة ليستمع إليها ، قال الإمام النّوويّ : ( اعلم أنّ جماعاتٍ من السّلف رضوان الله عليهم كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يستمعون ، وهذا متّفقٌ على استحبابه ، وهو من عادة الأخيار المتعبّدين وعباد اللّه الصّالحين ، وهو سنّةٌ ثابتةٌ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقد صحّ عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اقرأ عليّ ، فقلت : يا رسول اللّه أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال : نعم وفي روايةٍ : إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النّساء حتّى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال : حسبك الآن ، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان » .
وروى الدّارميّ وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي موسى الأشعريّ : ذكّرنا ربّنا ، فيقرأ عنده القرآن . والآثار في هذا كثيرةٌ معروفةٌ .
6 - قال النّوويّ : وقد استحبّ العلماء أن يستفتح مجلس حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويختم بقراءة قارئٍ حسن الصّوت ممّا تيسّر من القرآن . وقد صرّح الحنفيّة بأنّ استماع القرآن الكريم أفضل من قراءة الإنسان القرآن بنفسه ، لأنّ المستمع يقوم بأداء فرضٍ بالاستماع ، بينما قراءة القرآن ليست بفرضٍ ، قال أبو السّعود في حاشيته على ملاّ مسكينٍ : استماع القرآن أثوب من قراءته ، لأنّ استماعه فرضٌ بخلاف القراءة .
ت - استماع التّلاوة غير المشروعة :(72/1)
7 - ذهب الجمهور إلى عدم جواز استماع تلاوة القرآن الكريم بالتّرجيع والتّلحين المفرط الّذي فيه التّمطيط ، وإشباع الحركات . والتّرجيع : أي التّرديد للحروف والإخراج لها من غير مخارجها . وقالوا : التّالي والمستمع في الإثم سواءٌ ، أي إذا لم ينكر عليه أو يعلّمه . أمّا تحسين الصّوت بقراءة القرآن من غير مخالفةٍ لأصول القراءة فهو مستحبٌّ ، واستماعه حسنٌ ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « زيّنوا القرآن بأصواتكم » وقوله عليه الصلاة والسلام في أبي موسى الأشعريّ : « لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود » . وعلى هذا يحمل قول الإمام الشّافعيّ في الأمّ : لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصّوت بها بأيّ وجهٍ ما كان ، وأحبّ ما يقرأ إليّ حدراً وتحزيناً : وذهب بعض الشّافعيّة - كالماورديّ - إلى أنّ التّغنّي بالقرآن حرامٌ مطلقاً ، لإخراجه عن نهجه القويم ، وقيّده غيره بما إذا وصل به إلى حدٍّ لم يقل به أحدٌ من القرّاء ، وذهب بعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى إلى أنّ قراءة القرآن بالألحان مكروهةٌ على كلّ حالٍ ، لإخراج القرآن عن نهجه القويم ، وفسّروا قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن » بأنّ معناه : يستغني به .
8 - وفي كراهة قراءة الجماعة على الواحد - كما يفعل المتعلّمون عند الشّيخ وهو يستمع لهم - روايتان عند المالكيّة . إحداهما : أنّه حسنٌ . والثّانية : الكراهة ، وهو ما ذهب إليه الحنفيّة ، قال ابن رشدٍ : كان مالكٌ يكره هذا ولا يرضاه ، ثمّ رجع وخفّفه .
وجه الكراهة : أنّه إذا قرأ عليه جماعةٌ مرّةً واحدةً لا بدّ أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ، ما دام يصغي إلى غيرهم ، ويشتغل بالرّدّ على الّذي يصغي إليه ، فقد يخطئ في ذلك الحين ويظنّ أنّه قد سمعه ، وأجاز قراءته ، فيحمل عنه الخطأ ، ويظنّه مذهباً له .
ووجه التّخفيف : المشقّة الدّاخلة على المقرئ بانفراد كلّ واحدٍ حين القراءة عليه إذا كثروا ، وقد لا يعمّهم ، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم .
ث - استماع الكافر القرآن :
9 - لا يمنع الكافر من الاستماع إليه ، لقوله جلّ شأنه : { وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه } . ورجاء أن يشرح اللّه صدره للإسلام فيهتدي .
ج- استماع القرآن في الصّلاة :
10- ذهب الحنفيّة إلى أنّ استماع المأموم في الصّلاة لقراءة الإمام والإنصات إليه واجبٌ ، وقراءته مكروهةٌ كراهةً تحريميّةً ، سواءٌ أكان ذلك في الجهريّة أم السّرّيّة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ استماع المأموم لقراءة الإمام تستحبّ في الجهريّة ،
أمّا السّرّيّة فإنّها تستحبّ فيها القراءة على المعتمد ، خلافاً لابن العربيّ حيث ذهب إلى وجوبها في السّرّيّة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ قراءة المأموم الفاتحة في السّرّيّة والجهريّة واجبةٌ ، وإن فاته الاستماع . وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحبّ للمأموم الاستماع إذا كان يسمع قراءة الإمام في الجهريّة ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( قراءةٌ ) .
ح - استماع آية السّجدة :
11 - يترتّب على استماع أو سماع آيةٍ من آيات السّجدة السّجود للتّلاوة ، على خلافٍ بين الفقهاء في حكم السّجود ، تجده مع أدلّته في مصطلح ( سجود التّلاوة ) .
ثانياً : استماع غير القرآن الكريم :
أ - حكم استماع خطبة الجمعة :
اختلف الفقهاء في حكم الاستماع والإنصات للخطبة .
12 - فذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، والأوزاعيّ إلى وجوب الاستماع والإنصات ، وهو ما ذهب إليه عثمان بن عفّان ، وعبد اللّه بن عمر ، وابن مسعودٍ ، حتّى قال الحنفيّة : كلّ ما حرم في الصّلاة حرم في الخطبة ، فيحرم أكلٌ ، وشربٌ ، وكلامٌ ، ولو تسبيحاً ، أو ردّ سلامٍ ، أو أمراً بمعروفٍ ، أو نهياً عن منكرٍ . واستدلّوا على ذلك : - بقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } - وبأنّ الخطبة كالصّلاة ، فهي قائمةٌ مقام ركعتين من الفريضة ، ولم يستثن الحنفيّة والحنابلة من ذلك إلاّ تحذير من خيف هلاكه ، لأنّه يجب لحقّ آدميٍّ ، وهو محتاجٌ إليه ، أمّا الإنصات فهو لحقّ اللّه تعالى ، وحقوق اللّه تعالى مبنيّةٌ على المسامحة . واستثنى المالكيّة أيضاً : الذّكر الخفيف إن كان له سببٌ ، كالتّهليل ، والتّحميد ، والاستغفار ، والتّعوّذ ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّهم اختلفوا في وجوب الإسرار بهذه الأذكار الخفيفة . واستدلّ من قال بوجوب الاستماع للخطبة بما رواه أبو هريرة عن سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت » .(72/2)
13 - وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الاستماع والإنصات أثناء الخطبة سنّةٌ ، ولا يحرم الكلام ، بل يكره ، وحكى ذلك النّوويّ عن عروة بن الزّبير ، وسعيد بن جبيرٍ ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والثّوريّ ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد . واستدلّوا على الكراهة بالجمع بين حديث : « إذا قلت لصاحبك : أنصت ، فقد لغوت » وخبر الصّحيحين عن أنسٍ : « فبينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابيٌّ فقال : يا رسول اللّه ، هلك المال وجاع العيال فادع لنا أن يسقينا . قال : فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه وما في السّماء قزعةٌ ... » وإن عرض له ناجزٌ كتعليم خيرٍ ، ونهيٍ عن منكرٍ ، وإنذار إنسانٍ عقرباً ، أو أعمى بئراً لم يمنع من الكلام ، لكن يستحبّ أن يقتصر على الإشارة إن أغنت ، ويباح له - أي الكلام - بلا كراهةٍ . ويباح الكلام عند الشّافعيّة للدّاخل في أثناء الخطبة ما لم يجلس ، كما صرّحوا بأنّه لو سلّم داخلٌ على مستمع الخطبة وهو يخطب ، وجب الرّدّ عليه بناءً على أنّ الإنصات سنّةٌ ، ويستحبّ تشميت العاطس إذا حمد اللّه ، لعموم الأدلّة ، وإنّما لم يكره كسائر الكلام لأنّ سببه قهريٌّ .
14 - وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّ للبعيد الّذي لا يسمع صوت الخطيب أن يقرأ القرآن ، ويذكر اللّه تعالى ، ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير أن يرفع صوته ، لأنّه إن رفع صوته منع من هو أقرب منه من الاستماع ، وهذا مرويٌّ عن عطاء بن أبي رباحٍ ، وسعيد بن جبيرٍ ، وعلقمة بن قيسٍ ، وإبراهيم النّخعيّ ، حتّى قال النّخعيّ : إنّي لأقرأ جزئي إذا لم أسمع الخطبة يوم الجمعة . وسأل إبراهيم النّخعيّ علقمة : أقرأ في نفسي أثناء الخطبة ؟ فقال علقمة : لعلّ ذلك ألاّ يكون به بأسٌ .
ب - استماع صوت المرأة :
15 - إذا كان مبعث الأصواتس هو الإنسان ، فإنّ هذا الصّوت إمّا أن يكون غير موزونٍ ولا مطربٍ ، أو يكون مطرباً . فإن كان الصّوت غير مطربٍ ، فإمّا أن يكون صوت رجلٍ أو صوت امرأةٍ ، فإن كان صوت رجلٍ : فلا قائل بتحريم استماعه .
أمّا إن كان صوت امرأةٍ ، فإن كان السّامع يتلذّذ به ، أو خاف على نفسه فتنةً حرم عليه استماعه ، وإلاّ فلا يحرم ، ويحمل استماع الصّحابة رضوان الله عليهم أصوات النّساء حين محادثتهنّ على هذا ، وليس للمرأة ترخيم الصّوت وتنغيمه وتليينه ، لما فيه من إثارة الفتنة ، وذلك لقوله تعالى : { فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ } .
وأمّا إن كان الصّوت مطرباً فهذا الغناء استماعٌ ، وفيما يلي تفصيل القول فيه :
ج - الاستماع إلى الغناء :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ استماع الغناء يكون محرّماً في الحالات التّالية :
أ - إذا صاحبه منكرٌ .
ب - إذا خشي أن يؤدّي إلى فتنةٍ كتعلّقٍ بامرأةٍ ، أو بأمرد ، أو هيجان شهوةٍ مؤدّيةٍ إلى الزّنى .
ج - إن كان يؤدّي إلى ترك واجبٍ دينيٍّ كالصّلاة ، أو دنيويٍّ كأداء عمله الواجب عليه ، أمّا إذا أدّى إلى ترك المندوبات فيكون مكروهاً . كقيام اللّيل ، والدّعاء في الأسحار ونحو ذلك .
الغناء للتّرويح عن النّفس :
أمّا إذا كان الغناء بقصد التّرويح عن النّفس ، وكان خالياً عن المعاني السّابقة فقد اختلف فيه ، فمنعه جماعةٌ وأجازه آخرون .
17 - وقد ذهب عبد اللّه بن مسعودٍ إلى تحريمه ، وتابعه على ذلك جمهور علماء أهل العراق ، منهم إبراهيم النّخعيّ ، وعامر الشّعبيّ ، وحمّاد بن أبي سليمان ، وسفيان الثّوريّ ، والحسن البصريّ ، والحنفيّة ، وبعض الحنابلة . واستدلّ هؤلاء على التّحريم : - بقوله تعالى : { ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه } قال ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ : لهو الحديث هو : الغناء . وبحديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع المغنّيات ، وعن شرائهنّ ، وعن كسبهنّ ، وعن أكل أثمانهنّ » . وبحديث عقبة بن عامرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كلّ شيءٍ يلهو به الرّجل فهو باطلٌ ، إلاّ تأديبه فرسه ، ورميه بقوسه ، وملاعبته امرأته » .
18 - وذهب الشّافعيّة ، والمالكيّة ، وبعض الحنابلة إلى أنّه مكروهٌ ، فإن كان سماعه من امرأةٍ أجنبيّةٍ فهو أشدّ كراهةً ، وعلّل المالكيّة الكراهة بأنّ سماعه مخلٌّ بالمروءة ، وعلّلها الشّافعيّة بقولهم : لما فيه من اللّهو . وعلّلها الإمام أحمد بقوله : لا يعجبني الغناء لأنّه ينبت النّفاق في القلب .
19 - وذهب عبد اللّه بن جعفرٍ ، وعبد اللّه بن الزّبير ، والمغيرة بن شعبة ، وأسامة بن زيدٍ ، وعمران بن حصينٍ ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وغيرهم من الصّحابة ، وعطاءٌ بن أبي رباحٍ ، وبعض الحنابلة منهم أبو بكرٍ الخلاّل ، وصاحبه أبو بكرٍ عبد العزيز ، والغزاليّ من الشّافعيّة إلى إباحته . واستدلّوا على ذلك بالنّصّ والقياس . أمّا النّصّ : فهو ما أخرجه البخاريّ ومسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاثٍ ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكرٍ فانتهرني وقال : مزمارة الشّيطان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعهما ، فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا » . ويقول عمر بن الخطّاب :" الغناء زاد الرّاكب "فقد روى البيهقيّ في سننه : أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يستمع إلى غناء خوّاتٍ ، فلمّا كان السّحر قال له :" ارفع لسانك يا خوّات ، فقد أسحرنا "(72/3)
وأمّا القياس : فإنّ الغناء الّذي لا يصاحبه محرّمٌ فيه سماع صوتٍ طيّبٍ موزونٍ ، وسماع الصّوت الطّيّب من حيث إنّه طيّبٌ لا ينبغي أن يحرم ، لأنّه يرجع إلى تلذّذ حاسّة السّمع بإدراك ما هو مخصوصٌ به ، كتلذّذ الحواسّ الأخرى بما خلقت له .
20 - وأمّا الوزن فإنّه لا يحرّم الصّوت ، ألا ترى أنّ الصّوت الموزون الّذي يخرج من حنجرة العندليب لا يحرم سماعه ، فكذلك صوت الإنسان ، لأنّه لا فرق بين حنجرةٍ وحنجرةٍ . وإذا انضمّ الفهم إلى الصّوت الطّيّب الموزون ، لم يزد الإباحة فيه إلاّ تأكيداً .
21 - أمّا تحريك الغناء القلوب ، وتحريكه العواطف ، فإنّ هذه العواطف إن كانت عواطف نبيلةً فمن المطلوب تحريكها ، وقد وقع لعمر بن الخطّاب أن استمع إلى الغناء في طريقه للحجّ - كما تقدّم - وكان الصّحابة ينشدون الرّجزيّات لإثارة الجند عند اللّقاء ، ولم يكن أحدٌ يعيب عليهم ذلك ، ورجزيّات عبد اللّه بن رواحة وغيره معروفةٌ مشهورةٌ .
الغناء لأمرٍ مباحٍ :
22 - إذا كان الغناء لأمرٍ مباحٍ ، كالغناء في العرس ، والعيد ، والختان ، وقدوم الغائب ، تأكيداً للسّرور المباح ، وعند ختم القرآن الكريم تأكيداً للسّرور كذلك ، وعند سير المجاهدين للحرب إذا كان للحماس في نفوسهم ، أو للحجّاج لإثارة الأشواق في نفوسهم إلى الكعبة المشرّفة ، أو للإبل لحثّها على السّير - وهو الحداء - أو للتّنشيط على العمل كغناء العمّال عند محاولة عملٍ أو حمل ثقيلٍ ، أو لتسكيت الطّفل وتنويمه كغناء الأمّ لطفلها ، فإنّه مباحٌ كلّه بلا كراهةٍ عند الجمهور . واستدلّوا على ذلك بما ذكر سابقاً من حديث الجاريتين الّذي روته أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهذا نصٌّ في إباحة الغناء في العيد . وبحديث بريدة قال : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ، فلمّا انصرف جاءت جاريةٌ سوداء فقالت : يا رسول اللّه إنّي كنت نذرت - إن ردّك اللّه سالماً - أن أضرب بين يديك بالدّفّ وأتغنّى ، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فاضربي وإلاّ فلا » . وهذا نصٌّ في إباحة الغناء عند قدوم الغائب تأكيداً للسّرور ، ولو كان الغناء حراماً لما جاز نذره ، ولما أباح لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعله . وبحديث عائشة : « أنّها أنكحت ذات قرابةٍ لها من الأنصار ، فجاء رسول اللّه فقال : أهديتم الفتاة ؟ قالوا : نعم ، قال : أرسلتم معها من يغنّي ؟ قالت : لا ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ الأنصار قومٌ فيهم غزلٌ ، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم أتيناكم ، فحيّانا وحيّاكم » . وهذا نصٌّ في إباحة الغناء في العرس . وبحديث عائشة قالت : « كنت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ، وكان عبد اللّه بن رواحة جيّد الحداء ، وكان مع الرّجال ، وكان أنجشة مع النّساء ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لابن رواحة : حرّك القوم ، فاندفع يرتجز ، فتبعه أنجشة ، فأعنفت الإبل ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنجشة رويدك ، رفقاً بالقوارير . يعني النّساء » . وعن السّائب بن يزيد قال :" كنّا مع عبد الرّحمن بن عوفٍ في طريق الحجّ ، ونحن نؤمّ مكّة ، اعتزل عبد الرّحمن الطّريق ، ثمّ قال لرباح بن المغترف : غنّنا يا أبا حسّان ، وكان يحسن النّصب - والنّصب ضربٌ من الغناء - فبينا رباحٌ يغنّيه أدركهم عمر في خلافته فقال : ما هذا ؟ فقال عبد الرّحمن : ما بأسٌ بهذا ؟ نلهو ونقصّر عنّا السّفر ، فقال عمر : فإن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطّاب بن مرداسٍ فارس قريش"ٍ . وكان عمر يقول ." الغناء من زاد الرّاكب "، وهذا يدلّ على إباحة الغناء لترويح النّفس . وروى ابن أبي شيبة أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يأمر بالحداء .
د - الاستماع إلى الهجو والنّسيب :
23 - يشترط في الكلام - سواءٌ أكان موزوناً ( كالشّعر ) أم غير موزونٍ ، ملحّناً ( كالغناء ) أم غير ملحّنٍ - حتّى يحلّ استماعه ألاّ يكون فاحشاً ، وليس فيه هجوٌ ، ولا كذبٌ على اللّه ورسوله ، ولا على الصّحابة ، ولا وصف امرأةٍ معيّنةٍ ، فإن استمع إلى شيءٍ من الكلام فيه شيءٌ ممّا ذكرناه ، فالمستمع شريك القائل في الإثم . أمّا هجاء الكفّار وأهل البدع فذلك جائزٌ ، وقد « كان حسّان بن ثابتٍ شاعر رسول اللّه يهاجي الكفّار بعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو أمره ، وقد قال له عليه الصلاة والسلام : اهجهم أو هاجهم وجبريل معك »
وأمّا النّسيب فإنّه لا شيء فيه ، وقد كان يقال أمام رسول اللّه وهو يستمع إليه « فقد استمع صلوات الله وسلامه عليه إلى قصيدة كعب بن زهيرٍ : بانت سعاد فقلبي اليوم متبول »
مع ما فيها من النّسيب .
النّوع الثّاني : استماع صوت الحيوان :
24 - اتّفق العلماء على جواز استماع أصوات الحيوانات ، سواءٌ كانت هذه الأصوات قبيحةً كصوت الحمار والطّاووس ونحوهما ، أو عذبةً موزونةً كأصوات العنادل والقماريّ ونحوها ، قال الغزاليّ : فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيّبةً أو موزونةً ، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطّيور .
النّوع الثّالث : استماع أصوات الجمادات :(72/4)
25 - إذا انبعثت أصوات الجمادات من تلقاء نفسها أو بفعل الرّيح فلا قائل بتحريم استماع هذه الأصوات . أمّا إذا انبعثت بفعل الإنسان ، فإمّا أن تكون غير موزونةٍ ولا مطربةٍ ، كصوت طرق الحدّاد على الحديد ، وصوت منشار النّجّار ونحو ذلك ، ولا قائل بتحريم استماع صوتٍ من هذه الأصوات . وأمّا أن ينبعث الصّوت من الآلات بفعل الإنسان موزوناً مطرباً ، وهو ما يسمّى بالموسيقى . فتفصيل القول فيه كما يلي :
أوّلاً - استماع الموسيقى :
26 - إنّ ما حلّ تعاطيه ( أي فعله ) من الموسيقى والغناء حلّ الاستماع إليه ، وما حرم تعاطيه منهما حرم الاستماع إليه ، لأنّ تحريم الموسيقى أو الغناء ليس لذاته ، ولكن لأنّه أداةٌ للإسماع ، ويدلّ على هذا قول الغزاليّ في معرض حديثه عن شعر الخنا ، والهجو ، ونحو ذلك : فسماع ذلك حرامٌ بألحانٍ وبغير ألحانٍ ، والمستمع شريكٌ للقائل . وقول ابن عابدين : وكره كلّ لهوٍ واستماعه .
أ : الاستماع لضرب الدّفّ ونحوه من الآلات القرعيّة :
27 - اتّفق الفقهاء على حلّ الضّرب بالدّفّ والاستماع إليه ، على تفصيلٍ في ذلك ، هل هذه الإباحة هي في العرس وغيره ، أم هي في العرس دون غيره ؟ وهل يشترط في ذلك أن يكون الدّفّ خالياً من الجلاجل أم لا يشترط ذلك ؟ وستجد ذلك التّفصيل في مصطلح ( معازف ) ( وسماعٌ ) . واستدلّوا على ذلك بما رواه محمّد بن حاطبٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « فصل ما بين الحلال والحرام الدّفّ والصّوت في النّكاح » . وبما روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أعلنوا هذا النّكاح ، واضربوا عليه بالغربال » . وما روت الرّبيّع بنت معوّذٍ قالت : « دخل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم غداة بني عليّ ، فجلس على فراشي ، وجويرياتٌ يضربن بالدّفّ يندبن من قتل من آبائي يوم بدرٍ ، حتّى قالت إحداهنّ : وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدٍ ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لا تقولي هكذا وقولي كما كنت تقولين » .
28 - وألحق المالكيّة ، والحنفيّة ، والغزاليّ من الشّافعيّة بالدّفّ جميع أنواع الطّبول - وهي الآلات الفرعيّة - ما لم يكن استعمالها للهوٍ محرّمٍ . واستثنى من ذلك بعضهم - كالغزاليّ مثلاً - الكوبة ، لأنّها من آلات الفسقة . واستثنى الحنفيّة من ذلك الضّرب بالقضيب . قال ابن عابدين : ضرب النّوبة للتّفاخر لا يجوز ، وللتّنبيه فلا بأس به ، وينبغي أن يكون كذلك بوق الحمّام وطبل المسحّر ، ثمّ قال : وهذا يفيد أنّ آلة اللّهو ليست محرّمةً بعينها بل لقصد اللّهو فيها ، إمّا من سامعها ، أو من المشتغل بها ، وبه تشعر الإضافة - يعني إضافة الآلة إلى اللّهو - ألا ترى أنّ ضرب تلك الآلة حلّ تارةً وحرم أخرى باختلاف النّيّة ، والأمور بمقاصدها .
ب - الاستماع للمزمار ونحوه من الآلات النّفخيّة :
29 - أجاز المالكيّة الاستماع إلى الآلات النّفخيّة كالمزمار ونحوه ، ومنعه غيرهم ، وروى ابن أبي شيبة في مصنّفه عن ابن مسعودٍ إباحة الاستماع إليه ، فقد روى بسنده إلى ابن مسعودٍ أنّه دخل عرساً فوجد فيه مزامير ولهواً ، فلم ينه عنه . ومنعه غير المالكيّة .
30 - أمّا الآلات الوتريّة كالعود ونحوه ، فإنّ الاستماع إليها ممنوعٌ في العرس وغيره عند جمهور العلماء .
وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء السّلف إلى التّرخيص فيها ، وممّن رخّص فيها : عبد اللّه بن جعفرٍ ، وعبد اللّه بن الزّبير ، وشريحٌ ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء بن أبي رباحٍ ، ومحمّد بن شهابٍ الزّهريّ ، وعامر بن شراحيل الشّعبيّ ، وغيرهم .
ثانياً : استماع الصّوت والصّدى :
31 - من تتبّع أقوال الفقهاء يتبيّن أنّهم يرتّبون آثار الاستماع على استماع الصّوت ، أمّا استماع الصّدى فلم يتحدّث عنه إلاّ الحنفيّة . ويظهر أنّ الحنفيّة لا يرتّبون آثار الاستماع على استماع الصّدى ، فقد نصّوا على أنّه لا تجب سجدة التّلاوة بسماعها من الصّدى .(72/5)
استمتاعٌ *
التعريف :
1 - الاستمتاع : طلب التّمتّع ، والتّمتّع الانتفاع ، يقال : استمتعت بكذا وتمتّعت به : انتفعت . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ، وأغلب وروده عندهم في استمتاع الرّجل بزوجته .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستمتاع بما أحلّه اللّه في الحالات المشروعة جائزٌ ، كالاستمتاع بالزّوجة من وطءٍ ومقدّماته إذا لم تكن هناك موانع شرعيّةٌ ، كحيضٍ ونفاسٍ وإحرامٍ وصيام فرضٍ ، فإن كانت هناك موانع شرعيّةٌ حرم الوطء . أمّا الاستمتاع بالأجنبيّة بأيّ نوعٍ من أنواع الاستمتاع كنظرٍ ، ولمسٍ ، وقبلةٍ ، ووطءٍ ، فهو محظورٌ ، يستحقّ فاعله الحدّ إن كان زنى ، والتّعزير إن كان غير ذلك كمقدّمات الوطء . ويرتّب الفقهاء على الاستمتاع بالزّوجة آثاراً كتمام المهر واستقراره والنّفقة . وتنظر تفاصيل الموضوع في ( النّكاح ) و ( المهر ) و ( النّفقة ) .
مواطن البحث :
3 - الاستمتاع بالزّوجة يرد عند الفقهاء في أبواب النّكاح ، والحيض ، والنّفاس ، ومحظورات الإحرام في الحجّ ، والصّيام ، والاعتكاف ، وتنظر في أبوابها . والاستمتاع المحرّم يرد في باب حدّ الزّنا ، وباب التّعزير ، وتنظر في أبوابها .(73/1)
استمناءٌ *
التعريف :
1 - الاستمناء : مصدر استمنى ، أي طلب خروج المنيّ . واصطلاحاً : إخراج المنيّ بغير جماعٍ ، محرّماً كان ، كإخراجه بيده استدعاءً للشّهوة ، أو غير محرّمٍ كإخراجه بيد زوجته . 2 - وهو أخصّ من الإمناء والإنزال ، فقد يحصلان في غير اليقظة ودون طلبٍ ، أمّا الاستمناء فلا بدّ فيه من استدعاء المنيّ في يقظة المستمني بوسيلةٍ ما . ويكون الاستمناء من الرّجل ومن المرأة . ويقع الاستمناء ولو مع وجود الحائل . جاء في ابن عابدين : لو استمنى بكفّه بحائلٍ يمنع الحرارة يأثم أيضاً .
وفي الشّروانيّ على التّحفة : إن قصد بضمّ امرأةٍ الإنزال - ولو مع الحائل - يكون استمناءً مبطلاً للصّوم . بل صرّح الشّافعيّة والمالكيّة بأنّ الاستمناء يحصل بالنّظر . ولمّا كان الإنزال بالاستمناء يختلف أحياناً عن الإنزال بغيره كالجماع والاحتلام أفرد بالبحث .
وسائل الاستمناء :
3 - يكون الاستمناء باليد ، أو غيرها من أنواع المباشرة ، أو بالنّظر ، أو بالفكر . الاستمناء باليد :
4 - أ - الاستمناء باليد إن كان لمجرّد استدعاء الشّهوة فهو حرامٌ في الجملة ، لقوله تعالى : { والّذين هم لفروجهم حافظون ، إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين ، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } . والعادون هم الظّالمون المتجاوزون ، فلم يبح اللّه سبحانه وتعالى الاستمتاع إلاّ بالزّوجة والأمة ، ويحرم بغير ذلك .
وفي قولٍ للحنفيّة ، والشّافعيّة ، والإمام أحمد : أنّه مكروهٌ تنزيهاً .
ب - وإن كان الاستمناء باليد لتسكين الشّهوة المفرطة الغالبة الّتي يخشى معها الزّنى فهو جائزٌ في الجملة ، بل قيل بوجوبه ، لأنّ فعله حينئذٍ يكون من قبيل المحظور الّذي تبيحه الضّرورة ، ومن قبيل ارتكاب أخفّ الضّررين . وفي قولٍ آخر للإمام أحمد : أنّه يحرم ولو خاف الزّنى ، لأنّ له في الصّوم بديلاً ، وكذلك الاحتلام مزيلٌ للشّبق . وعبارات المالكيّة تفيد الاتّجاهين : الجواز للضّرورة ، والحرمة لوجود البديل ، وهو الصّوم .
ج - وصرّح ابن عابدين من الحنفيّة بأنّه لو تعيّن الخلاص من الزّنى به وجب .
الاستمناء بالمباشرة فيما دون الفرج :
5 - الاستمناء بالمباشرة فيما دون الفرج يشمل كلّ استمتاعٍ - غير النّظر والفكر - من وطءٍ في غير الفرج ، أو تبطينٍ ، أو تفخيذٍ ، أو لمسٍ ، أو تقبيلٍ . ولا يختلف أثر الاستمناء بهذه الأشياء في العبادة عن أثرها في الاستمناء باليد عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . ويبطل به الصّوم عند الحنفيّة ، دون كفّارةٍ . ولا يختلف أثره في الحجّ عن أثر الاستمناء باليد فيه .
الاغتسال من الاستمناء :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الغسل يجب بالاستمناء ، إذا خرج المنيّ عن لذّةٍ ودفقٍ ، ولا عبرة باللّذّة والدّفق عند الشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد وللمالكيّة قولٌ بذلك لكنّه خلاف المشهور . واشترط الحنفيّة لترتّب الأثر على المنيّ أن يخرج بلذّةٍ ودفقٍ ، وهو مشهور المالكيّة ، فلا يجب فيه شيءٌ ما لم تكن لذّةٌ ، والمذهب عند أحمد على هذا ، وعليه جماهير الأصحاب ، وقطع به كثيرٌ منهم . أمّا إن أحسّ بانتقال المنيّ من صلبه فأمسك ذكره ، فلم يخرج منه شيءٌ في الحال ، ولا علم خروجه بعد ذلك فلا غسل عليه عند كافّة العلماء ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّق الاغتسال على الرّؤية ». والرّواية المشهورة عن الإمام أحمد بن حنبلٍ أنّه يجب الغسل ، لأنّه لا يتصوّر رجوع المنيّ ، ولأنّ الجنابة في حقيقتها هي : انتقال المنيّ عن محلّه وقد وجد . وأيضاً فإنّ الغسل يراعى فيه الشّهوة ، وقد حصلت بانتقاله فأشبه ما لو ظهر . فإن سكنت الشّهوة ثمّ أنزل بعد ذلك ، فإنّه يجب عليه الغسل عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، والشّافعيّة والحنابلة ، وأصبغ وابن الموّاز من المالكيّة . وقال أبو يوسف : لا يغتسل ، ولكن ينتقض وضوءه ، وهو قول القاسم من المالكيّة . ولتفصيل ما يتعلّق بذلك انظر مصطلح ( غسلٌ ) .
اغتسال المرأة من الاستمناء :
7 - يجب الغسل على المرأة إن أنزلت بالاستمناء بأيّ وسيلةٍ حصل . والمراد بالإنزال أن يصل إلى المحلّ الّذي تغسله في الاستنجاء ، وهو ما يظهر عند جلوسها وقت قضاء الحاجة . وهذا هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وبهذا قال الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة عدا ( سندٍ ) ، فقد قال : إنّ بروز المنيّ من المرأة ليس شرطاً ، بل مجرّد الانفصال عن محلّه يوجب الغسل ، لأنّ عادة منيّ المرأة أن ينعكس إلى الرّحم
أثر الاستمناء في الصّوم :
8 - الاستمناء باليد يبطل الصّوم عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وعامّة الحنفيّة على ذلك ، لأنّ الإيلاج من غير إنزالٍ مفطرٌ ، فالإنزال بشهوةٍ أولى . وقال أبو بكر بن الإسكاف ، وأبو القاسم من الحنفيّة : لا يبطل به الصّوم ، لعدم الجماع صورةً ومعنًى . ولا كفّارة فيه مع الإبطال عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو مقابل المعتمد عند المالكيّة ، وأحد قولي الحنابلة ، لأنّه إفطارٌ من غير جماعٍ ، ولأنّه لا نصّ في وجوب الكفّارة فيه ولا إجماع . ومعتمد المالكيّة على وجوب الكفّارة مع القضاء ، وهو روايةٌ عن أحمد ، وعموم رواية الرّافعيّ من الشّافعيّة ، والّتي حكاها عن أبي خلفٍ الطّبريّ يفيد ذلك ، فمقتضاها وجوب الكفّارة بكلّ ما يأثم بالإفطار به ، والدّليل على وجوب الكفّارة : أنّه تسبّبٌ في إنزالٍ فأشبه الإنزال بالجماع .(74/1)
9 - أمّا الاستمناء بالنّظر فإنّه يبطل الصّوم عند المالكيّة ، تكرّر النّظر أم لا ، وسواءٌ أكانت عادته الإنزال أم لا ، والحنابلة معهم في الإبطال إن تكرّر النّظر . والاستمناء بالتّكرار مبطلٌ للصّوم في قولٍ للشّافعيّة أيضاً ، وقيل . إن كانت عادته الإنزال أفطر ، وفي " القوت " أنّه إذا أحسّ بانتقال المنيّ فاستدام النّظر فإنّه يفسد . وقال الحنفيّة لا يفطر به الصّائم مطلقاً ، وهو المعتمد للشّافعيّة ، ولا كفّارة فيه إلاّ عند المالكيّة ، لكنّهم اختلفوا في الحالات الّتي تجب فيها الكفّارة . إن تكرّر النّظر وكانت عادته الإنزال أو استوت حالتاه وجبت عليه الكفّارة قطعاً . وإن كانت عادته عدم الإنزال فقولان . أمّا مجرّد النّظر من غير استدامةٍ فظاهر كلام ابن القاسم في المدوّنة أنّه لا كفّارة . وقال القابسيّ : كفّر إن أمنى من نظرةٍ واحدةٍ .
10 - وأمّا الاستمناء بالتّفكير فلا يختلف حكمه عن حكم الاستمناء بالنّظر ، من حيث الإبطال والكفّارة وعدمهما عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة . أمّا الحنابلة ، عدا أبي حفصٍ البرمكيّ ، فقالوا بعدم الإفساد بالإنزال بالتّفكير ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عفي لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلّم به » . وقال أبو حفصٍ البرمكيّ بالإبطال ، واختاره ابن عقيلٍ ، لأنّ الفكرة تستحضر وتدخل تحت الاختيار ، ومدح اللّه سبحانه الّذين يتفكّرون في خلق السّموات والأرض ،« ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن التّفكّر في ذات اللّه ، وأمر بالتّفكّر في الآلاء ». ولو كانت غير مقدورٍ عليها لم يتعلّق ذلك بها .
أثر الاستمناء في الاعتكاف :
11 - يبطل الاعتكاف بالاستمناء باليد عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ من الشّافعيّة من ذكره قولاً واحداً ، ومنهم من استظهر البطلان . ولتفصيل ذلك انظر ( اعتكافٌ ) . أمّا الاستمناء بالنّظر والتّفكير فلا يبطل به الاعتكاف عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ويبطل به عند المالكيّة ، وكذلك الحنابلة ، إذ يفهم من كلامهم بطلان الاعتكاف ، لفقدان شرط الطّهارة ممّا يوجب الغسل .
أثر الاستمناء في الحجّ والعمرة :
12 - لا يفسد الحجّ بالاستمناء باليد عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لكن يجب فيه دمٌ ، لأنّه كالمباشرة فيما دون الفرج في التّحريم والتّعزير ، فكان بمنزلتها في الجزاء . ويفسد الحجّ به عند المالكيّة ، وأوجبوا فيه القضاء والهدي ولو كان ناسياً ، لأنّه أنزل بفعلٍ محظورٍ . ولبيان نوع الدّم ووقته انظر ( إحرامٌ ) . والعمرة في ذلك كالحجّ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ، وهو ما يفهم من عموم كلام الباجيّ من المالكيّة ، لكنّ ظاهر كلام بهرامٌ وغيره أنّ ما يوجب الفساد في الحجّ في بعض الأحوال من وطءٍ وإنزالٍ يوجب الهدي في العمرة ، لأنّ أمرها أخفّ من حيث إنّها ليست فرضاً .
13 - أمّا الاستمناء بالنّظر والفكر فإنّه يفسد الحجّ عند المالكيّة ، باستدعاء المنيّ بنظرٍ أو فكرٍ مستدامين ، فإن خرج بمجرّد الفكر أو النّظر لم يفسد وعليه هديٌ وجوباً ، وسواءٌ أكان عمداً أم جهلاً أم نسياناً . ولا يفسد به الحجّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا فدية فيه عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وعند الحنابلة تجب الفدية في النّظر ، وأمّا التّفكير فانفرد بالفدية فيه منهم أبو حفصٍ البرمكيّ .
الاستمناء عن طريق الزّوجة :
14 - أغلب الفقهاء على جواز الاستمناء بالزّوجة ما لم يوجد مانعٌ ، لأنّها محلّ استمتاعه ، كما لو أنزل بتفخيذٍ أو تبطينٍ ، ولبيان المانع انظر ( حيضٌ ، نفاسٌ ، صومٌ ، اعتكافٌ ، حجٌّ ) . وقال بكراهته بعض الحنفيّة والشّافعيّة ، نقل صاحب الدّرّ عن الجوهرة : ولو مكّن امرأته من العبث بذكره فأنزل كره ولا شيء عليه ، غير أنّ ابن عابدين حملها على الكراهة التّنزيهيّة . وفي نهاية الزّين : وفي فتاوى القاضي : لو غمرت المرأة ذكر زوجها بيدها كره وإن كان بإذنه إذا أمنى ، لأنّه يشبه العزل ، والعزل مكروهٌ .
عقوبة الاستمناء :
15 - الاستمناء المحرّم يعزّر فاعله باتّفاقٍ ، لقوله تعالى : { والّذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين } .
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 113 / ص 87)
الاستمناء باليد:
لاستمناء الرجل بيده حالات:
الحالة الأولى: الاستمناء لغير حاجة:
32 ـ اختلف الفقهاء في حكم استمناء الرجل بيده في هذه الحالة:
فذهب المالكية والشافعية والحنابلة في المذهب والحنفية في قول إلى أن الاستمناء محرم لقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (58).
وذهب الحنفية في المذهب وأحمد في رواية وعطاء إلى أنه يكره واستدل الحنفية على ما ذهبوا إليه بحديث "ناكح اليد ملعون" (59)، وقيدوا الكراهة بالتحريم حيث صرحوا بأنه مكروه تحريماً.
وقال أحمد في رواية نقلها ابن منصور: لا يعجبني بلا ضرورة (60).
الحالة الثانية: الاستمناء لخوف الزنا:
33 ـ اختلف الفقهاء في حكم الاستمناء في هذه الحالة:
فذهب الحنفية والحنابلة في المذهب إلى من استمنى في هذه الحالة لا شيء عليه، وعبر الحنفية عن هذا المطلب بقولهم: الرجاء ألا يعاقب.
قال المرداوي: لو قيل بوجوبه في هذه الحالة لكان وجه كالمضطر بل أولى لأنه أخف وعن أحمد: يكره.
قال مجاهد: كانوا يأمرون فتيانهم أن يستغنوا بالاستمناء.(74/2)
وذهب المالكية وأحمد في رواية إلى أنه يحرم ولو خان الزنا، لأن الفرج مع إباحته بالعقد لم يبح بالضروة فهنا أولى. وقد جعل الشارع الصوم بدلاً من النكاح، والاحتلام مزيل لشدة الشبق مفتر للشهوة.
وهذا ما يؤخذ م عبارات الشافعية حيث يحرمون الاستمناء إلا إذا تعين طريقاً لدفع الزنا (61).
الحالة الثالثة: الاستمناء عند تعينه طريفاً لدفع الزنا:
34 ـ ذهب الحنفية والحنابلة والشافعية إلى جواز الاستمناء إذا تعين طريقاً للخلاص به من الزنا.
وصرح المالكية بأن استمناء الشخصي بيده حرام، خشي الزنا أم لا، لكن إذ لم يندفع عنه الزنا إلا بالاستمناء قدمه على الزنا ارتكاباً لأخف المفسدتين (63).
الحالة الرابعة: الاستمناء عن طريق يد الزوجة:
35 ـ يرى المالكية في الراجح والحنابلة والحنفية في رأي والشافعية عدا القاضي حسين جواز الاستمناء بيد الزوجة، لأنها محل استمتاعه كما لو أنزل بتفخيد أو تبطين.
وذهب الحنفية في الرأي الآخر والقاضي حسين من الشافعية إلى أنه يكره الاستمناء بيد الزوجة. قال ابن عابدين: الظاهر انها كراهة تنزيهية لأن ذلك بمنزلة ما لو أنزل بتفخير أو تبطين.
وقال القاضي: لو غمرت المرأة ذكر زوجها بيدها كره وإن كان بإذنه ـ إذا أمنى، لأنه يشبه العزل والعزل مكروه.
ومقابل الراجح عند المالكية أن الاستمناء بيد الزوجة لا يجوز (64).
وللتفصيل في أثر الاستمناء باليد على الصوم والاعتكاف والحج والعمرة ينظر (استمناء ف 8 ـ 13).(74/3)
استنادٌ *
التعريف :
1 - الاستناد لغةً : مصدر استند . وأصله سند . يقال : سندت إلى الشّيء ، وأسندت إليه واستندت إليه : إذا ملت إليه واعتمدت عليه . والمسند : ما استندت إليه من المتاع ، واستند إلى فلانٍ : لجأ إليه في طلب العون .
وللاستناد في الاصطلاح معانٍ ثلاثةٌ :
الأوّل : الاستناد الحسّيّ ، وهو أن يميل الإنسان على الشّيء معتمداً عليه ، والاستناد بهذا المعنى طبق المعنى اللّغويّ .
الثّاني : الاستناد إلى الشّيء بمعنى الاحتجاج به .
الثّالث : الاستناد بمعنى ثبوت الحكم بأثرٍ رجعيٍّ ، وهو بالمعنى الثّاني والثّالث يعتبر استناداً معنويّاً .
المبحث الأوّل :
الاستناد الحسّيّ :
2 - الاستناد إلى الشّيء بهذا المعنى هو الميل على الشّيء مع الاعتماد عليه . وممّا له صلةٌ بالاستناد : الاتّكاء . وقد ذكر أبو البقاء أنّ الاستناد على الشّيء الاتّكاء عليه بالظّهر خاصّةً ، قال : الاتّكاء أعمّ من الاستناد ، وهو - يعني الاتّكاء - الاعتماد على الشّيء بأيّ شيءٍ كان ، وبأيّ جانبٍ كان . والاستناد : اتّكاءٌ بالظّهر لا غير . ولم نطّلع على هذا التّقييد في شيءٍ من كتب اللّغة .
أوّلاً : أحكام الاستناد في الصّلاة :
أ - الاستناد في الصّلاة المفروضة :
3 - الاستناد إلى عمادٍ - كحائطٍ أو ساريةٍ - في صلاة الفريضة للقادر على القيام مستقلاًّ دون اعتمادٍ . للفقهاء فيه اتّجاهاتٌ ثلاثةٌ :
الاتّجاه الأوّل : يرى الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة منعه ، وهو قولٌ للشّافعيّة . قالوا : من اعتمد على عصاً أو حائطٍ ونحوه بحيث يسقط لو زال العماد ، لم تصحّ صلاته ، قالوا : لأنّ الفريضة من أركانها القيام ، ومن استند على الشّيء بحيث لو زال من تحته سقط ، لا يعتبر قائماً . أمّا إن كان لا يسقط لو زال ما استند إليه ، فهو عندهم مكروهٌ ، صرّح به الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة . قال الحلبيّ في شرح المنية : يكره اتّفاقاً - أي بين أئمّة الحنفيّة - لما فيه من إساءة الأدب وإظهار التّجبّر . وعلّل ابن أبي تغلب - من الحنابلة - للكراهة بكون الاستناد يزيل مشقّة القيام .
والاتّجاه الثّاني : قول الشّافعيّة المقدّم لديهم أنّ صلاة المستند تصحّ مع الكراهة ، قالوا : لأنّه يسمّى قائماً ولو كان بحيث لو أزيل ما اعتمد عليه لسقط .
والاتّجاه الثّالث : أنّ استناد القائم في صلاة الفرض جائزٌ . روي ذلك عن أبي سعيدٍ الخدريّ وأبي ذرٍّ رضي الله عنهما وجماعةٍ من الصّحابة والسّلف . ثمّ إنّ الصّلاة المفروضة - الّتي هذا حكم الاستناد فيها - تشمل الفرض العينيّ والكفائيّ ، كصلاة الجنازة ، وصلاة العيد عند من أوجبها . وتشمل الواجب بالنّذر على من نذر القيام فيه على ما صرّح به الدّسوقيّ ، وألحق به الحنفيّة سنّة الفجر على قولٍ لتأكّدها .
ب - الاستناد في الفرض في حال الضّرورة :
4 - يتّفق الفقهاء على أنّه إذا وجدت الضّرورة ، بحيث لا يستطيع المصلّي أن يصلّي قائماً إلاّ بالاستناد ، أنّ الاستناد جائزٌ له . ولكن هل يسقط عنه فرض القيام فيجوز له الصّلاة جالساً مع التّمكّن من القيام بالاستناد ؟ للفقهاء في هذه المسألة اتّجاهان :
الأوّل : أنّ القيام واجبٌ حينئذٍ ولا تصحّ صلاته جالساً . وهو مذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم ، ومذهب الحنابلة ، وقولٌ مرجوحٌ عند المالكيّة ، ذهب إليه ابن شاسٍ وابن الحاجب . قال شارح المنية من الحنفيّة : لو قدر على القيام متوكّئاً على عصاً أو خادمٍ . قال الحلوانيّ : الصّحيح أنّه يلزمه القيام متّكئاً .
الثّاني : وهو المقدّم عند المالكيّة ، ومقابل الصّحيح عند الحنفيّة ، ومقتضى مذهب الشّافعيّة - كما تقدّم - أنّ فرض القيام ساقطٌ عنه حينئذٍ ، وتجوز صلاته جالساً . قال الحطّاب نقلاً عن ابن رشدٍ : لأنّه لمّا سقط عنه القيام ، وجاز له أن يصلّي جالساً ، صار قيامه نافلةً ، فجاز أن يعتمد فيه كما يعتمد في النّافلة ، والقيام مع الاعتماد أفضل . واشترط المالكيّة لجواز الصّلاة مع الاعتماد أن يكون استناده لغير حائضٍ أو جنبٍ ، فإن صلّى مستنداً إلى واحدٍ منهما أعاد في الوقت ، أي الوقت الضّروريّ لا الاختياريّ .
ج - الاستناد في الصّلاة أثناء الجلوس :
5 - الحكم في الاستناد في الجلوس كالحكم في الاستناد في القيام تماماً ، على ما صرّح به الحنفيّة : فإذا لم يقدر على القعود مستوياً ، وقدر متّكئاً ، يجب أن يصلّي متّكئاً أو مستنداً أمّا المالكيّة فقد قال الدّردير ما معناه : المعتمد أنّ القيام مستنداً أولى من الجلوس مستقلاًّ . أمّا الجلوس مستقلاًّ فواجبٌ لا يعدل عنه إلى الجلوس مستنداً إلاّ عند العجز . وكذا لا يصار إلى الجلوس مستنداً ممّن قدر على القيام بالاستناد . ومثل ذلك الجلوس مستنداً ، فهو مقدّمٌ وجوباً على الصّلاة مضطجعاً ، ولم نجد للشّافعيّة والحنابلة ذكراً لهذه المسألة .
د - الاستناد في النّفل :
6 - قال النّوويّ : الاتّكاء في صلاة النّفل جائزٌ على العصيّ ونحوها باتّفاق العلماء إلاّ ابن سيرين فقد نقلت عنه كراهته . وقال مجاهدٌ : ينقص من أجره بقدره . وقد فصّل الحنفيّة فقالوا : أنّه مكروهٌ في التّطوّع كما هو مكروهٌ في الفرض . لكن لو افتتح التّطوّع قائماً ثمّ أعيا - أي كلّ وتعب - فلا بأس عليه أن يتوكّأ على عصاً أو حائطٍ أو نحو ذلك . وإنّما فرّق الجمهور بين الاستناد في الفرض فمنعوه ، وأجازوه في النّفل ، لأنّ النّفل تجوز صلاته من جلوس دون قيامٍ ، فكذا يجوز الاستناد فيه مع القيام .
الاستناد في غير الصّلاة :
أ - استناد النّائم المتوضّئ :(75/1)
7 - ذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية ، والشّافعيّة ، وهو روايةٌ للحنابلة إلى أنّه إذا نام مستنداً إلى شيءٍ - بحيث لو زال لسقط - لا ينتقض وضوء المستند في الأصحّ ، وعليه عامّة المشايخ ، وهذا إذا لم تكن مقعدته زائلةً عن الأرض وإلاّ نقض اتّفاقاً . وذهب المالكيّة ، وهو غير ظاهر الرّواية عند الحنفيّة إلى أنّه ينقض الوضوء ، لأنّه يعتبر من النّوم الثّقيل ، فإن كان لا يسقط فهو من النّوم الخفيف الّذي لا ينقض . والمذهب عند الحنابلة أنّ نوم المستند قليلاً كان أو كثيراً ينقض .
ب - الاستناد إلى القبور :
8 - يكره الاستناد إلى القبور عند جمهور الفقهاء ، صرّح بذلك الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وقد ألحقوا الاستناد بالجلوس الّذي وردت الأحاديث بالنّهي عنه . قال ابن قدامة : يكره الجلوس على القبر ، والاتّكاء عليه ، والاستناد إليه ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً : « لأن يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ » . وقال الخطّابيّ : روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد اتّكأ على قبرٍ فقال : لا تؤذ صاحب القبر » .
وقد قيّد الشّافعيّة الكرامة بعدم الحاجة إلى الاستناد ، وبكون الاستناد إلى قبر مسلمٍ . وقواعد غيرهم لا تأبى هذا التّقييد . وأمّا المالكيّة فيرون أنّه لا كراهة في الجلوس على القبر ، ومن باب أولى الاستناد إليه . قال الدّسوقيّ : يجوز الجلوس على القبر مطلقاً . وأمّا ما ورد من حرمة الجلوس على القبر فهو محمولٌ على الجلوس لقضاء الحاجة .
المبحث الثّاني : الاستناد بمعنى الاحتجاج :
9 - يأتي الاستناد بمعنى الاحتجاج بما يقوّي القضيّة المدّعاة ، ويكون إمّا في مقام المناظرة والاستدلال والاجتهاد ، فيرجع لمعرفة أحكامه إلى أبواب الأدلّة ، وباب الاجتهاد من علم الأصول . وإمّا في دعوى أمام القضاء ، فيرجع لمعرفة أحكامه إلى مصطلح ( إثباتٌ ) .
المبحث الثّالث : الاستناد بمعنى ثبوت الحكم بأثرٍ رجعيٍّ :
10 - الاستناد بهذا المعنى : هو أن يثبت الحكم في الحال لتحقّق علّته ، ثمّ يعود الحكم القهقريّ ليثبت في الماضي تبعاً لثبوته في الحاضر . ومن أمثلته : أنّ المغصوب إذا تلف تحت يد الغاصب بفعله أو بغير فعله يضمنه بمثله أو بقيمته ، فإذا ضمنه ملكه ملكاً مستنداً إلى وقت وجود سبب الضّمان ، حتّى أنّه يملك زوائده المتّصلة الّتي وجدت من حين الغصب إلى حين الضّمان ، لأنّها نماء ملكه .
ومن أمثلته أيضاً أنّ البيع الموقوف نفاذه على إجازة من له حقّ الإجازة - كبيع الصّبيّ المميّز يقف نفاذه على إجازة وليّه - إذا أجازه نفذ نفاذاً مستنداً إلى وقت وجود العقد ، حتّى يملك المشتري زوائده المتّصلة والمنفصلة . واستعمال لفظ الاستناد بهذا المعنى هو مصطلحٌ للحنفيّة خاصّةً . والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يستعملون بدلاً منه اصطلاح " التّبيّن " ، والمالكيّة يعبّرون أيضاً عن ذلك المعنى " بالانعطاف " . ومعنى الاستناد في الإجازة مثلاً أنّ العقد الموقوف إذا أجيز يكون للإجازة استنادٌ وانعطافٌ ، أي تأثيرٌ رجعيٌّ ، فبعد الإجازة يستفيد العاقد من ثمرات العقد منذ انعقاده ، لأنّ الإجازة لم تنشئ العقد إنشاءً بل أنفذته إنفاذاً ، أي فتحت الطّريق لآثاره الممنوعة المتوقّفة لكي تمرّ وتسري ، فتلحق تلك الآثار بالعقد المولّد لها اعتباراً من تاريخ انعقاده ، لا من تاريخ الإجازة فقط . فبعد الإجازة يعتبر الفضوليّ كوكيلٍ عن صاحب العقد قبل العقد ، وبما أنّ تصرّفات الوكيل نافذةٌ على الموكّل منذ صدورها ، يكون عقد الفضوليّ نافذاً على المجيز نفاذاً مستنداً إلى تاريخ العقد .
هذا ، ومن أجل أنّ هذا الاصطلاح خاصٌّ بالحنفيّة فسيكون كلامنا في هذا المبحث معبّراً عن مذهب الحنفيّة خاصّةً ، إلاّ في المواضع الّتي ينصّ فيها على غيرهم .
11 - وقد ذكر ابن نجيمٍ أنّ الأحكام تثبت بطرقٍ أربعٍ ، فذكر مع الاستناد الّذي سبق بيانه :
أ - الاقتصار : وهو الأصل . كما إذا أنشأ طلاقاً منجّزاً غير معلّقٍ ، فإنّ الطّلاق يقع عند هذا القول في الحال ، فيقتصر عليه ولا يكون له أثرٌ رجعيٌّ .
ب - والانقلاب : هو أن يثبت الحكم في وقتٍ لاحقٍ متأخّرٍ عن القول ، كما لو قال لزوجته : أنت طالقٌ إن دخلت الدّار ، لا يثبت به الطّلاق في الحال ، لكن إن دخلتها طلقت بدخولها . ووجه تسميته انقلاباً : أنّ ما ليس بعلّةٍ - وهو الصّيغة المعلّقة - انقلب علّةً بوجود الدّخول ، إذ أنّ قوله : أنت طالقٌ ليس بعلّةٍ للطّلاق قبل دخولها البيت ، ومتى دخلت انقلب فأصبح علّةً ، لأنّ ذلك القائل جعل للعلّيّة شرطاً وقد تحقّق .
ج - والتّبيّن أو الظّهور : وهو أن يظهر في الحال أنّ الحكم كان ثابتاً من قبل ، كما لو قال يوم الجمعة : إن كان زيدٌ في الدّار فأنت طالقٌ ، ثمّ يتبيّن يوم السّبت أنّ زيداً كان في الدّار يوم الجمعة ، فإنّ الطّلاق يقع يوم الجمعة عند قوله ذاك ، وإن لم يتبيّن أنّه وقع يوم الجمعة إلاّ في يوم السّبت . والعدّة تبتدئ يوم الجمعة .
التّفريق بين الاستناد والتّبيّن :
12 - في حالة الاستناد لم يكن الحكم ثابتاً في نفس الأمر في الماضي ، ثمّ لمّا ثبت في الحاضر رجع ثبوته القهقريّ فانسحب على المدّة السّابقة ، أمّا في التّبيّن فقد كان الحكم ثابتاً في نفس الأمر ولكن تأخّر العلم به ، ومن هنا ظهر بين الأمرين الفروق التّالية :(75/2)
الأوّل : أنّ حالة التّبيّن يمكن أن يطّلع العباد فيها على الحكم . وفي الاستناد لا يمكن . ففي المثال السّابق للتّبيّن وهو قوله : إن كان زيدٌ في الدّار فأنت طالقٌ ثمّ علم كونه في الدّار بعد مدّةٍ ، فإنّ العلم بكونه في الدّار ممّا يدخل في طوق العباد ، بخلاف العلم بإجازة الوليّ لبيع الصّبيّ ، فإنّه لا يمكن العلم بإجازته قبل أن يجيز .
الثّاني : أنّ حالة التّبيّن لا يشترط فيها قيام المحلّ عند حصول تبيّن الحكم ، ولا استمرار وجوده إلى حين التّبيّن . فلو قال لزوجته : أنت طالقٌ إن كان زيدٌ في الدّار ، فحاضت ثلاث حيضٍ ثمّ طلّقها ثلاثاً ، ثمّ ظهر أنّ زيداً كان في الدّار في ذلك الوقت ، لا تقع الثّلاث ، لأنّه تبيّن وقوع الأوّل ، وأنّ إيقاع الثّلاث كان بعد انقضاء العدّة . أمّا في حالة الاستناد فلا بدّ من قيام المحلّ حال ثبوت الحكم ، وعدم انقطاع وجوده من وقت ثبوت الحكم ، عوداً إلى الوقت الّذي استند إليه ، كما في الزّكاة تجب بتمام الحول ، ويستند وجوبها إلى وقت وجود النّصاب ، فلو كان عند تمّام الحول مفقوداً ، أو انقطع أثناءه لم يثبت الوجوب في آخر الحول .
الاستناد من وجهٍ دون وجهٍ :
13 - إذا استند الملك فإنّه في الفترة ما بين التّصرّف إلى حصول الإجازة وما يقوم معها - كضمان المضمونات - ملكٌ ناقصٌ ، وليس كغيره من الملك التّامّ .
ويتفرّع على هذه المسألة فرعان :
الفرع الأوّل : لو غصب عيناً فزادت عنده زيادةً متّصلةً كالسّمن ، أو منفصلةً كالولد ، فإذا ضمن الغاصب المغصوب فيما بعد ، ملكه ملكاً مستنداً إلى وقت الغصب . أمّا الزّيادة المتّصلة كسمن الدّابّة فلا يضمنها ، لأنّها تكون قد حدثت على ملكه . وأمّا الزّيادة المنفصلة الّتي حصلت بعد الغصب وقبل الضّمان ، لو باعها أو استهلكها ، فإنّه يضمنها ، لأنّها في الأصل غير مضمونة عليه ، إذ قد حدثت عنده أمانةً في يده فلا يضمنها إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط ، وببيعها أو استهلاكها يكون متعدّياً ، فكان غاصباً لها فيضمنها على تفصيلٍ موطنه الغصب . فظهر الاستناد من جهة الزّوائد المتّصلة ، واقتصر الملك على الحال من جهة الزّوائد المنفصلة . قال الكاسانيّ : أثبتنا الملك بطريق الاستناد ، فالمستند يظهر من وجهٍ ويقتصر على الحال من وجهٍ ، فيعمل بشبه الظّهور في الزّوائد المتّصلة ، وبشبه الاقتصار في المنفصلة ، ليكون عملاً بالشّبهين بقدر الإمكان .
الفرع الثّاني : لو استغلّ الغاصب المغصوب ، كما لو آجر الدّابّة ، فإنّه يتصدّق بالغلّة على قول أبي حنيفة ومحمّدٍ ، ولا يلزمه أن يتصدّق بالغلّة على قول أبي يوسف ، لأنّه حصل في ملكه حين أدّى ضمانه مستنداً إلى حين الغصب . وقال البابرتيّ : وإنّما قال أبو حنيفة بالتّصدّق بالغلّة لأنّها حصلت بسببٍ خبيثٍ وهو التّصرّف في ملك الغير ، وهو وإن دخل في ملكه من حين الغصب ، إلاّ أنّ الملك المستند ناقصٌ لكونه ثابتاً فيه من وجهٍ دون وجهٍ ، ولهذا يظهر في حقّ المغصوب القائم دون الفائت ، فلا ينعدم فيه الخبث .
ما نشأ عن اعتبار الإجازة مستندةً في البيع الموقوف :
14 - نشأ عن نظريّة استناد إجازة التّصرّفات الموقوفة إلى وقت الانعقاد إن اشترطوا لصحّة الإجازة قيام المجيز والمحلّ عند العقد ، بالإضافة إلى قيام العاقدين . ولذا يقول الحصكفيّ : كلّ تصرّفٍ صدر من الفضوليّ وله مجيزٌ - أي من يقدر على إمضائه حال وقوعه - انعقد موقوفاً ، وما لا مجيز له لا ينعقد أصلاً . فلو أنّ صبيّاً باع عيناً ثمّ بلغ قبل إجازة وليّه فأجازه بنفسه جاز ، لأنّ له وليّاً يجيزه حالة العقد ، بخلاف ما لو طلّق مثلاً ثمّ بلغ فأجازه بنفسه ، لأنّه وقت قيام التّصرّف لا مجيز له - أي لأنّ وليّه لا يملك إجازة الطّلاق - فيبطل ، إلاّ أن يوقع الطّلاق حينئذٍ ، كأن يقول بعد البلوغ : أوقعت ذلك الطّلاق .
ما يدخله الاستناد :
15 - يدخل الاستناد في تصرّفات شرعيّةٍ كثيرةٍ : منها في العبادة كما ذكر ابن نجيمٍ في الأشباه : أنّ الزّكاة تجب بتمام الحول مستنداً إلى أوّل وجود النّصاب .
وكطهارة المستحاضة تنتقض عند خروج الوقت مستنداً إلى وقت الحدث ، لا إلى خروج الوقت ، وكطهارة المتيمّم ، تنتقض عند رؤية الماء مستنداً إلى وقت الحدث لا إلى رؤية الماء ، فلو لبست المستحاضة الخفّ مع السّيلان أو بعده لم تمسح عليه ، ولو لبس المتيمّم الخفّ بعد تيمّمه لا يجوز له المسح عليه . ووضّح ذلك الكرلانيّ من الحنفيّة بالنّسبة للمستحاضة بأنّ الثّابت بالاستناد ثابتٌ من وجهٍ دون وجهٍ ، لأنّه بين الظّهور والاقتصار ، لأنّ انتقاض الوضوء حكم الحدث ، والحدث وجد في تلك الحالة ، فهذا يقتضي صيرورتها محدثةً معلّقةً بخروج الوقت ، وخروج الوقت وجد الآن ، فهذا يقتضي صيرورتها محدثةً في الحال ، فجعلناه ظهوراً من وجهٍ اقتصاراً من وجهٍ ، ولو كان ظهوراً من كلّ وجهٍ لا يجوز المسح ، ولو كان اقتصاراً من كلّ وجهٍ لجاز المسح ، فقلنا لا يجوز المسح أخذاً بالاحتياط .
16 - ويكون الاستناد أيضاً في البيوع الموقوف نفاذها على الإجازة كما تقدّم . ومن البيوع الموقوفة بيع المكره والمرتدّ ، وما صدر من مالكٍ غير أهلٍ لتولّي طرفي العقد ، كالصّبيّ المميّز والسّفيه المحجور عليه ، وبيع المحجور عليه لحقّ الدّائنين ، وما صدر ممّن ليس له ولايةٌ شرعيّةٌ كالفضوليّ . وكذا لو باع المالك ما تعلّق به حقّ الغير كالمرهون .(75/3)
ويدخل الاستناد أيضاً سائر العقود والإسقاطات والتّصرّفات الّتي تتوقّف على الإجازة ، فمثلاً كلّ تصرّفٍ صدر من الفضوليّ تمليكاً كتزويجٍ ، أو إسقاطاً كطلاقٍ وإعتاقٍ ، ينعقد موقوفاً على الإجازة ويستند . والقاعدة في ذلك أنّ " الإجازة اللاّحقة كالوكالة السّابقة " ( ر : إجازةٌ ) . وكذا العقود الّتي فيها الخيار للطّرفين ، أو لأحدهما إذا أجازها من له الخيار فلزمت ، فإنّها تلزم لزوماً مستنداً إلى وقت الانعقاد ، لأنّها موقوفةٌ على قولٍ ، والمضمونات تملك بأداء الضّمان ملكاً مستنداً إلى وقت سبب الضّمان .
ويكون الاستناد أيضاً في الوصيّة إذا قبل الموصى له المعيّن ما أوصى له به ، عند من يثبت الملك فيه من حين موت الموصي ، وهو القول الأصحّ للشّافعيّة ، وهو وجهٌ مرجوحٌ عند الحنابلة ، وعليه فيطالب الموصى له بثمرة الموصى به ، وتلزمه نفقته وفطرته وغيرهما من حين موت الموصي .
وممّا يدخله الاستناد : الوصيّة لأجنبيٍّ بأكثر من الثّلث ، أو لوارثٍ ، وتبرّعات المريض في مرض الموت ، إذ يتوقّف ذلك على إجازة الورثة ، ويستند إلى وقت وفاة الموصي عند بعض الفقهاء .
الاستناد في الفسخ والانفساخ :
17 - مذهب الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الفسخ لا يرفع العقد من أصله ، وإنّما في فسخٍ فيما يستقبل من الزّمان دون الماضي على ما نقل شيخ الإسلام خواهر زاده . وعند الشّافعيّة في القول المرجوح ، وهو أحد وجهين للحنابلة يستند الفسخ إلى وقت العقد .(75/4)
استنثارٌ *
التعريف :
1 - الاستنثار : هو نثر ما في الأنف من مخاطٍ وغيره بالنّفس ، واستنثر الإنسان : استنشق الماء ، ثمّ استخرج ذلك بنفس الأنف . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستنثار سنّةٌ في الطّهارة ، لما ورد في صفة وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه « تمضمض واستنشق واستنثر » . وللفقهاء تفصيلٌ في كيفيّته .
مواطن البحث :
3 - تنظر أحكام الاستنثار وكيفيّته تحت مصطلح ( وضوءٌ ) ( وغسلٌ ) .(76/1)
استنجاءٌ *
التعريف :
1 - من معاني الاستنجاء : الخلاص من الشّيء ، يقال : استنجى حاجته منه ، أي خلّصها . والنّجوة ما ارتفع من الأرض فلم يعلها السّيل ، فظننتها نجاءك .
وأنجيت الشّجرة واستنجيتها : قطعتها من أصلها . ومأخذ الاستنجاء في الطّهارة ،
قال شمرٌ : أراه من الاستنجاء بمعنى القطع ، لقطعه العذرة بالماء ، وقال ابن قتيبة : مأخوذٌ من النّجوة وهي ما ارتفع من الأرض ، لأنّه إذا أراد قضاء الحاجة استتر بها .
وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الاستنجاء اصطلاحاً ، وكلّها تلتقي على أنّ الاستنجاء إزالة ما يخرج من السّبيلين ، سواءٌ بالغسل أو المسح بالحجارة ونحوها عن موضع الخروج وما قرب منه . وليس غسل النّجاسة عن البدن أو عن الثّوب استنجاءً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستطابة :
2 - الاستطابة هي بمعنى الاستنجاء ، تشمل استعمال الماء والحجارة . وفي قولٍ عند الشّافعيّة أنّها خاصّةٌ باستعمال الماء ، فتكون حينئذٍ أخصّ من الاستنجاء . وأصلها من الطّيب ، لأنّها تطيّب المحلّ بإزالة ما فيه من الأذى ، ولذا يقال فيها أيضاً الإطابة .
ب - الاستجمار :
3 - الجمار : الحجارة ، جمع جمرةٍ وهي الحصاة . ومعنى الاستجمار : استعمال الحجارة ونحوها في إزالة ما على السّبيلين من النّجاسة .
ج - الاستبراء :
4 - الاستبراء لغةً طلب : البراءة ، وفي الاصطلاح : طلب البراءة من الخارج بما تعارفه الإنسان من مشيٍ أو تنحنحٍ أو غيرهما إلى أن تنقطع المادّة ، فهو خارجٌ عن ماهيّة الاستنجاء ، لأنّه مقدّمةٌ له .
د - الاستنقاء :
5 - الاستنقاء : طلب النّقاوة ، وهو أن يدلك المقعدة بالأحجار ، أو بالأصابع حالة الاستنجاء بالماء حتّى ينقّيها ، فهو أخصّ من الاستنجاء ، ومثله الإنقاء . قال ابن قدامة : هو أن تذهب لزوجة النّجاسة وآثارها .
حكم الاستنجاء :
6 - في حكم الاستنجاء - من حيث الجملة - رأيان للفقهاء :
الأوّل : أنّه واجبٌ إذا وجد سببه ، وهو الخارج ، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجارٍ ، يستطيب بهنّ ، فإنّها تجزي عنه » وقوله : « لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجارٍ » رواه مسلمٌ وفي لفظٍ له : « لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة أحجارٍ » ، قالوا : والحديث الأوّل أمرٌ ، والأمر يقتضي الوجوب . وقال : « فإنّها تجزي عنه » والإجزاء إنّما يستعمل في الواجب ، ونهى عن الاقتصار على أقلّ من ثلاثةٍ ، والنّهي يقتضي التّحريم ، وإذا حرّم ترك بعض النّجاسة فجميعها أولى .
7 - الرّأي الثّاني : أنّه مسنونٌ وليس بواجبٍ . وهو قول الحنفيّة ، وروايةٌ عن مالكٍ . ففي منية المصلّي : الاستنجاء مطلقاً سنّةٌ لا على سبيل التّعيين من كونه بالحجر أو بالماء ، وهو قول المزنيّ من أصحاب الشّافعيّ . ونقل صاحب المغني من قول ابن سيرين فيمن صلّى بقومٍ ولم يستنج ، قال : لا أعلم به بأساً . قال الموفّق : يحتمل أنّه لم ير وجوب الاستنجاء . واحتجّ الحنفيّة بما في سنن أبي داود من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « من استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج » قال في مجمع الأنهر : لأنّه لو كان واجباً لما انتفى الحرج عن تاركه . واحتجّوا أيضاً بأنّه نجاسةٌ قليلةٌ ، والنّجاسة القليلة عفوٌ .
وفي السّراج الوهّاج للحنفيّة : الاستنجاء خمسة أنواعٍ . أربعةٌ فريضةٌ : من الحيض والنّفاس والجنابة ، وإذا تجاوزت النّجاسة مخرجها .
وواحدٌ سنّةٌ ، وهو ما إذا كانت النّجاسة قدر المخرج . وقد رفض ابن نجيمٍ هذا التّقسيم ، وقرّر أنّ الثّلاثة هي من باب إزالة الحدث ، والرّابع من باب إزالة النّجاسة العينيّة عن البدن ، وليس ذلك من باب الاستنجاء ، فلم يبق إلاّ القسم المسنون . وأقرّ ابن عابدين التّقرير . وقال القرافيّ بعد أن ذكر أنّ من ترك الاستنجاء وصلّى بالنّجاسة أعاد ، قال : ولمالكٍ رحمه الله في العتبية : لا إعادة عليه ، ثمّ ذكر الحديث المتقدّم : « من استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج » وقال : الوتر يتناول المرّة الواحدة ، فإذا نفاها لم يبق شيءٌ ، ولأنّه محلٌّ تعمّ به البلوى فيعفى عنه ، وهذا يقتضي أنّ عند مالكٍ قولاً بعدم الوجوب . ثمّ هو عند الحنفيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ لمواظبته صلى الله عليه وسلم . وبنى ابن عابدين على ذلك كراهة تركه ، ونقله أيضاً عن البدائع . ونقل عن الخلاصة والحلية نفي الكراهة ، بناءً على أنّه مستحبٌّ لا سنّةٌ ، بخلاف النّجاسة المعفوّ عنها في غير موضع الحدث فتركها يكره .
وقت وجوب الاستنجاء عند القائلين بوجوبه :
8 - إنّ وجوب الاستنجاء إنّما هو لصحّة الصّلاة . ولذا قال الشبراملسي من الشّافعيّة : لا يجب الاستنجاء على الفور ، بل عند القيام إلى الصّلاة حقيقةً أو حكماً ، بأن دخل وقت الصّلاة وإن لم يرد فعلها في أوّله . فإذا دخل وقت الصّلاة وجب وجوباً موسّعاً بسعة الوقت ، ومضيّقاً بضيقه . ثمّ قال : نعم ، إن قضى حاجته في الوقت ، وعلم أنّه لا يجد الماء في الوقت ، وجب استعمال الحجر فوراً .
علاقة الاستنجاء بالوضوء ، والتّرتيب بينهما :(77/1)
9 - الاستنجاء من سنن الوضوء قبله عند الحنفيّة والشّافعيّة ، والرّواية المعتمدة للحنابلة ، فلو أخّره عنه جاز وفاتته السّنّيّة ، لأنّه إزالة نجاسةٍ ، فلم تشترط لصحّة الطّهارة ، كما لو كانت على غير الفرج . وصرّح المالكيّة بأنّه لا يعدّ من سنن الوضوء ، وإن استحبّوا تقديمه عليه . أمّا الرّواية الأخرى عند الحنابلة : فالاستنجاء قبل الوضوء - إذا وجد سببه - شرطٌ في صحّة الصّلاة . فلو توضّأ قبل الاستنجاء لم يصحّ ، وعلى هذه الرّواية اقتصر صاحب كشّاف القناع . قال الشّافعيّة : وهذا في حقّ السّليم ، أمّا في حقّ صاحب الضّرورة - يعنون صاحب السّلس ونحوه - فيجب تقديم الاستنجاء على الوضوء .
وعلى هذا ، فإذا توضّأ السّليم قبل الاستنجاء ، يستجمر بعد ذلك بالأحجار ، أو يغسله بحائلٍ بينه وبين يديه ، ولا يمسّ الفرج . وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك التّفصيل .
علاقة الاستنجاء بالتّيمّم ، والتّرتيب بينهما :
10 - للفقهاء في ذلك اتّجاهان :
الاتّجاه الأوّل : أنّه يجب تقديم الاستجمار على التّيمّم ، وهذا رأي الشّافعيّة ، وهو أحد احتمالين عند المالكيّة ، وقولٌ عند الحنابلة . وعلّل القرافيّ ذلك بأنّ التّيمّم لا بدّ أن يتّصل بالصّلاة ، فإذا تيمّم ثمّ استنجى فقد فرّقه بإزالة النّجو . وعلّل القاضي أبو يعلى ذلك بأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث ، وإنّما تستباح به الصّلاة ، ومن عليه نجاسةٌ يمكنه إزالتها لا تباح له الصّلاة ، فلم تصحّ نيّة الاستباحة ، كما لو تيمّم قبل الوقت .
والاتّجاه الثّاني : أنّ التّرتيب هنا لا يجب ، وهو الاحتمال الثّاني عند المالكيّة ، والقول الآخر للحنابلة . قال القرافيّ : كما لو تيمّم ثمّ وطئ نعله على روثٍ ، فإنّه يمسحه ويصلّي . وقال القاضي أبو يعلى : لأنّه طهارةٌ فأشبهت الوضوء ، والمنع من الإباحة لمانعٍ آخر لا يقدح في صحّة التّيمّم ، كما لو تيمّم في موضعٍ نهي عن الصّلاة فيه ، أو تيمّم وعلى ثوبه نجاسةٌ . وقيل عند الحنابلة : لا يصحّ تأخيره عن التّيمّم قولاً واحداً .
حكم استنجاء من به حدثٌ دائمٌ :
11 - من كان به حدثٌ دائمٌ ، كمن به سلس بولٍ ونحوه ، يخفّف في شأنه حكم الاستنجاء ، كما يخفّف حكم الوضوء .
ففي قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : يستنجي ويتحفّظ ، ثمّ يتوضّأ لكلّ صلاةٍ بعد دخول الوقت . فإذا فعل ذلك وخرج منه شيءٌ لم يلزمه إعادة الاستنجاء والوضوء بسبب السّلس ونحوه ، ما لم يخرج الوقت على مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو أحد قولي الحنابلة . أو إلى أن يدخل وقت الصّلاة الأخرى على المعتمد من قولي الحنابلة . وأمّا على قول المالكيّة : فلا يلزم من به السّلس التّوضّؤ منه لكلّ صلاةٍ ، بل يستحبّ ذلك ما لم يشقّ ، فعندهم أنّ ما يخرج من الحدث إذا كان مستنكحاً - أي كثيراً يلازم كلّ الزّمن أو جلّه ، بأن يأتي كلّ يومٍ مرّةً فأكثر - فإنّه يعفى عنه ، ولا يلزمه غسل ما أصاب منه ولا يسنّ ، وإن نقض الوضوء وأبطل الصّلاة في بعض الأحوال ، وسواءٌ أكان غائطاً ، أم بولاً ، أم مذياً ، أم غير ذلك .
ما يستنجى منه :
12 - أجمع الفقهاء على أنّ الخارج من السّبيلين المعتاد النّجس الملوّث يستنجى منه حسبما تقدّم . أمّا ما عداه ففيه خلافٌ ، وتفصيلٌ بيانه فيما يلي :
الخارج غير المعتاد :
13 - الخارج غير المعتاد كالحصى والدّود والشّعر ، لا يستنجى منه إذا خرج جافّاً ، طاهراً كان أو نجساً .
أمّا إذا كان به بلّةٌ ولوّث المحلّ فيستنجى منها ، فإن لم يلوّث المحلّ فلا يستنجى منه عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو القول المقدّم عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة . والقول الآخر عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة : يستنجى من كلّ ما خرج من السّبيلين غير الرّيح .
ذالدّم والقيح وشبههما من غير المعتاد :
14 - إن خرج الدّم أو القيح من أحد السّبيلين ففيه قولان للفقهاء :
الأوّل : أنّه لا بدّ من غسله كسائر النّجاسات ، ولا يكفي فيه الاستجمار . وهذا قولٌ عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة ، لأنّ الأصل في النّجاسة الغسل ، وترك ذلك في البول والغائط للضّرورة ، ولا ضرورة هنا ، لندرة هذا النّوع من الخارج . واحتجّ أصحاب هذا القول أيضاً بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أمر بغسل الذّكر من المذي » والأمر يقتضي الوجوب . قال ابن عبد البرّ : استدلّوا بأنّ الآثار كلّها على اختلاف ألفاظها وأسانيدها ليس فيها ذكر الاستجمار ، إنّما هو الغسل . كالأمر بالغسل من المذي في حديث عليٍّ .
والقول الثّاني : أنّه يجزئ فيه الاستجمار ، وهو رأي الحنفيّة والحنابلة ، وقولٌ لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة ، وهذا إن لم يختلط ببولٍ أو غائطٍ .
وحجّة هذا القول ، أنّه وإن لم يشقّ فيه الغسل لعدم تكرّره ، فهو مظنّة المشقّة . وأمّا المذي فمعتادٌ كثيرٌ ، ويجب غسل الذّكر منه تعبّداً ، وقيل : لا يجب .
ما خرج من مخرجٍ بديلٍ عن السّبيلين :
15 - إذا انفتح مخرجٌ للحدث ، وصار معتاداً ، استجمر منه عند المالكيّة ، ولا يلحق بالجسد ، لأنّه أصبح معتاداً بالنّسبة إلى ذلك الشّخص المعيّن . وعند الحنابلة : إذا انسدّ المخرج المعتاد وانفتح آخر ، لم يجزئه الاستجمار فيه ، ولا بدّ من غسله ، لأنّه غير السّبيل المعتاد . وفي قولٍ لهم : يجزئ . ولم يعثر على قول الحنفيّة والشّافعيّة في هذه المسألة .
المذي :(77/2)
16 - المذي نجسٌ عند الحنفيّة ، فهو ممّا يستنجى منه كغيره ، بالماء أو بالأحجار . ويجزئ الاستجمار أو الاستنجاء بالماء منه . وكذلك عند المالكيّة في قولٍ هو خلاف المشهور عندهم ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وروايةٌ عند الحنابلة . أمّا في المشهور عند المالكيّة ، وهي الرّواية الأخرى عند الحنابلة ، فيتعيّن فيه الماء ولا يجزئ الحجر ، لما روي أنّ عليّاً رضي الله عنه قال : « كنت رجلاً مذّاءً ، فاستحيت أن أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته ، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ، فقال : يغسل ذكره وأنثييه ويتوضّأ » . وفي لفظٍ « يغسل ذكره ويتوضّأ » . وإنّما يتعيّن فيه الغسل عند المالكيّة إذا خرج بلذّةٍ معتادةٍ ، أمّا إن خرج بلا لذّةٍ أصلاً فإنّه يكفي فيه الحجر ، ما لم يكن يأتي كلّ يومٍ على وجه السّلس ، فلا يطلب في إزالته ماءٌ ولا حجرٌ ، بل يعفى عنه .
الودي :
17 - الودي خارجٌ نجسٌ ، ويجزي فيه الاستنجاء بالماء أو بالأحجار عند فقهاء المذاهب الأربعة .
الرّيح :
18 - لا استنجاء من الرّيح . صرّح بذلك فقهاء المذاهب الأربعة . فقال الحنفيّة : هو بدعةٌ ، وهذا يقتضي أنّه عندهم محرّمٌ ، ومثله ما قاله القليوبيّ من الشّافعيّة ، بل يحرم ، لأنّه عبادةٌ فاسدةٌ . ويكره عند المالكيّة والشّافعيّة . قال الدّسوقيّ : لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من استنجى من ريحٍ » والنّهي للكراهة . وقال صاحب نهاية المحتاج من الشّافعيّة : لا يجب ولا يستحبّ الاستنجاء من الرّيح ولو كان المحلّ رطباً . وقال ابن حجرٍ المكّيّ : يكره من الرّيح إلاّ إن خرجت والمحلّ رطبٌ . والّذي عبّر به الحنابلة : أنّه لا يجب منها ، ومقتضى استدلالهم الآتي الكراهة على الأقلّ . قال صاحب المغني : للحديث « من استنجى من ريحٍ فليس منّا » رواه الطّبرانيّ في معجمه الصّغير .
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم } . الآية إذا قمتم من النّوم . ولم يأمر بغيره ، يعني فلو كان واجباً لأمر به ، لأنّ النّوم مظنّة خروج الرّيح ، فدلّ على أنّه لا يجب ، ولأنّ الوجوب من الشّرع ، ولم يرد بالاستنجاء هاهنا نصٌّ ، ولا هو في معنى المنصوص عليه ، لأنّ الاستنجاء شرع لإزالة النّجاسة ، ولا نجاسة هاهنا .
الاستنجاء بالماء :
19 - يستحبّ باتّفاق المذاهب الأربعة الاستنجاء بالماء . وقد ورد عن بعض الصّحابة والتّابعين إنكار الاستنجاء به ، ولعلّ ذلك لأنّه مطعومٌ .
والحجّة لإجزاء استعمال الماء ما روى أنس بن مالكٍ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء ، فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إداوةً من ماءٍ وعنزةً ، فيستنجي بالماء » متّفقٌ عليه . وعن « عائشة أنّها قالت : مرن أزواجكنّ أن يستطيبوا بالماء فإنّي أستحييهم ، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله » . وقد حمل المالكيّة ما ورد عن السّلف من إنكار استعمال الماء بأنّه في حقّ من أوجب استعمال الماء . وحمل صاحب كفاية الطّالب ما ورد عن سعيد بن المسيّب من قوله : وهل يفعل ذلك إلاّ النّساء ؟ على أنّه من واجبهنّ .
الاستنجاء بغير الماء من المائعات :
20 - لا يجزئ الاستنجاء بغير الماء من المائعات على قول الجمهور : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو روايةٌ عن محمّد بن الحسن تعدّ ضعيفةً في المذهب . قال المالكيّة : بل يحرم الاستنجاء بمائعٍ غير الماء لنشره النّجاسة . وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يمكن أن يتمّ الاستنجاء - كما في إزالة النّجاسة - بكلّ مائعٍ طاهرٍ مزيلٍ ، كالخلّ وماء الورد ، دون ما لا يزيل كالزّيت ، لأنّ المقصود قد تحقّق ، وهو إزالة النّجاسة . ثمّ قد قال ابن عابدين : يكره الاستنجاء بمائعٍ غير الماء ، لما فيه من إضاعة المال بلا ضرورةٍ .
أفضليّة الغسل بالماء على الاستجمار :
21 - إنّ غسل المحلّ بالماء أفضل من الاستجمار ، لأنّه أبلغ في الإنقاء ، ولإزالته عين النّجاسة وأثرها . وفي روايةٍ عن أحمد : الأحجار أفضل ، ذكرها صاحب الفروع . وإذا جمع بينهما بأن استجمر ثمّ غسل كان أفضل من الكلّ بالاتّفاق . وبيّن النّوويّ وجه الأفضليّة بقوله : تقديم الأحجار لتقلّ مباشرة النّجاسة واستعمال الماء ، فلو استعمل الماء أوّلاً لم يستعمل الحجارة بعده ، لأنّه لا فائدة فيه . وعند الحنابلة التّرتيب بتقديم الاستجمار على الغسل مستحبٌّ ، وإن قدّم الماء وأتبعا الحجارة كره ، لقول عائشة : « مرن أزواجكنّ أن يتبعوا الحجارة الماء فإنّي أستحييهم ، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله » . وعند الحنفيّة قيل : الغسل بالماء سنّةٌ ، وقيل : الجمع سنّةٌ في زماننا . وقيل : سنّةٌ على الإطلاق ، وهو الصّحيح وعليه الفتوى كما في البحر الرّائق . هذا وقد احتجّ الخرشيّ وغيره على أفضليّة الجمع بين الماء والحجر بأنّ أهل قباء كانوا يجمعون بينهما ، فمدحهم اللّه تعالى بقوله : { إنّ اللّه يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين } وحقّق النّوويّ أنّ الرّواية الصّحيحة في ذلك ليس فيها أنّهم كانوا يجمعون بينهما ، وإنّما فيها أنّهم يستنجون بالماء .
ما يستجمر به :(77/3)
22 - الاستجمار يكون بكلّ جامدٍ إلاّ ما منع منه وسيأتي تفصيله ، وهذا قول جمهور العلماء ، ومنهم الإمام أحمد في الرّواية المعتمدة عنه ، وهو الصّحيح من مذهب الحنابلة . وفي روايةٍ عن أحمد اختارها أبو بكرٍ : لا يجزئ في الاستجمار شيءٌ من الجوامد من خشبٍ وخرقٍ إلاّ الأحجار ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار »، وأمره يقتضي الوجوب ، ولأنّه موضع رخصةٍ ورد فيها الشّرع بآلةٍ مخصوصةٍ ، فوجب الاقتصار عليها ، كالتّراب في التّيمّم . والدّليل لقول الجمهور : ما روى أبو داود عن خزيمة قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال : بثلاثة أحجارٍ ليس فيها رجيعٌ » فلولا أنّه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن الرّجيع ، لأنّه لا يحتاج لذكره ، ولم يكن لتخصيص الرّجيع بالذّكر معنًى . وعن سلمان قال «: قيل له : قد علّمكم نبيّكم كلّ شيءٍ حتّى الخراء قال : فقال : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائطٍ أو بولٍ ، أو أن نستنجي باليمين . أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجارٍ ، أو أن نستنجي برجيعٍ أو عظمٍ » 0 وفارق التّيمّم ، لأنّ القصد هنا إزالة النّجاسة ، وهي تحصل بغير الأحجار ، أمّا التّيمّم فهو غير معقول المعنى .
الاستجمار هل هو مطهّرٌ للمحلّ ؟
23 - اختلف الفقهاء في هذا على قولين :
الأوّل : أنّ المحلّ يصير طاهراً بالاستجمار ، وهو قولٌ عند كلٍّ من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . قال ابن الهمام : والّذي يدلّ على اعتبار الشّرع طهارته أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى أن يستنجى بروثٍ أو عظمٍ ، وقال : إنّهما لا يطهّران » فعلم أنّ ما أطلق الاستنجاء به يطهّر ، إذ لو لم يطهّر لم يطلق الاستنجاء به لهذه العلّة . وكذلك قال الدّسوقيّ المالكيّ : يكون المحلّ طاهراً لرفع الحكم والعين عنه .
والقول الثّاني : وهو القول الآخر لكلٍّ من الحنفيّة والمالكيّة ، وقول المتأخّرين من الحنابلة : أنّ المحلّ يكون نجساً معفوّاً عنه للمشقّة . قال ابن نجيمٍ : ظاهر ما في الزّيلعيّ أنّ المحلّ لا يطهر بالحجر . وفي كشّاف القناع للحنابلة : أثر الاستجمار نجسٌ يعفى عن يسيره في محلّه للمشقّة . وفي المغني : وعليه لو عرق كان عرقه نجساً .
24 - وجمهور الفقهاء على أنّ الرّطوبة إذا أصابت المحلّ بعد الاستجمار يعفى عنها .
قال ابن نجيمٍ من الحنفيّة : بناءً على القول بأنّ المحلّ بعد الاستجمار نجسٌ معفوٌّ عنه ، يتفرّع عليه أنّه يتنجّس السّبيل بإصابة الماء . وفيه الخلاف المعروف في مسألة الأرض إذا جفّت بعد التّنجّس ثمّ أصابها الماء ، وقد اختاروا في الجميع عدم عود النّجاسة ، فليكن كذلك هنا . ثمّ نقل عن ابن الهمام قوله : أجمع المتأخّرون - أي من الحنفيّة - على أنّه لا ينجس المحلّ بالعرق ، حتّى لو سال العرق منه ، وأصاب الثّوب والبدن أكثر من قدر الدّرهم لا يمنع ( أي لا يمنع صحّة الصّلاة ) .
ونقل القرافيّ عن صاحب الطّراز وابن رشدٍ : يعفى عنه لعموم البلوى . قال : وقد عفي عن ذيل المرأة تصيبه النّجاسة ، مع إمكان شيله ، فهذا أولى ، ولأنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يستجمرون ويعرقون . والقول الآخر : قاله الشّافعيّة ، وابن القصّار من المالكيّة : لا ينجس إن لم تتعدّ الرّطوبة محلّ الاستجمار ، وينجس إن تعدّت النّجاسة محلّ العفوّ .
المواضع الّتي لا يجزئ فيها الاستجمار :
أ - النّجاسة الواردة على المخرج من خارجه :
25 - إن كان النّجس طارئاً على المحلّ من خارجٍ أجزأ فيه الاستجمار في المشهور عند الحنفيّة . وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ الحجر لا يجزئ فيه ، بل لا بدّ من غسله بالماء . وهو قولٌ آخر للحنفيّة . ومثله عند الشّافعيّة ، ما لو طرأ على المحلّ المتنجّس بالخارج طاهرٌ رطبٌ ، أو يختلط بالخارج كالتّراب . ومثله ما لو استجمر بحجرٍ مبتلٍّ ، لأنّ بلل الحجر يتنجّس بنجاسة المحلّ ثمّ ينجّسه . وكذا لو انتقلت النّجاسة عن المحلّ الّذي أصابته عند الخروج ، فلا بدّ عندهم من غسل المحلّ في كلّ تلك الصّور .
ب - ما انتشر من النّجاسة وجاوز المخرج :
26 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ الخارج إن جاوز المخرج وانتشر كثيراً لا يجزئ فيه الاستجمار ، بل لا بدّ من غسله . ووجه ذلك أنّ الاستجمار رخصةٌ لعموم البلوى ، فتختصّ بما تعمّ به البلوى ، ويبقى الزّائد على الأصل في إزالة النّجاسة بالغسل . لكنّهم اختلفوا في تحديد الكثير ، فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة إلى أنّ الكثير من الغائط هو ما جاوز المخرج ، وانتهى إلى الألية ، والكثير من البول ما عمّ الحشفة .
وانفرد المالكيّة في حال الكثرة بأنّه يجب غسل الكلّ لا الزّائد وحده .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الكثير هو ما زاد عن قدر الدّرهم ، مع اقتصار الوجوب على الزّائد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، خلافاً لمحمّدٍ ، حيث وافق المالكيّة في وجوب غسل الكلّ .
ج - استجمار المرأة :
27 - يجزئ المرأة الاستجمار من الغائط بالاتّفاق ، وهذا واضحٌ . أمّا من البول فعند المالكيّة لا يجزئ الاستجمار في بول المرأة ، بكراً كانت أو ثيّباً . قالوا : لأنّه يجاوز المخرج غالباً . وعند الشّافعيّة : يكفي في بول المرأة - إن كانت بكراً - ما يزيل عين النّجاسة خرقاً أو غيرها ، أمّا الثّيّب فإن تحقّقت نزول البول إلى ظاهر المهبل ، كما هو الغالب ، لم يكف الاستجمار ، وإلاّ كفى . ويستحبّ الغسل حينئذٍ .
أمّا عند الحنابلة ففي الثّيّب قولان :
الأوّل : أنّه يكفيها الاستجمار .(77/4)
والثّاني : أنّه يجب غسله . وعلى كلا القولين لا يجب على المرأة غسل الدّاخل من نجاسةٍ وجنابةٍ وحيضٍ ، بل تغسل ما ظهر ، ويستحبّ لغير الصّائمة غسله .
ومقتضى قواعد مذهب الحنفيّة أنّه إذا لم يجاوز الخارج المخرج كان الاستنجاء سنّةً . وإن جاوز المخرج لا يجوز الاستجمار ، بل لا بدّ من المائع أو الماء لإزالة النّجاسة . ولم يتعرّضوا لكيفيّة استجمار المرأة .
ما لا يستجمر به :
28 - اشترط الحنفيّة والمالكيّة فيما يستجمر به خمسة شروطٍ :
(1 ) أن يكون يابساً ، وعبّر غيرهم بدل اليابس بالجامد .
(2 ) طاهراً .
(3 ) منقّياً .
(4 ) غير مؤذٍ .
(5 ) ولا محترمٍ . وعلى هذا فما لا يستنجى به عندهم خمسة أنواعٍ :
(1 ) ما ليس يابساً .
(2 ) الأنجاس .
(3 ) غير المنقّي ، كالأملس من القصب ونحوه .
(4 ) المؤذي ، ومنه المحدّد كالسّكّين ونحوه .
(5 ) المحترم وهو عندهم ثلاثة أصنافٍ :
أ - المحترم لكونه مطعوماً .
ب - المحترم لحقّ الغير .
ج - المحترم لشرفه .
وهذه الأمور تذكر في غير كتب المالكيّة أيضاً ، إلاّ أنّهم لا يذكرون في الشّروط عدم الإيذاء ، وإن كان يفهم المنع منه بمقتضى القواعد العامّة للشّريعة . وهم وإن اتّفقوا على هذه الاشتراطات من حيث الجملة ، فإنّهم قد يختلفون في التّفاصيل ، وقد يتّفقون .
ويرجع في تفصيل ذلك إلى كتب الفقه .
هل يجزئ الاستنجاء بما حرم الاستنجاء به :
29 - إذا ارتكب النّهي واستنجى بالمحرّم وأنقى ، فعند الحنفيّة والمالكيّة وابن تيميّة من الحنابلة ، كما في الفروع : يصحّ الاستنجاء مع التّحريم . قال ابن عابدين : لأنّه يجفّف ما على البدن من الرّطوبة . وقال الدّسوقيّ : ولا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره .
أمّا عند الشّافعيّة فلا يجزئ الاستنجاء بما حرم لكرامته من طعامٍ أو كتب علمٍ ، وكذلك النّجس . أمّا عند الحنابلة فلا يجزئ الاستجمار بما حرم مطلقاً ، لأنّ الاستجمار رخصةٌ فلا تباح بمحرّمٍ . وفرّقوا بينه وبين الاستجمار باليمين - فإنّه يجزئ الاستجمار بها مع ورود النّهي - بأنّ النّهي في العظم ونحوه لمعنًى في شرط الفعل ، فمنع صحّته ، كالوضوء بالماء النّجس . أمّا باليمين فالنّهي لمعنًى في آلة الشّرط ، فلم يمنع ، كالوضوء من إناءٍ محرّمٍ . وسوّوا في ذلك بين ما ورد النّهي عن الاستجمار به كالعظم ، وبين ما كان استعماله بصفةٍ عامّةٍ محرّماً كالمغصوب . قالوا : ولو استجمر بعد المحرّم بمباحٍ لم يجزئه ووجب الماء ، وكذا لو استنجى بمائعٍ غير الماء . وإن استجمر بغير منقٍّ كالقصب أجزأ الاستجمار بعده بمنقٍّ . وفي المغني : يحتمل أن يجزئه الاستجمار بالطّاهر بعد الاستجمار بالنّجس ، لأنّ هذه النّجاسة تابعةٌ لنجاسة المحلّ فزالت بزوالها .
كيفيّة الاستنجاء وآدابه :
أوّلاً : الاستنجاء بالشّمال :
30 - ورد في الحديث عند أصحاب الكتب السّتّة عن أبي قتادة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا بال أحدكم فلا يمسّ ذكره بيمينه ، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسّح بيمينه » . فقد نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمين ، وحمل الفقهاء هذا النّهي على الكراهة ، وهي كراهة تحريمٍ عند الحنفيّة ، كما استظهر ابن نجيمٍ . وكلّ هذا في غير حالة الضّرورة أو الحاجة ، للقاعدة المعروفة : الضّرورات تبيح المحظورات .
فلو يسراه مقطوعةً أو شلاّء ، أو بها جراحةٌ جاز الاستنجاء باليمين من غير كراهةٍ .
هذا ، ويجوز الاستعانة باليمين في صبّ الماء ، وليس هذا استنجاءً باليمين ، بل المقصود منه مجرّد إعانة اليسار ، وهي المقصودة بالاستعمال .
ثانياً : الاستتار عند الاستنجاء :
31 - الاستنجاء يقتضي كشف العورة ، وكشفها أمام النّاس محرّمٌ في الاستنجاء وغيره ، فلا يرتكب لإقامة سنّة الاستنجاء ، ويحتال لإزالة النّجاسة من غير كشفٍ للعورة عند من يراه . فإن لم يكن بحضرة النّاس ، فعند الحنفيّة : من الآداب أن يستر عورته حين يفرغ من الاستنجاء والتّجفيف ، لأنّ الكشف كان لضرورةٍ وقد زالت .
وعند الحنابلة في التّكشّف لغير حاجةٍ روايتان : الكراهة ، والحرمة . وعليه فينبغي أن يكون ستر العورة بعد الفراغ من الاستنجاء مستحبّاً على الأقلّ .
ثالثاً : الانتقال عن موضع التّخلّي :
32 - إذا قضى حاجته فلا يستنجي حيث قضى حاجته . كذا عند الشّافعيّة والحنابلة - قال الشّافعيّة : إذا كان استنجاؤه بالماء - بل ينتقل عنه ، لئلاّ يعود الرّشاش إليه فينجّسه . واستثنوا الأخلية المعدّة لذلك ، فلا ينتقل فيها .
وإذا كان استنجاؤه بالحجر فقط فلا ينتقل من مكانه ، لئلاّ ينتقل الغائط من مكانه فيمتنع عليه الاستجمار . أمّا عند الحنابلة ، فينبغي أن يتحوّل من مكانه الّذي قضى فيه حاجته للاستجمار بالحجارة أيضاً ، كما يتحوّل للاستنجاء بالماء ، وهذا إن خشي التّلوّث .
رابعاً : عدم استقبال القبلة حال الاستنجاء :
33 - من آداب الاستنجاء عند الحنفيّة : أن يجلس له إلى يمين القبلة ، أو يسارها كي لا يستقبل القبلة أو يستدبرها حال كشف العورة . فاستقبال القبلة أو استدبارها حالة الاستنجاء ترك أدبٍ ، وهو مكروهٌ كراهة تنزيهٍ ، كما في مدّ الرّجل إليها . وقال ابن نجيمٍ : اختلف الحنفيّة في ذلك ، واختار التّمرتاشيّ أنّه لا يكره ، وهذا بخلاف التّبوّل أو التّغوّط إليها فهو عندهم محرّمٌ . وعند الشّافعيّة : يجوز الاستنجاء مع الاتّجاه إلى القبلة من غير كراهةٍ ، لأنّ النّهي ورد في استقبالها واستدبارها ببولٍ أو غائطٍ ، وهذا لم يفعله .
خامساً : الاستبراء :(77/5)
34 - وهو طلب البراءة من خارجٍ ، ويختلف بطباع النّاس ، إلى أن يستيقن بزوال الأثر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( استبراءٌ ) .
سادساً : الانتضاح وقطع الوسوسة :
35 - ذكر الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّه إذا فرغ من الاستنجاء بالماء استحبّ له أن ينضح فرجه أو سراويله بشيءٍ من الماء ، قطعاً للوسواس ، حتّى إذا شكّ حمل البلل على ذلك النّضح ، ما لم يتيقّن خلافه . وهذا ذكره الحنفيّة أنّه يفعل ذلك إن كان الشّيطان يريبه كثيراً . ومن ظنّ خروج شيءٍ بعد الاستنجاء فقد قال أحمد بن حنبلٍ : لا تلتفت حتّى تتيقّن ، واله عنه فإنّه من الشّيطان ، فإنّه يذهب إن شاء اللّه .(77/6)
استنزاهٌ *
التعريف :
1 - الاستنزاه : استفعالٌ من التّنزّه وأصله التّباعد . والاسم النّزهة ، ففلانٌ يتنزّه من الأقذار وينزّه نفسه عنها : أي يباعد نفسه عنها . وفي حديث المعذّب في قبره « كان لا يستنزه من البول » أي لا يستبرئ ولا يتطهّر ، ولا يبتعد منه .
والفقهاء يعبّرون بالاستنزاه والتّنزّه عند الكلام عن الاحتراز عن البول أو الغائط .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستبراء :
2 - الاستبراء هو طلب البراءة من الخارج من السّبيلين حتّى يستيقن زوال الأثر ، فهو أخصّ من الاستنزاه .
ب - الاستنجاء :
3 - الاستنجاء - ومثله الاستطابة - هو إزالة النّجس عن أحد السّبيلين بماءٍ أو حجرٍ أو غير ذلك ، وهو أيضاً أخصّ من الاستنزاه .
الحكم الإجماليّ :
4 - الاستنزاه من البول أو الغائط واجبٌ ، فمن لم يتحرّز من البول في بدنه وثوبه فقد ارتكب كبيرةً كما يراه ابن حجرٍ .
وتفصيل أحكامه في مصطلح ( استبراءٌ ) ( وقضاء الحاجة ) ( ونجاسةٌ ) .
مواطن البحث :
5 - تبحث المسألة عند الفقهاء في الطّهارة عند الكلام عن الاستنجاء ، أو الاستبراء عن البول والغائط .
استنشاقٌ *
التعريف :
1 - الاستنشاق : استنشاق الهواء أو غيره : إدخاله في الأنف . ويخصّه الفقهاء بإدخال الماء في الأنف .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستنشاق سنّةٌ في الوضوء عند جمهور الفقهاء ، وعند الحنابلة فرضٌ . وأمّا في الغسل للتّطهّر من الحدث الأكبر فهو سنّةٌ عند المالكيّة والشّافعيّة ، فرضٌ عند الحنفيّة والحنابلة . وإنّما فرّق الحنفيّة بين الوضوء ، والغسل من الجنابة ، فقالوا بفرضيّة الاستنشاق في الغسل وسنّيّته في الوضوء ، لأنّ الجنابة تعمّ جميع البدن ، ومن البدن الفم والأنف ، بخلاف الوضوء فالفرض فيه غسل الوجه وهو ما تقع به المواجهة ، ولا تقع المواجهة بالأنف والفم . وللفقهاء تفصيلٌ في كيفيّته انظر ( وضوءٌ ) ( وغسلٌ ) .
