بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة هذه الموسوعة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد خلق الجن والإنس لعبادته ، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات .
وهذه العبادة لا تعرف إلا عن طريق الوحي ، لأن الله تعالى هو أدرى بالكيفية التي يريد من عباده أن يعبدوه بها .
وهناك عبادة نظرية وهي الشهادتان ، وأربع عبادات عملية وهي الصلاة والصوم والزكاة والحج ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " أخرجه البخاري برقم(8) .
وقد قام رجال عظام من هذه الأمة بجمع موسوعة فقهية ضخمة ، اشتملت على جميع فروع الفقه الإسلامي بمعناه الشامل،و على جميع المذاهب الفقهية ، دون تعصب لمذهب أو ميل إليه ، مشفوعة بالأدلة النصية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وقد قامت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت بطبعها على نفقتها ، فجزاهم الله خير الجزاء .
وهذه الموسوعة تعتبر أهم عمل جماعي قام به علماء المسلمين في هذا العصر ، فجزاهم الله تعالى بقدر ما قدموا خيرا.
وهي مرتبة على الأحرف الألف بائية ، مما يسهل الرجوع إليها بسهولة .
وقد طبعت في ((خمسة وأربعين جزءا )) ، ولكن النسخة التي وضعت على النت خالية من التخريج والتعليق ، ومع ذلك فهي من أوثق ما كتب عن الفقه الإسلامي خلال ثلاثة عشر عاما ، والنسخة الأصلية مذيلة بالحواشي الدقيقة . فمن أراد التدقيق فليرجع إلى النسخة المطبوعة أو إلى نسخة الأكروبات في المكتبة الوقفية .
وقد قمت بفصل قسم العبادات من المجلدات الخمس وأربعين ، وأبقيتها مرتبة على الأحرف لسهولة الرجوع إليها ، وقد أخذ هذا العمل وقتا طويلا ، لأنك تحتاج للنظر في جمع المفردات ، وفصلها ، وبعض المفردات متداخلة بين قسم العبادات وغيره ..
وقد أضفت لها بعض الأبحاث من كتب أخرى .كل ذلك في أوقات مختلفة
وقد بلغ عدد المفردات ( 545) خمس مائة وخمسة وأربعون مفردة تبدأ من آبار وتنتهي بالوضوء
فهي مفهرسة بهذه المفردات جميعاً .
لذا أرجو من الله تعالى أن ينفع بها جامعها ، وقارئها ، وناشرها ، والدال عليها
قال تعالى : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة
جمعه الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 20 جمادى الآخرة 1428 هـ الموافق ل 5/7/2007 م
***********************
آبار
المبحث الأوّل
تعريف الآبار وبيان أحكامها العامّة
1 - الآبار جمع بئر ، مأخوذ من " بأر " أي حفر . ويجمع أيضاً جمع قلّة على أبورً وآبر . وجمع الكثرة منه بئار . وينقل ابن عابدين في حاشيته عن " النّتف » : البئر هي الّتي لها موادّ من أسفلها ، أي لها مياه تمدّها وتنبع من أسفلها . وقال : ولا يخفى أنّه على هذا التّعريف يخرج الصّهريج والجبّ والآبار الّتي تملأ من المطر ، أو من الأنهار ، والّتي يطلق عليها اسم الرّكيّة ( على وزن عطيّة ) كما هو العرف ، إذ الرّكيّة هي البئر ، كما في القاموس . لكن في العرف هي بئر يجتمع ماؤها من المطر ، فهي بمعنى الصّهريج . وفي حاشية البجيرميّ على شرح الخطيب أنّ " البئر " قد تطلق على المكان الّذي ينزل فيه البول والغائط ، وهي الحاصل الّذي تحت بيت الرّاحة . ويسمّى الآن بالخزّان . ويقال عن هذه البئر : بئر الحشّ ، والحشّ هو بيت الخلاء .
2 - والأصل في ماء الآبار الطّهوريّة ( أي كونه طاهراً في نفسه مطهّراً لغيره ) ، فيصحّ التّطهير به اتّفاقاً ، إلاّ إذا تنجّس الماء أو تغيّر أحد أوصافه على تفصيل في التّغيّر يعرف في أحكام المياه . غير أنّ هناك آباراً تكلّم الفقهاء عن كراهة التّطهير بمائها لأنّها في أرض مغضوب عليها . وهناك من الآبار ما نصّ الفقهاء على اختصاصها بالفضل ، ورتّبوا على ذلك بعض الأحكام .
المبحث الثّاني
حفر الآبار لإحياء الموات وتعلّق حقّ النّاس بمائها
أوّلاً : حفر البئر لإحياء الموات
3 - حفر البئر وخروج الماء منها طريق من طرق الإحياء . وقد أجمع الفقهاء على أنّه إذا تمّ تفجير الماء والانتفاع به في الإنبات ، مع نيّة التّملّك ، يتمّ به الإحياء . وذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ تفجير الماء يتمّ به الإحياء في الجملة ، غير أنّ المالكيّة يشترطون إعلان النّيّة إذا كانت البئر بئر ماشية . والشّافعيّة في الصّحيح يشترطون الغرس إذا كانت البئر لبستان ، كما يشترطون نيّة التّملّك . واشترط بعضهم طيّها ( أي بناء جدرانها ) إذا كانت في أرض رخوة أمّا الحنفيّة فيرون أنّ الإحياء لا يتمّ بتفجير الماء وحده ، وإنّما بالحفر وسقي الأرض . ولا خلاف في أنّ للبئر في الأرض الموات حريماً ، لحاجة الحفر والانتفاع ، حتّى لو أراد أحد أن يحفر بئراً في حريمه له أن يمنعه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً . واختلفوا في المقدار الّذي يعتبر حريماً ، فحدّده الحنفيّة والحنابلة بالأذرع حسب نوع البئر . ويستند المذهبان في ذلك إلى ما ورد من أخبار . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقدّروه بما لا يضيق على الوارد ، ولا على مناخ إبلها ، ولا مرابض مواشيها عند الورود ، ولا يضرّ بماء البئر . وتفصيل ذلك في مصطلح « إحياء الموات » .
ثانياً : تعلّق حقّ النّاس بماء الآبار
4 - الأصل في هذه المسألة ما رواه الخلاّل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه قال : « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . كما روي أنّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه » . والاستثناء يدلّ على أنّ المراد بالماء في الحديث الأوّل غير المحرز . وعلى هذا فمياه الآبار العامّة مباحة ، ولا ملك فيها لأحد ، إلاّ بالاغتراف . وأمّا مياه الآبار الخاصّة فإنّها خرجت عن الإباحة العامّة . ولمّا كانت حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب حيوانه ممّا يسمّيه الفقهاء بحقّ الشّفة ماسةً ومتكرّرةً ، كما أنّ أصل الماء قبل جريانه في الملك الخاصّ مباح ، وأنّ مياه الآبار في الأعمّ الأغلب متّصلة بالمجرى العامّ ، أوجد ذلك شبهة الإباحة في ماء الآبار الخاصّة ، لكنّها إباحة قاصرة على حقّ الشّفة دون حقّ الشّرب .
5 - واتّجاهات الفقهاء مختلفة بالنّسبة لملكيّة ماء آبار الدّور والأراضي المملوكة ، وتعلّق حقّ النّاس بها . فقيل بأنّ للنّاس حقّاً فيها . وهو قول عند الحنفيّة إذا لم يوجد ماء قريب في غير ملك أحد ، حتّى لو لم يفض عن حاجته عند أبي حنيفة . وقيّد أكثر المشايخ ذلك بما إذا كان يفيض عن حاجته . وهو مذهب الحنابلة ، لأنّ البئر ما وضع للإحراز ، ولأنّ في بقاء حقّ الشّفة ضرورةً ، ولأنّ البئر تتبع الأرض دون الماء ، ولخبر « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . وهذا هو الظّاهر في مذهب الشّافعيّة إذا كان حفر البئر بقصد الانتفاع بالماء ، أو حفر بقصد التّملّك ، وهو غير المشهور عند المالكيّة في غير آبار الدّور والحوائط المسوّرة . وقيّد ذلك ابن رشد بما إذا كانت البئر في أرض لا يضرّها الدّخول فيها . الاتّجاه الثّاني : أنّه لا يتعلّق به حقّ أحد ، وملكيّته خالصة لصاحبه . وهو قول عند الحنفيّة ، ورواية عن أحمد ، ومذهب المالكيّة بالنّسبة لآبار الدّور والحوائط المسوّرة ، والقول المشهور عندهم بالنّسبة لغيرها من الآبار الخاصّة في الأراضي المملوكة ، والأصحّ عند الشّافعيّة إذا كان يملك المنبع ، أو كان حفرها بقصد التّملّك . فلصاحب البئر على هذا أن يمنع الغير من حقّ الشّفة أيضاً ، وأن يبيع الماء ، لأنّه في حكم المحرز . ويقيّد المنع بغير من خيف عليه الهلاك ، لأنّها حالة ضرورة . وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك ، كالقار والنّفط .
المبحث الثّالث
حدّ الكثرة في ماء البئر وأثر اختلاطه بطاهر وانغماس آدميّ فيه طاهر أو به نجاسة(1/1)
6 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الماء الكثير لا ينجّسه شيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه . ويختلفون في حدّ الكثرة ، فيقدّرها الحنفيّة بما يوازي عشر أذرع في عشر دون اعتبار للعمق ما دام القاع لا يظهر بالاغتراف . والذّراع سبع قبضات ، لأنّها لو كانت عشراً في عشر فإنّ الماء لا يتنجّس بشيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، اعتباراً بالماء الجاري . والقياس أن لا تطهر ، لكن ترك القياس للآثار ، ومسائل الآبار مبنيّة على الآثار . والمفتى به القول بالعشر ولو حكماً ليعمّ ما له طول بلا عرض في الأصحّ . وقيل المعتبر في القدر الكثير رأي المبتلى به ، بناءً على عدم صحّة ثبوت تقدير شرعاً . ويرى المالكيّة أنّ الكثير ما زاد قدره عن آنية الغسل ، وكذا ما زاد عن قدر آنية الوضوء ، على الرّاجح . ويتّفق الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب ، على أنّ الكثير ما بلغ قلّتين فأكثر ، لحديث « إذا بلغ الماء قلّتين لم ينجّسه شيء » وفي رواية « لم يحمل الخبث » . وإن نقص عن القلّتين برطل أو رطلين فهو في حكم القلّتين .
7 - إذا اختلط بماء البئر طاهر ، مائعاً كان أو جامداً ، وكانت البئر ممّا يعتبر ماؤها قليلاً ، تجري عليه أحكام الماء القليل المختلط بطاهر ، ويرجع في تحديد الكثرة والقلّة إلى تفصيلات المذاهب في مصطلح ( مياه ) .
انغماس الآدميّ في ماء البئر
8 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الآدميّ إذا انغمس في البئر ، وكان طاهراً من الحدث والخبث ، وكان الماء كثيراً ، فإنّ الماء لا يعتبر مستعملاً ، ويبقى على أصل طهوريّته . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه ينزح منه عشرون دلواً . ومذهب الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة أنّ الآدميّ طاهر حيّاً وميّتاً ، وأنّ موت الآدميّ في الماء لا ينجّسه إلاّ إن تغيّر أحد أوصاف الماء تغيّراً فاحشاً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس » . ولأنّه لا ينجس بالموت ، كالشّهيد ، لأنّه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل . ولا فرق بين المسلم والكافر ، لاستوائهما في الآدميّة . ويرى الحنفيّة نزح كلّ ماء البئر بموت الآدميّ فيه ، إذ نصّوا على أنّه ينزح ماء البئر كلّه بموت سنّورين أو كلب أو شاة أو آدميّ . وموت الكلب ليس بشرط حتّى لو انغمس وأخرج حيّاً ينزح جميع الماء .
9 - ويقول ابن قدامة الحنبليّ : ويحتمل أن ينجّس الكافر الماء بانغماسه ، لأنّ الخبر ورد في المسلم . وإذا انغمس في البئر من به نجاسة حكميّة ، بأن كان جنباً أو محدثاً ، فإنّه ينظر : إمّا أن يكون ماء البئر كثيراً أو قليلاً ، وإمّا أن يكون قد نوى بالانغماس رفع الحدث . وإمّا أن يكون بقصد التّبرّد أو إحضار الدّلو . فإن كان البئر معيناً ، أي ماؤه جار ، فإنّ انغماس الجنب ومن في حكمه لا ينجّسه عند ابن القاسم من المالكيّة ، وهو رواية يحيى بن سعيد عن مالك . وهو مذهب الحنابلة إن لم ينو رفع الحدث . وهو اتّجاه من قال من الحنفيّة إنّ الماء المستعمل طاهر لغلبة غير المستعمل ، أو لأنّ الانغماس لا يصيّره مستعملاً ، وعلى هذا فلا ينزح منه شيء .
10 - ويرى الشّافعيّة كراهة انغماس الجنب ومن في حكمه في البئر ، وإن كان معيناً ، لخبر أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنب » . وهو رواية عليّ بن زياد عن مالك ، ومذهب الحنابلة إن نوى رفع الحدث . وإلى هذا يتّجه من يرى من الحنفيّة أنّ الماء بالانغماس يصير مستعملاً ، ويرى أنّ الماء المستعمل نجس ينزح كلّه وعن أبي حنيفة ينزح أربعون دلواً ، لو كان محدثاً ، وينزح جميعه لو كان جنباً أو كافراً ، لأنّ بدن الكافر لا يخلو من نجاسة حقيقيّة أو حكميّة ، إلاّ إذا تثبّتنا من طهارته وقت انغماسه .
11 - وإذا كان ماء البئر قليلاً وانغمس فيه بغير نيّة رفع الحدث ، فالمالكيّة على أنّ الماء المجاور فقط يصير مستعملاً وعند الشّافعيّة والحنابلة الماء على طهوريّته . واختلف الحنفيّة على ثلاثة أقوال ترمز لها كتبهم : « مسألة البئر جحط » ويرمزون بالجيم إلى ما قاله الإمام من أنّ الماء نجس بإسقاط الفرض عن البعض بأوّل الملاقاة ، والرّجل نجس لبقاء الحدث في بقيّة الأعضاء ، أو لنجاسة الماء المستعمل ، ويرمزون بالحاء لرأي أبي يوسف من أنّ الرّجل على حاله من الحدث ، لعدم الصّبّ ، وهو شرط عنده ، والماء على حاله لعدم نيّة القربة ، وعدم إزالة الحدث . ويرمزون بالطّاء لرأي محمّد بن الحسن من أنّ الرّجل طاهر لعدم اشتراط الصّبّ ، وكذا الماء ، لعدم نيّة القربة .
12 - أمّا إذا انغمس في الماء القليل بنيّة رفع الحدث كان الماء كلّه مستعملاً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لكن عند الحنابلة يبقى الماء على طهوريّته ولا يرفع الحدث . وكذلك يكون الماء مستعملاً عند الحنفيّة لو تدلّك ولو لم ينو رفع الحدث ، لأنّ التّدلّك فعل منه يقوم مقام نيّة رفع الحدث .(1/2)
13 - أمّا إذا انغمس إنسان في ماء البئر وعلى بدنه نجاسة حقيقيّة ، أو ألقي فيه شيء نجس ، فمن المتّفق عليه أنّ الماء الكثير لا يتنجّس بشيء ، ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، على ما سبق . غير أنّ الحنابلة ، في أشهر روايتين عندهم ، يرون أنّ ما يمكن نزحه ، إذا بلغ قلّتين ، فلا يتنجّس بشيء من النّجاسات ، إلاّ ببول الآدميّين أو عذرتهم المائعة . وجه ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل فيه » . وكذلك إذا ما سقط فيه شيء نجس ، وفي مقابل المشهور في مذهب أحمد أنّ الماء لا ينجس إلاّ بالتّغيّر قليله وكثيره .
14 - وقد فصّل الحنفيّة هذا بما لم يفصّله غيرهم ، ونصّوا على أنّ الماء لا ينجس بخرء الحمام والعصفور ، ولو كان كثيراً ، لأنّه طاهر استحساناً ، بدلالة الإجماع ، فإنّ الصّدر الأوّل ومن بعدهم أجمعوا على جواز اقتناء الحمام في المساجد ، حتّى المسجد الحرام ، مع ورود الأمر بتطهيرها . وفي ذلك دلالة ظاهرة على عدم نجاسته . وخرء العصفور كخرء الحمامة ، فما يدلّ على طهارة هذا يدلّ على طهارة ذاك . وكذلك خرء جميع ما يؤكل لحمه من الطّيور على الأرجح .
المبحث الرّابع
أثر وقوع حيوان في البئر
15 - الأصل أنّ الماء الكثير لا ينجس إلاّ بتغيّر أحد أوصافه كما سبق . واتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ ما ليس له نفس سائلة ، إذا ما وقع في ماء البئر ، لا يؤثّر في طهارته ، كالنّحل ، لحديث سعيد بن المسيّب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ طعام وشراب وقعت فيه دابّة ليس لها دم فماتت فهو حلال » . وممّا قيل في توجيهه أنّ المنجّس له الدّماء السّائلة ، فما لا دم له سائلاً لا يتنجّس بالموت ما مات فيه من المائعات . وكذا ما كان مأكول اللّحم ، إذا لم يكن يعلم أنّ على بدنه أو مخرجه نجاسةً ، وخرج حيّاً ، ما دام لم يتسبّب في تغيّر أحد أوصاف الماء ، عدا ما كان نجس العين كالخنزير . ويرى الحنابلة وبعض الحنفيّة أنّ المعتبر السّؤر ، فإن كان لم يصل فمه إلى الماء لا ينزح منه شيء ، وإن وصل وكان سؤره طاهراً فإنّه طاهر . يقول الكاسانيّ : وقال البعض : المعتبر السّؤر . ويقول ابن قدامة : وكلّ حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطّهارة والنّجاسة . وينظر حكم السّؤر في مصطلح « سؤر » .
16 - ويختلف الفقهاء فيما وراء ذلك ، فغير الحنفيّة من فقهاء المذاهب الأربعة يتّجهون إلى عدم التّوسّع في الحكم بالتّنجّس بوقوع الحيوان ذي النّفس السّائلة ( الدّم السّائل ) عموماً وإن وجد بعض اختلاف بينهم . فالمالكيّة ينصّون على أنّ الماء الرّاكد ، أو الّذي له مادّة ، أو كان الماء جارياً ، إذا مات فيه حيوان برّيّ ذو نفس سائلة ، أو حيوان بحريّ ، لا ينجس ، وإن كان يندب نزح قدر معيّن ، لاحتمال نزول فضلات من الميّت ، ولأنّه تعافه النّفس . وإذا وقع شيء من ذلك ، وأخرج حيّاً ، أو وقع بعد أن مات بالخارج ، فإنّ الماء لا ينجس ولا ينزح منه شيء ، لأنّ سقوط النّجاسة بالماء لا يطلب بسببه النّزح . وإنّما يوجب الخلاف فيه إذا كان يسيراً . وموت الدّابّة بخلاف ذلك فيها . ولأنّ سقوط الدّابّة بعد موتها في الماء هو بمنزلة سقوط سائر النّجاسات من بول وغائط ، وذاتها صارت نجسةً بالموت . فلو طلب النّزح في سقوطها ميّتةً لطلب في سائر النّجاسات ، ولا قائل بذلك في المذهب . وقيل : يستحبّ النّزح بحسب كبر الدّابّة وصغرها ، وكثرة ماء البئر وقلّته . وعن ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ : أنّ الآبار الصّغار ، مثل آبار الدّور ، تفسد بما وقع فيها حيّاً ، ثمّ مات فيها ، من شاة أو دجاجة ، وإن لم تتغيّر ، ولا تفسد بما وقع فيها ميّتاً حتّى تتغيّر . وأمّا ما وقع فيها ميّتاً فقيل : إنّه بمنزلة ما مات فيه ، وقيل : لا تفسد حتّى تتغيّر . وقالوا : إذا تغيّر الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً بتفسّخ الحيوان فيه تنجّس .
17 - وقال الشّافعيّة : إذا كان ماء البئر كثيراً طاهراً ، وتفتّتت فيه نجاسة ، كفأرة تمعّط شعرها بحيث لا يخلو دلو من شعرة ، فهو طهور كما كان إن لم يتغيّر . وعلى القول بأنّ الشّعر نجس ينزح الماء كلّه ليذهب الشّعر ، مع ملاحظة أنّ اليسير عرفاً من الشّعر معفوّ عنه ما عدا شعر الكلب والخنزير . ويفهم من هذا أنّ ماء البئر إذا كان قليلاً فإنّه يتنجّس ولو لم يتغيّر ، وهو ما رواه ابن الماجشون ومن معه من المالكيّة في الآبار الصّغار إذا مات فيها حيوان ذو نفس سائلة .
18 - ويقول الحنابلة : إذا وقعت الفأرة أو الهرّة في ماء يسير ، ثمّ خرجت حيّةً ، فهو طاهر ، لأنّ الأصل الطّهارة . وإصابة الماء لموضع النّجاسة مشكوك فيه . وكلّ حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطّهارة والنّجاسة . ويفهم من قيد " ثمّ خرجت حيّةً " أنّها لو ماتت فيه يتنجّس الماء ، كما يفهم من تقييد الماء " باليسير " أنّ الماء الكثير لا ينجس إلاّ إذا تغيّر وصفه .
19 - أمّا الحنفيّة فقد أكثروا من التّفصيلات ، فنصّوا على أنّ الفأرة إذا وقعت هاربةً من القطّ ينزح كلّ الماء ، لأنّها تبول . وكذلك إذا كانت مجروحةً أو متنجّسةً . وقالوا : إن كانت البئر معيناً ، أو الماء عشراً في عشر ، لكن تغيّر أحد أوصافه ، ولم يمكن نزحها ، نزح قدر ما كان فيها .(1/3)
20 - وإذا كانت البئر غير معين ، ولا عشراً في عشر ، نزح منها عشرون دلواً بطريق الوجوب ، إلى ثلاثين ندباً ، بموت فأرة أو عصفور أو سامّ أبرص . ولو وقع أكثر من فأرة إلى الأربع فكالواحدة عند أبي يوسف ، ولو خمساً إلى التّسع كالدّجاجة ، وعشراً كالشّاة ، ولو فأرتين كهيئة الدّجاجة ينزح أربعون عند محمّد . وإذا مات فيها حمامة أو دجاجة أو سنّور ينزح أربعون وجوباً إلى ستّين استحباباً . وفي رواية إلى خمسين . وينزح كلّه لسنّورين وشاة ، أو انتفاخ الحيوان الدّمويّ ، أو تفسّخه ولو صغيراً . وبانغماس كلب حتّى لو خرج حيّاً . وكذا كلّ ما سؤره نجس أو مشكوك فيه . وقالوا في الشّاة : إن خرجت حيّةً فإن كانت هاربةً من السّبع نزح كلّه خلافاً لمحمّد . وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف في البقر والإبل أنّه ينجّس الماء ، لأنّها تبول بين أفخاذها فلا تخلو من البول . ويرى أبو حنيفة نزح عشرين دلواً ، لأنّ بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسةً خفيفةً ، وقد ازداد خفّةً بسبب البئر فيكفي نزح أدنى ما ينزح . وعن أبي يوسف : ينزح ماء البئر كلّه ، لاستواء النّجاسة الخفيفة والغليظة في حكم تنجّس الماء .
المبحث الخامس
تطهير الآبار وحكم تغويرها
21 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ التّكثير طريق تطهيره عند تنجّسها إذا زال التّغيّر . ويكون التّكثير بالتّرك حتّى يزيد الماء ويصل حدّ الكثرة ، أو بصبّ ماء طاهر فيه حتّى يصل هذا الحدّ . وأضاف المالكيّة طرقاً أخرى ، إذ يقولون : إذا تغيّر ماء البئر بتفسّخ الحيوان طعماً أو لوناً أو ريحاً يطهر بالنّزح ، أو بزوال أثر النّجاسة بأيّ شيء . بل قال بعضهم : إذا زالت النّجاسة من نفسها طهر . وقالوا في بئر الدّار المنتنة : طهور مائها بنزح ما يذهب نتنه .
22 - ويقصر الشّافعيّة التّطهير على التّكثير فقط إذا كان الماء قليلاً ( دون القلّتين ) ، إمّا بالتّرك حتّى يزيد الماء ، أو بصبّ ماء عليه ليكثر ، ولا يعتبرون النّزح لينبع الماء الطّهور بعده ، لأنّه وإن نزح فقعر البئر يبقى نجساً كما تتنجّس جدران البئر بالنّزح . وقالوا : فيما إذا وقع في البئر شيء نجس ، كفأرة تمعّط شعرها ، فإنّ الماء ينزح لا لتطهير الماء ، وإنّما بقصد التّخلّص من الشّعر .
23 - ويفصّل الحنابلة في التّطهير بالتّكثير ، إذا كان الماء المتنجّس قليلاً ، أو كثيراً لا يشقّ نزحه ويخصّون ذلك بما إذا كان تنجّس الماء بغير بول الآدميّ أو عذرته . ويكون التّكثير بإضافة ماء طهور كثير ، حتّى يعود الكلّ طهوراً بزوال التّغيّر . أمّا إذا كان تنجّس الماء ببول الآدميّ أو عذرته فإنّه يجب نزح مائها ، فإن شقّ ذلك فإنّه يطهر بزوال تغيّره ، سواء بنزح ما لا يشقّ نزحه ، أو بإضافة ماء إليه ، أو بطول المكث . على أنّ النّزح إذا زال به التّغيّر وكان الباقي من الماء كثيراً ( قلّتين فأكثر ) يعتبر مطهّراً عند الشّافعيّة .
24 - أمّا الحنفيّة فيقصرون التّطهير على النّزح فقط ، لكلّ ماء البئر ، أو عدد محدّد من الدّلاء على ما سبق . وإذا كان المالكيّة والحنابلة اعتبروا النّزح طريقاً للتّطهير فإنّه غير متعيّن عندهم كما أنّهم لم يحدّدوا مقداراً من الدّلاء وإنّما يتركون ذلك لتقدير النّازح . ومن أجل هذا نجد الحنفيّة هم الّذين فصّلوا الكلام في النّزح ، وهم الّذين تكلّموا على آلة النّزح ، وما يكون عليه حجمها .
25 - فإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت ، وكان نزح ما فيها من الماء طهارةً لها . لأنّ الأصل في البئر أنّه وجد فيها قياسان : أحدهما : أنّها لا تطهر أصلاً ، لعدم الإمكان ، لاختلاط النّجاسة بالأوحال والجدران . الثّاني : لا تنجس ، إذ يسقط حكم النّجاسة ، لتعذّر الاحتراز أو التّطهير . وقد تركوا القياسين الظّاهرين بالخبر والأثر ، وضرب من الفقه الخفيّ وقالوا : إنّ مسائل الآبار مبنيّة على اتّباع الآثار . أمّا الخبر فما روى من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون » وفي رواية « ينزح منها ثلاثون دلواً » . وأمّا الأثر فما روي عن عليّ أنّه قال : ينزح عشرون . وفي رواية ثلاثون وعن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال في دجاجة ماتت في البئر : ينزح منها أربعون دلواً . وعن ابن عبّاس وابن الزّبير أنّهما أمرا بنزح ماء زمزم حين مات فيها زنجيّ . وكان بمحضر من الصّحابة ، ولم ينكر عليهما أحد . وأمّا الفقه الخفيّ فهو أنّ في هذه الأشياء دماً سائلاً وقد تشرّب في أجزائها عند الموت فنجّسها . وقد جاورت هذه الأشياء الماء ، وهو ينجس أو يفسد بمجاورة النّجس ، حتّى قال محمّد بن الحسن : إذا وقع في البئر ذنب فأرة ، ينزح جميع الماء ، لأنّ موضع القطع لا ينفكّ عن بلّة ، فيجاور أجزاء الماء فيفسدها .(1/4)
26 - وقالوا : لو نزح ماء البئر ، وبقي الدّلو الأخير فإن لم ينفصل عن وجه الماء لا يحكم بطهارة البئر ، وإن انفصل عن وجه الماء ، ونحّي عن رأس البئر ، طهر . وأمّا إذا انفصل عن وجه الماء ، ولم ينحّ عن رأس البئر ، والماء يتقاطر فيه ، لا يطهر عند أبي يوسف . وذكر الحاكم أنّه قول أبي حنيفة أيضاً . وعند محمّد يطهر . وجه قول محمّد أنّ النّجس انفصل من الطّاهر ، فإنّ الدّلو الأخير تعيّن للنّجاسة شرعاً ، بدليل أنّه إذا نحّي عن رأس البئر يبقى الماء طاهراً ، وما يتقاطر فيها من الدّلو سقط اعتبار نجاسته شرعاً دفعاً للحرج . ووجه قولهما أنّه لا يمكن الحكم بالطّهارة إلاّ بعد انفصال النّجس عنها ، وهو ماء الدّلو الأخير ، ولا يتحقّق الانفصال إلاّ بعد تنحية الدّلو عن البئر ، لأنّ ماءه متّصل بماء البئر . واعتبار نجاسة القطرات لا يجوز إلاّ لضرورة ، والضّرورة تندفع بأن يعطى لهذا الدّلو حكم الانفصال بعد انعدام التّقاطر ، بالتّنحية عن رأس البئر .
27 - وإذا وجب نزح جميع الماء من البئر ينبغي أن تسدّ جميع منابع الماء إن أمكن ، ثمّ ينزح ما فيها من الماء النّجس . وإن لم يمكن سدّ منابعه لغلبة الماء روي عن أبي حنيفة أنّه ينزح مائة دلو ، وعن محمّد أنّه ينزح مائتا دلو ، أو ثلثمائة دلو . وعن أبي يوسف روايتان في رواية يحفر بجانبها حفرة مقدار عرض الماء وطوله وعمقه ثمّ ينزح ماؤها ويصبّ في الحفرة حتّى تمتلئ فإذا امتلأت حكم بطهارة البئر ، وفي رواية : يرسل فيها قصبة ، ويجعل لمبلغ الماء علامة ، ثمّ ينزح منها عشر دلاء مثلاً ، ثمّ ينظر كم انتقص ، فينزح بقدر ذلك ، ولكنّ هذا لا يستقيم إلاّ إذا كان دور البئر من أوّل حدّ الماء إلى مقرّ البئر متساوياً ، وإلاّ لا يلزم إذا نقص شبر بنزح عشر دلاء من أعلى الماء أن ينقص شبر بنزح مثله من أسفله . والأوفق ما روي عن أبي نصر أنّه يؤتى برجلين لهما بصر في أمر الماء فينزح بقولهما ، لأنّ ما يعرف بالاجتهاد يرجع فيه لأهل الخبرة .
28 - والمالكيّة كما بيّنّا يرون أنّ النّزح طريق من طرق التّطهير . ولم يحدّدوا قدراً للنّزح ، وقالوا : إنّه يترك مقدار النّزح لظنّ النّازح . قالوا : وينبغي للتّطهير أن ترفع الدّلاء ناقصةً ، لأنّ الخارج من الحيوان عند الموت موادّ دهنيّة ، وشأن الدّهن أن يطفو على وجه الماء ، فإذا امتلأ الدّلو خشي أن يرجع إلى البئر . والحنابلة قالوا : لا يجب غسل جوانب بئر نزحت ، ضيّقةً كانت أو واسعةً ، ولا غسل أرضها ، بخلاف رأسها . وقيل يجب غسل ذلك . وقيل إنّ الرّوايتين في البئر الواسعة . أمّا الضّيّقة فيجب غسلها روايةً واحدةً . وقد بيّنّا أنّ الشّافعيّة لا يرون التّطهير بمجرّد النّزح .
آلة النّزح
29 - منهج الحنفيّة ، القائل بمقدار معيّن من الدّلاء للتّطهير في بعض الحالات ، يتطلّب بيان حجم الدّلو الّذي ينزح به الماء النّجس . فقال البعض : المعتبر في كلّ بئر دلوها ، صغيراً كان أو كبيراً . وروي عن أبي حنيفة أنّه يعتبر دلو يسع قدر صاع . وقيل المعتبر هو المتوسّط بين الصّغير والكبير . ولو نزح بدلو عظيم مرّةً مقدار عشرين دلواً جاز . وقال زفر : لا يجوز ، لأنّه بتواتر الدّلو يصير كالماء الجاري . وبطهارة البئر يطهر الدّلو والرّشاء والبكرة ونواحي البئر ويد المستقي . روي عن أبي يوسف أنّ نجاسة هذه الأشياء بنجاسة البئر ، فتكون طهارتها بطهارتها ، نفياً للحرج . وقيل : لا تطهر الدّلو في حقّ بئر أخرى ، كدم الشّهيد طاهر في حقّ نفسه لا في حقّ غيره .
30 - ولم يتعرّض فقهاء المذاهب الأخرى - على ما نعلم - لمقدار آلة النّزح . وكلّ ما قالوه أنّ ماء البئر إذا كان قليلاً ، وتنجّس ، فإنّ الدّلو إذا ما غرف به من الماء النّجس القليل تنجّس من الظّاهر والباطن . وإذا كان الماء مقدار قلّتين فقط ، وفيه نجاسة جامدة ، وغرف بالدّلو من هذا الماء ، ولم تغرف العين النّجسة في الدّلو مع الماء فباطن الدّلو طاهر ، وظاهره نجس ، لأنّه بعد غرف الدّلو يكون الماء الباقي في البئر والّذي احتكّ به ظاهر الدّلو قليلاً نجساً . واستظهر البهوتيّ من قول الحنابلة بعدم غسل جوانب البئر للمشقّة ووجوب غسل رأسها لعدم المشقّة ، وجوب غسل آلة النّضح إلحاقاً لها برأس البئر في عدم مشقّة الغسل . وقال : إنّ مقتضى قولهم : المنزوح طهور أنّ الآلة لا يعتبر فيها ذلك للحرج .
تغوير الآبار
31 - كتب المذاهب تذكر اتّفاق الفقهاء على أنّه إذا دعت الحاجة إلى تخريب وإتلاف بعض أموال الكفّار وتغوير الآبار لقطع الماء عنهم جاز ذلك . بدليل « فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين أمر بالقلب فغوّرت » .
المبحث السّادس
آبار لها أحكام خاصّة
آبار أرض العذاب وحكم التّطهّر والتّطهير بمائها(1/5)
32 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى صحّة التّطهّر والتّطهير بمائها مع الكراهة . واستظهر الأجهوريّ من المالكيّة هذا الرّأي . وهو رواية عند الحنابلة ، لكنّها غير ظاهر القول . ودليلهم على صحّة التّطهير بمائها العمومات الدّالّة على طهارة جميع المياه ما لم تتنجّس أو يتغيّر أحد أوصاف الماء ، والدّليل على الكراهية أنّه يخشى أن يصاب مستعمله بأذًى لأنّها مظنّة العذاب . وينقل العدويّ من المالكيّة أنّ غير الأجهوريّ جزم بعدم صحّة التّطهير بماء هذه الآبار . وهي الرّواية الظّاهرة عند الحنابلة في آبار أرض ثمود ، كبئر ذي أروان وبئر برهوت ، عدا بئر النّاقة . والدّليل على عدم صحّة التّطهير بماء هذه الآبار أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الماء الّذي استقاه أصحابه من آبار أرض ثمود ، فإنّ أمره بإهراقها يدلّ على أنّ ماءها لا يصحّ التّطهير به . وهذا النّهي وإن كان وارداً في الآبار الموجودة بأرض ثمود إلاّ أنّ غيرها من الآبار الموجودة بأرض غضب اللّه على أهلها يأخذ حكمها بالقياس عليها بجامع أنّ كلّاً منها موجود في أرض نزل العذاب بأهلها . أمّا الحنابلة فقد أبقوا ما وراء أرض ثمود على القول بطهارتها ، وحملوا النّهي على الكراهة ، وكذلك حكموا بالكراهة على الآبار الموجودة بالمقابر ، والآبار في الأرض المغصوبة ، والّتي حفرت بمال مغصوب .
البئر الّتي خصّت بالفضل
33 - بئر زمزم بمكّة لها مكانة إسلاميّة . روى ابن عبّاس أنّ رسول اللّه قال : « خير ماء على وجه الأرض زمزم » . وعنه أنّ رسول اللّه قال : « ماء زمزم لما شرب له ، إن شربته تستشفي به شفاك اللّه ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه اللّه » . وللشّرب منه واستعماله آداب نصّ عليها الفقهاء . فقالوا : إنّه يستحبّ لشاربه أن يستقبل القبلة ، ويذكر اسم اللّه تعالى ، ويتنفّس ثلاثاً ، ويتضلّع منه ، ويحمد اللّه تعالى ، ويدعو بما كان ابن عبّاس يدعو به إذا شرب منه " اللّهمّ إنّي أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاءً من كلّ داء » . ويقول : « اللّهمّ إنّه بلغني عن نبيّك صلى الله عليه وسلم أنّ ماء زمزم لما شرب له وأنا أشربه لكذا » .
34 - ويجوز بالاتّفاق نقل شيء من مائها . والأصل في جواز نقله ما جاء في جامع التّرمذيّ عن السّيّدة عائشة أنّها حملت من ماء زمزم في القوارير ، وقالت : « حمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منها . وكان يصبّ على المرضى ، ويسقيهم » . وروى ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم » . كما اتّفقوا على عدم استعماله في مواضع الامتهان ، كإزالة النّجاسة الحقيقيّة . ويجزم المحبّ الطّبريّ الشّافعيّ بتحريم ذلك . وهو ما يحتمله كلام ابن شعبان المالكيّ ، وما رواه ابن عابدين عن بعض الحنفيّة ، لكنّ أصل المذهب الحنفيّ والمذهب المالكيّ الكراهة ، وهو ما عبّر به الرّويانيّ الشّافعيّ في " الحلية " ، وصرّح به البيجوريّ ، واستظهره القاضي زكريّا ، وقال : إنّ المنع على وجه الأدب ، وهو المعبّر عنه هنا من بعض فقهاء الشّافعيّة بخلاف الأولى . واتّفقوا على أنّه لا ينبغي أن يغسّل به ميّت ابتداءً . ونقل الفاكهيّ أنّ أهل مكّة يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل الميّت وتنظيفه ، تبرّكاً به ، وأنّ أسماء بنت أبي بكر غسّلت ابنها عبد اللّه بن الزّبير بماء زمزم .
35 - ولا خلاف معتبراً في جواز الوضوء والغسل به لمن كان طاهر الأعضاء ، بل صرّح البعض باستحباب ذلك . ولا يعوّل على القول بالكراهة اعتماداً على أنّه طعام ، لما روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم من قوله : « هو طعام . . . » ويدلّ على عدم الكراهة ما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضّأ » . ويقول الفاسيّ المالكيّ : التّطهير بماء زمزم صحيح بالإجماع ، على ما ذكره الماورديّ في حاويه ، والنّوويّ في شرح المهذّب . ومقتضى ما ذكره ابن حبيب المالكيّ استحباب التّوضّؤ به . وكونه مباركاً لا يمنع الوضوء به ، كالماء الّذي وضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده فيه . وقد صرّح الشّافعيّة بجواز استعمال ماء زمزم في الحدث دون الخبث . وهو ما يفيده عموم قول الحنابلة : ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم على ما هو الأولى في المذهب . أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بأنّه لا يغتسل به جنب ولا محدث .(1/6)
آدميّ
التّعريف
1 - الآدميّ منسوب إلى آدم أبي البشر عليه السلام ، بأن يكون من أولاده . والفقهاء يستعملونه بنفس المعنى . ويرادفه عندهم : إنسان وشخص وبشر .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفق الفقهاء على وجوب تكريم الآدميّ باعتباره إنساناً ، بصرف النّظر عمّا يتّصف به من ذكورة وأنوثة ، ومن إسلام وكفر ، ومن صغر وكبر ، وذلك عملاً بقول اللّه تعالى : { ولقد كرّمنا بني آدم } . أمّا بالنّظر إليه موصوفاً بصفة ما فإنّه يتعلّق به مع الحكم العامّ أحكام أخرى تتّصل بهذه الصّفة .
( مواطن البحث )
3 - لتكريم الآدميّ في حياته ومماته مظاهر كثيرة ، في مواطن متعدّدة ، تتعلّق بها أحكام فقهيّة تدور حول تسميته وأهليّته وطهارته وعصمة دمه وماله وعرضه ودفنه ، وغير ذلك . ويفصّل الفقهاء أحكام ذلك في مباحث الأنجاس ، والطّهارة ، والجنايات ، والحدود ، والجنائز ، وفي الأهليّة عند الأصوليّين .(2/1)
آمين
آمين معناه ، واللّغات الّتي وردت فيه :
1 - جمهور أهل اللّغة على أنّ آمين في الدّعاء يمدّ ويقصر ، وتقول أمّنت على الدّعاء تأميناً ، إذا قلت آمين . ويعبّر غالباً بالتّأمين بدلاً من عبارة قول آمين ، لسهولة اللّفظ . ولم يعتبر التّأمين عنواناً للبحث ، لئلاّ يشتبه بالتّأمين التّجاريّ . ونقل الفقهاء فيه لغات عديدةً ، نكتفي منها بأربع : المدّ ، والقصر ، والمدّ مع الإمالة والتّخفيف ، والمدّ مع التّشديد . والأخيرتان حكاهما الواحديّ ، وزيّف الأخيرة منهما . وقال النّوويّ : إنّها منكرة . وحكى ابن الأنباريّ القصر مع التّشديد . وهي شاذّة أيضاً . وكلّها إلاّ الرّابعة اسم فعل بمعنى استجب . ومعنى آمّين ( بالمدّ مع التّشديد ) قاصدين إليك . قال ابن عبّاس : « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين ، فقال : افعل » . وقال قتادة : كذلك يكون . وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « آمين خاتم ربّ العالمين على عباده المؤمنين » . وقال عطاء : آمين دعاء . وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين وتسليم بعضكم على بعض » . قال ابن العربيّ : هذه الكلمة لم تكن لمن قبلنا ، خصّنا اللّه تعالى بها . حقيقة التّأمين :
2 - التّأمين دعاء ، لأنّ المؤمن يطلب من اللّه أن يستجيب الدّعاء . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - الأصل في قول آمين أنّه سنّة ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى غيره ، كالتّأمين على دعاء محرّم ، فإنّه يكون حراماً . نفي القرآنيّة عن " آمين » :
4 - لا خلاف في أنّ " آمين " ليست من القرآن ، لكنّها مأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد واظب عليها ، وأمر بها في الصّلاة وخارجها ، كما يعرف من الأحاديث الّتي سترد في خلال البحث . مواطن التّأمين :
5 - التّأمين دعاء غير مستقلّ بنفسه بل مرتبط بغيره من الأدعية ، لذلك يحسن بيان المواضع الّتي يؤمّن على الدّعاء فيها ، فمن أهمّها : أ - التّأمين في الصّلاة : التّأمين عقب قراءة الفاتحة ، وعلى الدّعاء في قنوت الصّبح ، والوتر ، والنّازلة .
ب - والتّأمين خارج الصّلاة : عقب قراءة الفاتحة ، والتّأمين على الدّعاء في الخطبة ، وفي الاستسقاء . أوّلاً : التّأمين في الصّلاة التّأمين عقب الفاتحة :
5 م - التّأمين للمنفرد سنّة ، سواء أكانت الصّلاة سرّيّةً أم جهريّةً . ومثله الإمام والمأموم في السّرّيّة ، والمقتدي في صلاة الجهر . أمّا الإمام في الصّلاة الجهريّة فللعلماء فيه ثلاثة آراء : أوّلاً - ندب التّأمين ، وهو قول الشّافعيّة ، والحنابلة ، والحنفيّة ، عدا رواية الحسن عن أبي حنيفة وهو رواية المدنيّين من المالكيّة الحديث : « إذا أمّن الإمام فأمّنوا ، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ثانياً - عدم النّدب ، وهو رواية المصريّين من المالكيّة ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة . ودليل عدم استحسانه من الإمام ما روى مالك عن سميّ عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا آمين فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له » . وهذا دليل على أنّه لا يقوله ، لأنّه صلى الله عليه وسلم قسم ذلك بينه وبين القوم ، والقسمة تنافي الشّركة . ثالثاً - وجوب التّأمين ، وهو رواية عن أحمد ، قال في رواية إسحاق بن إبراهيم : آمين أمر من النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ارتباط التّأمين بالسّماع :
6 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّه يسنّ التّأمين عند سماع قراءة الإمام ، أمّا إن سمع المأموم التّأمين من مقتد آخر فللفقهاء في ذلك رأيان : الأوّل : ندب التّأمين وإليه ذهب الحنفيّة وهو قول للمالكيّة وقول مضعّف للشّافعيّة . الثّاني : لا يطلب التّأمين ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة والقول الآخر للمالكيّة ولم نقف على نصّ للحنابلة في هذا .
( تحرّي الاستماع ) :
7 - لا يتحرّى المقتدي على الأظهر الاستماع للإمام عند المالكيّة ، ومقابله يتحرّى ، وهو قول الشّافعيّة .
الإسرار بالتّأمين والجهر به :(3/1)
8 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ الصّلاة إن كانت سرّيّةً فالإسرار بالتّأمين سنّة في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد . وأمّا إن كانت جهريّةً فقد اختلفوا في الإسرار به وعدمه على ثلاثة مذاهب : الأوّل . ندب الإسرار ، وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة استحبّوه بالنّسبة للمأموم والمنفرد فقط ، والحنفيّة ومعهم ابن الحاجب وابن عرفة من المالكيّة استحبّوه للجميع ، لأنّه دعاء والأصل فيه الإخفاء . لقوله سبحانه : { ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } ولقول ابن مسعود رضي الله عنه : أربع يخفيهنّ الإمام ، وذكر منها آمين . ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة تخصيص الإسرار بالمأموم فقط إن أمّن الإمام ، كسائر الأذكار ، وقيل يسرّ في هذه الحالة إن قلّ الجمع . الثّاني : ندب الجهر . وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنابلة عمّوا النّدب في كلّ مصلّ . ووافقهم الشّافعيّة اتّفاقاً بالنّسبة للإمام والمنفرد . وأمّا في المأموم فقد وافقوهم أيضاً بشرط عدم تأمين الإمام . فإن أمّن فالأظهر ندب الجهر كذلك . وقيل إنّما يجهر في حالة تأمين الإمام بشرط كثرة الجمع . فإن لم يكثر فلا يندب الجهر . واستدلّ القائلون بندب الجهر بأنّه صلى الله عليه وسلم قال " آمين " ورفع بها صوته . الثّالث : التّخيير بين الجهر والإسرار ، وبه قال ابن بكير وابن العربيّ من المالكيّة ، غير أنّ ابن بكير خصّه بالإمام فقط ، وخيّر ابن العربيّ الجميع ، وصحّح في كتابه " أحكام القرآن " الجهر . ولو أسرّ به الإمام جهر به المأموم عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ جهر المأموم بالتّأمين سنّة ، فلا يسقط بترك الإمام له ، ولأنّه ربّما نسيه الإمام ، فيجهر به المأموم ليذكّره .
( المقارنة والتّبعيّة في التّأمين ) :
9 - مذهب الشّافعيّة ، والأصحّ عند الحنابلة أنّ مقارنة تأمين الإمام لتأمين المأموم سنّة ، لخبر « إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » وخبر « إذا قال أحدكم : آمين ، وقالت الملائكة في السّماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدّم من ذنبه » رواه الشّيخان . ومقابل الأصحّ عند الحنابلة أنّ المقتدي يؤمّن بعد تأمين الإمام . ولم أقف على نصّ صريح في ذلك للحنفيّة والمالكيّة ، لكنّهم ذكروا ما يفيد مقارنة التّأمين لتأمين الملائكة ، مستدلّين بحديث أبي هريرة السّابق « إذا قال أحدكم : آمين ، وقالت الملائكة في السّماء : آمين . . . » إلخ . وبحديث أبي هريرة أيضاً « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا : آمين ، فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . فإن فاتته مقارنة تأمينه لتأمين إمامه أتى به عقبه ، فإن لم يعلم المأموم بتأمين إمامه ، أو أخّره عن وقته المندوب أمّن . نصّ على ذلك الشّافعيّة ، كما نصّوا على أنّه لو قرأ معه وفرغا معاً كفى تأمين واحد ، أو فرغ قبله ، قال البغويّ : ينتظره ، والمختار أو الصّواب أنّه يؤمّن لنفسه ، ثمّ يؤمّن للمتابعة .
الفصل بين « آمين » وبين { ولا الضّالّين }
10 - الشّافعيّة والحنابلة على ندب السّكوت لحظةً لطيفةً بين { ولا الضّالّين } وبين « آمين » ليعلم أنّها ليست من القرآن ، وعلى ألاّ يتخلّل في هذه اللّحظة لفظ . نعم ، يستثني الشّافعيّة " ربّ اغفر لي " قالوا : وينبغي أنّه لو زاد على ذلك « ولوالديّ ولجميع المسلمين » لم يضرّ أيضاً . ولم أر من الحنفيّة والمالكيّة من تعرّض لهذه النّقطة ، فيما وقفت عليه . تكرار آمين والزّيادة بعدها :
11 - يحسن عند الشّافعيّة قول : « آمين ربّ العالمين » ، وغير ذلك من الذّكر . ولا يستحبّ عند أحمد ، لكن لا تبطل صلاته ، ولا يسجد للسّهو عنها . ولم نجد لغير الشّافعيّة والحنابلة نصّاً في التّكرار . وذكر الكرديّ عن ابن حجر أنّه يندب تكرار " آمين " في الصّلاة ، مستدلّاً بما رواه وائل بن حجر أنّه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل الصّلاة ، فلمّا فرغ من فاتحة الكتاب ، قال : آمين ، ثلاثاً » ويؤخذ منه تكرار " آمين " ثلاثاً ، حتّى في الصّلاة .
( ترك التّأمين )
12 - المذاهب الأربعة على أنّ المصلّي لو ترك " آمين " واشتغل بغيرها لا تفسد صلاته ، ولا سهو عليه ، لأنّه سنّة فات محلّها . عدم انقطاع القراءة بالتّأمين على قراءة الإمام :
13 - إذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة أثناء قراءة المأموم ، قال المأموم " آمين " ثمّ يتمّ قراءته ، نصّ على ذلك الشّافعيّة والحنابلة . ولا قراءة عند الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة للمأموم .
التّأمين عقب الفاتحة خارج الصّلاة
14 - التّأمين عقب قراءة الفاتحة سنّة عند المذاهب الأربعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لقّنني جبريل عليه السلام ، عند فراغي من الفاتحة : آمين » .
التّأمين على القنوت(3/2)
15 - القنوت قد يكون في النّازلة وقد يكون في غيرها . وللفقهاء في التّأمين على قنوت غير النّازلة ثلاثة اتّجاهات : الأوّل : التّأمين جهراً ، إن سمع الإمام ، وإلاّ قنت لنفسه . وهو قول الشّافعيّة والصّحيح عند الحنابلة ، وهو قول محمّد بن الحسن في القنوت وفي الدّعاء بعده . ومنه الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما نصّ الشّافعيّة . وهو المتبادر لغيرهم لدخوله في الشّمول . الثّاني : ترك التّأمين . وإليه ذهب المالكيّة ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، وروايةً عن أحمد ، وقول ضعيف عند الشّافعيّة . الثّالث : التّخيير بين التّأمين وتركه . وهو قول أبي يوسف ، وقول ضعيف للشّافعيّة . ولا فرق بين قنوت النّازلة وقنوت غيرها ، عند الشّافعيّة والحنابلة . ولا تأمين في النّازلة عند الحنفيّة لإسرارهم بالقنوت فيها . فإن جهر الإمام أمّن المأموم . قال ابن عابدين : والّذي يظهر لي أنّ المقتدي يتابع إمامه إلاّ إذا جهر فيؤمّن . ولا قنوت في النّازلة عند المالكيّة على المشهور . ولو اقتدى المأموم بمن يقنت في صلاة الصّبح أجاز له الحنابلة التّأمين . ومعهم في ذلك ابن فرحون من المالكيّة . ويسكت من صلّى وراء من يقنت في الفجر عند الحنفيّة . ويراعي المأموم المقتدي بمن لا يقنت حال نفسه عند الشّافعيّة بشرط عدم الإخلال بالمتابعة .
ثانياً : التّأمين خارج الصّلاة
( التّأمين على دعاء الخطيب )
16 - يسنّ التّأمين على دعاء الخطيب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّه يكون عند المالكيّة والحنابلة سرّاً ، وبلا رفع صوت عند الشّافعيّة . ولا تأمين باللّسان جهراً عند الحنفيّة بل يؤمّن في نفسه . ونصّ المالكيّة على تحريم ما يقع على دكّة المبلّغين بعد قول الإمام : « ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة » من رفع أصوات جماعة بقولهم : « آمين . آمين . آمين » واعتبروه بدعةً محرّمةً . التّأمين على دعاء الاستسقاء :
17 - استحبّ الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول للمالكيّة ، التّأمين على دعاء الاستسقاء عند جهر الإمام به . ولا يخالف الحنفيّة في ذلك . والقول الآخر للمالكيّة أن يدعو الإمام والمأمومون . وقيل بعد دعائهم معاً يستقبلهم الإمام ، فيدعو ويؤمّنون . التّأمين على الدّعاء دبر الصّلاة .
18 - لم أجد من يقول بالتّأمين على دعاء الإمام بعد الصّلاة إلاّ بعض المالكيّة . وممّن قال بجوازه ابن عرفة ، وأنكر الخلاف في كراهيته . وفي جواب الفقيه العلاّمة أبي مهديّ الغبرينيّ ما نصّه " ونقرّر أوّلاً أنّه لم يرد في الملّة نهي عن الدّعاء دبر الصّلاة ، على ما جرت به العادة اليوم من الاجتماع ، بل جاء التّرغيب فيه على الجملة » . فذكر أدلّةً كثيرةً ثمّ قال " فتحصل بعد ذلك كلّه من المجموع أنّ عمل الأئمّة منذ الأزمنة المتقادمة مستمرّ في مساجد الجماعات ، وهو مساجد الجوامع ، وفي مساجد القبائل ، وهي مساجد الأرباض والرّوابط ، على الجهر بالدّعاء بعد الفراغ من الصّلوات ، على الهيئة المتعارفة الآن ، من تشريك الحاضرين ، وتأمين السّامعين ، وبسط الأيدي ، ومدّها عند السّؤال ، والتّضرّع والابتهال من غير منازع » . وكرهه مالك وجماعة غيره من المالكيّة ، لما يقع في نفس الإمام من التّعاظم . وبقيّة القائلين بالدّعاء عقب الصّلاة يسرّون به ندباً ، على تفصيل . ( ر : دعاء ) .(3/3)
الخلاصة في أحكام الآنية
ففي الموسوعة الفقهية :
آنية أوّلاً
التّعريف
1 - الآنية جمع إناء ، والإناء الوعاء ، وهو كلّ ظرف يمكن أن يستوعب غيره . وجمع الآنية أوان . ويقاربه الظّرف ، والماعون . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن الاستعمال اللّغويّ . ثانياً : أحكام الآنية من حيث استعمالها :
أ - بالنّظر إلى ذاتها ( مادّتها ) :
2 - الآنية بالنّظر إلى ذاتها أنواع : آنية الذّهب . والفضّة - الآنية المفضّضة - الآنية المموّهة - الآنية النّفيسة لمادّتها أو صنعتها - آنية الجلد - آنية العظم - آنية من غير ما سبق .
( النّوع الأوّل : آنية الذّهب والفضّة ) :
3 - هذا النّوع محظور لذاته ، فإنّ استعمال الذّهب والفضّة حرام في مذاهب الأئمّة الأربعة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة ، ولا تأكلوا في صحافهما ، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة » . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشّرب في آنية الفضّة ، فقال : « من شرب فيها في الدّنيا لم يشرب فيها في الآخرة » . والنّهي يقتضي التّحريم . والعلّة في تحريم الشّرب فيها ما يتضمّنه ذلك من الفخر وكسر قلوب الفقراء . والنّهي وإن كان عن الأكل والشّرب ، فإنّ العلّة موجودة في الطّهارة منها واستعمالها كيفما كان . وإذا حرم الاستعمال في غير العبادة ففيها أولى ، وفي المذهب القديم للشّافعيّ أنّه مكروه تنزيهاً . فإن توضّأ منها ، أو اغتسل ، صحّت طهارته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأكثر الحنابلة ، لأنّ فعل الطّهارة وماءها لا يتعلّق بشيء من ذلك ، كالطّهارة في الأرض المغصوبة . وذهب بعض الحنابلة إلى عدم صحّة الطّهارة ، لأنّه استعمل المحرّم في العبادة ، فلم يصحّ كالصّلاة في الدّار المغصوبة . والتّحريم عامّ للرّجال والنّساء .
النّوع الثّاني : الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة :
4 - فقهاء المذاهب يختلفون في حكم استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة : فعند الإمام أبي حنيفة ، وهو رواية عن الإمام محمّد ، ورواية عن الشّافعيّ ، وقول بعض الحنابلة ، أنّه يجوز استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة إذا كان المستعمل يتّقي موضع الفضّة . وعند أكثر الحنابلة أنّه يجوز الاستعمال إذا كانت الفضّة قليلةً . وعند المالكيّة في المفضّضة روايتان : إحداهما المنع ، والأخرى الجواز ، واستظهر بعضهم الجواز . وأمّا الآنية المضبّبة فلا يجوز عندهم شدّها بالذّهب أو الفضّة . والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز استعمال المضبّب بالذّهب ، كثرت الضّبّة أو قلّت ، لحاجة أو غيرها . وذهب بعضهم إلى أنّ المضبّب بالذّهب كالمضبّب بالفضّة ، فإن كانت كبيرةً ، ولغير زينة ، جازت ، وإن كانت للزّينة حرمت وإن كانت قليلةً . والمرجع في الكبر والصّغر العرف . وعند الحنابلة أنّ المضبّب بالذّهب والفضّة إن كان كثيراً فهو محرّم بكلّ حال ، ذهباً كان أو فضّةً ، لحاجة ولغيرها . وقال أبو بكر يباح اليسير من الذّهب والفضّة . وأكثر الحنابلة على أنّه لا يباح من الذّهب إلاّ ما دعت إليه الضّرورة . وأمّا الفضّة فيباح منها اليسير . قال القاضي ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها . وقال أبو الخطّاب لا يباح اليسير إلاّ لحاجة . وتكره عندهم مباشرة موضع الفضّة بالاستعمال ، كي لا يكون مستعملاً لها . وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يكره استعمال الإناء المضبّب والمفضّض ، وهي الرّواية الأخرى عن محمّد . وحجّة الإمام أبي حنيفة ومن وافقه أنّ كلّاً من الذّهب والفضّة تابع ، ولا معتبر بالتّوابع ، كالجبّة المكفوفة بالحرير ، والعلم في الثّوب ، ومسمار الذّهب في الفصّ . وحجّة من جوّز قليل الفضّة للحاجة « أنّ قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر ، فاتّخذ مكان الشّعب سلسلةً من فضّة » ، وأنّ الحاجة تدعو إليه ، وليس فيه سرف ولا خيلاء ، فأشبه الضّبّة من الصّفر ( النّحّاس ) . وممّن رخّص في ضبّة الفضّة من السّلف عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور وابن المنذر وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم . النّوع الثّالث : الآنية المموّهة والمغشّاة بالذّهب أو الفضّة :
5 - مذهب الحنفيّة ، وهو أحد قولين عند المالكيّة ، أنّ الآنية المموّهة بالذّهب أو الفضّة جائز استعمالها ، لكنّ الحنفيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان التّمويه لا يمكن تخليصه . قال الكاسانيّ : « وأمّا الأواني المموّهة بماء الذّهب والفضّة ، الّذي لا يخلص منه شيء ، فلا بأس بالانتفاع بها ، والأكل والشّرب وغير ذلك بالإجماع » . وأمّا ما يمكن تخليصه فعلى الخلاف السّابق بين الإمام وصاحبيه في مسألة المفضّض والمضبّب . وعند الشّافعيّة يجوز الاستعمال إذا كان التّمويه يسيراً . وعند الحنابلة أنّ المموّه والمطليّ والمطعّم والمكفّت كالذّهب والفضّة الخالصين . أمّا آنية الذّهب والفضّة إذا غشيت بغير الذّهب والفضّة ففيها عند المالكيّة قولان . وأجازها الشّافعيّة إذا كان ساتراً للذّهب والفضّة ، لفقدان علّة الخيلاء . النّوع الرّابع : الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة :
6 - الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة نفاستها إمّا لذاتها ( أي مادّتها ) ، وإمّا لصنعتها : أ - النّفيسة لذاتها :(4/1)
7 - المنصوص عليه عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ في مذهب المالكيّة والشّافعيّة ، أنّه يجوز استعمال الأواني النّفيسة ، كالعقيق والياقوت والزّبرجد ، إذ لا يلزم من نفاسة هذه الأشياء وأمثالها حرمة استعمالها ، لأنّ الأصل الحلّ فيبقى عليه . ولا يصحّ قياسها على الذّهب والفضّة لأنّ تعلّق التّحريم بالأثمان ( الذّهب والفضّة ) ، الّتي هي واقعة في مظنّة الكثرة فلم يتجاوزه . وقال بعض المالكيّة : إنّه لا يجوز استعمال الأواني النّفيسة ، لكنّ ذلك ضعيف جدّاً . وهو قول عند الشّافعيّة .
ب - الآنية النّفيسة لصنعتها :
8 - النّفيس بسبب الصّنعة ، كالزّجاج المخروط وغيره لا يحرم بلا خلاف . وذلك ما قاله صاحب المجموع ، ولكن نقل الأذرعيّ أنّ صاحب البيان في زوائده حكى الخلاف أيضاً فيما كانت نفاسته بسبب الصّنعة ، وقال : إنّ الجواز هو الصّحيح . النّوع الخامس : الآنية المتّخذة من الجلد :
9 - قال فقهاء المذاهب الأربعة : إنّ جلد كلّ ميتة نجس قبل الدّبغ ، وأمّا بعد الدّبغ فالمشهور عند المالكيّة والحنابلة أنّه نجس أيضاً . وقالوا إنّ ما ورد من نحو قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » محمول على الطّهارة اللّغويّة ( أي النّظافة ) لا الشّرعيّة . ومؤدّى ذلك أنّه لا يصلّى به أو عليه . وغير المشهور في المذهبين أنّه يطهر الجلد بالدّباغة الطّهارة الشّرعيّة ، فيصلّى به وعليه . ويروى القول بالنّجاسة عن عمر وابنه عبد اللّه وعمران بن حصين وعائشة ، رضي الله عنهم . وعن الإمام أحمد رواية أخرى ، أنّه يطهر من جلود الميتة جلد ما كان طاهراً في حال الحياة . وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة ويحيى الأنصاريّ وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وعند الشّافعيّة أنّه إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذّبح شيء من أجزائه ، ويجوز الانتفاع بجلده . وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه ، كما ينجس بموته ، فلا يطهر جلده ولا شيء من أجزائه . وكلّ حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدّباغ ، عدا الكلب والخنزير ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » ولأنّ الدّباغ يحفظ الصّحّة على الجلد ، ويصلحه للانتفاع به ، كالحياة . ثمّ الحياة تدفع النّجاسة عن الجلد فكذلك الدّباغ . أمّا الكلب والخنزير وما تولّد منهما فلا يطهر جلدهما بالدّباغ . وعند الحنفيّة أنّ جلد الميتة ، عدا الخنزير والآدميّ ولو كافراً ، يطهر بالدّباغة الحقيقيّة كالقرظ وقشور الرّمّان والشّبّ ، كما يطهر بالدّباغة الحكميّة ، كالتّتريب والتّشميس والإلقاء في الهواء . فتجوز الصّلاة فيه وعليه ، والوضوء منه . وعدم طهارة جلد الخنزير بالدّباغة لنجاسة عينه ، وجلد الآدميّ لحرمته ، صوناً لكرامته ، وإن حكم بطهارته من حيث الجملة لا يجوز استعماله كسائر أجزاء الآدميّ .
النّوع السّادس : الأواني المتّخذة من العظم :
10 - الآنية المتّخذة من عظم حيوان مأكول اللّحم مذكًّى يحلّ استعمالها إجماعاً . وأمّا الآنية المتّخذة من حيوان غير مأكول اللّحم ، فإن كان مذكًّى فالحنفيّة يرون أنّها طاهرة ، لقولهم بطهارة القرن والظّفر والعظم ، مستدلّين بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يمتشط بمشط من عاج » ، وهو عظم الفيل ، فلو لم يكن طاهراً لما امتشط به الرّسول صلى الله عليه وسلم . وهذا يدلّ على جواز اتّخاذ الآنية من عظم الفيل . وهو أحد رأيين عند الشّافعيّة ، ورأي ابن تيميّة . وحجّة أصحاب هذا الرّأي أنّ العظم والسّنّ والقرن والظّلف كالشّعر والصّوف ، لا يحسّ ولا يألم ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما حرم من الميتة أكلها » . وذلك حصر لما يحرم من الميتة فيبقى ما عداها على الحلّ . والرّأي الآخر للشّافعيّة أنّه نجس ، وهو المذهب .
11 - وأمّا إن كان العظم من حيوان غير مذكًّى ( سواء كان مأكول اللّحم أو غير مأكوله ) فالحنفيّة ومن معهم على طريقتهم في طهارته ، ما لم يكن عليه دسم ، فلا يطهر إلاّ بإزالته . وقال الشّافعيّة وأكثر المالكيّة والحنابلة : العظم هنا نجس ، ولا يطهر بحال . هذا وقد أجمع الفقهاء على حرمة استعمال عظم الخنزير ، لنجاسة عينه ، وعظم الآدميّ - ولو كافراً - لكرامته .
12 - وألحق محمّد بن الحسن الفيل بالخنزير لنجاسة عينه عنده . وألحق الشّافعيّة الكلب بالخنزير . وكره عطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز عظام الفيلة . ورخّص في الانتفاع بها محمّد بن سيرين وغيره وابن جرير ، لما روى أبو داود بإسناده عن ثوبان « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادةً من عصب وسوارين من عاج » . واستدلّ القائلون بالنّجاسة بقوله تعالى { حرّمت عليكم الميتة } والعظم من جملتها ، فيكون محرّماً ، والفيل لا يؤكل لحمه فهو نجس ذكّي أو لم يذكّ . وقال بعض المالكيّة : إنّ استعمال عظم الفيل مكروه . وهو ضعيف . وفي قول للإمام مالك : إنّ الفيل إن ذكّي فعظمه طاهر ، وإلاّ فهو نجس . النّوع السّابع : الأواني من غير ما سبق :(4/2)
13 - الأواني من غير ما تقدّم ذكره مباح استعمالها ، سواء أكانت ثمينةً كبعض أنواع الخشب والخزف ، وكالياقوت والعقيق والصّفر ، أم غير ثمينة كالأواني العادية ، إلاّ أنّ بعض الآنية لها حكم خاصّ من حيث الانتباذ فيها ، فقد نهى الرّسول عليه الصلاة والسلام أوّلاً عن الانتباذ في الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت ثمّ نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن الأشربة إلاّ في ظروف الأدم ، فاشربوا في كلّ وعاء غير ألاّ تشربوا مسكراً » . وجمهور أهل العلم على جواز استعمال هذه الآنية على أن يحذر من تخمّر ما فيها نظراً إلى أنّها بطبيعتها يسرع التّخمّر إلى ما ينبذ فيها . وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه كره الانتباذ في الآنية المذكورة . ونقل الشّوكانيّ عن الخطّابيّ أنّ النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية لم ينسخ عند بعض الصّحابة والفقهاء ومنهم ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم ، ومالك وأحمد وإسحاق .
ب - آنية غير المسلمين :
14 - ( آنية أهل الكتاب ) : ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو أحد القولين عند الحنابلة إلى جواز استعمال آنية أهل الكتاب ، إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها . فقد نصّ الحنفيّة على أنّ " سؤر الآدميّ وما يؤكل لحمه طاهر ، لأنّ المختلط به اللّعاب ، وقد تولّد من لحم طاهر فيكون طاهراً . ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر » . وما دام سؤره طاهراً فاستعمال آنيته جائز من باب أولى . واستدلّوا بما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد » وكانوا مشركين ، ولو كان عين المشرك نجساً لما فعل ذلك . ولا يعارض بقوله تعالى { إنّما المشركون نجس } لأنّ المراد به النّجس في الاعتقاد ، ومن باب أولى أهل الكتاب وآنيتهم . وذلك لقوله تعالى { وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم } وروى عبد اللّه بن مغفّل ، قال : « دلّي جراب من شحم يوم خيبر ، فالتزمته وقلت : واللّه لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً . فالتفتّ فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبتسم » . وروى أنس « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ بخبز شعير وإهالة سنخة » . وتوضّأ عمر من جرّة نصرانيّة . وصرّح القرافيّ من المالكيّة في الفروق بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب والمسلمون الّذين لا يصلّون ولا يستنجون ولا يتحرّزون من النّجاسات ، من الأطعمة وغيرها ، محمول على الطّهارة ، وإن كان الغالب عليه النّجاسة . ومذهب الشّافعيّة ، وهو رواية أخرى للحنابلة ، أنّه يكره استعمال أواني أهل الكتاب ، إلاّ أن يتيقّن طهارتها ، فلا كراهة ، وسواء المتديّن باستعمال النّجاسة وغيره . ودليلهم ما روى « أبو ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه قال قلت : يا رسول اللّه ، إنّا بأرض أهل كتاب ، أنأكل في آنيتهم ؟ فقال : لا تأكلوا في آنيتهم إلاّ إن لم تجدوا عنها بدّاً ، فاغسلوها بالماء ، ثمّ كلوا فيها » . وأقلّ أحوال النّهي الكراهة ، ولأنّهم لا يجتنبون النّجاسة ، فكره لذلك . على أنّ الشّافعيّة يرون أنّ أوانيهم المستعملة في الماء أخفّ كراهةً .
15 - آنية المشركين : يستفاد من أقوال الفقهاء الّتي تقدّم بيانها أنّ أواني غير أهل الكتاب كأواني أهل الكتاب في حكم استعمالها عند الأئمّة أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وبعض الحنابلة . وبعض الحنابلة يرون أنّ ما استعمله الكفّار من غير أهل الكتاب من الأواني لا يجوز استعمالها لأنّ أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم . وذبائحهم ميتة ، فتكون نجسةً .
ثالثاً : حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة :
16 - فقهاء المذاهب مختلفون في حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة : فمذهب الحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة ، والصّحيح عند الشّافعيّة ، أنّه يجوز اقتناء آنية الذّهب والفضّة ، لجواز بيعها ، ولاعتبار شقّها بعد بيعها عيباً . ومذهب الحنابلة ، وهو القول الآخر للمالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة ، حرمة اتّخاذ آنية الذّهب والفضّة ، لأنّ ما حرم استعماله مطلقاً حرم اتّخاذه على هيئة الاستعمال .
رابعاً : حكم إتلاف آنية الذّهب والفضّة :
17 - من يرى جواز اقتناء أواني الذّهب والفضّة يرى أنّ إتلافها موجب للضّمان . أمّا على القول بعدم الجواز فإنّ إتلافها لا يوجب ضمان الصّنعة إن كان يقابلها شيء من القيمة . والكلّ مجمع على ضمان ما يتلفه من العين .
خامساً : زكاة آنية الذّهب والفضّة :
18 - آنية الذّهب والفضّة إذا بلغ كلّ منهما النّصاب وحال الحول عليه وجبت فيه الزّكاة ، وتفصيل ذلك موطنه أبواب الزّكاة .
**************
وفي موسوعة الفقه الأزهرية :
آنية
--------------------------------------------------------------------------------
مدلول الكلمة:
جاء فى المصباح: الإناء والآنية الوعاء والأوعية وزنا ومعني، والأوانى جمع الجمع هذا المعنى يستعمله الفقهاء فى كتب المذاهب.
حكم استعمال الآنية:
جمهور الفقهاء على حظر استعمال آنية الذهب والفضة فى الوضوء وغيره، وفى استعمال غيرها تفصيل تختلف المذاهب فى
بعضه باختلاف أنواع الآنية وجواهرها، وسنورد ما يصور ذلك فى المذاهب.
قال الأحناف (1): لا يجوز. الأكل والشرب والإدهان والتطيب فى آنية الذهب والفضة للرجال والنساء، وكذا لا يجوز الأكل بملعقة الذهب والفضة، وكذلك المكحلة والمحبرة وغير ذلك.(4/3)
وأما الآنية من غير الذهب والفضة فلا بأس بالأكل والشرب فيها والإدهان والتطيب منها والانتفاع بها للرجال والنساء كالحديد والصفر والنحاس والرصاص والخشب والطين ولا بأس باستعمال آنية الزجاج والرصاص والبللور والعقيق وكذا الياقوت ويجوز الشرب فى الإناء المفضض عند أبى حنيفة إذا كان يتقى موضع الفضة بحيث لا يلاصقه الفم ولا اليد وقال أبو يوسف يكره ذلك وعن محمد روايتان إحداهما مع الإمام والأخرى مع أبى يوسف وعلى هذا الخلاف فى الإناء المضبب بالذهب والفضة. وأما التمويه فلا بأس به إجماعا فى المذهب وفى متن التنوير وشرحه وحاشيته (2): التصريح بكراهة الأكل والشرب والدهان والتطيب ونحو ذلك من آنية الذهب والفضة وأن محل الكراهة إذا استعملت ابتداء فيما صنعت له بحسب متعارف الناس وإلا فلا كراهة حتي لو نقل الطعام من إناء الذهب الى موضع آخر أو صب الماء أو الدهن فى كفه لا على رأسه ابتداء ثم استعمله فلا بأس به.
وقال صاحب الدر (3): ان محل الكراهة فيما يرجع للبدن وأما لغيره تجملا بأوان متخذة من ذهب او فضة فلا بأس به بل فعله السلف.
ونقل ابن عابدين عن جماعة من فقهاء الأحناف القول بأن نقل الطعام منها إلى موضع آخر استعمال لها ابتداء وأخذ الدهن باليد ثم صبه على الرأس استعمال متعارف.
وقد نص (4) صاحب التنوير على كراهة إلباس الصبي ذهبا أو حريرا، وعلله الشارح بأن ما حرم لبسه وشربه حرم إلباسه وأشرابه ومقتضاه كراهة استعمال آنية الذهب والفضة للصبية بواسطة غيرهم.
أما المالكية (5): فيصرحون بتحريم استعمال إناء الذهب والفضة فى كل من الأكل والشرب والطبخ، والطهارة مع صحة الصلاة بها، كما يصرحون بحرمة الاقتناء - أى اقتناء إناء الذهب والفضة- ولو لعاقبة دهر وبحرمة التجمل على المعتمد خلافا للأحناف ويقولون: إن المغشى ظاهره بنحاس أو رصاص والمموه أى المطلى ظاهره بذهب أو فضة فيه قولان مستويان عندهم.
وفى حرمة استعمال واقتناء الإناء المضبب أى المشعب بخيوط من الذهب أو الفضة وذى الحلقة من ذهب أو فضة قولان أيضا: وفى حرمة استعمال واقتناء إناء الجوهر النفيس كزبرجد وياقوت وبلور قولان، والجواز هو الراجح وهو ما قال به الأحناف.
والشافعية يوافقون الأحناف فى التصريح بعدم جواز استعمال شئ من أوانى الذهب والفضة للرجل والمرأة، ويستدلون بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تشربوا فى آنية الذهب والفضة ولا تنالوا فى صحافها ".
وقياس غير الأكل والمشرب عليهما.
ويقول البجرمى: أن سائر وجوه الاستعمال مقيسة على الأكل والشرب فى عدم الجواز ولو كان الاستعمال على وجه غير مألوف كأن كب الإناء على رأسه واستعمل أسفله فيما يصلح له ثم قال وفهم من عدم الجواز الاستئجار على الفعل وأخذ الأجرة على الصنعة وعدم الغرم على الكاسر كآلة اللهو لأنه أزال المنكر.
وقال صاحب الإقناع: ويحرم على الولى أن يسقى الصغير بمشفط من إنائهما ثم قال ولا فرق بين الإناء الصغير والكبير (6).
ويوافق الشافعية المالكية فى حرمة اقتناء آنية الذهب والفضة فيصرح الخطيب بقوله: وكما يحرم استعمالهما يحرم اتخاذهما من غير استعمال لأن ما لا يجوز استعماله يحرم اتخاذه، ويرون حل استعمال كل أناء طاهر ليس من الذهب والفضة سواء كان من نحاس أو غيره، فإن موه إناء من نحاس أو نحوه بالنقد ولم يحصل منه شئ، أى لم يزد على أن، يكون لونا أو موه النقد بغيره أو صدئ مع حصول شىء من المموه به أو الصدى حل استعماله لقلة المموه فى الأولى فكأنه معدوم، ولعدم الخيلاء فى الثانية.
ثم أكد التعميم (7) فى إباحة آنية غير الذهب والفضة بقوله: ويحل استعمال واتخاذ النفيس كياقوت وزبرجد وبللور، وصرح بأن ما ضبب من أناء بفضة ضبة كبيرة حرم استعماله وأتخاذه أو صغيرة بقدر الحاجة فلا تحرم.
ويقول البجرمى: إن من الاستعمال المحرم أخذ ماء الورد منها لاستعماله ولو بصب غيره أو كان الذهب على البزبوز فقط. ثم قال: نعم، أن أخذ منه بشماله ثم وضع الماء فى يمينه واستعمله جاز مع حرمة الأخذ منه لأنه استعمال حينئذ، وذهب بعضهم الى عدم الحرمة.
والحنابلة ينصون على حرمة استعمال آنية الذهب والفضة دون خلاف عندهم، وعلل لذلك ابن قدامه (8) بأنه يتضمن الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وعندهم خلاف فى صحة الوضوء والاغتسال من آنية الذهب والفضة، فيقول بعضهم تصح طهارته لأن فعل الطهارة وماءها لا يتعلق بشيء من ذلك ويقول بعضهم: لا تصح لأنه استعمل المحرم فى العبادة كالصلاة فى الأرض المغصوبة، وقالوا لو جعل آنية الذهب والفضة مصبا للوضوء ينفصل الماء عن أعضائه إليه صح الوضوء0
قال ابن قدامة: ويحتمل أن تكون ممنوعة لتحقق الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء..
وهم كالشافعية والمالكية يحرمون إتخاذ آنية الذهب والفضة لعلة أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه. ويقولون فى المضبب بالذهب والفضة أن كان كثيرا فهو محرم بكل حال.
وأما اليسير من الذهب والفضة فأكثر الحنابلة (9) على أنه لا يباح اليسير من الذهب إلا إذا دعت اليه ضرورة، وأما الفضة فيباح منها اليسير لما روى عن أنس أن قدح النبى - صلى الله عليه وسلم- إنكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. رواه البخارى. ولأن الحاجة تدعو إليه وليس فيه سرف ولا خيلاء قال القاضى " أبو يعلى " يباح ذلك مع الحاجة وعدمها إلا أن ما يستعمل من ذلك بذاته لا يباح كالحلقة وما لا يستعمل كالضبة يباح.
وقال أبو الخطاب لا يباح اليسير إلا لحاجة لأن الخبر ورد فى شعب القدح فى موضع الكسر، وهو لحاجة، ويفسرون الحاجة بأن تدعو حاجة الى ما فعله به وان كان غيره يقوم مقامه.(4/4)
ثم صرح بأن سائر الآنية بعد ذلك مباح اتخاذا واستعمالا ولو كانت ثمينة كالياقوت والبلور، ولا يكره "استعمال شىء منها فى قول العامة.
قال صاحب المغنى: إلا أنه روى عن ابن عمر أنه كره الوضوء من الصفر والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك، وأختاره المقدسى لأن الماء يتغير فيها.
ويقول ابن حزم الظاهرى (10): لا يحل الوضوء ولا الغسل ولا الشرب ولا الأكل لرجل ولا لامرأة فى إناء عمل من عظم ابن آدمي ولا فى إناء عمل من عظم خنزير ولا فى إناء من جلد ميتة قبل الدبغ ولا فى أناء فضة أو ذهب، وكل أناء بعد هذا من صفر أو نحاس أو رصاص أو قصدير أو بلور أو ياقوت أو غير ذلك فمباح أكلا وشربا ووضوءا وغسلا للرجال والنساء. ثم قال والمذهب والمضبب بالذهب حلال مساء دون الرجال لأنه ليس أناء ذهب أو فضة، وكذلك المفضض والمضبب .
والزيدية (11): يصرحون كالمالكية والحنابلة بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة فى الوضوء وغيره، ويصح التوضؤ منه وإن عصى(أى مستعملها) لانفصال الطاعة بالوضوء منفصلة عن المعصية بالاستعمال.
وفى اقتنائها وجهان، وقال يحيى أصحهما المنع للخيلاء. وفى الياقوتة ونحوها وجهان أصحهما كالذهب لنفاسته. قال يحيى: وكذلك الزجاج والخشب والنحاس إذا عظم بالصنعة والزخرفة قدرها للخيلاء. وقالوا لا يحرم الإناء من المدر(طين متماسك لا يخالطه رمل) ومالم يعظم بالصنعة قدره ويكره الرصاص والنحاس المطعم بالذهب والفضة والمفضض والمموه والمضبب والجعفرية قالوا(12): بحرمة استعمال أوانى الذهب والفضة فى الأكل والشرب والوضوء والغسل وتطهير النجاسات وغيرها من سائر الاستعمالات حتي وضعها على الرفوف للتزين بل يحرم اقتناؤها من غير استعمال ويحرم بيعها وشراؤها وصياغتها وأخذ الأجرة عليها، بل نفس الأجرة حرام ، لأنها عوض محرم، وإذا حرم الله شيئا حرم ثمنه وقالوا ان الصفر أو غيره الملبس بأحدهما يحرم استعماله إذا كان على وجه لو انفصل كان إناء مستقلا، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يجرم كما إذا كان الذهب والفضة قطعا منفصلات لبس بهما الإناء من الصور داخلا أو خارجا. ولا بأس بالمفضض أو المطلى أو المموه بأحدهما نعم يكره استعمال المفضض بل يحرم الشرب منه إذا وضع فمه على موضع الفضة.
ولا يحرم استعمال الممتزج من أحدهما مع غيرهما إذا لم يصدق عليه اسم أحدهما. ويحرم ما كان ممتزجا منهما وأن لم يصدق عليه اسم أحدهما، وكذا ما كان مركب منهما بأن كان قطعة منه ذهبا وقطعة فضة وقالوا إن المراد بالأواني ما يكون من قبيل الكأس والكوز والصينى والقدر والفنجان وما يطبخ فيه القهوة وكوز الغليان والمصفاة ونحو ذلك.
وقالوا إن الأحوط فيما يشبه ذلك الاجتناب وذلك كقراب السيف والخنجر والسكين وقاب الساعة وظرف الغالية(أى المسك) وظرف الكحل ، ويقولون إنه لا فرق فى حرمة الأكل والشرب. من آنية الذهب والفضة بين مباشرتهما لفمه أو أخذ اللقمة منها ووضعها فى الفم، وكذا إذا وضع ظرف الطعام فى الصينى من أحدهما وكذا لو فرغ ما فى الإناء من أحدهما فى ظرف آخر لأجل الأكل والشرب لا لأجل التفريغ فإن الظاهر حرمة الأكل والشرب لأن هذا يعد استعمالا لهما فيهما.
ونقل الطباطبائى عن بعض العلماء أنه إذا أمر شخص خادمه فصب الشاى من القدر المصنوع من الذهب أو الفضة فى الفنجان وأعطاه شخصا آخر فشرب فإن الخادم والآمر عاصيان، والشارب لا يبعد أن يكون عاصيا، ويعد هذا منه استعمالا، وقالوا إذا كان المأكول أو المشروب فى آنية من أحدهما ففرغه فى ظرف آخر بقصد التخلص من الحرام لا بأس به ولا يحرم الشرب والأكل بعد هذا.
وقالوا إذا انحسر ماء الوضوء أو الغسل فى إحدى الآنيتين وأمكن تفريغه فى ظرف آخر وجب وإلا سقط وجوب الوضوء والغسل ووجب التيمم وإن توضأ أو اغتسل منهما بطل سواء أخذ الماء منهما بيده أوصبه على محل الوضوء بهما أو انغمس فيهما وأن كان له ماء آخر أو أمكن التفريغ فى ظرف، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالأقوى البطلان لأنه وإن لم يكن مأمورا بالتيمم إلا أن الوضوء أو الغسل حينئذ يعد استعمالا لهما عرفا فيكون منهيا عنه بل الأمر كذلك لو جعلهما محلا لغسالة الوضوء لأن ذلك يعد فى العرف استعمالا.
وقالوا إنه لا فرق فى الذهب والفضة بين الجيد والردىء والمعدنى والمصنوع والمغشوش والخالص إذا لم يكن الغش إلى أحد يخرجها عن صدق الاسم وإن لم يصدق الخلوص أما إذا توضأ أو اغتسل من أناء الذهب أو الفضة مع الجهل بالحكم أو الموضوع صح، أما الأوانى من غير الجنسين فلا مانع منها وإن كانت أعلى وأغلى كالياقوت والفيروز، وكذلك الذهب الفرنكى لأنه ليس ذهبا.
وقالوا إنه إذا اضطر إلى استعمال آنية الذهب والفضة جاز إلا فى الوضوء والاغتسال فإنه ينتقل الى التيمم، وإذا دار الأمر فى حالة الضرورة بين استعمالها واستعمال المغصوب قدمهما.(4/5)
وقالوا لا يجوزاستعمال الظروف المعمولة من جلد نجس العين أو الميتة فيما يشترط فيه الطهارة من الأكل والشرب والوضوء والغسل، بل الأحوط عدم استعمالها فى غير ما يشترط فيه الطهارة أيضا بل وكذا سائر الانتفاعات غير الاستعمال، فإن الأحوط ترك جميع الانتفاعات منها، وأما ميتة ما لا نفس له كالسمك ونحوه فحرمة استعمال جلده غير معلوم وإن كان أحوط وكذا لا يجوز استعمال المغصوبة مطلقا والوضوء والغسل منها مع العلم باطل، نعم لوصب الماء منها فى ظرف مباح فتوضأ أو أغتسل صح وأن كان عاصيا من جهة تصرفه فى المغصوب، وأما أواني المشركين وسائر الكفار فإنها طاهرة ما لم يعلم ملاقاتهم لها مع الرطوبة التى تسرى إليها بشرط ألا تكون من الجلود، ولا يكفى الظن فى ذلك، وإلا فمحكومة بالنجاسة إلا إذا علم تذكية حيوانها أو علم سبق يد مسلم عليها، وكذا غير الجلود.
أما ما لا يحتاج إلى التذكية فطاهر إلا مع العلم بالنجاسة، ويجوز عندهم استعمال أوانى الخمر بعد غسلها وإن كانت من الخشب أو القرع أو الخزف غير المطلى بالقير و نحوه فلا يضر نجسة باطنها بعد تطهير ظاهرها داخلا وخارجا، ويكفى تطهير الداخل. نعم يكره استعمال ما نفذ الخمر إلى باطنه إلا إذا غسل على وجه يطهر باطنه.
وجاء فى الفقه الإباضى (13): "وكره الوضوء من المشمس " الذى سخن ماؤه فى الشمس.
" أو من إناء ذهب، أو فضة، أو صفر " بضم فسكون نحاس، ولو أبيض، وذلك كله للإسراف " وقيل " التوضؤ " من الأولين " الذهب والفضة " حرام "، فيعاد. والقولان فى الرجل والمرآة جميعا لأن المحلل للنساء ليس الذهب لا الشرب فيه ونحو الشرب بدليل كراهة الفضة أو تحريمها أيضا عليها وعليه فى الوضوء. والذى أقول أن ما فيه فخر يكره أيضا مثل أناء القزدير فيكره مطلقا ولو لم يفخر به سدا للذريعة
اختلاط الأوا نى:
قال الأحناف (14): إذا تجاوزت أوان بكل منها ماء واشتبه الشخص فيها- لأن بعضها طاهر وبعضها نجس- فإن كان أكثرها طاهراً وأقلها نجس فإنه يتحرى لكل من الوضوء والاغتسال، وإن تساوت الأوانى 0 فكان عدد الطاهر مثل عدد النجس- فانه يعدل عنها ويتيمم لفقد المطهر قطعا، وإن وجد ثلاثة رجال ثلاثة أوان أحدهما نجس، وتحرى كل " أناء"، جازت صلاتهم وحدانا، وكذا يتحرى مع كثرة الطاهر لأوانى الشرب لأن المغلوب كالمعدوم وإن اختلط إناءان ولم يتحر وتوضأ بكل وصلى صحت إن مسح فى موضعين من رأسه لا فى موضع لأن تقديم الطاهر مزيل للحدث. وأما إن كان أكثر الأوانى نجسا فإنه لا يتحرى إلا للشرب لنجاسة كلهما حكما للغالب فيريقها عند عامة المشايخ ويمزجها لسقى الدواب عند الطحاوى ثم يتيمم.
وأما مسلك المالكية (15) فإنهم قالوا إذا اشتبه طهور بمتنجس كما لو كان عنده جملة من الأواني تغير بعضها بتراب طاهر وتغير بعضها بتراب نجس واشتبهت هذه بهذه فان مريد التطهير يصلى صلوات بعدد أوانى النجس كل صلاة بوضوء وزيادة إناء ويبني على الأكثر أى يجعل الأكثرهو النجس فإن كان عنده ستة أوان علم أن أربعة منها من نوع واثنتين من نوع وشك هل الأربعة من نوع النجس أو من نوع الطهور فانه يجعلها من النجس ويصلى خمس صلوات بخمس وضوءات هذا إذا اتسع الوقت وإلا تركه ويتيمم.
ولو اشتبه طهور بطاهر، أى غير مطهر كالماء المستعمل. فانه يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء ويصلى صلاة واحدة ويبني على الأكثر أن شك.
وأما الشافعية(16): فإنهم يقولون إن الاشتباه فى الأوانى يقتضى الاجتهاد مطلقا ولو قل عدد الطاهر كإناء من مائة وجوبا إن لم يقدر على طهور بيقين، وجوازا إن قدر على طهور بيقين، إذ العدول إلى المظنون مع جواز المتيقن جائز.
وللحنابلة فى هذا المقام تفصيل (17) خلاصته، أن الأواني المشتبهة لا تخلو من حالين:
أحدهما: ألا يزيد عدد الطاهر على النجس فلا خلاف فى المذهب أنه لا يجوز التحرى فيها بل يريقها ويتيمم ، فهم كالأحناف فى هذا.
الثانى: أن يكثر عدد الطاهر فذهب بعضهم إلى جواز التحرى لأن الظاهر إصابة الطاهر لأن جهة الإباحة قد ترجحت فجاز التحرى ، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز التحرى فيها بحال، وهو قول أكثر أصحابه.
ثم قال ابن قدامة(18): إذا أشتبه طهور بماء قد بطلت طهوريته توضأ من كل واحد وضوءا كاملا وصلى بالوضوءين صلاة واحدة، وقال أنه لا يعلم فى ذلك خلافا لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين فلزمه كما لو كانا طهورين ولم يكف أحدهما وهذا غير ما لو كان أحدهما نجسا لأنه ينجس أعضاءه بيقين فلا يأمن أن يكون النجس هو الثانى فإن احتاج إلى أحد الإناءين فى الشرب تحرى وتوضأ بالطهور عنده ويتيمم معه ليحصل له اليقين.
ويقول ابن حزم (19): إن كان بين يدى المتوضىء إناءان فصاعدا ، فى أحدهما ماء طاهر بيقين وسائرها نجس أو فيها واحد نجس وسائرها طاهر ولا يميز من ذلك شيئا فله أن يتوضأ بأيها شاء ما لم يكن على يقين من أنه قد تجاوز عدد الطاهرات وتوضأ بما لا يحل الوضوء به لأن كل ماء منها فعلى أصل طهارته على انفراده. فإذا حصل على يقين التطهر فيما لا يحل التطهر به فقد حصل على يقين الحرام فعليه أن يطهر أعضاءه إن كان ذلك الماء حراما استعماله جملة،. فإن كان فيها واحد " معتصر " لا يدريه لم يحل له الوضوء بشىء منها لأنه ليس على يقين من أنه توضأ بماء واليقين لا يرتفع بالظن.
وأما الزيدية(20) فيقولون كالشافعية: إن التحرى مشروع عند لبس الطاهر بالنجس مطلقا لوجوب العمل بالظن.(4/6)
ونقل صاحب البحر عن الأكثر- العترة والأئمة الأربعة- أنه لابد فى التحرى من اجتهاد بأمارة من ترشيش أو غيره فإن أريقت الأنية كلها إلا واحدا فوجوه، أصحها تبين طهارة الباقى رجوعا إلى الأصل وقيل يتيمم إذ لا تحرى إلا بين اثنين وقيل يتحرى فى الباقى لإمكانه.
وإذا ظن قبل الصلاة أن الذى توضأ به هو النجس يتيمم لبطلان الأول فإن وجد أناء تيقن طهارة مائه ترك الملتبس حتما إذ لا يكفى الظن مع إمكان اليقين، ونقل عن الأكثر أن له التحرى.
ونقل عن المنصور بالله وبعض البغداديين أنه إذا التبس قراح(أى طهور) بطاهر غير مطهر استعملها لتيقن الامتثال.
وهذا النقل كالذى سبق عن المالكية ونقل عن الخرسانيين أنه يتحرى فى هذا أيضا.
ولم نقف للجعفرية على كلام فى مسألة اختلاط الأوانى.
الإباضية:
وإن اختلط إناء نجس أو اثنان أو أكثر بإناء طاهر أو إناءين أو أكثر، تطهر بأحدهما وأمسك عن ثوبه حتى يجف بدنه ثم يصلى ثم بأخر كذلك إلى آخرها ويصادف الطاهر ولابد أن يتطهر بعد لا مكان أن يكون ختم بالنجس، وذلك خطأ، لأنه يتنجس بأحدها ويتوضأ بلا غسل النجس إن كان يتوضأ وكذا الاغتسال إلا أن ينوى بالمرتين غسل النجس إن كان ما قبله نجسا عند اللّه وبالمرة بعد دفع الحدث أو ينوى الأولى مثلا أن كان ظهر عند الله ما قبلها.
وقيل يتحرى أحدها فيستعمله وهو خطأ إذ لا يعمل على شك .
والصواب أن يتيمم. وزعم بعض أنه جلطها كلها فلا يبقى معه طاهر فيكون غير واجد وهو ضعيف .
وقيل إن كانت طاهرة إلا واحدا تطهر بواحد ولزمه شراء الماء أو الآلة بالثمن فى محله أو أقل لا بأكثر(21).
تطهير الأوانى:
قال الحنفية (22): تطهر الآنية المصقولة التى لا مسام لها من النجاسة بمسح يزول به أثرها مطلقا سواء كانت النجاسة لها جرم أو لا رطبة و يابسة، مع أن الأصل فى التطهير عندهم هو الماء.
ولم تذكر المذاهب الأخرى تطهيرا للآنية بغير الماء إلا ما ذكر من خلاف فى أهاب الحيوان .
ونقل ابن عابدين عن الخانية أن الظاهر أن اليابسة ذات الجرم تطهر بالحت والمسح. بما فيه بلل ظاهر حتى يذهب أثرها.
وقالوا (23) فى سؤر الكلب أنه نجس ويغسل الإناء من ولوغه فيه ثلاثا (انظر سؤر طهارة).
ويقول المالكية (24): بكراهة استعمال إناء ولغ فيه الكلب وماؤه قليل ولو تحققت سلامة فمه من النجاسة، وعندهم (25) قول فى المذهب بأن مسح الصقيل وتدخل فيه بعض الآنية مطهر له (انظر سؤر).
ويقول الشافعية (26): ما تنجس- بملاقاة شىء من الكلب سواء كان بجزء منه أو من فضلاته غسل سبعا إحداهن بالتراب. وقالوا إن الخنزير كالكلب فى الأظهر لأنه أسوأ حالا منه.
وقال الحنابلة (27): كل إناء حل فيه نجاسة من ولوغ كلب أو بول أو غيره فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
وعن أحمد أنه يجب غسلها ثمانية إحداهن بالتراب، فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان والصابون والنجاسة ففيه وجهان (انظر سؤر).
المذهب الظاهرى (28): يقول ابن حزم أن تطهير الإناء إذا كان لكتابى مما يجب التطهير منه يكون بالماء، إذا لم يجد غير ذلك الإناء سواء علم فيه نجاسة أو لم يعلم فإن كان إناء مسلم فهو طاهر فان تيقن فيه ما يلزمه اجتنابه فبأى شىء أزاله كائنا ما كمان من الطاهرات إلا أن يكون لحم حمار أهلي أو ودكه أو شحمه أو شينا منه فلا يجوز أن يطهر إلا بالماء، فإن ولغ فى الإناء كلب مطلقا صغيرا أو كبيرا كلب صيد او غيره غسل بالماء سبع مرات ولابد أولاهن بالتراب مع الماء فإن كل الكلب فى الإناء أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا إراقة ما فيه(انظر سؤر).
الجعفرية (29): يطهر الإناء المتنجس بصب الماء عليه مرتين. ويكفى صب الماء فيه بحيث يصيب النجس وإفراغه منه ولو بآلة لا تعود اليه ثانيا إلا طاهرا، وإن ولغ فى الإناء كلب قدم علق الغسلتين بالماء مسحه بالتراب الطاهر دون غيره مما أشبهه وألحق بولوغ الكلب لطمه الإناء دون مباشرته له بسائر أعضائه، وقالوا لو تكرر الولوغ تداخل كغيره من النجاسات ويستحب غسله سبع مرات خروجا من خلاف من أوجبها كما تستحب السبع عندهم فى الفأرة والخنزير.
الزيديه (30): نقل صاحب البحر عن العترة والشافعى وأصحابه أن طهارة الصقيل كالخشن بالغسل خلافا للأحناف الذين قالوا تطهر بالمسح.
ونقل (31) عند كلامه عن سؤر الكلب أنه يكفى عند العترة التثليث بالغسل من ولوغ الكلب.
الإباضية: وكل إناء تنجس وإن بكونه من ذمى احتج إليه واستحسن التعجل بإزالة النجس وأن يمسح عند تعذر الماء. والنطفة والغائط والقىء إذا خالطا أناء فيصح غسلها منه ولو رطوبات غير مقشرات ولا مخلوطات بتراب؟
ويصعب فى مصنوع كقصعة وفخار أن سبق النجس إليه قبل كل مائع هل يطهر بالماء ثلاثا بإبقائه فيه كل مرة يوما وليلة ثم يراق أو ليلا فقط فيراق نهارا ويصل فى الشمس فارغا إلى الليل أو بماء واحد يوما وليلة أو لا حد فى ذلك إلا غلبة الظن بالطهارة وبلوغها حيث بلغ النجس أقوال (32). ويقولون: يسن غسل أناء ولغ فيه الكلب غير المعلم على الصحيح سبعا أولاهن وأخراهن بتراب، وصحح الجواز بثلاث كغيره.
الضمان:
نقصر الكلام فيما يتعلق بالضمان فى الآنية على ما له أحكام خاصة فى المذاهب التى أفردت أحكامها لبعضها كآنية الذهب والفضة وآنية الخمر وهو ما قاله ابن حزم الظاهرى (33) وهو مذهب الشافعية (34)(4/7)
مذهب الحنابلة (35): من كسر آنية من ذهب أو فضة لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه يضمن فإن بعضهم نقل عنة فيمن هشم على غيره إبريقا فضة علية قيمته بصوغه وكان قيل له أليس قد نهى النبى عن اتخاذها فسكت ، والصحيح أنه لا ضمان علية ، نص علية أحمد فى رواية المرزوى فيمن كسر إبريق فضة أنه لا ضمان علية لأنه اتلف ما ليس بمباح فلم يضمن كالميتة ، ورواية البعض السابقة تدل على أنة رجع عن قولة بعدم الضمان لكونه سكت حين ذكر لسائل تحريمه ، وإن كسر آنية الخمر ففيها روايتان:
أحدهما: يضمنها لأنة مال يمكن الانتفاع به ويحل بيعة كما لو لم يكن فيها خمر ، ولأن كون جعل الخمر فيها لا يقتضى سقوط ضمانها كالبيت الذى جعله مخزنا للخمر.
والثانية: لا يضمن لما روى احمد فى سنده بسنده لعبد الله بن عمر قال: أمرنى رسول الله أن آتيه بمدية فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال اغد بها على ففعلت ، فخرج بأصحابه الى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية منى فشق ما كان تلك الزقاق بحضرته كلها ، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معى ويعاونونى ، وأمرني أن آتى الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت.
يقول الشافعى (36) : فى إناء الخمر إن بلغ نصابا ولم يقصد - آخذه - بإخراجه إراقتها ، وقد دخل بقصد السرقة قطع به على الصحيح أما لو قصد بإخراج الإناء تيسر إفساد الخمر وإن أخرجه بقصد السرقة فلا قطع.
يقول الأحناف (37): أنه لا قطع إناء الخمر ولو كان ذهبا لأن الإناء تابع ولم يقطع فى المتبوع. فكذا فى التبع. وفى رواية عن أبى يوسف انه يقطع ورجحة فى الفتح فيما تعاين ذهبيتة بأن الظاهر إن كلا مقصود بالأخذ بل أخذ الإناء أظهر (38)
ويقول الشيعة الجعفرية (39): يجب على صاحب آنية الذهب والفضة كسرها ، وأما غيره إن علم إن صاحبها يقلد من يحرم اقتناءها أيضا وإنهما من الأفراد المعلومة فى الحرمة يجب علية نهيه. وإن توقف على الكسر يجوز له كسرها ولا يضمن قيمة صياغتها نعم لو اتلف الأصل ضمن وإن احتمل أن يكون صاحبها ممن يقلد من يرى جواز الإقتناء أو كائنا مما محل خلاف فى كونه آنية أم لا. لا يجوز له التعرض له.
----------------
(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص 238
(2) حاشية ابن عابدين على شرح الرد لمتن التنوير ج5 ص 252
(3) حاشية ابن عابدين ج5 ص 238
(4) حاشية ابن عابدين على شرح الرد لمتن التنوير ج5 ص 252
(5) شرح الدردير مع حاشية الدسوقى ج1 ص 64 المطبعة الأزهرية بمصر.
(6) الجوهرة النيرة على مختصر القدوري ج 2ص383 طبع إستامبول سنة 1301هجرية
(7) حاشية ابن عابدين ج5 ص236 المطبعة الميمنية سنة 1307هجرية
(8) الاقناع وحاشية البجرمى ج1 ص 101 ، 102 طبعة القاهرة.
(9) الاقناع وحاشية البجرمى ج1 ص 104
(10) المغنى ج1 ص 75، 77
(11) المغنى ج1 ص 78 طبعة دار المنار سنة 1376هجرية
(12) المحلى ج1 ص 391 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(13) البحر الزخار ج 1 ص41 مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1366هجرية.