مواطن البحث :
3 - تنظر أحكام الاستنشاق في ( الوضوء ) ( والغسل ) ( وغسل الميّت ) .(78/1)
استنفارٌ *
التعريف :
1 - الاستنفار في اللّغة مصدر : استنفر ، من نفر القوم " نفيراً " أي أسرعوا إلى الشّيء ، وأصل النّفير مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمرٍ حرّك ذلك ، ويقال للقوم النّافرين لحربٍ أو لغيرها : نفيرٌ ، تسميةً بالمصدر .
2 - وفي الاصطلاحيّ الشّرعيّ : الخروج إلى قتال العدوّ ونحوه من الأعمال الصّالحة بدعوةٍ من الإمام أو غيره أو للحاجة إلى ذلك . ولكن غلب استعماله عند الفقهاء في قتال العدوّ .
الألفاظ ذات الصّلة به :
الاستنجاد :
3 - الاستنجاد : وهو طلب العون من الغير . يقال : استنجده فأنجده ، أي استعان به فأعانه .
الحكم الإجماليّ :
4 - لا خلاف بين المسلمين في أنّ الخروج إلى الجهاد فرضٌ ، منذ شرع بعد الهجرة ، واختلفوا في نوع الفرضيّة في عهده صلى الله عليه وسلم فذهب الشّافعيّة في أصحّ القولين عندهم إلى أنّ النّفير كان فرض كفايةٍ في عهده صلى الله عليه وسلم . أمّا كونه فرضاً فبالإجماع ، وأمّا كونه على الكفاية فلقوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه } ، إلى قوله تعالى : { وكلاًّ وعد اللّه الحسنى } . ووجه الاستدلال : أنّ الحقّ تبارك وتعالى فاضل بين القاعدين والمجاهدين في سبيل اللّه ، ثمّ وعد كليهما الحسنى . والعاصي لا يوعد بها ، ولا يفاضل بين مأجورٍ ومأزورٍ ، فكانوا غير عاصين بقعودهم . وقيل : كان النّفير في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عينٍ ، فلم يكن لأحدٍ من غير المعذورين أن يتخلّف عنه ، لقوله تعالى : { إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً } . إلى قوله تعالى : { انفروا خفافاً وثقالاً } . وقالوا : إنّ القاعدين المشار إليهم بآية سورة النّساء كانوا حرّاساً على المدينة ، وهو نوعٌ من الجهاد . وهناك أقوالٌ أخرى : يرجع إليها في مصطلح : ( جهادٌ ) .
أمّا بعد عهده صلى الله عليه وسلم فللعدوّ حالتان :
5 - أن يكون في بلاده مستقرّاً ، ولم يقصد إلى شيءٍ من بلاد المسلمين ، ففي هذه الحالة : اتّفق جمهور الفقهاء على أنّ النّفير فرض كفايةٍ ، إذا قام به فريقٌ من النّاس مرّةً في السّنة سقط الحرج عن الباقين ، أمّا الفرضيّة فلقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } . ولقوله صلى الله عليه وسلم « الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة » .
وأمّا كونه على الكفاية فلأنّه لم يفرض لذاته وإنّما فرض لإعزاز دين اللّه وإعلاء كلمة الحقّ ، ودفع الشّرّ عن العباد ، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط الحرج عن الباقين ، بل إذا أمكنه أن يحصل بإقامة الدّليل والدّعوة بغير جهادٍ كان أولى من الجهاد ، فإن لم يقم به أحدٌ أثم الجميع بتركه .
6 - أمّا إذا دهم العدوّ بلداً من بلاد الإسلام ، فإنّه يجب النّفير على جميع أهل هذا البلد ، ومن بقربهم وجوباً عينيّاً ، فلا يجوز لأحدٍ أن يتخلّف عنه ، حتّى الفقير ، والولد ، والعبد ، والمرأة المتزوّجة بلا إذنٍ من : الأبوين ، والسّيّد ، والدّائن ، والزّوج . فإن عجز أهل البلد ومن بقربهم عن الدّفاع فعلى من يليهم ، إلى أن يفترض على جميع المسلمين فرض عينٍ كالصّلاة تماماً على هذا التّدريج .
7 - وكذلك يكون النّفير فرض عينٍ على كلّ من يستنفر ممّن له حقّ الاستنفار كالإمام أو نوّابه ، ولا يجوز لأحدٍ أن يتخلّف إذا دعاه داعي النّفير ، إلاّ من منعه الإمام من الخروج ، أو دعت الحاجة إلى تخلّفه لحفظ الأهل أو المال ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم } .
النّفير من منًى :
8 - يجوز للحاجّ أن ينفر قبل الغروب من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق بعد الرّمي عند الشّافعيّة ، والحنابلة ، ومن اليوم الثّالث من أيّام التّشريق عند الحنفيّة ، فإن لم ينفر حتّى غربت شمس اليوم الثّالث كره له أن ينفر حتّى يرمي في اليوم الرّابع ، ولا شيء عليه إن نفر وقد أساء ، وقيل : إنّه عليه دمٌ . وأمّا لو نفر بعد طلوع فجر الرّابع لزمه دم هذا عند الحنفيّة . أمّا عند الأئمّة الثّلاثة : فإنّه يجب عليه دمٌ إذا نفر بعد غروب شمس اليوم الثّاني من أيّام التّشريق . كما صرّح الشّافعيّة بأنّه يجب عليه دمٌ لو نفر بعد المبيت ، وقبل الرّمي ، ولو نفر قبل الغروب ثمّ عاد إلى منًى مارّاً أو زائراً ولو بعد الغروب لم يجب عليه مبيت تلك اللّيلة ولا رمي يومها . والتّفصيل في ( الحجّ ) .
مواطن البحث :
يذكره الفقهاء في باب : الجهاد ، وفي الحجّ : المبيت بمزدلفة .(79/1)
استواءٌ *
التعريف :
1 - من معاني الاستواء في اللّغة : المماثلة والاعتدال . وقد استعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ مطلقاً بمعنى المماثلة كما في قولهم : إذا استوى اثنان في الدّرجة والإدلاء استويا في الميراث . وبمعنى الاعتدال كقولهم في الصّلاة : إذا رفع المصلّي رأسه من الرّكوع استوى قائماً . واستعملوه مقيّداً بالوقت فقالوا : وقت الاستواء أي استواء الشّمس قاصدين وقت قيام الشّمس في كبد السّماء ، لأنّها قبل ذلك مائلةٌ غير مستقيمةٍ .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - تكره صلاة النّافلة وقت استواء الشّمس عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روى عقبة بن عامرٍ قال : « ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، وأن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ، وحين تضيف الشّمس للغروب حتّى تغرب » ولا يكره ما له سببٌ كسجود التّلاوة وصلاة الجنازة ، وفي روايةٍ أخرى للحنابلة الكراهة مطلقاً .
ويزيد الحنفيّة على ذلك النّهي عن الفرض ، وعن سجدة التّلاوة ، وصلاة الجنازة في هذا الوقت . أمّا المالكيّة فلم يرد ذكرٌ لمنع الصّلاة عندهم في هذا الوقت في المشهور كما قال ابن جزيٍّ . وللفقهاء تفصيلٌ في ذلك ينظر في أوقات الصّلوات .(80/1)
استياكٌ *
التعريف :
1 - الاستياك لغةً : مصدر استاك . واستاك : نظّف فمه وأسنانه بالسّواك ، ومثله تسوّك . ويقال : ساك فمه بالعود يسوكه سوكاً إذا دلكه به . ولفظ السّواك يطلق ويراد به الفعل ، ويطلق ويراد به العود الّذي يستاك به ، ويسمّى أيضاً المسواك .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
تخليل الأسنان :
2 - هو إخراج ما بينهما من فضلاتٍ بالخلال ، وهو عودٌ أو نحوه وفي الحديث : « رحم اللّه المتخلّلين من أمّتي في الضّوء والطّعام » فالفرق بينه وبين الاستياك : أنّ التّخليل خاصٌّ بإخراج ما بين الأسنان ، أمّا السّواك فهو لتنظيف الفم والأسنان بنوعٍ من الدّلك .
حكمة مشروعيّة السّواك :
3 - السّواك سببٌ لتطهير الفم ، موجبٌ لمرضاة الرّبّ . لحديث عائشة رضوان اللّه عليها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « السّواك مطهرةٌ للفم ، مرضاةٌ للرّبّ » حديثٌ صحيحٌ .
حكمه التّكليفيّ :
4 - يعتري الاستياك أحكامٌ ثلاثةٌ :
الأوّل : النّدب ، وهو القاعدة العامّة عند فقهاء المذاهب الأربعة ، حتّى حكى النّوويّ إجماع من يعتدّ برأيهم من العلماء عامّةً على ذلك ، لحديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاةٍ » قال الشّافعيّ : لو كان واجباً لأمرهم به ، شقّ أو لم يشقّ ، وفي الحديث أيضاً « السّواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرّبّ » ولمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حتّى في النّزع ، وتسميته إيّاه من خصال الفطرة .
الثّاني : الوجوب ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، فقد رأى أنّ الأصل في الاستياك الوجوب لا النّدب ، واحتجّ لذلك بظاهر الأمر في الحديث « أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالوضوء لكلّ صلاةٍ ، طاهراً أو غير طاهرٍ ، فلمّا شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك لكلّ صلاةٍ » .
الثّالث : الكراهة ، إذا استاك في الصّيام بعد الزّوال عند الشّافعيّة ، وهو الرّواية الأخرى للحنابلة ، وأبي ثورٍ وعطاءٍ ، لحديث الخلوف الآتي . ومذهب الحنفيّة والمالكيّة والرّواية الأخرى للحنابلة أنّ حكمه في حال الصّوم وعدمه سواءٌ ، أخذاً بعموم أدلّة السّواك ،
والّذي اختاره بعض أئمّة الشّافعيّة - بعد نظرٍ في الأدلّة - أنّ السّواك لا يكره بعد الزّوال ، لأنّ عمدة الّذين يقولون بالكراهة حديث الخلوف ولا حجّة فيه ، لأنّ الخلوف من خلوّ المعدة ، والسّواك لا يزيله ، وإنّما يزيل وسخ الأسنان . قاله الأذرعيّ .
الاستياك في الطّهارة : الوضوء :
5 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ السّواك سنّةٌ عند الوضوء ،
واختلفوا هل هو من سنن الوضوء أم لا ؟ على رأيين :
الأوّل : قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو رأيٌ للشّافعيّة : الاستياك سنّةٌ من سنن الوضوء ، لما رواه أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ وضوءٍ » وفي روايةٍ « لفرضت عليهم السّواك مع كلّ وضوءٍ » . الثّاني : قال الحنابلة ، وهو الرّأي الأوجه عند الشّافعيّة : السّواك سنّةٌ خارجةٌ عن الوضوء متقدّمةٌ عليه وليست منه . ومدار الحكم عندهم على محلّه ، فمن قال إنّه قبل التّسمية قال ، إنّه خارجٌ عن الوضوء ، ومن قال بعد التّسمية ، قال بسنّيّته للوضوء .
التّيمّم والغسل :
6 - يستحبّ الاستياك عند التّيمّم والغسل ، ويكون محلّه في التّيمّم عند ابتداء الضّرب ، وفي الغسل عند البدء فيه .
الاستياك للصّلاة :
7 - في الاستياك للصّلاة ثلاثة اتّجاهاتٍ :
الأوّل ، وهو قولٌ للشّافعيّة : يتأكّد الاستياك عند كلّ صلاةٍ فرضها ونفلها ، وإن سلّم من كلّ ركعتين وقرب الفصل ، ولو نسيه سنّ له قياساً تداركه بفعلٍ قليلٍ ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاةٍ ، أو مع كلّ صلاةٍ » .
الثّاني : لا يسنّ الاستياك للصّلاة ، بل للوضوء ، وهو رأيٌ للحنفيّة ، فلو أتى به عند الوضوء لا يسنّ له أن يأتي به عند الصّلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم « لأمرتهم بالسّواك مع كلّ وضوءٍ »
الثّالث : يندب الاستياك لصلاة فرضٍ أو نفلٍ بعدت من الاستياك للعرف ، فلا يندب أن يستاك لكلّ صلاةٍ ما لم يبعد ما بينهما عن الاستياك ، وهو قول المالكيّة ، وروايةٌ عند الحنفيّة .
الاستياك للصّائم :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا بأس بالاستياك للصّائم أوّل النّهار ، واختلفوا في الاستياك للصّائم بعد الزّوال على ما تقدّم .
السّواك عند قراءة القرآن والذّكر :
9 - ينبغي لقارئ القرآن إذا أراد القراءة أن ينظّف فمه بالسّواك . ويستحبّ كذلك عند قراءة حديثٍ أو علمٍ .
كما يستحبّ الاستياك عند سجدة التّلاوة ، ومحلّه بعد فراغ القراءة لآية السّجدة وقبل الهويّ للسّجود . وهذا إذا كان خارج الصّلاة ، أمّا إذا كان في الصّلاة فلا ، لانسحاب سواك الصّلاة عليها ، وكذلك القراءة .
ويستحبّ إزالة الأوساخ وقلح الفم بالسّواك عند ذكر اللّه تعالى ، لأنّ الملائكة تحضر مجالس الذّكر ، وتتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم ، ولذلك استحبّ الفقهاء استياك المحتضر عند الموت ، وقالوا : إنّه يسهّل خروج الرّوح ، لنفس العلّة .
ويستحبّ كذلك الاستياك عند قيام اللّيل ، لما روى حذيفة قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من اللّيل يشوص فاه بالسّواك » . ولما رواه مسلمٌ عن ابن عبّاسٍ وعائشة من الأحاديث في هذا الباب .
مواضع أخرى لاستحباب الاستياك :(81/1)
10 - يستحبّ الاستياك لإذهاب رائحة الفم وترطيبه ، وإزالة صفرة الأسنان قبل الاجتماع بالنّاس لمنع التّأذّي ، وهذا من تمام هيئة المسلم ، وكذلك يستحبّ في مواطن أخرى ، مثل دخول المسجد ، لأنّ هذا من تمام الزّينة الّتي أمر اللّه سبحانه وتعالى بها عند كلّ مسجدٍ ، ولما فيه من حضور الملائكة واجتماع النّاس ، وكذلك عند دخول المنزل للالتقاء بالأهل والاجتماع بهم ، لما روى مسلمٌ عن « عائشة رضي الله عنها حينما سئلت بأيّ شيءٍ يبدأ الرّسول صلى الله عليه وسلم : إذا دخل بيته قالت : كان إذا دخل بيته بدأ بالسّواك » . ويستحبّ كذلك عند النّوم ، والجماع ، وأكل ما له رائحةٌ كريهةٌ ، وتغيّر الفم بعطشٍ أو جوعٍ ، أو غيرهما ، أو قيامٍ من نومٍ ، أو اصفرار سنٍّ ، وكذلك لإرادة أكلٍ أو فراغٍ منه . على أنّ السّواك مستحبٌّ في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهارٍ ، لأنّه مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرّبّ كما ورد في الحديث .
ما يستاك به :
11 - يستاك بكلّ عودٍ لا يضرّ ، وقد قسّمه الفقهاء بحسب أفضليّته إلى أربعة أقسامٍ :
الأوّل : اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ أفضله جميعاً : الأراك ، لما فيه من طيبٍ وريحٍ وتشعيرٍ يخرج وينقّي ما بين الأسنان . ولحديث « أبي خيرة الصّباحيّ رضي الله عنه قال : كنت في الوفد ، يعني وفد عبد القيس الّذين وفدوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمر لنا بأراكٍ فقال : استاكوا بهذا » ولأنّه آخر سواكٍ استاك به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وللاتّباع سواءٌ كان العود طيّباً أم لا . كما اقتضاه كلام الشّيخين النّوويّ والرّافعيّ . الثّاني : قال به المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، يأتي بعد الأراك في الأفضليّة : جريد النّخل ، لما روي« أنّه آخر سواكٍ استاك به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم »وقيل وقع الاستياك آخراً بالنّوعين ، فكلٌّ من الصّحابيّين روى ما رأى . ولم يتكلّم الحنفيّة على النّخل .
الثّالث : الزّيتون . وقد استحبّه فقهاء المذاهب الأربعة ، لحديث « نعم السّواك الزّيتون من شجرةٍ مباركةٍ ، تطيّب الفم وتذهب الحفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي » .
الرّابع : ثمّ بما له رائحةٌ ذكيّةٌ ولا يضرّ . قال الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة : يستاك بقضبان الأشجار النّاعمة الّتي لا تضرّ ، ولها رائحةٌ طيّبةٌ تزيل القلح كالقتادة والسّعد . وقال الحنابلة : يكره بكلّ ذي رائحةٍ ذكيّةٍ ، ولم يقيّدوه بالضّرر . ومثّلوا له بالرّيحان والرّمّان .
ما يحظر الاستياك به أو يكره :
12 - يكره الاستياك بكلّ عودٍ يدمي مثل الطّرفاء والآس ، أو يحدث ضرراً أو مرضاً مثل الرّيحان والرّمّان ، لما روى الحارث في مسنده عن ضمير بن حبيبٍ قال « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن السّواك بعود الرّيحان وقال : إنّه يحرّك عرق الجذام » ويعرف ذلك أهل الطّبّ ، نصّوا على ذلك فقالوا : يكره كلّ ما يقول الأطبّاء إنّ فيه فساداً . ويحرم الاستياك بالأعواد السّامّة لإهلاكها أو شدّة ضررها . وهذا لا يعلم فيه خلافٌ بين العلماء . وفي حصول السّنّة بالاستياك بالمحظور قولان للشّافعيّة :
الأوّل : إنّه محصّلٌ للسّنّة ، لأنّ الكراهة والحرمة لأمرٍ خارجٍ ، وحملوا الطّهارة على الطّهارة اللّغويّة ( أي النّظافة ) .
الثّاني ، وهو المعتمد عندهم : لا تحصل به السّنّة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « السّواك مطهرةٌ للفم » . وهذا منجّسٌ بجرحه اللّثة وخروج الدّم ، لخشونته .
صفات السّواك :
13 - يسحب أن يكون الاستياك بعودٍ متوسّطٍ في غلظ الخنصر ، خالٍ من العقد ، لا رطباً يلتوي ، لأنّه لا يزيل القلح ( وسخ الأسنان ) ولا يابساً يجرح اللّثة ، ولا يتفتّت في الفم ، والمراد أن يكون ليّناً ، لا غاية في النّعومة ، ولا في الخشونة .
السّواك بغير عودٍ :
14 - أجاز بعض الفقهاء الاستياك بغير عودٍ ، مثل الغاسول والأصبع ، واعتبروه محصّلاً للسّنّة ، ونفاه آخرون ولم يعتبروه . والمسألة في الغاسول ( الأشنان ) على رأيين : فالحنفيّة ، والشّافعيّة : أجازوا استعمال الغاسول في الاستياك ، وقالوا : إنّه محصّلٍ للمقصود ومزيلٌ للقلح ، ويتأدّى به أصل السّنّة ، وأجاز الحنفيّة العلك للمرأة بدل السّواك . أمّا المالكيّة ، والحنابلة فقالوا : لو استعمل الغاسول عوضاً عن العيدان لم يأت بالسّنّة .
أمّا الاستياك بالأصبع ففيه ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : تجزئ الأصبع في الاستياك مطلقاً ، في رأيٍ لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روي عن « عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنّه توضّأ فأدخل بعض أصابعه في فيه ... وقال : هكذا كان وضوء نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم » .
الثّاني : تجزئ الأصبع عند عدم وجود غيرها ، وهو مذهب الحنفيّة ، وهو رأيٌ آخر لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة ، لما رواه أنس بن مالكٍ رضي الله عنه « أنّ رجلاً من بني عمرو بن عوفٍ قال : يا رسول اللّه إنّك رغّبتنا في السّواك ، فهل دون ذلك من شيءٍ قال : أصبعيك سواكٌ عند وضوئك ، أمرّهما على أسنانك » .
الثّالث : لا تجزئ الأصبع في الاستياك . وهو رأيٌ ثالثٌ للشّافعيّة ، والرّأي الآخر للحنابلة ، وعلّلوا ذلك بأنّ الشّرع لم يرد به ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود .
كيفيّة الاستياك :(81/2)
15 - يندب إمساك السّواك باليمنى ، لأنّه المنقول عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما اتّفق عليه من حديث عائشة رضوان اللّه عليها قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التّيامن في تنعّله وترجّله وطهوره ، وفي شأنه كلّه » وفي روايةٍ « وسواكه » ،« ثمّ يجعل الخنصر أسفل السّواك والأصابع فوقه ، كما رواه ابن مسعودٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ». ويبدأ من الجانب الأيمن ويمرّ به عرضاً أي عرض الأسنان ، لأنّ استعماله طولاً قد يجرح اللّثة ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « استاكوا عرضاً وادّهنوا غبّاً » أي يوماً بعد يومٍ « واكتحلوا وتراً » . ثمّ يمرّ به على أطراف الأسنان العليا والسّفلى ظهراً وبطناً ، ثمّ على كراسيّ الأضراس ، ثمّ على اللّثة واللّسان وسقف الحلق بلطفٍ . ومن لا أسنان له يستاك على اللّثة واللّسان وسقف الحلق ، لأنّ السّواك وإن كان معقول المعنى إلاّ أنّه ما عرى عن معنى التّعبّد ، وليحصل له ثواب السّنّة .
وهذه الكيفيّة لا يعلم فيها خلافٌ .
آداب السّواك :
16 - ذكر الفقهاء آداباً للمستاك يستحبّ اتّباعها ، منها :
أ - يستحبّ ألاّ يستاك بحضرة الجماعة ، لأنّه ينافي المروءة ، ويتجنّب الاستياك في المسجد ، وفي المجالس الحافلة خلافاً لابن دقيق العيد .
ب - ويستحبّ أن يغسل سواكه بعد الاستياك لتخليصه ممّا علق به ، لحديث عائشة « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستاك ، فيعطيني السّواك لأغسله ، فأبدأ به فأستاك ، ثمّ أغسله وأدفعه إليه » كما يسنّ غسله للاستياك به مرّةً أخرى .
ج - ويستحبّ حفظ السّواك بعيداً عمّا يستقذر .
تكرار الاستياك ، وبيان أكثره وأقلّه :
17 - اتّفق الفقهاء على تكرار الاستياك حتّى يزول القلح ، ويطمئنّ على زوال الرّائحة إذا لم يزل إلاّ بالتّكرار ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّي لأستاك حتّى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي » . واختلفوا في أقلّه على ثلاثة آراءٍ :
1 - أن يمرّ السّواك على أسنانه ثلاث مرّاتٍ . وهو المستحبّ عند الحنفيّة ، والأكمل عند الشّافعيّة للسّنّة في التّثليث ، وليطمئنّ القلب بزوال الرّائحة واصفرار السّنّ .
2 - يكفي مرّةً واحدةً إذا حصل بها الإنقاء ، وهو رأيٌ للشّافعيّة ، وتحصل السّنّة الكاملة بالنّيّة .
3 - لا حدّ لأقلّه ، والمراد هو زوال الرّائحة ، فما زالت به الرّائحة حصلت به السّنّة ، وهو روايةٌ للحنفيّة وقول المالكيّة ، والحنابلة .
إدماء السّواك للفم :
18 - إذا عرف أنّ من عادته إدماء السّواك لفمه استاك بلطفٍ ، فإن أدمى بعد ذلك ، كان الحكم على حالتين :
الأولى : إن لم يجد ماءً وضاق الوقت عن الصّلاة حرم الاستياك خشية تنجيس فمه .
الثّانية : إن وجد الماء واتّسع الوقت قبل الصّلاة لم يندب ، بل يجوز لما فيه من المشقّة والحرج(81/3)
استيعابٌ *
التعريف :
1 - الاستيعاب في اللّغة : الشّمول والاستقصاء والاستئصال في كلّ شيءٍ . يقال في الأنف أوعب جدعه : إذا قطعه كلّه ولم يبق منه شيئاً .
والفقهاء يستعملون الاستيعاب بهذا المعنى . فيقولون : استيعاب العضو بالمسح أو الغسل ، ويعنون به شمول المسح أو الغسل كلّ ، جزءٍ من أجزاء العضو .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإسباغ :
2 - الإسباغ هو : الإتمام والإكمال . يقال : أسبغ الوضوء إذا عمّ بالماء جميع الأعضاء بحيث يجري عليها ، فالإسباغ والاستيعاب متقاربان .
ب - الاستغراق :
3 - الاستغراق هو : الشّمول لجميع الأفراد دفعةً واحدةً ، فالفرق بينه وبين الاستيعاب أنّ الاستغراق لا يستعمل إلاّ فيما له أفرادٌ بخلاف الاستيعاب .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
يختلف الحكم التّكليفيّ للاستيعاب حسب مواطنه المختلفة في العبادات وغيرها .
أ - الاستيعاب الواجب :
4 - حيثما كان غسل اليدين أو الأعضاء في الطّهارة واجباً كان الاستيعاب واجباً فيه أيضاً ، بخلاف ما وجب مسحه كالرّأس فلا يجب استيعابه على خلافٍ في ذلك .
ومن الواجب استيعاب الأوقات الّتي لا تسع من الأعمال غير ما عيّن لها كالصّوم يستوعب جميع الشّهر وجميع النّهار ، وكمن نذر الاشتغال بالقرآن وعيّن كلّ ما بين المغرب والعشاء ، يجب عليه استيعاب ذلك الوقت . واستيعاب النّيّة للعبادة ، فلا يصحّ إخلاء جزءٍ منها من النّيّة ، لذلك وجب أن يقترن أوّل العبادة بالنّيّة ، ثمّ لا تنقطع إلى آخر العمل ، فإن انقطعت فسدت العبادة على خلافٍ وتفصيلٍ بين الفقهاء يرجع إليه في مصطلح ( نيّةٌ ) .
ويستثنى من ذلك الحجّ والعمرة حيث لا يفسدهما انقطاع النّيّة .
واستيعاب النّصاب كلّ الحول مختلفٌ فيه ، فبعضهم يرى اشتراطه لوجوب الزّكاة وبعضهم يكتفى في ذلك بتمامه في طرفي الحول . انظر ( زكاةٌ ) .
ب - الاستيعاب المندوب :
5 - منه استيعاب الرّأس بالمسح ، فهو مندوبٌ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد ، وواجبٌ عند المالكيّة ، وروايةٌ أخرى عن أحمد . وتفصيل ذلك في ( وضوءٌ ) . ومنه استيعاب المزكّي الأصناف الثّمانية في مصارف الزّكاة ، والّذين قالوا باستحبابه قالوه خروجاً من خلاف الشّافعيّة ، والقائلين بوجوبه .
6 - ومن خطاب الوضع إذا استوعب الإغماء أو الجنون يوماً كاملاً تسقط الصّلاة على خلافٍ موطن بيانه في مصطلحات ( صلاةٌ ) ، ( إغماءٌ ) ، ( جنونٌ ) .
ج - الاستيعاب المكروه :
7 - يكره للإنسان استيعاب جميع ماله بالتّبرّع أو الصّدقات ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الصّدقات .(82/1)
اضطباعٌ *
التعريف :
1 - الاضطباع في اللّغة : افتعالٌ من الضّبع ، وهو وسط العضد ، وقيل : الإبط ( للمجاورة ) . ومعنى الاضطباع المأمور به شرعاً : أن يدخل الرّجل رداءه الّذي يلبسه تحت منكبه الأيمن فيلقيه على عاتقه الأيسر وتبقى كتفه اليمنى مكشوفةً ، ويطلق عليه التّأبّط والتّوشّح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإسدال :
2 - الإسدال لغةً : إرخاء الثّوب وإرساله من غير ضمّ جانبيه باليدين . والإسدال المنهيّ عنه في الصّلاة هو أن يلقي طرف الرّداء من الجانبين ، ولا يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى ، ولا يضمّ الطّرفين بيده .
ب - اشتمال الصّمّاء :
3 - فسّره أبو عبيدٍ بأن يلتفّ الرّجل بثوبه يغطّي به جسده كلّه ، ولا يرفع منه جانباً يخرج منه يده .. لعلّه يصيبه شيءٌ يريد الاحتراس منه فلا يقدر عليه . وقيل : هو أن يضطبع بالثّوب ولا إزار عليه فيبدو شقّه وعورته . فالفرق بينه وبين الاضطباع أنّه لا يكون تحت الرّداء ما يستتر به فتبدو عورته . وللتّفصيل ينظر ( اشتمال الصّمّاء ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - الاضطباع في طواف القدوم مستحبٌّ عند جمهور الفقهاء ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً وعليه بردٌ » وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ، فرملوا بالبيت ، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، ثمّ قذفوها على عواتقهم اليسرى » فإذا فرغ من الطّواف سوّاه فجعله على عاتقيه . وأورد ابن قدامة قول مالكٍ عن الاضطباع في طواف القدوم بأنّه ليس سنّةً ، ولم نجد لذلك إشارةً في كتب المالكيّة الّتي بين أيدينا إلاّ في المنتقى للباجيّ حيث قال : ( الرّمل في الطّواف هو الإسراع فيه بالخبب لا يحسر عن منكبيه ولا يحرّكهما ) .
مواطن البحث :
5 - يبحث الاضطباع في الحجّ عند الكلام عن الطّواف ، وفي الصّلاة عند الكلام عن ستر العورة من شروط الصّلاة .(83/1)
اضطجاعٌ *
التعريف :
1 - الاضطجاع في اللّغة مصدر اضطجع ، ( وأصله ضجع وقلّما يستعمل الفعل الثّلاثيّ ) . والاضطجاع : النّوم ، وقيل : وضع الجنب بالأرض . والاضطجاع في السّجود ، ألاّ يجافي بطنه عن فخذيه . وإذا قالوا : صلّى مضطجعاً فمعناه : أن يضطجع على أحد شقّيه مستقبلاً القبلة . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني اللّغويّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاتّكاء :
2 - الاتّكاء هو الاعتماد على شيءٍ بجنبٍ معيّنٍ ، سواءٌ كان في الجلوس أو في الوقوف . ( ر : اتّكاءٌ ) .
ب - الاستناد :
3 - الاستناد هو الاتّكاء بالظّهر لا غير . ( ر : استنادٌ ) .
ج - الإضجاع :
4 - الإضجاع هو وضع جنب الإنسان أو الحيوان على أحد شقّيه على الأرض . ( ر : إضجاعٌ ) .
الحكم الإجماليّ :
5 - الاضطجاع في النّوم ينقض الوضوء عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ) لأنّ الاضطجاع عندهم سببٌ لاسترخاء المفاصل ، فلا يخلو من خروج ريحٍ عادةً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا وضوء على من نام قائماً أو قاعداً أو راكعاً أو ساجداً ، إنّما الوضوء على من نام مضطجعاً فاسترخت مفاصله » . وهذه الطّريقة لعبد الحقّ وغيره من المالكيّة . أمّا طريقة اللّخميّ من المالكيّة فهي : أنّ المضطجع إذا كان نائماً نوماً ثقيلاً ينتقض وضوءه ، سواءٌ أكان مضطجعاً أم قائماً أو قاعداً أو راكعاً أو ساجداً ، وأرجع ذلك إلى صفة النّوم ، ولا عبرة عنده - ومن يرى رأيه من المالكيّة - بهيئة النّائم . فإن كان نومه غير ثقيلٍ وهو على هيئة الاضطجاع لا ينتقض وضوءه : والاضطجاع بعد سنّة الفجر - على صورةٍ لا ينتقض معها الوضوء - مندوبٌ لفعل النّبيّ . والاضطجاع عند تناول الطّعام مكروهٌ للنّهي عن الأكل متّكئاً .
مواطن البحث :
6 - يبحث الاضطجاع عند الكلام عن نقضه للوضوء بالنّوم ، ويبحث اضطجاع المريض في صلاة المريض .(84/1)
اطمئنانٌ *
التعريف :
1 - الاطمئنان في اللّغة : السّكون ، يقال : اطمأنّ القلب : سكن ولم يقلق ، واطمأنّ في المكان : أقام به .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين الإطلاقين ، فإنّ الاطمئنان في الرّكوع والسّجود بمعنى استقرار الأعضاء في أماكنها عن الحركة .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - العلم :
2 – العلم : هو اعتقاد الشّيء على ما هو عليه على سبيل الثّقة ، أمّا الاطمئنان فهو سكون النّفس إلى هذا العلم . وعلى هذا فقد يوجد العلم ولا يوجد الاطمئنان .
ب - اليقين :
3 - اليقين : هو سكون النّفس المستند إلى اعتقاد الشّيء بأنّه لا يمكن أن يكون إلاّ كذا . أمّا الاطمئنان فهو سكون النّفس المستند إلى غلبة الظّنّ ، وعلى هذا فإنّ اليقين أقوى من الاطمئنان .
اطمئنان النّفس :
4 - اطمئنان النّفس أمرٌ غير مقدورٍ للإنسان ، لأنّه من أعمال القلب الّتي لا سلطان له عليها ، ولكن يطالب الإنسان بتحصيل أسبابه .
ما يحصل به الاطمئنان :
5 - بالاستقراء يتبيّن أنّ الاطمئنان يحصل شرعاً بما يلي :
أ - ذكر اللّه تعالى ، لقوله سبحانه { ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب } .
ب - الدّليل : والدّليل قد يكون شرعيّاً من قرآنٍ أو سنّةٍ ، وقد يكون عقليّاً من قياسٍ على علّةٍ مستنبطةٍ ، أو قرينةٍ قويّةٍ من قرائن الأحوال ، وقد يكون خبراً من مخبرٍ صادقٍ .
ج - استصحاب الحال : ومن هنا قبلت شهادة مستور الحال ، لأنّ الأصل في المسلمين العدالة . كما هو مفصّلٌ في كتاب الشّهادات من كتب الفقه .
د - مضيّ مدّةٍ معيّنةٍ : إذ أنّ مضيّ سنةٍ على العنّين دون أن يستطيع أن يأتي أهله يوجد طمأنينةً حكميّةً بعجزه عن المعاشرة عجزاً دائماً . ومضيّ مدّة الانتظار في المفقود - عند من يقول بها - يوجد طمأنينةً حكميّةً أنّه لن يعود ، وتأخير أداء الشّهادة في الحدود يوجد طمأنينةً حكميّةً بأنّ الشّاهد إنّما شهد عن ضغنٍ ( أي حقدٍ ) .
هـ – القرعة : وهي عند من يقول بها توجد طمأنينةً حكميّةً بأنّه لم يحدث جورٌ أو هوًى ، لأنّها لتطييب القلوب ، كما في القسمة ونحوها .
الاطمئنان الحسّيّ :
6 - يكون ذلك في الصّلاة : وحده في الرّكوع والسّجود والقيام - فهو سكون الجوارح واستقرار كلّ عضوٍ في محلّه - بقدر تسبيحةٍ .
وحكمه الوجوب عند الجمهور ، وعند بعض الحنفيّة سنّةٌ . وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة من كتب الفقه .
والذّبيحة لا يجوز تقطيع أوصالها بعد ذبحها حتّى تسكن حركتها ، لأنّ ذلك دليل إزهاق روحها ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الذّبائح .
آثار الاطمئنان :
7 - يترتّب على الاطمئنان أثران :
أوّلهما : وقوع العمل المبنيّ على الاطمئنان صحيحاً في الشّرع . فمن تحرّى الأواني الّتي بعضها طاهرٌ وبعضها نجسٌ ، فاطمأنّ قلبه إلى هذا الإناء منها طاهرٌ ، فتوضّأ منه ، وقع وضوءه صحيحاً ، كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الطّهارة .
ثانيهما : أنّ ما خالف هذا الاطمئنان هو هدرٌ ولا قيمة له ، وكلّ ما بني عليه من التّصرّفات باطلٌ ، فمن تحرّى جهة القبلة حتّى اطمأنّ قلبه إلى جهةٍ ما أنّ القبلة نحوها ، فصلّى إلى غير هذه الجهة فصلاته باطلةٌ ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة . وإذا اطمأنّ قلب إنسانٍ بالإيمان ، ثمّ أكره على إتيان ما يخالف هذا الإيمان لا يضرّه ذلك شيئاً . قال تعالى : { من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللّه ولهم عذابٌ عظيمٌ } .
قال القرطبيّ : أجمع أهل العلم على أنّ من أكره على الكفر ، حتّى خشي على نفسه القتل ، أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر .(85/1)
اعتجارٌ *
التعريف :
1 - الاعتجار في اللّغة : لفّ العمامة على الرّأس من غير إدارةٍ تحت الحنك . سواءٌ أأبقى طرفها على وجهه أم لم يبقه ؟ .
وعرّفه صاحب مراقي الفلاح من الحنفيّة بقوله : هو شدّ الرّأس بالمنديل ، أو تكوير عمامته على رأسه وترك وسطه مكشوفاً – أي مكشوفاً عن العمامة -، لا مكشوف الرّأس ، وقيل : أن ينتقب بعمامته فيغطّي أنفه .
حكمه التّكليفيّ :
2 - نصّ الحنفيّة صراحةً على كراهة الاعتجار في الصّلاة كراهةً تحريميّةً ، وعلّلوا ذلك بأنّه فعلٌ ما لم يرد عن الشّرع ، وقالوا :« إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الاعتجار في الصّلاة ». وورد عن الحنابلة أنّه يكره تنزيهاً لبس ما لم يعتد لبسه في الصّلاة ، أو ما فيه خلاف زيّ البلد الّذي هو فيه . فإن كان الاعتجار غير معتادٍ فيكون عندهم مكروهاً في الصّلاة كراهةً تنزيهيّةً .
3 - أمّا الاعتجار خارج الصّلاة للحيّ أو للميّت ، فلم يتعرّض الفقهاء - فيما نعلمه - لذلك بصراحةٍ ولكن الّذين كرهوا العمامة للميّت - كما هو الرّاجح عند الحنفيّة - فإنّهم يكرهون له الاعتجار بالعمامة من بابٍ أولى ، وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الجنائز ، عند كلامهم على كفن الميّت .(86/1)
اعتدالٌ *
التعريف :
1 - الاعتدال في اللّغة كون الشّيء متناسباً ، أو صيرورته كذلك ، فإذا مال شيءٌ فأقمته تقول : عدلته فاعتدل .
ولا يفرّق أهل اللّغة بين الاعتدال والاستقامة ، والاستواء ، فهم يقولون : استقام الشّيء إذا استوى واعتدل ، ويقولون أيضاً استوى الشّيء إذا استقام واعتدل .
ويطلق الفقهاء كلمة الاعتدال على أثر الرّفع من الرّكوع أو السّجود .
الحكم التّكليفيّ ومواطن البحث :
2 - ذهب الجمهور وهو روايةٌ عن أبي حنيفة إلى أنّ الاعتدال من الرّكوع والسّجود فرضٌ ، والصّحيح عند الحنفيّة أنّه سنّةٌ .
وقد تكلّم الفقهاء عن تفصيلاتٍ تتعلّق بما يتحقّق به الاعتدال ، ووجوب الاطمئنان في الاعتدال ، وسنّة رفع اليدين في الاعتدال ، والدّعاء فيه دعاء قنوتٍ أو غيره ، كما تحدّثوا عن الشّكّ في تمام الاعتدال ، والاعتدال بغير نيّة الاعتدال ، كاعتدال المصلّي خوفاً من سبعٍ ونحو ذلك ، وعن العجز عن الاعتدال ، وعن تعمّد ترك الاعتدال ، وتجد ذلك كلّه مبسوطاً في كتاب الصّلاة من كتب الفقه .(87/1)
الخلاصة في أحكام الاعتكاف في الفقه الإسلامي
أيها الأحباب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه خلاصة أحكام الاعتكاف من الموسوعة الفقهية
------------------------
اعتكافٌ *
التعريف :
1 - الاعتكاف لغةً : الافتعال ، من عكف على الشّيء عكوفاً وعكفاً . من بابي : قعد ، وضرب . إذا لازمه وواظب عليه ، وعكفت الشّيء : حبسته . ومنه قوله تعالى : { هم الّذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه } . وعكفته عن حاجته : منعته .
والاعتكاف : حبس النّفس عن التّصرّفات العاديّة .
وشرعاً : اللّبث في المسجد على صفةٍ مخصوصةٍ بنيّةٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخلوة :
2 - الخلوة من خلا المكان ، إذا لم يكن فيه أحدٌ ، ولا شيء فيه ، وهو خالٍ ، ومنه خلوة الرّجل بنفسه إذا انفرد . والاعتكاف قد يكون مع الآخرين بنفس المكان المعدّ لذلك ، فالمعتكف قد ينفرد بنفسه ، وقد لا ينفرد .
ب - الرّباط والمرابطة :
3 - الرّباط هو : الحراسة بمحلٍّ خيف هجوم العدوّ منه ، أو المقام في الثّغور لإعزاز الدّين ودفع الشّرّ عن المسلمين . والاعتكاف يكون في الثّغور وغيرها ، والرّباط لا يكون إلاّ في الثّغور ، ويكون في المسجد وغيره .
ج - الجوار :
4 - الجوار هو : الملاصقة في السّكنى ، ويسمّى الاعتكاف جواراً ، لقول عائشة رضي الله عنها عن اعتكاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « وهو مجاورٌ في المسجد » .
وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه مرفوعاً : « كنت أجاور هذه العشر - يعني الأوسط - ثمّ قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه » .
قال مالكٌ : الاعتكاف والجوار سواءٌ إلاّ من نذر ، مثل جوار مكّة ، يجاور النّهار ، وينقلب اللّيل إلى منزله ، قال : فمن جاور مثل هذا الجوار الّذي ينقلب فيه اللّيل إلى منزله ، فليس عليه في جواره صيامٌ . فالجوار على هذا أعمّ من الاعتكاف ، لأنّه يكون في المسجد وغيره ، ويكون مع الصّيام وبدونه .
حكمة الاعتكاف :
5 - الاعتكاف فيه تسليم المعتكف نفسه بالكلّيّة إلى عبادة اللّه تعالى طلب الزّلفى ، وإبعاد النّفس من شغل الدّنيا الّتي هي مانعةٌ عمّا يطلبه العبد من القربى ، وفيه استغراق المعتكف أوقاته في الصّلاة إمّا حقيقةً أو حكماً ، لأنّ المقصد الأصليّ من شرعيّة الاعتكاف انتظار الصّلاة في الجماعات ، وتشبيه المعتكف نفسه بالملائكة الّذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون .
حكمه التّكليفيّ :
6 - الاعتكاف سنّةٌ ، ولا يلزم إلاّ بالنّذر ، لكن اختلف الفقهاء في مرتبة هذه السّنّيّة .
فقال الحنفيّة : إنّه سنّةٌ مؤكّدةٌ في العشر الأواخر من رمضان ، ومستحبٌّ فيما عدا ذلك . وفي المشهور عند المالكيّة ، أنّه مندوبٌ مؤكّدٌ وليس بسنّةٍ .
وقال ابن عبد البرّ : إنّه سنّةٌ في رمضان ومندوبٌ في غيره .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه سنّةٌ مؤكّدةٌ ، في جميع الأوقات ، وفي العشر الأواخر من رمضان آكد ،« اقتداءً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وطلباً للّيلة القدر ».
وقال الحنابلة : إنّه سنّةٌ في كلّ وقتٍ ، وآكده في رمضان ، وآكده في العشر الأخير منه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ الاعتكاف سنّةٌ ، لا يجب على النّاس فرضاً ، إلاّ أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً ، فيجب عليه .
وممّا يدلّ على أنّه سنّةٌ« فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه تقرّباً إلى اللّه تعالى ، وطلباً لثوابه ، واعتكاف أزواجه معه وبعده ».
أمّا أنّ الاعتكاف غير واجبٍ فلأنّ أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلتزموا الاعتكاف كلّهم ، وإن صحّ عن كثيرٍ من الصّحابة فعله . وأيضاً فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بالاعتكاف إلاّ من أراده ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان اعتكف معي ، فليعتكف العشر الأواخر » - أي من شهر رمضان - ولو كان واجباً لما علّقه بالإرادة . ويلزم الاعتكاف بالنّذر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع اللّه فليطعه » وعن عمر رضي الله عنه أنّه قال : يا رسول اللّه : إنّي نذرت أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام ،« فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » .
أقسام الاعتكاف :
7 - ينقسم الاعتكاف إلى واجبٍ ، ومندوبٍ عند الجمهور ، وزاد الحنفيّة المسنون .
أ - الاعتكاف المندوب : وهو أن ينوي الاعتكاف تطوّعاً للّه تعالى . وأقلّه لحظةٌ ، أو ساعةٌ ، أو يومٌ ، أو يومٌ وليلةٌ حسب اختلاف الفقهاء .
وهو سنّةٌ في كلّ وقتٍ ، ويسنّ ألاّ ينقص عن يومٍ وليلةٍ .
ب - الاعتكاف الواجب :
8 - لا يجب الاعتكاف إلاّ بالنّذر عند الجمهور منجّزاً أو معلّقاً ، وبالشّروع في الاعتكاف المسنون عند المالكيّة ، ومقابل الظّاهر عند الحنفيّة ، وسيأتي في ( ف / 13 ) وهل يشترط التّلفّظ بالنّذر أم يكفي النّيّة في القلب ؟ صرّح الجميع بوجوب التّلفّظ بالنّيّة ، ولا يكفي نيّة القلب .
ج - الاعتكاف المسنون :
9 - زاد الحنفيّة قسماً ثالثاً للاعتكاف ، وهو ما أطلقوا عليه " سنّةٌ مؤكّدةٌ " أي سنّة كفايةٍ في العشر الأخير من شهر رمضان ، فإذا قام بها بعض المسلمين سقط الطّلب عن الباقين ، فلم يأثموا بالمواظبة على التّرك بلا عذرٍ ، ولو كان سنّة عينٍ لأثموا بترك السّنّة المؤكّدة إثماً دون إثم ترك الواجب .
أركان الاعتكاف :
10 - أركان الاعتكاف عند الجمهور أربعةٌ :
وهي المعتكف ، والنّيّة ، والمعتكف فيه ، واللّبث في المسجد .(88/1)
وذهب الحنفيّة إلى أنّ ركن الاعتكاف هو اللّبث في المسجد فقط ، والباقي شروطٌ وأطرافٌ لا أركانٌ ، وزاد المالكيّة ركناً آخر وهو : الصّوم .
المعتكف :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يصحّ الاعتكاف من الرّجل والمرأة والصّبيّ المميّز ، واشترطوا لصحّة الاعتكاف الواجب والمندوب ما يلي :
1 - الإسلام : فلا يصحّ الاعتكاف من الكافر ، لأنّه ليس من أهل العبادة .
2 - العقل .
3 - التّمييز : فلا يصحّ الاعتكاف من المجنون والسّكران والمغمى عليه ومن غير المميّز ، إذ لا نيّة لهم ، والنّيّة في الاعتكاف واجبةٌ . أمّا الصّبيّ العاقل المميّز فيصحّ منه الاعتكاف ، لأنّه من أهل العبادة ، كما يصحّ منه صوم التّطوّع .
4 - النّقاء من الحيض والنّفاس ، فلا يصحّ الاعتكاف من الحائض والنّفساء ، لأنّهما ممنوعتان عن المسجد ، ولا يصحّ الاعتكاف إلاّ في مسجدٍ .
5 - الطّهارة من الجنب : فلا يصحّ الاعتكاف من الجنب ، لأنّه ممنوعٌ من اللّبث في المسجد .
اعتكاف المرأة :
12 - يصحّ اعتكاف المرأة باتّفاق الفقهاء بالشّروط المتقدّمة ، ويشترط للمتزوّجة أن يأذن لها زوجها ، لأنّها لا ينبغي لها الاعتكاف إلاّ بإذنه - أي يصحّ من غير إذنه مع الإثم في الافتيات عليه - فإن أذن لها الزّوج بالاعتكاف واجباً أو نفلاً ، فلا ينبغي له أن يطأها ، فإن منعها زوجها بعد إذنه لها لا يصحّ منعه . هذا قول الحنفيّة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يحقّ للزّوج أن يمنع زوجته بعد إذنه لها بالاعتكاف المنذور ، سواءٌ أدخلت في العبادة أم لم تدخل ، إلاّ إذا كان النّذر مطلقاً غير مقيّدٍ بأيّامٍ معيّنةٍ ، فإنّ للزّوج حينئذٍ أن يمنع زوجته من الاعتكاف حتّى ولو دخلت في العبادة ، ومن بابٍ أولى ما إذا نذرت بغير إذنه معيّناً أو غير معيّنٍ .
أمّا إذا أذن لها في الاعتكاف بدون نذرٍ ، فلا يقطعه عليها إن دخلت في الاعتكاف ، فإن لم تدخل فيه كان له منعها . والاعتكاف للمرأة مكروهٌ تنزيهاً عند الحنفيّة ، وجعلوه نظير حضورها الجماعات .
وقال الشّافعيّة : لا يجوز اعتكاف المرأة إلاّ بإذن زوجها ، لأنّ التّمتّع بالزّوجة من حقّ الزّوج . وحقّه على الفور بخلاف الاعتكاف . نعم إن لم تفوّت الزّوجة على زوجها منفعةً ، كأن حضرت المسجد بإذنه ، فنوت الاعتكاف فإنّه يجوز . ويكره عندهم اعتكاف المرأة الجميلة ذات الهيئة قياساً على خروجها لصلاة الجماعة .
وللزّوج إخراج زوجته من الاعتكاف المسنون سواءٌ أكان الاعتكاف بإذنه أم لا ، واستدلّ البهوتيّ الحنبليّ بحديث : « لا تصوم المرأة وزوجها شاهدٌ يوماً من غير رمضان إلاّ بإذنه » ، وقال : وضرر الاعتكاف أعظم . وكذا يجوز للزّوج إخراجها من الاعتكاف المنذور إلاّ إذا أذن لها بالاعتكاف وشرعت فيه ، سواءٌ أكان زمن الاعتكاف معيّناً أم كان متتابعاً أم لا . أو إذا كان الإذن أو الشّروع في زمن الاعتكاف المعيّن أو أذن في الشّروع فيه فقط وكان الاعتكاف متتابعاً ، وذلك لإذن الزّوج بالشّروع مباشرةً أو بواسطةٍ ، لأنّ الإذن في النّذر المعيّن إذنٌ في الشّروع فيه ، والمعيّن لا يجوز تأخيره ، والمتتابع لا يجوز الخروج منه ، لما فيه من إبطال العبادة الواجبة بلا عذرٍ .
والحنابلة كالشّافعيّة فيما تقدّم ، إلاّ في مسألة اعتكاف المرأة الجميلة ، فلم يذكروا أنّه مكروهٌ . وإذا اعتكفت المرأة استحبّ لها أن تستتر بخباءٍ ونحوه ،« لفعل عائشة وحفصة وزينب في عهده صلى الله عليه وسلم » وتجعل خباءها في مكان لا يصلّي فيه الرّجال ، لأنّه أبعد في التّحفّظ لها . نقل أبو داود عن أحمد قوله : « يعتكفن في المسجد ، ويضرب لهنّ فيه بالخيم » .
ولا بأس أن يستتر الرّجال أيضاً ،« لفعله صلى الله عليه وسلم »،ولأنّه أخفى لعملهم . ونقل إبراهيم : لا . إلاّ لبردٍ شديدٍ .
النّيّة في الاعتكاف :
13 - النّيّة ركنٌ للاعتكاف عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وشرطٌ له عند الحنفيّة ، وذلك لأنّ الاعتكاف عبادةٌ مقصودةٌ ، فالنّيّة واجبةٌ فيه ، فلا يصحّ اعتكافٌ بدون نيّةٍ . سواءٌ أكان الاعتكاف مسنوناً أم واجباً ، كما يجب التّمييز بين نيّة الفرض والنّفل في الاعتكاف ، ليتميّز الفرض من السّنّة .
وإذا نوى الاعتكاف المسنون ، ثمّ خرج من المسجد ، فهل يحتاج إلى تجديد نيّته إذا رجع ؟ ذهب الحنفيّة في الظّاهر من المذهب ، والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا خرج من الاعتكاف المسنون فقد انقطع اعتكافه ، وإذا رجع فلا بدّ من تجديد نيّة اعتكافٍ مندوبٍ آخر ، لأنّ الخروج من المسجد منه للاعتكاف المندوب ، لا مبطل له .
وذهب المالكيّة ، وهو مقابل الظّاهر عند الحنفيّة إلى أنّ المندوب يلزمه إذا نواه قليلاً كان أو كثيراً بدخوله معتكفه ، لأنّ النّفل يلزم كماله بالشّروع فيه ، فإن لم يدخل معتكفه فلا يلزمه ما نواه . فإذا دخل ثمّ قطع لزمه القضاء وإن اشترط عدم القضاء . والظّاهر من مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يلزمه الإتمام ولا قضاء عليه .
مكان الاعتكاف :
أ - مكان الاعتكاف للرّجل :
14 - أجمع الفقهاء على أنّه لا يصحّ اعتكاف الرّجل والخنثى إلاّ في مسجدٍ ، لقوله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } وللاتباع ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلاّ في المسجد ».
واتّفقوا على أنّ المساجد الثّلاثة أفضل من غيرها ، والمسجد الحرام أفضل ، ثمّ المسجد النّبويّ ، ثمّ المسجد الأقصى .(88/2)
واتّفقوا على أنّ المسجد الجامع يصحّ فيه الاعتكاف ، وهو أولى من غيره بعد المساجد الثّلاثة ، ويجب الاعتكاف فيه إذا نذر الاعتكاف مدّةً تصادفه فيها صلاة الجمعة ، لئلاّ يحتاج إلى الخروج وقت صلاة الجمعة ، إلاّ إذا اشترط الخروج لها عند الشّافعيّة .
ثمّ اختلفوا في المساجد الأخرى الّتي يصحّ فيها الاعتكاف .
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلاّ في مسجد جماعةٍ . وعن أبي حنيفة أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلاّ في مسجدٍ تقام فيه الصّلوات الخمس ، لأنّ الاعتكاف عبادة انتظار الصّلاة ، فيختصّ بمكانٍ يصلّى فيه ، وصحّحه بعضهم . وقال أبو يوسف ومحمّدٌ : يصحّ في كلّ مسجدٍ وصحّحه السّروجيّ . وعن أبي يوسف أنّه فرّق بين الاعتكاف الواجب والمسنون ، فاشترط للاعتكاف الواجب مسجد الجماعة ، وأمّا النّفل فيجوز في أيّ مسجدٍ كان . ويعني الحنفيّة بمسجد الجماعة ما له إمامٌ ومؤذّنٌ ، أدّيت فيه الصّلوات الخمس أو لا . واشترط الحنابلة لصحّة الاعتكاف في المسجد أن تقام الجماعة في زمن الاعتكاف الّذي هو فيه ، ولا يضرّ عدم إقامتها في الوقت الّذي لا يعتكف فيه ، وخرج من ذلك المرأة والمعذور والصّبيّ ومن هو في قريةٍ لا يصلّي فيها غيره ، لأنّ الممنوع ترك الجماعة الواجبة ، وهي منتفيةٌ هنا . والمذهب عند المالكيّة والشّافعيّة أنّه يصحّ الاعتكاف في أيّ مسجدٍ كان .
ب - مكان اعتكاف المرأة :
15 - اختلفوا في مكان اعتكاف المرأة :
فذهب الجمهور والشّافعيّ في المذهب الجديد إلى أنّها كالرّجل لا يصحّ اعتكافها إلاّ في المسجد ، وعلى هذا فلا يصحّ اعتكافها في مسجد بيتها ، لما ورد عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - أنّه سئل عن امرأةٍ جعلت عليها ( أي نذرت ) أن تعتكف في مسجد بيتها ، فقال : " بدعةٌ ، وأبغض الأعمال إلى اللّه البدع ". فلا اعتكاف إلاّ في مسجدٍ تقام فيه الصّلاة . ولأنّ مسجد البيت ليس بمسجدٍ حقيقةً ولا حكماً ، فيجوز تبديله ، ونوم الجنب فيه ، وكذلك لو جاز لفعلته أمّهات المؤمنين - رضي الله عنهن - ولو مرّةً تبييناً للجواز .
وفي المذهب القديم للشّافعيّ : أنّه يصحّ اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، لأنّه مكان صلاتها . قال النّوويّ : قد أنكر القاضي أبو الطّيّب وجماعةٌ هذا القديم . وقالوا : لا يجوز في مسجد بيتها قولاً واحداً وغلّطوا من قال : فيه قولان .
وذهب الحنفيّة إلى جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، لأنّه هو الموضع لصلاتها ، فيتحقّق انتظارها فيه ، ولو اعتكفت في مسجد الجماعة جاز مع الكراهة التّنزيهيّة ، والبيت أفضل من مسجد حيّها ، ومسجد الحيّ أفضل لها من المسجد الأعظم .
وليس للمرأة أن تعتكف في غير موضع صلاتها من بيتها . وإن لم يكن لها في البيت مكانٌ متّخذٌ للصّلاة لا يجوز لها الاعتكاف في بيتها ، وليس لها أن تخرج من بيتها الّذي اعتكفت فيه اعتكافاً واجباً عليها .
اللّبث في المسجد :
16 - اللّبث في المسجد هو ركن الاعتكاف عند الجميع .
وقد اختلف الفقهاء في مقدار اللّبث المجزئ في الاعتكاف المسنون . فذهب الحنفيّة إلى أنّ أقلّه ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ عند محمّدٍ ، وهو ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ، لبناء النّفل على المسامحة ، وبه يفتى . وهو المذهب عند الحنابلة . قال في الإنصاف : أقلّه إذا كان تطوّعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمّى به معتكفاً لابثاً . قال في الفروع : ظاهره ولو لحظةً ، والمذهب ما تقدّم . والمستحبّ عندهم ألاّ ينقص الاعتكاف عن يومٍ وليلةٍ ، خروجاً من خلاف من يقول : أقلّه ذلك . واختلف المالكيّة في أقلّ المكث في المسجد . فذهب بعضهم إلى أنّه يومٌ وليلةٌ ، سوى وقت خروجه لما يتعيّن عليه الخروج لأجله ، من البول والغائط والوضوء وغسل الجنابة ، والمقصود بليلة اليوم : اللّيلة الّتي قبله . وذهب آخرون إلى أنّ أقلّه يومٌ فما فوقه إذا كان دخوله في الاعتكاف مع الفجر ، باعتبار أنّ أوّل اليوم الفجر .
وعند الشّافعيّة لا يقدّر اللّبث بزمانٍ ، بل اشترطوا في اللّبث أن يكون قدراً يسمّى عكوفاً وإقامةً ، ولو بلا سكونٍ بحيث يكون زمنه فوق زمن الطّمأنينة في الرّكوع ونحوه ، فيكفي التّردّد فيه لا المرور بلا لبثٍ . ويندب عندهم أن يكون يوماً ، لأنّه لم يرد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتكف أقلّ من يومٍ ، ولا أحدٌ من الصّحابة .
الصّوم في الاعتكاف :
17 - اختلف العلماء في الصّوم في الاعتكاف ، فمنهم من رآه واجباً ، ومنهم من استحبّه ، إلاّ إن نذره مع الاعتكاف فيجب ، وفيما يلي تفصيل حكم الصّوم في الاعتكاف غير المنذور فيه الصّوم :
أ - القول الأوّل بوجوب الصّوم مع الاعتكاف :(88/3)
لا يصحّ الاعتكاف إلاّ بصومٍ ، وبه قال أبو حنيفة في رواية الحسن عنه ، ومن مشايخ الحنفيّة من اعتمد هذه الرّواية ، وهو مذهب المالكيّة ، وبه قال ابن عمر وابن عبّاسٍ وعائشة وعروة بن الزّبير والزّهريّ والأوزاعيّ والثّوريّ ، وهو قولٌ قديمٌ محكيٌّ عن الشّافعيّ ، قالوا : لا يصحّ الاعتكاف إلاّ بصومٍ . قال القاضي عياضٌ : وهو قول جمهور العلماء . والصّوم عند المالكيّة ركنٌ للاعتكاف كالنّيّة وغيرها . واستدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا اعتكاف إلاّ بصيامٍ » وبأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « اعتكف هو وأصحابه رضي الله عنهم صياماً في رمضان » ، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن عمر أنّه « سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن اعتكافٍ عليه فأمره أن يعتكف ويصوم » والّذي ذكر عن أبي حنيفة في رواية الحسن عنه في وجوب الصّوم مطلقاً مع الاعتكاف لم يكن هو المعتمد في المذهب كما في الدّرّ المختار وحاشية ابن عابدين والفتاوى الهنديّة وغيرها ، فإنّهم قالوا : إنّ الصّوم ليس بشرطٍ في الاعتكاف المندوب ، كما في ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ .
ب - القول الثّاني : أفضليّة الصّوم مع الاعتكاف .
ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط الصّوم للاعتكاف مطلقاً ، سواءٌ أكان واجباً أم مندوباً ، فالصّوم ليس شرطاً للاعتكاف عندهم ولا ركناً فيه . وبه قال الحسن البصريّ وأبو ثورٍ وداود وابن المنذر ، وهو مرويٌّ عن عليٍّ وابن مسعودٍ . إلاّ أنّهم صرّحوا بأنّ الاعتكاف مع الصّوم أفضل من الاعتكاف بدونه ، فلو اعتكف صائماً ثمّ أفطر عامداً بغير عذرٍ لا يبطل اعتكافه ، ولا شيء عليه ، لصحّة اعتكافه بغير صومٍ ، واحتجّوا لما ذهبوا إليه بحديث عائشة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوّالٍ » رواه مسلمٌ ، وهذا يتناول اعتكاف يوم العيد ، ويلزم من صحّته أنّ الصّوم ليس بشرطٍ ، واحتجّوا أيضاً بحديث « عمر رضي الله عنه أنّه نذر أن يعتكف ليلةً ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » .
نيّة الصّوم للاعتكاف المنذور :
18 - اختلف الحنفيّة والمالكيّة في الصّوم الواجب مع الاعتكاف ، فذهب الحنفيّة إلى أنّ الاعتكاف الواجب لا يصحّ إلاّ بصومٍ واجبٍ ، ولا يصحّ مع صوم التّطوّع ، فلو نذر اعتكاف شهر رمضان لزمه وأجزأه صوم رمضان عن صوم الاعتكاف ، فإن لم يعتكفه قضى شهراً متتابعاً غيره ، لأنّه التزم الاعتكاف في شهرٍ بعينه . وقد فاته ، فيقضيه متتابعاً بصومٍ مقصودٍ ، فلم يجز في رمضان آخر ، ولا في واجبٍ آخر ، سوى قضاء رمضان الأوّل ، لأنّه خلفٌ عنه .
وعلى هذا فلو صام تطوّعاً ، ثمّ نذر اعتكاف ذلك اليوم لم يصحّ الاعتكاف ، لعدم استيعاب الاعتكاف للنّهار . مثاله : لو أصبح صائماً متطوّعاً ، أو غير ناوٍ للصّوم ، ثمّ قال : للّه عليّ أن اعتكف هذا اليوم ، لا يصحّ ، وإن كان في وقتٍ تصحّ منه نيّة الصّوم ، لعدم استيعاب النّهار بالاعتكاف ، وعدم استيعابه بالصّوم الواجب . وعند أبي يوسف أقلّه أكثر النّهار ، فإن كان قاله قبل نصف النّهار لزمه ، فإن لم يعتكفه قضاه .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الاعتكاف بقسميه الواجب والمسنون يصحّ بأيّ صومٍ كان سواءٌ قيّد بزمنٍ كرمضان ، أو سببٍ ككفّارةٍ ونذرٍ ، أو أطلق كتطوّعٍ ، فلا يصحّ الاعتكاف من مفطرٍ ، ولو لعذرٍ ، فمن لا يستطيع الصّوم لا يصحّ اعتكافه .
نذر الاعتكاف :
19 - إذا نذر الاعتكاف لزمه أداؤه ، سواءٌ أكان منجّزاً أم معلّقاً ، وينقسم إلى متتابعٍ وغير متتابعٍ ، أو نذر مدّةً معيّنةً .
أ - النّذر المتتابع :
20 - وذلك كأن ينذر عشرة أيّامٍ متتابعةً ، أو شهراً متتابعاً مثلاً ، فإنّه يلزمه متتابعاً في قولهم جميعاً ، فلو أفسده وجب استثناؤه بفوات التّتابع .
ب - النّذر المطلق والمدّة المعيّنة :
21 - وهو أن ينذر اعتكاف يومٍ أو أيّامٍ غير متتابعةٍ ، فإن نوى أيّاماً غير متتابعةٍ ، فإنّها تلزمه متتابعةٌ عند الحنفيّة ، وعلّله في المبسوط بأنّ إيجاب العبد معتبرٌ بإيجاب اللّه تعالى ، وما أوجب اللّه تعالى متتابعاً إذا أفطر فيه يوماً لزمه الاستقبال ، كصوم الظّهار والقتل . والإطلاق في الاعتكاف كالتّصريح بالتّتابع ، بخلاف الإطلاق في نذر الصّوم ، والفرق بينهما أنّ الاعتكاف يدوم باللّيل والنّهار ، فكان متّصل الأجزاء ، وما كان متّصل الأجزاء لا يجوز تفريقه إلاّ بالتّنصيص عليه ، بخلاف الصّوم ، فإنّه لا يوجد ليلاً ، فكان متفرّقاً ، وما كان متفرّقاً في نفسه لا يجب الوصل فيه إلاّ بالتّنصيص . وكذلك عند المالكيّة إلاّ إذا نذرها متفرّقةً فتجب متفرّقةً ، ولا يلزمه التّتابع .
أمّا الشّافعيّة فإنّ النّذر المطلق عندهم لا يلزم فيه التّتابع ، فيجوز أداؤه مفرّقاً .
وعلى هذا لو خرج من معتكفه خلال أيّام النّذر المطلق ، إن لم يعزم على العود احتاج إلى استئناف نيّة الاعتكاف ، سواءٌ أخرج لتبرّزٍ أم لغيره ، لأنّ ما مضى عبادةٌ تامّةٌ ، وهو يريد اعتكافاً جديداً ، فإن عزم على العود كانت هذه العزيمة قائمةً مقام النّيّة ، وهو الصّواب كما في المجموع . أمّا إذا نوى مدّةً معيّنةً فكذلك عند الحنفيّة والمالكيّة ، وعند الشّافعيّة لا يلزمه التّتابع ، لكن إن خرج لغير قضاء الحاجة احتاج إلى استئناف النّيّة .(88/4)
وعند الحنابلة أنّ تعيين مدّةٍ للاعتكاف كشهرٍ بعينه يلزمه التّتابع ، وإن نذر شهراً مطلقاً لزمه ، ولهم قولان في التّتابع وعدمه . أحدهما كالحنفيّة ، والثّاني كالشّافعيّة اختارها الآجرّيّ وصحّحها ابن شهابٍ وغيره . ونصّ صاحب كشّاف القناع على وجوب التّتابع . والتّتابع عند الشّافعيّة في النّذر المطلق أفضل من التّفريق .
وعند الشّافعيّة والحنابلة : لو نذر يوماً لم يجز فيه التّفريق . ولو نذر يوماً من وسط النّهار لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله ليتحقّق مضيّ يومٍ من ذلك الوقت . وأمّا اللّيل فلا يلزمه بنذر اعتكاف النّهار لأنّه ليس من اليوم عندهما . وقال الشّافعيّة : يدخل اللّيل مع اليوم بالنّيّة . وإذا نذر اعتكاف شهرٍ بعينه وأطلق لزمه ليلاً ونهاراً ، تامّاً كان الشّهر أو ناقصاً ويجزئه النّاقص بلا خلافٍ عند الشّافعيّة .
زمن دخول الاعتكاف الواجب :
22 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يدخل معتكفه إذا نوى يوماً قبل الفجر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة إذا نوى ليلاً قبل غروب الشّمس ، لأنّ الحنفيّة والمالكيّة لا يصحّ عندهم نذر اللّيل وحده ، لأنّه لا صيام فيه ، لكن لو نذر ليلة أيّ ليلةٍ كانت عند المالكيّة لزمته مع نهارها ، لأنّ أقلّه يومٌ وليلةٌ . واللّيل تابعٌ للنّهار إذا نذر أيّاماً متتابعةً ، كمن نذر اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان .
نذر الصّوم مع الاعتكاف المنذور :
23 - سبق أنّ الحنفيّة والمالكيّة لا يصحّ عندهم الاعتكاف الواجب والمسنون إلاّ بصومٍ واختلفوا في المندوب .
أمّا نذر الصّوم مع الاعتكاف ففيه أوجهٌ عند الشّافعيّة والحنابلة :
أ - اتّفقوا على أنّه إذا نذر صوماً واعتكافاً لا يلزمه الجمع بينهما .
ب - اتّفقوا على أنّه إذا نذر أن يعتكف صائماً لزماه .
ج - واختلفوا فيما إذا نذر أن يصوم معتكفاً . فالصّحيح عند الشّافعيّة والحنابلة أنّهما يلزمانه . وفرّقوا بين الصّورة الثّالثة والثّانية بأنّ الصّوم يصحّ وصفاً للاعتكاف ، والاعتكاف لا يصحّ وصفاً للصّوم .
نذر الصّلاة في الاعتكاف :
24 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ من نذر أن يعتكف مصلّياً فالصّلاة لا تلزمه .
وعند الحنابلة يلزمه الجمع بينهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس على المعتكف صيامٌ إلاّ أن يجعله على نفسه » . والاستثناء من النّفي إثباتٌ ، وتقاس الصّلاة على الصّوم ، ولأنّ كلاًّ من الصّلاة والصّوم صفةٌ مقصودةٌ في الاعتكاف فلزمت بالنّذر ، لكن لا يلزمه أن يصلّي جميع الزّمان ، ويكفيه ركعةٌ أو ركعتان بناءً على ما لو نذر الصّلاة وأطلق . هذا ولم أر للحنفيّة والمالكيّة نصّاً في هذه المسألة والظّاهر عدم الوجوب . واللّه أعلم .
نذر الاعتكاف في مكان معيّنٍ :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا نذر الاعتكاف في أحد المساجد الثّلاثة - المسجد الحرام ، ومسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى - لزمه النّذر وعليه الوفاء ، ولا يجزئه الاعتكاف في غيرها من المساجد ، لفضل العبادة فيها على غيرها ، فتتعيّن بالتّعيين . وأفضلها المسجد الحرام ، ثمّ مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثمّ المسجد الأقصى . وإلحاق غير الثّلاثة بها ممتنعٌ لثبوت فضلها على غيرها بالنّصّ ، قال عليه الصلاة والسلام : « صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلاّ المسجد الحرام ، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه » . وورد « أنّ الصّلاة بالمسجد الأقصى بخمسمائةٍ صلاةٍ ».
فإذا عيّن الأفضل في نذره لم يجزئه الاعتكاف فيما دونه ، لعدم مساواته له . فإن عيّن بنذره المسجد الحرام لا يجزئه في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا المسجد الأقصى . وإن عيّن مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجزئه المسجد الأقصى ، والعكس صحيحٌ ، فإن عيّن المسجد الأقصى جاز في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي المسجد الحرام ، وإن عيّن مسجد النّبيّ جاز في المسجد الحرام . وأمّا إذا نذر الاعتكاف في غير المساجد الثّلاثة فهل يلزم ؟ ذهب المالكيّة وهو المذهب عند الشّافعيّة والصّحيح عند الحنابلة إلى أنّه لا يلزمه ، وله فعله في غيره .
وأمّا إذا كان المسجد يحتاج إلى شدّ الرّحال إليه فيخيّر عند الحنابلة ، وهو قولٌ للمالكيّة بين الذّهاب وعدمه عند القاضي أبي يعلى وغيره ، واختار بعضهم الإباحة في السّفر القصير ، ولم يجوّزه ابن عقيلٍ والشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة ، وكذلك يخيّر على الصّحيح من المذهب إن كان لا يحتاج إلى شدّ رحلٍ بين الذّهاب وغيره . لكن قال في الواضح : الوفاء أفضل ، قال في الفروع : وهذا أظهر .
الاشتراط في الاعتكاف :
26 - ذهب الجمهور إلى جواز الشّرط وصحّته في الاعتكاف الواجب .
وذهب المالكيّة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة : إلى إلغاء الشّرط .(88/5)
إلاّ أنّ الجمهور اختلفوا فيما يصحّ أن يدخل تحت الشّرط أو لا يدخل . فقال الحنفيّة : لو اشترط وقت النّذر أن يخرج لعيادة مريضٍ وصلاة جنازةٍ وحضور مجلس علمٍ جاز ذلك . وهذا على قول الإمام أبي حنيفة ، أمّا على قول الصّاحبين فالأمر أوسع . أمّا المالكيّة فقد قالوا في المعتمد : لو اشترط المعتكف لنفسه سقوط القضاء عنه - على فرض حصول عذرٍ أو مبطلٍ - لا ينفعه اشتراط سقوط القضاء ، وشرطه لغوٌ ، ويجب عليه القضاء إن حصل موجبه ، واعتكافه صحيحٌ . ولهم قولٌ آخر بأنّه لا ينعقد ، وقولٌ ثالثٌ بالتّفصيل بين الاشتراطات قبل الدّخول في الاعتكاف فلا ينعقد الاعتكاف ، أو بعد الدّخول فيلغو الشّرط . وقال الحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة : إنّ الاعتكاف لزم بالتزامه فيجب بحسب ما التزمه . فإذا اشترط المعتكف الخروج لعارضٍ مباحٍ مقصودٍ غير منافٍ للاعتكاف صحّ الشّرط . فإن اشترطه لخاصٍّ من الأغراض ، كعيادة المرضى خرج له دون غيره ، وإن كان غيره أهمّ منه . وإن اشترطه لأمرٍ عامٍّ كشغلٍ يعرض له خرج لكلّ مهمٍّ دينيٍّ كالجمعة والجماعة ، أو دنيويٍّ مباحٍ ، كاقتضاء الغريم ، فليس له الخروج لأجل الحرام . وخرج بقوله " مقصودٍ " ما لو شرطه ، أو لغير مقصودٍ كنزهةٍ أو فرجةٍ ، كإتيان أهله ، فإذا اشترط الخروج لشيءٍ من ذلك فإنّه لا ينعقد نذره . وقال الحنابلة : لو اشترط الخروج للبيع والشّراء أو الإجارة ، أو التّكسّب بالصّناعة في المسجد لم يصحّ الشّرط بلا خلافٍ . ولو قال : متى مرضت أو عرض لي عارضٌ خرجت فله شرطه على الصّحيح من المذهب . ومحلّ ذلك في الاعتكاف المتتابع عند الشّافعيّة ، ولا يلزمه تدارك ما فاته ، فكأنّه قال : نذرت هذا الشّهر إلاّ كذا . فيكون المنذور شهراً ، والمشروط مستثنًى منه . أمّا عند الحنابلة فإنّ فائدة الشّرط عندهم سقوط القضاء في المدّة المعيّنة . أمّا لو نذر شهراً متتابعاً ، فلا يجوز الخروج منه إلاّ لمرضٍ ، وعليه قضاء زمن المرض ، لإمكان حمل شرطه هنا على نفي التّتابع فقط ، فنزّل على الأقلّ ، ويكون الشّرط قد أفاد هنا البناء مع سقوط القضاء .
ما يفسد الاعتكاف :
يفسد الاعتكاف ما يلي :
الأوّل - الجماع ودواعيه :
27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجماع في الاعتكاف حرامٌ ومبطلٌ له ، ليلاً كان أو نهاراً ، إن كان عامداً . وكذا إن فعله ناسياً لاعتكافه عند الجمهور ، لقوله تعالى : { ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد } .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ حرمة الجماع وإفساده . للاعتكاف لا يكون إلاّ من عالمٍ بتحريمه ذاكرٍ للاعتكاف ، سواءٌ أجامع في المسجد أم خارجه عند خروجه لقضاء الحاجة أو نحوها ، لمنافاته العبادة البدنيّة . والبطلان إنّما هو بالنّسبة للمستقبل ، أمّا ما مضى فإنّه لا يبطل في الجملة ، على خلافٍ وتفصيلٍ يعرف في كتب الفقه .
وأمّا دواعي الجماع كاللّمس والقبلة ، فإنّها تفسد الاعتكاف عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر للشّافعيّة إذا أنزل ، فإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه ، والقولان الآخران للشّافعيّة أنّه يبطل مطلقاً ، وقيل : لا يبطل . قال المالكيّة : إنّه إذا قبّل وقصد اللّذّة ، أو لمس ، أو باشر بقصدها ، أو وجدها بطل اعتكافه ، واستأنفه من أوّله ، فلو قبّل صغيرةً لا تشتهى ، أو قبّل زوجته لوداعٍ أو رحمةٍ ، ولم يقصد لذّةً ولا وجدها لم يبطل . ثمّ إنّ اشتراط الشّهوة في القبلة إذا كانت في غير الفم ، وأمّا إذا كانت فيه فلا تشترط الشّهوة على الظّاهر ، لأنّه يبطله من مقدّمات الوطء ما يبطل الوضوء .
وقد نصّوا على تحريم الوطء في المسجد مطلقاً لكرامته ، ووطء المعتكفة مفسدٌ لاعتكافها . وذهب الجمهور إلى أنّ الجماع المفسد للاعتكاف المنذور المتتابع من المعتكف الذّاكر له العالم بتحريمه لا تلزمه الكفّارة . قال ابن المنذر : أكثر أهل العلم على أنّه لا كفّارة عليه ، وهو قول أهل المدينة والشّام والعراق .
قال الماورديّ هو قول جميع الفقهاء إلاّ الحسن البصريّ والزّهريّ ، فقالا : عليه كفّارة الواطئ في صوم رمضان . وعن الحسن روايةٌ أخرى هي أنّه يعتق رقبةً ، فإن عجز أهدى بدنةً ، فإن عجز تصدّق بعشرين صاعاً من تمرٍ . وقال القاضي أبو يعلى : هي كفّارة الظّهار ، وقال أبو بكرٍ : هي كفّارة يمينٍ .
الثّاني - الخروج من المسجد :
28 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخروج من المسجد للرّجل والمرأة ( وكذلك خروج المرأة من مسجد بيتها عند الحنفيّة ) إذا كان لغير حاجةٍ فإنّه يفسد الاعتكاف الواجب ، وألحق المالكيّة وأبو حنيفة - في رواية الحسن عنه - بالواجب الاعتكاف المندوب أيضاً ، سواءٌ أكان الخروج يسيراً أم كثيراً . أمّا إذا كان الخروج لحاجةٍ فلا يبطل الاعتكاف في قولهم جميعاً إلاّ أنّهم اختلفوا في الحاجة الّتي لا تقطع الاعتكاف ولا تفسده على النّحو التّالي :
أ - الخروج لقضاء الحاجة والوضوء والغسل الواجب :
29 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يضرّ الخروج لقضاء الحاجة والغسل الّذي وجب ممّا لا يفسد الاعتكاف . لكن إن طال مكثه بعد ذلك فسد اعتكافه .(88/6)
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ، لأنّ هذا ممّا لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه له لم يصحّ لأحدٍ الاعتكاف ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ، وقد علمنا أنّه كان يخرج لحاجته . وروت عائشة أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلاّ لحاجةٍ إذا كان معتكفاً » وله الغسل والوضوء والاغتسال في المسجد إذا لم يلوّث المسجد عند الحنفيّة والحنابلة . وعند الشّافعيّة إن أمكنه الوضوء في المسجد لا يجوز له الخروج في الأصحّ ، والثّاني يجوز . وذهب المالكيّة إلى كراهة دخول منزل أهله وبه أهله - أي زوجته - إذا خرج لقضاء الحاجة ، لئلاّ يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه .
أمّا إذا كان له منزلان فيلزمه أقربهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، واختلف الحنفيّة في ذلك . وإذا كانت هناك ميضأةٌ يحتشم منها لا يكلّف التّطهّر منها ، ولا يكلّف الطّهارة في بيت صديقه ، لما في ذلك من خرم المروءة ، وتزيد دار الصّدّيق بالمنّة بها . أمّا إذا كان لا يحتشم من الميضأة فيكلّفها . وألحقوا بالخروج لما تقدّم الخروج للقيء وإزالة النّجاسة ، فلا يفسد الاعتكاف أيضاً في قولهم جميعاً . ولا يكلّف الّذي خرج لحاجةٍ الإسراع ، بل له المشي على عادته .
ب - الخروج للأكل والشّرب :
30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الخروج للأكل والشّرب يفسد اعتكافه إذا كان هناك من يأتيه به لعدم الضّرورة إلى الخروج ، أمّا إذا لم يجد من يأتيه به فله الخروج ، لأنّه خروجٌ لما لا بدّ منه .
وذهب الشّافعيّة والقاضي من الحنابلة إلى أنّه يجوز له الخروج للأكل ، لأنّ الأكل في المسجد يستحيا منه . وكذا للشّرب إذا لم يكن في المسجد ماءٌ . وخصّ الشّافعيّة جواز الخروج للأكل إذا كان اعتكافه في مسجدٍ مطروقٍ ، أمّا إذا كان المسجد مهجوراً فلا يحقّ له الخروج .
ت - الخروج لغسل الجمعة والعيد :
31 - ذهب المالكيّة إلى أنّ للمعتكف الخروج لغسل الجمعة والعيد ولحرٍّ أصابه فلا يفسد الاعتكاف خلافاً للجمهور . وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يجوز الخروج لغسل الجمعة والعيد ، لأنّه نفلٌ وليس بواجبٍ وليس من باب الضّرورة . فإن اشترط ذلك جاز .
ث - الخروج لصلاة الجمعة :
32 - من وجبت عليه الجمعة ، وكان اعتكافه متتابعاً ، واعتكف في مسجدٍ لا تقام فيه الجمعة فهو آثمٌ ، ويجب عليه الخروج لصلاة الجمعة ، لأنّها فرضٌ . فإذا خرج للجمعة فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ خروجه للجمعة لا يفسد اعتكافه ، لأنّه خروجٌ لما لا بدّ منه ، كالخروج لقضاء الحاجة . وبه قال سعيد بن جبيرٍ والحسن البصريّ والنّخعيّ وأحمد وعبد الملك بن الماجشون وابن المنذر . وذهب المالكيّة في المشهور عندهم والشّافعيّة إلى أنّ خروج المعتكف لصلاة الجمعة يفسد اعتكافه وعليه الاستئناف ، لأنّه يمكنه الاحتراز من الخروج ، بأن يعتكف في المسجد الجامع ، فإذا لم يفعل وخرج بطل اعتكافه ، واستثنى الشّافعيّة ما لو شرط الخروج في اعتكافه لصلاة الجمعة ، فإنّ شرطه يصحّ ، ولا يبطل اعتكافه بخروجه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الخروج لصلاة الجمعة يكون وقت الزّوال ، ومن بعد مسجد اعتكافه خرج في وقتٍ يدركها . أمّا الحنابلة فإنّهم قالوا بجواز التّبكير إليها . واتّفقوا على أنّ المستحبّ بعد صلاة الجمعة التّعجيل بالرّجوع إلى مكان الاعتكاف . لكن لا يجب عليه التّعجيل لأنّه محلٌّ للاعتكاف ، وكره تنزيهاً المكث بعد صلاة الجمعة لمخالفة ما التزمه بلا ضرورةٍ .
ج -الخروج لعيادة المرضى وصلاة الجنازة :
33 اتّفق الفقهاء على عدم جواز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة لعدم الضّرورة إلى الخروج ، إلاّ إذا اشترط الخروج لهما عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ومحلّ ذلك ما إذا خرج لقصد العيادة وصلاة الجنازة . أمّا إذا خرج لقضاء الحاجة ثمّ عرج على مريضٍ لعيادته ، أو لصلاة الجنازة ، فإنّه يجوز بشرطٍ ألاّ يطول مكثه عند المريض ، أو بعد صلاة الجنازة عند الجمهور ، بأن لا يقف عند المريض إلاّ بقدر السّلام ، لقول عائشة رضي الله عنها : « إن كنت أدخل البيت للحاجة ، والمريض فيه فما أسأل عنه إلاّ وأنا مارّةٌ » . وفي سنن أبي داود مرفوعاً عنها : « أنّه عليه الصلاة والسلام كان يمرّ بالمريض ، وهو معتكفٌ ، فيمرّ كما هو ولا يعرّج يسأل عنه » .
فإن طال وقوفه عرفاً ، أو عدل عن طريقه وإن قلّ لم يجز ، وعند أبي يوسف ومحمّدٍ لا ينتقض الاعتكاف إذا لم يكن أكثر من نصف النّهار . أمّا المالكيّة فإنّهم مع الجمهور في فساد الاعتكاف لخروج عيادة المريض وصلاة الجنازة ، إلاّ أنّهم أوجبوا الخروج لعيادة أحد الأبوين المريضين أو كليهما ، وذلك لبرّهما فإنّه آكد من الاعتكاف المنذور ، ويبطل اعتكافه به ويقضيه .
ح - الخروج في حالة النّسيان :
34 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الخروج من المسجد عمداً أو سهواً يبطل الاعتكاف . وعلّلوا ذلك بأنّ حالة الاعتكاف مذكّرةٌ ، ووقوع ذلك نادرٌ ، وإنّما يعتبر العذر فيما يغلب وقوعه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم البطلان إذا خرج ناسياً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « عفي لأمّتي عن الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
خ - الخروج لأداء الشّهادة :
35 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الخروج لأجل الشّهادة مفسدٌ للاعتكاف .(88/7)
وصرّح المالكيّة بأنّ من وجبت عليه شهادةٌ ، بألاّ يكون هناك غيره ، أو لا يتمّ النّصاب إلاّ به ، لا يخرج من المسجد لأدائها ، بل يجب أن يؤدّيها في المسجد إمّا بحضور القاضي ، أو تنقل عنه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يلزمه الخروج لأداء الشّهادة متى تعيّنت عليه ويأثم بعدم الخروج ، وكذلك التّحمّل للشّهادة إذا تعيّن ، فيجوز له الخروج ولا يبطل اعتكافه بذلك الخروج ، لأنّه خروجٌ واجبٌ على الأصحّ عند الشّافعيّة ، أمّا إذا لم تتعيّن عليه ، فيبطل اعتكافه بالخروج .
د - الخروج للمرض :
المرض على قسمين :
36-أ - المرض اليسير الّذي لا تشقّ معه الإقامة في المسجد كصداعٍ وحمّى خفيفةٍ وغيرهما لا يجوز معه الخروج من المسجد إذا كان اعتكافه منذوراً متتابعاً ، فإن خرج فسد اعتكافه لأنّه غير مضطرٍّ إليه .
37 -ب- أمّا المرض الشّديد الّذي يتعذّر معه البقاء في المسجد ، أو لا يمكن البقاء معه في المسجد ، بأن يحتاج إلى خدمةٍ أو فراشٍ أو مراجعة طبيبٍ ، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ خروجه مفسدٌ لاعتكافه ، ففي الفتاوى الهنديّة : إذا خرج ساعةً بعذر المرض فسد اعتكافه . هكذا في الظّهيريّة . علماً بأنّ مذهب أبي يوسف ومحمّدٍ اعتبار نصف النّهار كما تقدّم . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يبطل ولا ينقطع به التّتابع ، ويبني على ما مضى إذا شفي ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة . وكذلك إذا كان المرض ممّا يتلوّث به المسجد كالقيء ونحوه فإنّه لا ينقطع به التّتابع .
أمّا الخروج حالة الإغماء فإنّه لا يقطع الاعتكاف في قولهم جميعاً ، لأنّه لم يخرج باختياره . قال الكاسانيّ : وإن أغمي عليه أيّاماً ، أو أصابه لممٌ ( جنونٌ ) فسد اعتكافه ، وعليه إذا برأ أن يستقبل ، لأنّه لزمه متتابعاً . وعند الشّافعيّة أنّ المرض والإغماء يحسبان من الاعتكاف . وفي معنى المرض هذا ، الخوف من لصٍّ أو حريقٍ عند الشّافعيّة .
ذ - الخروج لانهدام المسجد :
38 - إذا انهدم المسجد فخرج منه ليقيم اعتكافه في مسجدٍ آخر صحّ ذلك عند الحنفيّة استحساناً ، وكذلك عند غيرهم .
ر - الخروج حالة الإكراه :
39 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخروج بسبب الإكراه لحكومةٍ لا يفسد الاعتكاف قبل تمام الاعتكاف . إلاّ أنّ الحنفيّة أطلقوا القول بأنّ الإكراه لا يفسد الاعتكاف إذا دخل المعتكف مسجداً آخر من ساعته . وهذا استحبابٌ منهم ، أمّا إذا لم يدخل مسجداً آخر ، فيبقى الحكم على أصل القياس وهو البطلان .
ز - خروج المعتكف بغير عذرٍ :
40 - تقدّم أنّ خروج المعتكف إن كان بعذرٍ طبيعيٍّ أو شرعيٍّ جاز له الخروج على خلافٍ في ذلك . أمّا إذا خرج المعتكف بدون عذرٍ فسد اعتكافه - حسب اعتبار الفقهاء للعذر وعدمه - ولو كان زمن الخروج يسيراً ، إلاّ عند أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، فإنّهما قيّدا زمن المفسد بأكثر من نصف النّهار .
س - حدّ الخروج من المسجد :
41 - حدّ الخروج من المسجد أن يخرج بجميع جسده ، فإن خرج ببعضه لم يضرّ ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه وأنا في حجرتي ، فأرجّل رأسه وأنا حائضٌ » .
ش - ما يعتبر من المسجد وما لا يعتبر :
42 - اتّفق الفقهاء على أنّ المراد بالمسجد الّذي يصحّ فيه الاعتكاف ، ما كان بناءً معدّاً للصّلاة فيه . أمّا رحبة المسجد ، وهي ساحته الّتي زيدت بالقرب من المسجد لتوسعته ، وكانت محجّراً عليها ، فالّذي يفهم من كلام الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الصّحيح من المذهب أنّها ليست من المسجد ، ومقابل الصّحيح عندهم أنّها من المسجد ، وجمع أبو يعلى بين الرّوايتين بأنّ الرّحبة المحوطة وعليها بابٌ هي من المسجد . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ رحبة المسجد من المسجد ، فلو اعتكف فيها صحّ اعتكافه ، وأمّا سطح المسجد فقد قال ابن قدامة : يجوز للمعتكف صعود سطح المسجد ، ولا نعلم فيه خلافاً .
أمّا المنارة فإن كانت في المسجد أو بابها فيه فهي من المسجد عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وإن كان بابها خارج المسجد أو في رحبته فهي منه ، ويصحّ فيها الاعتكاف عند الشّافعيّة . وإن كان بابها خارج المسجد فيجوز أذان المعتكف فيها ، سواءٌ أكان مؤذّناً أم غيره عند الحنفيّة ، وأمّا عند الشّافعيّة فقد فرّقوا بين المؤذّن الرّاتب وغيره ، فيجوز للرّاتب الأذان فيها وهو معتكفٌ دون غيره ، قال النّوويّ : وهو الأصحّ .
الثّالث من المفسدات - الجنون :
43 - إذا طرأ على المعتكف الجنون ، وكان زمنه قليلاً فإنّه لا يفسد الاعتكاف في قول الفقهاء جميعاً . أمّا إذا طال الجنون فالجمهور على أنّه لا يقطع الاعتكاف ، ومتى أفاق بنى . وذهب الحنفيّة إلى أنّ القياس سقوط القضاء قياساً على سقوط قضاء الصّوم إذا جنّ ، إلاّ أنّ الاستحسان أنّه يقضي إذا طال جنونه سنةً فأكثر ، وجه الاستحسان أنّ سقوط القضاء في صوم رمضان إنّما كان لدفع الحرج ، لأنّ الجنون إذا طال قلّما يزول ، فيتكرّر عليه صوم رمضان فيحرج في قضائه ، وهذا المعنى لا يتحقّق في الاعتكاف .
واختلف الحنابلة فيه ، هل يبني أو يبتدئ ؟ بناءً على خلافهم في بطلان الصّوم .
الرّابع - الرّدّة :
44 - يبطل الاعتكاف بالرّدّة على قولهم جميعاً ، لكن إذا تاب وأسلم هل يجب استئناف الاعتكاف ؟
ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى عدم وجوب الاستئناف بعد توبته ، فيسقط عنه القضاء لمّا بطل بردّته ، ولا يبني على ما مضى . لقوله تعالى : { قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وقوله صلى الله عليه وسلم : « الإسلام يجبّ ما كان قبله » .(88/8)
ومذهب الشّافعيّة وجوب الاستئناف .
الخامس - السّكر :
45 - ذهب الحنابلة إلى أنّ السّكر بالحرام مفسدٌ للاعتكاف ، وعليه المالكيّة والشّافعيّة إذا كان بسببٍ حرامٍ . ولم يره الحنفيّة مفسداً إن وقع ليلاً ، أمّا إن كان في النّهار فإنّه يبطل الصّوم فيبطل الاعتكاف ، لأنّه كالإغماء لا يقطع التّتابع . وألحق المالكيّة بالسّكر الحرام استعمال المخدّر إذا خدّره .
السّادس : الحيض والنّفاس :
46 - يجب على الحائض والنّفساء الخروج من المسجد ، إذ يحرم عليهما المكث فيه ، ولأنّ الحيض والنّفاس يقطعان الصّيام .
والحائض والنّفساء يبنيان وجوباً وفوراً - في نذر الاعتكاف المتتابع - بمجرّد زوال العذر ، فإذا تأخّرتا بطل الاعتكاف . ولا يحسب زمن الحيض والنّفاس من الاعتكاف . وأمّا المستحاضة ، فإنّها إن أمنت التّلويث لم تخرج عن اعتكافها ، فإن خرجت بطل اعتكافها . وشرط الشّافعيّة لعدم انقطاع الاعتكاف بالحيض والنّفاس ألاّ تكون مدّة الاعتكاف بحيث تخلو عن الحيض ، فإن كانت مدّة الاعتكاف بحيث تخلو عن الحيض انقطع التّتابع في الأظهر ، لإمكان الموالاة بشروعها عقب الطّهر ، والقول الثّاني : لا ينقطع ، لأنّ جنس الحيض ممّا يتكرّر في الجملة ، فلا يؤثّر في التّتابع كقضاء الحاجة . وقال الحنابلة : تخرج المرأة للحيض والنّفاس إلى بيتها إن لم يكن ، للمسجد رحبةٌ على تفصيلٍ ينظر في كتبهم .
ما يباح للمعتكف وما يكره له :
47 - كره العلماء للمعتكف فضول القول والعمل مع اختلافهم فيما يعتبر مكروهاً أو مباحاً على التّفصيل التّالي :
أ - الأكل والشّرب والنّوم :
يباح للمعتكف الأكل والشّرب والنّوم في المسجد في قولهم جميعاً . وزاد المالكيّة أنّ اعتكاف من لا يجد من يأتيه بحاجته من الطّعام والشّراب مكروهٌ . أمّا النّوم للمعتكف فمحلّه المسجد ، لأنّ خروجه للنّوم ليس بعذرٍ ، ولم يذكر أحدٌ أنّ الخروج للنّوم جائزٌ .
ب - العقود والصّنائع في المسجد :
48 - يباح عقد البيع وعقد النّكاح والرّجعة ، وبذلك صرّح الحنفيّة والشّافعيّة إذا احتاج إليه لنفسه أو عياله ، فلو لتجارةٍ كره ، وعند الحنابلة لا يجوز للمعتكف البيع والشّراء إلاّ لما لا بدّ له منه خارج المسجد من غير وقوفٍ لذلك . أمّا إذا خرج لأجلها فسد اعتكافه في قولهم جميعاً . وعند المالكيّة يجوز أن ينكح لنفسه ، وأن ينكح من في ولايته في مجلسه داخل المسجد بغير انتقالٍ ولا طول مدّةٍ ، وإلاّ كره . وصرّح الحنفيّة بأنّ إحضار المبيع في المسجد مكروهٌ تحريماً ، لأنّ المسجد محرّزٌ عن مثل ذلك .
49 - وذهب المالكيّة إلى كراهة الكتابة للمعتكف وإن كان مصحفاً أو علماً إن كثر ، ولا بأس باليسير وإن كان تركه أولى . وعن ابن وهبٍ أنّه يجوز له كتابة المصحف للثّواب لا للأجرة ، بل ليقرأ فيه وينتفع من كان محتاجاً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يكره للمعتكف الصّنائع في المسجد كالخياطة والكتابة ما لم يكثر منها ، فإن أكثر منها كرهت لحرمته ، إلاّ كتابة العلم ، فلا يكره الإكثار منها ، لأنّها طاعةٌ لتعليم العلم .
أمّا إذا احترف الخياطة والمعاوضات من بيعٍ وشراءٍ بلا حاجةٍ فتكره وإن قلّت . وقال الحنابلة : يحرم التّكسّب بالصّنعة في المسجد ، كالخياطة وغيرها والكثير والقليل والمحتاج وغيره سواءٌ .
ج - الصّمت :
50 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الصّمت مكروهٌ تحريماً حالة الاعتكاف إن اعتقده قربةً ، أمّا إذا لم يعتقده قربةً فلا ، لحديث « من صمت نجا » ويجب الصّمت عن الغيبة وإنشاد الشّعر القبيح وترويج سلعةٍ وغير ذلك .
وقال الحنابلة : إنّ التّقرّب بالصّمت ليس من شريعة الإسلام . قال ابن عقيلٍ : يكره الصّمت إلى اللّيل . وقال الموفّق والمجد : ظاهر الأخبار تحريمه ، وجزم به في الكافي ، قال في الاختيارات : والتّحقيق في الصّمت أنّه إن طال حتّى تضمّن ترك الكلام الواجب صار حراماً ، وكذا إن تعمّد بالصّمت عن الكلام المستحبّ ، والكلام المحرّم يجب الصّمت عنه ، وفضول الكلام ينبغي الصّمت عنها ، وإن نذر الصّمت لم يف به ، لحديث عليٍّ قال : حفظت من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا صمات يومٍ إلى اللّيل » .
د - الكلام :
51 - ينبغي للمعتكف ألاّ يتكلّم إلاّ بخيرٍ ، وأن يشتغل بالقرآن والعلم والصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والذّكر ، لأنّه طاعةٌ في طاعةٍ ، وكتدريس سيرة الرّسول عليه الصلاة والسلام وقصص الأنبياء وحكايات الصّالحين .
قال الحنفيّة : يكره للمعتكف تحريماً التّكلّم إلاّ بخيرٍ ، وهو ما لا إثم فيه . وعند المالكيّة أنّ الاشتغال بغير الذّكر والتّلاوة والصّلاة مكروهٌ ، أمّا هذه الثّلاثة ففعلها مستحبٌّ .
وقال الحنابلة : يستحبّ له اجتناب ما لا يعنيه من جدالٍ ومراءٍ وكثرة كلامٍ وغيره ، لقوله عليه الصلاة والسلام « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » ، لأنّه مكروهٌ في غير الاعتكاف ففيه أولى . روى الخلاّل عن عطاءٍ قال : ( كانوا يكرهون فضول الكلام ، وكانوا يعدّون فضول الكلام : ما عدا كتاب اللّه أن تقرأه ، أو أمراً بمعروفٍ ، أو نهياً عن منكرٍ ، أو تنطق في معيشتك بما لا بدّ لك منه ) .
ويكره عند المالكيّة والحنابلة للمعتكف الاشتغال بتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ونحو ذلك من غير العبادات الّتي يختصّ نفعها به ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ، فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصّة به . وعند ابن وهبٍ من المالكيّة ، وأبي الخطّاب من الحنابلة استحباب ذلك لأنّه من أنواع البرّ إذا قصد الطّاعة لا المباهاة .(88/9)
هـ - الطّيب واللّباس :
52 -يجوز للمعتكف أن يتطيّب بأنواع الطّيب في ليلٍ أو نهارٍ عند المالكيّة والشّافعيّة ، سواءٌ أكان رجلاً أم امرأةً عند المالكيّة ، وهو المشهور في مذهبهم . وكذا يجوز عند المالكيّة والشّافعيّة أخذ الظّفر والشّارب ، وقيّد المالكيّة الجواز بكونه خارج المسجد إذا خرج لعذرٍ . أمّا حلق الرّأس ، فقال المالكيّة : يكره مطلقاً إلاّ أن يتضرّر . وزاد الشّافعيّة التّصريح بجواز لبس الثّياب الحسنة ، لأصل الإباحة .
وقال الحنابلة : يستحبّ للمعتكف ترك لبس رفيع الثّياب ، والتّلذّذ بما يباح له قبل الاعتكاف ، ويكره له الطّيب . قال أحمد : لا يعجبني أن يتطيّب .
***************
يسألونك في الدين والحياة - (ج 3 / ص 170)
يجوز الاعتكاف في جميع المساجد
يقول السائل : ما قولكم فيما ذهب إليه بعض أهل العلم من أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ؟
الجواب : الاعتكاف من السنن الثابتة عن النبي ? وقد صح أن النبي ? اعتكف في رمضان في العشر الأواخر منه . رواه البخاري ومسلم .
ويشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد وقد قال الله تعالى :( ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) سورة البقرة الآية 187 . ولم يعتكف النبي ? إلا في المسجد فلا يصح الاعتكاف في البيوت .
واتفق العلماء على أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال أفضل من الاعتكاف في غيرها من المساجد وجمهور أهل العلم لا يرون أن الاعتكاف خاص بالمساجد الثلاثة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ونصره الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني ودافع عنه في أكثر من كتاب من كتبه .
قال الشيخ الألباني :[ ثم وقفت على حديث صحيح صريح يخصص المساجد المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة : المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى وهو قوله ? :( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) وقد قال به من السلف فيما اطلعت حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب وعطاء إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً وخالف آخرون فقالوا : ولو في مسجد بيته ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه والله سبحانه وتعالى أعلم ] قيام رمضان للألباني ص 36 .
وقال الشيخ الألباني أيضاً :[ واعلم أن العلماء اختلفوا في شرطية المسجد للاعتكاف وصفته كما تراه مبسوطاً في ( المصنفين ) المذكورين و ( المحلى ) وغيرهما وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى :( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) سورة البقرة الآية 187 . وهذا الحديث الصحيح والآية عامة والحديث خاص ومقتضى الأصول أن يحمل العام على الخاص وعليه فالحديث مخصص للآية ومبين لها وعليه يدل كلام حذيفه وحديثه والآثار في ذلك مختلفة أيضاً فالأولى الأخذ بما وافق الحديث منها كقول سعيد بن المسيب :لا اعتكاف إلا في مسجد نبي .أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه ] سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص670.
وقد تابع الشيخ الألباني بعض تلاميذه كما جاء في كتاب صفة صوم النبي ?في رمضان ص 93:[ لا يشرع الاعتكاف إلا في المساجد لقوله تعالى :( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) وليست هذه المساجد على الاطلاق فقد ورد تقييدها في صحيح السنة المشرفة وذلك قوله ? :( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) ] .
وقد أطال الشيخ الألباني الكلام على الحديث السابق في الموقع المشار إليه في السلسلة الصحيحة وحكم على الحديث بالصحة ورأى أنه مخصص لعموم الآية السابقة .