(14) مستمسك العروة الوثقى الطبعة الثانية بالنجف سنة 1336 هجرية الآية الله العظمى الطباطبائى ج2 ص130 وما بعدها
(15) شرح النيل ج1ص53،54.
(16) حاشية الطحطاوى ج1 ص21.
(17) المغنى ج1ص60.
(18) المرجع السابق ص63.
(19) المحلى ج2 ص225
(20) البحر الزخار ج1 ص39
(21) شرح النيل ج2 ص 298
(22) الدر وحاشية ابن عابدين ج1 ص 226
(23) الهداية ج1 ص 12
(24) حاشية الدسوقى ج1 ص 43
(25) المرجع السابق ص 43
(26) نهاية المحتاج ج1 ص 234
(27) المغنى ج1 ص 52
(28) المحلى ج1 ص 92 فما بعدها
(29) الروضة البهية ج1 ص 20
(30) البحر الزخار ج1 ص 18
(31) المرجع السابق 20
(32) شرح النيل ج1ص243،285،286،287
(33) محلى ج7 ص 171.
(34) نهاية المحتاج ج5 ص 166
(35) المغنى ج5 ص 278
(36) نهاية المحتاج ج7 ص 421
(37) ابن عابدين ج3 ص 315
(38) الاختيار ج3 ص 63 طبعة الحلبى سنة 1355 هجرية
(39) مستمسك العروة الوثقى ج2 ص 155 ، 156 مطبعة النجف.(4/8)
آية
التّعريف
1 - الآية لغةً : العلامة والعبرة ، وشرعاً هي جزء من سورة من القرآن تبيّن أوّله وآخره توقيفاً . والفرق بين الآية والسّورة أنّ السّورة لا بدّ أن يكون لها اسم خاصّ بها ، ولا تقلّ عن ثلاث آيات . وأمّا الآية فقد يكون لها اسم كآية الكرسيّ ، وقد لا يكون ، وهو الأكثر . وقد استعمل الفقهاء الآية بالمعنى اللّغويّ أيضاً ، حين أطلقوا على الحوادث الكونيّة ، كالزّلازل والرّياح والكسوف والخسوف ، إلخ ، اسم الآيات .
( الحكم الإجماليّ )
2 - بما أنّ الآية جزء من القرآن الكريم فإنّ أحكامها تدور في الجملة على أنّه هل تجري عليها أحكام المصحف أو لا ؟ وذلك كما لو كتبت آية من القرآن على لوح فهل يجوز للمحدث مسّه ؟ من الفقهاء من منعه اعتباراً بما فيه من قرآن ، ومنهم من أجازه لعدم شبهه بالمصحف . كما اختلف الفقهاء في إجزاء قراءة الآية الواحدة في الصّلاة ، على تفصيل لهم في ذلك .
( مواطن البحث )
3 - الطّهارة : يتعرّض الفقهاء لحكم مسّ المحدث للوح كتبت عليه آية أو آيات ، في كتاب الطّهارة - ما يحرم بالحدث . الصّلاة : تعرّض الفقهاء لحكم قراءة الآية القرآنيّة أو الآيات في الصّلاة ، في صفة الصّلاة ، وعند الكلام على مستحبّات الصّلاة . وذكروا كذلك ما يتّصل بتلاوة الآية من أحكام ، كالتّنكيس للآي ، وعدّها بالأصابع ، والسّؤال والتّسبيح والتّعوّذ عند آية الرّحمة أو آية العذاب ، وتكرار الآية الواحدة ، وقراءة الآيات من أثناء سورة . كما ذكروا حكم قراءة خطيب الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء للآية في الخطبة في صلاة الجمعة ، وفي صلاة العيدين ، وصلاة الكسوف ، وصلاة الاستسقاء . كما ذكر بعض الفقهاء حكم الصّلاة عند حدوث الآيات الكونيّة في صلاة الكسوف . سجدة التّلاوة : يذكر تفصيل أحكام تلاوة آية السّجدة في مبحث سجدة التّلاوة . حكم الآية في مواضع متفرّقة : حكم الاستعاذة والبسملة قبل تلاوة الآية فصّله الفقهاء في مبحث الاستعاذة من صفة الصّلاة . وتتعرّض كتب الأذكار والآداب لتلاوة آيات معيّنة من القرآن الكريم في حالات خاصّة ، كقراءة آية الكرسيّ قبل النّوم ، وبعد الصّلاة إلخ .(5/1)
أداء
التّعريف
1 - الأداء : الإيصال يقال : أدّى الشّيء أوصله ، وأدّى دينه تأديةً أي قضاه . والاسم : الأداء . كذلك الأداء والقضاء يطلقان في اللّغة على الإتيان بالمؤقّتات ، كأداء صلاة الفريضة وقضائها ، وبغير المؤقّتات ، كأداء الزّكاة والأمانة ، وقضاء الحقوق ونحو ذلك . وفي اصطلاح الجمهور من الأصوليّين والفقهاء : الأداء فعل بعض ( وقيل كلّ ) ما دخل وقته قبل خروجه واجباً كان أو مندوباً ، أمّا ما لم يقدّر له زمان في الشّرع ، كالنّفل والنّذر المطلق والزّكاة ، فلا يسمّى فعله أداءً ولا قضاءً . وعند الحنفيّة : الأداء تسليم عين ما ثبت بالأمر . ولم يعتبر في التّعريف التّقييد بالوقت ليشمل أداء الزّكاة والأمانات والمنذورات والكفّارات ، كما أنّه يعمّ فعل الواجب والنّفل . وقد يطلق كلّ من الأداء والقضاء على الآخر مجازاً شرعيّاً ، كقوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } أي أدّيتم ، وكقولك : نويت أداء ظهر الأمس .
2 - والأداء إمّا محض ، سواء أكان كاملاً كصلاة المكتوبة في جماعة ، أم قاصراً كصلاة المنفرد ؛ وإمّا غير محض ، وهو الشّبيه بالقضاء ، كفعل اللاّحق الّذي أدرك أوّل الصّلاة بالجماعة ، وفاته الباقي فأتمّ صلاته بعد فراغ الإمام ، ففعله أداء باعتبار كونه في الوقت ، قضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام ، فهو يقضي ما انعقد له إحرام الإمام ، من المتابعة والمشاركة معه بمثله .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - القضاء :
3 - القضاء لغةً : معناه الأداء . واستعمله الفقهاء بالمعنى الاصطلاحيّ الآتي ، خلافاً للوضع اللّغويّ للتّمييز بينه وبين الأداء . واصطلاحاً : ما فعل بعد خروج وقت أدائه استدراكاً لما سبق لفعله مقتض ، أو تسليم مثل ما وجب بالأمر ، كما يقول الحنفيّة . فالفرق بينه وبين الأداء عند الجمهور مراعاة قيد الوقت في الأداء دون القضاء ، وعند الحنفيّة مراعاة العين في الأداء والمثل في القضاء ، إذ الأداء كما سبق هو فعل المأمور به في وقته بالنّسبة لما له وقت ، عند الجمهور ، وفي أيّ وقت بالنّسبة لما ليس له وقت محدّد ، عند الحنفيّة .
ب - الإعادة :
4 - الإعادة لغةً : ردّ الشّيء ثانياً ، واصطلاحاً : ما فعل في وقت الأداء ثانياً لخلل في الأوّل وقيل لعذر . فالصّلاة بالجماعة بعد الصّلاة منفرداً تكون إعادةً باعتبار أنّ طلب الفضيلة عذر ، فالفرق بينها وبين الأداء السّبق وعدمه .
الأداء في العبادات :
5 - العبادات الّتي لم تحدّد بوقت لا توصف بالأداء بالمعنى الاصطلاحيّ ، أي الّذي يقابل القضاء ، وذلك عند غير الحنفيّة ، إلاّ أنّهم يطلقون عليها لفظ الأداء إطلاقاً لغويّاً بمعنى الإتيان بالمأمور به الأعمّ من الأداء الّذي يقابل القضاء . ولذلك يقول الشبراملسي عند الكلام على أداء الزّكاة - أي دفعها : ليس المراد بالأداء المعنى المصطلح عليه ؛ لأنّ الزّكاة لا وقت لها محدّداً حتّى تصير قضاءً بخروجه . أمّا الحنفيّة فغير الوقت عندهم يسمّى أداءً شرعاً وعرفاً ، والقضاء يختصّ بالواجب الموقّت .
أقسام العبادات باعتبار وقت الأداء :
6 - العبادات باعتبار وقت الأداء نوعان : مطلقة ومؤقّتة . فالمطلقة : هي الّتي لم يقيّد أداؤها بوقت محدّد له طرفان ؛ لأنّ جميع العمر فيها بمنزلة الوقت فيما هو موقّت ، وسواء أكانت العبادة واجبةً كالزّكاة والكفّارات ، أم مندوبةً كالنّفل المطلق . وأمّا العبادات الموقّتة : فهي ما حدّد الشّارع وقتاً معيّناً لأدائها ، لا يجب الأداء قبله ، ويأثم بالتّأخير بعد أن كان المطلوب واجباً ، وذلك كالصّلوات الخمس وصوم رمضان . ووقت الأداء إمّا موسّع وأمّا مضيّق . فالمضيّق : هو ما كان الوقت فيه يسع الفعل وحده ، ولا يسع غيره معه ، وذلك كرمضان فإنّ وقته لا يتّسع لأداء صوم آخر فيه ، ويسمّى معياراً أو مساوياً . والموسّع : هو ما كان الوقت فيه يفضل عن أدائه ، أي أنّه يتّسع لأداء الفعل وأداء غيره من جنسه ، وذلك كوقت الظّهر مثلاً ، فإنّه يسع أداء صلاة الظّهر وأداء صلوات أخرى ، ولذلك يسمّى ظرفاً . والحجّ من العبادات الّتي يشتبه وقت أدائه بالموسّع والمضيّق ؛ لأنّ المكلّف لا يستطيع أن يؤدّي حجّتين في عام واحد ، فهو بهذا يشبه المضيّق ، ولكن أعمال الحجّ لا تستوعب وقته ، فهو بهذا يشبه الموسّع ، هذا على اعتباره من الوقت ، وقيل إنّه من المطلق باعتبار أنّ العمر وقت للأداء كالزّكاة .
صفة الأداء ( حكمه التّكليفيّ ) :(6/1)
7 - العبادات إمّا فرض أو مندوب ، فإن كانت فرضاً كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والجهاد والنّذور والكفّارات فإنّه يجب على المكلّف الأهل أداؤها على الوجه المشروع ، إذا تحقّق سببها ، وتوفّرت شروطها . فإن كانت العبادة محدّدةً بوقت له طرفان ، سواء أكان الوقت موسّعاً ، كوقت الصّلاة ، أم كان مضيّقاً كرمضان فإنّه يجب أداؤها في الوقت المحدّد ، ولا يجوز أن تتقدّم عليه ولا أن تتأخّر عنه إلاّ لعذر ؛ لأنّها تفوت بفوات الوقت المحدّد دون أداءً ، وتتعلّق بالذّمّة إلى أن تقتضي . ولا خلاف بين الفقهاء في تحديد الوقت الّذي يجب فيه الأداء فيما كان وقته مضيّقاً ؛ لأنّ الوقت كلّه مشغول بالعبادة ، وليس فيه زمن فارغ منها ، إلاّ أنّهم يختلفون في تعيين النّيّة لصحّة الأداء فعند الحنفيّة يكفي مطلق النّيّة ؛ لأنّ الوقت لمّا كان معياراً فلا يصلح لعمل آخر من جنسه ، وعند الجمهور لا بدّ من التّعيين ، فإن لم يعيّن لم يجزه . أمّا ما كان وقته موسّعاً فقد اختلف الفقهاء في تحديد الجزء الّذي يتعلّق به وجوب الأداء ، فعند الجمهور هو الكلّ لا جزء منه ؛ لأنّ الأمر يقتضي إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الوقت ما بين هذين » ، وهو يتناول جميع أجزائه ، وليس تعيين بعض الأجزاء لوجوب الأداء بأولى من تعيين البعض الآخر ، إلاّ أنّ الأداء يجب في أوّل الوقت مع الإمكان ، وقيل يستحبّ ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أوّل الوقت رضوان اللّه ، وآخره عفو اللّه » . ويجوز التّأخير إلى آخر الوقت المختار ؛ لأنّ عدم جواز التّأخير فيه ضيق على النّاس ، فسمح لهم بالتّأخير ، وعند الحنابلة وبعض الشّافعيّة يجوز التّأخير لكن مع العزم على الفعل ، فإن لم يعزم أثم . وإن ظنّ المكلّف أنّه لا يعيش إلى آخر الوقت ، الموسّع تضيّق عليه الوقت وحرم عليه التّأخير اعتباراً بظنّه ، فإن أخّره ومات عصى اتّفاقاً ، فإن لم يمت بل عاش وفعل في آخر الوقت فهو قضاء عند القاضي أبي بكر الباقلاّنيّ أداء عند الجمهور ، لصدق تعريف الأداء عليه ، ولا عبرة بالظّنّ البيّن خطؤه . وعند المحقّقين من الحنفيّة وقت الأداء هو الجزء الّذي يقع فيه الفعل ، وأنّ الصّلاة لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين ، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن ، وإنّما التّعيين إلى المصلّي من حيث الفعل حتّى إنّه إذا شرع في أوّل الوقت يجب في ذلك الوقت ، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره ، ومتى لم يعيّن حتّى بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه أربعاً - وهو مقيم - يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلاً ويأثم بترك التّعيين . وقال بعض الحنفيّة العراقيّين : إنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، فعلى هذا ، فإن قدّمه ثمّ زالت أهليّته قبل آخر الوقت فالمؤدّى نفل . وقال بعض أصحاب الشّافعيّ : إنّ الوجوب يتعلّق بأوّل الوقت فإن أخّره فهو قضاء . وكلا الفريقين ممّن ينكرون التّوسّع في الوجوب .
بم يتحقّق الأداء إذا تضيّق الوقت ؟
8 - اختلف الفقهاء فيما يمكن به إدراك الفرض إذا تضيّق الوقت ، فعند الجمهور يمكن إدراكه بركعة بسجدتيها في الوقت ، فمن صلّى ركعةً في الوقت ثمّ خرج الوقت يكون مؤدّياً للجميع ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . قال : « من أدرك ركعةً من الصّبح قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصّبح ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر » ، وذهب أشهب إلى أنّها تدرك بالرّكوع وحده وعند الحنفيّة وبعض الحنابلة يمكن إدراك الصّلاة بتكبيرة الإحرام ، لما روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا أدرك أحدكم أوّل سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشّمس فليتمّ صلاته ، وإذا أدرك أوّل سجدة من صلاة الصّبح قبل أن تطلع الشّمس فليتمّ صلاته » وفي رواية « : فقد أدرك » ؛ ولأنّ الإدراك إذا تعلّق به حكم في الصّلاة استوى فيه الرّكعة وما دونها . وقال بعض الحنفيّة والشّافعيّة : إنّه يكون مؤدّياً لما صلّى في الوقت قاضياً لما صلّى بعد خروج الوقت ، اعتباراً لكلّ جزء بزمانه ، واستثنى الحنفيّة من ذلك صلاة الصّبح وحدها ، فإنّها لا تدرك إلاّ بأدائها كلّها قبل طلوع الشّمس ، وعلّلوا ذلك بطروء الوقت النّاقص على الوقت الكامل ، ولذا عدّوا ذلك من مبطلات الصّلاة وأمّا ما كان وقته مطلقاً كالزّكاة والكفّارات والنّذور المطلقة فقد اختلف الفقهاء في وقت وجوب الأداء بناءً على اختلافهم في الأمر به ، هل هو على الفور أو على التّراخي ؟ والكلام فيه على مثال ما قيل فيما كان وقته موسّعاً في أنّه يجب تعجيل الأداء في أوّل أوقات الإمكان ، ويأثم بالتّأخير بدون عزم على الفعل ، أو أنّه على التّراخي ولا يجب التّعجيل ولا يأثم بالتّأخير عن أوّل أوقات الإمكان ، لكن الجميع متّفقون على أنّ وجوب الأداء يتضيّق في آخر عمره في زمان يتمكّن فيه من الأداء قبل موته بغالب ظنّه ، وأنّه إن لم يؤدّ حتّى مات أثم بتركه . هذا بالنّسبة للعبادات الواجبة سواء أكانت موقّتةً أم مطلقةً .(6/2)
9 - أمّا المندوب من العبادات فمن المقرّر أنّ المندوب حكمه الثّواب على الفعل وعدم اللّوم على التّرك ، لكن فعله أولى من تركه . ومن المندوب ما هو موقّت كالرّكعتين قبل الظّهر والرّكعتين بعده ، وما بعد المغرب والعشاء ، وركعتي الفجر ، ومنه ما هو مسبّب كصلاة الخسوف والكسوف ، ومنه ما هو مطلق كالتّهجّد . ومثل ذلك في الصّوم أيضاً ، فمنه ما هو موقّت ، كصيام يوم عرفة لغير الحاجّ ، وصيام يوم عاشوراء ، ومنه ما يتطوّع به الإنسان في أيّ يوم . وقد وردت آثار كثيرة في فضل ما زاد على الفرض من العبادات من صلاة وصوم وحجّ وزكاة ، ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل » . وقوله : « صوم يوم عاشوراء كفّارة سنة » . وكذلك روي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول اللّه أنّه قال : « من ثابر على اثنتي عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » . وهذه العبادات المندوبة يطلب أداؤها طلباً للثّواب ولا يجب الأداء إلاّ ما شرع فيه ، فيجب إتمامه ، وإذا فسد قضاه ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فيستحبّ الإتمام إلاّ في تطوّع الحجّ والعمرة ، فإنّه إذا شرع فيهما فيجب إتمامهما باتّفاق الجميع .
أداء أصحاب الأعذار :
10 - يشترط لأداء العبادة أهليّة الأداء مع الإمكان والقدرة . وقد اختلف الفقهاء في وجوب الأداء بالنّسبة لمن كان أهلاً للأداء في أوّل الوقت ، ثمّ طرأ عليه عذر في آخره ، كمن كان أهلاً للصّلاة في أوّل الوقت ، فلم يصلّ حتّى طرأ عليه آخر الوقت عذر يمنع من الأداء ، كما إذا حاضت الطّاهرة في آخر الوقت أو نفست أو جنّ العاقل أو أغمي عليه ، أو ارتدّ المسلم والعياذ باللّه وقد بقي من الوقت ما يسع الفرض . فعند الجمهور يلزمهم الفرض ؛ لأنّ الوجوب والأهليّة ثابتة في أوّل الوقت فيلزمهم القضاء . أمّا عند الحنفيّة فلا يلزمهم الفرض ؛ لأنّ الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الأداء قبله ، فيستدعي الأهليّة فيه ؛ لاستحالة الإيجاب على غير الأهل ، ولم يوجد ، فلم يكن عليه قضاء . وهو أيضاً رأي الإمام مالك وابن الحاجب وابن عرفة ، خلافاً لبعض أهل المدينة وابن عبد البرّ حيث القضاء عندهم أحوط . أمّا من لم يكن أهلاً في أوّل الوقت ، ثمّ زال العذر في آخر الوقت ، كما إذا طهرت الحائض في آخر الوقت وأسلم الكافر وبلغ الصّبيّ وأفاق المجنون والمغمى عليه وأقام المسافر أو سافر المقيم فللحنفيّة قولان : أحدهما وهو قول زفر أنّه لا يجب الفرض ولا يتغيّر الأداء إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الفرض . والقول الثّاني للكرخيّ وأكثر المحقّقين : أنّه يجب الفرض ويتغيّر الأداء إذا بقي من الوقت مقدار ما يسع التّحريمة فقط ، وهو قول الحنابلة وبعض الشّافعيّة . وعند المالكيّة يجب الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ركعة مع زمن يسع الطّهر ، وهو قول لبعض الشّافعيّة ، وفي قول آخر للشّافعيّة إذا بقي مقدار ركعة فقط . هذا مثال لاعتبار أهليّة الأداء في بعض العبادات البدنيّة . ولمعرفة التّفاصيل ( ر : أهليّة . حجّ . صلاة . صوم ) .
11 - أمّا بالنّسبة للقدرة على الأداء فإنّ المطلوب أداء العبادة على الصّفة الّتي ورد بها الشّرع ، ففي الصّلاة مثلاً يجب أن يكون أداؤها على الصّفة الّتي وردت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء في قوله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، فمن عجز عن أداء الصّلاة على الصّفة المشروعة جاز له أن يصلّي بالصّفة الّتي يستطيع بها أداء الصّلاة ، فمن عجز عن القيام صلّى جالساً ، ومن لم يستطع فعلى جنب . وهذا باتّفاق « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » ، وهكذا ، وكذلك العاجز عن الصّوم لشيخوخة أو مرض لا يرجى برؤه لا يجب عليه الصّوم ؛ لقول اللّه تعالى : { وما جعل عليكم في الدّين من حرج } مع الاختلاف في وجوب الفدية وعدمها ، فقيل : تجب عن كلّ يوم مدّ من طعام ، وقيل : لا تجب . والحجّ أيضاً لا يجب أداؤه إلاّ على المستطيع بالمال والبدن والمحرم أو الرّفقة المأمونة بالنّسبة للمرأة . فمن عجز عن ذلك فلا يجب عليه الحجّ ؛ لقول اللّه تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } .
12 - وأمّا بالنّسبة للعبادات الماليّة كالزّكاة فنظراً للأهليّة اختلف الفقهاء في وجوب الزّكاة على الصّبيّ والمجنون ، فعند الجمهور تجب الزّكاة في مال الصّبيّ والمجنون ، لأنّه حقّ يتعلّق بالمال ، ويؤدّي عنهما وليّهما ، وتعتبر نيّة الوليّ في الإخراج . وعند الحنفيّة لا يجب عليهما الزّكاة ؛ لأنّ الزّكاة عبادة ، وهما ليسا من أهلها . وكذلك من عجز عن أداء ما وجب عليه من الكفّارة وقت الوجوب ، ثمّ تغيّر حاله ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك . فعند الحنفيّة والمالكيّة : العبرة بوقت الأداء لا بوقت الوجوب ، وهو أحد الأقوال عند الشّافعيّة ، فلو كان موسراً وقت الوجوب جاز له الصّوم . وعند الحنابلة وفي قول عند الشّافعيّ أنّ العبرة بوقت الوجوب لا بوقت الأداء . وفي قول آخر للشّافعيّة والحنابلة أنّه يعتبر أغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين التّكفير .
تعجيل الأداء عن وقت الوجوب أو سببه :(6/3)
13 - العبادات الموقّتة بوقت ، والّتي يعتبر الوقت سبباً لوجوبها ، كالصّلاة والصّيام فإنّ الوقت فيهما سبب الوجوب ؛ لقول اللّه تعالى : { أقم الصّلاة لدلوك الشّمس } ، وقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه } . هذه العبادات لا يجوز تعجيل الأداء فيها عن وقت الوجوب ، وهذا باتّفاق . أمّا العبادات الّتي لا يعتبر الوقت سبباً لوجوبها ، وإن كان شرطاً فيها ، كالزّكاة ، أو المطلقة الوقت كالكفّارات ، فإنّ الفقهاء يختلفون في جواز تعجيل الأداء عن وقت وجوبها أو عن أسبابها : ففي الزّكاة مثلاً يجوز تعجيل الأداء قبل الحول متى تمّ النّصاب ، وذلك عند جمهور الفقهاء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلّف من العبّاس رضي الله عنه زكاة عامين ؛ ولأنّه حقّ مال أجّل للرّفق ، فجاز تعجيله قبل محلّه ، كالدّين المؤجّل . أمّا المالكيّة فإنّه لا يجوز عندهم إخراج الواجب قبل تمام الحول إلاّ بالزّمن اليسير كالشّهر . وصدقة الفطر يجوز تعجيلها عن وقتها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، أمّا عند المالكيّة والحنابلة فلا يجوز إخراجها قبل وقتها إلاّ بالزّمن اليسير ، كاليوم واليومين . وكفّارة اليمين يجوز تعجيلها قبل الحنث عند الجمهور ، مع تخصيص الشّافعيّة التّقديم إذا كان بغير الصّوم ، ولا يجوز التّقديم على الحنث عند الحنفيّة . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في مواضعها .
النّيابة في أداء العبادات :
14 - العبادات الماليّة المحضة كالزّكاة والصّدقات والكفّارات تجوز فيها النّيابة ، سواء كان من هي عليه قادراً على الأداء بنفسه أم لا ؛ لأنّ الواجب فيها إخراج المال ، وهو يحصل بفعل النّائب .
15 - أمّا العبادات البدنيّة المحضة كالصّلاة والصّوم فلا تجوز فيها النّيابة حال الحياة باتّفاق ؛ لقول اللّه تعالى : { وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يصوم أحد عن أحد ، ولا يصلّي أحد عن أحد » ، أي في حقّ الخروج عن العهدة ، لا في حقّ الثّواب . أمّا بعد الممات فكذلك الحكم عند الحنفيّة والمالكيّة ، إلاّ ما قاله ابن عبد الحكم من المالكيّة من أنّه يجوز أن يستأجر عن الميّت من يصلّي عنه ما فاته من الصّلوات . وعند الشّافعيّة لا تجوز النّيابة عن الميّت في الصّلاة . أمّا بالنّسبة للصّوم فعندهم أنّ من فاته شيء من رمضان ، ومات قبل إمكان القضاء ، فلا شيء عليه ، أي لا يفدى عنه ولا إثم عليه ، أمّا إذا تمكّن من القضاء ، ولم يصم حتّى مات ، ففيه قولان : أحدهما أنّه لا يصحّ الصّوم عنه ، لأنّه عبادة بدنيّة ، فلا تدخلها النّيابة في حال الحياة فكذلك بعد الموت . والقول الثّاني : أنّه يجوز أن يصوم وليّه عنه ، بل يندب ، لخبر الصّحيحين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وعليه صوم صام عنه وليّه » وهذا الرّأي هو الأظهر . قال السّبكيّ : ويتعيّن أن يكون هو المختار والمفتى به ، والقولان يجريان في الصّيام المنذور إذا لم يؤدّ . وعند الحنابلة لا تجوز النّيابة عن الميّت في الصّلاة أو الصّيام الواجب بأصل الشّرع - أي الصّلاة المفروضة وصوم رمضان - لأنّ هذه العبادات لا تدخلها النّيابة حال الحياة ، فبعد الموت كذلك . أمّا ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنّذر ، من صلاة أو صوم ، فإن كان لم يتمكّن من فعل المنذور ، كمن نذر صوم شهر معيّن ومات قبل حلوله ، فلا شيء عليه ، فإن تمكّن من الأداء ولم يفعل حتّى مات سنّ لوليّه فعل النّذر عنه ؛ لحديث ابن عبّاس : « جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيتيه أكان يؤدّي ذلك عنها ؟ قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمّك » . ولأنّ النّيابة تدخل في العبادة بحسب خفّتها ، والنّذر أخفّ حكماً ؛ لأنّه لم يجب بأصل الشّرع . ويجوز لغير الوليّ فعل ما على الميّت من نذر بإذنه وبدون إذنه .(6/4)
16 - وقد اختلف الفقهاء بالنّسبة للحجّ باعتبار ما فيه من جانب ماليّ وجانب بدنيّ . والمالكيّة - في المشهور عندهم - هم الّذين يقولون بعدم جواز النّيابة في الحجّ . أمّا بقيّة الفقهاء فتصحّ عندهم النّيابة في الحجّ ، لكنّهم يقيّدون ذلك بالعذر ، وهو العجز عن الحجّ بنفسه ؛ لما رواه ابن عبّاس « أنّ امرأةً من خثعم قالت : يا رسول اللّه إنّ فريضة اللّه على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الرّاحلة أفأحجّ عنه ؟ قال : نعم » . وفي حديث آخر قال لرجل : « أرأيتك لو كان على أبيك دين ، فقضيته عنه قبل منك ؟ قال : نعم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : فاللّه أرحم . حجّ عن أبيك » . وضابط العذر الّذي تصحّ معه النّيابة هو العجز الدّائم إلى الموت ، وذلك كالشّيخ الفاني والزّمن والمريض الّذي لا يرجى برؤه . فهؤلاء إذا وجدوا مالاً يلزمهم الاستنابة في الحجّ عنهم . ومن أحجّ عن نفسه للعذر الدّائم ، ثمّ زال العذر قبل الموت ، فعند الحنفيّة لم يجز حجّ غيره عنه ، وعليه الحجّ ؛ لأنّ جواز الحجّ عن الغير ثبت بخلاف القياس ، لضرورة العجز الّذي لا يرجى زواله ، فيتقيّد الجواز به . وعند الحنابلة يجزئ حجّ الغير ، ويسقط عنه الفرض ؛ لأنّه أتى بما أمر به فخرج من العهدة ، كما لو لم يبرأ . لكن ذلك مقيّد بما إذا عوفي بعد فراغ النّائب من الحجّ ، فإذا عوفي قبل فراغ النّائب فينبغي أن لا يجزئه الحجّ ؛ لأنّه قدر على الأصل قبل تمام البدل ، ويحتمل أن يجزئه ، وإن برأ قبل إحرام النّائب لم يجزئه بحال . وللشّافعيّة قولان بالإجزاء وعدمه والمريض الّذي يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه إذا أحجّ عنه فعند الحنفيّة هذا الحجّ موقوف . إن مات المحجوج عنه وهو مريض أو محبوس جاز الحجّ ، وإن زال المرض أو الحبس قبل الموت لم يجز . وعند الحنابلة وفي قول للشّافعيّة : ليس له أن يستنيب أصلاً ؛ لأنّه لم ييأس من الحجّ بنفسه ، فلا تجوز فيه النّيابة كالصّحيح ، فإن خالف وأحجّ عن نفسه ، لم يجزئه ولو لم يبرأ ؛ لأنّه يرجو القدرة على الحجّ بنفسه فلم يكن به الاستنابة ، وعليه أن يحجّ عن نفسه مرّةً أخرى ، وفي القول الثّاني للشّافعيّة أنّه يجزئه إذا مات ؛ لأنّه لمّا مات تبيّنّا أنّه كان مأيوساً منه . والمشهور عند المالكيّة أنّه لا تجوز النّيابة في الحجّ مطلقاً . وقيل تصحّ النّيابة في الحجّ لغير المستطيع ، قال الباجيّ : تجوز النّيابة للمعضوب كالزّمن والهرم . وقال أشهب : إن آجر صحيح من يحجّ عنه لزمه للخلاف . وسواء فيما مرّ في المذاهب حجّ الفريضة وحجّ النّذر . والعمرة في ذلك كالحجّ .
17 - أمّا بالنّسبة لحجّ التّطوّع فعند الحنفيّة تجوز فيه الاستنابة بعذر وبدون عذر ، وعند الحنابلة إن كان لعذر جاز وإن كان لغير عذر ففيه روايتان : إحداهما يجوز ؛ لأنّها حجّة لا تلزمه بنفسه ، فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب . والرّواية الثّانية لا يجوز ، لأنّه قادر على الحجّ بنفسه ، فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض ، وللشّافعيّة قولان فيما إذا كان بعذر : أحدهما لا يجوز ؛ لأنّه غير مضطرّ إلى الاستنابة فيه ، فلم تجز الاستنابة فيه كالصّحيح ، والثّاني يجوز ، وهو الصّحيح ؛ لأنّ كلّ عبادة جازت النّيابة في فرضها جازت النّيابة في نفلها . وتكره الاستنابة في التّطوّع عن المالكيّة .
18 - وما مرّ إنّما هو بالنّسبة للحيّ . أمّا الميّت فعند الحنابلة والشّافعيّة : من مات قبل أن يتمكّن من أداء الحجّ سقط فرضه ، ولا يجب القضاء عنه ، وإن مات بعد التّمكّن من الأداء ولم يؤدّ لم يسقط الفرض ، ويجب القضاء من تركته ، لما روى بريدة قال : « أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت ، ولم تحجّ فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي عن أمّك » ، ولأنّه حقّ تدخله النّيابة حال الحياة ، فلم يسقط بالموت ، كدين الآدميّ ، ومثل ذلك الحجّ المنذور ؛ لما روى ابن عبّاس قال : « أتى رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : إنّ أختي نذرت أن تحجّ ، وإنّها ماتت ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فاقض اللّه فهو أحقّ بالقضاء » . وعند الحنفيّة والمالكيّة : من مات ولم يحجّ فلا يجب الحجّ عنه ، إلاّ أن يوصي بذلك ، فإذا أوصى حجّ من تركته . وإذا لم يوص بالحجّ عنه ، فتبرّع الوارث بالحجّ بنفسه ، أو بالإحجاج عنه رجلاً جاز ، ولكن مع الكراهة عند المالكيّة .
تأخير الأداء عن وقت الوجوب :(6/5)
19 - تأخير أداء العبادات عن وقت الوجوب دون عذر يوجب الإثم ، فإن كان من العبادات المؤقّتة بوقت محدّد ، كالصّلاة والصّيام وجب قضاؤها ، وكذلك النّذر المعيّن إذا لم يؤدّ . وإن كانت العبادات وقتها العمر ، كالزّكاة والحجّ فإنّه متى توفّرت شروط الأداء ، كحولان الحول وكمال النّصاب في الزّكاة مع إمكان الأداء ، ولم يتمّ الأداء ترتّب المال في الذّمّة ، وكذلك الحجّ إذا وجدت الاستطاعة الماليّة والبدنيّة ، ولم يؤدّ الحجّ فهو باق في ذمّته . ومثل ذلك الواجبات المطلقة كالنّذور والكفّارات مع اختلاف الفقهاء فيمن مات ، ولم يؤدّ الزّكاة أو الحجّ أو النّذر أو الكفّارة ، وكلّ ما كان واجباً ماليّاً ، وأمكن أداؤه ، ولم يؤدّ حتّى مات المكلّف ، فعند الحنفيّة والمالكيّة لا تؤدّى من تركته ، إلاّ إذا أوصى بها ، فإذا لم يوص فقد سقطت بالنّسبة لأحكام الدّنيا ، وعند الحنابلة والشّافعيّة تؤدّى من تركته وإن لم يوص . وهذا في الجملة وللتّفصيل ( ر : قضاء . حجّ . زكاة . نذر ) . هذا بالنّسبة للعبادات الواجبة سواء كانت مؤقّتةً أو غير مؤقّتة .
20 - أمّا النّفل - سواء منه المطلق أو المترتّب بسبب أو وقت - فقد اختلف الفقهاء في قضائه إذا فات : فعند الحنفيّة والمالكيّة لا يقضى شيء من السّنن سوى سنّة الفجر . واستدلّ الحنفيّة على ذلك بما روت أمّ سلمة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل حجرتي بعد العصر ، فصلّى ركعتين ، فقلت : يا رسول اللّه : ما هاتان الرّكعتان اللّتان لم تكن تصلّيهما من قبل ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ركعتان كنت أصلّيهما بعد الظّهر » ، وفي رواية : « ركعتا الظّهر شغلني عنهما الوفد ، فكرهت أن أصلّيهما بحضرة النّاس ، فيروني . فقلت : أفأقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : لا . » وهذا نصّ على أنّ القضاء غير واجب على الأمّة ، وإنّما هو شيء اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقياس هذا الحديث أنّه لا يجب قضاء ركعتي الفجر أصلاً ، إلاّ أنّا استحسنّا القضاء إذا فاتتا مع الفرض ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما مع الفرض ليلة التّعريس ، فنحن نفعل ذلك لنكون على طريقته ، وهذا بخلاف الوتر ؛ لأنّه واجب عند أبي حنيفة ، والواجب ملحق بالفرض في حقّ العمل . وعند الحنابلة قال الإمام أحمد : لم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التّطوّع إلاّ ركعتي الفجر والرّكعتين بعد العصر ، وقال القاضي وبعض الأصحاب : لا يقضى إلاّ ركعتا الفجر وركعتا الظّهر . وقال ابن حامد : تقضى جميع السّنن الرّواتب ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بعضها وقسنا الباقي عليه . وفي شرح منتهى الإرادات : يسنّ قضاء الرّواتب إلاّ ما فات مع فرضه وكثر فالأولى تركه ، إلاّ سنّة فجر ، فيقضيها مطلقاً لتأكّدها . وللشّافعيّة قولان : أحدهما أنّ السّنن الرّاتبة لا تقضى ؛ لأنّها صلاة نفل ، فلم تقض ، كصلاة الكسوف والاستسقاء ، والثّاني تقضى لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نام عن صلاة أو سها فليصلّها إذا ذكرها . » 21 - وأمّا قضاء سنّة الفجر إذا فاتت فعند الحنفيّة لا تقضى إلاّ إذا فاتت مع الفجر ، وإذا فاتت وحدها فلا تقضى . وعند جمهور الفقهاء تقضى سواء فاتت وحدها أو مع الفجر . واختلف في الوقت الّذي يمتدّ إليه القضاء ، فعند الحنفيّة والمالكيّة : تقضى إلى الزّوال ، وعند الحنابلة إلى الضّحى ، وعند الشّافعيّة تقضى أبداً . وهذا في الجملة . وينظر تفصيل ذلك في مكان آخر ( ر : نفل . قضاء ) .
22 - وما شرع فيه من النّفل المطلق فإنّه يجب إتمامه ، وإذا فسد يقضى . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة . وعند الحنابلة والشّافعيّة يستحبّ الإتمام ولا يجب ، كما أنّه يستحبّ القضاء إلاّ في تطوّع الحجّ والعمرة فيجب إتمامهما إذا شرع فيهما .
الامتناع عن الأداء :
23 - العبادات الواجبة وجوباً عينيّاً أو كفائيّاً كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والجهاد وصلاة الجنازة تعتبر من فرائض الإسلام ومعلومة من الدّين بالضّرورة ، وقد ورد الأمر بها في كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى : { وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة } وقوله تعالى : { كتب عليكم القتال } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » . وهذه العبادات يجب على كلّ مكلّف أداؤها على الصّفة الّتي ورد بها الشّرع . ومن امتنع عن أدائها فإن كان جاحداً لها فإنّه يعتبر كافراً يقتل كفراً بعد أن يستتاب . وإن امتنع عن أدائها كسلاً ففي العبادات البدنيّة ، كالصّلاة يؤدّب ويعزّر ، ويترك إلى أن يتضيّق الوقت ، فإن ظلّ على امتناعه قتل حدّاً لا كفراً ، وهذا عند الجمهور . وعند الحنفيّة يحبس أبداً حتّى يصلّي . وفي العبادات الماليّة كالزّكاة إن امتنع عن أدائها بخلاً فإنّها تؤخذ منه كرهاً ، ويقاتل عليها كما فعل أبو بكر رضي الله عنه بمانعي الزّكاة ، أمّا تارك الحجّ كسلاً فسواء أكان على الفور أم على التّراخي فإنّه يترك ، ولكن يؤمر به ويديّن لأنّ شرطه الاستطاعة ، وقد يكون له عذر باطنيّ لم يعرف .(6/6)
24 - أمّا غير الواجبات من العبادات وهو ما يسمّى مندوباً أو سنّةً أو نافلةً فهو ما يثاب فاعله ولا يذمّ تاركه ، وهذا على الجملة ؛ لأنّ من السّنّة ما يعتبر إظهاراً للدّين ، وتركها يوجب إساءةً وكراهيةً ، وذلك كالجماعة والأذان والإقامة وصلاة العيدين ؛ لأنّها من شعائر الإسلام ، وفي تركها تهاون بالشّرع ، ولذلك لو اتّفق أهل بلدة على تركها وجب قتالهم بخلاف سائر المندوبات ؛ لأنّها تفعل فرادى .
أثر الأداء في العبادات :
25 - أداء العبادة على الوجه المشروع باستيفاء أركانها وشرائطها يستلزم الإجزاء وهذا باتّفاق على تفسير الإجزاء بمعنى الامتثال بالإتيان بالمأمور به . وأنّ ذلك يبرّئ الذّمّة بغير خلاف ، وعلى تفسير الإجزاء بمعنى إسقاط القضاء فالمختار أنّه يستلزمه ، خلافاً لعبد الجبّار المعتزليّ من أنّه لا يستلزمه . والفعل المؤدّى على وجهه المشروع يوصف بالصّحّة ، وإلاّ فبالفساد أو البطلان ، مع تفريق الحنفيّة بين الفاسد والباطل . والصّحّة أعمّ من الإجزاء ؛ لأنّها تكون صفةً للعبادات والمعاملات ، أمّا الإجزاء فلا يوصف به إلاّ العبادات . وإذا كانت العبادات المستجمعة شرائطها وأركانها تبرّئ الذّمّة بلا خلاف فإنّه قد اختلف في ترتّب الثّواب على هذه العبادة أو عدم ترتّبه ، فقيل : إنّه لا يلزم من إبراء الذّمّة ترتّب الثّواب على الفعل ، فإنّ اللّه قد يبرّئ الذّمّة بالفعل ولا يثيب عليه في بعض الصّور ، وهذا هو معنى القبول ، وهذا بناءً على قاعدة أنّ القبول والثّواب غير الإجزاء وغير الفعل الصّحيح . وقيل : إنّه لم يكن في الشّرع واجب صحيح يجزئ إلاّ وهو مقبول مثاب عليه ، كما هو مقتضى قاعدة سعة الثّواب ، والآيات والأحاديث المتضمّنة لوعد المطيع بالثّواب .
أداء الشّهادة حكم أداء الشّهادة :
26 - أداء الشّهادة فرض كفاية ؛ لقول اللّه تعالى : { وأقيموا الشّهادة للّه } ، وقوله : { ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا } ، فإذا تحمّلها جماعة وقام بأدائها منهم من فيه كفاية سقط الأداء عن الباقين ، لأنّ المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم ، وإن امتنع الكلّ أثموا جميعاً لقول اللّه تعالى : { ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه } ، ولأنّ الشّهادة أمانة فلزم الأداء عند الطّلب . وقد يكون أداء الشّهادة فرض عين إذا كان لا يوجد غيره ممّن يقع به الكفاية ، وتوقّف الحقّ على شهادته فإنّه يتعيّن عليه الأداء ؛ لأنّه لا يحصل المقصود إلاّ به . إلاّ أنّه إذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق العباد وأسبابها أي في محض حقّ الآدميّ ، وهو ما له إسقاطه كالدّين والقصاص فلا بدّ من طلب المشهود له لوجوب الأداء ، فإذا طلب وجب عليه الأداء ، حتّى لو امتنع بعد الطّلب يأثم ، ولا يجوز له أن يشهد قبل طلب المشهود له ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خير النّاس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ يفشو الكذب حتّى يشهد الرّجل قبل أن يستشهد » . ولأنّ أداءها حقّ للمشهود له ، فلا يستوفى إلاّ برضاه ، وإذا لم يعلم ربّ الشّهادة بأنّ الشّاهد تحمّلها استحبّ لمن عنده الشّهادة إعلام ربّ الشّهادة بها . وإذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق اللّه تعالى ، وفيما سوى الحدود ، كالطّلاق والعتق وغيرها من أسباب الحرمات فيلزمه الأداء حسبةً للّه تعالى عند الحاجة إلى الأداء من غير طلب من أحد من العباد . وأمّا في أسباب الحدود من الزّنا والسّرقة وشرب الخمر فالسّتر أمر مندوب إليه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ستر مسلماً ستره اللّه في الدّنيا والآخرة » ، ولأنّه مأمور بدرء الحدّ . وصرّح الحنفيّة بأنّ الأولى السّتر إلاّ إذا كان الجاني متهتّكاً ، وبمثل ذلك قال المالكيّة .
27 - وإذا وجب أداء الشّهادة على إنسان ولكنّه عجز لبعد المسافة ، كأن دعي من مسافة القصر أو كان سيلحقه ضرر في بدنه أو ماله أو أهله فلا يلزمه الأداء لقول اللّه تعالى : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » . ولأنّه لا يلزمه أن يضرّ نفسه لنفع غيره . كذلك قال بعض الفقهاء : لا يجب الأداء إذا كان الحاكم غير عدل ، قال الإمام أحمد : كيف أشهد عند رجل ليس عدلاً ، لا أشهد .
كيفيّة أداء الشّهادة :
28 - يعتبر لفظ الشّهادة في أدائها عند جمهور الفقهاء ، فيقول : أشهد أنّه أقرّ بكذا ونحوه ؛ لأنّ الشّهادة مصدر شهد يشهد ، فلا بدّ من الإتيان بفعلها المشتقّ منها ؛ ولأنّ فيها معنًى لا يحصل في غيرها من الألفاظ ، ولو قال : أعلم أو أتيقّن أو أعرف لم يعتدّ به ولا تقبل شهادته ، إلاّ أنّ من المالكيّة من لم يشترط لأداء الشّهادة صيغةً مخصوصةً بل قالوا : المدار فيها على ما يدلّ على حصول علم الشّاهد بما شهد به كرأيت كذا أو سمعت كذا وهو الأظهر عندهم . ولتحمّل الشّهادة وأدائها شروط تفصيلها في مصطلح ( شهادة ) .
أداء الدّين مفهوم الدّين :
29 - الدّين هو الوصف الثّابت في الذّمّة ، أو هو اشتغال الذّمّة بمال وجب بسبب من الأسباب ، سواء أكان عقداً كالبيع والكفالة والصّلح والخلع ، أم تبعاً للعقد كالنّفقة ، أم بغير ذلك كالغصب والزّكاة وضمان المتلفات ، ويطلق على المال الواجب في الذّمّة مجازاً ، لأنّه يؤول إلى المال . حكم أداء الدّين :(6/7)
30 - أداء الدّين على الوصف الّذي وجب فرض بالإجماع ؛ لقول اللّه تعالى : { فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته } . وهو يعتبر كما قال بعض الفقهاء من الحوائج الأصليّة . وإذا كان الدّين حالّاً فإنّه يجب أداؤه على الفور عند الطّلب ، ويقال له الدّين المعجّل وذلك متى كان قادراً على الأداء لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم » أمّا إذا كان الدّين مؤجّلاً فلا يجب أداؤه قبل حلول الأجل ، لكن لو أدّى قبله صحّ وسقط عن ذمّة المدين . وقد يصبح المؤجّل حالّاً فيجب أداؤه على الفور وذلك بالرّدّة أو بالموت أو بالتّفليس . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك تنظر في ( دين . أجل . إفلاس ) .
كيفيّة أداء الدّين :
31 - الأداء هو تسليم الحقّ لمستحقّه ، وتسليم الحقّ في الدّيون إنّما يكون بأمثالها ؛ لأنّه لا طريق لأداء الدّيون سوى هذا ، ولهذا كان للمقبوض في الصّرف والسّلم حكم عين الحقّ إذ لو لم يكن كذلك لصار استبدالاً ببدل الصّرف ورأس مال السّلم والمسلم فيه قبل القبض وهو حرام ، وكذا له حكم عين الحقّ في غير الصّرف والسّلم ، بدليل أنّه يجبر ربّ الدّين على القبض ، ولو كان غير حقّه لم يجبر عليه ، وفيما لا مثل له ممّا تعلّق بالذّمّة تجب القيمة كما في الغصب والمتلفات . وقيل إنّه في القرض إذا تعذّر المثل فإنّه يجب ردّ المثل في الخلقة والصّورة ؛ لحديث أبي رافع « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر » ؛ ولأنّ ما ثبت في الذّمّة بعقد السّلم ثبت بعقد القرض قياساً على ما له مثل . ويجوز الأداء بالأفضل إذا كان بدون شرط ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصّدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرّجل بكره ، فرجع إليه رافع فقال : لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً ، فقال : أعطه إيّاه ، إنّ خيار النّاس أحسنهم قضاءً » . ومن طولب بالأداء ببلد آخر فيما لا حمل له ولا مؤنة وجب الأداء .
ما يقوم مقام الأداء
32 - إذا أدّى المدين ما عليه بالصّفة الواجبة سقط عنه الدّين ، وبرئت ذمّته ، ويقوم مقام الأداء في إسقاط الدّين وبراءة الذّمّة إبراء صاحب الدّين للمدين ممّا عليه أو هبته له أو تصدّقه به عليه ، كذلك يقوم مقام الأداء من حيث الجملة الحوالة بالدّين أو المقاصّة ، أو انقضاء المدّة أو الصّلح أو تعجيز العبد نفسه في بدل الكتابة ، وذلك كلّه بالشّروط الخاصّة الّتي ذكرها الفقهاء لكلّ حالة من ضرورة القبول أو عدمه ، وفيما يجوز فيه من الدّيون وما لا يجوز وغير ذلك من الشّروط . وينظر التّفصيل في ذلك في ( إبراء ، دين ، حوالة ، هبة ، إلخ ) .
الامتناع عن الأداء :
33 - من كان عليه دين وكان موسراً فإنّه يجب عليه أداؤه ، فإن ماطل ولم يؤدّ ألزمه الحاكم بالأداء بعد طلب الغرماء ، فإن امتنع حبسه لظلمه بتأخير الحقّ من غير ضرورة ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » ، والحبس عقوبة ، فإن لم يؤدّ وكان له مال ظاهر باعه الحاكم عليه ؛ لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم باع على معاذ ماله وقضى ديونه » . وكذلك روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه باع مال أسيفع وقسمه بين غرمائه .
34 - وإن كان للمدين مال ولكنّه لا يفي بديونه وطلب الغرماء الحجر عليه لزم القاضي إجابتهم ، وله منعه من التّصرّف حتّى لا يضرّ بالغرماء ، ويبيع ماله إن امتنع هو عن بيعها ، ويقسمها بين الغرماء بالحصص . وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة وأبي يوسف ومحمّد ، وخالف أبو حنيفة فقال : لا يحجر على المدين ، لأنّ الحجر فيه إهدار لآدميّته ، وإنّما يحبسه القاضي إذا كان له مال حتّى يبيع ويوفّي دينه ، إلاّ إن كان ماله دراهم أو دنانير ، والدّين مثله ، فإنّ القاضي يقضي الدّين منه بغير أمره ؛ لأنّ ربّ الدّين له أخذه بغير أمره فالقاضي يعينه عليه .
35 - وإن كان المدين معسراً وثبت ذلك خلّى سبيله ، ووجب إنظاره ؛ لقول اللّه تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .
36 - والمدين المعسر يجب عليه التّكسّب لوفاء ما عليه ، ولكنّه لا يجبر على التّكسّب ولا على قبول الهدايا والصّدقات ، لكن ما يجدّ له من مال من كسبه فإنّ حقّ الغرماء يتعلّق به .
37 - والغارم إن استدان لنفسه في غير معصية يؤدّي دينه من الزّكاة ؛ لأنّه من مصارفها .
38 - هذا بالنّسبة للحيّ ، أمّا من مات وعليه دين فإنّ الدّين يتعلّق بالتّركة ، ويجب الأداء منها قبل تنفيذ الوصايا وأخذ الورثة نصيبهم ؛ لأنّ الدّين مستحقّ عليه ؛ ولأنّ فراغ ذمّته من أهمّ حوائجه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الدّين حائل بينه وبين الجنّة » وأداء الفرض أولى من التّبرّعات ، وقد قدّمه اللّه تعالى على القسمة في قوله تعالى : { من بعد وصيّة يوصي بها أو دين } . فتجب المبادرة بأداء دينه تعجيلاً للخير لحديث : « نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه » . وما مرّ إنّما هو بالنّسبة لديون الآدميّ . أمّا ديون اللّه تعالى كالزّكاة والكفّارات والنّذور فقد سبق بيانه . ( ف / 14 ، 16 )
أداء القراءة معنى الأداء في القراءة(6/8)
39 - الأداء عند القرّاء يطلق على أخذ القرآن عن المشايخ . والفرق بينه وبين التّلاوة والقراءة ، أنّ التّلاوة هي قراءة القرآن متتابعاً كالأوراد والأحزاب ، والأداء هو الأخذ عن المشايخ ، والقراءة تطلق على الأداء والتّلاوة فهي أعمّ منهما . والأداء الحسن في القراءة هو تصحيح الألفاظ وإقامة الحروف على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة المتّصلة بالرّسول ( صلى الله عليه وسلم ) الّتي لا تجوز مخالفتها ، ولا العدول عنها إلى غيرها ، ولذلك فإنّ من اللّحن الخفيّ ما يختصّ بمعرفته علماء القراءة وأئمّة الأداء الّذين تلقّوا من أقوال العلماء ، وضبطوا عن ألفاظ أهل الأداء الّذين ترتضى تلاوتهم ، ويوثق بعربيّتهم ، ولم يخرجوا عن القواعد الصّحيحة فأعطوا كلّ حرف حقّه من التّجويد والإتقان . حكم حسن الأداء في القراءة :
40 - قال الشّيخ الإمام أبو عبد اللّه بن نصر عليّ بن محمّد الشّيرازيّ في كتابه ( الموضّح في وجوه القراءات ) : إنّ حسن الأداء فرض في القراءة ، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حقّ تلاوته صيانةً للقرآن عن أن يجد اللّحن والتّغيير إليه سبيلاً . وقد اختلف العلماء في الحالات الّتي يجب فيها حسن الأداء ، فذهب بعضهم إلى أنّ ذلك مقصور على ما يلزم المكلّف قراءته في المفترضات ، فإنّ تجويد اللّفظ وتقويم الحروف واجب فيه فحسب . وذهب آخرون إلى أنّ ذلك واجب على كلّ من قرأ شيئاً من القرآن كيفما كان ، لأنّه لا رخصة في تغيير النّطق بالقرآن واتّخاذ اللّحن إليه سبيلاً إلاّ عند الضّرورة وقد قال اللّه تعالى : { قرآناً عربيّاً غير ذي عوج } وينظر التّفصيل في مصطلحي " تجويد ، تلاوة » .(6/9)
أذان
التّعريف
1 - الأذان لغةً : الإعلام ، قال اللّه تعالى : { وأذّن في النّاس بالحجّ } أي أعلمهم به وشرعاً : الإعلام بوقت الصّلاة المفروضة ، بألفاظ معلومة مأثورة ، على صفة مخصوصة . أو الإعلام باقترابه بالنّسبة للفجر فقط عند بعض الفقهاء .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الدّعوة - النّداء :
2 - كلا اللّفظين يتّفق مع الأذان في المعنى العامّ وهو النّداء والدّعاء وطلب الإقبال .
ب - الإقامة :
3 - للإقامة في اللّغة معان عدّة ، منها الاستقرار ، والإظهار ، والنّداء وإقامة القاعد . وهي في الشّرع : إعلام بالقيام إلى الصّلاة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة .
ج - التّثويب :
4 - التّثويب في اللّغة : الرّجوع ، وهو في الأذان : العود إلى الإعلام بعد الإعلام ، وهو زيادة عبارة : ( الصّلاة خير من النّوم ) مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الصّبح عند جميع الفقهاء ، أو زيادة عبارة ( حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح ) بين الأذان والإقامة ، كما يقول الحنفيّة . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذان من خصائص الإسلام وشعائره الظّاهرة ، وأنّه لو اتّفق أهل بلد على تركه قوتلوا ، ولكنّهم اختلفوا في حكمه ، فقيل : إنّه فرض كفاية ، وهو الصّحيح عند كلّ من الحنابلة في الحضر والمالكيّة على أهل المصر ، واستظهره بعض المالكيّة في مساجد الجماعات ، وهو رأي للشّافعيّة ورواية عن الإمام أحمد . كذلك نقل عن بعض الحنفيّة أنّه واجب على الكفاية ، بناءً على اصطلاحهم في الواجب . واستدلّ القائلون بذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرت الصّلاة فليؤذّن لكم أحدكم وليؤمّكم أكبركم » ، والأمر هنا يقتضي الوجوب على الكفاية ؛ ولأنّه من شعائر الإسلام الظّاهرة ، فكان فرض كفاية كالجهاد وقيل : إنّه سنّة مؤكّدة وهو الرّاجح عند الحنفيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة وبه قال بعض المالكيّة للجماعة الّتي تنتظر آخرين ليشاركوهم في الصّلاة ، وفي السّفر على الصّحيح عند الحنابلة ، ومطلقاً في رواية عن الإمام أحمد ، وهي الّتي مشى عليها الخرقيّ . واستدلّ القائلون بذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ المسيء صلاته : افعل كذا وكذا ولم يذكر الأذان مع أنّه صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء واستقبال القبلة وأركان الصّلاة . وعلى كلا الرّأيين لو أنّ قوماً صلّوا بغير أذان صحّت صلاتهم وأثموا ، لمخالفتهم السّنّة وأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقيل هو فرض كفاية في الجمعة دون غيرها وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّه دعاء للجماعة ، والجماعة واجبة في الجمعة ، سنّة في غيرها عند الجمهور .
بدء مشروعيّة الأذان :
6 - شرع الأذان بالمدينة في السّنة الأولى من الهجرة على الأصحّ ؛ للأحاديث الصّحيحة الواردة في ذلك ، ومنها ما رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال : « كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلاة وليس ينادي بها أحد فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النّصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر رضي الله عنه : أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصّلاة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا بلال قم فناد بالصّلاة » ، « ثمّ جاءت رؤيا عبد اللّه بن زيد قال : لمّا أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالنّاقوس ليعمل حتّى يضرب به ليجتمع النّاس للصّلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً ، فقلت له : يا عبد اللّه أتبيع النّاقوس ؟ فقال : ما تصنع به ؟ قلت : ندعو به للصّلاة ، فقال : ألا أدلّك على ما هو خير من ذلك ؟ ، قلت : بلى ، قال : تقول : اللّه أكبر اللّه أكبر ، فذكر الأذان والإقامة ، فلمّا أصبحت أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : إنّها لرؤيا حقّ إن شاء اللّه ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذّن به » . وقيل : إنّ الأذان شرع في السّنة الثّانية من الهجرة . وقيل : إنّه شرع بمكّة قبل الهجرة ، وهو بعيد لمعارضته الأحاديث الصّحيحة . وقد اتّفقت الأمّة الإسلاميّة على مشروعيّة الأذان ، والعمل به جار منذ عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بلا خلاف .
حكمة مشروعيّة الأذان :
7 - شرع الأذان للإعلام بدخول وقت الصّلاة ، وإعلاء اسم اللّه بالتّكبير ، وإظهار شرعه ورفعة رسوله ، ونداء النّاس إلى الفلاح والنّجاح . فضل الأذان :
8 - الأذان من خير الأعمال الّتي تقرّب إلى اللّه تعالى ، وفيه فضل كثير وأجر عظيم ، وقد وردت في فضله أحاديث كثيرة ، منها ما رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « المؤذّنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة » . وقد فضّله بعض فقهاء الحنابلة والمالكيّة والشّافعيّة على الإمامة للأخبار الّتي وردت فيه قالوا : ولم يتولّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه لضيق وقتهم ، ولهذا قال عمر بن الخطّاب : لولا الخلافة لأذّنت .
9 - ونظراً لما فيه من فضل ودعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى الإقبال عليه فقد ذكر الفقهاء أنّه إذا تشاحّ أكثر من واحد على الأذان قدّم من توافرت فيه شرائط الأذان ، فإن تساووا أقرع بينهم ، كما ورد في الحديث السّابق . وقد تشاحّ النّاس في الأذان يوم القادسيّة فأقرع بينهم سعد .
ألفاظ الأذان :(7/1)
10 - ألفاظ الأذان الّتي وردت في حديث عبد اللّه بن زيد في رؤياه الّتي قصّها على النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي الّتي أخذ بها الحنفيّة والحنابلة وهي : اللّه أكبر اللّه أكبر ، اللّه أكبر اللّه أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، حيّ على الصّلاة ، حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح اللّه أكبر اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه . هكذا حكى عبد اللّه بن زيد أذان ( الملك ) النّازل من السّماء ، ووافقه عمر وجماعة من الصّحابة ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت ، فليؤذّن به فإنّه أندى صوتاً منك " وأخذ الشّافعيّة بحديث أبي محذورة ، وهو بنفس الألفاظ الّتي وردت في حديث عبد اللّه بن زيد ، مع زيادة التّرجيع . وذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّ التّكبير في أوّل الأذان مرّتان فقط مثل آخره وليس أربعاً ؛ لأنّه عمل السّلف بالمدينة ، ولرواية أخرى عن عبد اللّه بن زيد فيها التّكبير في أوّل الأذان مرّتين فقط .
التّرجيع في الأذان :
11 - التّرجيع هو أن يخفض المؤذّن صوته بالشّهادتين مع إسماعه الحاضرين ، ثمّ يعود فيرفع صوته بهما . وهو مكروه تنزيهاً في الرّاجح عند الحنفيّة ؛ لأنّ بلالاً لم يكن يرجّع في أذانه ، ولأنّه ليس في أذان الملك النّازل من السّماء . وهو سنّة عند المالكيّة وفي الصّحيح عند الشّافعيّة ؛ لوروده في حديث أبي محذورة ، وهي الصّفة الّتي علّمها له النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعليها السّلف والخلف . وقال الحنابلة : إنّه مباح ولا يكره الإتيان به لوروده في حديث أبي محذورة . وبهذا أيضاً قال بعض الحنفيّة والثّوريّ وإسحاق ، وقال القاضي حسين من الشّافعيّة : إنّه ركن في الأذان .
التّثويب :
12 - التّثويب هو أن يزيد المؤذّن عبارة ( الصّلاة خير من النّوم ) مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الفجر ، أو بعد الأذان كما يقول بعض الحنفيّة ، وهو سنّة عند جميع الفقهاء ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة : فإذا كان صلاة الصّبح قلت : الصّلاة خير من النّوم ، الصّلاة خير من النّوم » ، كذلك « لمّا أتى بلال رضي الله عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصّبح فوجده راقداً فقال : الصّلاة خير من النّوم مرّتين ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا يا بلال ، اجعله في أذانك » . وخصّ التّثويب بالصّبح لما يعرض للنّائم من التّكاسل بسبب النّوم . وأجاز بعض الحنفيّة وبعض الشّافعيّة التّثويب في الصّبح والعشاء ؛ لأنّ العشاء وقت غفلة ونوم كالفجر وأجازه بعض الشّافعيّة في جميع الأوقات ؛ لفرط الغفلة على النّاس في زماننا ، وهو مكروه في غير الفجر عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المذهب عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وذلك لما روي عن بلال أنّه قال : « أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أثوّب في الفجر ونهاني أن أثوّب في العشاء » . ودخل ابن عمر مسجداً يصلّي فيه فسمع رجلاً يثوّب في أذان الظّهر فخرج ، فقيل له : أين ؟ فقال : أخرجتني البدعة . هذا هو التّثويب الوارد في السّنّة .
13 - وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفيّة بعد عهد الصّحابة تثويباً آخر ، وهو زيادة الحيعلتين أي عبارة " حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح " مرّتين بين الأذان والإقامة في الفجر ، واستحسنه متقدّمو الحنفيّة في الفجر فقط ، وكره عندهم في غيره ، والمتأخّرون منهم استحسنوه في الصّلوات كلّها - إلاّ في المغرب لضيق الوقت - وذلك لظهور التّواني في الأمور الدّينيّة وقالوا : إنّ التّثويب بين الأذان والإقامة في الصّلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد ، بالتّنحنح ، أو الصّلاة ، الصّلاة ، أو غير ذلك . كذلك استحدث أبو يوسف جواز التّثويب ؛ لتنبيه كلّ من يشتغل بأمور المسلمين ومصالحهم ، كالإمام والقاضي ونحوهما ، فيقول المؤذّن بعد الأذان : السّلام عليك أيّها الأمير ، حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، الصّلاة يرحمك اللّه وشارك أبا يوسف في هذا الشّافعيّة وبعض المالكيّة ، وكذلك الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان ، واستبعده محمّد بن الحسن ؛ لأنّ النّاس سواسية في أمر الجماعة وشاركه في ذلك بعض المالكيّة .
14 - وأمّا ما يقوم به بعض المؤذّنين من التّسبيح والدّعاء والذّكر في آخر اللّيل فقد اعتبره بعض فقهاء المالكيّة بدعةً حسنةً ، وقال عنه الحنابلة : إنّه من البدع المكروهة ، ولا يلزم فعله ولو شرطه الواقف لمخالفته السّنّة .
الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الأذان :(7/2)
15 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المؤذّن بعد الأذان سنّة ، وعندهم يسنّ للمؤذّن متابعة قوله سرّاً مثله كالمستمع ليجمع بين أداء الأذان والمتابعة ، وروي عن الإمام أحمد أنّه كان إذا أذّن فقال كلمةً من الأذان قال مثلها سرّاً ؛ ليكون ما يظهره أذاناً ودعاءً إلى الصّلاة ، وما يسرّه ذكراً للّه تعالى فيكون بمنزلة من سمع الأذان . بذلك يمكن أن يشمل المؤذّن الأمر الوارد في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاةً صلّى اللّه عليه بها عشراً ، ثمّ سلوا اللّه لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا ينبغي أن تكون إلاّ لعبد من عباد اللّه وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشّفاعة » . واعتبره الحنفيّة والمالكيّة بدعةً حسنةً وقد ذكر الشّيخ أحمد البشبيشيّ في رسالته المسمّاة بالتّحفة السّنّيّة في أجوبة الأسئلة المرضيّة أنّ أوّل ما زيدت الصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد كلّ أذان على المنارة زمن السّلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان وذلك في شعبان سنة 791 هـ وكان قد حدث قبل ذلك في أيّام السّلطان يوسف صلاح الدّين بن أيّوب أن يقال قبل أذان الفجر في كلّ ليلة بمصر والشّام : السّلام عليك يا رسول اللّه واستمرّ ذلك إلى سنة 777 هـ فزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدّين البرلّسيّ أن يقال : الصّلاة والسّلام عليك يا رسول اللّه ثمّ جعل ذلك عقب كلّ أذان سنة ( 791 ) هـ .
النّداء بالصّلاة في المنازل :
16 - يجوز للمؤذّن أن يقول عند شدّة المطر أو الرّيح أو البرد : ألا صلّوا في رحالكم ، ويكون ذلك بعد الأذان ، وقد روي أنّ ابن عمر أذّن بالصّلاة في ليلة ذات برد وريح ، ثمّ قال : ألا صلّوا في الرّحال ، ثمّ قال : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر أن يقول : ألا صلّوا في الرّحال » ، وروي أيضاً أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ابتلّت النّعال فالصّلاة في الرّحال » .
شرائط الأذان
يشترط في الأذان للصّلاة ما يأتي : دخول وقت الصّلاة :
17 - دخول وقت الصّلاة المفروضة شرط للأذان ، فلا يصحّ الأذان قبل دخول الوقت - إلاّ في الأذان لصلاة الفجر على ما سيأتي - لأنّ الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت ، فإذا قدّم على الوقت لم يكن له فائدة ، وإذا أذّن المؤذّن قبل الوقت أعاد الأذان بعد دخول الوقت ، إلاّ إذا صلّى النّاس في الوقت وكان الأذان قبله فلا يعاد . وقد روي « أنّ بلالاً أذّن قبل طلوع الفجر فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي : ألا إنّ العبد قد نام ، فرجع فنادى : ألا إنّ العبد قد نام » . والمستحبّ إذا دخل الوقت أن يؤذّن في أوّله ، ليعلم النّاس فيأخذوا أهبتهم للصّلاة ، وكان بلال لا يؤخّر الأذان عن أوّل الوقت أمّا بالنّسبة للفجر فذهب مالك والشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يجوز الأذان للفجر قبل الوقت ، في النّصف الأخير من اللّيل عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ، وفي السّدس الأخير عند المالكيّة . ويسنّ الأذان ثانياً عند دخول الوقت لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن ابن أمّ مكتوم » . وعند الحنفيّة - غير أبي يوسف - لا يجوز الأذان لصلاة الفجر إلاّ عند دخول الوقت ، ولا فرق بينها وبين غيرها من الصّلوات ؛ لما روى شدّاد مولى عياض بن عامر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال : « لا تؤذّن حتّى يستبين لك الفجر » .
18 - وأمّا الجمعة فمثل باقي الصّلوات لا يجوز الأذان لها قبل دخول الوقت ، وللجمعة أذانان ، أوّلهما عند دخول الوقت ، وهو الّذي يؤتى به من خارج المسجد - على المئذنة ونحوها - وقد أمر به سيّدنا عثمان رضي الله عنه حين كثر النّاس . والثّاني وهو الّذي يؤتى به إذا صعد الإمام على المنبر ، ويكون داخل المسجد بين يدي الخطيب ، وهذا هو الّذي كان في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر حتّى أحدث عثمان الأذان الثّاني . وكلا الأذانين مشروع إلاّ ما روي عن الشّافعيّ من أنّه استحبّ أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر . هذا وقد اختلف الفقهاء فيما يتعلّق بأذاني الجمعة من أحكام وأيّهما المعتبر في تحريم البيع ( ر : بيع ، وصلاة الجمعة ) .
النّيّة في الأذان :
19 - نيّة الأذان شرط لصحّته عند المالكيّة والحنابلة لحديث : « إنّما الأعمال بالنّيّات » ، ولذلك لو أخذ شخص في ذكر اللّه بالتّكبير ثمّ بدا له عقب ما كبّر أن يؤذّن فإنّه يبتدئ الأذان من أوّله ، ولا يبني على ما قال . والنّيّة ليست شرطاً عند الشّافعيّة على الأرجح ولكنّها مندوبة ، إلاّ أنّه يشترط عندهم عدم الصّارف فلو قصد تعليم غيره لم يعتدّ به . أمّا الحنفيّة فلا تشترط عندهم النّيّة لصحّة الأذان وإن كانت شرطاً للثّواب عليه .
أداء الأذان باللّغة العربيّة :
20 - اشترط الحنفيّة والحنابلة كون الأذان باللّفظ العربيّ على الصّحيح ولا يصحّ الإتيان به بأيّ لغة أخرى ولو علم أنّه أذان . أمّا الشّافعيّة فعندهم إن كان يؤذّن لجماعة وفيهم من يحسن العربيّة لم يجز الأذان بغيرها ، ويجزئ إن لم يوجد من يحسنها ، وإن كان يؤذّن لنفسه فإن كان يحسن العربيّة لا يجزئه الأذان بغيرها وإن كان لا يحسنها أجزأه . ولم يظهر للمالكيّة نصّ في هذه المسألة .
خلوّ الأذان من اللّحن :(7/3)
21 - اللّحن الّذي يغيّر المعنى في الأذان كمدّ همزة اللّه أكبر أو بائه يبطل الأذان ، فإن لم يغيّر المعنى فهو مكروه وهذا عند الجمهور ، وهو مكروه عند الحنفيّة قال ابن عابدين : اللّحن الّذي يغيّر الكلمات لا يحلّ فعله .
التّرتيب بين كلمات الأذان :
22 - يقصد بالتّرتيب أن يأتي المؤذّن بكلمات الأذان على نفس النّظم والتّرتيب الوارد في السّنّة دون تقديم أو تأخير لكلمة أو جملة على الأخرى ، ومذهب الجمهور أنّ التّرتيب عندهم واجب فإن فعل المؤذّن ذلك استأنف الأذان من أوّله ؛ لأنّ ترك التّرتيب يخلّ بالإعلام المقصود ، ولأنّه ذكر يعتدّ به فلا يجوز الإخلال بنظمه ، وقيل : إنّه يجوز أن يبني على المنتظم منه ، فلو قدّم الشّهادة بالرّسالة على الشّهادة بالتّوحيد أعاد الشّهادة بالرّسالة ، وإن كان الاستئناف أولى . أمّا الحنفيّة فعندهم التّرتيب سنّة ، فلو قدّم في الأذان جملةً على الأخرى أعاد ما قدّم فقط ولا يستأنفه من أوّله .
الموالاة بين ألفاظ الأذان :
23 - الموالاة في الأذان هي المتابعة بين ألفاظه بدون فصل بقول أو فعل ، ومن الفصل بين ألفاظه ما يحدث دون إرادة كالإغماء أو الرّعاف أو الجنون . والفصل بين كلمات الأذان بأيّ شيء كسكوت أو نوم أو كلام أو إغماء أو غيره ، إن كان يسيراً فلا يبطل الأذان ويبني على ما مضى ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، أمّا عند الشّافعيّة فيسنّ استئناف الأذان في غير السّكوت والكلام . هذا مع اتّفاق الفقهاء على كراهة الكلام اليسير إن كان لغير سبب أو ضرورة . أمّا إذا طال الفصل بين كلمات الأذان بكلام كثير ، ولو مضطرّاً إليه كإنقاذ أعمى ، أو نوم طويل أو إغماء أو جنون فيبطل الأذان ويجب استئنافه ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو طريقة الخراسانيّين من الشّافعيّة ، قال الرّافعيّ : والأشبه وجوب الاستئناف عند طول الفصل ، وقطع العراقيّون من الشّافعيّة بعدم البطلان مع استحباب الاستئناف . وألحق الحنابلة بحالات بطلان الأذان ووجوب استئنافه الفصل بالكلام اليسير الفاحش كالشّتم والقذف .
رفع الصّوت بالأذان :
24 - أوجب الشّافعيّة والحنابلة رفع الصّوت بالأذان ؛ ليحصل السّماع المقصود للأذان ، وهو كذلك رأي للحنفيّة ، وهذا إذا كان الغرض إعلام غير الحاضرين بصلاة الجماعة ، أمّا من يؤذّن لنفسه أو لحاضر معه فلا يشترط رفع الصّوت به إلاّ بقدر ما يسمع نفسه أو يسمعه الحاضر معه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدريّ « إنّي أراك تحبّ الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذّنت بالصّلاة فارفع صوتك بالنّداء ، فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جنّ ولا إنس إلاّ شهد له يوم القيامة » وهو سنّة عند المالكيّة وهو الرّاجح عند الحنفيّة ، فإنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللّه بن زيد : علّمه بلالاً فإنّه أندى وأمدّ صوتاً منك » .
25 - هذا وقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا ينبغي أن يجهد المؤذّن نفسه بما فوق طاقته مبالغةً في رفع صوته بالأذان خشية حدوث بعض الأمراض له .
26 - ولكي يكون الأذان مسموعاً ومحقّقاً للغرض منه استحبّ الفقهاء أن يكون الأذان من فوق مكان مرتفع يساعد على انتشار الصّوت بحيث يسمعه أكبر عدد ممكن من النّاس كالمئذنة ونحوها .
سنن الأذان استقبال القبلة :
27 - يسنّ استقبال القبلة حال الأذان ، وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو الرّاجح عند المالكيّة ، ولو ترك الاستقبال يجزئه ويكره ، لتركه السّنّة المتواترة ؛ لأنّ مؤذّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذّنون مستقبلي القبلة ، وجاز عند بعض كلّ من المالكيّة والحنابلة الدّوران حال الأذان إذا كان ذلك أسمع لصوته ، لأنّ المقصود هو الإعلام ، وعند الحنفيّة وبعض المالكيّة إذا لم يتمّ الإعلام بتحويل وجهه عند الحيعلتين فقط مع ثبات قدميه فإنّه يستدير بجسمه في المئذنة . وعند الحيعلتين أي قوله ( حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ) يسنّ أن يلتفت المؤذّن فيحوّل وجهه - فقط دون استدارة جسمه - يميناً ويقول : حيّ على الصّلاة مرّتين ، ثمّ يحوّل وجهه شمالاً وهو يقول : حيّ على الفلاح مرّتين ، هكذا كان أذان بلال وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة .
التّرسّل أو التّرتيل :(7/4)
28 - التّرسّل هو التّمهّل والتّأنّي ، ويكون بسكتة - تسع الإجابة - بين كلّ جملتين من جمل الأذان ، على أن يجمع بين كلّ تكبيرتين بصوت ويفرد باقي كلماته ؛ للأمر بذلك في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أذّنت فترسّل » ، ولأنّ المقصود من الأذان هو إعلام الغائبين بدخول وقت الصّلاة ، والتّرسّل أبلغ في ذلك من الإسراع وقد لخصّ ابن عابدين ما في مسألة حركة راء التّكبيرات فقال " الحاصل أنّ التّكبيرة الثّانية في الأذان ساكنة الرّاء للوقف حقيقةً ورفعها خطأ ، وأمّا التّكبيرة الأولى من كلّ تكبيرتين منه وجميع تكبيرات الإقامة فقيل محرّكة الرّاء بالفتحة على نيّة الوقف ، وقيل بالضّمّة إعراباً ، وقيل ساكنة بلا حركة على ما هو ظاهر كلام الأمداد والزّيلعيّ والبدائع وجماعة من الشّافعيّة ، والّذي يظهر الإعراب لما ذكره عن الطّلبة ، ولما في الأحاديث المشتهرة للجراحيّ أنّه سئل السّيوطيّ عن هذا الحديث فقال هو غير ثابت كما قال الحافظ ابن حجر ، وإنّما هو من قول إبراهيم النّخعيّ ، ومعناه كما قال جماعة منهم الرّافعيّ وابن الأثير أنّه لا يمدّ . وإطلاق الجزم على حذف الحركة الإعرابيّة لم يكن معهوداً في الصّدر الأوّل ، وإنّما هو اصطلاح حادث فلا يصحّ الحمل عليه » .
صفات المؤذّن ما يشترط فيه من الصّفات : الإسلام :
29 - إسلام المؤذّن شرط لصحّته ، فلا يصحّ أذان الكافر ؛ لأنّه ليس من أهل العبادة ؛ ولأنّه لا يعتقد الصّلاة الّتي يعتبر الأذان دعاءً لها ، فإتيانه بالأذان ضرب من الاستهزاء ، وهذا باتّفاق ، ولا يعتدّ بأذانه ، وفي حكم إسلامه لو أذّن ينظر مصطلح : ( إسلام ) .
الذّكورة :
30 - من الشّروط الواجبة في المؤذّن أن يكون رجلاً ، فلا يصحّ أذان المرأة ؛ لأنّ رفع صوتها قد يوقع في الفتنة ، وهذا عند الجمهور في الجملة ، ولا يعتدّ بأذانها لو أذّنت . واعتبر الحنفيّة الذّكورة من السّنن ، وكرهوا أذان المرأة ، واستحبّ الإمام أبو حنيفة إعادة الأذان لو أذّنت ، وفي البدائع : لو أذّنت للقوم أجزأ ، ولا يعاد ، لحصول المقصود ، وأجاز بعض الشّافعيّة أذانها لجماعة النّساء دون رفع صوتها .
العقل :
31 - يشترط في المؤذّن أن يكون عاقلاً ، فلا يصحّ الأذان من مجنون وسكران لعدم تمييزهما ، ويجب إعادة الأذان لو وقع منهما ؛ لأنّ كلامهما لغو ، وليسا في الحال من أهل العبادة ، وهذا عند الجمهور ، وكره الحنفيّة أذان غير العاقل ، واستحبّ في ظاهر الرّواية إعادة أذانه .
البلوغ :
32 - الصّبيّ غير العاقل ( أي غير المميّز ) لا يجوز أذانه باتّفاق ؛ لأنّ ما يصدر منه لا يعتدّ به ، أمّا الصّبيّ المميّز فيجوز أذانه عند الحنفيّة ( مع كراهته عند أبي حنيفة ) والشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وهو أيضاً مذهب المالكيّة إذا اعتمد على بالغ عدل في معرفة دخول الوقت .
ما يستحبّ أن يتّصف به المؤذّن :
33 - يستحبّ أن يكون المؤذّن طاهراً من الحدث الأصغر والأكبر ؛ لأنّ الأذان ذكر معظّم ، فالإتيان به مع الطّهارة أقرب إلى التّعظيم ، ولحديث أبي هريرة مرفوعاً : « لا يؤذّن إلاّ متوضّئ » ، ويجوز أذان المحدث مع الكراهة بالنّسبة للحدث الأكبر عند جميع الفقهاء ، وعند المالكيّة والشّافعيّة بالنّسبة للحدث الأصغر كذلك .
34 - ويستحبّ أن يكون عدلاً ؛ لأنّه أمين على المواقيت ، وليؤمّن نظره إلى العورات . ويصحّ أذان الفاسق مع الكراهة ، وفي وجه عند الحنابلة لا يعتدّ بأذان ظاهر الفسق ؛ لأنّه لا يقبل خبره ، وفي الوجه الآخر يعتدّ بأذانه ؛ لأنّه تصحّ صلاته بالنّاس ، فكذا أذانه .
35 - ويستحبّ أن يكون صيّتاً ، أي حسن الصّوت ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن زيد : فقم مع بلال ، فألق عليه ما رأيت ، فإنّه أندى صوتاً منك » ؛ ولأنّه أبلغ في الإعلام ، هذا مع كراهة التّمطيط والتّطريب .
36 - ويستحبّ أن يجعل أصبعيه في أذنيه حال الأذان ؛ لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بذلك وقال : إنّه أرفع لصوتك » .
37 - ويستحبّ أن يؤذّن قائماً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبلال : « قم فأذّن بالصّلاة » ، قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه أنّه من السّنّة ؛ لأنّه أبلغ في الإسماع . ولا يؤذّن قاعداً إلاّ لعذر ، أو كان الأذان لنفسه كما يقول الحنفيّة ، ويكره أن يؤذّن راكباً إلاّ في سفر ، وأجاز أبو يوسف والمالكيّة أذان الرّاكب في الحضر 38 - ويستحبّ أن يكون عالماً بأوقات الصّلاة ؛ ليتحرّاها فيؤذّن في أوّلها ، حتّى كان البصير أفضل من الضّرير ، لأنّ الضّرير لا علم له بدخول الوقت 39 - ويستحبّ أن يكون المؤذّن هو المقيم ؛ لما ورد في حديث « زياد بن الحارث الصّدائيّ ، حين أذّن فأراد بلال أن يقيم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ أخا صداء قد أذّن ، ومن أذّن فهو يقيم » .
40 - ويستحبّ أن يؤذّن محتسباً ، ولا يأخذ على الأذان أجراً ؛ لأنّه استئجار على الطّاعة ، وقد ورد في الخبر : « من أذّن سبع سنين محتسباً كتبت له براءة من النّار » ، وإذا لم يوجد متطوّع رزق الإمام من بيت المال من يقوم به ؛ لحاجة المسلمين إليه . 41 - وبالنّسبة للإجارة على الأذان فقد أجازه متأخّرو الحنفيّة ، للحاجة إليه ، وأجازه كذلك الإمام مالك وبعض الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ( ر : إجارة ) .
ما يشرع له الأذان من الصّلوات :(7/5)
42 - الأصل أنّ الأذان شرع للصّلوات المفروضة في حال الحضر والسّفر والجماعة والانفراد ، أداءً وقضاءً ، وهذا باتّفاق ، إلاّ ما قاله المالكيّة من أنّه يكره الأذان للفائتة ، وما قاله بعضهم من أنّه لا أذان في الحضر للمنفرد ، وللجماعة غير المسافرة المجتمعين بموضع ولا يريدون دعاء غيرهم ؛ لأنّ الأذان إنّما جعل ليدعى به الغائب ، ولا غائب حتّى يدعى . ويندب لهم الأذان في السّفر ويتفرّع على هذا الأصل بعض الفروع الّتي اختلف فيها الفقهاء وهي : الأذان للفوائت :
43 - سبق أنّ مذهب المالكيّة كراهة الأذان للفوائت ، وأمّا غيرهم فإنّ الفائتة الواحدة يؤذّن لها عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ؛ لما روى أبو قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه وفيه قال : « فمال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الطّريق ، فوضع رأسه ، ثمّ قال : احفظوا علينا صلاتنا ، فكان أوّل من استيقظ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والشّمس في ظهره . قال : فقمنا فزعين . ثمّ قال : اركبوا فركبنا ، فسرنا ، حتّى إذا ارتفعت الشّمس نزل . ثمّ دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء . قال فتوضّأ منها وضوءاً دون وضوء . قال : وبقي فيها شيء من ماء . ثمّ قال لأبي قتادة : احفظ علينا ميضأتك ، فسيكون لها نبأ ثمّ أذّن بلال بالصّلاة ، فصلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثمّ صلّى الغداة ، فصنع كما كان يصنع كلّ يوم » .
44 - أمّا إذا تعدّدت الفوائت فعند الحنفيّة : الأولى أن يؤذّن ويقيم لكلّ صلاة ، وعند الحنابلة وهو المعتمد عند الشّافعيّة يستحبّ أن يؤذّن للأولى فقط ويقيم لما بعدها ، وذلك جائز عند الحنفيّة أيضاً . وقد اختلفت الرّوايات في قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصّلوات الّتي فاتته يوم الخندق ، ففي بعضها أنّه أمر بلالاً ، فأذّن وأقام لكلّ صلاة ، وفي بعضها أنّه أذّن وأقام للأولى ، ثمّ أقام لكلّ صلاة بعدها ، وفي بعضها أنّه اقتصر على الإقامة لكلّ صلاة . وبهذه الرّواية الأخيرة أخذ الشّافعيّ على ما جاء في الأمّ ، ولكن المعتمد في المذهب خلاف ذلك ، وورد عن الشّافعيّ في الإملاء أنّه إن أمل اجتماع النّاس أذّن وأقام ، وإن لم يؤمّل أقام ؛ لأنّ الأذان يراد لجمع النّاس ، فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه .
الأذان للصّلاتين المجموعتين :
45 - إذا جمعت صلاتان في وقت إحداهما ، كجمع العصر مع الظّهر في وقت الظّهر بعرفة ، وكجمع المغرب مع العشاء بمزدلفة ، فإنّه يؤذّن للأولى فقط ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين » . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ، وهو قول بعض المالكيّة ، ولكن الأشهر عندهم أنّه يؤذّن لكلّ صلاة منهما .
الأذان في مسجد صلّيت فيه الجماعة
46 - لو أقيمت جماعة في مسجد فحضر قوم لم يصلّوا فالصّحيح عند الشّافعيّة أنّه يسنّ لهم الأذان دون رفع الصّوت لخوف اللّبس - سواء أكان المسجد مطروقاً أم غير مطروق ، وعند الحنابلة يستوي الأمر ، إن أرادوا أذّنوا وأقاموا ، وإلاّ صلّوا بغير أذان ، وقد روي عن أنس أنّه دخل مسجداً قد صلّوا فيه فأمر رجلاً فأذّن وأقام فصلّى بهم في جماعة . ويفصّل الحنفيّة فيقولون : إن كان المسجد له أهل معلومون وصلّى فيه غير أهله بأذان وإقامة لا يكره لأهله أن يعيدوا الأذان والإقامة إذا صلّوا ، وإن صلّى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله يكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يعيدوا الأذان والإقامة إذا صلّوا ، وإن كان المسجد ليس له أهل معلومون بأن كان على الطّريق لا يكره تكرار الأذان والإقامة فيه . ويقول المالكيّة : من أتى بعد صلاة الجماعة صلّى بغير أذان .
تعدّد المؤذّنين :
47 - يجوز أن يتعدّد المؤذّن في المسجد الواحد ، ولا يستحبّ الزّيادة على اثنين ؛ لأنّ الّذي حفظ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان له مؤذّنان بلال وابن أمّ مكتوم ، إلاّ أن تدعو الحاجة إلى الزّيادة عليهما فيجوز ، فقد روي عن عثمان أنّه كان له أربعة مؤذّنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر من ذلك كان مشروعاً . وكيفيّة أذانهم أنّه إذا كان الواحد يسمع النّاس فالمستحبّ أن يؤذّن واحد بعد واحد ، لأنّ مؤذّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذّن بعد الآخر ، وإذا كان الإعلام لا يحصل بواحد أذّنوا بحسب ما يحتاج إليه ، إمّا أن يؤذّن كلّ واحد في منارة أو ناحية أو أذّنوا دفعةً واحدةً في موضع واحد ، وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات أوّل الوقت أذّنوا جميعاً دفعةً واحدةً .
ما يعلن به عن الصّلوات الّتي لم يشرع لها الأذان :
48 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذان إنّما شرع للصّلوات المفروضة ، ولا يؤذّن لصلاة غيرها كالجنازة والوتر والعيدين وغير ذلك ؛ لأنّ الأذان للإعلام بدخول وقت الصّلاة ، والمكتوبات هي المخصّصة بأوقات معيّنة ، والنّوافل تابعة للفرائض ، فجعل أذان الأصل أذاناً للتّبع تقديراً ، أمّا صلاة الجنازة فليست بصلاة على الحقيقة ، إذ لا قراءة فيها ولا ركوع ولا سجود . وممّا ورد في ذلك ما في مسلم عن جابر بن سمرة قال : « صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العيد غير مرّة ولا مرّتين بغير أذان ولا إقامة » .(7/6)
49 - أمّا كيفيّة النّداء لهذه الصّلوات الّتي لا أذان لها فقد ذكر الشّافعيّة أنّه بالنّسبة للعيدين والكسوف والاستسقاء والتّراويح إذا صلّيت جماعةً - وفي وجه للشّافعيّة بالنّسبة لصلاة الجنازة - فإنّه ينادى لها : الصّلاة جامعة ، وهو رأي الحنابلة بالنّسبة للعيد والكسوف والاستسقاء ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة لصلاة الكسوف ، وعند بعض المالكيّة بالنّسبة لصلاة العيدين ، واستحسن عياض ما استحسنه الشّافعيّ ، وهو أن ينادى لكلّ صلاة لا يؤذّن لها : الصّلاة جامعة . وممّا استدلّ به الفقهاء حديث عائشة قالت : « خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً ينادي الصّلاة جامعة » .
إجابة المؤذّن والدّعاء بعد الإجابة
50 - يسنّ لمن سمع الأذان متابعته بمثله ، وهو أن يقول مثل ما يقول ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول المؤذّن » ويسنّ أن يقول عند الحيعلة : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . فقد روى عمر بن الخطّاب ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا قال المؤذّن : اللّه أكبر اللّه أكبر فقال أحدكم : اللّه أكبر اللّه أكبر . ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه . ثمّ قال : أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . قال : أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . ثمّ قال : حيّ على الصّلاة . قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . ثمّ قال : حيّ على الفلاح . قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . ثمّ قال : اللّه أكبر اللّه أكبر . قال : اللّه أكبر اللّه أكبر . ثمّ قال : لا إله إلاّ اللّه . قال : لا إله إلاّ اللّه ، من قلبه - دخل الجنّة » . ولأنّ حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح خطاب فإعادته عبث . وفي التّثويب وهو قول : « الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر يقول : صدقت وبررت - بكسر الرّاء الأولى - ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يقول : اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته . والأصل في ذلك حديث ابن عمر مرفوعاً : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاةً صلّى اللّه عليه بها عشراً ، ثمّ سلوا اللّه لي الوسيلة ، فإنّها منزلة في الجنّة لا ينبغي أن تكون إلاّ لعبد من عباد اللّه ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشّفاعة » ، ثمّ يدعو بعد الأذان بما شاء ، لحديث أنس مرفوعاً : « الدّعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة » " ، ويقول عند أذان المغرب : اللّهمّ هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي . ولو سمع مؤذّناً ثانياً أو ثالثاً استحبّ له المتابعة أيضاً . وما سبق هو باتّفاق إلاّ أنّ المشهور عند المالكيّة أن يحكي السّامع لآخر الشّهادتين فقط ، ولا يحكي التّرجيع ، ولا يحكي الصّلاة خير من النّوم ولا يبدّلها بصدقت وبررت ، ومقابل المشهور أنّه يحكي لآخر الأذان .
الأذان لغير الصّلاة :
51 - شرع الأذان أصلاً للإعلام بالصّلاة إلاّ أنّه قد يسنّ الأذان لغير الصّلاة تبرّكاً واستئناساً أو إزالةً لهمّ طارئ والّذين توسّعوا في ذكر ذلك هم فقهاء الشّافعيّة فقالوا : يسنّ الأذان في أذن المولود حين يولد ، وفي أذن المهموم فإنّه يزيل الهمّ ، وخلف المسافر ، ووقت الحريق ، وعند مزدحم الجيش ، وعند تغوّل الغيلان وعند الضّلال في السّفر ، وللمصروع ، والغضبان ، ومن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة ، وعند إنزال الميّت القبر قياساً على أوّل خروجه إلى الدّنيا . وقد رويت في ذلك بعض الأحاديث منها ما روى أبو رافع : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة » ، كذلك روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ولد له مولود فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضرّه أمّ الصّبيان » . وروى أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الشّيطان إذا نودي بالصّلاة أدبر » ... إلخ . وقد ذكر الحنابلة مسألة الأذان في أذن المولود فقط ونقل الحنفيّة ما ذكره الشّافعيّ ولم يستبعدوه ، قال ابن عابدين : لأنّ ما صحّ فيه الخبر بلا معارض مذهب للمجتهد وإن لم ينصّ عليه ، وكره الإمام مالك هذه الأمور واعتبرها بدعةً ، إلاّ أنّ بعض المالكيّة نقل ما قاله الشّافعيّة ثمّ قالوا : لا بأس بالعمل به .(7/7)
أذن
التّعريف
1 - الأذن : بضمّ الذّال وسكونها ، عضو السّمع ، وهو معنًى متّفق عليه بين الفقهاء وأهل اللّغة . وإذا كانت الأذن عضو السّمع ، فإنّ السّمع هو إدراك الأصوات المسموعة وشتّان ما بينهما . الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - الأذن عضو السّمع ، وفي الجسد منه اثنتان في العادة . ويترتّب على ذلك أحكام هي : أ - يطلب الأذان في أذن المولود اليمنى ، والإقامة في أذنه اليسرى ، ليكون الأذان بما فيه من التّوحيد الخالص أوّل ما يقرع سمعه ، وقد ورد الحديث الشّريف بذلك ، ويذكر الفقهاء هذا غالباً في الأذان عند كلامهم على المواطن الّتي يسنّ فيها الأذان ، وذكره بعضهم في الأضحيّة عند كلامهم على العقيقة .
ب - يرى الفقهاء عدم إباحة سماع المنكر ، ويرون وجوب كفّ السّمع عن سماعه ، حتّى إذا مرّ المرء بمكان لا مناص له من المرور فيه ، وفيه شيء من هذه المنكرات ، وضع أصابعه في آذانه لئلاّ يسمع شيئاً منها . كما فعل ابن عمر رضي الله عنه ، فقد روى نافع قال : إنّ ابن عمر سمع صوت مزمار راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطّريق وهو يقول : يا نافع أتسمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتّى قلت : لا ، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطّريق وقال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع زمّارة راع فصنع مثل هذا » .
ج - وإذا كانت الأذن غير السّمع وهي آلته ، فإنّ الجناية على الأذن الواحدة توجب القصاص في العمد ، ونصف الدّية في الخطأ حتّى ولو بقي السّمع سليماً . فإن ذهب السّمع أيضاً مع الأذن بجناية واحدة لم يجب أكثر من نصف الدّية . وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجنايات ، وفي الدّيات .
هل الأذنان من الرّأس ؟
3 - في اعتبار الأذنين من الرّأس أو من الوجه خلاف بين الفقهاء ويترتّب على ذلك الاختلاف في حكم مسح الأذنين ، هل هو واجب أم غير واجب ؟ وهل يجزئ مسحهما بماء الرّأس أم لا يجزئ ؟ وفصّل الفقهاء القول في ذلك في كيفيّة المسح في باب الوضوء .
داخل الأذنين :
4 - اختلف الفقهاء في اعتبار داخل الأذن من الجوف . وبناءً على ذلك اختلفوا في إفطار الصّائم بإدخال شيء إلى باطن الأذن إذا لم يصل إلى حلقه . وفصّلوا الكلام في ذلك في كتاب الصّيام في باب ما يفطر الصّائم .
هل يعبّر بالأذن عن الجسد كلّه ؟
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن عضو من البدن لا يعبّر به عن الكلّ ، وفرّعوا على ذلك أنّ المرء إذا أضاف الظّهار أو الطّلاق أو العتق ونحوها إلى الأذن لا يقع ما قصد إليه . كما يؤخذ ذلك من كلامهم في الأبواب المذكورة .
هل الأذن من العورة ؟
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن في المرأة من العورة ، ولا يجوز إظهارها للأجنبيّ . وما اتّصل بها من الزّينة - كالقرط - هو من الزّينة الباطنة الّتي لا يجوز إظهارها أيضاً إلاّ ما حكاه القرطبيّ عن ابن عبّاس والمسور بن مخرمة وقتادة من اعتبار القرط من الزّينة الظّاهرة الّتي يجوز إظهارها . واتّفقوا كذلك على أنّ الأذن موضع للزّينة في المرأة دون الرّجل ، ولذلك أباحوا ثقب أذن الجارية لإلباسها القرط . وليس لذلك مكان محدّد في كتب الفقه ، وقد ذكره الحنفيّة في كتاب الحظر والإباحة ، وذكره القليوبيّ في كتاب الصّيال ، وذكره بعضهم فيما يحقّ للوليّ فعله في الصّغير المولى عليه .
7 - واتّفق الفقهاء على عدم إجزاء مقطوعة الأذن في الأضحيّة والهدي ، واختلفوا فيما لو تعيّبت أذنها عيباً فاحشاً ، فأجازها البعض ولم يجزها البعض الآخر . ومحلّ تفصيل ذلك في كتاب الأضاحيّ من كتب الفقه .
8 - يستحبّ للمؤذّن أن يضع يديه في أذنيه أثناء الأذان . وقد نصّ الفقهاء على ذلك في كتاب الأذان عند كلامهم على ما يستحبّ للمؤذّن .
9 - ويسنّ للرّجل رفع يديه إلى حذاء أذنيه ، عند البعض ، في تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال في الصّلاة . وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة .
10 - ذكر الفقهاء أنّ وسم الحيوانات لغاية مشروعة - كعدم اختلاطها بغيرها - مباح ، ويرى الشّافعيّة أنّ أفضل مكان لوسم الغنم هو آذانها ، لقلّة الشّعر فيها . وقد ذكروا هذه المسألة في باب قسم الصّدقات .
11 - وما يسيل من الأذن في حالة المرض نجس ، وفي انتقاض الوضوء به خلاف بين الفقهاء مبنيّ على خلافهم في انتقاض الوضوء بكلّ خارج نجس من البدن ، وقد تكلّموا على ذلك في باب الوضوء عند كلامهم على نواقض الوضوء .(8/1)
أسطوانةٌ *
التعريف :
1 - الأسطوانة : السّارية في المسجد أو البيت أو نحوهما .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - في وقوف الإمام بين السّواري ، وفي صلاته إلى الأسطوانة خلافٌ . فقال أبو حنيفة ومالكٌ بالكراهة ، وذهب الجمهور إلى عدم الكراهة . وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة ، في مبحث ( صلاة الجماعة ) . أمّا المأمومون : فقد اتّفق الفقهاء على أنّه إذا لم تقطع الأسطوانة الصّفّ فلا كراهة لعدم الدّليل على ذلك . أمّا إذا قطعت ففيه خلافٌ . فالحنفيّة والمالكيّة لا يرون به بأساً ، لعدم الدّليل على المنع . والحنابلة يرون الكراهة ،« لما ورد من النّهي عن الصّفّ بين السّواري »إلاّ أن يكون الصّفّ قدر ما بين السّاريتين ، أو أقلّ فلا يكره . وقد ذكر الفقهاء ذلك أيضاً في صلاة الجماعة .(9/1)
أضحيّةٌ *
التعريف :
1 - الأضحيّة بتشديد الياء وبضمّ الهمزة أو كسرها ، وجمعها الأضاحيّ بتشديد الياء أيضاً ، ويقال لها : الضّحيّة بفتح الضّاد وتشديد الياء ، وجمعها الضّحايا ، ويقال لها أيضاً : الأضحاة بفتح الهمزة وجمعها الأضحى ، وهو على التّحقيق اسم جنسٍ جمعيٍّ ، وبها سمّي يوم الأضحى ، أي اليوم الّذي يضحّي فيه النّاس . وقد عرّفها اللّغويّون بتعريفين :
أحدهما : الشّاة الّتي تذبح ضحوةً ، أي وقت ارتفاع النّهار والوقت الّذي يليه ، وهذا المعنى نقله صاحب اللّسان عن ابن الأعرابيّ .
وثانيهما : الشّاة الّتي تذبح يوم الأضحى ، وهذا المعنى ذكره صاحب اللّسان أيضاً . أمّا معناها في الشّرع : فهو ما يذكّى تقرّباً إلى اللّه تعالى في أيّام النّحر بشرائط مخصوصةٍ . فليس ، من الأضحيّة ما يذكّى لغير التّقرّب إلى اللّه تعالى ، كالذّبائح الّتي تذبح للبيع أو الأكل أو إكرام الضّيف ، وليس منها ما يذكّى في غير هذه الأيّام ، ولو للتّقرّب إلى اللّه تعالى ، وكذلك ما يذكّى بنيّة العقيقة عن المولود ، أو جزاء التّمتّع أو القران في النّسك ، أو جزاء ترك واجبٍ أو فعل محظورٍ في النّسك ، أو يذكّى بنيّة الهدي كما سيأتي .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - القربان :
2 - القربان : ما يتقرّب به العبد إلى ربّه ، سواءٌ أكان من الذّبائح أم من غيرها . والعلاقة العامّة بين الأضحيّة وسائر القرابين أنّها كلّها يتقرّب بها إلى اللّه تعالى ، فإن كانت القرابين من الذّبائح كانت علاقة الأضحيّة بها أشدّ ، لأنّها يجمعها كونها ذبائح يتقرّب بها إليه سبحانه ، فالقربان أعمّ من الأضحيّة .
ب - الهدي :
3 - الهدي : ما يذكّى من الأنعام في الحرم في أيّام النّحر لتمتّعٍ أو قرانٍ ، أو ترك واجبٍ من واجبات النّسك ، أو فعل محظورٍ من محظورات النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، أو لمحض التّقرّب إلى اللّه تعالى تطوّعاً . ويشترك الهدي مع الأضحيّة في أنّ كلاًّ منهما ذبيحةٌ ، ومن الأنعام ، وتذبح في أيّام النّحر ، ويقصد بها التّقرّب إلى اللّه تعالى . ويفترق الهدي ذو السّبب عن الأضحيّة افتراقاً ظاهراً ، فإنّ الأضحيّة لا تقع عن تمتّعٍ ولا قرانٍ ، ولا تكون كفّارةً لفعلٍ محظورٍ أو ترك واجبٍ . وأمّا الهدي الّذي قصد به التّقرّب المحض فإنّه يشتبه بالأضحيّة اشتباهاً عظيماً ، لا سيّما أضحيّة المقيمين بمنًى من أهلها ومن الحجّاج ، فإنّها ذبيحةٌ من الأنعام ذبحت في الحرم في أيّام النّحر تقرّباً إلى اللّه تعالى ، وكلّ هذه الصّفات صفاتٌ للهدي فلا يفرّق بينهما إلاّ بالنّيّة ، فما نوي به الهدي كان هدياً ، وما نوي به التّضحية كان أضحيّةً . فإن قيل : إنّ النّيّة ليست نيّة ألفاظٍ ، وإنّما هي معانٍ ، فما هو المعنى الّذي يخطر ببال النّاوي ، حين ينوي الهدي ، وحين ينوي الأضحيّة حتّى تكون النّيّة فارقةً بينهما ؟ فالجواب : أنّ ناوي الهدي يخطر بباله الإهداء إلى الحرم وتكريمه ، وناوي الأضحيّة يخطر بباله الذّبح المختصّ بالأيّام الفاضلة من غير ملاحظة الإهداء إلى الحرم . هذا ، والمالكيّة يرون أنّ الحاجّ لا يضحّي كما سيأتي ، فيكون الفرق عندهم بين هدي التّطوّع والأضحيّة ظاهراً ، فإنّ ما يقوم به الحاجّ يكون هدياً ، وما يقوم به غير الحاجّ يكون أضحيّةً .
ج - العقيقة :
4 - العقيقة ما يذكّى من النّعم شكراً للّه تعالى على ما أنعم به ، من ولادة مولودٍ ، ذكراً كان أو أنثى ، ولا شكّ أنّها تخالف الأضحيّة الّتي هي شكرٌ على نعمة الحياة ، لا على الإنعام بالمولود ، فلو ولد لإنسانٍ مولودٌ في عيد الأضحى فذبح عنه شكراً على إنعام اللّه بولادته كانت الذّبيحة عقيقةً . وإن ذبح عنه شكراً للّه تعالى على إنعامه على المولود نفسه بالوجود والحياة في هذا الوقت الخاصّ ، كانت الذّبيحة أضحيّةً .
د - الفرع والعتيرة :
5 - الفرع بفتح الفاء والرّاء ، ويقال له الفرعة : أوّل نتاج البهيمة ، كان أهل الجاهليّة يذبحونه لطواغيتهم ، رجاء البركة في الأمّ وكثرة نسلها ، ثمّ صار المسلمون يذبحونه للّه تعالى . والعتيرة بفتح العين : ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يذبحونها في العشر الأول من رجبٍ لآلهتهم ويسمّونها العتر ( بكسرٍ فسكونٍ ) والرّجيبة أيضاً ، ثمّ صار المسلمون يذبحونها للّه تعالى من غير وجوبٍ ولا تقيّدٍ بزمنٍ . وعلاقة الأضحيّة بهما أنّهما يشتركان معها في أنّ الجميع ذبائح يتقرّب بها إلى اللّه عزّ وجلّ ، والفرق بينها وبينهما ظاهرٌ . فإنّ الفرع يقصد به شكراً للّه تعالى على أوّل نتاجٍ تنتجه النّاقة وغيرها ورجاء البركة فيها ، والعتيرة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى وقت ذبحها . والأضحيّة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى حلول الأيّام الفاضلة من ذي الحجّة الحرام . مشروعيّة الأضحيّة ودليلها :(10/1)
6 - الأضحيّة مشروعةٌ إجماعاً بالكتاب والسّنّة : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فصلّ لربّك وانحر } قيل في تفسيره : صلّ صلاة العيد وانحر البدن . وأمّا السّنّة فأحاديث تحكي فعله صلى الله عليه وسلم لها ، وأخرى تحكي قوله في بيان فضلها والتّرغيب فيها والتّنفير من تركها . فمن ذلك ما صحّ من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّه قال : « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمّى وكبّر ، ووضع رجله على صفاحهما » . وأحاديث أخرى سيأتي بعضها منها قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » . وقد شرعت التّضحية في السّنة الثّانية من الهجرة النّبويّة ، وهي السّنة الّتي شرعت فيها صلاة العيدين وزكاة المال . أمّا حكمة مشروعيّتها ، فهي شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة ، وإحياء سنّة سيّدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين أمره اللّه عزّ اسمه بذبح الفداء عن ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام في يوم النّحر ، وأن يتذكّر المؤمن أنّ صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة اللّه ومحبّته على محبّة النّفس والولد كانا سبب الفداء ورفع البلاء ، فإذا تذكّر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصّبر على طاعة اللّه وتقديم محبّته عزّ وجلّ على هوى النّفس وشهوتها . وقد يقال : أيّ علاقةٍ بين إراقة الدّم وبين شكر المنعم عزّ وجلّ والتّقرّب إليه ؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أنّ هذه الإراقة وسيلةٌ للتّوسعة على النّفس وأهل البيت ، وإكرام الجار والضّيف ، والتّصدّق على الفقير ، وهذه كلّها مظاهر للفرح والسّرور بما أنعم اللّه به على الإنسان ، وهذا تحدّثٌ بنعمة اللّه تعالى كما قال عزّ اسمه : { وأمّا بنعمة ربّك فحدّث } .
ثانيهما : المبالغة في تصديق ما أخبر به اللّه عزّ وجلّ من أنّه خلق الأنعام لنفع الإنسان ، وأذن في ذبحها ونحرها لتكون طعاماً له . فإذا نازعه في حلّ الذّبح والنّحر منازعٌ تمويهاً بأنّهما من القسوة والتّعذيب لذي روحٍ تستحقّ الرّحمة والإنصاف ، كان ردّه على ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ الّذي خلقنا وخلق هذه الحيوانات ، وأمرنا برحمتها والإحسان إليها ، أخبرنا وهو العليم بالغيب أنّه خلقها لنا وأباح تذكيتها ، وأكّد هذه الإباحة بأن جعل هذه التّذكية قربةً في بعض الأحيان .
حكم الأضحيّة :
7 - ذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة ، وهو أرجح القولين عند مالكٍ ، وإحدى روايتين عن أبو يوسف إلى أنّ الأضحيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ . وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وبلالٍ وأبي مسعودٍ البدريّ وسويد بن غفلة وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ وعلقمة والأسود وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر . واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأدلّةٍ : منها قوله عليه الصلاة والسلام : « إذا دخل العشر ، وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً » . ووجه الدّلالة في هذا الحديث أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « وأراد أحدكم » فجعله مفوّضاً إلى إرادته ، ولو كانت التّضحية واجبةً لاقتصر على قوله : « فلا يمسّ من شعره شيئاً حتّى يضحّي » . ومنها أيضاً أنّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحّيان السّنة والسّنتين ، مخافة أن يرى ذلك واجباً . وهذا الصّنيع منهما يدلّ على أنّهما علما من الرّسول صلى الله عليه وسلم عدم الوجوب ، ولم يرو عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك .
8 - وذهب أبو حنيفة إلى أنّها واجبةٌ . وهذا المذهب هو المرويّ عن محمّدٍ وزفر وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف . وبه قال ربيعة واللّيث بن سعدٍ والأوزاعيّ والثّوريّ ومالكٌ في أحد قوليه . واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : { فصلّ لربّك وانحر } فقد قيل في تفسيره صلّ صلاة العيد وانحر البدن ، ومطلق الأمر للوجوب ، ومتى وجب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجب على الأمّة لأنّه قدوتها . وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » ، وهذا كالوعيد على ترك التّضحية ، والوعيد إنّما يكون على ترك الواجب . وبقوله عليه الصلاة والسلام : « من ذبح قبل الصّلاة فليذبح شاةً مكانها ، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم اللّه » ، فإنّه أمر بذبح الأضحيّة وبإعادتها إذا ذكّيت قبل الصّلاة ، وذلك دليل الوجوب . ثمّ إنّ الحنفيّة القائلين بالوجوب يقولون : إنّها واجبةٌ عيناً على كلّ من وجدت فيه شرائط الوجوب . فالأضحيّة الواحدة كالشّاة وسبع البقرة وسبع البدنة إنّما تجزئ عن شخصٍ واحدٍ .
9 - وأمّا القائلون بالسّنّيّة فمنهم من يقول : إنّها سنّة عينٍ أيضاً ، كالقول المرويّ عن أبي يوسف فعنده لا يجزئ الأضحيّة الواحدة عن الشّخص وأهل بيته أو غيرهم . ومنهم من يقول : إنّها سنّة عينٍ ولو حكماً ، بمعنى أنّ كلّ واحدٍ مطالبٌ بها ، وإذا فعلها واحدٌ بنيّة نفسه وحده لم تقع إلاّ عنه ، وإذا فعلها بنيّة إشراك غيره في الثّواب ، أو بنيّة كونها لغيره أسقطت الطّلب عمّن أشركهم أو أوقعها عنهم . وهذا رأي المالكيّة ، وإيضاحه أنّ الشّخص إذا ضحّى ناوياً نفسه فقط سقط الطّلب عنه ، وإذا ضحّى ناوياً نفسه وأبويه الفقيرين وأولاده الصّغار ، وقعت التّضحية عنهم ، ويجوز له أن يشرك غيره في الثّواب - قبل الذّبح - ولو كانوا أكثر من سبعةٍ بثلاث شرائط :
الأولى : أن يسكن معه .
الثّانية : أن يكون قريباً له وإن بعدت القرابة ، أو زوجةً .(10/2)
الثّالثة : أن ينفق على من يشركه وجوباً كأبويه وصغار ولده الفقراء ، أو تبرّعاً كالأغنياء منهم وكعمٍّ وأخٍ وخالٍ . فإذا وجدت هذه الشّرائط سقط الطّلب عمّن أشركهم . وإذا ضحّى بشاةٍ أو غيرها ناوياً غيره فقط ، ولو أكثر من سبعةٍ ، من غير إشراك نفسه معهم سقط الطّلب عنهم بهذه التّضحية ، وإن لم تتحقّق فيهم الشّرائط الثّلاث السّابقة . ولا بدّ في كلّ ذلك أن تكون الأضحيّة ملكاً خاصّاً للمضحّي ، فلا يشاركوه فيها ولا في ثمنها ، وإلاّ لم تجزئ ، كما سيأتي في شرائط الصّحّة .
10 - ومن القائلين بالسّنّيّة من يجعلها سنّة عينٍ في حقّ المنفرد ، وسنّة كفايةٍ في حقّ أهل البيت الواحد ، وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة . فقد قالوا : إنّ الشّخص يضحّي بالأضحيّة الواحدة - ولو كانت شاةً - عن نفسه وأهل بيته .
وللشّافعيّة تفسيراتٌ متعدّدةٌ لأهل البيت الواحد والرّاجح تفسيران :
أحدهما : أنّ المقصود بهم من تلزم الشّخص نفقتهم ، وهذا هو الّذي رجّحه الشّمس الرّمليّ في نهاية المحتاج .
ثانيهما : من تجمعهم نفقة منفقٍ واحدٍ ولو تبرّعاً ، وهذا هو الّذي صحّحه الشّهاب الرّمليّ بهامش شرح الرّوض . قالوا : ومعنى كونها سنّة كفايةٍ - مع كونها تسنّ لكلّ قادرٍ منهم عليها - سقوط الطّلب عنهم بفعل واحدٍ رشيدٍ منهم ، لا حصول الثّواب لكلٍّ منهم ، إلاّ إذا قصد المضحّي تشريكهم في الثّواب . وممّا استدلّ به على كون التّضحية سنّة كفايةٍ عن الرّجل وأهل بيته حديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال : « كنّا نضحّي بالشّاة الواحدة يذبحها الرّجل عنه وعن أهل بيته ، ثمّ تباهى النّاس بعد فصارت مباهاةً » . وهذه الصّيغة الّتي قالها أبو أيّوب رضي الله عنه تقتضي أنّه حديثٌ مرفوعٌ .
الأضحيّة المنذورة :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ نذر التّضحية يوجبها ، سواءٌ أكان النّاذر غنيّاً أم فقيراً ، وهو إمّا أن يكون نذراً لمعيّنةٍ نحو : للّه عليّ أن أضحّي بهذه الشّاة ، وإمّا أن يكون نذراً في الذّمّة لغير معيّنةٍ لمضمونةٍ ، كأن يقول : للّه عليّ أن أضحّي ، أو يقول : للّه عليّ أن أضحّي بشاةٍ . فمن نذر التّضحية بمعيّنةٍ لزمه التّضحية بها في الوقت ، وكذلك من نذر التّضحية في الذّمّة بغير معيّنةٍ ، ثمّ عيّن شاةً مثلاً عمّا في ذمّته ، فإنّه يجب عليه التّضحية بها في الوقت . وصرّح الشّافعيّة بأنّ من نذر معيّنةً ، وبها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء صحّ نذره ، ووجب عليه ذبحها في الوقت ، وفاءً بما التزمه ، ولا يجب عليه بدلها . ومن نذر أضحيّةً في ذمّته ، ثمّ عيّن شاةً بها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم يصحّ تعيينه إلاّ إذا كان قد نذرها معيبةً ، كأن قال : عليّ أن أضحّي بشاةٍ عرجاء بيّنة العرج . وقال الحنابلة مثل ما قال الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم أجازوا إبدال المعيّنة بخيرٍ منها ، لأنّ هذا أنفع للفقراء . ودليل وجوب الأضحيّة بالنّذر : أنّ التّضحية قربةٌ للّه تعالى من جنسها واجبٌ كهدي التّمتّع ، فتلزم بالنّذر كسائر القرب ، والوجوب بسبب النّذر يستوي فيه الفقير والغنيّ .
أضحيّة التّطوّع :
12 - من لم تجب التّضحية عليه لعدم توفّر شرطٍ من شروط وجوبها عند من قال بالوجوب ، ولعدم توفّر شروط السّنّيّة عند من قال بأنّها سنّةٌ ، فالأضحيّة تعتبر في حقّه تطوّعاً .
شروط وجوب الأضحيّة أو سنّيّتها :
13 - الأضحيّة إذا كانت واجبةً بالنّذر فشرائط وجوبها هي شرائط النّذر ، وهي : الإسلام والبلوغ والعقل والحرّيّة والاختيار ، ولتفصيلها يراجع باب النّذر . وإذا كانت واجبةً بالشّرع ( عند من يقول بذلك ) فشروط وجوبها أربعةٌ ، وزاد محمّدٌ وزفر شرطين ، وهذه الشّروط أو بعضها مشترطةٌ في سنّيّتها أيضاً عند من قال بعدم الوجوب ، وزاد المالكيّة شرطاً في سنّيّتها ، وبيان ذلك كما يلي :
14 - الشّرط الأوّل : الإسلام ، فلا تجب على الكافر ، ولا تسنّ له ، لأنّها قربةٌ ، والكافر ليس من أهل القرب ، ولا يشترط عند الحنفيّة وجود الإسلام في جميع الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية ، بل يكفي وجوده آخر الوقت ، لأنّ وقت الوجوب يفضل عن أداء الواجب ، فيكفي في وجوبها بقاء جزءٍ من الوقت كالصّلاة ، وكذا يقال في جميع الشّروط الآتية ، وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين القائلين بالوجوب والقائلين بالسّنّيّة ، بل إنّه أيضاً شرطٌ للتّطوّع .
15 - الشّرط الثّاني : الإقامة ، فلا تجب على المسافر ، لأنّها لا تتأدّى بكلّ مالٍ ولا في كلّ زمانٍ ، بل بحيوانٍ مخصوصٍ في وقتٍ مخصوصٍ ، والمسافر لا يظفر به في كلّ مكان في وقت التّضحية ، فلو أوجبناها عليه لاحتاج لحمل الأضحيّة مع نفسه ، وفيه من الحرج ما لا يخفى ، أو احتاج إلى ترك السّفر ، وفيه ضررٌ ، فدعت الضّرورة إلى امتناع وجوبها عليه ، بخلاف المقيم ولو كان حاجّاً ، لما روى نافعٌ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّه كان يخلّف لمن لم يحجّ من أهله أثمان الضّحايا ، وذلك ليضحّوا عنه تطوّعاً . ويحتمل أنّه ليضحّوا عن أنفسهم لا عنه ، فلا يثبت الوجوب مع الاحتمال . هذا مذهب الحنفيّة القائلين بالوجوب ، وأمّا من قال بالسّنّيّة فلا يشترط هذا الشّرط ، وكذلك لا يشترط في التّطوّع ، لأنّه لا يترتّب على سنّيّتها ولا التّطوّع بها حرجٌ .(10/3)
16 - الشّرط الثّالث : الغنى - ويعبّر عنه باليسار - لحديث « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » والسّعة هي الغنى ، ويتحقّق عند الحنفيّة بأن يكون في ملك الإنسان مائتا درهمٍ أو عشرون ديناراً ، أو شيءٌ تبلغ قيمته ذلك ، سوى مسكنه وحوائجه الأصليّة وديونه . وقال المالكيّة : يتحقّق الغنى بألاّ تجحف الأضحيّة بالمضحّي ، بألاّ يحتاج لثمنها في ضروريّاته في عامه . وقال الشّافعيّة : إنّما تسنّ للقادر عليها ، وهو من ملك ما يحصل به الأضحيّة ، فاضلاً عمّا يحتاج إليه في يوم العيد وليلته وأيّام التّشريق الثّلاثة ولياليها .
17 - الشّرطان الرّابع والخامس : البلوغ والعقل ، وهذان الشّرطان اشترطهما محمّدٌ وزفر ، ولم يشترطهما أبو حنيفة وأبو يوسف ، فعندهما تجب التّضحية في مال الصّبيّ والمجنون إذا كانا موسرين ، فلو ضحّى الأب أو الوصيّ عنها من مالهما لم يضمن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، ويضمن في قول محمّدٍ وزفر ، وهذا الخلاف كالخلاف في صدقة الفطر . ولتفصيل حجج الفريقين يرجع لمصطلح ( صدقة الفطر ) .
18 - والّذي يجنّ ويفيق يعتبر حاله في الجنون والإفاقة ، فإن كان مجنوناً في أيّام النّحر فهو على الاختلاف ، وإن كان مفيقاً وجبت من ماله بلا خلافٍ ، وقيل : إنّ حكمه حكم الصّحيح كيفما كان . وهذا الّذي قرّره صاحب " البدائع " يقتضي برجيح القول بالوجوب ، لكن صحّح صاحب الكافي القول بعدم الوجوب ورجّحه ابن الشّحنة واعتمده صاحب " الدّرّ المختار " ناقلاً عن متن " مواهب الرّحمن " أنّه أصحّ ما يفتى به ، وقال ابن عابدين : إنّ هذا القول اختاره صاحب الملتقى حيث قدّمه ، وعبّر عن مقابله بصيغة التّضعيف ، وهي " قيل " . هذا كلّه رأي الحنفيّة . وقال المالكيّة : لا يشترط في سنّيّة التّضحية البلوغ ولا العقل ، فيسنّ للوليّ التّضحية عن الصّغير والمجنون من مالهما ، ولو كانا يتيمين . وقال الشّافعيّة : لا يجوز للوليّ أن يضحّي عن محجوريه من أموالهم ، وإنّما يجوز أن يضحّي عنهم من ماله إن كان أباً أو جدّاً ، وكأنّه ملكها لهم وذبحها عنهم ، فيقع له ثواب التّبرّع لهم ، ويقع لهم ثواب التّضحية . وقال الحنابلة في اليتيم الموسر : يضحّي عنه وليّه من ماله ، أي مال المحجور ، وهذا على سبيل التّوسعة في يوم العيد لا على سبيل الإيجاب .
19 - هذا وقد انفرد المالكيّة بذكر شرطٍ لسنّيّة التّضحية ، وهو ألاّ يكون الشّخص حاجّاً ، فالحاجّ لا يطالب بالتّضحية شرعاً ، سواءٌ ، أكان بمنًى أم بغيرها ، وغير الحاجّ هو المطالب بها ، وإن كان معتمراً أو كان بمنًى . وعند الحنفيّة لا تجب على حاجٍّ مسافرٍ .
20 - هذا وليست الذّكورة ولا المصر من شروط الوجوب ولا السّنّيّة ، فكما تجب على الذّكور تجب على الإناث ، وكما تجب على المقيمين في الأمصار تجب على المقيمين في القرى والبوادي ، لأنّ أدلّة الوجوب أو السّنّيّة شاملةٌ للجميع .
تضحية الإنسان من ماله عن ولده :
21 - إذا كان الولد كبيراً فلا يجب على أبيه أو جدّه التّضحية عنه ، أمّا الولد وولد الولد الصّغيران فإن كان لهما مالٌ فقد سبق الكلام عن ذلك ، وإن لم يكن لهما مالٌ ، فعن أبي حنيفة في ذلك روايتان :
أولاهما : أنّها لا تجب ، وهو ظاهر الرّواية ، وعليه الفتوى ، لأنّ الأصل أنّه لا يجب على الإنسان شيءٌ عن غيره ، وخصوصاً القربات ، لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى } . وقوله جلّ شأنه { لها ما كسبت } . ولهذا لم تجب عليه عن ولده وولد ولده الكبيرين .
ثانيتهما : أنّها تجب ، لأنّ ولد الرّجل جزؤه وكذا ولد ابنه ، فإذا وجب عليه أن يضحّي عن نفسه وجب عليه أن يضحّي عن ولده وولد ابنه قياساً على صدقة الفطر . ثمّ على القول بظاهر الرّواية - وهو عدم الوجوب - يستحبّ للإنسان أن يضحّي عن ولده وولد ابنه الصّغيرين من مال نفسه ، والمقصود بولد ابنه هو اليتيم الّذي تحت ولاية جدّه . وهذا موافقٌ لما سبق من مذهب الجمهور .
شروط صحّة الأضحيّة
22 - للتّضحية شرائط تشملها وتشمل كلّ الذّبائح ، ولتفصيلها ( ر : ذبائح ) .
وشرائط تختصّ بها ، وهي ثلاثة أنواعٍ : نوعٌ يرجع إلى الأضحيّة ، ونوعٌ يرجع إلى المضحّي ، ونوعٌ يرجع إلى وقت التّضحية .
النّوع الأوّل : شروط الأضحيّة في ذاتها :(10/4)
23 - الشّرط الأوّل : وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب : أن تكون من الأنعام ، وهي الإبل عراباً كانت أو بخاتيّ ، والبقرة الأهليّة ومنها الجواميس ، والغنم ضأناً كانت أو معزاً ، ويجزئ من كلّ ذلك الذّكور والإناث . فمن ضحّى بحيوانٍ مأكولٍ غير الأنعام ، سواءٌ أكان من الدّوابّ أم الطّيور ، لم تصحّ تضحيته به ، لقوله تعالى : { ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ولأنّه لم تنقل التّضحية بغير الأنعام عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو ذبح دجاجةً أو ديكاً بنيّة التّضحية لم يجزئ . ويتعلّق بهذا الشّرط أنّ الشّاة تجزئ عن واحدٍ ، والبدنة والبقرة كلٌّ منهما عن سبعةٍ ، لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال : « نحرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعةٍ » ، وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عمر وابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعائشة رضي الله عنهم ، وبه قال عطاءٌ وطاوسٌ وسالمٌ والحسن وعمرو بن دينارٍ والثّوريّ والأوزاعيّ وأبو ثورٍ وأكثر أهل العلم ، وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وعن ابن عمر رضي الله عنهما روايةٌ أخرى أنّه قال : « لا تجزئ نفسٌ واحدةٌ عن سبعةٍ » وقال المالكيّة : لا يجزئ الاشتراك في اللّحم أو الثّمن ، لا في الشّاة ولا في البدنة ولا في البقرة ، ولكن تجزئ الأضحيّة الواحدة الّتي يملكها شخصٌ واحدٌ أن يضحّي بها عن نفسه وعن أبويه الفقيرين وأولاده الصّغار ، وكذلك يجزئ أن يضحّي الإنسان بالأضحيّة الواحدة الّتي يملكها وحده ناوياً إشراك غيره معه في الثّواب ، أو ناوياً كونها كلّها عن غيره كما سبق ( ف 9 ) .
24 - الشّرط الثّاني : أن تبلغ سنّ التّضحية ، بأن تكون ثنيّةً أو فوق الثّنيّة من الإبل والبقر والمعز ، وجذعةً أو فوق الجذعة من الضّأن ، فلا تجزئ التّضحية بما دون الثّنيّة من غير الضّأن ، ولا بما دون الجذعة من الضّأن ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تذبحوا إلاّ مسنّةً ، إلاّ أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعةً من الضّأن » . والمسنّة من كلّ الأنعام هي الثّنيّة فما فوقها . حكاه النّوويّ عن أهل اللّغة . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « نعمت الأضحيّة الجذع من الضّأن » . وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين الفقهاء ، ولكنّهم اختلفوا في تفسير الثّنيّة والجذعة .
25 - فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما أتمّ ستّة أشهرٍ ، وقيل : ما أتمّ ستّة أشهرٍ وشيئاً . وأيّاً ما كان فلا بدّ أن يكون عظيماً بحيث لو خلط بالثّنايا لاشتبه على النّاظرين من بعيدٍ . والثّنيّ من الضّأن والمعز ابن سنةٍ ، ومن البقر ابن سنتين ، ومن الإبل ابن خمس سنين . وذهب المالكيّة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما بلغ سنةً ( قمريّةً ) ودخل في الثّانية ولو مجرّد دخولٍ ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنةً ، ودخل في الثّانية دخولاً بيّناً ، كمضيّ شهرٍ بعد السّنة ، وفسّروا الثّنيّ من البقر بما بلغ ثلاث سنين ، ودخل في الرّابعة ولو دخولاً غير بيّنٍ ، والثّنيّ من الإبل بما بلغ خمساً ودخل في السّادسة ولو دخولاً غير بيّنٍ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الجذع ما بلغ سنةً ، وقالوا : لو أجذع بأن أسقط مقدّم أسنانه قبل السّنة وبعد تمام ستّة أشهرٍ يكفي ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنتين ، وكذلك البقر .
26 - الشّرط الثّالث : سلامتها من العيوب الفاحشة ، وهي العيوب الّتي من شأنها أن تنقص الشّحم أو اللّحم إلاّ ما استثني . وبناءً على هذا الشّرط لا تجزئ التّضحية بما يأتي :
1 - العمياء .
2 - العوراء البيّن عورها ، وهي الّتي ذهب بصر إحدى عينيها ، وفسّرها الحنابلة بأنّها الّتي انخسفت عينها وذهبت ، لأنّها عضوٌ مستطابٌ ، فلو لم تذهب العين أجزأت عندهم ، وإن كان على عينها بياضٌ يمنع الإبصار .
3 - مقطوعة اللّسان بالكلّيّة .
4 - ما ذهب من لسانها مقدارٌ كثيرٌ . وقال الشّافعيّة : يضرّ قطع بعض اللّسان ولو قليلاً .
5 - الجدعاء وهي مقطوعة الأنف .
6 - مقطوعة الأذنين أو إحداهما ، وكذا السّكّاء وهي : فاقدة الأذنين أو إحداهما خلقةً وخالف الحنابلة في السّكّاء .
7 - ما ذهب من إحدى أذنيها مقدارٌ كثيرٌ ، واختلف العلماء في تفسير الكثير ، فذهب الحنفيّة إلى أنّه ما زاد عن الثّلث في روايةٍ ، والثّلث فأكثر في روايةٍ أخرى ، والنّصف أو أكثر ، وهو قول أبي يوسف ، والرّبع أو أكثر في روايةٍ رابعةٍ . وقال المالكيّة : لا يضرّ ذهاب ثلث الأذن أو أقلّ . وقال الشّافعيّة : يضرّ ذهاب بعض الأذن مطلقاً . وقال الحنابلة : يضرّ ذهاب أكثر الأذن . والأصل في ذلك كلّه حديث : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحّي بعضباء الأذن » .
8 - العرجاء البيّن عرجها ، وهي الّتي لا تقدر أن تمشي برجلها إلى المنسك - أي المذبح - وفسّرها المالكيّة والشّافعيّة بالّتي لا تسير بسير صواحبها .
9 - الجذماء وهي : مقطوعة اليد أو الرّجل ، وكذا فاقدة إحداهما خلقةً .
10 - الجذّاء وهي : الّتي قطعت رءوس ضروعها أو يبست . وقال الشّافعيّة : يضرّ قطع بعض الضّرع ، ولو قليلاً . وقال المالكيّة : إنّ الّتي لا تجزئ هي يابسة الضّرع جميعه ، فإن أرضعت ببعضه أجزأت .
11 - مقطوعة الألية ، وكذا فاقدتها خلقةً ، وخالف الشّافعيّة فقالوا بإجزاء فاقدة الألية خلقةً ، بخلاف مقطوعتها .
12 - ما ذهب من أليتها مقدارٌ كثيرٌ . وقال الشّافعيّة : يضرّ ذهاب بعض الألية ولو قليلاً .(10/5)
13 - مقطوعة الذّنب ، وكذا فاقدته خلقةً ، وهي المسمّاة بالبتراء ، وخالف الحنابلة فيهما فقالوا : إنّهما يجزئان . وخالف الشّافعيّة في الثّانية دون الأولى .
14 - ما ذهب من ذنبها مقدارٌ كثيرٌ . وقال المالكيّة : لا تجزئ ذاهبة ثلثه فصاعداً . وقال الشّافعيّة : يضرّ قطع بعضه ولو قليلاً . وقال الحنابلة : لا يضرّ قطع الذّنب كلاًّ أو بعضاً .
15 - المريضة البيّن مرضها ، أي الّتي يظهر مرضها لمن يراها .
16 -العجفاء الّتي لا تنقي ، وهي المهزولة الّتي ذهب نقيها ، وهو المخّ الّذي في داخل العظام ، فإنّها لا تجزئ ، لأنّ تمام الخلقة أمرٌ ظاهرٌ ، فإذا تبيّن خلافه كان تقصيراً .
17 - مصرّمة الأطبّاء ، وهي الّتي عولجت حتّى انقطع لبنها .
18 - الجلاّلة ، وهي الّتي تأكل العذرة ولا تأكل غيرها ، ممّا لم تستبرأ بأن تحبس أربعين يوماً إن كانت من الإبل ، أو عشرين يوماً إن كانت من البقر ، أو عشرةً إن كانت من الغنم .
27 - هذه الأمثلة ذكرت في كتب الحنفيّة . وهناك أمثلةٌ أخرى للأنعام الّتي لا تجزئ التّضحية بها ذكرت في كتب المذاهب الأخرى .
منها ما ذكره المالكيّة حيث قالوا : لا تجزئ ( البكماء ) وهي فاقدة الصّوت ولا ( البخراء ) وهي منتنة رائحة الفم ، ولم يقيّدوا ذلك بكونها جلاّلةً ولا بيّنة البشم ، وهو التّخمة . ولا ( الصّمّاء ) وهي الّتي لا تسمع .
ومنها ما ذكره الشّافعيّة من أنّ ( الهيماء ) لا تجزئ ، وهي المصابة بالهيام وهو عطشٌ شديدٌ لا ترتوي معه بالماء ، فتهيم في الأرض ولا ترعى . وكذا ( الحامل ) على الأصحّ ، لأنّ الحمل يفسد الجوف ويصير اللّحم رديئاً .
ومنها ما ذكره الحنابلة من عدم إجزاء ( العصماء ) وهي الّتي انكسر غلاف قرنها ( والخصيّ المجبوب ) ، وهو ما ذهب أنثياه وذكره معاً ، بخلاف ذاهب أحدهما . والأصل الّذي دلّ على اشتراط السّلامة من هذه العيوب كلّها ما صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تجزئ من الضّحايا أربعٌ : العوراء البيّن عورها ، والعرجاء البيّن عرجها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعجفاء الّتي لا تنقي » . وما صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال : « استشرفوا العين والأذن » أي تأمّلوا سلامتها عن الآفات ، وما صحّ عنه عليه الصلاة والسلام « أنّه نهى أن يضحّى بعضباء الأذن » . وألحق الفقهاء بما في هذه الأحاديث كلّ ما فيه عيبٌ فاحشٌ .
28 - أمّا الأنعام الّتي تجزئ التّضحية بها لأنّ عيبها ليس بفاحشٍ فهي كالآتي :
1 - الجمّاء : وتسمّى الجلحاء ، وهي الّتي لا قرن لها خلقةً ، ومثلها مكسورة القرن إن لم يظهر عظم دماغها ، لما صحّ عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال لمن سأله عن مكسورة القرن : لا بأس ، أمرنا أن نستشرف العينين والأذنين . وقد اتّفقت المذاهب على إجزاء الجمّاء ، واختلفت في مكسورة القرن ، فقال المالكيّة : تجزئ ما لم يكن موضع الكسر دامياً ، وفسّروا الدّامي بما لم يحصل الشّفاء منه ، وإن لم يظهر فيه دمٌ . وقال الشّافعيّة : تجزئ وإن أدمى موضع الكسر ، ما لم يؤثّر ألم الانكسار في اللّحم ، فيكون مرضاً مانعاً من الإجزاء . وقال الحنابلة : لا تجزئ إن كان الذّاهب من القرن أكثر من النّصف ، وتسمّى عضباء القرن .
2 - الحولاء ، وهي الّتي في عينها حولٌ لم يمنع البصر .
3 - الصّمعاء ، وهي الصّغيرة إحدى الأذنين أو كليهما . وخالف المالكيّة فقالوا : لا يجزئ الصّمعاء ، وفسّروها بالصّغيرة الأذنين جدّاً ، كأنّها خلقت بدونهما .
4 - الشّرقاء وهي مشقوقة الأذن ، وإن زاد الشّقّ على الثّلث . وقال المالكيّة : لا تجزئ إلاّ إن كان الشّقّ ثلثاً فأقلّ .
5 - الخرقاء وهي مثقوبة الأذن ، ويشترط في إجزائها ألاّ يذهب بسبب الخرق مقدارٌ كثيرٌ .
6 - المدابرة وهي الّتي قطع من مؤخّر أذنها شيءٌ ولم يفصّل ، بل ترك معلّقاً ، فإن فصّل فهي مقطوعة بعض الأذن وقد سبق بيان حكمها .
7 -الهتماء وهي الّتي لا أسنان لها ، لكن يشترط في إجزائها ألاّ يمنعها الهتم عن الرّعي والاعتلاف ، فإن منعها عنهما لم تجزئ . وهو مذهب الحنفيّة . وقال المالكيّة : لا تجزئ مكسور سنّين فأكثر أو مقلوعتهما ، إلاّ إذا كان ذلك لإثغارٍ أو كبرٍ ، أمّا لهذين الأمرين فتجزئ . وقال الشّافعيّة : تجزئ ذاهبة بعض الأسنان إن لم يؤثّر نقصاً في الاعتلاف ، ولا ذاهبة جميعها ولا مكسورة جميعها ، وتجزئ المخلوقة بلا أسنانٍ . وقال الحنابلة : لا تجزئ ما ذهب ثناياها من أصلها ، بخلاف ما لو بقي من الثّنايا بقيّةٌ .
8 - الثّولاء وهي المجنونة ، ويشترط في إجزائها ألاّ يمنعها الثّول عن الاعتلاف ، فإن منعها منه لم تجزئ ، لأنّ ذلك يفضي إلى هلاكها . وقال المالكيّة والشّافعيّة : لا تجزئ الثّولاء ، وفسّرها المالكيّة بأنّها الدّائمة الجنون الّتي فقدت التّمييز بحيث لا تهتدي لما ينفعها ولا تجانب ما يضرّها ، وقالوا : إن كان جنونها غير دائمٍ لم يضرّ . وفسّرها الشّافعيّة بأنّها الّتي تستدير في المرعى ، ولا ترى إلاّ قليلاً ، فتهزل .
9 - الجرباء السّمينة ، بخلاف المهزولة . وقال الشّافعيّة : لا تجزئ الجرباء مطلقاً .
10 - المكويّة وهي الّتي كويت أذنها أو غيرها من الأعضاء .
11 - الموسومة وهي : الّتي في أذنها سمةٌ .
12 - العاجزة عن الولادة لكبر سنّها .(10/6)
13 - الخصيّ وإنّما أجزأ ، لأنّ ما ذهب بخصائه يعوّض بما يؤدّي إليه من كثرة لحمه وشحمه ، وقد صحّ « وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أملحين موجوءين » أي مرضوضي الخصيتين ، ويلحق بالمرض الخصاء ، لأنّ أثرهما واحدٌ . وقد اتّفقت على إجزائه المذاهب الأربعة . وحكى صاحب " المغني " الإجزاء عن الحسن وعطاءٍ والشّعبيّ والنّخعيّ ومالكٍ والشّافعيّ وأبي ثورٍ وأصحاب الرّأي . وكالخصيّ الموجوء وهو المرضوض الخصية . وهذا متّفقٌ عليه بين المذاهب .
14 - المجبوب وهو ما قطع ذكره وسبق قول الحنابلة أنّ المجبوب الخصيّ - وهو : ما ذهب أنثياه وذكره معاً - لا يجزئ ، بخلاف ذاهب أحدهما فقط ( ف / 26 ) .
15 - المجزوزة وهي الّتي جزّ صوفها .
16 - السّاعلة وهي الّتي تسعل - بضمّ العين - ويجب تقييد ذلك بما لم يصحبه مرضٌ بيّنٌ .
29 - هذه الأمثلة ذكرها الحنفيّة وجاء في كتب غيرهم أمثلةٌ أخرى لما يجزئ .
ومنها : ما صرّح به المالكيّة من أنّ المقعدة - وهي العاجزة عن القيام لكثرة الشّحم عليها - تجزئ .
منها : ما ذكره الشّافعيّة من أنّ العشواء تجزئ ، وهي الّتي تبصر بالنّهار دون اللّيل ، وكذا العمشاء وضعيفة البصر . وكذا الّتي قطع منها قطعةٌ صغيرةٌ من عضوٍ كبيرٍ ، كالّتي أخذ الذّئب مقداراً قليلاً من فخذها ، بخلاف المقدار البيّن الّذي يعدّ كثيراً بالنّسبة لجميع الفخذ . طروء العيب المخلّ بعد تعيين الأضحيّة :
30 - لو اشترى رجلٌ شاةً بنيّة الأضحيّة فعجفت عنده عجفاً بيّناً لم تجزئه ، إن كان عند الشّراء موسراً مقيماً ، وكان شراؤه إيّاها في وقت الوجوب ، لما سبق من أنّ شراءه للأضحيّة لا يوجبها ، لأنّه تجب عليه أضحيّةٌ في ذمّته بأصل الشّرع ، وإنّما أقام ما اشتراه مقام ما في الذّمّة ، فإذا نقص لم يصلح لهذه الإقامة فيبقى ما في ذمّته بحاله . فإن كان عند الشّراء فقيراً ، أو غنيّاً مسافراً ، أو غنيّاً مقيماً ، واشتراها قبل وقت النّحر ، أجزأته في هذه الصّور كلّها ، لأنّه لم تكن في ذمّته أضحيّةٌ واجبةٌ وقت الشّراء ، فكان الشّراء بنيّة التّضحية إيجاباً لها بمنزلة نذر الأضحيّة المعيّنة ، فكان نقصانها كهلاكها يسقط به إيجابها . ويعلم من هذا أنّ الفقير أو الغنيّ لو أوجب على نفسه بالنّذر أضحيّةً غير معيّنةٍ ، ثمّ اشترى شاةً بنيّة التّضحية ، فتعيّبت ، لم تجزئ ، لأنّ الشّراء في هذه الحالة ليس إيجاباً ، وإنّما هو إقامةٌ لما يشتريه مقام الواجب . ومن شرط الإقامة السّلامة ، فإذا لم تجزئ إقامتها مقام الواجب بقي الواجب في ذمّته كما كان . وكالشّاة الّتي عجفت بعد الشّراء ، كلّ النّعم الّتي يحدث لها بعد الشّراء عيبٌ مخلٌّ ، أو تموت ، أو تسرق ، ففيها التّفصيل السّابق .
31 - ولو قدّم المضحّي أضحيّةً ليذبحها ، فاضطربت في المكان الّذي يذبحها فيه ، فانكسرت رجلها ، أو انقلبت فأصابتها الشّفرة في عينها فاعورّت أجزأته ، لأنّ هذا ممّا لا يمكن الاحتراز عنه ، لأنّ الشّاة تضطرب عادةً ، فتلحقها العيوب من اضطرابها . هذا مذهب الحنفيّة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الأضحيّة المعيّنة بالنّذر أو بغيره إذا حدث بها عيبٌ مخلٌّ لم تجزئ ، وله التّصرّف فيها بالبيع وغيره ، وعليه التّضحية بأخرى إن كانت منذورةً ، ويسنّ له التّضحية بأخرى إن لم تكن منذورةً . هذا إن تعيّبت قبل الإضجاع للذّبح ، أمّا لو تعيّبت بعد الإضجاع له فيجزئ ذبحها .
وقال الشّافعيّة : من أوجب أضحيّةً معيّنةً بالنّذر أو الجعل ، ثمّ طرأ عليها - عيبٌ يمنع إجزاءها قبل دخول الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية ، أو بعد دخوله وقبل تمكّنه من الذّبح ، ولم يقع منه تفريطٌ ولا اعتداءٌ - لم يلزمه بدلها ، لزوال ملكه عنها من حين الإيجاب ، ويلزمه أن يذبحها في الوقت ويتصدّق بها كالأضحيّة ، وإن لم تكن أضحيّةً . وإذا طرأ العيب باعتدائه أو تفريطه أو تأخّره عن الذّبح في أوّل الوقت بلا عذرٍ لزمه ذبحها في الوقت والتّصدّق بها ، ولزمه أيضاً أن يضحّي بأخرى لتبرأ ذمّته . ولو اشترى شاةً وأوجبها بالنّذر أو الجعل ، ثمّ وجد بها عيباً قديماً ، فليس له أن يردّها على البائع ، لأنّه زال ملكه عنها بمجرّد الإيجاب ، فيتعيّن أن يبقيها ، وله أن يأخذ أرش النّقص من البائع ، ولا يجب عليه التّصدّق به ، لأنّه ملكه ، وعليه أن يذبحها في الوقت ، ويتصدّق بها كلّها لشبهها بالأضحيّة ، وإن لم تكن أضحيّةً ، ويسقط عنه الوجوب بهذا الذّبح ، ويسنّ له أن يردفها بسليمةٍ ، لتحصل له سنّة التّضحية . ولو زال عيبها قبل الذّبح لم تصر أضحيّةً إذ السّلامة لم توجد إلاّ بعد زوال ملكه عنها . ومن عيّن شاةً ليضحّي بها من غير إيجابٍ بنذرٍ ولا جعلٍ ، فطرأ عليها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم تجزئ التّضحية بها ، ولا فرق في طروء العيب بين كونه عند الذّبح أو قبله ، فلو أضجع شاةً ليضحّي بها وهي ، سليمةٌ فاضطربت ، وانكسرت رجلها ، أو عرجت تحت السّكّين لم تجزئه على الأصحّ عند الشّافعيّة . ومذهب الحنابلة قريبٌ من مذهب الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم يقولون : إنّ الواجبة لا يجب التّصدّق بجميعها بل ببعضها ، كما أنّهم يقولون بإجزاء التّضحية إذا عيّن شاةً صحيحةً للتّضحية ، ثمّ حدث بها عيبٌ يمنع الإجزاء .(10/7)
32 - الشّرط الرّابع : أن تكون مملوكةً للذّابح ، أو مأذوناً له فيها صراحةً أو دلالةً ، فإن لم تكن كذلك لم تجزئ التّضحية بها عن الذّابح ، لأنّه ليس مالكاً لها ولا نائباً عن مالكها ، لأنّه لم يأذن له في ذبحها عنه ، والأصل فيما يعمله الإنسان أن يقع للعامل ، ولا يقع لغيره إلاّ بإذنه . فلو غصب إنسانٌ شاةً ، فضحّى بها عن مالكها - من غير إجازته - لم تقع أضحيّةً عنه ، لعدم الإذن منه ، ولو ضحّى بها عن نفسه لم تجزئ عنه ، لعدم الملك ، ثمّ إن أخذها صاحبها مذبوحةً ، وضمّنه النّقصان ، فكذلك لا تجزئ عن واحدٍ منهما . وإن لم يأخذها صاحبها ، وضمّنه قيمتها حيّةً ، أجزأت عن الذّابح ، لأنّه ملكها بالضّمان من وقت الغصب ، فصار ذابحاً لشاةٍ هي ملكه ، لكنّه آثمٌ ، لأنّ ابتداء فعله وقع محظوراً ، فتلزمه التّوبة والاستغفار . وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه وقولٌ للمالكيّة . وقال زفر والشّافعيّة ، وهو أحد قولي المالكيّة ، وأحد روايتي الحنابلة ، لا تجزئ عنه ، لأنّ الضّمان لا يوجب الملك عندهم . ر : ( غصبٌ ) .
33 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو اشترى إنسانٌ شاةً فأضجعها ، وشدّ قوائمها للتّضحية بها ، فجاء إنسانٌ آخر فذبحها بغير إذنه صحّت أضحيّةً لمالكها ، لوجود الإذن منه دلالةً . وعند الحنابلة إذا عيّن الأضحيّة فذبحها غيره بغير إذنه أجزأت عن صاحبها ، ولا ضمان على ذابحها . واشترط المالكيّة لإجزائها وجود الإذن صراحةً أو اعتياده ذلك . ولو اشترى إنسانٌ شاةً ليضحّي بها ، فلمّا ذبحها تبيّن ببيّنةٍ أنّها مستحقّةٌ - أي أنّها كانت ملك إنسانٍ غير البائع - فحكمها حكم المغصوبة ، وشراؤه إيّاها بمنزلة العدم ، صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة .
34 - ولو أودع رجلٌ رجلاً شاةً ، فضحّى بها عن نفسه ، فاختار صاحبها القيمة فأخذها ، فإنّ الشّاة لا تكون أضحيّةً عن الذّابح ، بخلاف المغصوبة والمستحقّة عند أبي حنيفة وصاحبيه ، ووجه الفرق أنّ سبب وجوب الضّمان في الوديعة هو الذّبح ، فلا يعتبر الذّابح مالكاً إلاّ بعد الذّبح ، فحين الذّبح لم يذبح ما هو مملوكٌ له ، فلم يجزئه أضحيّةً ، وسبب وجوب الضّمان في الغصب والاستحقاق هو الأخذ السّابق على الذّبح ، والضّمان يوجب الملكيّة كما سبق ، فيكون الذّابح في حالتي الغصب والاستحقاق ذابحاً ما هو مملوكٌ له فيجزئ عنه . وما قيل في الوديعة يقال في العاريّة والمستأجرة .
النّوع الثّاني :
شرائط ترجع إلى المضحّي يشترط في المضحّي لصحّة التّضحية ثلاثة شروطٍ :
35 - الشّرط الأوّل : نيّة التّضحية : لأنّ الذّبح قد يكون للّحم ، وقد يكون للقربة ، والفعل لا يقع قربةً إلاّ بالنّيّة ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات ، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى » . والمراد بالأعمال القربات ، ثمّ إنّ القربات من الذّبائح أنواعٌ كثيرةٌ ، كهدي التّمتّع والقران والإحصار وجزاء الصّيد وكفّارة الحلف وغير ذلك من محظورات الحجّ والعمرة ، فلا تتعيّن الأضحيّة من بين هذه القربات إلاّ بنيّة التّضحية ، وتكفي النّيّة بالقلب دون التّلفّظ بها كما في الصّلاة ، لأنّ النّيّة عمل القلب ، والذّكر باللّسان دليلٌ على ما فيه . وقد اتّفق على هذا الشّرط الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وصرّح الشّافعيّة باستثناء المعيّنة بالنّذر ، كأن قال بلسانه - من غير نيّةٍ بقلبه - للّه عليّ نذر أن أضحّي بهذه الشّاة ، فإنّ نذره ينعقد باللّفظ ولو بلا نيّةٍ ، ولا تشترط النّيّة عند ذبحها ، بخلاف المجعولة ، بأن قال بلسانه : جعلت هذه الشّاة أضحيّةً ، فإنّ إيجابه ينعقد وإن لم ينو عند النّطق ، لكن لا بدّ من النّيّة عند ذبحها إن لم ينو عند النّطق . وقالوا : لو وكّل في الذّبح كفت نيّته ولا حاجة لنيّة الوكيل ، بل لا حاجة لعلمه بأنّها أضحيّةٌ . وقالوا أيضاً : يجوز لصاحب الأضحيّة أن يفوّض في نيّة التّضحية مسلماً مميّزاً ينوي عند الذّبح أو التّعيين ، بخلاف الكافر وغير المميّز بجنونٍ أو نحوه . وقال الحنابلة : إنّ الأضحيّة المعيّنة لا تجب فيها النّيّة عند الذّبح ، لكن لو ذبحها غير مالكها بغير إذنه ، ونواها عن نفسه عالماً بأنّها ملك غيره لم تجزئ عنهما ، أمّا مع عدم العلم فتجزئ عن المالك ولا أثر لنيّة الفضوليّ .
36 - الشّرط الثّاني : أن تكون النّيّة مقارنةً للذّبح أو مقارنةً للتّعيين السّابق على الذّبح ، سواءٌ أكان هذا التّعيين بشراء الشّاة أم بإفرازها ممّا يملكه ، وسواءٌ أكان ذلك للتّطوّع أم لنذرٍ في الذّمّة ، ومثله الجعل كأن يقول : جعلت هذه الشّاة أضحيّةً ، فالنّيّة في هذا كلّه تكفي عن النّيّة عند الذّبح ، وأمّا المنذورة المعيّنة فلا تحتاج لنيّةٍ كما سبق . هذا عند الشّافعيّة . أمّا الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة فتكفي عندهم النّيّة السّابقة عند الشّراء أو التّعيين .(10/8)
37 - الشّرط الثّالث : ألاّ يشارك المضحّي فيما يحتمل الشّركة من لا يريد القربة رأساً ، فإن شارك لم يصحّ عن الأضحيّة . وإيضاح هذا ، أنّ البدنة والبقرة كلٌّ منهما يجزئ عن سبعةٍ عند الجمهور كما مرّ . فإذا اشترك فيها سبعةٌ ، فلا بدّ أن يكون كلّ واحدٍ منهم مريداً للقربة ، وإن اختلف نوعها . فلو اشترى سبعةٌ أو أقلّ بدنةً ، أو اشتراها واحدٌ بنيّة التّشريك فيها ، ثمّ شرك فيها ستّةً أو أقلّ ، وأراد واحدٌ منهم التّضحية ، وآخر هدي المتعة ، وثالثٌ هدي القران ، ورابعٌ كفّارة الحلف ، وخامسٌ كفّارة الدّم عن ترك الميقات ، وسادسٌ هدي التّطوّع ، وسابعٌ العقيقة عن ولده أجزأتهم البدنة . بخلاف ما لو كان أحدهم يريد سبعها ليأكله ، أو ليطعم أهله ، أو ليبيعه ، فلا تجزئ عن الآخرين الّذين أرادوا القربة . هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدٍ . وذلك ، لأنّ القربة الّتي في الأضحيّة ، وفي هذه الأنواع كلّها إنّما هي في إراقة الدّم ، وإراقة الدّم في البدنة الواحدة لا تتجزّأ ، لأنّها ذبحٌ واحدٌ ، فإن لم تكن هذه الإراقة قربةً من واحدٍ أو أكثر لم تكن قربةً من الباقين ، بخلاف ما لو كانت هذه الإراقة قربةً من الجميع ، وإن اختلفت جهتها ، أو كان بعضها واجباً وبعضها تطوّعاً . وقال زفر : لا يجزئ الذّبح عن الأضحيّة أو غيرها من القرب عند الاشتراك ، إلاّ إذا كان المشتركون متّفقين في جهة القربة ، كأن يشترك سبعةٌ كلّهم يريد الأضحيّة ، أو سبعةٌ كلّهم يريد جزاء الصّيد ، فإن اختلفوا في الجهة لم يصحّ الذّبح عن واحدٍ منهم ، لأنّ القياس يأبى الاشتراك ، إذ الذّبح فعل واحدٍ لا يتجزّأ ، فلا يتصوّر أن يقع بعضه عن جهةٍ ، وبعضه عن جهةٍ أخرى ، لكن عند اتّحاد الجهة يمكن أن تجعل كقربةٍ واحدةٍ ، ولا يمكن ذلك عند الاختلاف ، فبقي الأمر فيه مردوداً إلى القياس . وروي عن أبي حنيفة أنّه كره الاشتراك عند اختلاف الجهة ، وقال : لو كان هذا من نوعٍ واحدٍ لكان أحبّ إليّ ، وهكذا قال أبو يوسف .
38 - ولو اشترى رجلٌ بقرةً يريد أن يضحّي بها ، ثمّ أشرك فيها بعد ذلك غيره ، فإن كان فقيراً حين اشتراها فقد أوجبها على نفسه كما سبق ، فلا يجوز أن يشرك فيها غيره . وإن كان غنيّاً مقيماً ، وقد اشتراها قبل وقت الوجوب ، أو غنيّاً مسافراً فكذلك . وإن كان غنيّاً مقيماً ، واشتراها بعد وقت الوجوب فإنّ شراءها لا يوجبها كما تقدّم ، فيجوز له أن يشرك فيها معه ستّةً أو أقلّ يريدون القربة ، لكنّ ذلك مكروهٌ لأنّه لمّا اشتراها بنيّة التّضحية كان ذلك منه وعداً أن يضحّي بها كلّها عن نفسه ، وإخلاف الوعد مكروهٌ ، وينبغي في هذه الحالة أن يتصدّق بالثّمن الّذي أخذه ممّن أشركهم معه ، لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دفع إلى حكيم بن حزامٍ رضي الله عنه ديناراً ، وأمره أن يشتري له أضحيّةً ، فاشترى شاةً وباعها بدينارين ، واشترى بأحدهما شاةً وجاء النّبيّ عليه الصلاة والسلام بشاةٍ ودينارٍ ، وأخبره بما صنع ، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يضحّي بالشّاة ، ويتصدّق بالدّينار » هذا كلّه مذهب الحنفيّة . وخالفهم الشّافعيّة والحنابلة فأجازوا أن يشترك مريد التّضحية أو غيرها من القربات مع مريد اللّحم ، حتّى لو كان لمريد التّضحية سبع البدنة ، ولمريد الهدي سبعها ، ولمريد العقيقة سبعها ، ولمريد اللّحم باقيها ، فذبحت بهذه النّيّات جاز ، لأنّ الفعل إنّما يصير قربةً من كلّ واحدٍ بنيّته لا بنيّة شريكه ، فعدم النّيّة من أحدهم لا يقدح في قربة الباقين . وقال المالكيّة : لا يجوز الاشتراك في الثّمن أو اللّحم ، فإن اشترك جماعةٌ في الثّمن ، بأن دفع كلّ واحدٍ منهم جزءاً منه ، أو اشتركوا في اللّحم ، بأن كانت الشّاة أو البدنة مشتركةً بينهم لم تجزئ عن واحدٍ منهم ، بخلاف إشراكهم في الثّواب ممّن ضحّى بها قبل الذّبح كما مرّ .
وقت التّضحية مبدأٌ ونهايةٌ مبدأ الوقت :(10/9)
39 - قال الحنفيّة : يدخل وقت التّضحية عند طلوع فجر يوم النّحر ، وهو يوم العيد ، وهذا الوقت لا يختلف في ذاته بالنّسبة لمن يضحّي في المصر أو غيره . لكنّهم اشترطوا في صحّتها لمن يضحّي في المصر أن يكون الذّبح بعد صلاة العيد ، ولو قبل الخطبة ، إلاّ أنّ الأفضل تأخيره إلى ما بعد الخطبة ، وإذا صلّيت صلاة العيد في مواضع من المصر كفى في صحّة التّضحية الفراغ من الصّلاة في أحد المواضع . وإذا عطّلت صلاة العيد ينتظر حتّى يمضي وقت الصّلاة بأن تزول الشّمس ، ثمّ يذبح بعد ذلك . وأمّا من يضحّي في غير المصر فإنّه لا تشترط له هذه الشّريطة ، بل يجوز أن يذبح بعد طلوع فجر يوم النّحر ، لأنّ أهل غير المصر ليس عليهم صلاة العيد . وإذا كان من عليه الأضحيّة مقيماً في المصر ، ووكّل من يضحّي عنه في غيره أو بالعكس ، فالعبرة بمكان الذّبح لا بمكان الموكّل المضحّي ، لأنّ الذّبح هو القربة . وقال المالكيّة ، وهو أحد أقوال الحنابلة : إنّ أوّل وقت التّضحية بالنّسبة لغير الإمام هو وقت الفراغ من ذبح أضحيّة الإمام بعد الصّلاة والخطبتين في اليوم الأوّل ، وبالنّسبة للإمام هو وقت الفراغ من صلاته وخطبته ، فلو ذبح الإمام قبل الفراغ من خطبتيه لم يجزئه ، ولو ذبح النّاس قبل الفراغ من ذبح أضحيّة الإمام لم يجزئهم ، إلاّ إذا بدءوا بعد بدئه ، وانتهوا بعد انتهائه أو معه . وإذا لم يذبح الإمام أو توانى في الذّبح بعد فراغ خطبتيه بلا عذرٍ أو بعذرٍ تحرّى النّاس القدر الّذي يمكن فيه الذّبح ، ثمّ ذبحوا أضاحيّهم ، فتجزئهم وإن سبقوه لكن عند التّواني بعذرٍ ، كقتال عدوٍّ أو إغماءٍ أو جنونٍ يندب انتظاره حتّى يفرغ من تضحيته ، إلاّ إذا قرب زوال الشّمس فينبغي للنّاس حينئذٍ أن يضحّوا ولو قبل الإمام . ثمّ إن لم يكن في البلد إلاّ نائب الإمام الحاكم أو إمام الصّلاة فالمعتبر نائب الإمام ، وإن كان فيها هذا وذاك ، وأخرج نائب الإمام أضحيّته إلى المصلّى فهو المعتبر ، وإلاّ فالمعتبر إمام الصّلاة ، فإن لم يكن هذا ولا ذاك تحرّوا تضحية إمام أقرب البلاد إليهم إن كان واحداً ، فإن تعدّد تحرّوا تضحية أقرب الأئمّة لبلدهم . وقال الشّافعيّة ، وهو أحد أقوالٍ للحنابلة : يدخل وقت التّضحية بعد طلوع الشّمس يوم عيد النّحر بمقدار ما يسع ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين ، والمراد بالخفّة الاقتصار على ما يجزئ في الصّلاة والخطبتين . قالوا : وإنّما لم تتوقّف صحّة التّضحية على الفراغ من صلاة الإمام وخطبتيه بالفعل لأنّ الأئمّة يختلفون تطويلاً وتقصيراً ، فاعتبر الزّمان ليكون أشبه بمواقيت الصّلاة وغيرها ، وأضبط للنّاس في الأمصار والقرى والبوادي ، وهذا هو المراد بالأحاديث الّتي تقدّمت ، « وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة عيد الأضحى عقب طلوع الشّمس » . والأفضل تأخير التّضحية عن ارتفاع الشّمس قدر رمحٍ بالمقدار السّابق الذّكر . وذهب الحنابلة في قولٍ ثالثٍ لهم وهو الأرجح ، إلى أنّ وقتها يبتدئ بعد صلاة العيد ولو قبل الخطبة لكنّ الأفضل انتظار الخطبتين . ولا يلزم انتظار الفراغ من الصّلاة في جميع الأماكن إن تعدّدت ، بل يكفي الفراغ من واحدةٍ منها ، وإذا كان مريد التّضحية في جهةٍ لا يصلّى فيها العيد - كالبادية وأهل الخيام ممّن لا عيد عليهم - فالوقت يبتدئ بعد مضيّ قدر صلاة العيد من ارتفاع الشّمس قدر رمحٍ . وإذا فاتت صلاة العيد بالزّوال في الأماكن الّتي تصلّى فيها ضحّوا من حين الفوات .
نهاية وقت التّضحية :
40 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ أيّام التّضحية ثلاثةٌ ، وهي يوم العيد ، واليومان الأوّلان من أيّام التّشريق ، فينتهي وقت التّضحية بغروب شمس اليوم الأخير من الأيّام المذكورة ، وهو ثاني أيّام التّشريق . واحتجّوا بأنّ عمر وعليّاً وأبا هريرة وأنساً وابن عبّاسٍ وابن عمر رضي الله عنهم أخبروا أنّ أيّام النّحر ثلاثةٌ . ومعلومٌ أنّ المقادير لا يهتدى إليها بالرّأي ، فلا بدّ أن يكون هؤلاء الصّحابة الكرام أخبروا بذلك سماعاً . وقال الشّافعيّة - وهو القول الآخر للحنابلة واختاره ابن تيميّة - أيّام التّضحية أربعةٌ ، تنتهي بغروب شمس اليوم الثّالث من أيّام التّشريق ، وهذا القول مرويٌّ عن عليٍّ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أيضاً ، ومرويٌّ كذلك عن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه ، وعن عطاءٍ والحسن البصريّ وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسديّ ومكحولٍ . وحجّة القائلين بهذا قوله عليه الصلاة والسلام : « كلّ أيّام التّشريق ذبحٌ » .
التّضحية في ليالي أيّام النّحر :
41 - أمّا ليلة عيد الأضحى فليست وقتاً للتّضحية بلا خلافٍ ، وكذلك اللّيلة المتأخّرة من أيّام النّحر ، وإنّما الخلاف في اللّيلتين أو اللّيالي المتوسّطة بين أيّام النّحر . فالمالكيّة يقولون : لا تجزئ التّضحية الّتي تقع في اللّيلتين المتوسّطتين ، وهما ليلتا يومي التّشريق من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر . وهذا أحد قولي الحنابلة . وقال الحنابلة والشّافعيّة : إنّ التّضحية في اللّيالي المتوسّطة تجزئ مع الكراهة ، لأنّ الذّابح قد يخطئ المذبح ، وإليه ذهب إسحاق وأبو ثورٍ والجمهور . وهو أصحّ القولين عند الحنابلة . واستثنى الشّافعيّة من كراهية التّضحية ليلاً ما لو كان ذلك لحاجةٍ ، كاشتغاله نهاراً بما يمنعه من التّضحية ، أو مصلحةٍ كتيسّر الفقراء ليلاً ، أو سهولة حضورهم .
ما يجب بفوات وقت التّضحية :(10/10)
42 - ولمّا كانت القربة في الأضحيّة بإراقة الدّم ، وكانت هذه الإراقة لا يعقل السّرّ في التّقرّب بها ، وجب الاقتصار في التّقرّب بها على الوقت الّذي خصّها الشّارع به . فلا تقضى بعينها بعد فوات وقتها ، بل ينتقل التّغرّب إلى التّصدّق بعين الشّاة حيّةً ، أو بقيمتها أو بقيمة أضحيّةٍ مجزئةٍ ، فمن عيّن أضحيّةً شاةً أو غيرها بالنّذر أو بالشّراء بالنّيّة فلم يضحّ بها حتّى مضت أيّام النّحر وجب عليه أن يتصدّق بها حيّةً ، لأنّ الأصل في الأموال التّقرّب بالتّصدّق بها لا بالإتلاف وهو الإراقة . إلاّ أنّ الشّارع نقله إلى إراقة دمها مقيّدةً بوقتٍ مخصوصٍ حتّى أنّه يحلّ أكل لحمها للمالك والأجنبيّ والغنيّ والفقير ، لأنّ النّاس أضياف اللّه تعالى في هذا الوقت .
43 - ومن وجب عليه التّصدّق بالبهيمة حيّةً لم يحلّ له ذبحها ولا الأكل منها ولا إطعام الأغنياء ولا إتلاف شيءٍ منها ، فإن ذبحها وجب عليه التّصدّق بها مذبوحةً ، فإن كانت قيمتها بعد الذّبح أقلّ من قيمتها حيّةً تصدّق بالفرق بين القيمتين فضلاً عن التّصدّق بها . فإن أكل منها بعد الذّبح شيئاً أو أطعم منها غنيّاً أو أتلف شيئاً وجب عليه التّصدّق بقيمته .
44 - ومن وجبت عليه التّضحية ولم يضحّ حتّى فات الوقت ثمّ حضرته الوفاة وجب عليه أن يوصي بالتّصدّق بقيمة شاةٍ من ثلث ماله ، لأنّ الوصيّة هي الطّريق إلى تخليصه من عهدة الواجب . هذا كلّه مذهب الحنفيّة . وللإيصاء بالتّضحية صورٌ نكتفي بالإشارة إليها ، ولتفصيلها وبيان أحكامها ( ر : وصيّةٌ ) . وقال الشّافعيّة والحنابلة : من لم يضحّ حتّى فات الوقت فإن كانت مسنونةً - وهو الأصل - لم يضحّ ، وفاتته تضحية هذا العام ، فإن ذبح ولو بنيّة التّضحية لم تكن ذبيحته أضحيّةً ، ويثاب على ما يعطي الفقراء منها ثواب الصّدقة . وإن كانت منذورةً لزمه أن يضحّي قضاءً ، وهو رأيٌ لبعض المالكيّة ، لأنّها قد وجبت عليه فلم تسقط بفوات الوقت ، فإذا وجبت الأضحيّة بإيجابه لها فضلّت أو سرقت بغير تفريطٍ منه فلا ضمان عليه ، لأنّها أمانةٌ في يده ، فإن عادت إليه ذبحها سواءٌ أكانت عودتها في زمن الأضحيّة أو بعده . فإذا مضى الوقت ولم يضحّ بالشّاة المعيّنة عاد الحكم إلى الأصل ، وهو التّصدّق بعين الأضحيّة حيّةً سواءٌ أكان الّذي عيّنها موسراً أم معسراً أو بقيمتها . وفي هذه الحال لا تحلّ له ولا لأصله ولا لفرعه ولا لغنيٍّ .
ما يستحبّ قبل التّضحية :
45 - يستحبّ قبل التّضحية أمورٌ :
1 - أن يربط المضحّي الأضحيّة قبل يوم النّحر بأيّامٍ ، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرّغبة فيها ، فيكون له فيه أجرٌ وثوابٌ .
2 - أن يقلّدها ويجلّلها قياساً على الهدي ، لأنّ ذلك يشعر بتعظيمها ، قال تعالى : { ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوى القلوب } .
3 - أن يسوقها إلى مكان الذّبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً ولا يجرّ برجلها إليه ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه تعالى كتب الإحسان على كلّ شيءٍ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته » .
4 - وقال المالكيّة والشّافعيّة : يسنّ لمن يريد التّضحية ولمن يعلم أنّ غيره يضحّي عنه ألاّ يزيل شيئاً من شعر رأسه أو بدنه بحلقٍ أو قصٍّ أو غيرهما ، ولا شيئاً من أظفاره بتقليمٍ أو غيره ، ولا شيئاً من بشرته كسلعةٍ لا يضرّه بقاؤها ، وذلك من ليلة اليوم الأوّل من ذي الحجّة إلى الفراغ من ذبح الأضحيّة . وقال الحنابلة : إنّ ذلك واجبٌ ، لا مسنونٌ ، وحكي الوجوب عن سعيد بن المسيّب وربيعة وإسحاق . ونقل ابن قدامة عن الحنفيّة عدم الكراهة . وعلى القول بالسّنّيّة يكون الإقدام على هذه الأمور مكروهاً تنزيهاً ، وعلى القول بالوجوب يكون محرّماً . والأصل في ذلك حديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً » . وفي روايةٍ أخرى عنها رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم هلال ذي الحجّة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره » . والقائلون بالسّنّيّة جعلوا النّهي للكراهة . والحديث الدّالّ على عدم تحريم الفعل هو حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « كنت أفتل قلائد هدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ يقلّده ويبعث به ولا يحرم عليه شيءٌ أحلّه اللّه له حتّى ينحر هديه » . قال الشّافعيّ : البعث بالهدي ، أكثر من إرادة التّضحية فدلّ على أنّه لا يحرم ذلك . والحكمة في مشروعيّة الإمساك عن الشّعر والأظفار ونحوهما قيل : إنّها التّشبّه بالمحرم بالحجّ ، والصّحيح : أنّ الحكمة أن يبقى مريد التّضحية كامل الأجزاء رجاء أن يعتق من النّار بالتّضحية .
ما يكره قبل التّضحية :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً قبل التّضحية أمورٌ :(10/11)
46 - الأمر الأوّل : حلب الشّاة الّتي اشتريت للتّضحية أو جزّ صوفها ، سواءٌ أكان الّذي اشتراها موسراً أم معسراً ، وكذا الشّاة الّتي تعيّنت بالنّذر ، كأن قال : للّه عليّ أن أضحّي بهذه ، أو قال : جعلت هذه أضحيّةً . وإنّما كره ذلك ، لأنّه عيّنها للقربة فلا يحلّ الانتفاع بها قبل إقامة القربة فيها ، كما لا يحلّ له الانتفاع بلحمها إذا ذبحها قبل وقتها ، ولأنّ الحلب والجزّ يوجبان نقصاً فيها والأضحيّة يمتنع إدخال النّقص فيها . واستثنى بعضهم الشّاة الّتي اشتراها الموسر بنيّة التّضحية ، لأنّ شراءه إيّاها لم يجعلها واجبةً ، إذ الواجب عليه شاةٌ في ذمّته كما تقدّم . وهذا الاستثناء ضعيفٌ ، فإنّها متعيّنةٌ للقربة ما لم يقم غيرها مقامها ، فقبل أن يذبح غيرها بدلاً منها لا يجوز له أن يحلبها ، ولا أن يجزّ صوفها للانتفاع به . ولهذا لا يحلّ له لحمها إذا ذبحها قبل وقتها . فإن كان في ضرع الأضحيّة المعيّنة لبنٌ وهو يخاف عليها الضّرر والهلاك إن لم يحلبها نضح ضرعها بالماء البارد حتّى يتقلّص اللّبن ، لأنّه لا سبيل إلى الحلب . فإن حلبه تصدّق باللّبن ، لأنّه جزءٌ من شاةٍ متعيّنةٍ للقربة . فإن لم يتصدّق به حتّى تلف أو شربه مثلاً وجب عليه التّصدّق بمثله أو بقيمته . وما قيل في اللّبن يقال في الصّوف والشّعر والوبر . وقال المالكيّة : يكره - أي تنزيهاً - شرب لبن الأضحيّة بمجرّد شرائها أو تعيينها من بين بهائمه للتّضحية ، ويكره أيضاً جزّ صوفها قبل الذّبح ، لما فيه من نقص جمالها ، ويستثنى من ذلك صورتان :
أولاهما : أن يعلم أنّه ينبت مثله أو قريبٌ منه قبل الذّبح .
ثانيتهما : أن يكون قد أخذها بالشّراء ونحوه ، أو عيّنها للتّضحية بها من بين بهائمه ناوياً جزّ صوفها ، ففي هاتين الصّورتين لا يكره جزّ الصّوف . وإذا جزّه في غير هاتين الصّورتين كره له بيعه . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا يشرب من لبن الأضحيّة إلاّ الفاضل عن ولدها ، فإن لم يفضل عنه شيءٌ أو كان الحلب يضرّ بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه ، وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به . وقالوا أيضاً : إن كان بقاء الصّوف لا يضرّ بها أو كان أنفع من الجزّ لم يجز له أخذه ، وإن كان يضرّ بها أو كان الجزّ أنفع منه جاز الجزّ ووجب التّصدّق بالمجزوز .
47 - الأمر الثّاني : من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - بيع الشّاة المتعيّنة للقربة بالشّراء أو بالنّذر ، وإنّما كره بيعها ، لأنّها تعيّنت للقربة ، فلم يحلّ الانتفاع بثمنها كما لم يحلّ الانتفاع بلبنها وصوفها ، ثمّ إنّ البيع مع كراهته ينفذ عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، لأنّه بيع مالٍ مملوكٍ منتفعٍ به مقدورٍ على تسليمه ، وعند أبي يوسف لا ينفذ ، لأنّه بمنزلة الوقف . وبناءً على نفاذ بيعها فعليه مكانها مثلها أو أرفع منها فيضحّي بها ، فإن فعل ذلك فليس عليه شيءٌ آخر ، وإن اشترى دونها فعليه أن يتصدّق بفرق ما بين القيمتين ، ولا عبرة بالثّمن الّذي حصل به البيع والشّراء إن كان مغايراً للقيمة . وقال المالكيّة : يحرم بيع الأضحيّة المعيّنة بالنّذر وإبدالها ، وأمّا الّتي لم تتعيّن بالنّذر فيكره أن يستبدل بها ما هو مثلها أو أقلّ منها . فإذا اختلطت مع غيرها واشتبهت وكان بعض المختلط أفضل من بعضٍ كره له ترك الأفضل بغير قرعةٍ . وقال الشّافعيّة : لا يجوز بيع الأضحيّة الواجبة ولا إبدالها ولو بخيرٍ منها ، وإلى هذا ذهب أبو ثورٍ واختاره أبو الخطّاب من الحنابلة . ولكنّ المنصوص عن أحمد - وهو الرّاجح عند الحنابلة - أنّه يجوز أن يبدّل الأضحيّة الّتي أوجبها بخيرٍ منها ، وبه قال عطاءٌ ومجاهدٌ وعكرمة .(10/12)
47 - الأمر الثّالث" م": - من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - بيع ما ولد للشّاة المتعيّنة بالنّذر أو بالشّراء بالنّيّة ، وإنّما كره بيعه ، لأنّ أمّه تعيّنت للأضحيّة ، والولد يتبع الأمّ في الصّفات الشّرعيّة كالرّقّ والحرّيّة ، فكان يجب الإبقاء عليه حتّى يذبح معها . فإذا باعه وجب عليه التّصدّق بثمنه . وقال القدوريّ : يجب ذبح الولد ، ولو تصدّق به حيّاً جاز ، لأنّ الحقّ لم يسر إليه ولكنّه متعلّقٌ به ، فكان كجلّها وخطامها ، فإن ذبحه تصدّق بقيمته ، وإن باعه تصدّق بثمنه . وفي الفتاوى الخانيّة أنّه يستحبّ التّصدّق به حيّاً ، ويجوز ذبحه ، وإذا ذبح وجب التّصدّق به ، فإن أكل منه تصدّق بقيمة ما أكل . وقال المالكيّة : يحرم بيع ولد الأضحيّة المعيّنة بالنّذر ، ويندب ذبح ولد الأضحيّة مطلقاً ، سواءٌ أكانت معيّنةً بالنّذر أم لا إذا خرج قبل ذبحها ، فإذا ذبح سلك به مسلك الأضحيّة ، وإذا لم يذبح جاز إبقاؤه وصحّت التّضحية به في عامٍ آخر . وأمّا الولد الّذي خرج بعد الذّبح ، فإن خرج ميّتاً ، وكان قد تمّ خلقه ونبت شعره كان كجزءٍ من الأضحيّة ، وإن خرج حيّاً حياةً محقّقةً وجب ذبحه لاستقلاله بنفسه . وقال الشّافعيّة : إذا نذر شاةً معيّنةً أو قال : جعلت هذه الشّاة أضحيّةً ، أو نذر أضحيّةً في الذّمّة ثمّ عيّن شاةً عمّا في ذمّته ، فولدت الشّاة المذكورة وجب ذبح ولدها في الصّور الثّلاث ، والأصحّ أنّه لا يجب تفرقته على الفقراء بخلاف أمّه ، إلاّ إذا ماتت أمّه فيجب تفرقته عليهم ، وولد الأضحيّة في غير هذه الصّور الثّلاث لا يجب ذبحه ، وإذا ذبح لم يجب التّصدّق بشيءٍ منه ، ويجوز فيه الأكل والتّصدّق والإهداء ، وإذا تصدّق بشيءٍ منه لم يغن عن وجوب التّصدّق بشيءٍ منها . وقال الحنابلة : إذا عيّن أضحيّةً فولدت فولدها تابعٌ لها ، حكمه حكمها ، سواءٌ أكانت حاملاً به حين التّعيين ، أو حدث الحمل بعده ، فيجب ذبحه في أيّام النّحر ، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله فقال : يا أمير المؤمنين إنّي اشتريت هذه البقرة لأضحّي بها ، وإنّها وضعت هذا العجل ؟ فقال عليٌّ : لا تحلبها إلاّ فضلاً عن تيسير ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعةٍ .
48 - الأمر الرّابع : - من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - ركوب الأضحيّة واستعمالها والحمل عليها . فإن فعل شيئاً منها أثم ، ولم يجب عليه التّصدّق بشيءٍ ، إلاّ أن يكون هذا الفعل نقّص قيمتها ، فعليه أن يتصدّق بقيمة النّقص . فإن آجرها للرّكوب أو الحمل تصدّق بقيمة النّقص فضلاً عن تصدّقه بالكراء . وللمالكيّة في إجارة الأضحيّة قبل ذبحها قولان :
أحدهما : المنع
وثانيهما : الجواز وهو المعتمد . وقال الشّافعيّة : يجوز لصاحب الأضحيّة الواجبة ركوبها وإركابها بلا أجرةٍ ، وإن تلفت أو نقصت بذلك ضمنها . لكن إن حصل ذلك في يد المستعير ضمنها المستعير ، وإنّما يضمنها هو أو المستعير إذا تلفت أو نقصت بعد دخول الوقت والتّمكّن من الذّبح ، أمّا قبله فلا ضمان ، لأنّها أمانةٌ في يد المعير ، ومن المعلوم أنّ المستعير إنّما يضمن إذا لم تكن يد معيره يد أمانةٍ .
49 - هذا وهناك مكروهاتٌ ذكرت في غير كتب الحنفيّة : منها : ما صرّح به المالكيّة من أنّ التّغالي بكثرة ثمنها زيادةٌ على عادة أهل البلد يكره - أي تنزيهاً - لأنّ شأن ذلك المباهاة . وكذا زيادة العدد . فإن نوى بزيادة الثّمن أو العدد الثّواب وكثرة الخير لم يكره بل يندب .
ما يستحبّ وما يكره عند إرادة التّضحية :
50 - لمّا كانت التّضحية نوعاً من التّذكية ، كانت مستحبّات التّذكية من ذبحٍ ونحرٍ مستحبّةً فيها ، ومكروهاتها مكروهةٌ فيها . ولتفصيل ما يستحبّ وما يكره في التّذكية ( ر : ذبائح ) . وللتّضحية مستحبّاتٌ ومكروهاتٌ خاصّةٌ تكون عندها ، وهي إمّا أن ترجع إلى الأضحيّة ، أو إلى المضحّي ، أو إلى الوقت . ولنذكر ذلك في ثلاثة مباحث : ما يرجع إلى الأضحيّة من المستحبّات والمكروهات عند التّضحية :(10/13)
51 - يستحبّ في الأضحيّة أن تكون أسمن وأعظم بدناً من غيرها ، لقوله تعالى : { ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوى القلوب } . ومن تعظيمها أن يختارها صاحبها عظيمة البدن سمينةً . وإذا اختار التّضحية بالشّياه ، فأفضلها الكبش الأملح الأقرن الموجوء ( أي المخصيّ ) ، لحديث أنسٍ رضي الله عنه : « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين » ، ولأنّه صلى الله عليه وسلم « ضحّى بكبشين أملحين موجوءين » ، والأقرن : العظيم القرن ، والأملح : الأبيض ، والموجوء : قيل : هو المدقوق الخصيتين ، وقيل : هو الخصيّ ، وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « دم عفراء أحبّ إلى اللّه من دم سوداوين » . قال الحنفيّة : الشّاة أفضل من سبع البقرة . بل أفضل من البقرة إن استوتا في القيمة ومقدار اللّحم . والأصل في هذا أنّ ما استويا في مقدار اللّحم والقيمة فأطيبهما لحماً أفضل . وما اختلفا فيهما فالفاضل أولى ، والذّكر من الضّأن والمعز إذا كان موجوءاً فهو أولى من الأنثى ، وإلاّ فالأنثى أفضل عند الاستواء في القيمة ومقدار اللّحم . والأنثى من الإبل والبقر أفضل من الذّكر عند استواء اللّحم والقيمة . وقال المالكيّة : يندب أن تكون جيّدةً ، بأن تكون أعلى النّعم ، وأن تكون سمينةً ، ويندب أيضاً تسمينها ، لحديث أبي أمامة رضي الله عنه .« قال : كنّا نسمّن الأضحيّة بالمدينة ، وكان المسلمون يسمّنون » . والذّكر أفضل من الأنثى ، والأقرن أفضل من الأجمّ ، ويفضّل الأبيض على غيره ، والفحل على الخصيّ إن لم يكن الخصيّ أسمن ، وأفضل الأضاحيّ ضأنٌ مطلقاً : فحله ، فخصيّه ، فأنثاه ، فمعزٌ كذلك ، واختلف فيما يليهما أهي الإبل أم البقر . والحقّ أنّ ذلك يختلف باختلاف البلاد ، ففي بعضها تكون الإبل أطيب لحماً فتكون أفضل ، وفي بعضها يكون البقر أطيب لحماً فيكون أفضل . وقال الشّافعيّة : أفضل الأضاحيّ سبع شياهٍ ، فبدنةٌ فبقرةٌ ، فشاةٌ واحدةٌ ، فسبع بدنةٍ ، فسبع بقرةٍ ، والضّأن أفضل من المعز ، والذّكر الّذي لم ينز أفضل من الأنثى الّتي لم تلد ، ويليهما الذّكر الّذي ينزو ، فالأنثى الّتي تلد . والبيضاء أفضل ، فالعفراء ، فالصّفراء ، فالحمراء ، فالبلقاء ، ويلي ذلك السّوداء . ويستحبّ تسمين الأضحيّة . وقال الحنابلة : أفضل الأضاحيّ البدنة ، ثمّ البقرة ، ثمّ الشّاة ، ثمّ شركٌ في بدنةٍ ، ثمّ شركٌ في بقرةٍ .
52 - ويكره في الأضحيّة أن تكون معيبةً بعيبٍ لا يخلّ بالإجزاء . ما يستحبّ في التّضحية من أمورٍ ترجع إلى المضحّي :
53 - أن يذبح بنفسه إن قدر عليه ، لأنّه قربةٌ ، ومباشرة القربة أفضل من تفويض إنسانٍ آخر فيها ، فإن لم يحسن الذّبح فالأولى توليته مسلماً يحسنه ، ويستحبّ في هذه الحالة أن يشهد الأضحيّة لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها : « يا فاطمة قومي إلى أضحيّتك فاشهديها » . وقد اتّفقت المذاهب على هذا . غير أنّ الشّافعيّة قالوا : الأفضل للأكثر والخنثى والأعمى التّوكيل وإن قدروا على الذّبح . ولهذه النّقطة تتمّةٌ ستأتي .
54 - أن يدعو فيقول : ( اللّهمّ منك ولك ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين ) لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها أن تقول : « إنّ صلاتي ونسكي ... » إلخ . ولحديث جابرٍ رضي الله عنه أنّه قال : « ذبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الذّبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلمّا وجّههما قال : إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض على ملّة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين . اللّهمّ منك ولك عن محمّدٍ وأمّته ، بسم اللّه واللّه أكبر ثمّ ذبح » . هذا مذهب الحنفيّة . وقال المالكيّة يكره قول المضحّي عند التّسمية " اللّهمّ منك وإليك " ، لأنّه لم يصحبه عمل أهل المدينة . وقال الشّافعيّة : يستحبّ بعد التّسمية التّكبير ثلاثاً والصّلاة والسّلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والدّعاء بالقبول ، بأن يقول : اللّهمّ هذا منك وإليك ، واختلفوا في إكمال التّسمية بأن يقال : ( الرّحمن الرّحيم ) فقيل : لا يستحبّ ، لأنّ الذّبح لا تناسبه الرّحمة ، وقيل : يستحبّ وهو أكمل ، لأنّ في الذّبح رحمةً بالآكلين . وقال الحنابلة : يقول المضحّي عند الذّبح : ( بسم اللّه واللّه أكبر ). والتّسمية واجبةٌ عند التّذكّر والقدرة ، والتّكبير مستحبٌّ ، فقد ثبت أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال : بسم اللّه واللّه أكبر » . وفي حديث أنسٍ « وسمّى وكبّر » وإن زاد فقال : اللّهمّ هذا منك ولك ، اللّهمّ تقبّل منّي أو من فلانٍ فحسنٌ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بكبشٍ له ليذبحه فأضجعه ثمّ قال : اللّهمّ تقبّل من محمّدٍ وآل محمّدٍ وأمّة محمّدٍ ثمّ ضحّى به » .
55 - أن يجعل الدّعاء المذكور قبل ابتداء الذّبح أو بعد انتهائه ويخصّ حالة الذّبح بالتّسمية مجرّدةً . هكذا قال الحنفيّة . ويكره عند الحنفيّة خلط التّسمية بكلامٍ آخر حالة الذّبح ولو كان دعاءً ، لأنّه ينبغي كما تقدّم أن تجعل الأدعية سابقةً على ابتداء الذّبح أو متأخّرةً عن الفراغ منه .
ما يرجع إلى وقت التّضحية من المستحبّات والمكروهات :(10/14)
56 - تستحبّ المبادرة إلى التّضحية ، فالتّضحية في اليوم الأوّل أفضل منها فيما يليه ، لأنّها مسارعةٌ إلى الخير ، وقد قال اللّه تعالى : { وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّةٍ عرضها السّموات والأرض أعدّت للمتّقين } . والمقصود المسارعة إلى سبب المغفرة والجنّة ، وهو العمل الصّالح . وهذا متّفقٌ عليه بين المذاهب ، غير أنّ للمالكيّة تفصيلاً وهو أنّ التّضحية قبل الزّوال في كلّ يومٍ أفضل منها بعد الزّوال ، والتّضحية من ارتفاع الشّمس إلى ما قبل الزّوال في اليومين الثّاني والثّالث أفضل من التّضحية قبل ذلك من الفجر إلى الارتفاع ، وقد تردّدوا في التّضحية بين زوال اليوم الثّاني وغروبه ، والتّضحية بين فجر اليوم الثّالث وزواله ، أيّتهما أفضل ؟ والرّاجح : أنّ التّضحية في الوقت الأوّل أفضل ، ولا تضحية عندهم في اللّيل كما تقدّم . وتقدّم أيضاً أنّ التّضحية في اللّيل تكره عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ومعلومٌ ممّا تقدّم أنّ من الفقهاء من لا يجيز لأهل القرى أن يضحّوا إلاّ في الوقت الّذي يضحّي فيه أهل المدن .
ما يستحبّ وما يكره بعد التّضحية :
أ - يستحبّ للمضحّي بعد الذّبح أمورٌ :
57 - منها : أن ينتظر حتّى تسكن جميع أعضاء الذّبيحة فلا ينخع ولا يسلخ قبل زوال الحياة عن جميع جسدها .
58 - ومنها : أن يأكل منها ويطعم ويدّخر ، لقوله تعالى : { وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ ، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللّه في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } . وقوله عزّ وجلّ : { والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه ، لكم فيها خيرٌ ، فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ } .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا ضحّى أحدكم فليأكل من أضحيّته » .
59 - والأفضل أن يتصدّق بالثّلث ، ويتّخذ الثّلث ضيافةً لأقاربه وأصدقائه ، ويدّخر الثّلث ، وله أن يهب الفقير والغنيّ ، وقد صحّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في صفة أضحيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ويطعم أهل بيته الثّلث ، ويطعم فقراء جيرانه الثّلث ، ويتصدّق على السّؤال بالثّلث » . قال الحنفيّة : ولو تصدّق بالكلّ جاز ، ولو حبس الكلّ لنفسه جاز ، لأنّ القربة في إراقة الدّم ، وله أن يزيد في الادّخار عن ثلاث ليالٍ ، لأنّ نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان من أجل الدّافّة ، وهم جماعةٌ من الفقراء دفّت ( أي نزلت ) بالمدينة ، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتصدّق أهل المدينة عليهم بما فضل عن أضاحيّهم ، فنهى عن الادّخار فوق ثلاثة أيّامٍ . ففي حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « قالوا يا رسول اللّه : إنّ النّاس يتّخذون الأسقية من ضحاياهم ويجعلون فيها الودك ، قال : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحيّ بعد ثلاثٍ ، فقال : إنّما نهيتكم من أجل الدّافّة الّتي دفّت ، فكلوا ، وادّخروا وتصدّقوا » . وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من ضحّى منكم فلا يصبحنّ بعد ثالثةٍ وفي بيته منه شيءٌ ، فلمّا كان العام المقبل . قالوا يا رسول اللّه نفعل كما فعلنا عام الماضي ؟ قال : كلوا وأطعموا وادّخروا ، فإنّ ذلك العام كان بالنّاس جهدٌ ، فأردت أن تعينوا فيها » . وإطعامها والتّصدّق بها أفضل من ادّخارها ، إلاّ أن يكون المضحّي ذا عيالٍ وهو غير موسّع الحال ، فإنّ الأفضل له حينئذٍ أن يدّخره لعياله توسعةً عليهم ، لأنّ حاجته وحاجة عياله مقدّمةٌ على حاجة غيرهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل شيءٌ فلأهلك ، فإن فضل شيءٌ عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا » . هذا مذهب الحنفيّة .
60 - وهاهنا تنبيهٌ مهمٌّ وهو أنّ أكل المضحّي من الأضحيّة وإطعام الأغنياء والادّخار لعياله تمتنع كلّها عند الحنفيّة في صورٍ .
منها : الأضحيّة المنذورة ، وهو مذهب الشّافعيّة أيضاً . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ المنذورة كغيرها في جواز الأكل .
ومنها : أن يمسك عن التّضحية بالشّاة الّتي عيّنها للتّضحية بالنّذر أو بالنّيّة عند الشّراء حتّى تغرب شمس اليوم الثّالث فيجب التّصدّق بها حيّةً .
ومنها : أن يضحّي عن الميّت بأمره فيجب التّصدّق بالأضحيّة كلّها على المختار .
ومنها : أن تلد الأضحيّة فيجب ذبح الولد على قولٍ ، وإذا ذبح وجب التّصدّق به كلّه ، لأنّه لم يبلغ السّنّ الّتي تجزئ التّضحية فيها ، فلا تكون القربة بإراقة دمه ، فتعيّن أن تكون القربة بالتّصدّق به ، ولهذا قيل : إنّ المستحبّ في الولد التّصدّق به حيّاً .(10/15)
ومنها : أن يشترك في البدنة سبعةٌ أو أقلّ ، وينوي بعضهم بنصيبه القضاء عن أضحيّةٍ فاتته من عامٍ أو أعوامٍ مضت ، فيجب على جميع الشّركاء التّصدّق بجميع حصصهم ، لأنّ الّذي نوى القضاء لم تصحّ نيّته ، فكان نصيبه تطوّعاً محضاً وهو لم ينو التّقرّب بإراقة الدّم ، لأنّ من وجب عليه القضاء إنّما يقضي بالتّصدّق بالقيمة ، ونصيب المضحّي الّذي نوى القضاء شائعٌ في البدنة كلّها ، فلا سبيل للّذي نوى الأداء أن يأكل شيئاً منها ، فلا بدّ من التّصدّق بجميعها . وقال المالكيّة : يندب للمضحّي الجمع بين الأكل من أضحيّته والتّصدّق والإهداء بلا حدٍّ في ذلك بثلثٍ ولا غيره ولم يفرّقوا بين منذورةٍ وغيرها . وقال الشّافعيّة : يجب بعد ذبح الأضحيّة الواجبة بالنّذر أو الجعل والمعيّنة عن المنذور في الذّمّة التّصدّق بها كلّها ، وأمّا غير الواجبة فيجب بعد الذّبح التّصدّق بجزءٍ من لحمها نيئاً غير قديدٍ ولا تافهٍ جدّاً . وزاد الحنابلة أنّه إذا لم يتصدّق حتّى فاتت ضمن للفقراء ثمن أقلّ ما لا يعتبر تافهاً . فلا يكفي التّصدّق بشيءٍ من الشّحم أو الكبد أو نحوهما ولا التّصدّق بمطبوخٍ ، ولا التّصدّق بقديدٍ وهو المجفّف ، ولا التّصدّق بجزءٍ تافهٍ جدّاً ليس له وقعٌ . ووجوب التّصدّق هو أحد وجهين وهو أصحّهما ، ويكفي في التّصدّق الإعطاء ، ولا يشترط النّطق بلفظ التّمليك ونحوه ، وما عدا الجزء المتصدّق به يجوز فيه الأكل والإهداء لمسلمٍ والتّصدّق على مسلمٍ فقيرٍ . والأفضل التّصدّق بها كلّها إلاّ لقماً يسيرةً يأكلها ندباً للتّبرّك ، والأولى أن تكون هذه اللّقم من الكبد ، ويسنّ إن جمع بين الأكل والتّصدّق والإهداء ألاّ يأكل فوق الثّلث ، وألاّ يتصدّق بدون الثّلث ، وأن يهدي الباقي . وقال الحنابلة : يجب التّصدّق ببعض الأضحيّة وهو أقلّ ما يقع عليه اسم لحمٍ وهو الأوقيّة ، فإن لم يتصدّق حتّى فاتت ضمن للفقراء ثمن أوقيّةٍ ، ويجب تمليك الفقير لحماً نيئاً لا إطعامه . والمستحبّ أن يأكل ثلثاً ، يهدي ثلثاً ، ويتصدّق بثلثٍ ، ولو أكل ، أكثر جاز . وسواءٌ فيما ذكر الأضحيّة المسنونة والواجبة بنحو النّذر ، لأنّ النّذر محمولٌ على المعهود ، والمعهود من الأضحيّة الشّرعيّة ذبحها ، والأكل منها ، والنّذر لا يغيّر من صفة المنذور إلاّ الإيجاب .
ب - ويكره للمضحّي بعد الذّبح عند الحنفيّة ، أمورٌ :
61 - منها : أن ينخعها أو يسلخها قبل زهوق روحها ، وهذه الكراهة عامّةٌ في جميع الذّبائح ، وهي كراهةٌ تنزيهيّةٌ .
62 - ومنها : بيع شيءٍ من لحمها أو شحمها أو صوفها أو شعرها أو وبرها أو لبنها الّذي حلب منها بعد ذبحها ، أو غير ذلك إذا كان البيع بدراهم أو دنانير أو مأكولاتٍ ، أو نحو ذلك ممّا لا ينتفع به إلاّ باستهلاك عينه ، فهذا البيع لا يحلّ وهو مكروهٌ تحريماً . بخلاف ما لو باع شيئاً منها بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه من متاع البيت أو غيره ، كالإناء النّحاس والمنخل والعصا والثّوب والخفّ ، فإنّه يحلّ .
وإنّما لم يحلّ البيع بما يستهلك ، لقوله : « من باع جلد أضحيّته فلا أضحيّة له » فإن باع نفذ البيع عند أبي حنيفة ومحمّدٍ . ووجب عليه التّصدّق بثمنه ، لأنّ القربة ذهبت عنه ببيعه ، ولا ينفذ البيع عند أبي يوسف فعليه أن يستردّه من المشتري ، فإن لم يستطع وجب التّصدّق بثمنه . وإنّما حلّ بيعه بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، لأنّه يقوم مقام المبدل ، فكأنّه باقٍ وهو شبيهٌ بما لو صنع من الجلد شيءٌ ينتفع به ، كالقربة والدّلو . وصرّح المالكيّة بأنّه لا يجوز بيع شيءٍ منها بعد الذّبح ولا إبداله ، سواءٌ أكان الذّبح مجزئاً عن الأضحيّة أو غير مجزئٍ ، كما لو ذبح قبل الإمام ، وكما لو تعيّبت الأضحيّة فذبحها سواءٌ أكان التّعيّب حالة الذّبح أم قبله ، وسواءٌ أكان عند الذّبح عالماً بالعيب أم جاهلاً به ، وسواءٌ أكان عند الذّبح عالماً بأنّها غير مجزئةٍ أم جاهلاً بذلك ، ففي كلّ هذه الصّور متى ذبح لم يجز له البيع ولا الإبدال . وهذا بالنّسبة لصاحبها . وأمّا الّذي أهدي إليه شيءٌ منها ، أو تصدّق عليه به ، فيجوز له البيع والإبدال . وإذا وقع البيع الممنوع أو إبدالٌ ممنوعٌ فسخ العقد إن كان المبيع موجوداً ، فإن فات بأكلٍ ونحوه وجب التّصدّق بالعوض إن كان موجوداً ، فإن فات بالصّرف أو الضّياع وجب التّصدّق بمثله . وقال الشّافعيّة : لا يجوز للمضحّي بيع شيءٍ منها ، وكذلك لا يجوز للغنيّ المهدى إليه ، بخلاف الفقير المتصدّق عليه ، فإنّه يجوز له البيع ، ويجوز للمضحّي التّصدّق بالجلد وإعارته والانتفاع به لا بيعه ولا إجارته . وقول الحنابلة مثل قول الشّافعيّة ، وزادوا أنّه لا يجوز بيع جلّها أيضاً .(10/16)
63 - ومن الأمور الّتي تكره للمضحّي بعد التّضحية إعطاء الجزّار ونحوه أجرته من الأضحيّة فهو مكروهٌ تحريماً ، لأنّه كالبيع بما يستهلك ، لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال : « أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأقسّم جلودها وجلالها ، وأمرني ألاّ أعطي الجزّار منها شيئاً ، وقال : نحن نعطيه من عندنا » . ( وخرج بالبيع وإعطاء الأجرة ) الانتفاع بالجلد وغيره من الأضحيّة الّتي لم يجب التّصدّق بها ، كما لو جعل سقاءً للماء أو اللّبن أو غيرهما ، أو فرواً للجلوس واللّبس ، أو صنع منه غربالٌ أو غير ذلك فهو جائزٌ ، ولأنّه يجوز الانتفاع بلحمها بالأكل وبشحمها بالأكل والادّهان فكذا بجلدها وسائر أجزائها . هذا مذهب الحنفيّة . وصرّح المالكيّة بمنع إعطاء الجزّار في مقابلة جزارته أو بعضها شيئاً منها ، سواءٌ كانت مجزئةً ، أم غير مجزئةٍ كالّتي ذبحت يوم النّحر قبل ذبح ضحيّة الإمام ، وكالتي تعيّبت حالة الذّبح أو قبله . وأجازوا تأجير جلدها على الرّاجح . وقال الشّافعيّة والحنابلة : يحرم إعطاء الجازر في أجرته شيئاً منها ، لحديث عليٍّ رضي الله عنه السّابق ذكره . فإن دفع إليه لفقره أو على سبيل الهديّة فلا بأس ، وله أن ينتفع بجلدها ، ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئاً منها .
النّيابة في ذبح الأضحيّة :
64 - اتّفق الفقهاء على أنّه تصحّ النّيابة في ذبح الأضحيّة إذا كان النّائب مسلماً ، لحديث فاطمة السّابق : « يا فاطمة قومي إلى أضحيّتك فاشهديها » لأنّ فيه إقراراً على حكم النّيابة . والأفضل أن يذبح بنفسه إلاّ لضرورةٍ . وذهب الجمهور إلى صحّة التّضحية مع الكراهة إذا كان النّائب كتابيّاً ، لأنّه من أهل الذّكاة ، وذهب المالكيّة - وهو قولٌ محكيٌّ عن أحمد - إلى عدم صحّة إنابته ، فإن ذبح لم تقع التّضحية وإن حلّ أكلها . والنّيابة تتحقّق بالإذن لغيره نصّاً ، كأن يقول : أذنتك أو وكّلتك أو اذبح هذه الشّاة ، أو دلالةً كما لو اشترى إنسانٌ شاةً للأضحيّة فأضجعها وشدّ قوائمها في أيّام النّحر ، فجاء إنسانٌ آخر وذبحها من غير أمرٍ فإنّ ، التّضحية تجزئ عن صاحبها عند أبي حنيفة والصّاحبين .
65 - ويرى الحنفيّة والحنابلة أنّه إذا غلط كلّ واحدٍ من المضحّيين فذبح أضحيّة الآخر أجزأت ، لوجود الرّضى منهما دلالةً . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجزئ عن أيٍّ منهما . ولم نطّلع على رأيٍ للشّافعيّة في ذلك .
التّضحية عن الميّت :
66 - إذا أوصى الميّت بالتّضحية عنه ، أو وقف وقفاً لذلك جاز بالاتّفاق . فإن كانت واجبةً بالنّذر وغيره وجب على الوارث إنفاذ ذلك . أمّا إذا لم يوص بها فأراد الوارث أو غيره أن يضحّي عنه من مال نفسه ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز التّضحية عنه ، إلاّ أنّ المالكيّة أجازوا ذلك مع الكراهة . وإنّما أجازوه لأنّ الموت لا يمنع التّقرّب عن الميّت كما في الصّدقة والحجّ . وقد صحّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أحدهما عن نفسه ، والآخر عمّن لم يضحّ من أمّته » . وعلى هذا لو اشترك سبعةٌ في بدنةٍ فمات أحدهم قبل الذّبح ، فقال ورثته - وكانوا بالغين - اذبحوا عنه ، جاز ذلك . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الذّبح عن الميّت لا يجوز بغير وصيّةٍ أو وقفٍ .
هل يقوم غير الأضحيّة من الصّدقات مقامها ؟
67 - لا يقوم غير الأضحيّة من الصّدقات مقامها حتّى لو تصدّق إنسانٌ بشاةٍ حيّةٍ أو بقيمتها في أيّام النّحر لم يكن ذلك مغنياً له عن الأضحيّة ، لا سيّما إذا كانت واجبةً ، وذلك أنّ الوجوب تعلّق بإراقة الدّم ، والأصل أنّ الوجوب إذا تعلّق بفعلٍ معيّنٍ لا يقوم غيره مقامه كالصّلاة والصّوم بخلاف الزّكاة ، فإنّ الواجب فيها عند أبي حنيفة والصّاحبين أداء مالٍ يكون جزءاً من النّصاب أو مثله ، لينتفع به المتصدّق عليه ، وعند بعضهم الواجب أداء جزءٍ من النّصاب من حيث إنّه مالٌ لا من حيث إنّه جزءٌ من النّصاب ، لأنّ مبنى وجوب الزّكاة على التّيسير ، والتّيسير في الوجوب من حيث إنّه مالٌ لا من حيث إنّه العين والصّورة ، وبخلاف صدقة الفطر فإنّها تؤدّى بالقيمة عند الحنفيّة ، لأنّ العلّة الّتي نصّ الشّارع عليها في وجوب صدقة الفطر هي الإغناء . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أغنوهم عن الطّواف في هذا اليوم » ، والإغناء يحصل بأداء القيمة .
المفاضلة بين الضّحيّة والصّدقة :(10/17)
68 - الضّحيّة أفضل من الصّدقة ، لأنّها واجبةٌ أو سنّةٌ مؤكّدةٌ ، وشعيرةٌ من شعائر الإسلام ، صرّح بهذا الحنفيّة والشّافعيّة وغيرهم . وصرّح المالكيّة بأنّ الضّحيّة أفضل أيضاً من عتق الرّقبة ولو زاد ثمن الرّقبة على أضعاف ثمن الضّحيّة . وقال الحنابلة : الأضحيّة أفضل من الصّدقة بقيمتها نصّ عليه أحمد ، وبهذا قال ربيعة وأبو الزّناد ، وروي عن بلالٍ رضي الله عنه أنّه قال : لأن أضعه في يتيمٍ قد ترب فوه فهو أحبّ إليّ من أن أضحّي ، وبهذا قال الشّعبيّ وأبو ثورٍ ، وقالت عائشة رضي الله عنها : لأن أتصدّق بخاتمي هذا أحبّ إليّ من أن أهدي إلى البيت ألفاً . ويدلّ لأفضليّة التّضحية أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى والخلفاء من بعده ، ولو علموا أنّ الصّدقة أفضل لعدلوا إليها ، وما روته عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما عمل ابن آدم يوم النّحر عملاً أحبّ إلى اللّه من إراقة دمٍ ، وأنّه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وأنّ الدّم ليقع من اللّه بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفساً » . ولأنّ إيثار الصّدقة على الأضحيّة يفضي إلى ترك سنّةٍ سنّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأمّا قول عائشة فهو في الهدي دون الأضحيّة وليس الخلاف فيه .