وما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم اشتراط المساجد الثلاثة لصحة الاعتكاف هو القول الراجح بل هو القول الصحيح من حيث الدليل وبيان ذلك فيما يلي :
إن قوله تعالى :( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) عام في كل مسجد ولا يصلح الحديث المذكور سابقاً لتخصيص الآية لأنه يشترط في المخصص من السنة أن يكون صحيحاً لا شك فيه والحديث المذكور محل خلاف بين المحدثين فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه ومنهم من أوَّله كما سيأتي وما كان حاله كذلك لا يصلح أن يكون مخصصاً لعموم الكتاب .
قال الإمام مالك :[ الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها فإن كان مسجداً لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأساً بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال :( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) فعمَّ الله المساجد كلها ولم يخص شيئاً منها قال مالك : فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة ] الموطأ 1/285 .
وقال الإمام البخاري :[ باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى :(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ].(88/10)
قال الحافظ ابن حجر :[ قوله باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد …. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان . وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه وفيه قول للشافعي قديم وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب منه وأما النفل ففي كل مسجد وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحب له الشافعي في الجامع وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة ويجب بالشروع عند مالك وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقاً . وأومأ إليه الشافعي في القديم وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجد مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة ] فتح الباري 5/176 .
وقال العيني :[ وقالت طائفة الاعتكاف يصح في كل مسجد روي ذلك عن النخعي وأبي سلمة وأبي ثور وداود وهو قول مالك في الموطأ وهو قول الجمهور والبخاري أيضاً حيث استدل بعموم الآية في سائر المساجد ] عمدة القاري 8/286 .
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن سعيد بن جبير أنه اعتكف في مسجد قومه ومثله عن همام بن الحارث ومثله عن إبراهيم النخعي وعن أبي الأحوص وعن يحيى بن أبي سلمة وعن عامر الشعبي .
وروى ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن شداد بن الأزمع قال اعتكف رجل في المسجد الأعظم وضرب خيمته فحصبه الناس فبلغ ذلك ابن مسعود فأرسل إليه رجلاً فكف الناس عنه وحسَّن ذلك ] انظر المصنف 3/9-91 . وانظر أيضاً مصنف عبد الرزاق 4/346 -348 .
قال الإمام النووي :[ فرع في مذاهب العلماء في مسجد الاعتكاف قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف وأنه يصح في كل مسجد وبه قال مالك وداود وحكى ابن المنذر عن سعيد ابن المسيب أنه قال إنه لا يصح إلا في مسجد النبي ?وما أظن أن هذا يصح عنه وحكى هو وغيره عن حذيفه بن اليمان الصحابي أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى وقال الزهري والحكم وحماد ولا يصح إلا في الجامع وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور يصح في كل مسجد يصلى فيه الصلوات كلها وتقام فيه الجماعة واحتج لهم بحديث عن جويبر عن الضحاك عن حذيفة?ه عن النبي ? قال :( كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح ) رواه الدارقطني وقال : الضحاك لم يسمع من حذيفه قلت وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث فهذا الحديث مرسل ضعيف فلا يحتج به ، واحتج أصحابنا بقوله تعالى :( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) ووجه الدلالة من الآية لاشتراط المسجد أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لأنها منافية للاعتكاف فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف إنما يكون في المساجد وإذا ثبت جوازه في المساجد صح في كل مسجد ولا يقبل تخصيص من خصه ببعضها إلا بدليل ولم يصح في التخصيص شيء صريح ] المجموع 6/483 .
وقال ابن حزم الظاهري :[ والاعتكاف جائز في كل مسجد … وبرهان ذلك قوله تعالى :( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) فعمَّ الله تعالى ولم يخص ] .
ثم قال ابن حزم :[ أما من حدَّ مسجد المدينة وحده أو مسجد مكة ومسجد المدينة أو المساجد الثلاثة أو المسجد الجامع فأقوال لا دليل على صحتها فلا معنى لها وهو تخصيص لقوله تعالى :( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) … فإن قيل فأين أنتم عمَّا رويتموه من طريق سعيد بن منصور… : قال حذيفه لعبد الله بن مسعود قد علمت أن رسول الله ? قال :( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) أو قال :( مسجد جماعة ) ؟ . قلنا : هذا شك من حذيفه أو ممن دونه ولا يقطع على رسول الله ? بشك ولو أنه عليه السلام قال :( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) لحفظه الله تعالى علينا ولم يدخل فيه شكاً . فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط ] المحلى 3/428 - 431 .
وقال الشوكاني معلقاً على حديث حذيفه أنه قال لابن مسعود :[ لقد علمت أن رسول الله ? قال :( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال في مسجد جماعة )
قال الشوكاني :[ الحديث الأول أخرجه ابن أبي شيبة ولكن لم يذكر المرفوع منه واقتصر على المراجعة التي فيه بين حذيفه وابن مسعود ولفظه :( إن حذيفه جاء إلى عبد الله فقال : ألا أعجبك من قوم عكوف بين دارك ودار الأشعري يعني المسجد قال عبد الله :فلعلهم أصابوا وأخطأت ) فهذا يدل على أنه لم يستدل على ذلك بحديث عن النبي ? وآله وعلى أن عبد الله يخالفه ويجوز الاعتكاف في كل مسجد ولو كان ثم حديث عن النبي ? ما خالفه وأيضاً الشك الواقع في الحديث مما يضعف الاحتجاج أحد شقيه . وقد استشهد بعضهم لحديث حذيفه بحديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما مرفوعاً بلفظ :( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ) وهو متفق عليه ولكن ليس فيه ما يشهد لحديث حذيفة لأن أفضلية المساجد الثلاثة واختصاصها بشد الرحال إليها لا تستلزم اختصاصها بالاعتكاف وقد حكى في الفتح عن حذيفة أن الاعتكاف يختص بالمساجد الثلاثة ] نيل الأوطار 4/301(88/11)
وقال العلامة صديق حسن خان :[ وإنما اختلفوا هل يجزئ الاعتكاف في كل مسجد ؟ أم في الثلاثة المساجد فقط ؟ أو في المسجد الحرام فقط ؟ والظاهر أنه يجزئ في كل مسجد قال تعالى :( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) ولا حجة في قول عائشة ولا في قول حذيفه في هذا الباب ] الروضة الندية 2/41 .
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين :[ فكل مساجد الدنيا يسن فيها الاعتكاف وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة كما روي ذلك عن حذيفه بن اليمان? أن النبي ? قال :( لااعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) فإن هذا الحديث ضعيف .ويدل على ضعفه أن ابن مسعود ? وهنه حين ذكر له حذيفه ? أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفه وبيت ابن مسعود ? فجاء إلى ابن مسعود زائراً له وقال إن قوماً كانوا معتكفين في المسجد الفلاني فقال له ابن مسعود ? :[ لعلهم أصابوا فأخطأت وذكروا فنسيت ] فأوهن هذا حكماً ورواية .أما حكماً ففي قوله :[ أصابوا فأخطأت ] وأما رواية :[ فذكروا ونسيت ] والإنسان معرض للنسيان وإن صح هذا الحديث فالمراد به : لا اعتكاف تام أي أن المساجد الأخرى الاعتكاف فيها دون المساجد الثلاث كما أن الصلاة في المساجد فيها دون الصلاة في المساجد الثلاثة . ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى :( وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) . فقوله : في المساجد ( ال ) هنا للعموم فلو كان الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد الثلاثة لقلنا : إن ( ال ) هنا للعهد الذهني ولكن أين الدليل ؟ وإذا لم يقم دليل على أن ( ال ) للعهد الذهني فهي للعموم هذا الأصل ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها ثم نقول لا يصح إلا في المساجد الثلاثة فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية ثم نقول : إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة كالطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام .
فالصواب : أنه عام في كل مسجد لكن لا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل ] الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/504-505 .
ويضاف لما سبق أن اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية قد اختارت أن الاعتكاف يصح في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة . انظر فتاوى اللجنة الدائمة 10/410 .
وخلاصة الأمر أن الاعتكاف يصح في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة وليس مقصوراً على المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال .(88/12)
افتراشٌ *
التعريف :
1 - افتراش الشّيء لغةً : بسطه . يقال : افترش ذراعيه إذا بسطهما على الأرض ، كالفراش له . والافتراش أيضاً : وطء ما فرشه ، ومنه افتراش البساط وطؤه والجلوس عليه ، وافتراش المرأة : اتّخاذها زوجةً ، ولذلك سمّي كلٌّ من الزّوجين فراشاً للآخر . والفقهاء يطلقون " الافتراش " على هذين المعنيين .
الحكم الإجماليّ :
أ - افتراش اليدين والقدمين :
2 - كره الفقهاء للرّجل - دون المرأة - أن يفترش ذراعيه على الأرض في السّجود ، لورود النّهي عن ذلك ، لحديث « لا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب » .
ويكره للرّجل افتراش أصابع قدميه في السّجود . وكره البعض للرّجل في قعود الصّلاة افتراش قدميه والجلوس على عقبيه ، ولكن يسنّ له أن يجلس مفترشاً رجله اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصب اليمنى .
وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة عند الكلام على السّجود والقعود فيها .
ب - الصّلاة على الثّوب المفروش على النّجاسة :
3 - اتّفق الفقهاء على جواز الصّلاة على الثّوب المفروش على النّجاسة إذا كان يمنع نفوذ النّجاسة إلى الأعلى ، وظاهر كلام أحمد الجواز مع الكراهة ، وفي روايةٍ عنه : لا تجوز الصّلاة عليه . وفصّل الحنفيّة فقالوا : إنّ النّجاسة إمّا أن تكون طريّةً أو يابسةً ، فإن كانت النّجاسة طريّةً وفرش عليها ثوبٌ ، فإنّه يشترط فيه حتّى تجوز الصّلاة عليه ، أن يكون الثّوب غليظاً يمكن فصله إلى طبقتين ، وألاّ تكون النّجاسة قد نفذت من الطّبقة السّفلى إلى الطّبقة العليا . أمّا إن كانت النّجاسة يابسةً ، فيشترط في الثّوب المفروش عليها حتّى تصحّ الصّلاة عليه أن يكون غليظاً بحيث يمنع لون النّجاسة ورائحتها .
ج - افتراش الحرير :
4 - اتّفق الفقهاء على جواز افتراش النّساء للحرير .
أمّا بالنّسبة للرّجال فذهب جمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى تحريمه ، لقول حذيفة : « نهانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذّهب والفضّة ، وأن نأكل فيها ، وأن نلبس الحرير والدّيباج ، وأن نجلس عليه » .
وذهب الحنفيّة وبعض الشّافعيّة وابن الماجشون من المالكيّة إلى جواز ذلك مع الكراهة . ورخّص ابن العربيّ من المالكيّة للرّجل أن يجلس وينام على فراش الحرير مع زوجته .(89/1)
اقتداء *
التّعريف :
1 - الاقتداء لغةً : مصدر اقتدى به ، إذا فعل مثل فعله تأسّياً ، ويقال : فلان قدوة : أي يقتدى به ، ويتأسّى بأفعاله .
ويستعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ ، وهو إذا كان في الصّلاة يعرّفونه بأنّه : اتّباع المؤتمّ الإمام في أفعال الصّلاة . أو هو ربط صلاة المؤتمّ بالإمام بشروطٍ خاصّةٍ جاء بها الشّرع ، وبيّنها الفقهاء في كتاب الصّلاة عند الكلام عن صلاة الجماعة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الائتمام :
2 - الائتمام : بمعنى الاقتداء . يقول ابن عابدين : إذا ربط صلاته بصلاة إمامه حصل له صفة الاقتداء والائتمام ، وحصل لإمامه صفة الإمامة .
والاقتداء في استعمال الفقهاء أعمّ من الائتمام ، لأنّه يكون في الصّلاة وغيرها .
ب - الاتّباع :
3 - من معاني الاتّباع في اللّغة : المشي خلف الغير ، ومنه اتّباع الجنائز ، والمطالبة بالحقّ كما في الآية { فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف } ويأتي بمعنى الائتمام ، يقال : اتّبع القرآن : ائتمّ به وعمل بما فيه .
واستعمله الفقهاء بهذه المعاني ، كما استعملوه بمعنى الرّجوع إلى قولٍ ثبتت عليه حجّة ، فهو بهذا المعنى أخصّ من الاقتداء .
ج - التّأسّي :
4 - التّأسّي في اللّغة : من الأسوة بمعنى القدوة ، يقال : تأسّيت به وائتسيت : أي اقتديت . فالتّأسّي بمعنى الاقتداء . ومن معاني التّأسّي : التّعزّي ، أي : التّصبّر . وأكثر ما يكون الاقتداء في الصّلاة ، أمّا التّأسّي فيستعمل في غير ذلك .
د - التّقليد :
5 - التّقليد عبارة عن : قبول قول الغير بلا حجّةٍ ولا دليلٍ .
أقسام الاقتداء :
6 - الاقتداء على أقسامٍ ، منها : اقتداء المؤتمّ بالإمام في أفعاله من القيام والرّكوع والسّجود وغيرها . ومنها : الاقتداء في غير الصّلاة ، فهو بمعنى التّأسّي ، كاقتداء الأمّة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، واتّباع سنّته ، وغير ذلك كما سيأتي .
الاقتداء في الصّلاة
7 - الاقتداء في الصّلاة هو : ربط صلاة المؤتمّ بصلاة الإمام كما سبق ، فلا بدّ أن يكون هناك إمام ومقتدٍ ، ولو واحداً . وأقلّ من تنعقد به الجماعة - في غير العيدين والجمعة - اثنان ، وهو أن يكون مع الإمام واحد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الاثنان فما فوقهما جماعة » ولفعله عليه الصلاة والسلام حين « صلّى بابن عبّاسٍ وحده » .
وسواء كان ذلك الواحد رجلاً أو امرأةً أو صبيّاً يعقل ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّى الاثنين مطلقاً جماعةً . وأمّا المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل فلا عبرة بهما ، لأنّهما ليسا من أهل الصّلاة . هذا ، وهناك شروط لا بدّ من توفّرها في الاقتداء والمقتدى به ( الإمام ) ، وحالات تخصّ المقتدي أي ( المأموم ) نذكرها فيما يلي :
شروط المقتدى به ( الإمام ) :
8 - يشترط في الإمام في الجملة : الإسلام والعقل اتّفاقاً ، والبلوغ عند الجمهور ، وكذلك الذّكورة إذا كان المقتدون ذكوراً ، والسّلامة من الأعذار - كرعافٍ وسلس البول - إذا اقتدى به أصحّاء ، والسّلامة من عاهات اللّسان - كفأفأةٍ وتمتمةٍ - إذا اقتدى به السّليم منهما ، وكذا السّلامة من فقد شرطٍ كطهارةٍ وستر عورةٍ .
على تفصيلٍ وخلافٍ في بعضها يذكر في مصطلح : ( إمامة ) .
شروط الاقتداء :
أ - النّيّة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نيّة المؤتمّ الاقتداء بالإمام شرط لصحّة الاقتداء ، إذ المتابعة عمل يفتقر إلى النّيّة . والمعتبر في النّيّة عمل القلب اللّازم للإرادة ، ويستحبّ التّلفّظ بها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو قول للحنابلة قياساً على الحجّ . وذكر جماعة إلى أنّ التّلفّظ بها بدعة ، لأنّه لم يرد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الصّحابة والتّابعين . ويشترط في النّيّة أن تكون مقارنةً للتّحريمة ، أو متقدّمةً عليها بشرط ألاّ يفصل بينها وبين التّحريمة فاصل أجنبيّ ، وعلى ذلك فلا تصحّ نيّة الاقتداء في خلال الصّلاة بعدما أحرم منفرداً عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو رواية عند الحنابلة )
وقال الشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة : يجوز للّذي أحرم منفرداً أن يجعل نفسه مأموماً ، بأن تحضر جماعة فينوي الدّخول معهم بقلبه في صلاتهم ، سواء أكان في أوّل الصّلاة أم قد صلّى ركعةً فأكثر . ولا فرق في اشتراط النّيّة للمأموم بين الجمعة وسائر الصّلوات عند المالكيّة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة .
وعند الحنفيّة ، وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة : لا يشترط في الجمعة نيّة الاقتداء وكذلك العيدان ، لأنّ الجمعة لا تصحّ بدون الجماعة ، فكان التّصريح بنيّة الجمعة أو العيد مغنياً عن التّصريح بنيّة الجماعة . ولا يجب تعيين الإمام باسمه كزيدٍ ، أو صفته كالحاضر ، أو الإشارة إليه ، بل تكفي نيّة الاقتداء بالإمام ، فإن عيّنه وأخطأ بطلت صلاته ، لربط صلاته بمن لم ينو الاقتداء به .
هذا ، ولا يشترط لصحّة الاقتداء أن يكون الإمام قد نوى الإمامة عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنابلة . واشترط الحنفيّة نيّة الرّجل الإمامة لصحّة اقتداء النّساء به .
وتفصيله في مصطلح ( إمامة )
ب - عدم التّقدّم على الإمام :
10 - يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يتقدّم المقتدي إمامه في الموقف عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به » والائتمام الاتّباع ، والمتقدّم غير تابعٍ ، ولأنّه إذا تقدّم الإمام يشتبه عليه حال الإمام ، ومحتاج إلى النّظر وراءه في كلّ وقتٍ ليتابعه ، فلا يمكنه المتابعة .(90/1)
وقال مالك : هذا ليس بشرطٍ ، ويجزئه التّقدّم إذا أمكنه متابعة الإمام ، لأنّ الاقتداء يوجب المتابعة في الصّلاة ، والمكان ليس من الصّلاة . لكنّه يندب أن يكون الإمام متقدّماً على المأموم ، ويكره التّقدّم على الإمام ومحاذاته إلاّ لضرورةٍ .
والاعتبار في التّقدّم وعدمه للقائم بالعقب ، وهو مؤخر القدم لا الكعب ، فلو تساويا في العقب وتقدّمت أصابع المأموم لطول قدمه لم يضرّ . وكذلك إذا كان المأموم طويلاً وسجد قدّام الإمام ، إذا لم تكن عقبه مقدّمةً على الإمام حالة القيام ، صحّت الصّلاة ، أمّا لو تقدّمت عقبه وتأخّرت أصابعه فيضرّ ، لأنّه يستلزم تقدّم المنكب ، والعبرة في التّقدّم بالألية للقاعدين ، وبالجنب للمضطجعين .
11 - فإذا كان المأموم امرأةً أو أكثر من واحدٍ يقف خلف الإمام ، وإذا كان واحداً ذكراً - ولو صبيّاً - يقف على يمين الإمام مساوياً له عند الجمهور ، وذهب الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه يستحبّ تأخّره عن الإمام قليلاً .
وصرّح الحنفيّة بأنّ محاذاة المرأة للرّجال تفسد صلاتهم . يقول الزّيلعيّ الحنفيّ : فإن حاذته امرأة مشتهاة في صلاةٍ مطلقةٍ - وهي الّتي لها ركوع وسجود - مشتركةٍ بينهما تحريمةً وأداءً في مكان واحدٍ بلا حائلٍ ، ونوى الإمام إمامتها وقت الشّروع بطلت صلاته دون صلاتها ، لحديث : « أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه » وهو المخاطب به دونها ، فيكون هو التّارك لفرض القيام ، فتفسد صلاته دون صلاتها .
وجمهور الفقهاء : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) يقولون : إنّ محاذاة المرأة للرّجال لا تفسد الصّلاة ، ولكنّها تكره ، فلو وقفت في صفّ الرّجال لم تبطل صلاة من يليها ولا من خلفها ولا من أمامها ، ولا صلاتها ، كما لو وقفت في غير الصّلاة ، والأمر في الحديث بالتّأخير لا يقتضي الفساد مع عدمه .
هذا ، وفي الصّلاة حول الكعبة في المسجد الحرام يشترط لصحّة الاقتداء عند الجمهور عدم تقدّم المأموم على الإمام في نفس الجهة ، حتّى إذا تقدّمه في غير جهتهما لم يضرّ اتّفاقاً . وتفصيل هذه المسألة وكيفيّة الصّلاة داخل الكعبة يرجع فيه إلى مصطلحي : ( صلاة الجماعة ، واستقبال القبلة ) .
ت - ألاّ يكون المقتدي أقوى حالاً من الإمام :
12 - يشترط لصحّة الاقتداء عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) ألاّ يكون المقتدي أقوى حالاً من الإمام ، فلا يجوز اقتداء قارئٍ بأمّيٍّ ، ولا مفترضٍ بمتنفّلٍ ، ولا بالغٍ بصبيٍّ في فرضٍ ، ولا قادرٍ على ركوعٍ وسجودٍ بعاجزٍ عنهما ، وكذلك لا يصحّ اقتداء سالمٍ بمعذورٍ ، كمن به سلس بولٍ ، ولا مستور عورةٍ بعارٍ عند الحنفيّة والحنابلة ، ويكره ذلك عند المالكيّة .
وقد ذكر الحنفيّة في ذلك قاعدةً فقالوا : الأصل أنّ حال الإمام إن كان مثل حال المقتدي أو فوقه جازت صلاة الكلّ ، وإن كان دون حال المقتدي صحّت صلاة الإمام . ولا تصحّ صلاة المقتدي . إلاّ إذا كان الإمام أمّيّاً والمقتدي قارئاً ، أو كان الإمام أخرس فلا يصحّ صلاة الإمام أيضاً . وقد توسّع الحنفيّة في تطبيق هذا الأصل على كثيرٍ من المسائل ، ووافقهم المالكيّة والحنابلة في هذه القاعدة مع خلافٍ وتفصيلٍ في بعض المسائل . وخالفهم الشّافعيّة في أكثر المسائل كما سيأتي بيانه عند الكلام في : ( اختلاف صفة الإمام والمقتدي ) .
ث - اتّحاد صلاتي المقتدي والإمام :
13 - يشترط في الاقتداء اتّحاد صلاتي الإمام والمأموم سبباً وفعلاً ووصفاً ، لأنّ الاقتداء بناء التّحريمة على التّحريمة ، فالمقتدي عقد تحريمته لمّا انعقدت له تحريمة الإمام ، فكلّ ما تنعقد له تحريمة الإمام جاز البناء عليه من المقتدي ، وعلى ذلك فلا تصحّ ظهر خلف عصرٍ أو غيره ولا عكسه ، ولا تصحّ صلاة ظهرٍ قضاءً خلف ظهرٍ أداءً ، ولا ظهرين من يومين مختلفين ، كظهر يوم السّبت خلف ظهر الأحد الماضيين ، إذ لا بدّ من الاتّحاد في عين الصّلاة وصفتها وزمنها ، وهذا عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) وذلك لقوله عليه السلام : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه » .
وقال الشّافعيّة : من شروط صحّة القدوة توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظّاهرة ، ولا يشترط اتّحاد الصّلاتين . وعلى ذلك تصحّ قدوة من يؤدّي الصّلاة بمن يقضيها ، والمفترض بالمتنفّل ، ومؤدّي الظّهر بالعصر ، وبالمعكوس . أي القاضي بالمؤدّي ، والمتنفّل بالمفترض ، وفي العصر بالظّهر ، نظراً لاتّفاق الفعل في الصّلاة وإن اختلفت النّيّة . وكذا يجوز الظّهر والعصر بالصّبح والمغرب ، وتجوز الصّبح خلف الظّهر في الأظهر عند الشّافعيّة ، وله حينئذٍ الخروج بنيّة المفارقة أو الانتظار ليسلّم مع الإمام وهو الأفضل . لكن الأولى فيها الانفراد . فإن اختلف فعلهما كمكتوبةٍ وكسوفٍ أو جنازةٍ ، لم يصحّ الاقتداء في ذلك على الصّحيح ، لمخالفته النّظم ، وتعذّر المتابعة معها .
أمّا اقتداء المتنفّل خلف المفترض فجائز عند جميع الفقهاء .
ج- عدم الفصل بين المقتدي والإمام :
14- يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يكون بين المقتدي والإمام فاصل كبير .
وهذا الشّرط محلّ اتّفاقٍ بين فقهاء المذاهب في الجملة ، وإن اختلفوا في بعض الفروع والتّفاصيل على النّحو التّالي :
بُعْد المسافة :(90/2)
15 - فرّق جمهور الفقهاء بين المسجد وغير المسجد فيما يتعلّق بالمسافة بين الإمام والمقتدي ، فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا كان المأموم يرى الإمام أو من وراءه ، أو يسمع التّكبير وهما في مسجدٍ واحدٍ صحّ الاقتداء ، وإن بعدت المسافة . أمّا في خارج المسجد فإذا كانت المسافة قدر ما يسع صفّين فإنّها تمنع من صحّة الاقتداء عند الحنفيّة ، إلاّ في صلاة العيدين ، وفي صلاة الجنازة خلاف عندهم . ولا يمنع الاقتداء بعد المسافة في خارج المسجد إذا لم يزد عن ثلاثمائة ذراعٍ عند الشّافعيّة . واشترط الحنابلة في صحّة الاقتداء خارج المسجد رؤية المأموم للإمام أو بعض من وراءه . فلا يصحّ الاقتداء إن لم ير المأموم أحدهما ، وإن سمع التّكبير ، ومهما كانت المسافة .
ولم يفرّق المالكيّة بين المسجد وغيره ولا بين قرب المسافة وبعدها ، فقالوا بصحّة الاقتداء إذا أمكن رؤية الإمام أو المأموم أو سماع الإمام ولو بمسمّعٍ .
وجود الحائل ، وله عدّة صورٍ :
16 - الأولى : إن كان بين المقتدي والإمام نهر كبير تجري فيه السّفن ( ولو زورقاً عند الحنفيّة ) لا يصحّ الاقتداء ، وهذا باتّفاق المذاهب ، وإن اختلفوا في تحديد النّهر الكبير والصّغير . فقال الحنفيّة والحنابلة : النّهر الصّغير هو ما لا تجري فيه السّفن ، وقال المالكيّة : هو ما لا يمنع من سماع الإمام ، أو بعض المأمومين ، أو رؤية فعل أحدهما .
وقال الشّافعيّة : هو النّهر الّذي يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر من غير سباحةٍ بالوثوب فوقه ، أو المشي فيه ، وفي حكمه النّهر المحوج إلى سباحةٍ عند الشّافعيّة على الصّحيح .
17 - الثّانية : يمنع من الاقتداء طريق نافذ يمكن أن تجري فيه عجلة ، وليس فيه صفوف متّصلة عند الحنفيّة والحنابلة . قال الحنفيّة : لو كان على الطّريق مأموم واحد لا يثبت به الاتّصال ، وبالثّلاث يثبت ، وفي المثنّى خلاف . ولا يضرّ الطّريق إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما عند المالكيّة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، ولهذا صرّحوا بجواز صلاة الجماعة لأهل الأسواق وإن فرّقت الطّرق بينهم وبين إمامهم . والرّواية الثّانية عند الشّافعيّة يضرّ ، لأنّه قد تكثر فيه الزّحمة فيعسر الاطّلاع على أحوال الإمام . هذا ، وأجاز أكثر الفقهاء الفصل بطريقٍ في صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الخوف ونحوها ، والتّفصيل في مواضعها .
18 - الثّالثة : صرّح الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن الحنابلة ، بأنّه إذا كان بين الإمام والمأموم جدار كبير أو باب مغلق يمنع المقتدي من الوصول إلى إمامه لو قصد الوصول إليه لا يصحّ الاقتداء ، ويصحّ إذا كان صغيراً لا يمنع ، أو كبيراً وله ثقب لا يشتبه عليه حال الإمام سماعاً أو رؤيةً ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يصلّي في حجرة عائشة رضي الله عنها والنّاس في المسجد يصلّون بصلاته » .
قال الشّافعيّة : فإن حال ما يمنع المرور لا الرّؤية كالشّبّاك أو يمنع الرّؤية لا المرور كالباب المردود فوجهان .
وعلى هذا الاقتداء في المساكن المتّصلة بالمسجد الحرام وأبوابها من خارجه صحيح ، إذا لم يشتبه حال الإمام لسماعٍ أو رؤيةٍ ، ولم يتخلّل إلاّ الجدار ، كما ذكره شمس الأئمّة فيمن صلّى على سطح بيته المتّصل بالمسجد أو في منزله بجنب المسجد وبينه وبين المسجد حائط مقتدياً بإمامٍ في المسجد وهو يسمع التّكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته . ويصحّ اقتداء الواقف على السّطح بمن هو في البيت ، ولا يخفى عليه حاله .
ولم يفرّق المالكيّة ، وهو رواية عند الحنابلة بين ما إذا كان الجدار كبيراً أو صغيراً ، فقالوا بجواز الاقتداء إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما .
ح - اتّحاد المكان :
19 - يشترط لصحّة الاقتداء أن يجمع المقتدي والإمام موقف واحد ، إذ من مقاصد الاقتداء اجتماع جمعٍ في مكان ، كما عهد عليه الجماعات في الأعصر الخالية ، ومبنى العبادات على رعاية الاتّباع فيشترط ليظهر الشّعار . وللفقهاء في تطبيق هذا الشّرط تفصيل ، وفي بعض الفروع خلاف كالآتي :
أوّلاً - الأبنية المختلفة :
20 - تقدّم ما يتعلّق بالأبنية المنفصلة .
ثانياً - الاقتداء في السّفن المختلفة :
21 - يشترط في الاقتداء ألاّ يكون المقتدي في سفينةٍ والإمام في سفينةٍ أخرى غير مقترنةٍ بها عند الحنفيّة ، وهو المختار عند الحنابلة ، لاختلاف المكان ، ولو اقترنتا صحّ اتّفاقاً ، للاتّحاد الحكميّ . والمراد بالاقتران : مماسّة السّفينتين ، وقيل ربطهما .
وتوسّع المالكيّة في جواز اقتداء ذوي سفنٍ متقاربةٍ ، ولم يشترطوا ربط السّفينتين ، ولا المماسّة ، ولم يحدّدوا المسافة حيث قالوا : جاز اقتداء ذوي سفنٍ متقاربةٍ في المرسى بإمامٍ واحدٍ في بعضها يسمعون أقواله أو أقوال من معه في سفينته من مأمومين ، أو يرون أفعاله أو أفعال من معه في سفينته من مأمومين . وكذلك لو كانت السّفن سائرةً على المشهور ، لأنّ الأصل السّلامة من طروء ما يفرّقها من ريحٍ أو غيره . لكنّهم نصّوا على استحباب أن يكون الإمام في السّفينة الّتي تلي القبلة .
وقال الشّافعيّة : لو كانا في سفينتين صحّ اقتداء أحدهما بالآخر وإن لم تكونا مكشوفتين ، ولم تربط إحداهما بالأخرى ، بشرط ألاّ تزيد المسافة على ثلاثمائة ذراعٍ ، وعدم الحائل ، والماء بينهما كالنّهر بين المكانين ، بمعنى أنّه يمكن اجتيازه سباحةً ولم يشترطوا الالتصاق ولا الرّبط ، خلافاً للحنفيّة ، والمختار عند الحنابلة .(90/3)
ثالثاً : علوّ موقف المقتدي على الإمام أو عكسه :
22 - يجوز أن يكون موقف المأموم عالياً - ولو بسطحٍ - عن الإمام عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي المالكيّة في غير صلاة الجمعة . فصحّ اقتداء من بسطح المسجد بالإمام الّذي يصلّي بالمسجد ، لإمكان المتابعة .
ويكره أن يكون موقف الإمام عالياً عن موقف المأموم .
ولم يفرّق الشّافعيّة بين ارتفاع موقف الإمام والمأموم ، فشرطوا في هذه الحال ، محاذاة بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام ، والعبرة في ذلك بالطّول العاديّ ، وقال النّوويّ يكره ارتفاع المأموم على إمامه حيث أمكن وقوفهما بمستوًى واحدٍ ، وعكسه كذلك ، إلاّ لحاجةٍ تتعلّق بالصّلاة ، كتبليغٍ يتوقّف عليه إسماع المأمومين وتعليمهم صفة الصّلاة ، فيستحبّ ارتفاعهما لذلك ، تقديماً لمصلحة الصّلاة .
وهذا الكلام في البناء ونحوه . أمّا الجبل الّذي يمكن صعوده كالصّفا أو المروة أو جبل أبي قبيسٍ فالعبرة فيه بالمسافة الّتي سبق القول فيها وهي ثلاثمائة ذراعٍ . فالاقتداء فيه صحيح وإن كان المأموم أعلى من الإمام .
خ - عدم توسّط النّساء بين الإمام والمأموم :
23 - يشترط لصحّة الاقتداء عند الجمهور عدم توسّط النّساء ، فإن وقفت المرأة في صفّ الرّجل كره ، ولم تبطل صلاتها ، ولا صلاة من يليها ، ولا من خلفها . لأنّها لو وقفت في غير صلاةٍ لم تبطل صلاته ، فكذلك في الصّلاة ، وقد ثبت أنّ « عائشة رضي الله عنها كانت تعترض بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نائمةً وهو يصلّي » . والنّهي للكراهة ، ولهذا لا تفسد صلاتها فصلاة من يليها أولى . وهكذا إن كان هناك صفّ تامّ من النّساء ، فإنّه لا يمنع اقتداء من خلفهنّ من الرّجال .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يكون بين المقتدي والإمام صفّ من النّساء بلا حائلٍ قدر ذراعٍ ، وبهذا قال أبو بكرٍ من الحنابلة ، والمراد بالصّفّ عند الحنفيّة ما زاد على الثّلاث ، وفي روايةٍ المراد بالصّفّ الثّلاث ، وعلى هذا قالوا :
- 1 - المرأة الواحدة تفسد صلاة ثلاثةٍ ، واحدٍ عن يمينها وآخر عن يسارها وآخر خلفها ، ولا تفسد أكثر من ذلك .
- 2 - والمرأتان تفسدان صلاة أربعةٍ من الرّجال ، واحدٍ عن يمينهما ، وآخر عن يسارهما ، وصلاة اثنين خلفهما .
- 3 - وإن كنّ ثلاثاً أفسدن صلاة واحدٍ عن يمينهنّ ، وآخر عن يسارهنّ وثلاثةٍ ثلاثةٍ إلى آخر الصّفوف . وهذا جواب ظاهر الرّواية . وفي رواية الثّلاث كالصّفّ ، تفسد صلاة كلّ الصّفوف خلفهنّ إلى آخر الصّفوف ، لأنّ الثّلاثة جمع كامل .
وفي روايةٍ عن أبي يوسف أنّ الثّنتين كالثّلاث . وفي روايةٍ أخرى جعل الثّلاث كالاثنتين .
د - العلم بانتقالات الإمام :
24 - يشترط في الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام ، بسماعٍ أو رؤيةٍ للإمام أو لبعض المقتدين به ، لئلاّ يشتبه على المقتدي حال الإمام فلا يتمكّن من متابعته ، فلو جهل المأموم أفعال إمامه الظّاهرة كالرّكوع والسّجود ، أو اشتبهت عليه لم تصحّ صلاته ، لأنّ الاقتداء متابعة ، ومع الجهل أو الاشتباه لا تمكن المتابعة ، وهذا الشّرط متّفق عليه عند الفقهاء . زاد الحنفيّة : وكذا علمه بحال إمامه من إقامةٍ أو سفرٍ قبل الفراغ أو بعده ، وهذا فيما لو صلّى الرّباعية ركعتين في مصرٍ أو قريةٍ .
هذا ، وقد تقدّم أنّ الحنابلة لا يجوّزون الاقتداء خارج المسجد بالسّماع وحده . بل يشترطون في إحدى الرّوايتين رؤية المأموم للإمام أو بعض المقتدين به ، لقول عائشة لنساءٍ كنّ يصلّين في حجرتها :" لا تصلّين بصلاة الإمام فإنّكنّ دونه في حجابٍ "
ولأنّه لا يمكنه المتابعة في الغالب .
وأمّا على الرّواية الأخرى فالحنابلة يكتفون بالعلم بانتقالات الإمام بالسّماع أو بالرّؤية .
ذ - صحّة صلاة الإمام :
25 - يشترط لصحّة الاقتداء صحّة صلاة الإمام ، فلو تبيّن فسادها لا يصحّ الاقتداء ، قال الحنفيّة : لو تبيّن فساد صلاة الإمام ، فِسْقاً منه ، أو نسياناً لمضيّ مدّة المسح ، أو لوجود الحدث أو غير ذلك ، لم تصحّ صلاة المقتدي لعدم صحّة البناء ، وكذلك لو كانت صحيحةً في زعم الإمام فاسدةً في زعم المقتدي لبنائه على الفاسد في زعمه .
والمراد بالفسق هنا : الفسق الّذي يخلّ بركنٍ أو شرطٍ في الصّلاة ، كأن يصلّي وهو سكران ، أو هو محدث متعمّداً . أمّا الفسق في العقيدة ، أو بارتكاب المحرّمات ، فهي مسألة خلافيّة ، وقد شدّد فيها الإمام أحمد ، وقال : إنّه إذا كان داعياً إلى بدعته ، وعلم بذلك المقتدي ، فعليه إعادة الصّلاة ، حتّى لو علم بذلك بعد الصّلاة ، وهذه الرّواية المعتمدة في المذهب . أمّا إذا كان لا يدعو إلى بدعته ، وهو مستور الحال ، فالظّاهر أنّه لا إعادة على من اقتدى به ، وفي روايةٍ : عليه الإعادة .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة خلف الفاسق مكروهة ، ولا إعادة فيها . لحديث : « صلّوا خلف من قال لا إله إلاّ اللّه » . ولأنّ ابن عمر كان يصلّي خلف الحجّاج . وأنّ الحسن والحسين كانا يصلّيان خلف مروان ووراء الوليد بن عقبة . ومثله ما ذهب إليه المالكيّة حيث قالوا : لا يصحّ الاقتداء بإمامٍ تبيّن في الصّلاة أو بعدها أنّه كافر ، أو امرأة ، أو مجنون ، أو فاسق ( على خلافٍ فيه ) أو ظهر أنّه محدث ، إن تعمّد الحدث أو علم المؤتمّ بحدثه في الصّلاة أو قبلها ، أو اقتدى به بعد العلم ولو ناسياً .(90/4)
وكذا قال الشّافعيّة : لا يصحّ اقتداؤه بمن يعلم بطلان صلاته ، كمن علم بكفره أو حدثه أو نجاسة ثوبه ، لأنّه ليس في صلاةٍ فكيف يقتدي به ، وكذا لا يصحّ الاقتداء بإمامٍ يعتقد المقتدي بطلان صلاته . وصرّح الحنابلة بأنّه لا يصحّ الاقتداء بكافرٍ ولو ببدعةٍ مكفّرةٍ ولو أسرّه وجهل المأموم كفره ثمّ تبيّن له . وكذلك من ظنّ كفره أو حدثه ، ولو بان خلاف ذلك فيعيد المأموم ، لاعتقاده بطلان صلاته . لكن المالكيّة قالوا : لو علم المقتدي بحدث إمامه بعد الصّلاة فلا بطلان . كما أنّ الحنابلة صرّحوا بأنّه لو صلّى خلف من يعلمه مسلماً ، فقال بعد الصّلاة : هو كافر ، لم يؤثّر في صلاة المأموم لأنّها كانت محكوماً بصحّتها .
وأمّا الإمام فلو أخطأ أو نسي لم يؤاخذ بذلك المأموم ، كما في البخاريّ وغيره ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أئمّتكم يصلّون لكم ولهم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم » . فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم ، وقد صلّى عمر وغيره من الصّحابة رضي الله عنهم وهو جنب ناسياً للجنابة ، فأعاد ولم يأمر المأمومين بالإعادة ، وهذا مذهب جمهور العلماء ، كمالكٍ والشّافعيّ وأحمد في المشهور عنه .
وكذلك لو فعل الإمام ما يسوغ عنده ، وهو عند المأموم يبطل الصّلاة ، مثل أن يفتصد ويصلّي ولا يتوضّأ ، أو يمسّ ذكره ، أو يترك البسملة ، وهو يعتقد أنّ صلاته تصحّ مع ذلك ، والمأموم يعتقد أنّها لا تصحّ مع ذلك ، فجمهور العلماء على صحّة صلاة المأموم ، كما هو مذهب مالكٍ وأحمد في أظهر الرّوايتين ، بل في أنصّهما عنه . وهو أحد الوجهين في مذهب الشّافعيّ ، اختاره القفّال وغيره . واستدلّ الإمام أحمد لهذا الاتّجاه بأنّ الصّحابة - رضوان الله عليهم - كان يصلّي بعضهم خلف بعضٍ على اختلافهم في الفروع . وأنّ المسائل الخلافيّة لا تخلو إمّا أن يصيب المجتهد فيكون له أجران : أجر اجتهاده وأجر إصابته ، أو أن يخطئ فله أجر واحد وهو أجر اجتهاده ، ولا إثم عليه في الخطأ .
أحوال المقتدي :
26 - المقتدي إمّا مدرك ، أو مسبوق ، أو لاحق ، فالمدرك : من صلّى الرّكعات كاملةً مع الإمام ، أي أدرك جميع ركعاتها معه ، سواء أأدرك معه التّحريمة أو أدركه في جزءٍ من ركوع الرّكعة الأولى إلى أن قعد معه القعدة الأخيرة ، وسواء أسلّم معه أم قبله . والمدرك يتابع إمامه في أفعاله وأقواله ، إلاّ في حالاتٍ خاصّةٍ تذكر في كيفيّة الاقتداء .
27 - والمسبوق : من سبقه الإمام بكلّ الرّكعات بأن اقتدى بالإمام بعد ركوع الأخيرة ، أو ببعض الرّكعات . وقد اختلفوا في حكمه ، فقال أبو حنيفة والحنابلة : ما أدركه المسبوق فهو آخر صلاته قولاً وفعلاً ، فإن أدركه فيما بعد الرّكعة الأولى كالثّانية أو الثّالثة لم يستفتح ، ولم يستعذ ، وما يقضيه فهو أوّل صلاته ، يستفتح فيه ، ويتعوّذ ، ويقرأ الفاتحة والسّورة كالمنفرد ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فاقضوا » والمقضيّ هو الفائت ، فيكون على صفته ، لكن لو أدرك من رباعيّةٍ أو مغربٍ ركعةً ، تشهّد عقب قضاء ركعةٍ أخرى عند الحنابلة كما قال به سائر الفقهاء ، غير أبي حنيفة ، لئلاّ يلزم تغيير هيئة الصّلاة ، لأنّه لو تشهّد عقب ركعتين لزم قطع الرّباعيّة على وترٍ ، والثّلاثيّة شفعاً ، ومراعاة هيئة الصّلاة ممكنة ، وقال أبو حنيفة : لو أدركه في ركعة الرّباعيّ يقضي ركعتين بفاتحةٍ وسورةٍ ثمّ يتشهّد ، ثمّ يأتي بفاتحةٍ خاصّةٍ ، ليكون القضاء بالهيئة الّتي فاتت .
وقال الشّافعيّة : ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أوّل صلاته ، وما يفعله بعد سلام إمامه آخرها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتمّوا » وإتمام الشّيء لا يكون إلاّ بعد أوّله ، وعلى ذلك إذا صلّى مع الإمام الرّكعة الثّانية من الصّبح ، وقنت الإمام فيها يعيد في الباقي القنوت ، ولو أدرك ركعةً من المغرب مع الإمام تشهّد في الثّانية . وذهب المالكيّة ، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وهو المعتمد في المذهب ، أنّ المسبوق يقضي أوّل صلاته في حقّ القراءة ، وآخرها في حقّ التّشهّد ، فمدرك ركعةٍ من غير فجرٍ يأتي بركعتين بفاتحةٍ وسورةٍ وتشهّدٍ بينهما ، وبرابعة الرّباعيّ بفاتحةٍ فقط ، ولا يعقد قبلهما ، فهو قاضٍ في حقّ القول عملاً برواية : « وما فاتكم فاقضوا » لكنّه بانٍ على صلاته في حقّ الفعل عملاً برواية : « وما فاتكم فأتمّوا » وذلك تطبيقاً لقاعدة الأصوليّين : ( إذا أمكن الجمع بين الدّليلين جُمِع ) فحملنا رواية الإتمام على الأفعال ، ورواية القضاء على الأقوال .
28 - والاّحق : هو من فاتته الرّكعات كلّها أو بعضها بعد اقتدائه بعذرٍ ، كغفلةٍ وزحمةٍ ، وسبق حدثٍ ونحوها ، أو بغير عذرٍ كأن سبق إمامه في ركوعٍ أو سجودٍ ، كما عرّفه الحنفيّة ، وهو المتخلّف عن الإمام بركنٍ أو أكثر ، كما عبّر عنه غير الحنفيّة .
وحكم الاّحق عند الحنفيّة كمؤتمٍّ ، لا يأتي بقراءةٍ ولا سجود سهوٍ ، ولا يتغيّر فرضه بنيّة إقامةٍ ، ويبدأ بقضاء ما فاته بعذرٍ ، ثمّ يتابع الإمام إن لم يكن قد فرغ ، عكس المسبوق . وقال الجمهور : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إن تخلّف عن الإمام بركعةٍ فأكثر بعذرٍ ، من نومٍ أو غفلةٍ ، تابع إمامه فيما بقي من صلاته ، ويقضي ما سبقه الإمام به بعد سلام الإمام كالمسبوق ، وإن تخلّف بركنين بغير عذرٍ بطلت صلاته عندهم . وكذلك لو تخلّف بركنٍ واحدٍ عمداً عند المالكيّة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، ولا تبطل في الأصحّ عندهم .(90/5)
وإن تخلّف بركنٍ أو ركنين لعذرٍ فإنّ المأموم يفعل ما سبقه به إمامه ويدركه إن أمكن ، فإن أدركه فلا شيء عليه ، وإلاّ تبطل هذه الرّكعة فيتداركها بعد سلام الإمام . وهذا في الجملة ، وفي المسألة تفصيل ، وفي بعض الفروع خلاف يرجع إليه في مصطلح ( لاحق ) .
كيفيّة الاقتداء
أوّلاً - في أفعال الصّلاة :
29 - الاقتداء في الصّلاة هو متابعة الإمام ، والمتابعة واجبة في الفرائض والواجبات من غير تأخير واجبٍ ، ما لم يعارضها واجب آخر ، فإن عارضها واجب آخر فلا ينبغي أن يفوته ، بل يأتي به ثمّ يتابعه ، لأنّ الإتيان به لا يفوّت المتابعة بالكلّيّة ، وإنّما يؤخّرها ، وتأخير أحد الواجبين مع الإتيان بهما أولى من ترك أحدهما بالكلّيّة ، بخلاف ما إذا كان ما يعارض المتابعة سنّة ، فإنّه يترك السّنّة ويتابع الإمام بلا تأخيرٍ ، لأنّ ترك السّنّة أولى من تأخير الواجب . وعلى ذلك فلو رفع الإمام رأسه من الرّكوع أو السّجود قبل أن يتمّ المأموم التّسبيحات الثّلاث وجب متابعته ، وكذا عكسه . بخلاف سلام الإمام أو قيامه لثالثةٍ قبل إتمام المأموم التّشهّد ، فإنّه لا يتابعه ، بل يتمّ التّشهّد لوجوبه .
هذا ، ومقتضى الاقتداء والمتابعة ألاّ يحصل فعل من أفعال المقتدي قبل فعل الإمام ، وقد فصّل الفقهاء بين الأفعال الّتي يسبّب فيها سبق المأموم فعل إمامه أو مقارنته له بطلان الاقتداء ، وبين غيرها من الأفعال ، فقالوا : إن تقدّم المأموم إمامه في تكبيرة الإحرام لم يصحّ الاقتداء أصلاً ، لعدم صحّة البناء ، وهذا باتّفاق المذاهب .
وجمهور الفقهاء : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية عن أبي يوسف من الحنفيّة ) على أنّ مقارنة المأموم للإمام في تكبيرة الإحرام تضرّ بالاقتداء وتبطل صلاة المقتدي ، عمداً كان أو سهواً ، لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا ركع فاركعوا » لكن المالكيّة قالوا : إن سبقه الإمام ولو بحرفٍ صحّت ، إن ختم المقتدي معه أو بعده ، لا قبله . واشترط الشّافعيّة ، وهو المفهوم من كلام الحنابلة ، تأخّر جميع تكبيرة المقتدي عن تكبيرة الإمام .
ولا تضرّ مقارنة تكبيرة المقتدي لتكبير الإمام عند أبي حنيفة ، حتّى نقل عنه القول بأنّ المقارنة هي السّنّة ، قال في البدائع : ومنها ( أي من سنن الجماعة ) أن يكبّر المقتدي مقارناً لتكبير الإمام فهو أفضل باتّفاق الرّوايات عن أبي حنيفة .. لأنّ الاقتداء مشاركة ، وحقيقة المشاركة المقارنة ، إذ بها تتحقّق المشاركة في جميع أجزاء العبادة .
واتّفق الفقهاء على أنّ المقتدي يتابع الإمام في السّلام ، بأن يسلّم بعده ، وصرّح الحنفيّة : أنّه لو سلّم الإمام قبل أن يفرغ المقتدي من الدّعاء الّذي يكون بعد التّشهّد ، أو قبل أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنّه يتابع الإمام في التّسليم . أمّا عند الجمهور فلو سلّم الإمام قبل أن يصلّي المأموم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه يصلّي عليه ، ثمّ يسلّم من صلاته ، لأنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أركان الصّلاة . ولو سلّم قبل الإمام سهواً فإنّه يعيد ، ويسلّم بعده ، ولا شيء عليه ، أمّا إن سلّم قبل الإمام عمداً فإنّه تبطل صلاته عند الجمهور ، إلاّ أن ينوي المفارقة عند بعض الشّافعيّة .
أمّا مقارنة المقتدي للإمام في السّلام فلا تضرّ عند جمهور الفقهاء ، إلاّ أنّها مكروهة عند الشّافعيّة والحنابلة ، أمّا المالكيّة فقالوا : مساواته للإمام تبطل الصّلاة .
ولا تضرّ مقارنة المأموم للإمام في سائر الأفعال ، كالرّكوع والسّجود مع الكراهة أو بدونها على خلافٍ بين الفقهاء ، فإن تقدّمه في ركوعٍ أو سجودٍ ينبغي البقاء فيهما حتّى يدركه الإمام ، ولو رفع المقتدي رأسه من الرّكوع أو السّجود قبل الإمام ينبغي أن يعود ولا يعتبر ذلك ركوعين أو سجودين اتّفاقاً ، وفي المسألة تفصيل ينظر في ( صلاة ) .
ثانياً - الاقتداء في أقوال الصّلاة :
30 - لا يشترط لصحّة الاقتداء متابعة الإمام في سائر أقوال الصّلاة غير تكبيرة الإحرام والسّلام ، كالتّشهّد والقراءة والتّسبيح ، فيجوز فيها التّقدّم والتّأخّر والموافقة .
اختلاف صفة المقتدي والإمام :
أ - اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم :
31 - يجوز اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم عند جمهور الفقهاء . ( المالكيّة والحنابلة وأبي حنيفة وأبي يوسف ) ، لما ورد في حديث « عمرو بن العاص أنّه بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أميراً على سريّةٍ ، فأجنب ، وصلّى بأصحابه بالتّيمّم لخوف البرد ، وعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يأمرهم بالإعادة » .
واستدلّ الحنفيّة للجواز كذلك على أصلهم بأنّ التّيمّم يرفع الحدث مطلقاً من كلّ وجهٍ ، ما بقي شرطه ، وهو العجز عن استعمال الماء ، ولهذا تجوز الفرائض المتعدّدة بتيمّمٍ واحدٍ عندهم .
وكره المالكيّة اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم ، كما أنّ الحنابلة صرّحوا بأنّ إمامة المتوضّئ أولى من إمامة المتيمّم ، لأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث ، بل يستباح به الصّلاة للضّرورة .
وقال الشّافعيّة : لا يجوز الاقتداء بمن تلزمه الإعادة كمتيمّمٍ بمتيمّمٍ ، ولو كان المقتدي مثله ، أمّا المتيمّم الّذي لا إعادة عليه فيجوز اقتداء المتوضّئ به ، لأنّه قد أتى عن طهارته ببدلٍ مغنٍ عن الإعادة . وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة : لا يصحّ اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم مطلقاً في غير صلاة الجنازة ، للزوم بناء القويّ على الضّعيف .
اقتداء الغاسل بالماسح :(90/6)
32 - اتّفق الفقهاء على جواز اقتداء غاسلٍ بماسحٍ على خفٍّ أو جبيرةٍ ، لأنّ الخفّ مانع سراية الحدث إلى القدم ، وما حلّ بالخفّ يرفعه المسح ، فهو باقٍ على كونه غاسلاً ، كما علّله الحنفيّة ، ولأنّ صلاته مغنية عن الإعادة لارتفاع حدثه ، لأنّ المسح يرفع الحدث كما وجّهه الآخرون .
اقتداء المفترض بالمتنفّل :
33 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة وهو المختار عند الحنابلة ) على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فلا تختلفوا عليه » ولقوله عليه السلام : « الإمام ضامن » ومقتضى الحديثين ألاّ يكون الإمام أضعف حالاً من المقتدي ، ولأنّ صلاة المأموم لا تؤدّى بنيّة الإمام ، فأشبهت صلاة الجمعة خلف من يصلّي الظّهر .
وقال الشّافعيّة ، وهو الرّواية الثّانية عند الحنابلة : يصحّ اقتداء المفترض بالمتنفّل بشرط توافق نظم صلاتيهما ، لما ورد في الصّحيحين : « أنّ معاذاً كان يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة ، ثمّ يرجع إلى قومه فيصلّي بهم تلك الصّلاة » .
فإن اختلف فعلهما كمكتوبةٍ وكسوفٍ أو جنازةٍ ، لم يصحّ الاقتداء في ذلك على الصّحيح لمخالفته النّظم وتعذّر المتابعة .
34 - ويتفرّع على هذه المسألة اقتداء البالغ بالصّبيّ في الفرض ، فإنّه لا يجوز عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) لقول الشّعبيّ : لا يؤمّ الغلام حتّى يحتلم . ولأنّه لا يؤمن من الصّبيّ الإخلال بشرطٍ من شرائط الصّلاة .
وقال الشّافعيّة : يصحّ اقتداء البالغ الحرّ بالصّبيّ المميّز ، ولو كانت الصّلاة فرضاً ، للاعتداد بصلاته ، لأنّ« عمرو بن سلمة كان يؤمّ قومه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ أو سبع سنين ». لكنّهم صرّحوا بكراهة الاقتداء بالصّبيّ المميّز .
هذا في صلاة الفريضة ، أمّا في النّافلة فجاز اقتداء البالغ بالصّبيّ عند بعض الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، ورواية عند الحنابلة . وفي المختار عند الحنفيّة ، ورواية عند المالكيّة والحنابلة : لا يجوز لأنّ نفل الصّغير دون نفل البالغ ، حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد ، ولا يبنى القويّ على الضّعيف ، كما علّله الحنفيّة ..
اقتداء المفترض بمن يصلّي فرضاً آخر :
35 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) على أنّه لا يجوز اقتداء مفترضٍ بمن يصلّي فرضاً آخر غير فرض المأموم ، فلا يصحّ اقتداء من يصلّي ظهراً خلف من يصلّي عصراً أو غيره ، ولا عكسه ، ولا اقتداء من يصلّي أداءً بمن يصلّي قضاءً ، لأنّ الاقتداء بناء تحريمة المقتدي على تحريمة الإمام ، وهذا يقتضي اتّحاد صلاتيهما ، كما سبق في شروط الاقتداء . ويجوز ذلك عند الشّافعيّة إذا توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظّاهرة ، فيصحّ اقتداء من يصلّي فرضاً من الأوقات الخمسة بمن يصلّي فرضاً آخر منهما أداءً وقضاءً ، مع تفصيلٍ ذكر في موضعه .
اقتداء المقيم بالمسافر وعكسه :
36 - يجوز اقتداء المقيم بالمسافر في الوقت وخارج الوقت باتّفاق الفقهاء ، فإذا أتمّ الإمام المسافر صلاته يقول للمصلّين خلفه : أتمّوا صلاتكم فإنّي مسافر . فيقوم المقتدي المقيم ليكمل صلاته . ويعتبر في هذه الحالة كالمسبوق عند أكثر الفقهاء .
كذلك يجوز اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت بلا خلافٍ ، وحينئذٍ يجب عليه إتمام صلاته أربعاً متابعةً للإمام . أمّا اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت فلا يجوز في صلاةٍ رباعيّةٍ عند الحنفيّة ، لأنّ المسافر بعد فوات الوقت تقرّر أنّ فرضه ركعتان فيكون اقتداء مفترضٍ بمتنفّلٍ في حقّ قعدةٍ أو قراءةٍ باقتدائه في شفعٍ أوّلٍ أو ثانٍ .
اقتداء السّليم بالمعذور :
37 - يرى جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والحنابلة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ) أنّه لا يجوز اقتداء السّليم بالمعذور ، كمن به سلس البول ، واستطلاق البطن ، وانفلات الرّيح ، وكذا الجرح السّائل ، والرّعاف ، والمستحاضة ، لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً ، لكن جعل الحدث الموجود في حقّهم كالمعدوم ، للحاجة إلى الأداء فلا يتعدّاهم ، لأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها ، ولأنّ الصّحيح أقوى حالاً من المعذور ، ولا يجوز بناء القويّ على الضّعيف ، ولأنّ الإمام ضامن ، بمعنى أنّه تضمن صلاته صلاة المقتدي ، والشّيء لا يتضمّن ما هو فوقه .
وقال الشّافعيّة في الأصحّ : يصحّ اقتداء السّليم بصاحب السّلس ، والطّاهرة بالمستحاضة غير المتحيّرة ، لصحّة صلاتهم من غير إعادةٍ .
وجواز اقتداء السّليم بالمعذور هو قول المالكيّة في المشهور ، لأنّه إذا عفي عن الأعذار في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره . لكنّهم صرّحوا بكراهة إمامة أصحاب الأعذار للأصحّاء . وقد نقل في التّاج والإكليل عن المالكيّة في جواز أو عدم جواز اقتداء السّليم بالمعذور قولين . واستدلّ للجواز بأنّ عمر كان إماماً وأخبر أنّه يجد ذلك ( أي سلس المذي ) ولا ينصرف ويجوز اقتداء صاحب العذر بمثله مطلقاً ، أي ولو اختلف العذر ، أو إن اتّحد عذرهما على تفصيلٍ يذكر في مصطلح ( عذر ) .
اقتداء المكتسي بالعاري :
38 - صرّح جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ) بعدم صحّة اقتداء المكتسي ( أي مستور العورة ) بالعاري ، لأنّ المقتدي أقوى حالاً من الإمام ، فيلزم اقتداء القويّ بالضّعيف .
ولأنّه تارك لشرطٍ يقدر عليه المأموم ، فأشبه اقتداء المعافى بمن به سلس البول .
حتّى إنّ المالكيّة قالوا : إن وجدوا ثوباً صلّوا به أفذاذاً لا يؤمّهم به أحد .(90/7)
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى جواز اقتداء المستور بالعاري ، بناءً على أصلهم في جواز اقتداء السّليم بالمعذور . أمّا اقتداء العاري بالعاري فيجوز عند عامّة الفقهاء ، إلاّ أنّ المالكيّة قيّدوا الجواز بما إن اجتمعوا بظلامٍ ، وإلاّ تفرّقوا وصلّوا أفذاذاً متباعدين .
اقتداء القارئ بالأمّيّ :
39 - لا يجوز اقتداء القارئ بالأمّيّ عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، والجديد من مذهب الشّافعيّة ) لأنّ الإمام ضامن ويتحمّل القراءة عن المأموم ، ولا يمكن ذلك في الأمّيّ ، لعدم قدرته على القراءة ، ولأنّهما تاركان لشرطٍ يقدران عليه بتقديم القارئ ، والمراد بالأمّيّ هنا عند الفقهاء : من لا يحسن القراءة الّتي تتوقّف عليها الصّلاة .
ويجوز اقتداء القارئ بالأمّيّ في القديم من مذهب الشّافعيّة ، في الصّلاة السّرّيّة دون الجهريّة ، وذهب المزنيّ إلى صحّة الاقتداء به مطلقاً .
وجمهور العلماء على بطلان صلاة القارئ إذا اقتدى بالأمّيّ ، لعدم صحّة بناء صلاته على صلاة الأمّيّ ، كذلك تبطل صلاة الأمّيّ الّذي أمّ القارئ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الجديد لفقد شرطٍ يقدران عليه .
أمّا الحنابلة فقد فصّلوا في الموضوع فقالوا : إن أمّ أمّيّ أمّيّاً وقارئاً ، فإن كانا عن يمينه ، أو كان الأمّيّ عن يمينه والقارئ عن يساره صحّت صلاة الإمام والأمّيّ المأموم ، وبطلت صلاة القارئ لاقتدائه بأمّيٍّ . وإن كانا خلفه ، أو القارئ وحده عن يمينه ، والأمّيّ عن يساره فسدت صلاة القارئ لاقتدائه بالأمّيّ ، وتبطل صلاة الأمّيّ المأموم لكونه فذّاً خلف الإمام أو عن يساره ، وذلك مبطل للصّلاة عندهم .
هذا ، ويجوز اقتداء الأمّيّ بمثله بلا خلافٍ عند الفقهاء .
اقتداء القادر بالعاجز عن ركنٍ :
40 - لا يجوز اقتداء من يقدر على ركنٍ ، كالرّكوع أو السّجود أو القيام ، بمن لا يقدر عليه عند المالكيّة والحنابلة ، وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة ، لأنّ الإمام عجز عن ركنٍ من أركان الصّلاة فلم يصحّ الاقتداء به كالعاجز عن القراءة إلاّ بمثله ، ولعدم جواز اقتداء القويّ بالضّعيف كما مرّ ، إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا إمام الحيّ المرجوّ زوال علّته ، وفي هذه الحالة يصحّ أن يصلّي المقتدرون وراءه جلوساً أو قياماً عندهم .
ويجوز اقتداء قائمٍ بقاعدٍ يركع ويسجد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وجاز ذلك عند الشّافعيّة ولو لم يكن القاعد قادراً على الرّكوع أو السّجود ، لحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « صلّى آخر صلاته قاعداً والقوم خلفه قيام » .
واختلفوا في اقتداء المستوي خلف الأحدب ، فقال الحنفيّة والشّافعيّة بجوازه ، وقيّده بعض الحنفيّة بألاّ تبلغ حدبته حدّ الرّكوع ، ويميّز قيامه عن ركوعه ، وقال المالكيّة بجوازه مع الكراهة ، ومنعه الحنابلة مطلقاً .
أمّا إذا كان الإمام يصلّي بالإيماء فلا يجوز اقتداء القائم أو الرّاكع أو السّاجد خلفه عند الجمهور ( الحنفيّة عدا زفر ، والمالكيّة والحنابلة ) خلافاً للشّافعيّة الّذين قاسوا المضطجع والمستلقي على القاعد .
ويجوز اقتداء المومئ بمثله عند الجمهور خلافاً للمالكيّة في المشهور ، لأنّ الإيماء لا ينضبط ، فقد يكون إيماء المأموم أخفض من إيماء الإمام ، وقد يسبقه المأموم في الإيماء ، وهذا يضرّ .
الاقتداء بالفاسق :
41 - الفاسق : من فعل كبيرةً ، أو داوم على صغيرةٍ . وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بجواز الاقتداء بالفاسق مع الكراهة ، أمّا الجواز فلما ورد في الحديث : « صلّوا خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ » ، ولما رواه الشّيخان أنّ ابن عمر " كان يصلّي خلف الحجّاج على ظلمه . وأمّا الكراهة فلعدم الوثوق به في المحافظة على الشّروط .
وقال الحنابلة - وهو رواية عند المالكيّة - : لا تصحّ إمامة فاسقٍ بفعلٍ ، كزانٍ وسارقٍ وشارب خمرٍ ونمّامٍ ونحوه ، أو اعتقادٍ ، كخارجيٍّ أو رافضيٍّ ولو كان مستوراً . لقوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } ، ولما روي عن جابرٍ مرفوعاً : « لا تؤمّن امرأة رجلاً ، ولا أعرابيّ مهاجراً ، ولا فاجر مؤمناً إلاّ أن يقهره بسلطانٍ يخاف سوطه وسيفه » . وفصّل المالكيّة في الرّواية الأخرى المعتمدة بين الفاسق بجارحةٍ كزانٍ وشارب خمرٍ ، وبين من يتعلّق فسقه بالصّلاة ، كأن يقصد بتقدّمه الكبر ، أو يخلّ بركنٍ أو شرطٍ ، أو سنّةٍ عمداً ، فقالوا بجواز الاقتداء بالأوّل دون الثّاني .
وهذا كلّه في الصّلوات الخمس ، أمّا في الجمع والأعياد فيجوز الاقتداء بالفاسق اتّفاقاً ، لأنّهما يختصّان بإمامٍ واحدٍ ، فالمنع منهما خلفه يؤدّي إلى تفويتهما دون سائر الصّلوات .
الاقتداء بالأعمى والأصمّ والأخرس :
42 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الاقتداء بالأعمى والأصمّ ، لأنّ العمى والصّمم لا يخلّان بشيءٍ من أفعال الصّلاة ، ولا بشروطها . لكن الحنفيّة والحنابلة صرّحوا بكراهة إمامة الأعمى ، كما صرّح المالكيّة بأفضليّة إمامة البصير المساوي للأعمى في الفضل ، لأنّه أشدّ تحفّظاً من النّجاسات .(90/8)
وقال الشّافعيّة : الأعمى والبصير سواء لتعارض فضليهما ، لأنّ الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع ، والبصير ينظر الخبث فهو أقدر على تجنّبه ، وهذا إذا كان الأعمى لا يتبذّل ، أمّا إذا تبذّل أي ترك الصّيانة عن المستقذرات ، كأن لبس ثياب البذلة ، كان البصير أولى منه . أمّا الأخرس فلا يجوز الاقتداء به ، لأنّه يترك أركان الصّلاة من التّحريمة والقراءة . حتّى إنّ الشّافعيّة والحنابلة صرّحوا بعدم جواز الاقتداء بالأخرس ، ولو كان المقتدي مثله ، وصرّح الحنفيّة أنّ الأخرس أسوأ حالاً من الأمّيّ ، لقدرة الأمّيّ على التّحريمة دون الأخرس ، فلا يجوز اقتداء الأمّيّ بالأخرس ، ويجوز العكس .
الاقتداء بمن يخالفه في الفروع :
43 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الاقتداء بإمامٍ يخالف المقتدي في الفروع ، إذا كان الإمام يتحامى مواضع الخلاف ، بأن يتوضّأ من الخارج النّجس من غير السّبيلين كالفصد مثلاً ، ولا ينحرف عن القبلة انحرافاً فاحشاً ، ويراعي الدّلك والموالاة في الوضوء ، والطّمأنينة في الصّلاة .
وكذلك يصحّ الاقتداء بإمامٍ مخالفٍ في المذهب إذا كان لا يعلم منه الإتيان بما يفسد الصّلاة عند المقتدي بيقينٍ ، لأنّ الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من المسلمين لم يزل بعضهم يقتدي ببعضٍ مع اختلافهم في الفروع ، ولما فيه من وحدة الصّفّ وقوّة المسلمين .
أمّا إذا علم المقتدي أنّ الإمام أتى بمانعٍ لصحّة الصّلاة في مذهب المأموم ، وليس مانعاً في مذهبه ، كترك الدّلك والموالاة في الوضوء ، أو ترك شرطاً في الصّلاة عند المأموم ، فقد صرّح المالكيّة والحنابلة - وهو رواية عند الشّافعيّة - بصحّة الاقتداء ، لأنّ المعتبر في شروط الصّلاة مذهب الإمام لا المأموم ، ما لم يكن المتروك ركناً داخلاً في الصّلاة عند المالكيّة ، كترك الرّفع من الرّكوع . وفي الأصحّ عند الشّافعيّة لا يصحّ الاقتداء اعتباراً بنيّة المقتدي ، لأنّه يعتقد فساد صلاة إمامه ، فلا يمكن البناء عليه .
وقال الحنفيّة : إن تيقّن المقتدي ترك الإمام مراعاة الفروض عند المقتدي لم يصحّ الاقتداء ، وإن علم تركه للواجبات فقط يكره ، أمّا إن علم منه ترك السّنن فينبغي أن يقتدي به ، لأنّ الجماعة واجبة ، فتقدّم على ترك كراهة التّنزيه ، وهذا بناء على أنّ العبرة لرأي المقتدي - وهو الأصحّ - وقيل : لرأي الإمام ، وعليه جماعة . قال في النّهاية : وهو الأقيس ، وعليه فيصحّ الاقتداء ، وإن كان الإمام لا يحتاط .
الاقتداء في غير الصّلاة
44 - الاقتداء في غير الصّلاة - بمعنى التّأسّي والاتّباع - يختلف حكمه باختلاف المقتدى به ، فالاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدّين وما يتعلّق بالشّريعة واجب أو مندوب ( بحسب حكم ذلك الفعل ) ، والاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلّيّة حكمه الإباحة ، والاقتداء بالمجتهد فيما اجتهد فيه من المسائل الفقهيّة مطلوب لمن ليس له أهليّة الاجتهاد عند الأصوليّين .
وتفصيل هذه المسائل في الملحق الأصوليّ ، وانظر مصطلحي ( اتّباع ، وتأسّي ) .(90/9)
اكتحال *
التّعريف :
1 - الاكتحال لغةً : مصدر اكتحل . يقال اكتحل : إذا وضع الكحل في عينه . وهو في الاصطلاح مستعمل بهذا المعنى .
الحكم الإجماليّ :
2 - استحبّ الحنابلة والشّافعيّة الاكتحال وتراً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « من اكتحل فليوتر » ، وأجازه مالك في أحد قوليه للرّجال ، وكرهه في قوله الآخر للتّشبّه بالنّساء .
أمّا الحنفيّة ، فقالوا بالجواز إذا لم يقصد به الرّجل الزّينة ، وأوضح بعض الحنفيّة أنّ الممنوع هو التّزيّن للتّكبّر ، لا بقصد الجمال والوقار . ولا خلاف في جواز الاكتحال للنّساء ولو بقصد الزّينة ، وكذلك للرّجال بقصد التّداوي . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( تزيّن ) .
الاكتحال بالمتنجّس :
3 - ينبغي أن يكون ما يكتحل به طاهراً حلالاً ، أمّا الاكتحال بالنّجس أو المحرّم فهو غير جائزٍ لعموم النّهي عن ذلك . أمّا إذا كان الاكتحال لضرورةٍ فقد أجازه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومنعه المالكيّة .
الاكتحال في الإحرام :
4 - أجاز الحنفيّة الاكتحال بالإثمد للمحرم بغير كراهةٍ ما دام بغير طيبٍ ، فإذا كان بطيبٍ وفعله مرّةً أو مرّتين فعليه صدقة ، فإن كان أكثر فعليه دم . ومنعه المالكيّة وإن كان من غير طيبٍ ، إلاّ إذا كان لضرورةٍ ، فإن اكتحل فعليه الفدية . وأجازه الشّافعيّة والحنابلة مع الكراهة ، واشترط الحنابلة عدم قصد الزّينة به . ( ر - إحرام ) .
الاكتحال في الصّوم :
5 - إذا اكتحل الصّائم بما يصل إلى جوفه فعند الحنفيّة والشّافعيّة - وهو اختيار ابن تيميّة - لا يفسد صومه ، وإن وجد طعمه في حلقه ، ولونه في نخامته ، لأنّه لم يصل إلى الجوف من منفذٍ مباشرٍ ، بل بطريق المسامّ . وقال المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة : إنّه يفسد صومه إذا وصل إلى الحلق . وللتّفصيل ينظر ( صوم ) .
الاكتحال للمعتدّة من الوفاة :
6 - إذا كان الاكتحال بما لا يتزيّن به عادةً فلا بأس به عند الفقهاء ليلاً أو نهاراً . أمّا إذا كان ممّا يتزيّن به كالإثمد ، فالأصل عدم جوازه إلاّ لحاجةٍ ، فإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز . وصرّح المالكيّة أنّ المراد - في هذه الحال - تكتحل ليلاً وتغسله نهاراً وجوباً .
الاكتحال للمعتدّة من الطّلاق :
7 - اتّفق الفقهاء على إباحة الاكتحال للمعتدّة من طلاقٍ رجعيٍّ . بل صرّح المالكيّة بأنّه يفرض على زوج المعتدّة ثمن الزّينة الّتي تستضرّ بتركها .
واختلفوا في المعتدّة من طلاقٍ بائنٍ . قال الحنفيّة ، وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة : يجب عليها ترك الاكتحال والزّينة ، وفي رأيٍ للشّافعيّة والحنابلة : يستحسن لها ذلك .
أمّا المالكيّة فعندهم الإباحة مطلقاً للمطلّقة ( ر - عدّة ) .
الاكتحال في الاعتكاف :
8 - تكلّم الشّافعيّة على الزّينة في الاعتكاف والاكتحال فيه ، وصرّحوا بأنّه لا يضرّ فيه الاكتحال ولا الزّينة . وقواعد المذاهب الأخرى لا تنافيه . ( ر - اعتكاف ) .
الاكتحال في يوم عاشوراء :
9 - تكلّم الحنفيّة على الاكتحال في يوم عاشوراء وعلى استحبابه ، وأبانوا بأنّه لم يرد في ذلك نصّ صحيح ، وقال بعضهم : بأنّه بدعة . ( ر - بدعة ) .(91/1)
الأيّام البيض *
التّعريف :
1 - الأيّام البيض هي : اليوم الثّالث عشر والرّابع عشر والخامس عشر من كلّ شهرٍ عربيٍّ . وسمّيت بيضاً لابيضاض لياليها بالقمر ، لأنّه يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها . ولذلك قال ابن برّيٍّ : الصّواب أن يقال : أيّام البيض ، بالإضافة لأنّ البيض من صفة اللّيالي - أي أيّام اللّيالي البيضاء . وقال المطرّزيّ : من فسّرها بالأيّام فقد أبعد .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأيّام السّود :
2 - الأيّام السّود أو أيّام اللّيالي السّود : هي الثّامن والعشرون وتالياه ، باعتبار أنّ القمر في هذه اللّيالي يكون في تمام المحاق .
الحكم الإجماليّ :
3 - يستحبّ صوم الأيّام البيض من كلّ شهرٍ ، لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك ، ومنها ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صام من كلّ شهرٍ ثلاثةَ أيّامٍ فذاك صيام الدّهر » وعن ملحان القيسيّ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ، وقال : هو كهيئة الدّهر » وهذا ينطبق على كلّ شهور العام عدا شهر ذي الحجّة ، فلا يصام فيه اليوم الثّالث عشر ، لأنّه من أيّام التّشريق الّتي ورد النّهي عن صومها .
والأوجه كما يقول الشّافعيّة أن يصام السّادس عشر من ذي الحجّة .
وصوم هذه الأيّام مستحبّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وكان مالك يصوم أوّل يومه ، وحادي عشره ، وحادي عشرينه .
وكره المالكيّة كونها الثّلاثة الأيّام البيض ، مخافة اعتقاد وجوبها وفراراً من التّحديد .
وهذا إذا قصد صومها بعينها ، وأمّا إن كان على سبيل الاتّفاق فلا كراهة(92/1)
الجحفة *
التّعريف :
1 - الجحفة موضع على الطّريق بين المدينة ومكّة ، وكان اسمها مَهْيَعَة ، أو مَهِيعَة ، فأجحف السّيل بأهلها فسمّيت جحفة ، وبما أنّه لم يبق بها الآن إلاّ رسوم خفيّة لا يكاد يعرفها إلاّ سكّان البوادي ، فلذا اختار النّاس الإحرام احتياطا من المكان المسمّى برابغ الّذي على يسار الذّاهب إلى مكّة وقبل الجحفة بنصف مرحلة أو قريب من ذلك .
وهي ميقات أهل الشّام ومصر والمغرب . وهي أحد المواقيت الخمسة الّتي لا يجوز تجاوزها لقاصد الحجّ والعمرة إلاّ محرما ، وقد جمعت في قوله :
عرق العراق يلملم اليمن وبذي الحليفة يحرم المدنيّ للشّام جحفة إن مررت بها ولأهل نجد قرن فاستبن
الحكم الإجماليّ وموطن البحث :
2 - أجمع أهل العلم على أنّ الجحفة ميقات أهل الشّام ومصر والمغرب ومن مرّ بها من غير أهلها لما رواه ابن عبّاس رضي الله عنه قال : « وقّت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشّام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، وقال : فهنّ لهنّ ، ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ لمن كان يريد الحجّ أو العمرة » وقد فصّل الفقهاء الكلام حول تجاوزها بغير إحرام في كتاب الحجّ عند الكلام عن المواقيت .(93/1)
الحجر الأسود
التّعريف
1 - الحجر الأسود كتلة من الحجر ضارب إلى السّواد شبه بيضاويّ في شكله ، يقع في أصل بناء الكعبة في الرّكن الجنوبيّ الشّرقيّ منها ، يستلمه الطّائفون عند طوافهم ( الحكم الإجماليّ ) :
2 - يتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ استلام الحجر الأسود باليد وتقبيله للطّائف لمن يقدر ، لما روي { أنّ رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر فقال : رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبّله } . ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : قبّل عمر بن الخطّاب الحجر ثمّ قال : أما واللّه لقد علمت أنّك حجر ولولا أنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك . وروي أنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا يستلمون الحجر ثمّ يقبّلونه ، فيلتزم فعلهم ، لأنّه ممّا لا يكون بالرّأي . ويستحبّ أن يستفتح الاستلام بالتّكبير ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : { طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلّما أتى الرّكن أشار إليه بشيء كان عنده وكبّر } . ويرفع يديه عند التّكبير ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { ترفع الأيدي في سبعة مواطن وذكر من جملتها الحجر } ، ، وهذا عند الجمهور . وأمّا عند المالكيّة فلا يرفع يديه عند التّكبير . ويستحبّ استلام الحجر الأسود في كلّ طواف ، لأنّ ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : { كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر في كلّ طوفة } قال نافع : وكان ابن عمر يفعله . وإن لم يتمكّن من تقبيل الحجر استلمه بيده وقبّل يده ، وهذا عند المالكيّة والحنابلة حيث قالوا : إنّ الاستلام باليد يكون بعد العجز عن الاستلام بالفم . لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلمه وقبّل يده } وفعله أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتبعهم أهل العلم على ذلك . وأمّا الحنفيّة والشّافعيّة فقالوا : إنّ الاستلام باليد كالاستلام بالفم . ثمّ إن عجز عن الاستلام يمسّ الحجر بشيء في يده كالعصا مثلا ثمّ يقبّله ، لما روي عن أبي الطّفيل ، قال : { رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الرّكن بمحجن معه ويقبّل المحجن } . وإن لم يستطع أن يستلم الحجر بيده ، أو يمسّه بشيء فإنّه يستقبله من بعد ويشير إليه بباطن كفّه كأنّه واضعها عليه ، ثمّ يقبّله ويهلّل ويكبّر ، لما روى البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، قال : { طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعير كلّما أتى الرّكن أشار إليه وكبّر } . ويسنّ أن يقبّل الحجر من غير صوت يظهر للقبلة ، لحديث ابن عمر { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر ثمّ وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ، ثمّ التفت فإذا هو بعمر بن الخطّاب يبكي ، فقال : يا عمر هاهنا تسكب العبرات } . قال الحطّاب : وفي الصّوت قولان : قال الشّيخ زرّوق في شرح الإرشاد : وفي كراهة التّصويت بالتّقبيل قولان : ورجّح غير واحد الجواز ، وذكر ابن رشد أنّ الشّيخ المحبّ الطّبريّ جاءه مستفت يسأله عن تقبيل الحجر أبصوت أو دونه ؟ فذكر له التّقبيل من غير تصويت . ولا يستحبّ للنّساء استلام الحجر ولا تقبيله إلاّ عند خلوّ المطاف في اللّيل أو غيره .
البداءة في الطّواف من الحجر الأسود :
3 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّه يتعيّن البداءة في الطّواف من الحجر الأسود ليحسب الشّوط لما روي { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم افتتح الطّواف من يمين الحجر لا من يساره } ، وذلك تعليم منه صلى الله عليه وسلم مناسك الحجّ ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : { خذوا عنّي مناسككم } فتجب البداءة بما بدأ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو افتتح الطّواف من غير الحجر لم يعتدّ بذلك الشّوط إلاّ أن يصير إلى الحجر فيبتدئ منه الطّواف . وأمّا عند الحنفيّة في ظاهر الرّواية ومالك أنّ البداءة في الطّواف من الحجر الأسود سنّة ، ولو بدأ الطّواف من مكان غير الحجر الأسود بدون عذر أجزأه مع الكراهة لقوله تعالى : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } مطلقا عن شرط الابتداء بالحجر الأسود .
استلام الحجر وتقبيله في الزّحام :
4 - إذا كان في الطّواف زحام وخشي الطّائف إيذاء النّاس فالأولى أن يترك تقبيل الحجر الأسود واستلامه ، لأنّ استلام الحجر الأسود سنّة وترك إيذاء النّاس واجب فلا يهمل الواجب لأجل السّنّة ، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : يا عمر إنّك رجل قويّ لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضّعيف ، إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلاّ فاستقبله وهلّل وكبّر } .
السّجود على الحجر الأسود :
5 - حكى ابن المنذر عن عمر بن الخطّاب وابن عبّاس وطاوس والشّافعيّ وأحمد أنّه يستحبّ بعد تقبيل الحجر الأسود السّجود عليه بالجبهة ، وقد أخرج الشّافعيّ والبيهقيّ عن ابن عبّاس موقوفا " أنّه كان يقبّل الحجر الأسود ويسجد عليه . وكره مالك السّجود وتمريغ الوجه عليه ، ونقل الكاسانيّ عن مالك أنّه بدعة ، ونقل ابن الهمام عن قوام الدّين الكاكيّ قال : وعندنا الأولى أن لا يسجد لعدم الرّواية من المشاهير .
الدّعاء عند استلام الحجر :(94/1)
6 - ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّه يستحبّ أن يقول الطّائف عند استلام الحجر ، أو استقباله بوجهه إذا شقّ عليه استلامه : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، واللّه أكبر ، اللّهمّ إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتّباعا لسنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وسلم . لما روى جابر رضي الله عنه { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلم الرّكن الّذي فيه الحجر وكبّر ثمّ قال : اللّهمّ وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك } . وزاد ابن الهمام : لا إله إلاّ اللّه ، اللّه أكبر ، اللّهمّ إليك بسطت يدي ، وفيما عندك عظمت رغبتي فاقبل دعوتي وأقلني عثرتي ، وارحم تضرّعي ، وجد لي بمغفرتك ، وأعذني من مضلّات الفتن . وذكر الكاسانيّ في البدائع : ولم يذكر عن أصحابنا فيه دعاء بعينه ، لأنّ الدّعوات لا تحصى .(94/2)
الخلاصة في تكرار العمرة
وفي المجموع :
( فَرْعٌ ) فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ الْعُمْرَةِ . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ , وَلَا تُكْرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا , وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد , وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ , وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّهْيُ الشَّرْعِيُّ , وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْخَبَرُ ; وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَانُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِلَا كَرَاهَةٍ , فَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ الْعُمْرَةِ فِيهِ كَمَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ; وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يُكْرَهُ فِيهِ اسْتِدَامَةُ الْعُمْرَةِ لَا يُكْرَهُ فِيهِ إنْشَاؤُهَا كَبَاقِي السَّنَةِ . ( وَأَمَّا ) قَوْلُ عَائِشَةَ ( فَأَجَابَ ) أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ أَجْوَدُهَا أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْرَفُ عَنْهَا , وَلَمْ يَذْكُرْهُ عَنْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ , وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يُشْتَهَرْ , فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ , وَلَوْ صَحَّ وَاشْتُهِرَ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِالْحَجِّ ( وَأَمَّا ) قَوْلُهُمْ : إنَّهَا أَيَّامُ الْحَجِّ فَكُرِهَتْ فِيهَا الْعُمْرَةُ , فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ لَا شُبْهَةَ لَهَا . ( فَرْعٌ ) : فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ . مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ بَلْ يُسْتَحَبُّ , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ , وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ وَالْعَبْدَرِيُّ , وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهما , وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ : تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ ; لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً كَالْحَجِّ , وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَخَلَائِقُ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ , فَحَاضَتْ , فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُحْرِمَ بِحَجٍّ فَفَعَلَتْ , وَصَارَتْ قَارِنَةً وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ , فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ وَسَعَتْ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ , فَطَلَبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً أُخْرَى , فَأَذِنَ لَهَا فَاعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ عُمْرَةً أُخْرَى } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُطَوَّلًا , وَنَقَلْته مُخْتَصَرًا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكَانَتْ عُمْرَتُهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ , ثُمَّ أَعْمَرَهَا الْعُمْرَةَ الْأُخْرَى فِي ذِي الْحِجَّةِ , فَكَانَ لَهَا عُمْرَتَانِ فِي ذِي الْحِجَّةِ . وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا " أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ أَيْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُ عُمَرَ , وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَعْوَامًا فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ عَامٍ , ذَكَرَ هَذِهِ الْآثَارَ كُلَّهَا الشَّافِعِيُّ , ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِأَسَانِيدِهِمَا . ( وَأَمَّا ) الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ ; لِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ : اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَشَوَّالٍ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ , وَسَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ , وَلَكِنْ لَيْسَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ , وَإِنْ كَانَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ قَدْ احْتَجُّوا بِهِ , وَصَدَّرَ بِهِ الْبَيْهَقِيُّ الْبَابَ , فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الْعُمْرَتَيْنِ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ , وَهَذَا تَعْلِيقٌ ضَعِيفٌ . وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ فَقَالُوا : عِبَادَةٌ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ , فَلَمْ يُكْرَهْ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ كَالصَّلَاةِ , قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ : مَنْ قَالَ : لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ السَّابِقَ ( فَإِنْ قِيلَ ) قَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا : { اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ } فَفَعَلَتْ , ثُمَّ اعْتَمَرَتْ , وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا إلَّا عُمْرَةً وَاحِدَةً ((95/1)
فَالْجَوَابُ ) أَنَّهَا لَمْ تَرْفُضْهَا , يَعْنِي الْخُرُوجَ مِنْهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا ; لِأَنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ لَا يُخْرَجُ مِنْهُمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا رَفْضُهَا رَفْضَ أَعْمَالِهَا مُسْتَقِلَّةً ; لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بَعْدَهَا بِالْحَجِّ , فَصَارَتْ قَارِنَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " اُرْفُضِيهَا " أَيْ اُتْرُكِي أَعْمَالَهَا الْمُسْتَقِلَّةَ لِانْدِرَاجِهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ ( وَأَمَّا ) امْتِشَاطُهَا , فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَنَا الِامْتِشَاطُ ( وَأَمَّا ) الْجَوَابُ عَنْ احْتِجَاجِ مَالِكٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَجِّ , فَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ مُؤَقَّتٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ فِي السَّنَةِ وَالْعُمْرَةُ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ , فَتُصَوِّرَ تَكْرَارُهَا كَالصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا كَانَ بِمَكَّةَ مُسْتَوْطِنًا أَوْ عَابِرَ سَبِيلٍ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِيقَاتُهُ أَدْنَى الْحِلِّ , نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ , قَالَ أَصْحَابُنَا : يَكْفِيهِ الْحُصُولُ فِي الْحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَيْ الْجِهَاتِ كَانَ جِهَاتُ الْحِلِّ , هَذَا هُوَ الْمِيقَاتُ الْوَاجِبُ . ( وَأَمَّا ) الْمُسْتَحَبُّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ : أُحِبُّ أَنْ يَعْتَمِرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ مِنْهَا فَإِنْ أَخْطَأَهُ مِنْهَا فَمِنْ التَّنْعِيمِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى الْبَيْتِ , فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنْ الْحُدَيْبِيَةِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهَا , وَأَفْضَلُهَا مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَبَعْدَهَا فِي الْفَضِيلَةِ التَّنْعِيمُ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ كَمَا نُصَّ عَلَيْهِ , وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهَذَا فِي كُلِّ الطُّرُقِ وَلَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ قَالَ : الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّ الِاعْتِمَارَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنْعِيمِ , فَقَدَّمَ الْحُدَيْبِيَةَ عَلَى التَّنْعِيمِ . ( وَأَمَّا ) قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّنْبِيهِ : الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنْ التَّنْعِيمِ فَغَلَطٌ وَمُنْكَرٌ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمَذْهَبِ إلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَفْضَلَ أَدْنَى الْحِلِّ التَّنْعِيمَ , فَإِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا : خَرَجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ , وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ التَّنْعِيمِ , فَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ بِهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ أَحْسَنُ مِنْ تَخْطِئَتِهِ , وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ خَفِيَّةً أَوْ غَرِيبَةً لِيُعْذَرَ فِي الْغَلَطِ فِيهَا , وَاسْتَدَلَّ , الشَّافِعِيُّ لِلْإِحْرَامِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ التَّنْعِيمِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهَا وَأَرَادَ الْمَدْخَلَ لِعُمْرَتِهِ مِنْهَا , وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا , وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ مُحَقِّقُو الْأَصْحَابِ . وَهَذَا الِاسْتِدْلَال هُوَ الصَّوَابُ . ( وَأَمَّا ) قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْبَسِيطِ , وَقَوْلُ غَيْرِهِ : إنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بِالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فَغَلَطٌ صَرِيحٌ , بَلْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَإِنْ قِيلَ ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ : إنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنْعِيمِ , فَكَيْفَ أَعْمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ ؟ ( فَالْجَوَابُ ) أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَعْمَرَهَا مِنْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى أَبْعَدَ مِنْهُ , وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهَا إلَى التَّنْعِيمِ عِنْدَ رَحِيلِ الْحَاجِّ وَانْصِرَافِهِمْ , وَوَاعَدَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى مَوْضِعٍ فِي الطَّرِيقِ , هَكَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا بَيَانُ الْجَوَازِ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
وفي الأشباه والنظائر :(95/2)
وَمِنْهَا : تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ عَلَى مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ . وَمِنْهَا : صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى وَجْهٍ . وَمِنْهَا : صَلَاةُ الْكُسُوفِ عَلَى وَجْهٍ حَكَاهُ فِي الْحَاوِي وَجَزَمَ بِهِ الْخَفَّافُ فِي الْخِصَالِ . وَمِنْهَا : صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى وَجْهٍ , حَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ وَمِنْهَا : إحْيَاءُ الْكَعْبَةِ كُلُّ سَنَةٍ بِالْحَجِّ . قَالَ الرَّافِعِيُّ : هَكَذَا أَطْلَقُوهُ , وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ , بَلْ الِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ التَّعْظِيمَ وَإِحْيَاءَ الْبُقْعَةِ يَحْصُلُ بِكُلِّ ذَلِكَ , وَاسْتَدْرَكَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَصِّلُ مَقْصُودَ الْحَجِّ , فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرَّمْيِ وَالْوُقُوفِ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَإِحْيَاءِ تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالطَّاعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ : وَكَلَامُ النَّوَوِيِّ لَا يُلَاقِي كَلَامَ الرَّافِعِيِّ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي إحْيَاءِ الْكَعْبَةِ لَا فِي إحْيَاءِ هَذِهِ الْبِقَاعِ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمُتَّجِهُ فِي الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا إحْيَاءُ الْكَعْبَةِ وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ دَاخِلَهَا لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ , قَالَ : وَالْمُتَّجِهُ أَنَّ الطَّوَافَ كَالْعُمْرَةِ . وَأَجَابَ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ بَحْثِ الرَّافِعِيِّ : بِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ : الْحَجُّ , فَكَانَ إحْيَاؤُهُ بِهِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مَخْصُوصٌ بَلْ الْفَرْضُ حَجُّهَا فِي الْجُمْلَةِ وَقَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ : الْمُتَّجِهُ اعْتِبَارُ عَدَدٍ يَظْهَرُ بِهِ الشِّعَارُ تَنْبِيهَانِ : الْأَوَّلُ : عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ : أَنَّ إحْيَاءَ الْكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ بِالْحَجِّ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَنْ يُسْقِطُهُ فَالْكُلُّ فَرْضٌ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الْحَجِّ نَفْلًا , وَأَنَّ قَاعِدَةَ " إنَّ الْفِعْلَ لَا يَجِبُ إتْمَامُهُ بِالشُّرُوعِ " غَيْرُ مَنْقُوضَةٍ الثَّانِي إنْ ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَحْصُلُ بِهَا الْإِحْيَاءُ زَالَ الْإِشْكَالُ فِي كَوْنِ الطَّوَافِ أَفْضَلَ مِنْهَا لِكَوْنِهَا تَقَعُ مِنْ الْمُتَطَوِّعِ نَفْلًا , وَمَسْأَلَةُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالْعُمْرَةِ : مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَأَلَّفَ فِيهَا الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ كِتَابًا قَالَ فِيهِ : ذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا إلَى تَفْضِيلِ الْعُمْرَةِ وَرَأَوْا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ وَذَلِكَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ وَأَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى خَطَئِهِ مُخَالَفَةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ , فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَكْرَارُ الْعُمْرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ رَوَى الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : الطَّوَافُ أَفْضَلُ أَمْ الْعُمْرَةُ ؟ فَقَالَ : الطَّوَافُ . وَقَالَ طَاوُسٌ : الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنْ التَّنْعِيمِ مَا أَدْرِي : يُؤْجَرُونَ أَمْ يُعَذَّبُونَ ؟ قِيلَ : لِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ , وَيَخْرُجُ إلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ , وَيَجِيءُ وَقَدْ ذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى كَرَاهَةِ تَكْرَارِهَا فِي الْعَامِ وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلَى كَرَاهَةِ تَكْرَارِ الطَّوَافِ بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ مَنْ يُفَضِّلُ الطَّوَافَ عَلَيْهَا , هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَبُو شَامَةَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمَا احْتِمَالَاتٍ ثَالِثُهَا : إنْ اسْتَغْرَقَ زَمَانَ الِاعْتِمَارِ , فَالطَّوَافُ أَفْضَلُ وَإِلَّا , فَهِيَ أَفْضَلُ وَقَالَ فِي الْخَادِمِ : يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِي التَّفْضِيلِ لَا تَتَحَقَّقُ , فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ ; فَلَا تَفْضِيلَ بَيْنَ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَقَعُ مِنْ الْمُتَطَوِّعِ إلَّا فَرْضَ كِفَايَةٍ , وَالْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ الْمَسْنُونِ . نَعَمْ إنْ قُلْنَا إنَّ إحْيَاءَ الْكَعْبَةِ يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجِّ وَالِاعْتِمَارِ وَقَعَ الطَّوَافُ أَيْضًا فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ ا هـ . قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الطَّوَافِ أَفْضَلَ : الْإِكْثَارُ مِنْهُ دُونَ أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ , فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْعُمْرَةِ وَزِيَادَةٌ قُلْت : وَنَظِيرُهُ مَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : أَنَّ قَوْلَنَا : الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّوْمِ , الْمُرَادُ بِهِ الْإِكْثَارُ مِنْهَا بِحَيْثُ تَكُونُ غَالِبَةً عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَصَوْمُ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بِلَا شَكٍّ .
وفي الغرر البهية :(95/3)
( وَنَاذِرٌ لِلَّهِ أَنْ يَعْتَكِفَا يَوْمًا يَكُونُ صَائِمًا فِيهِ ) , أَوْ هُوَ صَائِمٌ فِيهِ ( كَفَى ) لَهُ ( عُكُوفُهُ ) صَائِمًا ( فِي رَمَضَانَ ) , أَوْ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ صَوْمًا بَلْ اعْتِكَافًا بِصِفَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ ( وَامْتَنَعْ إجْزَاءُ مَا مِنْ ذَيْنِ وَحْدَهُ يَقَعْ ) أَيْ : إجْزَاءُ مَا يَقَعُ وَحْدَهُ مِنْ الصَّوْمِ , وَالِاعْتِكَافِ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْمُلْتَزَمِ ( وَنَاذِرٌ لِلِاعْتِكَافِ صَائِمًا ) , أَوْ بِصَوْمٍ ( وَعَكْسُهُ يَلْزَمُهُ كِلَاهُمَا ) أَيْ : الصَّوْمُ , وَالِاعْتِكَافُ ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُمَا فَلَا يَكْفِي اعْتِكَافُهُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ ( وَ ) يَلْزَمُهُ ( الْجَمْعُ ) بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَلَزِمَ بِالنَّذْرِ كَالْوَلَاءِ وَقِيلَ لَا يَلْزَمُهُ جَمْعُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلِاعْتِكَافِ ; لِأَنَّهُ مِنْ مَسْنُونَاتِهِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَعَلَى الْأَوَّلِ , وَالثَّالِثِ لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ مُدَّةٍ مُتَوَالِيَةٍ صَائِمًا وَجَامَعَ لَيْلًا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُمَا لِانْتِفَاءِ الْجَمْعِ وَلَوْ عَيَّنَ وَقْتًا لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ كَالْعِيدِ اعْتَكَفَهُ وَلَا يَقْضِي الصَّوْمَ قَالَهُ الدَّارِمِيُّ ( لَا بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ مُصَلِّيًا , وَالْعَكْسُ ) فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ وَإِنْ لَزِمَهُ كِلَاهُمَا إذْ الصَّلَاةُ لِكَوْنِهَا فِعْلًا لَا تُنَاسِبُ الِاعْتِكَافَ لِكَوْنِهِ كَفًّا بِخِلَافِهِ مَعَ الصَّوْمِ لِتَقَارُبِهِمَا فَإِنَّ كُلًّا كَفٌّ فَجُعِلَ أَحَدُهُمَا وَصْفًا لِلْآخَرِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ كَمَا فِي تَيْنِكَ وَإِلَى الْخِلَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَشَارَ مِنْ زِيَادَتِهِ بِقَوْلِهِ ( مَعَ خِلَافِ ) فِي لُزُومِ الْجَمْعِ هُنَاكَ وَعَدَمِ لُزُومِهِ هُنَا , وَاللَّازِمُ مِنْ الصَّلَاةِ فِيمَا ذُكِرَ رَكْعَتَانِ كَمَا لَوْ أَفْرَدَهَا بِالنَّذْرِ فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ مُصَلِّيًا لَزِمَهُ رَكْعَتَانِ كُلَّ يَوْمٍ جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ فَإِنْ تَرَكْنَا الظَّاهِرَ فَلِمَ اُعْتُبِرَ تَكْرِيرُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الصَّلَاةِ كُلَّ يَوْمٍ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَرَكَ الظَّاهِرَ فِي الِاسْتِيعَابِ دُونَ التَّكْرِيرِ لِيَسْلُكَ بِالنَّذْرِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ إذْ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ لَا تَسْتَوْعِبُ الْأَيَّامَ وَتَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ الْمُتَوَلِّي : وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مُحْرِمًا فَحُكْمُهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ مُصَلِّيًا لَزِمَاهُ وَلَا يَلْزَمُهُ جَمْعُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّي صَلَاةً يَقْرَأُ فِيهَا بِسُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَزِمَاهُ وَفِي لُزُومِ جَمْعِهِمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ نَذَرَ الِاعْتِكَافَ صَائِمًا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ وَلَا يَخْفَى بُعْدُ الْقَوْلِ بِمُقَابِلِ لُزُومِ الْجَمْعِ فِي الْأَخِيرَةِ(95/4)
( قَوْلُهُ : وَامْتَنَعَ إجْزَاءُ إلَخْ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقِيَاسُ مَا يَأْتِي بَعْدُ أَنَّهُ إنْ نَوَى الِاعْتِكَافَ عَنْ الْمَنْذُورِ أَوْ الصَّوْمِ عَنْ الْمُقَيَّدِ بِهِ الْمَنْذُورُ لَا يَصِحُّ ( قَوْلُهُ : يَلْزَمُهُ كِلَاهُمَا إلَخْ ) ; لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهَا وَقَدْ اُلْتُزِمَ الْمُقَيَّدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُقَيَّدٌ كَمَا يَقْتَضِيهِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ حَيْثُ لَا نِيَّةَ لَهُ تُخَالِفُ فَلَزِمَ الْقَيْدُ أَيْضًا وَبِهَذَا فَارَقَ مَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ هُنَاكَ لَيْسَ مَنْذُورًا بَلْ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ صِفَةً لِلْيَوْمِ . ا هـ . شَيْخُنَا ذ وَعِبَارَةُ الْإِرْشَادِ وَشَرْحِهِ الصَّغِيرِ لِحَجَرٍ وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ يَصُومَ أَوْ عَكْسَهُ أَيْ : يَصُومَ مُعْتَكِفًا أَوْ بِاعْتِكَافٍ لَزِمَاهُ , وَالْجَمْعُ أَوْ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَهُوَ صَائِمٌ كَأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَنَا أَوْ أَنَا فِيهِ صَائِمٌ اشْتَرَطَ الصَّوْمَ فِي اعْتِكَافِهِ الْمُخْرِجِ لَهُ عَنْ نَذْرِهِ ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ كَذَلِكَ لَكِنْ أَجْزَأَهُ رَمَضَانُ أَوْ غَيْرُهُ وَلَوْ نَفْلًا عَلَى الْأَوْجَهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ صَوْمًا بَلْ اعْتِكَافُهُ بِصِفَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ وَفَارَقَ وَأَنَا صَائِمٌ صَائِمًا السَّابِقَ مَعَ أَنَّ كُلًّا حَالٌ بِأَنَّ الْمُفْرَدَةَ وَقَعَتْ قَيْدًا لِلِاعْتِكَافِ , وَالْجُمْلَةَ وَقَعَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَاعِيهِ الْفَقِيهُ قَيْدًا لِلْيَوْمِ الَّذِي وَقَعَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فَهِيَ بِالذَّاتِ قَيْدٌ لِلظَّرْفِ لَا لِلْمَظْرُوفِ فَتَأَمَّلْهُ ( قَوْلُهُ : وَيَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ) فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ عَنْ النَّذْرِ يَوْمًا وَيَعْتَكِفَ فِيهِ عَنْ النَّذْرِ وَلَوْ لَحْظَةً حَتَّى فِي صُورَةِ الْعَكْسِ خِلَافًا لِلشَّيْخِ الْجَوْهَرِيِّ حَيْثُ أَوْجَبَ فِيهَا اعْتِكَافَ يَوْمِ الصَّوْمِ لِيَصْدُقَ أَنَّهُ صَائِمٌ مُعْتَكِفًا وَفِيهِ أَنَّ هَذَا يَصْدُقُ وَلَوْ مَعَ اعْتِكَافِ اللَّحْظَةِ بَلْ كَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مُعْتَكِفًا بِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا صَائِمًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ يَوْمِ الصَّوْمِ جَزْمًا لِلتَّنْصِيصِ فِيهِ عَلَى الْيَوْمِ وَفَارَقَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ الْيَوْمَ فِيهِ ضَرُورِيٌّ فَالتَّنْصِيصُ فِيهِ كَلَا تَنْصِيصٍ فَإِنْ اعْتَكَفَ عَنْ النَّذْرِ وَهُوَ غَيْرُ صَائِمٍ عَنْ النَّذْرِ أَوْ عَكْسِهِ لَمْ يَنْعَقِدْ وَإِذَا بَطَلَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ الْآخَرُ عَنْ النَّذْرِ بَلْ قَالَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ : إذَا بَطَلَ الصَّوْمُ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ أَيْ : لَا الْعَكْسُ إذْ لَيْسَ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ بُطْلَانُ الِاعْتِكَافِ . ا هـ . شَيْخُنَا ذ ( قَوْلُهُ : ; لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَلَزِمَ إلَخْ ) أَيْ : مَعَ تَنَاسُبِهِمَا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفّ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ أَوْ يَصُومَ مُصَلِّيًا أَوْ عَكْسَهُ فَإِنَّهُمَا يَلْزَمَانِهِ دُونَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَاسُبِ إذْ الصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُبَاشَرَةٌ كَمَا سَيَذْكُرُهُ ( قَوْلُهُ : لَزِمَهُ رَكْعَتَانِ ) وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَر بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ يَوْمٍ نَذْرٌ مُسْتَقِلٌّ وَلَهُ جَمْعُ الْكُلِّ فِي يَوْمٍ بِتَسْلِيمَاتٍ بِقَدْرِهَا . ا هـ . شَيْخُنَا ذ ( قَوْلُهُ : يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ ) أَيْ : اسْتِيعَابَ الْيَوْمِ بِالصَّلَاةِ ( قَوْلُهُ : وَيُجَابُ ) أَجَابَ حَجَرٌ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بِأَنَّ مُصَلِّيًا حَالٌ مِنْ أَيَّامٍ وَهِيَ فِي قُوَّةِ يَوْمٍ وَيَوْمٍ وَيَوْمٍ فَتَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ صَلَاةٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا وَأَقَلُّ وَاجِبِهَا رَكْعَتَانِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ : عَشْرَةُ أَيَّامٍ مُحْرِمًا ) قَالَ سم : يَلْزَمُهُ فِي الِاعْتِمَارِ لِكُلِّ يَوْمٍ عُمْرَةٌ وَيَجُوزُ جَمْعُهَا فِي يَوْمٍ بِتَحَلُّلَاتٍ بِقَدْرِهَا وَلَزِمَهُ فِي الْحَجِّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ تَكَرُّرِهِ فِي أَيَّامِ الِاعْتِكَافِ حَتَّى يَلْزَمَ حَجَّاتٌ بِعَدَدِهَا . ا هـ . وَمُقْتَضَى قَوْلِ الشَّرْحِ فِي الْجَوَابِ وَتَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ عَدَمُ تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ لَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى جَوَابِ حَجَرٍ الْمَنْقُولِ سَابِقًا , وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا قَالَ مُحْرِمًا كَمَا فِي الشَّرْحِ وَأَطْلَقَ يَتَخَيَّرُ حَرَّرَهُ , ثُمَّ إنَّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ تَوَقُّفًا ; لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجِبُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَسْلُوكًا بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ , وَالتَّكَرُّرُ فِي أَيَّامِ الِاعْتِكَافِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ الْعَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ( قَوْلُهُ : لَزِمَاهُ ) فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لَا أَقَلَّ بِالسُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي خُصُوصِ الْقِيَامِ وَلَوْ فِي رَكْعَةٍ . ا هـ . شَيْخُنَا ذ ( قَوْلُهُ : بِالِاتِّفَاقِ ) يُنْظَرُ وَجْهُ الِاتِّفَاقِ دُونَ مَا مَرَّ(95/5)
وفي مواهب الجليل :
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ - رحمه الله - فِي قَوْلِهِ : إنَّهَا سُنَّةٌ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ وَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ كَوْنِهَا مُؤَكَّدَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ , قَالَ فِي الرِّسَالَةِ : وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ : قَالَ مَالِكٌ : الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ كَالْوِتْرِ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنْسَكِهِ هِيَ أَوْكَدُ مِنْ الْوِتْرِ , وَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِكٌ : الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا انْتَهَى . قَالَ أَبُو عُمَرَ : حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ لَا نَعْلَمُ مَنْ رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُ انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنْسَكِهِ : قَالَ مَالِكٌ : الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ كَالْحَجِّ وَهِيَ أَوْكَدُ مِنْ الْوِتْرِ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ قوله تعالى { الْعُمْرَةَ لِلَّهِ } بَعْدَ قَوْلِهِ { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } كَلَامٌ مُؤْتَنَفٌ وَقَدْ قُرِئَتْ بِالرَّفْعِ , وَقِيلَ : إنَّمَا أُمِرَ بِإِتْمَامِهَا مَنْ دَخَلَ فِيهَا , وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَهْمِ : هِيَ فَرْضٌ كَالْحَجِّ , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ ; لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : حَسَنٌ صَحِيحٌ وَنَازَعَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَصْحِيحِهِ ; وَلِأَنَّهَا نُسُكٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فَلَا تَكُونُ وَاجِبَةً كَطَوَافِ التَّطَوُّعِ وَلِعَدَمِ ذِكْرِهَا فِي حَدِيثِ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ , انْتَهَى . وَقَالَ ابْنُ حَارِثٍ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ : هِيَ فَرْضٌ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : كَرِهَ مَالِكٌ الِاعْتِمَارَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُجَاوِرِينَ بِهَا وَقَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ , وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ انْتَهَى . ( قُلْت ) : وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يُعْرَفُ فِي الْمَذْهَبِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ : وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى النَّاسِ إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ انْتَهَى . ( تَنْبِيهٌ ) وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تَجِبُ بِالنَّذْرِ وَيَجِبُ إتْمَامُهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَحُكْمُهَا بَعْدَ الْمَرَّةِ الْأُولَى الِاسْتِحْبَابُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَبِيرُ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ الثَّانِي قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ , وَأَمَّا أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ فَيَنْتَفِي عَنْهَا التَّأْكِيدُ وَتَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَحَبَّةً انْتَهَى . وَيُسْتَحَبُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَيُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُكَرِّرْهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَأَجَازَ ذَلِكَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا بَأْسَ بِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةٌ , وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ : وَفَرَّطَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فِي الْعُمْرَةِ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ قَضَتْهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه : فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَلْفَ عُمْرَةٍ وَحَجَّ سِتِّينَ حَجَّةً وَحُمِلَ عَلَى أَلْفِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَعْتَقَ أَلْفَ رَقَبَةٍ انْتَهَى . وَقَالَ سَنَدٌ : كَرِهَ مَالِكٌ تَكَرُّرَهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً وَحَكَى كَرَاهَةَ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَعْتَمِرُ كُلَّ يَوْمٍ وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً عَنْ نَذْرٍ أَوْ لِوَجْهٍ رَآهُ , كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ فَرَّطَتْ فِي الْعُمْرَةِ سَبْعَ سِنِينَ فَقَضَتْهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ , وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ , انْتَهَى مُلَخَّصًا . وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْن الْمَوَّازِ جَوَازَ تَكْرَارِهَا فِي السَّنَةِ مِرَارًا وَاخْتَارَهُ وَنَصُّهُ : قَالَ مُطَرِّفٌ فِي(95/6)
كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ : لَا بَأْسَ بِالْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ مِرَارًا , قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ , قَالَ اللَّخْمِيُّ : وَلَا أَرَى أَنْ يَمْنَعَ أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّاعَاتِ وَلَا مِنْ الِازْدِيَادِ مِنْ الْخَيْرِ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ نَصٌّ , انْتَهَى . وَكَلَامُهُ يُوهِمُ أَنَّ ابْنَ الْمَوَّازِ قَالَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِمَارِ مِرَارًا , وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ فَقَطْ , قَالَ فِي التَّوْضِيحِ عِنْدَ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَفِي كَرَاهَةِ تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ قَوْلَانِ : الْمَشْهُورُ الْكَرَاهَةُ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ , وَالشَّاذُّ لِمُطَرِّفٍ إجَازَةُ تَكْرَارِهَا وَنَحْوِهِ لِابْنِ الْمَوَّازِ ; لِأَنَّهُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِالْعُمْرَةِ مَرَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ بَأْسٌ وَقَدْ اعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَكَرِهَتْ عَائِشَةُ عُمْرَتَيْنِ فِي شَهْرٍ , وَكَرِهَهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ انْتَهَى . وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ هُوَ كَذَلِكَ فِي النَّوَادِرِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ . وَنَصُّ النَّوَادِرِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَعْتَمِرَ عُمْرَتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُرِيدُ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ : وَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ انْتَهَى . ( فَرْعٌ ) وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنْ يُكْرَهَ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِثَانِيَةٍ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ إجْمَاعًا , قَالَهُ سَنَدٌ وَغَيْرُهُ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْمَوَّازِ حَيْثُ قَالَ : يُرِيدُ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ , وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ : وَالْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ إنَّمَا هِيَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ اعْتَمَرَ بَعْدَهَا لَزِمَتْهُ كَانَتْ الْأُولَى فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لَا أَرَادَ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ أَمْ لَا انْتَهَى . ( تَنْبِيهٌ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ : وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ الْمُحَرَّمُ فَيَجُوزُ لِمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحَجَّةِ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي الْمُحَرَّمِ قَالَهُ مَالِكٌ , قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : ثُمَّ اسْتَثْقَلَهُ مَالِكٌ وَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ لِمَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَنْ لَا يَعْتَمِرَ حَتَّى يَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ أَيْ لَقُرْبِ الزَّمَنِ انْتَهَى . وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَثْقَلَهُ أَيْ اسْتَثْقَلَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحَجَّةِ ثُمَّ يَعْتَمِرُ فِي الْمُحَرَّمِ لَقُرْبِ الزَّمَنِ أَيْ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا وَاحِدَةً , وَإِذَا كَانَ لَا يَفْعَلُ إلَّا وَاحِدَةً فَهَلْ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحَجَّةِ أَوْ الْمُحَرَّمِ ؟ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ لِمَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَنْ لَا يَعْتَمِرَ حَتَّى يَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ فَتَضَمَّنَ كَلَامُ مَالِكٍ الثَّانِي مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا اسْتِثْقَالُ الْإِتْيَانُ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْحَجَّةِ , ثُمَّ أُخْرَى فِي الْمُحَرَّمِ , وَالثَّانِيَةُ اسْتِحْبَابُ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ فِي الْمُحَرَّمِ لِمَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَكَذَلِكَ نَقَلَهَا التَّادَلِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ وَقَالَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فِي الْعُمْرَةِ , الثَّالِثُ هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ تَكُنْ فِي الْمُحَرَّمِ أَوْ لَا ؟ قَالَ مَالِكٌ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُحَرَّمِ ; لِأَنَّ فِعْلَهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْضَلُ لَهُ وَقِيلَ : لَهُ فِعْلُهَا بَعْدَ حَجِّهِ , وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ ذُو الْحَجَّةِ كُلُّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لَا . الرَّابِعُ إذَا اعْتَمَرَ بَعْدَ حَجِّهِ هَلْ لَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ أُخْرَى فِي الْمُحَرَّمِ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ , انْتَهَى . فَقَوْلُهُ : لِقُرْبِ الزَّمَنِ ; تَعْلِيلُ الِاسْتِثْقَالِ فَقَطْ وَأَمَّا اسْتِحْبَابُ كَوْنِهَا فِي الْمُحَرَّمِ فَلْتَكُنْ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى مَا قَالَهُ التَّادَلِيُّ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ الْمُحَرَّمُ إلَخْ أَنَّ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ خِلَافًا هَلْ هُوَ الْمُحَرَّمُ أَوْ ذُو الْحَجَّةِ ؟ إذْ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا فِي كَلَامِ مَالِكٍ وَإِلَّا لَعَلَّلَ اسْتِثْقَالَهُ الْعُمْرَةَ فِي الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ فِي ذِي الْحَجَّةِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ , وَهَذَا إنَّمَا عَلَّلَهُ بِقُرْبِ الزَّمَنِ وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَإِذَا رَاعَيْنَا الْعُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَهَلْ هِيَ مِنْ الْحَجِّ إلَى الْحَجِّ أَوْ مِنْ الْمُحَرَّمِ إلَى الْمُحَرَّمِ ؟ وَاخْتُلِفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ قَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَ(95/7)
أَيَّامِ الرَّمْيِ فِي آخِرِ ذِي الْحَجَّةِ ثُمَّ يَعْتَمِرُ فِي الْمُحَرَّمِ عُمْرَةً أُخْرَى فَيَصِيرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً , ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ لِمَنْ أَقَامَ أَنْ لَا يَعْتَمِرَ بَعْدَ الْحَجِّ حَتَّى يَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ فَعَلَى هَذَا يَعْتَمِرُ قَبْلَ الْحَجِّ وَبَعْدَهُ وَيَكُونُ انْتِهَاءُ الْعُمْرَةِ وَقْتَ فِعْلِ الْحَجِّ , وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ فَلَا يَعْتَمِرُ بَعْدَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ انْتَهَى . وَمَا قَالَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَأَوَّلُ السَّنَةِ الْمُحَرَّمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَرْعٌ ) يُسْتَثْنَى مِنْ كَرَاهَةِ تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ مَنْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ إلَى مَكَّةَ مِنْ مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ ; لِأَنَّهُ إنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ فَقَدْ أَحْرَمَ قَبْلَ وَقْتِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ دَخَلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَرْعٌ ) قَالَ مَالِكٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ الصَّرُورَةَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ انْتَهَى . وَيَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَهُوَ صَرُورَةٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ , وَأَمَّا إذَا قَدَّمَ الصَّرُورَةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ( فَرْعٌ ) قَالَ فِي الطِّرَازِ : وَيَجُوزُ لِمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عُمْرَتِهِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ أُحِبُّ لِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يُقِيمَ لِعُمْرَتِهِ ثَلَاثًا بِمَكَّةَ , وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتَمَرَ لَمْ يُحْطِطْ عَنْ رَاحِلَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : فَرْضُ الْحَجِّ وَسُنَّةُ الْعُمْرَةِ الْمَوْجُودَةُ فِي غَالِبِ النُّسَخِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَرُفِعَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَى النِّيَابَةِ لِلْفَاعِلِ وَنُصِبَ مَرَّةً عَلَى النِّيَابَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِلُ فِيهِ الْعُمْرَةُ وَيُقَدَّرُ مِثْلُهُ لِلْحَجِّ ; لِأَنَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ مَصْدَرَانِ يُقَدَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ وَالْفِعْلِ وَالْمَعْنَى فُرِضَ بِأَنْ يَحُجَّ مَرَّةً وَسُنَّ أَنْ يَعْتَمِرَ مَرَّةً وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ فُرِضَ وَسُنَّتْ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الْفَرْضَ وَالسُّنَّةَ وَقَعَ مِنْ الشَّارِعِ مَرَّةً وَلَا يُفِيدُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ ; لِأَنَّ الْمَفْعُولَ الْمُطْلَقَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ مَرَّةً عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنْ النَّائِبِ عَنْ الْفَاعِلِ وَالْمَعْنَى فُرِضَ الْمَرَّةُ مِنْ الْحَجِّ وَسُنَّةِ الْعُمْرَةُ مِنْ الْعُمْرَةِ وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَرْضُ الْحَجِّ بِفَتْحِ الْفَاء وَسُكُونِ الرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ , وَيُرْفَعُ سُنَّةٌ بِالْعَطْفِ عَلَيْهِ وَيُجَرُّ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ بِالْإِضَافَةِ , وَمَرَّةٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ وَعَلَيْهَا شَرْحُ الْبِسَاطِيِّ . وَيَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ , أَيْ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْحَجِّ مَرَّةٌ , وَالْمُسِنُّونَ مِنْ الْعُمْرَةِ مَرَّةٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَإِنَّمَا أَطَلْت الْكَلَامَ هُنَا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا وَلَمْ يُنَبِّهْ الشَّارِحُ عَلَيْهَا
وفي الفتاوى الهندية :
( الْبَابُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ ) يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الْحَجِّ أَوْ إحْرَامَيْ الْعُمْرَةِ بِدْعَةٌ وَلَكِنْ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَزِمَتَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى , وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى تَلْزَمُهُ إحْدَاهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْضِ إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأُولَى فِي فَصْلِ الْحَجِّ يَقْضِي الثَّانِيَةَ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَفِي فَصْلِ الْعُمْرَةِ يَقْضِي الثَّانِيَةَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ الْعُمْرَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْحَجِّ
وفي سبل السلام :(95/8)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ } قِيلَ : هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِثْمِ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَقِيلَ : الْمَقْبُولُ , وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ يَكُونَ حَالُهُ بَعْدَهُ خَيْرًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَهُ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِرُّ الْحَجِّ ؟ قَالَ : إطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ } وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَلَوْ ثَبَتَ لَتَعَيَّنَ بِهِ التَّفْسِيرُ ( لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) الْعُمْرَةُ لُغَةً الزِّيَارَةُ وَقِيلَ : الْقَصْدُ . وَفِي الشَّرْعِ إحْرَامٌ وَسَعْيٌ وَطَوَافٌ وَحَلْقٌ أَوْ تَقْصِيرٌ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُزَارُ بِهَا الْبَيْتُ وَيُقْصَدُ وَفِي قَوْلِهِ { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ } دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ الْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَحْدِيدَ بِوَقْتٍ ( وَقَالَتْ ) الْمَالِكِيَّةُ يُكْرَهُ فِي السَّنَةِ أَكْثَرُ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْهَا إلَّا مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ وَأَفْعَالُهُ صلى الله عليه وسلم تُحْمَلُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ ( وَأُجِيبَ ) عَنْهُ بِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَسْتَحِبُّ فِعْلَهُ لِيَرْفَعَ الْمَشَقَّةَ عَنْ الْأُمَّةِ وَقَدْ نَدَبَ إلَى ذَلِكَ بِالْقَوْلِ . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ الْأَوْقَاتِ فِي شَرْعِيَّتِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ : إلَّا لِلْمُتَلَبِّسِ بِالْحَجِّ وَقِيلَ إلَّا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقِيلَ : وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَقِيلَ : إلَّا أَشْهُرَ الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مُطْلَقًا وَفِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهَا فِيهَا فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ عُمْرَةَ الْأَرْبَعِ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَإِنْ كَانَتْ الْعُمْرَةُ الرَّابِعَةُ فِي حَجِّهِ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَارِنًا كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَجِلَّةُ .
وفي رد المحتار :
( مَكِّيٌّ ) وَمَنْ بِحُكْمِهِ ( طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَلَوْ شَوْطًا ) أَيْ أَقَلَّ أَشْوَاطِهَا ( فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ رَفَضَهُ ) وُجُوبًا بِالْحَلْقِ لِنَهْيِ الْمَكِّيِّ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ( وَعَلَيْهِ دَمٌ ) لِأَجْلِ ( الرَّفْضِ وَحَجٌّ وَعُمْرَةٌ ) لِأَنَّهُ كَفَائِتِ الْحَجِّ , حَتَّى لَوْ حَجَّ فِي سَنَتِهِ سَقَطَتْ الْعُمْرَةُ , وَلَوْ رَفَضَهَا قَضَاهَا فَقَطْ ( فَلَوْ أَتَمَّهَا صَحَّ ) وَأَسَاءَ ( وَذَبَحَ ) وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ , وَفِي الْآفَاقِيِّ دَمُ شُكْرٍ(95/9)
( قَوْلُهُ مَكِّيٌّ طَافَ لِعُمْرَتِهِ إلَخْ ) شُرُوعٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ إحْرَامَيْنِ , وَهُوَ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ بِمَعْنَاهُ جِنَايَةٌ دُونَ الْآفَاقِيِّ إلَّا فِي إضَافَةِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَبِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ ذَكَرَهُ فِي الْجِنَايَاتِ , وَبِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي جَعَلَ لَهُ فِي الْكَنْزِ بَابًا عَلَى حِدَةٍ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَهُ أَرْبَعَةٌ : إدْخَالُ إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ , وَالْحَجِّ عَلَى مِثْلِهِ , وَالْعُمْرَةِ عَلَى مِثْلِهَا , وَالْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ; قُدِّمَ الْأَوَّلُ لِكَوْنِهِ أَدْخَلَ فِي الْجِنَايَةِ , وَلِذَا لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الدَّمُ بِحَالٍ , ثُمَّ ذَكَرَ الثَّانِيَ مُقَدِّمًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ , ثُمَّ الثَّالِثَ عَلَى الرَّابِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ نَهْرٌ ( قَوْلُهُ وَمَنْ بِحُكْمِهِ ) أَشَارَ إلَى مَا فِي النَّهْرِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكِّيِّ غَيْرُ الْآفَاقِيِّ , فَشَمِلَ كُلَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ مِنْ الْحِلِّيِّ وَالْحَرَمِيِّ فَافْهَمْ , فَالِاحْتِرَازُ بِالْمَكِّيِّ عَنْ الْآفَاقِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَرْفُضُ وَاحِدًا مِنْهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَضَافَ بَعْدَ فِعْلِ الْأَقَلِّ كَانَ قَارِنًا وَإِلَّا فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا مَرَّ نَهْرٌ ( قَوْلُهُ أَيْ أَقَلَّ أَشْوَاطِهَا ) يُفِيدُ أَنَّ الشَّوْطَ لَيْسَ بِقَيْدٍ , وَأَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ لَا كَمَا فِي الْبَحْرِ عَنْ الْمَبْسُوطِ . وَفِي النَّهْرِ عَنْ الْفَتْحِ : وَلَوْ طَافَ الْأَكْثَرَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ , فَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ عَلَيْهِ الدَّمَ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ , وَلَيْسَ لِلْمَكِّيِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا , فَإِذَا صَارَ جَامِعًا مِنْ وَجْهٍ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ . ا هـ . وَفِيهِ أَيْضًا قَيْدٌ بِالْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَطَافَ لَهُ ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ رَفَضَهَا اتِّفَاقًا , وَبِكَوْنِهِ طَافَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَطُفْ رَفَضَهَا أَيْضًا اتِّفَاقًا , وَبِالْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْأَكْثَرِ رَفَضَهُ أَيْ الْحَجَّ اتِّفَاقًا . وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَا يَرْفُضُ وَاحِدًا مِنْهُمَا , وَجَعَلَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ ( قَوْلُهُ رَفَضَهُ ) أَيْ تَرَكَهُ مِنْ بَابِ طَلَبَ وَضَرَبَ كَمَا فِي الْمُغْرِبِ , وَهَذَا : أَيْ رَفْضُ الْحَجِّ أَوْلَى عِنْدَ الْإِمَامِ . وَعِنْدَهُمَا الْأَوْلَى رَفْضُ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا . وَلَهُ أَنَّ إحْرَامَهَا تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا , وَرَفْضُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ وَلِأَنَّ فِي رَفْضِهَا إبْطَالَ الْعَمَلِ وَفِي رَفْضِهِ امْتِنَاعًا عَنْهُ أَفَادَهُ فِي الْبَحْرِ ( قَوْلُهُ وُجُوبًا ) مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْبَحْرِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ مَا مَرَّ , وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ رَفْضَ الْحَجِّ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ ا هـ أَيْ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ رَفْضُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ ( قَوْلُهُ بِالْحَلْقِ ) أَيْ مَثَلًا . قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَلَمْ يَذْكُرْ بِمَاذَا يَكُونُ رَافِضًا , وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّفْضُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَحْلِقَ مَثَلًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَلَا يَكْفِي بِالْقَوْلِ أَوْ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ فِي الْهِدَايَةِ تَحَلُّلًا وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ . ا هـ . قُلْت : وَفِي اللُّبَابِ : كُلُّ مَنْ عَلَيْهِ الرَّفْضُ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الرَّفْضِ إلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّتَيْنِ قَبْلَ فَوَاتِ الْوُقُوفِ أَوْ بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ قَبْلَ السَّعْيِ لِلْأُولَى , فَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ تُرْتَفَضُ إحْدَاهُمَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ رَفْضٍ , لَكِنْ إمَّا بِالسَّيْرِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِ أَحَدِهِمَا ا هـ . فَعُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا فِي الْبَحْرِ وَاللُّبَابِ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مَعَ نِيَّةِ الرَّفْضِ بِهِ , وَمَا قَدَّمْنَاهُ أَوَائِلَ الْجِنَايَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَبِتَرْكِ أَكْثَرِهِ بَقِيَ مُحْرِمًا مِنْ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا نَوَى رَفْضَ الْإِحْرَامِ فَصَنَعَ مَا يَصْنَعُهُ الْحَلَالُ مِنْ لُبْسٍ وَحَلْقٍ وَنَحْوِهِمَا لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَأَنَّ نِيَّةَ الرَّفْضِ بَاطِلَةٌ , فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالرَّفْضِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ هُنَاكَ , وَقُيِّدَ بِكَوْنِ الْحَلْقِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ لِئَلَّا يَكُونَ جِنَايَةً عَلَى إحْرَامِهَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ كَفَائِتِ الْحَجِّ ) وَحُكْمُهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ ط ( قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ حَجَّ ) غَايَةٌ لِلتَّعْلِيلِ الْمُفِيدِ أَنَّهُ قَضَاهُ فِي(95/10)
غَيْرِ عَامِهِ ط ( قَوْلُهُ سَقَطَتْ الْعُمْرَةُ ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ بَلْ كَالْمُحْصَرِ إذَا تَحَلَّلَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ , بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ط وَبَحْرٌ ( قَوْلُهُ وَلَوْ رَفَضَهَا ) أَيْ الْعُمْرَةَ الَّتِي طَافَ لَهَا وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ ( قَوْلُهُ قَضَاهَا ) أَيْ وَلَوْ فِي ذَلِكَ الْعَامِ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْعُمْرَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْحَجِّ , أَفَادَهُ صَاحِبُ الْهِنْدِيَّةِ ط ( قَوْلُهُ فَقَطْ ) أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ أُخْرَى كَمَا فِي الْحَجِّ , وَلَيْسَ مُرَادُهُ نَفْيَ الدَّمِ . لِقَوْلِ الْهِدَايَةِ : وَعَلَيْهِ دَمٌ بِالرَّفْضِ أَيُّهُمَا رَفَضَ . ا هـ . ح ( قَوْلُهُ صَحَّ ) لِأَنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَ نَهْرٌ ( قَوْلُهُ وَأَسَاءَ ) أَيْ مَعَ الْإِثْمِ , لِمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّ الْمَكِّيَّ مَنْهِيٌّ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ , وَقَدَّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْإِسَاءَةَ دُونَ الْكَرَاهَةِ وَفَوْقَهَا وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا فَافْهَمْ ( قَوْلُهُ وَذَبَحَ ) أَيْ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ مِنْ نُسُكِهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَارِنٌ , وَلَوْ أَضَافَ بَعْدَ فِعْلِ الْأَكْثَرِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَمُتَمَتِّعٌ , وَلَا تَمَتُّعَ وَلَا قِرَانَ لِمَكِّيٍّ كَمَا مَرَّ , وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ نَفْيَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لِمَكِّيٍّ مَعْنَاهُ نَفْيُ الْحِلِّ كَمَا مَرَّ نَهْرٌ : أَيْ لَا نَفْيُ الصِّحَّةِ . قُلْت : وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ , وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ تَحْقِيقَ قَوْلٍ ثَالِثٍ , وَهُوَ أَنَّ تَمَتُّعَ الْمَكِّيِّ بَاطِلٌ وَقِرَانَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَذَكَّرْهُ بِالْمُرَاجَعَةِ . ( قَوْلُهُ وَهُوَ دَمُ جَبْرٍ ) لِأَنَّ كُلَّ دَمٍ يَجِبُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ أَوْ الرَّفْضِ , فَهُوَ دَمُ جَبْرٍ وَكَفَّارَةٌ فَلَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا , وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا أَنْ يُطْعِمَهُ غَنِيًّا , بِخِلَافِ دَمِ الشُّكْرِ , شَرْحُ اللُّبَابِ .
وفي الموسوعة الفقهية :
الْمَكَانُ الْأَفْضَلُ لِإِحْرَامِ الْمَكِّيِّ : 30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ الْحِلِّ أَفْضَلُ لِلْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ . فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ التَّنْعِيمِ أَفْضَلُ { ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ } فَهُوَ أَفْضَلُ تَقْدِيمًا لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ عَلَى دَلَالَةِ الْفِعْلِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ يَلِي الْإِحْرَامَ مِنْ التَّنْعِيمِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ : الْإِحْرَامُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ أَفْضَلُ , ثُمَّ مِنْ التَّنْعِيمِ ثُمَّ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ وَأَمَرَ عَائِشَةَ بِالِاعْتِمَارِ مِنْ التَّنْعِيمِ وَبَعْدَ إحْرَامِهِ بِهَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ هَمَّ بِالدُّخُولِ إلَيْهَا مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْهَا } , فَقَدَّمَ الشَّافِعِيُّ مَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ مَا هَمَّ بِهِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ : التَّنْعِيمُ وَالْجِعْرَانَةُ مُتَسَاوِيَانِ , لَا أَفْضَلِيَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ , وَتَوْجِيهُهُ ظَاهِرٌ , وَهُوَ وُرُودُ الْأَثَرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .(95/11)
الْإِكْثَارُ مِنْ الْعُمْرَةِ : 31 - يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الْعُمْرَةِ , وَلَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ) وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله تعالى عنهم وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ رحمهم الله , وَتَدُلُّ لَهُمْ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ الْعُمْرَةِ , وَالْحَثِّ عَلَيْهَا , فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَل تَكْرَارَ الْعُمْرَةِ تَحُثُّ عَلَيْهِ . وَفَصَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ مَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ الْإِكْثَارُ فَقَالَ : قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً , وَكَانَ أَنَسٌ إذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ , وَقَالَ عِكْرِمَةُ : يَعْتَمِرُ إذَا أَمْكَنَ الْمُوسَى مِنْ شَعْرِهِ , وَقَالَ عَطَاءٌ : إنْ شَاءَ اعْتَمَرَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ , وَقَالَ أَحْمَدُ : إذَا اعْتَمَرَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَفِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ يُمْكِنُ حَلْقُ الرَّأْسِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ قَدَرَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَحْبَبْت لَهُ ذَلِكَ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ , وَتُنْدَبُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَرَّةِ لَكِنْ فِي عَامٍ آخَرَ . وَالْمُرَادُ بِالتَّكْرَارِ فِي الْعَامِ السَّنَةُ الْهِجْرِيَّةُ , فَلَوْ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمَّ فِي الْمُحَرَّمِ لَا يُكْرَهُ ; لِأَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ . وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ التَّكْرَارِ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ دُخُولُ مَكَّةَ مِنْ مَوْضِعٍ عَلَيْهِ فِيهِ إحْرَامٌ , كَمَا لَوْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ , فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ ; لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ مَكْرُوهٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُكَرِّرْهَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ جَوَازِ التَّكْرَارِ , بَلْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا بَأْسَ بِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً . وَعَلَى الْمَشْهُور عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ لَوْ أَحْرَمَ بِثَانِيَةٍ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ إجْمَاعًا , قَالَهُ سَنَدٌ وَغَيْرُهُ . وَيَشْمَلُ اسْتِحْبَابُ الْعُمْرَةِ وَاسْتِحْبَابُ تَكْرَارِهَا أَشْهُرَ الْحَجِّ ; لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِيهَا } , وَفِي ذَلِكَ إبْطَالٌ لِزَعْمِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ , بَلْ إنَّ عُمُرَاتِهِ صلى الله عليه وسلم - هِيَ أَرْبَعٌ - كَانَتْ كُلُّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَا ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَ , كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ : عُمْرَةً مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ , وَعُمْرَةً مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنْ جِعْرَانَةَ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ , وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ } . وَدَرْءًا لِمَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ تَعَارُضٍ بَيْنَ هَذَا وَمَا سَبَقَ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ : إنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ بِتَنْصِيصِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ , وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ لِاقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ تَبَتُّلًا , وَأَنْ لَا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ , فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ , وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا , وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا ; لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهَا كَالْقِيَامِ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ , وَمَحَبَّتِهِ لَأَنْ يَسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ كَيْ لَا يَغْلِبَهُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ , { وَلَمْ يَعْتَمِرْ عليه الصلاة والسلام فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً } . وَمَا قَالَهُ الْكَمَالُ يَتَّفِقُ وَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ , مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْقَوْلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى دَلَالَةِ الْفِعْلِ . لَكِنْ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِلْمَكِّيِّ , وَالْمُقِيمِ بِهَا , وَلِأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ , فَيُكْرَهُ لِهَؤُلَاءِ الِاعْتِمَارُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ , فَيُصْبِحُونَ مُتَمَتِّعِينَ , وَيَلْزَمُهُمْ دَمٌ جَزَاءً إنْ فَعَلُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . أَمَّا عِنْدَ(95/12)
الْجُمْهُورِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهُمْ التَّمَتُّعَ , وَيُسْقِطُونَ عَنْهُمْ دَمَ التَّمَتُّعِ أَيْضًا . ( ر : تَمَتُّعٌ ف 11 12 )
وفي المحلى :
832 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ - إمَّا مِنْ أَهْلِهَا , أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِلْإِحْرَامِ بِهَا إلَى الْحِلِّ وَلَا بُدَّ فَيَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْحِلِّ شَاءَ , وَيُهِلُّ بِهَا { فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى التَّنْعِيمِ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ } { وَاعْتَمَرَ عليه السلام مِنْ الْجِعْرَانَةِ } فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ خَاصَّةً - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ . حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ نَا الْفَرَبْرِيُّ نَا الْبُخَارِيُّ نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَنَا أَبُو عَاصِمٍ نَا عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ نَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخَاهَا أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَانْتَظَرَهَا عليه السلام بِأَعْلَى مَكَّةَ حَتَّى جَاءَتْ } .(95/13)
833 - مَسْأَلَةٌ : وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى الْمِيقَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ , أَوْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ , وَالْهَدْيُ إمَّا مِنْ الْإِبِلِ , أَوْ الْبَقَرِ , أَوْ الْغَنَمِ , فَإِنْ كَانَ لَا هَدْيَ مَعَهُ - وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ - فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلَا بُدَّ لَا يَجُوزُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ; فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ; أَوْ بِقِرَانِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ إهْلَالَهُ ذَلِكَ بِعُمْرَةٍ يَحِلُّ إذَا أَتَمَّهَا , لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ ; ثُمَّ إذَا أَحَلَّ مِنْهَا ابْتَدَأَ الْإِهْلَالَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا مِنْ مَكَّةَ وَهَذَا يُسَمَّى : مُتَمَتِّعًا . وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ سَاقَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُشْعِرَ هَدْيَهُ إنْ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ , وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى يُدْمِيَهُ ثُمَّ يُقَلِّدَهُ , وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ نَعْلًا فِي حَبْلٍ وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِ الْهَدْيِ وَإِنْ جَلَّلَهُ بِجَلٍّ فَحَسَنٌ , فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ مِنْ الْغَنَمِ فَلَا إشْعَارَ فِيهِ لَكِنْ يُقَلِّدُهُ رُقْعَةَ جِلْدٍ فِي عُنُقِهِ ; فَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَقَرِ فَلَا إشْعَارَ فِيهِ وَلَا تَقْلِيدَ كَانَتْ لَهُ أَسْنِمَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ . ثُمَّ يَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ مَعًا , لَا يُجْزِئُهُ إلَّا ذَلِكَ وَلَا بُدَّ ; وَإِنْ قَالَ : لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ; أَوْ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا , أَوْ حَجَّةً وَعُمْرَةً ; أَوْ نَوَى كُلَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ , وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ ; وَهَذَا يُسَمَّى : الْقِرَانَ . وَمَنْ سَاقَ مِنْ الْمُعْتَمِرِينَ الْهَدْيَ فَعَلَ فِيهِ مِنْ الْإِشْعَارِ , وَالتَّقْلِيدِ مَا ذَكَرْنَا ; وَنُحِبُّ لَهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَشْتَرِطَ فَيَقُولَ عِنْدَ إهْلَالِهِ : اللَّهُمَّ إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي , فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَأَصَابَهُ أَمْرٌ مَا يَعُوقُهُ عَنْ تَمَامِ مَا خَرَجَ لَهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَحَلَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ; لَا هَدْيَ وَلَا قَضَاءَ إلَّا إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ وَلَا اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتَهُ . بُرْهَانُ مَا ذَكَرْنَا - : مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ , أَوْ عُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ , قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ , وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ; وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَهَذَا أَوَّلُ أَمْرِهِ عليه السلام بِذِي الْحُلَيْفَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ الْإِهْلَالَ بِلَا شَكٍّ , إذْ هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ - : نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ نَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ نَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ نَا ابْنُ نُمَيْرٍ نَا أَبُو نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ - نَا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ قَالَ : ( قَدِمْت مَكَّة مُتَمَتِّعًا بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ النَّاسُ : تَصِيرُ حَجَّتُك الْآنَ مَكِّيَّةً ) فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَقَالَ : حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ , وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ , وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّذِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً } . وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ نَا إسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ - عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ { : حَتَّى إذَا كَانَ آخِرَ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ , قَالَ عليه السلام : لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً(95/14)
فِي الْأُخْرَى وَقَالَ : دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ , لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ } . نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ نَا الْفَرَبْرِيُّ نَا الْبُخَارِيُّ نَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا وُهَيْبٍ هُوَ ابْنُ خَالِدٍ - نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ - عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ - الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى الصُّبْحِ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا , فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ } . نَا حُمَامُ بْنُ أَحْمَدَ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ نَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ نَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ نَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ نَا عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا مَالِكٌ , وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ , ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ بُرْهَانُ كُلِّ مَا قُلْنَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ - : فَفِي الْأَوَّلِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ وَلَا هَدْيَ مَعَهُ بِأَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَا بُدَّ , ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا . وَفِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ قَارِنًا وَلَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَا بُدَّ ; ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَيَصِيرُ أَيْضًا مُتَمَتِّعًا . وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي الَّذِي مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ عُمُومًا بِأَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ , وَأَنَّ هَذَا هُوَ آخِرُ أَمْرِهِ عَلَى الصَّفَا بِمَكَّةَ ; وَأَنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ مَعَهُ , وَتَأَسَّفَ إذْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ , وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ( هُوَ ) بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَا كَانَ هَكَذَا فَقَدْ أَمِنَّا أَنْ يُنْسَخَ أَبَدًا ; وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَدْ أَجَازَ الْكَذِبَ عَلَى خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا تَعَمُّدُهُ كُفْرٌ مُجَرَّدٌ ; وَفِيهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ - وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِعُمْرَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لَهُ يَكُونُ بِهَا مُتَمَتِّعًا أَوْ بِعُمْرَةٍ مَقْرُونَةٍ مَعَهُ وَلَا مَزِيدَ . وَفِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَقْرُنَ بَيْنَ الْحَجِّ , وَالْعُمْرَةِ - : وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَمُجَاهِدٌ , وَعَطَاءٌ , وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَغَيْرُهُ - : نَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ نَا أَبُو إسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ نَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنِي يُونُسُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ - عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَا طَافَ رَجُلٌ بِالْبَيْتِ إنْ كَانَ حَاجًّا إلَّا حَلَّ بِعُمْرَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ , وَلَا طَافَ وَمَعَهُ هَدْيٌ إلَّا اجْتَمَعَتْ لَهُ : حَجَّةٌ , وَعُمْرَةٌ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ نَا إسْحَاقُ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ - أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ وَلَا غَيْرُ حَاجٍّ إلَّا حَلَّ . فَقُلْت لِعَطَاءٍ : مِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } . قُلْت : فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ ؟ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : هُوَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ . وَكَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ - وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ(95/15)
يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ - وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ مَا تَمَّتْ حَجَّةُ رَجُلٍ قَطُّ إلَّا بِمُتْعَةٍ إلَّا رَجُلٌ اعْتَمَرَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ - : نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ نَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ - عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { : قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ : بِمَ أَهْلَلْتَ ؟ قُلْتُ : أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ ؟ قُلْتُ : لَا , قَالَ : طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ , فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي وَغَسَلَتْ رَأْسِي } فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ , وَإِمَارَةِ عُمَرَ ; فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ ؟ قُلْتُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ فَأَتَمُّوا بِهِ , فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا ( هَذَا ) الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ ؟ قَالَ : إنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا أَبُو مُوسَى قَدْ أَفْتَى بِمَا قُلْنَا مُدَّةَ إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ رضي الله عنهما , وَلَيْسَ تَوَقُّفُهُ لِمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَوَقَّفَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَسْبُنَا قَوْلُهُ لِعُمَرَ مَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ ؟ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُمَرُ . وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَلَا إتْمَامَ لَهُمَا إلَّا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ , وَأُمِرَ بِبَيَانِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمَّا كَوْنُهُ عليه السلام لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ حَفْصَةُ رضي الله عنها رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانَ فِعْلِهِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ { حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟ قَالَ : إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَلِيٌّ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ الْأَشْعَرِيُّ نَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ نَا حَجَّاجٌ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ - نَا يُونُسُ يَعْنِي أَبَا إسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ - عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْبَرَاءِ هُوَ ابْنُ عَازِبٍ - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ , لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ , وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ } . فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ رَأْيٍ رَآهُ عُمَرُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ رُجُوعُهُ عَنْهُ ; وَقَدْ خَالَفُوهُ فِيهِ أَيْضًا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي كِتَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلْيَسُقْ هَدْيَهُ مَعَهُ - : نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ نَا ابْنُ مُفَرِّجٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ نَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ - قَالَ : حَجَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَحَجَجْت مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ فَقَالَ : يَا أَبَا سَعِيدٍ إنِّي رَجُلٌ بَعِيدُ الشُّقَّةِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَإِنِّي قَدِمْت مُهِلًّا بِالْحَجِّ ؟ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ : اجْعَلْهَا عُمْرَةً وَأَحِلَّ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ عَلَى الْحَسَنِ وَشَاعَ قَوْلُهُ بِمَكَّةَ فَأَتَى عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : صَدَقَ الشَّيْخُ , وَلَكِنَّا نَفْرُقُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ :(95/16)
لَيْسَ إنْكَارُ أَهْلِ الْجَهْلِ حُجَّةً عَلَى سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : مَنْ أَهَلَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ لَهُ مُتْعَةٌ بِالْحَجِّ خَالِصًا أَوْ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَهِيَ مُتْعَةُ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ ؟ } فَقَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يُفْرِدُ الْحَجَّ وَيَذْبَحُ فَقَدْ دَخَلَتْ لَهُ عُمْرَةٌ فِي الْحَجِّ فَوَجَبَتَا لَهُ جَمِيعًا . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ : أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ : مَنْ جَاءَ حَاجًّا فَأَهْدَى هَدْيًا فَلَهُ عُمْرَةٌ مَعَ حَجَّةٍ . وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ نَا خُصَيْفٌ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَالَ خُصَيْفٌ : وَكُنْت مَعَ مُجَاهِدٍ فَأَتَاهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُلَيْمٍ وَقَدْ خَرَجَ حَاجًّا فَسَأَلَ مُجَاهِدًا ؟ فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدٌ : اجْعَلْهَا عُمْرَةً , فَقَالَ : هَذَا أَوَّلُ مَا حَجَجْت فَلَا تُشَايِعُنِي نَفْسِي فَأَيُّ ذَلِكَ تَرَى أَتَمَّ ؟ أَنْ أَمْكُثَ كَمَا أَنَا أَوْ أَجْعَلَهَا عُمْرَةً ؟ قَالَ خُصَيْفٌ : فَقُلْت لَهُ : أَظُنُّ هَذَا أَتَمَّ لِحَجِّك أَنْ تَمْكُثَ كَمَا أَنْتَ ؟ فَرَفَعَ مُجَاهِدٌ تَبِنَةً مِنْ الْأَرْضِ وَقَالَ : مَا هُوَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا , وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ . وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِإِبَاحَةِ فَسْخِ الْحَجِّ لَا بِإِيجَابِهِ - وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ . قَالَ عَلِيٌّ : رَوَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا هَدْيَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ وَيَحِلَّ بِأَوْكَدِ أَمْرٍ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ , وَعَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ , وَحَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ( كَذَلِكَ ) , وَفَاطِمَةُ بِنْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم , وَعَلِيٌّ , وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ , وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ , وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , وَأَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ , وَابْنُ عُمَرَ , وَسَبْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ , وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ , وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ , وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم ; وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ مِنْ التَّابِعِينَ ; وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ عَنْ هَذَا . وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ كُلَّ هَذَا بِاعْتِرَاضَاتٍ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ; مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ , وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ; وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ , فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ , وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ } . وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ , وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ ذَكَرَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَحَلَّ } فَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ : قَالَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ , ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ , ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ , ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْته أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ ( بِالْبَيْتِ ) , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ , ثُمَّ مُعَاوِيَةُ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ , ثُمَّ حَجَجْت مَعَ الزُّبَيْرِ أَبِي فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ , ثُمَّ رَأَيْت الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ , ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى ( مَا ) كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ , وَقَدْ رَأَيْت أُمِّي , وَخَالَتِي تَقْدُمَانِ لَا تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا(95/17)
تَحِلَّانِ , وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ قَطُّ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا , وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ " . وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرْت أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ , أَوْ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَلَمْ يَحْلِلْ حَتَّى قَضَى مَنَاسِكَ الْحَجِّ , وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ حَجًّا " . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : حَدِيثُ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ , وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْهَا مُنْكَرَانِ , وَخَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . نَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ السَّقَطِيُّ نَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخُتَّلِيُّ نَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْجَوْهَرِيُّ السُّدَّانِيُّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَثْرَمُ نَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا فَقَالَ أَحْمَدُ : إيشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْعَجَبِ ؟ هَذَا خَطَأٌ , قَالَ الْأَثْرَمُ : فَقُلْت لَهُ : الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِخِلَافِهِ ؟ قَالَ أَحْمَدُ : نَعَمْ , وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَلِأَبِي الْأَسْوَدِ الْمَذْكُورِ حَدِيثٌ آخَرُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا خَفَاءَ بِفَسَادِهِ , وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ نَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا , وَنَحْنُ يَوْمئِذٍ خِفَافٌ قَلِيلٌ ظَهْرُنَا قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا فَاعْتَمَرْت أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ , وَالزُّبَيْرُ , وَفُلَانٌ , وَفُلَانٌ ; فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ . قَالَ عَلِيٌّ : وَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ ; لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمْ تَعْتَمِرْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَبْلَ الْحَجِّ أَصْلًا ; لِأَنَّهَا دَخَلَتْ - وَهِيَ حَائِضٌ - حَاضَتْ بِسَرَفٍ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ إلَّا بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ يَوْمَ النَّحْرِ هَذَا أَمْرٌ فِي شُهْرَةِ الشَّمْسِ ; وَلِذَلِكَ رَغِبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْمُرَهَا بَعْدَ الْحَجِّ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَرَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ : عُرْوَةُ , وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَطَاوُسٌ , وَمُجَاهِدٌ , وَالْأَسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ . وَبَلِيَّةٌ أُخْرَى فِي هَذَا الْخَبَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ فِيهِ : ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ , وَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ , لِأَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ; وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ , وَابْنَ عَبَّاسٍ , كُلَّهُمْ رَوَوْا : أَنَّ الْإِحْلَالَ كَانَ يَوْمَ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ إهْلَالَهُمْ بِالْحَجِّ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ - وَهُوَ يَوْمُ مِنًى - وَبَيْنَ يَوْمِ إحْلَالِهِمْ يَوْمَ إهْلَالِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ , وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كُتُبِنَا وَذَكَرَهَا النَّاسُ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ فِي الْمُسْنَدِ ; فَظَهَرَ عَوَارُ رِوَايَةِ أَبِي الْأَسْوَدِ .(95/18)
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا هَدْيَ لَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ } وَأَنَّهُمْ فَسَخُوهُ , وَلَا يُعْدَلُ أَبُو الْأَسْوَدِ بِالزُّهْرِيِّ - : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ - عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ { : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - وَيُقَصِّرُ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ } ; قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ : إنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ ( عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ مَنْ لَا يُذْكَرُ مَعَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ وَهُمْ : الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ; وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ , وَذَكْوَانُ مَوْلَاهَا وَكَانَ يَؤُمُّهَا , وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَخَصُّ بِعَائِشَةَ وَأَعْلَمُ وَأَضْبَطُ وَأَوْثَقُ مِنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - : رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغَيْلَانِيُّ نَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ الْعَقَدِيُّ نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ : وَفِيهِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ : اجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَأَحَلَّ النَّاسُ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ , فَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَذَوِي الْيَسَارَةِ ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا } . وَيَكْفِي مِنْ كُلِّ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الثَّلَاثَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ , وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَةٌ لَا مُسْنَدَةٌ , وَلَا حُجَّةَ فِي مَوْقُوفٍ فَكَيْفَ إذَا رَوَى بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافَ ذَلِكَ ؟ وَأَسْلَمُ الْوُجُوهِ لِحَدِيثَيْ أَبِي الْأَسْوَدِ , وَحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا : إنَّ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِحَجٍّ , أَوْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ لَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ إنَّمَا كَانُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ أَضَافَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ كَمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَتَخْرُجُ حِينَئِذٍ هَذِهِ الْأَخْبَارُ سَالِمَةً لِأَنَّ مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ عَنْهَا فِيهِ زِيَادَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو الْأَسْوَدِ , وَلَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ كَانَ مَا رَوَيَا مُسْنَدًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ مُسْنَدًا ؟ وَنَحْمِلُ حَدِيثَ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ فِي حَجِّ أَبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُوقُونَ الْهَدْيَ فَتَتَّفِقُ الْأَخْبَارُ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِنَهْيِ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ عَنْ ذَلِكَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ نَهْيُهُمَا رضي الله عنهما حُجَّةً فَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا النَّهْيُ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ , وَهُمْ يُخَالِفُونَهُمَا فِي ذَلِكَ - : نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ نَا ابْنُ مُفَرِّجٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ نَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ , وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ هُشَيْمٌ : أَنَا خَالِدُ هُوَ الْحَذَّاءُ - وَقَالَ حَمَّادٌ : عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ثُمَّ اتَّفَقَ أَيُّوبُ , وَخَالِدٌ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُنْهِي عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ عَلَيْهِمَا ; هَذَا لَفْظُ أَيُّوبَ ; وَفِي رِوَايَةِ خَالِدٍ : أَنَا أُنْهِي عَنْهُمَا , وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا : مُتْعَةُ النِّسَاء , وَمُتْعَةُ الْحَجِّ . وَبِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا هُشَيْمٌ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ عُثْمَانَ(95/19)
نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ - يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ - وَبِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ نَبِيهٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَمِعَ رَجُلًا يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَقَالَ : عَلَيَّ بِالْمُهِلِّ ; فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهُمْ يُخَالِفُونَهُمَا وَيُجِيزُونَ الْمُتْعَةَ حَتَّى أَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ , فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ نَهْيَ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ حُجَّةً وَلَمْ يَجْعَلْ نَهْيَهُمَا عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَضَرْبَهُمَا عَلَيْهَا حُجَّةً إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ فَإِنْ قَالُوا : قَدْ أَبَاحَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ ؟ قُلْنَا : وَقَدْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْحَجِّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ وَلَا فَرْقَ - : وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ نَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ نَا الْفِرْيَابِيُّ نَا أَبَانُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ , إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّ لَنَا الْمُتْعَةَ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْنَا . وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ عُثْمَانَ : كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لَنَا لَيْسَتْ لَكُمْ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : هَذَا كُلُّهُ خَالَفَهُ الْحَنَفِيُّونَ , وَالْمَالِكِيُّونَ , وَالشَّافِعِيُّونَ , لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبَاحَةِ مُتْعَةِ الْحَجِّ - وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ بِلَا شَكٍّ , لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الرُّجُوعُ إلَى الْقَوْلِ بِهَا فِي الْحَجِّ ; وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِهَذَا الْخَبَرِ إنْ كَانَ مَحْمُولًا عِنْدَهُمْ عَلَى مُتْعَةِ الْحَجِّ . رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : لَوْ اعْتَمَرْت فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ حَجَجْت لَجَعَلْت مَعَ حَجَّتِي عُمْرَةً . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِهِ - وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمُرَقَّعِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنَا خَاصَّةً . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ سُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا عُمْرَةً : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً إنَّمَا كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ إنَّ مُتْعَةَ الْحَجِّ خَاصَّةً لَهُمْ حُجَّةٌ فَلَيْسَ قَوْلُهُ : إنَّ فَسْخَ الْحَجِّ خَاصَّةً لَهُمْ حُجَّةٌ ; لَا سِيَّمَا وَذَلِكَ الْإِسْنَادُ عَنْهُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ ; وَهَذِهِ الْأَسَانِيدُ عَنْهُ وَاهِيَةٌ ; لِأَنَّهَا عَنْ الْمُرَقَّعِ , وَسُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمٍ , وَهُمَا مَجْهُولَانِ . وَعَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَأَبُو مُوسَى ؟ فَلَمْ يَرَيَا ذَلِكَ خَاصَّةً . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ أَنَّهَا خَاصَّةٌ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ إلَّا بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ ; لِأَنَّ أَوَامِرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لُزُومِ الْإِنْسِ , وَالْجِنِّ , الطَّاعَةُ لَهَا وَالْعَمَلُ بِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ ؟ قُلْنَا : فَيَجِبُ عَلَى هَذَا مَتَى وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقُولُ فِي آيَةٍ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ أَنْ يُقَالَ بِقَوْلِهِ ; وَأَقَرَّ بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ : إنَّهَا خَاصَّةٌ , وَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ الرَّأْيِ { عَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا ؟ قَالَ : لَكُمْ خَاصَّةً } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ مَجْهُولٌ وَلَمْ يُخَرِّجْ أَحَدٌ هَذَا الْخَبَرَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ ; وَقَدْ صَحَّ خِلَافُهُ بِيَقِينٍ ; كَمَا أَوْرَدْنَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذْ أَمَرَهُمْ(95/20)
بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ } .
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ - نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَعَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا جَمِيعًا : { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يُهِلُّونَ بِالْحَجِّ لَا يَخْلِطُهُ شَيْءٌ ; فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً , وَأَنْ نَحِلَّ إلَى نِسَائِنَا فَفَشَتْ فِي ذَلِكَ الْقَالَةُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا وَاَللَّهِ لَأَنَا أَبَرُّ وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُمْ , وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ , وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ ؟ فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ لَنَا أَوْ لِلْأَبَدِ ؟ قَالَ : لَا بَلْ لِلْأَبَدِ } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَكَذَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَابِرٍ - : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : فَبَطَلَ التَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ وَأُمِنَ [ مِنْ ] ذَلِكَ أَبَدًا , وَوَاللَّهِ إنَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ ثُمَّ عَارَضَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلَامِ أَحَدٍ وَلَوْ أَنَّهُ كَلَامُ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ , وَعَائِشَةَ , وَأَبَوَيْهِمَا رضي الله عنهم لَهَالِكٌ ; فَكَيْفَ بِأُكْذُوبَاتٍ كَنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي هُوَ أَوْهَنُ الْبُيُوتِ ؟ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ , وَالْمُرَقَّعِ , وَسُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمٍ الَّذِينَ لَا يُدْرَى مَنْ هُمْ فِي الْخَلْقِ , وَمُوسَى الرَّبَذِيِّ , وَكَفَاك وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِقَوْلِهِ عليه السلام { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ دُونَ مَا بَيَّنَهُ جَابِرٌ , وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ إنْكَارِهِ عليه السلام أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ لَهُمْ خَاصَّةً أَوْ لِعَامِهِمْ دُونَ ذَلِكَ , وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَامَّةٍ , وَهِيَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَبَرَ الثَّابِتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ ؟ قَالَ : الْحِلُّ كُلُّهُ " فَقَالَ قَائِلُهُمْ : إنَّمَا أَمَرَهُمْ عليه السلام بِذَلِكَ لِيُوقِفَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَوْلًا وَعَمَلًا . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ ; أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ لِيُعَلِّمَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : هَبْكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَبِحَقِّ أَمْرٍ أَمْ بِبَاطِلٍ ؟ فَإِنْ قَالُوا : بِبَاطِلٍ كَفَرُوا , وَإِنْ قَالُوا : بِحَقٍّ ؟ قُلْنَا : فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ عليه السلام بِذَلِكَ لِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ قَدْ صَارَ حَقًّا وَاجِبًا , ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا الْهَوَسُ الَّذِي قَالُوهُ فَلِأَيِّ مَعْنًى كَانَ يَخُصُّ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ دُونَ مَنْ سَاقَ ؟ وَأَطَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ هَذَا الْجَاهِلَ الْقَائِلَ بِذَلِكَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ بِهِمْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ قَبْلَ الْفَتْحِ , ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْفَتْحِ , ثُمَّ قَالَ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ : مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ , وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ , وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَفْعَلْ ; فَفَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ , فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ أَبَلَغَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم مِنْ الْبَلَادَةِ , وَالْبَلَهِ , وَالْجَهْلِ أَنْ لَا يَعْرِفُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ جَائِزَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؟ وَقَدْ عَمِلُوهَا مَعَهُ عليه السلام عَامًا بَعْدَ عَامٍ بَعْدَ عَامٍ [ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ] حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ لِيَعْلَمُوا جَوَازَ ذَلِكَ , تَاللَّهِ إنَّ الْحَمِيرَ لِتُمَيِّزَ الطَّرِيقَ مِنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا ; فَكَمْ هَذَا الْإِقْدَامُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى مُدَافَعَةِ(95/21)
السُّنَنِ الثَّابِتَةِ فِي نَصْرِ التَّقْلِيدِ ؟ مَرَّةً بِالْكَذِبِ الْمَفْضُوحِ , وَمَرَّةً بِالْحَمَاقَةِ الْمَشْهُورَةِ , وَمَرَّةً بِالْغَثَاثَةِ وَالْبَرْدِ - حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى السَّلَامَةِ . وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ بِالْحَجِّ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا } . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : كُلُّ مُسْلِمٍ فَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ هَذَا إلَّا بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا أَصْلًا ; وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ وَحْيَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُتْرَكُ بِشَكٍّ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَشُكُّ , فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الشَّكَّ مِنْ قِبَلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ لَا مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِهِ عليه السلام لَكَانَ ذَلِكَ إذْ كَانَ الْإِفْرَادُ مُبَاحًا , ثُمَّ نُسِخَ بِأَمْرِهِ عليه السلام مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِالْمُتْعَةِ وَلَا بُدَّ , وَمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِالْقِرَانِ وَلَا بُدَّ . قَالَ عَلِيٌّ : فَظَهَرَ الْحَقُّ وَاضِحًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَقَالَ مَالِكٌ : الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ , وَوَافَقَنَا هُوَ وَالشَّافِعِيُّ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا , وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَلِمَنْ لَمْ يَسُقْهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً : الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ , وَمَرَّةً قَالَ : التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ , وَمَرَّةً قَالَ : الْقِرَانُ أَفْضَلُ ; وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَائِزٌ كَمَا ذَكَرْنَا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ : الْقِرَانُ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْإِفْرَادُ , وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَلِمَنْ لَمْ يَسُقْهُ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا الْإِشْعَارُ : فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعٍ نَا قَالَ : نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا مِنْ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ } وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ . وَبِهِ إلَى عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ نَا وَكِيعٌ حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ بُدْنَهُ } . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ نَا الْفَرَبْرِيُّ نَا الْبُخَارِيُّ نَا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ - نَا عَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ - نَا الْأَعْمَشُ نَا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : كُنْت أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ , وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ , وَمَنْصُورٍ , كُلِّهِمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَلَمْ يَأْتِ فِي الْبَقَرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا , وَرُوِّينَا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا بِأَنْ يَقْسِمَ لُحُومَ الْبُدْنِ وَجَلَّالِهَا ; فَصَحَّ التَّجْلِيلُ فِيهَا . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مِسْهَرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَا هَدْيَ إلَّا مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنْ شِئْت فَأَشْعِرْ , وَإِنْ شِئْت فَلَا تُشْعِرْ , وَإِنْ شِئْت فَقَلِّدْ , وَإِنْ شِئْت فَلَا تُقَلِّدْ . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي إشْعَارِ الْبَدَنَةِ ؟ فَقَالَتْ : إنْ شِئْت , إنَّمَا تُشْعِرُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا بَدَنَةٌ . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ(95/22)
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُشْعِرُ فِي الشِّقِّ الْأَيْمَنِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ . وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : تُشْعِرُهَا مِنْ الْأَيْمَنِ - وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا أَفْلَحُ هُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ - قَالَ : رَأَيْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ; وَأَبِي سُلَيْمَانَ ; وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : رَأَيْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلْغَنَمِ تُسَاقُ مَعَهَا هَدْيًا . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت الْغَنَمَ يُؤْتَى بِهَا مُقَلَّدَةً . وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ بُرْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : رَأَيْت نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسُوقُونَ الْغَنَمَ مُقَلَّدَةً . وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : رَأَيْت الْكِبَاشَ تُقَلَّدُ ; وَعَنْ وَكِيعٍ عَنْ بَسَّامٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ : رَأَيْت الْكِبَاشَ تُقَلَّدُ - وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَأَيْت الْغَنَمَ تُقَلَّدُ . وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ : رَأَيْت الْغَنَمَ تَقْدُمُ مَكَّةَ مُقَلَّدَةً . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْرَهُ الْإِشْعَارَ , وَهُوَ مُثْلَةٌ - قَالَ عَلِيٌّ : هَذِهِ طَامَّةٌ مِنْ طَوَامِّ الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُفٍّ لِكُلِّ عَقْلٍ يَتَعَقَّبُ - حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَلْزَمُهُ أَنْ تَكُونَ الْحِجَامَةُ , وَفَتْحُ الْعِرْقِ : مِثْلَهُ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ , وَأَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مِنْ قَطْعِ الْأَنْفِ , وَقَلْعِ الْأَسْنَانِ , وَجَدْعِ الْأُذُنَيْنِ : مُثْلَةٌ ; وَأَنْ يَكُونَ قَطْعُ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ : مُثْلَةً ; وَالرَّجْمُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ : مُثْلَةً , وَالصَّلْبُ لِلْمُحَارِبِ : مُثْلَةً , إنَّمَا الْمُثْلَةُ فِعْلُ مَنْ بَلَّغَ نَفْسَهُ مَبْلَغَ انْتِقَادِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَثَّلَ بِنَفْسِهِ ; وَالْإِشْعَارُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ قَبْلَ قِيَامِ ذَلِكَ بِأَعْوَامٍ ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ مُثْلَةً وَهَذِهِ قَوْلَةٌ : لَا يُعْلَمُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا مُتَقَدِّمٌ مِنْ السَّلَفِ , وَلَا مُوَافِقٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ عَصْرِهِ إلَّا مَنْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِتَقْلِيدِهِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلَاءِ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , وَمَالِكٌ : يُشْعِرُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قَالُوا : قَدْ رَوَيْتُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَتْ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ أَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَإِذَا كَانَتْ بَدَنَتَيْنِ قَلَّدَ إحْدَاهُمَا فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ , وَالْأُخْرَى فِي الْأَيْسَرِ . وَعَنْ مُجَاهِدٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الْإِشْعَارَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ ؟ قُلْنَا : هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ; وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ هُوَ قَوْلُكُمْ , وَسَالِمٌ ابْنُهُ أَوْثَقُ وَأَجَلُّ وَأَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَافِعٍ رَوَى عَنْهُ الْإِشْعَارَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ كَمَا أَوْرَدْنَا , وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِابْنِ عُمَرَ فِي فِعْلٍ قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِيهِ فَمَرَّةً عَلَيْهِمْ وَمَرَّةً لَيْسَ لَهُمْ , وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا قَوْلَهُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ لَا هَدْيَ إلَّا مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ , وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرْنَا . فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَمْ تَقُولُوا أَنْتُمْ : بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ هَدْيًا إلَّا مَا أَشْعَرَ ؟ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْتُمْ آنِفًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأُشْعِرَ فِي سَنَامِهَا } ؟ قُلْنَا : لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمْرٌ بِالْإِشْعَارِ , وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَقُلْنَا بِإِيجَابِهِ مُسَارِعِينَ , وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا فَأُدْنِيَتْ إلَيْهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ عليه السلام تَوَلَّى بِيَدِهِ إشْعَارَهَا , بِذَلِكَ صَحَّ الْأَثَرُ عَنْهُ(95/23)
عليه السلام كَمَا ذَكَرْنَا . وَرُوِّينَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , وَابْنِ عُمَرَ إشْعَارَ الْبَقَرِ فِي أَسْنِمَتِهَا . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : الشَّاةُ لَا تُقَلَّدُ . وَلَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ كَمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي الْهَدْيِ , فَمِنْ الْبَاطِلِ احْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِ . وَرُوِّينَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : الْإِبِلُ تُقَلَّدُ , وَتُشْعَرُ , وَالْغَنَمُ لَا تُقَلَّدُ , وَلَا تُشْعَرُ , وَالْبَقَرُ تُقَلَّدُ , وَلَا تُشْعَرُ - وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : لَا - تُقَلَّدُ الْغَنَمُ - وَرَأَى مَالِكٌ إشْعَارَ الْبَقَرِ إنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ . قَالَ عَلِيٌّ : وَهَذَا خَطَأٌ وَمَقْلُوبٌ ; بَلْ الْإِبِلُ : تُقَلَّدُ , وَتُشْعَرُ ; وَالْبَقَرُ : لَا تُقَلَّدُ , وَلَا تُشْعَرُ , وَالْغَنَمُ : تُقَلَّدُ , وَلَا تُشْعَرُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقَلَّدُ إلَّا هَدْيُ الْمُتْعَةِ , وَالْقِرَانِ , وَالتَّطَوُّعِ مِنْ الْإِبِلِ , وَالْبَقَرِ فَقَطْ : وَلَا يُقَلَّدُ : هَدْيُ الْإِحْصَارِ , وَلَا الْجِمَاعِ , وَلَا جَزَاءِ الصَّيْدِ . وَقَالَ مَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ : يُقَلَّدُ كُلُّ هَدْيٍ وَيُشْعَرُ ; وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . قَالَ عَلِيٌّ : وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَعْمَاهُ الْهَوَى وَأَصَمَّهُ : إنَّمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ هَدْيِ الْغَنَمِ مُقَلَّدَةً ; إنَّمَا هُوَ أَنَّهَا فَتَلَتْ قَلَائِدَ الْهَدْيِ مِنْ الْغَنَمِ - أَيْ مِنْ صُوفِ الْغَنَمِ - : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : وَهَذَا اسْتِسْهَالٌ لِلْكَذِبِ الْبَحْتِ وَخِلَافٌ لِمَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْهَا مِنْ إهْدَائِهِ عليه السلام الْغَنَمَ مُقَلَّدَةً - وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ الْخِذْلَانِ .
وفي المغني :(95/24)
( 2266 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَأَهْلُ مَكَّةَ إذَا أَرَادُوا الْعُمْرَةَ , فَمِنْ الْحِلِّ , وَإِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ , فَمِنْ مَكَّةَ ) أَهْلُ مَكَّةَ , مَنْ كَانَ بِهَا , سَوَاءٌ كَانَ مُقِيمًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مُقِيمٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى عَلَى مِيقَاتٍ كَانَ مِيقَاتًا لَهُ , فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَهِيَ مِيقَاتُهُ لِلْحَجِّ ; وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ فَمِنْ الْحِلِّ . لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا . وَلِذَلِكَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَكَانَتْ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ , وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا } يَعْنِي لِلْحَجِّ . وَقَالَ أَيْضًا : ( وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ دُونَ الْمِيقَاتِ فَمِنْ حَيْثُ يُنْشِئُ , حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ) . وَهَذَا فِي الْحَجِّ . فَأَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُهَا فِي حَقِّهِمْ الْحِلُّ , مِنْ أَيِّ جَوَانِبِ الْحَرَمِ شَاءَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِعْمَارِ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ , وَهُوَ أَدْنَى الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : بَلَغَنِي { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ } . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ , مَنْ أَتَى مِنْكُمْ الْعُمْرَةَ , فَلْيَجْعَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَطْنَ مُحَسِّرٍ . يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ بِهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْمُزْدَلِفَةِ . وَإِنَّمَا لَزِمَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ , لِيَجْمَع فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ , فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ , لَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِيهِ , لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ كُلَّهَا فِي الْحَرَمِ , بِخِلَافِ الْحَجِّ , فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَةَ , فَيَجْتَمِعُ لَهُ الْحِلُّ وَالْحَرَمُ , وَالْعُمْرَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَمِنْ أَيِّ الْحِلِّ أَحْرَمَ جَازَ . وَإِنَّمَا أَعْمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ ; لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ , فِي الْمَكِّيِّ , كُلَّمَا تَبَاعَدَ فِي الْعُمْرَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ , هِيَ عَلَى قَدْرِ تَعَبِهَا . وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الْمَكِّيُّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ , فَمِنْ مَكَّةَ ; لِلْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا , وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَسَخُوا الْحَجَّ , أَمَرَهُمْ فَأَحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ . قَالَ جَابِرٌ : { أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَلْنَا , أَنْ نُحْرِمَ إذَا تَوَجَّهْنَا مِنْ الْأَبْطَحِ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَاطِنِي مَكَّةَ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بِهَا , كَالْمُتَمَتِّعِ إذَا حَلَّ , وَمَنْ فَسَخَ حَجَّهُ بِهَا . وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , أَنَّهُ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ , فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ , فَعَلَيْهِ دَمٌ . وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا ; لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ , وَلَا يَسْقُطُ إذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ . وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَكِّيِّ , أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمُ مُتْعَةٍ بِحَالٍ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } . وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ , ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَهُ لِنَفْسِهِ , أَوْ دَخَلَ يَحُجُّ لِنَفْسِهِ , ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ , أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ , ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِغَيْرِهِ , أَوْ دَخَلَ بِعُمْرَةٍ لَغَيْرِهِ , ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ لِنَفْسِهِ , أَنَّهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ , فَيُحْرِمُ مِنْهُ , فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ , فَعَلَيْهِ دَمٌ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ : إذَا اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ , ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ لِنَفْسِهِ , يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ , أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ , يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ , وَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ , ثُمَّ أَرَادَ الْحَجَّ , يَخْرُجُ إلَى الْمِيقَاتِ . وَاحْتَجَّ لَهُ الْقَاضِي , بِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ , غَيْرَ مُحْرِمٍ لِنَفْسِهِ , فَلَزِمَهُ دَمٌ إذَا أَحْرَمَ دُونَهُ , كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ . وَعَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ عَنْ شَخْصٍ وَاعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ , أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ إنْسَانٍ ثُمَّ حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ عَنْ آخَرَ , فَكَذَلِكَ . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ فِي هَذَا(95/25)
كُلِّهِ ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَالْقَاطِنِ بِهَا , وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَكَّةَ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ , فَأَشْبَهَ الْمَكِّيَّ . وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي تَحَكُّمٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ خَبَرٌ , وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَثَرٌ , وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا , أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَرِيدًا لِلنُّسُكِ عَنْ نَفْسِهِ حَالَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ , فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدُو لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ . الثَّانِي , أَنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ . الثَّالِثُ , أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِهَذَا الْخُرُوجُ إلَى الْمِيقَاتِ , لَلَزِمَ الْمُتَمَتِّعَ وَالْمُفْرِدَ ; لِأَنَّهُمَا تَجَاوَزَا الْمِيقَاتَ , مُرِيدَيْنِ لِغَيْرِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَا بِهِ . الرَّابِعُ , أَنَّ الْمَعْنَى فِي الَّذِي يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ , أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِعْلُهُ , وَتَرَكَ الْإِحْرَامَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ , فَأَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ .(95/26)
السُّنَن الرّواتب *
التّعريف :
1 - السّنّة لغةً : المنهج والطّريقة سواء أكانت محمودةً أم مذمومةً . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنّةً سيّئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء » .
ثمّ غلب استعمال السّنّة في الطّريقة المحمودة المستقيمة .
وتعريف السّنّة اصطلاحاً سيأتي في بحث ( سنّة ) .
أمّا الرّواتب فهو جمع راتبة من رتب الشّيء رتوباً ، أي : استقرّ ودام فهو راتب ، وسمّيت السّنن الرّواتب بذلك لمشروعيّة المواظبة عليها .
قال الشّافعيّة : السّنن الرّواتب هي : السّنن التّابعة لغيرها ، أو الّتي تتوقّف على غيرها أو على ما له وقت معيّن كالعيدين والضّحى والتّراويح .
ويطلقها الفقهاء على الصّلوات المسنونة قبل الفرائض وبعدها ، لأنّها لا يشرع أداؤها وحدها بدون تلك الفرائض . ولم يقصر الشّافعيّة السّنن الرّواتب على الصّلاة فقد صرّحوا بأنّ للصّوم سنناً رواتب كصيام ستّ من شوّال .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - سنن الزّوائد :
2 - هي الّتي تكون إقامتها حسنةً ولا يتعلّق بتركها كراهة ولا إساءة ، كأذان المنفرد والسّواك .
ب - النّوافل :
3 - النّوافل جمع نافلة ، والنّافلة لغةً : ما زاد على النّصيب المقدّر ، أو الحقّ أو الفرض ، أو ما يعطيه الإمام للمجاهد زيادةً عن سهمه .
والنّافلة أعمّ من السّنّة ، لأنّها تنقسم : إلى معيّنة ، ومنها السّنن الرّواتب ، ومطلقة كصلاة اللّيل .
الحكم التّكليفيّ لأداء السّنن الرّواتب :
4 - يرى جمهور الفقهاء استحباب المواظبة على السّنن الرّواتب .
وذهب مالك في المشهور عنه : إلى أنّه لا توقيت في ذلك حمايةً للفرائض ، لكن لا يمنع من تطوّع بما شاء إذا أمن ذلك .
وصرّح الحنفيّة : أنّ تارك السّنن الرّواتب يستوجب إساءةً وكراهيةً . وفسّر ابن عابدين استيجاب الإساءة بالتّضليل واللّوم . وقال صاحب كشف الأسرار : الإساءة دون الكراهة . وقال ابن نجيم : الإساءة أفحش من الكراهة . وفي التّلويح : ترك السّنّة المؤكّدة قريب من الحرام .
وقال الحنابلة بكراهة ترك الرّواتب بلا عذر . هذا في الحضر .
وفي السّفر يرى جمهور الفقهاء: استحباب صلاة السّنن الرّواتب أيضاً لكنّها في الحضر آكد. واستدلّوا بأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي النّوافل على راحلته في السّفر حيث توجّهت به » . وبحديث « أبي قتادة أنّهم كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفر فناموا عن صلاة الصّبح حتّى طلعت الشّمس ، فساروا حتّى ارتفعت الشّمس ، ثمّ نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتوضّأ ، ثمّ أذّن بلال بالصّلاة فصلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثمّ صلّى الغداة فصنع كما كان يصنع كلّ يوم » .
وجوّز بعض الحنفيّة للمسافر ترك السّنن ، والمختار عندهم أنّه لا يأتي بها في حال الخوف ، ويأتي بها في حال القرار والأمن .
وعند الحنابلة يخيّر المسافر بين فعل الرّواتب ، وتركها إلاّ في سنّة الفجر والوتر فيحافظ عليهما سفراً وحضراً .
وقالت طائفة : لا يصلّي الرّواتب في السّفر وهو مذهب ابن عمر ثبت عنه في الصّحيحين ، قال حفص بن عاصم : « صحبت ابن عمر في طريق مكّة فصلّى لنا الظّهر ركعتين ثمّ أقبل وأقبلنا معه حتّى جاء رحله وجلس وجلسنا معه فحانت منه التفاتة نحو حيث صلّى ، فرأى ناساً قياماً فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ قلت : يسبّحون . قال : لو كنت مسبّحاً لأتممت صلاتي ، يا ابن أخي : إنّي صحبت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في السّفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين ، حتّى قبضه اللّه ، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه اللّه، وقد قال اللّه تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } » .
هذا وقال بعض الفقهاء : بسقوط عدالة المواظب على ترك السّنن الرّواتب في غير السّفر . ينظر تفصيل المسألة في مصطلح ( عدالة ) .
عدد ركعات السّنن الرّواتب :
5 - قال الشّافعيّة والحنابلة : عدد ركعات السّنن الرّواتب عشر ركعات وهو أدنى الكمال عند الشّافعيّة ، ركعتان قبل الظّهر وركعتان بعدها ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، وركعتان قبل الفجر . لقول عائشة - رضي الله عنها - : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي في بيته قبل الظّهر أربعاً ، ثمّ يخرج فيصلّي بالنّاس ثمّ يدخل فيصلّي ركعتين ، وكان يصلّي بالنّاس المغرب ثمّ يدخل فيصلّي ركعتين ، ويصلّي بالنّاس العشاء ويدخل بيتي فيصلّي ركعتين » .
وقال الشّافعيّة : الأكمل في الرّواتب غير الوتر ثماني عشرة ركعةً ، ركعتان قبل الفجر ، وأربع قبل الظّهر ، وثنتان بعدها ، وأربع قبل العصر ، وثنتان بعد المغرب ، وأربع قبل العشاء وثنتان بعدها .
وعدّد كلّ من الشّافعيّة والحنابلة الوتر من السّنن الرّواتب .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : أفضل الرّواتب الوتر ، وركعتا الفجر ، وأفضلهما الوتر على الجديد الصّحيح عند الشّافعيّة ، وفي وجه هما سواء وتأتي بعد ذلك عند الحنابلة سنّة المغرب .
قالت عائشة - رضي الله عنها - : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النّوافل أشدّ منه تعاهداً على ركعتي الفجر » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تدعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل » .(96/1)
وقال الحنفيّة : عدد ركعات السّنن الرّواتب اثنتا عشرة ركعةً ، ركعتان قبل الفجر ، وأربع قبل الظّهر بتسليمة واحدة ، وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم . « من ثابر على ثنتي عشرة ركعةً في السّنّة بنى اللّه له بيتًا في الجنّة ، أربع ركعات قبل الظّهر ، وركعتين بعدها ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر » .
ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ زيادةً على السّنن الرّواتب : أربع قبل العصر ، وأربع قبل العشاء وأربع بعدها ، منها ركعتان مؤكّدتان وستّ بعد المغرب .
وقال المالكيّة : لا تحديد لعدد ركعات السّنن الرّواتب ، فيكفي في تحصيل النّدب ركعتان في كلّ وقت ، وإن كان الأولى أربع ركعات إلاّ المغرب فستّ ركعات ، فيصلّي قبل الظّهر وبعدها، وقبل العصر ، وبعد المغرب ، وبعد العشاء . وسنّة الفجر رغيبة - أي مرغّب فيها - ووقتها بعد طلوع الفجر .
سنّة الجمعة :
6 - قال الحنفيّة والشّافعيّة : تسنّ الصّلاة قبل الجمعة وبعدها ، فعند الحنفيّة : سنّة الجمعة القبليّة أربع ، والسّنّة البعديّة أربع كذلك ، وقال الشّافعيّة : أقلّ السّنّة ركعتان قبلها وركعتان بعدها ، والأكمل أربع قبلها وأربع بعدها .
لقوله صلى الله عليه وسلم : « من كان منكم مصلّياً بعد الجمعة فليصلّ أربعاً » .
وقال المالكيّة والحنابلة : يصلّي قبلها دون التّقيّد بعدد معيّن ، على أنّ أكثر من قال بصلاة السّنّة يوم الجمعة حملها على تحيّة المسجد ، ومن كره صلاة السّنّة يوم الجمعة كرهها لأنّها توافق وقت الاستواء غالباً ، لكن لو تقدّمت أو تأخّرت بعد ذلك فلا شيء فيها .
الوتر هل هو سنّة راتبة أو واجب ؟
7 - قال المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، والصّاحبان ورواية ثالثة عن أبي حنيفة : الوتر سنّة مؤكّدة . وصرّح الشّافعيّة بعدّ الوتر من السّنن الرّواتب . قال الخطيب الشّربينيّ : الوتر قسم من الرّواتب كما في الرّوضة على المعتمد ،وقيل : هو قسيم لها ، والوتر أفضل السّنن. وقال جمهور الفقهاء ما عدا الحنفيّة : أقلّه ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعةً .
وأقلّ الكمال فيه عند الحنفيّة ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في الأوقات كلّها ، وأكثره إحدى عشرة ركعةً يقنت في الرّكعة الأخيرة .
وذهب أبو حنيفة في الرّاجح عنه إلى أنّ الوتر واجب . وقال زُفَر وهو رواية ثانية عند أبي حنيفة هو فرض . والتّفصيل في ( صلاة الوتر ) .
قيام رمضان :
8 - أورد الشّافعيّة في السّنن الرّواتب قيام رمضان ، « فقد سنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيام رمضان » .
وذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ قيام رمضان سنّة مؤكّدة وهو عشرون ركعةً تؤدّى بعد سنّة العشاء ، وتعتبر من الرّواتب لأنّها تؤدّى بعد الفريضة ، يسلّم على رأس كلّ ركعتين ، ويتروّح كلّ أربع ركعات بجلسة خفيفة يذكر فيها اللّه تعالى ،ثمّ تصلّى الوتر جماعةً بعد ذلك. وذكر بعض المالكيّة : أنّ قيام رمضان ستّ وثلاثون ركعةً يسلّم كلّ ركعتين ، ويسنّ لها الجماعة ، كما كان عليه الحال في خلافة عمر بن عبد العزيز .
وينظر التّفصيل في ( صلاة التّراويح ) .
وقت السّنن الرّواتب :
9 - السّنن الرّواتب مقترنة بالفرائض ، فمنها ما يصلّى قبل الفريضة ، مثل سنّة الفجر وسنّة الظّهر القبليّة ، ومنها ما يصلّى بعد الفريضة مثل سنّة الظّهر البعديّة ، وسنّة المغرب والعشاء ، والوتر وقيام رمضان .
وقد ذكر ابن دقيق العيد تفسيراً لطيفاً في تقديم النّوافل على الفرائض وتأخيرها عنها فقال : " أمّا في التّقديم فلأنّ النّفوس لاشتغالها بأسباب الدّنيا بعيدة عن حالة الخشوع والحضور الّتي هي روح العبادة ، فإذا قدّمت النّوافل على الفرائض أنست النّفس بالعبادة ، وتكيّفت بحالة تقرب من الخشوع ، وأمّا في تأخيرها عنها ، فقد ورد « أنّ النّوافل جابرة لنقص الفرائض » ، فإذا وقع الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الّذي يقع فيه . ولكن لا ينوي فيه نيّة الجبر " .
وما كان من هذه السّنن قبل الفريضة فوقتها يبدأ من دخول وقت الفريضة وينتهي بإقامة الصّلاة إذا كانت تؤدّى في جماعة ، لأنّه إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة ، حيث إنّ الفرائض تقدّم على النّوافل دائماً عند التّعارض ، إلاّ إذا أيقن المرء أنّ بإمكانه أداء النّافلة ، وإدراك الجماعة مع الإمام فلا بأس عندئذ من أدائها ، أمّا إذا كان المرء يؤدّي الصّلاة منفرداً فوقت السّنّة يستمرّ حتّى يشرع في الفريضة .
والأولى للمرء إذا أقيمت الصّلاة الدّخول مع الإمام في الفريضة ، وتدرك النّافلة بعد الانتهاء من الفريضة ، ويظهر هذا في كلّ من سنّة الفجر وسنّة الظّهر القبليّة .
أمّا السّنن البعديّة : مثل سنّة الظّهر البعديّة والمغرب والعشاء ، فوقت كلّ منها من بعد الانتهاء من الفريضة إلى خروج وقت المكتوبة ودخول وقت الأخرى ، فإذا خرج الوقت ولم يؤدّ السّنن البعديّة فإنّها تعتبر فائتةً .
ومثل ذلك يقال في سنّة الجمعة البعديّة ، وأمّا صلاة الوتر فوقتها يبدأ من بعد الانتهاء من سنّة العشاء البعديّة ، ويستمرّ حتّى قبيل أذان الفجر ، وإن كان الأفضل تأخيرها إلى ثلث اللّيل الأخير .
وأمّا صلاة التّراويح فوقتها يبدأ من بعد الانتهاء من سنّة العشاء ، ويستمرّ إلى قبيل الفجر بالقدر الّذي يسع صلاة الوتر بعدها ، ويفضّل أن لا يؤخّرها إذا كان في التّأخير فوات الجماعة ، إذ من السّنّة أن تصلّى في جماعة كما مرّ آنفاً ، وبعد الانتهاء منها تصلّى الوتر في جماعة في رمضان فقط . وتكره الجماعة للوتر في غيره .(96/2)
ما يستحبّ وما يكره في السّنن الرّواتب :
أ - القراءة في السّنن الرّواتب :
10 - ذهب الجمهور المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة : إلى أنّه تسنّ القراءة في النّفل والوتر . والقراءة المرادة هنا هي ضمّ سورة إلى الفاتحة ، ومن السّنّة تخفيف القراءة في سنّة الفجر ، لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها سورة الكافرون والإخلاص ، وأطال القراءة في صلاة الفجر » .
ولحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي ركعتي الفجر مخفّفةً حتّى أنّي لأقول : هل قرأ فيهما بأمّ القرآن ؟ » .
ويستحبّ الإسرار بالقراءة إذا كانت النّافلة نهاراً اعتباراً بصلاة النّهار ، ويتخيّر بين الجهر والإسرار في الصّلاة اللّيليّة إذا كان منفرداً ، والجهر أفضل بشرط أن لا يشوّش على غيره ، أمّا إذا كانت النّافلة أو الوتر تؤدّى جماعةً فيجهر بها الإمام ليسمع من خلفه ، ويتوسّط المنفرد بالجهر .
وذهب الحنفيّة : إلى أنّ القراءة واجبة في جميع ركعات النّفل والوتر ، لأنّ كلّ شفع منه يعتبر صلاةً على حدة ، والقيام إلى الثّالثة كتحريمة مبتدأة . وأمّا الوتر فللاحتياط .
ب - فعلها في البيت :
11 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ الأفضل أداء النّوافل في البيت ، وهناك قول عند الحنابلة : إنّ أداء الرّواتب في المسجد أفضل . وذلك اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم فقد روت عائشة - رضي الله عنها - « أنّه صلى الله عليه وسلم : كان يصلّي في بيته قبل الظّهر أربعاً ، ثمّ يخرج فيصلّي بالنّاس ، ثمّ يدخل فيصلّي ركعتين ، وكان يصلّي بالنّاس المغرب ، ثمّ يدخل فيصلّي ركعتين ، ثمّ يصلّي بالنّاس العشاء ويدخل بيتي فيصلّي ركعتين ». ولا فرق في ذلك بين مساجد الأمصار المختلفة ، والمساجد الّتي تشدّ إليها الرّحال : وهي المسجد الحرام ، والمسجد النّبويّ ، والمسجد الأقصى ، وإن كان الأجر يتضاعف في هذه المساجد . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلاّ في المكتوبة » .
وذهب الحنفيّة : إلى أنّ الأفضل أداء عامّة السّنن والنّوافل في البيت ، إلاّ أن يخشى أن يتشاغل عنها إذا رجع .
ويجوز أداء النّوافل في المسجد ، سواء كانت راتبةً أم غير راتبة ، والأفضل أداؤها في المسجد إذا كانت تؤدّى في جماعة كما في صلاة التّراويح والوتر بعدها ، وذلك حتّى يدرك المرء فضل الجماعة .
وفي قول عند الحنفيّة ورواية عند الحنابلة : التّسوية بين أدائها في المسجد وفي البيت .
ج - صلاة الرّواتب في جماعة أو فرادى :
12 - قال الحنفيّة : تكره الجماعة في صلاة النّوافل .
وقال المالكيّة كذلك : تكره الجماعة في النّوافل ، لأنّ شأن النّفل الانفراد به ، كما تكره صلاة النّفل في جمع قليل بمكان مشتهر بين النّاس ، وإن لم تكن الجماعة كثيرةً والمكان مشتهراً فلا تكره .
وقال الشّافعيّة : تستحبّ الجماعة في التّراويح والوتر في رمضان ، ولا يستحبّ فعل سائر الرّواتب جماعةً .
وقال الحنابلة : يجوز التّطوّع جماعةً ومنفرداً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين كليهما ، وكان أكثر تطوّعه منفرداً ، وصلّى بابن عبّاس مرّةً ، وبأنس وأمّه واليتيم مرّةً وأمّ أصحابه في بيت عتبان مرّةً ، فعن عتبان بن مالك - رضي الله عنه - « أنّه قال : يا رسول اللّه إنّ السّيول لتحول بيني وبين مسجد قومي ، فأحبّ أن تأتيني فتصلّي في مكان من بيتي أتّخذه مسجداً ، فقال : سنفعل ، فلمّا دخل قال : أين تريد ؟ فأشرت إلى ناحية من البيت ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه ، فصلّى بنا ركعتين » .
وكره جمهور الفقهاء ترك السّنن الرّواتب خاصّةً بلا عذر ، أمّا إذا كان عذر فلا بأس بتركها. وبعض هذه الرّواتب آكد من بعض كسنة الفجر والمغرب والوتر وسنّة الظّهر ، وهي في حقّ المنفرد آكد لافتقاره إلى تكميل الثّواب الّذي فاته بترك الجماعة .
صلاة الرّواتب في السّفر :
13 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة : إلى أنّه يستحبّ أداء النّوافل في السّفر ، لأنّها مكمّلات للفرائض ولمداومته صلى الله عليه وسلم على فعلها في جميع أحواله وأسفاره ، وصلاته لها أحياناً راكباً ، ومن ذلك« صلاته الضّحى يوم الفتح ، وصلاته سنّة الفجر ليلة التّعريس». ولعموم الأحاديث الواردة في الحثّ على فعل الرّواتب عموماً ، والأمر بعد ذلك متروك للمكلّف وهمّته وورعه .
قال الحنابلة : يكره ترك السّنن الرّواتب إلاّ في السّفر فيخيّر بين فعلها وتركها إلاّ الفجر والوتر فيفعلان في السّفر كالحضر لتأكّدهما .
حكم قضائها إذا فاتت :
14 - قال الحنفيّة : السّنن الرّواتب عموماً إذا فاتت فإنّها لا تقضى ، إلاّ سنّة الفجر إذا فاتت مع الفريضة فإنّها تقضى معها بعد ارتفاع الشّمس ، أمّا إذا فاتته وحدها فلا يقضيها قبل طلوع الشّمس ، لأنّها من مطلق النّفل ، وهو مكروه بعد الصّبح إلى أن ترتفع الشّمس ، ولم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلم أدّاهما في غير وقتهما على الانفراد ، « وإنّما قضاهما تبعاً للفرض غداة ليلة التّعريس » .
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يقضيهما بعد ارتفاعها، وعند محمّد بن الحسن أنّه يقضيهما إلى وقت الزّوال لفعله صلى الله عليه وسلم حيث قضاهما بعد ارتفاع الشّمس غداة ليلة التّعريس ، وليلة التّعريس كانت حين قفل النّبيّ صلى الله عليه وسلم راجعاً من غزوة خيبر .(96/3)
وأمّا سنّة الظّهر القبليّة إذا فاتت فإنّها تؤدّى بعد الفرض ، وقد اختلف في تقديمها على السّنّة البعديّة وتأخيرها عنها ، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يؤدّيهما بعد السّنّة البعديّة ، وعند محمّد يؤدّيهما قبل السّنّة البعديّة .
وأمّا بقيّة السّنن الرّواتب إذا فاتت مع فرائضها ، فقد اختلف فيها فقهاء الحنفيّة ، فقال بعضهم : لا تقضى تبعاً كما لا تقضى قصداً وهو الأصحّ .
وقال البعض الآخر : تقضى تبعاً للفرض بناءً على جعل الوارد في قضاء سنّة الفجر وارداً في غيرها من السّنن الفائتة مع فرائضها إلغاءً لخصوص المحلّ .
وقد استدلّ أبو حنيفة وأبو يوسف على عدم قضاء سنّة الفجر إذا فاتت وحدها : بأنّ السّنّة عموماً لا تقضى لاختصاص القضاء بالواجب ، لأنّ القضاء تسليم مثل ما وجب بالأمر . والحديث ورد في قضائها تبعاً للفرض ، فبقي ما وراءه على الأصل ، وإنّما تقضى تبعاً له . وهو لا يصلّي بالجماعة أو وحده إلى وقت الزّوال .
وبالحديث الّذي روته أمّ سلمة - رضي الله عنها - قالت : « صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم العصر ، ثمّ دخل بيتي فصلّى ركعتين ، فقلت : يا رسول اللّه صلّيت صلاةً لم تكن تصلّيها ؟ فقال : قدم عليّ مال فشغلني عن الرّكعتين كنت أركعهما بعد الظّهر ، فصلّيتهما الآن فقلت : يا رسول اللّه ، أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ فقال : لا » .
وقال المالكيّة : لا يقضي من النّوافل إلاّ سنّة الفجر فقط ، سواء كانت مع صلاة الصّبح أم لا، ونقل عن بعضهم القول بحرمة قضاء النّوافل ما عدا سنّة الفجر .
وقال الشّافعيّة في الأظهر من المذهب : يستحبّ قضاء النّوافل المؤقّتة ، ومقابل الأظهر أنّ السّنن المؤقّتة لا تقضى إذا فاتت ، لأنّها نوافل ، فهي تشبه النّوافل غير المؤقّتة ، وهذه لا تقضى إذا فاتت . وفي قول ثالث للشّافعيّة : إن لم يتبع النّفل المؤقّت غيره كالضّحى قضي لشبهه بالفرض في الاستقلال ، وإن تبع غيره كالرّواتب فلا تقضى .
واستدلّوا للأظهر بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « من نسي صلاةً أو نام عنها فكفّارتها أن يصلّيها إذا ذكرها » « ولقضائه صلى الله عليه وسلم سنّة الفجر ليلة التّعريس » . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « من نام عن وتره أو نسيه فليصلّه إذا ذكره » .
وبحديث أمّ سلمة السّابق .
وقال الحنابلة : تقضى السّنن الرّواتب الفائتة مع الفرائض إذا كانت قليلةً ، فإذا كانت كثيرةً فالأولى تركها ، إلاّ سنّة الفجر فإنّها تقضى ولو كثرت .
واحتجّوا لأولويّة ترك ما كثر « بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق » ، لم ينقل عنه أنّه صلّى بين الفرائض المقضيّة ، ولأنّ الاشتغال بالفرض أولى .
قال الحنابلة : للزّوجة ، والأجير ولو خاصّاً فعل السّنن الرّواتب مع الفرض لأنّها تابعة له ولا يجوز منعهما من السّنن لأنّ زمنها مستثنىً شرعاً كالفرائض .(96/4)
الصّلاة الوسطى *
التّعريف :
1 - تعريف الصّلاة : انظر : صلاة . والوسطى مؤنّث الأوسط ، وأوسط الشّيء ما بين طرفيه ، وهو من أوسط قومه : من خيارهم ، « وفي صفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أنّه من أوسط قومه » ، أي خيارهم ، والوسط : وسط الشّيء ، ما بين طرفيه ، والمعتدل من كلّ شيء ، والعدل ، والخير ، يوصف به المفرد وغيره ، وفي التّنزيل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } ، أي خياراً عدولاً .
تحديد الصّلاة الوسطى :
اختلف الفقهاء في تحديد الصّلاة الوسطى الوارد ذكرها في قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } وذلك على الوجه الآتي :
2 - قيل : إنّها صلاة الصّبح ، وهذا قول مالك وهو المشهور في مذهبه ، وهو قول الشّافعيّ ، نصّ عليه في الأمّ وغيره ، ونقل الواحديّ هذا القول عن عمر ومعاذ بن جبل وابن عبّاس وابن عمر وجابر - رضي الله تعالى عنهم - وعطاء ومجاهد والرّبيع بن أنس - رحمهم اللّه تعالى - وهو قول علماء المدينة .
ومستند هؤلاء : أنّ صلاة الصّبح قبلها صلاتا ليل يجهر فيهما ، وبعدها صلاتا نهار يسرّ فيهما ؛ ولأنّ وقتها يدخل والنّاس نيام ، والقيام إليها شاقّ في زمن البرد لشدّة البرد ، وفي زمن الصّيف لقصر اللّيل ، فخصّت بالمحافظة عليها ، حتّى لا يتغافل عنها بالنّوم . ويستدلّون على ذلك بقوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } فقرنها بالقنوت ، ولا قنوت إلاّ في الصّبح ، قال أبو رجاء : صلّى بنا ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - صلاة الغداة بالبصرة فقنت فيها قبل الرّكوع ، ورفع يديه ، فلمّا فرغ قال : هذه الصّلاة الوسطى الّتي أمرنا اللّه تعالى أن نقوم فيها قانتين . والقنوت لغةً : يطلق على طول القيام وعلى الدّعاء ، فعن جابر بن عبد اللّه - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أفضل الصّلاة طول القنوت » .
وقال أبو إسحاق الزّجّاج : المشهور في اللّغة والاستعمال أنّ القنوت : العبادة والدّعاء للّه تعالى في حال القيام ، قال الواحديّ : فتظهر الدّلالة للشّافعيّ : أنّ الوسطى الصّبح ؛ لأنّه لا فرض يكون فيه الدّعاء قائماً غيرها .
3 - وقيل : إنّها العصر لأنّها بين صلاتين من صلاة اللّيل ، وصلاتين من صلاة النّهار ، وهو مذهب الحنفيّة والحنابلة وهو قول ابن حبيب من المالكيّة . واختاره ابن العربيّ في قبسه ، وابن عطيّة في تفسيره وقال : وعلى هذا القول الجمهور من النّاس وبه أقول ، ونقله الواحديّ عن عليّ وابن مسعود وأبي هريرة - رضي الله تعالى عنهم - والنّخعيّ والحسن وقتادة والضّحّاك والكلبيّ ومقاتل ، ونقله ابن المنذر عن أبي أيّوب الأنصاريّ وأبي سعيد الخدريّ ، وابن عمر وابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهم - وعبيدة السّلمانيّ - رحمه الله تعالى - ونقله التّرمذيّ عن أكثر العلماء من الصّحابة وغيرهم .
والدّليل على أنّها صلاة العصر ما روي عن عليّ - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ اللّه بيوتهم وقبورهم نارًا » .
وعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صلاة الوسطى صلاة العصر » . ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الّذي تفوته صلاة العصر كأنّما وتر أهله وماله » . وقال : « من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله » .
وقال : « إنّ هذه الصّلاة عرضت على من كان قبلكم فضيّعوها ، فمن حافظ عليها كان له أجره مرّتين، ولا صلاة بعدها حتّى يطلع الشّاهد ، يعني النّجم » .
وقال النّوويّ في المجموع : الّذي تقتضيه الأحاديث الصّحيحة : إنّ الصّلاة الوسطى هي العصر ، وهو المختار . ثمّ قال : قال صاحب الحاوي : نصّ الشّافعيّ أنّها الصّبح ، وصحّت الأحاديث أنّها العصر ، ومذهبه اتّباع الحديث ، فصار مذهبه أنّها العصر ، قال : ولا يكون في المسألة قولان ، كما وهم بعض أصحابنا .
4 - وقيل : إنّها الصّبح والعصر معاً ، قاله الشّيخ أبو بكر الأبهريّ من المالكيّة واختاره ابن أبي جمرة ، والدّليل على ذلك قوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } يعني صلاة الفجر والعصر . وروى جرير بن عبد اللّه قال : « كنّا جلوساً عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : أمّا إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا ، لا تضامون . في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ، يعني العصر والفجر فافعلوا ، ثمّ قرأ جرير : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } » وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنّهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثمّ يعرج الّذين باتوا فيكم ، فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون » .
وروى عمارة بن رؤيبة قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لن يلج النّار أحد صلّى قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ، يعني الفجر والعصر » وعنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من صلّى البردين دخل الجنّة » وسمّيتا البردين لأنّهما يفعلان في وقت البرد .(97/1)
5- وقيل : إنّ الصّلاة الوسطى صلاة العتمة والصّبح ، قال الدّمياطيّ : ذكره ابن مقسم في تفسيره . وقال أبو الدّرداء - رضي الله عنه - في مرضه الّذي مات فيه : اسمعوا وبلّغوا من خلفكم : حافظوا على هاتين الصّلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصّبح ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم وركبكم . وقاله عمر وعثمان - رضي الله تعالى عنهما - وورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ليس صلاةً أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً » .
وجعل لمصلّي الصّبح في جماعة قيام ليلة ، والعتمة نصف ليلة ، حيث قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل ، ومن صلّى الصّبح في جماعة فكأنّما صلّى اللّيل كلّه » .
6- وقيل : هي الظّهر ؛ لأنّها وسط النّهار ، والنّهار أوّله من طلوع الفجر ، وممّن قال إنّ الظّهر هي الصّلاة الوسطى : زيد بن ثابت ، وأبو سعيد الخدريّ ، وأسامة بن زيد ، وعبد اللّه بن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - ونقله ابن المنذر عن عبد اللّه بن شدّاد .
وممّا يدلّ على أنّها وسطى : ما قالته عائشة وحفصة حين أملتا : " حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر " بالواو ، وروي : أنّها كانت أشقّ على المسلمين لأنّها كانت تجيء في الهاجرة وهم قد نفهتهم أعمالهم في أموالهم ، وورد عن زيد بن ثابت قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي الظّهر بالهاجرة ، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منها ، فنزلت : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } » .
7- وقيل : إنّها المغرب قال بذلك قبيصة بن ذؤيب في جماعة ، وابن قتيبة وقتادة ؛ لأنّ الأولى هي الظّهر ، فتكون المغرب الثّالثة ، والثّالثة من كلّ خمس هي الوسطى ؛ ولأنّها وسطى في عدد الرّكعات ووسطى في الأوقات ، فعدد ركعاتها ثلاث فهي وسطى بين الأربع والاثنين ووقتها في آخر النّهار وأوّل اللّيل ، خصّت من بين الصّلاة بأنّها الوتر ، واللّه وتر يحبّ الوتر ، وبأنّها تصلّى في أوّل وقتها في جميع الأمصار والأعصار ، ويكره تأخيرها عنه، وكذلك صلّاها جبريل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد ، ولذلك ذهب بعض الأئمّة إلى أنّها ليس لها إلاّ وقت واحد ، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تزال أمّتي بخير - أو قال : على الفطرة - ما لم يؤخّروا المغرب إلى أن تشتبك النّجوم » وروي من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ أفضل الصّلوات عند اللّه صلاة المغرب لم يحطّها عن مسافر ولا مقيم ، فتح اللّه بها صلاة اللّيل وختم بها صلاة النّهار فمن صلّى المغرب وصلّى بعدها ركعتين بنى اللّه له قصراً في الجنّة ومن صلّى بعدها أربع ركعات غفر اللّه له ذنب عشرين سنةً - أو قال - أربعين سنةً » .