================
أحكام الأضحية
أحمد سعد الدين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الأضحية سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضحى عليه الصلاة والسلام عن نفسه بكبشين أملحين أقرنين، عنه وعن آل بيته، قال: اللهم هذا عن محمد وآله وضحى عمن لم يضح من أمته صلى الله عليه وسلم . ويقول الإمام أبو حنيفة: إن الأضحية واجب، والواجب عنده فوق السنة ودون الفرض، فيرى أنها واجب على ذوي اليسار، والسعة، الحديث " من كان عنده سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا " فأخذ من هذا أنها واجبة .
فإن لم يثبت وجوبها فهي سنة مؤكدة وفيها فضل عظيم.
ووقتها يبدأ من بعد صلاة العيد، أسبق صلاة عيد في البلد، بعدها تشرع الأضحية، وقبل ذلك لا تكون أضحية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل صلاة العيد أن يعتبر شاته شاة لحم، ليست شاة نسك، وليست شاة عبادة قربة .. حتى لو تصدق بها كلها، فإنه يكتب له ثواب الصدقة ولا يكتب له ثواب الضحية، لأن التضحية عبادة، والعبادات إذا حد الشارع لها حدًا، ووقت لها ميقاتًا، لا ينبغي أن نتجاوزه أو نتقدم عليه، كالصلاة، هل يجوز أن تصلي الظهر قبل وقتها ؟ لا يجوز .. كذلك الأضحية لها وقت معين . هناك بعض الناس في بعض البلاد يذبحون في ليلة العيد، وهذا خطأ . وتضييع للسنة وتضييع لثواب الأضحية . وإذا عرف عليه أن يعيد الأضحية، خاصة إذا كان عليه نذر فيجب عليه وجوبًا أن يعيد ..فيبدأ من بعد صلاة العيد . ويجوز أن يذبح في يوم العيد نفسه، وفي ثاني يوم وفي ثالث يوم العيد .. بل هناك قول بالجواز في رابع أيام العيد .. أخر أيام التشريق . والأولى أن يذبح إلى الزوال، فإذا جاء وقت الظهر ولم يذبح، يؤخر لليوم الثاني، وبعض الأئمة يقولون: حتى بعد ذلك يصح الذبح ليلا ونهارًا ولهذا أرى أنه ليس من الضروري أن يذبح الناس كلهم في أول يوم العيد، حيث يكون هناك زحمة على الذبح، فيمكن أن يؤخر بعض الناس الذبح إلى اليوم الثاني أو الثالث، فيكون بعض الناس بحاجة إلى اللحم، فيستطيع أن يوزع في اليوم الثاني أو الثالث على أناس لعلهم يكونون أحوج إلى اللحم من أول أيام العيد.
هذا هو وقت الأضحية.
وما يجزئ في الأضحية هو: الإبل والبقر والغنم.. لأنها هي الأنعام .. فيصح أن يذبح أيًا من هذه الأصناف. والشاة عن الواحد .. والمقصود بالواحد: الرجل وأهل بيته . كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا عن محمد وآله.
وقال أبو أيوب: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الرجل عن نفسه وأهله شاة واحدة، حتى تباهي القوم فصاروا إلى ما ترى.
فهذه هي السنة.
وبالنسبة للبقر والإبل، فيكفي سبع البقرة أو سبع الناقة عن الواحد، فيستطيع أن يشترك سبعة أشخاص في البقرة، أو في الناقة، بشرط ألا تقل البقرة عن سنتين والناقة عن خمس سنوات، والماعز عن سنة، والضأن عن ستة أشهر . الضأن الجذع أباح النبي عليه الصلاة والسلام ذبحه ولو كان عمره ستة أشهر . واشترط أبو حنيفة أن يكون سمينًا، وإلا أتم السنة.
هذا ما يجزئ في الأضحية.
وكلما كانت أسمن وأحسن كان ذلك أفضل، لأنها هدية إلى الله عز وجل .. فينبغي على المسلم أن يقدم إلى الله أفضل شيء، أما أن يجعل لله ما يكره.. فلا، ولهذا لا يجوز أن يضحي بشاة عجفاء هزيلة شديدة الهزال، أو عوراء بين عورها، أو عرجاء بين عرجها، أو ذهب أكثر قرنها، أو كانت أذنها مشوهة، أو ذات عاهة أيًا كانت هذه العاهة .. لا ! إنما ينبغي على المسلم أن يقدم الشيء النظيف لأنه - كما قلت - هدية إلى الله سبحانه وتعالى .. فليتخير العبد ما يهديه إلى ربه ..و ذلك من الذوق السليم والله سبحانه لن يناله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم.
هل يتصدق بثمن الضحية ؟.(10/18)
أما بالنسبة للحي، فإن الذبح أولى، لأن الذبح شعيرة وقربة إلى الله عز وجل (فصل لربك وانحر) فنحن ننحر اقتداء بسنة أبينا إبراهيم، وتذكيرًا بذلك الحدث الجليل، حدث التضحية . إبراهيم حين جاءه الوحي في الرؤيا، بأن يذبح ولده إسماعيل واستجاب لهذا الوحي، وذهب إلى ابنه وفلذة كبده، إسماعيل بكره الوحيد الذي جاءه على الكبر، وعلى شوق وفي غربة، فبعد هذا كله، وبعد أن رزقه الله، وبشره بغلام حليم، وبلغ معه السعي، وأصبح يرجى منه، جاءه الوحي عن طريق الرؤيا الصادقة ليذبحه إنه امتحان .. وامتحان عسير .. على أب في مثل هذه السن، وفي مثل هذه الحال، وفي ولد ذكر نجيب حليم، وبعد أن بلغ معه السعي، في سن أصبح يرجى منه، كل هذا ويأتيه الأمر الإلهي: اذبحه ! يريد الله أن يختبر .. قلب خليله إبراهيم ؟؟ أما زال خالصًا لله عز وجل ؟ أم أ صبح متعلقًا مشغولاً بهذا الولد؟ هذا هو البلاء المبين .. والامتحان الدقيق العسير، ولكن إبراهيم نجح في الامتحان، ذهب إلى ابنه، ولم يرد أن يأخذه على غرة، ولا على غفلة، ولكن بصره بالأمر وقال له: يابني إني أرى في المنام إني أذبحك، فانظر ماذا ترى) (الصافات: 102) ولم يكن في روعة موقف الوالد إلا موقف الولد فإنه لم يتمرد، ولم يتردد، بل قال في ثقة المؤمن وإيمان الواثق (يا أبت افعل ما تؤمر ) نفذ ما لديك من أوامر (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) (الصافات: 103) كلام يشيع منه الإيمان والقوة والتواضع والتوكل على الله . لم يجعلها بطولة أو ادعاء للشجاعة، بل علق ذلك على المشيئة (ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) رد الأمر إلى الله، ووكله إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي يهب الإنسان اليقين، يمنحه الصبر، ويهبه قوة الأعصاب، (فلما أسلما) (الصافات: 103) أسلم الوالد ولده، وأسلم الولد عنقه، (وتله للجبين) صرعه إلى جبينه، وأراد أن ينفذ ما أمر به، جاءته البشرى، (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا هو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم) (الصافات: 104 -107) جاءه جبريل بالكبش وقال له: اذبح هذا بدلاً عن ابنك . فأصبحت سنة في هذا اليوم. نضحي تذكيرًا بهذا الحدث.
الأمم دائمًا تحاول أن تخلد أحداثها، وتجسد ذكرياتها العظيمة وتحتفل بأيام مجدها .. يوم الاستقلال يوم الجلاء .. يوم النصر. -الخ فكذلك هذا اليوم من أيام الله، من أيام الإنسانية، من أيام الإيمان هذا يوم بطولة خالدة، خلده الله بشعيرة الأضحية .. فالمسلم يضحي بهذا اليوم، وذلك سنة وهو أفضل من التصدق بثمنها، لأنه لو تصدق كل الناس بثمن أضاحيهم، فمعنى ذلك أن هذه الشعيرة تموت، والإسلام يريد أن يحيها، فلاشك أن الذبح أفضل . ولكن هذا في حق الحي .. وهو من يضحي عن نفسه وعن أولاده.
ولكن إذا كان للإنسان ميت، ويريد أن يهدي إليه في قبره ثوابًا، فماذا يصنع ؟ هل يذبح ؟ أم يتصدق بالثمن؟
في البلد الذي تكثر فيه الذبائح ويكون الناس في غني عن اللحم، يكون في هذه الحالة التصدق بثمن الأضحية عن الميت أفضل .. لأن الناس كلهم عندهم لحوم، وكلهم مستغنون يوم العيد وفي اليومين التاليين له، ولكن لعل أكثرهم بحاجة إلى دراهم يشتري بها ثوبًا لابنته، أو لعبة لابنه، أو حلوى لأطفاله أو غير ذلك، فهم في حاجة إلى من يوسع عليهم في هذه الأيام المباركة أيام العيد وأيام التشريق، فلهذا تكون الصدقة عن الميت أفضل من الضحية في مثل هذه البلاد.
أما في البلاد التي يقل فيها اللحم، ويكون الناس في حاجة إلى اللحوم، ففي هذه الحالة، إذا ضحى الإنسان عن الميت ووزع لحم الأضحية عن ميته يكون أفضل.
ثم هناك أمر آخر، وهو أن الميت تشرع الصدقة عنه بإجماع المسلمين، لم يخالف فيها أحد . فهنا أمران لم يخالف فيهما مذهب: الصدقة عن الميت، والدعاء والاستغفار له . أما ما بعد ذلك مثل: أن تقرأ عنه القرآن، أو تذبح عنه، أو غير ذلك، وكل هذه الأمور فيها خلاف.
ولذا فالمتفق عليه خير من المختلف فيه.
من حيث توزيع الأضحية، معلوم أن الأولى توزيعها أثلاثًا، ثلث يأكله الإنسان، هو وأهل بيته (فكلوا منها ) وثلث لجيرانه من حوله، وخاصة إذا كانوا من أهل الإعسار أو ليسوا من أهل السعة، وثلث للفقراء .. ولو فرض أنه تصدق بها كلها، لكان أفضل وأولى، على شرط أن يأخذ منها قليلاً للسنة والتبرك، كأن يأكل من الكبد أو من سواها، ليصدق عليه أنه أكل منها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكما كان يفعل أصحابه.(10/19)
أظفارٌ *
التعريف :
1 - الأظفار جمع ظفرٍ ، ويجمع أيضاً على أظفرٍ ، وأظافير . والظّفر معروفٌ ، يكون للإنسان وغيره . وقيل : الظّفر لما لا يصيد ، والمخلب لما يصيد .
الأحكام المتعلّقة بالأظفار :
تقليم الأظفار :
2 - تقليم الأظفار سنّةٌ عند الفقهاء للرّجل والمرأة ، لليدين والرّجلين ، لما روى أبو هريرة قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : خمسٌ من الفطرة : الاستحداد ، والختان ، وقصّ الشّارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار » . والمراد بالتّقليم إزالة ما زيد على ما يلامس رأس الإصبع ، ويستحبّ أن يبدأ باليد اليمنى ثمّ اليسرى ، ثمّ الرّجل اليمنى ثمّ اليسرى . وقال ابن قدامة : روي في حديث : « من قصّ أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً » . وفسّره ابن بطّة ، بأن يبدأ بخنصر اليمنى ، ثمّ الوسطى ثمّ الإبهام ، ثمّ البنصر ثمّ السّبّابة .
أمّا التّوقيت في تقليم الأظفار فهو معتبرٌ بطولها : فمتى طالت قلّمها ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال ، وقيل : يستحبّ تقليم الأظفار كلّ يوم جمعةٍ ، لما روي عن أنس بن مالكٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه وقّت لهم في كلّ أربعين ليلةً تقليم الأظفار ، وأخذ الشّارب ، وحلق العانة » وفي روايةٍ عن أنسٍ أيضاً « وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ألاّ نترك أكثر من أربعين يوماً » .
قال السّخاويّ : لم يثبت في كيفيّة قصّ الأظفار ولا في تعيين يومٍ له شيءٌ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
توفير الأظفار للمجاهدين في بلاد العدوّ :
3 - ينبغي للمجاهدين أن يوفّروا أظفارهم في أرض العدوّ فإنّه سلاحٌ ، قال أحمد : يحتاج إليها في أرض العدوّ ، ألا ترى أنّه إذا أراد أن يحلّ الحبل أو الشّيء فإذا لم يكن له أظفارٌ لم يستطع . وقال عن الحكم بن عمرٍو : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ألاّ نحفي الأظفار في الجهاد ، فإنّ القوّة في الأظفار » .
قصّ الأظفار في الحجّ وما يجب فيه :
4 - ممّا يندب لمن يريد الإحرام تقليم الأظفار ، فإذا دخل في الإحرام فقد أجمع أهل العلم على أنّه ممنوعٌ من قصّ أظفاره إلاّ من عذرٍ ، لأنّ قطع الأظفار إزالة جزءٍ يترفّه به ، فحرم ، كإزالة الشّعر ، وتفصيل حكمه إذا قصّه ينظر في مصطلح إحرامٌ .
إمساك المضحّي عن قصّ أظفاره :
5 - ذهب بعض الحنابلة وبعض الشّافعيّة : إلى أنّ من أراد أن يضحّي فدخل العشر من ذي الحجّة يجب عليه أن يمسك عن قصّ الشّعر والأظفار ، وهو قول إسحاق وسعيد بن المسيّب . وقال الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو قول بعض الشّافعيّة والحنابلة : يسنّ له أن يمسك عن قصّ الشّعر والأظفار . لما روت أمّ سلمة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظفاره شيئاً حتّى يضحّي » . وفي روايةٍ أخرى عن أمّ سلمة مرفوعاً : « من كان له ذبحٌ يذبحه ، فإذا أهلّ هلال ذي الحجّة ، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتّى يضحّي » .
والحكمة في ذلك بقاؤه كامل الأجزاء ، لتشملها المغفرة والعتق من النّار . ويفهم من كلام الشّافعيّة والحنابلة أنّهم أطلقوا طلب ترك الأظفار والشّعر في عشرٍ من ذي الحجّة لمن أراد التّضحية مطلقاً ، سواءٌ أكان يملك الأضحيّة أم لا .
دفن قلامة الظّفر :
6 - يستحبّ دفن الظّفر ، إكراماً لصاحبه . وكان ابن عمر يدفن الأظفار .
الذّبح بالأظفار :
7 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو رأيٌ للمالكيّة إلى تحريم الذّبح بالظّفر والسّنّ مطلقاً ، وقالوا : إنّ المذبوح بهذه الأشياء ميتةٌ لا يحلّ أكلها ، لأنّه قاتلٌ وليس بذابحٍ . ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه فكل ، ليس الظّفر والسّنّ ... » . ووافقهم الحنفيّة ، وكذلك المالكيّة في أحد أقوالٍ عندهم إذا كان الظّفر والسّنّ قائمين غير منزوعين ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أنهر الدّم » ، وما رواه الشّافعيّة محمولٌ على غير المنزوع ، فإنّ الحبشة كانوا يفعلون ذلك إظهاراً للجلد . ولأنّها إذا انفصلت كانت آلةً جارحةً ، فيحصل بها المقصود ، وهو إخراج الدّم ، فصار كالحجر والحديد ، بخلاف غير المنزوع فإنّه يقتل بالثّقل ، فيكون في معنى الموقوذة .
وفي رأيٍ للمالكيّة يجوز الذّبح بالظّفر والسّنّ مطلقاً سواءٌ أكانا قائمين أم منفصلين .
طلاء الأظفار :
8 - الطّهارة من الحدث تقتضي تعميم الماء على أعضاء الوضوء في الحدث الأصغر ، وعلى الجسم في الحدث الأكبر ، وإزالة كلّ ما يمنع وصول الماء إلى تلك الأعضاء ، ومنها الأظفار ، فإذا منع مانعٌ من وصول الماء إليها من طلاءٍ وغيره - من غير عذرٍ - لم يصحّ الوضوء ، وكذلك الغسل ، لما روى عليٌّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك موضع شعرةٍ من جنابةٍ لم يصبها الماء ، فعل به من النّار كذا وكذا » . وعن عمر رضي الله عنه « أنّ رجلاً توضّأ فترك موضع ظفرٍ على قدميه ، فأبصره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فأحسن وضوءك » . ر : ( وضوءٌ - غسلٌ ) .
أثر الوسخ المتجمّع تحت الأظفار في الطّهارة :(11/1)
9 - إذا كان تحت الأظفار وسخٌ يمنع وصول الماء إلى ما تحته ، فقد ذهب المالكيّة ، والحنفيّة في الأصحّ عندهم ، إلى أنّه لا يمنع الطّهارة ، وعلّلوا ذلك بالضّرورة ، وبأنّه لو كان غسله واجباً لبيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم « وقد عاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كونهم يدخلون عليه قلحاً ورفغ أحدهم بين أنمله وظفره » . يعني أنّ وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها ، فعاب عليهم نتن ريحها لا بطلان طهارتهم ، ولو كان مبطلاً للطّهارة لكان ذلك أهمّ فكان أحقّ بالبيان .
وقال الحنابلة ، وهو رأيٌ للحنفيّة ، والمفهوم من مذهب الشّافعيّة : لا تصحّ الطّهارة حتّى يزيل ما تحت الأظفار من وسخٍ ، لأنّه محلٌّ من اليد استتر بما ليس من خلقه ، وقد منع إيصال الماء إليه مع إمكان إيصاله .
الجناية على الظّفر :
10 - لو جني على الظّفر في غير العمد ، فقلع ونبت غيره ، قال المالكيّة ومحمّدٌ وأبو يوسف من الحنفيّة ، وهو رأيٌ للشّافعيّة : فيه أرش الألم ، وهو حكومة عدلٍ ، بقدر ما لحقه إلى أن يبرأ ، من النّفقة من أجرة الطّبيب وثمن الدّواء .
وقال أبو حنيفة وهو رأيٌ آخر للشّافعيّة : ليس فيه شيءٌ . أمّا إذا لم ينبت غيره ففيه الأرش ، وقدّر بخمسٍ من الإبل .
وقال الحنابلة : إذا جني على الظّفر ولم يعد ، أو عاد أسود ففيه خمس دية الإصبع ، وهو منقولٌ عن ابن عبّاسٍ ، وفي ظفرٍ عاد قصيراً أو عاد متغيّراً أو أبيض ثمّ أسود لعلّةٍ حكومة عدلٍ . وهذا في غير العمد ، أمّا في العمد ففيه القصاص . ر : ( قصاصٌ - أرشٌ ) .
الجناية بالظّفر :
11 - لمّا كان تعمّد القتل أمراً خفيّاً ، نظر الفقهاء إلى الآلة المستعملة في القتل ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا قصاص في القتل العمد إلاّ إذا كان بسلاحٍ أو ما جرى مجراه ، من محدّدٍ من الخشب أو الحجر العظيم أو غيرهما ، وذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم أبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ آلة العمد هي ما تقتل غالباً ، مثل الحجر العظيم والخشبة الكبيرة وكلّ ما يقتل ، على تفصيلٍ وخلافٍ بينهم في الضّوابط المعتبرة في ذلك يرجع إليها في : ( مسائل الجنايات والقصاص ) وعلى هذا فإذا كان الظّفر متّصلاً أو منفصلاً معدّاً للقتل والجناية فهو ممّا يقتل غالباً ويثبت به العمد عندهم ، خلافاً لأبي حنيفة ، وأمّا إذا لم يكن معدّاً لذلك ، وتعمّد الضّرب به فهو شبه عمدٍ ، ولا قصاص فيه ، بل يكون فيه الدّية المغلّظة .
طهارة الظّفر ونجاسته :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ظفر الإنسان طاهرٌ ، حيّاً كان الإنسان أو ميّتاً ، وسواءٌ أكان الظّفر متّصلاً به ، أم منفصلاً عنه ، وذهب بعض الحنابلة في قولٍ مرجوحٍ إلى نجاسة أجزاء الآدميّ ، وبعضهم إلى نجاسة الكافر بالموت دون المسلم ، وهذا الخلاف عندهم في غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحيح عندهم ما وافق الجمهور .
أمّا الحيوان ، فإن كان نجس العين ( الذّات ) ، كالخنزير ، فإنّ ظفره نجسٌ ، وأمّا إذا كان الحيوان طاهر العين ، فظفره المتّصل به حال حياته طاهرٌ . فإن ذكّي فهو طاهرٌ أيضاً ، أمّا إذا مات فظفره نجسٌ كميتته ، وكذا إذا انفصل الظّفر حال حياته فإنّه نجسٌ أيضاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما أبين من حيٍّ فهو ميتٌ » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الظّفر من غير الخنزير طاهرٌ مطلقاً ، سواءٌ كان من مأكولٍ أو غير مأكولٍ ، من حيٍّ أو ميّتٍ ، لأنّ الحياة لا تحلّه ، والّذي ينجس بالموت إنّما هو ما حلّته الحياة دون غيره .(11/2)
أعجميٌّ *
التعريف :
1 - الأعجميّ هو من لا يفصح ، سواءٌ أكان من العجم أم من العرب . أمّا العجميّ فهو من كان من غير جنس العرب ، سواءٌ أكان فصيحا أم غير فصيحٍ ، وأصل الكلمة : الأعجم ، وهو من لا يفصح وإن كان عربيّاً فياء النّسبة في الأعجميّ للتّوكيد . وجمعه أعجميّون ، وغالباً ما يطلق على غير العربيّ ممّن ينطق بلغاتٍ أخرى من اللّغات المختلفة في العالم . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين اللّغويّين .
2 - الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأعجم : من معاني الأعجم أيضاً : من لا ينطق من إنسانٍ أو حيوانٍ . ومؤنّثه عجماء .
ب - اللّحّان : وهو العربيّ الّذي يميل عن جهة الاستقامة في الكلام .
الحكم الإجماليّ :
3 - جمهور الفقهاء على أنّ الأعجميّ إن كان يحسن العربيّة فإنّه لا يجزئه التّكبير بغيرها من اللّغات ، والدّليل أنّ النّصوص أمرت بذلك اللّفظ ، وهو عربيٌّ ، وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنها .
وقال أبو حنيفة يجزئه ولو كان يحسنها ، لقوله تعالى : { وذكر اسم ربّه فصلّى } وهذا قد ذكر اسم ربّه ، ولكن يكره له ذلك . أمّا إن كان الأعجميّ لا يحسن العربيّة ، ولم يكن قادراً على النّطق بها ، فإنّه يجزئه عند جمهور الفقهاء التّكبير بلغته بعد ترجمة معانيها بالعربيّة على ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة ، أيّاً كانت تلك اللّغة ، لأنّ التّكبير ذكر اللّه تعالى ، وذكر اللّه تعالى يحصل بكلّ لسانٍ ، فاللّغة غير العربيّة بديلٌ لذلك . ويلزمه تعلّم ذلك . ومذهب المالكيّة ، وهو وجهٌ عند الحنابلة ، أنّه إذا عجز عن التّكبير بالعربيّة سقط عنه ، ويكتفي منه بنيّة الدّخول في الصّلاة . وعلى هذا الخلاف جميع أذكار الصّلاة من التّشهّد والقنوت والدّعاء وتسبيحات الرّكوع والسّجود .
4 - أمّا قراءة القرآن ، فالجمهور على عدم جوازها بغير العربيّة خلافاً لأبي حنيفة ، والمعتمد أنّه رجع إلى قول صاحبيه . ودليل عدم الجواز قوله تعالى : { إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } ، ولأنّ القرآن معجزٌ لفظه ومعناه ، فإذا غيّر خرج عن نظمه ، فلم يكن قرآناً وإنّما يكون تفسيراً له . هذا في الصّلاة ، وكذلك الحكم في غيرها فلا يسمّى قرآناً ما يقرأ من ترجمة معانيه . والتّفصيل في مصطلحي : ( صلاةٌ ) ( وقراءةٌ ) .
مواطن البحث :
5 - يفصّل الفقهاء ذلك عند الكلام عن تكبيرة الإحرام وقراءة القرآن في الصّلاة ، ويتكلّمون عن الطّلاق بغير العربيّة في بابه ، وعن الشّهادة بالأعجميّة في الشّهادة .(12/1)
أقلف *
التّعريف :
1 - الأقلف : هو الّذي لم يختن ، والمرأة قلفاء ، والفقهاء يخصّون أحكام الأقلف بالرّجل دون المرأة . ويقابل الأقلف في المعنى : المختون .
وإزالة القلفة من الأقلف تسمّى ختاناً في الرّجل ، وخفضاً في المرأة .
حكمه التّكليفيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ إزالة القلفة من الأقلف من سنن الفطرة ، لتضافر الأحاديث على ذلك ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقصّ الشّارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط » . كما سيأتي تفصيل ذلك في ( ختان ) .
وذهب الشّافعيّة وأحمد بن حنبلٍ إلى أنّ الختان فرض . وهو قول ابن عبّاسٍ وعليّ بن أبي طالبٍ والشّعبيّ وربيعة الرّأي والأوزاعيّ ويحيى بن سعيدٍ وغيرهم ، وعلى هذا فإنّ الأقلف تارك فرضٍ ، ومنهم من ذهب إلى أنّه سنّة كأبي حنيفة والمالكيّة ، وهو قول الحسن البصريّ .
3 - يختصّ الأقلف ببعض الأحكام :
أ - ردّ شهادته عند الحنفيّة إن كان تركه الاختتان لغير عذرٍ . وهو ما يفهم من مذهبي الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّهم يقولون بوجوب الاختتان ، وترك الواجب فسق ، وشهادة الفاسق مردودة . وذهب المالكيّة إلى كراهة شهادته .
ب - جواز ذبيحة الأقلف وصيده ، لأنّه لا أثر للفسق في الذّبيحة والصّيد ، ولذلك فقد ذهب الجمهور - وهو الصّحيح عند الحنابلة - إلى أنّ ذبيحة الأقلف وصيده يؤكلان ، لأنّ ذبيحة النّصرانيّ تؤكل فهذا أولى . وروي عن ابن عبّاسٍ ، وعكرمة وأحمد بن حنبلٍ أنّ ذبيحة الأقلف لا تؤكل ، وقد بيّن الفقهاء ذلك في كتاب الذّبائح والصّيد .
ج - إذا كان الاختتان - إزالة القلفة - فرضاً ، أو سنّةً ، فلو أزالها إنسان بغير إذن صاحبها فلا ضمان عليه .
د - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان هناك حرج في غسل ما تحت القلفة فلا يطلب تطهيرها دفعاً للحرج .
أمّا إذا كان تطهيرها ممكناً من غير حرجٍ فالشّافعيّة والحنابلة يوجبون تطهير ما تحت القلفة في الغسل والاستنجاء ، لأنّها واجبة الإزالة ، وما تحتها له حكم الظّاهر .
وذهب الحنفيّة إلى استحباب غسلها في الغسل والاستنجاء ، ويفهم من عبارة مواهب الجليل أنّ المالكيّة لا يرون وجوب غسل ما تحت القلفة .
هـ – ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهم من يقولون بوجوب تطهير ما تحت القلفة ، إلى أنّه إذا لم يغسل ما تحتها لا تصحّ طهارته ، وبالتّالي لا تصحّ إمامته .
وأمّا الحنفيّة فتصحّ إمامته عندهم مع الكراهة التّنزيهيّة ، والمالكيّة يرون جواز إمامة الأقلف ، ولكنّهم يرون كراهة تعيينه إماماً راتباً ، ومع هذا لو صلّى النّاس خلفه لم يعيدوا صلاتهم .(13/1)
ألية *
التّعريف :
1 - الألية : هي العجيزة ، أو ما ركب العجز من لحمٍ وشحمٍ .
ولا يختلف المعنى عند الفقهاء عن ذلك ، فقد قالوا : إنّها اللّحم النّاتئ بين الظّهر والفخذ . والفخذ يلي الرّكبة ، وفوقه الورك ، وفوقه الألية .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - يتعلّق بالألية عدّة أحكامٍ في مواضع متفرّقةٍ من أبواب الفقه منها :
أ - في نواقض الوضوء : يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ المتوضّئ إذا نام ومكّن أليته من الأرض فلا ينتقض وضوءه ، لأمن خروج ما ينتقض به وضوءه .
ولم يعتبر المالكيّة هيئة النّائم ، بل المعتبر عندهم صفة النّوم وحدها ثقلاً أو خفّةً ، والحنابلة ينظرون إلى صفة النّوم وهيئة النّائم معاً ، فمتى كان النّائم ممكّناً مقعدته من الأرض فلا ينقض إلاّ النّوم الكثير .
ب - في الأضحيّة : يختلف الفقهاء في إجزاء الشّاة إن كانت دون أليةٍ ، وتسمّى البتراء أو مقطوعة الذّنب ، ولهم في ذلك أربعة أقوالٍ :
الأوّل : عدم الإجزاء مطلقاً ، وهو قول المالكيّة .
الثّاني : الإجزاء إن كانت مخلوقةً دون أليةٍ ، أمّا مقطوعة الألية فإنّها لا تجزئ ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة .
الثّالث : التّفريق بين ما إذا قطع الأكثر أو الأقلّ ، فإن قطع الأكثر تجزئ ، وتجزئ إن بقي الأكثر ، لأنّ للأكثر حكم الكلّ بقاءً وذهاباً ، وهو قول الحنفيّة .
الرّابع : الإجزاء مطلقاً . وهو قول الحنابلة . وممّن كان لا يرى بأساً بالبتراء : ابن عمر وسعيد بن المسيّب والحسن وسعيد بن جبيرٍ والحكم .
ج - وفي الجناية على الألية عمداً القصاص عند جمهور الفقهاء ، لأنّ لها حدّاً تنتهي إليه . وقال المزنيّ : لا قصاص فيها ، لأنّها لحم متّصل بلحمٍ ، فأشبه لحم الفخذ .
فإن كانت الجناية خطأً ففي الألية نصف ديةٍ وفي الأليتين الدّية الكاملة عند أغلب الفقهاء . وقال المالكيّة : في الألية حكومة عدلٍ ، سواء أكانت ألية رجلٍ أم ألية امرأةٍ ، هذا باستثناء أشهب ، فإنّه فرّق بين ألية الرّجل وألية المرأة ، فأوجب في الأولى حكومةً ، وفي الثّانية الدّية ، لأنّها أعظم على المرأة من ثديها .
وبالإضافة إلى المواضع السّابقة يتكلّم الفقهاء عنها عند الافتراش في قعدات الصّلاة ، وعند التّورّك . وفي تكفين الميّت يتكلّمون عن شدّ الأليين غرفة بعد وضع قطنٍ بينهما ، ليؤمن من خروج شيءٍ من الميّت .(14/1)
أمرد *
التّعريف :
1 - الأمرد في اللّغة من المرد ، وهو نقاء الخدّين من الشّعر ، يقال : مرد الغلام مرداً : إذا طرّ شاربه ولم تنبت لحيته .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : من لم تنبت لحيته ، ولم يصل إلى أوان إنباتها في غالب النّاس والظّاهر أنّ طرور الشّارب وبلوغه مبلغ الرّجال ليس بقيدٍ ، بل هو بيان لغايته ، وأنّ ابتداءه حين بلوغه سنّاً تشتهيه النّساء .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأجرد :
2 - الأجرد في اللّغة هو : من لا شعر على جسده ، والمرأة جرداء . وفي الاصطلاح : الّذي ليس على وجهه شعر ، وقد مضى أوان طلوع لحيته . ويقال له في اللّغة أيضاً : ثطّ وأثطّ . ( ر : أجرد ) أمّا إذا كان على جميع بدنه شعر فهو : أشعر .
المراهق :
3 - إذا قارب الغلام الاحتلام ولم يحتلم فهو مراهق . فيقال : جارية مراهقة ، وغلام مراهق ، ويقال أيضاً : جارية راهقة وغلام راهق .
الأحكام الإجماليّة المتعلّقة بالأمرد :
أوّلاً : النّظر والخلوة :
4 - إن كان الأمرد غير صبيحٍ ولا يفتن ، فقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه يأخذ حكم غيره من الرّجال . أمّا إن كان صبيحاً حسناً يفتن ، وضابطه أن يكون جميلاً بحسب طبع النّاظر ولو كان أسود ، لأنّ الحسن يختلف باختلاف الطّباع فله في هذه الصّورة حالتان : الأولى : أن يكون النّظر والخلوة وغير ذلك من الأمور المتعلّقة بالأمر بلا قصد الالتذاذ ، والنّاظر مع ذلك آمن الفتنة ، كنظر الرّجل إلى ولده أو أخيه الأمرد الصّبيح ، فهو في غالب الأحوال لا يكون بتلذّذٍ ، فهذا مباح ولا إثم فيه عند جمهور الفقهاء .
الثّانية : أن يكون ذلك بلذّةٍ وشهوةٍ ، فالنّظر إليه حرام .
وقد ذكر الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأمرد يلحق بالمرأة في النّظر إن كان بشهوةٍ ، ولو مع الشّكّ في وجودها ، وحرمة النّظر إليه بشبهةٍ أعظم إثماً ، قالوا : لأنّ خشية الفتنة به عند بعض النّاس أعظم منها .
أمّا الخلوة بالأمرد فهي كالنّظر ، بل أقرب إلى المفسدة حتّى رأى الشّافعيّة حرمة خلوة الأمرد بالأمرد وإن تعدّد ، أو خلوة الرّجل بالأمرد وإن تعدّد . نعم إن لم تكن هناك ريبة فلا تحرم كشارعٍ ومسجدٍ مطروقٍ .
ثانياً : مصافحة الأمرد :
5 - جمهور الفقهاء على حرمة مسّ ومصافحة الأمرد الصّبيح بقصد التّلذّذ ، وذلك لأنّ المسّ بشهوةٍ عندهم كالنّظر بل أقوى وأبلغ منه .
ويرى الحنفيّة كراهة مسّ الأمرد ومصافحته .
ثالثاً : انتقاض الوضوء بمسّ الأمرد :
6 - يرى المالكيّة ، وهو قول للإمام أحمد إنّه ينتقض الوضوء بلمس الأمرد الصّبيح لشهوةٍ . ويرى الشّافعيّة ، وهو القول الآخر لأحمد عدم انتقاضه .
رابعاً : إمامة الأمرد :
7 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) على أنّه تكره الصّلاة خلف الأمرد الصّبيح ، وذلك لأنّه محلّ فتنةٍ . ولم نجد نصّاً للمالكيّة في هذه المسألة .
خامساً : ما يراعى في التّعامل مع الأمرد وتطبيبه :
8 - التّعامل مع الأمرد الصّبيح من غير المحارم ينبغي أن يكون مع شيءٍ من الحذر غالباً ولو في مقام تعليمهم وتأديبهم لما فيه من الآفات .
وعند الحاجة إلى معاملة الأمرد للتّعليم أو نحوه ينبغي الاقتصار على قدر الحاجة ، وبشرط السّلامة وحفظ قلبه وجوارحه عند التّعامل معهم ، وحملهم على الجدّ والتّأدّب ومجانبة الانبساط معهم . والأصل : أنّ كلّ ما كان سبباً للفتنة فإنّه لا يجوز ، حيث يجب سدّ الذّريعة إلى الفساد إذا لم يعارضها مصلحة .(15/1)
أنعام *
التّعريف :
1 - الأنعام لغةً : جمع مفرده نعم ، وهي ذوات الخفّ والظّلف ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم ، وأكثر ما يقع على الإبل . والنّعم مذكّر ، فيقال هذا نعم وارد .
والأنعام تذكّر وتؤنّث ، ونقل النّوويّ عن الواحديّ : اتّفاق أهل اللّغة على إطلاقه على الإبل ، والبقر ، والغنم . وقيل تطلق الأنعام على هذه الثّلاثة ، فإذا انفردت الإبل فهي نعم ، وإن انفردت البقر والغنم لم تسمّ نعماً .
وعند الفقهاء الأنعام هي الإبل ، والبقر ، والغنم سمّيت نعماً لكثرة نعم اللّه تعالى فيها على خلقه بالنّموّ ، والولادة ، واللّبن ، والصّوف ، والوبر ، والشّعر ، وعموم الانتفاع .
الأحكام المتعلّقة بالأنعام ، ومواطن البحث :
2 - تجب الزّكاة في الأنعام إن بلغت نصاباً باتّفاق الفقهاء .
روى أبو ذرٍّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدّي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها ، كلّما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتّى يقضى بين النّاس » .
وتفصيل النّصاب في الأنعام بأنواعها الثّلاثة والواجب فيها ينظر في ( الزّكاة ) .
ولا يشرع الهدي والأضحيّة ونحوهما من الذّبائح المسمّاة المطلوبة شرعاً كالعقيقة إلاّ من الأنعام ، لقول اللّه تعالى : { ويذكروا اسم اللّه في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } . والأفضل في الهدي الإبل ثمّ البقر ثمّ الغنم ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرّب بدنةً ، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرةً ، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشاً أقرن ، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجةً ، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضةً »
وللأنعام الّتي تجعل هدياً أو عقيقةً أو أضحيّةً أحكام خاصّة تنظر في مصطلحاتها .
ويحلّ ذبح الأنعام وأكلها في الحلّ والحرم ، وحالة الإحرام بخلاف الصّيد من الحيوان الوحشيّ ، وبخلاف ما حرم منها من الميتة ونحوها ممّا تفصيله في ( أطعمةٍ ) ، لقول اللّه سبحانه : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد وأنتم حرم }
والأفضل في تذكية الأنعام : النّحر في الإبل ، والذّبح في البقر والغنم . وبالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن وسم إبل الصّدقة عند كلامهم في قسم الصّدقات . وفي خيار الرّدّ بالتّصرية عند من يقول به ، نرى أنّ البعض يجعل الخيار خاصّاً بالنّعم دون غيرها ، والبعض يخيّر في ردّ المصرّاة من نعمٍ وغيره ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في خيار العيب .(16/1)
أهليّة *
التّعريف :
1 - الأهليّة مصدر صناعيّ لكلمة ( أهلٍ ) ومعناها لغةً - كما في أصول البزدويّ - : الصّلاحيّة .
ويتّضح تعريف الأهليّة في الاصطلاح من خلال تعريف نوعيها : أهليّة الوجوب ، وأهليّة الأداء . فأهليّة الوجوب هي : صلاحيّة الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه . وأهليّة الأداء هي : صلاحيّة الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدّ به شرعاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّكليف :
2 - التّكليف معناه في اللّغة : إلزام ما فيه كلفة ومشقّة .
وهو في الاصطلاح كذلك ، حيث قالوا التّكليف إلزام المخاطب بما فيه كلفة ومشقّة من فعلٍ أو تركٍ . فالأهليّة وصف للمكلّف .
ب - الذّمّة :
3 - الذّمّة معناها في اللّغة : العهد والضّمان والأمان .
وأمّا في الاصطلاح فإنّها : وصف يصيّر الشّخص به أهلاً للإلزام والالتزام .
فالفرق بين الأهليّة والذّمّة : أنّ الأهليّة أثر لوجود الذّمّة .
مناط الأهليّة ومحلّها :
4 - الأهليّة بمعناها المتقدّم مناطها أي محلّها الإنسان ، من حيث الأطوار الّتي يمرّ بها ، فإنّه في البداية يكون جنيناً في بطن أمّه ، فتثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالجنين ، وبعد الولادة إلى سنّ التّمييز يكون طفلاً ، فتثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالطّفل ، وبعد التّمييز تثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالمميّز إلى أن يصل به الأمر إلى سنّ البلوغ ، فتثبت له الأهليّة الكاملة ، ما لم يمنع من ذلك مانع ، كطروء عارضٍ يمنع ثبوت تلك الأهليّة الكاملة له ، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على أقسام الأهليّة وعوارضها .
أقسام الأهليّة وأنواعها :
5 - الأهليّة قسمان : أهليّة وجوبٍ ، وأهليّة أداءً . وأهليّة الوجوب قد تكون كاملةً ، وقد تكون ناقصةً . وكذا أهليّة الأداء ، وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : أهليّة الوجوب :
6 - سبق أنّ معنى أهليّة الوجوب : صلاحيّة الشّخص لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معاً ، أو له ، أو عليه .
وأهليّة الوجوب تنقسم فروعها وتتعدّد بحسب انقسام الأحكام ، فالصّبيّ أهل لبعض الأحكام ، وليس بأهلٍ لبعضها أصلاً ، وهو أهل لبعضها بواسطة رأي الوليّ ، فكانت هذه الأهليّة منقسمةً نظراً إلى أفراد الأحكام ، وأصلها واحد ، وهو الصّلاح للحكم ، فمن كان أهلاً لحكم الوجوب بوجهٍ كان هو أهلاً للوجوب ، ومن لا فلا .
ومبنى أهليّة الوجوب هذه على الذّمّة ، أي أنّ هذه الأهليّة لا تثبت إلاّ بعد وجود ذمّةٍ صالحةٍ ، لأنّ الذّمّة هي محلّ الوجوب ، ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحالٍ ، ولهذا اختصّ الإنسان بالوجوب دون سائر الحيوانات الّتي ليست لها ذمّة .
وقد أجمع الفقهاء على ثبوت هذه الذّمّة للإنسان منذ ولادته ، حتّى يكون صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه ، فيثبت له ملك النّكاح بتزويج الوليّ إيّاه ، ويجب عليه المهر بعقد الوليّ. أنواع أهليّة الوجوب :
7 - أهليّة الوجوب نوعان :
أ - أهليّة الوجوب النّاقصة ، وتتمثّل في الجنين في بطن أمّه ، باعتباره نفساً مستقلّةً عن أمّه ذا حياةٍ خاصّةٍ ، فإنّه صالح لوجوب الحقوق له من وجهٍ كما سيأتي ، لا عليه ، لأنّ ذمّته لم تكتمل ما دام في بطن أمّه .
ب - أهليّة الوجوب الكاملة ، وهي تثبت للإنسان منذ ولادته ، فإنّه تثبت له أهليّة الوجوب الكاملة ، لكمال ذمّته حينئذٍ من كلّ وجهٍ ، فيكون بهذا صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه .
ثانياً : أهليّة الأداء :
8 - سبق أنّ أهليّة الأداء هي : صلاحيّة الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتد به شرعاً . وأهليّة الأداء هذه لا توجد عند الشّخص إلاّ إذا بلغ سنّ التّمييز ، لقدرته حينئذٍ على فهم الخطاب ولو على سبيل الإجمال ، ولقدرته على القيام ببعض الأعباء ، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة ، وهي الّتي تناسبه ما دام نموّه لم يكتمل جسماً وعقلاً ، فإذا اكتمل ببلوغه ورشده ثبتت له أهليّة الأداء الكاملة ، فيكون حينئذٍ أهلاً للتّحمّل والأداء ، بخلاف غير المميّز ، فإنّه لا تثبت له هذه الأهليّة لانتفاء القدرتين عنه .
أنواع أهليّة الأداء :
9 - أهليّة الأداء نوعان :
أ - أهليّة أداءً قاصرة ، وهي الّتي تثبت بقدرةٍ قاصرةٍ .
ب - أهليّة أداءً كاملة ، وهي الّتي تثبت بقدرةٍ كاملةٍ .
والمراد بالقدرة هنا : قدرة الجسم أو العقل ، أو هما معاً ، لأنّ الأداء - كما قال البزدويّ - يتعلّق بقدرتين : قدرة فهم الخطاب وذلك بالعقل ، وقدرة العمل به وهي بالبدن ، والإنسان في أوّل أحواله عديم القدرتين ، لكن فيه استعداد وصلاحيّة لأن توجد فيه كلّ واحدةٍ من القدرتين شيئاً فشيئاً بخلق اللّه تعالى ، إلى أن تبلغ كلّ واحدةٍ منهما درجة الكمال ، فقبل بلوغ درجة الكمال كانت كلّ واحدةٍ منهما قاصرةً ، كما هو الحال في الصّبيّ المميّز قبل البلوغ ، وقد تكون إحداهما قاصرةً ، كما في المعتوه بعد البلوغ ، فإنّه قاصر العقل مثل الصّبيّ ، وإن كان قويّ البدن ، ولهذا ألحق بالصّبيّ في الأحكام .(17/1)
فالأهليّة الكاملة : عبارة عن بلوغ القدرتين أوّل درجات الكمال ، وهو المراد بالاعتدال في لسان الشّرع . والقاصرة : عبارة عن القدرتين قبل بلوغهما أو بلوغ إحداهما درجة الكمال . ثمّ الشّرع بنى على الأهليّة القاصرة صحّة الأداء ، وعلى الكاملة وجوب الأداء وتوجّه الخطاب ، لأنّه لا يجوز إلزام الإنسان الأداء في أوّل أحواله ، إذ لا قدرة له أصلاً ، وإلزام ما لا قدرة له عليه منتفٍ شرعاً وعقلاً ، وبعد وجود أصل العقل وأصل قدرة البدن قبل الكمال ، ففي إلزام الأداء حرج ، لأنّه يحرج الفهم بأدنى عقله ، ويثقل عليه الأداء بأدنى قدرة البدن ، والحرج منتفٍ أيضاً بقوله تعالى : { وما جَعَلَ عليكم في الدِّينِ من حَرَجٍ } فلم يخاطب شرعاً لأوّل أمره حكمةً ، ولأوّل ما يعقل ويقدر رحمةً ، إلى أن يعتدل عقله وقدرة بدنه ، فيتيسّر عليه الفهم والعمل به .
ثمّ وقت الاعتدال يتفاوت في جنس البشر على وجهٍ يتعذّر الوقوف عليه ، ولا يمكن إدراكه إلاّ بعد تجربةٍ وتكلّفٍ عظيمٍ ، فأقام الشّرع البلوغ الّذي تعتدل لديه العقول في الأغلب مقام اعتدال العقل حقيقةً ، تيسيراً على العباد ، وصار توهّم وصف الكمال قبل هذا الحدّ ، وتوهّم بقاء القصور بعد هذا الحدّ ساقطي الاعتبار ، لأنّ السّبب الظّاهر متى أقيم مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجوداً وعدماً ، وأيّد هذا كلّه قوله عليه السلام : « رفع القلم عن ثلاثٍ : عن الصّبيّ حتّى يحتلم والمجنون حتّى يفيق ، والنّائم حتّى يستيقظ » .
والمراد بالقلم : الحساب ، والحساب إنّما يكون بعد لزوم الأداء ، فدلّ على أنّ ذلك لا يثبت إلاّ بالأهليّة الكاملة ، وهي اعتدال الحال بالبلوغ عن عقلٍ .
أثر الأهليّة في التّصرّفات :
10 - التّصرّفات الّتي تحكمها الأهليّة - سواء أكانت من حقوق اللّه أم من حقوق الآدميّين - تختلف وتتعدّد أحكامها تبعاً لاختلاف نوع الأهليّة ، وتبعاً لاختلاف مراحل النّموّ الّتي يمرّ بها الإنسان الّذي هو مناط تلك الأهليّة ، فالأهليّة - كما سبق - إمّا أهليّة وجوبٍ وإمّا أهليّة أداءً ، وكلّ واحدةٍ منهما قد تكون ناقصةً وقد تكون كاملةً ، ولكلٍّ حكمه .
هذا ، وللوقوف على تلك الأحكام ، لا بدّ أن نتناول تلك المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان ، وبيان الأحكام الخاصّة به في كلّ مرحلةٍ من تلك المراحل .
المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان :
11 - يمرّ الإنسان من حين نشأته بخمس مراحل أساسيّةٍ ، وهذه المراحل هي :
- 1 - مرحلة ما قبل الولادة ، أي حين يكون جنيناً في بطن أمّه .
- 2 - مرحلة الطّفولة والصّغر ، أي بعد انفصاله عن أمّه ، وقبل بلوغه سنّ التّمييز .
- 3 - مرحلة التّمييز ، أي من حين بلوغه سنّ التّمييز إلى البلوغ .
- 4 - مرحلة البلوغ ، أي بعد انتقاله من سنّ الصّغر إلى سنّ الكبر .
- 5 - مرحلة الرّشد ، أي اكتمال العقل . هذا ، ولكلّ مرحلةٍ من هذه المراحل أحكام خاصّة نذكرها فيما يلي :
المرحلة الأولى - الجنين :
12 - الجنين في اللّغة : مأخوذ من الاجتنان ، وهو الخفاء ، وهو وصف للولد ما دام في بطن أمّه ، والفقهاء في تعريفهم للجنين لا يخرجون عن هذا المعنى ، إذ معناه عندهم : وصف للولد ما دام في البطن .
والجنين إذا نظر إليه من جهة كونه كالجزء من أمّه يتغذّى بغذائها يحكم بعدم استقلاله ، فلا تثبت له ذمّة ، وبالتّالي فلا يجب له ولا عليه شيء .
وإذا نظر إليه من جهة كونه نفساً مستقلّةً بحياةٍ خاصّةٍ يحكم بثبوت الذّمّة له ، وبذلك يكون أهلاً لوجوب الحقوق له وعليه . ولمّا لم يمكن ترجيح إحدى الجهتين على الأخرى من كلّ وجهٍ ، فإنّ الشّرع عامله من جهة كونه جزءاً من أمّه بعدم أهليّته للوجوب عليه ، وعامله من جهة كونه نفساً مستقلّةً بحياةٍ خاصّةٍ بكونه أهلاً للوجوب له ، وبهذا لا يكون للجنين أهليّة وجوبٍ كاملةً ، بل أهليّة وجوبٍ ناقصةً .
13 - وقد اتّفق الفقهاء على إثبات بعض الحقوق للجنين ، كحقّه في النّسب ، وحقّه في الإرث ، وحقّه في الوصيّة ، وحقّه في الوقف .
فأمّا حقّه في النّسب من أبيه : فإنّه لو تزوّج رجل وأتت امرأته بولدٍ ثبت نسبه منه ، إذا توافرت شروط ثبوت النّسب المبيّنة في موضعها . ر : ( نسب ) .
وأمّا حقّه في الإرث : فهو ثابت بإجماع الصّحابة كما جاء في الفتاوى الهنديّة وقد اتّفق الفقهاء على استحقاق الحمل للإرث متى قام به سبب استحقاقه وتوافرت فيه شروطه . وكذلك اتّفق الفقهاء على صحّة الوصيّة له . وأمّا حقّه في الوقف : فقد أجاز الحنفيّة والمالكيّة الوقف عليه ، قياساً على الوصيّة ، ويستحقّه إن استهلّ .
ولم يجوّز الشّافعيّة الوقف عليه ، لأنّ الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصيّة .
وأمّا الحنابلة فلا يصحّ عندهم الوقف على حملٍ أصالةً ، كأن يقف داره على ما في بطن هذه المرأة ، لأنّه تمليك ، والحمل لا يصحّ تمليكه بغير الإرث والوصيّة ، أمّا إذا وقف على الحمل تبعاً لمن يصحّ الوقف عليه ، كأن يقف على أولاده ، أو على أولاد فلانٍ وفيهم حمل ، فإنّ الوقف يشمله عندهم .
المرحلة الثّانية - الطّفولة :
14 - تبدأ هذه المرحلة من حين انفصال الجنين عن أمّه حيّاً ، وتمتدّ إلى سنّ التّمييز ، ففي هذه المرحلة تثبت للمولود الذّمّة الكاملة ، فيصير أهلاً للوجوب له وعليه ، أمّا أهليّته للوجوب له فهي ثابتة حتّى قبل الولادة - كما سبق - فتثبت له بعدها بطريق الأولى ، بل صرّح الشّافعيّة : بأنّ له يداً واختصاصاً كالبالغ .(17/2)
وأمّا أهليّته للوجوب عليه ففيها تفصيل يأتي . ووجوب الحقوق الثّابتة على الطّفل في هذه المرحلة ، المراد منه : حكمه ، وهو الأداء عنه ، فكلّ ما يمكن أداؤه عنه يجب عليه ، وما لا فلا . وإنّما قيّد الأداء بالممكن ، لأنّ الطّفل في هذه المرحلة ، وإن كان يجب عليه كافّة الحقوق كالبالغ ، إلاّ أنّه يعامل بما يناسبه في هذه المرحلة ، لضعف بنيته ، ولعدم قدرته على مباشرة الأداء بنفسه ، فيؤدّي عنه وليّه ما أمكن أداؤه عنه ، ولهذا فإنّ العلماء ذكروا تفصيلاً في الحقوق الواجبة عليه ، الّتي تؤدّى عنه ، سواء أكانت من حقوق اللّه أم حقوق العباد ، كما ذكروا أيضاً حكم أقواله وأفعاله . وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : حقوق العباد :
15 - حقوق العباد أنواع : منها ما يجب أداؤه عن الطّفل لوجوبه عليه ، ومنها ما لا يجب عليه ولا يؤدّى عنه . فحقوق العباد الواجبة والّتي تؤدّى عنه هي :
أ - ما كان المقصود منه المال ويحتمل النّيابة ، فإنّه يؤدّي عنه ، لوجوبه عليه كالغرم والعوض .
ب - ما كان صلةً شبيهةً بالمؤن كنفقة القريب ، أو كان صلةً شبيهةً بالأعواض كنفقة الزّوجة ، فإنّه يؤدّى عنه .
وأمّا حقوق العباد الّتي لا تجب عليه لا تجب عليه ولا تؤدّى عنه فهي :
أ - الصّلة الشّبيهة بالأجزية كتحمّل الدّية مع العاقلة ، فلا تجب عليه .
ب - العقوبات كالقصاص ، أو الأجزية الشّبيهة بها كالحرمان من الميراث ، فلا تجب عليه .
ثانياً : حقوق اللّه تعالى :
16 - هذه الحقوق أيضاً منها ما يجب على الطّفل ، ومنها ما لا يجب .
فالحقوق الّتي هي مئونة محضة كالعشر والخراج تجب عليه ، وتؤدّى عنه ، لأنّ المقصود منها المال ، فتثبت في ذمّته ، ويمكن أداؤه عنه .
وأمّا العبادات فلا تجب عليه ، سواء أكانت بدنيّةً أم ماليّةً .
أمّا البدنيّة كالصّلاة والصّوم والحجّ والجهاد وغيرها ، فإنّها لا تجب عليه لعجزه عن الفهم وضعف بدنه .
وأمّا الماليّة ، فإن كانت زكاة فطرٍ ، فإنّها تجب في ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا تجب عليه عند محمّدٍ وزفر من الحنفيّة .
وإن كانت زكاة مالٍ ، فإنّها تجب في ماله عند جمهور الفقهاء ، لأنّها ليست عبادةً خالصةً بل فيها معنى المئونة ، أوجبها اللّه تعالى على الأغنياء حقّاً للمحتاجين ، فتصحّ فيها النّيابة كما في زكاة الفطر ، ولا تجب عليه عند فقهاء الحنفيّة ، لأنّها عندهم عبادة خالصة ، وتحتاج إلى النّيّة ، ولا تصحّ فيها النّيابة .
وأمّا إن كانت حقوق اللّه عقوباتٍ كالحدود ، فإنّها لا تلزمه ولا تجب عليه ، كما لم تلزمه العقوبات الّتي هي حقوق العباد كالقصاص ، لأنّ العقوبة إنّما وضعت جزاءً للتّقصير ، وهو لا يوصف به .
ثالثاً : أقواله وأفعاله :
17 - أقوال الصّبيّ وأفعاله غير معتبرةٍ ، ولا يترتّب عليها حكم ، لأنّه ما دام لم يميّز فلا اعتداد بأقواله وأفعاله .
المرحلة الثّالثة : التّمييز :
18 - التّمييز في اللّغة مأخوذ من : مزته ميزاً ، من باب باع ، وهو : عزل الشّيء وفصله من غيره . ويكون في المشتبهات والمختلطات ، ومعنى تميّز الشّيء : انفصاله عن غيره ، ومن هنا فإنّ الفقهاء يقولون : سنّ التّمييز ، ومرادهم بذلك : تلك السّنّ الّتي إذا انتهى إليها عرف مضارّه ومنافعه ، وكأنّه مأخوذ من ميّزت الأشياء : إذا فرّقتها بعد المعرفة بها ، وبعض النّاس يقولون : التّمييز قوّة في الدّماغ يستنبط بها المعاني .
وهذه المرحلة تبدأ ببلوغ الصّبيّ سبع سنين ، وهو سنّ التّمييز كما حدّده جمهور الفقهاء ، وتنتهي بالبلوغ ، فتشمل المراهق وهو الّذي قارب البلوغ .
ففي هذه المرحلة يصبح عند الصّبيّ مقدار من الإدراك والوعي يسمح له بمباشرة بعض التّصرّفات ، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة ، لأنّ نموّه البدنيّ والعقليّ لم يكتملا بعد ، وبعد اكتمالهما تثبت له أهليّة الأداء الكاملة ، لأنّ أهليّة الأداء الكاملة لا تثبت إلاّ باكتمال النّموّ البدنيّ والنّموّ العقليّ ، فمن لم يكتمل نموّه البدنيّ والعقليّ معاً ، أو لم يكتمل فيه نموّ أحدهما فأهليّة الأداء فيه تكون قاصرةً .
فالمعتوه كالصّبيّ ، لعدم اكتمال العقل فيه ، وإن كان كاملاً من النّاحية البدنيّة ، بخلاف أهليّة الوجوب ، فإنّها تثبت كاملةً منذ الولادة ، فالطّفل أهل للوجوب له وعليه ، كما سبق . وللتّمييز أثره في التّصرّفات ، فالصّبيّ المميّز يجوز له بأهليّته القاصرة مباشرة بعض التّصرّفات وتصحّ منه ، لأنّ الثّابت مع الأهليّة القاصرة صحّة الأداء ، ويمنع من مباشرة بعض التّصرّفات الأخرى ، وخاصّةً تلك الّتي يعود ضررها عليه ، فلا تصحّ منه .
ومن التّصرّفات أيضاً ما يمتنع على الصّبيّ المميّز أن يباشرها بنفسه ، بل لا بدّ فيها من إذن الوليّ .
وفيما يلي ما قاله الفقهاء في ذلك على سبيل الإجمال ، أمّا التّفصيل ففي مصطلح ( تمييزٍ ) .
تصرّفات الصّبيّ المميّز :
19 - التّصرّفات الّتي يباشرها الصّبيّ المميّز ، إمّا أن تكون في حقوق اللّه تعالى ، وفي هذه الحالة إمّا : أن تكون تلك الحقوق عباداتٍ وعقائد ، أو حقوقاً ماليّةً ، أو عقوباتٍ ، وإمّا : أن تكون تلك التّصرّفات في حقوق العباد ، وهي إمّا : ماليّة أو غير ماليّةٍ .
أ - حقوق اللّه تعالى :(17/3)
20 - أمّا العبادات البدنيّة كالصّلاة ، فلا خلاف بين العلماء في عدم وجوبها عليه إلاّ أنّه يؤمر بأدائها في سنّ السّابعة ، ويضرب على تركها في سنّ العاشرة ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه : « مروا صبيانكم بالصّلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » .
وأمّا العقائد كالإيمان ، فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ من الصّبيّ ، فيعتبر إيمانه ، لأنّه خير محض ، وخالف في ذلك الشّافعيّة فقالوا : إنّ إسلامه لا يصحّ حتّى يبلغ ، لحديث : « رفع القلم عن ثلاثٍ ومنها عن الصّبيّ حتّى يبلغ ... »
وأمّا ردّته ، فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى عدم صحّة ردّته ، لأنّها ضرر محض .
وذهب أبو حنيفة ومحمّد والمالكيّة إلى الحكم بصحّة ردّته ، وتجري عليه أحكام المرتدّين ما عدا القتل . ونقل في التّتارخانيّة والمنتقى رجوع أبي حنيفة إلى قول أبي يوسف .
وأمّا حقوق اللّه سبحانه وتعالى الماليّة كالزّكاة ، فإنّها تجب في ماله عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا تجب في ماله عند الحنفيّة . وأمّا العقوبات المتعلّقة بحقوق اللّه سبحانه وتعالى كحدّ السّرقة وغيره ، فإنّها لا تقام على الصّبيّ ، وهذا محلّ اتّفاقٍ عند الفقهاء .
ب - حقوق العباد :
21 - أمّا الماليّة منها كضمان المتلفات وأجرة الأجير ونفقة الزّوجة والأقارب ونحو ذلك فإنّها تجب في ماله ، لأنّ المقصود منها هو المال ، وأداؤه يحتمل النّيابة ، فيصحّ للصّبيّ المميّز أداؤه ، فإن لم يؤدّه أدّاه وليّه .
وأمّا ما كان منها عقوبة القصاص ، فإنّه لا يجب عليه عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ فعل الصّبيّ لا يوصف بالتّقصير ، فلا يصلح سبباً للعقوبة لقصور معنى الجناية في فعله ، ولكن تجب في فعله الدّية ، لأنّها وجبت لعصمة المحلّ ، والصّبا لا ينفي عصمة المحلّ ، ولأنّ المقصود من وجوبها المال ، وأداؤه قابل للنّيابة ، ووجوب الدّية في ماله عند الحنفيّة ، وعلى عاقلته عند المالكيّة والحنابلة .
وخالف الشّافعيّة في ذلك على الأصحّ عندهم ، حيث قالوا : إنّ عمد الصّبيّ في الجنايات عمد ، فتغلظ عليه الدّية ، ويحرم إرث من قتله .
22 - أمّا تصرّفاته الماليّة ، ففيها تفصيل على النّحو الآتي :
- 1 - تصرّفات نافعة له نفعاً محضاً ، وهي الّتي يترتّب عليها دخول شيءٍ في ملكه من غير مقابلٍ ، مثل قبول الهبة والصّدقة والوصيّة والوقف ، وهذه تصحّ منه ، دون توقّفٍ على إجازة الوليّ أو الوصيّ ، لأنّها خير على كلّ حالٍ .
- 2 - تصرّفات ضارّة بالصّغير ضرراً محضاً ، وهي الّتي يترتّب عليها خروج شيءٍ من ملكه من غير مقابلٍ ، كالهبة والصّدقة والوقف وسائر التّبرّعات والطّلاق والكفالة بالدّين ، وهذه لا تصحّ منه ، بل تقع باطلةً ، ولا تنعقد ، حتّى ولو أجازها الوليّ أو الوصيّ ، لأنّهما لا يملكان مباشرتها في حقّ الصّغير فلا يملكان إجازتها .
- 3 - تصرّفات دائرة بين النّفع والضّرر بحسب أصل وضعها ، كالبيع والإجارة وسائر المعاوضات الماليّة ، وهذه يختلف الفقهاء فيها :
فعند الحنفيّة يصحّ صدورها منه ، باعتبار ما له من أصل الأهليّة ، ولاحتمال أنّ فيها نفعاً له ، إلاّ أنّها تكون موقوفةً على إجازة الوليّ أو الوصيّ لنقص أهليّته ، فإذا أجازها نفذت ، وإن لم يجزها بطلت .
وعند المالكيّة تقع صحيحةً لكنّها لا تكون لازمةً ، ويتوقّف لزومها على إجازة الوليّ أو الوصيّ . وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يصحّ صدورها من الصّبيّ ، فإذا وقعت كانت باطلةً لا يترتّب عليها أيّ أثرٍ .
المرحلة الرّابعة - البلوغ :
23 - البلوغ عند الفقهاء : قوّة تحدث للشّخص ، تنقله من حال الطّفولة إلى حال الرّجولة . وهو يحصل بظهور علامةٍ من علاماته الطّبيعيّة كالاحتلام ، وكالحبل والحيض في الأنثى ، فإن لم يوجد شيء من هذه العلامات كان البلوغ بالسّنّ .
وقد اختلف الفقهاء في تقديره ، فقدّره أبو حنيفة بثماني عشرة سنةً للفتى ، وسبع عشرة سنةً للفتاة ، وقدّره الصّاحبان والشّافعيّ وأحمد بخمس عشرة سنةً ، والمشهور عند المالكيّة تقديره بثماني عشرة سنةً لكلٍّ من الذّكر والأنثى .
وفي هذه المرحلة ، وهي مرحلة البلوغ ، يكتمل فيها للإنسان نموّه البدنيّ والعقليّ ، فتثبت له أهليّة الأداء الكاملة ، فيصير أهلاً لأداء الواجبات وتحمّل التّبعات ، ويطالب بأداء كافّة الحقوق الماليّة ، وغير الماليّة ، سواء أكانت من حقوق اللّه أم من حقوق العباد .
وهذا كلّه إذا اكتمل نموّه العقليّ مع اكتمال نموّه البدنيّ ، أمّا إذا وصل إلى سنّ البلوغ ولم يكتمل نموّه العقليّ ، بأن بلغ معتوهاً أو سفيهاً ، فإنّه تجري عليه أحكام الصّبيّ المميّز ، ويستمرّ ثبوت الولاية عليه ، خلافاً لأبي حنيفة في السّفيه .
المرحلة الخامسة – الرشد :
24- الرشد في اللغة : الصلاح وإصابة الصواب .
والرشد عند الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة : حسن التصرف في المال ، والقدرة على استثماره واستغلاله استغلالاً حسناً . وعند الشافعية : صلاح الدين والصلاح في المال .
وهذا الرشد قد يأتي مع البلوغ ، وقد يتاخر عنه قليلاً أو كثيراً ، تبعاً لتربية الشخص واستعداده وتعقد الحياة الاجتماعية وبساطتها ، فإذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته ، و ارتفعت الولاية عنه وسلمت إليه أمواله باتفاق الفقهاء ، لقوله الله تعالى : { وابْتَلُوا اليتامى حتى إذا بَلَغُوا النكاحَ ، فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أموالَهم } .(17/4)
وإذا بلغ غير الرشيد ، وكان عاقلاً كملت أهليته ، وارتفعت الولاية عند أبي حنيفة ، إلا أنه لا تسلم إليه أمواله ، بل تبقى في يد وليه أو وصيه حتى يثنت رشده بالفعل ، أو يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغ هذا السن سلمت إليه أمواله ، ولو كان مبذراً لا يحسن التصرف ، لأن منع المال عنه على سبيل الاحتياط والتأديب ، وليس على سبيل الحجر عليه ، لأن أبا حنيفة لا يرى الحجر على السفيه ، والإنسان بعد بلوغه هذه السن وصلاحيته لأن يكون جداً لا يكون أهلاً للتأديب .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة ، وهو قول عند أبي يوسف ومحمد من الحنفية : إن الشخص إذا بلغ غير رشيد كملت أهليته ، ولكن لا ترتفع الولاية عنه ، وتبقى أمواله تحت يد وليه أو وصيه حتى يثبت رشده ، لقول الله تعالى : { ولا تُؤْتُوا السفهاءَ أموالَكم التي جَعَلَ اللهُ لكم قِياماً ، وارْزُقُوهم فيها واكْسُوهم ، وقولُوا لهم قولاً معروفاً ، وابْتَلُوا اليتامى حتى إذا بَلَغُوا النكاحَ ، فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أَمْوالَهم } فإنه منع الأولياء والأوصياء من دفع المال إليهم إلى السفهاء ، وناط دفع المال إليهم بتوافر أمرين : البلوغ والرشد ، فلا يجوز أن يدفع المال إليهم بالبلوغ مع عدم الرشد .
أما إذا بلغ الشخص رشيداً ، ثم طرأ السفه عليه بعد ذلك ، فسيأتي الكلام عنه في هذا البحث ، بين عوارض الأهلية .
عوارض الأهليّة :
25 - العوارض : جمع عارضٍ أو عارضةٍ ، والعارض في اللّغة معناه : السّحاب ، ومنه قوله تعالى : { فلمّا رَأوْهُ عارضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هَذا عارضٌ مُمْطِرنا } .
وأمّا العوارض في الاصطلاح فمعناها : أحوال تطرأ على الإنسان بعد كمال أهليّة الأداء ، فتؤثّر فيها بإزالتها أو نقصانها ، أو تغيّر بعض الأحكام بالنّسبة لمن عرضت له من غير تأثيرٍ في أهليّته .
أنواع عوارض الأهليّة :
26 - عوارض الأهليّة نوعان : سماويّة ومكتسبة :
فالعوارض السّماويّة : هي تلك الأمور الّتي ليس للعبد فيها اختيار ، ولهذا تنسب إلى السّماء ، لنزولها بالإنسان من غير اختياره وإرادته ، وهي : الجنون ، والعته ، والنّسيان ، والنّوم ، والإغماء ، والمرض ، والرّقّ ، والحيض ، والنّفاس ، والموت .
والمكتسبة : هي تلك الأمور الّتي كسبها العبد أو ترك إزالتها ، وهي إمّا أن تكون منه أو من غيره ، فالّتي تكون منه : الجهل ، والسّكر ، والهزل ، والسّفه ، والإفلاس ، والسّفر ، والخطأ ، والّذي يكون من غيره الإكراه .
وفيما يلي ما يتعلّق بهذه العوارض إجمالاً ، مع إحالة التّفصيل إلى العناوين الخاصّة بها .
العوارض السّماويّة :
أوّلاً : الجنون :
27 - الجنون في اللّغة مأخوذ من : أجنّه اللّه فجنّ ، فهو مجنون ، بالبناء للمفعول .
وأمّا عند الأصوليّين فإنّه : اختلال للعقل يمنع من جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل . والجنون يؤثّر في أهليّة الأداء ، فهو مسقط للعبادات كالصّلاة والصّوم والحجّ .
وفي زكاة مال المجنون خلاف ، مع مراعاة الفرق بين الجنون المطبق وغيره .
وأمّا المعاملات ، فحكمه فيها حكم الصّبيّ غير المميّز ، فلا يعتدّ بأقواله لانتفاء تعقّله للمعاني .
وأمّا أهليّة الوجوب ، فلا يؤثّر فيها الجنون ، فإنّ المجنون يرث ويملك لبقاء ذمّته ، والمتلفات بسبب أفعاله مضمونة في ماله كالصّبيّ الّذي لم يصل إلى سنّ التّمييز .
وتفصيل الأحكام الخاصّة بالجنون تنظر في مصطلح : ( جنونٍ ) .
ثانياً : العته :
28 - العته في اللّغة : نقصان العقل من غير جنونٍ أو دهشٍ .
وفي الاصطلاح : آفة توجب خللاً في العقل ، فيصير صاحبها مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين .
والمعتوه في تصرّفاته كالصّبيّ المميّز ، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة ، إذ لا فرق بينه وبين الصّبيّ كما جاء في التّلويح ، إلاّ في مسألةٍ واحدةٍ وهي : أنّ امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخّر عرض الإسلام عليه ، كما لا يؤخّر عرضه على وليّ المجنون بخلاف الصّبيّ ، والفرق بينهما واضح ، فإنّ الصّبا مقدّر بخلاف العته والجنون .
والتّفصيل في مصطلح : ( عتهٍ ) .
ثالثاً : النّسيان :
29 - النّسيان في اللّغة مشترك بين معنيين :
أحدهما : ترك الشّيء على ذهولٍ وغفلةٍ ، وهو خلاف التّذكّر .
وثانيهما : التّرك عن تعمّدٍ ، ومنه قوله تعالى : { ولا تَنْسَوُا الفضلَ بينكم } .
وفي الاصطلاح : عدم استحضار صورة الشّيء في الذّهن وقت الحاجة إليه .
والنّسيان لا يؤثّر في أهليّة الوجوب ، ولا يؤثّر أيضاً في أهليّة الأداء لكمال العقل ، ومع ذلك فإنّ النّسيان عذر في حقوق اللّه تعالى في حقّ الإثم وعدمه ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
« وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان ... » وللنّسيان أحكام تفصيلها في مصطلح : ( نسيانٍ ) .
رابعاً : النّوم :
30 - النّوم : غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء .
وفي الاصطلاح : فتور يعرض مع قيام العقل يوجب العجز عن إدراك المحسوسات والأفعال الاختياريّة واستعمال العقل . والنّوم لا ينافي أهليّة الوجوب لعدم إخلاله بالذّمّة ، إلاّ أنّه يوجب تأخير توجّه الخطاب بالأداء إلى حال اليقظة ، لأنّه في حال النّوم عاجز عن الفهم فلا يناسب أن يتوجّه إليه الخطاب حينئذٍ ، فإذا انتبه من النّوم أمكنه الفهم ، ولهذا فإنّ النّائم مطالب بقضاء ما فاته من الصّلوات في أثناء نومه ، وأمّا عبارات النّائم من الأقارير وغيرها فهي باطلة ، ولا يعتدّ بها . وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح : ( نومٍ ) .
خامساً : الإغماء :(17/5)
31 - الإغماء في اللّغة : الخفاء ، وفي الاصطلاح : آفة في القلب أو الدّماغ تعطّل القوى المدركة والحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً .
وهو ضرب من المرض ، ولذا لم يعصم منه النّبيّ عليه الصلاة والسلام .
وتأثير الإغماء على المغمى عليه أشدّ من تأثير النّوم على النّائم ، ولذا اعتبر فوق النّوم ، لأنّ النّوم حالة طبيعيّة كثيرة الوقوع ، وسببه شيء لطيف سريع الزّوال ، والإغماء على خلافه في ذلك كلّه ، ألا ترى أنّ التّنبيه والانتباه من النّوم في غاية السّرعة ، وأمّا التّنبيه من الإغماء فغير ممكنٍ .
وحكم الإغماء في كونه عارضاً من عوارض الأهليّة حكم النّوم ، فلزمه ما لزم النّوم ، ولكونه يزيد عنه جعله ناقضاً للوضوء في جميع الأحوال حتّى في الصّلاة .
وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح : ( إغماءٍ ) .
سادساً : الرّقّ :
32 - الرّقّ في اللّغة بكسر الرّاء : العبوديّة .
وأمّا في الشّرع فهو : حجز حكميّ عن الولاية والشّهادة والقضاء وملكيّة المال والتّزوّج وغيرها . هذا والأحكام الخاصّة بالرّقيق يرجع إليها في مصطلح : ( رقٍّ ) .
سابعاً : المرض :
33 - المرض في اللّغة : حالة خارجة عن الطّبع ضارّة بالفعل .
وفي الاصطلاح : ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ .
وهو لا ينافي أهليّة التّصرّفات ، أي ثبوته ووجوبه على الإطلاق ، سواء أكان من حقوق اللّه تعالى أم من حقوق العباد ، لأنّه لا يخلّ بالعقل ولا يمنعه من استعماله ، فيصحّ ما تعلّق بعبارته من العقود وغيرها ، ولكنّه لمّا كان سبب الموت بترادف الآلام ، وأنّه أي الموت عجز خالص ، كان المرض من أسباب العجز ، فشرعت العبادات معه بقدر المكنة ، لئلاّ يلزم تكليف ما ليس في الوسع ، فيصلّي قاعداً إن لم يقدر على القيام ، ومضطجعاً إن عجز عنه ، ويعتبر المرض سبباً للحجر على المريض مرض الموت حفظاً لحقّ الوارث وحقّ الغريم إذا اتّصل به الموت ، وذلك لأنّ المرض المميت هو سبب الحجر لا نفس المرض .
هذا ، وتفصيل الأحكام الخاصّة بالمرض يرجع إليها في مصطلح ( مرضٍ )
ثامناً : الحيض والنّفاس :
34 - الحيض معناه في اللّغة : السّيلان ، ومنه الحوض .
وفي الاصطلاح : الدّم الخارج من الرّحم لا لولادةٍ ولا لعلّةٍ .
وأمّا النّفاس فمعناه في اللّغة : الولادة .
وفي الاصطلاح : الدّم الخارج عقب فراغ الرّحم من الحمل .
والحيض والنّفاس لا يؤثّران في أهليّة الوجوب ، ولا في أهليّة الأداء ، إلاّ أنّهما اعتبرا من العوارض لأنّ الطّهارة منهما شرط لصحّة كلّ عبادةٍ يشترط فيها الطّهارة كالصّلاة مثلاً . وتفصيل الأحكام الخاصّة بالحيض والنّفاس محلّه ( حيض ، ونفاس ) .
تاسعاً : الموت :
35 - الأحكام المتعلّقة بالموت تتلخّص في أنّ تلك الأحكام إمّا دنيويّة أو أخرويّة ، والدّنيويّة من حيث التّكليف حكمها السّقوط إلاّ في حقّ المأتم ، أو ما شرع لحاجة نفسه أو لحاجة غيره . والأخرويّة حكمها البقاء ، سواء أكانت واجبةً له على الغير ، أم للغير عليه ، من الحقوق الماليّة والمظالم ، أوما يستحقّه من ثوابٍ بواسطة الطّاعات ، أو عقابٍ بواسطة المعاصي . هذا ، ومحلّ تفصيل هذه الأحكام مصطلح ( موتٍ )
العوارض المكتسبة :
36 - العوارض المكتسبة إمّا من الإنسان ، وإمّا من غيره كما تقدّم .
أوّلاً : العوارض المكتسبة الّتي من الإنسان هي :
أ - الجهل :
37 - معنى الجهل في اللّغة : خلاف العلم . وفي الاصطلاح : عدم العلم ممّن شأنه العلم . والجهل لا يؤثّر في الأهليّة مطلقاً ، وله أقسام بعضها يصلح عذراً ، وبعضها لا يصلح عذراً . وتفصيل ذلك في مصطلح ( جهلٍ )
ب - السّكر :
38 - من معاني السّكر : زوال العقل ، وهو مأخوذ من أسكره الشّراب : أي أزال عقله . وفي الاصطلاح : حالة تعرض للإنسان من تناول المسكر ، يتعطّل معها عقله ، فلا يميّز بين الأمور الحسنة والقبيحة .
والسّكر حرام باتّفاق الفقهاء ، وخاصّةً إن كان طريقه محرّماً ، كأن يتناول المسكر مختاراً عالماً بأنّ ما يشربه يغيّب العقل .
وخلاصة ما قاله الفقهاء في السّكر هو : أنّهم لم يجعلوا المسكر مسقطاً للتّكليف ولا مضيّعاً للحقوق ، ولا مخفّفاً لمقدار الجنايات الّتي تصدر من السّكران ،لأنّه جناية ، والجناية لا يصحّ أن يستفيد منها صاحبها . وتفصيل الأحكام الخاصّة بالسّكر محلّها مصطلح : ( سكرٍ ) .
ج - الهزل :
39 - الهزل : ضدّ الجدّ ، أو هو اللّعب ، وهو في اللّغة : مأخوذ من هزل في كلامه هزلاً : إذا مزح .
وفي الاصطلاح : ألاّ يراد باللّفظ المعنى الحقيقيّ ولا المجازيّ ، بل يراد به غيرهما .
والهزل لا ينافي الأهليّة ، إلاّ أنّه يؤثّر في بعض الأحكام بالنّسبة للهازل .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( هزلٍ ) .
د - السّفه :
40 - السّفه معناه في اللّغة : نقص في العقل ، وأصله الخفّة .
وفي الاصطلاح : خفّة تعتري الإنسان فتبعثه على التّصرّف في ماله بخلاف مقتضى العقل ، مع عدم الاختلال في العقل . وإنّما كان السّفه من العوارض المكتسبة ، ولم يكن من العوارض السّماويّة ، لأنّ السّفيه باختياره يعمل على خلاف مقتضى العقل مع بقاء العقل . والفرق بين السّفه والعته ظاهر ، فإنّ المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله وأقواله ، بخلاف السّفيه فإنّه لا يشابه المجنون لكن تعتريه خفّة ، فيتابع مقتضاها في الأمور الماليّة من غير نظرٍ ورويّةٍ في عواقبها ، ليقف على أنّ عواقبها محمودة أو مذمومة .(17/6)
والسّفه لا يؤثّر في الأهليّة بقسميها ، ولا ينافي شيئاً من الأحكام الشّرعيّة ، فالسّفيه يتوجّه إليه الخطاب بحقوق اللّه وحقوق العباد ، إلاّ أنّ الشّريعة راعت ما فيه المصلحة ، فقرّرت أن يمنع السّفيه من حرّيّة التّصرّف في ماله صيانةً له ،
وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح : ( سفهٍ ) .
هـ- السّفر :
41 -السّفر - بفتحتين - معناه في اللّغة : قطع المسافة ، ويقال ذلك إذا خرج للارتحال أو لقصد موضعٍ فوق مسافة العدوى ، لأنّ العرب لا يسمّون مسافة العدوى سفراً .
وفي الشّرع : الخروج بقصد المسير من محلّ الإقامة إلى موضعٍ بينه وبين ذلك الموضع مسيرة ثلاثة أيّامٍ فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام . على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك . والسّفر لا يؤثّر في الأهليّة بقسميها ، إلاّ أنّهم جعلوه من العوارض ، لأنّ الشّارع جعله سبباً للتّخفيف في العبادات ، كقصر الصّلاة الرّباعيّة والفطر في الصّوم للمسافر .
وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح : ( سفرٍ ) .
و-الخطأ :
42 - الخطأ في اللّغة يطلق ويراد به : ما قابل الصّواب ، ويطلق ويراد به : ما قابل العمد ، وهذا المعنى هو المراد به في عوارض الأهليّة .
وفي الاصطلاح : فعل يصدر من الإنسان بلا قصدٍ إليه عند مباشرة أمرٍ مقصودٍ سواه . والخطأ لا ينافي الأهليّة بنوعيها ، لأنّ العقل موجود معه ، والجناية فيه من جهة عدم التّثبّت ، ولذا يؤاخذ به من هذه الجهة ، فلا تقدّر العقوبة فيه بقدر الجناية نفسها ، وإنّما بقدر عدم التّثبّت الّذي أدّى إلى حصولها .
والخطأ يعذر به في حقوق اللّه سبحانه وتعالى إذا اجتهد ، كما في مسألة جهة القبلة في الصّلاة ، واعتبره الشّارع شبهةً تدرأ العقوبة عن المخطئ ، وأمّا حقوق العباد فلا يعتبر الخطأ عذراً فيها ، ولذا فإنّ المخطئ يضمن ما ترتّب على خطئه من ضررٍ أو تلفٍ .
وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح : ( خطأ ) .
ثانياً : العوارض المكتسبة الّتي من غير الإنسان نفسه :
43 - وهي عارض واحد فقط وهو الإكراه : ومعناه في اللّغة : الحمل على الأمر قهراً . وفي الاصطلاح : حمل الغير على ما لا يرضاه من قولٍ أو فعلٍ ، ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه . وهو معدم للرّضى لا للاختيار ، لأنّ الفعل يصدر عن المكره باختياره ، لكنّه قد يفسد الاختيار بأن يجعله مستنداً إلى اختيارٍ آخر ، وقد لا يفسده بأن يبقى الفاعل مستقلّاً في قصده . هذا ، والإكراه سواء أكان ملجئاً أم غير ملجئٍ كما قال الحنفيّة - أو إكراهاً بحقٍّ أو بغير حقٍّ - كما قال الشّافعيّة - لا يؤثّر في أهليّة الوجوب لبقاء الذّمّة ، ولا يؤثّر في أهليّة الأداء لبقاء العقل والبلوغ ، إلاّ أنّهم عدّوه من العوارض ، لأنّه يفسد الاختيار ، ويجعل المكره - بفتح الرّاء - في بعض صوره آلةً للمكره - بكسر الرّاء -
وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح : ( إكراهٍ ) .(17/7)
أوقات الصّلاة *
التّعريف :
1 - الوقت : مقدار من الزّمان مقدّر لأمرٍ ما ، وكلّ شيءٍ قدّرت له حيناً فقد وقّته توقيتاً . وأوقات الصّلاة هي : الأزمنة الّتي حدّدها الشّارع لفعل الصّلاة أداءً ، فالوقت سبب وجوب الصّلاة ، فلا تصحّ قبل دخوله ، وتكون ( قضاءً ) بعد خروجه .
أقسام الصّلوات الّتي لها وقت معيّن :
2 - تنقسم الصّلوات الّتي لها وقت معيّن إلى ثلاثة أقسامٍ عند الحنفيّة :
القسم الأوّل : صلوات مفروضة ، وهي الصّلوات الخمس .
القسم الثّاني : صلوات واجبة ، وهي الوتر والعيدان .
القسم الثّالث : صلوات مسنونة ، كالسّنن القبليّة والبعديّة للصّلوات الخمس .
والجمهور لا يفرّقون بين الفرض والواجب ، والوتر عندهم سنّة ، وكذلك العيدان عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهي فرض كفايةٍ عند الحنابلة .
أوقات الصّلوات المفروضة :
أصل مشروعيّة هذه الأوقات :
3 - أصل مشروعيّة هذه الأوقات عرف بالكتاب ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ اللّهِ حينَ تُمْسُونَ وحين تُصْبِحُون وله الحمدُ في السّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحين تُظْهرون }
قال بعض المفسّرين : إنّ المراد بالتّسبيح الصّلاة ، أي : صلّوا حين تمسون ، أي حين تدخلون في وقت المساء ، والمراد به المغرب والعشاء . و { حين تصبحون } المراد به صلاة الصّبح . والمراد بقوله تعالى : { وعشيّاً } صلاة العصر ، وبقوله تعالى : { وحين تظهرون } صلاة الظّهر .
وكذلك قوله تعالى : { أَقِمِ الصّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللّيل وَقُرْآنَ الفجرِ إنّ قُرْآنَ الفجرِ كان مَشْهوداً } .
وقد بيّنت السّنّة الشّريفة أوقات الصّلاة كحديث إمامة جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ونصّه : « أَمَّني جبريلُ عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهرَ في الأولى منهما حين كان الفيءُ مثلُ الشّراك ، ثمّ صلّى العصرَ حين كان كلّ شيءٍ مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غابَ الشّفقُ ، ثمّ صلّى الفجر حين بَرَقَ الفجرُ وحَرُمَ الطّعامُ على الصّائم ، وصلّى المرّةَ الثّانيةَ الظّهرَ حين كان ظلّ كلّ شيءٍ مثله لوقت العصرَ بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيءٍ مِثْلَيه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاءَ الآخرةَ حين ذهبَ ثلثُ اللّيل ، ثمّ صلّى الصّبح حين سَفَرَت الأرض ، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال : يا محمّدُ هذا وقتُ الأنبياءِ من قبلك ، والوقتُ فيما بين هذين الوقتين »
عدد أوقات الصّلوات المفروضة :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ عدد أوقات الصّلوات المفروضة خمسٌ بقَدْرِ عدد الصّلوات ، وما روي عن أبي حنيفة من أنّ الوتر فرض فيكون عدد الأوقات ستّاً ليس صحيحاً ، بل إنّه يقول : إنّ الوتر واجب ، وهو أقلّ رتبةً من الفرض .
مبدأ كلّ وقتٍ ونهايته
مبدأ وقت الصّبح ونهايته :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأ وقت الصّبح طلوع الفجر الصّادق ويسمّى الفجر الثّاني ، وسمّي صادقاً ، لأنّه بيّن وجه الصّبح ووضّحه ، وعلامته بياض ينتشر في الأفق عرضاً . أمّا الفجر الكاذب ، ويسمّى الفجر الأوّل ، فلا يتعلّق به حكم ، ولا يدخل به وقت الصّبح ، وعلامته بياض يظهر طولاً يطلع وسط السّماء ثمّ ينمحي بعد ذلك .
والفرق بين الفجرين مقدّر بثلاث درجاتٍ .
والدّليل على ذلك حديث إمامة جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم . حيث قال : « ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم ، وصلّى المرّة الثّانية الصّبح حين أسفرت الأرض ، ثمّ التفت إليّ فقال : يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذه الوقتين »
6 - أمّا نهاية وقت الصّبح ، فعند أبي حنيفة وأصحابه : قبيل طلوع الشّمس ، وذهب مالك في أحد الأقوال عنه إلى أنّ الوقت الاختياريّ للصّبح إلى الإسفار ، وبعد الإسفار إلى طلوع الشّمس وقت ضرورةٍ لأصحاب الأعذار ، كالحائض تطهر بعد الإسفار ، ومثل ذلك النّفساء ، والنّائم يستيقظ ، والمريض يبرأ من مرضه ، جاز لهؤلاء الصّلاة في هذا الوقت من غير كراهيةٍ ، وفي قولٍ آخر عن مالكٍ أنّ الصّبح كلّ وقته اختياريّ .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الصّبح له أربعة أوقاتٍ : وقت فضيلةٍ وهو أوّله ، ووقت اختيارٍ إلى الإسفار ، وجوازٍ بلا كراهةٍ إلى الحمرة ، وكراهة بعد الحمرة ، والمراد بوقت الفضيلة ما فيه ثواب أكثر من وقت الاختيار ، والمراد بوقت الجواز بلا كراهةٍ ما لا ثواب فيه .
وذهب أحمد بن حنبلٍ إلى أنّ آخر وقتها الاختياريّ الإسفار . وبعد الإسفار وقت عذرٍ وضرورةٍ حتّى تطلع الشّمس ، فمن نام عن صلاة الصّبح ولم يستيقظ إلاّ بعد الإسفار ، جاز له أن يصلّي الصّبح بلا كراهةٍ .
وظاهره أنّه إذا استيقظ عند طلوع الفجر ، وأخّر صلاة الصّبح إلى ما بعد الإسفار بدون عذرٍ ، كانت صلاته مكروهةً .
7- ممّا تقدّم يعرف أنّ جمهور الفقهاء على أنّ آخر وقت الصّبح طلوع الشّمس ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ للصّلاة أوّلاً وآخراً ، وإنّ أوّل وقت الفجر حين يطلع الفجرُ ، وآخره حين تطلعُ الشّمسُ »
مبدأ وقت الظّهر ونهايته :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأه من زوال الشّمس عن وسط السّماء تجاه الغرب ، ولا يصحّ أداؤها قبل الزّوال .(18/1)
ويعرف الزّوال بأن تغرز خشبةً مستويةً في أرضٍ مستويةٍ ، والشّمس لا زالت في المشرق ، فما دام ظلّ الخشبة ينتقص ، فالشّمس قبل الزّوال ، فإذا لم يكن للخشبة ظلّ ، أو تمّ نقص الظّلّ ، بأن كان الظّلّ أقلّ ما يكون ، فالشّمس في وسط السّماء ، وهو الوقت الّذي تحظر فيه الصّلاة ، فإذا انتقل الظّلّ من المغرب إلى المشرق ، وبدأ في الزّيادة ، فقد زالت الشّمس من وسط السّماء ودخل وقت الظّهر .
والدّليل على أنّ أوّل وقت الظّهر الزّوال ، حديث إمامة جبريل المتقدّم .
وأمّا نهاية وقت الظّهر فجمهور الفقهاء ، ومعهم الصّاحبان ، إلى أنّ آخر وقت الظّهر بلوغ ظلّ الشّيء مثله سوى فيء الزّوال ، لحديث إمامة جبريل المتقدّم وفيه : « أنّه صلّى به الظّهر في اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله » .
وأمّا عند أبي حنيفة : حين يبلغ ظلّ الشّيء مثليه سوى فيء الزّوال : والمراد بفيء الزّوال : الظّلّ الحاصل للأشياء حين تزول الشّمس عن وسط السّماء ، وسمّي فيئاً ، لأنّ الظّلّ رجع إلى المشرق بعد أن كان في المغرب ، ويختلف ظلّ الزّوال طولاً وقصراً وانعداماً باختلاف الأزمنة والأمكنة . وكلّما بعد المكان من خطّ الاستواء كلّما كان فيء الزّوال أطول ، وهو في الشّتاء أطول منه في الصّيف .
واستدلّ أبو حنيفة على أنّ آخر وقت الظّهر بلوغ ظلّ الشّيء مثليه سوى فيء الزّوال ، بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّما بَقَاؤكم فيما سَلَفَ قَبْلَكُم من الأمم كان بين صلاةِ العصرِ إلى غروبِ الشّمسِ ، أوتِيَ أهلُ التّوراة التّوراةَ فعملوا حتّى انتصفَ النّهارَ عَجَزوا ، فأُعْطُوا قيراطاً قيراطاً . ثمّ أُوتيَ أهلُ الإنجيل الإنجيلَ فعَمِلُوا إلى صلاةِ العصرِ ثمّ عَجَزُوا فأعطُوا قِيراطاً قِيراطاً ، ثمّ أُوتينا القرآنَ ، فعملْنا إلى غُروب الشّمس ، فأُعْطِينا قِيراطين قيراطين ، فقال أهل الكتابين : أَيْ ربّنَا أعطيتَ هؤلاءِ قيراطين قيراطين ، وأُعطَيتنا قيراطاً قيراطاً ، ونحن كنّا أكثر عملاً ، قال : قال اللّه عزّ وجلّ : هل ظَلَمْتُكم من أجْرِكم من شيءٍ ، قالوا : لا . قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء » دلّ الحديث على أنّ مدّة العصر أقلّ من مدّة الظّهر ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان آخر وقت الظّهر المثلين .
واستدلّ لأبي حنيفة كذلك بحديث أبي سعيدٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أبردوا بالظّهر ، فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم » والإبراد لا يحصل إلاّ إذا كان ظلّ كلّ شيءٍ مثليه ، لا سيّما في البلاد الحارّة كالحجاز .
والمشهور في مذهب الشّافعيّ أنّ الظّهر له وقت فضيلةٍ وهو أوّله ، ووقت اختيارٍ إلى آخره ، ووقت عذرٍ لمن يجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ ، فيصلّي الظّهر في وقت العصر عند الجمع . وذهب مالك إلى أنّ الوقت الاختياريّ للظّهر إلى بلوغ ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، ووقته الضّروريّ حين الجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ ، فيصلّي الظّهر بعد بلوغ الظّلّ مثله ، إلى ما قبل غروب الشّمس بوقتٍ لا يسع إلاّ صلاة العصر .
مبدأ وقت العصر ونهايته :
9 - أمّا مبدأ وقت العصر فهو عند الصّاحبين وجمهور الفقهاء من حين الزّيادة على المثل ، وعند أبي حنيفة من حين الزّيادة على المثلين وذهب أكثر المالكيّة إلى تداخل وقتي الظّهر والعصر ، فلو أنّ شخصاً صلّى الظّهر عند صيرورة ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، وآخر صلّى العصر في هذا الوقت كانت صلاتهما أداءً ، وخالف في هذا ابن حبيبٍ وابن العربيّ .
استدلّ أبو حنيفة بمفهوم الحديث الّذي تقدّم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم « إنّ مَثَلَكم ومثل من قبلكم من الأمم ... » ، وقال أبو حنيفة : إذا كان مفهوم الحديث أنّ مدّة العصر أقلّ من مدّة الظّهر ، فواجب أن يكون أوّل وقت العصر بعد الزّيادة على المثلين .
واستدلّ الجمهور بحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه « أنّه صلّى بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله » ، أي بعد الزّيادة على المثل ، وإنّما قالوا ذلك دفعاً للتّعارض في الحديث ، لأنّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّه صلّى به العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله في اليوم الأوّل ، وهو يتعارض مع صلاته الظّهر في اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، الأمر الّذي يدلّ على تداخل وقتي الظّهر والعصر ، فدفعاً لهذا التّعارض قالوا : إنّه صلّى به العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، أي بعد الزّيادة على المثل . واستدلّ المالكيّة بظاهر حديث إمامة جبريل ، وفيه : « أنّه صلّى به العصر في اليوم الأوّل في الوقت الّذي صلّى به الظّهر في اليوم الثّاني » ، الأمر الّذي يدلّ على تداخل الوقتين .
10 - أمّا نهاية وقت العصر عند أبي حنيفة فما لم تغب الشّمس ، وهو مذهب الحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر » ويضيف الحنابلة : أنّ وقت الاختيار ينتهي بمبدأ اصفرار الشّمس ، وفي روايةٍ : حين يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثليه .
وذهب المالكيّة في إحدى الرّوايات عنهم إلى أنّ آخر وقتها ما لم تصفرّ الشّمس ، لحديث :
« إذا صلّيتم العصر فإنّه وقتٌ إلى أن تَصْفَرَّ الشّمس » .(18/2)
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ العصر له سبعة أوقاتٍ ، فضيلة : أوّله ، ووقت اختيارٍ : إلى المثلين ، ووقت عذرٍ - لمن يجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ - فيجوز له أن يصلّي الظّهر والعصر في وقت العصر ، ووقت ضرورةٍ كالحائض والنّفساء تطهران في آخر الوقت ، والمريض يبرأ في آخر الوقت أيضاً ، ووقت جوازٍ بلا كراهةٍ وهو بعد المثلين ، ووقت كراهةٍ حرمةٍ ، وهو ما قبل آخر الوقت بوقتٍ لا يسع جميعها .
مبدأ وقت المغرب ونهايته :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأ وقت المغرب من غروب الشّمس ، لحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه : « أنّه صلّى به المغرب حين غربت الشّمس في اليومين جميعهما » . أمّا آخر وقتها فعند الحنفيّة حين يغيب الشّفق ، وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّ في القديم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشّفق » .
والقول المشهور عند المالكيّة أنّه لا امتداد له ، بل يقدّر بقدر ثلاث ركعاتٍ بعد تحصيل شروطها من مكاره حدثٍ وخبثٍ وستر عورةٍ . ولحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه : « أنّه صلّى المغرب بعد غروب الشّمس في اليومين جميعاً » .
ومذهب الشّافعيّ في الجديد : ينقضي وقتها بمضيّ قدر وضوءٍ وستر عورةٍ وأذانٍ وإقامةٍ وخمس ركعاتٍ ، وهي ثلاث ركعاتٍ المغرب وركعتان سنّة بعدها .
مبدأ وقت العشاء ونهايته :
12 - يبدأ وقت العشاء حين يغيب الشّفق بلا خلافٍ بين أبي حنيفة وصاحبيه ، إلاّ أنّهم اختلفوا في معنى الشّفق ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّ الشّفق هو البياض الّذي يظهر في جوّ السّماء بعد ذهاب الحمرة الّتي تعقب غروب الشّمس ، وذهب الصّاحبان إلى أنّ الشّفق هو الحمرة ، وهو مذهب جمهور الفقهاء ، والفرق بين الشّفقين يقدّر بثلاث درجاتٍ ، وهي تعدل اثنتي عشرة دقيقةً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ للعشاء سبعة أوقاتٍ : وقت فضيلةٍ وهو أوّله ، واختيار إلى آخر ثلث اللّيل الأوّل ، وقيل إلى نصف اللّيل لحديث : « لولا أن أَشُقّ على أمّتي لأَخّرتُ صلاةَ العشاء إلى نِصْفِ اللّيل » وجواز بلا كراهةٍ للفجر الأوّل ، وبكراهةٍ إلى الفجر الثّاني ، ووقت حرمةٍ وضرورةٍ وعذرٍ .
استدلّ أبو حنيفة على أنّ الشّفق هو البياض ، بما روي عن أبي هريرة في حديث : « إنّ آخر وقت المغرب حين يسودّ الأفق » وإنّما يسودّ إذا خفيت الشّمس في الظّلام ، وهو وقت مغيب الشّفق الأبيض .
واستدلّ الجمهور على أنّ الشّفق هو الحمرة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه كان يصلّي العشاء عند مغيب القمر في اللّيلة الثّالثة » وهو وقت مغيب الشّفق الأحمر .
13 - أمّا نهاية وقت العشاء ، فحين يطلع الفجر الصّادق بلا خلافٍ بين أبي حنيفة وأصحابه ، وهو مذهب الشّافعيّة ، وغير المشهور عند المالكيّة ، لما روي عن أبي هريرة
« أوّل وقت العشاء حين يغيب الشّفق ، وآخره حين يطلع الفجر » والمشهور في مذهب المالكيّة أنّ آخر وقتها ثلث اللّيل ، لحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه : « أنّه صلّاهما في اليوم الثّاني في ثلث اللّيل » .
وذهب الحنابلة إلى أنّ آخر وقتها الاختياريّ ثلث اللّيل ، وبعده إلى طلوع الفجر وقت ضرورةٍ ، بأن يكون مريضاً شفي من مرضه ، أو حائضاً أو نفساء طهرتا .
انقسام الوقت إلى موسّعٍ ومضيّقٍ
وبيان وقت الوجوب ووجوب الأداء :
14 - الوقت الموسّع عند الحنفيّة لكلٍّ من الفرائض هو : من أوّل الوقت إلى ألاّ يبقى من الوقت أكثر ممّا يسع تكبيرة الإحرام للصّلاة ، فإذا لم يبق من الوقت إلاّ ما يسع تكبيرة الإحرام للصّلاة فهو وقت مضيّق ، يحرم التّأخير عنه .
وعند زفر : يتضيّق الوقت إذا لم يبق إلاّ ما يتّسع لركعات الصّلاة .
أمّا وقت الوجوب فهو من أوّل الوقت إلى ما قبل خروجه بزمنٍ يسع تكبيرة الإحرام أو ثلاث ركعات المغرب مثلاً .
وأمّا وقت وجوب الأداء فهو الوقت الباقي الّذي يسع تكبيرة الإحرام أو ثلاث ركعات المغرب . هذا الّذي ذكرناه هو مذهب الحنفيّة ، ومنه يتبيّن أنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، وقبل آخر الوقت يكون المكلّف مخيّراً بين أداء الصّلاة في أيّ جزءٍ من أجزاء الوقت وبين عدم أدائها . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ وجوب الأداء يتعلّق بأيّ جزءٍ من أجزاء الوقت ولا يتعلّق بآخر الوقت .
ويظهر أثر الخلاف في مقيمٍ سافر في آخر وقت الظّهر ، فعند الحنفيّة حين يقضي الظّهر يقضيه ركعتين ، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، وهو في آخر الوقت كان مسافراً ، فيقضي صلاة المسافرين . وعند غير الحنفيّة يقضي الظّهر أربعاً ، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بالجزء الأوّل من الوقت وما بعده ، وهو في الجزء الأوّل من الوقت كان مقيماً فوجب عليه قضاء صلاة المقيمين .
ومثل ذلك عند الحنفيّة إذا حاضت المرأة أو نفست في آخر الوقت أو جنّ العاقل أو أغمي عليه في آخر الوقت لا يجب عليهم قضاء هذا الفرض إذا زال المانع ، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، وهؤلاء جميعاً ليسوا أهلاً للخطاب في آخر الوقت ، وحيث لم يجب عليهم الأداء لم يجب عليهم القضاء .
الأوقات المستحبّة للصّلوات المفروضة :
وقت الصّبح المستحبّ :
15 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ الإسفار بالفجر أي تأخيره إلى أن ينتشر الضّوء ويتمكّن كلّ من يريد الصّلاة بجماعةٍ في المسجد من أن يسير في الطّريق بدون أن يلحقه ضرر ، كأن تزلّ قدمه ، أو يقع في حفرةٍ ، أو غير ذلك من الأضرار الّتي تنشأ من السّير في الظّلام ، والدّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر » .(18/3)
ولأنّ في الإسفار تكثيراً للجماعة ، وفي التّغليس أي السّير في الظّلمة تقليلها ، فكان أفضل ، هذا في حقّ الرّجال ، أمّا النّساء فإنّهنّ يصلّين في بيوتهنّ أوّل الوقت ، ويستوي في ذلك الشّابّات والعجائز ، لا سيّما في هذا الزّمان الّذي ظهر فيه الفساد في البرّ والبحر .
وكذلك الحاجّ في مزدلفة فجر يوم النّحر ، يصلّي الفجر بغلسٍ في أوّل الوقت ، ليتفرّغ لواجب الوقوف الّذي يبدأ بطلوع الفجر الثّاني يوم النّحر وآخره طلوع الشّمس منه ، لأنّ الوقوف واجب من واجبات الحجّ .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّغليس - أي السّير في الظّلام - أفضل ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كُنَّ نساءُ المؤمناتِ يَشْهَدن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ الفجرِ مُتَلَفِّعاتٍ بمروِطِهِنّ ، ثمّ يَنْقَلِبْنَ إلى بيوتِهنَّ حين يَقْضِينَ الصّلاةَ لا يَعْرِفهنّ أحدٌ من الغَلَسِ » .
16 - أمّا وقت الظّهر المستحبّ ، فقد ذهب الحنفيّة ، وهو مذهب الحنابلة إلى الإبراد بظهر الصّيف ، والتّعجيل بظهر الشّتاء ، إلاّ في يوم غيمٍ فيؤخّر .
ومعنى الإبراد بالظّهر تأخيره إلى أن تخفّ حدّة الحرّ ، ويتمكّن الذّاهبون إلى المسجد من السّير في ظلال الجدران ، وإنّما كان التّأخير أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم « أَبْرِدُوا بالظّهرِ فإنّ شدّة الحرِّ من فيحِ جهنّم » ولأنّ في التّأخير تكثير الجماعة ، وفي التّعجيل تقليلها فكان أفضل .
أمّا ظهر الشّتاء فيستحبّ تعجيله ، لأنّ الصّلاة في أوّل وقتها رضوان اللّه ، ولا مانع من التّعجيل ، لأنّ المانع من التّعجيل في ظهر الصّيف لحوق الضّرر بالمصلّين ، الأمر الّذي يؤدّي إلى تقليل الجماعة ، وهذا المانع غير موجودٍ في ظهر الشّتاء ، فكان التّعجيل أفضل . أمّا في يوم الغيم فيؤخّر ، مخافة أن يصلّي الظّهر قبل دخول وقته .
وذهبت المالكيّة إلى أنّ التّعجيل أفضل صيفاً وشتاءً إلاّ لمن ينتظر جماعةً ، فيندب التّأخير بربع القامة ، أمّا في شدّة الحرّ فيندب التّأخير حتّى يبلغ الظّلّ نصف قامةٍ .
والمراد بربع القامة أو نصفها - اللّذين يندب التّأخير إليها عند المالكيّة - ربع المثل أو نصفه . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن كان يصلّي وحده يعجّل ، وإن كان يصلّي بجماعةٍ يؤخّر حتّى يكون للحيطان ظلّ يمشي فيه طالب الجماعة ، بشرط أن يكون في بلدٍ حارٍّ كالحجاز .
17 - أمّا وقت العصر المستحبّ : فعند الحنفيّة يستحبّ تأخيرها ما لم تتغيّر الشّمس ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يؤخّر العصر ما دامت الشّمس بيضاء نقيّةً وليتمكّن من التّنفّل قبلها ، لأنّ التّنفّل بعدها مكروه .
وذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب تعجيلها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الوقتُ الأوّلُ من الصّلاةِ رضوان اللّه ، والوقتُ الآخرُ عَفْو اللّه »
18 - أمّا وقت المغرب المستحبّ : فلا نعلم خلافاً بين الفقهاء في استحباب تعجيلها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال أمّتي بخيرٍ - أو قال على الفطرة - ما لم يؤخّروا المغرب إلى أن تشتبك النّجوم » ويستحبّ تأخيرها في يوم الغيم مخافة أن تصلّى قبل دخول وقتها .
19 - أمّا وقت العشاء المستحبّ : فعند الحنفيّة يستحبّ تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث اللّيل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء إلى ثلث اللّيل أو نصفه » ، والتّأخير إلى النّصف مباح ، وبعد النّصف مكروه كراهةً تحريميّةً .
والمكروه تحريماً عند الحنفيّة ما يعاقب على فعله عقاباً أقلّ من عقاب تارك الفرض ، أعني أنّه يكون بترك واجبٍ عمداً .
ويستحبّ تعجيلها في يوم الغيم مظنّة المطر أو البرد ، لأنّهما يؤدّيان إلى تقليل الجماعة . وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحبّ تأخيرها إلى آخر الوقت إن لم يشقّ على المصلّين ، لحديث : « لولا أن أشقّ على أمّتي ... » الّذي تقدّم ذكره قريباً .
أمّا أوقات الاستحباب عند المالكيّة والشّافعيّة فقد تقدّمت .
أوقات الصّلوات الواجبة والمسنونة
20 - الصّلوات الواجبة - غير الفرض - الّتي لها وقت معيّن ، هي : الوتر عند أبي حنيفة والعيدان .
أ - أمّا الوتر : فقد ذهب أبو حنيفة إلى أنّ مبدأ وقت الوتر هو بعينه مبدأ وقت العشاء ، وهو مغيب الشّفق الأبيض ، إلاّ أنّه لا يصلّى الوتر قبل العشاء للتّرتيب اللّازم بينهما .
وذهب الصّاحبان إلى أنّ مبدأ وقته بعد صلاة العشاء ، وهو مذهب جمهور الفقهاء .
استدلّ أبو حنيفة بدليلٍ معقولٍ ، وهو أنّه لو لم يصلّ العشاء حتّى طلوع الفجر ، لزمه قضاء الوتر والعشاء باتّفاقٍ ، ولو كان وقته بعد صلاة العشاء لم يلزمه قضاء الوتر لأن لم يتحقّق وقته ، لأنّ وقته بعد صلاة العشاء ، وهو لم يصلّها ، ويستحيل أن تنشغل ذمّته بصلاة الوتر بدون فعل العشاء ، فدلّ ذلك على أنّ وقته هو وقت العشاء .
واستدلّ الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه زادكم صلاةً ، فصلّوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصّبح : الوتر ، الوتر » وكلمة ( بين ) في الحديث تدلّ على أنّ الوتر بعد العشاء .(18/4)
والخلاف بين الجمهور وبين أبي حنيفة حقيقيّ ، يظهر أثره في حال ما إذا صلّى العشاء بغير وضوءٍ ناسياً ، ثمّ توضّأ وصلّى الوتر ، ثمّ تذكّر أنّه صلّى العشاء بغير وضوءٍ ، فعند أبي حنيفة يعيد العشاء دون الوتر ، لأنّه صلّى العشاء بغير وضوءٍ ، أمّا الوتر فلا يعيده ، لأنّه صلّاه في وقته بوضوءٍ ، وعند الجمهور يعيد الوتر والعشاء . أمّا الوتر فلأنّه صلّاه في غير وقته ، وأمّا العشاء فلأنّه صلّاها بغير وضوءٍ . أمّا نهاية وقت الوتر فهو طلوع الفجر الصّادق لا نعلم خلافاً في ذلك ، لحديث : « إنّ اللّه زادكم صلاةً ... » الّذي تقدّم ذكره .
ب - أمّا العيدان فوقتهما بعد طلوع الشّمس وارتفاعها قدر رمحٍ أو رمحين ، ويختلف وقتهما باختلاف الأمكنة .
وأمّا نهاية وقتهما فزوال الشّمس من وسط السّماء ، وهذا ممّا لا نعلم فيه خلافاً .
21 - أمّا السّنن الّتي لها وقت معيّن وتسمّى السّنن الرّاتبة المؤكّدة الّتي تطلب كلّ يومٍ ، فعند أبي حنيفة وأصحابه : اثنتا عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة ، وهي ركعتان قبل الفجر ، وأربع قبل الظّهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، وفي يوم الجمعة يصلّي أربع ركعاتٍ قبل الجمعة ، وأربعاً بعدها ، فتكون الرّكعات المطلوبة في يوم الجمعة أربع عشرة ركعةً ، بخلاف سائر الأيّام ، فإنّ المطلوب فيها في كلّ يومٍ اثنتا عشرة ركعةً . والأصل في هذه السّنن ما روي عن عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم : « من ثابر على اثنتي عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة : ركعتين قبل الفجر ، وأربعٍ قبل الظّهر ، وركعتين بعده ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء » وأمّا الأربع الّتي بعد الجمعة فدليلها قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان منكم مُصَلِّياً بعد الجمعةِ فَلْيُصَلِّ أربعاً » .
وذهب مالك إلى أنّ المطلوب أن تصلّى ركعتا الفجر . قال : وتأكّد النّفل قبل الظّهر وبعدها ، وقبل العصر ، وبعد المغرب والعشاء فلا حدّ في الجميع ، ويكفي في تحصيل النّدب ركعتان . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المسنون من الصّلوات عشر ركعاتٍ : ركعتان قبل الصّبح ، وركعتان قبل الظّهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد كلٍّ من المغرب والعشاء . لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « حفظت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعاتٍ : ركعتين قبل الظّهر ، وركعتين بعده ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين قبل العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصّبح » .
22 - أمّا المندوب عند الحنفيّة فأربع قبل العصر وقبل العشاء وبعده ، وستّ بعد المغرب . وذهبت الشّافعيّة إلى أنّ غير المؤكّد أن يزيد ركعتين قبل الظّهر وبعدها ، ويندب أربع قبل العصر ، واثنتان قبل العشاء . ولتفصيله ورأي بقيّة المذاهب ارجع إلى المندوب من الصّلوات في ( باب النّوافل ) .
أوقات الكراهة
أوّلاً - أوقات الكراهة لأمرٍ في نفس الوقت
عدد أوقات الكراهة :
23 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ عددها ثلاثة : عند طلوع الشّمس إلى أن ترتفع بمقدار رمحٍ أو رمحين ، وعند استوائها في وسط السّماء حتّى تزول ، وعند اصفرارها بحيث لا تتعب العين في رؤيتها إلى أن تغرب . واستثنى الشّافعيّة الصّلاة بمكّة ويوم الجمعة كما يأتي .
وإنّما كانت هذه الأوقات أوقات كراهةٍ ، لأنّ الشّمس تطلع وتستوي وتصفرّ بين قرني الشّيطان فتكون الصّلاة في هذه الأوقات تشبّهاً بمن يعبدون الشّمس ، لأنّهم يعبدونها في هذه الأوقات . يدلّ على ذلك ما أخرجه مالك في الموطّأ والنّسائيّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الشّمس تطلع ومعها قرن الشّيطان ، فإذا ارتفعت فارَقَها ، ثمّ إذا استوت قارنها ، فإذا زالت فارقها ، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها ، ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في تلك السّاعات » .
وذهب المالكيّة إلى أنّ عدد أوقات الكراهة اثنان : عند الطّلوع وعند الاصفرار ، أمّا وقت الاستواء فلا تكره الصّلاة فيه عندهم ، وحجّتهم في ذلك عمل أهل المدينة ، فإنّهم كانوا يصلّون في وقت الاستواء ، وعمل أهل المدينة حجّة عند مالكٍ ، لأنّ المدينة موطن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والوحي كان ينزل بين ظهرانيهم ، فلو صحّ حديث عقبة بن نافعٍ الّذي سنذكره فيما بعد ، والّذي يدلّ على النّهي في وقت الاستواء ، لعملوا به .
وذهبت الشّافعيّة إلى أنّ الأوقات الثّلاثة مكروهة إلاّ في مكّة ، وإلاّ يوم الجمعة عند الاستواء . أمّا في مكّة فلقوله صلى الله عليه وسلم « يا بَني عبد منافٍ لا تَمْنَعُوا أحداً طافَ بهذا البيتِ وصلَّى أيّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهارٍ » .
وأمّا يوم الجمعة عند الاستواء فلأنّ المسلمين كانوا يصلّون في خلافة عمر في وقت الاستواء حتّى يخرج إليهم عمر ليخطب فيهم ، ولم ينكر عليهم ذلك .
24 - ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في كراهة التّطوّع المطلق في هذه الأوقات .
أمّا السّنن ، فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى كراهتها لحديث عقبة بن عامرٍ :
« ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ، وحين تضيّف الشّمس للغروب - أي حين تميل - حتّى تغرب » .(18/5)
والمراد بقبر الموتى في الحديث صلاة الجنازة ، لا الدّفن ، فإنّ الدّفن في هذه الأوقات غير مكروهٍ . وعن مالكٍ روايتان : إحداهما إباحة السّنن في هذه الأوقات ، إلاّ تحيّة المسجد فإنّها مكروهة عنده ، والثّانية : كراهة السّنن مطلقاً في هذه الأوقات .
وحجّته على الرّواية الأوّل : أنّه ورد في هذا الموضوع دليلان متعارضان يمكن الجمع بينهما أحدهما : حديث عقبة المارّ ذكره ، والّذي يدلّ على كراهة الصّلاة أيّ صلاةٍ كانت في هذه الأوقات .
ثانيهما : قوله صلى الله عليه وسلم « إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل فليصلّها إذا ذكرها » ، فإنّ هذا الحديث يدلّ على جواز الصّلاة في كلّ وقتٍ عند التّذكّر .
وأشار ابن رشدٍ إلى أنّه يمكن الجمع بين الحديثين ، بأن نستثني من الصّلوات المنهيّ عنها في حديث عقبة السّنن ، ويكون النّهي منصّباً على الفرائض ، أمّا السّنن فليست منهيّاً عنها.
وحجّة مالكٍ على الرّواية الثّانية ، وهي كراهة السّنن في هذه الأوقات : حديث عقبة الّذي يدلّ على كراهة الصّلاة مطلقاً فيها .
وأجاز الشّافعيّة صلاة الكسوف وتحيّة المسجد إذا دخل المسجد لا لغرض أن يصلّيها ، بأن دخل المسجد لقضاء حاجةٍ ، ثمّ صلّى تحيّة المسجد . وأجاز الحنابلة ركعتي الطّواف .
25 - وأمّا حكم صلاة الفرض والواجب في هذه الأوقات ، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز قضاء ما فاته في هذه الأوقات ، لحديث عقبة المارّ ذكره ، والّذي يدلّ على النّهي عن الصّلاة فيها مطلقاً . ولا تجوز صلاة الجنازة إذا حضرت في غير الوقت المكروه ، ثمّ أخّرت الصّلاة عليها بدون عذرٍ إلى الوقت المكروه . ولا تجوز سجدة تلاوةٍ تليت آيتها أو سمعت في غير الوقت المكروه ، ثمّ سجد لها التّالي أو السّامع في الوقت المكروه . أمّا إذا حضرت الجنازة في الوقت المكروه ، ثمّ صلّى عليها في هذا الوقت ، فهي صحيحة مع الكراهة . ومثل ذلك سجدة التّلاوة إذا تليت آيتها في الوقت المكروه ، ثمّ سجد لها التّالي أو السّامع في هذا الوقت ، فإنّها تصحّ مع الكراهة .
ودليل الحنفيّة على عدم صحّة صلاة الجنازة ، إذا حضرت الجنازة في الوقت غير المكروه ، ثمّ أخّرت الصّلاة عليها إلى الوقت المكروه : حديث عقبة المارّ ذكره . ودليلهم على صحّة صلاة الجنازة وسجدة التّلاوة مع الكراهة : أن ما وجب في وقتٍ ناقصٍ يؤدّي في النّاقص مع الكراهة ، وما وجب في كاملٍ لا يؤدّى في النّاقص ، ومن أجل ذلك صحّ عصر اليوم مع الكراهة ، إذا أدّي في وقت الاصفرار ، لأنّه وجب في ناقصٍ فيؤدّى كما وجب ، ولم يصحّ عصر أمس إذا أدّاه في وقت الاصفرار ، اليوم ، لأنّه وجب في كاملٍ فلا يؤدّى في النّاقص . وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز قضاء الفائتة في هذه الأوقات الثّلاثة ، لحديث : « إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها » ، دلّ الحديث على جواز قضاء الفائتة في كلّ وقتٍ عند التّذكّر .
ثانياً : أوقات الكراهة لأمرٍ في غير الوقت
26 - وهي عشرة أوقاتٍ ، كما ذكرها الشّرنبلاليّ : وأوصلها ابن عابدين إلى نيّفٍ وثلاثين موضعاً ، أهمّها :
الوقت الأوّل : قبل صلاة الصّبح .
27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهية التّنفّل قبل صلاة الصّبح إلاّ بسنّة الفجر .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز أن يصلّي الوتر إذا كان من عادته أن يصلّيه باللّيل ، فلم يصلّه حتّى طلع الفجر . واستدلّ الجمهور على كراهة التّنفّل قبل صلاة الصّبح بقوله صلى الله عليه وسلم « لِيبلّغْ شاهدُكم غائِبَكُمْ ، ولا تصلّوا بعد الفجر إلاّ سَجْدتين » .
أي لا صلاة بعد طلوع الفجر إلاّ ركعتي الفجر .
الوقت الثّاني : بعد صلاة الصّبح :
28 - اتّفق الفقهاء على كراهة التّنفّل المطلق ( وهو ما لا سبب له ) بعد صلاة الصّبح ، لما رواه الشّيخان أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاةَ بعد صلاة العصر حتّى تغربَ الشّمسُ ، ولا صلاةَ بعد صلاةِ الصّبحِ حتّى تطلع الشّمس » .
وذهب الشّافعيّة إلى جواز أداء كلّ صلاةٍ لها سبب ، كالكسوف والاستسقاء والطّواف ، وسواء أكانت فائتةً فرضاً أم نفلاً ، « لأنّه صلى الله عليه وسلم صلّى بعد العصر ركعتين وقال : هما اللّتان بعد الظّهر » .
وذهب الحنابلة إلى جواز الإتيان بسنّة الفجر بعد صلاة الصّبح ، إذا نسيها ولم يتذكّرها إلاّ بعد صلاة الصّبح ، لما روي عن قيس بن فهدٍ قال : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصّلاة ، فصلّيت معه الصّبح ، فوجدني أصلّي ، فقال : مهلاً يا قيس أصلاتان معاً ؟ قلت : يا رسول اللّه إنّي لم أكن ركعت ركعتي الفجر . قال : فلا إذن » ظنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الرّجل يصلّي الصّبح بعد أن صلّاه معه ، فأنكر عليه ، فلمّا علم أنّه يصلّي سنّة الفجر لم ينكر عليه . ولأنّه صلى الله عليه وسلم قضى سنّة الظّهر بعد العصر ، وسنّة الفجر في معناها .
الوقت الثّالث : بعد صلاة العصر :
29 - ذهبت الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى كراهة التّنفّل المطلق بعد صلاة العصر ، لحديث الشّيخين الّذي تقدّم : « لا صلاة بعد صلاة العصر » .
وذهب الحنابلة إلى جواز قضاء سنّة الظّهر بعد صلاة العصر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى نافلة الظّهر بعد صلاة العصر .
الوقت الرّابع : قبل صلاة المغرب :(18/6)
30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة المغرب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « بين كلّ أذانين صلاة إلاّ المغرب » . والمراد بالأذانين : الأذان والإقامة ، فبين أذان الصّبح وإقامته سنّة الفجر ، وبين أذان الظّهر وإقامته سنّة الظّهر القبليّة ، وبين أذان العصر وإقامته أربع ركعاتٍ مندوبةً عند الحنفيّة ، وبين أذان العشاء وإقامته أربع ركعاتٍ مندوبةً عند الحنفيّة إلاّ المغرب لقصر وقته .
وقال الشّافعيّة : صلاة ركعتين قبل المغرب سنّة على الصّحيح كما قال النّوويّ ، للأمر بهما في حديث أبي داود « صلّوا قبل صلاة المغرب ركعتين » ، وقال الحنابلة : هما جائزتان ، وليستا بسنّةٍ . كما استدلّوا أيضاً بما رواه مسلم عن أنس بن مالكٍ : « كنّا بالمدينة فإذا أذّن المؤذّن لصلاة المغرب ابتدروا السّواري ، فيركعون ركعتين ركعتين حتّى إنّ الرّجل الغريب ليدخل المسجد ، فيحسب أنّ الصّلاة قد صلّيت من كثرة من يصلّيهما » .
الوقت الخامس : عند خروج الخطيب حتّى يفرغ من صلاته :
31 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة التّنفّل عند خروج الخطيب إلى المنبر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا قلت لصاحبك أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت » . دلّ الحديث على أنّ من يأمر غيره بالإنصات ، كان أمره لغواً من الكلام منهيّاً عنه ، فإذا كان الأمر بالإنصات - وهو أمر بمعروفٍ - لغواً من الكلام منهيّاً عنه ، كان التّنفّل لغواً من الأعمال منهيّاً عنه ، أضف إلى ذلك أنّ التّنفّل يفوّت الاستماع إلى الخطيب الّذي هو واجب ، فلا يترك الواجب من أجل النّفل .
واستثنى الشّافعيّة والحنابلة تحيّة المسجد لمن دخل والإمام يخطب ، فأجازوا التّنفّل بركعتين . لحديث جابرٍ قال : « جاء سليك الغطفانيّ في يوم الجمعة ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس ، فقال له : يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما » .
الوقت السّادس : عند الإقامة :
32 - ذهبت الحنفيّة إلى كراهة التّنفّل عند الإقامة للصّلاة المفروضة ، إلاّ سنّة الفجر إذا لم يخف فوت الجماعة ، أمّا إذا خاف فوتها تركها ، وإنّما كره التّنفّل لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة » . واستثنى من الحديث سنّة الفجر لكونها آكد السّنن . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا دخل المسجد فوجد الإمام يصلّي الصّبح ، فليدخل معه في صلاته ، ويترك سنّة الفجر . وإن كان خارج المسجد : فإن خاف أن يفوته الإمام بركعةٍ ترك سنّة الفجر وقضاها بعد طلوع الشّمس ، وإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعةٍ أتى بالسّنّة خارج المسجد .
والفرق بين كونه خارج المسجد وكونه داخله : أنّه إذا كان داخل المسجد وصلّى سنّة الفجر ، والإمام يصلّي الصّبح ، كانتا صلاتين معاً في موضعٍ واحدٍ ، ويكون مختلفاً مع الإمام ، فهو يصلّي نفلاً ، والإمام يصلّي فرضاً ، وهو منهيّ عنه ، لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال : « سمع قوم الإقامة ، فقاموا يصلّون ، فخرج عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : أصلاتان معاً ؟ أصلاتان معاً ؟ » وذلك في صلاة الصّبح في الرّكعتين اللّتين قبل الصّبح . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أقيمت الصّلاة فلا يشرع في صلاةٍ نافلةٍ ولو راتبةً ، ولو شرع فيها لا تنعقد ، ويستوي في ذلك سنّة الفجر وغيرها من السّنن ، للحديث السّابق .
الوقت السّابع : قبل صلاة العيد وبعدها :
33 - ذهبت الحنفيّة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة العيد في المنزل والمسجد ، وبعد الصّلاة يكره التّنفّل في المسجد ، ولا يكره في المنزل ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي قبل العيد شيئاً ، فإذا رجع إلى المنزل صلّى ركعتين » .
وذهب الحنابلة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة العيد وبعدها .
وذهب المالكيّة إلى كراهة التّنفّل قبلها وبعدها في المصلّى في المسجد .
ومذهب الشّافعيّة أنّه لا يكره التّنفّل قبلها ولا بعدها بعد ارتفاع الشّمس لغير الإمام .
الوقت الثّامن : بين الصّلاتين المجموعتين في كلٍّ من عرفة ومزدلفة :
34 - ذهب الفقهاء إلى كراهة التّنفّل بين الصّلاتين المجموعتين جمع تقديمٍ في عرفة ، والمجموعتين جمع تأخيرٍ في مزدلفة ، فإذا جمع الإمام بين الظّهر والعصر بعرفة ، يصلّي الظّهر والعصر في وقت الظّهر ، ويترك سنّة الظّهر البعديّة ، ومثل ذلك المغرب والعشاء . فيصلّي المغرب والعشاء في وقت العشاء ، ويترك سنّة المغرب البعديّة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يتطوّع بينهما .
قال القرطبيّ : فأمّا الفصل بين الصّلاتين بعملٍ غير الصّلاة ، فقد ثبت عن أسامة بن زيدٍ
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا جاء المزدلفة نزل فتوضّأ ، فأسبغ الوضوء ، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ، ثمّ أناخ كلّ إنسانٍ بعيره في منزله ، ثمّ أقيمت العشاء فصلّى ، ولم يصلّ بينهما » . وقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ السّنّة ألاّ يتطوّع بين الصّلاتين . الوقت التّاسع : عند ضيق وقت المكتوبة :
35 - لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أنّه يحرم التّنفّل عند ضيق وقت المكتوبة ، فإذا ضاق وقت الظّهر مثلاً ، ولم يبق منه إلاّ ما يسع صلاته ، حرم التّنفّل لما في التّنفّل من ترك أداء الصّلاة المفروضة والاشتغال بالنّفل ، وصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه لم تنعقد نافلةً - ولو راتبةً - مع ضيق الوقت .
حكم الصّلاة في غير وقتها
تأخير الصّلاة بلا عذرٍ :(18/7)
36 - لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أنّ تأخير الصّلاة عن وقتها بدون عذرٍ ذنب عظيم ، لا يرفع إلاّ بالتّوبة والنّدم على ما فرّط من العبد ، وقد سمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بأنّه مفرّط أي مقصّر ، حيث قال : « ليس التّفريط في النّوم ، إنّما التّفريط في اليقظة ». 37 - أمّا تأخيرها بعذر النّسيان ، فلا نعلم خلافاً بين الفقهاء أيضاً في أنّ العبد غير مؤاخذٍ على هذا التّأخير لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
38 - وأمّا تأخيرها بعذر النّوم ، فالّذي يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس في النّوم تفريط ، إنّما التّفريط في اليقظة ، فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها » .
إنّ النّوم الّذي يترتّب عليه تأخير الصّلاة عن وقتها لا يؤاخذ عليه العبد ، ولا يعتبر مفرّطاً ، وقد نام النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصّبح في حديث التّعريس عن أبي قتادة قال
: « سرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليلةً ، فقال بعضُ القوم : لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول اللّه ، قال : أخافُ أن تناموا عن الصّلاةِ ، قال بلالٌ : أنا أوقظكم ، فاضطجعوا ، وأسندَ بلالٌ ظهره إلى راحلته ، فغلبته عيناه فنامَ ، فاستيقظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشّمسِ فقال : يا بلال أينَ ما قلتَ ؟ فقال : ما أُلقيتْ عليّ نومة مثلها قطّ ، قال : إنّ اللّه قبضَ أرواحَكم حين شاء ، وردَّها عليكم حين شاء ، يا بلال قم فأذّن النّاس بالصّلاة ، فتوضّأ ، فلمّا ارتفعت الشّمسُ ، وابياضّت ، قام فصلّى بالنّاس » غير أنّه يفهم من هذا الحديث أنّه إذا غلب على ظنّه أنّه لو نام تفوته الصّلاة يكلّف أحداً بإيقاظه ، وهو ما يفهم من مذهب الحنفيّة والمالكيّة .
وقد قال الحنفيّة : إنّه يكره النّوم قبل صلاة العشاء ، وهو مذهب مالكٍ والشّافعيّة وأحمد ، لحديث « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكره النّوم قبلها والحديث بعدها » .
وفي قولٍ للشّافعيّة يكره النّوم قبل الصّلاة في جميع الأوقات ، والظّاهر عندهم كراهة النّوم بعد دخول الوقت ، أمّا قبل دخوله فجائز عندهم .
39 - أمّا تأخير الصّلاة عن وقتها ، أو تقديمها بعذر السّفر أو المطر ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع بعذر السّفر أو المطر لما رواه الشّيخان عن ابن عمر قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا عجّل به السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء » . وروى الشّيخان عن أنس بن مالكٍ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس - أي قبل أن تزول الشّمس عن وسط السّماء - أَخّر الظّهرَ إلى وقتِ العصرِ ، ثمّ نزل ، فجمع بينهما ، فإن زاغت الشّمسُ قبل أن يَرْتَحل صلّى الظّهر ثمّ ركب » . دلّ الحديث الأوّل على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان مسافراً ، وأسرع في السّير ، ليصل إلى غرضه في الوقت المناسب ، أخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء . ودلّ الحديث الثّاني على أنّه صلى الله عليه وسلم إذا ابتدأ السّفر قبل دخول وقت الظّهر ، أخّر الظّهر وجمع بينها وبين العصر ، وإذا ابتدأ السّفر قبل دخول وقت الظّهر ، صلّاها ثمّ سافر ، ولم يجمع بينها وبين العصر ، ويستدلّ للجمهور أيضاً بالأحاديث الواردة في الجمع بين الصّلاتين للسّفر وغيره .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز ذلك إلاّ في عرفة ومزدلفة ، في اليوم التّاسع من ذي الحجّة ، فيجمع الإمام بين الظّهر والعصر جمع تقديمٍ ، بأن يصلّي الظّهر والعصر في وقت الظّهر بعرفاتٍ ، ويجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخيرٍ بمزدلفة فيصلّي المغرب والعشاء في وقت العشاء . واشترط أبو حنيفة لجواز هذا الجمع : أن يكون محرماً بحجٍّ لا عمرةٍ ، وأن تكون هذه الصّلاة بجماعةٍ ، وأن يكون الإمام في جمع عرفة هو السّلطان أو نائبه .
ولم يشترط أبو يوسف ومحمّد - صاحبا أبي حنيفة - أن تكون الصّلاة بجماعةٍ ، وأجازوا للمحرم بحجٍّ أن يصلّي صلاة الجمع ولو كان منفرداً ، أمّا الجمع في مزدلفة فلا يشترط فيه غير الإحرام والمكان ، وهو مزدلفة .
40 - وقد تضمّن مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة أمرين :
الأوّل : أنّه يجوز الجمع في عرفة ومزدلفة بالشّروط السّابقة .
الثّاني : لا يجوز الجمع في غير ذلك بعذر سفرٍ أو مطرٍ .
أمّا الأمر الأوّل فدليله : أنّ الّذين رَوَوْا نسك النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّه ، اتّفقوا على أنّه كان يجمع هذا الجمع المذكور .
وأمّا الأمر الثّاني - وهو أنّه لا يجوز الجمع في غير عرفة ومزدلفة بعذر سفرٍ أو مطرٍ - فدليله : أنّ الصّلوات المفروضة عرفت مؤقّتةً بأوقاتها بالدّلائل المقطوع بها من الكتاب والسّنّة المتواترة والإجماع ، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بنوعٍ من الاستدلال وخبر الواحد ، والسّفر أو المطر لا أثر لهما في تأخير الصّلاة عن وقتها أو تقديمها عن وقتها .
من لم يجد بعض الأوقات الخمسة
41 - اختلف علماء الحنفيّة فيمن لم يجد بعض الأوقات الخمسة ، كسكّان المناطق القطبيّة ، فإنّ هذه المناطق تستمرّ في نهارٍ دائمٍ ستّة أشهرٍ ، وفي ليلٍ دائمٍ ستّة أشهرٍ أخرى ، كما يقول الجغرافيّون ، فهل يجب على سكّان هذه المناطق - إن كانوا مسلمين - أن يصلّوا الصّلوات الّتي لم يجدوا وقتاً لها ، بأن يقدّروا لكلّ صلاةٍ وقتاً أو تسقط عنهم هذه الصّلوات ؟ . وكذلك في بعض البلاد القريبة من المناطق القطبيّة ، تأتي فيها فترات لا يوجد وقت العشاء ، أو يطلع الفجر بعد مغيب الشّفق مباشرةً .(18/8)
وفي بعض المناطق لا تغيب الشّمس مطلقاً . ذهب بعض علماء الحنفيّة إلى عدم سقوط هذه الصّلوات عنهم ، ويقدّرون لكلّ صلاةٍ وقتاً ، ففي السّتّة الأشهر الّتي تستمرّ في نهارٍ دائمٍ يقدّرون للمغرب والعشاء والوتر والفجر وقتاً ، مثل ذلك السّتّة الأشهر الأخرى يقدّرون للصّبح والظّهر والعصر وقتاً ، باعتبار أقرب البلاد الّتي لا تتوارى فيها الأوقات الخمسة . وقد استدلّوا على ذلك بالقياس على أيّام الدّجّال ، الّذي هو من علامات السّاعة الكبرى ، فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتّقدير فيها ، في الحديث الّذي رواه مسلم قال : « ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الدّجّال ولبثه في الأرض أربعين يوماً : يوم كسنةٍ ، ويوم كشهرٍ ، ويوم كجمعةٍ ، وسائر أيّامه كأيّامكم . قال الرّاوي قلنا : يا رسول اللّه : أرأيت اليوم الّذي كالسّنة ، أتكفينا فيه صلاة يومٍ ؟ قال : لا ، ولكن اقدروا له » . أي صلّوا صلاة سنةٍ في اليوم الّذي هو كسنةٍ ، وقدّروا لكلّ صلاةٍ وقتاً .
وذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى سقوط الصّلوات الّتي لم يجدوا وقتاً لها ، لأنّ الوقت سبب للوجوب ، فإذا عدم السّبب - وهو الوقت - عدم المسبّب وهو الوجوب .
وهذا ينطبق على البلاد الّتي يقصر فيها اللّيل أربعين يوماً في الصّيف ، فقبل أن يغيب الشّفق الأحمر ، يظهر الفجر الصّادق فلا يوجد وقت للعشاء والوتر ، لأنّ أوّل وقت العشاء مغيب الشّفق الأحمر ، وقد ظهر الفجر الصّادق قبل أن يغيب الشّفق .
فذهب بعض علماء الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم سقوط الوتر والعشاء عن أهل هذه البلاد ، بل يقدّرون للعشاء والوتر وقتاً باعتبار أقرب البلاد إليهم . وذهب بعض آخر من علماء الحنفيّة إلى سقوط الوتر والعشاء ، وهو الّذي مشى عليه صاحب نور الإيضاح وعبارته : ومن لم يجد وقتها لم تجب عليه . لكنّه خلاف المذهب وما عليه المتون .
وذهب بعض المالكيّة ، وهو مذهب الشّافعيّة إلى تقدير مغيب شفق أقرب البلاد إليهم ، فإذا كان أقرب البلاد إليهم يغيب فيها الشّفق بعد ساعةٍ من غروب الشّمس ، ومدّة اللّيل في هذه البلاد ثماني ساعاتٍ ، فيكون أوّل العشاء عندهم بعد ساعةٍ من غروب الشّمس ، وإذا كانت مدّة اللّيل في البلاد الّتي ليس فيها عشاء اثنتي عشرة ساعةً ، فيقدّر مغيب الشّفق عندهم بساعةٍ ونصفٍ من غروب الشّمس ، لأنّ مدّة بقاء الشّفق في أقرب البلاد إليهم ساعة ، وهي تعادل الثّمن من اللّيل ، لأنّ اللّيل عندهم ثماني ساعاتٍ ، والبلاد الّتي ليس فيها عشاء وليلها اثنتا عشرة ساعةً ، يقدّر لغياب الشّفق ثمن هذه المدّة ، وهي ساعة ونصف .
وذهب الشّافعيّة إلى وجوب قضاء العشاء على أهل هذه البلاد ، ولا يسقط عنهم .
قال ابن عابدين : هذه المسألة نقلوا فيها الخلاف بين ثلاثةٍ من مشايخنا وهم : البقّاليّ والحلوانيّ والبرهانيّ الكبير ، وأفتى البقّاليّ : بعدم الوجوب ، وكان الحلوانيّ يفتي بالقضاء ، ثمّ وافق البقّاليّ حينما أرسل إليه من يسأله عمّن أسقط صلاةً من الصّلوات الخمس : أيكفر ؟ فأجاب البقّاليّ السّائل : من قطعت يداه أو رجلاه كم فروض وضوئه ؟ قال : ثلاث . قال : فكذلك الصّلاة ، فاستحسن الحلوانيّ ، ورجع إلى قول البقّاليّ بعدم الوجوب . أمّا الكمال ابن الهمام فقد رجّح القول بالوجوب ، ومنع ما أفتى به البقّاليّ من القول بعدم الوجوب لعدم السّبب وهو الوقت ، كما يسقط غسل اليدين عن مقطوعهما .
وقال : لا يرتاب متأمّل في ثبوت الفرق بين عدم محلّ الفرض ، وبين عدم السّبب وهو الوقت . إلى أن قال : وانتفاء الدّليل على الشّيء لا يلزم فيه انتفاء هذا الشّيء ، لجواز دليلٍ آخر . وقد وجد وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء ، من فرض اللّه تعالى الصّلوات الخمس ، وجعلها شرعاً عامّاً لأهل الآفاق ، لا تفضيل بين قطرٍ وقطرٍ .
قال ابن عابدين : وقد ورد في هذه المسألة قولان مصحّحان في المذهب ، والأرجح القول بالوجوب ، لا سيّما إذا قال به إمام من الأئمّة ، وهو الشّافعيّ رضي الله عنه ، وهل ينوي القضاء أو لا ينويه ؟ ذكر في الظّهيريّة أنّه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء ، واعترضه الزّيلعيّ بأنّه إذا لم ينو القضاء يكون أداءً ، ضرورةً لا واسطة بينهما ، وهي ليست أداءً ، لأنّ الوقت الّذي صلّيت فيه ليس وقتاً لصلاة العشاء ، بل وقت لصلاة الصّبح .
ومعنى التّقدير عند الحنفيّة : افتراض أنّ الوقت موجود ، وإن كان الوقت وقتاً لصلاة الصّبح ، وهذا بخلاف معنى التّقدير عند الشّافعيّة وبعض المالكيّة ، على ما بيّنّاه سابقاً من مذهبهم . أمّا البلاد الّتي يقصر فيها وقت الظّهر ، فيبلغ ظلّ الشّيء مثله بعد زوال الشّمس عن وسط السّماء بوقتٍ قصيرٍ لا يتمكّن فيه المصلّي من صلاة الظّهر ، فلم نجد في كتب الفقهاء نصّاً على حكم هذه المسألة .(18/9)
أوقاص *
التّعريف :
1- الأوقاص : جمع وقصٍ بفتحتين ، وقد تسكن القاف ، والوقص من معانيه في اللّغة : قصر العنق ، كأنّما ردّ في جوف الصّدر . والكسر : يقال : وقصت عنقه أي : كسرت ودقّت . وقد استعمل في الشّرع : لما بين الفريضتين في أنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم ، أو هو : ما بين الفريضتين في الغنم والبقر ، أو في البقر خاصّةً ، وهو واحد الأوقاص .
فمثلاً إذا بلغت الغنم أربعين ، ففيها شاة إلى أن تبلغ مائةً وعشرين ، فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين ، ففيها شاتان . فالثّمانون الّتي بين الأربعين وبين المائة وإحدى وعشرين وقصٍ . الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأشناق :
2 - الأشناق : جمع شنقٍ ، هذا وجاء في المصباح وغيره من كتب اللّغة أنّ الشّنق بفتحتين : ما بين الفريضتين ، وبعضهم يقول : هو الوقص ، وبعض الفقهاء يخصّ الشّنق بالإبل ، والوقص بالبقر والغنم . وفسّر مالك الشّنق بما يزكّى من الإبل بالغنم . كالخمس من الإبل ففيها شاة ، والعشر فيها شاتان ، والخمس عشرة فيها ثلاث شياهٍ ، والعشرين فيها أربع .
ب - العفو :
3 - يقال لما بين الفريضتين أيضاً : العفو ، وهو في اللّغة مصدر عفا ، ومن معانيه : المحو والإسقاط . وأمّا عند الفقهاء فإنّه كالوقص ، بمعنى أنّه الّذي يفصل بين الواجبين في زكاة النّعم ، أو في كلّ الأموال ، وسمّي عفواً لأنّه معفوّ عنه ، أي لا زكاة فيه .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
أوقاص الإبل :
4 - يبحث عن الأحكام الخاصّة بالأوقاص في مصطلح ( زكاة ) أي فيما يتعلّق منها بزكاة النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، إذ الأوقاص كما سبق : ما بين الفريضتين من كلّ الأنعام ، والمراد بالفريضتين النّصابان . فما بين كلّ نصابين يعتبر وقصاً .
هذا ، والأوقاص في الإبل على خمس مراتب :
الأولى : الأربعة الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاة وهي الخمس من الإبل ، والشّاتان وهي العشر ، والثّلاث شياهٍ وهي الخمس عشرة ، والأربع شياه وهي العشرون ، وبنت المخاض وهي الخمس والعشرون .
الثّانية : العشرة ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه بنت المخاض ، وهي الخمس والعشرون ، وما تجب فيه بنت اللّبون وهي السّتّ والثّلاثون .
الثّالثة : التّسعة ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه بنت اللّبون وهي السّتّ والثّلاثون ، وما تجب فيه الحقّة ، وهي السّتّ والأربعون .
الرّابعة : الأربع عشرة ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الحقّة وهي السّتّ والأربعون ، وما تجب فيه الجذعة وهي الإحدى والسّتّون . وهي الّتي تفصل أيضاً بين ما تجب فيه الجذعة وهي الإحدى والسّتّون ، وما تجب فيه بنتا اللّبون وهي السّتّ والسّبعون ، والّتي تفصل أيضاً بين هذه وبين ما تجب فيه الحقّتان وهي الإحدى والتّسعون .
الخامسة : التّسع والعشرون ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الحقّتان وهي الإحدى والتّسعون ، وما تجب فيه ثلاث بنات لبونٍ وهي الإحدى والعشرون بعد المائة عند ابن القاسم من المالكيّة وعند الشّافعيّة والحنابلة ، إذ زيادة الواحدة على المائة والعشرين تؤثّر عندهم في تغيير الواجب .
وأمّا الحنفيّة فقد ذكروا أنّ زيادة الواحدة على المائة والعشرين لا تؤثّر في تغيير الواجب ، وإنّما يتغيّر الواجب عندهم بزيادة خمسٍ ، فيستمرّ أخذ الحقّتين عندهم إلى أربعٍ وعشرين بعد المائة . فالمرتبة الخامسة من مراتب الوقص على هذا القول تكون ثلاثاً وثلاثين .
والّذي ارتضاه الإمام مالك أنّ الواجب بعد المائة والعشرين يتغيّر بزيادة عشرةٍ ، فإن كان الزّائد أقلّ من ذلك ، فإنّ السّاعي مخيّر بين أخذ الحقّتين أو ثلاث بنات لبونٍ .
والتّفصيل مع الأدلّة وما قيل فيها محلّه مصطلح : ( زكاةٍ ) .
أوقاص البقر :
5 - الأوقاص في البقر لا تخرج عن عددين :
أحدهما : التّسعة ، وهي الّتي تفصل بين ما يجب فيه التّبيع أو التّبيعة ، وهو الثّلاثون ، وما يجب فيه المسنّة أو المسنّ وهو الأربعون ، وهو الّتي تقع أيضاً بعد العدد الّذي يتغيّر فيه الواجب بزيادة عشرةٍ اتّفاقاً وهو السّتّون ، وما فوقها كالتّسعة الّتي بين السّتّين والسّبعين . والسّبعين والثّمانين . وهكذا .
الثّاني : التّسعة عشر ، وهي الّتي تفصل بين العدد الّذي تجب فيه المسنّة أو المسنّ على خلافٍ في ذلك وهو الأربعون ، والعدد الّذي يتغيّر بعده الواجب بزيادة عشرةٍ وهو السّتّون ، فإنّها وقص لا زكاة فيه عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة . هذا وتذكر كتب الحنفيّة ثلاث رواياتٍ عن أبي حنيفة في البقر إذا زاد عددها على الأربعين . سيأتي ذكرها .
أوقاص الغنم :
6 - الأوقاص في الغنم تكون على النّحو التّالي :
أوّلاً : الثّمانون ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاة الواحدة وهي الأربعون ، وما تجب فيه الشّاتان وهي الإحدى والعشرون بعد المائة .
ثانياً : التّسع والسّبعون ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاتان وهي الإحدى والعشرون بعد المائة ، وما تجب فيه الثّلاث الشّياه وهي الواحدة بعد المائتين .
ثالثاً : التّسع والتّسعون ، وهي الّتي تقع بعد العدد الّذي تجب فيه الثّلاث الشّياه وهو الواحد بعد المائتين وقبل العدد الّذي يتغيّر بعده الواجب بزيادة مائةٍ وهو الثّلاثمائة ، فيستمرّ بعد ذلك الوقص على تسعٍ وتسعين .
زكاة أوقاص الإبل :
7 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في زكاة أوقاص الإبل قولين :(19/1)
أحدهما : أنّها لا زكاة فيها ، لأنّ الزّكاة إنّما تتعلّق بالنّصاب فقط ، ولأنّ الوقص عفو بعد النّصاب كما هو عفو أيضاً قبل النّصاب ، فالأربعة الواقعة بعد الخمسة وقبل العشرة عفو ، إذ هي كالأربعة الواقعة قبل الخمس . وهذا القول هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وهو أيضاً أحد قولين في مذهب المالكيّة ، وقول الشّافعيّة أيضاً في القديم والجديد .
الثّاني : أنّها تزكّى ، وهو قول محمّدٍ وزفر من الحنفيّة ، وهو أيضاً القول الّذي رجع إليه الإمام مالك ، وهو أيضاً قول الشّافعيّ في رواية البويطيّ ، ودليل هذا القول حديث أنسٍ :
« في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كلّ خمسٍ شاة ، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ أنثى » ، فجعل الفرض في النّصاب وما زاد . ولأنّه زيادة على نصابٍ فلم يكن عفواً ، كالزّيادة على نصاب القطع في السّرقة .
ويظهر أثر الخلاف - كما جاء في حاشية ابن عابدين - فيمن ملك تسعاً من الإبل ، فهلك بعد الحول منها أربعة لم يسقط شيء على الأوّل ، ويسقط على الثّاني أربعة أتساع شاةٍ . هذا وأمّا الحنابلة فقد ذكروا أنّ الأوقاص لا زكاة فيها قولاً واحداً ، لأنّ الزّكاة إنّما تتعلّق بالنّصاب فقط ، فلو كان له تسع إبلٍ مغصوبةٍ حولاً ، فخلص منها بعيراً ، لزمه خمس شاةٍ .
زكاة أوقاص البقر :
8 - اختلف الفقهاء في زكاة ما زاد على الأربعين إلى السّتّين من البقر على ثلاثة أقوالٍ : أحدها : أنّ هذه الزّيادة وقص لا زكاة فيها ، وهو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه ، ودليل هذا القول « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعةً ، ومن كلّ أربعين مسنّاً أو مسنّةً ، فقالوا : الأوقاص ، فقال : ما أمرني فيها بشيءٍ ، وسأسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه ، فلمّا قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سأله عن الأوقاص فقال : ليس فيها شيء » .
وفسّروها بما بين أربعين إلى ستّين ، ولأنّ الأصل في الزّكاة أن يكون بين كلّ واجبين وقص ، لأنّ توالي الواجبات غير مشروعٍ فيها ، لا سيّما فيما يؤدّي إلى التّشقيص في المواشي .
الثّاني : وهو قول أبي حنيفة في رواية الأصل عنه - وهي الرّواية الثّانية - أنّ ما زاد على الأربعين يجب فيه بحسابه إلى السّتّين ، ففي الواحدة الزّائدة ربع عشر مسنّةٍ ، أو ثلث عشر التّبيع ، وفي الثّنتين نصف عشر مسنّةٍ أو ثلثا عشر تبيعٍ وهكذا . ودليل هذا القول هو أنّ المال سبب الوجوب ، ونصب النّصاب بالرّأي لا يجوز ، وكذا إخلاؤه عن الواجب بعد تحقّق سببه ، وأمّا حديث معاذٍ فهو غير ثابتٍ ، لأنّه لم يجتمع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه إلى اليمن في الصّحيح .
الثّالث : وهو قول أبي حنيفة في رواية الحسن عنه - وهي الرّواية الثّالثة - أنّه لا شيء في الزّيادة حتّى تبلغ خمسين ، فإذا بلغتها ففيها مسنّة وربع مسنّةٍ أو ثلث تبيعٍ . ودليل هذا القول هو أنّ الأوقاص من البقر تسع تسع ، كما قبل الأربعين وبعد السّتّين ، فكذا هنا . زكاة أوقاص الغنم :
9 - ولا زكاة في أوقاص الغنم بالاتّفاق(19/2)
أيّام التّشريق *
التّعريف :
1 - أيّام التّشريق - عند اللّغويّين والفقهاء - ثلاثة أيّامٍ بعد يوم النّحر ، قيل : سمّيت بذلك لأنّ لحوم الأضاحيّ تشرق فيها ، أي تقدّد في الشّمس .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأيّام المعدودات :
2 - الأيّام المعدودات هي الواردة في قوله تعالى : { واذْكروا اللّه في أيّامٍ مَعْدوداتٍ } وهي أيّام التّشريق الثّلاثة كما ذكر اللّغويّون والفقهاء .
ب - الأيّام المعلومات :
3 - الأيّام المعلومات الواردة في قوله تعالى : { ويذكروا اسمَ اللّه في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ } هي العشر الأوائل من ذي الحجّة ، على ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة ، وفي قولٍ عند الحنفيّة . وقيل : هي أيّام التّشريق ، وقيل : هي يوم النّحر ويومان بعده ، وهو رأي المالكيّة .
وقد روى نافع عن ابن عمر : أنّ الأيّام المعدودات والأيّام المعلومات يجمعها أربعة أيّامٍ : يوم النّحر وثلاثة بعده ، فيوم النّحر معلوم غير معدودٍ ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرّابع معدود لا معلوم . وقيل : هي يوم عرفة والنّحر والحادي عشر .
ج - أيّام النّحر :
4 - أيّام النّحر ثلاثة : العاشر والحادي عشر والثّاني عشر من ذي الحجّة ، وذلك هو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لما روي عن عمر وعليٍّ وابن عبّاسٍ وابن عمر وأنسٍ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنّهم قالوا : أيّام النّحر ثلاثة .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أيّام النّحر أربعة : يوم النّحر وأيّام التّشريق لما روى جبير بن مطعمٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ أيّام التّشريق ذبح » .
وقد روي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه ، وبه قال عطاء والحسن والأوزاعيّ وابن المنذر .
د - أيّام منًى :
5 - أيّام منًى هي أيّام التّشريق الثّلاثة ، وهي الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر من ذي الحجّة ، وتسمّى أيّام منًى وأيّام التّشريق وأيّام رمي الجمار والأيّام المعدودات ، كلّ هذه الأسماء واقعة عليها . والفقهاء يعبّرون بأيّام منًى تارةً ، وبأيّام التّشريق تارةً أخرى .
ما يتعلّق بأيّام التّشريق :
أ - رمي الجمار في أيّام التّشريق :
6 - أيّام رمي الجمار أربعة : يوم النّحر ، وثلاثة أيّام التّشريق ، فأيّام التّشريق هي وقت لرمي باقي الجمار بعد يوم النّحر ، يرمي الحاجّ كلّ يومٍ بعد الزّوال إحدى وعشرين حصاةً لثلاث جمراتٍ ، كلّ جمرةٍ سبع حصياتٍ ، والأصل في هذا ما روته السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « أفاض رسول اللّه من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منًى ، فمكث بها ليالي أيّام التّشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس ، كلّ جمرةٍ بسبع حصياتٍ ، يكبّر مع كلّ حصاةٍ ، ويقف عند الأولى والثّانية ، فيطيل القيام ويتضرّع ، ويرمي الثّالثة ولا يقف عندها » . ورمي الجمار في أيّام التّشريق واجب ، ويفوت وقت الرّمي بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فمن ترك الرّمي في هذه الأيّام سقط عنه الرّمي لفوات وقته ، ووجب عليه دم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك نُسُكاً فعليه دم » . وهذا باتّفاقٍ . وباقي تفصيل أحكام الرّمي في مصطلح ( رميٍ ، وحجٍّ ) .
ب - ذبح الهدي والأضحيّة في أيّام التّشريق :
7 - وقت ذبح الأضحيّة والهدي ثلاثة أيّامٍ : يوم الأضحى ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة والحادي عشر والثّاني عشر ، فيدخل اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة وهو المعتمد عند المالكيّة ، وقد روي ذلك عن غير واحدٍ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عبّاسٍ ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الأكل من النّسك فوق ثلاثٍ » وغير جائزٍ أن يكون الذّبح مشروعاً في وقتٍ يحرم فيه الأكل ، ثمّ نسخ تحريم الأكل وبقي وقت الذّبح بحاله .
وقد ورد عن بعض أهل المدينة إجازة الأضحيّة في اليوم الرّابع .
وعند الشّافعيّة يبقى وقت ذبح الأضحيّة والهدي إلى آخر أيّام التّشريق ، وهو الأصحّ ، كما قطع به العراقيّون ، وقد روي عن جبير بن مطعمٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ أيّام التّشريق ذبح » وروي عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال : النّحر يوم الأضحى وثلاثة أيّامٍ بعده وبه قال الحسن وعطاء والأوزاعيّ وابن المنذر .
ت - الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق :
8 - يكره الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق ، لما روت السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « وقت العمرة السّنة كلّها ، إلاّ يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق » ومثل هذا لا يعرف إلاّ بالتّوقيف . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق ، ولا يكره ذلك لعدم النّهي عنه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المحرم بالحجّ إذا أهلّ بعمرةٍ في أيّام التّشريق لزمته ، ويقطعها ، لأنّه قد أدّى ركن الحجّ من كلّ وجهٍ ، والعمرة مكروهة في هذه الأيّام ، فلهذا يلزمه قطعها ، فإن رفضها فعليه دم لقطعها ، وعمرة مكانها ، وإن مضى عليها أجزأه ، لأنّ الكراهة لمعنًى في غيرها ، وهو كونه مشغولاً في هذه الأيّام بأداء بقيّة أعمال الحجّ ، فيجب تخليص الوقت له تعظيماً ، وعليه دم لجمعه بينهما .(20/1)
وعند المالكيّة يجوز الإحرام بالعمرة في أيّ وقتٍ من السّنة ، إلاّ لمحرمٍ بحجٍّ مفرداً ، فيمنع إحرامه بالعمرة - ولا ينعقد ، ولا يجب قضاؤها - إلى أن يتحلّل من جميع أفعال الحجّ ، وذلك برمي اليوم الرّابع لغير المتعجّل ، ومضيّ قدره لمن تعجّل ، وهو قدر زمنه عقب زوال الرّابع ، فإن أحرم بالعمرة قبل غروب اليوم الرّابع صحّ إحرامه ، لكن لا يفعل شيئاً من أفعال العمرة إلاّ بعد غروب الشّمس ، فإن فعل قبله شيئاً فلا يعتدّ به على المذهب .
ث - صلاة عيد الأضحى أيّام التّشريق :
9 - صلاة عيد الأضحى تكون في اليوم الأوّل من أيّام النّحر ، فإذا تركت في اليوم الأوّل ، فإنّه يجوز أن تصلّى في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق ، وهما الثّاني والثّالث من أيّام النّحر ، وسواء أتركت بعذرٍ أم بغير عذرٍ ، إلاّ أنّها إذا تركت بغير عذرٍ فإنّ ذلك مكروه ، وتلحقهم الإساءة ، وتكون أداءً في هذه الأيّام ، وإنّما جاز الأداء في هذه الأيّام استدلالاً بالأضحيّة ، فإنّها جائزة في اليوم الثّاني والثّالث ، فكذا صلاة العيد ، لأنّها معروفة بوقت الأضحيّة فتتقيّد بأيّامها .
وهذا بالنّسبة للجماعة ، أمّا المنفرد إذا فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه ، هذا مذهب الحنفيّة . ومثله الشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّهم يجيزون صلاتها في كلّ أيّام التّشريق وفيما بعد أيّام التّشريق ، ويعتبرونها قضاءً لا أداءً . وعند المالكيّة قال في المدوّنة : من فاتته صلاة العيد مع الإمام يستحبّ له أن يصلّيها من غير إيجابٍ ، وقال ابن حبيبٍ : إن فاتت صلاة العيد جماعةً ، فأرادوا أن يصلّوا بجماعتهم فلا بأس أن يجمعها مع نفرٍ من أهله ، قال سحنون : لا أرى أن يجمعوا ، وإن أحبّوا صلّوا أفذاذاً .
ج - الصّوم في أيّام التّشريق :
10- من الأيّام الّتي نهى عن الصّيام فيها أيّام التّشريق ، ففي صحيح مسلمٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيّامُ منًى أيّامُ أكلٍ وشربٍ وذكر للّه » إلاّ أنّه يجوز للمتمتّع أو القارن الّذي لم يجد الهدي أن يصوم هذه الأيّام ، لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنّهما قالا : « لم يرخّص في أيّام التّشريق أن يُصَمْن إلاّ لمن لم يجد الهدي » .
وهذا عند الحنابلة والمالكيّة ، وفي القديم عند الشّافعيّة ، وروي عن الإمام أحمد أنّه لا يجوز صيام أيّام التّشريق عن الهدي .
وعند الحنفيّة ، وفي الجديد عند الشّافعيّة : لا يجوز صومها للنّهي الوارد في ذلك .
ومن نذر صوم سنةٍ لم يدخل في نذره أيّام التّشريق ، وأفطر ولا قضاء عليه ، لأنّه مستحقّ للفطر ولا يتناولها النّذر .
وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة ، وهو قول زفر ورواية أبي يوسف وابن المبارك عن أبي حنيفة ، وروى محمّد عن أبي حنيفة أنّه يصحّ نذره في هذه الأيّام ، لكن الأفضل أن يفطر فيها ويصوم في أيّامٍ أخر ، ولو صام في هذه الأيّام يكون مسيئاً لكنّه يخرج عن النّذر .
وروي عن الإمام مالكٍ أنّه يجوز صوم اليوم الثّالث من أيّام التّشريق لمن نذره .
ح - الخطبة في الحجّ في أيّام التّشريق :
11- يستحبّ أن يخطب الإمام في اليوم الثّاني من أيّام التّشريق خطبةً يعلّم النّاس فيها حكم التّعجيل والتّأخير وتوديعهم ، لما روي عن « رجلين من بني بكرٍ قالا : رأينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيّام التّشريق ونحن عند راحلته » .
وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند المالكيّة والحنفيّة - غير زفر - تكون الخطبة في اليوم الأوّل من أيّام التّشريق ، وهو ثاني أيّام النّحر .
خ - المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق :
12 - المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق واجب عند جمهور الفقهاء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، قالت السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أفاض رسول اللّه من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منًى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق » وقال ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : « لم يرخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأحدٍ أن يبيت بمكّة إلاّ للعبّاس من أجل سقايته » ، وروى الأثرم عن ابن عمر قال :" لا يبيتنّ أحد من الحاجّ إلاّ بمنًى ، وكان يبعث رجالاً لا يَدَعُون أحداً يبيت وراء العقبة ".
وعند الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة ، وروايةً عن الإمام أحمد : أنّ المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق سنّة وليس بواجبٍ ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « رخّص للعبّاس أن يبيت بمكّة من أجل سقايته » ولو كان ذلك واجباً لم يكن للعبّاس أن يترك الواجب لأجل السّقاية ، ولا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرخّص له في ذلك ، وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم محمول على السّنّة توفيقاً بين الدّليلين .
ومن ترك المبيت بمنًى ليلةً أو أكثر من ليالي أيّام التّشريق فعند الجمهور عليه دم لتركه الواجب ، وعند القائلين بأنّ المبيت سنّة فقد أساء لتركه السّنّة ولا شيء عليه .(20/2)
والمبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق كلّها إنّما هو بالنّسبة لغير المتعجّل ، أمّا من تعجّل فليس عليه سوى مبيت ليلتين فقط ، ولا إثم عليه في ترك مبيت اللّيلة الثّالثة للآية الكريمة . ويرخّص في ترك المبيت بمنًى للسّقاة والرّعاة ، لحديث ابن عمر « أنّ العبّاس استأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكّة ليالي منًى من أجل سقايته فأذن له » ولحديث مالكٍ : « رخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النّحر ، ثمّ يجمعوا رمي يومين بعد يوم النّحر ، فيرمونه في أحدهما » قال مالك : ظننت أنّه قال : في يومٍ منهما ، ثمّ يرمون يوم النّفر . والمريض ، ومن له مال يخاف عليه ونحوه ، كغيره من السّقاة والرّعاة ، وفي رواية ابن نافعٍ عن الإمام مالكٍ : أنّ من ترك المبيت بمنًى لضرورةٍ ، كخوفه على متاعه عليه هدي ، وإن لم يأثم . وتفصيل ذلك في مصطلح ( حجٍّ ، ورميٍ ) .
د - التّكبير في أيّام التّشريق :
13 - التّكبير في أيّام التّشريق مشروع لقوله تعالى : { واذكروا اللّهَ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ } ، والمراد أيّام التّشريق ، وهذا باتّفاق الفقهاء ، عدا أبا حنيفة فإنّه لا تكبير عنده في أيّام التّشريق .
ومع اتّفاق الفقهاء على مشروعيّة التّكبير في أيّام التّشريق ، فإنّهم يختلفون في حكمه ، فعند الحنابلة والشّافعيّة وبعض الحنفيّة هو سنّة لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك . وهو مندوب عند المالكيّة ، والصّحيح عند الحنفيّة أنّه واجب ، للأمر به في قوله تعالى : { واذْكروا اللّهَ في أيّامٍ معدوداتٍ } .
كذلك اختلف الفقهاء في وقت التّكبير ، فبالنّسبة للبدء فإنّه باتّفاق الفقهاء يكون قبل بداية أيّام التّشريق ، مع اختلافهم في كونه من ظهر يوم النّحر كما يقول المالكيّة وبعض الشّافعيّة ، أو من فجر يوم عرفة كما يقول الحنابلة وعلماء الحنفيّة في ظاهر الرّواية وفي قولٍ للشّافعيّة . وأمّا بالنّسبة للختم فعند الحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة والمالكيّة يكون إلى عصر آخر أيّام التّشريق .
والمعتمد عند المالكيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة يكون إلى صبح آخر أيّام التّشريق . وقال ابن بشيرٍ من المالكيّة : يكون إلى ظهر آخر أيّام التّشريق . والتّكبير في هذه الأيّام يكون عقيب الصّلوات المفروضة ، ولا يكون بعد النّافلة ، إلاّ في قولٍ للشّافعيّة .
وما فات من الصّلوات في أيّام التّشريق فقضي فيها فإنّه يكبّر خلفها ، وهذا عند الحنابلة والحنفيّة وفي وجهٍ عند الشّافعيّة .
أمّا إن قضى في غيرها فلا يكبّر خلفها باتّفاقٍ .
وما فات من الصّلوات في غير أيّام التّشريق فقضي فيها ، فعند الحنابلة يكبّر خلفها .
ولا تكبير خلف مقضيّةٍ مطلقاً عند المالكيّة .
وصفة التّكبير هو أن يقول : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ، اللّه أكبر ، وللّه الحمد . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة . وعند المالكيّة والشّافعيّة يكبّر ثلاثاً في الأوّل . وفي موضوع التّكبير تفصيلات أخرى تنظر في : ( تكبيرٍ - عيدٍ ) .(20/3)
أيّام منًى *
التّعريف :
1 - أيّام منًى أربعة هي : يوم النّحر وثلاثة أيّامٍ بعده ، وهي الحادي عشر ، والثّاني عشر ، والثّالث عشر من ذي الحجّة . وقد أطلق عليها هذا الاسم لعودة الحجّاج إلى منًى بعد طواف الإفاضة في اليوم العاشر من ذي الحجّة ، والمبيت بها ليالي هذا الأيّام الثّلاثة . كما أنّه يطلق على هذه الأيّام أيّام منًى ، فإنّه يطلق عليها كذلك أيّام الرّمي ، وأيّام التّشريق ، وأيّام رمي الجمار ، والأيّام المعدودات . كلّ هذه الأسماء واقعة عليها ، ويعبّر بها الفقهاء ، إلاّ أنّه اشتهر التّعبير عندهم بأيّام التّشريق أكثر من غيره .
الحكم الإجماليّ :
2 - لأيّام منًى أحكام تتعلّق بها ، كالمبيت بمنًى في هذه الأيّام ، ورمي الجمار فيها .
وقد ذكر تفصيل هذه الأحكام في مصطلح أيّام التّشريق ، نظراً لشهرة هذه الأيّام بها .
( ر : أيّام ، التّشريق ) .(21/1)
أُنُوثَةٌ التَّعْرِيفُ :
1 - الْأُنُوثَةُ خِلَافُ الذُّكُورَةِ , وَالْأُنْثَى - كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ - خِلَافُ الذَّكَرِ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى } , وَتُجْمَعُ عَلَى إنَاثٍ وَأَنَاثَى , وَامْرَأَةٌ أُنْثَى . أَيْ كَامِلَةٌ فِي أُنُوثَتِهَا . وَالْأُنْثَيَانِ : الْخُصْيَتَانِ . ( ر : خِصَاءٌ ) . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى . هَذَا , وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ لِلْأُنُوثَةِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تُمَيِّزُهَا عَنْ الذُّكُورَةِ فَضْلًا عَنْ أَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ , وَتِلْكَ الْأَمَارَاتُ إمَّا حِسِّيَّةٌ كَالْحَيْضِ , وَإِمَّا مَعْنَوِيَّةٌ كَالطِّبَاعِ . وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( خُنْثَى ) .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ )
: الْخُنُوثَةُ :
2 - الْخُنُوثَةُ حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ . وَتَذْكُرُ كُتُبُ اللُّغَةِ أَنَّ الْخُنْثَى مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا . وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ , فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ : الْخُنْثَى ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ لَهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرُ الرِّجَالِ , وَضَرْبٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( خُنْثَى ) . أَحْكَامُ الْأُنُوثَةِ أُنْثَى الْآدَمِيِّ : أَوَّلًا : تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى : يَتَمَثَّلُ تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى فِيمَا يَأْتِي : حُسْنُ اسْتِقْبَالِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهَا :
3 - كَانَ اسْتِقْبَالُ الْأُنْثَى فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ اسْتِقْبَالًا سَيِّئًا , يَتَبَرَّمُونَ بِهَا , وَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ , وَيَتَوَارَوْنَ عَنْ الْأَعْيُنِ , إذْ هِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْعَارِ , فَكَانُوا يَئِدُونَهَا حَيَّةً , وَيَسْتَكْثِرُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ الَّتِي لَا يَسْتَكْثِرُهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ , فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ , وَذَمَّ هَذَا الْفِعْلَ الشَّنِيعَ , وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ , { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } . وَنَبَّهَ الْإِسْلَامُ إلَى أَنَّ حَقَّ الْوُجُودِ وَحَقَّ الْحَيَاةِ هِبَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } . قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ : قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُونَهُنَّ , أَيْ هَذَا النَّوْعَ الْمُؤَخَّرَ الْحَقِيرَ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّسَخُّطَ بِالْإِنَاثِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسَوَّدًا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } . وَقَالَ قَتَادَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُبْثِ صَنِيعِهِمْ , فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ , وَقَضَاءُ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ , وَلَعَمْرِي مَا يَدْرِي أَنَّهُ خَيْرٌ ; لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ غُلَامٍ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمْ اللَّهُ بِصَنِيعِهِمْ لِتَجْتَنِبُوهُ وَتَنْتَهُوا عَنْهُ , وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَغْذُو كَلْبَهُ وَيَئِدُ ابْنَتَهُ . وَالْإِسْلَامُ لَا يَكْتَفِي مِنْ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ وَأْدَ الْبَنَاتِ , بَلْ يَرْتَقِي بِالْمُسْلِمِ إلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُثْلَى , فَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَرَّمَ بِذُرِّيَّةِ الْبَنَاتِ , وَيَتَلَقَّى وِلَادَتَهُنَّ بِالْعَبُوسِ وَالِانْقِبَاضِ , بَلْ يَتَقَبَّلُهَا بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ , قَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : كَانَ أَحْمَدُ إذَا وُلِدَ لَهُ ابْنَةٌ يَقُولُ : الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا آبَاءَ بَنَاتٍ , وَيَقُولُ : قَدْ جَاءَ فِي الْبَنَاتِ مَا عَلِمْت .
الْعَقُّ عَنْهَا :
4 - الْعَقِيقَةُ عَنْ الْمَوْلُودِ سُنَّةٌ , وَيَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , فَكَمَا يَعُقُّ الْوَلِيُّ عَنْ الذَّكَرِ يَوْمَ السَّابِعِ يَعُقُّ عَنْ الْأُنْثَى أَيْضًا , وَلَكِنْ يَعُقُّ عَنْ الْأُنْثَى شَاةٌ , وَعَنْ الذَّكَرِ شَاتَانِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي ( عَقِيقَةٍ ) .
تَسْمِيَتهَا بِاسْمٍ حَسَنٍ :(22/1)
5 - مِنْ السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ بِاسْمٍ حَسَنٍ , وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الذُّكُورِ مِنْ الْقَبِيحِ إلَى الْحَسَنِ , فَإِنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الْإِنَاثِ مِنْ الْقَبِيحِ إلَى الْحَسَنِ , فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ { ابْنَةً لِعُمَرَ رضي الله تعالى عنه كَانَ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةٌ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيلَةٌ } . وَالْكُنْيَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ , يَقُولُ النَّوَوِيُّ : مِنْ الْأَدَبِ أَنْ يُخَاطَبَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَمَنْ قَارَبَهُمْ بِالْكُنْيَةِ , وَقَدْ كُنِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي الْقَاسِمِ , بِابْنِهِ الْقَاسِمِ . وَالْكُنْيَةُ كَمَا تَكُونُ لِلذَّكَرِ تَكُونُ لِلْأُنْثَى . قَالَ النَّوَوِيُّ : رَوَيْنَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ { عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى , قَالَ : فَاكْتَنِّي بِابْنِك عَبْدِ اللَّهِ } قَالَ الرَّاوِي . يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ , وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُكَنَّى بِي عَبْدِ اللَّهِ .
لَهَا نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ :
6 - جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأُنْثَى نَصِيبًا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا لِلذَّكَرِ نَصِيبٌ , وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْإِنَاثَ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } أَيْ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الْوِرَاثَةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ , فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : { نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } . الْآيَةَ فِي أُمِّ كَجَّةَ وَبَنَاتِهَا وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٍ وَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ , وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا , فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ وَلَمْ نُوَرَّثْ , فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَلَدُهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا , وَلَا يَنْكَأُ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْسِبُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قوله تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ , قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَك فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا , وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا , وَلَا يُنْكَحَانِ إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ : يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ , فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ , فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ : أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ , وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ , وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَك } .
رِعَايَةُ طُفُولَتِهَا , وَعَدَمُ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَيْهَا :(22/2)
7 - يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِالْأُنْثَى فِي كُلِّ أَطْوَارِ حَيَاتِهَا فَيَرْعَاهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ , وَيَجْعَلُ رِعَايَتَهَا سِتْرًا مِنْ النَّارِ وَسَبِيلًا إلَى الْجَنَّةِ . فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { مَنْ عَالَ جَارَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ , وَضَمَّ أَصَابِعَهُ } . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَيْهَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالْعِنَايَةِ , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ يَعْنِي الذُّكُورَ عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ } . وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ , ثُمَّ جَاءَتْ بِنْتُهُ فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا إلَى جَنْبِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : فَمَا عَدَلْت بَيْنَهُمَا } . وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْعَطِيَّةِ , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يَبْطُلُ الْوَقْفُ إذَا وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ دُونَ بَنَاتِهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَتَشْمَلُ الْعِنَايَةُ بِهَا فِي طُفُولَتِهَا تَأْهِيلَهَا لِحَيَاتِهَا الْمُسْتَقْبَلَةِ , فَيُسْتَثْنَى مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ الصُّوَرِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ , وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَهُنَّ ; لِأَنَّهُنَّ يَتَدَرَّبْنَ بِذَلِكَ عَلَى رِعَايَةِ الْأَطْفَالِ , وَقَدْ { كَانَ لِعَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها جَوَارٍ يُلَاعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ , فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَمَّعْنَ , وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَرِيهَا لَهَا } . ( ر : تَصْوِيرٌ ) .
إكْرَامُ الْأُنْثَى حِينَ تَكُونُ زَوْجَةً :
8 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْسَانِ مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَالَ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ , وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ , كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ , قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي } , وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ جَمِيلُ الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ , يُدَاعِبُ أَهْلَهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ , حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله تعالى عنها يَتَوَدَّدُ إلَيْهَا بِذَلِكَ , قَالَتْ : سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْته وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ , ثُمَّ سَابَقْته بَعْدَمَا حَمَلْت اللَّحْمَ فَسَبَقَنِي فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِلْكَ " , وَ " كَانَ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ " . وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى لَوْ كَرِهَهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ , أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إمْسَاكِهِنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ , وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً , إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ } . هَذَا , وَحُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ , وَنَذْكُرُ هُنَا مَثَلًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ , يَتَّصِلُ بِإِكْرَامِ أُمُومَةِ الْأُنْثَى , فَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْوِصَايَةِ بِالْأُمِّ وَقَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ عَلَى الْأَبِ , رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : أُمُّك , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوك } . وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِضَاهَا طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ , فَقَدْ { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْت الْغَزْوَ وَجِئْت أَسْتَشِيرُك , فَقَالَ : فَهَلْ لَك مِنْ أُمٍّ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : فَالْزَمْهَا , فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا } .(22/3)
ثَانِيًا : الْحُقُوقُ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا مَعَ الرَّجُلِ : تَتَسَاوَى الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِمَا يَتَلَاءَمُ مَعَ طَبِيعَتِهَا .
وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُقُوقِ :
أ - حَقُّ التَّعْلِيمِ :
9 - لِلْمَرْأَةِ حَقُّ التَّعْلِيمِ مِثْلُ الرَّجُلِ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } . وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا , فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ : قَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ( وَمُسْلِمَةٍ ) وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا , وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا , وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنْ النَّارِ } . وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْعَيْنَ إلَى الْعِلْمِ . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : غَلَبَنَا عَلَيْك الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِك , فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ } . وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ : نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ , وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ بِمَنْطُوقِهِ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ , وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ , ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا , وَتَعْلِيمُهُمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ , وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا , وَأَنَّهُمْ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُونَ فِي التَّكْلِيفِ , وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ , وَأُجْرَةُ التَّعْلِيمِ تَكُونُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ , وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِلْأُمِّ مَدْخَلًا فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ ; لِكَوْنِهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَالنَّفَقَةِ . وَمِنْ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ ضَرُورَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ الرِّجَالُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ . جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ , لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا , لَكِنْ يُعَلِّمُ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا , فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِيهَا وَلَا امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ ذَلِكَ إذَا عُلِّمَتْ , وَخِيفَ عَلَيْهَا الْبَلَاءُ أَوْ الْوَجَعُ أَوْ الْهَلَاكُ فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ , ثُمَّ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ , وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إلَّا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
10 - وَإِذَنْ , فَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الْأُنْثَى . لَكِنْ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا مُخَالَفَةَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنْ النَّوَاحِي الْآتِيَةِ :
أ - أَنْ تَحْذَرَ الِاخْتِلَاطَ بِالشَّبَابِ فِي قَاعَاتِ الدَّرْسِ , فَلَا تَجْلِسْ الْمَرْأَةُ بِجَانِبِ الرَّجُلِ , فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ الرِّجَالِ يَعِظُهُنَّ فِيهِ . بَلْ حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ لَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ , بَلْ يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَمِعْنَ إلَى الْوَعْظِ وَيُؤَدِّينَ الصَّلَاةَ , وَلَا يَجِبُ اسْتِحْدَاثُ مَكَان خَاصٍّ لِصَلَاتِهِنَّ , أَوْ إقَامَةِ حَاجِزٍ بَيْنَ صُفُوفِهِنَّ وَصُفُوفِ الرِّجَالِ . ب - أَنْ تَكُونَ مُحْتَشِمَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةً بِزِينَتِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَمِنْ إشَاعَةِ الْفَسَادِ .
ب - أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ :(22/4)
11 - الْمَرْأَةُ أَهْلٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ الرَّجُلِ , وَوَلِيُّ أَمْرِهَا مُطَالَبٌ بِأَمْرِهَا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ , وَتَعْلِيمِهَا لَهَا مُنْذُ الصِّغَرِ ; لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ , وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ , وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ . وَهِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُكَلَّفَةٌ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ - زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ - مَنْعُهَا مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ . فَجُمْلَةُ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ يَسْتَوِي فِي التَّكْلِيفِ بِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى . يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَيُؤَكِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ , فَنَزَلَتْ } . وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُذْكَرُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا نُذْكَرُ ؟ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَفِي اسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِسُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } . وَلَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ , وَيَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ . وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَاتِ هُوَ فِي الْإِثْمِ كَمَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } . وَهِيَ مُطَالَبَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَالرَّجُلِ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتَوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبِلَادَ . يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : إذَا غَشِيَ الْعَدُوُّ مَحَلَّةَ قَوْمٍ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ; لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْعَيْنِ . وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي فَتَرَاتِ تَعَبِهَا مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَالرَّضَاعِ . وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَلِكَ فِي ( حَيْضٌ , حَمْلٌ , نِفَاسٌ , رَضَاعٌ ) . ج - احْتِرَامُ إرَادَتِهَا :(22/5)
12 - لِلْأُنْثَى حُرِّيَّةُ الْإِرَادَةِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِهَا , وَقَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْحَقَّ الَّذِي سَلَبَتْهُ مِنْهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَحَرَمَتْهَا مِنْهُ , فَقَدْ كَانَتْ حِينَ يَمُوتُ زَوْجُهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا شَيْئًا , وَكَانَ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُ مَالَ زَوْجِهَا . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قَالَ : كَانُوا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ , إنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا , وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ , وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ كَانَ أَهْلُ يَثْرِبَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ , وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ , وَكَانَ أَهْلُ تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُلُ صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَلَّا تَنْكِحَ إلَّا مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا , فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَبِيشَةِ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْأَوْسِ , تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ , فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ , فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَرِثْت زَوْجِي , وَلَا أَنَا تُرِكْت فَأُنْكَحَ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : فَالْآيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ , وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ . وَإِرَادَتُهَا كَذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نِكَاحِهَا , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ : { لَا تُنْكَحْ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ , وَلَا تُنْكَحْ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ } . وَالِاسْتِئْمَارُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , وَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهَا فَنِكَاحُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهَا , عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ . وَهُوَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إذَا أَنْكَحَهُنَّ } . وَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . بَلْ إنَّهَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . جَاءَ فِي الِاخْتِيَارِ : عِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ , حَتَّى لَوْ زَوَّجَتْ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ , وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَةِ أَوْ الْوَكَالَةِ , وَكَذَا إذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا , أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ , وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ حِزَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ , فَرَدَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم } وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه فَأَجَازَ النِّكَاحَ . هَذَا دَلِيلُ الِانْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ , وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ ; لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا , وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَيَنْفُذُ , كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا . هَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ , وَتَفْصِيلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا يَنْظُر فِي ( نِكَاحٍ ) .
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشَارَكَةُ زَوْجِهَا الرَّأْيَ بَلْ وَمُعَارَضَتُهُ(22/6)
, { قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَاَللَّهُ إنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا , حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ , وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ , قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إذْ قَالَتْ امْرَأَتِي : لَوْ صَنَعْت كَذَا وَكَذَا , قَالَ : فَقُلْت لَهَا : مَا لَكَ وَلِمَا هَا هُنَا , فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ ؟ فَقَالَتْ لِي : عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ , مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ , وَإِنَّ ابْنَتَك لَتُرَاجِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ . فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ , فَقَالَ لَهَا : يَا بُنَيَّةُ إنَّك لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ : وَاَللَّهِ إنَّا لَنُرَاجِعُهُ . فَقُلْت : تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُك عُقُوبَةَ اللَّهِ , وَغَضَبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهَا - يُرِيدُ عَائِشَةَ - قَالَ : خَرَجَتْ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا , فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ , دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ , حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجِهِ . فَأَخَذَتْنِي وَاَللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ , فَخَرَجْت مِنْ عِنْدَهَا , وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إذَا غِبْت أَتَانِي بِالْخَبَرِ , وَإِذَا غَابَ كُنْت أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ , وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إلَيْنَا , فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ , فَإِذَا صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ , فَقَالَ : افْتَحْ افْتَحْ , فَقُلْت : جَاءَ الْغَسَّانِيُّ ؟ فَقَالَ : بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ , اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْوَاجَهُ , فَقُلْت رَغَمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ . فَأَخَذْتُ ثَوْبِي , فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْت , فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ , وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ , فَقُلْت لَهُ : قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ . فَأَذِنَ لِي . قَالَ عُمَرُ : فَقَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ , فَلَمَّا بَلَغْت حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ , وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ , وَإِنْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا , وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ , فَرَأَيْت أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْت , فَقَالَ : مَا يُبْكِيك ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ , وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ , فَقَالَ : أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ } ؟
وَاسْتِشَارَةُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِشُئُونِ النِّسَاءِ أَوْ فِيمَا لَدَيْهَا خِبْرَةٌ بِهِ مَطْلُوبَةٌ , بِأَصْلِ نَدْبِ الْمَشُورَةِ فِي قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ : { لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا , فَمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ , فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ , قَالَتْ لَهُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً , حَتَّى تَنْحَرَ بُدُنَك , وَتَدْعُوَ حَالِقَك فَيَحْلُقَك , فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ , نَحَرَ بُدُنَهُ , وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ , فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا } .(22/7)
وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْقِدَ الْأَمَانَ مَعَ الْكُفَّارِ , وَيَسْرِي ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَفِي الْمُغْنِي : إذَا أَعْطَتْ الْمَرْأَةُ الْأَمَانَ لِلْكُفَّارِ جَازَ عَقْدُهَا , وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها : إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ , وَعَنْ { أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجَرْت أَحْمَائِي وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمْ , وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ , فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمَّ هَانِئٍ } , وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ .
د - ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ :
13 - لِلْأُنْثَى ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالرَّجُلِ , وَحَقُّهَا فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً ; لقوله تعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } . وَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِدُونِ إذْنٍ مِنْ أَحَدٍ , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . أَمَّا تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا عَنْ طَرِيقِ التَّبَرُّعِ بِهِ , فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : يَجُوزُ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي كُلِّ مَالِهَا بِالتَّبَرُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَرِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ : { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ } وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ , وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ . وَلِهَذَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ بِدُونِ إذْنٍ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا , فَلَمْ يَمْلِكْ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ . وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ , وَلَا يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا . وَلِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ ذِمَّةً مَالِيَّةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لَهَا أَنْ تَضْمَنَ غَيْرَهَا , جَاءَ فِي الْمُغْنِي : يَصِحُّ ضَمَانُ كُلِّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ , سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ; لِأَنَّهُ عَمْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ , فَصَحَّ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ . وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِكُلِّ مَالِهَا , أَمَّا مَنْ لَا يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا , فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهَا الضَّمَانَ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا أَوْ بِزَائِدٍ يَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الضَّمَانَ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ , وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ .
هـ - حَقُّ الْعَمَلِ :(22/8)
14 - الْأَصْلُ أَنَّ وَظِيفَةَ الْمَرْأَةِ الْأُولَى هِيَ إدَارَةُ بَيْتِهَا وَرِعَايَةُ أُسْرَتِهَا وَتَرْبِيَةُ أَبْنَائِهَا وَحُسْنُ تَبَعُّلِهَا , يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا } . وَهِيَ غَيْرُ مُطَالَبَةٍ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهَا , فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ عَلَى أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا ; لِذَلِكَ كَانَ مَجَالُ عَمَلِهَا هُوَ الْبَيْتُ , وَعَمَلُهَا فِي الْبَيْتِ يُسَاوِي عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ . وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنْ الْعَمَلِ فَلَهَا أَنْ تَبِيعَ وَتَشْتَرِيَ , وَأَنْ تُوَكِّلَ غَيْرَهَا , وَيُوَكِّلَهَا غَيْرُهَا , وَأَنْ تُتَاجِرَ بِمَالِهَا , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَتْ مُرَاعِيَةً أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَآدَابَهُ , وَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا , قَالَ الْفُقَهَاءُ : لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى إبْرَازِ الْوَجْهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ , وَإِلَى إبْرَازِ الْكَفِّ لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ . وَفِي الِاخْتِيَارِ : لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إلَّا إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ . . ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهَا عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ ; لِإِقَامَةِ مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِأَسْبَابِ مَعَاشِهَا . وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ الْمَرْأَةِ كَثِيرَةٌ , وَاَلَّذِي يُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُهُ مِنْهَا , أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْحَقَّ فِي الْعَمَلِ بِشَرْطِ إذْنِ الزَّوْجِ لِلْخُرُوجِ , إنْ اسْتَدْعَى عَمَلُهَا الْخُرُوجَ وَكَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ , وَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْإِذْنِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا . جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : إذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحَقَّقَ الْإِعْسَارُ فَالْأَظْهَرُ إمْهَالُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ , وَلِلزَّوْجَةِ - وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً - الْخُرُوجُ زَمَنَ الْمُهْلَةِ نَهَارًا لِتَحْصِيلِ النَّفَقَةِ بِنَحْوِ كَسْبٍ , وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي مُقَابِلِ النَّفَقَةِ . وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ : إذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِالنَّفَقَةِ خُيِّرَتْ الزَّوْجَةُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ مَعَ مَنْعِ نَفْسِهَا , فَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَمَكَّنَتْهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَلَا يَمْنَعُهَا تَكَسُّبًا , وَلَا يَحْبِسُهَا مَعَ عُسْرَتِهِ إذَا لَمْ تَفْسَخْ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا إذَا كَفَاهَا الْمَئُونَةَ وَأَغْنَاهَا عَمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ . جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَابِلَةً , أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ , أَوْ لِآخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ تَخْرُجُ بِالْإِذْنِ وَبِغَيْرِ الْإِذْنِ , وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ . إلَّا أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا فِي الْفَتْحِ قَالَ : وَفِي الْبَحْرِ عَنْ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِالْإِذْنِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ . هَذَا , وَإِذَا كَانَ لَهَا مَالٌ فَلَهَا أَنْ تُتَاجِرَ بِهِ مَعَ غَيْرِهَا , كَأَنْ تُشَارِكَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً دُونَ إذْنٍ مِنْ أَحَدٍ . جَاءَ فِي جَوَاهِرِ الْإِكْلِيلِ : قِرَاضُ الزَّوْجَةِ أَيْ دَفْعُهَا مَالًا لِمَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ , فَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهَا فِيهِ اتِّفَاقًا ; لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ . 15 - ثُمَّ إنَّهَا لَوْ عَمِلَتْ مَعَ الزَّوْجِ كَانَ كَسْبُهَا لَهَا . جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ : أَفْتَى الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي زَوْجَيْنِ سَعَيَا وَحَصَّلَا أَمْوَالًا أَنَّهَا لَهُ ; لِأَنَّهَا مُعِينَةٌ لَهُ , إلَّا إذَا كَانَ لَهَا كَسْبٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَهَا ذَلِكَ . وَفِي الْفَتَاوَى : امْرَأَةٌ مُعَلَّمَةٌ , يُعِينُهَا الزَّوْجُ أَحْيَانًا فَالْحَاصِلُ لَهَا , وَفِي الْتِقَاطِ السُّنْبُلَةِ إذَا الْتَقَطَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا . كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُوَجِّهَ ابْنَتَهُ لِلْعَمَلِ : جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ : لِلْأَبِ أَنْ يَدْفَعَ ابْنَتَهُ لِامْرَأَةٍ تُعَلِّمُهَا حِرْفَةً كَتَطْرِيزٍ وَخِيَاطَةٍ . وَإِذَا عَمِلَتْ الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودٍ لَا تَتَنَافَى مَعَ مَا يَجِبُ مِنْ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَالْعَفَافِ وَالشَّرَفِ .
وَيُمْكِنُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِمَا يَأْتِي :(22/9)
( 1 ) أَلَّا يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْصِيَةً كَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ , وَأَلَّا يَكُونَ مَعِيبًا مُزْرِيًا تُعَيَّرُ بِهِ أُسْرَتُهَا . جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ : إذَا آجَرَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَا يُعَابُ بِهِ كَانَ لِأَهْلِهَا أَنْ يُخْرِجُوهَا مِنْ تِلْكَ الْإِجَارَةِ , وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ : تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلْ بِثَدْيَيْهَا , وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى فِي امْرَأَةٍ نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالًا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ .
( 2 ) أَلَّا يَكُونَ عَمَلُهَا مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَلْوَةٌ بِأَجْنَبِيٍّ . جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ : كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِخْدَامَ الْمَرْأَةِ وَالِاخْتِلَاءَ بِهَا ; لِمَا قَدْ يُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ , أَمَّا الْخَلْوَةُ ; فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ , وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ ; فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا } وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مَعَ الْخَلْوَةِ مُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ .
( 3 ) أَلَّا تَخْرُجَ لِعَمَلِهَا مُتَبَرِّجَةً مُتَزَيِّنَةً بِمَا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } , وَفِي الْحَدِيثِ : { الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا نُورَ لَهَا } .
ثَالِثًا : الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأُنْثَى : لِلْأُنْثَى أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِالْعَوْرَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا , وَمِنْهَا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِزَوْجٍ , وَمِنْهَا الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِالْعِبَادَاتِ أَوْ الْوِلَايَاتِ أَوْ الْجِنَايَاتِ . .
وَهَكَذَا . وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي : بَوْلُ الْأُنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُلْ الطَّعَامَ :
16 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي إزَالَةِ نَجَاسَةِ بَوْلِ الْأُنْثَى الرَّضِيعَةِ الَّتِي لَمْ تَأْكُلْ الطَّعَامَ عَنْ بَوْلِ الذَّكَرِ الرَّضِيعِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ , وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ نَضْحُهُ بِالْمَاءِ ( أَيْ أَنْ يَرُشَّهُ بِالْمَاءِ ) وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي إزَالَةِ بَوْلِ الْأُنْثَى , بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ , وَذَلِكَ لِحَدِيثِ { أُمِّ قَيْسِ بْنِ مُحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ , فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ , فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى , وَيُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ } . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ بَوْلُ كُلٍّ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ الصَّيِّبَةِ لِنَجَاسَتِهِ ; لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ } .
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْضٍ وَحَمْلٍ :
17 - مِنْ الْفِطْرَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِنْسَانَ عَلَيْهَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ يَمِيلُ إلَى الْآخَرِ , وَجَعَلَ الِاتِّصَالَ الشَّرْعِيَّ بَيْنَهُمَا وَسِيلَةً لِامْتِدَادِ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَالُدِ . وَاخْتَصَّ الْأُنْثَى مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحِيضُ وَتَحْمِلُ وَتَلِدُ وَتُرْضِعُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ نُوجِزُهَا فِيمَا يَلِي : ( 1 ) يُعْتَبَرُ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ مِنْ عَلَامَاتِ بُلُوغِ الْأُنْثَى .
( 2 ) التَّخْفِيفُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ , فَتَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ أَثْنَاءَ الْحَيْضِ دُونَ قَضَاءٍ , وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِفْطَارُ مَعَ الْقَضَاءِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ , وَجَوَازُ الْإِفْطَارِ أَثْنَاءَ الْحَمْلِ أَوْ الرَّضَاعَةِ , إنْ كَانَ الصِّيَامُ يَضُرُّ بِهَا أَوْ بِوَلَدِهَا .
( 3 ) وَالِاعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ وَبِالْحَمْلِ فِي احْتِسَابِ الْعِدَّةِ .
( 4 ) وَالِامْتِنَاعُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , وَعَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ , وَعَنْ تَمْكِينِ زَوْجِهَا مِنْهَا أَثْنَاءَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ .(22/10)
( 5 ) وَوُجُوبُ الْغُسْلِ عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( حَيْضٍ , حَمْلٍ , نِفَاسٍ , رَضَاعٍ ) .
لَبَنُ الْأُنْثَى :
18 - لَا يَخْتَلِفُ لَبَنُ الْأُنْثَى بِالنِّسْبَةِ لِطَهَارَتِهِ عَنْ لَبَنِ الذَّكَرِ - لَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ - فَلَبَنُ الْأُنْثَى طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ . وَلَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أَنَّ لَبَنَ الْأُنْثَى يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْرَمِيَّةُ الرَّضَاعِ . أَمَّا الرَّجُلُ فَلَوْ كَانَ لَهُ لَبَنٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ ( الرَّضَاعُ , وَالنِّكَاحُ ) .
خِصَالُ الْفِطْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى :
19 - تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لَهَا إزَالَةُ لِحْيَتِهَا لَوْ نَبَتَتْ . وَالسُّنَّةُ فِي عَانَتِهَا النَّتْفُ . وَلَا يَجِبُ خِتَانُهَا فِي وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُمَةٌ . وَتُمْنَعُ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهَا .
عَوْرَةُ الْأُنْثَى :
20 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ بَدَنَ الْأُنْثَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ كُلَّهُ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ , وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَجْهِ , وَفِي رِوَايَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّيْنِ , وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى هُمَا عَوْرَةٌ . وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْكَفَّيْنِ , فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُمَا عَوْرَةٌ , وَفِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ : الْأَصَحُّ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ , وَاعْتَمَدَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ . وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَهُمَا عَوْرَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ غَيْرَ الْمُزَنِيِّ , وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ . وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ , وَهُوَ رَأْيُ الْمُزَنِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( عَوْرَةٍ ) . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ } وَقَوْلُهُ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ } وَالْمُرَادُ بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ .
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْأُنْثَى :
21 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الرَّجُلِ لِلْأُنْثَى الْمُشْتَهَاةِ . فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْتَقَضُ بِاللَّمْسِ ; لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ , ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِاللَّمْسِ إنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا حِينَ اللَّمْسِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رحمه الله , وَهُوَ أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ , وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إنْ كَانَ اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ . وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ . وَالْقُبْلَةُ بِالْفَمِ تَنْقُضُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , أَيْ دُونَ تَقْيِيدٍ بِقَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجْدَانِهَا , إلَّا إذَا كَانَتْ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ فَلَا تَنْقُضُ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّ اللَّمْسَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِكُلِّ حَالٍ ; لِعُمُومِ قوله تعالى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } . وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْأُنْثَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى , وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ . وَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ كَذَلِكَ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ عَلَى الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( وُضُوءٍ ) .
حُكْمُ دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ .(22/11)
22 - يَنْبَنِي حُكْمُ دُخُولِ النِّسَاءِ الْحَمَّامَاتِ الْعَامَّةِ عَلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَسِتْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , فَإِنْ كَانَتْ الْعَوْرَةُ مَسْتُورَةً , وَلَا تَرَى وَاحِدَةٌ عَوْرَةَ الْأُخْرَى فَالدُّخُولُ جَائِزٌ , وَإِلَّا كَانَ الدُّخُولُ مَكْرُوهًا تَحْرِيمًا , كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ , وَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ . وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ مُطْلَقًا , وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيلَ : يُكْرَهُ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ الْحَنَابِلَةُ ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ , وَسَتَجِدُونَ فِيهَا حَمَّامَاتٍ , فَامْنَعُوا نِسَاءَكُمْ إلَّا حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ } . وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا دُخُولُ الْحَمَّامِ لِعُذْرٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ .
الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَظَاهِرِ الْأُنُوثَةِ :
23 - يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ الْأُنْثَى تُحَافِظُ عَلَى مَظَاهِرِ أُنُوثَتِهَا , فَحَرَّمَ عَلَيْهَا التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فِي أَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ لِبَاسٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ أَيِّ تَصَرُّفٍ . وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ { أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا , فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ , وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ : تَرَجُّلَ الْمَرْأَةِ وَتَخَنُّثَ الرَّجُلِ . وَقَدْ أَبَاحَ لَهَا الْإِسْلَامُ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْ وَسَائِلِ الزِّينَةِ مَا يَكْفُلُ لَهَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى أُنُوثَتِهَا , فَيَحِلُّ ثَقْبُ أُذُنِهَا لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ فِيهِ . يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : لَا بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ النِّسْوَانِ , وَلَا بَأْسَ بِثَقْبِ آذَانِ الْأَطْفَالِ مِنْ الْبَنَاتِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ , يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ : الْأُنْثَى مُحْتَاجَةٌ لِلْحِلْيَةِ فَثَقْبُ الْأُذُنِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهَا . وَيُبَاحُ لَهَا التَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ دُونَ الرِّجَالِ ; لِأَنَّهُ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ , فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { حَرَامٌ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي , وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ } قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : أُبِيحَ التَّحَلِّي فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِحَاجَتِهَا إلَى التَّزَيُّنِ لِلزَّوْجِ وَالتَّجَمُّلِ عِنْدَهُ . كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْضِبَ يَدَيْهَا , وَأَنْ تُعَلِّقَ الْخَرَزَ فِي شَعْرِهَا , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الزِّينَةِ .
وُجُوبُ التَّسَتُّرِ وَعَدَمُ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ :(22/12)
24 - إذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ لِحَاجَتِهَا لَا تَخْرُجُ إلَّا مُتَسَتِّرَةً . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَحَيْثُ أَبَحْنَا لَهَا الْخُرُوجَ فَإِنَّمَا يُبَاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الزِّينَةِ , وَعَدَمِ تَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ إلَى مَا يَكُونُ دَاعِيَةً لِنَظَرِ الرِّجَالِ وَالِاسْتِمَالَةِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } . قَالَ مُجَاهِدٌ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ , فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ . وَقَالَ قَتَادَةَ : كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةُ تَكَسُّرٍ وَتَغَنُّجٍ , فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا أَمَامَ النَّاسِ مِمَّا يَظْهَرُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِهَا الْوَاجِبِ سِتْرُهُ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَشِفُّ عَمَّا تَحْتَهُ ; لِأَنَّهُ إذَا اسْتَبَانَ جَسَدُهَا كَانَتْ كَاسِيَةً عَارِيَّةً حَقِيقَةً . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : { سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ , عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ , الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ } . وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي : لَا يَلْبَسُ النِّسَاءُ مِنْ الرَّقِيقِ مَا يَصِفُهُنَّ إذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ , وَالْخُرُوجُ لَيْسَ بِقَيْدٍ , وَحَاصِلُ الْمَعْنَى : أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يُرَى مِنْهُ جَسَدُهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ . وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْتِيَ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا يُلْفِتُ النَّظَرَ إلَيْهَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ بِهَا , قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ , وَفِي رِجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ لَا يُعْلَمُ صَوْتُهُ , ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الْأَرْضَ فَيَسْمَعُ الرِّجَالُ طَنِينَهُ , فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا , فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ خَفِيٌّ دَخَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ لقوله تعالى : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْهَى عَنْ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا فَيَشُمُّ الرِّجَالُ طِيبَهَا , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ , وَالْمَرْأَةُ إذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا } يَعْنِي زَانِيَةً . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنْهَيْنَ عَنْ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ ; لِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ , وَقَدْ اخْتَلَطَ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ فِي الطَّرِيقِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاءِ : اسْتَأْخِرْنَ , فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ , عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ } . وَلَا تَجُوزُ خَلْوَةُ الْمَرْأَةِ بِالْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ فِي عَمَلٍ , وَالْمُرَادُ بِالْخَلْوَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ فِي مَكَان يَأْمَنَانِ فِيهِ مِنْ دُخُولِ ثَالِثٍ . ( ر : خَلْوَةٌ ) . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا ; لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا } . وَيُمْنَعُ الِاخْتِلَاطُ الْمُرِيبُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( اخْتِلَاطٌ ) .
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخُصُّ النِّسَاءَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ :
25 - الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي أَهْلِيَّةِ الْعِبَادَةِ . إلَّا أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورَةً بِالتَّسَتُّرِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ الْمُرِيبِ بِالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ فَإِنَّهَا تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي عِبَادَاتِهَا . وَمِنْ ذَلِكَ :
( 1 ) الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ : فَالْأَصْلُ أَنَّهَا لَا تُؤَذِّنُ وَلَا تُقِيمُ ( ر : أَذَانٌ . إقَامَةٌ ) .
( 2 ) وَلَا تَؤُمُّ الرِّجَالَ , بَلْ يُكْرَهُ لَهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ . ( ر : إمَامَةٌ ) .
( 3 ) وَمِنْهَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامَةِ إحْدَاهُنَّ , فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ لَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ , خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِهَا لَهُنَّ , وَلَوْ لَمْ يَؤُمَّهُنَّ رِجَالٌ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي ( صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ) .(22/13)
( 4 ) وَمِنْهَا حُضُورُ الْمَرْأَةِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ : فَيَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ حُضُورُ الْمَرْأَةِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ , وَكَذَا حُضُورُهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ . وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ ( صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ . صَلَاةَ الْجُمُعَةِ . صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ ) .
هـ - ( هَيْئَتُهَا فِي الصَّلَاةِ ) :
26 - الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي عَمَلِ الْعِبَادَاتِ , إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْهَيْئَاتِ فِي الصَّلَاةِ , وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي : يُسْتَحَبُّ أَنْ تَجْمَعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ , فَتَضُمَّ مِرْفَقَيْهَا إلَى الْجَنْبَيْنِ وَلَا تُجَافِيهِمَا , وَتَنْحَنِيَ قَلِيلًا فِي رُكُوعِهَا , وَلَا تَعْتَمِدَ , وَلَا تُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهَا , بَلْ تَضُمُّهَا , وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا , وَتَحْنِي رُكْبَتَهَا , وَتُلْصِقُ مِرْفَقَيْهَا بِرُكْبَتَيْهَا . وَفِي سُجُودِهَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهَا , وَتَنْضَمُّ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتُرُ لَهَا , فَلَا يُسَنُّ لَهَا التَّجَافِي كَالرِّجَالِ ; لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى امْرَأَتَيْنِ تُصَلِّيَانِ , فَقَالَ : إذَا سَجَدْتُمَا فَضُمَّا بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى بَعْضٍ , فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ } . وَلِأَنَّهَا عَوْرَةٌ فَالْأَلْيَقُ بِهَا الِانْضِمَامُ . كَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُكَثِّفَ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيَهُ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً , لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا , وَأَنْ تَخْفِضَ صَوْتَهَا , وَتَجْلِسَ مُتَرَبِّعَةً ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلَاةِ , أَوْ تَسْدُلَ رِجْلَيْهَا عَنْ يَمِينِهَا , وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ التَّرَبُّعِ ; لِأَنَّهُ غَالِبُ فِعْلِ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها وَأَشْبَهُ بِجِلْسَةِ الرَّجُلِ , وَهُوَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ . كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ عَقِبَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الرِّجَالِ , حَتَّى لَا يَخْتَلِطْنَ بِالرِّجَالِ . فَقَدْ رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ , وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ . قَالَتْ : نَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ } .
و - ( الْحَجُّ ) :
27 - مَا يَتَّصِلُ بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَمْرَانِ : الْأَوَّلُ : بِالنِّسْبَةِ لِلْوُجُوبِ . وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي : مِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ - بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَغَيْرِهِمَا - مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا , وَيُزَادُ عَلَى ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ : أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ ; لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ , وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ . فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ ; لِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا زَوْجٌ وَلَا مَحْرَمٌ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا , إذْ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ , إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُ . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي ( حَجٍّ ) . وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ , أَمَّا النَّفَلُ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لَهُ دُونَ الزَّوْجِ أَوْ الْمَحْرَمِ . الثَّانِي : بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ فَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ , إلَّا أَنَّهَا تَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ ذَلِكَ : - أَنَّهَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ كَالْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ وَمَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا ; لِأَنَّ بَدَنَهَا عَوْرَةٌ , وَلَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ ( ر : إحْرَامٌ ) . - وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ رَمَلٌ فِي طَوَافِهَا , وَلَا إسْرَاعٌ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ , وَلَيْسَ عَلَيْهَا اضْطِبَاعٌ أَيْضًا . وَالْمَشْرُوعُ لِلْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ . ( ر : حَجٌّ ) . - وَلَا تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا تُسْمِعُ رَفِيقَتَهَا . ( ر : حَجٌّ . تَلْبِيَةٌ ) .
ز - ( الْخُرُوجُ مِنْ الْمَنْزِلِ ) :(22/14)
28 - إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُتَزَوِّجَةً فَإِنَّهَا تَرْتَبِطُ فِي خُرُوجِهَا مِنْ الْمَنْزِلِ بِإِذْنِ زَوْجِهَا . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ { : رَأَيْت امْرَأَةً أَتَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ ؟ قَالَ : حَقُّهُ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ , فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَهَا اللَّهُ وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَرْجِعَ } ; وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ وَاجِبٌ , فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَخُرُوجُ الزَّوْجَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا يَجْعَلُهَا نَاشِزًا , وَيُسْقِطُ حَقَّهَا فِي النَّفَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ , لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا وَعِيَادَتِهِمَا ; لِأَنَّ عَدَمَ الزِّيَارَةِ نَوْعٌ مِنْ الْعُقُوقِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ . كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَدُرُوسِ الْوَعْظِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا } . لَكِنْ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا أَمِنَ عَلَيْهَا , وَكَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ مِنْ خُرُوجِهَا , فَإِنْ كَانَ يَخْشَى الْفِتْنَةَ فَلَهُ مَنْعُهَا . وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا وَلَوْ عَجُوزًا لِفَسَادِ الزَّمَانِ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ : لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ .
ح - التَّطَوُّعُ بِالْعِبَادَاتِ :(22/15)
29 - الزَّوْجَةُ مُرْتَبِطَةٌ كَذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فِي التَّطَوُّعِ بِالْعِبَادَاتِ , فَلَا يَجُوزُ لَهَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ اعْتِكَافٍ بِدُونِ إذْنِهِ , إذَا كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهَا عَنْ حَقِّهِ ; لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ , فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَفْلٍ ; وَلِأَنَّ لَهُ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا , وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الِاعْتِكَافِ , وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِصَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ اعْتِكَافٍ دُونَ إذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَهَا فِي الصَّوْمِ , وَيُحَلِّلَهَا مِنْ الْحَجِّ , وَيُخْرِجَهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ غَيْرِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ , فَكَانَ لِرَبِّ الْحَقِّ الْمَنْعُ . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ , وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الصَّوْمَ الرَّاتِبَ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ , فَلَا يَمْنَعْهَا مِنْهُ لِتَأَكُّدِهِ , وَكَذَلِكَ صَلَاةُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ . وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ أَوْ اعْتِكَافٍ أَوْ حَجٍّ , فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ وَلَوْ كَانَتْ شُرِعَتْ فِيهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ رضي الله تعالى عنهن فِي الِاعْتِكَافِ , ثُمَّ مَنَعَهُنَّ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلْنَ فِيهِ , فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ , فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا , وَسَأَلْت حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا فَفَعَلَتْ , فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَهَا . قَالَتْ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى انْصَرَفَ إلَى بِنَائِهِ , فَأَبْصَرَ الْأَبْنِيَةَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : آلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا ؟ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ } . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا فَقَدْ مَلَّكَهَا مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا , وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مَا لَمْ تَشْرَعْ فِي الْعِبَادَةِ , فَإِنْ شَرَعَتْ فَلَا يَمْنَعُهَا . وَمَا أَوْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا بِنَذْرٍ , فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ , وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ , فَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ فِي زَمَانٍ مُبْهَمٍ , فَلَهُ الْمَنْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إلَّا إذَا دَخَلَتْ فِيهِ , وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُنْثَى مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَايَاتِ :(22/16)
30 - الْوِلَايَاتُ - كَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوِصَايَةِ وَالْحَضَانَةِ وَغَيْرِهَا - مَنَاصِبُ تَحْتَاجُ إلَى اسْتِعْدَادَاتٍ خَاصَّةٍ , بَدَنِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ , كَالْقُوَّةِ وَالْكِفَايَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْحَنَانِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ . وَتَخْتَلِفُ الْوِلَايَاتُ عَنْ بَعْضِهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ صِفَاتٍ . وَإِذَا كَانَ الرِّجَالُ مُقَدَّمِينَ فِي بَعْضِ الْمَنَاصِبِ عَلَى النِّسَاءِ , فَذَلِكَ لِفَارِقِ التَّكْوِينِ الطَّبِيعِيِّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا , وَلِمَا مَنَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّ جِنْسٍ مِنْ صِفَاتٍ خَاصَّةٍ . وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ النِّسَاءُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ ; لِتَنَاسُبِهَا مَعَ تَكْوِينِهِنَّ وَاسْتِعْدَادِهِنَّ الْفِطْرِيِّ . قَالَ الْقَرَافِيُّ : اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ , فَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْحُرُوبِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِمَكَائِدِ الْحُرُوبِ وَسِيَاسَةِ الْجُيُوشِ , وَيُقَدَّمُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَشَدُّ تَفَطُّنًا لِحِجَاجِ الْخُصُومِ وَخَدْعِهِمْ . وَيُقَدَّمُ فِي أَمَانَةِ الْيَتِيمِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَتَقْدِيرِ أَمْوَالِ النَّفَقَاتِ . وَالنِّسَاءُ مُقَدَّمَاتٌ فِي بَابِ الْحَضَانَةِ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّهُنَّ أَصْبَرُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَأَشَدُّ شَفَقَةً وَرَأْفَةً . فَقُدِّمْنَ لِذَلِكَ وَأُخِّرَ الرِّجَالُ عَنْهُنَّ , وَأُخِّرْنَ فِي الْإِمَامَةِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَاصِبِ ; لِأَنَّ الرِّجَالَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِ تِلْكَ الْوِلَايَاتِ مِنْهُنَّ . وَالْقَضَاءُ مِنْ الْوِلَايَاتِ الَّتِي يُقَدَّمُ فِيهَا الرِّجَالُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقْضِيَ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ , إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَوْلِيَتُهَا الْقَضَاءَ , وَيَأْثَمُ مَنْ يُوَلِّيهَا ; لِمَا فِيهِ مِنْ مُحَادَثَةِ الرِّجَالِ , وَمَبْنَى أَمْرِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَلَوْ قَضَتْ فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى جَوَازَهُ , فَأَمْضَاهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ إبْطَالُهُ . وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورِيَّةُ فِي الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً , فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً . وَمِنْ الْوِلَايَاتِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ تُسْنَدَ إلَى الْأُنْثَى : الشَّهَادَةُ وَالْوِصَايَةُ وَنِظَارَةُ الْوَقْفِ , قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ نَاظِرَةً لِوَقْفٍ وَوَصِيَّةً لِيَتِيمٍ وَشَاهِدَةً , فَصَحَّ تَقْرِيرُهَا فِي النَّظَرِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْأَوْقَافِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ , وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَوْصَى إلَى حَفْصَةَ , وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَتْ الرَّجُلَ . قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ : أُمُّ الْأَطْفَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّرُوطِ ; لِوُفُورِ شَفَقَتِهَا وَخُرُوجِهَا مِنْ خِلَافِ الْإِصْطَخْرِيِّ , فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهَا تَلِي بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ , وَكَذَا هِيَ أَوْلَى مِنْ الرِّجَالِ أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ , إذَا كَانَ فِيهَا مَا فِيهِمْ مِنْ الْكِفَايَةِ وَالِاسْتِرْبَاحِ وَنَحْوِهِمَا , وَإِلَّا فَلَا , قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَكَمْ مِنْ مُحِبٍّ مُشْفِقٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْأَرْبَاحِ وَالْمَصَالِحِ التَّامَّةِ لِمَنْ يَلِي أَمْرَهُ . هَذَا , وَشَهَادَتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا فَقَطْ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَكُونُ فِيمَا عَدَا الْقَوَدَ وَالْحُدُودَ , وَشَهَادَتُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ لقوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا دُونَ الرِّجَالِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( شَهَادَةٍ ) . وَالْوِلَايَةُ عَلَى مَالِ الصَّغِيرِ تَكُونُ لِلذُّكُورِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ , فَلَمْ تَثْبُتْ لِلْأُنْثَى , لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ إلَيْهَا , فَتَصِيرَ وَصِيَّةً بِالْإِيصَاءِ . وَفِي رَأْيِ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ خِلَافُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ , وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى , وَابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّ الْأُمَّ تَكُونُ لَهَا الْوِلَايَةُ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ ; لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ , وَأَكْثَرُ شَفَقَةً عَلَى الِابْنِ . وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُنْثَى كَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ(22/17)
لَا تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلَا غَيْرَهَا ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ , وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا } . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ , وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا , وَأَنْ تُزَوِّجَ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَاتِ أَوْ الْوَكَالَةِ ; لقوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } فَأَضَافَ النِّكَاحَ وَالْفِعْلَ إلَيْهِنَّ , وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِبَارَتِهِنَّ وَنَفَاذِهَا ; لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ , إذْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا غَيْرَهَا , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا , فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ رضي الله تعالى عنه , فَأَجَازَ النِّكَاحَ . وَهَذَا دَلِيلُ الِانْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ , وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ ; لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا , وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا , فَيَنْفُذُ , كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا , وَالْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهَا فِي الْمَالِ ; وَلِأَنَّ النِّكَاحَ خَالِصُ حَقِّهَا , حَتَّى يُجْبَرَ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهَا , وَهِيَ أَهْلٌ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( نِكَاحٍ ) .
مَا يَتَّصِلُ بِالْمَرْأَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ :
31 - يَرَى عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي الْجُمْلَةِ , فَالْأُنْثَى تُقْتَلُ بِالذَّكَرِ , وَالذَّكَرُ يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى . وَأَمَّا الدِّيَاتُ , فَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَهَبَ إلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي ( دِيَةٍ ) .(22/18)
إبل
التّعريف
1 - الإبل : اسم جمع لا مفرد يقع على الواحد والجميع . والجمع آبال . وواحدها بعد النّحر يسمّى جزوراً . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اختلف الفقهاء في نقض الوضوء من لحم الإبل ، فالجمهور على أنّه لا ينقض الوضوء بأكل لحمها . والحنابلة على أنّه ينقض الوضوء ، ولو كان اللّحم نيئاً .
( مواطن البحث )
3 - يتعلّق بالإبل أمور كثيرة بحثها الفقهاء كلّاً في موضعه ، فمسألة الوضوء من أكل لحمها تطرّق إليه الفقهاء في الطّهارة عند الحديث عن نواقض الوضوء ، والصّلاة بمعاطنها بحث في الصّلاة عند الحديث عن شروطها . وأبوال الإبل وأرواثها يبحث عن طهارتهما في باب النّجاسات . والتّداوي بألبانها وأبوالها يبحث عنها في مصطلح ( تداوي ) . وزكاتها في الزّكاة عند الحديث عن زكاة الإبل والتّضحية بها وسنّ الثّني منها بحثت في الأضحيّة ، والهدي بها بحث في الحجّ عند الحديث عن الهدي ، وتذكيتها بحثت في الذّبائح وإعطاء الإبل في الدّية في الدّيات عند الحديث عن مقادير الدّيات ، وصفة الحرز فيها بحث في السّرقة عند الحديث عن بيان صفة الحرز ، والمسابقة بينها بحثت في السّبق والرّمي ، والإسهام لها في الغنيمة بحث في الجهاد ، ونحرها عقيقةً بحث في الأضحيّة عند الحديث عن العقيقة ، وغير ذلك من الأمور .(23/1)
الخلاصة في أحكام الإحرام
ففي الموسوعة الفقهية :
إحرام
الفصل الأوّل
التّعريف
1 - من معاني الإحرام في اللّغة : الإهلال بحجّ أو عمرة ومباشرة أسبابها ، والدّخول في الحرمة . يقال : أحرم الرّجل إذا دخل في الشّهر الحرام ، وأحرم : دخل في الحرم ، ومنه حرم مكّة ، وحرم المدينة ، وأحرم : دخل في حرمة عهد أو ميثاق . والحرم - بضمّ الحاء وسكون الرّاء - : الإحرام بالحجّ أيضاً ، وبالكسر : الرّجل المحرم ، يقال أنت حلّ ، وأنت حرم . والإحرام في اصطلاح الفقهاء يراد به عند الإطلاق الإحرام بالحجّ ، أو العمرة . وقد يطلق على الدّخول في الصّلاة ويستعملون مادّته مقرونةً بالتّكبيرة الأولى ، فيقولون : « تكبيرة الإحرام " ويسمّونها " التّحريمة " وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة ) . ويطلق فقهاء الشّافعيّة الإحرام على الدّخول في النّسك ، وبه فسّروا قول النّوويّ في المنهاج : « باب الإحرام » . تعريف الحنفيّة للإحرام :
2 - الإحرام عند الحنفيّة هو الدّخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنّيّة مع الذّكر أو الخصوصيّة . والمراد بالدّخول في حرمات : التزام الحرمات ، والمراد بالذّكر التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى . والمراد بالخصوصيّة : ما يقوم مقامها من سوق الهدي ، أو تقليد البدن . تعريف المذاهب الثّلاثة للإحرام :
3 - أمّا تعريف الإحرام عند المذاهب الثّلاثة : المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة فهو : نيّة الدّخول في حرمات الحجّ والعمرة .
حكم الإحرام :
4 - أجمع العلماء على أنّ الإحرام من فرائض النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » متّفق عليه لكن اختلفوا فيه أمن الأركان هو أم من الشّروط . فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإحرام ركن للنّسك . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإحرام شرط من شروط صحّة الحجّ ، غير أنّه عند الحنفيّة شرط من وجه ، ركن من وجه أو " هو شرط ابتداءً ، وله حكم الرّكن انتهاءً » . ويتفرّع على كون الإحرام شرطاً عند الحنفيّة وكونه يشبه الرّكن فروع . منها :
1 - أجاز الحنفيّة الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، مع الكراهة ، لكون الإحرام شرطاً عندهم ، فجاز تقديمه على الوقت .
2 - لو أحرم المتمتّع بالعمرة قبل أشهر الحجّ ، وأتى بأفعالها ، أو بركنها ، أو أكثر الرّكن - يعني أربعة أشواط من الطّواف - في أشهر الحجّ يكون متمتّعاً عند الحنفيّة .
3 - تفرّع على شبه الإحرام بالرّكن عند الحنفيّة أنّه لو أحرم الصّبيّ ، ثمّ بلغ بعدما أحرم ، فإنّه إذا مضى في إحرامه لم يجزه عن حجّة الإسلام . لكن لو جدّد الإحرام قبل الوقوف ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام عند الحنفيّة اعتباراً لشبه الرّكن في هذه الصّورة احتياطاً في العبادة .
حكمة تشريع الإحرام :
5 - فرضيّة الإحرام للنّسك لها حكم جليلة ، وأسرار ومقاصد تشريعيّة كثيرة ، أهمّها : استشعار تعظيم اللّه تعالى وتلبية أمره بأداء النّسك الّذي يريده المحرم ، وأنّ صاحبه يريد أن يحقّق به التّعبّد والامتثال للّه تعالى .
شروط الإحرام :
6 - يشترط الفقهاء لصحّة الإحرام : الإسلام والنّيّة . وزاد الحنفيّة ، وهو المرجوح عند المالكيّة ، اشتراط التّلبية أو ما يقوم مقامها .(24/1)
7 - وقد اتّفقوا على أنّه لا يشترط في النّيّة للنّسك الفرض تعيين أنّه فرض في النّيّة ، ولو أطلق النّيّة ولم يكن قد حجّ حجّة الفرض يقع عنها اتّفاقاً . بخلاف ما لو نوى ، حجّة نفل فالمذهب المعتمد عند الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة أنّه يقع عمّا نوى . وبهذا قال سفيان الثّوريّ وابن المنذر ، وهو رواية عن الإمام أحمد . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن أحرم بتطوّع أو نذر من لم يحجّ حجّة الإسلام وقع عن حجّة الإسلام . وبهذا قال ابن عمر وأنس . وقالوا : من حجّ عن غيره ولم يكن حجّ عن نفسه ، ردّ ما أخذ ، وكانت الحجّة عن نفسه ، وبهذا قال الأوزاعيّ . استدلّ الحنفيّة ومن معهم : « بأنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ، فإن كان عليه حجّة الإسلام يقع عنها استحساناً ، في ظاهر المذهب أي إذا أطلق ولم يعيّن » . وجه الاستحسان : « أنّ الظّاهر من حال من عليه حجّة الإسلام أنّه لا يريد بإحرام الحجّ حجّة التّطوّع ، ويبقي نفسه في عهدة الفرض ، فيحمل على حجّة الإسلام ، بدلالة حاله ، فكان الإطلاق فيه تعييناً ، كما في صوم رمضان » . وقالوا في اعتباره عمّا نواه من غير الفرض : « إنّما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النّيّة بدلالة حاله ، والدّلالة لا تعمل مع النّصّ بخلافه » . ويشهد لهم نصّ الحديث المشهور الصّحيح : « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبّيك عن شبرمة . قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي . قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حجّ عن نفسك ، ثمّ حجّ عن شبرمة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما . وفي رواية : « اجعل هذه عن نفسك . . . » فاستدلّوا بها . وقد صحّح النّوويّ أسانيده ، وتكلّم فيه غيره ، فرجّح إرساله ، ووقفه . واستدلّوا بحديث ابن عبّاس أيضاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا صرورة في الإسلام » أخرجه أحمد وأبو داود واختلف في صحّته كذلك . قال الخطّابيّ في معالم السّنن : « وقد يستدلّ به من يزعم أنّ الصّرورة لا يجوز له أن يحجّ عن غيره . وتقدير الكلام عنده : أنّ الصّرورة إذا شرع في الحجّ عن غيره صار الحجّ عنه ، وانقلب عن فرضه ، ليحصل معنى النّفي ، فلا يكون صرورةً ، وهذا مذهب الأوزاعيّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق . . . » . واستدلّوا من المعقول : « أنّ النّفل والنّذر أضعف من حجّة الإسلام ، فلا يجوز تقديمهما عليها ، كحجّ غيره على حجّه » . وبقياس النّفل والنّذر على من أحرم عن غيره وعليه فرضه .
التّلبية :
8 - التّلبية لغةً إجابة المنادي . والمراد بالتّلبية هنا : قول المحرم : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ... » ، أي إجابتي لك يا ربّ . ولم يستعمل " لبّيك " إلاّ على لفظ التّثنية . والمراد بها التّكثير . والمعنى : أجبتك إجابةً بعد إجابة ، إلى ما لا نهاية . حكم التّلبية :
9 - التّلبية شرط في الإحرام عند أبي حنيفة ومحمّد وابن حبيب من المالكيّة ، لا يصحّ الإحرام بمجرّد النّيّة ، حتّى يقرنها بالتّلبية أو ما يقوم مقامها ممّا يدلّ على التّعظيم من ذكر ودعاء أو سوق الهدي . فإذا نوى النّسك الّذي يريده من حجّ أو عمرة أو هما معاً ولبّى فقد أحرم ، ولزمه كلّ أحكام الإحرام الآتية ، وأن يمضي ، في أداء ما أحرم به . والمعتمد عندهم " أنّه يصير محرماً بالنّيّة لكن عند التّلبية ، كما يصير شارعاً في الصّلاة بالنّيّة ، لكن بشرط التّكبير ، لا بالتّكبير » . وقد نقل هذا المذهب عن عبد اللّه بن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة ، وإبراهيم النّخعيّ ، وطاوس ومجاهد ، وعطاء بل ادّعى فيه اتّفاق السّلف . وذهب غيرهم إلى أنّ التّلبية لا تشترط في الإحرام ، فإذا نوى فقد أحرم بمجرّد النّيّة ، ولزمته أحكام الإحرام الآتية ، والمضيّ في أداء ما أحرم به . ثمّ اختلفوا : فقال المالكيّة : هي واجبة في الأصل ، والسّنّة قرنها بالإحرام . ويلزم الدّم بطول فصلها عن النّيّة . ولو رجع ولبّى لا يسقط عنه الدّم . وسواء أكان التّرك أو طول الفصل عمداً أم نسياناً . وذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو منقول عن أبي يوسف - إلى أنّ التّلبية سنّة في الإحرام مطلقاً .
المقدار الواجب من لفظ التّلبية :
10 - الصّيغة الّتي أوردها الفقهاء للتّلبية : هي : « لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك لبّيك . إنّ الحمد والنّعمة لك والملك . لا شريك لك » . هذه الصّبغة الّتي لزمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، ولم يزد عليها والّذي يحصل به أداء التّلبية في الإحرام عند الحنفيّة هو ما يحصل به التّعظيم . فإنّ المشروط على الحقيقة عند الحنفيّة أن تقترن النّيّة " بذكر يقصد به التّعظيم ، كتسبيح ، وتهليل " ولو مشوباً بالدّعاء » .
النّطق بالتّلبية :
11 - يشترط لأداء التّلبية أن تلفظ باللّسان ، فلو ذكرها بقلبه لم يعتدّ بها عند من يقول إنّها شرط ، ومن يقول إنّها واجب ، ومن يقول إنّها سنّة . وتفرّع على ذلك عند الحنفيّة فرعان :
12 - الفرع الأوّل : لو كان لا يحسن العربيّة ، فنطق بالتّلبية بغير العربيّة ، أجزأه اتّفاقاً . أمّا لو كان يحسن العربيّة ، فنطق بها بغير العربيّة ، فلا يجزئه عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة في ظاهر المذهب . ودليلهم أنّه ذكر مشروع ، فلا يشرع بغير العربيّة ، كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة . ودليل الحنفيّة أنّه ذكر مقصود به التّعظيم ، فإذا حصل هذا المقصود أجزأه ، ولو بغير العربيّة .(24/2)
13 - الفرع الثّاني في الأخرس : الأصحّ أنّه عند الحنفيّة يستحبّ له تحريك لسانه بالتّلبية مع النّيّة ، ولا يجب . وقيل : يجب تحريك لسانه ، فإنّه نصّ الإمام محمّد على أنّه شرط . وعلى هذا " فينبغي " ألاّ يلزمه في الحجّ بالأولى ، فإنّ باب الحجّ أوسع ، مع أنّ القراءة فرض قطعيّ متّفق عليه ، والتّلبية أمر ظنّيّ مختلف فيه .
وقت التّلبية :
14 - الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة أن يلبّي بنيّة الحجّ أو العمرة أو نيّتهما معاً عقب صلاته ركعتين سنّة الإحرام ، وبعد نيّة النّسك . وإن لبّى بعدما استوت به راحلته أو ركوبته جاز ، إلى أن يبلغ نهاية الميقات ، فإذا جاوز الميقات ولم يلبّ بنيّة النّسك صار مجاوزاً للميقات بغير إحرام عند الحنفيّة ، ولزمه ما يلزم ذاك عندهم . وعند الجمهور يستحبّ البدء بالتّلبية إذا ركب راحلته ، واستوت به ، لكن يلزمه الدّم عند المالكيّة إن تركها أو أخّرها حتّى طال الفصل بين الإحرام والتّلبية كما تقدّم ( ف 9 ) . ولا يلزمه شيء عند الشّافعيّة والحنابلة لقولهم إنّ التّلبية سنّة .
ما يقوم مقام التّلبية :
15 - يقوم مقام التّلبية عند الحنفيّة لصحّة الإحرام أمران : الأوّل : كلّ ذكر فيه تعظيم للّه تعالى ، كالتّسبيح ، والتّحميد ، والتّكبير ، ولو بغير اللّغة العربيّة ، كما سبق بيانه ( ف 10 ) الثّاني : تقليد الهدي وسوقه والتّوجّه معه . والهدي يشمل الإبل والبقر والغنم . لكن يستثنى من التّقليد الغنم ، لعدم سنّيّة تقليد الغنم عند الحنفيّة . ( ر : هدي ) والتّقليد هو أن يربط في عنق البدنة أو البقرة علامةً على أنّه هدي .
شروط إقامة تقليد الهدي وسوقه مقام التّلبية
16 - يشترط :
1 - النّيّة .
2 - سوق البدنة والتّوجّه معها .
3 - يشترط - إن بعث بها ولم يتوجّه معها - أن يدركها قبل الميقات ويسوقها ، إلاّ إذا كان بعثها لنسك متعة أو قران ، وكان التّقليد في أشهر الحجّ ، فإنّه يصير محرماً إذا توجّه بنيّة الإحرام وإن لم يلحقها ، استحساناً .
الفصل الثّاني
حالات الإحرام من حيث إبهام النّيّة وإطلاقها
إبهام الإحرام
تعريفه :
17 - هو أن ينوي مطلق نسك من غير تعيين ، كأن يقول : أحرمت للّه ، ثمّ يلبّي ، ولا يعيّن حجّاً أو عمرةً ، أو يقول : نويت الإحرام للّه تعالى ، لبّيك اللّهمّ . . ، أو ينوي الدّخول في حرمات نسك ، ولم يعيّن شيئاً . فهذا الإحرام صحيح باتّفاق المذاهب . ويترتّب عليه كلّ أحكام الإحرام ، وعليه اجتناب جميع محظوراته ، كالإحرام المعيّن ويسمّى هذا إحراماً مبهماً ، ويسمّونه أيضاً إحراماً مطلقاً .
تعيين النّسك :
18 - ثمّ على هذا المحرم التّعيين قبل أن يشرع في أفعال أحدهما ، وله أن يجعله للعمرة ، أو للحجّ ، أو لهما معاً حسبما يشاء . وترجع الأفضليّة فيما يختاره ويعيّنه إلى خلاف المذاهب في أيّ أوجه الإحرام أفضل : القران ، أو التّمتّع ، أو الإفراد ، وإلى حكم الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، إن وقع هذا الإحرام قبل أشهر الحجّ ، وأراد التّعيين قبلها . واختلفوا في كيفيّة التّعيين . فقال الحنفيّة : إن عيّن ما يريده قبل الطّواف فالعبرة لهذا التّعيين ، وإن لم يعيّن ثمّ طاف بالبيت للعمرة ، أو مطلقاً بغير تعيين ولو شوطاً ، جعل إحرامه للعمرة ، فيتمّ مناسك العمرة ، ثمّ يحرم بالحجّ ويصير متمتّعاً . وعلّة جعله للعمرة " أنّ الطّواف ركن في العمرة ، وطواف القدوم في الحجّ ليس بركن ، بل هو سنّة ، فإيقاعه عن الرّكن أولى ، وتتعيّن العمرة بفعله كما تتعيّن بقصده » . أمّا إن لم يعيّن ، ولم يطف بالبيت ، بل وقف بعرفة قبل أن يطوف ، فينصرف إحرامه للحجّ . وإن لم يقصد الحجّ في وقوفه ، فإنّه ينصرف إلى الحجّ شرعاً ، وعليه أن يتمّم مناسك الحجّ . هذا معتمد مذهب الحنفيّة . ومذهب المالكيّة ، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد ، أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ بعد التّعيين ، فإن طاف قبل أن يصرف إحرامه لشيء - سواء أكان أحرم في أشهر الحجّ أم لا - وجب صرفه للحجّ مفرداً ، ويكون هذا الطّواف الواقع قبل الصّرف والتّعيين طواف القدوم ، وهو ليس ركناً من أركان الحجّ فلا يضرّ وقوعه قبل الصّرف . ولا يصحّ صرف ذلك الإحرام لعمرة بعد الطّواف ؛ لأنّ الطّواف ركن منها ، وقد وقع قبل تعيينها . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيشترطون التّعيين قبل الشّروع بأيّ عمل من المناسك . فلو عمل شيئاً من أركان الحجّ أو العمرة قبل التّعيين ، لم يجزئه ، ولم يصحّ فعله .
الإحرام بإحرام الغير
19 - هو أن ينوي المحرم في إحرامه مثل ما أحرم به فلان ، بأن يكون قاصداً مرافقته ، أو الاقتداء به لعلمه وفضله ، فيقول : اللّهمّ إنّي أهلّ أو أحرم أو أنوي مثل ما أهلّ أو نوى فلان ، ويلبّي . فهذا الإحرام صحيح ، وينعقد على مثل ما أحرم به ذلك الشّخص عند الجمهور وظاهر مذهب المالكيّة . ودليلهم حديث عليّ رضي الله عنه « أنّه قدم من اليمن ووافى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : بم أهللت ؟ قال : بما أهلّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : لولا أنّ معي الهدي لأحللت » . زاد في رواية : قال : « فأهد وأمكث حراماً كما أنت » .
الاشتراط في الإحرام
20 - الاشتراط في الإحرام أن يقول عند إحرامه : « إن حبسني حابس ، فمحلّي حيث حبستني » .(24/3)
21 - ذهب الشّافعيّة إلى صحّة الاشتراط ، وأنّه يفيد إباحة التّحلّل من الإحرام عند وجود الحابس كالمرض ، فإذا لم يشترط لم يجز له التّحلّل ثمّ إن اشترط في التّحلّل أن يكون مع الهدي وجب الهدي ، وإن لم يشترط فلا هدي عليه . على تفاصيل تجدها في بحث الإحصار . وتوسّع الحنابلة فقالوا : يستحبّ لمن أحرم بنسك حجّ أو عمرة أن يشترط عند إحرامه . ويفيد هذا الشّرط عندهم شيئين : أحدهما : إذا عاقه عدوّ أو مرض أو غيرهما يجوز له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى أحلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم ، سواء أكان المانع عدوّاً ، أو مرضاً ، أو غيرهما . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم صحّة الاشتراط ، وعدم إفادته للتّحلّل عند حصول المانع له ، بل يأخذ حاله حكم ذلك المانع ، على ما هو مقرّر في مبحث الإحصار ، استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزّبير ، فقالت : يا رسول اللّه إنّي أريد الحجّ وأنا شاكية ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني » . متّفق عليه . واستدلّ الحنفيّة والمالكيّة بالآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وفي المسألة تفصيل موطنه مصطلح ( إحصار ) .
إضافة الإحرام إلى الإحرام
أوّلاً : إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة :
22 - وهو أن يحرم بالعمرة أوّلاً ، ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف لها ، أو بعدما طاف قبل أن يتحلّل منها . وتتنوّع صور إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة بحسب حال إضافته ، وبحسب حال المحرم ، وتأخذ كلّ صورة حكمها .
23 - وللحنفيّة تفصيل خاصّ في هذا ، لقولهم بكراهة القران للمكّيّ ، وأنّه إن فعله جاز وأساء ، وعليه دم جبر لإساءته هذه . كما أنّ للمذاهب الأخرى تفصيلاً بحسب آرائهم في مسائل من الإحرام وأوجه الإحرام . والتّفصيل عند الحنفيّة : أنّ المحرم إمّا أن يكون مكّيّاً أو آفاقيّاً . وأمّا بالنّسبة لحال إضافة الإحرام بالحجّ إلى العمرة فعلى وجوه .
24 - الوجه الأوّل : أن يدخل الحجّ على العمرة قبل أن يطوف للعمرة : أ - إن كان آفاقيّاً صحّ ذلك ، بلا كراهة ، وكان قارناً ، باتّفاق المذاهب . بل هو مستحبّ ، على ما صرّح به الحنفيّة ، لحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، على ما حقّقه ابن حزم وغيره ، وتبعه النّوويّ وغيره . وممّا يدلّ على جواز ذلك « حديث عائشة في حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه قولها : وكنت ممّن أهلّ بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكّة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهّلي بالحجّ . . . » . متّفق عليه . وعلّل المالكيّة صحّة إرداف الحجّ على العمرة بقولهم : « لقوّته وضعفها » .
ب - وإن كان مكّيّاً ( أو ميقاتيّاً ) فترتفض عمرته اتّفاقاً عند الحنفيّة ، وعليه دم الرّفض ؛ لأنّ الجمع بين النّسكين غير مشروع للمكّيّ عندهم ، " والنّزوع عن المعصية لازم " ويرفض العمرة هنا ؛ لأنّها أقلّ عملاً ، والحجّ أكثر عملاً . فكانت العمرة أخفّ مؤنةً من الحجّة ، فكان رفضها أيسر ، ولأنّ المعصية حصلت بسببها ؛ لأنّها هي الّتي دخلت في وقت الحجّ ، فكانت أولى بالرّفض . ويمضي حجّته . وعليه دم لرفض عمرته . وعليه قضاء العمرة » . أمّا غير الحنفيّة فحكم الآفاقيّ والمكّيّ عندهم سواء في صحّة الإحرامين وصيرورته قارناً ، تبعاً لمذهبهم في تجويز القران للمكّيّ على تفصيل يأتي . ( ف 30 ) لكن شرط المالكيّة والشّافعيّة أن تكون العمرة صحيحةً . وهذا شرط لصحّة الإرداف في جميع صوره عند المالكيّة ، وعند الحنفيّة شرط لصحّة القران فقط وزاد الشّافعيّة اشتراط أن يكون إدخال الحجّ عليها في أشهر الحجّ .
25 - الوجه الثّاني : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن طاف شيئاً قليلاً ، على ألاّ يتجاوز أقلّ أشواط طواف العمرة ، أي ثلاثة أشواط فما دون ذلك . فمذهب الحنفيّة في ذلك : أ - إذا كان آفاقيّاً كان قارناً .(24/4)
ب - وإن كان مكّيّاً ( أي ميقاتيّاً ) : وجب عليه رفض أحد النّسكين ، على التّحقيق في عبارات فقهاء الحنفيّة ، وإنّما اختلفوا في أيّ الرّفضين أولى : قال أبو حنيفة : يرفض الحجّ . وعليه لرفضه دم . وعليه حجّة وعمرة ؛ لأنّه مثل فائت الحجّ ، وحكم فائت الحجّ أنّه يتحلّل بعمرة ، ثمّ يأتي بالحجّ من قابل حتّى لو حجّ في سنته سقطت العمرة ؛ لأنّه حينئذ ليس في معنى فائت الحجّ ، بل كالمحصر ، إذا تحلّل ثمّ حجّ من تلك السّنة ، فإنّه حينئذ لا تجب عليه عمرة ، بخلاف ما إذا تحوّلت السّنة ، فإنّه تجب عليه العمرة مع حجّته . وقال أبو يوسف ومحمّد : رفض العمرة أحبّ إلينا ، ويقضيها دون عمرة أخرى ، وعليه دم للرّفض . وكذلك هو الحكم عند أبي حنيفة لو اختار هذا المحرم رفض العمرة . استدلّ أبو حنيفة على استحباب رفض الحجّ بأنّ " إحرام العمرة قد تأكّد بأداء شيء من أعمالها ، وإحرام الحجّ لم يتأكّد ، ورفض غير المتأكّد أيسر . ولأنّ في رفض العمرة - والحالة هذه - إبطال العمل ، وفي رفض الحجّ امتناع عنه " والامتناع أولى من الإبطال ، واستدلّ الصّاحبان على أنّ رفض العمرة أولى : « بأنّها أدنى حالاً وأقلّ أعمالاً ، وأيسر قضاءً ، لكونها غير مؤقّتة » . وقال المالكيّة والحنابلة : يصحّ هذا الإرداف . ويصير قارناً ، ويتابع على ذلك . وتندرج العمرة في الحجّ . أمّا الشّافعيّة - وهو قول أشهب من المالكيّة - فقالوا : يصحّ إدخال الحجّة على العمرة قبل الشّروع في الطّواف ، فلو شرع في الطّواف ولو بخطوة فإنّه لا يصحّ إحرامه بالحجّ . واستدلّوا على ذلك : بأنّه " لاتّصال إحرامها بمقصوده ، وهو أعظم أفعالها ، فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها » . لكن الشّافعيّة قرّروا أنّه " لو استلم الحجر بنيّة الطّواف فالأوجه جواز الإدخال ، إذ الاستلام مقدّمة الطّواف لا بعضه » .
26 - الوجه الثّالث : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن يطوف أكثر أشواط طواف العمرة . فهذا حكمه عند الحنفيّة حكم ما لو أكمل الطّواف الآتي في الوجه الرّابع التّالي ؛ لأنّ للأكثر حكم الكلّ عندهم . وعند الجمهور حكمه حكم الوجه الثّاني السّابق .
27 - الوجه الرّابع : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد إكمال طواف العمرة قبل التّحلّل . مذهب الحنفيّة التّفصيل المتقدّم في الوجه الثّاني . وفصّل المالكيّة تفصيلاً آخر فقالوا : أ - إرداف الحجّ على العمرة بعد طوافها قبل ركعتي الطّواف مكروه . فإن فعله صحّ ، ولزمه ، وصار قارناً ، وعليه دم القران .
ب - إرداف الحجّ على العمرة بعد أن طاف وصلّى ركعتي الطّواف قبل السّعي مكروه ، ولا يصحّ ، ولا يكون قارناً . وكذلك الإرداف في السّعي ، إن سعى بعض السّعي وأردف الحجّ على العمرة كره له ذلك . فإن فعل فليمض على سعيه ، فيحلّ ، ثمّ يستأنف الحجّ ، سواء أكان من أهل مكّة أم غيرها . وحيث إنّ الإرداف لم يصحّ بعد الرّكوع وقبل السّعي أو في أثنائه فلا يلزم قضاء الإحرام الّذي أردفه على المشهور .
ج - إرداف الحجّ على العمرة بعد السّعي للعمرة قبل الحلق لا يجوز الإقدام عليه ابتداءً ؛ لأنّه يستلزم تأخير الحلق . فإن أقدم على إرداف الإحرام في هذا الحال فإنّ إحرامه صحيح ، وهذا حجّ مستأنف . ويحرم عليه الحلق للعمرة ، لا خلاله بإحرام الحجّ ، ويلزمه هدي لتأخير حلق العمرة الّذي وجب عليه بسبب إحرامه بالحجّ ، ولا يكون قارناً ولا متمتّعاً ، إن أتمّ عمرته قبل أشهر الحجّ ، بل يكون مفرداً . وإن فعل بعض ركنها في وقت الحجّ يكون متمتّعاً . ولو قدّم الحلق بعد إحرامه بالحجّ وقبل فراغه من أعمال الحجّ فلا يفيده في سقوط الهدي ، ولا بدّ من الهدي ، وعليه حينئذ فدية أيضاً . وهي فدية إزالة الأذى عند المالكيّة . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ إدخال الحجّ على العمرة بعد الطّواف ، لما ذكرنا من العلّة في الصّورة السّابقة . وبعد السّعي لا يصحّ ، من باب أولى . إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا من كان معه هدي فقالوا : « يصحّ إدخال الحجّ على العمرة ممّن معه هدي ، ولو بعد سعيها ، بل يلزمه كما يأتي ؛ لأنّه مضطرّ إليه لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } ويصير قارناً على المذهب . وقال في الفروع ، وشرح المنتهى في موضع آخر : لا يصير قارناً ، ولو كان إدخال الحجّ على العمرة في غير أشهر الحجّ يصحّ على المذهب ، لصحّة الإحرام به قبلها عند الحنابلة .
ثانياً إضافة إحرام العمرة إلى الحجّ
28 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة - في الجديد وهو الأصحّ في المذهب - والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ إحرامه بالعمرة بعدما أحرم بالحجّ . وعلى ذلك لا يصير قارناً ، ولا يلزمه دم القران ، ولا قضاء العمرة الّتي أهلّ بها . وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر ، وصرّح الحنفيّة والمالكيّة بكراهة هذا العمل ، لكن قال الحنفيّة بصحّة الإحرام على تفصيل نذكره .
ثالثاً الإحرام بحجّتين معاً أو عمرتين معاً
29 - إن أحرم بحجّتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى . وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّهما عبادتان لا يلزمه المضيّ فيهما ، فلم يصحّ الإحرام بهما . وعلى هذا لو أفسد حجّه أو عمرته لم يلزمه إلاّ قضاؤها . ومذهب أبي حنيفة أنّ الإحرام ينعقد بهما ، وعليه قضاء إحداهما ؛ لأنّه أحرم بها ولم يتمّها . وفي الموضوع تفصيلات وفروع لا حاجة إلى إيرادها هنا لندرة وقوعها . الفصل الرّابع
حالات الإحرام(24/5)
30 - ينقسم الإحرام بحسب ما يقصد المحرم أداءه به من النّسك إلى ثلاثة أقسام : الإفراد للحجّ أو العمرة أو الجمع بين النّسكين ، وهو إمّا تمتّع أو قران . الإفراد : هو اصطلاحاً : أن يهلّ - أي ينوي - في إحرامه الحجّ فقط ، أو العمرة فقط . القران : القران عند الحنفيّة : هو أن يجمع الآفاقيّ بين الحجّ والعمرة متّصلاً أو منفصلاً قبل أكثر طواف العمرة ، ولو من مكّة ، ويؤدّي العمرة في أشهر الحجّ . وعند المالكيّة : أن يحرم بالحجّ والعمرة معاً ، بنيّة واحدة ، أو نيّتين مرتّبتين يبدأ فيهما بالعمرة ، أو يحرم بالعمرة ويردف الحجّ عليها قبل طوافها أو بطوافها . وعند الشّافعيّة : القران أن يحرم بالعمرة والحجّ جميعاً ، أو يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يدخل الحجّ عليها قبل الطّواف . ومثل ذلك عند الحنابلة إلاّ أنّهم لم يشترطوا الإحرام في أشهر الحجّ . التّمتّع : التّمتّع عند الحنفيّة : هو التّرفّق بأداء النّسكين في أشهر الحجّ في سنة واحدة ، من غير إلمام بينهما بأهله إلماماً صحيحاً . والإلمام الصّحيح : هو الّذي يكون في حالة تحلّله من عمرته ، وقبل شروعه في حجّته . وعند المالكيّة : التّمتّع هو أن يحرم بعمرة ، ثمّ يحلّ منها في أشهر الحجّ ، ثمّ يحجّ بعدها . وعند الشّافعيّة : أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثمّ ينشئ حجّاً . وعند الحنابلة : أن يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يحرم بالحجّ من أين شاء بعد فراغه منها .
واجبات الإحرام :
31 - تنحصر واجبات الإحرام في أمرين أساسيّين : الأوّل : كون الإحرام من الميقات . الثّاني : صون الإحرام عن المحظورات . وتفصيل ذلك فيما يلي : الفصل الرّابع
مواقيت الإحرام
32 - الميقات : من التّوقيت ، وهو : أن يجعل للشّيء وقت يختصّ به ، ثمّ اتّسع فيه فأطلق على المكان . ويطلق على الحدّ المحدّد للشّيء . وفي الاصطلاح : عرّفوا المواقيت بأنّها : « مواضع وأزمنة معيّنة لعبادة مخصوصة » . ومنه يعلم أنّ للإحرام نوعين من الميقات :
النّوع الأوّل : الميقات الزّمانيّ .
النّوع الثّاني : الميقات المكانيّ . الميقات الزّمانيّ إمّا أن يكون ميقاتاً للإحرام بالحجّ ، أو للإحرام بالعمرة .
فينقسم قسمين :
أوّلاً : الميقات الزّمانيّ للإحرام بالحجّ :
33 - ذهب الأئمّة الثّلاثة أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد وأصحابهم إلى أنّ وقت الإحرام بالحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة . وهو مذهب جمهور الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم . وذهب مالك إلى أنّ وقت الحجّ شوّال وذو القعدة وشهر ذي الحجّة إلى آخره . وليس المراد أنّ جميع هذا الزّمن الّذي ذكروه وقت لجواز الإحرام ، بل المراد أنّ بعض هذا الزّمن وقت لجواز ابتداء الإحرام ، وهو من شوّال لطلوع فجر يوم النّحر ، وبعضه وقت لجواز التّحلّل ، وهو من فجر يوم النّحر لآخر ذي الحجّة . وعلى هذا فالميقات الزّمانيّ بالنّسبة للإحرام متّفق عليه ، إنّما مرتّب على مذهب المالكيّة جواز تأخير الإحلال إلى آخر ذي الحجّة ، كما سيأتي . وهذا الّذي ذهب إليه المالكيّة " قد حكي أيضاً عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزّبير ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة » . والأصل للفريقين قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } فالجمهور فسّروا الآية بأنّ المراد شهران وبعض الثّالث . واستدلّوا بالآثار عن الصّحابة . كما يدلّ لهم أنّ أركان الحجّ تؤدّى خلال تلك الفترة . وأمّا المالكيّة فدليلهم واضح ، وهو ظاهر الآية ؛ لأنّها عبّرت بالجمع " أشهر " وأقلّ الجمع ثلاث ، فلا بدّ من دخول ذي الحجّة بكماله . ثمّ اختلف الجمهور في نهار يوم النّحر هل هو من أشهر الحجّ أو لا . فقال الحنفيّة والحنابلة : هو من أشهر الحجّ . وقال الشّافعيّة : آخر أشهر الحجّ ليلة يوم النّحر . وهو مرويّ عن أبي يوسف . وفي وجه عند الشّافعيّة في ليلة النّحر أنّها ليست من أشهر الحجّ . والأوّل هو الصّحيح المشهور . استدلّ الحنفيّة والحنابلة بحديث ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر بين الجمرات في الحجّة الّتي حجّ فقال : أيّ يوم هذا ؟ قالوا : يوم النّحر . قال : هذا يوم الحجّ الأكبر » أخرجه أبو داود وابن ماجه . قالوا : ولا يجوز أن يكون يوم الحجّ الأكبر ليس من أشهره . ويشهد له حديث بعث أبي بكر أبا هريرة يؤذّن في النّاس يوم النّحر أن لا يحجّ بعد العام مشرك ، فإنّه امتثال لقوله تعالى : { وأذان من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر . . . } والحديث متّفق عليه . واحتجّوا بالدّليل المعقول ؛ لأنّ يوم النّحر فيه ركن الحجّ ، وهو طواف الزّيارة ، وفيه كثير من أفعال الحجّ ، منها : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق ، والطّواف ، والسّعي ، والرّجوع إلى منًى . ومستبعد " أن يوضع لأداء ركن عبادة وقت ليس وقتها ، ولا هو منه " واستدلّ الشّافعيّة برواية نافع عن ابن عمر أنّه قال : « أشهر الحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة " أي عشر ليال . وعن ابن مسعود وابن عبّاس وابن الزّبير مثله . رواها كلّها البيهقيّ ، وصحّح الرّواية عن ابن عبّاس . ورواية ابن عمر صحيحة .
أحكام الميقات الزّمانيّ للحجّ :(24/6)
34 - أ - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، وينعقد حجّاً ، لكن مع الكراهة . وهو قول إبراهيم النّخعيّ ، وسفيان الثّوريّ ، وإسحاق بن راهويه ، واللّيث بن سعد . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا ينعقد الإحرام بالحجّ قبل أشهره ، فلو أحرم به قبل هلال شوّال لم ينعقد حجّاً ، وانعقد عمرةً على الصّحيح عندهم . وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وأبو ثور .
35 - والأصل في المسألة قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } وقد تنازع الفريقان الاستدلال بها ، وأيّد كلّ فريق وجهته بدلائل أخرى . وهو خلاف وقع بين أهل العربيّة أيضاً . استدلّ الثّلاثة بأنّ معنى الآية : الحجّ ( حجّ ) أشهر معلومات ، فعلى هذا التّقدير يكون الإحرام بالحجّ فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحاً ؛ ولأنّه أحد نسكي القران ، فجاز الإحرام به في جميع السّنة كالعمرة ، أو : أحد الميقاتين ، فصحّ الإحرام قبله ، كميقات المكان . ووجّه الحنفيّة المسألة بناءً على مذهبهم بأنّه شرط عندهم ، فأشبه الطّهارة في جواز التّقديم على الوقت ، وثبتت الكراهة لشبهه بالرّكن . واستدلّ الشّافعيّة بقوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } . ووجه الاستدلال أنّ ظاهره التّقدير الآخر الّذي ذهب إليه النّحاة ، وهو ( وقت الحجّ أشهر معلومات ) فخصّصه بها من بين سائر شهور السّنة ، فدلّ على أنّه لا يصحّ قبلها ، كميقات الصّلاة . واستدلّوا من المعقول : بأنّ الإحرام نسك من مناسك الحجّ ، فكان مؤقّتاً ، كالوقوف والطّواف .
36 - اتّفقوا بعد هذا على أنّه لو فعل أيّ شيء من أفعال الحجّ قبل أشهر الحجّ لم يجزه ، حتّى لو صام المتمتّع أو القارن ثلاثة أيّام قبل أشهر الحجّ لا يجوز ، وكذا السّعي بين الصّفا والمروة عقب طواف القدوم لا يقع عن سعي الحجّ إلاّ فيها .
ثانياً : الميقات الزّمانيّ للإحرام بالعمرة :
37 - اتّفقوا على أنّ ميقات العمرة الزّمانيّ هو جميع العام ، فيصحّ أن تفعل في جميع السّنة ، وينعقد إحرامها ، وذلك لعدم المخصّص لها بوقت دون وقت . وكذلك قرّروا أنّها أفضل في شهر رمضان منها في غيره . وعبّر الحنفيّة بقولهم : « تندب في رمضان " ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عمرة في رمضان تقضي حجّةً » . متّفق عليه .
38 - ثمّ اختلفوا في أوقات يكره فيها الإحرام بالعمرة أو لا يكره . وهي : أ - يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق : ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الكراهة فيها ، لكن قال الرّمليّ الشّافعيّ : « وهي في يوم عرفة والعيد وأيّام التّشريق ليست كفضلها في غيرها ؛ لأنّ الأفضل فعل الحجّ فيها » . واستدلّوا لعدم الكراهة بأنّ الأصل عدم الكراهة ، ولا دليل عليها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العمرة تكره تحريماً يوم عرفة وأربعة أيّام بعده ، حتّى يجب الدّم على من فعلها في ذلك عندهم . واستدلّوا بقول عائشة رضي الله عنها : حلّت العمرة في السّنة كلّها إلاّ أربعة أيّام : يوم عرفة ، ويوم النّحر ويومان بعد ذلك أخرجه البيهقيّ » . ولأنّ هذه الأيّام أيّام شغل بأداء الحجّ ، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك ، وربّما يقع الخلل فيه فتكره » .
ب - استثنى المالكيّة المحرم بالحجّ من سعة الوقت للإحرام بالعمرة ، فقالوا : الحاجّ وقت إحرامه بالعمرة من وقت تحلّله من الحجّ ، وذلك " بالفراغ من جميع أفعاله من طواف وسعي ورمي اليوم الرّابع ، أو قدر رميه لمن تعجّل فنفر في ثالث أيّام النّحر ، فإنّ هذا ينتظر إلى أن يمضي - بعد الزّوال من اليوم الرّابع - ما يسع الرّمي حتّى يبدأ وقت الإحرام له للعمرة » . وبناءً على ذلك قرّر المالكيّة : إن أحرم بالعمرة قبل ذلك الّذي ذكرناه لم ينعقد إحرامه ، وأنّه يكره الإحرام بالعمرة بعد التّحلّل بالفراغ من جميع أفعال الحجّ وقبل غروب شمس اليوم الرّابع .
الميقات المكانيّ
الميقات المكانيّ ينقسم قسمين :
ميقات مكانيّ للإحرام بالحجّ ، وميقات مكانيّ للإحرام بالعمرة .
أوّلاً : الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ :
39 - يختلف الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ باختلاف مواقع النّاس ، فإنّهما في حقّ المواقيت المكانيّة على أربعة أصناف ، وهي :
الصّنف الأوّل : الآفاقيّ .
الصّنف الثّاني : الميقاتيّ .
الصّنف الثّالث : الحرميّ .
الصّنف الرّابع : المكّيّ ، ويشترك مع الحرميّ في أكثر من وجه ، فيكونان مسألةً واحدةً . ثمّ صنف خامس : هو من تغيّر مكانه ، ما ميقاته ؟ .
ميقات الآفاقيّ : وهو من منزله خارج منطقة المواقيت .
40 - اتّفق العلماء على تقرير الأماكن الآتية مواقيت لأهل الآفاق المقابلة لها ، وهذه الأماكن هي : أ - ذو الحليفة : ميقات أهل المدينة ، ومن مرّ بها من غير أهلها . وتسمّى الآن " آبار عليّ " فيما اشتهر لدى العامّة .
ب - الجحفة : ميقات أهل الشّام ، ومن جاء من قبلها من مصر ، والمغرب . ويحرم الحجّاج من " رابغ " ، وتقع قبل الجحفة ، إلى جهة البحر ، فالمحرم من " رابغ " محرم قبل الميقات . وقد قيل إنّ الإحرام منها أحوط لعدم التّيقّن بمكان الجحفة .
ج - قرن المنازل : ويقال له " قرن " أيضاً ، ميقات أهل نجد ، و " قرن " جبل مطلّ على عرفات . وهو أقرب المواقيت إلى مكّة ، وتسمّى الآن " السّيل » .
د - يلملم : ميقات باقي أهل اليمن وتهامة ، والهند . وهو جبل من جبال تهامة ، جنوب مكّة .
هـ - ذات عرق : ميقات أهل العراق ، وسائر أهل المشرق . أدلّة تحديد مواقيت الآفاق :(24/7)
41 - والدّليل على تحديدها مواقيت للإحرام السّنّة والإجماع : أ - أمّا السّنّة فأحاديث كثيرة نذكر منها هذين الحديثين : حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال « : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشّام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم . هنّ لهنّ ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ، ممّن أراد الحجّ والعمرة . ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتّى أهل مكّة من مكّة » . متّفق عليه . وحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشّام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن . قال عبد اللّه - يعني ابن عمر - وبلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ويهلّ أهل اليمن من يلملم » . متّفق عليه فهذه نصوص في المواقيت عدا ذات عرق . وقد اختلف في دليل توقيت ذات عرق هل وقّت بالنّصّ أم بالاجتهاد والإجماع . فقال جماعة من العلماء ومنهم الشّافعيّ ومالك ثبت باجتهاد عمر رضي الله عنه وأقرّه الصّحابة ، فكان إجماعاً . وصحّح الحنفيّة والحنابلة وجمهور الشّافعيّة أنّ توقيت ذات عرق منصوص عليه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّ عمر رضي الله عنه لم يبلغه تحديد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّده باجتهاده فوافق النّصّ .
ب - وأمّا دلالة الإجماع على هذه المواقيت فقال النّوويّ في المجموع : « قال ابن المنذر وغيره : أجمع العلماء على هذه المواقيت » . وقال أبو عمر بن عبد البرّ : « أجمع أهل العلم على أنّ إحرام العراقيّ من ذات عرق إحرام من الميقات » .
أحكام تتعلّق بالمواقيت :
42 - منها : أ - وجوب الإحرام منها لمن مرّ بالميقات قاصداً أحد النّسكين ، الحجّ أو العمرة ، وتحريم تأخير الإحرام عنها بالإجماع . والإحرام من أوّل الميقات ، أي الطّرف الأبعد من مكّة أفضل ، حتّى لا يمرّ بشيء ممّا يسمّى ميقاتاً غير محرم . ولو أحرم من آخره أي الطّرف الأقرب إلى مكّة جاز اتّفاقاً ، لحصول الاسم .
43 - ب - من مرّ بالمواقيت يريد دخول الحرم لحاجة غير النّسك اختلف فيه : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه الإحرام لدخول مكّة أو الحرم المعظّم المحيط بها ، وعليه العمرة إن لم يكن محرماً بالحجّ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا قصد مكّة أو منطقة الحرم لحاجة لا للنّسك جاز له ألاّ يحرم . ( انظر الأدلّة وفروع المسألة في مصطلح « حرم » ) .
44 - ج - الاعتبار في هذه المواقيت بتلك المواضع ، لا باسم القرية والبناء . فلو خرب البناء في الميقات ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمّي باسم الأوّل لم يتغيّر الحكم ، بل الاعتبار بموضع الأوّل .
45 - د - لا يشترط أن يحرم من هذه المواقيت بأعيانها ، بل يكفي أن يحرم منها بذاتها ، أو من حذوها ، أي محاذاتها ومقابلتها ، وذلك لما سبق في توقيت ذات عرق ، أنّ عمر رضي الله عنه أخذ في توقيتها بالمحاذاة ، وأقرّ على ذلك . فدلّ على اتّفاق الصّحابة على الأخذ بقاعدة المحاذاة .
فروع : تفرّع على ذلك :(24/8)
46 - من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معيّن ، برّاً أو بحراً أو جوّاً ، اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتاً من هذه المواقيت المذكورة . وينبغي أن يأخذ بالاحتياط لئلاّ يجاوز الميقات غير محرم ، وخصوصاً راكب الطّائرة . 47 - إن لم يعلم المحاذاة فإنّه يحرم على مرحلتين من مكّة . اعتباراً بمسافة أقرب المواقيت ، فإنّه على بعد مرحلتين من مكّة . وعلى ذلك قرّروا أنّ جدّة تدخل في المواقيت ؛ لأنّها أقرب إلى مكّة من قرن المنازل 48 - وتفرّع على ذلك مسألة من يمرّ بميقاتين ، كالشّاميّ إذا قدم من المدينة ، والمدنيّ ، فإنّه إذا مرّ بالجحفة يمرّ بميقاتين فمن أيّ الميقاتين يحرم ؟ ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأبعد ، كأهل الشّام ومصر والمغرب ، ميقاتهم الجحفة ، فإذا مرّوا بالمدينة وجب عليهم الإحرام من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة ، وإذا جاوزوه غير محرمين حتّى الجحفة كان حكمهم حكم من جاوز الميقات من غير إحرام . وذهب المالكيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين الثّاني منهما ميقاته ندب له الإحرام من الأوّل ، ولا يجب عليه الإحرام منه ؛ لأنّ ميقاته أمامه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين فالأفضل له الإحرام من الأوّل ، ويكره له تأخيره إلى الثّاني الأقرب إلى مكّة . ولم يقيّدوه - في الأصحّ عندهم - بأن يكون الميقات الثّاني ميقاتاً له . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث المواقيت ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « هنّ لهنّ ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ » ، فإنّ هذا بعمومه يدلّ على أنّ الشّاميّ مثلاً إذا أتى ذا الحليفة فهو ميقاته ، يجب عليه أن يحرم منه . ولا يجوز له أن يجاوزه غير محرم . واستدلّ المالكيّة والحنفيّة بعموم التّوقيت لأهل المناطق المذكورة ، إلى جانب العموم الّذي استدلّ به الشّافعيّة ، فيحصل من ذلك له جواز الأمرين . فأخذ الحنفيّة بالعموم على ظاهره في العبارتين ، وجوّزوا الإحرام من أيّ الميقاتين ، مع كراهة التّأخير ، ويدلّ لهم ما ثبت أنّ ابن عمر أهلّ من الفرع وهو موضع بين ذي الحليفة ومكّة . وخصّ المالكيّة ذلك بغير المدنيّ . ويشهد لهم فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة ، فإنّهم أحرموا من ذي الحليفة . وهو محمول عند الحنفيّة على فعل الأفضل . ويدلّ للحنفيّة والمالكيّة من جهة النّظر : أنّ المقصود من الميقات تعظيم الحرم المحترم ، وهو يحصل بأيّ ميقات اعتبره الشّرع المكرّم ، يستوي القريب والبعيد في هذا المعنى . 49 - التّقدّم بالإحرام على المواقيت المكانيّة جائز بالإجماع ، وإنّما حدّدت لمنع مجاوزتها بغير إحرام . لكن اختلف هل الأفضل التّقدّم عليها ، أو الإحرام منها : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يكره له الإحرام قبل الميقات . وذهب الحنفيّة إلى أنّ تقديم الإحرام على الميقات المكانيّ أفضل ، إذا أمن على نفسه مخالفة أحكام الإحرام . استدلّ الأوّلون بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ، ولا يفعلون إلاّ الأفضل . وبأنّه يشبّه الإحرام بالحجّ قبل أشهره ، فيكون مثله في الكراهة . واستدلّ الحنفيّة بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة أو حجّة غفر له » . وسئل عليّ رضي الله عنه عن قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقال : أن تحرم من دويرة أهلك أخرجه الحاكم وصحّحه . واستدلّوا من حيث النّظر بأنّ " المشقّة فيه أكثر ، والتّعظيم أوفر " فيكون أفضل .
50 - من جاوز الميقات قاصداً الحجّ أو العمرة أو القران ، وهو غير محرم ، أثم ، ويجب عليه العود إليه والإحرام منه . فإن لم يرجع وجب عليه الدّم سواء ترك العود بعذر أو بغير عذر ، وسواء كان عالماً عامداً أو جاهلاً أو ناسياً . لكن من ترك العود لعذر لا يأثم بترك الرّجوع . ومن العذر خوف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت ، أو المرض الشّاقّ ، أو خوف فوات الرّفقة . وذلك موضع وفاق بين المذاهب .
ميقات الميقاتيّ ( البستانيّ ) :(24/9)
51 - الميقاتيّ هو الّذي يسكن في مناطق المواقيت ، أو ما يحاذيها ، أو في مكان دونها إلى الحرم المحيط بمكّة كقديد ، وعسفان ، ومرّ الظّهران . مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ميقات إحرام المكانيّ للحجّ هو موضعه ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : « يحرم من داره ، أو من مسجده ، ولا يؤخّر ذلك » . والأحسن أن يحرم من أبعدهما من مكّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة ميقاته القرية الّتي يسكنها ، إن كان قرويّاً ، أو المحلّة الّتي ينزلها إن كان بدويّاً ، فإن جاوز القرية وفارق العمران إلى مكّة ثمّ أحرم كان آثماً ، وعليه الدّم للإساءة ، فإن عاد إليها سقط الدّم ، على التّفصيل الّذي سبق ، وبيان المذاهب فيه . وكذا إذا جاوز الخيام إلى جهة مكّة غير محرم ، وإن كان في برّيّة منفرداً أحرم من منزله . ويستحبّ أن يحرم من طرف القرية أو المحلّة الأبعد عن مكّة ، وإن أحرم من الطّرف الأقرب جاز . ومذهب الحنفيّة أنّ ميقاته منطقة الحلّ أي جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحلّ ، ولا يلزمه كفّارة ، ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام . وإحرامه من دويرة أهله أفضل . استدلّ الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت : « ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ » ، فحمله المالكيّة على منزله ، وقالوا : إنّ المسجد واسع للإحرام " ؛ لأنّه موضع الصّلاة ؛ ولأنّ أهل مكّة يأتون المسجد فيحرمون منه ، وكذلك أهل ذي الحليفة يأتون مسجدهم » . وفسّره الشّافعيّة والحنابلة بالقرية والمحلّة الّتي يسكنها ؛ لأنّه أنشأ منها . وقال الحنفيّة : « إنّ خارج الحرم كلّه كمكان واحد في حقّ الميقاتيّ ، والحرم في حقّه كالميقات في حقّ الآفاقيّ ، فلا يدخل الحرم إذا أراد الحجّ أو العمرة إلاّ محرماً » .
ميقات الحرميّ والمكّيّ :
52 - أ - اتّفقت المذاهب على أنّ من كان من هذين الصّنفين ، بأن كان منزله في الحرم ، أو في مكّة ، سواء أكان مستوطناً ، أم نازلاً ، فإنّه يحرم بالحجّ من حيث أنشأ ، لما سبق في الحديث : « فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّه » .
ب - ثمّ اختلفوا في تفاصيل ذلك . فمذهب الحنفيّة أنّ من كان مكّيّاً ، أو منزله في الحرم ، كسكّان منًى ، فوقته الحرم للحجّ وللقران . ومن المسجد أفضل ، أو من دويرة أهله ، وهو قول عند الشّافعيّة بالنّسبة للمكّيّ فقط . وهذا على سبيل الوجوب عندهم ، فلو أنّه أهلّ من خارج منطقة الحرم ، لزمه العود إلى الحرم ، وإلاّ وجب عليه الدّم . ودليله حديث جابر في حجّة الوداع : « فأهللنا من الأبطح » وحديثه : « وجعلنا مكّة بظهر أهللنا بالحجّ » . أخرجهما مسلم ، وعلّقهما البخاريّ بصيغة الجزم . ومذهب المالكيّة التّفرقة بين من أهلّ بالحجّ ومن أهلّ بالقران ، فجعلوا ميقات القران ميقات العمرة الآتي تفصيله ، وهو قول عند الشّافعيّة . وأمّا من أهلّ بالحجّ وهو من سكّان مكّة أو الحرم فإمّا أن يكون مستوطناً ، أو آفاقيّاً نازلاً : أمّا المستوطن فإنّه يندب له أن يحرم من مكّة ، ومن المسجد الحرام أفضل ، وإن تركها وأحرم من الحرم أو الحلّ فخلاف الأولى ، ولا إثم ، فلا يجب الإحرام من مكّة . وأمّا الآفاقيّ فإن كان له سعة من الوقت - وعبّروا عنه ب " ذي النّفس " - فيندب له الخروج إلى ميقاته والإحرام منه . وإن لم يكن له سعة من الوقت فهو كالمستوطن . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ الحرميّ ( الّذي ليس بمكّة ) حكمه حكم الميقاتيّ . وأمّا المكّيّ : أي المقيم بمكّة ولو كان غير مكّيّ ، فعند الشّافعيّة وجهان في ميقات الحجّ له ، مفرداً كان أو قارناً : الأصحّ : أنّ ميقاته نفس مكّة ، لما سبق في الحديث : « حتّى أهل مكّة من مكّة » . والثّاني : ميقاته كلّ الحرم ، لاستواء مكّة ، وما وراءها من الحرم في الحرمة . وعند الحنابلة يحرم بالحجّ من مكّة من المسجد من تحت الميزاب ، وهو أفضل عندهم . وجاز وصحّ أن يحرم من بمكّة من سائر الحرم عند الحنابلة كما هو عند الحنفيّة .
الميقات المكانيّ للعمرة
53 - هو الميقات المكانيّ للحجّ بالنّسبة للآفاقيّ والميقاتيّ . وميقات من كان بمكّة من أهلها أو غير أهلها الحلّ من أيّ مكان ، ولو كان بعد الحرم ، ولو بخطوة . واختلفوا في الأفضل منهما ، فذهب الجمهور إلى أنّه من الجعرانة أفضل ، وذهب الحنفيّة إلى أنّه من التّنعيم أفضل . وقال أكثر المالكيّة هما متساويان . والأصل في ذلك حديث عائشة : « قالت : يا رسول اللّه أتنطلقون بعمرة وحجّة ، وأنطلق بالحجّ ؟ فأمر أخاها عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ في ذي الحجّة » . ( متّفق عليه ) . ومن جهة النّظر أنّ من شأن الإحرام أن تكون هنا رحلة بين الحلّ والحرم ، ولمّا كانت أركان العمرة كلّها في الحرم ، كان لا بدّ أن يكون الإحرام في الحلّ . ولا يعلم في ذلك خلاف بين العلماء .
الفصل الخامس
محظورات الإحرام
حكمة حظر بعض المباحات حال الإحرام(24/10)
54 - من حكم الشّرع في ذلك تذكير المحرم بما أقدم عليه من نسك ، وتربية النّفوس على التّقشّف . وقد كان من سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المغايرة في حال العيش بين التّقشّف والتّرفّه ، وتقرير المساواة بين النّاس ، وإذكاء مراقبة الإنسان نفسه في خصائص أموره العادية ، والتّذلّل والافتقار للّه عزّ وجلّ ، واستكمال جوانب من عبادة البدن . وقد ورد : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته عشيّة عرفة بأهل عرفة ، فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً » . المحظورات من اللّباس 55 - يختلف تحريم الملبس في حقّ الرّجال عن تحريم الملبس في حقّ النّساء . أ - محظورات الإحرام في الملبس في حقّ الرّجال :
56 - ضابط هذه المحظورات أنّه لا يحلّ للرّجل المحرم أن يستر جسمه كلّه أو بعضه أو عضواً منه بشيء من اللّباس المخيط أو المحيط ، كالثّياب الّتي تنسج على هيئة الجسم قطعةً واحدةً دون خياطة ، إذا لبس ذلك الثّوب ، أو استعمله في اللّبس المعتاد له . ويستر جسمه بما سوى ذلك ، فيلبس رداءً يلفّه على نصفه العلويّ ، وإزاراً يلفّه على باقي جسمه ، أو ما أشبه ذلك . والدّليل على حظر ما ذكرنا ما ثبت في الحديث المشهور عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما « أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما يلبس المحرم من الثّياب ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السّراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلاّ أحد لا يجد النّعلين ، فليلبس الخفّين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين . ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه الزّعفران ولا الورس » أخرجه السّتّة . وفي رواية عن ابن عمر زيادة « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » أخرجها البخاريّ وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ . تفصيل أحكام هذه المحظورات : يشمل تحريم هذه الأصول المتّفق عليها أموراً كثيرةً نذكر منها ما يلي : لبس القباء والسّراويل ونحوهما :
57 - أوّلاً : لو وضع القباء ونحوه عليه من غير لبس أكمامه فهو محظور كاللّبس ، عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو المعتمد عند الحنابلة ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبسه للمحرم . رواه ابن المنذر ، ورواه النّجاد عن عليّ ، ولأنّه عادة لبسه كالقميص . وفصّل الحنفيّة فقالوا : لو ألقى القباء أو العباء ونحوهما على منكبيه من غير إدخال يديه أو إحداهما في كمّيه ولم يزرّه جاز مع الكراهة ، ولا فداء عليه ، وهو قول الخرقيّ من الحنابلة فإن زرّه أو أدخل يديه أو إحداهما في كمّيه فهو محظور ، حكمه حكم اللّبس في الجزاء . ووجهه : أنّ القباء لا يحيط بالبدن ، فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه ، إذا لم يدخل يديه كمّيه ، كالقميص يتّشح به . 58 - ثانياً : من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به ، ولا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة . وفصّل الحنفيّة : فأجازوا لبس السّراويل إذا كان غير قابل لأن يشقّ ويؤتزر به ، وإلاّ يفتق ما حول السّراويل ما خلا موضع التّكّة ويتّزر به . ولو لبسه كما هو فعليه دم ، إلاّ إذا كان ضيّقاً غير قابل لذلك فيكون عليه فدية يتخيّر فيها . وعند المالكيّة قولان : قول بجواز لبس السّراويل إذا عدم الإزار ، ويفتدي ، وقول : لا يجوز ولو عدم الإزار ، وهو المعتمد .
لبس الخفّين ونحوهما :
59 - ثالثاً : من لم يجد النّعلين يقطع الخفّين أسفل من الكعبين ويلبسهما ، كما نصّ الحديث . وهو قول المذاهب الثّلاثة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وقول عروة بن الزّبير والثّوريّ وإسحاق بن راهويه وابن المنذر ، وهو مرويّ عن عمر بن الخطّاب ، وعبد اللّه بن عمر ، والنّخعيّ . وقال الإمام أحمد : وهو المعتمد في المذهب : لا يقطع الخفّين ، ويلبسهما كما هما . وهو قول عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القدّاح ، بل قال الحنابلة : « حرم قطعهما " على المحرم . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر السّابق في محظورات الإحرام . واستدلّ الحنابلة بحديث ابن عبّاس ، وقالوا : « إنّ زيادة القطع - أي في حديث ابن عمر - اختلف فيها ، فإن صحّت فهي بالمدينة ، لرواية أحمد عنه : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر " فذكره ، وخبر ابن عبّاس بعرفات ، فلو كان القطع واجباً لبيّنه للجمع العظيم الّذي لم يحضر أكثرهم ذلك بالمدينة . وقد فسّر الجمهور الكعب الّذي يقطع الخفّ أسفل منه بأنّهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم . وفسّره الحنفيّة بالمفصل الّذي في وسط القدم عند معقد الشّراك . ووجهه أنّه : « لمّا كان الكعب يطلق عليه وعلى النّاتئ حمل عليه احتياطاً » . 60 - رابعاً : ألحق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالخفّين كلّ ما ستر شيئاً من القدمين ستر إحاطة ، فلم يجيزوا لبس الخفّين المقطوعين أسفل من الكعبين إلاّ عند فقد النّعلين . ولو وجد النّعلين لم يجز له لبسهما ، ووجب عليه خلعهما إن كان قد لبسهما . وإن لبسهما لعذر كالمرض لم يأثم وعليه الفداء . وأمّا الحنفيّة فإنّهم قالوا : كلّ ما كان غير ساتر للكعبين ، اللّذين في ظاهر القدمين فهو جائز للمحرم .
تقلّد السّلاح :(24/11)
61 - خامساً : حظر المالكيّة والحنابلة على المحرم تقلّد السّيف بدون حاجة ، ومثله الأسلحة المعاصرة . وأوجب عليه المالكيّة الفداء إذا تقلّده لغير حاجة ، وقالوا : هذا إذا كانت علاقته غير عريضة ، ولا متعدّدةً ، وإلاّ فالفدية لازمة على كلّ حال ، لكن لا يأثم في حال العذر . وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة تقلّد السّيف مطلقاً ، لم يقيّدوه بالحاجة ، وكأنّهم لاحظوا أنّه ليس من اللّبس المعتاد المحظور على المحرم .
ستر الرّأس والاستظلال :
62 - سادساً : اتّفق العلماء على تحريم ستر المحرم رأسه أو بعضه ، أخذاً من تحريم لبس العمائم والبرانس ثمّ اختلفوا في ضابط هذا السّتر . فعند الحنفيّة والحنابلة يحرم ستره بما يقصد به التّغطية عادةً . وعند المالكيّة يحرم ستر المحرم رأسه بكلّ ما يعدّ ساتراً مطلقاً . وقريب منهم مذهب الشّافعيّة ، غير أنّهم قالوا : يحرم ما يعدّ ساتراً عرفاً ، فإن لم يكن ساتراً عرفاً فيحرم إن قصد به السّتر . يحرم ستر بعض الرّأس كذلك بما يعدّ ساتراً ، أو يقصد به السّتر ، على الخلاف الّذي ذكرناه . فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة ، ولا سير ، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به . وقد ضبطه المالكيّة بما يبلغ مساحة درهم فأكثر . وجعل الحنفيّة فيما كان أقلّ من ربع الرّأس الكراهة وصدقةً بشرط الدّوام الّذي سيأتي . واتّفقوا على جواز نحو خيط ، ويحرم عند المالكيّة وضع اليد على الرّأس ، لأنّها ساتر مطلقاً ، وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها ستر الرّأس ، وإلاّ فلا . ولا يحرم عند الحنفيّة والحنابلة . 63 - وأمّا وضع حمل على الرّأس : فيحرم عند الحنفيّة والحنابلة إن كان ممّا يقصد به التّغطية بحسب العادة ، كما لو حمل على رأسه ثياباً ، فإنّه يكون تغطيةً ، وإن كان ممّا لا يقصد به تغطية الرّأس عادةً لا يحرم ، كحمل طبق أو قفّة ، أو طاسة قصد بها السّتر ؛ لأنّها ليست ممّا يقصد به السّتر غالباً ، فصار كوضع اليد . وهذا متّفق مع الشّافعيّة ، لكن عند الشّافعيّة إذا حمل ما لا يعتبر ساتراً كالقفّة وقصد به السّتر حرم ولزمه الفداء . وأمّا المالكيّة فقالوا : يجوز للمحرم أن يحمل على رأسه ما لا بدّ منه من خرجه وجرابه ، وغيره ، والحال أنّه لا يجد من يحمل خرجه مثلاً لا بأجرة ولا بغيرها . فإن حمل لغيره أو للتّجارة ، فالفدية ، وقال أشهب : إلاّ أن يكون عيشه ذلك . أي إلاّ أن يكون ما ذكر من الحمل للغير أو التّجارة لعيشه . وهو معتمد في المذهب المالكيّ . 64 - والتّظلّل بما لا يلامس الرّأس ، وهو ثابت في أصل تابع له ، جائز اتّفاقاً ، كسقف الخيمة ، والبيت ، من داخلهما ، أو التّظلّل بظلّهما من الخارج ، ومثل مظلّة المحمل إذا كانت ثابتةً عليه من الأصل . وعلى ذلك يجوز ركوب السّيّارات المسقفة اتّفاقاً ؛ لأنّ سقوفها من أصل صناعتها ، فصارت كالبيت والخيمة . وإن لم يكن المظلّ ثابتاً في أصل يتبعه فجائز كذلك مطلقاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وقول عند الحنابلة . وقال المالكيّة : لا يجوز التّظلّل بما لا يثبت في المحمل . ونحو هذا قول عند الحنابلة ، واختاره الخرقيّ ، وضبطه عندهم في هذا القول : « أنّه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً ، فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه " وفي التّظلّل بنحو ثوب يجعل على عصاً أو على أعواد ( مظلّة أو بشيء يرفعه على رأسه من الشّمس أو الرّيح ) ، أقوال ثلاثة أقربها الجواز ، للحديث الآتي في دليل الجمهور . ويجوز الاتّقاء بذلك من المطر . وأمّا البناء والخباء ونحوهما فيجوز الاتّقاء به من الحرّ والبرد والمطر . وأجاز التّظلّل بذلك الحنابلة ، وكذا الحنفيّة والشّافعيّة ، لما عرفت من أصل مذهبهم . واستدلّوا بحديث أمّ الحصين قالت : « حججت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ ، حتّى رمى جمرة العقبة » . أخرجه مسلم . ولأنّ ما حلّ للحلال - كما في المغني - حلّ للمحرم إلاّ ما قام على تحريمه دليل .
ستر الوجه
65 - سابعاً : يحظر على المحرم ستر وجهه عند الحنفيّة والمالكيّة وليس بمحظور عند الشّافعيّة والحنابلة وعزاه النّوويّ في المجموع إلى الجمهور . استدلّ الحنفيّة والمالكيّة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ رجلاً وقصته راحلته وهو محرم فمات ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبيه ، ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » أخرجه مسلم . وجه الاستدلال أنّه : « أفاد أنّ للإحرام أثراً في عدم تغطية الوجه » . واستدلّوا أيضاً من المعقول بأنّ المرأة لا تغطّي وجهها ، مع أنّ في الكشف فتنةً ، فالرّجل بطريق الأولى . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بما ورد من الآثار عن بعض الصّحابة بإباحة تغطية المحرم وجهه ، من فعلهم أو قولهم . روي ذلك عن عثمان بن عفّان ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وابن الزّبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وجابر . وروى القاسم وطاوس والثّوريّ من غير الصّحابة . لبس القفّازين :
66 - ثامناً : يحرم على الرّجل لبس القفّازين ، باتّفاق العلماء ، كما نصّ على ذلك النّوويّ ، وهو كذلك في مصادر المذاهب .
ب - محظورات الإحرام من الملبس في حقّ النّساء :
ينحصر محظور الإحرام من الملبس في حقّ النّساء في أمرين فقط ، هما الوجه واليدان ، نفصّل بحثهما فيما يلي : ستر الوجه :(24/12)
67 - اتّفق العلماء على أنّه يحرم على المرأة في الإحرام ستر وجهها ، لا خلاف بينهم في ذلك . والدّليل عليه من النّقل ما سبق في الحديث : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . وضابط السّاتر هنا عند المذاهب هو كما مرّ في ستر الرّأس للرّجل . وإذا أرادت أن تحتجب بستر وجهها عن الرّجال جاز لها ذلك اتّفاقاً بين العلماء ، إلاّ إذا خشيت الفتنة أو ظنّت فإنّه يكون واجباً . والدّليل على هذا الاستثناء حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان الرّكبان يمرّون بنا ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه » أخرجه أبو داود . وعن فاطمة بنت المنذر قالت : كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق . أخرجه مالك والحاكم . ومرادها من هذا ستر الوجه بغير النّقاب على معنى التّستّر . وقد اشترط الحنفيّة والشّافعيّة - وهو قول عند الحنابلة - ألاّ يلامس السّاتر الوجه ، كأن تضع على رأسها تحت السّاتر خشبةً أو شيئاً يبعد السّاتر عن ملامسة وجهها " لأنّه بمنزلة الاستظلال بالمحمل " كما في الهداية . وأجاز لها المالكيّة أن تستر وجهها إذا قصدت السّتر عن أعين النّاس ، بثوب تسدله من فوق رأسها دون ربط ، ولا غرز بإبرة أو نحوها ممّا يغرز به . ومثل ذلك عند الحنابلة ، لكن عبّروا بقولهم : « إن احتاجت إلى ستره " ؛ لأنّ العلّة في السّتر المحرّم أنّه ممّا يربط ، وهذا لا يربط ، كما تشير عبارة المالكيّة .
لبس القفّازين :
68 - يحظر على المرأة المحرمة لبس القفّازين عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة . وذهب الحنفيّة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، إلى أنّه يجوز لها اللّبس بكفّيها ، كالقفّاز وغيره ، ويقتصر إحرامها على وجهها فقط . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر بزيادة : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . واستدلّ الحنفيّة بحديث ابن عمر قال : « إحرام المرأة في وجهها » ، وبما ورد من آثار عن الصّحابة . وكان سعد بن أبي وقّاص يلبس بناته القفّازين وهنّ محرمات . ورخّص فيه عليّ وعائشة . وهو قول عطاء وسفيان والثّوريّ . يجوز للمحرمة تغطية يدها فقط من غير شدّ ، وأن تدخل يديها في أكمامها وفي قميصها .
المحرّمات المتعلّقة ببدن المحرم
69 - ضابط هذه المحظورات كلّ شيء يرجع إلى تطييب الجسم ، أو إزالة الشّعث ، أو قضاء التّفث . والدّليل على تحريمها قوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تلبسوا شيئاً من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس » . أخرجه السّتّة .
فتحرم الأشياء الآتية :
أ - حلق الرّأس .
ب - إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم .
ج - قصّ الظّفر .
د - الأدهان .
هـ - التّطيّب .
تفصيل أحكام هذه المحظورات
حلق الرّأس :
70 - يحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره . وكذا لو حلق له غيره حلالاً أو محرماً يحظر عليه تمكينه من ذلك . والتّقصير كالحلق في ذلك كلّه . وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه . وكذلك إزالة الشّعر عن الرّأس بأيّ شيء كالنّتف ، والحرق ، أو استعمال النّورة لإزالته . ومثلها أيّ علاج مزيل للشّعر . وذلك كلّه ما لم يفرغ الحالق والمحلوق له من أداء نسكهما . فإذا فرغا لا يدخلان في الحظر . ويسوغ لهما أن يحلق أحدهما للآخر ، باتّفاق المذاهب على ذلك كلّه . والدّليل هو ما سبق من نصّ الآية ، وهي وإن ذكرت الحلق فإنّ غيره ممّا ذكرنا مثله في التّرفّه ، فيقاس عليه ، ويأخذ حكمه . واختلفوا في حلق المحرم للحلال . فحظره الحنفيّة . وهو قول للمالكيّة . وأجازه المالكيّة في قول آخر والشّافعيّة والحنابلة . استدلّ الثّلاثة بأنّ المحرم حلق شعراً لا حرمة له من حيث الإحرام ، فلا يمنع ، ولا جزاء عليه . واستدلّ الحنفيّة : بأنّ المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره ، لقوله عزّ وجلّ : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . والإنسان لا يحلق رأس نفسه عادةً ، إلاّ أنّه لمّا حرم عليه حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى . وسواء كان المحلوق حلالاً أو حراماً ، لما قلنا . إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم :
71 - يحظر إزالة الشّعر وذلك قياساً على شعر الرّأس ، بجامع التّرفّه في كلّ منهما .
الادّهان :
73 - الدّهن مادّة دسمة من أصل حيوانيّ أو نباتيّ . وقد اختلفوا في الدّهن غير المطيّب : فالجمهور - عدا الإمام أحمد - على تفصيل بينهم - ذهبوا إلى حظر استعمال الدّهن ولو كان غير مطيّب ، كالزّيت ، لما فيه من التّرفّه والتّزيين ، وتحسين الشّعر ، وذلك ينافي الشّأن الّذي يجب أن يكون عليه المحرم من الشّعث والغبار افتقاراً وتذلّلاً للّه تعالى . وقد أوردوا في الدّهن وأشباهه الاستدلال بحديث ابن عمر ، قال : « قام رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاجّ يا رسول اللّه ؟ قال : الشّعث التّفل » . أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه .(24/13)
والشّعث : بكسر العين الوصف ، وبفتحها المصدر ، ومعناه انتشار الشّعر وتغبّره لقلّة التّعهّد . والتّفل : من التّفل ، وهو ترك الطّيب حتّى يوجد منه رائحة كريهة . فشمل بذلك ترك الدّهن . فقال الحنفيّة والمالكيّة يحظر على المحرم استعمال الدّهن في رأسه ولحيته وعامّة بدنه لما ذكرنا من عموم الاستدلال فيما سبق . وقال الشّافعيّة يحظر دهن شعر الرّأس للرّجل والمرأة واللّحية وما ألحق بهما كالشّارب والعنفقة فقط ، حتّى لو كان أصلع جاز دهن رأسه ، أمّا إذا كانا محلوقين فيحظر دهنهما ؛ لأنّه يزيّنهما إذا نبتا . ويباح له دهن ما عدا الرّأس واللّحية وما ألحق بهما ، ولا يحظر ، ظاهراً كان أو باطناً ، ويباح سائر شعور بدنه ، ويباح له أكل الدّهن من غير أن يصيب اللّحية أو الشّارب أو العنفقة . واستدلّوا بأنّه ليس في الدّهن طيب ولا تزيين ، فلا يحرم إلاّ فيما ذكرنا ؛ لأنّه به يحصل التّزيين . وإنّ الّذي جاء به الشّرع استعمال الطّيب ، وهذا ليس منه ، فلا يثبت تحريمه . وقال الحنابلة - على المعتمد عندهم من إباحته في كلّ البدن : « إنّ وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ، ولا دليل فيه من نصّ ولا إجماع . ولا يصحّ قياسه على الطّيب ، فإنّ الطّيب يوجب الفدية وإن لم يزل شيئاً ، ويستوي فيه الرّأس وغيره ، والدّهن بخلافه » .
هـ - التّطيّب :
74 - الطّيب عند الحنفيّة : ما له رائحة مستلذّة ويتّخذ منه الطّيب . وعند الشّافعيّة : ما يقصد منه رائحته غالباً ، ولو مع غيره . ويشترط في الطّيب الّذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطّيب ، واتّخاذ الطّيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . وعند الحنابلة : ما تطيب رائحته ويتّخذ للشّمّ . وقسّمه المالكيّة إلى قسمين : مذكّر ومؤنّث . فالمذكّر : هو ما يخفى أثره أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ويظهر ريحه . والمراد به أنواع الرّياحين : كالرّيحان ، والورد ، والياسمين . وأمّا المياه الّتي تعتصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث . والمؤنّث : هو ما يظهر لونه وأثره ، أي تعلّقه بما مسّه مسّاً شديداً ، كالمسك ، والكافور ، والزّعفران . فالمؤنّث يكره شمّه ، واستصحابه ، ومكث في المكان الّذي هو فيه ، ويحرم منه . والمذكّر يكره شمّه ، وأمّا مسّه من غير شمّ واستصحابه ومكث بمكان هو فيه فهو جائز . تفصيل أحكام التّطيّب للمحرم : تطييب الثّوب :
75 - وهو أصل في الباب ، للتّنصيص عليه في الحديث السّابق ، ومن هنا قالوا : المحرم ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره ، أو ردائه ، وجميع ثيابه ، وفراشه ، ونعله حتّى لو علق بنعله طيب وجب أن يبادر لنزعه ، ولا يضع عليه ثوباً مسّه الورس أو الزّعفران ، أو نحوهما من صبغ له طيب . كذلك لا يجوز له حمل طيب تفوح رائحته ، أو شدّه بطرف ثوبه ، كالمسك ، بخلاف شدّ عود أو صندل . أمّا الثّوب الّذي فيه طيب قبل الإحرام فلا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة لبسه . ويجوز عند الشّافعيّة والحنابلة تطييب ثوب الإحرام عند إرادة الإحرام . ولا يضرّ بقاء الرّائحة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن ، لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه .
تطييب البدن :
76 - يحظر على المحرم استعمال الطّيب في بدنه ، وعليه الفدية ، ولو للتّداوي . ولا يخضّب رأسه أو لحيته أو شيئاً من جسمه ، ولا يغسله بما فيه طيب ، ومنه عند الحنفيّة الخطميّ والحنّاء ، على ما مرّ من الخلاف فيهما . 77 - وأكل الطّيب الخالص أو شربه لا يحلّ للمحرم اتّفاقاً بين الأئمّة . أمّا إذا خلط الطّيب بطعام قبل الطّبخ ، وطبخه معه ، فلا شيء عليه ، قليلاً كان أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وكذا عند الحنفيّة لو خلطه بطعام مطبوخ بعد طبخه فإنّه يجوز للمحرم أكله . أمّا إذا خلطه بطعام غير مطبوخ : فإن كان الطّعام أكثر فلا شيء ، ولا فدية إن لم توجد الرّائحة ، وإن وجدت معه الرّائحة الطّيّبة يكره أكله عند الحنفيّة . وإن كان الطّيب أكثر وجب في أكله الدّم سواء ظهرت رائحته أو لم تظهر . وأمّا عند المالكيّة فكلّ طعام خلط بطيب من غير أن يطبخ الطّيب معه فهو محظور في كلّ الصّور ، وفيه الفداء . أمّا إن خلط الطّيب بمشروب ، كماء الورد وغيره ، وجب فيه الجزاء ، قليلاً كان الطّيب أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إذا خلط الطّيب بغيره من طعام أو شراب ، ولم يظهر له ريح ولا طعم ، فلا حرمة ولا فدية ، وإلاّ فهو حرام وفيه الفدية .
شمّ الطّيب :
78 - شمّ الطّيب دون مسّ يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، ولا جزاء فيه عندهم . أمّا الحنابلة فقالوا : يحرم تعمّد شمّ الطّيب ، ويجب فيه الفداء ، كالمسك والكافور ، ونحوهما ممّا يتطيّب بشمّه .
الصّيد وما يتعلّق به
79 - تعريف الصّيد لغةً : الصّيد لغةً : مصدر بمعنى ، الاصطياد ، والقنص ، وبمعنى المصيد ، وكلّ من المعنيين داخل فيما يحظر بالإحرام . تعريف الصّيد اصطلاحاً :
80 - الصّيد عند الحنفيّة هو الحيوان البرّيّ الممتنع عن أخذه بقوائمه ، أو جناحيه ، المتوحّش في أصل الخلقة . وعند المالكيّة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش في أصل الخلقة . وعند الشّافعيّة والحنابلة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش المأكول اللّحم .
أدلّة تحريم الصّيد :(24/14)
81 - وقد ثبت تحريم الصّيد على المحرم بالكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } . وقال عزّ من قائل : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . وكلّ منهما نصّ قاطع في الموضوع . وأمّا السّنّة فمنها حديث أبي قتادة « حين أحرم أصحابه ولم يحرم ، ورأى حمار وحش . وفي الحديث فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، ثمّ ركبت ، فسقط منّي سوطي ، فقلت لأصحابي - وكانوا محرمين - ناولوني السّوط . فقالوا : واللّه لا نعينك عليه بشيء ، فنزلت ، فتناولته ثمّ ركبت . وفي رواية أخرى : فنزلوا ، فأكلوا من لحمها ، وقالوا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان ، فلمّا أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول اللّه إنّا كنّا أحرمنا ، وقد كان أبو قتادة لم يحرم ، فرأينا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً ، فنزلنا ، فأكلنا من لحمها ، ثمّ قلنا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ، ؟ فحملنا ما بقي من لحمها . قال : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها » متّفق عليه . وأمّا الإجماع فقد حكاه النّوويّ وابن قدامة كما ذكر ابن قدامة إجماع أهل العلم على وجوب الجزاء بقتله .
إباحة صيد البحر :
82 - وأمّا صيد البحر : فحلال للحلال وللمحرم بالنّصّ ، والإجماع : أمّا النّصّ فقوله تعالى : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والإجماع حكاه النّوويّ وأبو بكر الجصّاص .
أحكام تحريم الصّيد على المحرم :
83 - يشمل تحريم الصّيد على المحرم أموراً نصنّفها فيما يلي : تحريم قتل الصّيد ، لصريح النّصوص الواردة في ذلك . وتحريم إيذاء الصّيد ، أو الاستيلاء عليه . ومن ذلك : كسر قوائم الصّيد ، أو كسر جناحه ، أو شيّ بيضه أو كسره ، أو نتف ريشه ، أو جزّ شعره ، أو تنفير الصّيد ، أو أخذه ، أو دوام إمساكه ، أو التّسبّب في ذلك كلّه أو في شيء منه بدليل الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والآية تفيد تحريم سائر أفعالنا في الصّيد في حال الإحرام » . والدّليل من القياس : « أنّ ما منع من إتلافه لحقّ الغير منع من إتلاف أجزائه ، كالآدميّ ، فإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء . . . » . وللقياس على حظر تنفير صيد الحرم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في مكّة : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » فإذا حرم تنفير صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام .
84 - وتحرم المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه : مثل الدّلالة عليه ، أو الإشارة ، أو إعارة سكّين ، أو مناولة سوط . وكذا يحرم الأمر بقتل الصّيد اتّفاقاً في ذلك . والدّليل عليه حديث أبي قتادة السّابق .
تحريم تملّك الصّيد
85 - يحرم تملّك الصّيد ابتداءً ، بأيّ طريق من طرق التّملّك ، فلا يجوز بيعه ، أو شراؤه ، أو قبوله هبةً ، أو وصيّةً ، أو صدقةً ، أو إقالةً . والدّليل على تحريم ذلك الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . قال في فتح القدير : « أضاف التّحريم إلى العين ، فيكون ساقط التّقوّم في حقّه ، كالخمر . وأنت علمت أنّ إضافة التّحريم إلى العين تفيد منع سائر الانتفاعات » . ويستدلّ أيضاً من السّنّة بحديث الصّعب بن جثّامة « أنّه أهدى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمار وحش ، فردّه عليه ، فلمّا رأى ما في وجهه قال : إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم » . متّفق عليه . ويستدلّ بإجماع العلماء .
تحريم الانتفاع بشيء من الصّيد(24/15)
86 - يحرم على المحرم أكل لحمه ، وحلبه ، وأكل بيضه ، وشيّه . وذلك لعموم الأدلّة الّتي سبقت في تحريم تملّك الصّيد ؛ ولأنّ الانتفاع فرع من الملك ، فإذا حرّم الملك لم يبق محلّ لأثره . 87 - إذا صاد الحلال صيداً فهل يحلّ للمحرم أكله ؟ في المسألة مذاهب : المذهب الأوّل : لا يحلّ للمحرم الصّيد أصلاً ، سواء أمر به أم لا ، وسواء أعان على صيده أم لا ، وسواء أصاده الحلال له أم لم يصده له . وهذا قول طائفة من أهل العلم ، منهم من الصّحابة : عليّ وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم . وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وسفيان الثّوريّ . المذهب الثّاني : ما صاده الحلال للمحرم ومن أجله فلا يجوز للمحرم أكله ، فأمّا ما لم يصده من أجل المحرم بل صاده لنفسه أو لحلال آخر فلا يحرم على المحرم أكله . وهذا مذهب الجمهور ، المالكيّة والشّافعيّة الحنابلة . وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأبي ثور . وقال ابن عبد البرّ : وهو الصّحيح عن عثمان في هذا الباب . إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : ما صيد للمحرم هو ميتة على كلّ أحد ، المحرم المذبوح له وغيره ، وعلى المحرم الجزاء إن علم أنّه صيد لمحرم ولو غيره ، وأكل . وإن لم يعلم وأكل منه فلا جزاء عليه . ووافقهم الحنابلة في لزوم الجزاء ، وفصّلوا فأوجبوه كاملاً إن أكله كلّه ، وقسطه إن أكل بعضه ، لكنّهم لم يجعلوه حراماً إلاّ على من ذبح له . وقال الشّافعيّة - على ما هو الأصحّ الجديد في المذهب - لا جزاء في الأكل . ولم يعمّموا الحرمة على غير من صيد له الصّيد . المذهب الثّالث : يحلّ للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصّيد ، ما لم يأمر به ، أو تكون منه إعانة عليه أو إشارة أو دلالة ، وهو مذهب الحنفيّة . وقال ابن المنذر : « كان عمر بن الخطّاب وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير يقولون : للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وروي ذلك عن الزّبير بن العوّام ، وبه قال أصحاب الرّأي » . استدلّ أصحاب المذهب الأوّل القائلون بتحريم أكل لحم الصّيد على المحرم مطلقاً بإطلاق الكتاب والسّنّة فيما سبق . واستدلّ الجمهور أصحاب المذهب الثّاني بأنّ ما صاده الحلال يحلّ أكله للمحرم بشرط ألاّ يكون صيد لأجله بأدلّة من السّنّة منها : حديث أبي قتادة السّابق فقد أحلّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمحرمين أكل ما صاده الحلال . واستدلّ الجمهور أيضاً بحديث جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « صيد البرّ لكم حلال ، ما لم تصيدوه أو يصد لكم » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه الحاكم . وقد تكلّم في سنده ، لكن رجّح النّوويّ صحّته . واستدلّ أصحاب المذهب الثّالث الحنفيّة ومن معهم - القائلون : يحلّ للمحرم أن يأكل من صيد صاده الحلال ، وذبحه ، ما لم يكن من المحرم دلالة ولا أمر للحلال به ، وإن صاده الحلال لأجل المحرم - بأدلّة كثيرة من السّنّة والآثار . منها حديث أبي قتادة السّابق ، في صيده حمار وحش وهو حلال وأكل منه الصّحابة وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه . وجه دلالة الحديث : « أنّهم لمّا سألوه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحلّه لهم حتّى سألهم عن موانع الحلّ ، أكانت موجودةً أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا إذن » . فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التّفحّص عن الموانع ، ليجيب بالحكم عند خلوّه منها . وهذا المعنى كالصّريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعاً ، فيعارض حديث جابر ، ويقدّم عليه ، لقوّة ثبوته .
صيد الحرم :
88 - المراد بالحرم هنا مكّة والمنطقة المحرّمة المحيطة بها . وللحرم أحكام خاصّة ، منها تحريم صيده على الحلال كما يحرم على المحرم أيضاً ، وذلك باتّفاق العلماء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » . متّفق عليه . فقرّر العلماء من تحريم الصّيد على الحلال في الحرم أحكاماً نحو تحريم الصّيد على المحرم ، وتفرّعت لذلك فروع في المذاهب لا نطيل ببسطها ( ر : حرم . )
ما يستثنى من تحريم قتل الصّيد :(24/16)
89 - أ - اتّفق على جواز قتل الحيوانات التّالية في الحلّ والحرم ، للمحرم وغيره ، سواء ابتدأت بأذًى أو لا ، ولا جزاء على من قتلها - وهي : الغراب ، والحدأة ، والذّئب ، والحيّة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، لما ورد من الأحاديث في إباحة قتلها : روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » . متّفق عليه . وقد ورد ذكر الغراب في الحديث مطلقاً ، ومقيّداً ، ففسّروه بالغراب الأبقع الّذي يأكل الجيف . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : « اتّفق العلماء على إخراج الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ من ذلك ، ويقال له : غراب الزّرع » . ا هـ . يعني أنّه لا يدخل في إباحة قتل الصّيد ، بل يحرم صيده . إلاّ أنّ المالكيّة فصلّوا فقالوا : يجوز قتل الفأرة والحيّة والعقرب مطلقاً ، صغيرةً أو كبيرةً ، بدأت بالأذيّة أم لا . وأمّا الغراب والحدأة ففي قتل صغيرهما - وهو ما لم يصل لحدّ الإيذاء - خلاف عند المالكيّة : قول بالجواز نظراً للفظ « غراب " الواقع في الحديث ، فإنّه مطلق يصدق على الكبير والصّغير : وقول بالمنع نظراً للعلّة في جواز القتل ، وهي الإيذاء ، وذلك منتف في الصّغير . وعلى القول بالمنع ، فلا جزاء فيه ، مراعاةً للقول الآخر . ثمّ قرّر المالكيّة شرطاً لجواز قتل ما يقبل التّذكية ، كالغراب ، والحدأة ، والفأرة ، والذّئب ، وهو أن يكون قتلها بغير نيّة الذّكاة ، بل لدفع شرّها ، فإن قتل بقصد الذّكاة ، فلا يجوز ، وفيه الجزاء . 90 - ب - يجوز قتل كلّ مؤذ بطبعه ممّا لم تنصّ عليه الأحاديث ، مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، وسائر السّباع . بل صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه مستحبّ بإطلاق دون اشتراط شيء . وكذا الحكم عندهم فيما سبق استحباب قتل تلك المؤذيات . وأمّا المالكيّة فعندهم التّفصيل السّابق بالنّسبة للكبار والصّغار ، واشتراط عدم قصد الذّكاة بقتلها . واشترطوا في الطّير الّذي لم ينصّ عليه أن يخاف منه على نفس أو مال ، ولا يندفع إلاّ بقتله . وأمّا الحنفيّة فقالوا : السّباع ونحوها كالبازي والصّقر ، معلّماً وغير معلّم ، صيود لا يحلّ قتلها . إلاّ إذا صالت على المحرم ، فإن صالت جاز له قتلها ولا جزاء عليه . وفي رواية عندهم جواز قتلها مطلقاً . استدلّ الجمهور على تعميم الحكم في كلّ مؤذ بأدلّة : منها : حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقتل المحرم السّبع العادي ، والكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة والغراب . » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه . وقال التّرمذيّ : هذا حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم ، قالوا : « المحرم يقتل السّبع العادي » . واستدلّوا بما ورد في الأحاديث المتّفق عليها من الأمر بقتل " الكلب العقور » . قال الإمام مالك : « إنّ كلّ ما عقر النّاس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، والذّئب ، فهو الكلب العقور » .