8- وقيل : إنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة العشاء ؛ لأنّها بين صلاتين لا تقصران ، ويستحبّ تأخيرها ، وذلك شاقّ ، فوقع التّأكيد في المحافظة عليها .
وممّن ذكر أنّ الصّلاة الوسطى هي العشاء أحمد بن عليّ النّيسابوريّ . وروى ابن عمر قال: « مكثنا ليلةً ننتظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث اللّيل أو بعده . فقال : إنّكم لتنتظرون صلاةً ما ينتظرها أهل دين غيركم ، ولولا أن يثقل على أمّتي لصلّيت بهم هذه السّاعة » وقال : « ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً » .
9- وقيل : إنّ الصّلاة الوسطى غير معيّنة ، فهي مبهمة في الصّلوات الخمس ليجتهد في الجميع كما في ليلة القدر والسّاعة الّتي في يوم الجمعة ، قاله الرّبيع بن خيثم ، وحكي عن ابن المسيّب ، وقاله نافع عن ابن عمر ، فخبّأها اللّه تعالى . كما خبّأ ليلة القدر ، وساعة يوم الجمعة ، وساعات اللّيل المستجاب فيها الدّعاء ليقوموا باللّيل في الظّلمات لمناجاة عالم الخفيّات وممّا يدلّ على صحّة أنّها مبهمة غير معيّنة ما ورد عن البراء بن عازب قال : « نزلت هذه الآية : ( حافظوا على الصّلوات وصلاة العصر ) ، فقرأناها ما شاء اللّه ثمّ نسخها اللّه فنزلت { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } ، فقال رجل : هي إذن صلاة العصر؟ فقال البراء : قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها اللّه » فلزم من هذا أنّها بعد أن عيّنت نسخ تعيينها وأبهمت فارتفع التّعيين ، وهذا اختيار مسلم . وقال به غير واحد من العلماء المتأخّرين ، قال القرطبيّ : وهو - أي إبهامها وعدم تعيينها - الصّحيح إن شاء اللّه تعالى لتعارض الأدلّة وعدم التّرجيح ، فلم يبق إلاّ المحافظة على جميعها ، وأداؤها في أوقاتها .
10 - وقيل : إنّها صلاة الجمعة ، حكاه الماورديّ في تفسيره ؛ لأنّ الجمعة خصّت بالجمع لها والخطبة فيها ، جعلت عيداً ذكره ابن حبيب ومكّيّ ، وورد عن عبد اللّه بن مسعود « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلّفون عن الجمعة : لقد هممت أن آمر رجلاً يصلّي بالنّاس ثمّ أحرّق على رجال يتخلّفون عن الجمعة بيوتهم » .
11 - وقيل : إنّها الصّلوات الخمس بجملتها ، ذكره النّقّاش في تفسيره ، وقاله معاذ بن جبل لأنّ قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } ، يعمّ الفرض والنّفل ، ثمّ خصّ الفرض بالذّكر .
وقد ذكر الحطّاب أقوالاً أخرى سوى ما تقدّم . يرجع إليه فيها .
الحكم التّكليفيّ وسبب إفرادها بالذّكر :(97/2)
12 - من الأقوال السّابقة يتبيّن أنّ الصّلاة الوسطى هي إحدى الصّلوات الخمس في الجملة. والصّلوات الخمس فرض على كلّ مكلّف - كما هو معلوم - وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } . ثمّ عطف عليها قوله تعالى : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } .
يقول القرطبيّ : وأفرد اللّه سبحانه وتعالى الصّلاة الوسطى بالذّكر ، وقد دخلت قبل في عموم الصّلوات ؛ تشريفاً لها ، كما في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ } وقوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } .
وإفرادها بالذّكر يدلّ كذلك على أنّها آكد الصّلوات . يقول النّوويّ : اتّفق العلماء على أنّ الصّلاة الوسطى آكد الصّلوات الخمس واختلفوا في تحديدها .(97/3)
الصّلاة على الرّاحلة " أو الدّابّة " *
التّعريف :
1 - الصّلاة ينظر تعريفها في مصطلح ( صلاة ) .
والرّاحلة من الإبل : البعير القويّ على الأسفار والأحمال ، وهي الّتي يختارها الرّجل لمركبه ورحله على النّجابة وتمام الخلق وحسن المنظر ، وإذا كانت في جماعة الإبل تبيّنت وعرفت. والرّاحلة عند العرب : كلّ بعير نجيب سواء أكان ذكراً أم أنثى ، والجمع رواحل ، ودخول الهاء في الرّاحلة للمبالغة في الصّفة ، وقيل : سمّيت راحلةً ؛ لأنّها ذات رحل .
والدّابّة : كلّ ما يدبّ على الأرض . وقد غلب هذا الاسم على ما يركب من الحيوان من إبل وخيل وبغال وحمير .
الألفاظ ذات الصّلة :
السّفينة :
2 - السّفينة : الفلك ، والعلاقة بينها وبين الرّاحلة أنّ كلّاً منهما يركب ، وكما أنّ للصّلاة على الرّاحلة أحكاماً خاصّةً ، فكذلك للصّلاة في السّفينة أحكاماً خاصّةً تنظر في مصطلح ( سفينة ) .
الأحكام الّتي تتعلّق بالصّلاة على الرّاحلة :
أ - صلاة النّفل :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمسافر صلاة النّفل على الرّاحلة حيثما توجّهت به . والدّليل على ذلك قول اللّه تعالى : { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } قال ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - : نزلت في التّطوّع خاصّةً ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه » وعن جابر - رضي الله عنه - « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته حيث توجّهت ، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة » .
وأجمعواعلى أنّ صلاة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر الطّويل الّذي تقصر فيه الصّلاة جائزة. وأمّا السّفر القصير ، وهو ما لا يباح فيه القصر فإنّ الصّلاة على الرّاحلة جائزة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول الأوزاعيّ واللّيث والحسن بن حييّ .
وقال مالك : لا يباح إلاّ في سفر طويل ؛ لأنّه رخصة سفر فاختصّ بالطّويل كالقصر . واستدلّ الأوّلون بالآية المذكورة ، وقول ابن عمر فيها ، وحديثه الّذي قال فيه : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير » .
والمشهور عند الحنفيّة : أنّه لا يشترط السّفر وإنّما قيّدوا جواز النّفل على الرّاحلة بما إذا كان المصلّي خارج المصر محلّ القصر، أي في المحلّ الّذي يجوز للمسافر قصر الصّلاة فيه. وأجاز أبو يوسف من الحنفيّة التّنفّل على الرّاحلة في المصر وقال : حدّثني فلان - وسمّاه - عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة - رضي الله تعالى عنهما - وكان يصلّي وهو راكب » . وأجاز ذلك محمّد مع الكراهة مخافة الغلط لما في المصر من كثرة اللّغط .
كما أجاز التّنفّل على الدّابّة في المصر بعض الشّافعيّة كأبي سعيد الإصطخريّ والقاضي حسين وغيرهما ، وكان أبو سعيد الإصطخريّ محتسب بغداد يطوف السّكك وهو يصلّي على دابّته .
4 - والتّطوّع الجائز على الرّاحلة يشمل النّوافل المطلقة والسّنن الرّواتب والمعيّنة والوتر وسجود التّلاوة ، وهذا عند جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) .
واستدلّوا « بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره ، وكان يسبّح على بعيره إلاّ الفرائض » .
وعند الحنفيّة ما يعتبر واجباً عندهم من غير الفرائض كالوتر لا يجوز على الرّاحلة بدون عذر ، وكذلك سجدة التّلاوة .
وعن أبي حنيفة : أنّه ينزل عن دابّته لسنّة الفجر ؛ لأنّها آكد من سائر السّنن الرّواتب . وتجوز الصّلاة للمسافر على البعير والفرس والبغل والحمار ونحو ذلك ، ولو كان الحيوان غير مأكول اللّحم ، ولا كراهة هنا لمسيس الحاجة إليه ، ولأنّه صحّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي على حماره النّفل » . غير أنّه يشترط أن يكون ما يلاقي بدن المصلّي على الرّاحلة وثيابه من السّرج ، والمتاع ، واللّجام طاهراً .
وهذا كما يقول الشّافعيّة ، والحنابلة ، وعامّة مشايخ الحنفيّة كما ذكر في الأصل .
وعن أبي حفص البخاريّ ومحمّد بن مقاتل الرّازيّ : أنّه إذا كانت النّجاسة في موضع الجلوس أو في موضع الرّكابين أكثر من قدر الدّرهم لا تجوز ، ولو كان على السّرج نجاسة فسترها لم يضرّ .
5- وتجوز الصّلاة على الرّاحلة تطوّعًا في السّفر الواجب والمندوب والمباح ، كسفر التّجارة ونحوه ، عند أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ .
ولا يباح في سفر المعصية : كقطع الطّريق ، والتّجارة في الخمر والمحرّمات عند مالك والشّافعيّ وأحمد ؛ لأنّ التّرخّص شرع للإعانة على تحصيل المباح فلا يناط بالمعصية .
وقال أبو حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ : له ذلك ؛ لأنّه مسافر ، فأبيح له التّرخّص كالمطيع .
ب - صلاة الفريضة :
6 - الأصل أنّ صلاة الفريضة على الرّاحلة لا تجوز إلاّ لعذر ، فعن جابر بن عبد اللّه - رضي الله عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلّي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة » .
قال ابن بطّال : أجمع العلماء على أنّه لا يجوز لأحد أن يصلّي الفريضة على الدّابّة من غير عذر .
ولأنّ أداء الفرائض على الدّابّة مع القدرة على النّزول لا يجوز .
ولأنّ شرط الفريضة المكتوبة أن يكون المصلّي مستقبل القبلة مستقرّاً في جميعها ، فلا تصحّ من الرّاكب المخلّ بقيام أو استقبال .
7- وقد عدّد الفقهاء الأعذار الّتي تبيح الصّلاة على الرّاحلة .(98/1)
ومن ذلك : الخوف على النّفس أو المال من عدوّ أو سبع ، أو خوف الانقطاع عن الرّفقة ، أو التّأذّي بالمطر والوحل ؛ ففي مثل هذه الأحوال تجوز صلاة الفريضة على الرّاحلة بالإيماء من غير ركوع وسجود ؛ لأنّ عند اعتراض هذه الأعذار عجزاً عن تحصيل هذه الأركان .
قال ابن قدامة : إذا اشتدّ الخوف ، بحيث لا يتمكّن من الصّلاة إلى القبلة ، أو عجز عن بعض أركان الصّلاة : إمّا لهرب مباح من عدوّ ، أو سيل ، أو سبع ، أو حريق ، أو نحو ذلك ممّا لا يمكنه التّخلّص منه إلاّ بالهرب ، أو المسابقة ، أو التحام الحرب والحاجة إلى الكرّ والفرّ والطّعن والضّرب والمطاردة فله أن يصلّي على حسب حاله راجلاً وراكباً إلى القبلة إن أمكن، أو إلى غيرها إن لم يمكن ، وإذا عجز عن الرّكوع والسّجود أومأ بهما وينحني إلى السّجود أكثر من الرّكوع على قدر طاقته ، وإن عجز عن الإيماء سقط ، وإن عجز عن القيام ، أو القعود ، أو غيرهما سقط ، وإن احتاج إلى الطّعن والضّرب والكرّ والفرّ فعل ذلك ولا يؤخّر الصّلاة عن وقتها لقول اللّه تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } .
وحديث يعلى بن أميّة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسّماء من فوقهم والبلّة من أسفل منهم فحضرت الصّلاة فأمر المؤذّن فأذّن وأقام ثمّ تقدّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلّى بهم يومئ إيماءً يجعل السّجود أخفض من الرّكوع » .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلحي : ( صلاة الخوف ، واستقبال ف /38 ) .
8- وإذا كانت صلاة الفرض على الرّاحلة لا تجوز إلاّ لعذر ؛ لأنّ شرط الفريضة المكتوبة أن يكون المصلّي مستقبل القبلة مستقرّاً في جميعها ومستوفياً شروطها وأركانها ، فإنّ من أمكنه صلاة الفريضة على الرّاحلة مع الإتيان بكلّ شروطها وأركانها ، ولو بلا عذر صحّت صلاته وذلك كما يقول الشّافعيّة والحنابلة - وهو الرّاجح المعتمد عند المالكيّة - .
قال الحنابلة : وسواء أكانت الرّاحلة سائرةً أم واقفةً ، لكن الشّافعيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان في نحو هودج وهي واقفة ، وإن لم تكن معقولةً . أمّا لو كانت سائرةً فلا يجوز ؛ لأنّ سيرها منسوب إليه بدليل جواز الطّواف عليها . ولو كان للدّابّة من يلزم لجامها ويسيّرها ، بحيث لا تختلف الجهة جاز ذلك ، وقال سحنون من المالكيّة : لا يجزئ إيقاع الصّلاة على الدّابّة قائماً وراكعاً وساجداً لدخوله على الغرر .
قبلة المصلّي على الرّاحلة :
9 - مصلّي النّافلة على الرّاحلة لا يلزمه استقبال القبلة ، بل يصلّي حيثما توجّهت الدّابّة أو صوب سفره كما يقول المالكيّة ، وتكون هذه عوضاً عن القبلة ، وقد « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي على راحلته حيث توجّهت به ، أي جهة مقصده ، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة » .
والحكمة في التّخفيف على المسافر : أنّ النّاس محتاجون إلى الأسفار . فلو شرط فيها الاستقبال لأدّى إلى ترك أورادهم أو مصالح معايشهم .
10 - غير أنّ المصلّي إذا أمكنه افتتاح الصّلاة إلى القبلة ، وهذا إذا كانت الدّابّة سهلةً غير مقطورة بأن كانت واقفةً أو سائرةً وزمامها بيده فإنّه يجب عليه استقبال القبلة عند الإحرام، وهذا عند الشّافعيّة . وهو رواية عند الحنابلة ورأي ابن حبيب من المالكيّة ، ورواية ابن المبارك من الحنفيّة - واستدلّوا بما رواه أنس : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوّع استقبل بناقته القبلة فكبّر ثمّ صلّى حيث وجّهه ركابه » ؛ ولأنّه أمكنه استقبال القبلة في ابتداء الصّلاة فلزمه ذلك كالصّلاة كلّها .
وفي قول عند الشّافعيّة : يشترط الاستقبال في السّلام - أيضاً - لأنّه آخر طرفي الصّلاة فاشترط فيه ذلك .
والرّواية الثّانية عند الحنابلة - وهو قول عند الشّافعيّة - : لا يلزمه ذلك يعني في السّلام لأنّ الافتتاح جزء من أجزاء الصّلاة فأشبه سائر أجزائها ؛ ولأنّ ذلك لا يخلو من مشقّة فسقط شرط الاستقبال في السّلام .
وعند الحنفيّة يستحبّ ذلك ولا يجب ، وإن لم يسهل استقبال القبلة بأن كانت الدّابّة سائرةً وهي مقطورة ، ولم يسهل انحرافه عليها أو كانت جموحاً لا يسهل تحريفها فلا يجب الاستقبال ؛ لما في ذلك من المشقّة واختلال أمر السّير عليه ، فيحرم إلى جهة سيره .
وفي قول عند الشّافعيّة : يجب عليه الاستقبال مطلقاً سواء سهل عليه ذلك أم لا ، فإن تعذّر لم تصحّ صلاته .
11 - وإن كان المصلّي على الرّاحلة في مكان واسع كمحمل واسع وهودج ويتمكّن من الصّلاة إلى القبلة والرّكوع والسّجود فعليه استقبال القبلة في صلاته ويسجد على ما هو عليه إن أمكنه ذلك ؛ لأنّه كراكب السّفينة ، وقال أبو الحسن الآمديّ : يحتمل أن لا يلزمه شيء من ذلك كغيره لأنّ الرّخصة العامّة تعمّ ما وجدت فيه المشقّة وغيره . هذا بالنّسبة للتّطوّع ، أمّا بالنّسبة للفريضة فإنّه يجوز ترك الاستقبال للعذر - فقط - على ما سبق بيانه.
كيفيّة الصّلاة على الرّاحلة :
12 - من جازت له الصّلاة على الرّاحلة فإنّه يومئ في صلاته بالرّكوع والسّجود ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، قال جابر : « بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق ، والسّجود أخفض من الرّكوع » .
وروى البخاريّ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في السّفر على راحلته حيث توجّهت به يومئ إيماء صلاة اللّيل إلاّ الفرائض » .(98/2)
قال ابن عرفة من المالكيّة : من تنفّل في محمله فقيامه تربّع ، ويركع كذلك ويداه على ركبتيه فإذا رفع رفعهما ، ويومئ بالسّجود وقد ثنى رجليه ، فإن لم يقدر أومأ متربّعاً .
ومن افتتح التّطوّع راكباً ، ثمّ نزل في أثناء الصّلاة فإنّه يستقبل القبلة ويبني على ما سبق من صلاته ويتمّها بالأرض راكعاً وساجداً ، قال المالكيّة : إلاّ على قول من يجوّز الإيماء في النّافلة للصّحيح غير المسافر فإنّه يتمّ صلاته على دابّته بالإيماء إذا دخل المدينة .
وقال أبو يوسف من الحنفيّة : يستقبل صلاته ولا يبني على ما سبق ؛ لأنّ أوّل صلاته بالإيماء وآخرها بركوع وسجود ؛ فلا يجوز بناء القويّ على الضّعيف .
وروي عن محمّد : أنّه إذا نزل بعد ما صلّى ركعةً استقبل ؛ لأنّ ما قبل أداء الرّكعة مجرّد تحريمة وهي شرط ، فالشّرط المنعقد للضّعيف كان شرطاً للقويّ ، وأمّا إذا صلّى ركعةً فقد تأكّد فعل الضّعيف فلا يبنى عليه القويّ .
13 - وإن ركب ماش وهو في صلاة نفل أتمّه راكباً ، كما يقول الحنابلة وزفر من الحنفيّة . وعند الحنفيّة : لا يبني ؛ لأنّ الرّكوب عمل كثير . ومن افتتح التّطوّع خارج المصر ، ثمّ دخل المصر ، أو نوى النّزول ببلد دخله نزل عن دابّته لانقطاع سفره وأتمّ صلاته مستقبلاً القبلة . وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة ، وهو ما عليه الأكثر عند الحنفيّة ، وقيل : يتمّ على الدّابّة بإيماء .
ولو ركب المسافر النّازل وهو في صلاة نافلة بطلت صلاته ؛ لأنّ حالته إقامة فيكون ركوبه فيها كالعمل الكثير من المقيم ، وقال محمّد من الحنفيّة : يبني على صلاته .
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم *
1 - المقصود بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم : الدّعاء له بصيغة مخصوصة والتّعظيم لأمره . قال القرطبيّ : الصّلاة على النّبيّ من اللّه : رحمته ، ورضوانه ، وثناؤه عليه عند الملائكة ، ومن الملائكة : الدّعاء له والاستغفار ، ومن الأمّة : الدّعاء له ، والاستغفار ، والتّعظيم لأمره .
الأحكام المتعلّقة بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، للأمر بها، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } قال ابن كثير في تفسير الآية : المقصود من هذه الآية : أنّ اللّه - سبحانه وتعالى- أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيّه عنده في الملأ الأعلى ؛ بأنّه يثني عليه عند الملائكة المقرّبين ، وأنّ الملائكة تصلّي عليه . ثمّ أمر جلّ شأنه بالصّلاة والتّسليم عليه ؛ ليجتمع الثّناء عليه من أهل العاَلَمين : السّفليّ والعلويّ جميعاً ، وجاءت الأحاديث المتواترة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصّلاة عليه ، وكيفيّة الصّلاة عليه .
فقد روى البخاريّ عند تفسير هذه الآية : « قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللّه ، أمّا السّلام عليك فقد عرفناه ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد، وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، اللّهمّ بارك على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد » .
الحكم التّكليفيّ :
3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مواطن ، واستحبابها في مواطن . واختلفوا في مواطن الوجوب .
4 - فقال الحنفيّة ، والمالكيّة : إنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد الأخير سنّة ، وليس بواجب . وقالوا : تجب الصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم في العمر مرّةً للأمر بها في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } .
وقال الطّحاويّ : تجب كلّما ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم .
واستدلّوا على عدم الوجوب في التّشهّد الأخير « بقوله صلى الله عليه وسلم - في تعليم التّشهّد - بعد أن ذكر ألفاظ التّشهّد : إذا قلت هذا ، أو فعلت ، فقد تمّت صلاتك ، إن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد » .
وقالوا : وإلى هذا ذهب أهل المدينة ، وأهل الكوفة ، وجملة من أهل العلم .
أمّا الصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التّشهّد الأوّل فليس بمشروع عندهم ، وبه قال الحنابلة فإن أتى بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم عامداً في التّشهّد الأوّل كره ، وتجب عليه الإعادة . أو ساهياً وجبت عليه سجدتا السّهو عند الحنفيّة . وتفسد صلاته عند المالكيّة إن تعمّد بإتيانها .
5- وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّها تجب في التّشهّد الأخير من كلّ صلاة ، وبعد التّكبيرة الثّانية في صلاة الجنازة ، وفي خطبتي الجمعة ، والعيدين ، ولا تجب خارج ذلك .(98/3)
وقالوا : إنّ اللّه تعالى فرض الصّلاة على نبيّه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } فلم يكن فرض الصّلاة عليه في موضع أولى من الصّلاة عليه في الصّلاة . ووجدنا الدّلالة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما وصفنا ؛ من أنّ الصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرض في الصّلاة ، لا في خارجها . فقد جاء في حديث « أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّه قال : يا رسول اللّه ؛ كيف نصلّي عليك ؟ يعني في الصّلاة . فقال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم . وبارك على محمّد ، وآل محمّد ، كما باركت على إبراهيم ، ثمّ تسلّمون عليّ » .
وعن كعب بن عجرة عن « النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أنّه كان يقول في الصّلاة : اللّهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد » .
وقال الشّافعيّ : فلمّا روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يعلّمهم التّشهّد في الصّلاة، وروي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علّمهم كيف يصلّون عليه في الصّلاة ، لم يجز - واللّه أعلم - أن نقول : التّشهّد واجب ، والصّلاة على النّبيّ غير واجبة ، والخبر فيهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم زيادة فرض القرآن .
وقال - رحمه الله - : فعلى كلّ مسلم - وجبت عليه الفرائض - أن يتعلّم التّشهّد ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ومن صلّى صلاةً لم يتشهّد فيها ، ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وهو يحسن التّشهّد - فعليه إعادتها . وإن تشهّد ولم يصلّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو صلّى عليه ولم يتشهّد ، فعليه الإعادة حتّى يجمعهما جميعاً . وإن كان لا يحسنهما على وجههما أتى بما أحسن منهما ، ولم يجزه إلاّ بأن يأتي باسم تشهّد ، وصلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وإن أحسنهما فأغفلهما ، أو عمد بتركهما فسدت صلاته ، وعليه الإعادة فيهما جميعاً .
وقد قال بهذا جماعة من الصّحابة ومن بعدهم .
فمن الصّحابة : عبد اللّه بن مسعود ، وأبو مسعود البدريّ ، وعبد اللّه بن عمر .
ومن التّابعين : أبو جعفر محمّد بن عليّ ، والشّعبيّ ، ومقاتل بن حيّان . ومن أرباب المذاهب المتبوعين : إسحاق بن راهويه ، وأحمد في إحدى روايتيه ، وهي المشهورة في المذهب . أمّا الصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التّشهّد الأوّل ، في الصّلاة الرّباعيّة والثّلاثيّة ، فهي سنّة في القول الجديد للشّافعيّ ، وهو اختيار ابن هبيرة ، والآجرّيّ من الحنابلة ، ولا تبطل الصّلاة بتركه ولو عمداً ، ويجبر بسجود السّهو إن تركه .
الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الصّلاة :
6 - تستحبّ الصّلاة عليه صلى الله عليه وسلم خارج الصّلاة في كلّ الأوقات ، وتتأكّد في مواطن منها : يوم الجمعة وليلتها ، وعند الصّباح ، وعند المساء ، وعند دخول المسجد ، والخروج منه ، وعند قبره صلى الله عليه وسلم وعند إجابة المؤذّن ، وعند الدّعاء ، وبعده وعند السّعي بين الصّفا والمروة ، وعند اجتماع القوم ، وتفرّقهم ، وعند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم وعند الفراغ من التّلبية ، وعند استلام الحجر ، وعند القيام من النّوم ، وعقب ختم القرآن ، وعند الهمّ والشّدائد ، وطلب المغفرة ، وعند تبليغ العلم إلى النّاس ، وعند الوعظ ، وإلقاء الدّرس ، وعند خطبة الرّجل المرأة في النّكاح .
وفي كلّ موطن يجتمع فيه لذكر اللّه تعالى .
ألفاظ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
7 - روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم - في الصّلاة عليه - صيغ مختلفة في بعض ألفاظها . قال صاحب المهذّب : إنّ أفضل صيغ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أن يقول المصلّي عليه : " اللّهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم . إنّك حميد مجيد " .
ومنها : ما رواه البخاريّ ومسلم عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال : « خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلنا : قد علمنا - أو عرفنا - كيف نسلّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على آل إبراهيم . إنّك حميد مجيد . اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم. إنّك حميد مجيد » وفي لفظ للبخاريّ ومسلم : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد ، وعلى أزواجه ، وذرّيّته ، كما صلّيت على آل إبراهيم . وبارك على محمّد ، وعلى أزواجه ، وذرّيّته، كما باركت على آل إبراهيم . إنّك حميد مجيد » .
وهناك صيغ أخرى . وأقلّ ما يجزئ هو : اللّهمّ صلّ على محمّد .
الصّلاة على سائر الأنبياء :
8 - أمّا سائر الأنبياء والمرسلين فيصلّى عليهم ويسلّم . قال تعالى في نوح : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } وفي إبراهيم : { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } وفي موسى وهارون : { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } .
وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « صلّوا على أنبياء اللّه ورسله ، فإنّ اللّه بعثهم كما بعثني » .
وقد حكى غير واحد الإجماع على أنّ الصّلاة على جميع النّبيّين مشروعة .
الصّلاة على غير الأنبياء :
9 - أمّا الصّلاة على غير الأنبياء ؛ فإن كانت على سبيل التّبعيّة ، كما جاء في الأحاديث السّابقة : « اللّهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آل محمّد » فهذا جائز بالإجماع .(98/4)
واختلفوا فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصّلاة عليهم . فقال قائلون : يجوز ذلك ، واحتجّوا بقول اللّه تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } وقوله : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } وقوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } .
وبخبر عبد اللّه بن أبي أوفى قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللّهمّ صلّ عليهم فأتاه أبي بصدقته ، فقال : اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى » .
وقال الجمهور من العلماء : لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصّلاة ؛ لأنّ هذا شعار للأنبياء إذا ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم ، فلا يقال : قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم ، أو قال : عليّ صلى الله عليه وسلم ، وإن كان المعنى صحيحاً ، كما لا يقال : محمّد عزّ وجلّ ، وإن كان عزيزاً جليلاً ؛ لأنّ هذا من شعار ذكر اللّه عزّ وجلّ .
أمّا السّلام ، فقد نقل ابن كثير عن الشّيخ أبي محمّد الجوينيّ - من الشّافعيّة - أنّه في معنى الصّلاة ، فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد به غير الأنبياء ، وسواء في ذلك الأحياء والأموات .
وأمّا الحاضر فيخاطَب به ، فيقال : سلام عليكم ، وسلام عليك ، وهذا مجمع عليه .
وقد روي عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّه قال : لا تصحّ الصّلاة على أحد إلاّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة .(98/5)
الصّلوات الخمس المفروضة *
التّعريف :
1 - الصّلوات مفردها صلاة ، ولتعريفها : ينظر مصطلح : ( صلاة ) .
والمراد بالمفروضة : الصّلوات الخمس الّتي تؤدّى كلّ يوم وليلة ، وهي : الظّهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثبتت فرضيّتها بالكتاب والسّنّة والإجماع ، وهي معلومة من الدّين بالضّرورة ، يكفر جاحدها .
والصّلوات الخمس : هي آكد الفروض وأفضلها بعد الشّهادتين ، وهي الرّكن الثّاني من أركان الإسلام الخمس . ( ر : صلاة ) .
وقد ثبت عدد ركعات كلّ صلاة من هذه الصّلوات بسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وبالإجماع . قال الكاسانيّ : عرفنا ذلك بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وهذا لأنّه ليس في كتاب اللّه عدد ركعات الصّلوات فكانت نصوص الكتاب العزيز مجملةً في المقدار ، ثمّ زال الإجمال ببيان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً . وأداؤها بالجماعة سنّة مؤكّدة عند الجمهور خلافاً لبعض الحنفيّة ومن معهم حيث قالوا بوجوبها . ( ر : صلاة الجماعة ) .
وفيما يلي بيان هذه الصّلوات حسب التّرتيب الّذي ذهب إليه جمهور الفقهاء - من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - خلافاً للحنفيّة ، حيث بدءوا بصلاة الصّبح .
أوّلاً - صلاة الظّهر :
2 - الظّهر : ساعة الزّوال ووقته ، ولهذا يجوز فيه التّأنيث والتّذكير ، فيقال : حان الظّهر أي وقت الزّوال ، وحانت الظّهر أي ساعته .
والمراد بالزّوال : ميل الشّمس عن كبد السّماء إلى المغرب فصلاة الظّهر هي الّتي تجب بدخول وقت الظّهر ، وتفعل في وقت الظّهيرة .
وتسمّى صلاة الظّهر - أيضاً - بالأولى ؛ لأنّها أوّل صلاة صلّاها جبريل عليه السلام بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم . فعن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمّني جبريل - عليه السلام - عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ، ثمّ صلّى العصر حين كان كلّ شيء مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق ، ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم ، وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ، لوقت العصر بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل ، ثمّ صلّى الصّبح حين أسفرت الأرض ، ثمّ التفت إليّ جبريل فقال : يا محمّد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين » . وهي أوّل صلاة ظهرت في الإسلام .
كما تسمّى بالهجيرة قال أبو برزة : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي الهجيرة الّتي يدعونها الأولى حين تدحض الشّمس ، أو تزول » .
أوّل وقت الظّهر وآخره :
3 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ أوّل وقت صلاة الظّهر هو زوال الشّمس ، أي ميلها عن وسط السّماء ، وذلك بحسب ما يظهر لنا ؛ لأنّ التّكليف إنّما يتعلّق به ، ولا يشترط أن يكون في الواقع كذلك .
وأمّا آخر وقت الظّهر فقد اختلف الفقهاء فيه ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ آخره هو بلوغ الظّلّ مثله غير فيء الزّوال .
والمشهور عن أبي حنيفة : أنّ آخر وقت الظّهر إذا صار ظلّ كلّ شيء مثليه سوى فيء الزّوال . ولمعرفة الزّوال وتفصيل الخلاف في آخر الظّهر ، وأدلّة الفقهاء في ذلك ينظر مصطلح : ( أوقات الصّلاة ف / 8 ) .
الإبراد بصلاة الظّهر :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى : أنّه إذا كان الحرّ شديداً يسنّ تأخير صلاة الظّهر إلى الإبراد. قال النّوويّ : حقيقة الإبراد أن يؤخّر الصّلاة من أوّل وقتها بقدر ما يحصل للحيطان فيء يمشي فيه طالب الجماعة ، ولا يؤخّر عن نصف القامة . وقريب منه ما ذهب إليه المالكيّة والحنابلة .
أمّا الحنفيّة فيستحبّ عندهم تأخير الظّهر في الصّيف مطلقاً أي بلا اشتراط شدّة الحرّ وحرارة البلد . ولتفصيل الموضوع ينظر مصطلح : ( أوقات الصّلاة ف /16 ) .
قصر الظّهر وجمعها مع العصر :
5 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة قصر صلاة الظّهر في السّفر ( ر : صلاة المسافر ) .
كما اتّفقوا على مشروعيّة الجمع بين صلاتي الظّهر والعصر في عرفة جمع تقديم ، بأن يصلّيهما في وقت الظّهر . واختلفوا فيما عدا يوم عرفة :
فذهب الجمهور إلى جواز الجمع بينهما بعذر السّفر جمع تقديم أو تأخير ، بأن تصلّى العصر في وقت الظّهر أو بالعكس ، خلافاً للحنفيّة .
وتفصيل الموضوع في مصطلح : ( جمع الصّلوات ) .
ما يستحبّ قراءته في الظّهر :
6 - يستحبّ في الظّهر عند جمهور الفقهاء : أن يقرأ الإمام أو المنفرد إذا كان مقيماً طوال المفصّل كصلاة الفجر ، وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّ الظّهر كالعصر ، فيسنّ فيه أوساط المفصّل .
وورد في عبارات المالكيّة أنّ الظّهر كالصّبح في القراءة من الطّوال أو دون ذلك قليلاً .
واتّفق فقهاء المذاهب على أنّه يسرّ بالقراءة في جميع ركعات الظّهر ، سواء أصلّاها جماعةً أم انفراداً ، وتفصيل المسألة في مصطلح : ( إسرار ، صلاة ، قراءة ) .
ثانياً - صلاة العصر :
7 - العصر يطلق على معان منها : العشيّ إلى احمرار الشّمس ، وهو آخر ساعات النّهار ، كما يطلق على الصّلاة الّتي تؤدّى في آخر النّهار ، قال الفيّوميّ : العصر اسم الصّلاة " مؤنّثة " مع الصّلاة ، وبدونها تذكّر وتؤنّث .
ويقال : أذّن للعصر . أي لصلاة العصر . وتسمّى صلاة العصر ب ( العشيّ ) لأنّها تصلّى عشيّةً .
أوّل وقت العصر وآخره :(99/1)
8 - ذهب جمهور الفقهاء : المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، والصّاحبان من الحنفيّة إلى أنّ أوّل وقت العصر إذا صار ظلّ كلّ شيء مثله غير فيء الزّوال ، وهذا رواية عن أبي حنيفة أيضاً . ويستدلّون « بحديث إمامة جبريل - عليه الصلاة والسلام - وفيه : ثمّ صلّى العصر حين كان كلّ شيء مثل ظلّه » .
والمشهور عن أبي حنيفة : أنّ أوّل وقت العصر إذا صار ظلّ كلّ شيء مثليه غير فيء الزّوال ( ر : أوقات الصّلاة ) .
9- وهل يوجد وقت مهمل بين آخر الظّهر وأوّل العصر ؟ اختلفت الرّوايات عن الفقهاء : فيشترط بعض الشّافعيّة والحنابلة لدخول أوّل العصر أن يصير ظلّ كلّ شيء مثله ، وزاد أدنى زيادةً . قال الخرقيّ : وإذا زاد شيئاً وجبت العصر ومثله ما نقله الشّربينيّ عن بعض الشّافعيّة وجملته : أنّ وقت العصر من حين الزّيادة على المثل أدنى زيادةً متّصل بوقت الظّهر لا نصلّي بينهما . كما حرّره ابن قدامة في المغني .
وروي عن أبي حنيفة - أيضاً - قوله : إذا بلغ الظّلّ طوله سوى فيء الزّوال خرج وقت الظّهر ، ولا يدخل وقت العصر إلى الطّولين .
وعلى هذا يكون بين الظّهر والعصر وقت مهمل ، كما بين الفجر والظّهر .
والصّحيح عند الشّافعيّة : أنّه لا يشترط حدوث زيادة فاصلة بينه وبين وقت الظّهر ، كما قال الشّربينيّ ، ومثله ما نقله ابن قدامة عن الحنابلة عدا الخرقيّ . قال البهوتيّ : من غير فصل بينهما ، ولا اشتراك .
والمشهور عند المالكيّة : أنّ أوّل العصر وآخر الظّهر يشتركان بقدر إحداهما ، أي : بقدر أربع ركعات في الحضر ، وركعتين في السّفر ، فآخر وقت الظّهر : أن يصير ظلّ كلّ شيء مثله بعد طرح ظلّ الزّوال ، وهو بعينه أوّل وقت العصر فيكون وقتاً لهما ممتزجاً بينهما . ويؤيّده ظاهر « حديث إمامة جبريل حيث جاء فيه : صلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله لوقت العصر بالأمس » .
10 - أمّا آخر وقت العصر فهو ما لم تغرب الشّمس . أي قبيل غروب الشّمس .
( ر : أوقات الصّلاة ) .
ما يستحبّ قراءته في العصر :
11 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه يسنُّ أن يقرأ في صلاة العصر بأوساط المفصّل .
وقال المالكيّة : يقرأ فيها بالقصار من السّور مثل : { وَالضُّحَى } و { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } ، ونحوهما .
ويستحبّ عند الحنابلة أن تكون القراءة في العصر على النّصف من الظّهر .
وجمهور الفقهاء على أنّ الإسرار في القراءة سنّة في العصر والظّهر ، بينما يقول الحنفيّة : بأنّه واجب . وتفصيل الموضوع في مصطلح : ( إسرار ، وقراءة ) .
التّنفّل بعد صلاة العصر :
12 - اتّفق الفقهاء في الجملة على عدم جواز التّنفّل بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشّمس ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا صلاة بعد العصر حتّى تغيب الشّمس » .
وتشمل ذلك ما لو صلّيت العصر في وقت الظّهر جمع تقديم كذلك ، كما صرّح به فقهاء المذاهب ، وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( صلاة التّطوّع ) .
ثالثاً - صلاة المغرب :
13 - المغرب في الأصل : من غربت الشّمس إذا غابت وتوارت .
ويطلق في اللّغة على وقت الغروب ومكانه ، وعلى الصّلاة الّتي تؤدّى في هذا الوقت .
أوّل وقت المغرب وآخره :
14 - أجمع الفقهاء على أنّ أوّل وقت صلاة المغرب يدخل إذا غابت الشّمس وتكامل غروبها . وهذا ظاهر في الصّحاري . ويعرف في العمران بزوال الشّعاع من رءوس الجبال ، وإقبال الظّلام من المشرق وآخر وقتها عند الجمهور ما لم يغب الشّفق .
والمشهور عند المالكيّة - وهو الجديد عند الشّافعيّة - أنّ للمغرب وقتاً واحداً وهو بقدر ما يتطهّر المصلّي ويستر عورته ويؤذّن ويقيم للصّلاة . للتّفصيل ( ر : أوقات الصّلاة ) .
تسمية المغرب بالعشاء :
15 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى كراهة تسمية المغرب عشاءً لما رواه عبد اللّه المزنيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب . قال : وتقول الأعراب هي العشاء » ولا يكره تسميتها بالعشاء على الصّحيح من المذهب عند الحنابلة ، ولكن تسميتها بالمغرب أولى .
رابعاً - صلاة العشاء :
16 - العِشاء بكسر العين والمدّ : اسم لأوّل الظّلام من المغرب إلى العتمة ، وسمّيت الصّلاة بذلك لأنّها تفعل في هذا الوقت .
والعَشاء بالفتح والمدّ : طعام هذا الوقت ويجوز أن يقال لها : العشاء الآخرة ، والعشاء - فقط - من غير وصف بالآخرة قال تعالى : { وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء } .
وقال صلى الله عليه وسلم : « أيّما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة » .
تسمية صلاة العشاء بالعتمة :
17 - أجاز أكثر الفقهاء تسمية صلاة العشاء بالعتمة لورودها في كثير من الأحاديث ، منها ما رواه البخاريّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لو يعلمون ما في العتمة والصّبح لأتوهما ولو حبواً » ومنها قول عائشة - رضي الله عنها - : « كان يصلّون العتمة فيما بين أن يغيب الشّفق إلى ثلث اللّيل الأوّل » والعتمة هي شدّة الظّلمة كما يقول البهوتيّ .
18 - وكره بعض الشّافعيّة والمالكيّة تسميتها بالعتمة لما ورد من النّهي عن ذلك في حديث مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم ، ألا إنّها العشاء وهم يعتمون بالإبل » معناه : أنّهم يسمّونها العتمة لكونهم يعتمون بحلاب الإبل أي يؤخّرونه إلى شدّة الظّلّام وصرّح بعض الشّافعيّة أنّ النّهي للتّنزيه .(99/2)
قال النّوويّ : إنّ هذا الاستعمال ورد في نادر الأحوال لبيان الجواز فإنّه ليس بحرام ، أو أنّه خوطب به من قد يشتبه عليه العشاء بالمغرب ، فلو قيل : العشاء لتوهّم إرادة المغرب ؛ لأنّها كانت معروفةً عندهم بالعشاء ، وأمّا العتمة فصريحة في العشاء الآخرة .
وللمالكيّة في تسميتها قولان آخران : أحدهما : الجواز من غير كراهة ، وثانيهما : الحرمة
أوّل وقت العشاء وآخره :
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ أوّل وقت صلاة العشاء يدخل من غيبوبة الشّفق ، وإنّما اختلفوا في الشّفق . فالجمهور على أنّه : الحمرة ، وأبو حنيفة وزفر يقولان : هو البياض بعد الحمرة .
وآخر وقت العشاء إلى الفجر الصّادق ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « آخر وقت العشاء ما لم يطلع الفجر » .
هذا ، وقد قسّم جمهور الفقهاء الوقت إلى اختياريّ ، وضروريّ ، وتفصيله في مصطلح :
( أوقات الصّلاة ) .
صلاة فاقد العشاء :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّ سبب وجوب الصّلاة المفروضة هو الوقت ، وذكروا حكم من لا يأتي عليهم العشاء في بعض أيّام السّنة أو كلّها ، هل تجب عليهم صلاة العشاء أم لا ؟ وإذا وجبت فكيف يؤدّونها ؟ فذهب الجمهور إلى أنّه تجب عليهم صلاة العشاء ويقدّرون وقتها قدر ما يغيب الشّفق بأقرب البلاد إليهم . وفي رأي عند بعض الحنفيّة : أنّ من لا يأتي عليه العشاء لا يكلّف بصلاتها لعدم سبب وجوبها . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( أوقات الصّلاة ) .
تأخير صلاة العشاء :
21 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة - إلى أنّ تأخير العشاء مستحبّ إلى ثلث اللّيل ، قال الزّيلعيّ : قد ورد في تأخير العشاء أخبار كثيرة صحاح . وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصّحابة والتّابعين ، ومن الأحاديث الّتي يستدلّون بها على استحباب تأخير العشاء قوله صلى الله عليه وسلم : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم أن يؤخّروا العشاء إلى ثلث اللّيل أو نصفه » .
وقيّد بعض الحنفيّة استحباب تأخير العشاء بالشّتاء ، أمّا الصّيف فيندب تعجيلها عندهم . وذهب المالكيّة إلى أنّ الأفضل للفذّ والجماعة الّتي لا تنتظر غيرها تقديم الصّلوات ، ولو عشاءً في أوّل وقتها المختار بعد تحقّق دخوله ، ولا ينبغي تأخير العشاء إلى ثلث اللّيل إلاّ لمن يريد تأخيرها لشغل مهمّ ، كعمله في حرفته ، أو لأجل عذر ، كمرض ونحوه . لكن يستحبّ أن يؤخّرها أهل المساجد قليلاً لاجتماع النّاس ، وأفضليّة تقديم الصّلوات لأوّل وقتها ولو عشاءً هو - أيضاً - قول آخر للشّافعيّة . قال النّوويّ : والأصحّ من القولين عند أصحابنا أنّ تقديمها أفضل ، ثمّ قال : وتفضيل التّأخير أقوى دليلاً .
كراهة النّوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها :
22 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يكره النّوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها لما رواه أبو برزة - رضي الله عنه - قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يكره النّوم قبلها والحديث بعدها» قال النّفراويّ : الحديث بعدها أشدّ كراهةً من النّوم قبلها .
والدّليل على كراهة النّوم قبلها : هو خشية فوت وقتها ، أو فوت الجماعة فيها .
لكن الحنفيّة قالوا : إذا وكّل لنفسه من يوقظه في وقتها فمباح له النّوم ، كما نقله الزّيلعيّ عن الطّحاويّ .
وكره المالكيّة النّوم قبل صلاة العشاء ولو وكّل من يوقظه ؛ لاحتمال نوم الوكيل أو نسيانه فيفوت وقت الاختيار .
أمّا كراهة الحديث بعد صلاة العشاء : فلأنّه ربّما يؤدّي إلى سهر يفوت به الصّبح ، أو لئلاّ يقع في كلامه لغو ، فلا ينبغي ختم اليقظة به ، أو لأنّه يفوت به قيام اللّيل لمن له به عادة ؛ ولتقع الصّلاة الّتي هي أفضل الأعمال خاتمة عمله والنّوم أخو الموت ، وربّما مات في نومه. وهذا إذا كان الحديث لغير حاجة ، أمّا إذا كان لحاجة مهمّة فلا بأس . وكذا قراءة القرآن ، وحديث الرّسول صلى الله عليه وسلم ومذاكرة الفقه وحكايات الصّالحين ، والحديث مع الضّيف ، أو القادم من السّفر ونحوها فلا كراهة في شيء من ذلك ؛ لأنّه خير ناجز فلا يترك لمفسدة متوهّمة ، كما قال النّوويّ وعن عمر - رضي الله عنه - قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في أمر من أمور المسلمين وأنا معهما » .
خامساً - صلاة الفجر :
23 - الفجر في الأصل هو الشّفق ، والمراد به ضوء الصّباح ، سمّي به لانفجار الظّلمة به بسبب حمرة الشّمس في سواد اللّيل . والفجر في آخر اللّيل كالشّفق في أوّله .
والفجر اثنان :
أ - الفجر الأوّل : وهو الفجر الكاذب ، وهو البياض المستطيل يبدو في ناحية من السّماء وهو المسمّى عند العرب بذنب السّرحان ( الذّئب ) ، ثمّ ينكتم . ولهذا يسمّى فجراً كاذباً ، لأنّه يبدو نوره ، ثمّ يعقبه الظّلام .
ب - الفجر الثّاني أو الفجر الصّادق : وهو البياض المستطير المعترض في الأفق ، لا يزال يزداد نوره حتّى تطلع الشّمس ، ويسمّى هذا فجراً صادقاً ؛ لأنّه إذا بدا نوره ينتشر في الأفق وفي الحديث : « لا يمنعنّكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق » .(99/3)
قال النّوويّ : والأحكام كلّها متعلّقة بالفجر الثّاني ، فبه يدخل وقت صلاة الصّبح ، ويخرج وقت العشاء ، ويحرّم الطّعام والشّراب على الصّائم ، وبه ينقضي اللّيل ويدخل النّهار . ويطلق الفجر على صلاة الفجر ؛ لأنّها تؤدّى في هذا الوقت ، وقد وردت هذه التّسمية في القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } ، كما وردت تسميتها بالصّبح والفجر في الأحاديث النّبويّة ، كقوله عليه الصلاة والسلام : « من أدرك من الصّبح ركعةً قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصّبح » .
تسمية صلاة الفجر بالغداة :
24 - جمهور الفقهاء على أنّه لا تكره تسمية صلاة الفجر بالغداة ، كما صرّح به المالكيّة والحنابلة ومحقّقو الشّافعيّة .
ونقل النّوويّ عن الشّافعيّ قوله في الأمّ : أحبّ أن لا تسمّى إلاّ بأحد هذين الاسمين " أي الفجر والصّبح " ، ولا أحبّ أن تسمّى الغداة . قال النّوويّ : وهذا لا يدلّ على الكراهة ، فإنّ المكروه ما ثبت فيه نهي غير جازم ، ولم يرد بل اشتهر استعمال لفظ الغداة فيها في الحديث وكلام الصّحابة - رضي الله عنهم - لكن الأفضل الفجر والصّبح .
وذكر في بعض كتب الشّافعيّة كالمهذّب وغيره كراهة هذه التّسمية .
تسميتها بالصّلاة الوسطى :
25 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المراد بالصّلاة الوسطى في قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } صلاة العصر كما وردت في الأحاديث الصّحيحة .
والمشهور عند المالكيّة - وهو قول الشّافعيّ نصّ عليه في الأمّ - أنّ الصّلاة الوسطى هي الفجر ، حتّى إنّ المالكيّة يسمّونها الوسطى ، قال النّفراويّ : لها أربعة أسماء : الصّبح ، والفجر ، والوسطى ، والغداة . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( الصّلاة الوسطى ) .
أوّل وقت الفجر وآخره :
26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ أوّل وقت صلاة الفجر هو طلوع الفجر الثّاني أي الفجر الصّادق ، وآخر وقتها إلى طلوع الشّمس ، لقوله : « إنّ للصّلاة أوّلاً وآخراً ، وإنّ أوّل وقت الفجر حين يطلع الفجر ، وإنّ آخر وقتها حين تطلع الشّمس » .
وقد قسّم بعض الفقهاء وقت الفجر إلى : وقت اختيار ، وضرورة ، وغيرهما ، ينظر تفصيله في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ) .
القراءة في الفجر :
27 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ في صلاة الفجر تطويل قراءتها ، بأن يقرأ فيها طوال المفصّل قال أبو برزة - رضي الله عنه - : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين السّتّين إلى المائة آيةً » قال الشّربينيّ : والحكمة في ذلك : أنّ وقت الصّبح طويل والصّلاة ركعتان فحسن تطويلهما .
وهذا في الحضر . أمّا في السّفر فيقرأ مع فاتحة الكتاب أيّ سورة شاء ، وقد ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصّبح في سفره بالمعوّذتين » .
وتفصيل الموضوع في مصطلح : ( قراءة ) .
منع النّافلة بعد صلاة الفجر وقبلها :
28 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز صلاة النّافلة بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشّمس ، كما أنّ جمهور الفقهاء لا يجيزون التّنفّل قبل صلاة الفجر - أيضاً - إلاّ ركعتي الفجر ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا طلع الفجر فلا صلاة إلاّ ركعتي الفجر » .
وينظر تفصيل الموضوع في مصطلح : ( تطوّع ، وأوقات الصّلاة ) .
التّغليس أو الإسفار بالفجر :
29 - يرى جمهور الفقهاء أنّ التّغليس : أي أداء صلاة الفجر بغلس أفضل من الإسفار بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « أفضل الأعمال الصّلاة في أوّل وقتها » .
وقال الحنفيّة : ندب تأخير الفجر إلى الإسفار ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر » قال الزّيلعيّ : ولا يؤخّرها بحيث يقع الشّكّ في طلوع الشّمس ، بل يسفر بها بحيث لو ظهر فساد صلاته يمكنه أن يعيدها في الوقت بقراءة مستحبّة . ويستثنى من الإسفار صلاة الفجر بمزدلفة يوم النّحر ، حيث يستحبّ فيها التّغليس عند الجميع . وتفصيل الموضوع في مصطلح : ( أوقات الصّلاة ف /15 ) .
القنوت في صلاة الفجر :
30 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى مشروعيّة القنوت في الصّبح . قال المالكيّة : وندب قنوت سرّاً بصبح فقط دون سائر الصّلوات قبل الرّكوع ، عقب القراءة بلا تكبير قبله .
وقال الشّافعيّة : يسنّ القنوت في اعتدال ثانية الصّبح ، يعني بعد ما رفع رأسه من الرّكوع في الرّكعة الثّانية ، ولم يقيّدوه بالنّازلة .
وقال الحنفيّة ، والحنابلة : لا قنوت في صلاة الفجر إلاّ في النّوازل وذلك لما رواه ابن مسعود وأبو هريرة - رضي الله عنهما - : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على أحياء من أحياء العرب ثمّ تركه » ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه : - « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الصّبح إلاّ أن يدعو لقوم أو على قوم» ومعناه أنّ مشروعيّة القنوت في الفجر منسوخة في غير النّازلة .
هذا وفي ألفاظ القنوت وكيفيّته خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( قنوت ) .(99/4)
العشر الأواخر من رمضان *
التّعريف :
1 - العشر الأواخر من رمضان في اصطلاح الفقهاء : تبدأ من بداية ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان ، وتنتهي بخروج رمضان ، تامّاً كان أو ناقصاً ، فإذا نقص فهي تسع ، وعليه فإطلاق العشر الأواخر عليها بطريق التّغليب للتّمام ، لأصالته ، لأنّ العشر عبارة عمّا بين العشرين إلى آخر الشّهر ، وهي اسم للّيالي مع الأيّام ، لقوله تعالى : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على استحباب مضاعفة الجهد في الطّاعات في العشر الأواخر من رمضان ، بالقيام في لياليها ، والإكثار من الصّدقات وتلاوة القرآن الكريم ومدارسته ، بأن يقرأ عليه أو يقرأ هو على غيره ، وزيادة فعل المعروف وعمل الخير ، وذلك تأسّياً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم لما روي عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : » كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا اللّيل ، وأيقظ أهله ، وجدّ وشدّ المئزر « .
وفي رواية : » كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره « .
قال العلماء : ويستحبّ للرّجل أن يوسّع على عياله ، وأن يحسن إلى أرحامه وإلى جيرانه في شهر رمضان ، ولا سيّما في العشر الأواخر منه .
3 - كما اتّفق الفقهاء على أنّ الاعتكاف يتأكّد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان ، وأنّه يستحبّ لمن يريد الاعتكاف في العشر الأواخر أن يدخل المسجد قبل غروب الشّمس من ليلة الحادي والعشرين من رمضان ، ثمّ يبيت ليلة العيد فيغدو كما هو إلى مصلّى العيد ، لفعله صلى الله عليه وسلم ، قال إبراهيم النّخعيّ : كانوا يحبّون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ، ثمّ يغدو إلى المصلّى من المسجد ، لئلاّ يفوته شيء من العشر الأواخر ، تمّ الشّهر أو نقص ، ولما ثبت : » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه اللّه تعالى ، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده « .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : » من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر « .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( اعتكاف ، مسجد ) .
4 - كما ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة ولم ترفع ، وأنّها في شهر رمضان وفي العشر الأواخر منه ، وأنّ أرجاها ليالي الأوتار من العشر الأواخر لقوله صلى الله عليه وسلم : » التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى « .
وعن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان « .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( ليلة القدر ) .(100/1)
المؤلَّفة قلوبهم *
التّعريف :
1 - المؤلّفة في اللغة : جمع مؤلّفٍ وهو اسم مفعولٍ من الألفة , يقال : ألّفت بينهم تأليفاً إذا جمعت بينهم بعد تفرقٍ , والمراد بتأليف قلوبهم : استمالة قلوبهم بالإحسان والمودّة . والمؤلّفة قلوبهم في الاصطلاح : هم الّذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام , أو تقريراً لهم على الإسلام , أو كف شرّهم عن المسلمين , أو نصرهم على عدوٍّ لهم , ونحو ذلك .
حكمة تأليف القلوب :
2 - حثّ الإسلام أتباعه بالإحسان إلى خصومهم وأعدائهم , وبذلك يفتح الإسلام القلوب بالإحسان , كما يفتح العقول بالحجّة والبرهان , قال اللّه تعالى : { وَََلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَََلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
ولذلك شرع الإسلام نصيباً من مال الزّكاة لتأليف القلوب , قال القرطبي : قال بعض المتأخّرين : اختلف في صفة المؤلّفة قلوبهم ، فقيل : هم صنف من الكفّار يعطون ليتألّفوا على الإسلام , وكانوا لا يسلمون بالقهر والسّيف , ولكن يسلمون بالعطاء والإحسان , وقيل : هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع يعطون ليتألّفوا أتباعهم على الإسلام , قال : هذه الأقوال متقاربة , والقصد بجميعها الإعطاء لمن لا يتمكّن إسلامه حقيقةً إلا بالعطاء فكأنّه ضرب من الجهاد .
وقال : المشركون ثلاثة أصنافٍ : صنف يرجع بإقامة البرهان , وصنف بالقهر , وصنف بالإحسان , والإمام النّاظر للمسلمين يستعمل مع كلّ صنفٍ ما يراه سبباً لنجاته وتخليصه
من الكفر , وقد فقّه الرّسول صلى الله عليه وسلم أمّته في تأليف النّاس على الإسلام بقوله : « إنّي لأعطي الرّجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يُكبّ في النّار على وجهه » .
سهم المؤلّفة قلوبهم :
3 - اختلف الفقهاء في سهم الزّكاة المخصّص للمؤلّفة قلوبهم :
فجمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ سهمهم باقٍ .
وذهب بعضهم إلى أنّ سهمهم منقطع لعزّ الإسلام , لكن إذا احتيح إلى تألفهم أعطوا .
وقال الحنفيّة بسقوط سهم المؤلّفة قلوبهم .
4 - ثمّ اختلف الفقهاء في أقسامهم :
فقال المالكيّة : المؤلّفة قلوبهم كفّار يتألّفون .
وقال الشّافعيّة : لا يعطى من هذا السّهم لكافر أصلاً .
وجوّز الحنابلة الإعطاء لمؤلّف مسلماً كان أو كافراً .
وقال ابن قدامة : المؤلّفة قلوبهم ضربان : كفّار ومسلمون , والكفّار صنفان , والمسلمون أربعة أصنافٍ .
والتّفصيل في مصطلح : ( زكاة ف 167 - 168 ) .(101/1)
المسْجِد الحَرَام *
التّعريف :
1 - المسجد - بكسر الجيم - في اللغة : موضع السجود من بدن الإنسان , وبيت الصّلاة . والمسجد شرعاً هو كل موضع من الأرض لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم « جعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً » , ثمّ إنّ العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس . والمسجد الحرام في الاصطلاح - كما قال النّووي - قد يراد به الكعبة فقط , وقد يراد به المسجد حولها معها , وقد يراد به مكّة كلها مع الحرم حولها , وقد جاءت نصوص الشّرع بهذه الأقسام .
وسمّي المسجد حراماً لأنّه لا يحل انتهاكه فلا يصاد عنده ولا حوله ولا يختلى ما عنده من الحشيش .
قال العلماء : وأريد بتحريم البيت سائر الحرم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المسجد النّبوي :
2 - المسجد النّبوي هو المسجد الّذي بناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في موقعه المعروف بالمدينة حين قدم مهاجراً إليها من مكّة , وهو ثاني الحرمين الشّريفين .
والصّلة أنّ كلاً من المسجد الحرام والمسجد النّبويّ من المساجد الّتي تشد إليها الرّحال ويضاعف فيها الأجر .
ب - المسجد الأقصى :
3 - المسجد الأقصى هو المسجد المعروف في مدينة القدس وقد بني على سفح الجبل , ويسمّى بيت المقدس أي البيت المطهّر الّذي يتطهّر فيه من الذنوب .
( ر : المسجد الأقصى ) .
والصّلة أنّ كلاً من المسجد الحرام والمسجد الأقصى من المساجد الّتي تشد إليها الرّحال ويضاعف فيها الأجر .
بناء المسجد الحرام :
4 - أوّل مسجد وضع على الأرض المسجد الحرام , وهو مسجد مكّة , كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } , وعن « أبي ذر رضي اللّه عنه قال قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع في الأرض أوّل فقال : المسجد الحرام قلت ثمّ أي قال : المسجد الأقصى قلت وكم بينهما قال أربعون عاماً » .
قال ابن الجوزيّ : إنّ المسجد الحرام كان صغيراً ولم يكن عليه جدار إنّما كانت الدور محدقةً به , وبين الدور أبواب يدخل النّاس من كلّ ناحية فضاق على النّاس المسجد فاشترى عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه دوراً فهدمها , ثمّ أحاط عليه جداراً قصيراً , ثمّ وسّع المسجد عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه واشترى من قوم , ثمّ زاد ابن الزبير رضي اللّه عنهما في المسجد واشترى دوراً وأدخلها فيه , وأوّل من نقل إليه أساطين الرخام وسقفه بالسّاج المزخرف الوليد بن عبد الملك , ثمّ زاد المنصور في شقّه الشّاميّ ثمّ زاد المهدي , وكانت الكعبة في جانب فأحبّ أن تكون وسطاً فاشترى من النّاس الدور ووسطها .
ثمّ توالت الزّيادات فيه إلى يومنا هذا .
المفاضلة بين المسجد الحرام وغيره من المساجد :
5 - صرّح الحنفيّة بأنّ أعظم المساجد حرمةً المسجد الحرام ثمّ مسجد المدينة ثمّ مسجد بيت المقدس ثمّ الجوامع ثمّ مساجد المحالّ ثمّ مساجد الشّوارع ثمّ مساجد البيوت .
ويرى المالكيّة على المشهور أنّ مسجد المدينة أفضل المساجد ويليه مسجد مكّة ويليه مسجد بيت المقدس .
شد الرّحال إلى المسجد الحرام :
6 - المسجد الحرام هو أحد المساجد الثّلاثة الّتي تشد إليها الرّحال , وفي الحديث : « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام , ومسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم والمسجد الأقصى » .
هذا الحديث يدل على فضيلة هذه المساجد ومزيّتها لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام , ولأنّ المسجد الحرام قبلة النّاس وإليه حجهم , ومسجد الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم أسّس على التّقوى والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السّابقة , وأولى القبلتين .
تحيّة المسجد الحرام :
7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ أوّل ما يبدأ به داخل المسجد الحرام الطّواف محرماً أو غير محرم دون الصّلاة إلّا أن يكون عليه فائتة , أو خاف فوت الوقتيّة ولو الوتر , أو سنّةً راتبةً , أو فوت الجماعة , فيقدّم الصّلاة في هذه الصور على الطّواف .
قال المنلا علي : من دخل المسجد الحرام لا يشتغل بتحيّة لأنّ تحيّة هذا المسجد الشّريف هي الطّواف لمن عليه الطّواف أو أراده , بخلاف من لم يرده , أو أراد أن يجلس فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين تحيّة المسجد إلّا أن يكون الوقت مكروهاً .
واستظهر ابن عابدين أنّه لا يصلّي مريد الطّواف للتّحيّة أصلاً لا قبله ولا بعده , ولعلّ وجهه اندراجها في ركعتيه .
ويرى المالكيّة أنّ تحيّة المسجد الحرام في حقّ الآفاقيّ , وكذلك المكّي المأمور بالطّواف الطّواف , وأمّا المكّي الّذي لم يؤمر بطواف ولم يدخله لأجل الطّواف , بل للمشاهدة أو للصّلاة أو لقراءة القرآن , فتحيّة المسجد في حقّه الصّلاة .
وقال الشّافعيّة : إنّ تحيّة المسجد الصّلاة وتحيّة البيت الطّواف , وليس الطّواف تحيّة المسجد , ولكن تدخل التّحيّة في ركعتيه وإن لم ينوها .
وصرّح الحنابلة بأنّ تحيّة المسجد الحرام الصّلاة وتجزئ عنها الرّكعتان بعد الطّواف .
ونقل ابن مسدي في " إعلام النّاسك " عن أحمد وغيره أنّه يحيّي المسجد أوّلاً بركعتين ثمّ يقصد الطّواف .
فضل الصّلاة في المسجد الحرام :
8 - إنّ صلاةً في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد , روى جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه » .(102/1)
ثمّ إنّ التّضعيف المذكور يرجع إلى الثّواب ولا يتعدّى إلى الإجزاء باتّفاق العلماء كما نقله النّووي وغيره فلو كان عليه صلاتان فصلّى في أحد المسجدين " المسجد الحرام أو المسجد النّبويّ " صلاةً لم تجزئ إلّا عن واحدة .
9 - والفقهاء متّفقون على فضيلة الفرض في المسجد الحرام على الفرض في غيره وإنّما اختلفوا في شمول هذا الفضل الفرض والنّفل .
قال الفاسي المالكي : إنّ الفضل يختص بالفرض وهو مشهور مذهبنا ومذهب أبي حنيفة , ونقل ابن عابدين قول الفاسيّ من غير أن يعقّب عليه , ونسب العيني هذا القول إلى الطّحاويّ أيضاً .
وذهب الشّافعيّة في المذهب والحنابلة إلى أنّ المضاعفة لا تختص بالفريضة بل تعم النّفل والفرض , قال الزّركشي بعد أن ذكر مذهب الشّافعيّة في المسألة : وهو لازم للأصحاب من استثنائهم النّفل بمكّة من الوقت المكروه لأجل زيادة الفضيلة .
وقال الشّيخ مجد الدّين الحنبلي : ظاهر الأخبار أنّ النّفل في البيت أفضل , قال عليه الصّلاة والسّلام : « أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة » , قال : وينبغي أن يكون مرادهم إلّا النّساء لأنّ صلاتهنّ في بيوتهنّ أفضل , والأخبار مشهورة في ذلك وهو ظاهر كلام أصحابنا وغيرهم .
المراد بالمسجد الحرام الّذي تضاعف فيه الصّلاة :
10 - ذهب الحنفيّة في المشهور والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المضاعفة تعم جميع حرم مكّة, فقد ورد من حديث عطاء بن أبي رباح قال : « بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة قال عطاء فكأنّه مائة ألف قال قلت يا أبا محمّد هذا الفضل الّذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم قال بل في الحرم فإنّ الحرم كلّه مسجد » .
وقال ابن مفلح : ظاهر كلامهم في المسجد الحرام أنّه نفس المسجد , ومع هذا فالحرم أفضل من الحلّ , فالصّلاة فيه أفضل .
وقال الزّركشي : يتحصّل في المراد بالمسجد الحرام الّذي تضاعف فيه الصّلاة سبعة أقوال . الأوّل : أنّه المكان الّذي يحرم على الجنب الإقامة فيه .
الثّاني : أنّه مكّة .
الثّالث : أنّه الحرم كله إلى الحدود الفارقة بين الحلّ والحرم , قاله عطاء وقد سبق مثله عن الماورديّ وغيره , وقال الروياني : فضّل الحرم على سائر البقاع فرخّص في الصّلاة فيه في جميع الأوقات لفضيلة البقعة وحيازة الثّواب المضاعف , وقال الزّركشي : وهذا فيه تصريح بهذا القول .
الرّابع : أنّه الكعبة , قال الزّركشي وهو أبعدها .
الخامس : أنّه الكعبة والمسجد حولها , وهو الّذي قاله النّووي في استقبال القبلة .
السّادس : أنّه جميع الحرم وعرفة , قاله ابن حزم .
السّابع : أنّه الكعبة وما في الحجر من البيت , وهو قول صاحب البيان من أصحاب الشّافعيّة.
وحكى المحب الطّبريّ خلاف الفقهاء في مكان المضاعفة بالنّسبة إلى الصّلاة , ورجّح أنّ المضاعفة تختص بمسجد الجماعة .
تقدم المأموم على الإمام في المسجد الحرام :
11 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه إذا صلّى الإمام خارج الكعبة وتحلّق المقتدون حولها جاز لمن في غير جهته أن يكون أقرب إليها منه , لا لمن كان في جهته , لأنّ التّقدم والتّأخر إنّما يظهر عند اتّحاد الجهة .
وقال الشّافعيّة : يستحب للإمام أن يقف خلف المقام , ويقف المأمومون مستديرين بالكعبة , بحيث يكون الإمام أقرب إلى الكعبة منهم , فإن كان بعضهم أقرب إليها منه وهو في جهة الإمام ففي صحّة صلاته قولان : الجديد بطلانها , والقديم صحّتها .
وإن كان في غير جهته فطريقان : المذهب : القطع بصحّتها وهو نصه في الأمّ وبه قطع الجمهور .
والثّاني فيه القولان , حكاه الأصحاب عن أبي إسحاق المروزيّ .
المرور بين يدي المصلّي في المسجد الحرام :
12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يمنع المار داخل المسجد الحرام , لما روي عن المطّلب ابن أبي وداعة رضي اللّه عنه : « أنّه رأى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي ممّا يلي باب بني سهم والنّاس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة » , وهو محمول على الطّائفين فيما يظهر لأنّ الطّواف صلاة فصار كمن بين يديه صفوف من المصلّين .
وقال المالكيّة : إن كان في المسجد الحرام حرم المرور إن كان له مندوحة وصلّى لسترة , وإلّا جاز , هذا إذا كان المار غير طائف , وأمّا هو فلا يحرم عليه مطلقاً , ثمّ إن كان له سترة كره حيث كان للطّائف مندوحة .
ونصّ الرّملي على أنّه لو قصّر المصلّي , بأن وقف في قارعة الطّريق أو بشارع أو درب ضيّقٍ أو نحو باب مسجد كالمحلّ الّذي يغلب مرور النّاس به في وقت الصّلاة ولو في المسجد كالمطاف , وكأن ترك فرجةً في صفّ إمامه فاحتيج للمرور بين يديه لفرجة قبله فلا يحرم المرور في جميع ذلك , ولو في حريم المصلّى وهو قدر إمكان سجوده , خلافاً للخوارزميّ , بل ولا يكره عند التّقصير .
وقال الحنابلة : المصلّي بمكّة المشرّفة لا يرد المارّ بين يديه , قال أحمد : لأنّ مكّة ليست كغيرها لأنّ النّاس يكثرون بها ويزدحمون فمنعهم تضييق عليهم , ولأنّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى بمكّة والنّاس يمرون بين يديه وليس بينهما ستر .
وألحق الموفّق بمكّة سائر الحرم لمشاركته لها في الحرمة .
وقال الرّحيباني : إنّما يتمشّى كلام الموفّق في زمن حاج لكثرة النّاس واضطرارهم إلى المرور , وأمّا في غير أيّام الحجّ فلا حاجة للمرور بين يدي المصلّي للاستغناء عنه , وكلام أحمد يمكن حمله على الصّلاة في المطاف أو قريباً منه وهو متّجهٌ .
أفضليّة صلاة العيد بالمسجد الحرام :(102/2)
13 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى ندب إيقاع صلاة العيد بالمصلّى في الصّحراء , وقيّد الشّافعيّة أفضليّة الصّلاة في الصّحراء بما إذا كان مسجد البلد ضيّقاً .
واستثنى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة من هذا الحكم صلاة العيد بمكّة , فمن كان بمكّة فإيقاعه صلاة العيد بالمسجد الحرام أفضل للمزايا الّتي تقع فيه لمن يصلّي العيد وهي النّظر والطّواف المعدومان في غيره , لخبر « ينزّل اللّه على أهل المسجد مسجد مكّة كلّ يوم عشرين ومائة رحمةً ستّين منها للطّائفين وأربعين للمصلّين وعشرين منها للنّاظرين » .
نذر الإتيان إلى المسجد الحرام :
14 - ذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد والحنابلة والشّافعيّة في أصحّ الطّريقين إلى أنّ من نذر إتيان المسجد الحرام ينعقد نذره بحجّ أو عمرة لحديث عقبة بن عامر : « نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه وأمرتني أن أستفتي لها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فاستفتيته فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لتمش ولتركب » , ولأنّ مطلق كلام النّاذرين محمول على ما ثبت له أصل في الشّرع , والعرف قصد المسجد الحرام بالحجّ والعمرة فيحمل نذره عليه .
وقيّد المالكيّة لزوم المشي إلى المسجد الحرام بما إذا نذر النّاذر المشي له لحجّ أو عمرة , أو لصلاة فيه فرضاً كانت أو نفلاً .
وقال المالكيّة : إذا لزمه المشي مشى من حيث نذر المشي منه , وإن لم ينو محلاً مخصوصاً فمن المكان المعتاد لمشي الحالفين بالمشي , وإن لم يكن مكاناً معتاداً للحالفين فمن حيث حلف أو نذر وأجزأ المشي من مثله في المسافة , وجاز ركوب لحاجة كأن يرجع لشيء نسيه أو احتاج إليه كما يجوز له الركوب في الطّريق لبحر أعتيد ركوبه للحالفين أو أضطرّ إلى ركوبه , ويستمر ماشياً لتمام طواف الإفاضة أو تمام السّعي إن كان سعيه بعد الإفاضة .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ من قال : عليّ المشي إلى المسجد الحرام لا شيء عليه لأنّ التزام الإحرام بهذه العبارة غير متعارف عليه , ولا يمكن إيجابه باعتبار اللّفظ فامتنع أصلاً . وللتّفصيل ( ر : نذر ) .
حاضر المسجد الحرام :
15 - قال القرطبي : اختلف النّاس في حاضري المسجد الحرام - بعد الإجماع على أنّ أهل مكّة وما اتّصل بها من حاضريه - وقال الطّبريّ : بعد الإجماع على أهل الحرم .
قال ابن عطيّة : وليس كما قال - فقال بعض العلماء : من كان يجب عليه الجمعة فهو حضري , ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي , فجعل اللّفظة من الحضارة والبداوة .
وعند أبي حنيفة وأصحابه : هم أهل مكّة ومن في حكمهم من أهل داخل المواقيت .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ المعتمد المختار إلى أنّ حاضري المسجد الحرام من مساكنهم دون مرحلتين من الحرم .
وفي القول المقابل للأصحّ : حاضرو المسجد الحرام من مساكنهم دون مرحلتين من مكّة . وقال ابن المنذر في الإشراف : حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكّة وأهل ذي طوًى : وقال مجاهد وطاووس : هم أهل الحرم .
دخول الكافر المسجد الحرام :
16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن الشّيباني إلى أنّ الكافر ليس له دخول المسجد الحرام بحال لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .
ويقرب من هذا ما ذهب إليه المالكيّة إذ أنّهم يرون أنّ الكافر يمنع من دخول المسجد مطلقاً وإن أذن له مسلم ما لم تدع ضرورة لدخوله كعمارة , وقالوا : إنّ الآية : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } عامّة في سائر المشركين وسائر المساجد , وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله , ونزع في كتابه بهذه الآية , ويؤيّد ذلك قوله تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } , ودخول الكفّار فيها مناقض لترفيعها .
وصرّح الحنفيّة بأنّه لا بأس بدخول أهل الذّمّة المسجد الحرام وسائر المساجد .(102/3)
المسْجِد النّبوِيّ *
التّعريف :
1 - المسجد - لغةً - بكسر الجيم - الموضع الّذي يسجد فيه , قال الزّجّاج : كل موضع يُتَعبَّد فيه فهو مَسْجِد , والمسجَد بالفتح موضع وقوع الجبهة على الأرض .
وشرعاً : عرّفه الزّركشي بأنّه : كل موضع من الأرض لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم « جُعلت لي الأرض مسجداً » قال : وهذا من خصائص هذه الأمّة , ثمّ قال : إنّ العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس حتّى يخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه .
والمسجد النّبوي : هو المسجد الّذي بناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في موقعه المعروف بالمدينة حين قدم مهاجراً إليها من مكّة , وهو ثاني الحرمين الشّريفين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المسجد الحرام :
2 - وهو المسجد الّذي بناه إبراهيم عليه السّلام ومعه ابنه إسماعيل , في مكّة المكرّمة , وهو المقصود بقوله تعالى :{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }.
ب - المسجد الأقصى :
3 - ويسمّى بيت المقدس , وهو المقصود بقوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } .
والصّلة أنّ كلاً من المسجد الحرام والمسجد النّبويّ والمسجد الأقصى من المساجد الّتي تشد إليها الرّحال ويضاعف فيها الأجر .
تأسيس المسجد النّبويّ :
4 - قدم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة مهاجراً إليها من مكّة حين اشتدّ الضحى من يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلةً مضت من شهر ربيع الأوّل - على ما صحّحه ابن الجوزيّ وجزم به ابن النّجّار والنّووي فمكث في بني عمرو بن عوف أيّام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وبنى فيهم مسجد قباء وصلّى فيه إلى بيت المقدس , ثمّ ركب يوم الجمعة فمرّ على بني سالم فجمع بهم وبمن كان معه من المسلمين في مسجدهم فكانت أوّل جمعة صلّاها النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة وأصبح ذلك المسجد يسمّى مسجد الجمعة إلى اليوم , ثمّ ركب من بني سالم فجعل كلّما مرّ داراً من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون يا رسول اللّه هلمّ إلى القوّة والمنعة فيقول صلّى اللّه عليه وسلّم : « خلوا سبيلها يعني ناقته القصواء فإنّها مأمورة » , وقد أرخى زمامها وما يحرّكها وهي تنظر يميناً وشمالاً حتّى إذا أتت موضع المسجد بركت - وهو يومئذ مربد للتّمر لغلامين يتيمين - ثمّ ثارت النّاقة والنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليها حتّى بركت على باب دار أبي أيوب الأنصاريّ رضي اللّه عنه ثمّ ثارت منه وبركت في مبركها الأوّل وألقت جرانها - أي باطن عنقها - بالأرض وأرزمت أي صوّتت من غير أن تفتح فاها - فنزل عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : « هذا المنزل إن شاء اللّه تعالى » , واحتمل أبو أيوب رحله صلّى اللّه عليه وسلّم وأدخله في بيته , فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « المرء مع رحله » . ونقل السيوطيّ عن ابن سعد في الطّبقات عن الزهريّ قال : « بركت ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند موضع المسجد - وهو يومئذ يصلّي فيه رجال من المسلمين , وكان مربداً لسهل وسهيل - غلامين يتيمين من الأنصار وكانا في حجر أبي أمامة : أسعد بن زرارة , فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتّخذه مسجداً , فقالا : بل نهبه لك يا رسول اللّه , فأبى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك , فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالنّخل الّذي في الحديقة وبالغرقد الّذي فيه أن يقطع , وأمر باللّبن فضرب , وكان في المربد قبور جاهليّة فأمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنبشت , وأمر بالعظام أن تغيّب , وأسّسوا المسجد فجعلوا طوله ممّا يلي القبلة إلى مؤخّره مائة ذراع , وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربّع , ويقال كان أقلّ من المائة وجعلوا الأساس قريباً من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثمّ بنوه باللّبن , وبناه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وجعل ينقل الحجارة معهم بنفسه ويقول :
« اللّهمّ لا عيش إلّا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة » .
وجعل له ثلاثة أبواب , باباً في مؤخّره , وباباً يقال له باب الرّحمة وهو الباب الّذي يدعى باب عاتكة , والباب الثّالث الّذي يدخل منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الباب الّذي يلي آل عثمان وجعل طول الجدار بسطةً , وعمده الجذوع , وسقفه جريداً فقيل له ألا تسقفه ؟ فقال : عريشٌ كعريش موسى خشيبات وتمام الشّأن أعجل من ذلك , وبنى بيوتاً إلى جنبه باللّبن وسقفها بجذوع النّخل والجريد وكانت تلك البيوت مكان حجرته اليوم , فلمّا توفّيت أزواجه خلطت البيوت والحجر بالمسجد في زمن عبد الملك بن مروان » .
توسعة المسجد وعمارته :(103/1)
5 - قال الزّركشي : روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : « كان المسجد على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مبنياً باللّبن وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل » فلم يزد فيه أبو بكر رضي اللّه عنه شيئاً , وزاد فيه عمر رضي اللّه عنه وبناه على بنائه في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم باللّبن والجريد وأعاد عمده خشباً , ثمّ غيّره عثمان رضي اللّه عنه فزاد فيه زيادةً كبيرةً وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة , وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالسّاج , وقال خارجة بن زيد: بنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسجده سبعين ذراعاً في ستّين ذراعاً أو يزيد , قال أهل السّير : جعل عثمان طول المسجد مائةً وستّين ذراعاً وعرضه مائةً وخمسين ذراعاً وجعل أبوابه ستّةً كما كانت في زمن عمر ثمّ زاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدّمه مائتين وفي مؤخّره مائةً وثمانين ثمّ زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشّام فقط دون الجهات الثّلاث .
الرّوضة الشّريفة :
6 - ورد في فضل الرّوضة الشّريفة عدّة أحاديث , من ذلك ما رواه الشّيخان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة , ومنبري على حوضي » , وما أخرجه أحمد عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما بين منبري إلى حجرتي روضة من رياض الجنّة وإنّ منبري على ترعة من ترع الجنّة » وفي رواية من حديث عبد اللّه بن زيد : « ما بين هذه البيوت - يعني بيوته صلّى اللّه عليه وسلّم - إلى منبري روضة من رياض الجنّة » .
قال النّووي : ذكروا في معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة » قولين : أحدهما أنّ ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنّة , والثّاني أنّ العبادة فيه تؤدّي إلى الجنّة , وقال محب الدّين الطّبريّ قال بعض العلماء : لمّا كان جلوسه وجلوس النّاس إليه يتعلّمون القرآن والدّين والإيمان هناك شبّه ذلك الموضع بالرّوضة لكرم ما يجتنى فيه , وأضافه إلى الجنّة لأنّها تؤوّل إلى الجنّة , كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم :
« الجنّة تحت ظلال السيوف » .
أساطين المسجد النّبويّ الأصليّ :
7 - من أساطين المسجد النّبويّ أسطوانة المخلَّق الّتي هي علم على المصلّى الشّريف , فعن سلمة بن الأكوع رضي اللّه تعالى عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتحرّى الصّلاة عندها » .
ومنها : أسطوانة القرعة وتعرف بأسطوانة عائشة رضي اللّه تعالى عنها وبأسطوانة المهاجرين أيضاً , روي عن ابن زبّالة أنّ عبد اللّه بن الزبير واثنين معه دخلوا على عائشة رضي اللّه تعالى عنها فتذاكروا المسجد فقالت عائشة إنّي لأعلم ساريةً من سواري المسجد لو يعلم النّاس ما في الصّلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان , فخرج الرّجلان وبقي ابن الزبير , ثمّ خرج ابن الزبير مسرعاً فصلّى إلى هذه السّارية , وعن ابن زبّالة أيضاً : وبلغنا أنّ الدعاء فيها مستجاب .
ومنها : أسطوانة التّوبة وتعرف بأسطوانة أبي لبابة رضي اللّه تعالى عنه وهي الّتي ربط أبو لبابة نفسه إليها حتّى نزلت توبته .
ومنها : أسطوانة السّرير وهي الّتي كان يوضع عندها سرير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا اعتكف .
ومنها : أسطوانة الحرس وهي الّتي كان يجلس علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه في صفحتها الّتي تلي القبر ممّا يلي باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحرس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم .
ومنها : أسطوانة الوفود وهي الّتي كان يجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليها لوفود العرب إذا جاءته .
ومنها : أسطوانة التّهجد وهي الّتي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخرج إذا انكفّت النّاس فيصلّي عندها صلاة اللّيل .
حجرات أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم :
8 - قال ابن النّجّار : لمّا بنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مسجده بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة - رضي اللّه عنهما - على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النّخل , ولمّا تزوّج صلّى اللّه عليه وسلّم نساءه بنى لهنّ حجراً وهي تسعة أبيات وهي ما بين بيت عائشة رضي اللّه عنها إلى الباب الّذي يلي باب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , وقال أهل السّير : ضرب النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشّرق إلى الشّاميّ ولم يضربها غربيّه , وكانت خارجةً من المسجد مديرةً به إلّا من المغرب وكانت أبوابها شارعةً في المسجد .
وكان بيت فاطمة بنت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خلف بيته عن يسار المصلّى إلى الكعبة وكان فيه خوخة إلى بيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم « وكان إذا قام من اللّيل إلى المخرج اطّلع منها يعلم خبرهم , وكان يأتي بابها كلّ صباح فيأخذ بعضادتيه ويقول : الصّلاة : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } » .
منبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم :(103/2)
9 - وردت عدّة روايات من طرقٍ متعدّدة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا أراد أن يخطب وأطال القيام يسند ظهره إلى إحدى سواري مسجده - صلّى اللّه عليه وسلّم - الّتي كانت من جذوع النّخل , وكان يشقّ عليه طول قيامه فأتي بجذع فحفر له فصار يخطب إلى جنبه وإذا طال قيامه - صلّى اللّه عليه وسلّم - استند فاتّكأ عليه , ولمّا رأى الصّحابة أنّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - يشكو ضعفاً في رجليه ويشقّ عليه طول القيام عملوا له منبراً من خشب الطّرفاء وكان بمرقاتين - أي درجتين أو ثلاثٍ « فلمّا تحوّل صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المنبر يخطب عليه سمع لذلك الجذع حنين كصوت العشار فأتى النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليه فاحتضنه وضمّه فسكن » .
موضع قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وصاحبيه :
10 - قال ابن هشام : لمّا فرغ من جهاز النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل ندفنه في مسجده , وقال قائل بل ندفنه مع أصحابه , فقال أبو بكر إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « ما قبض نبي إلّا دفن حيث قبض » , فرفع فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّذي توفّي عليه فحفر له تحته ثمّ دخل النّاس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلون عليه أرسالاً - جماعةً بعد جماعة - .
وقال ابن كثير : قد علم بالتّواتر أنّه عليه الصّلاة والسّلام دفن في حجرة عائشة الّتي كانت تختص بها شرقيّ مسجده في الزّاوية الغربيّة القبليّة من الحجرة , ثمّ دفن بعده فيها أبو بكر ثمّ عمر رضي اللّه عنهما .
مكان أهل الصُفَّة :
11 - الصُفّةُ : بضمّ الصّاد المشدّدة وتشديد الفاء - مكان مظلّل في مؤخّر المسجد النّبويّ وإليها ينسب أهل الصفّة , وهم أناس من فقراء المسلمين , وأكثرهم من المهاجرين ممّن لم يكن لهم منازل ولا مأوىً , أنزلهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم المسجد وسمّاهم أهل الصفّة, وكان صلّى اللّه عليه وسلّم يجالسهم ويأنس بهم , وكان إذا جاءته هديّة أصاب منها وبعث إليهم منها , وإذا جاءته الصّدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها .
قال ابن النّجّار : روى البخاري في الصّحيح أنّ أصحاب الصفّة كانوا فقراء , وروي - أيضاً- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : « رأيت سبعين من أهل الصفّة ما منهم رجل عليه رداء , إمّا إزار وإمّا كساء قد ربطوه في أعناقهم , فمنها ما يبلغ نصف السّاقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهة أن ترى عورته » .
آداب دخول المسجد النّبويّ :
12 - يستحب لمن دخل المسجد النّبويّ أن يقول الذّكر الوارد في ذلك عند دخول المساجد , فيقدّم رجله اليمنى ويقول : " بسم اللّه اللّهمّ صلّ على محمّد ربّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " .
وعند الخروج يقدّم رجله اليسرى ويقول ذلك , ولكن بلفظ : " وافتح لي أبواب فضلك " , ويصلّي عند الدخول ركعتين تحيّة المسجد والمسجد النّبوي وغيره من المساجد في ذلك سواء إلّا المسجد الحرام فإنّ تحيّته الطّواف .
ثمّ يقصد الحجرة الشّريفة الّتي فيها قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيستقبل القبر ويستدبر القبلة , ويدعو بالدعاء الوارد في ذلك .
ر : مصطلح ( زيارة قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ف / 7 ) .
الأحكام الخاصّة بمسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم :
للمسجد النّبويّ ما للمساجد من أحكام , ويختص بأحكام منها :
أ - شد الرّحال إليه :
13 - فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا تُشَدَّ الرّحالُ إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام , ومسجد الرّسول - صلّى اللّه عليه وسلّم - ومسجد الأقصى » .
وفي الحديث دليل على أنّ المسجد النّبويّ أحد المساجد الثّلاثة الّتي تختص بمزيّة جواز شدّ الرّحال إليها .
وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيّتها على غيرها لكونها مساجدَ الأنبياء , ولأنّ الأوّل قبلة النّاس وإليه حجهم والثّاني كان قبلة الأمم السّالفة , والثّالث أسّس على التّقوى . واختلف في شدّ الرّحال إلى غيرها كالذّهاب إلى زيارة الصّالحين أحياءً وأمواتاً , وإلى المواضع الفاضلة لقصد التّبرك بها والصّلاة فيها , فقال أبو محمّد الجويني : يحرم شد الرّحال إلى غيرها عملاً بظاهر هذا الحديث وبه قال عياض وطائفة .
والصّحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشّافعيّة أنّه لا يحرم .
ب - ثواب الصّلاة في المسجد النّبويّ فرضاً ونفلاً :
14 - عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام » .
ولا خلاف بين العلماء في حصول هذه الأفضليّة ومضاعفة الثّواب الواردة في الحديث لصلاة الفرض .
أمّا في صلاة النّفل فيرى الحنفيّة والمالكيّة - على الصّحيح - والحنابلة : أنّ الأفضليّة ومضاعفة الثّواب الواردة في الحديث خاصّة بالفرائض دون النّوافل , لأنّ صلاة النّافلة في البيت أفضل وأقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرّياء , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلّا المكتوبة » , وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « إذا قضى أحدكم الصّلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإنّ اللّه جاعل في بيته من صلاته خيراً » .(103/3)
لكنّ المالكيّة فرّقوا بين من كان من أهل المدينة وبين من كان من الغرباء عنها , فقالوا إنّ صلاة أهل المدينة النّفل المطلق في بيوتهم أفضل من فعلها في المسجد بخلاف الرّواتب وما تسن له الجماعة فإنّ فعلها في المسجد أفضل .
أمّا الغرباء عن المدينة فإنّ صلاتهم النّافلة في مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم أفضل من صلاتهم لها في بيوتهم وسواء أكانت النّافلة من الرّواتب أم كانت نفلاً مطلقاً .
وقالوا : إنّ المراد بالغريب عن المدينة وهو من لا يعرف فيها , وإنّ المجاور بها حكمه حكم أهلها حيث كان يعرف .
ويرى الشّافعيّة - ومطرّف من المالكيّة - أنّ التّفضيل الوارد بالحديث يعم صلاة الفرض وصلاة النّفل .
قال النّووي : واعلم أنّ مذهبنا أنّه لا يختص هذا التّفضيل بالصّلاة في هذين المسجدين - أي المسجد الحرام والمسجد النّبويّ - بالفريضة بل يعم الفرض والنّفل جميعاً , وبه قال مطرّف من أصحاب مالكٍ , وقال الزّركشي : ذكر في شرح المهذّب أنّ التّحقيق : أنّ صلاة النّفل في بيته أفضل من المسجد .
ج - حكم ما زيد في بناء المسجد النّبويّ :
15 - طرأت على بناء المسجد النّبويّ توسعة وزيادات في بنائه عمّا كان عليه في عصر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , وقد بحث العلماء حكم هذه الزّيادة من جهة نيل الثّواب , فمنهم من قال إنّ الفضل الثّابت لمسجده صلّى اللّه عليه وسلّم ثابت لما زيد فيه .
قال محب الدّين الطّبريّ : عن ابن عمر قال زاد عمر بن الخطّاب في المسجد من شاميّه وقال : " لو زدنا فيه حتّى تبلغ الجبّانة كان مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم " , وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي » , وكان أبو هريرة رضي اللّه عنه يقول : ظهر المسجد كقعره .
وإلى هذا ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو اختيار ابن تيميّة , قال ابن عابدين : " ومعلوم أنّه قد زيد في المسجد النّبويّ , فقد زاد فيه عمر ثمّ عثمان ثمّ الوليد ثمّ المهدي , والإشارة بهذا إلى المسجد المضاف إليه صلّى اللّه عليه وسلّم , ولا شكّ أنّ جميع المسجد الموجود الآن يسمّى مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم , فقد اتّفقت الإشارة والتّسمية على شيء واحد فلم تلغ التّسمية فتحصل المضاعفة المذكورة في الحديث , فيما زيد فيه " .
ونقل الجراعي عن ابن رجب مثل ذلك , وأنّه قد قيل إنّه لا يعلم عن السّلف في ذلك خلاف . وروي عن الإمام أحمد التّوقّف .
ورجّح السّمهودي - من المالكيّة - أنّ ما زيد في المسجد النّبويّ داخل في الأفضليّة الواردة بالحديث , ونقل عن الإمام مالكٍ أنّه سئل عن حدّ المسجد الّذي جاء فيه الخبر هل هو على ما كان في عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو هو على ما عليه الآن ؟ فقال بل هو على ما هو الآن , وقال لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أخبر بما يكون بعده وزويت له الأرض فأري مشارق الأرض ومغاربها , وتحدّث بما يكون بعده فحفظ ذلك من حفظه في ذلك الوقت ونسي ذلك من نسيه , ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الرّاشدون المهديون أن يزيدوا فيه بحضرة الصّحابة ولم ينكر عليهم ذلك منكر .
لكن قال الأبي في شرح الحديث : « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة . . . » إنّ التّفضيل مختصٌّ بمسجده الّذي كان في زمانه صلّى اللّه عليه وسلّم دون ما زيد فيه بعد ذلك, فلا يتناول التّفضيل ما زاد فيه عثمان لأنّه من اتّخاذه , ويدل على أنّه من اتّخاذه احتجاجه حين أنكر عليه فيه الزّيادة بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « من بنى مسجداً بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » , فجعله من بنائه لنفسه .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ هذه الفضيلة مختصّة بنفس مسجده صلّى اللّه عليه وسلّم الّذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده .
وإلى هذا ذهب ابن عقيل وابن الجوزيّ وجمع من الحنابلة .
د - نذر المشي إلى المسجد النّبويّ :
16 - اختلف الفقهاء في حكم الوفاء على من نذر المشي إلى مسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , فيرى الحنفيّة أنّه لا يلزمه الوفاء به , لأنّ من شروط النّذر عندهم أن يكون قربةً مقصودةً وأن يكون من جنسه واجب أو فرض , والذّهاب إلى المسجد النّبويّ غير واجب بخلاف ما لو نذر المشي إلى المسجد الحرام فإنّه يلزمه الوفاء به .
وإلى ذلك ذهب الشّافعيّة .
ويرى المالكيّة وجوب الوفاء بالنّذر إن نوى صلاةً أو صوماً أو اعتكافاً , لكن لا يلزمه المشي وله أن يذهب راكباً .
ويرى الحنابلة لزوم الوفاء بالنّذر ماشياً , واستدلوا بقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا , والمسجد الأقصى » . وقالوا إنّه يلزمه - حينئذ - أن يصلّي في المسجد ركعتين لأنّ القصد بالنّذر القربة والطّاعة, وإنّما يكون تحصيل ذلك بالصّلاة فتضمّن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت اللّه الحرام أحد النسكين .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( نذر )
هـ - زيارة قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
17 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ زيارة قبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مستحبّة , وقالت طائفة إنّها سنّة مؤكّدة تقرب من درجة الواجبات , وهو المفتى به عند طائفة من الحنفيّة . وذهب الفقيه المالكي أبو عمران موسى بن عيسى الفاسي إلى أنّها واجبة .(103/4)
ومن أدلّة مشروعيّتها قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } , وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي » .
وللتّفصيل : ر : مصطلح ( زيارة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ف / 2 ) .
آداب وداع المسجد النّبويّ :
18 - يستحب لمن عزم على الرجوع إلى بلده أن يودّع المسجد بصلاة ويدعو بعدها بما أحبّ وأن يأتي القبر الشّريف فيسلّم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ويدعو اللّه بما أحبّ ويسأله سبحانه أن يوصله إلى أهله سالماً غانماً ويقول : غير مودّع يا رسول اللّه , ويسأل اللّه تعالى أن يردّه إلى حرمه وحرم نبيّه محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم في عافية(103/5)
المَدِينة المُنَوَّرة *
التّعريف :
1 - المدينة لغةً : المصر الجامع , على وزن فعيلة , مأخوذة من مَدَن بالمكان أي : أقام فيه , وقيل : مَفْعَلة لأنّها من دان , والجمع : مُدُن , ومدائن .
وغلب إطلاق " المدينة " معرّفاً بأل لدى المسلمين على مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم , ويكثر أن يقال : " المدينة المنوّرة " إشارةً إلى أنّها منوّرة بأنوار ساكنها عليه أفضل الصّلاة والسّلام .
أسماء المدينة المنوّرة :
2 - كانت المدينة تسمّى قبل الإسلام يثرب , فسمّاها النّبي صلى الله عليه وسلم " المدينة " وقال : « أمرت بقرية تأكل القرى ، يقولون يثرب وهي المدينة ، تنفي النّاس كما ينفي الكير خبث الحديد » .
ونهى أن تسمّى يثرب , فقد روي أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « من سمّى المدينة يثرب فليستغفر اللّه , هي طابة , هي طابة » .
ومن أسماء المدينة المشهورة " طيبْة " بسكون الياء , ويقال أيضاً : " طيِّبة " مشدّدة الياء و " دار الهجرة " وغير ذلك من أسماءٍ , قيل : إنّها تبلغ الأربعين .
وتقع المدينة بين حرّتين : إحداهما : شرقيّ المدينة وهي حرّة واقمٍ , والأخرى : غربيّها وهي حرّة الوبرة .
والحرّة : أرض مكتسية بحجارة سوداء بركانيّةٍ , ويحيط بها من الشّمال جبل أحدٍ , ومن الجنوب جبل عيرٍ .
وتبعد عن مكّة عشر مراحل , ويحرم أهلها ومن مرّ بها من ذي الحليفة .
فضل المدينة :
3 - المدينة مهاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيها مثواه صلى الله عليه وسلم ومنها انتشر الإسلام في العالم , ولها فضائل كثيرة , من أهمّها بإيجاز :
أ - مضاعفة البركة فيها فعن أنسٍ رضي الله عنه قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اللّهمّ اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما بمكّة من البركة » .
ب - تفضيل الإقامة فيها على غيرها فعن سفيان بن أبي زهيرٍ رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « تُفتح اليمن , فيأتي قوم يَبُسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم , والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون , وتُفتح الشّام فيأتي قوم يَبُسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم , والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتُفتح العراق فيأتي قوم يَبُسّون , فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم , والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون » .
ج - تغليظ ذنب من يكيد أهلها : فعن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أراد أهل المدينة بسوء أذابه اللّه كما يذوب الملح في الماء » .
د - حمايتها من دخول الدّجّال والطّاعون : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « على أنقاب المدينة ملائكة , لا يدخلها الطّاعون ولا الدّجّال ». هـ - إنّها مجمع الإيمان فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها » .
ويأرز أي : ينضم ويجتمع بعضه إلى بعضٍ فيها .
حرم المدينة :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المدينة حرم مثل مكّة , فيحرم صيدها ولا يقطع شجرها إلا ما استنبت للقطع .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المدينة ليس لها حرم , فلا يمنع أحد من أخذ صيدها وشجرها , ولكلّ من الفريقين أدلّته .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حرم ف28 ) .
5 - وقد فرّع الشّافعيّة والحنابلة على إثبات صفة الحرم للمدينة أنّه يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سائر البقاع , وقالوا : إنّ الأولى أن لا يدخل تراب الحلّ وأحجاره الحرم , وعلّة ذلك أنّ المدينة لمّا جعلها اللّه حرماً آمناً حرم بذلك كل شيءٍ ثابت مستقر فيها , وأمّا أنّ الأولى عدم إدخال تراب الحلّ وأحجاره فلئلا تحدث لها حرمة لم تكن .
وهذا إذا لم تمسّ الحاجة إلى إدخالها إلى الحرم , لمثل بناءٍ أو غيره .
المفاضلة بين مكّة والمدينة :
6 - ذهب الجمهور إلى تفضيل مكّة على المدينة وتفضيل المسجد الحرام على المسجد النّبويّ .
وذهب الإمام مالك إلى تفضيل المدينة المنوّرة على مكّة المكرّمة , وتفضيل المسجد النّبويّ على المسجد الحرام وهو قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه .
وقد استدلّ الجمهور على تفضيل مكّة وحرمها بأدلّة منها :
ما ورد عن عبد اللّه بن عديّ بن حمراء رضي الله عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال : واللّه إنّك لخير أرض اللّه وأحب أرض اللّه إلى اللّه , ولولا أنّي أُخرِجتُ منك ما خرجت » .
وعن عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمكّة : « ما أطيبك من بلدٍ وأحبّك إليّ , ولولا أنّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك » .
فهذان الحديثان يدلان على تفضيل مكّة على سائر البلدان ومنها المدينة .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام » .
وفي حديث عبد اللّه بن الزبير رضي الله عنهما زيادة : « وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاةٍ في مسجدي هذا » وهذا دليل على تفضيل المسجد الحرام بمكّة على المسجد النّبويّ الشّريف .
واستدلّ مالك بأدلّة في فضل المدينة منها ما سبق : « إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة » وأنّها القرية الّتي تأكل القرى , فإنّه يدل على زيادة فضل المدينة على غيرها , ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « اللّهمّ حبّب إلينا المدينة كحبّنا لمكّة أو أشدّ » .
واستدلوا بأنّ اللّه تعالى اختارها لنبيّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرّاشدين وفضلاء الصّحابة , ولا يختار لهم إلا أفضل البقاع .(104/1)
وقد صرّحوا بأنّ الخلاف ليس في الكعبة المعظّمة , فإنّها أفضل من المدينة كلّها , إلا البقعة الّتي ضمّت أعضاء الجسد الشّريف للنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وذكر الشّربيني الخطيب أنّ القاضي عياض نقل الإجماع على أنّ موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل الأرض , والخلاف فيما سواه .
مشاهد المدينة :
7 - مشاهد المدينة مواضع ذات فضلٍ , ومأثرة تاريخيّة , استحب العلماء زيارتها , وهي نحو ثلاثين موضعاً يعرفها أهل المدينة ومن أهمّها ما يلي :
أ - المسجد النّبوي :
8 - وهو ثاني مسجدٍ بني في الإسلام بعد مسجد قباءٍ , والصّلاة فيه أفضل من الصّلاة في أيّ مسجدٍ آخر سوى المسجد الحرام , وفي المسجد النّبويّ معالم منها : الرّوضة الشّريفة والمنبر والمحراب , والحجرة الشّريفة الّتي تشرّفت بضمّ رفاته صلى الله عليه وسلم ورفات صاحبيه أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما .
وتفصيل ذلك كلّه ينظر في : ( المسجد النّبوي , وزيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ف4 ) .
ب - مسجد قباءٍ :
9 - وهو أوّل مسجدٍ وضع في الإسلام , وأوّل من وضع أساسه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمّي باسم قباءٍ , قريةٍ تبعد عن المدينة قدر ثلاثة أميالٍ تقريباً .
ويستحب زيارة مسجد قباءٍ والصّلاة فيه كلّ أسبوعٍ , وأفضله يوم السّبت , لحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال : « كان النّبي صلى الله عليه وسلم : يأتي مسجد قباءٍ كلّ سبتٍ راكباً وماشياً » .
وورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الصّلاة في مسجد قباءٍ كعمرة » .
وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كان يأتي قباء يوم الاثنين ويوم الخميس , وقال : « والّذي نفسي بيده لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ في أصحابه ينقلون حجارته على بطونهم ويؤسّسه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . . . » .
ج - البقيع :
10 - ويقال له : بقيع الغرقد , لوجود شجر الغرقد فيه , وكان مقبرة أهل المدينة وهو يقع إلى الشّرق من المسجد النّبويّ , وقد ورد فيه أحاديث , من أصحّها حديث عائشة رضي الله عنها عنها : « أنّ جبريل أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل بقيع الغرقد فتستغفر لهم . . . » .
وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلّما كان ليلتها من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر اللّيل إلى البقيع فيقول : السّلام عليكم دار قومٍ مؤمنين , وأتاكم ما توعدون غداً مؤجّلون , وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون , اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد » .
قال النّووي : يستحب أن يخرج زائر المدينة كلّ يومٍ إلى البقيع خصوصاً يوم الجمعة , ويكون ذلك بعد السّلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وفي البقيع قبور أجلّة الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم , كانت قد بنيت عليهم قباب , وقد أزيلت , لكنّ أهل الخبرة يعرفون مواضعهم , منهم : عثمان بن عفّان , والعبّاس بن عبد المطّلب رضي الله عنهما إلى الغرب , وشرقيه قبر الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما وزين العابدين وبعض أهل البيت في قبرٍ واحدٍ , كقبر صفيّة رضي الله عنها عمّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإبراهيم رضي الله عنه ابنه إلى جنب عثمان بن مظعونٍ , وإلى جنبه عبد الرّحمن بن عوفٍ رضي الله عنهما وثمّة موضع قبور من دفن بالبقيع من أمّهات المؤمنين جميعاً .
د - جبل أحدٍ وقبور الشهداء عنده :
11 - أحد جبل عظيم يطل على المدينة سمّي بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبالٍ أخر هناك , وباسمه سمّيت الغزوة الكبيرة الّتي جاءت بعد غزوة بدرٍ الكبرى , لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل ظهر جيشه إلى جبل أحدٍ .
وورد أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « أحد جبل يحبنا ونحبه » .
كما جاء : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكرٍ وعمر وعثمان , فرجف بهم , فقال : أثْبُت أحد , فإنّما عليك نبي وصدّيق وشهيدان » .
وتستحب زيارة شهداء أحدٍ رضي الله عنهم وقد أحيطت , قبورهم بسياج , وأعلم على قبر سيّد الشهداء حمزة رضي الله عنه بعلامة قبرٍ كبيرةٍ , ومعه في القبر المجدّع في اللّه عبد اللّه بن جحشٍ رضي الله عنه قيل له : المجدّع لأنّه دعا يوم أحدٍ أن يقاتل ويستشهد ويقطع أنفه وأذنه ويمثّل به في اللّه تعالى , فاستجاب اللّه دعاءه .
وإلى جانبه مصعب بن عميرٍ رضي الله عنه داعية الإسلام في المدينة وثمّة باقي الشهداء , ولا يعرف قبر أحدٍ منهم , لكنّ الظّاهر أنّهم حول حمزة في بقعة الموقعة رضي الله عنهم وعدّتهم سبعون : أربعة من المهاجرين والباقي من الأنصار , منهم حنظلة بن أبي عامرٍ غسّيل الملائكة , وأنس بن النّضر , عم أنس بن مالكٍ خادم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسعد بن الرّبيع , ومالك بن سنانٍ والد أبي سعيدٍ الخدريّ , وعبد اللّه بن حرامٍ والد جابر ابن عبد اللّه وغيرهم , رضي الله عنهم جميعاً .
ويسلّم عليهم بالصّيغة الواردة على أهل القبور , نحو ما ذكرناه في السّلام على أهل البقيع .(104/2)
المَسْجِد الأقْصَى *
التّعريف :
1 - المسجد الأقصى هو المسجد المعروف في مدينة القدس , وقد بني على سفح الجبل ويسمّى بيت المقدس , أي البيت المطهّر الّذي يتطهّر فيه من الذنوب .
وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين , ومسرى رحمة اللّه للعالمين محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم , واحد المساجد الثّلاثة الّتي لا تشد الرّحال إلّا إليها , والمسجد الّذي بارك اللّه حوله كما جاء في القرآن الكريم .
ويسمّى الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام , وكان أبعد مسجد عن أهل مكّة في الأرض يعظّم بالزّيارة .
أسماء المسجد الأقصى :
2 - للمسجد الأقصى أسماء عدّة ذكر الزّركشي منها سبعة عشر من أهمّها :
الأوّل : مسجد إيلياء : وقيل في معناه : بيت اللّه , وعن كعب الأحبار أنّه كره أن يسمّى بإيلياء , ولكن بيت اللّه المقدّس , وقد حكى ذلك الواسطي في فضائله .
الثّاني : بيت المَقْدس : بفتح الميم وإسكان القاف - أي المكان الّذي يطّهر فيه من الذنوب , والمقدس : المطهّر .
الثّالث : البيت المُقَدّس : - بضمّ الميم وفتح القاف والدّال المشدّدة - أي المطهّر , وتطهيره إخلاؤُه من الأصنام , وغيرها من الأسماء , وقد أوصلها الجراعي إلى اثنين وعشرين اسماً, في كتابه تحفة الرّاكع والسّاجد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المسجد النّبوي :
3 - المسجد النّبوي هو المسجد الّذي أسّسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المدينة المنوّرة , وهو ثاني الحرمين الشّريفين , وثواب الصّلاة فيه يربو على الصّلاة في غيره بألف صلاة إلّا المسجد الحرام , والصّلة بينهما أنّ كلاً من المسجد الأقصى والمسجد النّبويّ من المساجد الثّلاثة الّتي لا تشد الرّحال إلّا إليها .
ب - المسجد الحرام :
4 - المسجد الحرام هو بيت اللّه الحرام بمكّة المكرّمة , وهو أوّل مسجد وضع على الأرض, كما جاء في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } .
وهو أوّل الحرمين وثاني القبلتين , وفضل الصّلاة فيه بمائة ألف صلاة عمّا سواه , والصّلة أنّ كلاً من المسجد الأقصى والمسجد الحرام من المساجد الثّلاثة الّتي لا تشد الرّحال إلّا إليها.
فضائل المسجد الأقصى ومكانته في الإسلام وخصائصه :
للمسجد الأقصى فضائل أهمها :
أ - أنّه القبلة الأولى للمسلمين :
5 - من الفضائل الّتي أختصّ بها المسجد الأقصى , أن جعله اللّه تعالى أولى القبلتين , فإليه كان المسلمون يتوجّهون في صلاتهم قبل أن تحوّل القبلة إلى الكعبة المشرّفة .
وفي ذلك دلالة على أنّ هذا البيت شرّفه اللّه وكرّمه , فوجّه أنظار المسلمين إليه فترةً من الزّمن .
ب - الإسراء إليه والمعراج منه :
6 - إلى المسجد الأقصى كان إسراء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل الهجرة , ونزل في ذلك قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } .
وهذه الآية هي المعظّمة لقدره بإسراء سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه قبل عروجه إلى السّماء .
ودخل النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه جبريل بيت المقدس فصلّى فيه ركعتين .
ج - شد الرّحال إليه :
7 - جعل الإسلام هذا المسجد أحد ثلاثة مساجد تشد إليها الرّحال , فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تشد الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد , المسجد الحرام ومسجدي هذا , والمسجد الأقصى » .
د - فضل الصّلاة فيه :
8 - ومن خصائص المسجد الأقصى وفضله , مضاعفة الصّلاة فيه , وقد اختلفت الأحاديث في مقدارها , قال الجراعي : ورد أنّ الصّلاة فيه بخمسمائة , وقال الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة : إنّه الصّواب .
هـ - مباركة الأرض حوله :
9 - أخبر اللّه تعالى عن المسجد الأقصى أنّه بارك حوله في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } , وفي الآية تأويلان : أحدهما أنّه مبارك بمن دفن حوله من الأنبياء المصطفين الأخيار , والثّاني : بكثرة الثّمار ومجاري الأنهار .
و - كونه ثاني مسجد في الأرض :
10 - أوّل مسجد وضع على الأرض هو المسجد الحرام ثمّ المسجد الأقصى .
فعن « أبي ذر رضي اللّه عنه قال سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أوّل مسجد وضع في الأرض قال : المسجد الحرام قلت ثمّ أي قال : المسجد الأقصى قلت وكم بينهما قال أربعون عاماً ثمّ الأرض لك مسجداً فحيثما أدركتك الصّلاة فصلّ » , وقال البخاري في بعض طرقه : « أينما أدركتك الصّلاة فصلّ فيه فإنّ الفضل فيه » .
وقد أشكل هذا الحديث على بعض العلماء كابن الجوزيّ فقال : إنّه معلوم أنّ سليمان بن داود هو الّذي بنى الأقصى كما رواه النّسائي بإسناد صحيح من حديث عبد اللّه بن عمرو يرفعه : « أنّ سليمان بن داود لمّا بنى بيت المقدس سأل اللّه ثلاثاً سأل اللّه عزّ وجلّ حكماً يصادف حكمه فأوتيه وسأل اللّه عزّ وجلّ ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل اللّه عزّ وجلّ حين فرغ من بناء المسجد الأقصى ألّا يأتيه أحد لا ينهزه يحرّكه إلّا الصّلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه » .
وسليمان بعد إبراهيم كما قال أهل التّاريخ بأكثر من ألف عام , وأجاب الزّركشي : بأنّ سليمان عليه السّلام إنّما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه , والّذي أسّسه هو يعقوب بن إسحاق بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا القدر .
أحكامه :(105/1)
11 - تتعلّق بالمسجد الأقصى أحكام سبق ذكر بعضها كمضاعفة أجر الصّلاة فيه , واستحباب شدّ الرّحال إليه للحديث الشّريف كما تقدّم .
ومنها ما يأتي :
الأوّل : استحباب ختم القرآن فيه وعن أبي مجلزٍ قال كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثّلاثة أن يختم بها القرآن قبل أن يخرج , المسجد الحرام , ومسجد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم , ومسجد بيت المقدس .
كما روي أنّ سفيان الثّوريّ كان يختم به القرآن .
الثّاني : استحباب الإحرام بالحجّ والعمرة منه ذكره الزّركشي وقال : ففي سنن أبي داود وغيره من حديث أمّ سلمة قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « من أهلّ بحجّة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر » أو « وجبت له الجنّة » .
وأحرم جماعة من السّلف منه , كابن عمر ومعاذ وكعب الأحبار وغيرهم .
الثّالث : حكي عن بعض السّلف أنّ السّيّئات تضاعف في المسجد الأقصى روي ذلك عن كعب الأحبار , وذكر أبو بكر الواسطي عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أخرج بنا من هذا المسجد فإنّ السّيّئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات .
وذكر الزّركشي عن كعب الأحبار أنّه كان يأتي من حمص للصّلاة فيه فإذا صار منه قدر ميل اشتغل بالذّكر والتّلاوة والعبادة حتّى يخرج عنه بقدر ميل أيضاً ويقول : السّيّئات تضاعف فيه , " أي تزداد قبحاً وفحشاً لأنّ المعاصي في زمان أو مكان شريف أشد جرأةً وأقل خوفاً من اللّه تعالى " .
الرّابع : أنّه يحذّر من اليمين الفاجرة فيه وكذلك في المسجدين فإنّ عقوبتها عاجلة . الخامس : يكره استقبال بيت المقدس واستدباره بالبول والغائط ولا يحرم قاله الشّيخ محيي الدّين في الرّوضة من زوائده تبعاً لغيره , ولم يتعرّض له الشّافعي وأكثر الأصحاب . والتّفصيل في مصطلح ( قضاء الحاجة ف / 5 ) .
السّادس : ذهب الفقهاء إلى أنّ إقامة صلاة العيد في المصلّى أولى منها في المسجد إلّا في مسجد مكّة , قال الرّافعي : وألحق الصّيدلاني به مسجد بيت المقدس .
السّابع : استحباب الصّيام فيه فقد روي : « صوم يوم في بيت المقدس براءة من النّار » . الثّامن : قال الزّركشي , قال الدّارمي : لا يجوز الاجتهاد بمحراب بيت المقدس يمنةً ولا يسرةً إلحاقاً له بمسجد المدينة .(105/2)
انقطاع *
التّعريف :
1 - يأتي الانقطاع في اللّغة بمعانٍ عدّةٍ منها : التّوقّف والتّفرّق .
ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني ، كما يطلقون لفظ المنقطع على الصّغير الّذي فقد أمّه من بني آدم .
والانقطاع عند المحدّثين : عدم اتّصال سند الحديث ، سواء سقط ذكر الرّاوي من أوّل الإسناد أو وسطه أو آخره ، وسواء أكان الرّاوي واحداً أم أكثر ، على التّوالي أو غيره ، فيشمل المرسل ، والمعلّق ، والمعضل ، والمدلّس ، إلاّ أنّ الغالب استعماله في رواية من دون التّابعيّ عن الصّحابيّ كمالكٍ عن ابن عمر .
وهذا أحد معانيه ، وله بعض المعاني يتكلّم عنها الأصوليّون في مبحث السّنّة ( المرسل ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
الانقراض :
2 - يعبّر الفقهاء بالانقطاع عن الشّيء الّذي لم يوجد أصلاً كالوقف على منقطع الأوّل ، أمّا الانقراض فيكون في الأشياء الّتي وجدت ثمّ انعدمت .
الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف الحكم في الانقطاع باختلاف ما يضاف إليه ، ففي انقطاع دم الحيض أو النّفاس يكون الحكم كالآتي :
اتّفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض والنّفساء قبل انقطاع دمهما ، واختلفوا هل يكون الغسل شرطاً لحلّ الاستمتاع بعد انقطاع الدّم ، أو يكفي أن تكون في حكم الطّاهرات ؟ . فذهب الجمهور إلى تحريم الوطء حتّى تغتسل أو تتيمّم إن كانت أهلاً له ، وقال أبو حنيفة : إن انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيّامٍ عنده حلّ الوطء في الحال ، وإن انقطع لأقلّه لم يحلّ حتّى تغتسل أو تتيمّم ، أو تصير الصّلاة ديناً في ذمّتها ، بأن يمضي وقت بعد انقطاع الدّم يتّسع للغسل أو التّيمّم والصّلاة ، وتفصيل ذلك في باب الحيض والنّفاس .
انقطاع الاقتداء بنيّة المفارقة :
4 - ينقطع الاقتداء في الصّلاة من جانب المأموم إن نوى مفارقة إمامه ، وفي كون الصّلاة مع المفارقة صحيحةً أو باطلةً خلاف بين الفقهاء ، منهم من يرى أنّها صحيحة مطلقاً ، ومنهم من يرى أنّها باطلة مطلقاً ، ويفرّق البعض بين نيّة المفارقة مع العذر وبدونه ، فهي مع العذر صحيحة ، وباطلة بدونه . ويفصّل الفقهاء ذلك في صلاة الجماعة والاقتداء . وكذلك تنقطع القدوة بخروج الإمام من صلاته ومع خروجه تنشأ بعض الأحكام ، فقد تبطل صلاته وصلاة المأمومين ، وقد يستخلف وتصحّ الصّلاة .
ويفصّل الفقهاء ذلك في ( صلاة الجماعة ، واستخلاف ) .
مواطن البحث :
5 - يذكر الفقهاء الانقطاع في المواضع الآتية : في انقطاع التّتابع في صوم الكفّارات الّتي يجب فيها التّتابع ، ككفّارة القتل والظّهار والإفطار في رمضان . وفي الوقف في شرط الموقوف عليه ، وهل يصحّ الوقف إن كان على منقطع الأوّل أو الآخر أو الوسط ؟ .
وفي إحياء الموات ، وحقوق الارتفاق أو المنافع المشتركة : أثناء الكلام عن بذل مياه الآبار إذا كانت تنقطع أو تستخلف ، وعمّا إذا حفر بئراً فانقطع به ماء بئر جاره .
وفي النّكاح : عند الكلام عن الغيبة المنقطعة ، ونقل الولاية بسببها .
وفي القضاء : عند الكلام على انقطاع الإنسان للقضاء والفتيا ، ورزق القاضي للمنقطع لهما ، وعند الكلام عن انقطاع الخصومة باليمين .(106/1)
بحر *
التّعريف :
1 - البحر : الماء الكثير ، ملحاً كان أو عذباً ، وهو خلاف البرّ ، وإنّما سمّي البحر بحراً لسعته وانبساطه ، وقد غلب استعماله في الماء الملح حتّى قلّ في العذب .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - النّهر :
2 - النّهر : الماء الجاري ، يقال : نهر الماء إذا جرى في الأرض ، وكلّ كثيرٍ جرى فقد نهر ، واستنهر ولا يستعمل النّهر غالباً إلاّ في الماء العذب ، خلافاً للبحر .
ب - العين :
3 - العين : ينبوع الماء الّذي ينبع من الأرض ويجري . وهي من الألفاظ المشتركة ، لأنّها تطلق على معانٍ أخرى : كالجاسوس ، والذّهب ، والعين الباصرة .
الأحكام المتعلّقة بالبحر :
يتعلّق بالبحر أحكام منها :
أ - ماء البحر :
4 - اتّفق جمهور العلماء على طهوريّة ماء البحر وجواز التّطهّر به ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « سأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضّأنا به عطشنا . أفنتوضّأ بماء البحر ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هو الطَّهُورُ مَاؤُه ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ » .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال " من لم يطهّره ماء البحر فلا طهّره اللّه "ولأنّه ماء باقٍ على أصل خلقته ، فجاز الوضوء به كالعذب . وحكي عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرٍو أنّهما قالا في البحر :" التّيمّم أعجب إلينا منه "، وحكاه الماورديّ عن سعيد بن المسيّب : أي كانوا لا يرون جواز الوضوء به . ( ر : طهارة ، ماء ) .
ب - صيد البحر :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة صيد جميع حيوانات البحر ، سواء كانت سمكاً أو غيره . لقول اللّه تعالى : { أُحِلَّ لكم صَيدُ البحرِ وَطَعامُه } أي مصيده ومطعومه .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ماء البحر :« هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ». واستثنى الشّافعيّة والحنابلة : التّمساح والضّفدع ، للنّهي عن قتل الضّفدع ، فقد ثبت أنّ
« النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله » وروي عن ابن عمرٍو أنّه قال :" لا تقتلوا الضّفادع ، فإنّ نقيقها تسبيح ". وللاستخباث في التّمساح ، ولأنّه يتقوّى بنابه ويأكل النّاس . وزاد الحنابلة : الحيّة ، وصرّح الماورديّ من الشّافعيّة بتحريمها وغيرها من ذوات السّموم البحريّة ، وقصر الشّافعيّة التّحريم على الحيّة الّتي تعيش في البحر والبرّ ، وأمّا الحيّة الّتي لا تعيش إلاّ في الماء فحلال . وذهب الحنفيّة إلى إباحة السّمك من صيد البحر فقط دون غيره من الحيوانات البحريّة . وللتّفصيل انظر مصطلح ( أطعمة ) .
ج - ميتة البحر :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة ميتة البحر ، سواء كانت سمكاً أو غيره من حيوانات البحر ، لقول اللّه تعالى : { أُحِلَّ لكم صيدُ البحرِ وطعامُه } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » ، وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنّه قال :" كلّ دابّةٍ تموت في البحر فقد ذكّاها اللّه لكم ".
ولم يبح الحنفيّة إلاّ ميتة السّمك الّذي مات بآفةٍ ، وأمّا الّذي مات حتف أنفه ، وكان غير طافٍ ، فليس بمباحٍ . وحدّ الطّافي عندهم : ما كان بطنه من فوق ، فلو كان ظهره من فوق ، فليس بطافٍ فيؤكل . وللتّفصيل انظر مصطلح ( أطعمة ) .
د - الصّلاة في السّفينة :
7 - اتّفق الفقهاء على جواز الصّلاة في السّفينة من حيث الجملة ، شريطة أن يكون المصلّي مستقبلاً للقبلة عند افتتاح الصّلاة ، وأن يدور إلى جهة القبلة إن دارت السّفينة لغيرها إن أمكنه ذلك ، لوجوب الاستقبال . ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنّافلة لتيسّر استقباله . وخالف الحنابلة في النّافلة ، وقصروا وجوب الدّوران إلى القبلة على الفريضة فقط ، ولا يلزمه أن يدور في النّفل للحرج والمشقّة ، وأجازوا كذلك للملّاح : ألاّ يدور في الفرض أيضاً لحاجته لتسيير السّفينة . وللتّفصيل انظر مصطلح ( قبلة ) .
هـ – حكم من مات في السّفينة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من مات في سفينة في البحر ، وأمكن دفنه لقرب البرّ ، ولا مانع ، لزمهم التّأخير ليدفنوه فيه ، ما لم يخافوا عليه الفساد ، وإلاّ غسّل وكفّن وصلّي عليه وألقي في البحر .
وزاد الشّافعيّة : أنّه يوضع بعد الصّلاة عليه بين لوحين لئلاّ ينتفخ ، ويلقى لينبذه البحر إلى السّاحل ، لعلّه يقع إلى قومٍ يدفنونه . فإن كان أهل السّاحل كفّاراً ثقّل بشيءٍ ليرسب .
فإن لم يوضع بين لوحين ثقّل بشيءٍ لينزل إلى القرار ، وإلى تثقيله ذهب الحنابلة أيضاً .
و - الموت غرقاً في البحر :
9 - ذهب العلماء إلى أنّه من مات في البحر غرقاً ، فإنّه شهيد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الشّهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشّهيد في سبيل اللّه » .
وإذا وجد الغريق فإنّه يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه كأيّ ميّتٍ آخر ، وإذا لم يعثر عليه فيصلّى عليه صلاة الغائب عند الشّافعيّة والحنابلة ، وكرهها المالكيّة ، ومنعها الحنفيّة لاشتراطهم لصلاة الجنازة حضور الميّت أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه . ( ر : غسل )(107/1)
بخار *
التّعريف :
1 - البخار لغةً واصطلاحاً : ما يتصاعد من الماء أو النّدى أو أيّ مادّةٍ رطبةٍ تتعرّض للحرارة . ويطلق البخار أيضاً على : دخان العود ونحوه . وعلى : كلّ رائحةٍ ساطعةٍ من نتنٍ أو غيره .
الألفاظ ذات الصّلة :
البخر :
2 - البخر هو : الرّائحة المتغيّرة من الفم . قال أبو حنيفة : البخر : النّتن يكون في الفم وغيره ، وهو أبخر ، وهي بخراء .
واستعمال الفقهاء للبخر مخصوص بالرّائحة الكريهة في الفم فقط .
الأحكام المتعلّقة بالبخار :
للبخار أحكام خاصّة ، فقد يكون طاهراً ، وقد يكون نجساً ، وينبني عليه جواز أو عدم جواز التّطهّر بما تقاطر من البخار .
أ - رفع الحدث بما جمع من النّدى :
3 - ذهب الفقهاء إلى جواز التّطهّر بالنّدى ، وهو المتجمّع على أوراق الشّجر إذا جمع ، لأنّه ماء مطلق . أمّا ما ورد عن بعض الفقهاء من أنّ النّدى : نفس دابّةٍ في البحر ، ومن ثمّ فهل هو طاهر أو نجس ؟ فلا يعوّل عليه .
ب - رفع الحدث بما جمع من البخار :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّطهّر من الحدث وتطهير النّجس بما جمع من بخار الماء الطّاهر المغليّ بوقودٍ طاهرٍ ، لأنّه ماء مطلق ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ، خلافاً لما ذهب إليه الرّافعيّ منهم إلى أنّه لا يرفع الحدث ، لأنّه لا يسمّى ماءً ، بل هو بخار .
أمّا البخار المتأثّر بدخان النّجاسة فهو مختلف في طهارته ، بناءً على اختلاف الفقهاء في دخان النّجاسة ، هل هو طاهر أم نجس ؟ .
فذهب الحنفيّة على المفتى به ، والمالكيّة في المعتمد ، وبعض الحنابلة إلى : أنّ دخان النّجاسة وبخارها طاهران ، قال الحنفيّة : إنّ ذلك على سبيل الاستحسان دفعاً للحرج . وبناءً على هذا فإنّ البخار المتصاعد من الماء النّجس طهور يزيل الحدث والنّجس .
وذهب الشّافعيّة ، وأبو يوسف من الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى : أنّ دخان النّجاسة نجس كأصلها ، وعلى هذا فالبخار المتأثّر بدخان النّجاسة نجس لا تصحّ الطّهارة به ، لكن ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعفى عن قليله .
وأمّا البخار المتصاعد من الحمّامات وغيرها - كالغازات الكريهة المتصاعدة من النّجاسة - إذا علقت بالثّوب ، فإنّه لا ينجس على الصّحيح من مذهب الحنفيّة ، تخريجاً على الرّيح الخارجة من الإنسان ، فإنّها لا تنجس ، سواء أكانت سراويله مبتلّةً أم لا ، والظّاهر أنّ بقيّة المذاهب لا تخالف مذهب الحنفيّة في هذا .(108/1)
بدنة *
التّعريف :
1 - البدنة في اللّغة : من الإبل خاصّةً ، ويطلق هذا اللّفظ على الذّكر والأنثى ، والجمع البدن . وسمّيت بدنةً لضخامتها .
قال في المصباح المنير : والبدنة قالوا : هي ناقة أو بقرة ، وزاد الأزهريّ : أو بعير ذكر . قال : ولا تطلق البدنة على الشّاة .
وفي الاصطلاح : البدنة اسم تختصّ به الإبل ، إلاّ أنّ البقرة لمّا صارت في الشّريعة في حكم البدنة قامت مقامها ، وذلك لما قال جابر بن عبد اللّه : « نَحَرْنا مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبيةِ البدنةَ عن سبعةٍ ، والبقرةَ عن سبعةٍ » فصار البقر في حكم البدن مع تغايرهما لوجود العطف بينهما ، والعطف يقتضي المغايرة .
ومع هذا فقد أطلق بعض الفقهاء " البدنة " على الإبل والبقر .
الحكم الإجماليّ :
تتعلّق بالبدن أحكام خاصّة منها :
أ - بول البدن ورَوْثها :
2 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى نجاسة بول وروث الحيوان ، سواء أكان ممّا يؤكل لحمه أم لا ، ومن الحيوان : البدن . لما روى البخاريّ « أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا جيء له بحجرين وَرَوْثَةٍ ليستنجي بها ، أخذ الحجرين وردَّ الرّوثة ، وقال : هذا ركس » والرّكس : النّجس . وأمّا نجاسة البول فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « تَنَزَّهوا من البول ، فإنّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه » حيث يدخل فيه جميع أنواع الأبوال .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه ، لأنّه « صلى الله عليه وسلم أمر العُرَنيّين أن يَلْحَقُوا بإِبلِ الصّدقة ، فَيَشْرَبُوا من أبوالها وألبانها » والنّجس لا يباح شربه ، ولأنّه « صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في مرابض الغنم ، وأمر بالصّلاة فيها » .
ب - نقض الوضوء :
3 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ أكل لحم الجزور - وهو لحم الإبل - لا ينقض الوضوء ، لما روى ابن عبّاسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الوضوءُ ممّا خرج لا ممّا دخل » ، ولما روى جابر قال : « كان آخرُ الأمرين عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تركُ الوضوءِ ممّا مَسّتِ النّار » ولأنّه مأكول أشبه سائر المأكولات .
وهذا القول مرويّ عن أبي بكرٍ الصّدّيق وعمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ وأبيّ بن كعبٍ وأبي طلحة وأبي الدّرداء وابن عبّاسٍ وعامر بن ربيعة وأبي أمامة ، وبه قال جمهور التّابعين ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والصّحيح من مذهب الشّافعيّة .
وذهب الحنابلة ، والشّافعيّ في القديم إلى وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور على كلّ حالٍ ، نيئاً أو مطبوخاً ، عالماً كان أو جاهلاً . وبه قال إسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى . وحكاه الماورديّ عن جماعةٍ من الصّحابة ، منهم : زيد بن ثابتٍ وابن عمر وأبو موسى وأبو طلحة ، واختاره من الشّافعيّة أبو بكر بن خزيمة وابن المنذر ، وأشار البيهقيّ إلى ترجيحه واختياره ، وقوّاه النّوويّ في المجموع .
واستدلّوا بحديث البراء بن عازبٍ قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل ، فقال : توضّئوا منها ، وسئل عن لحوم الغنم ، فقال : لا يُتوضّأ منها » وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { توضّئوا من لحوم الإبل ، ولا تتوضّئوا من لحوم الغنم } .
أمّا ألبان الإبل ، فعند الحنابلة روايتان في نقض الوضوء بشربها :
إحداهما : ينقض الوضوء ، لما روى أسيد بن حضيرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« توضّئوا من لحوم الإبل وألبانها » .
والثّانية : لا وضوء فيه ، لأنّ الحديث الصّحيح إنّما ورد في اللّحم ، ورجّح هذا القول صاحب كشّاف القناع .
ج - سؤر البدنة :
4 - اتّفق الفقهاء على طهارة سؤر البدنة ، وسائر الإبل والبقر والغنم ، ولا كراهة في أسآرها ما لم تكن جلّالةً .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به .
د - الصّلاة في أعطان الإبل ومرابض البقر :
5 - ذهب جمهور العلماء إلى كراهة الصّلاة في معاطن الإبل .
وقد ألحق الحنفيّة بالإبل البقر في الكراهة .
وقال المالكيّة والشّافعيّة : إنّ البقر كالغنم في جواز الصّلاة في مرابضها .
وذهب الحنابلة إلى عدم صحّة الصّلاة في أعطان الإبل ، وهي : ما تقيم فيه وتأوي إليه .
أمّا مواضع نزولها في سيرها فلا بأس بالصّلاة فيه .
هـ – الدّماء الواجبة :
6 – تجزئ البدنة عن سبعةٍ في حالتي القران والتّمتّع ، وفي الأضحيّة ، وفي فعل بعض المحظورات أو ترك بعض الواجبات حال الإحرام بحجٍّ أو عمرةٍ .
وتجب عند الحنفيّة بدنة كاملة على الحائض والنّفساء إذا طافتا .
كما تجب بدنة كاملة إذا قتل المحرم صيداً كبيراً ، كالزّرافة والنّعامة ، على التّخيير المفصّل في موضعه . وتجب أيضاً على من جامع حال الإحرام بالحجّ والعمرة قبل التّحلّل الأصغر ، على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في المصطلحات التّالية : ( إحرام ، وحجّ ، وهدي ، وصيد ).
و- الهدي :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهدي سنّة ، ولا يجب إلاّ بالنّذر . ويكون من الإبل والبقر والغنم ، ولا يجزئ إلاّ الثّنيّ من الإبل ، وهو ما كمّل خمس سنين ودخل في السّادسة .
ففي الصّحيحين : « أنّه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجّة الوداع مائة بدنةٍ » .
ويستحبّ أن يكون ما يهديه سميناً حسناً ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائرَ اللّه فإنّها من تَقْوى القلوبِ } فسّرها ابن عبّاسٍ بالاستسمان والاستحسان . ويستحبّ تقليد البدنة في الهدي . وهناك تفصيلات تنظر في مصطلح ( حجّ ، وهدي ، وإحرام ، وقران ، وتمتّع ) .
ز - ذكاة البدنة :(109/1)
8 - تختصّ الإبل - ومنها البدنة - بالنّحر ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى سنّيّة نحر الإبل . وذهب المالكيّة إلى وجوب نحرها ، وألحقوا بها الزّرافة .
وأمّا ذبحها ، فقد قال بجوازه الشّافعيّة والحنابلة ، وكرهه الحنفيّة كراهة تنزيهٍ ، على ما نقله ابن عابدين عن أبي السّعود عن الدّيريّ .
وقال المالكيّة : جاز الذّبح في الإبل ، والنّحر في غيرها للضّرورة . ثمّ النّحر - كما قال ابن عابدين - هو قطع العروق في أسفل العنق عند الصّدر ، أمّا الذّبح فقطعها في أعلاه تحت اللّحيين . والسّنّة نحرها قائمةً معقولةً يدها اليسرى ، لما ورد عن عبد الرّحمن بن سابطٍ :
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى ، قائمةً على ما بقي من قوائمها » وفي قوله تعالى : { فإذا وَجَبَتْ جُنُوبها } دليل على أنّها تنحر قائمةً . وكيفيّته : أن يطعنها بالحربة في الوهدة الّتي بين أصل العنق والصّدر .
ج - الدّيات : الدّية بدل النّفس :
9 - وقد اتّفق الفقهاء على جواز الدّية في : الإبل والذّهب والفضّة ، واختلفوا في الخيل والبقر والغنم . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( دية ) .(109/2)
براجم *
التّعريف :
1 - البراجم لغةً : جمع برجمةٍ ، وهي : المفاصل والعقد الّتي تكون في ظهور الأصابع ، ويجتمع فيها الوسخ . ومعنى الكلمة في الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - يندب غسل البراجم في الطّهارة - في الوضوء والغسل - وفي غيرهما ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « عشر من الفطرة ... وعدّ منها : غسل البراجم » .
ويلحق بالبراجم المواطن الّتي يجتمع فيها الوسخ عادةً : كالأذن والأنف والأظافر وأيّ موضعٍ من البدن .
هذا إذا كان الوسخ لا يمنع وصول الماء إلى البشرة ، أمّا إن منع وصول الماء إليها ، فإنّه يجب إزالته في الجملة ، ليصل الماء إلى العضو في الطّهارة . هذا ويتكلّم الفقهاء عن البراجم وغيرها من خصال الفطرة في الوضوء ، والغسل ، وخصال الفطرة .(110/1)
براز *
التّعريف :
1- البراز ( بالفتح ) لغةً : اسم للفضاء الواسع . وكنّوا به عن قضاء الحاجة . كما كنّوا عنه بالخلاء ، لأنّهم كانوا يتبرّزون إلاّ في الأمكنة الخالية من النّاس . يقال : برز إذا خرج إلى البراز ، وهو الغائط ، وتبرّز الرّجل : خرج إلى البراز للحاجة . وهو بكسر الباء مصدر من المبارزة في الحرب ، ويكنّى به أيضاً عن الغائط وهو بمعناه الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى الكنائيّ ، إذ هو ثفل الغذاء ، وهو الغائط الخارج على الوجه المعتاد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الغائط :
2 - الغائط : أصله ما انخفض من الأرض ، والجمع الغيطان والأغواط . وبه سمّيت غوطة دمشق ، وكانت العرب تقصد هذا الصّنف من المواضع لقضاء حاجتها تستّراً عن أعين النّاس . ثمّ سمّي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً للمقارنة .
وهو بهذا المعنى يتّفق مع البراز - بالفتح - كنائيّاً في الدّلالة ، من حيث إنّ كلّاً منهما كناية عن ثفل الغذاء وفضلاته الخارجة .
ب - البول :
3 - البول : واحد الأبوال . يقال : بال الإنسان والدّابّة ، يبول بولاً ومبالاً ، فهو بائل .
ثمّ استعمل البول في العين . أي في الماء الخارج من القبل ، وجمع على أبوالٍ .
وهو بهذا المعنى يأخذ حكم البراز ( بالفتح ) كنائيّاً ، من حيث إنّ كلّاً منهما نجس ، وإن اختلفا مخرجاً .
ج - النّجاسة :
4 - النّجاسة لغةً : كلّ مستقذرٍ .
واصطلاحاً : صفة حكميّة توجب لموصوفها منع استباحة الصّلاة ونحوها .
وهي بهذا المعنى أعمّ من البراز ( بالفتح ) مكنّياً إذ تشمله وغيره من الأنجاس ، كالدّم والبول والمذي والودي والخمر وغير ذلك من الأنجاس الأخرى .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
5 - أجمع الفقهاء على نجاسة البراز . وأنّه تتعلّق به أحكام منها : أنّه منجّس للبدن والثّوب والمكان . وأنّ تطهير ذلك واجب ، سواء أكان ذلك بالاستنجاء أو الغسل ، على ما هو مفصّل في موطنه . واختلفوا في المقدار المعفوّ عنه منه ، وفي جواز بيعه .
وتفصيل ذلك في أبواب الطّهارات وفي مصطلح ( قضاء الحاجة ) .(111/1)
برد *
التّعريف :
1 - البرد لغةً : ضدّ الحرّ ، والبرودة نقيض الحرارة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن المعنى اللّغويّ في الجملة .
الألفاظ ذات الصّلة :
إبراد :
2 - من معاني الإبراد في اللّغة : الدّخول في البرد والدّخول في آخر النّهار .
وعند الفقهاء : تأخير الظّهر إلى وقت البرد .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - تكلّم الفقهاء عن البرد في التّيمّم والجمعة والجماعة وجمع الصّلوات والحدود والتّعازير والصّلاة .
أ - ففي التّيمّم : أجاز المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - وهو رأي للحنفيّة - التّيمّم للحدث الأكبر والأصغر في البرد الشّديد مع وجود الماء ، إذا لم يجد ما يسخّنه وخشي الضّرر . وأجاز الحنفيّة - في المشهور - عندهم التّيمّم للحدث الأكبر دون الأصغر ، لعدم تحقّق الضّرر في الأصغر غالباً ، لكن لو تحقّق الضّرر جاز فيه أيضاً اتّفاقاً ، كما قرّره ابن عابدين ، قال : لأنّ الحرج مدفوع بالنّصّ ، وهو ظاهر إطلاق المتون .
وأجاز المالكيّة التّيمّم للبرد الشّديد المسبّب برودة الماء ، إذا خاف الصّحيح الحاضر أو المسافر خروج وقت الصّلاة بطلبه الماء وتسخينه .
ب - وفي صلاة الجمعة والجماعة : أجاز الفقهاء في البرد الشّديد التّخلّف عن صلاة الجمعة ، وعن صلاة الجماعة نهاراً أو ليلاً .
ج - وفي جمع الصّلوات : أجاز المالكيّة ، وهو رأي للحنابلة الجمع بين العشاءين فقط جمع تقديمٍ في البرد الشّديد ، حالّاً أو متوقّعاً .
وأجاز الشّافعيّة الجمع بين الظّهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بشروطٍ مدوّنةٍ في مواطنها . ومنع الحنفيّة الجمع بين الصّلوات تقديماً أو تأخيراً في البرد ، لقَصْرهم الجمع على موطنين هما : مزدلفة وعرفة .
د - وفي الحدود والتّعازير : أوجب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الجملة منع إقامة الحدود والتّعازير فيما دون النّفس في البرد الشّديد ، حتّى يعتدل الزّمان ، لأنّ إقامتها مهلكة ، وليس ردعاً .
هـ - وفي الصّلاة : أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة السّجود على كور العمامة أثناء الصّلاة على الأرض المكشوفة الباردة للضّرورة .(112/1)
بسملة *
التّعريف :
1 - البسملة في اللّغة والاصطلاح : قول : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم . يقال : بَسْمَلَ بَسْمَلَةً : إذا قال ، أو كتب : بسم اللّه . ويقال : أكثرَ من البسملة ، أي أكثر من قول : بسم اللّه .
قال الطّبريّ : إنّ اللّه - تعالى ذكره ، وتقدّست أسماؤه - أدّب نبيّه محمّداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وجعل ذلك لجميع خلقه سنّةً يستنّون بها ، وسبيلاً يتّبعونه عليها ، فقول القائل : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا افتتح تالياً سورةً ، ينبئ عن أنّ مراده أقرأ باسم اللّه ، وكذلك سائر الأفعال . البسملة جزء من القرآن الكريم :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ البسملة جزء من آيةٍ في قوله تعالى : { إنّه من سليمانَ وإنّه بسمِ اللّه الرّحمنِ الرّحيمِ } .
واختلفوا في أنّها أيّة من الفاتحة ، ومن كلّ سورةٍ . والمشهور عند الحنفيّة ، والأصحّ عند الحنابلة ، وما قال به أكثر الفقهاء هو : أنّ البسملة ليست آيةً من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ ، وأنّها آية واحدة من القرآن كلّه ، أنزلت للفصل بين السّور ، وذكرت في أوّل الفاتحة .
ومن أدلّتهم ما رواه أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقول اللّه تعالى : قَسَمْتُ الصّلاةَ بيني وبينَ عَبْدي نِصْفين ، فإذا قال العبد : { الحمدُ للّه ربِّ العالمينَ } ، قال اللّه تعالى : حمدني عبدي ، فإذا قال : { الرّحمن الرّحيم } ، قال اللّه تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال : { مالك يوم الدّين } ، قال اللّه تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } ، قال اللّه تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل » فالبداءة بقوله : { الحمد للّه ربّ العالمين } ، دليل على أنّ التّسمية ليست آيةً من أوّل الفاتحة . إذ لو كانت آيةً من الفاتحة لبدأ بها ، وأيضاً : لو كانت البسملة آيةً منها لم تتحقّق المناصفة ، فإنّه يكون في النّصف الأوّل أربع آياتٍ إلاّ نصفاً ، وقد نصّ على المناصفة ، ولأنّ السّلف اتّفقوا على أنّ سورة الكوثر ثلاث آياتٍ . وهي ثلاث آياتٍ بدون البسملة . وورد في كلّ مذهبٍ من المذاهب الثّلاثة غير ما سبق . ففي المذهب الحنفيّ أنّ المعلّى قال : قلت لمحمّدٍ : التّسمية آية من القرآن أم لا ؟ قال : ما بين الدّفّتين كلّه قرآن ، فهذا عن محمّدٍ بيان أنّها آية للفصل بين السّور ، ولهذا كتبت بخطٍّ على حدةٍ . وقال محمّد : يكره للحائض والجنب قراءة التّسمية على وجه قراءة القرآن ، لأنّ من ضرورة كونها قرآناً حرمة قراءتها على الحائض والجنب ، وليس من ضرورة كونها قرآناً الجهر بها كالفاتحة ... وروى ابن عبّاسٍ أنّه قال لعثمان : لم لم تكتب التّسمية بين ، التّوبة والأنفال ، قال : لأنّ التّوبة من آخر ما نزل ، فرسول اللّه صلى الله عليه وسلم توفّي ، ولم يبيّن لنا شأنها ، فرأيت أوّلها يشبه أواخر الأنفال ، فألحقتها بها ، فهذا بيان منهما على أنّها كتبت للفصل بين السّور . والمشهور عند المالكيّة : أنّ البسملة ليست آيةً من القرآن إلاّ في سورة النّمل ، فإنّها جزء من آيةٍ ، ويكره قراءتها بصلاة فرضٍ - للإمام وغيره - قبل فاتحةٍ أو سورةٍ بعدها ، وقيل عند المالكيّة بإباحتها ، وندبها ، ووجوبها في الفاتحة . وروي عن الإمام أحمد أنّ البسملة من الفاتحة ، لما رواه أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قرأتم : { الحمد للّه ربّ العالمين } ، فاقرءوا : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فإنّها أمّ القرآن والسّبع المثاني وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم آية منها } ولأنّ الصّحابة أثبتوها في المصاحف بخطّهم ، ولم يثبتوا بين الدّفّتين سوى القرآن ، وما روي عن نعيمٍ المجمر قال : صلّيت وراء أبي هريرة ، فقرأ : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ثمّ قرأ بأمّ القرآن . وما رواه ابن المنذر { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصّلاة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ثمّ قرأ بأمّ القرآن ، وعدّها آيةً ، { والحمد للّه ربّ العالمين } آيتين } . وقال ابن المبارك : من ترك بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةٍ وروي عن الإمام أحمد : أنّ البسملة آية مفردة ، كانت تنزل بين كلّ سورتين فصلاً بين السّور . وعنه أيضاً : أنّها بعض آيةٍ من سورة النّمل ، وما أنزلت إلاّ فيها . وعنه أيضاً : البسملة ليست بآيةٍ إلاّ من الفاتحة وحدها .(113/1)
3 - ومذهب الشّافعيّة : أنّ البسملة آية كاملة من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ ، لما روت أمّ سلمة رضي الله عنها : { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في الصّلاة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فعدّها آيةً منها } ، ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ { رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : الحمد للّه سبع آياتٍ ، إحداهنّ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم } . وعن عليٍّ رضي الله عنه كان إذا افتتح السّورة في الصّلاة يقرأ : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم . وروي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قرأتم : { الحمد للّه ربّ العالمين } ، فاقرءوا : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، إنّها أمّ القرآن والسّبع المثاني ، بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إحدى آياتها } ، ولأنّ الصّحابة أثبتوها فيما جمعوا من القرآن في أوائل السّور ، وأنّها مكتوبة بخطّ القرآن ، وكلّ ما ليس من القرآن فإنّه غير مكتوبٍ بخطّ القرآن ، وأجمع المسلمون على أنّ ما بين الدّفّتين كلام اللّه تعالى ، والبسملة موجودة بينهما ، فوجب جعلها منه . واتّفق أصحاب المذاهب الأربعة على أنّ من أنكر أنّها آية في أوائل السّور لا يعدّ كافراً . للخلاف السّابق في المذاهب .
حكم قراءة البسملة لغير المتطهّر :
4 - لا خلاف بين العلماء في أنّ البسملة من القرآن ، وذهب الجمهور إلى حرمة قراءتها على الجنب والحائض والنّفساء بقصد التّلاوة ، لحديث التّرمذيّ وغيره : { لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن } . ورويت كراهة ذلك عن عمر وعليٍّ ، وروى أحمد وأبو داود والنّسائيّ من رواية عبد اللّه بن سلمة عن عليٍّ قال : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحجبه - وربّما قال لا يحجزه - من القرآن شيء ليس الجنابة } . وورد عن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن } . فلو قصد الدّعاء أو الثّناء أو افتتاح أمرٍ تبرّكاً ، ولم يقصد القراءة ، فلا بأس . وفي أحد قولين للمالكيّة : لا يحرم قراءة آيةٍ للتّعوّذ أو الرّقية ، ولو آية الكرسيّ . كما ذهب المالكيّة إلى أنّه لا يمنع الحيض والنّفاس قراءة القرآن ، ما دامت المرأة حائضاً أو نفساء بقصد التّعلّم أو التّعليم ، لأنّها غير قادرةٍ على إزالة المانع ، أمّا إذا انقطع ولم تتطهّر ، فلا تحلّ لها قراءته كما لا تحلّ للجنب . والدّليل على استثناء التّسمية من التّحريم : أنّ لهم ذكر اللّه ، ويحتاجون إلى التّسمية عند اغتسالهم ، ولا يمكنهم التّحرّز عنها ، لما روى مسلم عن عائشة قالت : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه في كلّ أحيانه } . وإن قصدوا بها القراءة ، ففيه روايتان : إحداهما لا يجوز ، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه سئل عن الجنب يقرأ القرآن ؟ فقال : لا ولو حرفاً ، لعموم الخبر في النّهي ، والثّانية : لا يمنع منه ، لأنّه لا يحصل به الإعجاز ، ويجوز إذا لم يقصد به القرآن . ( ر : الجنابة ، والحيض ، والغسل ، والنّفاس ) .
البسملة في الصّلاة :(113/2)
5 - اختلف الفقهاء في حكم قراءة البسملة بالنّسبة للإمام والمأموم والمنفرد ، في ركعات الصّلاة ، لاختلافهم في أنّها آية من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ . وحاصل مذهب الحنفيّة في ذلك : أنّه يسنّ قراءة البسملة سرّاً للإمام والمنفرد في أوّل الفاتحة من كلّ ركعةٍ ، ولا يسنّ قراءتها بين الفاتحة والسّورة مطلقاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، لأنّ البسملة ليست من الفاتحة ، وذكرت في أوّلها للتّبرّك . قال المعلّى : إنّ هذا أقرب إلى الاحتياط لاختلاف العلماء والآثار في كونها آيةً من الفاتحة ، وروى ابن أبي رجاءٍ عن محمّدٍ أنّه قال : يسنّ قراءة البسملة سرّاً بين السّورة والفاتحة في غير الصّلاة الجهريّة ، لأنّ هذا أقرب إلى متابعة المصحف ، وإذا كانت القراءة جهراً فلا يؤتى بالبسملة بين السّورة والفاتحة ، لأنّه لو فعل لأخفى ، فيكون ذلك سكتةً في وسط القراءة ، وليس ذلك مأثوراً . وفي قولٍ آخر في المذهب : تجب بداية القراءة بالبسملة في الصّلاة ، لأنّها آية من الفاتحة . وحكم المقتدي عند الحنفيّة أنّه لا يقرأ لحمل إمامه عنه ، ولا تكره التّسمية اتّفاقاً بين الفاتحة والسّورة المقروءة سرّاً أو جهراً . والمشهور عند المالكيّة : أنّ البسملة ليست من الفاتحة ، فلا تقرأ في المكتوبة سرّاً أو جهراً من الإمام أو المأموم أو المنفرد ، لما ورد عن أنسٍ أنّه قال : { صلّيت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ ، فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد للّه ربّ العالمين ، ولا يذكرون بسم اللّه الرّحمن الرّحيم في أوّل قراءةٍ ولا في آخرها } . ويكره قراءتها بفرضٍ قبل الفاتحة أو السّورة الّتي بعدها ، وفي قولٍ عند المالكيّة : يجب ، وهناك قول بالجواز . وفي روايةٍ في مذهب الإمام مالكٍ أنّه يجوز قراءة البسملة في صلاة النّفل قبل الفاتحة والسّورة في كلّ ركعةٍ سرّاً أو جهراً . وللخروج من الخلاف في حكم قراءة البسملة في الصّلاة ، قال القرافيّ : الورع البسملة أوّل الفاتحة ، وقال : محلّ كراهة الإتيان بالبسملة إذا لم يقصد الخروج من الخلاف الوارد في المذهب ، فإن قصده فلا كراهة . والأظهر عند الشّافعيّة : أنّه يجب على الإمام والمأموم والمنفرد قراءة البسملة في كلّ ركعةٍ من ركعات الصّلاة في قيامها قبل فاتحة الكتاب ، سواء أكانت الصّلاة فرضاً أم نفلاً ، سريّةً أو جهريّةً ، لحديثٍ رواه أبو هريرة : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { فاتحة الكتاب سبع آياتٍ ، إحداهنّ : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم } وللخبر : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } ويدلّ على دخول المأمومين في العموم ما صحّ عن عبادة : { كنّا نخلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر ، فثقلت عليه القراءة ، فلمّا فرغ قال : لعلّكم تقرءون خلف إمامكم ، قلنا : نعم ، قال : لا تفعلوا إلاّ بفاتحة الكتاب ، فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } وتقرأ البسملة عند ابتداء كلّ سورةٍ في ركعات الصّلاة ، ويجهر بها في حالة الجهر بالفاتحة والسّورة ، وكذا يسرّ بها معهما ، على القول بأنّ البسملة آية من سائر السّور . وعلى الأصحّ عند الحنابلة : لا يجب قراءة البسملة مع الفاتحة ومع كلّ سورةٍ في ركعات الصّلاة ، لأنّها ليست آيةً من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ ، لحديث { قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ... } ولأنّ الصّحابة أثبتوها في المصاحف بخطّهم ، ولم يثبتوا بين الدّفّتين سوى القرآن . وعلى الأصحّ : يسنّ قراءة البسملة مع فاتحة الكتاب في الرّكعتين الأوليين من كلّ صلاةٍ ، ويستفتح بها السّورة بعد الفاتحة ، ويسرّ بها ، لما ورد أنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسرّ ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم في الصّلاة } . وعلى الرّواية الأخرى عن أحمد في قرآنيّة البسملة يجب على الإمام والمنفرد والمأموم قراءة البسملة مع الفاتحة في الصّلاة . هذا ، وتقرأ البسملة بعد التّكبير والاستفتاح والتّعوّذ في الرّكعة الأولى ، أمّا فيما بعدها فإنّه يقرؤها بعد تكبير القيام إلى تلك الرّكعة ، وتقرأ البسملة في حال القيام ، إلاّ إذا صلّى قاعداً لعذرٍ ، فيقرؤها قاعداً وللتّفصيل ر : ( الصّلاة )
مواطن أخرى للبسملة :
أ - التّسمية عند دخول الخلاء :
6 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة التّسمية على سبيل النّدب ، وذلك قبل دخول الخلاء لقضاء الحاجة ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم { أنّه كان يقول إذا دخل الخلاء : بسم اللّه ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث } وانظر للتّفصيل مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .
ب - التّسمية عند الوضوء :(113/3)
7 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة في المشهور عندهم ، والشّافعيّة إلى أنّ التّسمية سنّة عند ابتداء الوضوء ، وسندهم فيما قالوا : أنّ آية الوضوء مطلقة عن شرط التّسمية ، والمطلوب من المتوضّئ الطّهارة ، وترك التّسمية لا يقدح فيها ، لأنّ الماء خلق طهوراً في الأصل ، فلا تتوقّف طهوريّته على صنع العبد ، وما رواه ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { من توضّأ وذكر اسم اللّه عليه كان طهوراً لجميع بدنه ، ومن توضّأ ولم يذكر اسم اللّه كان طهوراً لما أصاب من بدنه } وإن نسي المتوضّئ التّسمية في أوّل الوضوء ، وذكرها في أثنائه ، أتى بها ، حتّى لا يخلو الوضوء من اسم اللّه تعالى . وذهب الحنابلة : إلى أنّ التّسمية في الوضوء واجبة ، وهي قول ( باسم اللّه ) لا يقوم غيرها مقامها ، واستدلّوا لوجوبها بما رواه أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه } وتسقط التّسمية حالة السّهو تجاوزاً ، لحديث : { تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه } . فإن ذكر المتوضّئ التّسمية في أثناء الوضوء سمّى وبنى ، وإن تركها عمداً لم تصحّ طهارته ، لأنّه لم يذكر اسم اللّه على طهارته ، والأخرس والمعتقل لسانه يشير بها .
ج - التّسمية عند الذّبح :
8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المشهور عندهم إلى أنّ التّسمية واجبة عند الذّبح . لقوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } ولا تجب التّسمية على ناسٍ ، ولا أخرس ، ولا مكرهٍ ، ويكفي من الأخرس أن يومئ إلى السّماء ، لأنّ إشارته تقوم مقام نطق النّاطق . وذهب الشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى أنّ التّسمية سنّة عند الذّبح ، وصيغتها أن يقول : ( باسم اللّه ) عند الفعل ، لما روى البيهقيّ في صفة ذبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأضحيّته : { ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتى بكبشين أملحين أقرنين عظيمين موجوأين ، فأضجع أحدهما فقال : بسم اللّه واللّه أكبر ، اللّهمّ هذا عن محمّدٍ ، ثمّ أضجع الآخر فقال : بسم اللّه واللّه أكبر ، اللّهمّ هذا عن محمّدٍ وأمّته ممّن شهد لك بالتّوحيد ، وشهد لي بالبلاغ } . ويكره عند الشّافعيّة تعمّد ترك التّسمية ، ولكن لو تركها عمداً يحلّ ما ذبحه ويؤكل ، لأنّ اللّه تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى : { وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } وهم لا يذكرونها ( التّسمية ) ، وأمّا قوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه وإنّه لفسق } فالمراد ما ذكر عليه غير اسم اللّه ، أي ما ذبح للأصنام ، بدليل قوله تعالى : { وما أهلّ لغير اللّه به } وسياق الآية دالّ عليه ، فإنّه قال : { وإنّه لفسق } والحالة الّتي يكون فيها فسقاً هي الإهلال لغير اللّه تعالى .
د - التّسمية على الصّيد :
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب التّسمية عند صيد ما يؤكل لحمه ، والمراد بها : ذكر اللّه من حيث هو ، لا خصوص ( باسم اللّه ) والأفضل باسم اللّه واللّه أكبر ، ولا يزيد في البسملة : الرّحمن الرّحيم ولا الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويشترط عند الرّمي أو الإرسال للمعلّم إن ذكر وقدر ، لأنّه وقت الفعل من الرّامي والمرسل ، فتعتبر عنده . فإن تركها ناسياً أو عجزاً يحلّ ويؤكل ، وإن تركها عمداً مع القدرة عليها فلا ، لقوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } على معنى ولا تأكلوا ممّا تركت التّسمية عليه عمداً مع القدرة ، وخالف ابن رشدٍ من المالكيّة وقال : التّسمية ليست بشرطٍ في صحّة الذّكاة ، لأنّ معنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } لا تأكلوا الميتة الّتي لم تقصد ذكاتها ، لأنّها فسق . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّسمية عند الصّيد سنّة ، وصيغتها أن يقول عند الفعل : باسم اللّه والأكمل : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، لما رواه الشّيخان في الذّبح للأضحيّة ، وقيس بما فيه غيره ، ويكره تعمّد ترك التّسمية . فلو تركها - ولو عمداً - يحلّ ويؤكل للدّليل المبيّن في التّسمية عند الذّبح . ولمزيدٍ من التّفصيل ( ر : ذبائح ) . وذهب الحنابلة إلى اشتراط التّسمية في حلّ الصّيد عند إرسال الجارح المعلّم ، وهي : باسم اللّه ، لأنّ إطلاق التّسمية ينصرف إلى ذلك ، ولو قال : باسم اللّه واللّه أكبر ، فلا بأس لوروده ، فإن ترك التّسمية عمداً أو سهواً لم يبح على التّحقيق ، لقوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عديّ بن حاتمٍ : { إذا أرسلت كلبك وسمّيت فكل ، قلت : فإن أخذ معه آخر ؟ قال : لا تأكل ، فإنّك سمّيت على كلبك ، ولم تسمّ على الآخر } ، والفرق بين الذّبح والصّيد في التّسمية عند الحنابلة : أنّ الذّبح وقع في محلّه ، فجاز أن يتسامح فيه بالنّسبة لنسيان التّسمية ، بخلاف الصّيد ، فلا يتسامح في نسيانها فيه ، ونقل عن الإمام أحمد : أنّه إن نسي التّسمية عند الصّيد يباح ويؤكل ، وعنه أيضاً : إن نسيها على السّهم أبيح ، وإن نسيها على الجارحة لم يبح . ولمزيدٍ من التّفصيل ( ر : صيد ) .
هـ - ( التّسمية عند الأكل ) :(113/4)
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ التّسمية عند البدء في الأكل من السّنن . وصيغتها : بسم اللّه وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فإن نسيها في أوّله سمّى في باقيه ، ويقول : باسم اللّه أوّله وآخره لحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللّه تعالى ، فإن نسي أن يذكر اسم اللّه في أوّله فليقل : باسم اللّه أوّله وآخره } .
و - التّسمية عند التّيمّم :
11 - التّسمية عند التّيمّم مشروعة : سنّة عند الحنفيّة ، ومندوبة عند المالكيّة ، ومستحبّة عند الشّافعيّة ، وصيغتها : بسم اللّه والأكمل عند الشّافعيّة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، وإن نسي التّسمية في أوّل التّيمّم وذكرها في أثنائه أتى بها ، وإن تركها عمداً لا يبطل التّيمّم ، وإن فعلها يثاب . وذهب الحنابلة إلى أنّ التّسمية عند التّيمّم واجبة وهي : باسم اللّه ، لا يقوم غيرها مقامها ، ووقتها أوّله ، وتسقط سهواً لحديث : { تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان ... } وإن ذكرها في أثنائه سمّى وبنى ، وإن تركها عمداً حتّى مسح بعض أعضائه ، ولم يستأنف ما فعله ، لم تصحّ طهارته ، لأنّه لم يذكر اسم اللّه على طهارته .
ز - التّسمية لكلّ أمرٍ ذي بالٍ :
12 - اتّفق أكثر الفقهاء على أنّ التّسمية مشروعة لكلّ أمرٍ ذي بالٍ ، عبادةٍ أو غيرها ، فتقال عند البدء في تلاوة القرآن الكريم والأذكار ، وركوب سفينةٍ ودابّةٍ ، ودخول المنزل ومسجدٍ ، أو خروجٍ منه ، وعند إيقاد مصباحٍ أو إطفائه ، وقبل وطءٍ مباحٍ ، وصعود خطيبٍ منبراً ، ونومٍ ، والدّخول في صلاة النّفل ، وتغطية الإناء ، وفي أوائل الكتب ، وعند تغميض ميّتٍ ولحده في قبره ، ووضع اليد على موضع ألمٍ بالجسد ، وصيغتها ( باسم اللّه ) والأكمل ( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ) فإن نسي التّسمية أو تركها عمداً فلا شيء ، ويثاب إن فعل . وممّا ورد : حديث { كلّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر } ، وفي روايةٍ { فهو أقطع } وفي أخرى { فهو أجذم } ، وما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { ضع يدك على الّذي تألّم من جسدك ، وقل : باسم اللّه ثلاثاً ... } الحديث . وحديث : { أغلق بابك واذكر اسم اللّه ، فإنّ الشّيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، وأطفئ مصباحك واذكر اسم اللّه ، وخمّر إناءك ... } وحديث : { إذا عثرت بك الدّابّة فلا تقل : تعس الشّيطان ، فإنّه يتعاظم ، حتّى يصير مثل البيت ، ويقول : بقوّتي صرعته ، ولكن قل : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فإنّه يتصاغر ، حتّى يصير مثل الذّباب } .(113/5)
بصاق
التّعريف
1 - البصاق : ماء الفم إذا خرج منه . يقال : بصق يبصق بصاقاً . ويقال فيه أيضاً : البزاق ، والبساق . وهو من الإبدال .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - التّفل :
2 - التّفل لغةً : البصق . يقال : تفل يتفل ويتفل تفلاً : بصق . والتّفل بالفم : نفخ معه شيء من الرّيق . فإذا كان نفخاً بلا ريقٍ فهو النّفث . والتّفل شبيه بالبزاق ، وهو أقلّ منه . أوّله البزق ، ثمّ التّفل ، ثمّ النّفخ .
ب - اللّعاب :
3 - اللّعاب : الرّيق الّذي يسيل من الفم .
الحكم الإجماليّ :
4 - الأصل في ماء فم الإنسان طهوريّته ما لم ينجّسه نجس . وللبصاق أحكام تتعلّق به . فهو حرام في المسجد ومكروه على حيطانه . فإذا بصق المصلّي في المسجد كان عليه أن يدفنه ، إذ البصق فيه خطيئة ، وكفّارتها دفنه ، كما جاء في الحديث { البصاق في المسجد خطيئة ، وكفّارتها دفنها } . والمشهور في ذلك أن يدفنه في تراب المسجد ورمله ، إن كان له تراب أو رمل ونحوهما . فإن لم يكن أخذه بعودٍ أو خرقةٍ أو نحوهما أو بيده وأخرجه منه . كما لا يبصق على حيطانه ، ولا بين يديه على الحصى ، ولا فوق البواري ( أي الحصر ) ولا تحتها . ولكن يأخذه بطرف ثوبٍ ويحكّ بعضه ببعضٍ ، ولا تبطل به الصّلاة إلاّ أن يتوالى ويكثر . وإن كان قد بصق في تراب المسجد فعليه أن يدفنه . فإن اضطرّ إلى ذلك ، كان الإلقاء فوق الحصير أهون من الإلقاء تحته . لأنّ البواري ليست بمسجدٍ حقيقةً ، وما تحتها مسجد حقيقةً . وإن لم يكن فيه البواري يدفنه في التّراب ، ولا يتركه على وجه الأرض . وإن كان في غير المسجد لم يبصق تلقاء وجهه ، ولا عن يمينه ، بل يبصق تحت قدمه اليسرى ، أو عن يساره . ومن رأى من يبصق في المسجد لزمه الإنكار عليه ومنعه منه إن قدر . ومن رأى بصاقاً ونحوه في المسجد فالسّنّة أن يزيله بدفنه أو إخراجه ، ويستحبّ له تطييب محلّه . وأمّا ما يفعله كثير من النّاس إذا بصق أو رأى بصاقاً دلكه بأسفل مداسه الّذي داس به النّجاسة والأقذار فحرام ، لأنّه تنجيس للمسجد وتقذير له . وعلى من رآه يفعل ذلك الإنكار عليه بشرطه . ولا يسوغ مسح لوح القرآن أو بعضه بالبصاق . ويتعيّن على معلّم الصّبيان أن يمنعهم من ذلك . ومن أحكامه بالنّسبة للصّائم : أنّ من ابتلع ريق نفسه ، وهو في فيه قبل خروجه منه ، فإنّه لا يفطر ، حتّى لو جمعه في الفم وابتلعه . وإن صار خارج فيه وانفصل عنه ، وأعاده إليه بعد انفصاله وابتلعه ، فسد صومه . كما لو ابتلع بزاق غيره . ومن ترطّبت شفتاه بلعابه عند الكلام أو القراءة أو غير ذلك ، فابتلعه لا يفسد صومه للضّرورة . ولو بقي بلل في فمه بعد المضمضة فابتلعه مع البزاق لم يفطّره . ولو بلّ الخيّاط خيطاً بريقه ثمّ ردّه إلى فيه على عادتهم حال الفتل ، فإن لم تكن على الخيط رطوبة تنفصل لم يفطر بابتلاع ريقه ، بخلاف ما إذا كانت تنفصل .(114/1)
بقر
التّعريف
1 - البقر : اسم جنسٍ . قال ابن سيده : ويطلق على الأهليّ والوحشيّ ، وعلى الذّكر والأنثى ، وواحده بقرة ، وقيل : إنّما دخلته الهاء لأنّه واحد من الجنس . والجمع : بقرات ، وقد سوّى الفقهاء الجاموس بالبقر في الأحكام ، وعاملوهما كجنسٍ واحدٍ . زكاة البقر :
2 - زكاة البقر واجبة بالسّنّة والإجماع . أمّا السّنّة فما روى البخاريّ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { والّذي نفسي بيده ، أو والّذي لا إله غيره - أو كما حلف - ما من رجلٍ تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقّها إلاّ أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، كلّما جازت أخراها ردّت عليه أولاها حتّى يقضى بين النّاس } . وما روى النّسائيّ والتّرمذيّ عن مسروقٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم { بعث معاذاً إلى اليمن ، وأمره أن يأخذ من كلّ حالمٍ ديناراً ، ومن البقر من كلّ ثلاثين تبيعاً أو تبيعةً ، ومن كلّ أربعين مسنّةً } . وقد أجمع الصّحابة ومن بعدهم على وجوب الزّكاة في الأنعام ، ولم يخالف في ذلك أحد ، والبقر صنف من الأنعام ، فوجبت الزّكاة فيها كالإبل والغنم ، وإنّما كان الخلاف في بعض الشّروط كما سيأتي .
شروط وجوب الزّكاة في البقر :
3 - يشترط في وجوب الزّكاة في البقر شروط عامّة تفصيلها في الزّكاة ، وهناك شروط خاصّة بيانها فيما يلي : اشتراط السّوم :
4 - المراد بالسّوم في زكاة الماشية : أن ترعى الماشية أكثر أيّام السّنة في كلأٍ مباحٍ ، سواء أكانت ترعى بنفسها أم براعٍ يرعاها ، هذا وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وغيرهم إلى أنّه يشترط السّوم في زكاة الماشية ، ومن بين تلك الماشية البقر ، فيشترط فيها السّوم أيضاً ، وأمّا البقر العوامل والمعلوفة فلا زكاة فيها ، لانتفاء السّوم . وقال الإمام مالك : لا يشترط السّوم في زكاة البقر ، فالبقر العوامل والمعلوفة تجب فيها الزّكاة عنده . استدلّ الإمام مالك لما ذهب إليه بالإطلاق في الأحاديث الموجبة لزكاة البقر ، وهو الّذي استقرّ عليه عمل أهل المدينة ، وعمل أهل المدينة أحد أصول المالكيّة . واستدلّ القائلون باشتراط السّوم في زكاة الماشية بما روي عن عليٍّ رضي الله عنه ، قال الرّاوي أحسبه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صدقة البقر قال : { وليس في العوامل شيء } ، وأيضاً بما روي عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { ليس في البقر العوامل شيء } وقد حمل الجمهور النّصوص المطلقة في البقر على النّصوص المقيّدة بالسّوم الواردة في الإبل والغنم ، كما استدلّوا بقياس البقر على الإبل والغنم في اشتراط السّوم . وأيضاً فإنّ صفة النّماء معتبرة في الزّكاة ، فلا توجد إلاّ في السّائمة ، أمّا البقر العوامل فصفة النّماء مفقودة فيها ، ومثلها المعلوفة فلا نماء فيها أيضاً ، لأنّ علفها يستغرق نماءها ، إلاّ أن يعدّها للتّجارة ، فيزكّيها زكاة عروض التّجارة .
الزّكاة في بقر الوحش :
5 - ذهب أكثر العلماء إلى عدم وجوب الزّكاة في بقر الوحش ، وعند الحنابلة روايتان ، فالمذهب عندهم وجوب الزّكاة فيها ، لأنّ مطلق الخبر الّذي أوجب الزّكاة في البقر - والّذي سبق ذكره - يتناولها . والرّواية الثّانية عندهم عدم وجوب الزّكاة فيها . قال ابن قدامة : وهي أصحّ ، وهو قول أكثر أهل العلم في عدم وجوب الزّكاة في بقر الوحش ، لأنّ اسم البقر عند الإطلاق لا ينصرف إليها ولا يفهم منه إذ كانت لا تسمّى بقراً بدون الإضافة ، فيقال : بقر الوحش ، ولأنّ العادة تنفي وجود نصابٍ منها موصوفاً بصفة السّوم حولاً كاملاً ، ولأنّها حيوان لا يجزئ نوعه في الأضحيّة والهدي ، فلا تجب فيها الزّكاة كالظّباء ، ولأنّها ليست من بهيمة الأنعام ، فلا تجب فيها الزّكاة كسائر الوحوش ، والسّرّ في ذلك أنّ الزّكاة إنّما وجبت في بهيمة الأنعام دون غيرها لكثرة النّماء فيها ، من درّها ونسلها وكثرة الانتفاع بها لكثرتها وخفّة مئونتها ، وهذا المعنى يختصّ بها ، فاختصّت الزّكاة بها دون غيرها .
زكاة المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ :
6 - ذهب الحنابلة إلى وجوب الزّكاة في المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ ، سواء أكان الوحشيّ هو الفحل أم الأمّ ، واحتجّوا لذلك بأنّ المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ متولّد بين الّذي تجب فيه الزّكاة وبين ما لا تجب فيه ، فيرجّح جانب الوجوب ، قياساً على المتولّد بين السّائمة والمعلوفة ، فتجب فيه الزّكاة ، فكذلك المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ . وعلى هذا القول تضمّ إلى جنسها من الأهليّ في وجوب الزّكاة ، ويكمّل بها نصابها ، وتكون كأحد أنواعه . وقال أبو حنيفة ومالك : إن كانت الأمّهات أهليّةً وجبت الزّكاة فيها ، وإلاّ فلا . واستدلّ لهذا القول بأنّ جانب الأمّ في الحيوان هو المعتبر ، لأنّ الأمّ في الحيوان هي الّتي تقوم وحدها برعاية ابنها . وقال الشّافعيّ : لا زكاة فيه مطلقاً ، سواء أكانت الوحشيّة من قبل الفحل أم من قبل الأمّ .
اشتراط تمام النّصاب : أمّا النّصاب فقد اختلف الفقهاء فيه على أقوالٍ ، من أشهرها اتّجاهان :(115/1)
8 - الاتّجاه الأوّل : وهو قول عليّ بن أبي طالبٍ ومعاذ بن جبلٍ وأبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنهم وقال به الشّعبيّ وشهر بن حوشبٍ وطاووس وعمر بن عبد العزيز والحسن البصريّ ، ونقله الزّهريّ عن أهل الشّام ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبلٍ والشّافعيّ ، قالوا : ليس فيما دون الثّلاثين من البقر شيء ، فإذا بلغتها ففيها تبيع أو تبيعة ، ( والتّبيع هو الّذي له سنتان ، أو الّذي له سنة وطعن في الثّانية ، وقيل : ستّة أشهرٍ ، والتّبيعة مثله ) ، ثمّ لا شيء فيها حتّى تبلغ أربعين ، فإذا بلغتها ففيها بقرة مسنّة . ثمّ لا شيء فيها حتّى تبلغ ستّين ، فإذا بلغتها ففيها تبيعان أو تبيعتان . ثمّ لا شيء فيها حتّى تبلغ عشراً زائدةً ، فإذا بلغتها ففي كلّ ثلاثين من ذلك العدد تبيع أو تبيعة وفي كلّ أربعين مسنّ أو مسنّة ، ففي سبعين تبيع ومسنّة ، وفي ثمانين مسنّتان ، وفي تسعين ثلاثة أتبعةٍ ، وفي مائةٍ مسنّة وتبيعان ، وفي مائةٍ وعشرٍ مسنّتان وتبيع ، وفي مائةٍ وعشرين ثلاث مسنّاتٍ أو أربعة أتبعةٍ ، فالمالك مخيّر بين إخراج الأتبعة أو المسنّات ، وإن كان الأولى النّظر إلى حاجة الفقراء والأصلح لهم . ثمّ يتغيّر الواجب كلّما زاد العدد عشراً . واحتجّ أصحاب هذا القول بما روي عن معاذٍ رضي الله عنه { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ حالمٍ ديناراً ، ومن البقر من كلّ ثلاثين تبيعاً أو تبيعةً ، ومن كلّ أربعين مسنّةً } . وروى ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة عن { معاذٍ أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأوقاص : ما بين الثّلاثين إلى الأربعين ، وما بين الأربعين إلى الخمسين ؟ قال : ليس فيها شيء } . واحتجّوا أيضاً بما جاء في كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزمٍ : { فرائض البقر ليس فيما دون الثّلاثين من البقر صدقة ، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل رائع جذع ، إلى أن تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنّة . إلى أن تبلغ سبعين ، فإنّ فيها بقرةً وعجلاً جذعاً ، فإذا بلغت ثمانين ففيها مسنّتان ، ثمّ على هذا الحساب } . هذا ، ولتفصيل أحكام ما بين الفريضتين في الزّكاة - وهو المسمّى بالوقص - ينظر مصطلح : ( أوقاص ) .
9- الاتّجاه الثّاني : قول سعيد بن المسيّب والزّهريّ وأبي قلابة وغيرهم : أنّ نصاب البقر هو نصاب الإبل ، وأنّه يؤخذ في زكاة البقر ما يؤخذ من الإبل ، دون اعتبارٍ للأسنان الّتي اشترطت في الإبل ، من بنت مخاضٍ وبنت لبونٍ وحقّةٍ وجذعةٍ ، وروي هذا عن كتاب عمر بن الخطّاب في الزّكاة ، وعن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهم ، وشيوخٍ أدّوا الصّدقات على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وروى أبو عبيدٍ : أنّ في كتاب عمر بن الخطّاب ( في الزّكاة ) أنّ البقر يؤخذ منها مثل ما يؤخذ من الإبل ، قال : وقد سئل عنها غيرهم ، فقالوا : فيها ما في الإبل . وقد ذكر ابن حزمٍ بسنده عن الزّهريّ وقتادة كلاهما عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ رضي الله عنهما قال : في كلّ خمسٍ من البقر شاة ، وفي عشرٍ شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياهٍ ، وفي عشرين أربع شياهٍ . قال الزّهريّ : فرائض البقر مثل فرائض الإبل غير أسنانٍ فيها : فإذا كانت البقر خمساً وعشرين ففيها بقرة إلى خمسٍ وسبعين ، فإذا زادت على خمسٍ وسبعين ففيها بقرتان إلى مائةٍ وعشرين ، فإذا زادت على مائةٍ وعشرين ففي كلّ أربعين بقرة . قال الزّهريّ : وبلغنا أنّ قولهم : في كلّ ثلاثين تبيع ، وفي كلّ أربعين بقرة ، أنّ ذلك كان تخفيفاً لأهل اليمن ، ثمّ كان بعد ذلك لا يروى . وروي أيضاً عن عكرمة بن خالدٍ قال : استعملت - أي ولّيت - على صدقات ( عكّ ) فلقيت أشياخاً ممّن صدّق ( أخذت منهم الصّدقة ) على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاختلفوا عليّ : فمنهم من قال اجعلها مثل صدقة الإبل ، ومنهم من قال : في ثلاثين تبيع ، ومنهم من قال : في أربعين بقرة مسنّة . وذكر ابن حزمٍ أيضاً بسنده عن ابن المسيّب وأبي قلابة وآخرين مثل ما نقل عن الزّهريّ ، ونقل عن عمر بن عبد الرّحمن بن خلدة الأنصاريّ : أنّ صدقة البقر صدقة الإبل ، غير أنّه لا أسنان فيها .
ما يجزئ في الأضحيّة :
10 - لا يجزئ في الأضحيّة سوى النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، خلافاً لمن قال : يجوز التّضحية بأيّ شيءٍ من مأكول اللّحم من النّعم أو من غيرها . وتفصيله في ( الأضحيّة ) . واتّفق العلماء على أنّ الشّخص إذا ضحّى بالبقرة الواحدة عن نفسه فقط فإنّ الأضحيّة تقع له ، وسواء أكانت واجبةً أم متطوّعاً بها .(115/2)
11 - وأمّا الاشتراك في التّضحية بالبقرة الواحدة ففيه خلاف : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنّ البقرة الواحدة تجزئ عن سبعة أشخاصٍ ، فيجوز لهم الاشتراك في البقرة الواحدة ، وسواء أكانوا أهل بيتٍ واحدٍ ، أم أهل بيتين ، أم متفرّقين ، وسواء أكانت أضحيّةً واجبةً أم متطوّعاً بها ، وسواء أراد بعضهم القربة أم أراد اللّحم ، فيقع لكلّ واحدٍ منهم ما قصد . إلاّ أنّه عند الحنفيّة لا بدّ أن يريد كلّهم القربة ، فلو أراد أحدهم اللّحم لم تجزئ عن الكلّ عندهم . وقال مالك : يجزئ الرّأس الواحد من الإبل أو البقر أو الغنم عن واحدٍ ، وعن أهل البيت وإن كثر عددهم وكانوا أكثر من سبعةٍ ، إذا أشركهم فيها تطوّعاً ، ولا تجزئ إذا اشتروها بينهم بالشّركة ، ولا على أجنبيّين فصاعداً . واحتجّ أصحاب القول الأوّل بما رواه جابر قال : { نحرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعةٍ } وعنه قال : { خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مهلّين ، فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر ، كلّ سبعةٍ منّا في بدنةٍ } . وأمّا مالك فقد أخذ بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يقول : البدنة عن واحدٍ والبقرة عن واحدٍ ، والشّاة عن واحدٍ لا أعلم شركاً . وقد روي هذا أيضاً عن غير ابن عمر كمحمّد بن سيرين فإنّه يرى أنّ النّفس الواحدة لا تجزئ إلاّ عن نفسٍ واحدةٍ فقط .
البقر في الهدي :
12 - حكم البقرة في الهدي كحكمها في الأضحيّة ، باستثناء ما يتّصل بالتّضحية عن الرّجل وأهل بيته ، وتفصيله في ( الحجّ ، والهدي ) . أمّا إشعار البقر في الهدي فقد اتّفق العلماء ( سوى أبي حنيفة ) على أنّ الإشعار سنّة ، وأنّه مستحبّ ، وقد فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة من بعده ، واتّفقوا أيضاً على أنّ الإشعار سنّة في الإبل ، سواء أكان لها سنام أم لم يكن لها سنام ، فإن لم يكن لها سنام فإنّها تشعر في موضع السّنام . وأمّا البقر فمذهب الشّافعيّة : الإشعار فيها مطلقاً ، سواء أكان لها سنام أم لم يكن لها سنام ، فهي عندهم كالإبل . وقد ذهب مالك إلى أنّ البقر إذا كان لها سنام فإنّها تشعر ، أمّا إذا لم يكن لها سنام فإنّها لا تشعر .
( حكم التّقليد ) :
13 - التّقليد : جعل القلادة في العنق ، وتقليد الهدي : أن يعلّق في عنقه قطعة من جلدٍ ، ليعرف أنّه هدي فلا يتعرّض له . واتّفق العلماء على أنّ التّقليد مستحبّ في الإبل والبقر . وأمّا الغنم فقد ذهب الشّافعيّة إلى استحباب التّقليد فيها كالإبل والبقر . وذهب أبو حنيفة ومالك إلى عدم استحباب التّقليد فيها . وتقليد الإبل والبقر يكون بالنّعال ونحوها ممّا يشعر أنّها هدي .
ذكاة البقر :
14 - ذكاة البقر كذكاة الغنم ، فإذا أريد تذكية البقرة فإنّها تضجع على جنبها الأيسر ، وتشدّ قوائمها الثّلاث : اليد اليمنى واليسرى والرّجل اليسرى ، وتترك الرّجل اليمنى بلا شدٍّ لتحرّكها عند الذّبح ، ويمسك الذّابح رأسها بيده اليسرى ، ويمسك السّكّين بيده اليمنى ، ثمّ يبدأ الذّبح بعد أن يقول : باسم اللّه واللّه أكبر وبعد أن يتّجه هو وذبيحته نحو القبلة . وأمّا الإبل فإنّها تنحر بطعنها في اللّبّة ، أي أسفل العنق ، وهي قائمة معقولة الرّكبة اليسرى .
استعمال البقر للرّكوب :
15 - اتّفق العلماء على أنّ ما يركب من الأنعام ويحمل عليه هو الإبل . وأمّا البقر فإنّه لم يخلق للرّكوب ، وإنّما خلق لينتفع به في حرث الأرض ، وغير ذلك من المنافع سوى الرّكوب . وأمّا الغنم فهي للدّرّ والنّسل واللّحم لقوله تعالى : { وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكم ممّا في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ، وعليها وعلى الفلك تحملون } ، وقوله تعالى : { اللّه الّذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون } ، وقوله تعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } . وأمّا الآيات الّتي تذكر أنّ الأنعام تركب فهي محمولة عند العلماء على بعض الأنعام ، وهي الإبل ، وهو من العامّ الّذي أريد به الخاصّ . وممّا يدلّ على أنّ استعمال البقر للرّكوب غير لائقٍ ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { بينما رجل يسوق بقرةً له قد حمل عليها ، التفتت إليه البقرة فقالت : إنّي لم أخلق لهذا ، ولكنّي إنّما خلقت للحرث ، فقال النّاس : سبحان اللّه - تعجّباً وفزعاً - أبقرة تكلّم ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فإنّي أومن به وأبو بكرٍ وعمر } .
بول وروث البقر :
16 - اتّفق الفقهاء على نجاسة بول وروث ما لا يؤكل لحمه ، سواء أكان إنساناً أم غيره . وأمّا بول وروث ما يؤكل لحمه كالإبل والبقر والغنم ففيه الخلاف فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والشّافعيّ إلى نجاسة الأبوال والأرواث كلّها ، من مأكول اللّحم وغيره . وذهب مالك وأحمد وطائفة من السّلف ، ووافقهم من الشّافعيّة ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان والإصطخريّ والرّويانيّ ، ومن الحنفيّة محمّد بن الحسن إلى طهارة بول ما يؤكل لحمه . وانظر للتّفصيل والاستدلال مصطلح ( نجاسة ) .
حكم البقر في الدّية :(115/3)
17 - اختلف العلماء في اعتبار البقر أصلاً في الدّية على قولين : فذهب أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ في القديم إلى أنّ الدّية ثلاثة أصولٍ : الإبل ، والذّهب ، والفضّة ، وليس أصلاً . وذهب صاحبا أبي حنيفة ( أبو يوسف ومحمّد بن الحسن ) والثّوريّ وأحمد بن حنبلٍ إلى أنّ الدّية خمسة أصولٍ : الإبل ، والذّهب ، والفضّة ، والبقر ، والغنم . وزاد الصّاحبان : الحلل ، وهو قول عمر وعطاءٍ وطاووسٍ وفقهاء المدينة السّبعة ، فعلى هذا القول تعتبر البقر أصلاً من أصول الدّية ، ويجوز لأصحابها - كما عند الصّاحبين - دفعها ابتداءً ، ولا يكلّفون غيرها . وذهب الشّافعيّ في الجديد إلى أنّ الدّية ليس لها إلاّ أصل واحد ، وهو الإبل ، فإذا فقدت فالواجب قيمتها من نقد البلد بالغةً ما بلغت . فليست البقر أصلاً على هذا القول كذلك . وانظر للتّفصيل مصطلح ( دية ) .(115/4)
بُرّ *
التّعريف :
1 - البرّ بالضّمّ يطلق لغةً : على القمح ، والواحدة منه ( برّة ) ، وهو في الإصلاح بهذا المعنى .
الحكم الإجماليّ :
2 - البرّ - من حيث كونه حبّاً خارجاً من الأرض - وجبت فيه الزّكاة إذا بلغ خمسة أوسقٍ عند الجمهور ، ومنهم أبو يوسف ومحمّد . وأوجبها أبو حنيفة في الخارج مطلقاً ، ولو لم يبلغ خمسة أوسقٍ .
ونسبة الواجب إذا سقيت الأرض سيحاً أو بماء السّماء : العشر ، وإذا سقيت بآلةٍ : نصف العشر ، وهذا باتّفاقٍ . وإذا كانت الأرض خراجيّةً ففيها الخراج دون العشر عند الحنفيّة . والبرّ من الأجناس المجزئة في صدقة الفطر الواجبة ، والقدر المجزئ منه صاع عند الجمهور ، ونصفه عند الحنفيّة . وتفصيله في صدقة الفطر .
وإذا قصد في البرّ التّجارة قوّم كالعروض ، وأخرجت عنه الزّكاة كما تخرج عنها . وتفصيله في الزّكاة .
ويعدّ البرّ من الماليّات المتقوّمة الّتي يجوز بيعها وهبتها والسّلم فيها ، ويدخله الرّبا إذا بيع بمثله . فيشترط له : المماثلة والحلول والتّقابض . لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ... » .
كما لا يجوز بيعه محاقلةً في الجملة ، وهي : بيع الحنطة في سنبلها بمثلها من الحنطة ولو خرصاً ، ولا مخاضرةً ، وهي : البيع قبل بدوّ الصّلاح والزّرع أخضر ، خلافاً لبعض الحنفيّة . والتّفصيل في ( البيع ، والرّبا ، والبيع المنهيّ عنه ) .(116/1)
تبرّج *
التّعريف :
1 - التّبرّج لغةً : مصدر تبرّج ، يقال تبرّجت المرأة : إذا أبرزت محاسنها للرّجال .
وفي الحديث « كان يكره عشر خلال ، منها : التّبرّج بالزّينة لغير محلّها » والتّبرّج : إظهار الزّينة للرّجال الأجانب وهو المذموم . أمّا للزّوج فلا ، وهو معنى قوله لغير محلّها .
وهو في معناه الشّرعيّ لا يخرج عن هذا . قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى : { غيرَ مُتبرِّجات بِزِينَةٍ } أي غير مظهرات ولا متعرّضات بالزّينة لينظر إليهنّ ، فإنّ ذلك من أقبح الأشياء وأبعدها عن الحقّ . وأصل التّبرّج : التّكشّف والظّهور للعيون . وقال في تفسير قوله تعالى { ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليّةِ الأُولى } حقيقة التّبرّج : إظهار ما ستره أحسن .
قيل ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام : كانت المرأة تلبس الدّرع من اللّؤلؤ غير مخيط الجانبين ، وتلبس الثّياب الرّقاق ولا تواري بدنها .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّزيّن :
2 - التّزيّن : اتّخاذ الزّينة ، وهي ما يستعمل استجلاباً لحسن المنظر من الحليّ وغيره ، ومنه قوله تعالى { حتّى إذا أخذتِ الأرضُ زُخرفَها وازَّيَّنَتْ } أي حسنت وبهجت بالنّبات . فأمّا التّبرّج : فهو إظهار تلك الزّينة لمن لا يحلّ له النّظر إليها .
ما يعتبر إظهاره تبرّجاً :
3 - التّبرّج : إظهار الزّينة والمحاسن ، سواء أكانت فيما يعتبر عورةً من البدن : كعنق المرأة وصدرها وشعرها ، وما على ذلك من الزّينة . أو كان فيما لا يعتبر عورةً : كالوجه والكفّين ، إلاّ ما ورد الإذن به شرعاً كالكحل ، والخاتم ، والسّوار ، على ما روي عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى : { ولا يُبْدين زينَتَهنّ إلاّ ما ظهرَ منها } قال : ما ظهر منها : الكحل ، والخاتم والسّوار . ولأنّها تحتاج إلى كشف ذلك في المعاملات فكان فيه ضرورة ، على أنّ في اعتبار الوجه والكفّين من العورة خلافاً ينظر في مصطلح ( عورة ) .
الحكم التّكليفيّ للتّبرّج :
تبرّج المرأة :
4 - تبرّج المرأة على أشكاله المختلفة ، سواء ما كان منه بإظهار الزّينة والمحاسن لغير من لا يحلّ له نظر ذلك ، أو ما كان بالتّبختر والاختيال ، والتّثنّي في المشي ، ولبس الرّقيق من الثّياب الّذي يصف بشرتها ، ويبيّن مقاطع جسمها ، إلى غير ذلك - ممّا يبدو منها مثيراً للغرائز ومحرّكاً للشّهوة - حرام إجماعاً لغير الزّوج ، لقول اللّه تبارك وتعالى { وقَرْنَ في بيوتِكنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تبرّجَ الجاهليّة الأُولى } وقوله { ولا يَضْرِبْنَ بأرجُلِهنّ لِيُعْلمَ ما يُخْفِين من زينتهنّ } وذلك أنّ النّساء في الجاهليّة الأولى كنّ يخرجن في أجود زينتهنّ ويمشين مشيةً من الدّلّال والتّبختر ، فيكون ذلك فتنةً لمن ينظر إليهنّ . حتّى القواعد من النّساء ، وهنّ العجائز ونحوهنّ ممّن لا رغبة للرّجال فيهنّ ، نزل فيهنّ قوله تعالى { والقواعدُ من النّساء اللّاتي لا يَرْجون نكاحاً فليس عليهنَّ جُناحٌ أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ غيرَ متبَرِّجات بزينةٍ } فأباح لهنّ وضع الخمار ، وكشف الرّأس ونحوه ، ونهاهنّ مع ذلك عن التّبرّج .
تبرّج الرّجل :
تبرّج الرّجل إمّا بإظهار عورته أو تزيّنه ، والتّزيّن إمّا أن يكون موافقاً للشّريعة ، أو مخالفاً لها .
أ - التّبرّج بإظهار العورة :
5 - يحرم على الرّجل كشف عورته أمام الرّجال والنّساء غير زوجته ، أو لحاجة التّداوي والختان ، على خلاف بين الفقهاء في تحديد العورة . ينظر إليه في مصطلح ( عورة ) . ويجوز للمرأة أن تنظر من الرّجل إلى ما ينظر الرّجل إليه من الرّجل إذا أمنت الشّهوة ، لاستواء الرّجل والمرأة في النّظر إلى ما ليس بعورة ، وذهب بعض الفقهاء إلى التّحريم . كما يكره نظر الرّجل إلى فرجه عبثاً من غير حاجة .
ب - التّبرّج بإظهار الزّينة :
6 - إظهار الزّينة من الرّجل قد يكون موافقاً للشّريعة ، وقد يكون مخالفاً لها .
فالتّزيّن المخالف للشّريعة ، كالأخذ من أطراف الحاجب تشبّهاً بالنّساء ، وكوضع المساحيق على الوجه تشبّهاً بالنّساء ، وكالتّزيّن بلبس الحرير والذّهب والتّختّم به وما إلى ذلك ، وهناك صور من التّزيّن اختلف في حكمها . تنظر في ( اختضاب ) وفي ( لحية وتزيّن ) . وأمّا التّزيّن الّذي أباحته الشّريعة ، ومنه تزيّن حضّت عليه : كتزيّن الزّوج لزوجته كتزيّنها له ، وتسريح الشّعر أو حلقه ، لكن يكره القزع ، ويسنّ تغيير الشّيب إلى الحمرة والصّفرة . ويجوز التّزيّن بالتّختّم بالفضّة ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من الفضّة » ، إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا في مقدار الخاتم وينظر في مصطلح ( تختّم ) .
تبرّج الذّمّيّة :
7 - الذّمّيّة الحرّة عورتها كعورة المسلمة الحرّة ، حيث لم يفرّق الفقهاء في إطلاقهم للحرّة بين المسلمة وغيرها ، كما أنّهم لم يفرّقوا بين عورة الرّجل المسلم والكافر ، وهذا يقتضي تحريم النّظر إلى عورة الذّمّيّ رجلاً كان أو أنثى ، وعلى ذلك يجب على الذّمّيّة ستر عورتها والامتناع عن التّبرّج المثير للفتنة ، درءاً للفساد ومحافظةً على الآداب العامّة .
من يطلب منه منع التّبرّج ؟(117/1)
8 - على الأب أن يمنع بنته الصّغيرة عن التّبرّج إذا كانت تشتهى ، حيث لا يباح مسّها والنّظر إليها والحالة هذه لخوف الفتنة ، وكذلك عليه ذلك بالنّسبة لبنته الّتي لم تتزوّج متى كانت في ولايته ، إذ ينبغي له أن يأمرها بجميع المأمورات ، وينهاها عن جميع المنهيّات ، ومثل الأب في ذلك وليّها عند عدمه . وعلى الزّوج منع زوجته عنه ، لأنّه معصية ، فله تأديبها وضربها ضرباً غير مبرّح في كلّ معصية لا حدّ فيه ، إذا لم تستجب لنصحه ووعظه ، متى كان متمشّياً مع المنهج الشّرعيّ . وعلى وليّ الأمر أن ينهى عن التّبرّج المحرّم ، وله أن يعاقب عليه ، وعقوبته التّعزير ، والمراد به التّأديب ، ويكون بالضّرب أو بالحبس أو بالكلام العنيف ، أو ليس فيه تقدير ، بل هو مفوّض إلى رأي من يقوم به وفق مقتضيات الأحوال الّتي يطلب فيها التّعزير . وانظر مصطلح ( تعزير ) .(117/2)
تبرّك *
التّعريف :
1 - التّبرّك لغةً : طلب البركة ، والبركة هي : النّماء والزّيادة ، والتّبريك : الدّعاء للإنسان بالبركة . وبارك اللّه الشّيء وبارك فيه وعليه : وضع فيه البركة ، وفي التّنزيل : { وهذا كتابٌ أَنزلْناه مبارَك } وتبرّكت به تيمّنت به . قال الرّاغب الأصفهانيّ : البركة ثبوت الخير الإلهيّ في الشّيء . قال تعالى : { ولو أنَّ أهلَ القرى آمنوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض } { وهذا ذِكْر مبارك أنزلناه } تنبيهاً على ما يفيض به من الخيرات الإلهيّة . وعلى هذا فالمعنى الاصطلاحيّ للتّبرّك هو : طلب ثبوت الخير الإلهيّ في الشّيء .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّوسّل :
2 - التّوسّل لغةً : التّقرّب . يقال : توسّل العبد إلى ربّه بوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل .
وفي التّنزيل : { وابْتَغُوا إليه الوسيلةَ } .
ب - الشّفاعة :
3 - الشّفاعة : لغةً من مادّة شفع ، ويقال : استشفعت به : طلبت منه الشّفاعة . وقال الرّاغب الأصفهانيّ : الشّفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه ، وشفّع وتشفّع : طلب الشّفاعة ، والشّفاعة : كلام الشّفيع للملك في حاجة يسألها لغيره ، والشّافع : الطّالب لغيره ، وشفع إليه في معنى : طلب إليه قضاء حاجة المشفوع له .
وفي الاصطلاح : الضّراعة والسّؤال في التّجاوز عن ذنوب المشفوع له أو قضاء حاجته .
ج - الاستغاثة :
4 - الاستغاثة لغةً : طلب الغوث ، وفي التّنزيل : { إذْ تستغيثون ربَّكم } وأغاثه إغاثةً : إذا أعانة ونصره ، فهو مغيث ، وأغاثهم اللّه برحمته : كشف شدّتهم .
الحكم التّكليفيّ :
التّبرّك مشروع في الجملة على التّفصيل التّالي :
- 1 - التّبرّك بالبسملة والحَمْدَلَة :
5 - ذهب بعض أهل العلم إلى سنّيّة ابتداء كلّ أمر ذي بال يهتمّ به شرعاً - بحيث لا يكون محرّماً لذاته ، ولا مكروهاً لذاته ، ولا من سفاسف الأمور ومحقّراتها - بالبسملة والحمدلة ، كلّ في موضعه على سبيل التّبرّك .
وجرى العلماء في افتتاح كلماتهم وخطبهم ومؤلّفاتهم وكلّ أعمالهم المهمّة بالبسملة عملاً بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر أو أقطع أو أجذم » وفي رواية أخرى : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أبتر أو أقطع أو أجذم » ومن هذا الباب الإتيان بالبسملة عند الأكل ، والشّرب ، والجماع ، والاغتسال ، والوضوء ، والتّلاوة ، والتّيمّم ، والرّكوب والنّزول وما إلى ذلك .
- 2 - التّبرّك بآثار النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
6 - اتّفق العلماء على مشروعيّة التّبرّك بآثار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأورد علماء السّيرة والشّمائل والحديث أخباراً كثيرةً تمثّل تبرّك الصّحابة الكرام رضي الله عنهم بأنواع متعدّدة من آثاره صلى الله عليه وسلم نجملها فيما يأتي :
أ - في وضوئه :
7 - « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه » ، لفرط حرصهم على التّبرّك بما مسّه صلى الله عليه وسلم ببدنه الشّريف ، وكان من لم يصب من وضوئه يأخذ من بلل يد صاحبه .
ب - في ريقه ونخامته :
8 - « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يبصق بصاقاً ولا يتنخّم نخامةً إلاّ تلقّوها ، وأخذوها من الهواء ، ووقعت في كفّ رجل منهم ، فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ، ومسحوا بها جلودهم وأعضاءهم تبرّكاً بها » . « وكان يتفل في أفواه الأطفال ، ويمجّ ريقه في الأيادي ، وكان يمضغ الطّعام فيمجّه في فم الشّخص » ، « وكان الصّحابة يأتون بأطفالهم ليحنّكهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجاء البركة » .
ج - في دمه صلى الله عليه وسلم :
9 - ثبت أنّ بعض الصّحابة شربوا دمه صلى الله عليه وسلم على سبيل التّبرّك ، فعن عبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنه « أنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلمّا فرغ قال : يا عبد اللّه اذهب بهذا الدّم فأهرقه حيث لا يراك أحد فشربه ، فلمّا رجع ، قال : يا عبد اللّه ما صنعت ؟ قال : جعلته في أخفى مكان علمت أنّه مخفيّ عن النّاس ، قال : لعلّك شربته ؟ قلت : نعم . قال : ويل للنّاس منك ، وويل لك من النّاس » فكانوا يرون أنّ القوّة الّتي به من ذلك الدّم . وفي رواية « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : من خالط دمه دمي لم تمسّه النّار » .
د - في شعره صلى الله عليه وسلم :
10 - « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوزّع شعره بين الصّحابة عندما يحلق رأسه الشّريف » ، وكان الصّحابة رضي الله عنهم يحرصون على أن يحصّلوا شيئاً من شعره صلى الله عليه وسلم ويحافظون على ما يصل إلى أيديهم منه للتّبرّك به . فعن أنس رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى منًى فأتى الجمرة فرماها ثمّ أتى منزله بمنًى ونحر ، ثمّ قال : للحلّاق : خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر ، ثمّ جعل يعطيه النّاس » .
وفي رواية : « لمّا رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلّاق شقّه الأيمن ، فحلقه ، ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاريّ رضي الله عنه فأعطاه إيّاه ، ثمّ ناوله الشّقّ الأيسر فقال : احلق ، فحلقه ، فأعطاه أبا طلحة ، فقال : اقسمه بين النّاس » . وفي رواية : « فبدأ بالشّقّ الأيمن فوزّعه الشّعرة والشّعرتين بين النّاس ، ثمّ قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك » .
وروي « أنّ خالد بن الوليد رضي الله عنه : فقد قلنسوةً له يوم اليرموك ، فطلبها حتّى وجدها ، وقال : اعتمر رسول اللّه فحلق رأسه فابتدر النّاس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة ، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلاّ رزقت النّصر » .(118/1)
وعن أنس رضي الله عنه قال : « لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والحلّاق يحلقه وأطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعرة إلاّ في يد رجل » .
هـ - في سؤره وطعامه صلى الله عليه وسلم :
11 - ثبت أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يتنافسون في سؤره صلى الله عليه وسلم ليحوز كلّ واحد منهم البركة الّتي حلّت في الطّعام أو الشّراب من قبل الرّسول صلى الله عليه وسلم . فعن سهل بن سعد رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام ، وعن يساره الأشياخ فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام : - وهو ابن عبّاس رضي الله عنهما - : واللّه يا رسول اللّه لا أوثر بنصيبي منك أحداً ، فتلّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يده » .
وعن عميرة بنت مسعود رضي الله عنها : « أنّها دخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها يبايعنه ، وهنّ خمس ، فوجدته يأكل قديده ، فمضغ لهنّ قديدةً ، ثمّ ناولني القديدة ، فمضغتها كلّ واحدة قطعةً قطعةً ، فلقين اللّه وما وجد لأفواههنّ خلوف » . وفي حديث خنس بن عقيل : « سقاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شربةً من سويق شرب أوّلها وشربت آخرها ، فما برحت أجد شبعها إذا جعت ، وريّها إذا عطشت ، وبردها إذا ظمئت » .
و - في أظافره صلى الله عليه وسلم :
12 - ثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قلّم أظافره ، وقسمها بين النّاس للتّبرّك بها ، فقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله ، من حديث محمّد بن زيد أنّ أباه حدّثه : « أنّه شهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم على المنحر ورجلاً من قريش ، وهو يقسم أضاحيّ ، فلم يصبه منها شيء ولا صاحبه ، فحلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه ، فأعطاه فقسم منه على رجال ، وقلّم أظافره فأعطاه صاحبه » . وفي رواية « ثمّ قلّم أظافره وقسمها بين النّاس » .
ز - في لباسه صلى الله عليه وسلم وأوانيه :
13 - ثبت كذلك أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون على اقتناء ملابسه وأوانيه للتّبرّك بها والاستشفاء . فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : « أنّها أخرجت جبّةً طيالسةً وقالت : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها » . وفي رواية : « فنحن نغسلها نستشفي بها » .
وروي عن أبي محمّد الباجيّ قال : « كانت عندنا قصعة من قصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكنّا نجعل فيها الماء للمرضى ، يستشفون بها ، فيشفون بها » .
ح - في ما لمسه صلى الله عليه وسلم ومصلّاه :
14 - كان الصّحابة رضي الله عنهم يتبرّكون فيما تلمس يده الشّريفة صلى الله عليه وسلم . ومن ذلك « بركة يده فيما لمسه وغرسه لسلمان رضي الله عنه حين كاتبه مواليه على ثلثمائة ودية وهو صغار النّخل يغرسها لهم كلّها ، تعلّق وتطعم ، وعلى أربعين أوقيّة من ذهب ، فقام صلى الله عليه وسلم وغرسها له بيده ، إلاّ واحدةً غرسها غيره ، فأخذت كلّها إلاّ تلك الواحدة ، فقلعها النّبيّ صلى الله عليه وسلم وردّها فأخذت » وفي رواية : « فأطعم النّخل من عامه إلاّ الواحدة ، فقلعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وغرسها فأطعمت من عامها ، وأعطاه مثل بيضة الدّجاجة من ذهب ، بعد أن أدارها على لسانه ، فوزن منها لمواليه أربعين أوقيّة ، وبقي عنده مثل ما أعطاهم » .
« ووضع يده الشّريفة صلى الله عليه وسلم على رأس حنظلة بن حذيم وبرّك عليه ، فكان حنظلة يؤتى بالرّجل قد ورم وجهه ، والشّاة قد ورم ضرعها ، فيوضع على موضع كفّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيذهب الورم » .
« وكان يؤتى إليه صلى الله عليه وسلم بالمرضى وأصحاب العاهات والمجانين فيمسح عليهم بيده الشّريفة صلى الله عليه وسلم فيزول ما بهم من مرض وجنون وعاهة » .
وكذلك كانوا يحرصون على أن يصلّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مكان من بيوتهم ، ليتّخذوه مصلًّى لهم بعد ذلك ، وتحصل لهم بركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فعن عتبان بن مالك رضي الله عنه - وهو ممّن شهد بدراً - قال : « كنت أصلّي لقومي بني سالم ، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار ، فيشقّ عليّ اجتيازه قبل مسجدهم ، فجئت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت له : إنّي أنكرت بصري ، وإنّ الوادي الّذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشقّ عليّ اجتيازه ، فوددت أنّك تأتي فتصلّي في بيتي مكاناً أتّخذه مصلًّى ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : سأفعل إن شاء اللّه فغدا عليّ رسول اللّه وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتدّ النّهار ، واستأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأذنت له ، فلم يجلس حتّى قال : أين تحبّ أن أصلّي من بيتك ؟ فأشرت له إلى المكان الّذي أحبّ أن يصلّي فيه ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكبّر وصففنا وراءه فصلّى ركعتين ثمّ سلّم ، وسلّمنا حين سلّم » .
- 3 - التّبرّك بماء زمزم :
15 - ذهب العلماء إلى سنّيّة شرب ماء زمزم لمطلوبه في الدّنيا والآخرة ، لأنّها مباركة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ماء زمزم لما شرب له » .
- 4 - التّبرّك ببعض الأزمنة والأماكن في النّكاح :
16 - ذهب جمهور العلماء إلى استحباب مباشرة عقد النّكاح في المسجد ، وفي يوم الجمعة للتّبرّك بهما ، فقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلم : « أعلنوا هذا النّكاح ، واجعلوه في المساجد ، واضربوا عليه بالدّفوف » .(118/2)
تبكير *
التّعريف :
1 - التّبكير : مصدر بكّر بالتّشديد ، وأصله من الخروج بُكْرة أوّل النّهار ، ويكون أيضاً بمعنى : التّعجيل والإسراع أيّ وقت كان ، يقال : بكّر بالصّلاة أي : صلّاها لأوّل وقتها ، ويقال : بكّروا بصلاة المغرب أي : صلّوها عند سقوط القرص ، وكلّ من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه . ولم يخرج الفقهاء في استعمالهم عن هذين المعنيين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّغليس :
2 - التّغليس في صلاة الفجر : فعلها أوّل طلوع الفجر قبل انتشار الضّوء .
ب - الإسفار :
3 - الإسفار معناه : الوضوح والظّهور ، يقال : أسفر الصّبح : انكشف وأضاء ، والإسفار بصلاة الصّبح في عرف الفقهاء هو : فعلها عند انتشار ضوء الفجر .
الحكم التّكليفيّ :
4 - التّبكير بأداء العبادات في أوّل أوقاتها مستحبّ لتحصيل الفضل والثّواب ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن أفضل الأعمال - قال : « الصّلاة في أوّل وقتها » وهذا على الجملة عند الفقهاء .
5- ويستثنى من هذا الحكم ما نصّ على تأخيره لسبب ، كالإبراد بصلاة الظّهر في وقت الحرّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا بالصّلاة » .
كذلك استثنى الحنابلة والحنفيّة صلاة العشاء ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لولا أن أشقّ على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء » وهو أيضاً قول عند المالكيّة والشّافعيّة ، وزاد الحنفيّة صلاة العصر .
6- أمّا التّبكير بمعنى الخروج أوّل النّهار فهو وارد في صلاة الجمعة والعيدين . فقد استحبّ التّبكير لهما من أوّل النّهار الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من غسّل يوم الجمعة واغتسل ، وبكّر وابتكر كان له بكلّ خطوة يخطوها أجر سنة ، صيامها وقيامها » وقال الإمام مالك : لا يستحبّ التّبكير خشية الرّياء .
التّبكير لطلب الرّزق :
7 - يستحبّ التّبكير بطلب الرّزق والتّجارة فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « باكروا للغدوّ في طلب الرّزق ، فإنّ الغدوّ بركة ونجاح » . قال ابن العربيّ : يروى عن ابن عبّاس وغيره أنّ ما بعد صلاة الصّبح وقت يقسم اللّه فيه الرّزق بين العباد ، وثبت أنّه وقت ينادي فيه الملك : « اللّهمّ أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً » . وهو وقت ابتداء الحرص ونشاط النّفس وراحة البدن وصفاء الخاطر ، فيقسم لأجل ذلك كلّه وأمثاله .
التّبكير بالتّعليم :
8 - ينبغي التّبكير بتعليم الصّبيان ما فرض اللّه على العباد من قول وفعل ، لكي يأتي عليهم البلوغ وقد تمكّن ذلك في قلوبهم ، وسكنت إليه أنفسهم ، وأنست بما يعلمون به من ذلك جوارحهم . وقد قال النّوويّ : الصّحيح أنّه يجب على الآباء والأمّهات تعليم الأولاد الصّغار ما سيتعيّن عليهم بعد البلوغ من : الطّهارة ، والصّلاة ، والصّوم ، وتحريم الزّنى واللّواط والسّرقة وشرب المسكر ، والكذب ، ونحوها .
واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا قوا أنفسَكم وأهليكم ناراً } قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وقتادة : معناه علّموهم ما ينجون به من النّار .
وتعليم الصّبيان يردّ العذاب الواقع بإرادة اللّه تعالى عن آبائهم ، أو عمّن تسبّب في تعليمهم ، أو عن معلّمهم ، أو عنهم فيما يستقبل ، أو عن المجموع ، أو يردّ العذاب عموماً .(119/1)
تتابع *
التّعريف :
1 - من معاني التّتابع في اللّغة : الموالاة . يقال تابع فلان بين الصّلاة وبين القراءة : إذا والى بينهما ، ففعل هذا على أثر هذا بلا مهلة بينهما . وتتابعت الأشياء : تبع بعضها بعضاً . وتابع بين الأمور متابعةً وتباعاً : واتر ووالى . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - التّتابع يكون في صوم الكفّارات ، ويكون في الاعتكاف ، ويكون في الوضوء والغسل ، ويسمّى غالباً ( الموالاة ) وتنظر أحكامه في ( الوضوء والغسل ) .
التّتابع في الصّوم في كفّارة اليمين :
3 - إذا لم يجد الحانث في يمينه ما يكفّر به عنها ، من إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة أو عجز عن ذلك ، كان عليه أن ينتقل إلى الصّوم ، فيصوم ثلاثة أيّام . والأصل في ذلك قول اللّه تبارك وتعالى : { لا يؤاخِذُكم اللّهُ باللَّغْوِ في أيمانِكم ولكنْ يؤاخِذُكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ فكفّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطْعمون أهليكم أو كِسْوتهم أو تحريرُ رَقبةٍ فمن لم يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيّامٍ ذلك كفّارةُ أيمانِكم إذا حَلَفْتُم } .
واختلف الفقهاء في التّتابع ، فذهب الحنفيّة وهو الأصحّ عند الحنابلة ، وهو قول للشّافعيّة : إلى وجوب التّتابع ، للقراءة الشّاذّة لابن مسعود فصيام ثلاثة أيّام متتابعات . وذهب المالكيّة - وهو قول للشّافعيّة - إلى جواز صومها متتابعةً أو متفرّقةً . ر : ( كفّارة اليمين ) .
التّتابع في الصّوم في كفّارة الظّهار :
4 - يأتي الصّوم في المرتبة الثّانية بعد العتق في كفّارة الظّهار ، كما في قوله تعالى : { والّذينَ يُظَاهِرُون من نسائِهم ثمّ يَعُودونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أنْ يَتَماسَّا ذلكمْ تُوعظونَ به واللّهُ بما تعملونَ خبيرٌ . فمنْ لم يَجِدْ فصيامُ شهرين مُتَتَابعين من قبلِ أن يَتَمَاسَّا فمنْ لم يستطعْ فإطعامُ ستّينَ مِسْكيناً ذلك لِتُؤمنوا باللّهِ ورسولِهِ وتلك حدودُ اللّهِ وللكافرينَ عذابٌ أليمٌ } . فإن لم يجد المظاهر ما يعتق كما في الآية الأولى انتقل إلى الصّيام ، فيصوم شهرين متتابعين كما في صدر الآية الثّانية ، ليس فيهما رمضان ، ويوما العيد ، وأيّام التّشريق ، وذلك من قبل أن يتماسّا . فإن جامعها في الشّهرين ليلاً أو نهاراً عامداً أو ناسياً بعذر أو بغير عذر استقبل ، لقوله تعالى : { مِنْ قبلِ أنْ يَتَمَاسَّا } .
وبهذا أخذ الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة في وجوب التّتابع ، إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا : إذا جامعها ليلاً قبل أن يكفّر يأثم ولا يبطل التّتابع . ر : ( كفّارة الظّهار ) .
التّتابع في الصّوم في كفّارة الفطر في نهار رمضان :
5 - تجب الكفّارة بالجماع في نهار رمضان باتّفاق . وتجب بالأكل أو الشّرب عمداً عند الحنفيّة والمالكيّة ، والكفّارة تكون بالعتق أو الصّوم أو الإطعام .
وتأتي مرتبة الصّوم بعد العتق عند الحنفيّة والشّافعيّة وجمهور الحنابلة ، وفي رواية عن أحمد أنّها على التّخيير بين العتق والصّيام والإطعام وبأيّها كفّر أجزأه ، وهذا بناءً على أنّ أو للتّخيير لما روى أبو هريرة « أنّ رجلاً أفطر في رمضان ، فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكيناً » .
وعند المالكيّة كفّارته على التّخيير أيضاً ، ولكنّهم فضّلوا الإطعام على العتق فجعلوه أوّلاً ، لأنّه أكثر نفعاً لتعدّيه لأفراد كثيرة ، وفضّلوا العتق على الصّوم ، لأنّ نفعه متعدّ للغير دون الصّوم ، فالصّوم عندهم في المرتبة الثّالثة .
وسواء كان هذا أو ذاك ، فإنّ صوم كفّارة الفطر في رمضان شهران متتابعان عند الأئمّة الأربعة . لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل ، فقال : يا رسول اللّه : هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال : لا . قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ؟ قال : لا . قال : فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أُتِيَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق : المكتل - قال : أين السّائل ؟ فقال : أنا . قال : خذ هذا فتصدّق به . فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ؟ فواللّه ما بين لابَتَيْها - يريد الحرّتين - أهلُ بيت أفقر من أهل بيتي . فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال : أَطْعِمْه أهلَكَ » .
الصّوم في كفّارة القتل :
6 - يأتي في المرتبة الثّانية بعد العجز عن العتق ، كما في قوله تعالى : { ومنْ قتلَ مُؤْمناً خَطَأً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهلِهِ إلاّ أنْ يَصَّدَّقُوا } إلى قوله تعالى : { فمنْ لمْ يجدْ فصيامُ شَهْرينِ متتابعينِ تَوْبَةً من اللّهِ وكانَ اللّهُ عليماً حكيماً } .
فالتّتابع في صيام هذين الشّهرين واجب اتّفاقاً . ر : ( كفّارة القتل ) .
التّتابع في صوم النّذر :(120/1)
7 - إن نذر أن يصوم أيّاماً ، أو شهراً ، أو سنةً ، ولم يعيّن ، وشرط التّتابع لزمه اتّفاقاً ، وكذا لو نذر أن يصوم شهراً معيّناً كرجب ، أو سنة معيّنة ، لزمه التّتابع في صيامها كذلك . أمّا لو نذر شهراً ، أو سنةً غير معيّنين ، ولم يشترط التّتابع ، فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة إلى : أنّه لا يلزمه التّتابع ، وفي رواية أخرى عند الحنابلة يلزمه التّتابع ، وروي عن أحمد كذلك فيمن قال : للّه عليّ أن أصوم عشرة أيّام : يصومها متتابعةً . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( نذر ) .
التّتابع في الاعتكاف :
8 - مذهب الحنفيّة : أنّ من أوجب على نفسه اعتكاف أيّام ، بأن قال : عشرة أيّام مثلاً ، لزمه اعتكافها بلياليها متتابعةً ، وإن لم يشترط التّتابع ، لأنّ مبنى الاعتكاف على التّتابع . وكذا لو قال : شهراً ، ولم ينوه بعينه ، لزمه متتابعاً ليله ونهاره ، يفتتحه متى شاء بالعدد ، لا هلاليّاً ، وإن عيّن شهراً يعتبر الشّهر بالهلال ، وإن فرّق الاعتكاف استأنفه متتابعاً . وقال زفر في نذر اعتكاف شهر : إن شاء فرّق الاعتكاف وإن شاء تابعه . وإن نوى الأيّام خاصّةً أي دون اللّيل صحّت نيّته ، لأنّ حقيقة اليوم بياض النّهار .
وعند المالكيّة كذلك ، يلزم تتابع الاعتكاف المنذور فيما إذا كان مطلقاً ، أي غير مقيّد بتتابع ولا عدمه . وأنّ من نذر اعتكاف شهر أو ثلاثين يوماً فلا يفرّق ذلك . وهذا بخلاف من نذر أن يصوم شهراً أو أيّاماً ، فإنّه لا يلزمه التّتابع في ذلك .
والفرق : أنّ الصّوم إنّما يؤدّى في النّهار دون اللّيل فكيفما فعل أصاب ، متتابعاً أو مفرّقاً . والاعتكاف يستغرق الزّمانين اللّيل والنّهار ، فكان حكمه يقتضي التّتابع .
والمراد بالمطلق : الّذي لم يشترط في التّتابع لفظاً ، ولم يحصل فيه نيّة التّتابع ، ولا نيّة عدمه . فإن حصل فيه نيّة أحدهما عمل بها . ويلزم المعتكف ما نواه من تتابع أو تفريق وقت الشّروع ، وهو حين دخوله فيه ، ولا يلزمه بنيّته فقط ، لأنّ النّيّة بمجرّدها لا توجب شيئاً .
والشّافعيّة قالوا : إنّ من نذر أن يعتكف شهراً فإن عيّن شهراً لزمه اعتكافه متتابعاً ليلاً ونهاراً ، سواء كان الشّهر تامّاً أو ناقصاً ، لأنّ الشّهر عبارة عمّا بين الهلالين ، تمّ أو نقص . وإن نذر اعتكاف نهار الشّهر لزمه النّهار دون اللّيل ، لأنّه خصّ النّهار فلم يلزمه الاعتكاف باللّيل ، فإن فاته الشّهر ولم يعتكف فيه لزمه قضاؤه ، ويجوز أن يقضيه متتابعاً ومتفرّقاً ، لأنّ التّتابع في أدائه بحكم الوقت ، فإذا فات سقط التّتابع في صوم رمضان . وإن نذر أن يعتكف متتابعاً لزمه قضاؤه متتابعاً ، لأنّ التّتابع هنا بحكم النّذر ، فلم يسقط بفوات الوقت .
وإن نذر اعتكاف شهر غير معيّن ، واعتكف شهراً بالأهلّة أجزأه ، تمّ الشّهر أو نقص ، لأنّ اسم الشّهر يقع عليه ، وإن اعتكف شهراً بالعدد لزمه ثلاثون يوماً ، لأنّ الشّهر بالعدد ثلاثون يوماً . فإنّ شرط التّتابع لزمه متتابعاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم « مَنْ نَذَرَ وسمّى فعليه الوفاء بما سمّى » وإن شرط أن يكون متفرّقاً جاز أن يكون متفرّقاً ومتتابعاً ، لأنّ المتتابع أفضل من المتفرّق ، وإن أطلق النّذر جاز متفرّقاً ومتتابعاً ، كما لو نذر صوم شهر .
أمّا الحنابلة فقد ذهبوا إلى أنّ من نذر اعتكاف أيّام متتابعة يصومها فأفطر يوماً أفسد تتابعه ، ووجب عليه الاستئناف ، لإخلاله بالإتيان بما نذره على صفته .
وإن نذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأهلّة أو ثلاثون يوماً ، والتّتابع فيه على وجهين : أحدهما لا يلزمه ، والثّاني يلزمه ، وقال القاضي : يلزمه التّتابع قولاً واحداً ، لأنّه معنًى يحصل في اللّيل والنّهار ، فإذا أطلقه اقتضى التّتابع . ر : ( اعتكاف ) .
ما يقطع التّتابع في صيام الكفّارات :
ينقطع التّتابع في صوم الكفّارة بأمور ذكرها الفقهاء وهي :
أ - الفطر بإكراه أو نسيان ونحوهما :
9 - يرى الحنفيّة أنّ الإفطار بعذر أو بغير عذر يقطع التّتابع ، باستثناء عذر المرأة في الحيض ، ولم يفرّقوا في ذلك بين عذر المرض أو غيره ، وهو يتناول الإكراه .
وأمّا لو أكل ناسياً في كفّارة الظّهار فقد ذكر صاحب الفتاوى الهنديّة : أنّه لا يضرّ .
ولا يجزئ عن الكفّارة صيام تسعة وخمسين يوماً بغير اعتبار الأهلّة ، أمّا إذا صام شهرين باعتبار الأهلّة ، فإنّ صومه يصحّ حتّى ولو كان ثمانيةً وخمسين يوماً .
ويرى المالكيّة أنّ الفطر بالإكراه بمؤلم من قتل أو ضرب لا يقطع التّتابع ، ولا يقطعه أيضاً فطر من ظنّ بقاء اللّيل ، أو غروب الشّمس بخلاف الشّكّ في غروب الشّمس فإنّه يقطعه ، وكذا لا يقطع التّتابع عندهم فطر من صام تسعةً وخمسين يوماً ، ثمّ أصبح مفطراً ظانّاً الكمال . ولا يقطع التّتابع عندهم الأكل والشّرب ناسياً على المشهور ، ولا يقطعه جماع غير المظاهر منها نهاراً نسياناً ، أو ليلاً ولو عمداً .
وذكر الشّافعيّة : أنّ الإكراه على الأكل يبطل التّتابع ، بناءً على أنّ الإكراه عليه يبطل الصّوم على القول به ، لأنّه سبب نادر . هذا هو المذهب في الصّورتين ، كما جاء في الرّوضة ، وبه قطع الجمهور ، وجعلهما ابن كجّ كالمرض ، وكذا إذا استنشق فوصل الماء إلى دماغه ، ففي انقطاع التّتابع الخلاف ، بناءً على القول بأنّه يفطر ، وقال النّوويّ : لو أوجر الطّعام مكرهاً لم يفطر ولم ينقطع تتابعه ، قطع به الأصحاب في كلّ الطّرق .(120/2)
وذكر الحنابلة أنّ التّتابع لا يقطع بالفطر بسبب الإكراه أو الخطأ أو النّسيان على الصّحيح من المذهب ، لحديث : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » لا إن أفطر لجهل فإنّه لا يعذر به ، وأمّا الّذي أفطر خطأً كمن ظنّ بقاء اللّيل أو الغروب فبان خلافه فلا ينقطع تتابع صيامه ، وأمّا الّذي أفطر على ظنّ تمام الشّهرين فبان خلافه فإنّه ينقطع تتابع صيامه ، أو ظنّ أنّ الواجب شهر واحد فأفطر ، أو أفطر ناسياً لوجوب التّتابع ، أو أفطر لغير عذر انقطع تتابع صيامه لقطعه إيّاه ، ولا يعذر بالجهل .
ب - الحيض والنّفاس :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحيض لا يقطع التّتابع في الكفّارة الّتي توجب صيام شهرين على المرأة ، ككفّارة القتل ، لأنّه لا بدّ منه فيهما ، ولأنّها لا يد لها فيه ، ولأنّه ينافي الصّوم ، وفي تأخير التّكفير إلى سنّ اليأس خطر ، إلاّ أنّ المتولّي من الشّافعيّة قال : إنّ المرأة إذا كانت لها عادة في الطّهر تسع صوم الكفّارة فصامت في غيرها ، أي في وقت يحدث فيه الحيض ، فإنّه يقطع التّتابع .
وأمّا تتابع صوم أيّام كفّارة اليمين ، فإنّ الحيض يقطعه ، بناءً على وجوب التّتابع فيها كما ذكر الحنفيّة ، والشّافعيّة على أحد القولين في وجوب تتابعها ، لقلّة أيّامها ، بخلاف الشّهرين . هذا ، وذكر النّوويّ في الرّوضة : أنّنا إذا أوجبنا التّتابع في كفّارة اليمين فحاضت في أثنائها ، ففي انقطاع تتابعها القولان في الفطر بالمرض في الشّهرين ، ويشبه أن يكون فيه طريق جازم بانقطاع التّتابع .
11 - أمّا النّفاس فإنّه يقطع التّتابع في صوم الكفّارة عند الحنفيّة ، وعلى مقابل الصّحيح الّذي حكاه أبو الفرج السّرخسيّ من الشّافعيّة لندرته ، ولإمكانها اختيار شهرين خاليين منه . وذهب المالكيّة والشّافعيّة على الصّحيح ، والحنابلة إلى : أنّ النّفاس لا يقطع التّتابع ، قياساً على الحيض ، ولأنّها لا يد لها فيه .
ت - دخول رمضان والعيدين وأيّام التّشريق :
12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ دخول شهر رمضان وعيد الفطر أو عيد الأضحى وأيّام التّشريق يقطع صوم الكفّارة لوجوب صوم رمضان وحرمة صوم الباقي ، ولأنّ في استطاعته أن يجد شهرين ليس فيهما ما ذكر ، وهذا أيضاً هو ما ذهب إليه الشّافعيّة في صوم غير الأسير . وأمّا الأسير إذا صام باجتهاده ، فدخل عليه رمضان أو العيد قبل تمام الشّهرين ، ففي انقطاع تتابعه الخلاف في انقطاعه بإفطار المريض .
وأمّا المالكيّة فذكروا : أنّ تعمّد فطر يوم العيد يقطع تتابع صوم الكفّارة ، كما إذا تعمّد صوم ذي القعدة وذي الحجّة عن كفّارة ظهاره مع علمه بدخول العيد في أثنائه . بخلاف ما إذا جهله فإنّه لا يقطع ، كما إذا ظنّ أنّ شهر ذي الحجّة هو المحرّم ، فصامه مع ما بعده ظانّاً أنّه صفر ، فبان خلافه .
وجهل دخول رمضان عندهم كجهل العيد على الأرجح عند ابن يونس ، والمراد بجهل العيد كما في الخرشيّ : جهله في كونه يأتي في الكفّارة ، لا جهل حكمه ، خلافاً لأبي الحسن ، حيث ذكر أنّ المراد بالجهل جهل الحكم وهو أظهر . ومثل العيد عندهم اليومان بعده . وأمّا ثالث أيّام التّشريق فإنّ صومه يجزئ ، وفطره يقطع التّتابع اتّفاقاً ، كما جاء في الخرشيّ . وأمّا الحنابلة فذهبوا إلى أنّ صوم الكفّارة لا يقطع بذلك مطلقاً ، لوجوب صوم رمضان بإيجاب الشّرع ، ولأنّ فطر العيدين وأيّام التّشريق واجب أيضاً بإيجاب الشّرع ، أي إنّ ذلك الزّمن منعه الشّرع من صومه كاللّيل .
ث - السّفر :
13 - السّفر عند الحنفيّة والمالكيّة ، وقول عند الشّافعيّة : يقطع التّتابع إن أفطر فيه ، لأنّ الإفطار عندهم بعذر أو بغير عذر يقطعه . والقول الآخر للشّافعيّة : أنّه كالمرض .
والسّفر الّذي يباح فيه الفطر لا يقطع التّتابع عند الحنابلة .
ج – فطر الحامل والمرضع :
14 - فطر الحامل والمرضع عند الشّافعيّة ، كما جاء في الرّوضة خوفاً على الولد . قيل : هو كالمرض ، وقيل : يقطع قطعاً ، لأنّه فعل اختياريّ .
وأمّا الحنابلة فيرون أنّ فطر الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما أو ولديهما لا يقطع التّتابع ، لأنّه فطر أبيح لعذر عن غير جهتهما ، فأشبه المرض . وما ذهب إليه الحنفيّة - من أنّ الفطر بعذر أو بغير عذر يقطع التّتابع - والمالكيّة - من القول بقطعه بكلّ فعل اختياريّ ، كالسّفر مثلاً - مقتضاه قطع التّتابع بفطرهما خوفاً على أنفسهما أو ولديهما .
ح - المرض :
15 - المرض يقطع تتابع صوم الكفّارة عند الحنفيّة ، وعند الشّافعيّة في الأظهر ، وهو الجديد ، لأنّ الحنفيّة لم يفرّقوا بين الفطر بعذر مرض أو غيره في قطع التّتابع ، باستثناء المرأة في الحيض ، ولأنّ المرض كما ذكر الشّافعيّة لا ينافي الصّوم ، وإنّما قطعه باختياره . وذهب الشّافعيّة في القديم إلى أنّ المرض لا يقطع تتابع صوم الكفّارة ، لأنّه لا يزيد على أصل وجوب صوم رمضان ، وهو يسقط بالمرض . وهذا أيضاً هو ما ذهب إليه الحنابلة ، وإن كان المرض غير مخوف ، لأنّه لا يد له فيه كالحيض ، ومثله الجنون والإغماء .
خ - نسيان النّيّة في بعض اللّيالي :(120/3)
16 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ نسيان النّيّة في بعض اللّيالي يقطع التّتابع كتركها عمداً ، ولا يجعل النّسيان عذراً في ترك المأمور به ، وهذا بناءً على وجوب اشتراطها في كلّ ليلة ، على مقابل الأصحّ عندهم . أمّا لو صام أيّاماً من الشّهرين ، ثمّ شكّ بعد فراغه من صوم يوم ، هل نوى فيه أم لا ؟ لم يلزمه الاستئناف على الصّحيح كما قال النّوويّ ، ولا أثر للشّكّ بعد الفراغ من اليوم ، ذكره الرّويانيّ في كتاب الحيض في مسائل المتحيّرة .
د - الوطء :
17 - اتّفق الفقهاء على أنّ المظاهر إذا وطئ من ظاهر منها في النّهار عامداً ، فإنّ فعله هذا يقطع التّتابع ، وأمّا إذا وطئها في اللّيل عامداً أو ناسياً ، أو وطئها في النّهار ناسياً ، ففيه الخلاف . فذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ المظاهر إذا جامع الّتي ظاهر منها باللّيل عامداً أو بالنّهار ناسياً ، فإنّ ذلك يقطع التّتابع ، لأنّ الشّرط في الصّوم أن يكون خالياً من المسيس ، وقال أبو يوسف : إنّ التّتابع لا يقطع بذلك إذ لا يفسد به الصّوم ، وهو وإن كان تقديمه على المسيس شرطاً ، فإنّ فيما ذهبنا إليه تقديم البعض ، وفيما قلتم تأخير الكلّ عنه . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ وطء المظاهر منها يقطع التّتابع مطلقاً ، سواء أكان باللّيل أم بالنّهار ، وسواء أكان عالماً أو ناسياً أم جاهلاً أم غالطاً ، أو بعذر يبيح الفطر كسفر ، لقوله تعالى : { مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسَّا } .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ وطأه باللّيل لا يقطع التّتابع ، ويعتبر عاصياً . هذا ، ووطء غير المظاهر منها في النّهار عامداً يقطع التّتابع ، كما صرّح به صاحب العناية من الحنفيّة ، بخلاف ما لو وطئها باللّيل عامداً ، أو ناسياً ، أو بالنّهار ناسياً فإنّ ذلك لا يقطع التّتابع ، كما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ ذلك غير محرّم عليه .
ومثل ذلك ما لو وطئها بسبب عذر يبيح الفطر كما صرّح به الحنابلة .
ذ - قضاء ما لم ينقطع به التّتابع :
18 - قال المالكيّة : إنّ تتابع صوم الكفّارة يقطعه تأخير قضاء الأيّام الّتي أفطرها في صيامه ، والّتي يجب عليه أن يقضيها متّصلةً بصيامه ، فإن أخّر قضاءها انقطع تتابع الصّوم . وشبّهوا ذلك بمن نسي شيئاً من فرائض الوضوء أو الغسل ، ثمّ تذكّره أثناءه فلم يغسله ، أي لم يأت به حين تذكّره فإنّه يبتدئ الطّهارة ، نسي ذلك أم تعمّده . بخلاف نسيان النّجاسة بعد تذكّرها قبل الصّلاة فإنّه لا يؤثّر لخفّتها .
ولم نجد لغير المالكيّة تصريحاً في هذه المسألة .(120/4)
تتريب *
التّعريف :
1 - التّتريب : مصدر ترّب ، يقال : ترّبت الشّيء تتريباً فتترّب ، أي لطّخته فتلطّخ بالتّراب . وأتربت الشّيء : جعلت عليه التّراب ، وترّبت الكتاب تتريباً ، وترّبت القرطاس فأنا أترّبه ، أي أضع عليه التّراب ليمتصّ ما زاد من الحبر .
وعلى هذا ، فتتريب الشّيء لغةً واصطلاحاً : جعل التّراب عليه .
الحكم الإجماليّ :
2 - استعمال التّراب في التّطهير من نجاسة الكلب :
التّراب الطّاهر قد يستعمل في التّطهير ، كما إذا ولغ الكلب في إناء ، فإنّه كي يطهر هذا الإناء يجب غسله سبعاً إحداهنّ بالتّراب ، هذا عند الحنابلة والشّافعيّة ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا وَلَغَ الكلبُ في إناء أحدكم فَلْيغسله سبعاً » متّفق عليه ، زاد مسلم « أولاهنّ بالتّراب » . ولما روى عبد اللّه بن مغفّل أنّه عليه الصلاة والسلام قال : « إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرّات ، وعَفِّروه الثّامنةَ بالتّراب » .
والمستحبّ أن يجعل التّراب في الغسلة الأولى ، لموافقته لفظ الخبر ، أو ليأتي الماء عليه بعده فينظّفه . ومتى غسل به أجزأه ، لأنّه روي في حديث : « إحداهنّ بالتّراب » وفي حديث : « أولاهنّ » وفي حديث : « في الثّامنة » فيدلّ على أنّ محلّ التّراب من الغسلات غير مقصود . فإن جعل مكان التّراب غيره من الأشنان والصّابون ونحوهما ، أو غسله غسلةً ثامنةً ، فالأصحّ أنّه لا يجزئ ، لأنّه طهارة أمر فيها بالتّراب تعبّداً ، ولذا لم يقم غيره مقامه . ولبعض الحنابلة : يجوز العدول عن التّراب إلى غيره عند عدم التّراب ، أو إفساد المحلّ المغسول به . فأمّا مع وجوده وعدم الضّرر فلا . وهذا قول ابن حامد .
وعند المالكيّة : يندب غسل الإناء سبعاً بولوغ الكلب فيه ، بأن يدخل فمه في الماء ويحرّك لسانه فيه ، ولا تتريب مع الغسل بأن يجعل في الأولى ، أو الأخيرة ، أو إحداهنّ . لأنّ التّتريب لم يثبت في كلّ الرّوايات ، وإنّما ثبت في بعضها ، وذلك البعض الّذي ثبت فيه ، وقع فيه اضطراب . وللحنفيّة قول بغسله ثلاثاً ، لحديث « يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً » . وقولٌ بغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً . لما روى الدّارقطنيّ عن الأعرج عن أبي هريرة « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الكلب ، يلغ في الإناء أنّه يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً » وورد في حاشية الطّحطاويّ على مراقي الفلاح : يندب التّسبيع وكون إحداهنّ بالتّراب .(121/1)
تثاؤب *
التّعريف :
1 - التّثاؤب : ( بالمدّ ) : فترة تعتري الشّخص فيفتح عندها فمه .
والمعنى الاصطلاحيّ في هذا لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
حكمه التّكليفيّ :
2 - صرّح العلماء بكراهة التّثاؤب . فمن اعتراه ذلك ، فليكظمه ، وليردّه قدر الطّاقة . لقوله صلى الله عليه وسلم : « فليردّه ما استطاع » كأن يطبق شفتيه أو نحو ذلك . فإذا لم يستطع وضع يده على فمه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا تثاءب أحدكم فلْيُمْسك بيده على فمه ، فإنّ الشّيطانَ يَدْخُلُ » ويقوم مقام اليد كلّ ما يستر الفم كخرقة أو ثوب ممّا يحصل به المقصود . ثمّ يخفض صوته ولا يعوي ، لما رواه ابن ماجه من طريق عبد اللّه بن سعيد المقبريّ عن أبيه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ، ولا يعوي ، فإنّ الشّيطان يضحك منه » ثمّ يمسك عن التّمطّي والتّلوّي الّذي يصاحب بعض النّاس ، لأنّه من الشّيطان . وقد روي : « أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطّى ، لأنّه من الشّيطان » .
التّثاؤب في الصّلاة :
3 - التّثاؤب في الصّلاة مكروه ، لخبر مسلم : « إذا تثاءب أحدكم في الصّلاة فليكظمه ما استطاع ، فإنّ الشّيطان يدخل منه » ، وهذا إذا أمكن دفعه ، فإذا لم يمكن دفعه فلا كراهة ، ويغطّي فمه بيده اليسرى ، وقيل : بإحدى يديه . وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة . ولا شيء فيه عند المالكيّة والحنابلة ، ويندب كظم التّثاؤب في الصّلاة ما استطاع ، فإذا لم يستطع وضع يده على فمه للحديث .
التّثاؤب في قراءة القرآن :
4 - ذكر الفقهاء من آداب قراءة القرآن ألاّ يقرأ القرآن في حال شغل قلبه وعطشه ونعاسه ، وأن يغتنم أوقات نشاطه ، وإذا تثاءب ينبغي أن يمسك عن القراءة حتّى ينقضي التّثاؤب ، ثمّ يقرأ ، لئلاّ يتغيّر نظم قراءته ، قال مجاهد : وهو حسن ويدلّ عليه ما ثبت عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه ، فإنّ الشّيطان يدخل » .(122/1)
تثليث *
التّعريف :
1 - التّثليث : مصدر ثلّث ، ويختلف معناه في اللّغة باختلاف مواضع استعماله ، يقال : ثلّث الشّيء : جزّأه وقسّمه ثلاثة أقسام ، وثلّث الزّرع : سقاه الثّالثة ، وثلّث الشّراب : طبخه حتّى ذهب ثلثه أو ثلثاه ، وثلّث الاثنين : صيّرهما ثلاثةً بنفسه . أمّا في اصطلاح الفقهاء : فيطلقونه على تكرار الأمر ثلاث مرّات ، وعلى العصير الّذي ذهب بالطّبخ ثلثه أو ثلثاه .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم التّثليث باختلاف مواطنه على النّحو التّالي :
أ - التّثليث في الوضوء :
2 - يسنّ التّثليث في الوضوء عند الأئمّة الثّلاثة ، وهو رواية عن المالكيّة ، وذلك بتكرار غسل الوجه واليدين والرّجلين إلى ثلاث مرّات مستوعبات . وهو مستحبّ في المشهور من مذهب المالكيّة . وقيل : الغسلة الثّانية سنّة ، والثّالثة فضيلة ، وقيل : العكس . أمّا الرّجلان ففي تثليث غسلهما في الوضوء عند المالكيّة قولان مشهوران :
الأوّل : أنّ الرّجلين كالوجه واليدين ، فتغسل كلّ واحدة ثلاثاً وهو المعتمد .
والقول الثّاني : أنّ فرض الرّجلين في الوضوء الإنقاء من غير تحديد .
ولا يسنّ التّثليث في مسح الرّأس عند الحنفيّة ، وفي الصّحيح من مذهب الحنابلة ، وأمّا عند المالكيّة فقيل : ردّ اليدين ثالثةً في مسح الرّأس لا فضيلة فيه ، وذهب أكثر علمائهم إلى أنّ ردّ اليدين ثالثةً فضيلة إذا كان في اليدين بلل ، ولا يستأنف الماء للثّانية ولا للثّالثة .
وذهب الشّافعيّة ، والحنابلة في رواية إلى أنّ التّثليث يسنّ في مسح الرّأس ، بل يسنّ التّثليث عند الشّافعيّة في المسح على الجبيرة ، والعمامة ، وفي السّواك ، والتّسمية ، وكذا في باقي السّنن إلاّ في المسح على الخفّ ، وكذا تثليث النّيّة في قول لبعض الشّافعيّة . وذهب ابن سيرين إلى مسح الرّأس مرّتين .
والأصل فيما ذكر ، ما رواه ابن عبّاس رضي الله عنهما ، قال : « توضّأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّةً مرّةً » أخرجه البخاريّ . وروى عثمان رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « توضّأ ثلاثاً ثلاثاً » .
ثمّ الزّيادة على الثّلاث المستوعبة مع اعتقاد سنّيّة الثّلاث لا بأس بها عند الحنفيّة في رواية . والصّحيح عند الأئمّة الثّلاثة ، وهو رواية عن الحنفيّة : أنّها تكره .
ب - التّثليث في الغسل :
3 - يسنّ التّثليث في الغسل عند الأئمّة الثّلاثة كالوضوء ، فيغسل رأسه ثلاثاً ، ثمّ شقّه الأيمن ثلاثاً ، ثمّ شقّه الأيسر ثلاثاً .
وذهب المالكيّة إلى أنّ التّثليث مستحبّ في الغسل ، وإن لم تكف الثّلاث زاد إلى الكفاية . والأصل في هذا الباب ، ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثاً ، وتوضّأ وضوءه للصّلاة ، ثمّ يخلّل شعره بيده ، حتّى إذا ظنّ أنّه قد روى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل سائر جسده » .
ج - التّثليث في غسل الميّت :
4 - يستحبّ التّثليث في غسل الميّت عند الأئمّة الثّلاثة ، ويسنّ عند الحنفيّة ، واتّفقوا على جواز الزّيادة عليه ، لأنّ المقصود في غسل الميّت النّظافة والإنقاء ، فإن لم يحصل التّنظيف بالغسلات الثّلاث زيد عليها حتّى يحصل ، مع جعل الغسلات وتراً .
والأصل فيما ذكر ، خبر الشّيخين : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لغاسلات ابنته زينب رضي الله تعالى عنها : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ، واغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً ، أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ ذلك بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافوراً ، أو شيئاً من كافور » . وكذا يستحبّ التّثليث ، وتجوز الزّيادة عليه عند جمهور الفقهاء في تجمير الميّت وكفن الميّت ، والميّت عند موته ، وسريره الّذي يوضع فيه .
والأصل فيما ذكر ، ما روي عنه عليه الصلاة والسلام « إذا أجمرتم الميّت فأجمروه ثلاثاً » . وفي لفظ « فأوتروا » . وفي لفظ البيهقيّ : « جمِّروا كفن الميّت ثلاثاً » .
د - التّثليث في الاستجمار والاستبراء :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الواجب في الاستجمار الإنقاء دون العدد . ومعنى الإنقاء هنا هو إزالة عين النّجاسة وبلّتها ، بحيث يخرج الحجر نقيّاً ، وليس عليه أثر إلاّ شيئاً يسيراً . وأمّا التّثليث فمستحبّ عندهم وإن حصل الإنقاء باثنين ، بينما يشترط الشّافعيّة والحنابلة في الاستجمار أمرين : الإنقاء وإكمال الثّلاثة ، أيّهما وجد دون صاحبه لم يكف ، والحجر الكبير الّذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار .
كذلك قال جمهور الفقهاء : بأنّه يستحبّ نتر الذّكر ثلاثاً بعد البول لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً » .
وتفصيل أحكام الاستجمار والاستبراء في مصطلحي ( استنجاء ) و( استبراء ) .
هذا ، ويستحبّ التّثليث عند جمهور الحنفيّة في غسل النّجاسات غير المرئيّة ، وكذلك إزالة النّجاسات المرئيّة عند بعض الحنفيّة ، وهو رواية عن الحنابلة .
وأمّا المالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية فلا يشترطون العدد فيما سوى نجاسة ولوغ الكلب . ونجاسة الخنزير كنجاسة الكلب في ذلك عند الشّافعيّة والحنابلة .
هـ – التّثليث في تسبيحات الرّكوع والسّجود :(123/1)
6 – يسنّ التّثليث عند الأئمّة الثّلاثة في تسبيح الرّكوع ، وهو " سبحان ربّي العظيم " . وتسبيح السّجود ، وهو " سبحان ربّي الأعلى " . وتستحبّ عندهم الزّيادة على الثّلاث بعد أن يختم على وتر ، خمس ، أو سبع ، أو تسع عند الحنفيّة والحنابلة ، أو إحدى عشرة عند الشّافعيّة . هذا إذا كان منفرداً ، وأمّا الإمام فلا ينبغي له أن يطوّل على وجه يملّ القوم ، وعند الشّافعيّة تكره للإمام الزّيادة على الثّلاث .
والأصل في هذا ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه : سبحان ربّي العظيم ثلاثاً فقد تمّ ركوعه ، وذلك أدناه . ومن قال في سجوده : سبحان ربّي الأعلى ثلاثاً فقد تمّ سجوده ، وذلك أدناه » . وأمّا عند المالكيّة فيندب التّسبيح في الرّكوع والسّجود بأيّ لفظ كان ، ولم يحدّوا فيه حدّاً ، ولا دعاءً مخصوصاً .
و - التّثليث في الاستئذان :
7 - إذا استأذن شخص على آخر وظنّ أنّه لم يسمع ، فاتّفق الفقهاء على جواز التّثليث ، ويسنّ عدم الزّيادة على الثّلاث عند الأئمّة الثّلاثة .
وقال الإمام مالك : له الزّيادة على الثّلاث حتّى يتحقّق من سماعه .
وأمّا إذا استأذن فتحقّق أنّه لم يسمع ، فاتّفقوا على جواز الزّيادة على الثّلاث وتكرير الاستئذان حتّى يتحقّق إسماعه .(123/2)
تثويب *
التّعريف :
1 - التّثويب : مصدر ثوّب يثوب ، وثلاثيّه ثاب يثوب ، بمعنى : رجع ، ومنه قوله تعالى : { وإذْ جعلْنا البيتَ مَثابةً للنّاس وأَمْناً } أي مكاناً يرجعون إليه . ومنه قولهم : ثاب إلى فلان عقله : أي رجع . ومنه أيضاً : الثّواب ، لأنّ منفعة عمل الشّخص تعود إليه .
والتّثويب : بمعنى ترجيع الصّوت وترديده ، ومنه التّثويب في الأذان .
والتّثويب في الاصطلاح : العود إلى الإعلام بالصّلاة بعد الإعلام الأوّل بنحو : " الصّلاة خير من النّوم " أو " الصّلاة الصّلاة " أو " الصّلاة حاضرة " أو نحو ذلك بأيّ لسان كان ، وقد كانت تسمّى تثويباً في العهد النّبويّ وعهد الصّحابة . لأنّ فيه تكريراً لمعنى الحيعلتين ، أو لأنّه لمّا حثّ على الصّلاة بقوله : حيّ على الصّلاة ، ثمّ قال : حيّ على الفلاح ، عاد إلى الحثّ على الصّلاة بقوله : " الصّلاة خير من النّوم " .
وللتّثويب عند الفقهاء ثلاثة إطلاقات :
أ - التّثويب القديم ، أو التّثويب الأوّل ، وهو : زيادة " الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر .
ب - التّثويب المحدث وهو : زيادة حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، أو عبارة أخرى . حسب ما تعارفه أهل كلّ بلدة بين الأذان والإقامة .
ج - ما كان يختصّ به بعض من يقوم بأمور المسلمين ومصالحهم من تكليف شخص بإعلامهم بوقت الصّلاة ، فذلك الإعلام أو النّداء يطلق عليه أيضاً ( تثويب ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّداء :
2 - النّداء بمعنى : الدّعاء ورفع الصّوت بما له معنًى .
ب - الدّعاء :
3 - الدّعاء بمعنى : الطّلب ، ويكون برفع الصّوت وخفضه ، كما يقال : دعوته من بعيد ، ودعوت اللّه في نفسي . فهو أعمّ من النّداء والتّثويب .
ج - التّرجيع :
4 - يقال : رجّع في أذانه إذا أتى بالشّهادتين مرّةً خفضاً ومرّةً رفعاً ، فالتّثويب والتّرجيع يتّفقان في العود والتّكرير ، ولكنّهما يختلفان في أنّ محلّ التّثويب وهو قول المؤذّن : " الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر عند أكثر الفقهاء ، أمّا التّرجيع بمعنى تكرار الشّهادتين فذلك في الأذان لجميع الصّلوات عند من يقول به .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
5 - يختلف الحكم الإجماليّ للتّثويب باختلاف إطلاقاته وباختلاف أوقات الصّلاة .
أمّا التّثويب في القديم ، أو التّثويب الأوّل ، وهو زيادة عبارة : " الصّلاة خير من النّوم " مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الفجر أو بعده ( على الأصحّ عند بعض الحنفيّة ) فسنّة عند جميع الفقهاء ، وجائزة في العشاء عند بعض الحنفيّة وبعض الشّافعيّة .
وأجازه بعض الشّافعيّة في جميع الأوقات .
أمّا عند المالكيّة والحنابلة فمكروه في غير الفجر ، وهو المذهب عند الحنفيّة والشّافعيّة .
التّثويب في أذان الفجر :
6 - من المقرّر عند الفقهاء - عدا أبي حنيفة ومحمّد بن الحسن - أنّ المشروع للفجر أذانان : أحدهما قبل وقتها والثّاني عند وقتها . وقد قال النّوويّ : ظاهر إطلاق الأصحاب أنّه يشرع في كلّ أذان للصّبح سواء ما قبل الفجر وبعده . وقال البغويّ في التّهذيب : إن ثوّب في الأذان الأوّل لم يثوّب في الثّاني في أصحّ الوجهين . ومن مراجعة كتب بقيّة الفقهاء القائلين بمشروعيّة أذانين للفجر تبيّن أنّهم لم يصرّحوا بأنّ التّثويب يشرع في الأذان الأوّل أو الثّاني أو في كليهما ، فالظّاهر أنّه يكون في الأذانين كما استظهر النّوويّ .
7- وأمّا التّثويب المحدث وهو الّذي استحدثه علماء الكوفة من الحنفيّة ، وهو زيادة عبارة " حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح مرّتين " بين الأذان والإقامة في الفجر أو زيادة عبارة بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلدة بالتّنحنح أو " الصّلاة الصّلاة " أو " قامت ، قامت " أو غير ذلك فمستحسن عند متقدّمي الحنفيّة في الفجر فقط ، إلاّ أنّ المتأخّرين منهم استحسنوه في الصّلوات كلّها . وأمّا تخصيص من يقوم بأمور المسلمين ومصالحهم كالإمام ونحوه بتكليف شخص ليقوم بإعلامه بوقت الصّلاة فجائز عند أبي يوسف من الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّة وبعض المالكيّة ، وكذلك عند الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان وكرهه محمّد بن الحسن وبعض المالكيّة .(124/1)
تجديد *
التّعريف :
1- التّجديد في اللّغة مصدر : جدّد ، والجديد : خلاف القديم . ومنه : جدّد وضوءه ، أو عهده أو ثوبه : أي صيّره جديداً . والاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
2- يختلف حكم التّجديد باختلاف موضعه : فتجديد الوضوء سنّة عند جمهور الفقهاء ، أو مستحبّ على اختلاف اصطلاحاتهم . وعن أحمد روايتان : أصحّهما توافق الجمهور ، والأخرى أنّه لا فضل فيه .
واشترط الشّافعيّة للاستحباب : أن يصلّي بالأوّل صلاةً ولو ركعتين ، فإن لم يصلّ به صلاةً فلا يسنّ التّجديد ، فإن خالف وفعل لم يصحّ وضوءه ، لأنّه غير مطلوب .
ويشترط الأحناف أن يفصل بين الوضوءين بمجلس أو صلاة ، فإن لم يفصل بذلك كره ، ونقل عن بعضهم مشروعيّة التّجديد ، وإن لم يفصل بصلاة أو مجلس .
واشترط المالكيّة لاستحباب التّجديد أن يفعل بالأوّل عبادةً : كالطّواف أو الصّلاة ، ودليل مشروعيّته حديث : « من توضّأ على طهر كتب له عشر حسنات » وقد كان الخلفاء يتوضّئون لكلّ صلاة ، وكان عليّ رضي الله عنه يفعله ويتلو قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغْسِلُوا وجوهَكم ... } الآية ولأنّه كان يجب الوضوء في أوّل الإسلام لكلّ صلاة فنسخ وجوبه ، وبقي أصل الطّلب ر : مصطلح ( وضوء ) .
تجديد الماء لمسح الأذنين :
3 - ذهب الشّافعيّ إلى أنّ تجديد الماء لمسح الأذنين سنّة ، ولا تحصل السّنّة إلاّ به ، وهو الصّحيح عند كلّ من الحنابلة والمالكيّة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ السّنّة هي : مسحهما بماء الرّأس في المشهور من المذهب .
تجديد العصابة والحشو للاستحاضة :
4 - ذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّه يجب على المستحاضة تجديد العصابة والحشو عند كلّ صلاة ، قياساً على الوضوء ، وقيل : لا تجب عليها ، لأنّه لا معنى لإزالة النّجاسة مع استمرارها ، وهذا إذا لم يظهر الدّم على جوانب العصابة ، ولم تزل العصابة عن محلّها . أمّا إذا ظهر الدّم على جوانب العصابة أو زالت عن محلّها ، فإنّه يجب التّجديد قولاً واحداً عندهم .
وعند الحنابلة : لا يلزمها إعادة شدّ العصابة وغسل الدّم لكلّ صلاة ، إذا لم تفرّط في الشّدّ . وصرّح بعض فقهاء الحنفيّة باستحباب الحشو أو العصابة في المستحاضة وغيرها من أصحاب الأعذار تقليلاً للنّجاسة ، ولم ينصّوا على مسألة التّجديد ، ومقتضاه عدم وجوبه لعدم وجوب أصل العصابة . ولم نجد للمالكيّة تصريحاً بهذه المسألة .
تجديد نكاح المرتدّة :
5 - ذهب الجمهور إلى أنّ المرأة إذا ارتدّت ، ولم ترجع إلى الإسلام بعد الاستتابة تقتل ، وقال الحنفيّة : لا تقتل ، بل تحبس إلى أن تموت .
وذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى أنّه إذا ارتدّت المرأة المتزوّجة ، تجبر على الإسلام وتجديد النّكاح مع زوجها ، ولو بغير رضاها ، إذا رغب زوجها في ذلك . ولا يجوز لها إذا رجعت إلى الإسلام أن تتزوّج غيره ، ولكلّ قاض أن يجدّد النّكاح بمهر يسير . والتّفصيل في مصطلح ( ردّة ) .
وإذا ارتدّ أحد الزّوجين عن الإسلام بعد الدّخول انفسخ النّكاح من حين الرّدّة عند الحنفيّة والمالكيّة ، فإن عاد المرتدّ منهما إلى الإسلام ، وكانت العدّة قائمةً وجب تجديد العقد . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ النّكاح موقوف إلى انقضاء العدّة ، فإن عاد المرتدّ منهما إلى الإسلام ، وهي في العدّة فهما على النّكاح الأوّل . وإن لم يعد انفسخ النّكاح من حين الرّدّة ، وتبدأ العدّة منذ الرّدّة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( ردّة ) .(125/1)
تجهيز *
التّعريف :
1 - التّجهيز لغةً : تهيئة ما يحتاج إليه . يقال : جهّزت المسافر : إذا هيّأت له جهاز سفره . ويطلق أيضاً على تجهيز العروس والميّت والغزاة ، ويقال : جهّزت على الجريح - بالتّثقيل - إذا أتممت عليه وأسرعت قتله ، وذلك للمبالغة ( ومثله أجهزت ) وفعله من باب نفع ، ويأتي على وزن أفعل . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإعداد :
2 - الإعداد : التّهيئة والإحضار . فالتّجهيز أعمّ من الإعداد ، لأنّ التّجهيز يشمل الإعداد وغيره .
ب - التّزويد :
3 - التّزويد : مصدر زوّدته أعطيته زاداً ، فهو أخصّ من التّجهيز . لأنّ التّجهيز يكون بالطّعام وغيره ، أمّا التّزويد فهو بإعداد الزّاد أو إعطائه .
الأحكام المتعلّقة بالتّجهيز :
ويتكلّم الفقهاء في تجهيز العروس والمجاهدين والميّت ، على من يجب ، والحكم فيه ، ومقداره ، وبيان ذلك فيما يأتي :
تجهيز العروس :
4 - مذهب الشّافعيّ : عدم إجبار المرأة على الجهاز ، وهو المفهوم من نصوص الحنابلة ، فلا تجبر هي ولا غيرها على التّجهيز ، فقد جاء في منتهى الإرادات : وتملك زوجة بعقد جميع المسمّى ، ولها نماء معيّن كدار والتّصرّف فيه .
أمّا الحنفيّة : فقد نقل الحصكفيّ عن الزّاهديّ في القنية : أنّه لو زفّت الزّوجة إلى الزّوج بلا جهاز يليق به فله مطالبة الأب بالنّقد . وزاد في البحر عن المنتقى : إلاّ إذا سكت طويلاً فلا خصومة له . لكن في النّهر عن البزّازيّة : الصّحيح أنّه لا يرجع على الأب بشيء ، لأنّ المال في النّكاح غير مقصود . ومفهوم هذا أنّ الأب هو الّذي يجهّز ، لكنّ هذا إذا كان هو الّذي قبض المهر ، فإن كانت الزّوجة هي الّتي قبضته فهي الّتي تطالب به على القول بوجوب الجهاز ، وهو بحسب العرف والعادة .
وقال المالكيّة : إذا قبضت الحالّ من صداقها قبل بناء الزّوج بها فإنّه يلزمها أن تتجهّز به على العادة من حضر أو بدو ، حتّى لو كان العرف شراء دار لزمها ذلك ، ولا يلزمها أن تتجهّز بأزيد منه . ومثل حالّ الصّداق ما إذا عجّل لها المؤجّل وكان نقداً .
وإن تأخّر القبض عن البناء لم يلزمها التّجهيز سواء أكان حالّاً أم حلّ ، إلاّ لشرط أو عرف . ( أي فإنّه يلزمها التّجهيز للشّرط أو العرف ) .
تجهيز الغزاة :
5 - يجب على المسلمين أن لا يعطّلوا الجهاد في سبيل اللّه ، وأن يجهّزوا لذلك الغزاة بما يلزمهم من عدّة وعتاد وزاد ، لقول اللّه تعالى : { وأَنْفِقُوا في سبيلِ اللّهِ ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكَةِ } وقوله عزّ وجلّ : { وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرْهبون به عدوَّ اللّه وعدوَّكم وآخَرين من دونهم لا تَعْلَمُونهم اللّهُ يَعْلَمهم وما تُنفقوا من شيء في سبيلِ اللّه يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظْلمون }
وتجهيز الغزاة واجب المسلمين جميعاً ، حكّاماً ومحكومين ، وهو من أعظم القرب لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من جهّز غازياً في سبيل اللّه فقد غزا » ومن المصادر الّتي يمكن تجهيز الغزاة منها : الزّكاة من صنف ( سبيل اللّه ) .
وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الغزاة يعطون من الزّكاة مطلقاً ، ولو كانوا أغنياء . لكنّ المالكيّة قيّدوه بأن يكون المعطون ممّن يجب عليهم الجهاد .
وقيّده الشّافعيّة بألاّ تكون أسماؤهم في ديوان الجند . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الغازي يعطى من الزّكاة إذا كان من منقطعي الغزاة ، وهم الّذين عجزوا عن الالتحاق بجيش الإسلام لفقرهم .
وسبب اختلافهم في هذا هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى في مصارف الصّدقات : { وفي سبيل اللّه } وفي ذلك تفصيل يرجع إليه في مصطلح ( زكاة ) .
تجهيز الميّت :
6 - يجب تجهيز الميّت ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به ، ولأنّ سترته واجبة في الحياة ، فهي واجبة كذلك بالكفن في الممات .
واتّفق الفقهاء على أنّ تجهيز الميّت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين . ونفقات التّجهيز تكون من تركة الميّت إن ترك مالاً ، وتقدّم على ديونه ووصيّته وإرثه ، إلاّ أعيان التّركة الّتي تعلّق بها حقّ للغير ، كعين الرّهن والمبيع ونحوهما . فإن لم يكن له مال ، وجب تجهيزه على من تجب عليه نفقته في حال حياته ، فإن لم يوجد أحد من هؤلاء ، وجب تجهيزه في بيت مال المسلمين إن وجد ، فإن لم يوجد أو كان موجوداً ولم يمكن الأخذ فتجهيزه على المسلمين فرض كفاية .
ولا يجب على الزّوجة تجهيز زوجها المتوفّى عنها بلا خلاف . وفي وجوب تجهيز الزّوج لزوجته المتوفّاة ، خلاف يرجع إليه مع تفصيل البحث في مصطلح : ( جنائز ) .(126/1)
تجويد *
التّعريف :
1- التّجويد لغةً : تصيير الشّيء جيّداً . والجيّد : ضدّ الرّديء ، يقال : جوّد فلان كذا : أي فعله جيّداً ، وجوّد القراءة : أي أتى بها بريئةً من الرّداءة في النّطق .
واصطلاحاً : إعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه . والمراد بحقّ الحرف : الصّفة الذّاتيّة الثّابتة له كالشّدّة والاستعلاء ، والمراد بمستحقّ الحرف : ما ينشأ عن تلك الصّفات الذّاتيّة اللّازمة كالتّفخيم ، فإنّه ناشئ عن كلّ من الاستعلاء والتّكرير ، لأنّه يكون في الحرف حال سكونه وتحريكه بالفتح والضّمّ فقط ، ولا يكون في حال الكسر . وهذا كلّه بعد إخراج كلّ حرف من مخرجه . واعتبره بعضهم غير داخل في تعريف التّجويد ، لأنّه مطلوب لحصول أصل القراءة ، لكن قال الشّيخ عليّ القاريّ : ولا يخفى أنّ إخراج الحرف من مخرجه أيضاً داخل في تعريف التّجويد ، كما صرّح به ابن الجزريّ في كتاب التّمهيد ، أي لأنّ المعرّف هو القراءة المجوّدة ، وليس مطلق القراءة ، وتجويد القراءة لا يكون إلاّ بإخراج كلّ حرف من مخرجه . قال ابن الجزريّ : التّجويد : إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها ، وردّ الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره ، وتصحيح لفظه وتلطيف النّطق به على حال صيغته وكمال هيئته ، من غير إسراف ولا تعسّف ولا إفراط ولا تكلّف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّلاوة ، والأداء ، والقراءة :
2 - التّلاوة اصطلاحاً : قراءة القرآن متتابعاً كالأجزاء والأسداس .
أمّا الأداء فهو : الأخذ عن الشّيوخ بالسّماع منهم أو القراءة بحضرتهم .
وأمّا القراءة فهي أعمّ من التّلاوة والأداء .
ولا يخفى أنّ التّجويد أمر زائد على هذه الألفاظ الثّلاثة ، فهو أخصّ منها جميعها .
ب - التّرتيل :
3 - التّرتيل لغةً : مصدر رتّل ، يقال : رتّل فلان كلامه : إذا أتبع بعضه بعضاً على مكث وتفهّم من غير عجل .
واصطلاحاً : هو رعاية مخارج الحروف وحفظ الوقوف . وروي نحوه عن عليّ رضي الله عنه حيث قال : التّرتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف .
فالفرق بينه وبين التّجويد : أنّ التّرتيل وسيلة من وسائل التّجويد ، وأنّ التّجويد يشمل ما يتّصل بالصّفات الذّاتيّة للحروف ، وما يلزم عن تلك الصّفات ، أمّا التّرتيل فيقتصر على رعاية مخارج الحروف وضبط الوقوف لعدم الخلط بين الحروف في القراءة السّريعة ، ولذلك أطلق العلماء ( التّرتيل ) على مرتبة من مراتب القراءة من حيث إتمام المخارج والمدود ، وهو يأتي بعد مرتبة ( التّحقيق ) وأدنى منهما مرتبة وسطى تسمّى ( التّدوير ) ثمّ ( الحدر ) وهو المرتبة الأخيرة .
الحكم الإجماليّ :
4 - لا خلاف في أنّ الاشتغال بعلم التّجويد فرض كفاية .
أمّا العمل به ، فقد ذهب المتقدّمون من علماء القراءات والتّجويد إلى أنّ الأخذ بجميع أصول التّجويد واجب يأثم تاركه ، سواء أكان متعلّقاً بحفظ الحروف - ممّا يغيّر مبناها أو يفسد معناها - أم تعلّق بغير ذلك ممّا أورده العلماء في كتب التّجويد ، كالإدغام ونحوه .
قال محمّد بن الجزريّ في النّشر نقلاً عن الإمام نصر الشّيرازيّ : حسن الأداء فرض في القراءة ، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حقّ تلاوته .
وذهب المتأخّرون إلى التّفصيل بين ما هو واجب شرعيّ من مسائل التّجويد ، وهو ما يؤدّي تركه إلى تغيير المبنى أو فساد المعنى ، وبين ما هو واجب صناعيّ أي أوجبه أهل ذلك العلم لتمام إتقان القراءة ، وهو ما ذكره العلماء في كتب التّجويد من مسائل ليست كذلك ، كالإدغام والإخفاء إلخ . فهذا النّوع لا يأثم تاركه عندهم .
قال الشّيخ عليّ القاريّ بعد بيانه أنّ مخارج الحروف وصفاتها ، ومتعلّقاتها معتبرة في لغة العرب : فينبغي أن تراعى جميع قواعدهم وجوباً فيما يتغيّر به المبنى ويفسد المعنى ، واستحباباً فيما يحسن به اللّفظ ويستحسن به النّطق حال الأداء . ثمّ قال عن اللّحن الخفيّ الّذي لا يعرفه إلاّ مهرة القرّاء : لا يتصوّر أن يكون فرض عين يترتّب العقاب على قارئه لما فيه من حرج عظيم . ولما قال محمّد بن الجزريّ في منظومته في التّجويد ، وفي الطّيّبة أيضاً : والأخذ بالتّجويد حتمٌ لازمُ مَنْ لم يجوِّد القُرآن آثِمُ
قال ابنه أحمد في شرحها : ذلك واجب على من يقدر عليه ، ثمّ قال : لأنّ اللّه تعالى أنزل به كتابه المجيد ، ووصل من نبيّه صلى الله عليه وسلم متواتراً بالتّجويد .(127/1)
وكرّر أحمد بن محمّد بن الجزريّ هذا التّقييد بالقدرة أكثر من مرّة . ويدلّ لذلك الحديث الّذي رواه الشّيخان عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الماهرُ بالقرآنِ مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ ، والّذي يقرأُ القرآنَ ويُتَعْتِعُ فيه ، وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ » وقد اعتبر ابن غازيّ في شرحه للجزريّة من الواجب الصّناعيّ : كلّ ما كان من مسائل الخلاف من الوجوه المختارة لكلّ قارئ من القرّاء المشهورين ، حيث يرى بعضهم التّفخيم ويرى غيره التّرقيق في موطن واحد ، فهذا لا يأثم تاركه ، ولا يتّصف بالفسق . وكذلك ما كان من جهة الوقف ، فإنّه لا يجب على القارئ الوقف على محلّ معيّن بحيث لو تركه يأثم ، ولا يحرم الوقف على كلمة بعينها إلاّ إذا كانت موهمةً وقصدها ، فإن اعتقد المعنى الموهم للكفر كفر - والعياذ باللّه - كأن وقف على قوله تعالى : { إنّ اللّه لا يستحي } دون قوله : { أن يضرب مثلاً ما } . أو على قوله : { وما من إله } دون { إلاّ اللّه } . أمّا قول علماء القراءة : الوقف على هذا واجب ، أو لازم ، أو حرام ، أو لا يحلّ ، أو نحو ذلك من الألفاظ الدّالّة على الوجوب أو التّحريم فلا يراد منه ما هو مقرّر عند الفقهاء ، ممّا يثاب على فعله ، ويعاقب على تركه ، أو عكسه ، بل المراد : أنّه ينبغي للقارئ أن يقف عليه لمعنًى يستفاد من الوقف عليه ، أو لئلاّ يتوهّم من الوصل تغيير المعنى المقصود ، أو لا ينبغي الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده ، لما يتوهّم من تغيير المعنى أو رداءة التّلفّظ ونحو ذلك . وقولهم : لا يوقف على كذا ، معناه : أنّه لا يحسن الوقف عليه صناعةً ، وليس معناه أنّ الوقف عليه حرام أو مكروه ، بل خلاف الأولى ، إلاّ إن تعمّد قاصداً المعنى الموهم . ثمّ تطرّق ابن غازيّ إلى حكم تعلّم التّجويد بالنّسبة لمريد القراءة ، فقرّر عدم وجوب ذلك على من أخذ القراءة على شيخ متقن ، ولم يتطرّق اللّحن إليه ، من غير معرفة علميّة بمسائله ، وكذلك عدم وجوب تعلّمه على العربيّ الفصيح الّذي لا يتطرّق اللّحن إليه ، بأن كان طبعه على القراءة بالتّجويد ، فإنّ تعلّم هذين للأحكام أمر صناعيّ . أمّا من أخلّ بشيء من الأحكام المجمع عليها ، أو لم يكن عربيّاً فصيحاً ، فلا بدّ في حقّه من تعلّم الأحكام والأخذ بمقتضاها من أفواه المشايخ .
قال الإمام الجَزَريّ في النّشر : ولا شكّ أنّ الأمّة كما هم متعبّدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده ، كذلك هم متعبّدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة والمتّصلة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ما يتناوله التّجويد من أمور :
5 - التّجويد علم من علوم القرآن ، ولكنّه يتميّز عن غيره من تلك العلوم المتّصلة بالقرآن بأنّه يحتاج إليه الخاصّة والعامّة ، لحاجتهم إلى تلاوة كتاب اللّه تعالى كما أنزل ، حسبما نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وهو إمّا أن يحصل بالتّعلّم لمسائله ، أو يؤخذ بالتّلقّي من أفواه العلماء ، ولا بدّ في الحالين من التّمرين والتّكرار .
قال أبو عمرو الدّانيّ : ليس بين التّجويد وتركه إلاّ رياضة لمن تدبّره بفكه . وقال أحمد بن الجزريّ : لا أعلم سبباً لبلوغ نهاية الإتقان والتّجويد ووصول غاية التّصحيح والتّسديد مثل رياضة الألسن والتّكرار على اللّفظ المتلقّى من فم المحسن .
ويشتمل علم التّجويد على أبحاث كثيرة أهمّها :
أ - مخارج الحروف ، للتّوصّل إلى إخراج كلّ حرف من مخرجه الصّحيح .
ب - صفات الحروف ، من جهر وهمس مع معرفة الحروف المشتركة في الصّفة .
ج - التّفخيم والتّرقيق وما يتّصل بذلك من أحكام لبعض الحروف كالرّاء واللّام .
د - أحوال النّون السّاكنة والتّنوين والميم السّاكنة .
هـ - المدّ والقصر وأنواع المدّ .
و - الوقف والابتداء والقطع وما يتّصل بذلك من أحكام .
ز - أحكام الابتداء بالقراءة ، من تعوّذ وبسملة وأحكام ختم القرآن وآداب التّلاوة .
وموطن تفصيل ذلك هو كتب علم التّجويد ، وكذلك كتب القراءات في آخر أبحاثها كما في منظومة حرز الأماني للشّاطبيّ ، أو في أوائلها كما في " الطّيّبة " لمحمّد بن الجزريّ ، وفي بعض المطوّلات من كتب علوم القرآن كالبرهان للزّركشيّ ، والإتقان للسّيوطيّ .
ما يخلّ بالتّجويد ، وحكمه :
6 - يقع الإخلال بالتّجويد إمّا في أداء الحروف ، وإمّا فيما يلابس القراءة من التّغييرات الصّوتيّة المخالفة لكيفيّة النّطق المأثورة .
فالنّوع الأوّل يسمّى ( اللّحن ) أي الخطأ والميل عن الصّواب ، وهو نوعان : جليّ وخفيّ . واللّحن الجليّ : خطأ يطرأ على الألفاظ فيخلّ بعرف القراءة ، سواء أخلّ بالمعنى أم لم يخلّ . وسمّي جليّاً لأنّه يخلّ إخلالاً ظاهراً يشترك في معرفته علماء القرآن وغيرهم ، وهو يكون في مبنى الكلمة كتبديل حرف بآخر ، أو في حركتها بتبديلها إلى حركة أخرى أو سكون ، سواء أتغيّر المعنى بالخطأ فيها أم لم يتغيّر . وهذا النّوع يحرم على من هو قادر على تلافيه ، سواء أوهم خلل المعنى أو اقتضى تغيير الإعراب .
وأمّا اللّحن الخفيّ : فهو خطأ يطرأ على اللّفظ ، فيخلّ بعرف القراءة ولا يخلّ بالمعنى . وسمّي خفيّاً لأنّه يختصّ بمعرفته علماء القرآن وأهل التّجويد . وهو يكون في صفات الحروف ، وهذا اللّحن الخفيّ قسمان :
أحدهما : لا يعرفه إلاّ علماء القراءة كترك الإخفاء ، وهو ليس بفرض عين يترتّب عليه عقاب كما سبق ، بل فيه خوف العتاب والتّهديد .(127/2)
والثّاني : لا يعرفه إلاّ مهرة القرّاء كتكرير الرّاءات وتغليظ اللّامات في غير محلّها ، ومراعاة مثل هذا مستحبّة تحسن في حال الأداء .
وأمّا النّوع الثّاني من الإخلال فهو ما يحصل من الزّيادة والنّقص عن الحدّ المنقول من أوضاع التّلاوة ، سواء في أداء الحرف أو الحركة عند القراءة ، وسبب الإخلال القراءة بالألحان المطربة المرجّعة كترجيع الغناء ، وهو ممنوع لما فيه من إخراج التّلاوة عن أوضاعها الصّحيحة ، وتشبيه القرآن بالأغاني الّتي يقصد بها الطّرب .
واستدلّوا لمنع ذلك بحديث عابس رضي الله عنه قال : إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « بادروا بالموت ستّاً : إمرة السّفهاء ، وكثرة الشّرط ، وبيع الحكم ، واستخفافاً بالدّم ، وقطيعة الرّحم ، ونَشْواً يتّخذون القرآن مزامير يقدّمونه يغنّيهم ، وإن كان أقلّ منهم فقهاً » . قال الشّيخ زكريّا الأنصاريّ : والمراد بلحون العرب : القراءة بالطّبع والسّليقة كما جبلوا عليه من غير زيادة ولا نقص ، والمراد بلحون أهل الفسق والكبائر : الأنغام المستفادة من علم الموسيقى ، والأمر في الخبر محمول على النّدب ، والنّهي على الكراهة إن حصلت المحافظة على صحّة ألفاظ الحروف ، وإلاّ فعلى التّحريم .
قال الرّافعيّ : المكروه أن يفرّط في المدّ وفي إشباع الحركات ، حتّى يتولّد من الفتحة ألف ومن الضّمّة واو ... إلخ قال النّوويّ : الصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع ، لأنّه عدل به عن منهجه القويم ، وهذا مراد الشّافعيّ بالكراهة . وقد أورد علماء التّجويد نماذج من ذلك ، فمنها ما يسمّى بالتّرقيص ، والتّحزين ، والتّرعيد ، والتّحريف ، والقراءة باللّين والرّخاوة في الحروف ، والنّقر بالحروف وتقطيعها ... إلخ . وتفصيل المراد بذلك في مراجعه ، ومنها شروح الجزريّة ، ونهاية القول المفيد ، وقد أورد أبياتاً في ذلك من منظومة للإمام علم الدّين السّخاويّ ، ثمّ نقل عن شرحها قوله : فكلّ حرف له ميزان يعرف به مقدار حقيقته ، وذلك الميزان هو مخرجه وصفته ، وإذا خرج عن مخرجه معطًى ما له من الصّفات على وجه العدل في ذلك من غير إفراط ولا تفريط فقد وزن بميزانه ، وهذا هو حقيقة التّجويد . وسبيل ذلك التّلقّي من أفواه القرّاء المتقنين .(127/3)
تحرّي *
التّعريف :
1 - التّحرّي في اللّغة : القصد والابتغاء ، كقول القائل : أتحرّى مسرّتك ، أي أطلب مرضاتك ، ومنه قوله تعالى : { فأولئك تَحَرَّوا رَشَداً } أي قصدوا طريق الحقّ وتوخّوه . ومنه حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ... » الحديث . أي اعتنوا بطلبها . وفي الاصطلاح : بذل المجهود في طلب المقصود ، أو طلب الشّيء بغالب الظّنّ عند عدم الوقوف على حقيقته .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاجتهاد :
2 - الاجتهاد والتّحرّي لفظان متقاربا المعنى ، ومعناهما : بذل المجهود في طلب المقصود ، إلاّ أنّ لفظ الاجتهاد صار في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشّريعة ، وبذل المجهود في تعرّف حكم الحادثة من الدّليل .
أمّا التّحرّي فقد يكون بدليل ، وقد يكون بمجرّد شهادة القلب من غير أمارة . فكلّ اجتهاد تحرّ ، وليس كلّ تحرّ اجتهاد .
ب - التّوخّي :
3 - التّوخّي مأخوذ من الوخى ، بمعنى القصد ، فالتّحرّي والتّوخّي سواء ، إلاّ أنّ لفظ التّوخّي يستعمل في المعاملات . كما قال صلى الله عليه وسلم للرّجلين اللّذين اختصما في المواريث : « اذهبا وتوخّيا ، واستهما ، وليحلل كلّ واحد منكما صاحبه » .
وأمّا التّحرّي فيستعمل غالباً في العبادات . كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا شكّ أحدكم في الصّلاة فليتحرّ الصّواب » .
ج - الظّنّ :
4 - الظّنّ : هو إدراك الطّرف الرّاجح مع احتمال النّقيض ، ففي الظّنّ يكون ترجيح أحد الأمرين على الآخر ، فإن كان بغير دليل فهو مذموم ، ويكون التّرجيح في التّحرّي بغالب الرّأي ، وهو دليل يتوصّل به إلى طرف العلم وإن كان لا يتوصّل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ، وقد يستعمل الظّنّ بمعنى اليقين كقوله تعالى : { الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم } .
د - الشّكّ :
5 - الشّكّ : تردّد بين احتمالين مستويين ، أي من غير رجحان لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ . فالتّحرّي وسيلة لإزالة الشّكّ .
الحكم التّكليفيّ :
6 - التّحرّي مشروع والعمل به جائز ، والدّليل على ذلك الكتاب والسّنّة والمعقول : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنّ اللّه أعلمُ بإِيمانهنّ فإِن عَلِمْتُموهنَّ مُؤْمنات فلا تَرْجعوهنّ إلى الكفّار } .
وذلك يكون بالتّحرّي وغالب الرّأي ، وأطلق عليه العلم .
وأمّا السّنّة : فالحديثان السّابقان عند الكلام عن التّوخّي .
وأمّا ما يدلّ عليه من المعقول : فهو أنّ الاجتهاد في الأحكام الشّرعيّة جائز للعمل به ، وذلك عمل بغالب الرّأي ، ثمّ جعل مدركاً من مدارك أحكام الشّرع ، وإن كانت الأحكام لا تثبت به ابتداءً ، فكذلك التّحرّي مدرك من مدارك التّوصّل إلى أداء العبادات وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداءً .
هذا ، والتّحرّي في أحكام الشّرع ورد في مواضع كثيرة ، ويختلف حكمه باختلاف مواطنه : أوّلاً : التّحرّي لمعرفة الطّاهر من غيره حالة الاختلاط :
أ - اختلاط الأواني :
7 - إذا اختلطت الأواني الّتي فيها ماء طاهر بالأواني الّتي فيها ماء نجس ، واشتبه الأمر ، ولم يكن معه ماء طاهر سوى ذلك ، ولا يعرف الطّاهر من النّجس :
فإن كانت الغلبة للأواني الطّاهرة ، يتحرّى عند الحنفيّة وبعض الحنابلة ، لأنّ الحكم للغالب ، وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطّاهر ، وإصابته بتحرّيه مأمولة ، ولأنّ جهة الإباحة قد ترجّحت . وإن كانت الغلبة للأواني النّجسة أو كانا متساويين ، فليس له أن يتحرّى إلاّ للشّرب حالة الضّرورة ، إذ لا بديل له ، بخلاف الوضوء فإنّ له بديلاً .
وظاهر كلام أحمد وأكثر أصحابه عدم جواز التّحرّي ، وإن كثر عدد الأواني الطّاهرة .
وعند الشّافعيّة يجوز التّحرّي في الحالين ، فيتوضّأ بالأغلب ، لأنّه شرط للصّلاة ، فجاز التّحرّي من أجله كالقبلة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان عنده ثلاثة أوان نجسة أو متنجّسة واثنان طهوران ، واشتبهت هذه بهذه ، فإنّه يتوضّأ ثلاثة وضوآت من ثلاثة أوان عدد الأواني النّجسة ، ويتوضّأ وضوءاً رابعاً من إناء رابع ، ويصلّي بكلّ وضوء صلاةً .
وحكى ابن الماجشون من المالكيّة قولاً آخر ، وهو أنّه يتوضّأ من كلّ واحد من الأواني وضوءاً ويصلّي به . والتّفصيل في مصطلح ( اشتباه ) .
ب - اختلاط الثّياب :
8 - إذا اشتبهت على الشّخص ثياب طاهرة بنجسة ، وتعذّر التّمييز بينها ، وليس معه ثوب طاهر بيقين غيرها ، ولا ما يغسلها به ، ولا يعرف الطّاهر من النّجس ، واحتاج إلى الصّلاة ، فإنّه يتحرّى عند الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة والشّافعيّة ما عدا المزنيّ ، ويصلّي في الّذي يقع تحرّيه على أنّه طاهر ، سواء أكانت الغلبة للثّياب النّجسة أم الطّاهرة ، أو كانا متساويين . وقال الحنابلة ، وابن الماجشون من المالكيّة : لا يجوز التّحرّي ، ويصلّي في ثياب منها بعدد النّجس منها ، ويزيد صلاةً في ثوب آخر .
وقال ابن عقيل من الحنابلة : يتحرّى في أصحّ الوجهين دفعاً للمشقّة .
وقال أبو ثور والمزنيّ : لا يصلّي في شيء منها ، كقولهما في الأواني .
ج - اختلاط المذكّاة بالميتة :
9 - إذا اختلطت المذكّاة بالميتة ، فذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز التّحرّي في حالة الاضطرار مطلقاً ، أي سواء أكانت الغلبة للمذكّاة أم للميتة أو تساويا .
وفي حالة الاختيار لا يجوز التّحرّي إلاّ إذا كانت الغلبة للحلال .
وأمّا الأئمّة الثّلاثة فلا يجوز عندهم التّحرّي مطلقاً في هذا المجال .
د - التّحرّي في الحيض :(128/1)
10 - إذا نسيت امرأة عدد أيّام حيضها وموضعها ، واشتبه عليها حالها في الحيض والطّهر فالمتبادر من أقوال جمهور الفقهاء أنّ عليها أن تتحرّى ، فإن وقع أكبر رأيها على أنّها حائض أعطيت حكمه ، وإن وقع أكبر رأيها على أنّها طاهرة أعطيت حكم الطّاهرات ، لأنّ غلبة الظّنّ من الأدلّة الشّرعيّة .
وأمّا إذا تحيّرت ولم يغلب على ظنّها شيء ، فهي المتحيّرة أو المضلّة ، فعليها الأخذ بالأحوط في الأحكام . ولتفصيل أحكامها يرجع إلى مصطلح ( حيض ، استحاضة ) .
ثانياً : معرفة القبلة بالاستدلال والتّحرّي :
11 - إنّ المصلّي إذا كان قادراً على استقبال القبلة ، وكان بمكّة وفي حال مشاهدة الكعبة ومعاينته لها ، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ عليه التّوجّه إلى عين الكعبة ، ومقابلة ذاتها . وإن كان نائياً عن الكعبة غائباً عنها : فذهب الحنفيّة إلى أنّه يكفيه استقبال جهة الكعبة باجتهاد ، وليس عليه إصابة العين ، وهو الأظهر عند المالكيّة والحنابلة ، وهو قول للشّافعيّ .
والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو قول للمالكيّة ، ورواية عن الحنابلة : أنّه تلزمه إصابة العين . ولا يجوز الاجتهاد عند جمهور الفقهاء مع وجود محاريب الصّحابة ، وكذلك محاريب المسلمين الّتي تكرّرت الصّلوات إليها .
كما أنّه لا يجوز الاجتهاد إذا كان بحضرته من يسأله من أهل المكان العالم بها ، بشرط كونه مقبول الشّهادة ، فالذّمّيّ والجاهل والفاسق والصّبيّ لا يعتدّ بإخباره في هذا المجال .
فإذا عجز المصلّي عن إصابة عين الكعبة والتّوجّه إلى جهتها استدلالاً بالمحاريب المنصوبة القديمة ، أو سؤال من هو عالم بالقبلة ، ممّن تقبل شهادته من أهل المكان : فإن كان من أهل الاجتهاد في أمر القبلة ، فعليه الاجتهاد . والمجتهد في القبلة هو : العالم بأدلّتها وهي : النّجوم ، والشّمس ، والقمر ، والرّياح ، والجبال ، والأنهار وغير ذلك من الوسائل والمعالم ، وإن كان جاهلاً بأحكام الشّرع . فإنّ كلّ من علم بأدلّة شيء كان من المجتهدين فيه ، وإن جهل غيره . وإن كان غير عالم بأدلّتها ، أو كان أعمى فهو مقلّد وإن علم غيرها . فالمصلّي القادر على الاجتهاد إن صلّى بغير اجتهاد ، فالمتبادر من أقوال جمهور الفقهاء أنّه لا تجوز صلاته ، وإن وقعت إلى القبلة ، وكذلك إذا أدّاه الاجتهاد إلى جهة فصلّى إلى غيرها ، ثمّ تبيّن أنّه صلّى إلى الكعبة ، فصلاته باطلة عند الأئمّة الأربعة ، لتركه الواجب ، كما لو صلّى ظانّاً أنّه محدث ثمّ تبيّن أنّه متطهّر . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( استقبال ) .
12 - من عجز عن معرفة القبلة بالاستدلال ، بأن خفيت عليه الأدلّة لحبس أو غيم ، أو التبست عليه أو تعارضت ، ولم يكن هناك من يخبره اختلف الفقهاء في ذلك ، فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند المالكيّة : إلى أنّ عليه التّحرّي وتصحّ صلاته ، لأنّ التّكليف بحسب الوسع والإمكان ، وليس في وسعه إلاّ التّحرّي . والمشهور عند الشّافعيّة أنّه يصلّي كيف كان لحرمة الوقت ، سواء أكان في الوقت سعة أم لا ، ويقضي لندرة حصول ذلك . والأصل في هذا الباب ما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال : « كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ، فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجل منّا على خياله ، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه تعالى : { فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ اللّه } » وقال عليّ رضي الله تعالى عنه :" قبلة المتحرّي جهة قصده ".
ثالثاً : التّحرّي في الصّلاة :
13 - من شكّ في الصّلاة فلا يدري كم صلّى ، فعند الحنفيّة إن كان يعرض له الشّكّ كثيراً في الصّلاة ، وكان له رأي تحرّى ، وبنى على أكبر رأيه ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
« من شكّ في الصّلاة فليتحرّ الصّواب » .
وعند المالكيّة يبني على الأقلّ ، ويأتي بما شكّ فيه مطلقاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا شكّ في أثناء الصّلاة فعليه الأخذ بالأقلّ ، ويسجد للسّهو . ولو شكّ بعد السّلام فقولان عندهم :
أحدهما : أن يقوم إلى التّدارك ، كأنّه لم يسلّم .
والثّاني : أنّه لا يعتبر بعد الفراغ لما فيه من العسر .
وأمّا الحنابلة فيفرّقون بين الإمام والمنفرد في المشهور من مذهبهم . فمن كان إماماً وشكّ فلم يدر كم صلّى تحرّى وبنى على غالب ظنّه ، وأمّا المنفرد فيبني على اليقين ( الأقلّ ) ، وفي رواية يبني على غالب ظنّه كالإمام ، هذا إذا كان له رأي ، أمّا إذا استوى عنده الأمران بنى على اليقين إماماً كان أو منفرداً .
رابعاً : التّحرّي في الصّوم :
14 - من كان محبوساً أو كان في بعض النّواحي النّائية عن الأمصار ، أو بدار حرب بحيث لا يمكنه التّعرّف على الأشهر بالخبر واشتبه عليه شهر رمضان : فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يجب عليه التّحرّي والاجتهاد في معرفة شهر رمضان ، لأنّه أمكنه تأدية فرض بالتّحرّي والاجتهاد ، فلزمه كاستقبال القبلة .
فإذا غلب على ظنّه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه ، ثمّ إن تبيّن أنّه أصاب شهر رمضان ، أو لم ينكشف له الحال أجزأه في قول عامّة الفقهاء ، لأنّه أدّى فرضه بالاجتهاد ، وأدرك ما هو المقصود بالتّحرّي .
وإن تبيّن أنّه صام شهراً قبله ، فذهب الأئمّة الثّلاثة ، والشّافعيّة في الصّحيح من المذهب أنّه لا يجزئه ، لأنّه أدّى العبادة قبل وجود سبب وجوبها فلم تجزئه كمن صلّى قبل الوقت . وعند الشّافعيّة قول في القديم في حالة تبيّن الأمر بعد رمضان أنّه يجزئ ، لأنّه عبادة تفعل في السّنة مرّةً ، فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ .(128/2)
أمّا إن تبيّن أنّه صام شهراً بعده ، جاز عند جمهور الفقهاء ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، وذلك بشرطين : إكمال العدّة ، وتبييت النّيّة لشهر رمضان ، لأنّه قضاء ، وفي القضاء يعتبر هذان الشّرطان ، وفي قول للشّافعيّة أنّه أداء للعذر ، لأنّ العذر قد يجعل غير الوقت وقتاً كما في الجمع بين الصّلاتين .
وعلى هذا فإن كان الشّهر الّذي صامه ناقصاً ، ورمضان الّذي صامه النّاس تامّاً ، صام يوماً ، لأنّ صوم شهر آخر بعده يكون قضاءً ، والقضاء يكون على قدر الفائت .
وعلى القول الثّاني للشّافعيّة - بأنّه يقع أداءً - يجزئه ولو صامه ناقصاً وصام النّاس رمضان تامّاً ، لأنّ الشّهر يقع ما بين الهلالين . وكذلك إن وافق بعض رمضان دون بعض ، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه ، وما وافق قبله لم يجزئه .
وأمّا إن ظنّ أنّ الشّهر لم يدخل فصام لم يجزئه ، ولو أصاب ، وكذا لو شكّ في دخوله ولم يغلب على ظنّه دخوله . وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر بلا اجتهاد وهو قادر عليه ، وبلا تحرّ ، لا يجزئه كمن خفيت عليه القبلة .
ومن شكّ في الغروب في يوم غيم ولم يتحرّ لا يحلّ له الفطر ، لأنّ الأصل بقاء النّهار .
خامساً : التّحرّي في معرفة مستحقّي الزّكاة :
15 - من شكّ في حال من يدفع له الزّكاة لزمه التّحرّي : فإن وقع في أكبر رأيه أنّه فقير دفع إليه ، فإذا ظهر أنّه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتّفاق ، وإن ظهر أنّه كان غنيّاً فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمّد ، وهو قول أبي يوسف الأوّل ، وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة ، وهو قول للشّافعيّ .
وعند المالكيّة : إن دفع الزّكاة باجتهاد لغير مستحقّ في الواقع كغنيّ ، أو كافر مع ظنّه أنّه مستحقّ ، لم تجزه . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فروايتان : إحداهما يجزئه ، والأخرى لا يجزئه . ولمعرفة تفصيل أحكام ذلك يرجع إلى مصطلح : ( زكاة ) .
سادساً : التّحرّي بين الأقيسة المتعارضة :
16 - إذا وقع التّعارض بين القياسين ، ولم يكن هناك دليل لترجيح أحدهما على الآخر ، ولم يقع اختياره على أحدهما بالعمل به ، فيجب التّحرّي ، خلافاً للإمام الشّافعيّ ، فإنّه يقول : لا يجب التّحرّي ، بل للمجتهد أن يعمل بأيّهما شاء ، وعلى هذا الخلاف ، التّحرّي في قول صحابيّين عند من يقول بحجّيّة قول الصّحابيّ ، والتّفصيل في الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
17 - ورد ذكر التّحرّي في فصول كثيرة من كتب الفقه منها : كتاب الصّلاة عند الكلام عن استقبال القبلة ، وسجدة السّهو ، وأبواب الحيض والطّهارة ، والصّوم ، وخصّص صاحب المبسوط للتّحرّي كتاباً مستقلّاً بعنوان ( كتاب التّحرّي ) ، كما أنّه يرجع لتفصيل أحكامه إلى مصطلحات ( استقبال ، واستحاضة ، واشتباه ) .(128/3)
تحلية *
التّعريف :
1 - التّحلية لغةً : إلباس المرأة الحليّ ، أو اتّخاذه لها لتلبسه . ويقال : تحلّت المرأة : لبست الحليّ أو اتّخذته . وحلّيتها بالتّشديد : ألبستها الحليّ ، أو اتّخذته لها لتلبسه . والتّحلية لا تخرج في معناها الشّرعيّ عن هذا التّعريف .
الألفاظ ذات الصّلة :
تزيين :
2 - التّزيين من الزّينة ، والزّينة اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به . فالتّزيّن أعمّ من التّحلية ، لتناوله ما ليس حليةً كالاكتحال وتسريح الشّعر والاختضاب .
الحكم التّكليفيّ :
3 - يختلف حكم التّحلية بحسب الأحوال .
فقد تكون التّحلية واجبةً كستر العورة ، وتزيّن الزّوجة لزوجها متى طلب منها ذلك .
وقد تكون مستحبّةً كتحلّي الرّجل للجمعة والعيدين ومجامع النّاس ولقاء الوفود وخضاب الشّيب للرّجل والمرأة بصفرة أو حمرة كما هو عند الحنفيّة .
وقد تكون مكروهةً كلبس المعصفر والمزعفر للرّجال كما هو عند الحنفيّة ، وخضاب الرّجل يديه ورجليه للتّشبّه بالنّساء عندهم أيضاً .
وقد تكون حراماً كتحلّي الرّجال بحلية النّساء ، وتحلّي النّساء بحلية الرّجال ، وكتحلّي الرّجال بالذّهب .
الإسراف في التّحلية :
4 - التّحلية المباحة أو المستحبّة إذا أسرف فيها تصبح محظورةً ، وقد تصل إلى مرتبة التّحريم . والإسراف : هو مجاوزة حدّ الاستواء ، فتارةً يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام ، وتارةً يكون بمجاوزة الحدّ في الإنفاق ، فيكون ممّن قال اللّه تعالى فيهم { إنَّ المبذِّرِين كانوا إِخْوانَ الشَّياطينِ } والإسراف وضدّه من الإقتار مذمومان ، والاستواء هو التّوسّط قال اللّه تعالى : { والّذين إذا أَنفقوا لم يُسْرفوا ولم يَقْتُروا وكان بين ذلك قَوَاماً } .
تحلية المحدَّة :
5 - المحدّة من النّساء هي : المرأة الّتي تترك الزّينة والحليّ والطّيب بعد وفاة زوجها للعدّة ، والحداد تركها ذلك . وإحدادها في اصطلاح الفقهاء : امتناعها عن الزّينة وما في معناها مدّةً مخصوصةً في أحوال مخصوصة حزناً على فراق زوجها ، سواء أكان بالموت - وهو بالإجماع - أم بالطّلاق البائن ، وهو مذهب الحنفيّة على خلاف .
6- وقد أجمع الفقهاء على أنّه يحرم على المحدّة أن تستعمل الذّهب بكلّ صوره ، فيلزمها نزعه حين تعلم بموت زوجها ، لا فرق في ذلك بين الأساور والدّمالج والخواتم ، ومثله الحليّ من الجواهر ، ويلحق به ما يتّخذ للحلية من غير الذّهب والفضّة كالعاج وغيره . وجوّز بعض الفقهاء لبس الحليّ من الفضّة ، ولكنّه قول مردود ، لعموم النّهي عن لبس الحليّ على المحدّة في قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا الحليّ » ولأنّ الزّينة تحصل بالفضّة ، فحرم عليها لبسها والتّحلّي بها كالذّهب . وقصر الغزاليّ الإباحة على لبس الخاتم من الفضّة ، لأنّه ليس ممّا تختصّ النّساء بحلّه ، ويحرم عليها أن تتحلّى لتتعرّض للخطاب بأيّ وسيلة من الوسائل تلميحاً أو تصريحاً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه النّسائيّ وأبو داود : « ولا تلبس المعصفر من الثّياب ولا الحليّ » .
التّحلّي في الإحرام :
7 - وهو إمّا أن يكون ممّن يريده بحجّ أو عمرة أو ممّن أحرم بهما فعلاً .
وتحلّي المرأة المحرمة بالذّهب وغيره من الحليّ مباح ، سواء أكان سواراً أم غيره ، لقول ابن عمر رضي الله عنهما « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النّساء في إحرامهنّ عن القفّازين والنّقاب ، وما مسّ الورس والزّعفران من الثّياب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثّياب ، من معصفر أو خزّ أو حليّ » .
قال ابن قدامة : فأمّا الخلخال وما أشبهه من الحليّ مثل السّوار والدّملوج فظاهر كلام الخرقيّ : أنّه لا يجوز لبسه . وقد قال أحمد : المحرمة والمتوفّى عنها زوجها يتركان الطّيب والزّينة ، ولهما ما سوى ذلك ، وروي عن عطاء : أنّه كان يكره للمحرمة الحرير والحليّ . وكرهه الثّوريّ وأبو ثور . وروي عن قتادة أنّه كان لا يرى بأساً أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة ، وكره السّوارين والدّملجين والخلخالين .
وظاهر مذهب أحمد : الرّخصة فيه . وهو قول ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما وأصحاب الرّأي . قال أحمد في رواية حنبل : تلبس المحرمة الحليّ والمعصفر . وقال عن نافع : كان نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحليّ والمعصفر وهنّ محرمات لا ينكر ذلك عبد اللّه . وروى أحمد في المناسك عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزّها وقزّها وحليّها .
وقد ذكرنا حديث ابن عمر أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ولْتلبس بعد ذلك ما أَحبّت من ألوانِ الثّيابِ من معصفر أو خزّ أو حليّ » قال ابن المنذر : لا يجوز المنع منه بغير حجّة ، ويحمل كلام أحمد والخرقيّ في المنع على الكراهة لما فيه من الزّينة .
ولبس خاتم الفضّة للرّجال والنّساء جائز عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل وفيه الفداء ، ويجوز للمرأة .
8- ومن التّحلّي في الإحرام أن يتطيّب في بدنه . وهو وإن كان من محظورات الإحرام ، لكنّه سنّ استعداداً له عند الجمهور ، وكره المالكيّة الإحرام بمطيّب ، وندبوه بغيره . والتّطيّب في ثوب الإحرام قبل الإحرام منعه الجمهور ، وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد عندهم . وأمّا بعد الإحرام فإنّ التّحلية بالطّيب وما في معناه هو من محظورات الإحرام ، وأمّا لبس المرأة حليّها في الإحرام فلا بأس به ما لم يكن فيه إغراء ر : ( إحرام ) .(129/1)
تحليق *
التّعريف :
1 - من معاني التّحليق في اللّغة : الاستدارة وجعل الشّيء كالحلقة .
ومن معانيه أيضاً : إزالة الشّعر ، يقال : حلق رأسه يحلقه حلقاً ، وتحلاقاً : أزال شعره ، كحلّقه واحتلقه . ومنه قوله تعالى : { محلِّقينَ رءوسَكم } ، وفي الحديث : « اللّهمّ اغفر للمحلِّقين » والتّحليق خلاف التّقصير ، وهو : الأخذ من الشّعر بالمقصّ . وخلاف النّتف ، وهو : نزع الشّعر من أصوله . ويرد في اصطلاح الفقهاء بالمعنيين المذكورين .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
التّحليق بمعنى الاستدارة في التّشهّد :
2 - يرد التّحليق بمعنى : الاستدارة في التّشهّد في الصّلاة ، سواء التّشهّد الأوّل أو الأخير . وصفته : أن يقبض المصلّي الخنصر والبنصر من يده اليمنى ، ويحلق بإبهامه مع الوسطى ويشير بالسّبّابة - وهي الأصبع الّتي تلي الإبهام - عند لفظ الجلالة رافعاً لها وهذا عند الحنابلة ، وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة ، وقول للحنفيّة ، وقالوا : إنّه المفتى به . والتّحليق على الوجه المذكور سنّة .
وذكر عند المالكيّة : أنّ من مندوبات الصّلاة أن يعقد المصلّي في تشهّده من أصابع يده اليمنى الخنصر والبنصر والوسطى وهي موضوعة على فخذها الأيمن ، وأطرافها على اللّحمة الّتي تحت الإبهام على صفة تسعة ، وأن يمدّ السّبّابة والإبهام ، والإبهام بجانبها على الوسطى ممدودة على صورة العشرين ، فتكون الهيئة صفة التّسعة والعشرين ، وهذا هو قول الأكثر ، وندب أن يحرّك السّبّابة يميناً وشمالاً تحرّكاً وسطاً في جميع التّشهّد . ولم يسمّوا ذلك تحليقاً . والتّفصيل موطنه مصطلح : ( تشهّد ) .
التّحليق بمعنى إزالة الشّعر :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحلق من المحظورات المتعلّقة ببدن الحرم ، لقوله تعالى : { ولا تَحْلِقُوا رءوسَكم حتّى يَبْلُغَ الهديُ مَحِلَّه فَمَنْ كان منكم مريضاً أو به أَذَى منْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } فيحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره ، وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه ، وإن حلق المحرم شعره أثناء إحرامه فعليه الفدية للنّصّ . والحلق للتّحلّل من الإحرام أفضل من التّقصير .
روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :
« اللّهمّ ارحم المحلّقين ، قالوا : والمقصّرين يا رسول اللّه ، قال : اللّهمّ ارحم المحلِّقين ، قالوا : والمقصِّرين يا رسول اللّه ، قال : والمقصّرين » .
وفي دعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمحلّقين ثلاثاً ، وللمقصّرين مرّةً دليل على أنّ الحلق في الحجّ والعمرة أفضل من التّقصير ، هذا إذا كان محرماً بالعمرة وحدها من غير إرادة تمتّع ، فإن كان متمتّعاً ، وأراد التّحلّل من عمرته ، فالأفضل له التّقصير ، ليتوفّر الحلق للتّحلّل من الحجّ .
وأجمع أهل العلم على أنّ التّقصير يجزئ عن الرّجال ، وأنّ النّساء سنّتهنّ التّقصير ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ليس على النّساء حَلْق ، إنّما عليهنّ التّقصير » ، ولا خلاف في أنّ حلق الرّأس في الحجّ نسك . والحلق - أو التّقصير - في ذاته واجب إذا كان على الرّأس شعر ، أمّا إذا لم يكن على رأسه شعر - كالأقرع ومن برأسه قروح - فإنّه يجب إمرار الموسى على رأسه عند الحنفيّة والمالكيّة ، واستحبّ ذلك الشّافعيّة والحنابلة . وبعد فراغ الحلق يقول : اللّه أكبر ثلاث مرّات ، اللّهمّ هذه ناصيتي بيدك ، فاجعل لي كلّ شعرة نوراً يوم القيامة ، واغفر لي ذنبي يا واسع المغفرة .
والتّفصيل موطنه مصطلح : ( إحرام ) ( حلق ) .(130/1)
تحلّل *
التّعريف :
1 - التّحلّل ثلاثيّة من حلّ . وأصل معنى ( حلّ ) في اللّغة : فتح الشّيء وفكّ العقدة ، ويكون بفعل الإنسان ما يخرج به من الحرمة ، ويختلف باختلاف موضعه ، فإن كان من إحرام فهو الخروج منه بالطّريق الموضوع له شرعاً ، وإن كان من يمين فيخرج منها بالبرّ أو الكفّارة بشرطها ، وإن كان التّحلّل من الصّلاة فيكون بالسّلام ، وتفصيله في باب الصّلاة .
ولا يخرج استعماله شرعاً عن ذلك .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
التّحلّل من الإحرام :
والمراد به : الخروج من الإحرام . وحلّ ما كان محظوراً على المحرم قسمان :
أ - التّحلّل الأصغر ، ويسمّى أيضاً : التّحلّل الأوّل :
2 - ويكون عند الشّافعيّة والحنابلة بفعل أمرين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق أو التّقصير . ويباح بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء ( بالإجماع ) والطّيب عند البعض ، والصّيد عند المالكيّة .
أمّا الحنفيّة فيحصل التّحلّل الأصغر عندهم برمي الجمرة والحلق والتّقصير ، فإذا فعل ذلك حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء . وما ورد في بعض كتب الحنفيّة من استثناء الطّيب والصّيد أيضاً ضعيف . هذا ، ويجب الذّبح بين الرّمي والحلق للمتمتّع والقارن لمن قدر على ذلك ، لأنّ التّرتيب واجب بين هذه النّسك عند الحنفيّة .
والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « كنت أطيّب النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ، ويومَ النّحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك » . وقد جاء في بعض الأحاديث أنّه إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب ، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة ، وعلّمهم أمر الحجّ ، وقال لهم فيما قال : « إذا جئتم منًى فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب » .
وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد أيضاً : فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى : { لا تَقْتُلوا الصّيدَ وأنتم حُرُمٌ } ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة . وأمّا دليل إباحة لبس الثّياب وكلّ شيء بعد رمي جمرة العقبة ، فهو حديث : « إذا رميتم الجمرة فقد حلّ كلّ شيء إلاّ النّساء » ، وحديث عائشة السّابق .
ب - التّحلّل الأكبر - ويسمّى أيضاً التّحلّل الثّاني :
3 - هذا التّحلّل هو الّذي يباح به جميع محظورات الإحرام دون استثناء ، ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر ، ويحصل عندهما بطواف الإفاضة - بشرط الحلق أو التّقصير - هنا باتّفاقهما ، فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند الحنفيّة والمالكيّة .
وزاد المالكيّة أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي ، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى ، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة ، وقال الحنفيّة : لا مدخل للسّعي في التّحلّل ، لأنّه واجب مستقلّ ، ونهاية وقت التّحلّل الأكبر بحسب ما يتحلّل به عندهما ، وهو الطّواف ، وهو لا يفوت .
وعند الشّافعيّة والحنابلة يبدأ وقت التّحلّل الأكبر من منتصف ليلة النّحر ، ويحصل التّحلّل الأكبر عندهما باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرت ، وهي : ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك ، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك ، ونهاية التّحلّل الأكبر عند الشّافعيّة والحنابلة بحسب ما يتحلّل به عندهما إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق أو السّعي ، أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فإذا توقّف عليه التّحلّل ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق فات وقت الرّمي بالكلّيّة ، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت ، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك ، وهذا قول عند الشّافعيّة ، لكنّ الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته ، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها .
وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي محلّ اتّفاق الفقهاء ، وبه تباح جميع محظورات الإحرام بالإجماع.
التّحلّل من إحرام العمرة :
4 - اتّفق جمهور الفقهاء على أنّ للعمرة بعد أدائها تحلّلاً واحداً تباح به للمحرم جميع محظورات الإحرام ، ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب ، والتّفصيل في مصطلح ( عمرة ) .