91 - ج - ألحق الشّافعيّة والحنابلة بما يقتل في الحرم والإحرام كلّ ما لا يؤكل لحمه .
الهوامّ والحشرات
92 - د - لا تدخل الهوامّ والحشرات في تحريم الصّيد عند أصحاب المذاهب الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند الحنفيّة : فلأنّها ليست ممتنعةً ، وقد ذكروا في تعريف الصّيد أنّه الممتنع . وعلى ذلك فلا جزاء في قتلها عند الحنفيّة ، لكن لا يحلّ عندهم قتل ما لا يؤذي ، وإن لم يجب فيه الجزاء . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تدخل في الصّيد ، لكونهم اشترطوا فيه أن يكون مأكولاً . وهذه غير مأكولة ، وقد عرفت تفصيل حكمها عندهم في المسألة السّابقة . وأمّا المالكيّة فقالوا : يحظر قتل ما لا يؤذي من الحشرات بالإحرام والحرم ، وفيه الجزاء عندهم . لكن قالوا في الوزغ : لا يجوز للمحرم قتله ، ويجوز للحلال قتله في الحرم ، " إذ لو تركها الحلال بالحرم لكثرت في البيوت وحصل منها الضّرر » .
الجماع ودواعيه :
93 - يحرم على المحرم باتّفاق العلماء وإجماع الأمّة الجماع ودواعيه الفعليّة أو القوليّة وقضاء الشّهوة بأيّ طريق . والجماع أشدّ المحظورات حظراً ؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النّسك . والدّليل على تحريم ذلك النّصّ القرآنيّ : { فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . فسّر الرّفث بأنّه ما قيل عند النّساء من ذكر الجماع وقول الفحش . وثبت ذلك عن ابن عبّاس فتكون الآية دليلاً على تحريم الجماع على المحرم بطريق دلالة النّصّ ، أي من باب الأولى ؛ لأنّه إذا حرم ما دون الجماع ، كان تحريمه معلوماً بطريق الأولى . وفسّر الرّفث أيضاً بذكر إتيان النّساء ، الرّجال والنّساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم . ونقل ذلك عن ابن عمر وبعض التّابعين . فتدلّ الآية على حرمة الجماع لدخوله في عمومها . كما فسّر بالجماع أيضاً ، ونسب ذلك إلى جماعة من السّلف منهم ابن عبّاس وابن عمر ، فتكون الآية نصّاً فيه .
الفسوق والجدال :(24/17)
94 - الفسوق : هو الخروج عن الطّاعة . وهو حرام في كلّ حال ، وفي حال الإحرام آكد وأغلظ ، لذلك نصّ عليه في الكتاب الكريم : { ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . وقد اختار جمهور المفسّرين والمحقّقون أنّ المراد به في الآية إتيان معاصي اللّه تعالى . وهذا هو المراد والصّواب ، لما هو معلوم من استعمال القرآن والسّنّة والشّرع لكلمة الفسق بمعنى الخروج عن الطّاعة . والجدال : المخاصمة . وقد قال جمهور المفسّرين المتقدّمين : أن تماري صاحبك حتّى تغضبه . وهذا يقتضي النّهي عن كلّ مساوئ الأخلاق والمعاملات . لكن ما يحتاج إليه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يدخل في حظر الجدال .
الفصل السّادس مكروهات الإحرام
95 - وهي أمور يكون فاعلها مسيئاً ، لكن لا يلزمه جزاء لو فعلها . وفي بيانها تنبيه هامّ ، وإزاحة لما قد يقع من اشتباه .
96 - فمنها غسل الرّأس والجسد واللّحية بالسّدر ونحوه ، عند الحنفيّة ؛ لأنّه يقتل الهوامّ ويليّن الشّعر .
97 - ومشط الرّأس بقوّة ، وحكّه ، وكذا حكّ الجسد حكّاً شديداً ، وذلك لأنّه يؤدّي إلى قطع الشّعر أو نتفه . أمّا لو فعل ذلك برفق فإنّه مباح ، لذلك قالوا : يحكّ ببطون أنامله . قال النّوويّ : « وأمّا حكّ المحرم رأسه فلا أعلم خلافاً في إباحته بل هو جائز » . 98 - والتّزيّن ، صرّح بكراهته الحنفيّة وعبارات غيرهم تدلّ عليه . قال الحنفيّة في الاكتحال بكحل غير مطيّب لقصد الزّينة إنّه مكروه ، فإن اكتحل لا لقصد الزّينة بكحل غير مطيّب بل للتّداوي أو لتقوية الباصرة فمباح . أمّا المالكيّة فالاكتحال بغير مطيّب محظور عندهم ، وفيه الفداء ، إلاّ لضرورة فلا فداء فيه . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة الاكتحال بما لا طيب فيه ، إن لم يكن فيه زينة ، غير مكروه ، كالكحل الأبيض ، وإن كان فيه زينة كالإثمد فإنّه يكره ، لكن لا يلزم فيه فدية . فإن اكتحل بما فيه زينة لحاجة كالرّمد فلا كراهة . أمّا الاكتحال بكحل مطيّب فإنّه محظور اتّفاقاً على الرّجال والنّساء .
ما يباح في الإحرام
99 - الأمور الّتي تباح في الإحرام كلّ ما ليس محظوراً ولا مكروهاً ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة . ونذكر منها ما يلي :
100 - الاغتسال بالماء القراح ، وماء الصّابون ونحوه .
101 - ولبس الخاتم جائز عند الحنفيّة أو الشّافعيّة والحنابلة للرّجال والنّساء . ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل المحرم لبس الخاتم ، وفيه الفداء . وأمّا المرأة : فيجوز لها لبس المحيط لسائر أعضائها ، ما عدا الوجه والكفّين عند الثّلاثة ، وما عدا الوجه فقط عند الحنفيّة . وشدّ الهميان والمنطقة جائز عند الحنفيّة بإطلاق وكذا الشّافعيّة . وقيّد المالكيّة والحنابلة إباحة شدّهما بالحاجة لنفقته .
102 - والنّظر في المرآة مباح عند الحنفيّة والشّافعيّة مطلقاً . وعند الحنابلة جائز لحاجة لا لزينة ، وأمّا المالكيّة فيكره عندهم النّظر في المرآة ، خيفة أن يرى شعثاً فيزيله .
103 - والسّواك نصّ على إباحته الحنفيّة وليس هو محلّ خلاف .
104 - ونزع الظّفر المكسور مباح باتّفاق الأئمّة ، وصرّح الشّافعيّة بألاّ يجاوز القسم المكسور ، وهذا لا يختلف فيه .
105 - والفصد والحجامة بلا نزع شعر جائزة عند فقهاء المذاهب الأربعة . ومثلهما الختان . لكن تحفّظ المالكيّة بالنّسبة للفصد ، فقالوا : يجوز الفصد لحاجة إن لم يعصب العضو المفصود ، وإن لم يكن له حاجة للفصد فهو مكروه ، وإن عصبه ففيه الفدية .
106 - والارتداء والاتّزار بمخيط أو محيط أي أن يجعل الثّوب المخيط أو المحيط رداءً أو إزاراً ، دون لبس . وكذا إلقاؤه على جسمه كلّ ذلك مباح عندهم جميعاً .
107 - وذبح الإبل والبقر والحيوانات الأهليّة مباح وذلك لأنّها لا تدخل في تحريم الصّيد ولا محرّمات الإحرام باتّفاقهم .
الفصل السّابع
في سنن الإحرام
وهي أمور يثاب فاعلها ، ويكون تاركها مسيئاً ولا يلزمه بالتّرك شيء .
وجملة ذلك أربعة :
أوّلاً : الاغتسال :
108 - وهو سنّة عند الأئمّة الأربعة لما ورد فيه من الأحاديث ، كحديث زيد بن ثابت : « أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله واغتسل » . أخرجه التّرمذيّ وحسّنه . وقد اتّفقوا على أنّ هذا الغسل سنّة لكلّ محرم صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى ، ويطلب أيضاً من المرأة الحائض والنّفساء في حال الحيض والنّفاس . فعن ابن عبّاس مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ النّفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلّها ، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر » أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه واللّفظ للتّرمذيّ . ووقت هذا الاغتسال موسّع عند الحنفيّة في الأظهر من مذهبهم . وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة . وثمرة الخلاف أنّه لو اغتسل ثمّ أحدث ثمّ توضّأ ينال فضيلة السّنّة ، ولا يضرّه ذلك . وألحق الشّافعيّة هذا الغسل بغسل الجمعة ، فدلّ على أنّه موسّع ، كما هو حكم غسل الجمعة . أمّا المالكيّة فقيّدوا سنّيّة الغسل بأن يكون متّصلاً بالإحرام .
ثانياً : التّطيّب
109 - وهو من محظورات الإحرام ، لكنّه سنّ استعداداً للإحرام ، عند الجمهور ، وكرهه مالك . التّطيّب في البدن :(24/18)
110 - ودليل سنّيّته ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » . متّفق عليه . وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت : « كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم » . متّفق عليه . والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام ، لتصريح حديث عائشة الثّاني . وأمّا المالكيّة فحظروا بقاء جرم الطّيب ولم يجوّزوا بقاء رائحته . التّطيّب في ثوب الإحرام :
111 - أمّا تطييب الثّوب قبل الإحرام فمنعه الجمهور وأجازه الشّافعيّ في القول المعتمد . فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن . لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام . أو سقط عنه . فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه . وذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّطيّب في الثّوب للإحرام ، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّباً لأنّه بذلك يكون مستعملاً للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ، وهو محظور على المحرم . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب إزالته ، سواء في ذلك بدنه أو ثوبه ، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب الّذي تطيّب به قبل الإحرام فإنّ الفدية تكون واجبةً ، وأمّا إن كان الباقي في الثّوب رائحته ، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ، ولا فدية . وأمّا اللّون ففيه قولان عند المالكيّة . وهذا كلّه في الأثر اليسير ، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية . استدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة ، فقال : يا رسول اللّه : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات ، وأمّا الجبّة فانزعها ، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » . متّفق عليه . فاستدلالهم بهذا الحديث لحظر الطّيب في الإحرام في البدن والثّوب .
ثالثاً : صلاة الإحرام
112 - يسنّ للمحرم أن يصلّي ركعتين قبل الإحرام باتّفاق الأئمّة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين » . أخرجه مسلم . ولا يصلّيهما في الوقت المكروه ، اتّفاقاً بين الأئمّة ، إلاّ من أحرم بالحرم عند الشّافعيّة ، فإنّه يصلّيهما ولو في الوقت المكروه عندهم . وتجزئ الصّلاة المكتوبة عن سنّة الإحرام اتّفاقاً كذلك ، كما في تحيّة المسجد .
رابعاً : التّلبية :
113 - التّلبية سنّة في الإحرام متّفق على سنّيّتها إجمالاً ، فيما عدا الخلاف في حكم قرنها بالنّيّة هل هي فرض في الإحرام مع النّيّة ، أو واجب أو سنّة ؟ ( ف . . . ) فاتّفقوا فيما عدا ذلك على سنّيّتها للمحرم ، وعلى استحباب الإكثار منها ، وسنّيّة رفع الصّوت بها . 114 - والأفضل أن يلبّي عقب صلاة الإحرام ناوياً الحجّ أو العمرة ، على ما قاله الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وهو قول عند الشّافعيّة ، وفي قول - وهو الأصحّ - يلبّي إذا ركب . ولا خلاف في جواز ذلك كلّه لورود الرّواية به . عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به راحلته قائمةً » متّفق عليه . 115 - وأمّا انتهاء التّلبية : فهو للحاجّ ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويقطعها عند الطّواف والسّعي للاشتغال بالأذكار والأدعية الواردة فيها . وأمّا المالكيّة فعندهم قولان : الأوّل : يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة ، فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى ، ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاّها . الثّاني : يستمرّ في التّلبية حتّى الابتداء بالطّواف والشّروع فيه .
116 - وأمّا تلبية إحرام العمرة فالجمهور أنّها تنتهي ببدء الطّواف باستلام الرّكن . وقال المالكيّة : المعتمر الآفاقيّ يلبّي حتّى الحرم ، لا إلى رؤية بيوت مكّة ، والمعتمر من الجعرانة والتّنعيم يلبّي إلى دخول بيوت مكّة ، لقرب المسافة . يدلّ للجمهور حديث ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحّحه . واستدلّ مالك بما رواه عن نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال : وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم .
كيفيّة الإحرام المستحبّة :(24/19)
117 - من أراد أن يحرم بحجّ أو عمرة أو بهما معاً يستحبّ له إزالة التّفث عن جسمه ، وأن يتزيّن على الصّورة المألوفة الّتي لا تتنافى مع الشّريعة وآدابها ، وأن يغتسل بنيّة الإحرام ، وإذا كان جنباً فيكفيه غسل واحد بنيّة إزالة الجنابة والإحرام ، وأن يتطيّب . والأولى أن يتطيّب بطيب لا يبقى جرمه ، على التّفصيل والخلاف السّابق ، ثمّ يلبس ثوبين نظيفين جديدين أو غسيلين ، على ألاّ يكونا مصبوغين بصبغ له رائحة . وأمّا المرأة فتلبس ما يستر عورتها إلاّ وجهها وكفّيها . ثمّ يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام . فإذا أتمّهما نوى بقلبه وقال بلسانه : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي ، وتقبّله منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان يريد العمرة فيقول : اللّهمّ إنّي أريد العمرة ، فيسّرها لي ، وتقبّلها منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان قارناً فيستحبّ أن يقدّم ذكر العمرة على ذكر الحجّ حتّى لا يشتبه أنّه أدخل العمرة على الحجّ . ويقول : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ والعمرة . . . إلخ ، ويلبّي . فيصير بذلك محرماً ، وتجري عليه . أحكام الإحرام الّتي تقدّم بيانها . وإذا كان يؤدّي الحجّ والعمرة عن غيره فلا بدّ أن يعيّن ذلك بقلبه ولسانه . ويسنّ له الإكثار من التّلبية . وأفضل صيغها الصّيغة المأثورة : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ، لا شريك لك » . ويستحبّ ألاّ ينقص منها . قال الطّحاويّ والقرطبيّ : « أجمع العلماء على هذه التّلبية » . وأمّا الزّيادة على التّلبية ، فإن كانت من المأثور فمستحبّ . وما ليس مرويّاً فجائز أو حسن ، على تفصيل يذكر في موضع آخر ( ر : تلبية )
موجب الإحرام :
118 - إذا أحرم شخص بنسك وجب عليه إتمامه ولو كان نفلاً في الأصل . ويلزمه جميع ما يجب على المحرم فعله . ولا يتحلّل من إحرامه إلاّ بعد أداء هذا النّسك ، على التّفصيل المتقدّم . ويتّصل بهذا بيان أحكام ما يبطل الحجّ وما يفسده وما يمنع المضيّ فيه . 119 - أمّا ما يبطله فهو الرّدّة ، فإذا ارتدّ بطل نسكه ولا يمضي فيه . 120 - أمّا ما يفسد النّسك فهو الجماع ، وعليه أن يمضي في نسكه ثمّ القضاء من قابل إن كان حجّاً على ما يأتي بيانه . وإن كان عمرةً فعليه أن يمضي أيضاً فيها ثمّ يقضيها ولو في عامه على التّفصيل . 121 - أمّا ما يمنع الاستمرار في النّسك ، وهو الإحصار والفوات ، فإنّ أحكام ذلك ترد في موضع آخر ( ر : إحصار . فوات ) .
الفصل الثّامن
التّحلّل من الإحرام
المراد بالتّحلّل هنا الخروج من الإحرام وحلّ ما كان محظوراً عليه وهو محرم .
وهو قسمان : تحلّل أصغر ، وتحلّل أكبر .
التّحلّل الأصغر
122 - يكون التّحلّل الأصغر بفعل أمرين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق أو التّقصير . ويحلّ بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء بالإجماع ، والطّيب عند البعض ، والصّيد عند المالكيّة . والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن السّيّدة « عائشة رضي الله عنها أنّها ضمّخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة » . وقد جاء في بعض الأحاديث : أنّه « إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب » ، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة ، وعلّمهم أمر الحجّ ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرّم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب . وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد كذلك فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى : { لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة .
التّحلّل الأكبر :
123 - هو التّحلّل الّذي تحلّ به جميع محظورات الإحرام دون استثناء . ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة من منتصف ليلة النّحر ، وذلك تابع لاختلافهم فيما يحصل به التّحلّل الأكبر . أمّا نهاية وقته فبحسب ما يتحلّل به ، فهو لا ينتهي إلاّ بفعل ما يتحلّل به عند الحنفيّة والمالكيّة ؛ لأنّه لا يفوت ، كما ستعلم ، وهو الطّواف . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فكذلك إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق ، أو السّعي . أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فإذا توقّف عليه التّحلّل ، ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق ، فات وقت الرّمي بالكلّيّة ، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت ، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك . وهذا قول عند الشّافعيّة ، لكن الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته ، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها .
ما يحصل به التّحلّل الأكبر :(24/20)
124 - يحصل التّحلّل الأكبر عند الحنفيّة والمالكيّة بطواف الإفاضة ، بشرط الحلق هنا باتّفاق الطّرفين . فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند المذهبين . زاد المالكيّة : أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي ، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى ، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة . وقال الحنفيّة : لا مدخل للسّعي في التّحلّل ؛ لأنّه واجب مستقلّ . وعند الشّافعيّة والحنابلة يحصل التّحلّل الأكبر باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرناها : ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك ، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك . وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي ، محلّ اتّفاق العلماء ، وبه تحلّ جميع محظورات الإحرام بالإجماع . 125 - ثمّ إذا حصل التّحلّل الأكبر في اليوم الأوّل لجوازه مثلاً فلا يعني انتهاء كلّ أعمال الحجّ ، بل يجب عليه الإتيان بها ، وإن كان حلالاً ، وقد ضربوا لهذا مثلاً لطيفاً يبيّن حسن موقع هذه الأعمال بعد التّحلّلين ، نحو قول الرّمليّ : « ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الحجّ ، وهو الرّمي والمبيت ، مع أنّه غير محرم ، كما يخرج بالتّسليمة الأولى من صلاته ، ويطلب منه الثّانية . "
التّحلّل من إحرام العمرة :
126 - اتّفقوا على أنّ للعمرة تحلّلاً واحداً يحلّ به للمحرم جميع محظورات الإحرام . ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب على اختلافهم في حكمه في مناسك العمرة .
ما يرفع الإحرام
127 - يرفع الإحرام ، بتحويله عمّا نواه المحرم ، أمران :
1 - فسخ الإحرام .
2 - رفض الإحرام .
ذهب الحنابلة خلافاً للجمهور إلى أنّ من كان مفرداً أو قارناً ( إذا لم يكن قد ساق الهدي ) يستحبّ له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيّته بالحجّ ، وينوي عمرةً مفردةً ، ثمّ يهلّ بالحجّ . وهذا مبنيّ عندهم على أفضليّة التّمتّع . واستدلّ الحنابلة بما روى ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكّة قال للنّاس : من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء حرم منه حتّى يقضي حجّه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة ، وليقصّر ، وليحلل ، ثمّ ليهلّ بالحجّ ، وليهد » . أخرجه البخاريّ ومسلم . واستدلّ الجمهور على منع فسخ الحجّ بأدلّة منها قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقد أمر اللّه تعالى بإكمال أفعال الحجّ وأفعال العمرة لمن شرع في أيّ منهما ، والفسخ ضدّ الإتمام ، فلا يكون مشروعاً ، ومنها الأحاديث الّتي شرع بها الإفراد والقران ، وقد سبق ذكرها .
رفض الإحرام
128 - رفض الإحرام : هو ترك المضيّ في النّسك بزعم التّحلّل منه قبل إتمامه . ورفض الإحرام لغو باتّفاق العلماء ، ولا يبطل به الإحرام ، ولا يخرج به عن أحكامه .
ما يبطل الإحرام :
129 - يبطل الإحرام بأمر واحد فقط ، متّفق عليه بين الجميع : هو الرّدّة عن الإسلام ، عياذاً باللّه تعالى وذلك لأنّهم اتّفقوا على كون الإسلام شرطاً لصحّة النّسك . ويتفرّع على بطلان الإحرام أنّه لا يمضي في متابعة أعمال ما أحرم به ، خلافاً للفاسد . وأمّا إذا أسلم وتاب عن ردّته فلا يمضي أيضاً ؛ لبطلان إحرامه . الفصل التّاسع
أحكام خاصّة في الإحرام
130 - وهي أحكام مستثناة من عموم أحكام الإحرام العامّة ، بسبب وضع خاصّ لبعض الأشخاص ، أو بسبب طروء بعض الطّوارئ ، كما في السّرد التّالي : أ - إحرام المرأة .
ب - إحرام الصّبيّ .
ج - إحرام العبد والأمة .
د - إحرام المغمى عليه .
هـ - نسيان ما أحرم به . وقد تقدّم بعض ذلك ، وندرس ما بقي منها ، كلّاً منها وحده . إحرام الصّبيّ مشروعيّة حجّ الصّبيّ وصحّة إحرامه :
131 - اتّفق العلماء على صحّة حجّ الصّبيّ ، وعمرته ، وأنّ ما يؤدّيه من عبادة أو من حجّ أو من عمرة يكون تطوّعاً ، فإذا بلغ وجب عليه حجّة فرض الإسلام . وإذا كان أداء الصّبيّ للنّسك صحيحاً كان إحرامه صحيحاً قطعاً . صفة إحرام الصّبيّ :(24/21)
132 - ينقسم الصّبيّ بالنّسبة إلى مرحلة صباه إلى قسمين : صبيّ مميّز ، وصبيّ غير مميّز . وضابط المميّز : هو الّذي يفهم الخطاب ويردّ الجواب ، دون اعتبار للسّنّ . 133 - أمّا الصّبيّ المميّز : فعند الحنفيّة والمالكيّة ينعقد إحرامه بنفسه ، ولا تصحّ النّيابة عنه في الإحرام ، لعدم جواز النّيابة عند عدم الضّرورة . ولا تتوقّف صحّة إحرامه على إذن الوليّ ، بل يصحّ إحرامه بإذن الوليّ ، وبغير إذن الوليّ ، لكن إذا أحرم بغير إذن الوليّ فقد صرّح المالكيّة أنّ للوليّ تحليله ، وله إجازة فعله وإبقاؤه على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة . فإن كان يرتجي بلوغه فالأولى تحليله ليحرم بالفرض بعد بلوغه . فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله ، أمّا إذا أراد الوليّ الرّجوع عن الإذن قبل الإحرام فقال الحطّاب : « الظّاهر أنّ له الرّجوع ، لا سيّما إذا كان لمصلحته » . ولم يصرّح بذلك الحنفيّة . ولعلّه يدخل في الإحصار بمنع السّلطان عندهم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينعقد إحرامه إلاّ بإذن وليّه ، بل قال الشّافعيّة : يصحّ إحرام وليّه عنه ، على الأصحّ عندهم في المسألتين . أمّا عند الحنابلة فلا يحرم عنه وليّه لعدم الدّليل . ويفعل الصّبيّ الصّغير المميّز كلّ ما يستطيع أن يفعله بنفسه ، فإن قدر على الطّواف علّمه فطاف ، وإلاّ طيف به ، وكذلك السّعي وسائر المناسك . ولا تجوز النّيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه ، وكلّ ما لا يقدر الصّبيّ على أدائه ينوب عنه وليّه في أدائه . 134 - وأمّا الصّبيّ غير المميّز - ومثله المجنون جنوناً مطبقاً - فيحرم عنه وليّه ، بأن يقول : نويت إدخال هذا الصّبيّ في حرمات الحجّ ، مثلاً . وليس المراد أنّ الوليّ يحرم في نفسه ويقصد النّيابة عن الصّبيّ . ولا ينعقد إحرام الصّبيّ غير المميّز بنفسه اتّفاقاً . 135 - ويؤدّي الوليّ بالصّبيّ غير المميّز المناسك ، فيجرّده من المخيط والمحيط إن كان ذكراً ، ويكشف وجه الأنثى وكفّيها كالكبيرة على ما سبق فيه ويطوف به ويسعى ، ويقف به بعرفة والمزدلفة ، ويرمي عنه ، ويجنّبه محظورات الإحرام ، وهكذا . لكن لا يصلّي عنه ركعتي الإحرام أو الطّواف ، بل تسقطان عنه عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة فيصلّيهما الوليّ عنه ، وهو ظاهر كلام الحنابلة . إلاّ أنّ المالكيّة خفّفوا في الإحرام والتّجرّد من الثّياب ، فقالوا : « يحرم الوليّ بالصّغير غير المميّز ، ويجرّده من ثيابه قرب مكّة ، لخوف المشقّة وحصول الضّرر . فإن كانت المشقّة أو الضّرر يتحقّق بتجريده قرب مكّة أحرم بغير تجريده ، كما هو الظّاهر من كلامهم - ويفدي » .
بلوغ الصّبيّ في أثناء النّسك :
136 - إن بلغ الصّبيّ الحلم بعدما أحرم ، فمضى في نسكه على إحرامه الأوّل ، لم يجزه حجّه عن فرض الإسلام عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الحنفيّة : لو جدّد الصّبيّ الإحرام قبل الوقوف بعرفة ، ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام ؛ لأنّ إحرام الصّبيّ غير لازم لعدم أهليّته للّزوم عليه . وقال المالكيّة لا يرتفض إحرامه السّابق ، ولا يجزيه إرداف إحرام عليه ، ولا ينقلب إحرامه عن الفرض ، لأنّه اختلّ شرط الوقوع فرضاً ، وهو ثبوت الحرّيّة والتّكليف ، وقت الإحرام . وهذا لم يكن مكلّفاً وقت الإحرام ، فلا يقع نسكه هذا إلاّ نفلاً . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن بلغ الصّبيّ في أثناء الحجّ ينظر إلى حاله من الوقوف فينقسم إلى قسمين : الأوّل : أن يبلغ بعد خروج وقت الوقوف ، أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات لكن لم يعد إليها بعد البلوغ ، فهذا لا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . الثّاني : أن يبلغ في حال الوقوف ، أو يبلغ بعد وقوفه بعرفة ، فيعود ويقف بها في وقت الوقوف ، أي قبل طلوع فجر يوم النّحر ، فهذا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . لكن يجب عليه إعادة السّعي إن كان سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ ، ولا دم عليه . أمّا في العمرة : فالطّواف في العمرة كالوقوف بعرفة في الحجّ ، إذا بلغ قبل طواف العمرة أجزأه عن عمرة الإسلام ، عند من يقول بوجوبها .
إحرام المغمى عليه
137 - للمغمى عليه حالان : أن يغمى عليه قبل الإحرام ، أو يغمى عليه بعد الإحرام .
أوّلاً : من أغمي عليه قبل الإحرام :
138 - في المذاهب الثّلاثة المالكيّ والشّافعيّ والحنبليّ : لا إحرام له ، ولا يحرم عنه أحد من رفقته ولا غيرهم ، سواء أمرهم بذلك قبل أن يغمى عليه أو لم يأمرهم ، ولو خيف فوات الحجّ عليه ؛ لأنّ الإغماء مظنّة عدم الطّول ، ويرجى زواله عن قرب غالباً . وذهب الحنفيّة إلى جواز الإحرام عن المغمى عليه ، على تفصيل بين الإمام وصاحبيه :
أ - من توجّه إلى البيت الحرام يريد الحجّ فأغمي عليه قبل الإحرام ، أو نام وهو مريض فنوى عنه ولبّى أحد رفقته ، وكذا من غير رفقته وكان قد أمرهم بالإحرام عنه قبل الإغماء ، صحّ الإحرام عنه ، ويصير المغمى عليه محرماً بنيّة رفيقه وتلبيته عنه اتّفاقاً بين أئمّة الحنفيّة . ويجزيه عن حجّة الإسلام .
ب - إن أحرم عنه بعض رفقته أو غيرهم بلا أمر سابق على الإغماء صحّ كذلك عند الإمام أبي حنيفة ، ولم يصحّ عند صاحبيه أبي يوسف ومحمّد .
فروع
139 - أ - إن أفاق المغمى عليه بعدما أحرم عنه غيره ، فهو عند الحنفيّة محرم يتابع النّسك . وعند غيرهم لا عبرة بإحرام غيره عنه ، فإن كان بحيث يدرك الوقوف بعرفة أحرم بالحجّ ، وأدّى المناسك ، وإلاّ فإنّه يحرم بعمرة . ولا ينطبق عليه حكم الفوات عند الثّلاثة ؛ لأنّه لم يكن محرماً .(24/22)
140 - ب - لا يجب على من أحرم عن المغمى عليه تجريده من المخيط وإلباسه غير المخيط لصحّة الإحرام ؛ لأنّ ذلك ليس هو الإحرام ، بل كفّ عن بعض محظورات الإحرام . حتّى إذا أفاق وجب عليه أفعال النّسك ، والكفّ عن المحظورات .
141 - ج - لو ارتكب المغمى عليه الّذي أحرم عنه غيره محظوراً من محرّمات الإحرام لزمه موجبه ، أي كفّارته ، وإن كان غير قاصد للمحظور . ولا يلزم الرّفيق الّذي أحرم عنه ؛ لأنّ هذا الرّفيق أحرم عن نفسه بطريق الأصالة ، وعن المغمى عليه بطريق النّيابة ، كالوليّ يحرم عن الصّغير . فينتقل إحرامه إليه ، فيصير محرماً كما لو نوى هو ولبّى ، ولذا لو ارتكب هو أيضاً - أي الوليّ - محظوراً لزمه جزاء واحد لإحرام نفسه ، ولا شيء عليه من جهة إهلاله عن غيره عند الحنفيّة كما سبق .
142 - د - إذا لم يفق المغمى عليه فهل يشهد به رفقته المشاهد ، على أساس الإحرام عنه الّذي قال به الحنفيّة ؟ هناك قولان عند الحنفيّة : قيل : لا يجب على الرّفقاء أن يشهدوا به المشاهد ، كالطّواف والوقوف والرّمي والوقوف بمزدلفة ، بل مباشرتهم عنه تجزيه ، لكن إحضاره أولى ، على ما صرّح به بعض أصحاب هذا القول . وهذا الأصحّ على ما أفاد في ردّ المحتار المعتمد في الفتوى في مذهب الحنفيّة ، لكن لا بدّ للإجزاء عنه من نيّة الوقوف عنه ، والطّواف عنه بعد طواف النّائب عن نفسه ، وهكذا .
ثانياً : من أغمي عليه بعد إحرامه بنفسه :
143 - الإغماء بعد الإحرام لا يؤثّر في صحّته ، باتّفاق الأئمّة . وعلى ذلك فهذا حمله متعيّن على رفقائه ، ولا سيّما للوقوف بعرفة ، فإنّه يصحّ ولو كان نائماً أو مغمًى عليه ، على تفصيل في أداء المناسك له يطلب في موضعه من مصطلح « حجّ " ومصطلح « عمرة » .
نسيان ما أحرم به
144 - من أحرم بشيء معيّن ، مثل حجّ ، أو عمرة ، أو قران ، ثمّ نسي ما أحرم به ، لزمه حجّ وعمرة . ويعمل عمل القران في المذاهب الثّلاثة : الحنفيّ والمالكيّ والشّافعيّ . وذهب الحنابلة إلى أنّه يصرف إحرامه إلى أيّ نسك شاء ، ويندب صرفه إلى العمرة خاصّةً .
الفصل العاشر
في كفّارات محظورات الإحرام
تعريفها :
145 - المراد بالكفّارة هنا : الجزاء الّذي يجب على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام . وهذه الأجزية أنواع :
1 - الفدية : حيث أطلقت فالمراد الفدية المخيّرة الّتي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } .
2 - الهدي : وربّما عبّر عنه بالدّم . وكلّ موضع أطلق فيه الدّم أو الهدي تجزئ فيه الشّاة ، إلاّ من جامع بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة ( أي من الإبل ) اتّفاقاً . أمّا من جامع قبل الوقوف فإنّه يفسد حجّه اتّفاقاً وعليه بدنة عند الثّلاثة ، وقال الحنفيّة : عليه شاة ، ويمضي في حجّه ، ويقضيه .
3 - الصّدقة : حيث أطلق وجوب " صدقة " عند الحنفيّة من غير بيان مقدارها فإنّه يجب نصف صاع من برّ ( قمح ) أو صاع من شعير أو تمر .
4 - الصّيام : يجب الصّيام على التّخيير في الفدية ، وهو ثلاثة أيّام . ويجب في مقابلة الإطعام .
5 - الضّمان بالمثل : في جزاء الصّيد ، على ما سيأتي .
146 - يستوي إحرام العمرة مع إحرام الحجّ في عقوبة الجناية عليه . إلاّ من جامع في العمرة قبل أداء ركنها ، فتفسد اتّفاقاً كما ذكرنا ، وعليه شاة عند الحنفيّة والحنابلة ، وقال الشّافعيّة والمالكيّة : عليه بدنة . المبحث الأوّل في كفّارة محظورات التّرفّه .
147 - يتناول هذا البحث كفّارة محظورات اللّبس ، وتغطية الرّأس ، والادّهان ، والتّطيّب ، وحلق الشّعر أو إزالته أو قطعة من الرّأس أو غيره ، وقلم الظّفر . أصل كفّارة محظورات التّرفّه .
148 - اتّفقوا على أنّ من فعل من المحظورات شيئاً لعذر مرض أو دفع أذًى فإنّ عليه الفدية ، يتخيّر فيها : إمّا أن يذبح هدياً ، أو يتصدّق بإطعام ستّة مساكين ، أو يصوم ثلاثة أيّام ، لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له حين رأى هوامّ رأسه : « أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكةً » متّفق عليه . 149 - وأمّا العامد الّذي لا عذر له فقد اختلفوا فيه : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتخيّر ، كالمعذور ، وعليه إثم ما فعله . واستدلّوا بالآية . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العامد لا يتخيّر ، بل يجب عليه الدّم عيناً أو الصّدقة عيناً ، حسب جنايته . واستدلّوا على ذلك بالأدلّة السّابقة . وجه الاستدلال : أنّ التّخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذًى ، وغير المعذور جنايته أغلظ ، فتتغلّظ عقوبته ، وذلك بنفي التّخيير في حقّه . 150 - وأمّا المعذور بغير الأذى والمرض : كالنّاسي والجاهل بالحكم والمكره والنّائم والمغمى عليه ، فحكمه عند الحنفيّة المالكيّة حكم العامد ، على ما سبق . ووجه حكمه هذا : أنّ الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه ، كما وجّهه الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى التّمييز بين جناية فيها إتلاف ، وهي هنا الحلق أو قصّ الشّعر أو قلم الظّفر ، وجناية ليس فيها إتلاف ، وهي : اللّبس وتغطية الرّأس ، والادّهان والتّطيّب . فأوجبوا الفدية في الإتلاف ؛ لأنّه يستوي عمده وسهوه ، ولم يوجبوا فديةً في غير الإتلاف ، بل أسقطوا الكفّارة عن صاحب أيّ عذر من هذه الأعذار .
تفصيل كفّارة محظورات التّرفّه(24/23)
151 - الأصل في هذا التّفصيل هو القياس على الأصل السّابق المنصوص عليه في الكتاب والسّنّة بخصوص الحلق ، فقاس الفقهاء عليه سائر مسائل الفصل بجامع اشتراك الجميع في العلّة وهي التّرفّه ، أو الارتفاق . وقد اختلفوا في بعض التّفاصيل ، في القدر الّذي يوجب الفدية من المحظور ، وفي تفاوت الجزاء بتفاوت الجناية ، وذلك بسبب اختلاف أنظارهم في المقدار الّذي يحصل به التّرفّه والارتفاق الّذي هو علّة وجوب الفدية ، فالحنفيّة اشترطوا كمال الجناية ، فلم يوجبوا الدّم أو الفداء إلاّ لمقادير تحقّق ذلك في نظرهم ، وغيرهم مال إلى اعتبار الفعل نفسه جنايةً . وتفصيل المذاهب في كلّ محظور من محظورات التّرفّه فيما يلي :
أوّلاً : اللّباس :
152 - من لبس شيئاً من محظور اللّبس ، أو ارتكب تغطية الرّأس ، أو غير ذلك ، فقال فقهاء الحنفيّة : إن استدام ذلك نهاراً كاملاً أو ليلةً وجب عليه الدّم . وكذا إذا غطّت المرأة وجهها بساتر يلامس بشرتها على ما سبق من التّفصيل فيه ( ف 67 ) وإن كان أقلّ من يوم أو أقلّ من ليلة فعليه صدقة عند الحنفيّة . وفي أقلّ من ساعة عرفيّة قبضة من برّ ، وهي مقدار ما يحمل الكفّ . ومذهب الشّافعيّ وأحمد أنّه يجب الفداء بمجرّد اللّبس ، ولو لم يستمرّ زمناً ؛ لأنّ الارتفاق يحصل بالاشتمال على الثّوب ، ويحصل محظور الإحرام ، فلا يتقيّد وجوب الفدية بالزّمن . وعند المالكيّة يشترط لوجوب الفدية من لبس الثّوب أو الخفّ أو غيرهما من محظورات اللّبس أن ينتفع به من حرّ أو برد ، فإن لم ينتفع به من حرّ أو برد بأن لبس قميصاً رقيقاً لا يقي حرّاً ولا برداً يجب الفداء إن امتدّ لبسه مدّةً كاليوم .
ثانياً : التّطيّب :
153 - يجب الفداء عند الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأيّ تطيّب ممّا سبق بيان حظره ، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً ، أو مقداراً من الثّوب معيّناً . وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ، وفصّلوا : أمّا في البدن فقالوا : تجب شاة إن طيّب المحرم عضواً كاملاً مثل الرّأس واليد والسّاق ، أو ما يبلغ عضواً كاملاً . والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد مجلس التّطيّب ، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة ، وتجب إزالة الطّيب ، فلو ذبح ولم يزله لزمه دم آخر . ووجه وجوب الشّاة : أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق ، وذلك في العضو الكامل ، فيترتّب كمال الموجب . وإن طيّب أقلّ من عضو فعليه الصّدقة لقصور الجناية ، إلاّ أن يكون الطّيب كثيراً فعليه دم . ولم يشرط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ، بل يجب بمجرّد التّطيّب . وأمّا تطييب الثّوب : فيجب فيه الدّم عند الحنفيّة بشرطين : أوّلهما : أن يكون كثيراً ، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحةً تزيد على شبر في شبر . والثّاني : أن يستمرّ نهاراً ، أو ليلةً . فإن اختلّ أحد الشّرطين وجبت الصّدقة ، وإن اختلّ الشّرطان معاً وجب التّصدّق بقبضة من قمح .
154 - لو طيّب محرم محرماً أو حلالاً فلا شيء على الفاعل ما لم يمسّ الطّيب ، عند الحنفيّة . وعلى الطّرف الآخر الدّم إن كان محرماً وإن كان مكرهاً . وعند الثّلاثة التّفصيل الآتي في مسألة الحلق ( ف 157 ) لكن عليه في حال لا تلزمه فيه الفدية ألاّ يستديمه ، بل يبادر بإزالته . فإن تراخى لزمه الفداء .
ثالثاً : الحلق أو التّقصير :
155 - مذهب الحنفيّة أنّ من حلق ربع رأسه أو ربع لحيته يجب عليه دم ؛ لأنّ الرّبع يقوم مقام الكلّ ، فيجب فيه الفداء الّذي دلّت عليه الآية الكريمة . ولو حلق رأسه ولحيته وإبطيه وكلّ بدنه في مجلس واحد فعليه دم واحد ، وإن اختلفت المجالس فلكلّ مجلس موجبه . وإن حلق خصلةً من شعره أقلّ من الرّبع يجب عليه الصّدقة ، أمّا إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحكّ ثلاث شعرات فعليه بكلّ شعرة صدقة ( كفّ من طعام ) . وإن حلق رقبته كلّها ، أو إبطيه ، أو أحدهما ، يجب الدّم . أمّا إن حلق بعض واحد منهما ، وإن كثر . فتجب الصّدقة ؛ لأنّ حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً ، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها ، فلا يجب إلاّ الصّدقة . وقرّر الحنفيّة أنّ في حلق الشّارب حكومة عدل ، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللّحية ، فيجب عليه بحسابه من الطّعام . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن أخذ عشر شعرات فأقلّ ، ولم يقصد إزالة الأذى ، يجب عليه أن يتصدّق بحفنة قمح ، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية ، ولو كانت شعرةً واحدةً . وتجب الفدية أيضاً إذا أزال أكثر من عشر شعرات لأيّ سبب كان . وشعر البدن كلّه سواء . وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات فأكثر ، كما تجب لو حلق جميع الرّأس ، بل جميع البدن ، بشرط اتّحاد المجلس ، أي الزّمان والمكان . ولو حلق شعرةً أو شعرتين ففي شعرة مدّ ، وفي شعرتين مدّان من القمح ، وسواء في ذلك كلّه شعر الرّأس وشعر البدن .
156 - أمّا إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدميّ فلا فدية باتّفاق المذاهب .(24/24)
157 - إذا حلق محرم رأس غيره ، أو حلق غيره رأسه - ومحلّ المسألة إذا كان الحلق لغير التّحلّل - فعلى المحرم المحلوق الدّم عند الحنفيّة ، ولو كان كارهاً . وأمّا غيرهم فعندهم تفصيل في حقّ الحالق والمحلوق . ولهذه المسألة ثلاث صور تقتضيها القسمة العقليّة نبيّن حكمها فيما يلي : الصّورة الأولى : أن يكونا محرمين ، فعلى المحرم الحالق صدقة عند الحنفيّة ، سواء حلق بأمر المحلوق أو بغير أمره طائعاً أو مكرهاً ، ما لم يكن حلقه في أوان الحلق . فإن كان فيه ، فلا شيء عليه . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إن حلق له بغير رضاه فالفدية على الحالق ، وإن كان برضاه فعلى المحلوق فدية ، وعلى الحالق فدية ، وقيل حفنة . الصّورة الثّانية : أن يكون الحالق محرماً والمحلوق حلالاً ، فكذلك على الحالق المحرم صدقة عند الحنفيّة . وقال المالكيّة : يفتدي الحالق . وعندهم في تفسيره قولان : قول أنّه يطعم قدر حفنة ، أي ملء يد واحدة من طعام ، وقول أنّ عليه الفدية . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا فدية على الحالق ، ولو حلق له المحرم بغير إذنه ، إذ لا حرمة لشعره في حقّ الإحرام . الصّورة الثّالثة : أن يكون الحالق حلالاً والمحلوق محرماً ، فعلى الحالق صدقة عند الحنفيّة . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إن كان بإذن المحرم أو عدم ممانعته فعلى المحرم الفدية . وإن كان الحلق بغير إذن المحرم فعلى الحلال الفدية .
رابعاً : تقليم الأظفار :
158 - قال الحنفيّة : إذا قصّ أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة . وكذا إذا قصّ أظفار يد واحدة ، أو رجل واحدة ، تجب شاة . وإن قصّ أقلّ من خمسة أظفار من يد واحدة ، أو خمسةً متفرّقةً من أظفاره ، تجب عليه صدقة لكلّ ظفر . ومذهب المالكيّة أنّه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفّهاً ، لا لإماطة أذًى ، ولا لكسره ، يجب عليه صدقة : حفنة من طعام . فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية . وإن قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذّى منه . ويقتصر على ما كسر منه . وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد ففدية ، ولو لم يقصد إماطة الأذى ، وإن قطع واحداً بعد آخر فإن كانا في فور ففدية ، وإلاّ ففي كلّ ظفر حفنة . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد ، ويجب في الظّفر والظّفرين ما يجب في الشّعرتين .
خامساً : قتل القمل :
159 - وهو ملحق بهذا المبحث ؛ لأنّ فيه إزالة الأذى ، لذا يختصّ البحث بما على بدن المحرم أو ثيابه . فقد ذهب الشّافعيّة إلى ندب قتل المحرم لقمل بدنه وثيابه لأنّه من الحيوانات المؤذية ، وقد صحّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الفواسق الخمس في الحلّ والحرم ، وألحقوا بها كلّ حيوان مؤذ . أمّا قمل شعر الرّأس واللّحية خاصّةً فيكره تنزيهاً تعرّضه له لئلاّ ينتتف الشّعر . ومقتضى تعليلهم الكراهة بالخوف من انتتاف الشّعر زوال هذه الكراهة فيما لو قتله بوسيلة لا يخشى معها الانتتاف كما إذا رشّه بدواء مطهّر مثلاً . وعلى أيّة حال فإذا قتل قمل شعر رأسه ولحيته لم يلزمه شيء لكن يستحبّ له أن يفدي الواحدة منه ولو بلقمة . وفي رواية عن أحمد إباحة قتل القمل مطلقاً دون تفريق بين قمل الرّأس وغيره لأنّه من أكثر الهوامّ أذًى فأبيح قتله كالبراغيث ، وسائر ما يؤذي . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم » يدلّ بمعناه على إباحة قتل كلّ ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم . وفي رواية أخرى عنه حرمة قتله ، إلاّ أنّه لا جزاء فيه إذ لا قيمة له وليس بصيد . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الصّدقة ولا ريب أنّه إذا آذاه بالفعل ، ولم يمكنه التّخلّص منه إلاّ بقتله ، جاز له قتله طبقاً لقاعدة : « الضّرر يزال » ، وقاعدة : « الضّرورات تبيح المحظورات » .
المبحث الثّاني
في قتل الصّيد وما يتعلّق به
160 - أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصّيد ، استدلالاً بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفّارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيز ذو انتقام } .
أوّلاً : قتل الصّيد :
161 - وجوب الجزاء في قتل الصّيد عمداً متّفق عليه عملاً بنصّ الآية الكريمة السّابقة . 162 - إنّ غير العمد في هذا الباب كالعمد ، يجب فيه الجزاء باتّفاق المذاهب الأربعة ؛ لأنّ العقوبة هنا شرعت ضماناً للمتلف ، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسّهو والنّسيان .(24/25)
163 - إنّ هذا الجزاء هو كما نصّت الآية : { مثل ما قتل من النّعم } . ويخيّر فيه بين الخصال الثّلاث . لكن اختلفوا بعد هذا في تفسير هذين الأمرين : ذهب الحنفيّة : إلى أنّه تقدّر قيمة الصّيد بتقويم رجلين عدلين ، سواء أكان للصّيد المقتول نظير من النّعم أم لم يكن له نظير . وتعتبر القيمة في موضع قتله ، ثمّ يخيّر الجاني بين ثلاثة أمور : الأوّل - أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً . ويزاد على الهدي في مأكول اللّحم إلى اثنين أو أكثر إن زادت قيمته ، لكنّه لا يتجاوز هدياً واحداً في غير مأكول اللّحم ، حتّى لو قتل فيلاً لا يجب عليه أكثر من شاة . الثّاني - أن يشتري بالقيمة طعاماً ويتصدّق به على المساكين ، لكلّ مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر كما في صدقة الفطر . ولا يجوز أن يعطي المسكين أقلّ ممّا ذكر ، إلاّ إن فضل من الطّعام أقلّ منه ، فيجوز أن يتصدّق به . ولا يختصّ التّصدّق بمساكين الحرم . الثّالث - أن يصوم عن طعام كلّ مسكين يوماً ، وعن أقلّ من نصف صاع - إذا فضل - يوماً أيضاً . وذهب الأئمّة الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى التّفصيل فقالوا : الصّيد ضربان : مثليّ : وهو ما له مثل من النّعم ، أي مشابه في الخلقة من النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . وغير مثليّ ، وهو ما لا يشبه شيئاً من النّعم . أمّا المثليّ : فجزاؤه على التّخيير والتّعديل ، أي أنّ القاتل يخيّر بين ثلاثة أشياء على الوجه التّالي : الأوّل - أن يذبح المثل المشابه من النّعم في الحرم ، ويتصدّق به على مساكين الحرم . الثّاني - أن يقوّم المثل دراهم ثمّ يشتري بها طعاماً ، ويتصدّق به على مساكين الحرم . ولا يجوز تفرقة الدّراهم عليهم . وقال مالك بل يقوّم الصّيد نفسه ويشتري به طعاماً يتصدّق به على مساكين موضع الصّيد ، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع فيه . الثّالث - إن شاء صام عن كلّ مدّ يوماً . وفي أقلّ من مدّ يجب صيام يوم . ويجوز الصّيام في الحرم وفي جميع البلاد . وأمّا غير المثليّ : فيجب فيه قيمته ويتخيّر فيها بين أمرين : الأوّل - أن يشتري بها طعاماً يتصدّق به على مساكين الحرم ، وعند مالك : على المساكين في موضع الصّيد . الثّاني - أن يصوم عن كلّ مدّ يوماً كما ذكر سابقاً . ثمّ قالوا في بيان المثليّ : المعتبر فيه التّشابه في الصّورة والخلقة . وكلّ ما ورد فيه نقل عن السّلف فيتبع ؛ لقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } ، وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان فطنان بهذا الأمر ، عملاً بالآية . ويختلف الحكم فيه بين الدّوابّ والطّيور : أمّا الدّوابّ ففي النّعامة بدنة ، وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسيّة ، وفي الغزال عنز ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة . وعند مالك في الأرنب واليربوع والضّبّ القيمة . وأمّا الطّيور : ففي أنواع الحمام شاة . والمراد بالحمام كلّ ما عبّ في الماء ، وهو أن يشربه جرعاً ، فيدخل فيه اليمام اللّواتي يألفن البيوت ، والقمريّ ، والقطا . والعرب تسمّي كلّ مطوّق حماماً . وإن كان الطّائر أصغر من الحمام جثّةً ففيه القيمة . وإن كان أكبر من الحمام ، كالبطّة والإوزّة ، فالأصحّ أنّه يجب فيه القيمة ، إذ لا مثل له . وقال مالك : تجب شاة في حمام مكّة والحرم ويمامهما ، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة ، وكذا في سائر الطّيور . 164 - وعند الشّافعيّة والحنابلة : الواجب في الكبير والصّغير والسّمين والهزيل والمريض من الصّيد المثليّ مثله من النّعم ؛ لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل } وهذا مثليّ فيجزئ . وقال مالك : يجب فيه كبير ؛ لقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ؟ والصّغير لا يكون هدياً ، وإنّما يجزئ في الهدي ما يجزئ في الأضحيّة .
ثانياً : إصابة الصّيد
165 - إذا أصاب الصّيد بضرر ، ولم يقتله ، يجب عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة عند الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . فإن جرح المحرم صيداً ، أو نتف شعره . ضمن قيمة ما نقص منه ، اعتباراً للجزء بالكلّ ، فكما تجب القيمة بالكلّ تجب بالجزء . وهذا الجزاء يجب إذا برئ الحيوان وظهر أثر الجناية عليه ، أمّا إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن عند الحنفيّة ، لزوال الموجب . وعند الشّافعيّة والحنابلة إن جرح صيداً يجب عليه قدر النّقص من مثله من النّعم إن كان مثليّاً ، وإلاّ بقدر ما نقص من قيمته ، وإذا أحدث به عاهةً مستديمةً فوجهان عندهم ، أصحّهما يلزمه جزاء كامل . أمّا إذا أصابه إصابةً أزالت امتناعه عمّن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو أحد القولين عند الشّافعيّة ؛ لأنّه فوّت عليه الأمن بهذا . وفي قول عند الشّافعيّة : يضمن النّقص فقط . أمّا المالكيّة فعندهم لا يضمن ما غلب على ظنّه سلامته من الصّيد بإصابته بنقص ، ولا جزاء عليه ، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته .
ثالثاً : حلب الصّيد أو كسر بيضه أو جزّ صوفه :
166 - يجب فيه قيمة كلّ من اللّبن والبيض والصّوف عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ويضمن أيضاً قيمة ما يلحق الصّيد نفسه من نقص بسبب من ذلك . ونصّ المالكيّة على البيض أنّ فيه عشر دية الأمّ ما لم يخرج منه فرخ ويستهلّ ثمّ يموت ، فإنّه حينئذ يلزمه الدّية كاملةً . وهذا الأخير متّفق عليه .
رابعاً : التّسبّب في قتل الصّيد :
167 - يجب في التّسبّب بقتل الصّيد الجزاء ، وذلك :
1 - بأن يصيح به وينفّره ، فيتسبّب ذلك بموته .
2 - بنصب شبكة وقع بها صيد فمات ، أو إرسال كلب .(24/26)
3 - المشاركة بقتل الصّيد ، كأن يمسكه ليقتله آخر ، أو يذبحه .
4 - الدّلالة على الصّيد ، أو الإشارة ، أو الإعانة بغير المشاركة في اليد ، كمناولة آلة أو سلاح ، يضمن فاعلها عند الحنفيّة والحنابلة ، ولا يضمن عند المالكيّة والشّافعيّة .
خامساً : التّعدّي بوضع اليد على الصّيد :
168 - إذا مات الصّيد في يده فعليه الجزاء ؛ لأنّه تعدّى بوضع اليد عليه فيضمنه ولو كان وديعةً .
سادساً : أكل المحرم من ذبيحة الصّيد أو قتيله :
169 - إن أكل المحرم من ذبيحة أو صيد محرم أو ذبيحة صيد الحرم فلا ضمان عليه للأكل ، ولو كان هو قاتل الصّيد أيضاً أو ذابحه فلا جزاء عليه للأكل ، إنّما عليه جزاء قتل الصّيد أو ذبحه إن فعل ذلك هو ، وذلك عند جمهور العلماء ، ومنهم الأئمّة الثّلاثة ، وصاحبا أبي حنيفة . وقال أبو حنيفة كذلك بالنّسبة للمحرم إذا أكل من صيد غيره ، أو صيد الحرم إذا أكل منه الحلال الّذي صاده ، وأوجب على المحرم إذا أكل من صيده أو ذبيحته من الصّيد الضّمان سواء أكل منه قبل الضّمان أو بعده . استدلّ الجمهور بأنّه صيد مضمون بالجزاء ، فلم يضمن ثانياً ، كما لو أتلفه بغير الأكل ؛ ولأنّ تحريمه لكونه ميتةً ، والميتة لا تضمن بالجزاء . واستدلّ أبو حنيفة بأنّ " حرمته باعتبار أنّه محظور إحرامه ؛ لأنّ إحرامه هو الّذي أخرج الصّيد عن المحلّيّة ، والذّابح عن الأهليّة في حقّ الذّكاة ، فصارت حرمة التّناول بهذه الوسائط مضافةً إلى إحرامه » .
المبحث الثّالث
في الجماع ودواعيه
170 - اتّفق العلماء على أنّ الجماع في حالة الإحرام جناية يجب فيها الجزاء . والجمهور على أنّ العامد والجاهل والسّاهي والنّاسي والمكره في ذلك سواء . وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . قال ابن قدامة : « لأنّه معنًى يتعلّق به قضاء الحجّ ، فاستوى عمده وسهوه كالفوات » . لكن استثنى الحنابلة من الفداء الموطوءة كرهاً ، فقالوا : لا فداء عليها ، بل يجب عليها القضاء فقط . وقال الشّافعيّة : النّاسي والمجنون والمغمى عليه والنّائم والمكره والجاهل لقرب عهده بالإسلام أو نشوئه ببادية بعيدة عن العلماء ، فلا يفسد الإحرام بالنّسبة إليهم بالجماع .
أوّلاً : الجماع في إحرام الحجّ : يكون الجماع في إحرام الحجّ جنايةً في ثلاثة أحوال :
171 - الأوّل - الجماع قبل الوقوف بعرفة . فمن جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء ، ووجب عليه ثلاثة أمور :
1 - الاستمرار في حجّه الفاسد إلى نهايته لقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } وجه الاستدلال أنّه " لم يفرّق بين صحيح وفاسد » .
2 - أداء حجّ جديد في المستقبل قضاءً للحجّة الفاسدة ، ولو كانت نافلةً . ويستحبّ أن يفترقا في حجّة القضاء هذه عند الأئمّة الثّلاثة منذ الإحرام بحجّة القضاء ، وأوجب المالكيّة عليهما الافتراق .
3 - ذبح الهدي في حجّة القضاء . وهو عند الحنفيّة شاة ، وقال الأئمّة الثّلاثة : لا تجزئ الشّاة ، بل يجب عليه بدنة . استدلّ الحنفيّة بما ورد أنّ « رجلاً جامع امرأته وهما محرمان ، فسألا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لهما : اقضيا نسككما وأهديا هدياً » رواه أبو داود في المراسيل والبيهقيّ ، وبما روي من الآثار عن الصّحابة أنّه يجب عليه شاة . واستدلّ الجمهور بما قال الرّمليّ : « لفتوى جماعة من الصّحابة ، ولم يعرف لهم مخالف » .
172 - الثّاني : الجماع بعد الوقوف قبل التّحلّل الأوّل : فمن جامع بعد الوقوف قبل التّحلّل يفسد حجّه ، وعليه بدنة - كما هو الحال قبل الوقوف - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفسد حجّه ، ويجب عليه أن يهدي بدنةً . استدلّ الثّلاثة : بما روي عن ابن عمر أنّ رجلاً سأله فقال : إنّي وقعت على امرأتي ونحن محرمان ؟ فقال : أفسدت حجّك . انطلق أنت وأهلك مع النّاس ، فاقضوا ما يقضون ، وحلّ إذا حلّوا . فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك ، وأهديا هدياً ، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعةً إذا رجعتم . وجه الاستدلال : أنّه ونحوه ممّا روي عن الصّحابة مطلق في المحرم إذا جامع ، لا تفصيل فيه بين ما قبل الوقوف وبين ما بعده ، فيكون حكمهما واحداً ، وهو الفساد ووجوب بدنة . واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم : « الحجّ عرفة » . أخرجه أحمد وأصحاب السّنن والحاكم ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث « عروة بن مضرّس الطّائيّ : وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه » أخرجه أحمد وأصحاب السّنن ، وصحّحه التّرمذيّ ، وقال الحاكم : « صحيح على شرط كافّة أئمّة الحديث » . وجه الاستدلال : أنّ حقيقة تمام الحجّ المتبادرة من الحديثين غير مرادة ؛ لبقاء طواف الزّيارة ، وهو ركن إجماعاً ، فتعيّن القول بأنّ الحجّ قد تمّ حكماً ، والتّمام الحكميّ يكون بالأمن من فساد الحجّ بعده ، فأفاد الحديث أنّ الحجّ لا يفسد بعد عرفة مهما صنع المحرم . وإنّما أوجبنا البدنة بما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنًى قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنةً . رواه مالك وابن أبي شيبة .(24/27)
173 - الثّالث : الجماع بعد التّحلّل الأوّل : اتّفقوا على أنّ الجماع بعد التّحلّل الأوّل لا يفسد الحجّ . وألحق المالكيّة به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل الرّمي ، والجماع بعد يوم النّحر قبل الرّمي والإفاضة . ووقع الخلاف في الجزاء الواجب : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه شاة . قالوا في الاستدلال : « لخفّة الجناية ، لوجود التّحلّل في حقّ غير النّساء » . وقال مالك ، وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة : يجب عليه بدنة . وعلّله الباجيّ بأنّه لعظم الجناية على الإحرام . وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذه الجناية بعد التّحلّل الأوّل قبل الإفاضة أن يخرج إلى الحلّ ، ويأتي بعمرة ، لقول ابن عبّاس ذلك . قال الباجيّ في المنتقى : « وذلك لأنّه لمّا أدخل النّقص على طوافه للإفاضة بما أصاب من الوطء كان عليه أن يقضيه بطواف سالم إحرامه من ذلك النّقص ، ولا يصلح أن يكون الطّواف في إحرام إلاّ في حجّ أو عمرة » . ولم يوجب الحنفيّة والشّافعيّة ذلك .
ثانياً : الجماع في إحرام العمرة :
174 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة ، وهو الطّواف أربعة أشواط ، تفسد عمرته ، أمّا لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة ؛ لأنّه بأداء الرّكن أمن الفساد . وذهب المالكيّة إلى أنّ المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشرط فسدت ، أمّا لو وقع بعد تمام السّعي قبل الحلق فلا تفسد ؛ لأنّه بالسّعي تتمّ أركانها ، والحلق من شروط الكمال عندهم . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه إذا حصل المفسد قبل التّحلّل من العمرة فسدت . والتّحلّل بالحلق ، وهو ركن عند الشّافعيّة واجب عند الحنابلة . 175 يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحجّ من الاستمرار فيها ، والقضاء والفداء باتّفاق العلماء . لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة : فمذهب الحنفيّة والحنابلة وأحد القولين عند الشّافعيّة أنّه يلزمه شاة ؛ لأنّ العمرة أقلّ رتبةً من الحجّ ، فخفّت جنايتها ، فوجبت شاة . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يلزمه بدنة قياساً على الحجّ . أمّا فداء الجماع الّذي لا يفسد العمرة فشاة فقط عند الحنفيّة وبدنة عند المالكيّة .
ثالثاً : مقدّمات الجماع :
176 - المقدّمات المباشرة أو القريبة ، كاللّمس بشهوة ، والتّقبيل ، والمباشرة بغير جماع : يجب على من فعل شيئاً منها الدّم سواء أنزل منيّاً أو لم ينزل . ولا يفسد حجّه اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا : إن أنزل وجب عليه بدنة . ومذهب المالكيّة : إن أنزل بمقدّمات الجماع منيّاً فحكمه حكم الجماع في إفساد الحجّ ، وعليه ما على المجامع ممّا ذكر سابقاً ، وإن لم ينزل فليهد بدنةً . 177 - المقدّمات البعيدة : كالنّظر بشهوة والتّفكّر كذلك ، صرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يجب في شيء منهما الفداء ، ولو أدّى إلى الإنزال . وهو مذهب الحنابلة في الفكر . ومذهب المالكيّة : إذا فعل أيّ واحد منها بقصد اللّذّة ، واستدامه حتّى خرج المنيّ ، فهو كالجماع في إفساد الحجّ . وإن خرج المنيّ بمجرّد الفكر أو النّظر من غير استدامة فلا يفسد ، وإنّما فيه الهدي ( بدنة ) . ومذهب الحنابلة : إن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم ، وإن كرّر النّظر حتّى أمنى فعليه بدنة .
رابعاً : في جماع القارن :
178 - قرّر الحنفيّة في جماع القارن - بناءً على مذهبهم أنّه يطوف طوافين ويسعى سعيين - التّفصيل الآتي :
1 - إن جامع قبل الوقوف ، وقبل طواف العمرة ، فسد حجّه وعمرته كلاهما ، وعليه المضيّ فيهما ، وعليه شاتان للجناية على إحرامهما ، وعليه قضاؤهما ، وسقط عنه دم القران .
2 - إن جامع بعدما طاف لعمرته كلّ أشواطه أو أكثرها فسد حجّه دون عمرته لأنّه أدّى ركنها قبل الجماع ، وسقط عنه دم القران ، وعليه دمان لجنايته المتكرّرة حكماً ، دم لفساد الحجّ ، ودم للجماع في إحرام العمرة لعدم تحلّله منها ، وعليه قضاء الحجّ فقط ، لصحّة عمرته .
3 - إن جامع بعد طواف العمرة وبعد الوقوف قبل الحلق ولو بعرفة لم يفسد الحجّ ولا العمرة ، لإدراكه ركنهما ، ولا يسقط عنه دم القران ؛ لصحّة أداء الحجّ والعمرة ، لكن عليه بدنة للحجّ وشاة للعمرة .
4 - لو لم يطف لعمرته - ثمّ جامع بعد الوقوف - فعليه بدنة للحجّ ، وشاة لرفض العمرة ، وقضاؤها .
5 - لو طاف القارن طواف الزّيارة قبل الحلق ، ثمّ جامع ، فعليه شاتان بناءً على وقوع الجناية على إحراميه ؛ لعدم التّحلّل الأوّل المرتّب عليه التّحلّل الثّاني .
المبحث الرّابع
في أحكام كفّارات محظورات الإحرام
كفّارات محظورات الإحرام أربعة أمور ، هي : الهدي ، والصّدقة ، والصّيام ، والقضاء ، والكلام هنا على أحكامها الخاصّة بهذا الموضوع : المطلب الأوّل الهدي .
179 - تراعى في الهدي وذبحه وأنواعه الشّروط والأحكام الموضّحة في مصطلح « هدي » .
المطلب الثّاني
الصّدقة
180 - يراعى في المال الّذي تخرج منه الصّدقة أن يكون من الأصناف الّتي تخرج منها صدقة الفطر ، كما تراعى أحكام الزّكاة في الفقير الّذي تدفع إليه . ويراعى في إخراج القيمة ، ومقدار الصّدقة لكلّ مسكين ما هو مقرّر في صدقة الفطر ، وهذا في الإطعام الواجب في الفدية . وأمّا في جزاء الصّيد فالمالكيّة والشّافعيّة لم يقيّدوا الصّدقة فيه بمقدار معيّن . وتفصيلات ذلك وآراء الفقهاء يرجع إليها في مصطلح هدي وكفّارة وصدقة الفطر .
المطلب الثّالث
الصّيام(24/28)
181 - أوّلاً : من كفّر بالصّيام يراعي فيه أحكام الصّيام ولا سيّما تبييت النّيّة بالنّسبة للواجب غير المعيّن ( ر : صوم ) .
182 - ثانياً : الصّيام المقرّر جزاءً عن المحظور لا يتقيّد بزمان ولا مكان ولا تتابع اتّفاقاً ، إلاّ الصّيام لمن عجز عن هدي القران والتّمتّع ، فإنّه يصوم ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعةً إذا رجع إلى أهله . فلا يصحّ صيام الأيّام الثّلاثة قبل أشهر الحجّ ، ولا قبل إحرام الحجّ والعمرة في حقّ القارن ، ولا قبل إحرام العمرة في حقّ المتمتّع اتّفاقاً . أمّا تقديمها للمتمتّع على إحرام الحجّ فمنعه المالكيّة والشّافعيّة لقوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ } وأجازه الحنفيّة والحنابلة لأنّه كما قال ابن قدامة : « وقت كامل جاز فيه نحر الهدي ، فجاز فيه الصّيام ، كبعد إحرام الحجّ . ومعنى قوله تعالى ( في الحجّ ) أي في وقته » . وأمّا الأيّام السّبعة الباقية على من عجز عن هدي القران والتّمتّع ، فلا يصحّ صيامها إلاّ بعد أيّام التّشريق ، ثمّ يجوز صيامها بعد الفراغ من أفعال الحجّ ، ولو في مكّة ، إذا مكث بها ، عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . والأفضل المستحبّ أن يصومها إذا رجع إلى أهله ، وهو قول عند الشّافعيّة ، لكن الأظهر عند الشّافعيّة أنّه يصوم الأيّام السّبعة إذا رجع إلى أهله ، ولا يجوز أن يصومها في الطّريق ، إلاّ إذا أراد الإقامة بمكّة صامها بها . والدّليل للجميع قوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } . فحمله الشّافعيّ على ظاهره ، وقال غيرهم : إنّ الفراغ من الحجّ هو المراد بالرّجوع ، فكأنّه بالفراغ رجع عمّا كان مقبلاً عليه .
183 - ثالثاً : من فاته أداء الأيّام الثّلاثة في الحجّ يقضيها عند الثّلاثة ، ويرجع إلى الدّم عند الحنفيّة ، لا يجزيه غيره . وهو قول عند الحنابلة . ثمّ عند المالكيّة ، وهو قول عند الحنابلة : إن صام بعضها قبل يوم النّحر كمّلها أيّام التّشريق ، وإن أخّرها عن أيّام التّشريق صامها متى شاء ، وصلها بالسّبعة أو لا . ولم يجز الشّافعيّة والحنابلة في القول الآخر عندهم صيامها أيّام النّحر والتّشريق ، بل يؤخّرها إلى ما بعد .
184 - ويجب عند الشّافعيّة في الأظهر في قضاء الأيّام الثّلاثة : « أن يفرّق في قضائها بينها وبين السّبعة بقدر أربعة أيّام ، يوم النّحر وأيّام التّشريق ، ومدّة إمكان السّير إلى أهله ، على العادة الغالبة ، كما في الأداء ، فلو صام عشرة أيّام متتاليةً حصلت الثّلاثة ، ولا يعتدّ بالبقيّة لعدم التّفريق » .
المطلب الرّابع في القضاء
185 - وهو من واجب إفساد النّسك بالجماع . ومن أحكامه ما يلي : أوّلاً : يراعى في قضاء النّسك أحكام الأداء العامّة ، مع تعيين القضاء في نيّة الإحرام به . ثانياً : قال الحنفيّة وهو قول عند الشّافعيّة : عليه القضاء من قابل أي من سنة آتية ، ولم يجعلوه على الفور . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ القضاء واجب على الفور ولو كان النّسك الفاسد تطوّعاً ، فيأتي بالعمرة عقب التّحلّل من العمرة الفاسدة ، ويحجّ في العام القادم . ثالثاً : قرّر المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ المفسد عندما يقضي نسكه الفاسد يحرم في القضاء حيث أحرم في النّسك المفسد ، فإن أحرم من الجحفة مثلاً أحرم في القضاء منها . وعند الشّافعيّة : إن سلك في القضاء طريقاً آخر أحرم من مثل مسافة الميقات الأوّل ما لم يجعله ذلك يجاوز الميقات بغير إحرام ، فإنّه يحرم من الميقات . وإن أحرم في العام الأوّل قبل المواقيت لزمه كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند المالكيّة لا يجب الإحرام بالقضاء إلاّ من المواقيت . أمّا إن جاوز في العام الأوّل الميقات غير محرم فإنّه في القضاء يحرم من الميقات ولا يجوز أن يجاوزه غير محرم . وقال المالكيّة : إن تعدّى الميقات في عام الفساد لعذر مشروع " كأن يجاوز الميقات حلالاً لعدم إرادته دخول مكّة ، ثمّ بعد ذلك أراد الدّخول ، وأحرم بالحجّ ، ثمّ أفسده ، فإنّه في عام القضاء يحرم ممّا أحرم منه أوّلاً » .
*****************
وفي موسوعة الفقه الأزهرية :
إحرامُ (أ)
التعريف اللغوى:
الإحرام لغة مصدر أحرم وأحرم دخل فى الحرم أو فى حرمة لا تهتك أو فى الشهر الحرام، وأحرم الحاج أو المعتمر دخل فى عمل حرم عليه به ما كان حلالا. والأصل فيه المنع. ويقال أحرمت الشىء بمعنى حرمته. والمحرم المسالم، ومنه حديث الصلاة تحريمها التكبير كأن المصلي بالتكبير والدخول فى الصلاة صار ممنوعا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها(1).
التعريف الاصطلاحى
مذهب الحنفية:
عرفه فقهاء الحنفية بالنسبة للحج بأنه تحريم المباحات على النفس لأداء هذه العبادة (التى هى الحج والعمرة) وقال صاحب فتح القدير: حقيقته الدخول فى الحرمة، والمراد الدخول فى حرمات مخصوصة أى التزامها غير أنه لا يتحقق ثبوته شرعا إلا بالنية مع الذكر (2).
مذهب المالكية:
هو عند المالكية نية أحد النسكين " الحج والعمرة أو هما معا " والعبرة بالقصد لا باللفظ، والأولى ترك اللفظ ولا يضر مخالفة اللفظ لما نواه، ولا يضر رفض أحد النسكين بل هو باق علي إحرامه وإن رفضه: أى ألغاه (3).
مذهب الشافعية:
عند الشافعية هو الدخول في حج أو عمرة أو فيهما أو فيما يصلح لهما أو لأحدهما ويطلق أيضا على نية الدخول فى النسك ( 4)
مذهب الحنابلة:
هو عند الحنابلة نية النسك أى الدخول فيه لا نيته ليحج أو يعتمر سمى الدخول فى النسك إحراما لأن المحرم بإحرامه حرم على نفسه أشياء كانت مباحة له من النكاح والطيب وغيرها (5)
مذهب الظاهرية:(24/29)
يفهم من كلام ابن حزم الظاهرى أن الإحرام هو الدخول فى الحج أو العمرة فقد جاء فى المحلى: إذا جاء من يريد الحج أو العمرة إلى أحد المواقيت فإن كان يريد العمرة فليتجرد من ثيابه إن كان رجلا ويلتحف فيما شاء من كساء أوملحفة أو رداء، فإن كان امرأة فلتلبس ما شاءت ثم يقولون: لبيك بعمرة أو ينويان ذلك فى أنفسهما، والأمر كذلك عنده بالنسبة للحاج على تفصيل فيمن ساق الهدى ومن لم يسقه(6)
مذهب الزيدية: والزيدية يذهبون إلى أن الإحرام هو نية الحج أو العمرة أو هما معا عند الميقات، فقد قالوا إنما ينعقد بالنية، ولابد معها من تلبية، ويصح نية الإحرام من غير تعيين ما أحرم له(7).
مذهب الإمامية:
يقول الإمامية هو فى الحقيقة عبارة عن النية لأن توطين النفس على ترك المحرمات المذكورة لا يخرج عنها، ويمكن أن يريد به نية الحج جملة (8).
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: يعقد نية الإحرام بحج ويقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك لبيك بحج تمامه وبلاغه عليك يا الله. ومن لم يلب لم يدخل فى حج ولم يصح إحرامه، والتلبية مع نية الإحرام بحج أو
بعمرة أو بهما قيل: كافيتان عن ذكر حج أو عمرة أو ذكرهما فى التلبية.، والأول الذى هو ذكر أحدهما أو ذكرهما فى التلبية أصح (9)
حكم الإحرام فى الحج
مذهب الحنفية:
عند الحنفية هو شرط ابتداء فصح تقديمه على أشهر الحج، إن كره، وله حكن الركن انتهاء فلا يجوز لفائت الحج استدامة الإحرام ليقضى به من قابل بل عليه التحلل بعمرة ثم القضاء من قابل. (10)
مذهب المالكية:
قال المالكية هو ركن من أركان الحج، والركن فى هذا الباب هو مالابد من فعله ولا يجزىء عنه دم ولا غيره (11)
مذهب الشافعية:
عند الشافعية الإحرام ركن من أركان الحج على أنه نية الدخول فى النسك(12)
مذهب الحنابلة:
اختلفت الرواية فى الإحرام فروى أن الإحرام ركن لأنه عبارة عن نية الدخول فى الحج، فلم يتم بدونها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ". وكسائر العبادات، وروى أنه ليس بركن لحديث الثورى الذى يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة"، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه، والرأى الأول هو مشهور المذهب (13)
مذهب الزيدية:
أركان الحج عند الزيدية هى الإحرام والوقوف وطواف الزيارة وفروضه الأركان وطواف القدوم.. إلخ. فعدوه ركنا و فرضا (14)
مذهب الإمامية:
ويشترط فى حج الأفراد النية، والمراد بها نية الإحرام بالنسك المخصوص ووجه تخصيصه- أى الإحرام - أنه الركن الأعظم باستمراره ومصاحبته لأكثر الأفعال وكثره أحكامه. وقالوا: أفعال العمرة المطلقة وهى الإحرام والطواف والسعى والتقصير... والثلاثة الأول منها أركان (15).
مذهب الإباضية:
الإحرام ركن من أركان الحج (16).
حكم الإحرام فى الصلاة
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: التحريمة، وهى تكبيرة الافتتاح شرط صحة الشروع فى الصلاة لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه، ويستقبل القبلة، ويقول الله اكبر ". نفى قبول الصلاة بدون التكبير فدل على كونه شرطا لكن إنما يؤخذ( أى يلزم) هذا الشرط على القادر دون العاجز.
والإحرام فى الصلاة عند الحنفية يكون بلفظ الله اكبر وما اشتق منه كقوله الله الأكبر والله الكبير، واقتصر أبو يوسف على ذلك. وقال أبو حنيفة ومحمد يجوز الشروع بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، كأن يقول الله أجل، الله أعظم، أو الحمد لله أو سبحان الله، وكذلك كل اسم ذكر مع الصفة نحو الرحمن أعظم أو الرحيم أجل.. ويجوز الشروع فى الصلاة بلفظ من هذه الألفاظ على الخلاف المذكور بغير اللغة العربية لمن كان عاجزا عن النطق بها، أما من كان قادرا على النطق بها فيجوز له النطق بغيرها عند أبى حنيفة ولا يجوز عند الصاحبين (17)
مذهب المالكية:
قال المالكية: الصلاة مركبة من أقوال وأفعال فجميع أقوالها ليست بفرائض إلا ثلاثة، منها تكبيرة الإحرام (18)
مذهب الشافعية:
قال الشافعية من أركان الصلاة تكبيرة الإحرام، لما روى الشيخان " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ويتعين فيها علي القادر. بالنطق بها " الله كبر " لأنه المأثور من فعله صلى الله عليه وسلم (19)
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: التكبير ركن فى الصلاة، لا تنعقد الصلاة إلا به سواء تركه عمدا أم سوأ، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " تحريمها التكبير " فدل على أنه لا يدخل الصلاة بدونه، فإن كان أخرس أو عاجزا فى عن التكبير بكل لسان سقط عنه (20)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: الإحرام بالتكبير فرض لا تجزىء الصلاة إلا به لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى... وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" أرجع فصل، فإنك لم تصل " ( ثلاث مرات) فقال: والذى بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمنى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر "، فقد أمر بتكبير الإحرام (21)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: الفرض الثانى من فرائض الصلاة هو التكبير، ومن شرطه أن يكون المكبر قائما، والتكبير من الصلاة فى الأصح (22)
مذهب الإمامية:
قال صاحب المختصر النافع: أفعال الصلاة واجبة ومندوبة، فالواجبات ثمانية وعد من بينها التكبير. قال: وهو ركن فى الصلاة وصورته اللّه كبر مرتبا ولا ينعقد بمعناه، ومع التعذر تكفى الترجمة والأخرس ينطق بالممكن، ويعقد قلبه بها مع الإشارة، ويشترط فيها القيام (23)
مذهب الإباضية:(24/30)
وفرضت تكبيرة الإحرام والافتتاح وزعم بعضهم أنها سنة سائر التكبير وقيل أن كسائر فرض، ومن تعمد فيها لحنا أعاد الصلاة وإن لم يتعمد فقولان ، وصح بالعربية وفسد بغيرها علي المختار، وبوجوب ترتيب اللفظين وموالاتهما وجوز عند البعض البناء على اللفظ الأول لقطع كسعلة أو عطسة أو نحوها (24)
كيفية الإحرام بالحج
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: إذا أراد الإحرام اغتسل أو توضأ، والغسل أفضل، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أغتسل لإحرامه، إلا أن الاغتسال للتنظيف حتى تؤمر به الحائض، وإن لم يقع فرضا عنها فيقوم الوضوء مقامه، ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين: إزار، ورداء، لأن المحرم ممنوع عن لبس المخيط.
وينبغى لولى من أحرم من الصبيان العقلاء أن يجرده ويلبسه ثوبين إزارا ورداء لأن الصبى فى مراعاة السنن كالبالغ ويتطيب بأى طيب شاء، ويستحب عند الإحرام للمحرم تقليم أظافره وقص شاربه وحلق عانته ونتف إبطه وتسريح رأسه عقيب الغسل، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم ائتزر وارتدى عند إحرامه، ولابد من ستر العورة.
والجديد فى الثياب افضل، لأنه أقرب إلى الطهارة، والأولى أن يكونا أبيضين ومس الطيب، وعن محمد أنه يكره إذا تطيب بما تبقى عينه بعد الإحرام.
ووجه المشهور حديث عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، والإزار من الحقو والرداء من الكتف ويدخل الرداء تحت يمينه ويلقيه على كتفه الأيسر فيبقى كتفه الأيمن مكشوفا ولا يزره ولا يعقده ولا يخلله، فإن فعل ذلك كره ولا شىء عليه والثوب الواحد الساتر جائز، وصلى ركعتين، لما روى جابر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذى الحليفة ركعتين عند إحرامه، ويقول بعد الصلاة، إن أراد أن يحرم بالحج: " اللهم إنى أريد الحج فيسره لى وتقبله منى، وإذا أراد أن يحرم بالعمرة يقول اللهم إنى أريد العمرة فيسرها لى وتقبلها منى، وإذا أراد القرآن يقول اللهم إنى أريد العمرة والحج فيسرهما لى وتقبلهما مني، لأنه فى عبادة عظيمة فيها كلفة ومشقة شديدة ، فيستحب الدعاء بالتيسير وبالتسهيل وبالقبول ثم يلبى عقب صلاته، لما روى أن النبى صلي الله عليه وسلم لبى فى دبر صلاته وإن لبى بعد ما استوت به راحلته جاز ولكن الأول أفضل ولا ينبغى أن يخل بشىء من كلمات التلبية ولو زاد فيها جاز، وإذا لبى فقد أحرم: يعنى مع النية. لأن العبادة لا تتأتى إلا بالنية ولا يصير شارعا فى الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية وعن أبى يوسف يصير شارعا بالنية وحدها من غير تلبية.
ودليل من ذهب إلى اشتراط التلبية قول الله تعالى:( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولى الألباب((25)
قال ابن عباس - رضى الله عنه -: فرض الحج الإهلال. وقال ابن عمر- رضى الله عنه-: التلبية وقالت عائشة - رضى الله عنها -: لا إحرام إلا لمن أهل أو لبى، والإهلال رفع الصوت بالتلبية، ولأن الحج يشتمل علي أركان فوجب أن يشترط فى تحريمه ذكر يراد به التعظيم كالصلاة (26).قال المالكية عن كيفية الإحرام: تجرد ذكر من محيط سواء كان الذكر مكلفا أم لا، والخطاب يتعلق بولى الصغير والمجنون، وسواء كان المحيط بخياطة كالقميص والسراويل أم لا، كنسج أو صياغة، أو بنفسه، كجلد سلخ بلا شق والأنثى لا يجب عليها التجرد إلا فى نحو أساور، ووجب علي المحرم المكلف ذكر أو أنثى تلبية، ووجب وصلها به (أى بالإحرام) ويسن للإحرام غسل متصل به متقدم عليه، فإن تأخر إحرامه كثيرا أعاد الغسل، ولا يضر فصل بسد رحاله وإصلاح حاله وسن لبس إزار بوسطه ورداء على كتفيه ونعلين فى رجليه (27).
وقال الخرشى: ظاهر كلام خليل أن السنة الإحرام عقب نفل، ولذا قال: والفرض مجز، والمستحب أن يكون أثر نافلة ليكون للإحرام صلاة تخصه (28).
ويندب للمحرم إزالة شعثه قبل الُغسل بأن يقص أظافره وشاربه ويحلق عانته وينتفه شعر إبطه ويرجل شعر رأسه أو يحلقه إن كان من أهل الحلاق ليستريح من ضررها وهو محرم (29).
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: ويستحب للمحرم أن يغتسل، لما روى زيد بن ثابت رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم اغتسل لإحرامه، وان كانت امرأة حائضا أو نفساء اغتسلت للإحرام، لما روى القاسم بن محمد أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبى بكر رضى الله عنهما بالبيداء، فذكر ذلك أبو يكر رضى الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مروها فلتغتسل، ثم لتهل "، ولأنه غسل يراد للنسك فاستوى فيه الحائض والطاهر ، ومن لم يجد الماء تيمم لأنه غسل مشروع، فانتقل منه إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة.
قال فى الأم: ويغتسل لسبعة مواطن وعدم منها الإحرام (30) ويسن أن يطيب مريد الإحرام بدنه ذكرا أم غيره، شابه أم عجوزا، خلية أم لا، للاتباع، ولا بأس باستدامته: أى الطيب بعد الإحرام. ويسن أن تخضب المرأة غير المحدة للإحرام يدها (31). ويتجرد الرجل عن المخيط فى إزار ورداء أبيضين ونعلين، لما روى ابن عمر - رضى الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليحرم أحدكم فى أزار ورداء ونعلين، والمستحب أن يكون ذلك بياضا لما روى ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إلبسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خيار ثيابكم ".(24/31)
والمستحب أن يتطيب فى بدنه لما روت عائشة - رضى الله تعالى عنها - قالت: " كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ويصلى المحرم ركعتين لما روى ابن عباس رضى الله تعالى عنه وجابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فى ذى الحليفة ركعتين ثم أحرم.
قال الشافعى فى مذهبه القديم: الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين(32) فينوى بقلبه وجوبا دخوله فى حج أو عمرة أو كليهما أو ما يصلح لشيء منهما، وهو الإحرام المطلق، ويلبى مع النية فينوى بقلبه ويقول بلسانه: نويت الحج مثلا، وأحرمت به الله تعالى، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. ولا يجهر بهذه التلبية. ويندب أن يذكر فى هذه التلبية لا غيرها ما أحرم به، وهو الأوجه، وتبعه فى الأذكار ونقله فى الإيضاح عن الجوينى وأقره، والعبرة بما نواه لا بما ذكره فى تلبيته.
ويُسَن أن يتلفظ بما يريده وأن يستقبل القبلة عند إحرامه وأن يقول: اللهم أحرم لك شعرى وبشرى ولحمى ودمى، فإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه لخبر " إنما الأعمال بالنيات "، وإن نوى ولم يلب انعقد على الصحيح كسائر العبادات.
ويندب لمريد الإحرام التنظيف بإزالة نحو شعر إبط وعانة وظفر ووسخ وغسل رأسه بسدر ونحوه، والقياس كما قاله الإسنوى تقديم هذه الأمور على الغسل (33).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: ويسن لمن يريد الإحرام تجرد من مخيط لأنه صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله، وأن يحرم فى أزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين لقوله صلى الله عليه وسلم: " وليحرم أحدكم فى ازأر ورداء ونعلين "، هذا إذا كان المحرم رجلا، أما المرأة فلها ليس المخيط فى الإحرام إلا القفازين، وأن يكون إحرامه عقب صلاة مكتوبة أو صلاة ركعتين نفلا (34).
ويسن له أن يغتسل ذكرا كان أو أنثى، ولو حائضا أو نفساء، لأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس، وهى نفساء، أن تغتسل، وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهى حائض، ويستحب لهما تأخير الغسل أن توقعتا الطهر قبل الخروج من الميقات وإلا اغتسلتا، ويحل التيمم محل الغسل عند عدم الماء أو تعذر استعماله.
ويسن له أيضا أن يتنظف بإزالة الشعر كحلق العانة وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقطع الرائحة الكريهة، وان يطيب بدنه لا ثوبه بمسك أو بخور أو ماء ورد، ويستحب للمرأة الخضاب بالحناء.
ويسن للمحرم أن يلبس ثوبين أبيضين نظيفين: إزار فى وسطه ورداء على كتفه. ويجوز إحرامه فى ثوب واحد، وعلى مريد الإحرام أن يتجرد عن المخيط ويلبس نعلين.
ويبن أن يحرم عقب صلاة مكتوبة أو صلاة نفل ركعتين ندبا (35). ويستقبل القبلة عند إحرامه.
ويسن أن يعين نسكا من حج أو عمرة أو قران، ويلفظ به، فيقول: اللهم أنى أريد النسك (الحج مثلا) فيسره لى وتقبله منى، ونية النسك كافية فلا يحتاج معها إلى تلبية ولا سوق هدى، فلو لبى أو ساق الهدى من غير نية لم ينعقد احرامه.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: يتجرد من يريد الحج أو العمرة إن كان رجلا من ثيابه فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا العمامة ولا القلنسوة ولا جبة ولا برنسا ولا خفين ولا قفازين البتة. لكن يلتحف فيما شاء من كساء أو ملحفة أو رداء ويتزر ويكشف رأسه ويابس نعليه ولا يحل له أن يتزر ولا أن يلتحف فى ثوب صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران أو عصفر، فإن كان امرأة فلتلبس ما شاءت من كل ما ذكرنا أنه لا يلبسه الرجل وتغطى رأسها، إلا إنها لا تنتقب أصلا، لكن إما أن تكشف وجهها وأما أن تسدل عليه ثوبا من فوق رأسها فذلك لها إن شاءت ولا يحل لها أن تلبس شيئا صبغ كله أو بعض الورس أو زعفران ولها أن تلبس الخفاف والمعصفر، فإن لم يجد الرجل إزار فليلبس السراويل كما هى إن لم يجد نعلين فليقطع خفيه تحت الكعبين ولابد، ويلبسها كذلك.
واستدل على هذأ كله بأحاديث، وقال ويستحب الغسل عند الإحرام للرجال والنساء، وليس فرضا إلا على النفساء وحدها لما روى عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه بالبيداء فذكر أبو بكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " مرها فلتغتسل ثم تهل ".
ويستحب للمرأة والرجل أن يتطيبا عند الإحرام بأطيب ما يجدانه من الغالية والبخور بالعنبر وغيره، ثم لا يزيلانه عن أنفسهما ما بقى عليهما (36) ويستحب أن يكثر من التلبية الإحرام فما بعده دائما فى حال وعلى كل حال يرفع الرجل والمرآة صوتهما بها وهو فرض ولو مرة (37)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: يندب قبل الإحرام ستة أمور: قلم الظفر ونتف الإبط ،وحلق الشعر والعانة،أو التيمم للعذر المانع من الغسل والتيمم لغير الحائض ،ويندب لها الغسل ولو كانت حائضا،لآن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس لما وصلت إلى ذى الحليفة فولدت محمد بن أبى بكر ، فسألت رسول صلى علية وسلم: كيف أصنع ، فقال لها: " اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى"(24/32)
وقال لعائشة - رضى الله عنها - حين حاضت وكانت مهله بعمرة "انقضى رأسك ،أو مشطى واغتسلى "،ثم بعد الغسل لبس جديد إن وجده،أو غسيل إن لم يجد الجديد ويكون ذلك إزارا وداء أبيضين أو مصبوغين بغير زينة وأن يكون عقد إحرامه عقب صلاة فرض وإن لم يتفق الفرض فركعتان يصليهما بعد الغسل ولبس ثوبى إحرامه. ثم يقول بعد الصلاة اللهم إني أريد الحج والقرآن أو العمرة متمتعا بها إلى الحج ،فيسر ذلك بها إلى الحج ، فيسر ذلك لى وتقبله منى ثم قال فى شرح الأزهار: ولابد مع النية من تلبية لفعله صلي الله عليه وسلم حين نوى وقوله لعائشة رضى الله عنها " امتشطى وأهلى " والإهلال التلبية، وأكثر العترة على أن التلبية لا تتعين، بل يغنى عتها أى ذكر وتعظيم، إذ القصد الذكر المقتضى للتعظيم، والأصل فى النية المقارنة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " والباء للمصاحبة والإلصاق، وتجزىء المخالطة للتلبية والمقارنة أن يكون آخر جزء من النية مقارنا لأول الآية إذ لا يتصور خلافه (38)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: الكيفية تشتمل على الواجب والندب. والواجب ثلاثة. النية وهى أن يقصد بقلبه إلى الجنس من الحج أو العمرة، والنوع من التمتع أو غيره، والصفة من وأجب أو غيره.
الثانى: التلبيات الأربع، ولا ينعقد الإحرام للمفرد والمتمتع إلا بها، وأما القارن فله أن يعقد بها أو بالأشعار أو التقليد على الأظهر، وما زاد على الأربع مستحب
الثالث: لبس ثوبى الإحرام وهما واجبان، والمعتبر ما يصح الصلاة فيه للرجل، ويجوز لبس القباء مع عدمها مقلوبا، وفى جواز لبس الحرير للمرآة روايتان للمرأة أشهرهما المنع، ويجوز أن يلبس أكثر من ثوبين وأن يبدل ثياب إحرامه ولا يطوف إلا فيهما استحبابا.
والندب رفع الصوت بالتلبية للرجل إذا علت راحلته البيداء، وإن كان راجلا فحيث يحرم، وتكرارها إلى يوم عرفة عند الزوال للحاج وللمعتمر بالمتعة حتى يشاهد بيوت مكة.
وللمفرد إذا دخل الحرم إن كان أحرم من خارجه، وحتى يشاهد الكعبة إن أحرم من الحرم، والتلفظ بما يعزم عليه والاشتراط أن يحله حيث حبسه وأن يحرم فى الثياب القطن، وأفضله البيض، وإذا أحرم الولى بالصبى فعل به ما يلزم المحرم (39).
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: وسن اغتسال الإحرام بحج أو عمرة أو بهما وجوز الوضوء فقط ولبس ثوبين جديدين أو غسيلين لم يلبسا يعد غسلهما لا مخيطين ولا ضير بثياب لبست لا متنجسة إلا أن أحرم بلا صلاة عند مجيز ذلك، وركعتان إن لم يحضر وقت مكتوبة، وجاز أثرها ويعقد نية الإحرام، ويلبى ثلاثا فى مجلسه ثم يقوم، ومن لم يلب لم يدخل فى حج ولم يصح إحرامه، فالتلبية افتتاحه كالتكبير فى الصلاة وكيفية لبس الثوبين أن يبسطهما ثم يلتحف بهما جميعا ولا بلبس أحدهما ويلتحف عليه بالآخر لأن ذلك يشبه الاحتزام به وإن لبس إزارا وهو ما كان من الحقو لا أسفل، ورداء وهو ما عم البدن كله فوقه جاز، وتجوز
المغالاة فى ثياب الإحرام، ويحظر الإعجاب والتكبر، وينبغى الإحرام فى ثوبين وأن يكون ذلك بثياب طاهرة لا مخيطين دخل فى خياطتهما، وإن لم يدخل فى خياطة الثوب فلا بأس مثل أن يكون وجها لجبة أو القميص من جهة واحدة أو يجعل عمة البرنوس خلف بلا إدخال رأسه ولو ضمهما بيده قدامه وجمعهما، ولا ضير بثياب لبست وان دنست وكانت على جسده حتي أحرم بها ويلبس نعلين (40)
مواقيت الإحرام
وهى الأماكن التي تقال على مواقيت الإحرام التي لا يصح أن يتجاوزها الحاج أو المعتمر إلا محرما، وهى بهذا المعني متفق عليها بين المذاهب آلا فى بعض الفروع.
مذهب الشافعية:
قال الحنفية: الميقات المكانى يختلف باختلاف الناس فإنهم ثلاثة أصناف: آفاقى وحلى، وهو من كان داخل المواقيت، وحرمى، وهى خمسة مواقيت: ذو الحليفة، وذات عرق، وجحفة، وقرن، ويلملم. للمدنى والعراقى والشامى والنجدى واليمنى على نفس الترتيب، وكذا هى لمن مر بها من غير أهلها كالشامى يمر بميقات أهل المدينة فهو ميقاته لحديث النبى صلى الله عليه وسلم على ما يرويه ابن عباس - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل العراق ذات عرق ، وقال صلى الله عليه وسلم:" هن لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ".
وهذه المواقيت لأهل الأفاق وهم الذين منازلهم خارج المواقيت، وهم الصنف الأول، وأما الصنف الثانى فميقاتهم للحج أو العمرة دويرة أهلهم (والدويرة الدار) أو حيث شاءوا من الحل يبن دويرة أهلهم وبين الحرم لقول الله عز وجل: ( وأتموا الحج والعمرة لله ((41)
عن على وابن مسعود - رضى الله عنهما - أنهما قالا حين سئلا عن هذه الآية الكريمة إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين.
والحل الذى بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشىء واحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل، كما يجوز إحرام الآفاقى من دويرة أهله إلى آخر أجزاء ميقاته، وأما الصنف الثالث فميقاتهم للحج الحرم وللعمرة الحل للإجماع، فيحرم المكى من دويرة أهله للحج، أو حيث شاء من الحرم ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره.(24/33)
أما الحج فللآية وهى قول الله عز وجل: ( وأتموا الحج والعمرة لله (، ومما جاء فيها عن على وابن مسعود - رضى الله عنهما - وأما العمرة فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الإفاضة من مكة دخل. على عائشة رضى الله عنها وهى تبكى فقالت أكُل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك واحد، فأمر أخاها عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما إن يعتمر بها من التنعيم، ولأن من شأن الإحرام أن يجتمع فى أفعاله الحل والحرم فلو أحرم المكى بالعمرة من مكة وأفعال العمرة تؤدى بمكة لم يجتمع فى أفعالها الحل والحرم، بل يجتمع كل أفعالها فى الحرم، وهذا خلاف عمل الإحرام فى الشرع والأفضل أن يحرم من التنعيم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم منه، وكذا أصحابه رضى الله عنهم كانوا يحرمون بعمرتهم منه، وكذلك من حصل فى الحرم من غير أهله فأراد الحج أو العمرة فحكمه حكم أهل الحرم، لأنه صار منهم، ولو مر صاحب ميقات من المواقيت بميقاتين فإحرامه من الأبعد أفضل ولو أخره إلى الثانى لا شىء عليه فى المذهب، ومن سلك بين ميقاتين فى البر أو البحر اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتا منهما ومن كان خارج الميقات وأراد أن يدخل مكة فعليه أن يحرم وإن لم يقصد الحج أو العمرة لما رواه ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام " لتعظيم هذه البقعة الشريفة، فيستوى فيه التاجر والمعتمر وغيرهما ومن كان داخل الميقات ولا يريد الحج أو العمرة فله أن يدخل مكة بغير إحرام لحاجته لأنه يكثر دخوله مكة، وفى إيجاب الإحرام فى كل مرة حرج بين فألحقوا بأهل مكة حيث يباح لهم الدخول بغير إحرام بعدما خرجوا منها لحاجة، لأنهم حاضروا المسجد الحرام، وجاز تقديم الإحرام على المواقيت، بل هو الأفضل، ولا يجوز عكسه وهو تأخيره عن هذه المواقيت على ما يجىء فى موضعه (42).
وما روى عن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوما فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، لا يستدل به علي إسقاط الإحرام عمن كان خارج الميقات، ولم يقصد الحج أو العمرة لأن ما رواه جابر كان مختصا بتلك الساعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم: " مكة حرام لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار ثم عادت حراما " يعنى الدخول بغير إحرام، لإجماع المسلمين على حل الدخول بعد النبى صلي الله عليه وسيم للقتال.
مذهب المالكية:
قال المالكية: ومكانه - أى الإحرام للحج غير القرآن - يختلف باختلاف الحاجين، فهو بالنسبة لمن بمكة سواء كان من أهلها ام لا، وأقام بها إقامة لا تقطع حكم السفر، مكة، أى الأولى له أن يحرم من مكة فى أى مكان منها ومثله من فى منزله فى الحرم خارجها، وندب إحرامه بالمسجد الحرام أى فيه موضع صلاته،. وندب خروج الأفاقى المقيم بها ذى النفس أى الذى معه نفس، أى سعة زمن يمكن الخروج فيه لميقاته وأدرك الحج لميقاته ليحرم منه، فإن لم يخرج فلا شىء عليه،. ومكانه للعمرة لمن بمكة وللقران أى الإحرام للعسرة والحج معا الحل ليجمع فى إحرامه لها بين الحل والحرم إذ هو شرط فى كل إحرام، ويصح الإحرام لها وللقرآن بالحرم وإن لم يجز ابتداء وخرج وجوبا للحل للجمع فى إحرامه بين الحل والحرم ومكانه لغير من بمكة من أهل الأفاق للحج والعمرة ذو الحليفة( تصغير حلفة بالنسبة لمدنى ومن وراءه ممن يأتى علي أهل المدينة، والجحفة للمصرى ومثله أهل المغرب والسودان والروم والشام، ويلملم لليمن والهند، وقرن ( بسكون الراء المهملة لنجد، وذات عرق بكسر العين وسكون الراء) للعراق وخراسان ونحوهما كفارس والمشرق ومن وراءهم ومكانه لهما مسكن من أى بالنسبة لمن يسكن بين هذه المواقيت وبين مكة، وكان خارج الحرم أو فى الحرم وافرد، فإن قرن أو اعتمر خرج منه آلي الحل لأن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم.
والمفرد يقف بعرفة وهى من الحل ومكانه أيضا حيث حاذى المار وأحدا من هذه المواقيت كرابغ، فإنها تحاذى الجحفة على المعتمد، أو مر به وان لم يكن من أهله ولو كان المحاذى ببحر كالمسافر من جهة مصر ببحر السويس فإنه يحاذى الجحفة قبل وصوله جدة فيحرم بالبحر حين المحاذاة إلا كمصرى من كل من ميقاته الجحفة يمر ابتداء بالحليفة ميقات أهل المدينة فيندب له الإحرام منها، ولا يجب، لأنه يمر على ميقات الجحفة بخلاف غيره، ولذا لو أراد المصرى أن يمر من طريق أخرى غير طريق الجحفة لوجب عليه الإحرام من ذى الحليفة كغيره.
ثم قال: وواجب على كل مكلف حر أراد دخول مكة ألا يدخلها إلا بإحرام لأحد النسكين.
ثم قال الخرشى: يندب لمريد الإحرام من أى ميقات أن يحرم من أوله ولا يؤخره لأخره، لأن المبادرة بالطاعة أولى (43)
مذهب الشافعية:
ثم قال الشافعية: الميقات المكانى للحج ولو بقران فى حق من بمكة وان لم يكن من أهلها نفس مكة وقيل كل الحرم لأن مكة وسائر الحرم فى الحرمة سواء(44). وأما غيره وهو من لم يكن بمكة عند إرادته الحج فميقاته مختلف بحسب النواحى، فميقات المتوجه من المدينة ذو الحليفة، وهو المعروف الآن بأبيار على، وهو على نحو ثلاثة أميال من المدينة،
وقيل إنها علي ستة أميال والمتوجه من الشام ومصر والمغرب " الجحفة "، قرية كبيرة بين مكة والمدينة، وهى على ستة مراحل من مكة. ومن تهامة اليمن، وهى كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز " يلملم "، وهى على مرحلتين من مكة ومن نجد اليمن ونجد الحجاز " قرن " وهو جبل على مرحلتين من مكة ومن المشرق العراق وغيره " ذات عرق " وهى قرية على مرحلتين من مكة.(24/34)
والأصل فى المواقيت خبر الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم.
وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة، وتوقيت عمر رضى الله عنه ذات عرق لأهل العراق اجتهاد منه وأفق النص (45)
والأفضل أن يحرم من أول الميقات وهو طرفه الأبعد عن مكة لا من وسطه ولا أخره ليقطع الباقى محرما.
قال السبكى: إلا ذا الحليفة فينبغى أن. يكون إحرامه من المسجد الذى أحرم منه النبى صلى الله عليه وسلم أفضل0قال الأذرعى: وهذا حق، إن علم أن ذلك المسجد هو الموجود آثاره اليوم، والظاهر أنه هو، ويجوز من آخره لوقوع الاسم عليه، ومن سلك طريقا لا ينتهى إلى ميقات مما ذكر فإن حاذى ميقاتا منها يمنة أو يسرة سواء أكان فى البر أم فى البحر لا من ظهره أو وجهه لأن الأول وراءه، والثانى إمامه أحرم من محاذاته لما صح أن عمر - رضى الله عنه - حد لأهل العراق ذات عرق لما قالوا له إن قرنا المؤقت لأهل نجد جور أى مائل عن طريقنا وان أردناه شق علينا ولم ينكره عليه أحد فإن أشكل عليه الميقات أو موضع محاذاته تحرى إن لم يجد من يخبره عن علم ولا يقلد غيره فى التحرى إلا أن يعجز عنه كالأعمى.