التّحلّل من اليمين :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين المنعقدة المؤكّدة للحثّ أو المنع تنحلّ بفعل ما يوجب الحنث ، وهو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين ، وذلك إمّا بفعل ما حلف على ألاّ يفعله ، وإمّا بترك ما حلف على فعله ، إذا علم أنّه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله ، وذلك في اليمين بالتّرك المطلق ، مثل أن يحلف : لتأكلن هذا الرّغيف ، فيأكله غيره . أو إلى وقت هو غير الوقت الّذي اشترط وجود الفعل فيه ، وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدّد ، مثل أن يقول : واللّه لأفعلن اليوم كذا ، فإنّه إذا انقضى النّهار ولم يفعل حنث ضرورةً ، واتّفقوا على أنّ الكفّارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع الواردة في قوله تعالى : { لا يؤاخذُكم اللّهُ باللَّغوِ في أَيْمانِكم ولكنْ يُؤاخِذكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهليكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رَقَبَةٍ فمنْ لم يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلك كفَّارةُ أيمانِكم إذا حَلَفْتُم } .(131/1)
وجمهور الفقهاء على أنّ الحالف إذا حنث مخيّر بين الثّلاثة الأول أي : الإطعام أو الكسوة أو العتق ، وأنّه لا يجوز له الصّيام إلاّ إذا عجز عن الثّلاثة ، لقوله تعالى : { فمَنْ لمْ يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ } . والتّفصيل موطنه مصطلح ( أيمان ) .
والتّحلّل في اليمين : الاستثناء منها بقوله : إن شاء اللّه ، واختلف العلماء في الاستثناء أيشترط اتّصاله أو لا يشترط ؟ والتّفصيل موطنه مصطلح ( أيمان ، طلاق ) .(131/2)
تحميد *
التّعريف :
1 - التّحميد في اللّغة : كثرة الثّناء بالمحامد الحسنة ، وهو أبلغ من الحمد . والتّحميد في الإطلاق الشّرعيّ يراد به كثرة الثّناء على اللّه تعالى ، لأنّه هو مستحقّ الحمد على الحقيقة . والأحسن التّحميد بسورة الفاتحة ، وبما يثنى عليه في الصّلاة بقوله : سبحانك اللّهمّ وبحمدك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الشّكر :
2 - الشّكر في اللّغة : الثّناء على المحسن بما قدّم لغيره من معروف .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . والشّكر كما يكون باللّسان يكون باليد والقلب . والشّكر مجازاة للمحسن على إحسانه ، وقد يوضع الحمد مكان الشّكر ، تقول : حمدته على شجاعته ، يعني أثنيت على شجاعته ، كما تقول : شكرته على شجاعته ، وهما متقاربان ، إلاّ أنّ الحمد أعمّ ، لأنّك تحمد على الصّفات ولا تشكر ، وذلك يدلّ على الفرق .
ب - المدح :
3 - المدح من معانيه في اللّغة : الثّناء الحسن تقول : مدحته مدحاً من باب نفع : أثنيت عليه بما فيه من الصّفات الجميلة ، خلقيّةً كانت أو اختياريّةً . والمدح في الاصطلاح : هو الثّناء باللّسان على الجميل الاختياريّ قصداً . ولهذا كان المدح أعمّ من الحمد .
الحكم الإجماليّ :
4 - مواطن التّحميد في حياة الإنسان متعدّدة . فهو مطالب به عرفاناً منه بنعم اللّه تعالى وثناءً عليه بما هو أهله ، على ما أولاه من نعم لا حصر لها ، قال تعالى : { وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها } فلا طاقة على عدّها ، ولا قدرة على حصرها لكثرتها ، كالسّمع والبصر وغير ذلك من العافية والرّزق ، وهي نعم منه سبحانه ، ولذا هيّأ للإنسان من الأسباب ما يعينه على القيام بحمده والثّناء عليه بما هو أهله .
والتّحميد تارةً يكون واجباً كما في خطبة الجمعة . وتارةً يكون سنّةً مؤكّدةً كما هو بعد العطاس . وتارةً يكون مندوباً كما في خطبة النّكاح ، وفي ابتداء الدّعاء ، وفي ابتداء كلّ أمر ذي بال ، وبعد كلّ أكل وشرب ونحو ذلك . وتارةً يكون مكروهاً كما في الأماكن المستقذرة . وتارةً يكون حراماً كما في الفرح بالمعصية . وتفصيل ذلك كما يأتي :
التّحميد في خطبتي الجمعة :
5 - التّحميد في خطبتي الجمعة مطلوب شرعاً ، على خلاف بين الفقهاء في فرضيّته أو ندبه . والبداءة به فيهما مستحبّة ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « كلّ كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم » ، ولما روى جابر رضي الله عنه « أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب النّاس يحمد اللّه ويثني عليه بما هو أهله » .
والتّفصيل في ( صلاة الجمعة ) .
التّحميد في خطبة النّكاح :
6 - يستحبّ التّحميد في خطبة النّكاح قبل إجراء العقد ، لما ورد فيها من لفظه عليه الصلاة والسلام : « الحمد للّه نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا ، من يهده اللّه فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله { يا أيّها النّاسُ اتَّقُوا ربَّكم الّذي خَلَقَكم منْ نفسٍ واحدةٍ وَخَلَقَ منها زوجَها وَبثَّ منهما رِجَالاً كثيراً ونساءً واتَّقُوا اللّهَ الّذي تَسَاءلُونَ به والأرحامَ إنَّ اللّهَ كان عليكم رَقِيباً } { يا أيّها الّذين آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حقَّ تُقَاتِه ولا تَمُوتُنَّ إلاّ وأَنْتُم مسلمونَ } { يا أيّها الّذين آمنوا اتَّقُوا اللّهَ وقُولُوا قولاً سَديداً يُصْلِحْ لكم أعمالَكم ويَغْفِرْ لكم ذنوبَكم ومن يُطِعِ اللّهَ ورسولَه فقد فازَ فوزاً عظيماً } » .
التّحميد في افتتاح الصّلاة :
7 - التّحميد في افتتاح الصّلاة - وهو المعبّر عنه بدعاء الاستفتاح - سنّة : فقد « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصّلاة كبّر ، ثمّ رفع يديه حتّى يحاذي بإبهاميه أذنيه ، ثمّ يقول : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » وذلك متّفق عليه بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
والتّحميد عند استواء الرّفع من الرّكوع في الصّلاة واجب عند الحنابلة ، لما روى الدّارقطنيّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريدة رضي الله عنه : يا بريدة إذا رفعت رأسك من الرّكوع فقل : سمع اللّه لمن حمده ، ربّنا ولك الحمد » وسنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة للمأموم والمنفرد ، فإنّهما يجمعان بين التّسميع والتّحميد ، ويكتفي المأموم بالتّحميد اتّفاقاً للأمر به ، لما روى أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الإمام : سمع اللّه لمن حمده ، فقولوا : ربّنا ولك الحمد » ولما في صحيح البخاريّ عن رفاعة بن رافع الزّرقيّ رضي الله عنه قال : « كنّا يوماً نصلّي وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا رفع رأسه من الرّكعة قال : سمع اللّه لمن حمده فقال رجل وراءه : ربّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه . فلمّا انصرف قال : من المتكلّم ؟ قال : أنا . قال : رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها . أيّهم يكتبها أوّل » .
وهذا التّحميد بعد قول الإمام أو قول الفرد : سمع اللّه لمن حمده ، مندوب عند المالكيّة .
التّحميد لمن فرغ من الصّلاة عقيب التّسليم :(132/1)
8 - هو مستحبّ عند الشّافعيّة . لما روى ابن الزّبير رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يهلّل في إثر كلّ صلاة فيقول : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، ولا نعبد إلاّ إيّاه ، وله النّعمة ، وله الفضل ، وله الثّناء الحسن ، لا إله إلاّ اللّه ، مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون » .
وسنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من سبّح اللّه في دبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين ، وكبّر اللّه ثلاثاً وثلاثين ، فتلك تسعة وتسعون ، وقال في تمام المائة : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر » .
ويسنّ عندهم أن يقول بعد ذلك : « اللّهمّ أعِنّي على ذِكْرك وشُكرك وحُسْنِ عبادتِك » ويختم ذلك بقوله : « سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد للّه ربّ العالمين » وزاد الحنابلة على ما استدلّوا به الحديث الّذي استدلّ به الشّافعيّة . والأولى البدء بالتّسبيح لأنّه من باب التّخلية ، ثمّ التّحميد لأنّه من باب التّحلية ، ثمّ التّكبير لأنّه تعظيم .
التّحميد في صلاة العيدين بعد التّحريمة :
9 - هو سنّة عند الحنفيّة للإمام والمؤتمّ ، فيثني ويحمد مستفتحاً " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك " وذلك مقدّم على تكبيرات الزّوائد .
وهو سنّة بين التّكبيرات عند الحنابلة ، فيقول بينها : اللّه أكبر كبيراً ، والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً ، وصلّى اللّه على محمّد النّبيّ وآله وسلّم تسليماً كثيراً .
لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : « سألت ابن مسعود رضي الله عنه عمّا يقوله بين تكبيرات العيد ؟ قال : يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يدعو ويكبّر » .
التّحميد في صلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة :
10 - التّحميد في خطبة صلاة الاستسقاء سنّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، ومستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة . وهو صلاة الجنازة بعد التّكبيرة الأولى سنّة عند الحنفيّة . فيقول المصلّي : سبحانك اللّهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك .
التّحميد في تكبيرات التّشريق :
11 - التّحميد في تكبيرات التّشريق سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فيقول كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اللّه أكبر اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر وللّه الحمد » . وقد روي أنّه صلى الله عليه وسلم « قال على الصّفا : اللّه أكبر . اللّه أكبر . اللّه أكبر . اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً ، لا إله إلاّ اللّه ولا نعبد إلاّ إيّاه ، مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون ، لا إله إلاّ اللّه وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر » . والجمع بين التّكبير والتّهليل والتّحميد في أيّام التّشريق أفضل وأحسن عند المالكيّة ، فيقول إن أراد الجمع : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر . اللّه أكبر ، وللّه الحمد . وقد روي عن مالك هذا .
التّحميد للعاطس في غير صلاة :
12 - اتّفق العلماء على أنّه يسنّ للعاطس إذا عطس أن يحمد اللّه ، فيقول عقبه : الحمد للّه . ولو قال : الحمد للّه ربّ العالمين ، أو الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه . وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك اللّه » وعنه رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه على كلّ حال » وعن أنس رضي الله عنه قال : « عطس رجلان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشَمَّتَ أحدَهما ، ولم يشمّت الآخر . فقال الّذي لم يشمّته : عطس فلان فشمَّتَّه ، وعطستُ فلم تُشَمِّتْني ؟ فقال : هذا حمد اللّه تعالى ، وإنّك لم تحمد اللّه تعالى » . وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا عطس أحدكم فحمد اللّه تعالى فشمّتوه ، فإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه } .
التّحميد للخارج من الخلاء بعد قضاء حاجته :
13 - وهو مندوب عند المالكيّة والشّافعيّة ، وسنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، فيقول : « غفرانك » « الحمد للّه الّذي أذهب عنّي الأذى وعافاني » .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول : الحمد للّه الّذي أذاقني لذّته ، وأبقى في قوّته ، وأذهب عنّي أذاه » .
التّحميد لمن أكل أو شرب :
14 - هو مستحبّ لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشّربة فيحمده عليها » .(132/2)
ولما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال : الحمد للّه الّذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين » وروى معاذ بن أنس الجهنيّ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل طعاماً فقال : الحمد للّه الّذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ولما روى أبو أيّوب خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال : الحمد للّه الّذي أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجاً » . ولما روى عبد الرّحمن بن جبير التّابعيّ « أنّه حدّثه رجل خدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات أنّه كان يسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرّب إليه طعاماً يقول : بسم اللّه . فإذا فرغ من طعامه قال : اللّهمّ أطعمتَ وسقيتَ وأغنيتَ وأقنيتَ وهديتَ وأحسنتَ ، فلك الحمد على ما أعطيت » .
التّحميد لمن سمع بشارةً تسرّه ، أو تجدّدت له نعمة ، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة :
15 - يستحبّ للشّخص أن يحمده سبحانه ، ويثني عليه بما هو أهله ، وفي هذا قول اللّه تبارك وتعالى : { الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحَزَن } وهو ما يقوله أهل الجنّة .
وفي قصّة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام { وقالا الحمد للّه الّذي فَضَّلَنا على كثير من عباده المؤمنين } . وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { الحمد للّه الّذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } . وفي صحيح البخاريّ أنّ عمر رضي الله عنه أرسل ابنه عبد اللّه إلى عائشة رضي الله عنها يستأذنها أن يدفن مع صاحبيه . فلمّا أقبل عبد اللّه قال عمر : ما لديك ؟ قال : الّذي تحبّ يا أمير المؤمنين ، أذنت . قال : الحمد للّه ، ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك . وعن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن ، فنظر إليهما ، فأخذ اللّبن ، فقال له جبريل عليه السلام : الحمد للّه الّذي هداك للفطرة ، لو أخذت الخمر غَوَتْ أمّتك » .
التّحميد للقائم من المجلس :
16 - التّحميد للقائم من المجلس مستحبّ . فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من جلس في مجلس فَكَثُر فيه لَغَطُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك » .
التّحميد في أعمال الحجّ :
17 - التّحميد في أعمال الحجّ مستحبّ ، وممّا أثر من صيغه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند الملتَزَم قوله : « اللّهمّ لك الحمد حمداً يوافي نعمك ، ويكافئ مزيدك ، أحمدك بجميع محامدك ، ما علمت منها وما لم أعلم وعلى كلّ حال . اللّهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد . اللّهمّ أعذني من الشّيطان الرّجيم ، وأعذني من كلّ سوء ، وقنّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه . اللّهمّ اجعلني من أكرم وفدك عليك ، وألزمني سبيل الاستقامة حتّى ألقاك يا ربّ العالمين » .
التّحميد لمن لبس ثوباً جديداً :
18 - التّحميد لمن لبس ثوباً جديداً مستحبّ . فعن معاذ بن أنس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من لبس ثوباً جديداً فقال : الحمد للّه الّذي كساني هذا ، ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه » .
التّحميد لمن استيقظ من نومه :
19 - التّحميد لمن استيقظ من نومه مستحبّ . فقد « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا استيقظ : الحمد للّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا ، وإليه النّشور » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا استيقظ أحدكم فليقل : الحمد للّه الّذي ردّ عليّ روحي ، وعافاني في جسدي ، وأذن لي بذكره » .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد يقول عند ردّ اللّه تعالى روحه : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير إلاّ غفر اللّه تعالى له ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر » .
التّحميد لمن يأوي إلى فراشه :
20 - التّحميد لمن يأوي إلى فراشه للنّوم مستحبّ . « فعن عليّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة رضي الله عنهما : إذا أويتما إلى فراشكما ، أو إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا ثلاثاً وثلاثين ، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين » وفي رواية التّسبيح « أربعاً وثلاثين » . وفي رواية التّكبير « أربعاً وثلاثين » .
قال عليّ فما تركته منذ سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
التّحميد لمن يشرع في الوضوء ، ولمن فرغ منه :
21 - التّحميد في الوضوء مستحبّ . فيقول المتوضّئ بعد التّسمية : الحمد للّه الّذي جعل الماء طهوراً . وروي عن السّلف ، وقيل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في لفظها : « باسم اللّه العظيم ، والحمد للّه على دين الإسلام » .
والتّحميد لمن فرغ من الوضوء مستحبّ . فيقول بعد الفراغ منه : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله . اللّهمّ اجعلني من التّوّابين ، واجعلني من المتطهّرين . سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . وقال صلى الله عليه وسلم : « من توضّأ فأسبغ الوضوء ثمّ قال عند فراغه من وضوئه : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش ، فلم يكسر إلى يوم القيامة » .
التّحميد للمسئول عن حاله :(132/3)
22 - والتّحميد للمسئول عن حاله مستحبّ . ففي صحيح البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ عليّاً رضي الله عنه خرج من عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وجعه الّذي توفّي فيه ، فقال النّاس : يا أبا حسن : كيف أصبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أصبح بحمد اللّه تعالى بارئاً » .
23 - كذلك التّحميد لمن رأى مبتلًى بمرض أو غيره مستحبّ . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من رأى مبتلًى فقال : الحمد للّه الّذي عافاني ممّا ابتلاك به ، وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلاً ، لم يصبه ذلك البلاء » .
قال النّوويّ : قال العلماء : ينبغي أن يقول هذا الذّكر سرّاً بحيث يسمع نفسه ، ولا يَسْمعه المبتلى لئلاّ يتألّم قلبه بذلك ، إلاّ أن تكون بليّته معصيةً فلا بأس أن يسمعه ذلك إن لم يخف من ذلك مفسدةً .
24- كذلك التّحميد لمن دخل السّوق مستحبّ . فعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من دخل السّوق فقال : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير ، كتب اللّه له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيّئة ، ورفع له ألف ألف درجة » .
التّحميد لمن عطس في الصّلاة :
25 - التّحميد لمن عطس في الصّلاة مكروه إذا جهر به عند الحنفيّة والحنابلة ، ولا بأس به إن أسرّ به في نفسه من غير تلفّظ . وحرام عند الشّافعيّة ، لما روى معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال : « بينما أنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك اللّه ، فحدّقني القوم بأبصارهم . فقلت : واثكل أمّاه ما لكم تنظرون إليّ ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم ، فلمّا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعاني ، بأبي وأمّي هو ، ما رأيت معلّماً أحسن تعليماً منه ، واللّه ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثمّ قال : إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميّين ، إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » . هذا ويكره التّحميد لمن يقضي حاجته في الخلاء وعطس ، إلاّ أن يكون ذلك في نفسه من غير تلفّظ به بلسانه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كرهتُ أن أذكر اللّه تعالى إلاّ على طهر » .(132/4)
تحويل *
التّعريف :
1 - التّحويل لغةً : مصدر حوّل الشّيء ، وتدور معانيه على النّقل والتّغيير والتّبديل .
وحوّلته تحويلاً : نقلته من موضع إلى موضع ، وحوّلت الرّداء : نقلت كلّ طرف إلى موضع الآخر .
والحَوالة : بالفتح مأخوذة من النّقل ، فتقول : أحلته بدينه أي : نقلته إلى ذمّة أخرى .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معانيه اللّغويّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّقل :
2 - النّقل : تحويل الشّيء من موضع إلى موضع ، والأصل فيه النّقل من مكان إلى مكان . وقد يستعمل في الأمور المعنويّة ، كالنّقل من صفة إلى صفة ، وكنقل اللّفظ من الاستعمال الحقيقيّ إلى الاستعمال المجازيّ .
ب - التّبديل والإبدال والتّغيير :
3 - وهي أن يجعل مكان الشّيء شيء آخر ، أو تحوّل صفته إلى صفة أخرى .
ومن هنا يتبيّن أنّ هذه الألفاظ متقاربة في المعنى ، إلاّ أنّ التّحويل لا يستعمل في تبديل ذات بذات أخرى .
أحكام التّحويل :
أ - تحويل النّيّة في الوضوء :
4 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ النّيّة من فروض الوضوء .
وذهب الحنابلة إلى أنّها شرط في صحّته .
وذهب الحنفيّة إلى أنّها سنّة مؤكّدة ، وليست شرطاً في صحّة الوضوء ، وإنّما هي شرط في وقوعه عبادةً . فمن حيث الجملة إذا حوّل النّيّة في الوضوء من نيّة رفع الحدث إلى نيّة التّبرّد أو التّنظّف ، فلا أثر لذلك في إفساد الوضوء عند الحنفيّة ، لعدم اعتبارهم النّيّة فرضاً . وإنّما يظهر أثر التّحويل في عدم اعتبار الوضوء عبادةً ، وفي هذا يقول ابن عابدين : الصّلاة تصحّ عندنا بالوضوء ، ولو لم يكن منويّاً ، وإنّما تسنّ النّيّة في الوضوء ليكون عبادةً ، فإنّه بدونها لا يسمّى عبادةً مأموراً بها .. وإن صحّت به الصّلاة .
فالوضوء مع النّيّة أو بدونها أو مع تحويلها صحيح باعتباره شرطاً لصحّة الصّلاة ، وإن كان لا يصحّ عبادة بدون النّيّة أو مع تحويلها .
أمّا المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : فيظهر أثر تحويل النّيّة عندهم في إفساد الوضوء وعدم اعتباره شرعاً من حيث الجملة . وفي ذلك تفصيل : فعند المالكيّة : رفض النّيّة في أثناء الوضوء لا يضرّ ، إذا رجع وكمّله بالنّيّة الأولى على الفور ، بأن ينوي رفع الحدث - على الرّاجح عندهم - أمّا إذا لم يكمّله أو كمّله بنيّة أخرى كنيّة التّبرّد أو التّنظيف ، فإنّه يبطل بلا خلاف ، وكذلك لو أكمله بالنّيّة الأولى ، ولكن بعد طول فصل ، فإنّه يبطل .
وعند الشّافعيّة : من نوى نيّةً صحيحةً ثمّ نوى بغسل الرّجل - مثلاً - التّبرّد أو التّنظّف فله حالان :
الحالة الأولى : أن لا تحضره نيّة الوضوء في حال غسل الرّجل ، ففيه وجهان :
الوجه الأوّل ، وهو الصّحيح : أنّه لا يصحّ غسل الرّجلين .
والوجه الثّاني : أنّه يصحّ لبقاء حكم النّيّة الأولى .
الحالة الثّانية : أن تحضره نيّة الوضوء مع نيّة التّبرّد - كما لو نوى أوّل الطّهارة الوضوء مع التّبرّد - ففيه وجهان :
الوجه الأوّل ، وهو الصّحيح : أنّ الوضوء صحيح ، لأنّ نيّة رفع الحدث حاصلة .
الوجه الثّاني : لا يصحّ غسل الرّجلين ، وذلك لتشريكه بين قربة وغيرها .
وأمّا عند الحنابلة : فإنّ من غسل بعض أعضائه بنيّة الوضوء ، وغسل بعضها بنيّة التّبرّد ، فلا يصحّ إلاّ إذا أعاد فعل ما نوى به التّبرّد بنيّة الوضوء ، بشرط أن لا يفصل فصلاً طويلاً فيكون وضوءه صحيحاً ، وذلك لوجود النّيّة مع الموالاة .
فإن طال الفصل بحيث تفوت الموالاة بطل الوضوء لفواتها .
ب - تحويل النّيّة في الصّلاة :
5 - للفقهاء في أثر تحويل النّيّة تفصيل :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ الصّلاة لا تبطل بنيّة الانتقال إلى غيرها ولا تتغيّر ، بل تبقى كما نواها قبل التّغيير ، ما لم يكبّر بنيّة مغايرة ، بأن يكبّر ناوياً النّفل بعد الشّروع في الفرض أو عكسه ، أو الاقتداء بعد الانفراد وعكسه ، أو الفائتة بعد الوقتيّة وعكسه .
ولا تفسد حينئذ إلاّ إن وقع تحويل النّيّة قبل الجلوس الأخير بمقدار التّشهّد ، فإن وقع بعده وقبيل السّلام لا تبطل . وعند المالكيّة : نقل النّيّة سهواً من فرض إلى فرض آخر أو إلى نفل سهواً ، دون طول قراءة ولا ركوع ، مغتفر .
قال ابن فرحون من المالكيّة : إنّ المصلّي إن حوّل نيّته من فرض إلى نفل ، فإن قصد بتحويل نيّته رفع الفريضة ورفضها بطلت ، وإن لم يقصد رفضها لم تكن نيّته الثّانية منافيةً للأولى . لأنّ النّفل مطلوب للشّارع ، ومطلق الطّلب موجود في الواجب ، فتصير نيّة النّفل مؤكّدةً لا مخصّصةً .
وعند الشّافعيّة : لو قلب المصلّي صلاته الّتي هو فيها صلاةً أخرى عالماً عامداً بطلت ، فإن كان له عذر صحّت صلاته ، وانقلبت نفلاً .
وذلك كظنّه دخول الوقت ، فأحرم بالفرض ، ثمّ تبيّن له عدم دخول الوقت فقلب صلاته نفلاً ، أو قلب صلاته المنفردة نفلاً ليدرك جماعةً . لكن لو قلبها نفلاً معيّناً كركعتي الضّحى لم تصحّ . أمّا إذا حوّل نيّته بلا سبب أو غرض صحيح فالأظهر عندهم بطلان الصّلاة .
وعند الحنابلة : أنّ بطلان الصّلاة مقيّد بما إذا حوّل نيّته من فرض إلى فرض ، وتنقلب في هذه الحال نفلاً . وإن انتقل من فرض إلى نفل فلا تبطل ، لكن تكره ، إلاّ إن كان الانتفال لغرض صحيح فلا تكره ، وفي رواية : أنّها لا تصحّ ، كمن أدرك جماعةً مشروعةً وهو منفرد ، فسلم من ركعتين ليدركها ، فإنّه يسنّ له أن يقلبها نفلاً ، وأن يسلّم من ركعتين ، لأنّ نيّة الفرض تضمّنت نيّة النّفل ، فإذا قطع نيّة الفرض بقيت نيّة النّفل .(133/1)
ومن هذا التّفصيل يتبيّن اتّفاق الفقهاء على أنّ تحويل نيّة الصّلاة من نفل إلى فرض لا أثر له في نقلها ، وتظلّ نفلاً ، وذلك لأنّ فيه بناء القويّ على الضّعيف ، وهو غير صحيح .
ج - تحويل النّيّة في الصّوم :
6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة : إلى أنّ صوم الفرض لا يبطل بنيّة الانتقال إلى النّفل ، ولا ينقلب نفلاً . وهذا عند الشّافعيّة على الأصحّ من وجهين في المذهب .
وعلى الوجه الآخر ، ينقلب نفلاً إذا كان في غير رمضان ، أمّا في رمضان فلا يقبل النّفل ، لأنّ شهر رمضان يتعيّن لصوم فرض رمضان ولا يصحّ فيه غيره .
ونصّ الشّافعيّة على ى أنّ من كان صائماً عن نذر ، فحوّل نيّته إلى كفّارة أو عكسه ، لا يحصل له الّذي انتقل إليه - بلا خلاف عندهم - لأنّ من شرط الكفّارة التّبييت من اللّيل .
أمّا الصّوم الّذي نواه أوّلاً فعلى وجهين : الأوّل : يبقى على ما كان ولا يبطل .
الثّاني : يبطل . ولا ينقلب نفلاً على الأظهر . ويقابله : أنّه ينقلب نفلاً إذا كان في غير رمضان . ولكلّ من المالكيّة والحنابلة تفصيل :
أمّا المالكيّة : فذهبوا إلى أنّ من تحوّلت نيّته إلى نافلة ، وهو في فريضة ، فإن فعل هذا عبثاً عمداً فلا خلاف - عندهم - أنّه يفسد صومه . أمّا إن فعله سهواً فخلاف في المذهب .
أمّا عند الحنابلة : فإن نوى خارج رمضان قضاءً ، ثمّ حوّل نيّة القضاء إلى النّفل بطل القضاء لقطعه نيّته ، ولم يصحّ نفلاً لعدم صحّة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء ، كذا في الإقناع ، وأمّا في الفروع والتّنقيح والمنتهى فيصحّ نفلاً ، وإن كان في صوم نذر أو كفّارة فقطع نيّته ثمّ نوى نفلاً صحّ .
ونصّ الحنابلة على أنّ من قلب نيّة القضاء إلى النّفل بطل القضاء ، وذلك لتردّده في نيّته أو قطعها ، ولم يصحّ النّفل لعدم صحّة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء .
د - تحويل المحتضر إلى القبلة :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ تحويل المحتضر إلى القبلة مندوب ، وذلك بأن يوجّه إلى القبلة على شقّه الأيمن ، إلاّ إذا تعسّر ذلك لضيق الموضع ، أو لأيّ سبب آخر ، فيلقى على قفاه ، ورجلاه إلى القبلة . ودليل تحويله إلى القبلة : حديث أبي قتادة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور رضي الله عنه فقالوا : توفّي ، وأوصى بثلثه لك يا رسول اللّه ، وأوصى أن يوجّه إلى القبلة لمّا احتضر . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أصاب الفطرة ، وقد رددت ثلثه على ولده ، ثمّ ذهب فصلّى عليه ، وقال : اللّهمّ اغفر له ، وارحمه ، وأدخله جنّتك . وقد فعلت » .
هـ – تحويل الرّداء في الاستسقاء :
8 - ذهب الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومحمّد من الحنفيّة وهو المفتى به عندهم - إلى استحباب تحويل الرّداء في الاستسقاء ، وخالف أبو حنيفة ، فلا يحوّل الرّداء عنده في الاستسقاء . لأنّه دعاء لا صلاة فيه عنده . وعن أبي يوسف روايتان .
ومعنى تحويل الرّداء : أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر ، وبالعكس .
وذهب الشّافعيّة - على القول الجديد الصّحيح عندهم - إلى استحباب التّنكيس كذلك . وهو : أن يجعل أعلى الرّداء أسفله وبالعكس ، خلافاً للمالكيّة والحنابلة فإنّهم لا يقولون بالتّنكيس. ومحلّ تحويل الرّداء عند التّوجّه إلى القبلة للدّعاء ، وهو عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أثناء الخطبة . وعند المالكيّة بعد الفراغ من الخطبتين . ودليل تحويل الرّداء من السّنّة : حديث عبد اللّه بن زيد رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي ، فتوجّه إلى القبلة يدعو وحوّل رداءه ، ثمّ صلّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة » .
وقد قيل : إنّ الحكمة من تحويل الرّداء التّفاؤل بتغيير الحال إلى الخصب والسّعة .
ويستحبّ تحويل الرّداء للإمام والمأمومين عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للحنفيّة فلا يحوّل رداءه إلاّ الإمام في القول المفتى به .
و - تحويل الدّين :
9 - عرّف الفقهاء الحوالة بالدّين تعريفات متقاربةً ، منها : تحوّل الحقّ من ذمّة إلى ذمّة أخرى في المطالبة . ومنها : نقل الدّين وتحويله من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه . ومشروعيّتها ثابتة بالإجماع . ومستندها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم ، وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع » .
ويظهر أثر الحوالة في نقل المال المحال به من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه .
فيبرأ بالحوالة المحيل عن دين المحال ، ويبرأ المحال عليه عن دين المحيل ، ويتحوّل حقّ المحال إلى ذمّة المحال عليه ، هذا في الحوالة المقيّدة ، وهي الأغلب حيث يكون المحيل دائناً للمحال عليه . أمّا في الحوالة المطلقة ، وهي : إذا لم يكن المحيل دائنا للمحال عليه ، فإنّ البراءة تحصل للمحيل فقط . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( حوالة ) .(133/2)
تحوّل *
التّعريف :
1 - التّحوّل في اللّغة مصدر تحوّل ، ومعناه : التّنقّل من موضع إلى آخر ، ومن معانيه أيضاً : الزّوال ، كما يقال : تحوّل عن الشّيء أي : زال عنه إلى غيره .
وكذلك : التّغيّر والتّبدّل . والتّحويل مصدر حوّل ، وهو : النّقل ، فالتّحوّل مطاوع وأثر للتّحويل . ويقصد الفقهاء بالتّحوّل ما يقصد به في اللّغة .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستحالة :
2 - من معاني الاستحالة لغةً : تغيّر الشّيء عن طبعه ووصفه ، أو عدم الإمكان . فالاستحالة قد تكون بمعنى التّحوّل ، كاستحالة الأعيان النّجسة من العذرة والخمر والخنزير وتحوّلها عن أعيانها وتغيّر أوصافها ، وذلك بالاحتراق ، أو بالتّخليل ، أو بالوقوع في شيء ، كما سيأتي تفصيله .
أحكام التّحوّل :
للتّحوّل أحكام تعتريه ، وهي تختلف باختلاف مواطنها ، أهمّها ما يلي :
أ - تحوّل العين وأثره في الطّهارة والحلّ :
3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى : أنّ نجس العين يطهر بالاستحالة ، فرماد النّجس لا يكون نجساً ، ولا يعتبر نجساً ملح كان حماراً أو خنزيراً أو غيرهما ، ولا نجس وقع في بئر فصار طيناً ، وكذلك الخمر إذا صارت خلّاً سواء بنفسها أو بفعل إنسان أو غيره ، لانقلاب العين ، ولأنّ الشّرع رتّب وصف النّجاسة على تلك الحقيقة ، فينتفي بانتقائها . فإذا صار العظم واللّحم ملحاً أخذا حكم الملح ، لأنّ الملح غير العظم واللّحم .
ونظائر ذلك في الشّرع كثيرة منها : العلقة فإنّها نجسة ، فإذا تحوّلت إلى المضغة تطهر ، والعصير طاهر فإذا تحوّل خمراً ينجس .
فيتبيّن من هذا : أنّ استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتّب عليها .
والأصل عند الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب : أنّ نجس العين لا يطهر بالاستحالة ، فالكلب أو غيره يلقى في الملّاحة فيصير ملحاً ، والدّخان المتصاعد من وقود النّجاسة ، وكذلك البخار المتصاعد منها إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ، ثمّ قطّر ، نجس .
4 - ثمّ استثنوا من ذلك الخمر إذا انقلبت بنفسها خلّاً فتطهر بالتّخلّل ، لأنّ علّة النّجاسة الإسكار وقد زالت ، ولأنّ العصير لا يتخلّل إلاّ بعد التّخمّر غالباً ، فلو لم يحكم بالطّهارة تعذّر الحصول على الخلّ ، وهو حلال بالإجماع .
وأمّا إن خلّلت بطرح شيء فيها بفعل إنسان فلا تطهر عندهم .
وصرّح الشّافعيّة بأنّها لو تخلّلت بإلقاء الرّيح فلا تطهر عندهم أيضاً ، سواء أكان له دخل في التّخليل كبصل وخبز حارّ ، أم لا كحصاة . وكذلك لا فرق بين أن تكون العين الملقاة طاهرةً أو نجسةً . وفي الموضوع تفصيل أكثر يرجع فيه إلى مصطلح : ( تخليل واستحالة ) .
ب - تطهير الجلد بالدّباغ :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلد الميتة قبل الدّباغ ، وإنّما اختلفوا في طهارته بعده على اتّجاهات كثيرة . وفي الموضوع فروع كثيرة وخلاف بين المذاهب ، فصّله الفقهاء عند الكلام عن النّجاسة وكيفيّة تطهيرها ، ويراجع فيه أيضاً مصطلح : ( دباغة ) .
ج - تحوّل الوصف أو الحالة :
تحوّل الماء الرّاكد إلى الماء الجاري :
6 - المختار عند الحنفيّة أنّ الماء النّجس الرّاكد إذا تحوّل إلى جار يطهر بمجرّد جريانه ، والجاري ما يعدّه النّاس جارياً بأن يدخل الماء من جانب ويخرج من جانب آخر حال دخوله ، وإن قلّ الخارج ، لأنّه صار جارياً حقيقةً ، وبخروج بعضه وقع الشّكّ في بقاء النّجاسة ، فلا تبقى مع الشّكّ . وفيه قولان ضعيفان عند الحنفيّة .
الأوّل : لا يطهر بمجرّد التّحوّل ، بل لا بدّ من خروج قدر ما فيه .
والثّاني : لا بدّ من خروج ثلاثة أمثاله .
ويظهر الفرق بين القول المختار والقولين الآخرين في : أنّ الخارج من الحوض يكون طاهراً بمجرّد خروجه ، بناءً على القول المختار . ولا يكون طاهراً قبل الحكم بطهارة الماء الرّاكد على القولين الآخرين . وعلى هذا الخلاف : البئر وحوض الحمّام والأواني .
وأمّا المالكيّة فعندهم يتحوّل الماء الكثير النّجس طهوراً بزوال التّغيّر ، سواء أكان بصبّ ماء مطلق عليه ، قليل أو كثير ، أو ماء مضاف مقيّد انتفت نجاسته ، أم بإلقاء شيء فيه كتراب أو طين ، ولم يظهر فيه أحد أوصاف ما ألقي فيه .
لأنّ تنجّسه إنّما كان لأجل التّغيّر وقد زال ، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً ، كالخمر إذا صارت خلّاً ، وفي تغيّره بنفسه ، أو بنزح بعضه قولان .
ومذهب الشّافعيّة : أنّ الماء إذا بلغ قلّتين لا ينجس بملاقاة نجس ، لحديث « إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ » أي لا يقبل النّجس . هذا ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه فينجس لحديث : « إنّ الماء طَهورٌ لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونَه أو طعمَه أو ريحَه » .
فإن تغيّر وصف من هذه الأوصاف تنجّس ، فإن زال تغيّره بنفسه أو بماء انضمّ إليه طهر . وما دون القلّتين ينجس بالملاقاة ، فإن بلغهما بماء ولا تغيّر به فطهور .
ولو كوثر بإيراد طهور فلم يبلغ قلّتين لم يطهر . وقيل : هو طاهر لا طهور .
وعند الحنابلة : يختلف تطهير الماء المتنجّس بالمكاثرة باختلاف أحوال ثلاث للماء : أن يكون دون القلّتين ، أو وفق القلّتين ، أو زائداً عنهما .
- 1 - فإن كان دون القلّتين فتطهيره بالمكاثرة بماء آخر .(134/1)
فإن اجتمع نجس إلى نجس ، فالكلّ نجس وإن كثر ، لأنّ اجتماع النّجس إلى النّجس لا يتولّد بينهما طاهر ، كالمتولّد بين الكلب والخنزير ، ويتخرّج أن يطهر إذا زال التّغيّر وبلغ القلّتين ، لحديث : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث » وحديث : « إنّ الماء طهور لا ينجّسه شيء إلاّ ماء غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » . وجميع النّجاسات في هذا سواء ، إلاّ بول الآدميّين وعذرتهم المائعة ، فإنّ أكثر الرّوايات عن أحمد أنّها تنجّس الماء الكثير ، إلاّ أن يبلغ حدّاً لا يمكن نزحه كالغدران ، فذلك الّذي لا ينجّسه شيء .
- 2 - فإن كان وفق القلّتين : وإن كان غير متغيّر فيطهر بالمكاثرة المذكورة .
وإن كان متغيّراً يطهر بالمكاثرة إذا أزالت التّغيّر ، أو بتركه حتّى يزول تغيّره بطول المكث . - 3 - وإن كان أكثر من القلّتين : فإن كان نجساً بغير التّغيّر فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة . وإن كان نجساً متغيّراً بالنّجاسة فتطهيره إمّا بالمكاثرة ، أو زوال تغيّره بمكثه ، أو أن ينزح منه ما يزول به التّغيّر ، ويبقى بعد ذلك قلّتان فصاعداً .
وفي الموضوع تفصيل يرجع إليه في مصطلح : ( طهارة ) .
التّحوّل إلى القبلة أو عنها :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ المصلّي إذا كان معايناً للكعبة ، ففرضه الصّلاة إلى عينها بجميع بدنه ، بأن لا يخرج شيء منه عن الكعبة ولو عضواً ، فلو تحوّل بغير عذر إلى جهة أخرى بطلت صلاته . وأمّا في تحويل الوجه : فذهب الحنفيّة إلى أنّه لو انحرف وجهه عن عين الكعبة انحرافاً لا تزول فيه المقابلة بالكلّيّة ، جاز مع الكراهة .
وأمّا تحويل الصّدر عن القبلة بغير عذر فمفسد للصّلاة . وعند المالكيّة والحنابلة : من التفت بجسده كلّه عن القبلة لم تفسد صلاته ، إن بقيت قدماه إلى القبلة .
ويرى الشّافعيّة أنّ التّحوّل إلى جهة أخرى عامداً مبطل للصّلاة ، وإن فعله ناسياً لم تبطل . وفي الموضوع خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح : ( استقبال ) .
التّحوّل من القيام إلى القعود في الصّلاة :
8 - التّحوّل من القيام إلى القعود ، ومنه إلى الاستلقاء أو الاضطجاع من فروع قاعدة :
" المشقّة تجلب التّيسير " والأصل فيها قوله تعالى : { يُريدُ اللّهُ بكم اليُسْرَ ولا يُريدُ بكم العُسْر } وقوله تعالى : { وما جَعَلَ عليكم في الدّينِ من حَرَجٍ } ، ولذلك أجمع أهل العلم على أنّ من لا يطيق القيام ، وتعذّر عليه قبل الصّلاة أو أثناءها حقيقةً أو حكماً ، بأن خاف زيادة مرض ، أو بطء برئه ، أو دوران رأسه ، أو وجد لقيامه ألماً شديداً ونحوه ، له أن يصلّي جالساً ، وإن لم يستطع أومأ مستلقياً ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جَنْب » زاد النّسائيّ : « فإن لم تستطع فمستلقياً » . ويزاد في النّافلة : أنّ له التّحوّل من القيام إلى القعود بلا عذر .
وفي الموضوع تفصيل يرجع فيه إلى كتاب الصّلاة عند الكلام في صلاة المريض .
تحوّل المقيم إلى مسافر وعكسه :
أ - تحوّل المقيم إلى مسافر :
9 - يصير المقيم مسافراً بأحد أمرين :
أوّلهما : إذا جاوز بيوت مقامه ، وجاوز ما اتّصل به من توابع البلد بنيّة السّفر ، قاصداً المسافة الّتي يتحقّق بها السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام . والمعتبر في النّيّة نيّة المتبوع لا التّابع ، حتّى تصير الزّوجة مسافرةً بنيّة الزّوج ، والجنديّ بنيّة القائد ، وكلّ من لزمه طاعة غيره كالسّلطان وأمير الجيش .
ثانيهما : إذا أنشأ السّير بعد الإقامة . ولتفصيل الموضوع يرجع إلى ( صلاة المسافر ) .
ب - تحوّل المسافر إلى مقيم :
10 - يصير المسافر مقيماً بأحد الأمور التّالية :
الأوّل : العود إلى الوطن الأصليّ ، ولو لم ينو الإقامة فيه .
والضّبط فيه : أن يعود إلى الموضع الّذي شرط الفقهاء مفارقته في إنشاء السّفر منه . الثّاني : الوصول إلى الموضع الّذي يسافر إليه ، إذا عزم على الإقامة فيه القدر المانع من التّرخّص ، وكان صالحاً للإقامة . والمدّة المانعة من التّرخّص خلافيّة يرجع فيها إلى ( صلاة المسافر ) .
الثّالث : إذا تزوّج المسافر ببلد ، وإن لم يتّخذه وطناً ، ولم ينو الإقامة .
الرّابع : نيّة الإقامة في الطّريق : ولا بدّ فيه من أربعة أشياء : نيّة الإقامة ، ونيّة مدّة الإقامة ، واتّحاد المكان ، وصلاحيّته للإقامة .
وأمّا المفازة ونحوها ففي انقطاع السّفر بنيّة الإقامة فيها خلاف وتفصيل ينظر في ( صلاة المسافر ) .
الخامس : الإقامة بطريق التّبعيّة : وهو أن يصير الأصل مقيماً ، فيصير التّبع أيضاً مقيماً ، بإقامة الأصل .
التّحوّل عن الواجب إلى البدل :
الكلام على التّحوّل عن الواجب إلى البدل يكون في مواضع منها :
أ - الزّكاة :
11 - ذهب الحنفيّة إلى جواز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في الزّكاة ، وإليه ذهب الأوزاعيّ والثّوريّ ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصريّ .
فيجوز للمالك أن يدفع العين أو القيمة من النّقدين والعروض وغير ذلك ، ولو مع وجود المنصوص عليه ، لقوله تعالى : { خُذْ من أموالِهم صَدَقَةً } .
نصّ على أنّ المراد بالمأخوذ ( صدقةً ) وكلّ جنس يأخذه فهو صدقة . ولقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم : « ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصّدقة مكان الشّعير والذّرة ، أهون عليكم وخير لأصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وكان يأتي به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليه » .(134/2)
والفقه فيه : أنّ المقصود إيصال الرّزق الموعود إلى الفقير ، ودفع حاجة المسكين ، وهو يحصل بالقيمة أيضاً . قال عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه تعالى فرض على الأغنياء قوت الفقراء ، وسمّاه زكاةً » .
وفي اعتبار القيمة هل تدفع القيمة يوم الأداء أم يوم الوجوب ؟ خلاف يرجع فيه إلى موطنه. وأمّا عند المالكيّة والحنابلة : فيجوز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في الدّنانير والدّراهم فقط ، فيجوز للمزكّي أن يخرج في زكاة الدّنانير دراهم بقيمتها ، ويخرج عن الفضّة ذهباً بقيمته ، قلّت القيمة أو كثرت ، لأنّ ذلك معاوضة في حقّه ، فكانت بالقيمة كسائر المعاوضات ، وهما كجنس واحد . ولم يجز ذلك الشّافعيّة .
وأمّا في المواشي : فعند الحنفيّة جائز ، بناءً على قاعدتهم بجواز القيمة في كلّ شيء .
وهو الصّحيح عند الشّافعيّة . ويكره عند المالكيّة التّحوّل عن الواجب إلى البدل ، لما في ذلك من معنى الرّجوع في الصّدقة ، ولئلاّ تكون القيمة أقلّ ممّا عليه ، فيكون قد بخس الفقراء حقّهم ، إلاّ إذا أجبر السّاعي المزكّي على أن يأخذ منه دراهم فيما وجب عليه من صدقته ، فيجزئ عنه ، إذا كان فيه وفاء بقيمة ما وجب عليه ، وكان عند محلّها .
وفي وجه عند الشّافعيّة : لا يجزئ إن نقصت قيمته عن قيمة الشّاة . ووجه ثالث : أنّه إن كانت الإبل مراضاً ، أو قليلة القيمة لعيب أجزأ البعير النّاقص عن قيمة الشّاة ، وإن كانت صحاحاً سليمةً لم يجزئ النّاقص . وفي الموضوع تفصيل يرجع إليه في ( الزّكاة ) .
وأمّا الحنابلة فلا يجوز عندهم التّحوّل في الماشية من جنس إلى آخر ولا إلى القيمة .
ب - زكاة الفطر :
12 - التّحوّل عن العين إلى القيمة في صدقة الفطر لا يجوز عند المالكيّة والشّافعيّة ، وكذلك في ظاهر المذهب عند الحنابلة . ويجوز عند الحنفيّة .
وأمّا التّحوّل من جنس إلى آخر من أجناس الأقوات ، أو التّحوّل من الأدنى إلى الأعلى وعكسه ففيه خلاف وتفصيل ينظر في ( زكاة الفطر ) .
ج - العشور :
13 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم جواز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في العشور . وذهب الحنفيّة إلى جواز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في العشور ، وذلك للأدلّة الّتي سبق ذكرها ، وكذلك يجوز التّحوّل من الواجب إلى الأعلى فقط عند الشّافعيّة إذا كانت الحبوب والثّمار نوعاً واحداً .
وإن اختلفت الأنواع : أخذ الواجب من كلّ نوع بالحصّة إن لم يتعسّر ، فإن عسر أخذ الواجب من كلّ نوع بأن كثرت ، وقلّ ثمرها ففيه أوجه :
الوجه الأوّل ، وهو الصّحيح : أنّه يخرج من الوسط رعايةً للجانبين .
والثّاني : يؤخذ من كلّ نوع بقسطه .
والثّالث : من الغالب ، وقيل : يؤخذ الوسط قطعاً .
وفي الموضوع تفصيل ينظر في مصطلح : ( عشر ) .
د - الكفّارات :
14 - ذهب الجمهور إلى أنّه لا يجوز التّحوّل عن الواجب المنصوص عليه إلى غيره في الكفّارات ، فإن كان معيّناً تعيّن ، وإن كان مخيّراً تخيّر في الخصال الّتي نصّ عليها الشّارع. ويرى الحنفيّة جواز التّحوّل عن الواجب إن كان ماليّاً إلى البدل في الكفّارات .
وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر إليه في مصطلح : ( كفّارات ) .
هـ - النّذور :
15 - المذهب عند المالكيّة والحنابلة ، وهو الوجه الصّحيح لدى الشّافعيّة : أنّ من نذر نذراً معيّناً وغير مطلق فعليه إخراجه ممّا عيّنه ، ولا يجوز العدول عن المعيّن إلى غيره بدلاً أو قيمةً . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( النّذر ) .
ويرى الحنفيّة جواز ذلك مطلقاً ، كما يجوز عندهم العدول عن الواجب إلى القيمة في النّذور ، واستثنوا نذر العتق والهدي والأضحيّة .
تحوّل فريضة الصّوم إلى فدية :
16 - اتّفق عامّة الفقهاء على أنّ الشّيخ الهرم الّذي لا يطيق الصّوم ، أو تلحقه به مشقّة شديدة لا صوم عليه ، واختلفوا في وجوب الفدية عليه :
فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وقول غير مشهور عند المالكيّة : إلى أنّه تجب عليه الفدية .
ويرى المالكيّة في المشهور من المذهب ، وهو غير الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه لا فدية عليه . وفي وجوب الفدية على الحامل والمرضع خافت على نفسها أو ولدها ، والمريض الّذي لا يرجى برؤه خلاف وتفصيل ، يرجع فيه إلى مصطلح : ( صوم وفدية ) .
تحوّل العقد الّذي لم تستكمل شرائطه إلى عقد آخر :
17 - ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر من المذهب عند الشّافعيّة : إلى أنّ الهبة إذا كانت بشرط العوض يصحّ العقد ويتحوّل إلى بيع ، فيثبت فيه الخيار والشّفعة ، ويلزم قبل القبض ، ويردّ بالعيب وخيار الرّؤية .
وفي قول للشّافعيّة : يبطل العقد ، لأنّه شرط في الهبة ما ينافي مقتضاها .
وذهب المالكيّة إلى : أنّ هبة الثّواب بيع ابتداءً ، ولذا لا تبطل بموت الواهب قبل حيازة الهبة ، ولا يجوز أن يثاب عن الذّهب فضّةً أو العكس ، لما يلزم عليه من الصّرف المؤخّر ، ما لم يحدث التّقابض في المجلس . وفي كون العوض معلوماً أو مجهولاً ، وكذلك في كونها بيعاً ابتداءً أو انتهاءً تفصيل يرجع فيه إلى مصطلح : ( هبة ) .
ولتحوّل العقد الّذي لم تستكمل شرائطه إلى عقد آخر أمثلة أخرى منها : تحوّل المضاربة الصّحيحة إلى وكالة بالنّسبة لتصرّفات المضارب ، ولذلك يرى جمهور الفقهاء في الجملة : أنّ تصرّفات المضارب منوطة بالمصلحة كالوكيل .
وإلى شركة إن ربح المضارب ، وإلى إجارة فاسدة إن فسدت .
ومنها : تحوّل السّلم إلى بيع مطلقاً ، إذا كان المسلم فيه عيناً في قول عند الشّافعيّة . وإلى هبة لو قال : بعت بلا ثمن ، والأظهر البطلان .(134/3)
ومنها : تحوّل الاستصناع سلماً إذا ضرب فيه الأجل عند بعض الحنفيّة ، حتّى تعتبر فيه شرائط السّلم . وفي كلّ من الأمثلة المتقدّمة خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحات ( عقد ، وسلم ، ومضاربة ، وشركة ، واستصناع ) .
تحوّل العقد الموقوف إلى نافذ :
18 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول للشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة : إلى أنّ بيع الفضوليّ ينعقد موقوفاً على إجازة المالك ، فإذا أجازه المالك أصبح نافذاً ، وإلاّ فلا ، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه .
وذهب الشّافعيّة في القول الجديد ، وهو رواية أخرى عند الحنابلة إلى : أنّ هذا البيع باطل ويجب ردّه ، وإليه ذهب أبو ثور وابن المنذر . وقد فصّل القائلون بانعقاد بيع الفضوليّ الكلام حوله ، ويرجع فيه إلى مصطلحات : ( عقد ، وموقوف ، وفضوليّ ) .
تحوّل الدّين الآجل إلى حالّ :
يتحوّل الدّين الآجل إلى حالّ في مواطن منها :
أ - الموت :
19 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة : إلى أنّ الدّين الآجل يتحوّل بالموت إلى حالّ ، لانعدام ذمّة الميّت وتعذّر المطالبة . وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ ، والثّوريّ . وذهب الحنابلة في رواية أخرى : إلى أنّه لا يحلّ إذا وثّقه الورثة ، وهو قول ابن سيرين وعبد اللّه بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد أيضاً . وفي لحاق المرتدّ بدار الحرب هل يتقرّر موته ، وتثبت الأحكام المتعلّقة به ؟ خلاف بين الفقهاء ينظر في مواطنه من كتب الفقه ، ومصطلح : ( ردّة ) . ومصطلح أجل ( ف :95 ج 2 ) .
ب - التّفليس :
20 - المتبادر من أقوال أبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة القائلين بجواز الحجر للإفلاس ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة : أنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بالتّفليس ، لأنّ الأجل حقّ للمفلّس فلا يسقط بفلسه ، كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ماله ، فلا يوجب حلول ما عليه .
وأمّا عند أبي حنيفة فلا يتأتّى هذا ، لأنّه لا يجوز عنده الحجر على الحرّ العاقل البالغ بسبب الدّين . وذهب المالكيّة ، وكذلك الشّافعيّة في قول ، وهو رواية عند الحنابلة ذكرها أبو الخطّاب إلى : أنّ من حجر عليه لإفلاسه يتحوّل دينه الآجل إلى حالّ ، لأنّ التّفليس يتعلّق به الدّين بالمال ، فيسقط الأجل كالموت . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حجر ) .
تحوّل الوقف عند انقطاع الموقوف عليه :
21 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّ التّأبيد شرط في الوقف ، وأنّ الوقف الّذي لا خلاف في صحّته : ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع ، مثل أن يجعل نهايته إلى جهة لا تنقطع ، كأن يجعل آخره على المساكين ، أو طائفة منهم ، فإنّه يمتنع بحكم العادة انقراضهم . واختلفوا فيما لو انقطع الموقوف عليهم : فذهب أبو يوسف والمالكيّة ، وهو قول عند الشّافعيّة ، ورأي للحنابلة : إلى أنّه يرجع إلى الواقف ، أو إلى ورثته ، إلاّ أن يقول : صدقة موقوفة ينفق منها على فلان ، وعلى فلان فإذا انقرض المسمّى كانت للفقراء والمساكين . والأظهر عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة : أنّه يبقى وقفاً ، وينصرف إلى أقرب النّاس إلى الواقف . وهناك أقوال أخرى عند الشّافعيّة في مصرف هذا النّوع من الوقف .
ويرجع إلى تفصيل الموضوع في مصطلح : ( وقف ) .
تحوّل الملكيّة العامّة من الإباحة إلى الملكيّة الخاصّة وعكسه :
22 - قد تتحوّل الملكيّة من العامّة إلى الخاصّة بأيّ سبب من أسباب التّملّك ، كالإقطاع من أراضي بيت المال .
فللإمام أن يعطي الأرض من بيت المال على وجه التّمليك ، كما يعطي المال حيث رأى المصلحة ، إذ لا فرق بين الأرض والمال في الدّفع للمستحقّ . وراجع مصطلح : ( إقطاع ) . ويتحوّل الملك الخاصّ إلى العامّ إذا مات عنه أربابه ، ولم يستحقّه وارثه بفرض ولا تعصيب ، فينتقل إلى بيت المال ميراثاً لكافّة المسلمين . وذكر أبو يعلى أنّه ينتقل إلى بيت المال مصروفاً في مصالح المسلمين ، لا على طريق الميراث .
ويتحوّل الملك الخاصّ إلى عامّ ، في نحو البيت المملوك إذا احتيج إليه للمسجد ، أو توسعة الطّريق ، أو للمقبرة ونحوها من مصالح المسلمين ، بشرط التّعويض .
تحوّل الولاية في عقد النّكاح :
23 - تتحوّل الولاية من الوليّ الأقرب إلى الوليّ الأبعد في مواطن منها :
- إذا فقد الوليّ الأقرب ، وكذلك إذا أسر أو حبس .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الولاية تتحوّل من الوليّ الأقرب إلى الأبعد .
وأمّا الشّافعيّة فالولاية عندهم تنتقل إلى الحاكم .
- ومنها غيبة الوليّ ، فإذا غاب الوليّ غيبةً منقطعةً تنتقل الولاية من الأقرب إلى الأبعد عند الحنفيّة والحنابلة . وعند المالكيّة تنتقل إلى الحاكم ، لأنّ الحاكم وليّ الغائب . وكذلك عند الشّافعيّة ، إلاّ إذا حكم القاضي بموت الوليّ الأقرب وقسّم ماله بين ورثته ، فتنتقل عندهم إلى الأبعد . ومنها : العضل ، وهو : منع الوليّ مولّيته من زواج الكفء . فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد : إلى أنّ الوليّ الأقرب إذا عضلها انتقلت الولاية إلى السّلطان ، وهو اختيار أبي بكر رضي الله عنه . وذكر ذلك عن عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه وشريح . وذهب الحنابلة في المنصوص من المذهب إلى أنّها تنتقل إلى الأبعد . وانظر لتفصيل ذلك والخلاف فيه مصطلح : ( ولاية النّكاح ) .
تحوّل حقّ الحضانة :(134/4)
24 - الأصل في الحضانة أنّ الأمّ أولى النّاس بحضانة الطّفل إذا كملت الشّروط ، لما روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما « أنّ امرأةً قالت : يا رسول اللّه ، إنّ ابني هذا كان بطني له وِعاءً ، وثديي له سِقاءً ، وحجري له حِواءً ، وإنّ أباه طلّقني ، وأراد أن ينزعه منّي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أنت أحقّ به ما لم تَنْكحي » .
فإن لم تكن الأمّ من أهل الحضانة لفقدان جميع الشّروط فيها أو بعضها ، أو امتنعت من الحضانة ، فهي كالمعدومة ، وتنتقل الحضانة إلى من يليها ، وهكذا تتحوّل من الأقرب إلى الأبعد في الاستحقاق . على تفصيل ينظر في مصطلح : ( حضانة ) .
تحوّل المعتدّة من عدّة الطّلاق إلى عدّة الوفاة :
25 - إذا مات الزّوج والمرأة في عدّة طلاقه ، فإن كان الطّلاق رجعيّاً سقطت عنها عدّة الطّلاق ، وانتقلت إلى عدّة الوفاة ، أي أربعة أشهر وعشرة أيّام من حين الوفاة ، بلا خلاف. قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ، وذلك لأنّ المطلّقة رجعيّاً زوجة يلحقها طلاقه ، وينالها ميراثه ، فعليها أن تعتدّ عدّة الوفاة .
وإذا مات مطلّق البائن ، وهي في العدّة ، وكان الطّلاق في حال صحّته ، أو طلّقها بطلبها ، بنت على مدّة الطّلاق ، وهذا بالاتّفاق . أمّا إذا طلّقها في مرض موته بغير طلب منها ، فهذه خلافيّة : فذهب أبو حنيفة وأحمد والثّوريّ ومحمّد بن الحسن إلى أنّها تعتدّ بأبعد الأجلين احتياطاً لشبهة قيام الزّوجيّة ، باعتبار إرثها منه . وذهب مالك والشّافعيّ وأبو عبيد وأبو يوسف وابن المنذر إلى أنّها تبني على عدّة الطّلاق لانقطاع الزّوجيّة من كلّ وجه .
تحوّل العدّة من الأشهر إلى الأقراء وعكسه :
أ - تحوّل العدّة من الأشهر إلى الأقراء :
26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الصّغيرة الّتي لم تحض ، وكذلك البالغة الّتي لم تحض ، إذا اعتدّت ببعض الأشهر ، فحاضت قبل انقضاء عدّتها ، أنّ عدّتها تتحوّل من الأشهر إلى الأقراء ، وذلك لأنّ الشّهور بدل عن الأقراء ، وقد ثبتت القدرة على المبدل ، والقدرة على المبدل ، قبل حصول المقصود بالبدل تبطل حكم البدل كالقدرة على الوضوء في حقّ المتيمّم ، فيبطل حكم الأشهر ، وتنتقل عدّتها إلى الأقراء .
وكذا الآيسة إذا اعتدّت ببعض الأشهر ، ثمّ رأت الدّم ، فتتحوّل عدّتها إلى الأقراء عند بعض الحنفيّة ، وذلك على الرّواية الّتي لم يقدّروا فيها للإياس سنّاً معيّنةً . وكذلك عند الشّافعيّة . وأمّا عند المالكيّة : فإذا رأت الدّم بعد الخمسين وقبل السّبعين - وكذلك عند الحنابلة بعد الخمسين وقبل السّتّين - يكون دماً مشكوكاً فيه يرجع فيه إلى النّساء .
إلاّ أنّ ابن قدامة من الحنابلة قال : إنّ المرأة إن رأت الدّم بعد الخمسين على العادة الّتي كانت تراه فيها ، فهو حيض على الصّحيح . وذهب الحنفيّة على الرّواية الّتي وقّتوا للإياس فيها وقتاً : إلى أنّ ما رأته من الدّم بعدها ليس بحيض في ظاهر المذهب ، إلاّ إذا كان دماً خالصاً فحيض ، حتّى يبطل به الاعتداد بالأشهر .
ولتفصيل الموضوع يرجع إلى مصطلحي : ( إياس ، وعدّة ) .
27 - وأمّا من انقطع حيضها بعد أن رأت الدّم ، وقبل أن تبلغ سنّ اليأس - وهي المرتابة - فذهب جميع الفقهاء إلى أنّه إذا كان انقطاع الدّم بسبب معروف كرضاع ونفاس أو مرض يرجى برؤه ، فإنّها تصبر حتّى تحيض ، فتعتدّ بالأقراء ، أو تبلغ سنّ اليأس ، فتعتدّ بالأشهر بعد سنّ اليأس ، ولا عبرة بطول مدّة الانتظار ، لأنّ الاعتداد بالأشهر جُعل بعد اليأس بالنّصّ ، فلم يجز الاعتداد بالأشهر قبله .
أمّا من انقطع حيضها لا لعلّة تعرف . فذهب المالكيّة ، وهو قول للشّافعيّ في القديم ، وهو المذهب عند الحنابلة : إلى أنّها تتربّص تسعة أشهر ، ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهر ، فهذه سنة . وعلّلوه بأنّ الأغلب في مدّة الحمل تسعة أشهر ، فإذا مضت تبيّنت براءة الرّحم ، فتعتدّ بالأشهر ، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ أيضاً ، وقضى به عمر بمحضر من الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين . وروي عن الشّافعيّ في القديم أيضاً أنّها تتربّص ستّة أشهر ثمّ ثلاثةً ، وروي عنه أيضاً في القديم : أنّها تتربّص أربع سنين ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهر .
تحوّل الأرض العشريّة إلى خراجيّة والعكس :
28 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأرض الخراجيّة لا تصير عشريّةً أصلاً ، وكذلك لا تتحوّل الأرض العشريّة إلى خراجيّة . وذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنّ الأرض العشريّة تتحوّل إلى خراجيّة إذا اشتراها ذمّيّ .
وفي كتاب الخراج لأبي يوسف : للإمام أن يصيّر الأرض العشريّة خراجيّةً ، والخراجيّة عشريّةً ، إلاّ ما كان من أرض الحجاز والمدينة ومكّة واليمن ، فإنّ هنالك لا يقع خراج ، فلا يحلّ للإمام أن يغيّر ذلك ، ولا يحوّله عمّا جرى عليه أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحكمه . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلحات : ( أرض ، وعشر ، وخراج ) .
تحوّل المستأمن إلى ذمّيّ :
29 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ غير المسلم لا يمكّن من الإقامة سنةً في دار الإسلام ، فإذا أقام فيها سنةً أو أكثر تفرض عليه الجزية ، ويصير بعدها ذمّيّاً . وظاهر المتون في المذهب الحنفيّ أنّ قول الإمام : إن أقمت سنةً أو أقلّ من ذلك وضعنا عليك الجزية ، شرط لصيرورته ذمّيّاً ، فعلى هذا لو أقام سنةً ، أو أكثر من غير أن يقول الإمام له ذلك لا يصير ذمّيّاً .(134/5)
وكذلك يتحوّل المستأمن إلى ذمّيّ بالتّبعيّة : كما لو دخل مع امرأته ، ومعهما أولاد صغار وكبار ، فصار ذمّيّاً ، فالصّغار تبع له بخلاف الكبار . وتترتّب على صيرورة المستأمن ذمّيّاً أحكام عدّة ، يرجع لتفصيلها إلى مصطلحي : ( أهل الذّمّة ، ومستأمن ) .
تحوّل المستأمن إلى حربيّ :
30 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المستأمن يصير حربيّاً بأمور :
- إذا لحق بدار الحرب ، ولو بغير بلده بنيّة الإقامة ، فإن دخل تاجراً أو رسولاً أو متنزّهاً ، أو لحاجة يقضيها ، ثمّ يعود إلى دار الإسلام ، فهو على أمانه في نفسه وماله .
- وإذا نقض الأمان : كأن يقاتل عامّة المسلمين أو يغلب على قرية أو حصن لأجل حربنا ، أو يقدم على عمل مخالف لمقتضى الأمان ، انتقض عهده وصار حربيّاً . وفيما ينتقض به الأمان والعهد خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحي : ( أهل الحرب ومستأمن ) .
تحوّل الذّمّيّ إلى حربيّ :
31 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الذّمّيّ يتحوّل إلى حربيّ باللّحاق بدار الحرب مختاراً طائعاً والإقامة فيها ، أو بنقض عهد ذمّته ، فيحلّ دمه وماله . وفي محاربته جوازاً أو وجوباً - بعد بلوغ مأمنه - خلاف بينهم ، وكذلك فيما ينتقض به عقد الذّمّة تفصيل ينظر في مصطلحي : ( أهل الحرب ، وأهل الذّمّة ) .
تحوّل الحربيّ إلى مستأمن :
32 - يصير الحربيّ مستأمناً بالحصول على أمان ممّن له حقّ إعطاء الأمان ، على خلاف بين الفقهاء ذكر في مواطنه من كتب الفقه ، وانظر أيضاً مصطلحي : ( أمان ، ومستأمن ) .
تحوّل دار الإسلام إلى دار الحرب وعكسه :
33 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه متى ارتدّ أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صارت الدّار دار حرب ، وعلى الإمام قتالهم بعد الإنذار والإعذار ، لأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قاتل أهل الرّدّة بجماعة الصّحابة .
34 - وذهب أبو حنيفة إلى أنّ دار الإسلام لا تصير دار حرب إلاّ بأمور ثلاثة :
أ - أن تجري فيها أحكام أهل الشّرك على الاشتهار ، وأن لا يحكم فيها بحكم أهل الإسلام ، أمّا لو أجريت أحكام المسلمين ، وأحكام أهل الشّرك ، فلا تكون دار حرب .
ب - أن تكون متاخمةً ( أي مجاورةً ) لدار الحرب ، بأن لا تتخلّل بينهما بلدة من بلاد الإسلام .
ج - أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمّيّ آمناً بالأمان الأوّل الّذي كان ثابتاً قبل استيلاء الكفّار ، للمسلم بإسلامه ، وللذّمّيّ بعقد الذّمّة . وأمّا أبو يوسف ومحمّد فيقولان بشرط واحد لا غير ، وهو : إظهار حكم الكفر ، وهو القياس . وتترتّب على دار الرّدّة أحكام ، اختلف الفقهاء فيها ، تنظر في مظانّها ، وفي مصطلح : ( ردّة ) .
35 - وتتحوّل دار الحرب إلى إسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها كجمعة وعيد ، وإن بقي فيها كافر أصليّ ، وإن لم تتّصل بدار الإسلام .
التّحوّل من دين إلى آخر :
36 - التّحوّل من دين إلى آخر ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : التّحوّل من دين باطل إلى دين باطل ، وهو على ثلاثة أضرب : لأنّه إمّا أن يكون مِنْ دين يُقَرُّ أهله عليه إلى ما يقرّ أهله عليه ، كتهوّد نصرانيّ أو عكسه .
وإمّا أن يكون ممّا يقرّ عليه إلى ما لا يقرّ عليه ، كانتقال يهوديّ أو نصرانيّ إلى الوثنيّة . وإمّا أن يكون ممّا لا يقرّ عليه إلى ما يقرّ عليه ، كتهوّد وثنيّ أو تنصّره .
ففي هذه الحالات هل يقرّ على ما انتقل إليه بالجزية أم لا ؟ خلاف وتفصيل ينظر في مواطنه من كتب الفقه ، وانظر أيضاً مصطلحي : ( تبديل ، وردّة ) .
القسم الثّاني : التّحوّل من دين الإسلام إلى باطل ، وهو ردّة المسلم - والعياذ باللّه - فلا يقبل منه إلاّ الإسلام . وتفصيله في مصطلح : ( ردّة ) .
والقسم الثّالث : التّحوّل من دين باطل إلى الإسلام ، فتترتّب عليه أحكام مختلفة تنظر في مظانّها من كتب الفقه ، وفي المصطلحات الخاصّة ، وينظر أيضاً مصطلحي : ( تبديل ، إسلام ) .(134/6)
تحيّة *
التّعريف :
1 - التّحيّة مصدر حيّاه يحيّيه تحيّةً ، أصله في اللّغة : الدّعاء بالحياة ، ومنه " التّحيّات للّه " أي البقاء ، وقيل : الملك ، ثمّ كثر حتّى استعمل في ما يحيّا به من سلام ونحوه ، وتحيّة اللّه الّتي جعلها في الدّنيا والآخرة لمؤمني عباده السّلام ، فقد شرع لهم إذا تلاقوا ودعا بعضهم لبعض بأجمع الدّعاء أن يقولوا : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته . قال اللّه تعالى : { وإذا حُيِّيتُم بِتحيّةٍ فحيّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها } .
واستعمل الفقهاء عبارة ( التّحيّة ) في غير السّلام لتحيّة المسجد .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - حكم التّحيّة النّدب بلا خلاف بين جمهور الفقهاء ، وهي تختلف في الأداء كما يلي :
أ - التّحيّة بين الأحياء :
3 - أجمع العلماء على أنّ الابتداء بالسّلام سنّة مرغّب فيها ، وردّه فريضة لقوله تعالى :
{ وإذا حُيِّيتُم بتحيّةٍ فَحَيُّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها } . وللتّفصيل ر : ( سلام ) .
ب - تحيّة الأموات :
4 - تحيّة من في القبور السّلام ، فإذا مرّ المسلم بالقبور أو زارها استحبّ أن يقول ما ورد وهو : « السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لَلاحقون ، نسأل اللّه لنا ولكم العافية » وفي حديث عائشة : « ويرحم اللّه المستقدمين منّا ، والمستأخرين » .
ج - تحيّة المسجد :
5 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يسنّ لكلّ من يدخل مسجداً غير المسجد الحرام - يريد الجلوس به لا المرور فيه ، وكان متوضّئاً - أن يصلّي ركعتين أو أكثر قبل الجلوس . والأصل فيه حديث رواه أبو قتادة رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يركع ركعتين » ومن لم يتمكّن منهما لحدث أو غيره يقول ندباً : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم . فإنّها تعدل ركعتين كما في الأذكار ، وهي الباقيات الصّالحات ، والقرض الحسن . ويسنّ لمن جلس قبل الصّلاة أن يقوم فيصلّي ، لما روى جابر رضي الله عنه قال : « جاء سليك الغطفانيّ ، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما » فإنّها لا تسقط بالجلوس .
كما أنّه لا خلاف بينهم في أنّ تحيّة المسجد تتأدّى بفرض أو نفل .
6- وأمّا إذا تكرّر دخوله ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة - إن قرب رجوعه له عرفاً - والشّافعيّة في قول مقابل الأصحّ عندهم : إلى أنّه تكفيه لكلّ يوم مرّةً .
والأصحّ عند الشّافعيّة تكرّر التّحيّة بتكرّر الدّخول على قرب كالبعد .
وإذا كانت المساجد متلاصقةً ، فتسنّ التّحيّة لكلّ واحد منها .
7 - وكذلك اختلف الفقهاء بالنّسبة لمن دخل المسجد والإمام يخطب : فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يجلس ويكره له أن يركع ركعتين ، لقوله تعالى : { فاستمِعُوا له وأَنْصِتُوا } ، والصّلاة تفوّت الاستماع والإنصات ، فلا يجوز ترك الفرض لإقامة السّنّة ، وإليه ذهب شريح ، وابن سيرين والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ واللّيث .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يركع ركعتين يوجز فيهما ، لحديث سليك الغطفانيّ المتقدّم . وبهذا قال الحسن وابن عيينة ومكحول وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر .
د - تحيّة الكعبة :
8 - إذا وصل المحرم مكّة ودخل المسجد ورأى البيت ، يرفع يديه ويقول : « اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ، وزد من شرّفه وعظّمه ممّن حجّه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً » . لحديث رواه الشّافعيّ والبيهقيّ ويقول : « اللّهمّ أنت السّلام ، ومنك السّلام فحيّنا ربّنا بالسّلام » . وعند الحنفيّة يقول ذلك ، ولكن لا يرفع يديه .
هـ – تحيّة المسجد الحرام :
9 – ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تحيّة المسجد الحرام الطّواف للقادم لمكّة ، سواء كان تاجراً أو حاجّاً أو غيرهما ، لقول عائشة رضي الله عنها عنها : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم مكّة توضّأ ، ثمّ طاف بالبيت » وركعتا تحيّة المسجد الحرام تجزئ عنهما الرّكعتان بعد الطّواف .
إلاّ إذا كان للدّاخل فيه عذر مانع ، أو لم يرد الطّواف ، فيصلّي ركعتين إن لم يكن وقت كراهة . وإذا خاف فوات المكتوبة أو جماعتها ، أو الوتر ، أو سنّةً راتبةً قدّمها على الطّواف ، إلاّ أنّه لا تحصل بها تحيّة المسجد الحرام ، بخلاف سائر المساجد .
10 - وأمّا المكّيّ الّذي لم يؤمر بطواف ، ولم يدخله لأجل الطّواف ، بل للصّلاة أو لقراءة القرآن أو للعلم ، فتحيّة المسجد الحرام في حقّه الصّلاة ، كتحيّة سائر المساجد . ونصّ أحمد على أنّ الطّواف لغريب أفضل من الصّلاة في المسجد الحرام .
وعن ابن عبّاس : أنّ الطّواف لأهل العراق ، والصّلاة لأهل مكّة ، وإليه ذهب عطاء .
وينظر للتّفصيل مصطلح : ( طواف ) .
و - تحيّة المسجد النّبويّ :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ من دخل المسجد النّبويّ يستحبّ له أن يقصد الرّوضة إن تيسّر له - وهي ما بين القبر والمنبر - ويصلّي ركعتين تحيّة المسجد بجنب المنبر ، لحديث جابر قال : « جاء سليك ... » ثمّ يأتي قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويقول : السّلام عليك يا رسول اللّه، ثمّ يسلّم على أبي بكر رضي الله عنه ، ثمّ على عمر رضي الله عنه .
حكم التّحيّة بغير السّلام للمسلم :(135/1)
12 - ذهب عامّة العلماء إلى أنّ التّحيّة بغير السّلام للمسلم ، كنحو : صبّحك اللّه بالخير ، أو السّعادة ، أو طاب حماك ، أو قوّاك اللّه ، من الألفاظ الّتي يستعملها النّاس في العادة لا أصل لها ، ولا يجب الرّدّ على قائلها ، لكن لو دعا له مقابل ذلك كان حسناً .
13 - كما أنّ عامّة أهل العلم يرون أنّ الرّدّ على من حيّا بغير السّلام غير واجب ، سواء أكانت تحيّته بلفظ ، أم بإشارة بالإصبع ، أو الكفّ أو الرّأس ، إلاّ إشارة الأخرس أو الأصمّ ، فيجب الرّدّ بالإشارة مع اللّفظ ، ليحصل به الإفهام ، لأنّ إشارته قائمة مقام العبارة .
14 - وأمّا الرّدّ بغير السّلام على من ألقى السّلام ، فعامّة أهل العلم يرون أنّه لا يجزئ ، ولا يسقط الرّدّ الواجب ، لأنّه يجب أن يكون بالمثل . لقوله تعالى : { وإذا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بأَحْسَنَ منها أو رُدُّوها } .
حكم التّحيّة بالسّلام لغير المسلم :
15 - حكم التّحيّة لغير المسلم بالسّلام عليكم ممنوع على سبيل الحرمة أو الكراهة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تبدءوا اليهود ولا النّصارى بالسّلام ، وإذا سلّموا هم على مسلم قال في الرّدّ : وعليكم . ولا يزيد على هذا » .
16 - قال ابن القيّم : هذا كلّه إذا تحقّق أنّه قال : السّام عليكم ، أو شكّ فيما قال ، فلو تحقّق السّامع أنّ الذّمّيّ قال له : " سلام عليكم " لا شكّ فيه ، فهل له أن يقول : وعليك السّلام ، أو يقتصر على قوله : وعليك ؟ فالّذي تقتضيه الأدلّة الشّرعيّة وقواعد الشّريعة أن يقال له : وعليك السّلام ، فإنّ هذا من باب العدل ، واللّه يأمر بالعدل والإحسان ، وقد قال تعالى : { وإذا حُيِّيتُم بِتَحيّةٍ فَحَيُّوا بِأَحسنَ منها أو رُدُّوها } .
فندب إلى الفضل ، وأوجب العدل ، ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما ، فإنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أمر بالاقتصار على قول الرّادّ " وعليكم " ، بناءً على السّبب المذكور الّذي كانوا يعتمدونه في تحيّتهم ، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال « ألا ترينني قلت : وعليكم ، لمّا قالوا : السّام عليكم . ثمّ قال : إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم »
والاعتبار وإن كان لعموم اللّفظ فإنّما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه . قال تعالى { وإذا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بما لمْ يُحَيِّكَ به اللّهُ ، ويقولونَ في أَنْفُسِهم لولا يُعَذِّبُنا اللّهُ بما نقولُ } فإذا زال هذا السّبب وقال الكتابيّ : سلام عليكم ورحمة اللّه ، فالعدل في التّحيّة يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه . وباللّه التّوفيق .
17 - وأمّا حكم التّحيّة بغير السّلام للكافر ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة ، وبعض الشّافعيّة والحنابلة : أنّها مكروهة ما لم تكن لعذر ، أو غرض كحاجة أو جوار أو قرابة ، فإذا كانت لعذر فلا كراهة فيها .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة في الرّاجح عندهم ، إلى حرمة تحيّة الكفّار ولو بغير السّلام .(135/2)
تختّم *
التّعريف :
1 - التّختّم مصدر تختّم ، يقال : تختّم بالخاتم أي لبسه ، وأصله الثّلاثيّ ختم .
ومن معاني الختم أيضاً : الأثر الحاصل عن النّقش ، ويتجوّز به في الاستيثاق من الشّيء والمنع منه ، اعتباراً لما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب .
وختم الشّيء : إنهاؤه ، ومنه : ختم القرآن وخاتم الرّسل ، ومنه قوله تعالى : { ما كانَ محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالِكم ولكنْ رسولَ اللّهِ وخاتَمَ النّبيّين } أي : آخرهم ، لأنّه ختمت به النّبوّة والرّسالات . ومن المجاز : لبس الخاتم ، وهو حليّ للأصبع ، كالخاتم - بكسر التّاء - ويطلق على الخاتم أيضاً والخاتم والختم والخاتام والخيتام ، وثمّة ألفاظ أخرى مشتقّة من هذه المادّة بالمعنى نفسه ، وصل بعضهم بها إلى عشرة ألفاظ .
والخاتم من الحليّ كأنّه أوّل وهلة ختم به ، فدخل بذلك في باب الطّابع ، ثمّ كثر استعماله لذلك ، وإن أعدّ الخاتم لغير الطّبع . ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّختّم عن معناه اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّزيّن :
2 - التّزيّن : مصدر تزيّن ، يقال : تزيّنت المرأة : أي لبست الزّينة أو اتّخذتها ، وتزيّنت الأرض بالنّبات : أي حسنت وبهجت ، والزّينة اسم جامع لما يتزيّن به ، ومعنى الزّينة عند الرّاغب : ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدّنيا ولا في الآخرة ، وهي نفسيّة وبدنيّة وخارجيّة . والتّزيّن أعمّ من التّختّم ، لأنّه يكون بالتّختّم وبغيره .
ب - الفَتْخَة :
3 - الفتخة قريبة في المعنى والاستعمال من الخاتم ، فهي مثله من الحليّ ، وقد تعدّدت الأقوال في معناها . فقيل : هي خاتم كبير يكون في اليد والرّجل ، وقيل : هي كالخاتم أيّاً كان ، وقيل : هي خاتم يكون في اليد والرّجل بفصّ وبغير فصّ ، وقيل . هي حلقة تلبس في الأصبع كالخاتم ، وقيل : هي حلقة من فضّة لا فصّ فيها ، فإذا كان فيها فصّ فهي الخاتم ، وروي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير قول اللّه تعالى : { ولا يُبْدِيْنَ زِينَتَهنَّ إلاّ ما ظَهَرَ منها } أنّها قالت : المراد بالزّينة في الآية القلب والفتخة ، وقالت : الفتخ : حلق من فضّة يكون في أصابع الرّجلين ، قال ابن برّيّ : حقيقة الفتخة أن تكون في أصابع الرّجلين . فيتّفق الخاتم والفتخة في أنّه يتزيّن بكلّ منهما ، ويختلفان في موضع لبس كلّ منهما ، وفي المادّة الّتي يصنع منها ، وفي شكله .
ج - التّسوّر :
4 - التّسوّر مصدر تسوّر ، ويأتي في اللّغة بمعنى العلوّ والتّسلّق ، يقال : تسوّرت الحائط إذا علوته وتسلّقته ، وبمعنى التّزيّن بالسّوار والتّحلّي به ، يقال : سوّرته أي ألبسته السّوار من الحليّ فتسوّر ، وفي الحديث : « أَيَسُرُّكَ أنْ يُسَوِّرَكَ اللّهُ بهما يومَ القيامةِ سوارين من نار » . فيتّفق التّختّم مع التّسوّر في أنّهما من الزّينة ، ويختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس .
د - التّدملج :
5 - التّدملج مصدر تدملج ، يقال : تدملج أي لبس الدّملج - بفتح اللام وضمّها - أو الدّملوج وهو المعضّد من الحليّ ، وهو ما يلبس في العضد ، ويقال أيضاً : ألقى عليه دماليجه . فالتّدملج كالتّختّم في أنّه يتزيّن بكلّ منهما ، غير أنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس .
هـ - التّطوّق :
6 - التّطوّق مصدر تطوّق ، يقال : تطوّق أي لبس الطّوق ، وهو حليّ للعنق ، وكلّ شيء استدار فهو طوق ، كطوق الرّحى الّذي يدير القطب ونحو ذلك .
فالتّطوّق كالتّختّم في أنّه يتحلّى ويتزيّن بكلّ منهما ، لكنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة والموضع الّذي يلبس فيه كلّ منهما .
و - التّنطّق :
7 - التّنطّق مصدر تنطّق ، يقال : تنطّق الرّجل وانتطق أي لبس المنطق ، والمنطق والنّطاق والمنطقة : كلّ ما شددت به وسطك ، وقيل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ذات النّطاقين : لأنّها كانت تطارق ( أي تطابق ) نطاقاً على نطاق ، أو لأنّها شقّت نطاقها ليلة خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، فجعلت واحدةً لزاد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأخرى حمّالةً له فالنّطاق كالخاتم في الإحاطة ، لكنّهما يختلفان مادّةً وشكلاً وحجماً وموضعاً .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف الحكم التّكليفيّ للتّختّم باختلاف موضعه :
أوّلاً : التّختّم بالذّهب :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للنّساء التّختّم بالذّهب ، ويحرم على الرّجال ذلك ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال « أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ لإِناثِ أُمّتي ، وحُرِّمَ على ذكورِها » . واختلفوا في تختّم الصّبيّ بالذّهب :
فذهب المالكيّة - في الرّاجح عندهم - إلى أنّ تختّم الصّبيّ بالذّهب مكروه ، والكراهة على من ألبسه أو على وليّه ، ومقابل الرّاجح عند المالكيّة الحرمة .
ونصّ الحنابلة - وهو قول مرجوح للمالكيّة - على حرمة إلباس الصّبيّ الذّهب ، ومنه الخاتم . وأطلق الحنفيّة هنا الكراهة في التّحريم ، واستدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه قال : « كنّا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري » وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم - وعبّر بعضهم بالأصحّ - إلى أنّ الصّبيّ غير البالغ مثل المرأة في جواز التّختّم بالذّهب ، وأنّ للوليّ تزيينه بالحليّ من الذّهب أو الفضّة ، ولو في غير يوم عيد .
ثانياً : التّختّم بالفضّة :(136/1)
9 - اتّفق الفقهاء على جواز تختّم المرأة بالفضّة . وأمّا تختّم الرّجل بالفضّة فعلى التّفصيل الآتي : ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للرّجل التّختّم بالفضّة ، لما روي أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من ورق ، وكان في يده ، ثمّ كان في يد أبي بكر رضي الله عنه ، ثمّ كان في يد عمر رضي الله عنه ، ثمّ كان في يد عثمان رضي الله عنه ، حتّى وقع في بئر أريس . نقشه : محمّد رسول اللّه » . وقالوا : إنّ التّختّم سنّة لمن يحتاج إليه ، كالسّلطان والقاضي ومن في معناهما ، وتركه لغير السّلطان والقاضي وذي حاجة إليه أفضل .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا بأس بالخاتم من الفضّة ، فيجوز اتّخاذه ، بل يندب بشرط قصد الاقتداء برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لبسه عجباً .
وقال الشّافعيّة : يحلّ للرّجل الخاتم من الفضّة ، سواء من له ولاية وغيره ، فيجوز لكلّ لبسه ، بل يسنّ . وقال الحنابلة : يباح للذّكر الخاتم من الفضّة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم « اتّخذ خاتماً من ورق » ، قال أحمد في خاتم الفضّة للرّجل : ليس به بأس ، واحتجّ بأنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان له خاتم ، وظاهر ما نقل عن أحمد أنّه لا فضل فيه . وجزم به في التّلخيص وغيره ، وقيل : يستحبّ ، قدّمه في الرّعاية . وقيل : يكره لقصد الزّينة . جزم به ابن تميم . وأمّا تختّم الصّبيّ بالفضّة فجائز عند الفقهاء .
ثالثاً : التّختّم بغير الذّهب والفضّة :
10 - ذهب المالكيّة - في المعتمد عندهم - والحنابلة إلى أنّ التّختّم بالحديد والنّحاس والرّصاص مكروه للرّجال والنّساء ، لما روي « أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليه خاتم شبه - نحاس أصفر - فقال له : إنّي أجد منك ريح الأصنام فطرحه . ثمّ جاء وعليه خاتم حديد فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه . فقال : يا رسول اللّه : من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » .
وقال المالكيّة : إنّ التّختّم بالجلد والعقيق والقصدير والخشب جائز للرّجال والنّساء .
وقال الحنابلة : إنّه يباح للرّجل والمرأة التّحلّي بالجوهر والزّمرّد والزّبرجد والياقوت والفيروز واللّؤلؤ ، أمّا العقيق فقيل : يستحبّ تختّمهما به ، وقيل : يباح التّختّم بالعقيق لما في رواية مهنّا ، وقد سئل الإمام أحمد : ما السّنّة ؟ يعني في التّختّم ، فأجاب بقوله : لم تكن خواتيم القوم إلاّ من الفضّة . قال صاحب كشّاف القناع : الدّملج في معنى الخاتم .
واختلف الحنفيّة في التّختّم بغير الذّهب والفضّة .
والحاصل كما قال ابن عابدين : أنّ التّختّم بالفضّة حلال للرّجال بالحديث ، وبالذّهب والحديد والصّفر حرام عليهم بالحديث ، وبالحجر حلال على اختيار شمس الأئمّة وقاضي خان أخذاً من قول الرّسول وفعله صلى الله عليه وسلم ، لأنّ حلّ العقيق لمّا ثبت بهما ثبت حلّ سائر الأحجار لعدم الفرق بين حجر وحجر ، وحرام على اختيار صاحب الهداية والكافي أخذاً من عبارة الجامع الصّغير : ولا يتختّم إلاّ بالفضّة . فإنّها يحتمل أن يكون القصر فيها بالإضافة إلى الذّهب ، ولا يخفى ما بين المأخذين من التّفاوت .
واختلف الشّافعيّة أيضاً في التّختّم بغير الذّهب والفضّة ، وقد ورد في المجموع طرف من هذا الخلاف ، وهو : قال صاحب الإبانة : يكره الخاتم من حديد أو شبه - نوع من النّحاس - وتابعه صاحب البيان ، وأضاف إليهما الخاتم من رصاص ، وقال صاحب التّتمّة : لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث الواهبة نفسها ، ففيه قوله للّذي أراد تزوّجها : « انظر ولو خاتماً من حديد » .
وفي حاشية القليوبيّ : ولا بأس بلبس غير الفضّة من نحاس أو غيره .
رابعاً : موضع التّختّم :
11 - لم يختلف الفقهاء في موضع التّختّم بالنّسبة للمرأة ، لأنّه تزيّن في حقّها ، ولها أن تضع خاتمها في أصابع يديها أو رجليها أو حيث شاءت .
ولكنّ الفقهاء اختلفوا في موضع التّختّم للرّجل ، بل إنّ فقهاء بعض المذاهب اختلفوا فيما بينهم في ذلك : فذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه ينبغي أن يكون تختّم الرّجل في خنصر يده اليسرى ، دون سائر أصابعه ، ودون اليمنى .
وذهب بعضهم إلى أنّه يجوز أن يجعل خاتمه في يده اليمنى ، وسوّى الفقيه أبو اللّيث في شرح الجامع الصّغير بين اليمين واليسار ، لأنّه قد اختلفت الرّوايات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقول بعضهم : إنّه في اليمين من علامات أهل البغي ليس بشيء ، لأنّ النّقل الصّحيح عن « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفي ذلك » .
والمختار عند مالك رحمه الله التّختّم في اليسار على جهة النّدب ، وجعل الخاتم في الخنصر ، وكان مالك يلبسه في يساره ، قال أبو بكر بن العربيّ في القبس شرح الموطّأ : صحّ عن
« رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه تختّم في يمينه وفي يساره ، واستقرّ الأكثر على أنّه كان يتختّم في يساره » ، فالتّختّم في اليمين مكروه ، ويتختّم في الخنصر ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عنه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن . ولأنّ كونه في اليسار أبعد عن الإعجاب . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل لبس خاتم الفضّة في خنصر يمينه ، وإن شاء في خنصر يساره ، كلاهما صحّ فعله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّ الصّحيح المشهور أنّه في اليمين أفضل لأنّه زينة ، واليمين أشرف .(136/2)
وقال بعضهم : في اليسار أفضل . وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يتختّم في يساره ، وبإسناد حسن أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما تختّم في يمينه. وعند الشّافعيّة أنّ التّختّم في الوسطى والسّبّابة منهيّ عنه لما ورد عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال : « نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أتختّم في أصبعي هذه أو هذه قال : فأومأ إلى الوسطى والّتي تليها » .
وقال الحنابلة : لبس الخاتم في خنصر اليسار أفضل من لبسه في خنصر اليمين ، نصّ عليه في رواية صالح ، وضعّف في رواية الأثرم وغيره التّختّم في اليمنى ، قال الدّارقطنيّ وغيره : المحفوظ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يساره ، وأنّه إنّما كان في الخنصر لكونه طرفاً ، فهو أبعد عن الامتهان فيما تتناوله اليد ، ولأنّه لا يشغل اليد عمّا تتناوله . وعند الحنابلة أنّه يكره لبس الخاتم في سبّابة ووسطى للنّهي الصّحيح عن ذلك .
وظاهره لا يكره لبسه في الإبهام والبنصر ، وإن كان الخنصر أفضل اقتصاراً على النّصّ .
خامساً : وزن خاتم الرّجل :
12 - اختلف الفقهاء في الوزن المباح لخاتم الرّجل : فعند الحنفيّة ، قال الحصكفيّ : لا يزيد الرّجل خاتمه على مثقال . ورجّح ابن عابدين قول صاحب الذّخيرة أنّه لا يبلغ به المثقال ، واستدلّ بما روي أنّ « رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قائلاً : من أيّ شيء أتّخذه ؟ - يعني الخاتم - فقال صلى الله عليه وسلم : اتّخذه من ورق ، ولا تتمّه مثقالاً » .
وقال المالكيّة : يجوز للذّكر لبس خاتم الفضّة إن كان وزن درهمين شرعيّين أو أقلّ ، فإن زاد عن درهمين حرم .
ولم يحدّد الشّافعيّة وزناً للخاتم المباح ، قال الخطيب الشّربينيّ : لم يتعرّض الأصحاب لمقدار الخاتم المباح ، ولعلّهم اكتفوا فيه بالعرف ، أي عرف البلد وعادة أمثاله فيها ، فما خرج عن ذلك كان إسرافاً ... هذا هو المعتمد ، وإن قال الأذرعيّ : الصّواب ضبطه بدون مثقال ، لما في صحيح ابن حبّان وسنن أبي داود عن أبي هريرة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للابس الخاتم الحديد : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه وقال : يا رسول اللّه من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » قال : وليس في كلامهم ما يخالفه . وهذا لا ينافي ما ذكر لاحتمال أنّ ذلك كان عرف بلده وعادة أمثاله .
وقال الحنابلة : لا بأس بجعله مثقالاً فأكثر ، لأنّه لم يرد فيه تحديد ، ما لم يخرج عن العادة ، وإلاّ حرم ( قالوا ) لأنّ الأصل التّحريم ، وإنّما خرج المعتاد لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل الصّحابة .
سادساً : عدد خواتم الرّجل :
13 - اختلف الفقهاء في حكم تعدّد خواتم الرّجل :
فنصّ المالكيّة على أنّه لا يباح للرّجل أكثر من خاتم واحد ، فإن تعدّد الخاتم حرم ولو كان في حدود الوزن المباح شرعاً .
واختلف فقهاء الشّافعيّة في تعدّد الخاتم ، ونقل صاحب مغني المحتاج جانباً من هذا الخلاف في قوله : وفي الرّوضة وأصلها : ولو اتّخذ الرّجل خواتيم كثيرةً ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز ، فظاهره الجواز في الاتّخاذ دون اللّبس ، وفيه خلاف مشهور ، والّذي ينبغي اعتماده فيه أنّه جائز ما لم يؤدّ إلى سرف .
وقال الحنابلة : لو اتّخذ الرّجل لنفسه عدّة خواتيم ، فالأظهر جوازه إن لم يخرج عن العادة ، والأظهر جواز لبس الرّجل خاتمين فأكثر جميعاً إن لم يخرج عن العادة .
ولم نجد كلاماً للحنفيّة في هذه المسألة .
سابعاً : النّقش على الخاتم :
14 - اتّفق الفقهاء على جواز النّقش على الخاتم ، وعلى أنّه يجوز نقش اسم صاحب الخاتم عليه ، واختلفوا في نقش لفظ الجلالة أو الذِّكْر :
فقال الحنفيّة والشّافعيّة : يجوز أن ينقش لفظ الجلالة أو ألفاظ الذّكر على الخاتم ، ولكنّه يجعله في كمّه إن دخل الخلاء ، وفي يمينه إذا استنجى .
وقال الحنابلة : يكره أن يكتب على الخاتم ذكر اللّه تعالى من القرآن أو غيره نصّاً ، قال إسحاق بن راهويه : لا يدخل الخلاء به ، وقال في الفروع : ولعلّ أحمد كرهه لذلك ، قال : ولم أجد للكراهة دليلاً سوى هذا ، وهي تفتقر إلى دليل والأصل عدمه . وقال الحنابلة أيضاً : يحرم أن ينقش عليه صورة حيوان ، ويحرم لبسه والصّورة عليه كالثّوب المصوّر ، ولم ير بعض الحنفيّة بأساً في نقش ذلك إذا كان صغيراً بحيث لا يبصر عن بعد .
ثامناً : فصّ الخاتم :
15 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يجوز أن يكون لخاتم الرّجل المباح فصّ من مادّته الفضّيّة أو من مادّة أخرى على التّفصيل الآتي :
قال الحنفيّة : يجوز للرّجل أن يجعل فصّ خاتمه عقيقاً أو فيروزجاً أو ياقوتاً أو نحوه ، ولا بأس بسدّ ثقب الفصّ بمسمار الذّهب ليحفظ به الفصّ ، لأنّه قليل ، فأشبه العلم في الثّوب فلا يعدّ لابساً له ، ويجعل الرّجل فصّ خاتمه إلى بطن كفّه بخلاف النّساء ، لأنّه للزّينة في حقّهنّ دون الرّجال . وقال المالكيّة : لا بأس بالفضّة في حلية الخاتم ... ثمّ اختلفوا في الشّرح ، فقال بعضهم : تكون الحلية من الفضّة في خاتم من شيء جائز غير الحديد والنّحاس والرّصاص ، كالجلد والعود أو غير ذلك ممّا يجوز ، فيجعل الفصّ فيه .
وقال بعضهم : يكون الخاتم كلّه من الفضّة لما في صحيح مسلم : « كان خاتم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ورق ، وكان فصّه حبشيّاً » أي كان صانعه حبشيّاً ، أو كان مصنوعاً كما يصنعه أهل الحبشة فلا ينافي رواية : أنّ فصّه منه .
وقال المالكيّة : لا يجوز للذّكر خاتم بعضه ذهب ولو قلّ .(136/3)
وقالوا : يجعل فصّ الخاتم ممّا يلي الكفّ ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن ، فإذا أراد الاستنجاء خلعه كما يخلعه عند إرادة الخلاء .
وقال الشّافعيّة : يجوز الخاتم بفصّ وبغير فصّ ، وأضاف النّوويّ : ويجعل الفصّ من باطن كفّه أو ظاهرها ، وباطنها أفضل للأحاديث الصّحيحة فيه . وقال القليوبيّ : ويسنّ جعل فصّ الخاتم داخل الكفّ . وقال الحنابلة : للرّجل جعل فصّ خاتمه منه أو من غيره ، لأنّ في البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه « كان فصّه منه » ولمسلم « كان فصّه حبشيّاً » . وقالوا : يباح للذّكر من الذّهب فصّ خاتم إذا كان يسيراً ... اختاره أبو بكر عبد العزيز ومجد الدّين ابن تيميّة وتقيّ الدّين ابن تيميّة ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد ، وإليه ميل ابن رجب ، قال في الإنصاف : وهو الصّواب وهو المذهب ، وفي الفتاوى المصريّة : يسير الذّهب التّابع لغيره كالطّراز ونحوه جائز في الأصحّ من مذهب الإمام أحمد .
واختار القاضي وأبو الخطّاب التّحريم ، وقطع به في شرح المنتهى في باب الآنية .
وقال الحنابلة : الأفضل أن يجعل الرّجل فصّ الخاتم ممّا يلي ظهر كفّه لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يفعل ذلك » وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره يجعله ممّا يلي ظهر كفّه .
تاسعاً : تحريك الخاتم في الوضوء :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء تحريك الخاتم أثناء غسل اليد ، إن كان ضيّقاً ولا يعلم وصول ماء الوضوء إلى ما تحته ، فإن كان الخاتم واسعاً ، أو كان ضيّقاً وعلم وصول الماء إلى ما تحته فإنّ تحريكه لا يجب ، بل يكون مستحبّاً .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجب تحويل خاتم المتوضّئ من موضعه ولو كان ضيّقاً إن كان مأذوناً فيه ، وعلى المتوضّئ إزالة غير المأذون فيه إن كان يمنع وصول الماء للبشرة وإلاّ فلا ، وليس الحكم بإزالة ما يمنع وصول الماء للبشرة خاصّاً بالخاتم غير المأذون فيه ، بل هو عامّ في كلّ حائل كشمع وزفت ووسخ .
عاشراً : تحريك الخاتم في الغسل :
17 - قال جمهور الفقهاء : ممّا يتحقّق به الغسل المجزئ أن يعمّم بدنه بالغسل ، حتّى ما تحت خاتم ونحوه ، فيحرّكه ليتحقّق وصول الماء إلى ما تحته ، ولو كان الخاتم ضيّقاً لا يصل الماء إلى ما تحته نزعه وجوباً .
وقال المالكيّة : يجب غسل ظاهر الجسد في الغسل ، وأمّا الخاتم فلا يلزم تحريكه ، كالوضوء . كما نصّ عليه ابن الموّاز خلافاً لابن رشد .
حادي عشر : نزع الخاتم في التّيمّم :
18 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب على من يريد التّيمّم نزع خاتمه ليصل التّراب إلى ما تحته عند المسح ، ولا يكفي تحريك الخاتم ، لأنّ التّراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء في الوضوء . وقال الحنفيّة : يجب على المتيمّم أن يستوعب بالمسح وجهه ويديه فينزع الخاتم أو يحرّكه .
ثاني عشر : العبث بالخاتم في الصّلاة :
19 - ذهب الفقهاء إلى أنّ العبث في الصّلاة مكروه ، والعبث : هو كلّ فعل ليس بمفيد للمصلّي ، ومنه كفّه لثوبه وعبثه به وبجسده وبالحصى وبالخاتم ، وتفصيله والخلاف فيه ينظر في الصّلاة عند الكلام عن المكروهات والمبطلات .
ثالث عشر : التّختّم في الإحرام :
20 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ للمحرم التّختّم بخاتمه حال إحرامه ، لأنّ التّختّم ليس لبساً ولا تغطيةً ، وقد روي عن عبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه قال : أوثقوا عليكم نفقاتكم - أي بشدّ الهميان في الوسط وفيه كيس النّفقة - ورخّص في الخاتم والهميان للمحرم . وقال المالكيّة : يحرم على الرّجل المحرم لبس الخاتم في الإحرام ولو فضّةً زنته درهمان ، وفيه الفدية إن طال .
رابع عشر : زكاة الخاتم :
21 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة - في الأظهر عندهم - والحنابلة على أنّ الحلية المباحة - ومنها خاتم الذّهب أو الفضّة للمرأة ، وخاتم الفضّة المباح للرّجل - لا زكاة فيه ، لأنّه مصروف عن جهة النّماء إلى استعمال مباح ، فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية .
وقال الحنفيّة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة : في خاتم الفضّة المباح للرّجل الزّكاة - بشرط النّصاب - لأنّ الفضّة خلقت ثمناً ، فيزكّيها كيف كانت . وتفصيله في الزّكاة .
خامس عشر : دفن الخاتم مع الشّهيد وغيره :
22 - ينزع عن الميّت قبل دفنه ما عليه من الحلية من خاتم وغيره لأنّ دفنه مع الميّت إضاعة للمال ، وهو منهيّ عنه . أمّا الشّهيد فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه ينزع عنه عند دفنه الجلد والسّلاح والفرو والحشو والخفّ والمنطقة والقلنسوة وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالباً ، والخاتم مثل هذه بل أولى ، لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما :
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم » ولأنّ ما يترك على الشّهيد يترك ليكون كفناً ، والكفن ما يلبس للسّتر ، والخاتم لا يلبس للسّتر فينزع . وقال المالكيّة : ندب دفن الشّهيد بخفّ وقلنسوة ومنطقة قلّ ثمنها ، وبخاتم قلّ فصّه أي قيمته ، فلا ينزع إلاّ أن يكون نفيس الفصّ .(136/4)