والأفضل لمن فوق الميقات أن يحرم من دويرة أهله لأنه كثر عملا، إلا الحائض ونحوها، فالأفضل لها الإحرام من الميقات وفى قول الأفضل أن يحرم من الميقات تأسيا به صلى الله عليه وسلم فى الإحرام منه (46).
ومن حاذى ميقاتين على الترتيب أحرم من الأول أو معا أحرم من أقربهما إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة إذ لو كان أمامه ميقات فإنه ميقاته وأن حاذى ميقاتا أبعد فكذا ما هو بقربه، فإن استويا فى القرب إليه فالأصح أنه يحرم من محاذاة أبعدهما من مكة، وإن حاذى الأقرب إليها أولا كان كأن الأبعد مشرفا أو وعرا، فإن استويا فى القرب إليها وإليه أحرم من محاذاتهما أن لم يحاذ أحدهم قبل الآخر وإلا فمن محاذاة الأول ولا ينتظر محاذاة لآخر كما أنه ليس للمار علي ذى الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة ومقابل الأصح فى كلام المصنف انه يتخير، فإن شاء احرم من الموضع المحاذى لأبعدهما، وإن شاء لأقربهما (47)
ولما صح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بحجته وبعمرة الحديبية من الحليفة، وإنما جاز قبل الميقات المكانى دون الزمانى لأن تعلق العبادة بالوقت أشد منه بالمكان ولأن المكانى يختلف باختلاف البلاد بخلاف الزمانى، والأفضل للمكى الإحرام منها، وألا يحرم من خارجها من جهة اليمن، وينبغى ألا يكون إحرام المصريين من رابغ مفضولا، وأن كانت قبل الميقات لأنه لعذر وهو إبهام الجحفة على أكثرهم وعدم وجود ماء فيها وخشية من قصدها علي ماله ونحوه.
وميقات العمرة المكانى لمن هو خارج الحرم ميقات الحج للخبر المار فيمن أراد الحج والعمرة. ومن هو بالحرم مكيا أو غيره يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة ( أى بقليل) من أى جانب شاء للجمع فيها بين الحل والحرم، لما صح من أمره صلى الله عليه وسلم عائشة بالخروج إليه للإحرام بالعمرة مع ضيق الوقت برحيل الحاج فإن لم بخرج إلى أدنى الحل وأتى بأفعال العمرة بعد إحرامه بها فى الحرم انعقدت عمرته جزما وأجزأته هذه العمرة عن عمرته فى الأظهر لانعقاد إحرامه وإتيانه بالواجبات (48)
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة الميقات المكانى، ميقات أهل المدينة من ذى الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة وأهل اليمن من يلملم وأهل الطائف ونجد من قرن وأهل المشرق والعراق وخراسان ذات عرق وميقات أهل نجد اليمن ونجد الحجاز 0 والطائف من قرن، وهذه المواقيت كلها ثابتة بنص حديث ابن عباس السابق ذكره وهى لأهلها المذكورين ولمن مر عليها من غير أهلها ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه، يعني إذا كان مسكنه اقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه، وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك أرضع فلا يزول بخرابه.
وقد رأى سعيد بن جبير - رضى الله عنه- رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذ بيده حتى خرج من البيوت وقطع الوادى فأتى به المقابر، فقال: هذه ذات عرق الأولى. وميقات أهل مكة أو من كان بها إذا أرادوا الإحرام بالحج هو مكة فإذا أرادوا العمرة فمن الحل لا نعلم فى هذا خلافا ولذلك أمر النبى صلي الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما أن يعمر عائشة من التنعيم متفق عليه فإن أحرم أهل مكة، وحرمها من مكة أو من الحرم انعقد إحرامهم بالعمرة لأهليتهم له، ومخالفة الميقات لا تمنع الانعقاد. ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمام العمرة ولو بعد الطواف أجزأته عمرته عن عمرة الإسلام، فإن أحرم من مكة أو الحرم قارنا فلا دم عليه لأجل إحرامه بالعمرة من مكة تغليبا للحج على العمرة، ومن لم يمر بميقات أحرم إذا علم أنه حاذى أقربها منه لقول عمر - رضى الله عنه-: " انظروا إلى خدرها من قديد" (واد وموضع).
والأفضل الإحرام من أوقات، فإن أحرم قبله فلا خلاف فى أنه يصير محرما تثبت فى حقه أحكام الإحرام.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم علي أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، ولكن يكره له ذلك.(24/35)
أما من أراد دخول الحرم إلى مكة أو غيرها، فإن كان يدخلها لقتال مباح أو خوف أو حاجة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الميرة فلا إحرام عليه. أما المكلف الذى يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم إلا أن من لا حج عليه كالعبد والصبى والكافر إذا اسلم الكافر أو عتق العبد أو بلغ الصبى بعد مجاوزته الميقات وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم لأنهم أحرموا من الموضع الذى وجب عليهم الإحرام منه، فأشبهوا المكى (49)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: للحج والعمرة مواضع تسمى المواقيت، لا يحل لأحد أن يحرم بالحج ولا بالعمرة قبلها، وهى لمن جاء من جميع البلاد على طريق المدينة أو كان من أهل المدينة ذو الحليفة، ولمن جاء من جميع البلاد أو من الشام أو من مصر على طريق مصر أو على طريق الشام الجحفة، ولمن جاء من طريق العراق منها ومن جميع البلاد ذات عرق، ولمن جاء على طريق نجد من جميع البلاد كلها قرن، ولمن جاء عن طريق اليمن منها أو من جميع البلاد يلملم.
برهان ذلك ما روى عن عائشة - رضى الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم.
وعن ابن عباس رضى أن عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر المواقيت ومنها، ولأهل نجد قرن المنازل، أما من جاوزه وهو لا يريد حجا ولا عمرة، فليس عليه أن يحرم، فإن تجاوزه بقليل أو بكثير ثم بدا له فى الحج أو فى العمرة فليحرم من حيث بدا له فى الحج أو العمرة وليس عليه أن يرجع إلى الميقات، ولا يجوز الرجوع إليه وميقاته حينئذ الموضع الذى بدا له فى الحج أو العمرة فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما، أما من كان منزله بين الميقات ومكة فميقاته من منزله أو من الموضع الذى بدا له أن يحج منه أو يعتمر ومن كان طريقه لا تمر بشىء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء.
ودخول مكة بلا إحرام جائز، لأن النبى "صلى الله عليه وسلم" إنما جعل المواقيت لمن مر بهن يريد حجا أو عمرة ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة، فلم يأمر الله تعالى قط ولا رسوله "صلى الله عليه وسلم" بألا يدخل مكة إلا بإحرام، فهو إلزام ما لم يأت فى الشرع إلزامه.
والدليل ماروى أن ابن عمر رضى الله عنه أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم.
وعن ابن شهاب: لا بأس بدخول مكة بغير إحرام، ومن أراد العمرة وهو بمكة إما من أهلها أو من غير أهلها ففرض عليه أن يخرج للإحرام بها إلى الحل ولابد، فيخرج إلى أى حل شاء ويهل بها لأن رسول الله" صلى الله عليه وسلم" أمر عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهما بالخروج من مكة إلى التنعيم ليعتمر منه واعتمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من الجعرانة فوجب ذلك فى العمرة خاصة (50)
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: الميقات المكانى عندهم هو ذو الحليفة لمن جاء من ناحية المدينة، والجحفة للشامى، وقرن للنجدى، ويلملم لليمنى، وذات عرق للعراقى، والحرم للحرمى المكى، ولمن كان مسكنه خلف هذه المواقيت (أى بينها وبين مكة) أن يجعل ميقاته داره..
وهذه المواقيت هى لأهل هذه البلاد التى ضربت لهم ولمن ورد عليها من غير أهلها فهى ميقات له كذلك.
وميقات المكى مكة يهلون منها، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أهل مكة يهلون من مكة " والأفضل من باب داره أو قرب الكعبة.
وميقات المعتمر الحل، والأفضل من الجعرانة لإحرام النبى "صلى الله عليه وسلم " منها سنة موازن، ثم التنعيم، ثم الحديبية، إذا أراد أن يعتمر منها ثم مساجد عائشة. أو مسجد الشجرة، وقيل الحديبية أفضلها لبعده 0
وإن أحرم لها من مكة فوجهان، ومن لزمه الحج بعد ترك هذه المواقيت كصبى يبلغ أو كافر يسلم فإن ميقاته موضعه، فإن كان بمكة أحر م منها، وأن كان بمنى استحب له الرجوع إلى مكة ليحرم منها إذا كان لا يخشى فوات الوقوف بذلك وإلا أحرم منها. ويجوز تقديم الإحرام على مكانه إلا لمانع، وهو أن يخشى أن يقع فى شىء من المحظورات لطول المدة فإنه لا يجوز له التقديم، والدائم على الخروج والدخول آلي مكة كالحطاب وجالب اللبن ونحوهم.
واختلف فى الدائم فقال فى الانتصار هو من يدخل فى الشهر مرة، وعن المهدى من يدخلها فى العشر مرة، فهذا لا إحرام عليه، كما أنه لا إحرام على الإمام إذا دخل لحرب الكفار وقد التجئوا إلى مكة ومن كان عليه طواف الزيارة وأراد الدخول لقضائه فإنه لا يلزمه الإحرام (51)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: المواقيت التى وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الآفاق ستة: ذو الحليفة، وهو الحلفة، والمراد الموضع الذى فيه الماء وبه مسجد الشجرة والإحرام منه أفضل وأحوط للتأسى، وقيل بل يتعين منه لتفسير ذى الحليفة به فى بعض الأخبار، والجحفة وهى الآن لأهل مصر، ويلملم لليمن،، وقرن المنازل للطائف، والعقيق، وهو واد طويل يزيد على بريدين للعراق، وأفضله المالخ، وهو أوله من جهة العراق، ثم يليه فى الفضل غمرة، وهو فى وسط الوادى، ثم ذات عرق وهى آخره إلى جهة المغرب، وميقات حج التمتع مكة وحج الأفراد منزله لأنه أقرب إلى عرفات من الميقات مطلقا، وكل من حج على ميقات كالشامى يمر بذى الحليفة فهو له وان لم يكن من أهله.(24/36)
ولو تعددت المواقيت فى الطريق الواحد كذى الحليفة والجحفة والعقيق بطريق المدنى أحرم من أولها مع الاختيار، ومن ثانيها مع الاضطرار كمرض يشق معه التجريد وكشف الرأس أو ضعف أو حر أو برد بحيث لا يتحمل ذلك عادة، ولو حج على غير ميقات كفته المحاذاة للميقات وهى مسامتته إلى قاصد مكة عرفا إن اتفقت ولو لم يحاذ ميقاته أحرم من قدر تشترك فيه المواقيت، ولا يصح الإحرام قبل الميقات ألا بالنذر وشبهه من العهد واليمين (52)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: المواقيت لأهل المدينة ومن سلك طريقهم ذو الحليفة، ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن ومن سلك طريقهم يلملم، ولأهل العراق ذات عرق عند الجمهور، وقيل ميقاتهم العقيق، ولا خلاف فى لزوم الإحرام منها، أى من المواقيت، أى من إحداها، لمار بها إذا أراد حجا أو عمرة. وإلا فقيل: يلزمه إن لم يكثر ترددا كحطاب، وقيل مطلقا.
ومن حاذى ميقاتا فى بر أو بحر فميقاته المحاذاة، فالجحفة مثلا ميقات من سلك من أهل المغرب طريق الساحل، فمن مر بها أو عن يمينها أو يسارها أو فى البر أو فى البحر.
وهذه المواقيت المذكورة لغير مكى يقيم بها، ولو أقام اقل من سنة أما من كان مكيا أو مقيما بها فيحرم بحج من مكة، ويحرم للعمرة إلى الحل من التنعيم أو من الجعرانة أو من الحديبية وهو الأفضل. ومن قصدها لتجر أو لغيره كقراءة بغير إحرام أساء ولا دم، وقيل أساء وعليه دم، وهو قول الربيع. وعلى الحطاب ومن كثر تردده طواف بعد أن يدخل مكة بلا إحرام، وقيل لا إساءة ولا دم، وجاز لأهل كل ناحية أن يحرم وإن كان إحرامه من ميقات غيره سواء جاء من ناحية ميقات غيره بدون أن يجاوز ميقات نفسه أو جاوز ميقاته ثم أحرم من ميقات غيره (53).
الميقات الزمانى للإحرام
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: أشهر الإحرام بالحج هى أشهر الحج وهى شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذى الحجة عند الإمام ومحمد - رضى الله عنهما- لما روى عن العبادلة الثلاثة وهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، كذلك عن عبد الله بن الزبير.
وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يوم الحج اكبر هو يوم النحر "، فكيف يكون يوم الحج الأكبر ولا يكون من شهره، ولأن وقت الركن وهو طواف الزيارة يدخل وقته بطلوع الفجر من يوم النحر، فكيف يدخل وقت ركن والحج يعدما خرج الوقت.
وعن أبى يوسف رحمه الله قال: شوال وذو القعدة وعشر ليال وتسعة أيام من ذى الحجة، لأن من لم يدرك بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت "، ولو كان وقته باقيا لما فات، وعشرة من ذى الحجة التي رويت، ولم يذكر فيها المعدود يحتمل أن يراد بها الأيام، ويحتمل أن يراد بها الليإلى كما هى القاعدة اللازمة فى تذكير أحد وتأنيثه.
أما الإحرام بالعمرة فليس له أشهر معينة لما روى عن عطاء رحمه الله أنه قال من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة (54)
وندبت فى رمضان لما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما -: " عمرة فى رمضان تعدل حجة"
وكرهت تحريما يوم عرفة قبل الزوال وبعده وهو المذهب، خلافا لما روى عن أبى يوسف رحمه الله أنها لا تكره فيه قبل الزوال، ويكره أيضا انشاؤها بالإحرام أربعة أيام بعدها، أى بعد عرفة، ويزاد على الأيام الخمسة كراهة فعلها فى أشهر الحج لأهل مكة ومن بمعناهم، أى من المقيمين ومن فى داخل الميقات، لأن الغالب عليهم أن يحجوا فى سنتهم فيكونوا متمتعين وهم عن التمتع ممنوعون، وبالنسبة للمكى لا منع له عن العمرة المفردة فى أشهر للحج إذا لم يحج فى تلك السنة (55)
مذهب المالكية:
ووقت الإحرام المأذون فيه شرعا للحج أى ابتداء وقته شوال من أول ليلة عيد الفطر ويمتد لفجر يوم النحر، فمن احرم قبل فجره بلحظة وهو بعرفة فقد أدرك الحج وبقى عليه الإفاضة والسعى بعدها ووقت الإحرام للعمرة أبدا، أى فى أى وقت من العام إلا المحرم بحج فلا يصح إحرامه بعمرة إلا إذا فرغ من جميع أفعاله من طواف وسعى ورمى لجميع الجمرات، إن لم يتعجل وبقدر رميها من اليوم الرابع بعد الزوال إن تعجل، وكره الإحرام بها بعده، أى بعد رميه اليوم الرابع للغروب منه فإن أحرم بها بعده وقبل الغروب صح إحرامه وأخر وجوبا طوافها وسعيها بعده، أى الغروب، وإلا لم يعتد بفعله على المذهب وأعادهما بعده، وإلا فهو باق علي إحرامه أبدا.
وقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه تعليقا علي قول خليل ووقته للحج شوال لفجر يوم النحر ويمتد زمن الإحلال منه لأخر الحجة، وليس المراد أن جميع الزمن الذى ذكر وقت لجواز الإحرام لأنه يكره بعد فجر يوم النحر لأنه حينئذ إحرام للعام القابل قبل وقته (56)
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: وقت إحرام الحج لمكى أو غيره شوال وذو القعدة وعشر ليال بالأيام بينها وهى تسعة. فقد قال الشافعى فى مختصر المزنى: أشهر الحج شوال وذو القعدة وتسع من ذى الحجة، وهو يوم عرفة، فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج.
وجميع السنة وقت لإحرام العمرة، وجميع أفعالها لخبر الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث مرات متفرقات فى ذى القعدة، أى فى ثلاثة أعوام، وأنه اعتمر عمرة فى رجب كما رواه ابن عمر، وأنه قال: " عمرة فى رمضان تعدل حجة"، وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رمضان وفى شوال فدلت السنة على عدم التأقيت (57).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة، فيوم النحر منها، وهو يوم الحج الأكبر.
وقال صاحب كشاف القناع: من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة ولو لعذر فاته الحج (58).(24/37)
وميقات العمرة الزمانى جميع العام لعدم المخصص لها بوقت دون آخر، ولا يلزمه الإحرام بالعمرة يوم النحر ولا يوم عرفة ولا أيام التشريق (59)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة. قال الله تعالى "الحج أشهر معلومات "(60) ، ولا يطلق على شهرين وبعض آخر أشهر، وأيضا فإن رمى الجمار- وهو من أعمال الحج يعمل اليوم الثالث عشر من ذى الحجة، وطواف الإفاضة- وهو من فرائض الحج يعمل فى ذى الحجة كله بلا خلاف منهم، فصح أنها ثلاثة أشهر، وظاهر من أن الحج عرفة أن وقت الإحرام يمتد آلي ما قبل وقت الوقوف بعرفة كما سيأتى بعد فى كلامه عن الإحرام قبل أشهر الحج، أما العمرة فهى جائزة فى كل وقّتّ من أوقات السنة، وفى كل يوم من أيام السنة وفى كل ليلة من لياليها لا تحاش شيئا برهان ذلك ما روى عن عائشة - رضى الله عنها - أنها اعتمرت ثلاث مرات فى عام واحد (61)
مذهب الزيدية:
قال الزيديه: الميقات الزمانى، قال فى البحر: ووقته شوال والقعدة وكل العشر الأولى من ذى الحجة، وأما ميقات العمرة الزمانى فقال فى البحر: ولا تكره فى وقت من الأوقات إلا فى أشهر الحج وأيام التشريق، وذلك لغير المتمتع والقارن، فلا تكره لهما إلا فى أشهر الحج (62)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: أشهر الحج هى شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقيل وعشر من ذى الحجة، وقيل تسع، وحاصل الخلاف إنشاء الحج فى الزمان الذى يعلم إدراك المناسك فيه، وما زاد يصح أن يقع فيه بعض أفعال الحج كالطواف والسعى والذبح وأن يأتى بالحج والعمرة فى عام واحد (63)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: الميقات الزمانى أصله قول الله تعالى: ( الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولى الألباب(
فقيل شوال وذو القعدة وذو الحجة وقيل شهران وعشرة أيام، أى ليال من ذى الحجة، أو غلب الأيام، والمقصود الليإلى بدخول ليلة العاشر وأما العمرة فيصح الإحرام بها فى كل شهر من شهور السنة (64)
.
الإحرام قبل أشهر الحج
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: ويكره الإحرام للحج قبل أشهره، وإن أمن على نفسه من المحظور، وإطلاق الكراهة يفيد التحريم وبه قيدها القهستانى ونقل عن التحفة الإجماع على الكراهة، وبه صرح فى البحر من غير تفصيل بين خوف الوقوع فى محظور أولا 0
قال: ومن فصل كصاحب الظهيرية قياسا على الميقات المكانى فقد أخطأ، لكن نقل القهستانى أيضا عن المحيط التفصيل ثم قال: وفى النظم عنه أنه يكره ألا عند أبى يوسف رحمه الله (65)
مذهب المالكية:
قال المالكية: كره الإحرام له( أى للحج) قبل شوال، وانعقد كمكانه كما يكره الإحرام قبل مكانه (66)
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: لو أحرم بالحج فى غير وقته كرمضان أو أحرم مطلقا انعقد إحرامه بذلك عمرة مجزئة عن عمرة الإسلام على الصحيح سواء أكان عالما أم جاهلا لشدة تعلق الإحرام ولزومه، فإذا لم يقبل الوقت ما أحر م به انصرف لما يقبله وهو العمرة، ولأنه إذا بطل قصد الحج فيما إذا نواه بقى مطلق الإحرام، والعمرة تنعقد بمجرد الإحرام والثانى لا ينعقد عمرة (67).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: يكره أن يحرم بالحج قبل أشهره لقول ابن عباس - رضى الله عنه - من السنة ألا يحرم بالحج إلا فى أشهر الحج، ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكانى، فإن فعل بأن أحر م قبل الميقات المكانى أو الزمانى فهو محرم ولا ينعقد، أى ينقلب إحرامه بالحج قبل ميقاته المكانى أو الزمانى عمرة (68).
مذهب الظاهرية:
قال ابن حز م الظاهرى: الحج لا يجوز شىء من عمله إلا فى أوقاته المنصوصة، ولا يحل الإحرام به ألا فى اشهر الحج قبل وقت الوقوف بعرفة لقول الله تعالى:( الحج أشهر معلومات( فنص عز وجل على أنها أشهر معلومات، ولما روى عن عطاء وطاووس ومجاهد قالوا: لا ينبغى لأحد أن يحرم بالحج فى غير أشهر الحج(69)
مذهب الزيدية:
قال الزيديه: يكره بالحج الإحرام الحج قبل أشهره ولكنه ينعقد إجماعا.
وقال فى شرح الأزهار: ويجوز تقديم الإحرام على وقته إلا لمانع، وهو أن يخشى أن يقع فى شىء من المحظورات لطول المدة فلا يجوز له التقدم، فإن فعل أثم وأجزأ (70)
مذهب الإمامية الشيعة الإمامية: لا يصح الإحرام بالحج بجميع أنواعه أو عمرة التمتع إلا فى أشهر الحج (71)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: لا يصح الإحرام بالحج إلا فى أشهره، فإن قدم الإحرام علي وقته الزمانى كان عمرة لصحتها فى كل شهر (72)
مجاوزة الميقات بغير إحرام
مذهب الحنفية:
قسم الحنفية المحرمين إلى ثلاثة أصناف كما سبق أما الصنف الأول فميقاتهم ما وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجوز لأحد منهم أن يجاوز ميقاته إذا أراد الحج أو العمرة إلا محرما، فلو جاوز ميقاتا من المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة فجاوزه بغير إحرام، ثم عاد قبل أن يحرم وأحرم من الميقات وجاوزه محرما لا يجب عليه دم بالإجماع، لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم وأحر م التحقت تلك المجاوزة.
بالعدم، وصار ابتداء إحرام منه، ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات ولبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لا يسقط، وهذا قول أبى حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد يسقط لبى أو لم يلب. وقال زفر: لا يسقط لبى أو لم يلب، وجه قول زفرأن وجوب الدم بجنايته علي الميقات بمجاوزته إياه من غير إحرام، وجنايته لا تنعدم بعوده، قلا يسقط الدم الذى وجب.(24/38)
ووجه قولهما أن حق الميقات فى مجاوزته إياه محرما لا فى إنشاء الإحرام منه، بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله وجاوز الميقات ولم يلب لا شىء عليه، فدل أن حق الميقات فى مجاوزته إياه محرما لا فى إنشاء الإحرام منه، وبعدما عاد إليه محرما فقد جاوزه حرما فلا يلزم الدم.
ولأبى حنيفة رحمه الله ما روينا عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال للذى أحرم بعد الميقات: أرجع إلى الميقات فلب، وإلا فلا حج لك، أوجب التلبية من الميقات فلزم اعتبارها، ولأن الفائت بالمجاوزة هو التلبية فلا يقع تدارك الفائى إلا بالتلبية بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الإحرام لأنه إذا أحرم من دويرة أهله صار ذلك ميقاتا له، وقد لبى منه، فلا يلزمه تلبية.
وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية منه وهو الميقات المعهود، وما قاله زفر أن الدم إنما وجب عليه بجنايته على الميقات مسلم لكن لما عاد قبل دخوله فى أفعال الحج فما جنى عليه، بل ترك حقه فى الحال، فيحتاج إلى التدارك، وقد تداركه بالعود إلى التلبية، ولو جاوز الميقات بغير إحرام فأحرم ولم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين، أو وقف بعرفة أو كان إحرامه بالحج ثم عاد إلى الميقات لا يسقط عنه الدم، لأنه لما اتصل الإحرام بأفعال الحج تأكد عليه الدم فلا يسقط بالعود. ولو عاد إلى ميقات آخر غير الذى جاوزه قبل أن يفعل شيئا من أفعال الحج سقط عنه الدم وعوده إلى هذا الميقات وإلى ميقات آخر سواء وعلى قول زفر لا يسقط على ما ذكرنا وروى عن أبى يوسف رحمه الله أنه فصل فى ذلك تفصيلا، فقال إن كان الميقات الذى عاد إليه يحاذى الميقات الأول أو أبعد من الحرم يسقط عنه الدم وإلا فلا، والصحيح جوا ب ظاهر الرواية لما ذكرنا أن كل واحد من هذه المواقيت الخمسة ميقات لأهله ولغير أهله بالنص مطلقا عن اعتبار المحاذاة ولو لم يعد إلى الميقات لكنه افسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة إن كان إحرامه بالعمرة أو قبل الوقوف بعرفة إن كان إحرامه بالحج سقط عنه ذلك الدم لأنه يجب عليه القضاء وانجبر ذلك كله بالقضاء.
وكذلك إذا فاته الحج فإنه يتحلل بالعمرة وعليه قضاء الحج وسقط عنه ذلك الدم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر لا يسقط، ولو جاوز الميقات بعد دخول مكة أو الحرم من غير إحرام يلزمه إما حجة وإما عمرة لأن مجاوزة الميقات على قصد دخول مكة أو الحرم بدون الإحرام لما كان حراما كانت المجاوزة التزاما للإحرام دلالة كأنه قال: لله على إحرام، ولو قال ذلك يلزمه حجة أو عمرة.
وكذا إذا فعل ما يدل على الالتزام كمن شرع فى صلاة التطوع فإن أحرم بالحج أو بالعمرة قضاء لما عليه من ذلك لمجاوزته الميقات ولم يرجع إلى الميقات فعليه دم، لأنه جنى على الميقات لمجاوزته إياه من غير إحرام ولم يتداركه فليزمه الدم جبرا.
فإن أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم احرم يريد قضاء ما وجب عليه بدخول مكة بغير إحرام أجزأه فى ذلك ميقات أهل مكة فى الحج بالحرم وفى العمرة الحل، لأنه لما أقام بمكة صار فى حكم أهل مكة فيجزئه إحرامه من ميقاتهم، فإن كان حين دخل مكة عاد فى تلك السنة إلى الميقات فأحرم بحجة عليه من حجة الإسلام أو حجة نذر أو عمرة نذر سقط ما وجب عليه لدخول مكة بغير إحرام استحسانا، والقياس ألا يسقط ألا أن ينوى ما وجب علية لدخول مكة وهو قول زفر ولا خلاف فى انه إذا خولت السنة ثم عاد إلى الميقات ثم أحرم حجة الإسلام أنه لا يجزئه عما لزمه إلا بتعيين النية.
هذا إذا جاوز أحد هذه المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم بغير إحرام.
فأما إذا لم يرد ذلك وإنما أراد أن يأتى بستان بنى عامر أو غيره مما هو داخل الميقات لحاجة فلا شىء عليه، لأن لزوم الحج أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة وتمييزا لها من بين بئر البقاع فى الشرف والفضيلة فيصير ملتزما للإحرام منه، فإذا لم يرد البيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شىء، فإن حصل فى البستان أو فيما وراءه من الحل، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام فله ذلك لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد من أهل البستان ولأهل البستان إن يدخلوا مكة لحاجة من غير إحرام، فكذا له 0
وقيل أن هذا هو الحيلة فى إسقاط الإحرام عن نفسه.
وروى عن أبى يوسف رحمه الله انه لا يسقط عنه الإحرام ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن فى حقه ألا بنية مدة الإقامة.(24/39)
وإما الصنف الثانى: فميقاتهم للحج والعمرة دويرة أهلهم فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين، والحل الذى بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشىء وأحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل، كما يجوز إحرام الأفاقى من دويرة أهله إلى آخر أجزاء ميقاته، فلو جاوز أحد منهم ميقاته يريد الحج أو العمرة فدخل الحرم من غير إحرام فعليه دم، ولو عاد إلى الميقات قبل أن يحرم أو يعد ما أحرم فهو على التفصيل والاتفاق، والاختلاف الذى ذكرنا فى الأفاقى إذا جاوز الميقات بغير إحرام، وكذلك الأفاقى إذا حصل فى البستان أو المكى إذا خرج إليه فأراد أن يحج أو يعتمر فحكمه حكم أهل البستان. وكذلك البستاني أو المكي إذا خرج إلى الأفاق لا تجوز مجاوزته ميقات أهل الآفاق وهو يريد الحج أو العمرة إلا محرما لما روينا من الحديث، ويجوز لمن كان من أهل الميقات وما بعده دخول مكة لغير الحج أو العمرة بغير إحرام عندنا لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم انه رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام وعادة الحطابين انهم لا يتجاوزون الميقات.
وروى عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أنه خرج من مكة إلى قديد فبلغه خبر فتنة بالمدينة فرجع ودخل مكة بغير إحرام.
وأما الصنف الثالث: فميقاتهما للحج الحج والعمرة لله " ا. وان شاء أحرم من دويرة أهله للحج أو حيث شاء من الحرم، ويحرم للعمرة من الحل وهو التنعيم أو غيره.
أما الحج فلقول الله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " (73) أن شاء أحرم من الأبطح أو حيث شاء من الحرم، لكن من بالمسجد أولى لأن الإحرام عبادة وإتيان العبادة فى المسجد أولى كالصلاة.
وأما العمرة فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الإفاضة من مكة دخل على عائشة - رضى الله عنها - وهى تبكى، فقالت: أكل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك واحد.
فأمر أخاها عبد الرحمن بن أبى بكر - رضى الله عنه - أن يعتمر بها من التنعيم.
ولو ترك المكى ميقاته فأحرم للحج من الحل وللعمرة من الحرم يجب عليه الدم إلا إذا عاد وجدد التلبية أو لم يجدد على التفصيل والاختلاف الذى ذكرنا فى الأفاقى، ولو خرج من الحرم إلى الحل ولم يجاوز الميقات ثم أراد أن يعود إلى مكة له أن يعود إليها من غير إحرام لأن أهل مكة يحتاجون إلى الخروج إلى الحل للاحتطاب والاحتشاش والعود إليها، فلو ألزمناهم الإحرام عند كل خروج لوقعوا فى الحرج (74)
مذهب المالكية:
قال المالكية: وجب على المحرم المكلف الحر إذا أراد دخول مكة فلا يدخلها إلا بإحرام بأحد النسكين وجوبا ولا يجوز له تعدى الميقات بلا إحرام إلا أن يكون من المترددين أو يعود لها بعد خروج منها من مكان قريب لم يمكث فيه كثيرا فلا يجب عليه كالعبد وغير المكلف كصبى ومجنون ومتي تعدى الميقات بلا إحرام وجب عليه الرجوع إلى الميقات ليحرم منه كما يجب عليه أيضا الرجوع أن دخل مكة ما لم يحرم بعد تعدى الميقات، فإن أحرم لم يلزمه الرجوع وعليه الدم لتعدية الميقات حلالا ولا يسقط عنه الدم برجوعه له بعد الإحرام ولا دم عليه إذا رجع للميقات فأحرم منه إذا لم يحرم بعد تعدية.
ويستثنى من وجوب الرجوع أن يمنعه من الرجوع عذر كخوف فوات لحجه أو فوات رفقة أو خاف على نفس أو مال أو عدم قدرة علي الرجوع فلا يجب عليه الرجوع، ويلزمه الدم لتعدية الميقات حلالا، وكراجع له بعد إحرامه عليه الدم ولا ينفعه الرجوع بعده، فأولى إذا لم يرجع فمتعدى الميقات حلالا إذا لم يرجع له قبل إحرامه يلزمه الدم فى جميع الحالات ولو فسد حجه أو كان عدم الرجوع لعذر إلا أن يفوته الحج بطلوع فجر يوم النحر قبل وصوله عرفه فتحلل منه بعمرة بأن نوى التحلل منه بفعل عمرة وطاف وسعى وحلق بنيتها (أى بنية العمرة) فلا دم عليه للتعدى فإن لم يتحلل بالعمرة وبقى علي إحرامه لقابل لم يسقط عنه (75).
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: من جاوز ميقاتا من المواقيت المنصوص عليها أو موضعا جعل ميقاتا، وإن لم يكن ميقاتا اصليا غير مريد نسكا ثم أراده فميقاته موضعه، ولا يكلفه العود إلى الميقات، ومن وصل إليه مريدا نسكا لم تجز مجاوزته إلى جهة الحرم بغير إحرام إجماعا، ويجوز مجاوزته بلا إحرام آلي جهة اليمنة أو اليسرة عندئذ ويحرم إذا أراد الاتجاه إلى الحرم من مثل ميقات بلده أو ابعد كما ذكره الماوردى فإن خالفه وفعل ما منع منه بأن جاوزه إلي جهة الحرم لزمه العود ليحرم منه، لأن الإحرام منه كان واجبا عليه فتركه، وقد أمكنه تداركه فيأتى به فلو عاد إلى مثل مسافته من ميقات آخر جاز قاله الماوردى وغيره.
ولا يجب تأخير الإحرام إلى العود بل يجوز له أن يحرم حيث هو قبل العودة ويعود إلى الميقات محرما ويسقط عنه الدم عملا بالأصح كما تقدم ولا فرق فى المجاوزة بين العمد والسهو والعلم والجهل إذ المأمورات لا يفترق فيها الحال بين العمد وغيره كنية الصلاة لكن لا آثم علي الجاهل والناسى ولا يقدح فيما ذكر فى الساهى أنه بسهوه عن الإحرام يستحيل كونه فى تلك الحالة مريدا للنسك إذ يمكن تصويره بمن أنشأ سفره من محله قاصدا له وقصده مستمر فسها عنه حين المجاوزة، واستثنى من لزوم العود ما إذا كان هناك عذر كضيق الوقت أو خوف الطريق أو وجود مرض شاق أو خوف انقطاع عن رفقته، فلا يلزمه العود حينئذ، بل يريق دما..(24/40)
والأوجه ما قاله "الأذرعى" من تحريم العود عليه لو علم أنه لو عاد لفاته الحج ولو كان ماشيا ولم يتضرر بالممشى، فهل يلزمه العود أم لا. قضية كلامهم لزومه ونظر فيه الإسنوى وقال المتجه أنه أن كان على دون مسافة القصر لزمه وإلا فلا كما قلنا فى الحج ماشيا فإن لم يعد لعذر أو غيره لزمه بتركه الإحرام من الميقات دم لقول ابن عباس رضى، الله عنه من نسى من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما رواه مالك وغيره بإسناد صحيح.
ولو مر صبى أو عبد بالميقات غير محرم مريدا للنسك ثم بلغ أو عتق قبل الوقوف فلا دم عليه على الصحيح، أفاده البدر ابن شهبة فى العبد، وابن قاسم فيهما فى شرحيهما الكتاب وإن أحرم من جاوز الميقات غير محرم ثم عاد له، فالأصح أنه عاد إليه قبل تلبسه بنسك سقط الدم عنه، وإلا بأن عاد بعد تلبسه بنسك وأو طواف قدوم فلا يسقط الدم عنه لتأدى النسك بإحرام ناقص، وحيث لم يجب يعوده لم تكن مجاوزته محرمة كما جزم به المحاملي والرويانى (76)
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه أن أمكنه سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شىء عليه لا نعلم فى ذلك خلافا وبه يقول جابر بن يزيد والحسن وسعيد بن جبير لأنه أحرم من الميقات الذى أمر بالإحرام منه فلم يلزمه شىء كأنه لم يتجاوزه، وإن أحرم بعد الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع لما روى ابن عباس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك نسكا فعليه دم " ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم كما لو لم يرجع وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه فأحرم منه فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه ولو أفسد من أحرم من دون الميقات له لم يسقط عنه الدم لأنه واجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك، وإما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين:
أحدهما: لا يريد دخول الحرم بل يريد حاجة فيما سواه، فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف، ولا شىء عليه فى ترك الإحرام، وقد أتى النبى صلى الله عليه وسلم بدرا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذى الحليفة فلا يحرمون ولا يرون بذلك بأسا. ثم متى بدا له الإحرام وتجدد له العزم عليه أحرم من موضعه ولا شىء عليه، هذا ظاهر كلام الخرقى. وحكى ابن المنذر عن أحمد فى الرجل يخرج لحاجته وهو لايريد الحج فجاوز ذا ا لحليفة، ثم أراد الحج يرجع إلى ذى الحليفة فيحرم، وبه قال إسحاق. ولأنه أحرم بعد الميقات فلزمه الدم كالذى يربد دخول الحرم. قال فى المغنى: والأول أصح.
والقسم الثانى: من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم علي ثلاثة أضرب:
أحدها: من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة فهؤلاء لا إحرام
عليهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر، وكذلك أصحابه، ولم نعلم أحدا منهم احرم من يومئذ 0
والنوع الثانى: من لا يكلف الحج كالعبد والصبى والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو تحق العبد... وبلغ الصبى وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم.
والنوع الثالث: المكلف الذى يدخل لغير قتال ولا حاجة، فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم منه، ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام فلا قضاء عليه، ومن كان منزله دون الميقات خارجا من الحرم فحكمه فى مجاوزة قريته إلى ما يلى الحرم حكم المجاوز للميقات فى هذه الأحوال الثلاثة، لأن موضعه ميقاته ومن جاوز الميقات غير محرم فخشى أن رجع آلي الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم، وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لأدراك الحج (77)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: كل من مر على أحد هذه المواضع (أى المواقيت) وهو يريد الحج أو العمرة فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما، فإن لم يحرم منه فلا إحرام له و لا حج له ولا عمرة له، ألا أن يرجع آلي الميقات الذى مر عليه فينوى الإحرام منه فيصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته.
ومن كان من أهل الشام أو مصر فما خلفهما، فأخذ على طريق المدينة، وهو يريد حجا أو عمرة، فلا يحل له تأخير الإحرام من ذى الحليفة ليحرم من الجحفة فإن فعل فلا حج له ولا إحرام له ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذى الحليفة فيجدد منها إحراما فيصح حينئذ إحرامه وحجه وعمرته فمن مر على أحد هذه المواقيت وهو لا يريد حجا ولا عمرة فليس عليه أن يحرم فإن تجاوزه بقليل أو بكثير، ثم بدا له فى الحج أو فى العمرة فليحرم من حيث بدا له فى الحج أو العمرة، وليس عليه أن يرجع آلي الميقات، ولا يجوز له الرجوع إليه وميقاته حينئذ الموضع الذى بدا له فى الحج أو العمرة، فلا يحل له أن يتجاوزه إلا محرما، فإن فعل ذلك فلا إحرام له ولا حج له ولا عمرة له إلا أن يرجع إلى ذلك الموضع فيجدد منه إحراما (78).
أما من أراد دخول مكة بلا إحرام فذلك جائز، لأن النبى صلى الله عليه وسلم إنما جعل المواقيت لمن مر بهن يريد حجا أو عمرة ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة فلم يأمر الله تعالى قط ولا رسوله عليه الصلاة والسلام بألا يدخل مكة ألا بإحرام فهو إلزام ما لم يأت فى الشرع إلزامه.
والدليل ما روى عن ابن عمر أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم. وعن ابن شهاب لا بأس بدخول مكة بغير إحرام (79)
مذهب الزيدية:(24/41)
قال الزيدية لا يجوز الأفاقى الحر المسلم مجاوزة الميقات إلى الحرم إلا بإحرام، أما غير الأفاقى، وهو من كانت داره بعد الميقات، فإنه يجوز له دخول مكة من غير إحرام إذا لم يدخل لأحد النسكين إلا أن يأتى من خارج الميقات يريد دخول مكة، وأما العبد فإنه يجوز له دخول مكة لو كان آفاقيا من غير إحرام إذا منعه سيده.
وأما الكافر فإنه لا يحرم لدخول مكة لأنه لا ينعقد إحرامه مع الكفر ولا يلزمه دما عندنا، ومن جاوز الميقات غير قاصد لدخول الحرم المحرم بل قصده أن يصل دونه ويرجع، فإن هذا لا يلزمه الإحرام لمجاوزة الميقات، فلو عزم على دخول مكة بعد أن جاوز الميقات فلا يلزمه أن يحرم للدخول عند بعضهم، وهو المختار فى الأزهار، لأن الشرط أن يكون مريدا عند مجاوزته الميقات أن يقصد مجاوزته إلى الحرم، وهذا غير قاصد، ومن لزمه الإحرام وجاوز الميقات من غير إحرام، فقد عصى، ولزمه دم، لأجل. المجاوزة، ولو عاد آلي الميقات بعد المجاوزة لم يسقط عنه الدم إن كان قد أحرم بعد مجاوزة الميقات، أما لو عاد آلي الميقات قبل أن يحرم ثم أحرم من الميقات سقط وجوب الدم وإن فاته عامه الذى جاوز الميقات فيه من غير إحرام ثم بقى علي ترك الإحرام حتى خرج ذلك العام فإنه يلزمه قضاؤه فى المستقبل بأن يحرم ناويا قضاء ما فاته من الإحرام الذى وجب عليه بمجاوزة الميقات (80).
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: لا يجوز لمكلف أن يتجاوز الميقات بغير إحرام عدا من يتكرر دخوله ومن دخلها بقتال، ومن ليس بقاصد مكة عند مروره على الميقات ومتى تجاوزه غير هؤلاء بغير إحرام فيجب الرجوع إليه مع الإمكان، فلو تعذر بطل نسكه إن تعمد مجاوزته بغير إحرام عالما بوجوبه، ووجب عليه قضاؤه وإن لم يكن مستطيعا بل كان سببه إرادة الدخول فإن ذلك موجب له كالمنذور.
نعم، لو رجع قبل دخول الحرم فلا قضاء عليه وان أثم بتأخير الإحرام وألا يكن متعمدا بل نسى أو جهل ولم يكن قاصدا مكة، ثم بدا له قصدها أحرم من حيث أمكن ولو دخل مكة معذورا ثم زال عذره بذكره وعلمه ونحوهما، خرج إلى أدنى الحل وهو ماء خرج عن منتهى الحرم إن لم يمكنه الوصول إلى أحد المواقيت فإن تعذر الخروج إلى أدنى الحل فمن موضعه بمكة ولو أمكن الرجوع إلى الميقات وجب لأنه الواجب بالأصالة وإنما قام غيره مقامه للضرورة، ومع إمكان الرجوع إليه لا ضرورة، ومن اكتملت أهليته بالبلوغ والعتق بعد تجاوز الميقات فكمن لا يريد النسك (81)
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: من جاوز الميقات ولم يحرم لزمه الرجوع والإحرام منه، ذاكرا أو ناسيا، عالما أو جاهلا، وإذا رجع وأحرم منها فلا دم عليه، وقيل عليه دم، وان خاف لفوت الحج أو منعه مانع عن الرجوع فليحرم حيث ذكر من نسيان أو علم من جمل أو تاب من عمد فى الحرم، ولو فى مكة أو قبله ولزمه دم، هذا مذهبنا.
ومن ترك الإحرام أصلا لزمه دم، وقيل أن كان لحج فسد حجه وهو الصحيح، وهو مذهبنا.
وفى التاج من جاوز ميقاتا يريد حجاً أو عمرة لم يجز له، ولزمه دم، ويرجع إليه ويحرم منه وقيل لا دم عليه، إن رجع قبل أن يدخل الحرم، وقيل ولو دخله ما لم يدخل بيوت مكة لا دم عليه إن رجع قبل الطواف بالبيت، وقيل ومن عتق داخل الميقات أو بلغ وقد احرم منه أجزأه وألا بأن لم يكن كذلك وأراد الإحرام بحج أو عمرة رجع إليه، وأجيز أن يحرم من محله.
ثم قال فى التاج أيضا: من جاوز ميقاتا غير مريد الحج أو العمرة ثم أراد أحدهما فليحرم من حيث أراد أحدهما، وهو الأصح. وقيل عليه الرجوع ومن قصد مكة لتجارة أو غيرها كقراءة ولم يحرم أساء ولا دم عليه وقيل أساء وعليه دم، ثم قال: وجاز لأهل كل ناحية أن يحرموا ولو من ميقات غيرهم سواء جاءوا من ناحية ميقات غيرهم بدون أن يجاوزوا ميقات أنفسهم أو جاوزوا ميقاتهم، ثم أحرموا من ميقات غيرهم مثل أن يترك المدنى ذا الحليفة ويحرم من الجحفة وأما إذا كان يجاوز ميقاته ويمر بعد ذلك فى طريقه على ميقات آخر لحاجة دعته للمرور عليه فله أن يؤخر الإحرام إلى الثانى (82)
ما يحظر وما لا يحظر فى الإحرام
قال فى البدائع: إن محظورات الإحرام " فى الأصل " نوعان:نوع لا يوجب فساد الحج، ونوع يوجب فساده، أما الذى لا يوجب فساد الحج فأنواع، بعضها يرجع إلى اللباس وبعضها يرجع إلى الطيب. وما يجرى مجراه من إزالة الشعث وقضاء التفث، وبعضها يرجع إلى توابع الجماع، وبعضها يرجع إلى الصيد.
أما الأول: فالمحرم لا يلبس المخيط جملة ولا قميصا ولا قباء ولا جبة ولا سراويل ولا عمامة ولا قلنسوة، ولا يلبس خفين إلا ألا يجد نعلين فلا بأس أن يقطعهما أسفل الكعبين فيلبسهما، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس، وإنما يمنع المحرم من لبس المخيط إذا لباسه على الوجه المعتاد، فإما إذا لبسه لا على الوجه المعتاد فلا يمنع منه بأن أتشح بالقميص أو أتزر بالسراويل لأن معنى الارتفاق بمرافق المقيمين والترفه فى اللبس لا يحصل به، ولأن لبس القميص والسراويل على هذا الوجه فى معنى الارتداء والإتزار لأنه يحتاج فى حفظه إلى تكلف كما يحتاج إلى التكلف فى حفظ الرداء والإزار، وهذا غير ممنوع عنه، ولو أدخل منكبيه فى القباء ولم يجعل يديه فى كميه جاز له ذلك فى قول أصحابنا الثلاثة.(24/42)
وقال زفر: لا يجوز، ولا يلبس الجوربين لأنهما فى معنى الخفين ولا يغطى رأسه بالعمامة ولا غيرها مما يقصد به التغطية لأن المحرم ممنوع عن تغطية رأسه بما يقصد به التغطية ولو حمل على رأسه شيئا، فإن كان مما يقصد به. التغطية من لباس الناس لا يجوز له ذلك لأنه كاللبس وأن كان مما لا يقصد به التغطية فلا بأس بذلك لأنه لا يعد ذلك لبسا ولا تغطية، وكذا لا يغطى الرجل وجهه عندنا، وإما المرآة فلا تغطى وجهها، وكذا لا بأس أن تسدل على وجهها بثوب وتجافيه عن وجهها ولا يلبس ثوبا صبغ بورس أو زعفران وأن لم يكن مخيطا، ولأن الورس والزعفران طيب، والمحرم ممنوع من استعمال الطيب فى بدنه، ولا يلبس المعصفر وهو المصبوغ بالعصفر عندنا هذا إذا لم يكن مغسولا، فإما إذا كان قد غسل حتى صار لا ينفض فلا بأس به لما روى عن ابن عباس رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال لا بأس أن يحرم الرجل فى ثوب مصبوغ بورس أو زعفران قد غسل وليس له نفض ولا ردغ.
وقال أبو يوسف رحمه الله فى الإملاء:
لا ينبغى للمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران. ولا الورس ولا ينام عليه لأنه يصير مستعملا للطيب، فكان كاللبس ولا بأس بلبس الخز( وهو ما نسج من حرير وصوف) والصوف والغصب والبردى وان كان ملونا كالعدنى وغيره لأنه ليس فيه اكثر من الزينة، والمحرم غير ممنوع من ذلك، ولا بأس أن يلبى الطيلسان لأن الطيلسان ليس بمخيط، ولا يزره، ويكره أن يخلل الإزار بالخلال، ومن يعقد الإزار، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى محرما قد عقد ثوبه بحبل فقال له " انزع الحبل ".
ولا بأس أن يتحزم بعمامة يشمل بها ولا يعقدها، لأن اشتمال العمامة عليه اشتمال غير المخيط، فأشبه الاتشاح بقميص، فإن عقدها كره له ذلك لأنه يشبه المخيط كعقد الإزار، ولا بأس بالهميان وهو وعاء للدراهم والمنطقة للمحرم سواء كان فى الهميان نفقته أو نفقة نجيره وسواء كان شد المنطقة بالأبزيم أو بالسيور.
وعن أبى يوسف رحمه الله فى المنطقة إن شده بالأبزيم يكره وإن شده بالسيور لا يكره، وجه رواية أبى يوسف إن الأبزيم مخيف فالشد به يكون كزر الإزار بخلاف السير، ولا بأس أن يستظل المحرم بالفسطاط عند عامة العلماء، ولنا ما روى عن عمر رضى الله عنه انه كان يلقى على شجرة ثوبا أو نطعا فيستظل به. وروى أنه ضرب لعثمان رضى الله عنه فسطاط بمنى فكان يستظل به.
ولأن الاستظلال بما لا يماسه بمنزلة الاستظلال بالسقف وذا غير ممنوع عنه، فإن دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه فإن كان الستر يصيب وجهه ورأسه يكره له ذلك لأنه يشبه ستر وجهه ورأسه بثوب، وإن كان متجافيا فلا يكره لأنه بمنزلة الدخول تحت ظله، ولا بأس أن تغطى المرأة سائر جسدها وهى محرمة بما شاءت. من الثياب المخيطة وغيرها، وأن تلبس الخفين غير أنها لا تغطى وجهها ولا بأس لها أن تلبس الحرير والذهب وتتحلى بأى حلية شاءت عند عامة العلماء.
وعن عطاء رضى الله عنه أنه كره ذلك. والصحيح قول عامة العلماء لما روى أن ابن عمر رضى الله عنه كان يلبس نساءه الذهب والحرير فى الإحرام، والمرآة تتساوى مع الرجل فى الطيب، أما لبس القفازين فلا يكره عندنا وهو قول على وعائشة- رضى الله عنهما-.
ولنا ما روى أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عته كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين، ولأن لبس القفازين ليس إلا تغطية يديها بالمخيط، وأنها غير ممنوعة عن ذلك فإن لها أن تغطيهما بقميصها وأن كان مخيطا فكذا بمخيط آخر بخلاف وجهها فإنها لا تنتقب.
وأما الذى يرجع إلى الطيب، وما يجرى مجراه، من إزالة الشعث وقضاء التفت، أما الطيب فنقول: لا يتطيب المحرم لقول النبى صلي الله عليه وسلم: " المحرم الأشعث الأغبر " والطيب ينافى الشعث.
وروى أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعان مضمخان بالخلوق فقال: ما اصنع فى حجتى يا رسول الله.
فسكت النبى صلى الله عليه وسلم حتي أوحى الله تعالى إليه، فلما سرى عنه قال النبى صلى الله عليه وسلم: " أين السائل " فقال الرجل: أنا فقال: " اغسل هذا الطيب عنك واصنع فى حجتك ما كنت صانعا فى عمرتك ". وروينا أن محرما وقصت به ناقته فقال النبى صلي الله عليه وسلم: " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، جعل كونه محرما علة حرمة تخمير الرأس والتطيب فى حقه ولا بأس أن يحتجم المحرم ويقتصد ويبط القرحة ويعصب عليه الخرقة ويجبر الكسر وينزع الضرس إذا اشتكى منه، ويدخل الحمام ويغتسل، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقاحة والفصد وبط القرحة والجرح فى معنى الحجامة، ولأنه ليس فى هذه الأشياء إلا شق الجلدة والمحرمة غير ممنوع عن ذلك ولأنها من باب التداوى والإحرام لا يمنع من التداوى، وكذا جبر الكسر من باب العلاج والمحرم لا يمنع منه، وكذا قلع الضرس وهو أيضا من باب إزالة الضرر، فيشبه قطع اليد من الآكلة وذا لا يمنع المحرم، كذا هذا.
وأما الاغتسال، فلما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغتسل وهو محرم وللمحرم أن يكتحل بكحل ليس فيه طيب وقال ابن أبى ليلى هو طيب وليس للمحرم أن يكتحل به. وهذا غير سديد لأنه ليس له رائحة طيبة فلا يكون طيبا.
وأما ما يجرى مجرى الطيب من إزالة الشعث وقضاء التفث خلق الشعر وقلم الظفر، أما الحلق فنقول لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر لقول الله تعالى: " و لا تحلقوا رءوسكم حتي يبلغ الهدى محله، فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك... الآية " (83).(24/43)
وقول النبى صلى الله وسلم" المحرم الأشعث الأغبر "، وسئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: من الحاج
فقال: " الشعث التفث " وحلق الرأس يزيل ولأنه الشعث والتفث، ولأنه من باب الارتفاق بمرافق المقيمين، والمحرم ممنوع عن ذلك، ولأنه نوع نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيحرم التعرض له كالنبات الذى استفاد الأمن بسبب الحرم، وكذا لا يطلى رأسه بنورة لأنه فى معنى الحلق، وكذا لا يزيل شعرة من شعر رأسه ولا يطليها بالنورة.
والمحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه، ممنوع من حلق رأس غيره ألا أنه لما حرم علية حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى، وسواء
كان المحلوق حلالا أم حراما، أما قلم الظفر فنقول لا يجوز للمحرم قلم أظفاره لقول الله تعالى: ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم، وليطوفوا بالبيت العتيق ((84).
وقلم الأظفار من قضاء التفث، رتب الله تعالى قضاء التفث على الذبح لأنه ذكره. بكلمة موضوعة للترتيب مع التراخى يقول اللّه عز وجل:( ليذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير( ثم ليقضوا تفثهم فلا يجوز الذبح، ولأنه ارتفاق بمرافق المقيمين والمحرم ممنوع عن ذلك.
وأما الذى يرجع آلي توابع الجماع فيجب علي المحرم أن يجتنب الدواعى من التقبيل واللمس بشهوة والمباشرة والجماع فيما دون الفرج، لقول الله عز وجل:( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله( (85).
قيل فى بعض وجوه التأويل أن الرفث جميع حاجات الرجال إلي النساء.
وسئلت عائشة - رضى الله تعالى عنها - عما يحل للمحرم من امرأته. فقالت: يحرم عليه كل شىء إلا الكلام.
وأما الذى يرجع إلى الصيد فنقول لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول عندنا إلا المؤذى المبتدىء بالأذى غالبا.
والكلام فى هذا الفصل يقع فى مواضع فى تفسير الصيد أنه ما هو وفى بيان أنواعه وفى بيان ما يحل اصطياده للمحرم وما يحرم عليه وفى بيان حكم ما يحرم عليه اصطياده إذا اصطاده.
أما الأول فالصيد هو الممتنع المتوحش من العاس فى أصل الخلقة، أما بقوائمه أو بجناحه فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل والبقر والغنم لأنها ليست بصيد لعدم الامتناع والتوحش من الناس، وكذا الدجاج والبط الذى يكون فى المنازل وهو المسمى بالبط الكسكرى لانعدام معنى الصيد فيهما، وهو الامتناع والتوحش.
فأما البط الذى يكون عند الناس ويطير فهو صيد لوجود معنى الصيد فيه، فالعبرة بالتوحش والاستئناس فى أصل الخلقة.
والكلب ليس بصيد ولا بأس بقتل البرغوث والذباب والحلم والقراد والزنبور لأنها ليست بصيد لانعدام التوحش والامتناع. إلا ترى أنها تطلب الإنسان مع امتناعه منها، وينظر تفصيل ذلك فى مصطلح"صيد".
وأما الذى يوجب فساد الحج، فالجماع لقول الله عز وجل:( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله((86). عن ابن عباس وابن عمر- رضى الله عنهما- أنه الجماع وأنه مفسد للحج (87)
مذهب المالكية:
قال المالكية: يحرم على الأنثى لبس ( بضم اللام) مخيط، حرة أو أمة، كبيرة أو صغيرة.
ويتعلق الخطاب بولى الصغيرة بسبب تلبثها بالإحرام بحج أو عمرة بكف لا بدن ورجل كقفاز وكيس تدخله فى كفها أو أصابع من أصابع يدها إلا الخاتم فيغتفر لها دون الرجل.
وحرم عليها ستر وجهها أو بعضه وأو بخمار أو منديل، وهذا معنى قولهم "إحرام المرأة فى وجهها وكفيها فقط " وحرمة ستر وجهها إلا لفتنة أى تعلق قلوب الرجال بها فلا يحرم، بل يجب عليها ستره أن ظنت الفتنة بها بلا غرز للساتر بإبرة ونحوها، وبلا ربط له برأسها كالبرقع تربط أطرافه بعقده بل المطلوب سدله على رأسها ووجهها أو تجعله كاللثام وتلقى طرفيه على رأسها بلا غرز ولا ربط.
ثم قال: ويحرم على الذكر ولو غير مكلف ويتعلق الخطاب بوليه ليس محيط (بضم الميم وبالمهملة (أى بأى عضو من أعضائه كيد ورجل وإصبع مطلقا، ورأس وأولى جميع البدن إذا كان محيطا بنسج أو خياطة أو صياغة ونحو ذلك.
بل وأن كأن محيطا يعقد أو زر كأن يعقد طرفى إزاره أو يجعل له أزرارا أو يربطه بحزام أو خلال بعود ونحوه كخاتم بإصبع رجل وحزام بحبل أو غيره وقباء بفتح القاف ممدودا. وقد يقصر وهو الفرجية من جوخ أو غيره وإن لم يدخل يده بكمه بل ألقاه على كتفيه مخرجا يديه من تحته.
وهذا إن جعل أعلاه على منكبيه علي العادة وحرم أيضا على الذكر ستر وجهه ورأسه بأى شىء، وإن بنوع خاص وهو المخيط.
ثم استثني من حرمة المخيط أمرين، الأول مقيد بقصدين، وثانيهما بواحد. فقال إلا الخف ونحوه مما يلبس فى الرجل كالجرموق والجورب فإنه مخيط. ولا يحرم على الذكر لبسه لفقد نعل أو غلوه فاحشا إن زاد ثمنه على قيمته عادة كثر من الثلث وهذا إشارة إلى القيد الأول فإن لم يجد نعلا أو وجده غاليا علوا فاحشا جاز له لبس الخف ولا فدية.
وأشار للقيد الثانى بقوله إن قطع أسفل من كعب، كما ورد فى السنة سواء كان القاطع له هو أو غيره أو كان من اصل صنعته وإلا الاحترام بثوب أو غيره لعمل أى لأجله فلا يحرم ولا فدية عليه، فإن فرغ عمله وجب نزعه وحرم عليهما( أى على الذكر والأنثى) بالإحرام دهن شعر لرأس أو لحية أودهن جسد لغير علة، وإلا جاز، لأن الضرورات تبيح المحظورات.(24/44)
وإن كان الإدهان بغير مطيب فأولى بالمطيب، وحرم عليهما إبانة (أى إزالة) ظفر من يد أو رحل لغير عذر، أو إبانة شعر من سائر جسده بحلق أو قص أو نتف أو إبانة وسخ من سائر بدنه إلا ما تحت أظفاره أو غسل يديه بمزيله) (أى الوسخ) كالأسنان فلا يحرم عليهما أو إلا تساقط شعر من لحية أو رأس أو غيرهما لوضوء أو غسل أو لأجل ركوب الدابة فلا شئ عليه.
وحرم عليهما مس طيب كورس أو دهن مطيب بأى عضو من أعضائه، وإن ذهب ريحه ( أى الطيب) فذهاب ريحه لا يسقط حرمة مسه، وإن سقطت الفدية أو كان فى طعام أو فى كحل أو مسه ولم يعلق به ألا إذا طبخ بطعام وأستهلك فى الطبخ بذهاب عينه فيه، ولم يبق سوى ريحه أو لونه كزعفران وورس فلا حرمة ولا فدية ولو صبغ الفم أو كان الطيب بقارورة سدت سدا محكما فلا شىء فيه أن حملها لأنه من الاستصحاب لا المس أو أصابه الطيب من إلقاء ريح أو غيره عليه فلا شىء عليه.
كما يحرم على المحرم قطع أو قلع ما ينبت من الأرض بنفسه كشجر الطرفاء والسلم والبقل البرى إلا الأذخر والسنا والسواك والعصا، وما قصد السكنى بموضعه للضرورة أو إصلاح الحوائط ( أى ما قطع لاصلاحها) فإنه جائز.
وحرم بالإحرام تعرض لحيوان برى وكذا التعرض لبيضه ما دام وحشيا بل وأن استأنس.
ثم أستثنى من حرمة التعرض للبرى الفأرة، ويلحق بها ابن عرس وكل مايقرض الثياب من الدواب وإلا الحية والعقرب، ويلحق بها الزنبور، ولا فرق بين صغيرها وكبيرها والحدأة والغراب، فلا يحرم التعرض لما ذكر.
وحرم عليهما الجماع والإنزال ومقدماته ولو علم السلامة من منى ومذى.
وجاز للمحرم تظلل ببناء كحائط وسقيفة وخباء خيمة وشجر ومحارة ( أى محمل) ومحفة ولو مكث فيها ساترا أو نازلا، لأن ما عليها من الساتر مسمر أو مشدود عليها بحبال فهى كالقباء.
وجاز له اتقاء شمس أو اتقاء ريح عن وجهه أو رأسه بيد بلا لصوق لليد علي ما ذكر لأنه لا يعد ساترا عرفا بخلاف لصوق اليد فإنه يعد ساترا.
وجاز اتقاء مطر أو برد عن رأسه بمرتفع عنه بلا لصوق من ثوب أو غيره وأولى اليد.
أما الدخول فى الخيمة ونحوها فجائز ولو لغير عذر. أما التظلل بالمرتفع غير اليد فلا يجوز كثوب يرفع على عصا ولو نازلا عند مالك.
ومن ذلك المسطح يجعل فيه أعوادا ويسدل عليها ثوب ونحوه للتظلل.
كما يجوز للمحرم حمل لشىء كحشيش وقفة وغرارة على رأسه لحاجة تتعلق به أو بدوابه كالعلف أو فقر، فيحمل شيئا لغيره بأجره لمعاشه بلا تجارة،الا منع وافتدى.
كما يجوز له شد منطقة بوسطه، والمراد بها يجعل كالكيس يوضع فيه الدراهم وجواز شدها بوسطه مقيد بقيدين أشار للأول بقوله: أن كان لنفقته التى ينفقها علي نفتقه وعياله ودوابه لا لنفقة غيره ولا لتجارة وأشار إلى الثانى بقوله: وكان الشد على جلده لا على إزاره أو ثوبه وجاز حينئذ إضافة نفقة غيره لها تبعا، كما يجوز للمحرم إبدال ثوبه الذى أحرم به بثوب آخر ولو لقمل فى الأول 0
وجاز له بيعه، وجاز له غسله لنجاسته بالماء الطهور فقط دون صابون ونحوه ولا شىء عليه حينئذ لو قتل شيئا من الهوام كالبرغوث، وألا بأن غسله لا لنجاسة أو لنجاسة ولكن ينحو صابون فلا يجوز فإن قتل شيئا أخرج ما فيه إلا أن يتحقق عدم دوابه فلا يحرم غسله بل يجوز مطلقا ولو ترفها أو لوسخ.
وجاز له بط جرح ودمل لإخراج ما فيه من قيح.
وجاز له حك ما خفى من بدنه كرأسه وظهره يرفق حتى لا يقع فى محظور. أما ما ظهر له من بدنه فيجوز حكه مطلقا ما لم يكن يوقعه ذلك فى محظور.
وجاز فصد لحاجة أن لم بعصبه وألا بأن عصبه بعصابة ولو لضرورة أفتدى.
وكره وضع وجهه على وسادة ونحوها لا وضع خده عليها وكره شم طيب مذكر وهو ما خفى أثره ويبقى ريحه كريحان وياسمين وورد وسائر أنواع الرياحين لا مجرد مسه فلا يكره، ولا مكث بمكان فيه ذلك ولا استصحابه.
وكره مكث بمكان فيه طيب مؤنث كمسك وعطر وزعفران.
وكره استصحابه فى خرج أو صندوقه، وكره شمه بلا مس له وألا حرم، وكره حجامة بلا عزر أن لم يزل شعرا، والإحرام لغير عذر.
وكره غمس رأس فى ماء خيفة قتل الدواب لغير غسل طلب وجوبا أو نديا أو استنانا 0
وكره تجفيف الرأس بقوة خوف قتل الدواب لا بخفة، فيجوز 0
وكره نظر فى مرآه مخافة أن يرى شيئا فيزيله، وفعل شىء من هذه لا فدية فيها وجاز للمحرم كل صيد صاده حل لحل لنفسه أو لغيره بخلاف ما صاده لمحرم (88).
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: إذا احرم الرجل حرم عليه حلق الرأس لقول الله تعالى: ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله ( (89)
ويحرم عليه حلق شعر سائر البدن لأنه حلق يتنظف به ويترفه به، فلم يجز كحلق الرأس.
ويجوز له إن يحلق شعر غير المحرم، لأن نفعه يعود إلى الحلال فلم يمنع منه، كما لو أراد يعممه أو يطيبه.ويحرم عليه أن يقلم أظفاره لأنة جزء ينمى، وفى قطعه ترفيه وتنظيف فمنع الإحرام منه كحلق الشعر.
ويحرم عليه ان يستر رأسه، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فى المحرم الذى خر من بعيره ( أى سقط من فوقه) " لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ".
ويجوز إن يحمل على رأسه مكتلا( قفة أو نحوها) لا يقصد به الستر فلم يمنع منه.
ويجوز أن يترك يده على رأسه لأنه يحتاج آلي وضع اليد على الرأس فى المسح فعفى عنه.(24/45)
ويحرم عليه لبس القميص، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فى المحرم " لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف، إلا ألا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران،، وتجب به الفدية لأنه فعل محظور فى الإحرام فتعلقت به الفدية كالحلق، ولا فرق بين أن يكون ما يلبسه من الخرق أو الجلود أو اللبود أو الورق، ولا فرق بين أن يكون مخيطا بالإبرة أو ملصقا بعضه إلى بعض، لأنه فى معنى المخيط والعباءة والدراعة كالقميص فيما ذكرناه لأنه فى معنى القميص.
ويحرم عليه ليس السراويل لحديث ابن عمر رضى الله عنه وإن شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز، لأنهما كالسراويل.
ويجوز أن يعقد عليه إزاره لأن فيه. مصلحه له وهو أن يثبت عليه، ولا يعقد الرداء عليه لأنه لا حاجة به إليه، وله أن يغرز طرفيه فى إزاره وان جعل لإزاره حجزة وأدخل فيها التكة واتزر بها جاز، وإن اتزر وشد فوقه تكة جاز.
قال فى الإملاء: وإن زره أو خاطه أو شوكه لم يجز، لأنه يصير كالمخيط وإن لم يجد إزارا جاز أن يلبس السراويل، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجد إزارا فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، فإن لم يجد رداء لم يلبس القميص لأنه يمكنه أن يرتدى به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل، فإن لبس السراويل ثم وجد الإزار لزمه خلعه ويحرم عليه لبس الخفين للخبر فإن لم يجد نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين للخبر فإن لبس الخف
مقطوعا من اسفل الكعب مع وجود النعل لم يجز على المنصوص.
ومن أصحابنا من قال يجوز لأنه قد صار كالحل بدليل انه لا يجوز المسح عليه، وهذا خلاف المنصوص وخلاف السنة.
وما ذكره من المسح لا يصح لأنه وأن لم يجز المسح ألا أنه يترفه به فى دفع الحر والبرد والأذى، ولأنه يبطل بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه ثم يمنع من لبسه ويحرم عليه لبس القفازين ولا يحرم عليه ستر الوجه، لقول النبى صلى الله عليه وسلم فى الذى سقط عن بعيره " لا تخمروا ر اسه، خص الرأس بالنهى.
ويحرم على المرأة ستر الوجه، لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلي الله عليه وسلم نهى النساء فى إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب، وليلبسن بعد ذلك ما اختير من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلى أو سراويل أو قميص أو خف.
ويجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن ستر الرأس ألا بستر لأنه لا يمكن ستر الرأس ألا بسترة فعفى عن ستره، فإن أرادت ستر وجهها عن الناس سدلت علي وجهها شيئا لا يباشر الوجه، لما روت عائشة رضى الله عنها قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا، ولأن الوجه من المرآة كالرأس من الرجل ثم يجوز للرجل ستر الرأس من الشمس بما لا يقع عليه، فكذلك المرآة فى الوجه ولا يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخف، لحديث ابن عمر- رضى الله عنه- ولأن جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين فجاز لها ستره لما ذكرناه، وهل يجوز لها لبس القفازين؟ فيه قولان:
أحدهما: انه يجوز، لأنه عف و يجوز لها ستره بغير المخيط فجاز لها ستره بالمخيط كالرجل.
والثانى: لا يجوز للخبر، وهو حديث أ بن عمر السابق، ولأنه عضو ليس بعورة منها فتعلق به حرمة الإحرام فى اللبس كالوجه، ويحرم عليه استعمال الطب فى ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عيه وسلم قال ولا تلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران، ولا يلبس ثوبا مبخرا بالطيب ولا ثوبا مصبوغا بالطيب وإن علق بخفه طيب لأنه ملبوس فهو كالثوب.
ويحرم عليه استعمال الطيب فى بدنه ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا يستعطيه ولا يحتقن به، فإن استعمله فى شىء من ذلك لزمته الفدية لأنه إذا وجب ذلك فيها يستعمله بالثياب فلأن يجب فيما يستعمله ببدنه أولى، وان كان الطيب فى طعام نظرت فإن ظهر ذلك فى طعمه أو رائحته لم يجز أكله، أما غير المطيب كالزيت والشيرج فإنه يجوز استعماله فى غير الرأس واللحية لأنه ليس فيه طيب ولا تزين. ويحرم استعماله فى شعر الرأس واللحية لأنه يرجل الشعر ويربيه فإن استعمله فى رأسه وهو أصلع جاز، لأنه ليس فيه تزين وإن استعمله فى رأسه وهو محلوق لم يجز لأنه يحسن الشعر إذا نبت.
ويجوز أن يجلس عند العطار فى موضع يبخر لأن فى المنع من ذلك مشقة ولأن ذلك ليس بطيب مقصود.
والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون فى موضع قربة كالجلوس عند الكعبة وهى تجمر فلا يكره ذلك لأن الجلوس عندها قربة فلا يكره تركها لأمر مباح.
وله أن يحمل الطيب فى خرقة أو قارورة والمسك فى نافجة ( وهو وعاء المسك) وأن مس طيبا فعبقت به رائحته ففيه قولان: أحدهما: لا فدية عليه لأنه رائحة عن مجاور فلم يكن لها حكم كالماء إذا تغيرت رائحته بجيفة بقربه.
والثانى: يجب، لأن المقصود من الطيب هو الرائحة وقد حصل ذلك وأن احتاج المحرم إلى اللبس لحر شديد أو برد شديد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس للأذى أو إلى شعر رأسه بعصابة لجراحة عليه أو إلى ذبح الصيد للشجاعة لم يحرم عليه..
وإن نبت فى عينه شعرة فقلعها أو نزل شعر الرأس إلي عينه فغطاها فقطع ما غطى
العين أو انكسر شىء من ظفره فقطع ما أنكسر منه أو صال عليه صيد فقتله دفعا عن نفسه جاز.(24/46)
ويحرم عليه أن يتزوج وان يزوج غيره بالوكالة والولاية الخاصة، فإن تزوج أو زوج فالنكاح باطل، لما روى عثمان رضى الله عته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا يخطب ولا ينكح ". ولأنه عبادة تحرم الطيب فحرمت النكاح كالعدة.
ويحرم عليه الوطء فى الفرج لقول الله تعالى: ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج(.
قال ابن عباس: الرفث الجماع.
ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج، لأنه إذا حر م عليه النكاح فلأن تحرم المباشرة وهى أدعى إلى الوطء أولى.
ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير، ولا يجوز له أخذه لقول الله تعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما (، فإن أخذه لم يملكه بالأخذ لأن ما منع آخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير أذنه كما لو غصب مال غيره.
وحرم عليه قتله. ويحرمه عليه أن يعين على قتله، بدلالة أو إعارة آلة، لأن ما حرم قتله حرمت الإعانة علي قتله كالآدمى، وان أعان على قتله بدلالة أو أعاره آلة فقتل لم يلزمه الجزاء، ولأن ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير. ويحرم عليه أكل صيده، لما روى جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " الصيد حلال لهم ما لم تصيدوا أو يصاد لكم).
ويحرم عليه آكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، لما روى عبد الله بن أبى قتادة رضى الله عنه، قال: كان أبو قتادة فى قوم محرمين، وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطا فضربه حتي صرعه، ثم ذبحه وأكل هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هل أشار إليه أحد منكم ". قالوا: لا. فلم ير بأكله بأسا.
وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولدا مما يؤكل كالسبع المتولد بين الذئب والضبع، والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل، فحكمه حكم ما يؤكل فى تحريم صيده، لأنه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلب جهة التحريم فى أكله، وان كان حيوانا لا يوكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقول الله تعالى: ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( فحرم من الصيد ما يحرم بالإحرام، وهذا لا يكون إلا فيما يوكل، وهل يكره قتله أو لا يكره ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والبرغوث والقمل والزنبور، فالمستجب أن يقتله لأنه يدفع ضرره عن نفسه وعن غيره، وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازى، فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة، ولا يكره لما فيه من المضرة.
وإن كان مما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان فإنه يكره قتله ولا يحرم 0 وما حرم على المحرم من الصيد حرم عليه بيضه، ويكره المُحِرم أن يحك شعره بأظفاره حتى لا ينتثر شعره ويكره أن يفلى رأسه ولحيته.
ويكره أن يكتحل بما لا طيب فيه لأنه زينة، والحج أشعث أغبر، فإن احتاج إليه لم يكره لأنه إذا لم يكره ما يحرم من الحلق والطيب للحاجة فلأن لا يكره ما لا يحرم أولى.
ويجوز أن يدخل الحمام ويغتسل بالماء لما روى أبو أيوب رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم.
ويجوز أن يغسل شعره بالماء والسدر ، لما روى ابن عباس- رضى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى المحرم الذى سقط عن بعيره: " اغسلوه بماء وسدر " ويجوز أن يحتجم ما لم يقطع شعرا، لما روى ابن عباس - رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ويجوز أن يقتصد أيضا، كما يجوز أن يحتجم ويجوز أن يستظل سائرا ونازلا، لما روى جابر - رضى الله عنه - أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فإذا ثبت جواز ذلك بالحرم نازلا، وجب أن يجوز سائرا قياسا عليه.
ويكره أن يلبس الثياب المصبغة، لما روى أن عمر رضى الله عنه رأى على طلحة رضى الله عنه ثوبين مصبوغين وهو حرام، فقال أيها الرهط أنتم أئمة يقتدى بكم ولو أن جاهلا رأى عليك ثوبيك لقال قد كان طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم فلا يلبس أحدكم من هذه الثياب المصبغة فى الإحرام شيئا.
ويكره أن يحمل بازا أو كلبا معلما لأنه ينفر به الصيد، وربما انفلت فقتل صيداً وينبغى أن ينزه إحرامه عن الخصومة والشتم والكلام القبيح لقول الله تعالى: ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله ( (90).
قال ابن عباس الفسوق المنابذة بالألقاب وتقول لأخيك: يا ظالم يا فاسق والجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه.
وروى أبو هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه "(91).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: المحظورات هى ما يحرم على المحرم فعلها بسبب الإحرام، وهى تسعة، أحدها: إزالة الشعر من جميع بدنه ولو من أنفه بحلق أو قلع أو نتف بلا عذر لقول الله تعالى:( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله( (92) ودخل فى الآية سائر شعر البدن لأنه فى معناه.
الثانى: تقليم الأظافر إلا من عذر، لأنه يحصل به الرفاهية فأشبه إزالة الشعر إلا من عذر، فيباح عند العذر، ويجوز له قص ظفر. الذى انكسر لأنه يؤذيه بقاؤه أو وقع بظفره مرض فيجوز له قصه، ويجوز له حك بدنه ورأسه برفق ما لم يقطع شعرا وله غسل رأسه وبدنه، وقد فعل ذلك عمر رضى الله عنه وابنه وأرخص فيه على وجابر رضى الله عنهما وللمحرم أيضا غسل رأسه بسدر وصابون وأشنان لقوله عليه الصلاة والسلام فى المحرم الذى وقصته راحلته: " اغسلوه بماء وسدر ".(24/47)
الثالث: تغطية الرأس إجماعاً لنهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم: و قوله فى المحرم الذى وقصته راحلته: " لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" والأذنان من الرأس، فما كان من الرأس حرام على الرجل تغطيته.
ويجوز تلبيد رأسه بعسل وصمغ ونحوه لئلا يدخله غبار أو دبيب لحديث ابن عمر- رضى الله عنه-: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا- متفق عليه - ولا شىء عليه لأنه لم يفعل محظورا. ولو كان فى رأسه طيب مما فعله قبل الإحرام لحديث ابن عباس - رضى الله عنه - كأنى أنظر إلى وبيص المسك فى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو محرم، وكذلك إن حمل على رأسه شيئا أو وضع يده عليه لأن ذلك لا يدوم أو نصب حياله ثوبا لحر أو برد وسواء أمسكه إنسان أو رفعه يعود لما روت أم الحصين، قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت بلالا وأسامة رضى الله عنهما وأحدهما آخذ بخطا ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة ، رواه مسلم وعليه اعتمد القاضى غيره لأنه يسير لا يراد للاستدامة بخلاف الاستظلال بالمحمل وإن استظل بخيمة أو شجر ولو طرح عليها شيئا يستظل به أو استظل بسقف وجدار ولو قصد به الستر فلا شىء عليه لحديث جابر - رضى الله عنه - أن النبى صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة بنمرة فنزلها، ( رواه مسلم) ولأنه لا يقصد به الترفه فى البدن عادة، وكذا لو غطى الرجل وجهه فيجوز.
الرابع: لبس الرجل المخيط قل أو كثر فى بدنه،أو بعضه من قميص وعمامة وسراويل و نحوها: كالخفين أو أحدهما للرجلين، وكالقفازين لليدين، فإن لم يجد إزارا لبس السراويل، وإن عدم نعلين لبس خفين بلا فدية لقول ابن عباس - رضى الله عنه - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطب بعرفات يقول: " السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين " - متفق عليه-
وإن أتزر المحرم بقميص فلا بأس به لأنه ليس لبسا للمخيط، ويحرم قطع الخفين وعنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وجوزه جمع.
قال الموفق وغيره: الأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الاختلاف وإن لبس مقطوعا من خفه وغيره دون الكعبين مع وجود نعل حرم ويباح النعل ولو كانت بعقب.
ويجوز له شد وسطه بمنديل وحبل ونحوهما إذا لم يعقده.
قال الإمام أحمد فى محرم حزم عمامته على وسطه لا يعقدها ويدخل بعضها فى بعض لاندفاع الحاجة بذلك.
قال طاووس فعله ابن عمر - رضى الله عنه - إلا إزاره فله أن يعقده لحاجة ستر العورة وله أن يلتحف بقميص ويرتدى به وبرداء موصل لأن ذلك كله ليس بلبس المخيط المصنوع لمثله ولا يعقده ويتقلد المحرم بسيف للحاجة، ولا يجوز لغير حاجة.
الخامس: الطيب إجماعا لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر بعلى بن أمية بغسل الطيب وقال فى المحرم الذى وقصته ناقته: " لا تحنطوه "، ولمسلم: " لا تمسوه بطيب " فيحرم على المحرم بعد إحرامه تطييب بدنه وثيابه ويحرم عليه ليس ما صبغ بزعفران أو ورس أو ما غمس فى ماء ورد أو بخر بعود ونحوه، وكذلك يحرم عليه الجلوس والنوم على ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس فى ماء ورد أو بخر بعود، ويحرم كذلك الاكتحال بمطيب والاحتقان به وشم الأدهان المطيبة والأدهان بها.
ويحرم علي المحرم شم مسك وكافور، وعنبر وماء ورد.
ويحرم عليه كذلك أكل وشرب ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه، ولو مطبوخا أو مسته النار حتى ولو ذهبت رائحته وبقى طعمه لأن الطعم مستلزم الرائحه فإن بقى اللون فقط دون الطعم والرائحة فلا بأس بأكله لذهاب المقصود منه وله شم الفواكه كلها، وكذا نبات الصحراء وما ينبته الآدمى لغير قصد الطيب كحناء وعصفر وقرنفل ونحوه.
أما ما ينبت لطيب كورد وبنفسج فيحرم شمه.
السادس: قتل صيد البر المأكول وذبحه إجماعا لقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( (93). وقول الله عز وجل ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( (94). فيحرم صيده وأذاه، ويحرم الدلالة عليه والإشارة والإعانة ولو بإعارة سلاح ليقتله أو ليذبحه به.
ويحرم أكل المحرمة مما صاد أو صاده غيره بإعانته أو الدلالة عليه أو كان مما صيد لأجله.
السابع: عقد النكاح، فلا يتزوج المحرم ولا يزوج غيره بولاية ولا وكالة، لما روى مسلم عن عثمان - رضى الله عنه- مرفوعا: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب. والاعتبار بحالة العقد فى الوكالة فلو وكل محرم حلالا فى عقد النكاح، فعقله بعد حله من إحرامه صح عقده لوقوعه حال حل الوكيل والموكل.
الثامن: الجماع فى القبل أو الدبر من أدمى أو غيره، لقول الله تعالى: ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ( (95).
قال ابن عباس رضى الله عنه: الرفث الجماع، لما ورد فى قول الله عز وجل: ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ( (96).
التاسع: المباشرة فيما دون الفرج بشهوة، ولو بقبلة أو لمس، وكذا النظر لشهوة لأنه وسيلة إلى الوطء المحرم فكان حراما ، وإحرام المرأة فيما تقدم كالرجل، فيحرم عليها ما يحرم عليه إلا فى اللباس (أى لباس المخيط) فلا يحرم عليها لبس المخيط وتغطية الرأس، وإنما إحرامها فى وجهها فيحرم عليها تغطيته لغير حاجة ببرقع أو نقاب أو غيره، لحديث ابن عمر - رضى الله عنه - " لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين "، فإذا كانت هناك حاجة تستدعى تغطية وجهها كمرور رجال قريبا منها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها لفعل عائشة - رضى الله عنها -
ويجوز لها التحلى بالخلخال والسوار و نحوهما.(24/48)
ويجوز للمحرم أن يتجر وان يصنع الصانع ما لم يشغله ذلك عن واجب أو مستحب، وأن يرتجع زوجته لأن الرجعة إمساك بدليل قول الله تعالى: ( فامسكوهن بمعروف( (97) ، فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق. وللمحرم أن يقتل الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور، وكل ما عدا عليه أو آذاه، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الثورى وإسحاق وأصحاب الرأى، لما روت عائشة رضى الله عنها، قالت: أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق فى الحرم: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور وعن ابن عمر- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمس من الدواب ليس على المحرم جناح فى قتلهن"، وذكر مثل حديث عائشة - رضى الله عنها - السابق.
ويحل للمحرم صيد البحر لقول الله تعالى: ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ((98)
واجمع أهل العلم على أن صيد البحر للمحرم مباح اصطياده وأكله وبيعه و شراؤه.
ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش، ولا بقطع ما أنكسر ولم يبن وإنما يحرم قطع الشوك والعوسج بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم: " لا يعضد شجرها ". وفى حديث أبى هريرة " لا يختلى شوكها ".
وقال القاضى وأبو الخطاب: لا يحرم وأجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم ونباته إلا الأذخر وما زرعه الإنسان ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها (99).
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى (100): يحرم على المحرم لبس القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والجبة والبرنس والخفين والقفازين البتة ، ولا يحل له أن يتزر ولا أن يلتحف فى ثوب صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران أو عصفر.
أما بالنسبة للمرأة فلا تنتقب أصلا ولا يحل لها أن تلبس شيئا صبغ كله أو بعضه بورس أو زعفران، ولا أن تلبس قفازين فى يدها، برهان ذلك ما روى عن يحيى ابن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر - رضى الله عنه - قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه ومسلم ما يلبس المحرم من الثياب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران ولا الورس، ثم يجتنبان (101) تجديد قصد إلى الطيب فإن مسهما من طيب الكعبة شىء لم يضر، أما اجتناب القصد إلى الطيب فلا نعلم فيه خلافا، وأما إن مسه شىء من، طيب الكعبة أو غيرها من غير قصد فلأنه لم يأت فيه نهى.
ولا يحل للمحرم (102) بالعمرة أو بالحج تصيد شىء مما يصاد ليؤكل ولا وطء كان له حلالا قبل إحرامه ولا لباس شىء مما ذكرنا قبل أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن لباسه المحرمة.
قال الله تعالى: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ((103) وقول الله عز وجل:( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((104). وكل من تعمد معصية (105) ( أى معصية كانت وهو ذاكر لحجه، مذ يحرم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ويرمى الجمرة) فقد بطل حجه، فإن أتاها ناسيا لها أو ناسيا لإحرامه ودخوله فى الحج أو العمرة فلا شىء عليه فى نسيانها وحجه وعمرته تامان فى نسيانه كونه فيهما، وذلك لقول الله عز وجل: ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ( (106) فكان من شرط الله تعالى فى الحج براءته من الرفث والفسوق، فمن لم يتبرأ منهما فلم يحج كما أمر، ومن لم يحج كما أمر فلا حج له، ويبطل الحج (107) تعمد الوطء فى الحلال من الزوجة والأمة ذاكرا لحجه أو عمرته. وكذلك يبطل بتعمده أيضا حج الموطوءة وعمرتها، قال الله تعالى:( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((108) والرفث الجماع وإن وطىء وعليه بقية من طواف الإفاضة أو شىء من رمى الجمرة فقد بطل حجة كما قلنا للآية السابقة.
ومن قتل صيدا(109) متصيدا له ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله، فقد بطل حجه أو عمرته لبطلان إحرامه، قال الله عز وجل:( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( (110) فحرم الله تعالى عليه أن يقتل الصيد متعمداً فى إحرامه، فإذا فعل فلم يحرم كما أمر لأن الله تعالى إنما أمره بإحرام ليس فيه تعمد قتل صيد، وهذا الإحرام هو بلا شك غير الإحرام الذى فيه تعمد قتل الصيد، فلم يأت بالإحرام الذى أمره الله تعالى به. وأيضا فإن الله تعالى قال: ( الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ( (111) ولا خلاف فى أن تعمد قتل الصيد فى الإحرام فسوق، فمن فسق فى حجه فلم يحج كما أمر، ومن لم يحج كما أمر فلم يحج.
قال أبو محمد (112): وكل فسوق تعمده المحرم ذاكرا لإحرامه فقد بطل إحرامه وحجه وعمرته لقول الله عز وجل:( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ((113) ، فصح أن من تعمد الفسوق ذاكرا لحجه أو عمرته فلم يحج كما أمر.
ويحرم على المحرم الجدال بالباطل (114) ، وفى الباطل عمدا، ذاكرا لإحرامه مبطل للإحرام وللحج للآية السابقة. ولا يحل لرجل (115) ولا لامرأة أن يتزوجا أو تتزوج، ولا أن يزوج الرجل غيره من وليته ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر ويدخل وقت رمى جمرة العقبة، ويفسخ النكاح قبل الوقت المذكور كان فيه دخول وطول مدة وولادة أو لم يكن، فإذا دخل الوقت المذكور حل لهما النكاح والإنكاح ، وله أن يراجع زوجته المطلقة ما دامت فى العدة فقط، وله أن يراجعها زوجها كذلك أيضا ما دامت فى العدة، لما روى: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب.(24/49)
وإن قتل المحرم الصيد(116) عامدا لقتله ذاكرا لإحرامه أو لأنه فى الحرم فهو عاص لله تعالى وحجه باطل وعمرته كذلك للآية السابقة، وهو قول الله عز وجل: ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ((117)0
فلو أمر محرم حلالا (118) بالتصيد فإن كان ممن يطيعه ويأتمر له، فالمحرم هو القاتل للصيد فهو حرام ولو اشترك حلال ومحرم فى قتل صيد كان ميتة لا يحل أكله، لأنه لم تصح فيه الذكاة خالصة، ولا يحل لأحد(119) قطع شىء من شجر الحرم بمكة والمدينة ولا شوكة فما فوقها ولا من حشيشه حاشا الأذخر عن برهان ذلك ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى ولم يحل لى إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها ".
قال العباس رضى الله عنه: يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقينهم (120) ولبيوتهم.
فقال: إلا الأذخر. ويجوز للمحرم (121) أن يلتحفه بما شاء من كساء أو ملحفة أو رداء، ويتزر ويكشف رأسه ويلبس نعليه.
فإن كانت امرأة فلتلبس ما شاءت من كل ما ذكرنا لأنه لا يلبسه الرجل، وتغطى رأسها، لكن إما أن تكشف وجهها وإما أن تسدل عليه ثوبا من فوق رأسها فذلك لها إن شاءت، ولها أن تلبس الخفاف والمعصفر فإن لم يجد الرجل إزارا فليلبس السراويل كما هى، وأن لم يجد نعلين فليقطع خفيه تحت الكعبين ولابد، ويلبسهما كذلك.
ولا بأس أن يغطى الرجل وجهه بما هو ملتحف به أو بغير ذلك، ولا كراهة فى ذلك، ولا بأس أن تسدل المرأة الثوب من على رأسها على وجهها.
أما المرأة فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهاها عن النقاب، ولا يسمى السدل نقابا، فإن كان البرقع يسمى نقابا لم يحل لها لباسه (122) لحديث ابن عمر- رضى الله عنه- السابق " ما يلبس المحرم... إلخ " ويجوز للمحرم الجدال فى واجب وحق فى الإحرام (123) قال الله عز وجل:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين((124). ومن جادل فى طلب حق له فقد دعا إلى سبيل ربه تعالى، وسعى فى إظهار الحق والمنع من الباطل، وهكذا كل من جادل فى حق لغيره أو لله عز وجل. وجائز للمحرمين من الرجال والنساء أن يتظلوا فى المحامل إذا نزلوا، والكلام مع الناس(125) فى الطواف جائز، وذكر الله أفضل لأن النص لم يأت يمنع من ذلك.
وقال الله تعالى: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم((126)، فما لم يفصل تحريمه فهو حلال.
ومن تصيد صيدا (127) فقتله وهو محرم بعمرة أو بقران أو بحجة تمتع ما بين أول إحرامه إلى دخول وقت رميه جمرة العقبة أو قتله محرم أو محل فى الحرم، فإن فعل ذلك عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه أو لأنه فى الحرم أو غير عامد لقتله سواء كان ذاكرا لإحرامه أو لم يكن فلا شىء عليه، وذلك الصيد جيفة لا يحل أكله(128) وحلال للمحرم ذبح ما عدا الصيد مما يأكل الناس من الدجاج والأوز المتملك والبرك المتملك وهو طائر من طيور الماء) والحمام المتملك والإبل والبقر والغنم والخيل وكل ما ليس صيدا ،الحل والحرم سواء، وهذا لا خلاف فيه من أحد.
وكذلك يذبح كل ما ذكرنا الحلال فى الحرم بلا خلاف أيضا، والنص لم يمنع من ذلك.
وجائز للمحرم (129) فى الحل والحرم وللمحل فى الحرم والحل قتل كل ما ليس بصيد من الخنازير والأسد والسباع والقمل والبراغيث وقردان بعيره أو غير بعيره والحلم ( القراد العظيم) كذلك، ونستحب لهم قتل الحيات والفيران والحدأة والغربان والعقارب والكلاب العقورة صغار كل ذلك وكباره سواء، وكذلك الوزغ وسائر الهوام، فإن قتل ما نهى عن قتله من هدهد أو صرد أو ضفدع أو نمل فقد عمى، برهان ذلك ما ذكرنا أن الله عز وجل أباح قتل ما ذكرنا ثم لم ينه المحرم إلا عن قتل الصيد فقط ولا نهى إلا عن صيد الحرم فقط.
وجائز للمحرم (130) دخول الحمام والتدلك وغسل رأسه بالطين والخطمى والاكتحال والتسويك والنظر فى المرآة وشم الريحان وغسل ثيابه وقص أظفاره وشاربه ونتف إبطه والتنور ولا حرج فى شىء من ذلك ولا شىء عليه فيه لأنه لم يأت فى منعه من كل ما ذكرنا قرآن ولا سنة.
وكل ما صاده (131) المحل فى الحل فأدخله الحرم أو وهبه لمحرم أو اشتراه محرم فحلال للمحرم ولمن فى الحرم ملكه وذبحه وأكله. وكذلك من أحرم وفى يده صيد قد ملكه قبل ذلك أو فى منزله قريبا أو بعيداً أو فى قفص معه فهو حلال له كما كان كله وذبحه وملكه وبيعه.وإنما يحرم عليه ابتداء التصيد للصيد وتملكه وذبحه حينئذ، فلو ذبحه لكان ميتة ولو أنتزعه حلال من يده لكان للذى انتزعه ولا يملكه المحرم، وإن أحل إلا بأن يتحدث له تملكا بعد إحلاله، برهان ذلك أن الله تعالى قال ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما((132).(24/50)
فلو أمر محرم (133) حلالا بالتصيد فإن كان ممن لا يأتمر له ولا يطيعه فليس المحرم هنا قاتلا بل أمر بمباح حلال للمأمور ومباح للمحرم أن يقبل امرأته ويباشرها ما لم يولج لأن الله تعالى لم ينه إلا عن الرفث والرفث الجماع فقط وللمحرم أن يشد المنطقة (134) على إزاره إن شاء أو على جلده، ويحتزم بما شاء ويحمل خرجه على رأسه ويعقد إزاره عليه ورداءه إن شاء ويحمل ما شاء من الحمولة على رأسه ويعصب على رأسه لصداع أو لجرح ويجبر كسر ذراعه أو ساقه ويعصب على جراحه وخراجه وقرحه، ويحرم فى أى لون شاء حاشا ما صبغ بورس أو زعفران لأنه لم ينه عن شىء مما ذكرنا قرآن ولا سنة.
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: محظورات الإحرام عندهم أنواع أربعة:
الأول منها: هو الرفث، والمراد به منا الكلام الفاحش( وفى غيره الوطء)، وكذلك الفسوق كالظلم والتعدى والتكبر والتجبر والجدال بالباطل فإن كان لإرشاد المخالف جاز.
ويحرم التزين بالكحل ونحوه من الأدهان التى فيها زينة.
ويحرم لبس ثياب الزينة كالحرير، والحلي فى حق المرأة عندنا والمعصفر والمزعفر والمورس، وكذلك فى حق الرجل. ولا يعقد المحرم لنفسه ولا لغيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ". ولا تحرم الشهادة من المحرم على زواج المحل، أما على زواج المحرم فمحظورة وكذلك لا تحرم الرجعة ولو بعقد ولأن الرجعة إمساك لا نكاح، ولم يرد النهى إلا فى النكاح.
والنوع الثانى من المحظورات الوطء ومقدماته من لمس أو تقبيل لشهوة، فذلك من غير إجماعا ويكره اللمس من غير ضرورة ولو لم تقارنه شهوة.
والنوع الثالث من المحظورات لبس الرجال المخيط، لما رواه سالم عن ابن عمر عن أبيه - رضى الله عنهما - قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يترك المحرم من اللباس فقال: " لا يلبس القميص والبرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبا مسه ورس وزعفران ولا الخفين إلا ألا يجد نعلين، ومن لا يجد نعلين فلبس الخفين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين".
ويحرم تغطية رأس الرجل لأن إحرامه فى رأسه عندنا وتغطية وجه المرأة لأن إحرامها فى وجهها وتغطيتهما بأى مباشر لهما محظور، سواء كان الغطاء لباسا كالقلنسوة للرجل والنقاب والبرقع للمرأة أو غير لباس كالظلة إذا باشرت الرأس أو كالثوب إذا رفع ليستظل به، فباشر الرأس فأما إذا غطيا الرأس والوجه بشىء لا يباشرهما كالخيمة المرتفعة ونحو أن تعمم المرأة ثم ترسل النقاب فوق العمامة بحيث لا يمس الوجه فإن ذلك جائز.
ويحرم التماس الطيب ولا يجوز شمه ولا مسه إذا كان ينفصل ريحه وإلا جاز ولا يجوز أن يأكل طعاما مزعفرا إلا ما أذهبت النار ريحه ولا يلبس ثوبا مبخرا ويحرم أكل صيد البر فقط سواء اصطاده هو أم محرم غيره أم حلال اصطاده له أو لغيره فأكله محظور.
ولا يجوز تخضيب الأصابع من اليدين أو الرجلين، ولا تقصير كل أظافر أصابع اليدين والرجلين، ولا تخضيب أو تقصير خمس أصابع ولو كانت متفرقة فى اليدين أو الرجلين، ويحظر إزالة سن أو شعر من جسد المحرم سواء أزال ذلك بنفسه أو أزالها من جسد إنسان محرم غيره والنوع الرابع من المحظورات: قتل بعض الحيوان، وهو نوعان: أحدهما يستوى فيه العمد والخطأ، وهو قتل القمل، فإنه لا يجوز للمحرم. والنوع الثانى الذى يختلفا فيه العمد والخطأ هو قتل كل حيوان متوحش وإن تأهل، وإنما يحرم قتله بشرط أن يكون مأمون الضرر، أما لو خشى المحرم من ضرره جاز له قتله إذا خاف ضرره بأن يعدو عليه إلا ما أباح الشرع قتله فذلك جائز، وهى الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة سواء كان القتل مباشرة أو تسببا إلا الصيد البحرى فإنه يجوز للمحرم قتله وأكله، وكذلك الصيد الأهلى من الحيوانات كالخيل وكل ما يؤكل لحمه (135).
ويحظر على المحرم قتل صيد مكة والمدينة سواء ما يؤكل وما لا يؤكل إذا كان مأمون الضرر فإنه محرم قتلة، والعبرة بموضع الإصابة لا بموضع الموت. وكذلك يحرم قطع شجرهما ورعيه، وإنما يحظر قطع الشجر بشرط أن يكون أخضر فلو كان يابسا جاز قطعه، وبشرط أن يكون غير مؤذ، فلو كان مؤذيا كالعوسج ونحوه مما له شوك مؤذ فإنه يجوز قطعه، وبشرط ألا يكون مستثنى فلو كان مستثنى كالأذخر جاز قطعه وبشرط أن يكون أصله ثابتا فى الحرمين، وكذا لو كان بعض عروق أصله فى الحرم فلو كان أصله فى الحل وفروعه فى الحرم جاز قطعه وبشرط أن يكون نبت بنفسه كالأشجار دون الذرائع أو غرس ليبقى سنة فصاعدا كالعنب والتين فإنه لا يجوز قطعهما عندنا (136).
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: من محظورات الإحرام صيد البر ومن المحرم الثعلب والأرنب ولا يختص التحريم بمباشرة قتلها، بل يحرم الإعانة عليه ولو دلالة عليها وإشارة إليها بأحد الأعضاء، ولا فرق فى تحريمها على المحرمة بين كون المدلول محرما ومحلا ولا بين الخفية والواضحة على تفصيل فى ذلك، ينظر فى مصطلح " صيد ".
ولا يحرم صيد البحر وهو ما يبيض ويفرخ معا فيه إلا إذا تخلف أحدهما. وإن لازم الماء كالبط، وهى ما سبق ذكره من الحية والعقرب إلخ.(24/51)
والنساء بكل استمتاع من الجماع ومقدماته حتى العقد والشهادة عليه وإقامتها وإن تحملها محلا أو كان العقد بين محلين والاستمناء وهو استدعاء المنى بغير الجماع، ولبس المخيط وأن قلت الخياطة وشبهه مما أحاط الدرع المنسوج واللبد المعمول، كذلك وعقد الرداء وتخليله وزره ونحو ذلك دون عقد الإزار ونحوه فإنه جائز، واستثنى منه الهميان(137) فعفى عن خياطته ومطلق الطيب وهو الجسم ذو الريح المتخذ للسم غالبا غير الرياحين كالمسك والعنبر والزعفران وماء الورد. وخرج بقيد الاتخاذ للسم ما يطلب منه الأكل والتداوى غالبا كالقرنفل والدار صينى وسائر الأباريز الطيبة فلا يحرم شىء. وكذا ما لا ينبت للطيب كالحناء والمعصفر. وأما ما يقصد شمه من النبات الرطب كالورد والياسمين فهو ريحان والأقوى تحريم شمه أيضا. وأستثنى منه الشيح والخزامى والأذخر والقيصوم إن سميت ريحانا.
وخص الطيب بأربعة: المسك والعنبر والزعفران والورس ، وفى قول آخر: ستة بإضافة العود والكافور إليها ويستثنى من الطيب خلوق- وهو نوع من الطيب - الكعبة والعطر فى المسعى والقبض من كريه الرائحة لكن لو فعل فلا شىء عليه غير الإثم بخلاف الطيب والاكتحال بالسواد والمطيب.
ويجوز أكل الدهن غير المطيب إجماعا، والجدال وهو قول لا والله ، وبلى والله وقيل مطلق اليمين.
وإنما يحرم مع عدم الحاجة إليه، فلو أضطر إليه لإثبات حق أو نفى باطل فالأقوى جوازه.
والفسوق وهو الكذب مطلقا والسباب للمسلم وتحريمها ثابت فى الإحرام وغيره ولكنه فيه آكد كالصوم والاعتكاف والنظر فى المرآة.
وإخراج الدم اختيارا ولو بحك الجسد والسواك، واحترز بالاختيار عن إخراجه لضرورة كبط جرح وشق دمل وحجامة وقصد عند الحاجة إليها فيجوز إجماعا، وقلع الضرس والرواية مجهولة مقطوعة، ومن ثم إباحة جماعة خصوصا مع الحاجة نعم يحرم من جهة إخراج الدم وقص الظفر بل مطلق إزالته أو بعضه اختياراً فلو أنكسر فله إزالته وإزالة الشعر بحلق ونتف وغيرهما مع الاختيار، فلو اضطر كما لو نبت فى عينه جاز إزالته، ولو كان التأذى بكثرته لحر أو قمل جاز أيضا، لأنه محل المؤذى لا نفسه، والمعتبر إزالته بنفسه فلو كشط جلدة عليها شعر فلا شىء فى الشعر لأنه غير مقصود بالإبانة. وتغطية الرأس للرجل بثوب وغيره حتى بالطين والحناء والارتماس وحمل متاع يستره أو بعضه، نعم، يستثنى عصابة القربة وعصابة الصداع وما يستر منه بالوسادة وفى صدقه باليد وجهان، وقطع فى التذكرة بجوازه ، وفى الدروس جعل تركه أولى، والأقوى الجواز لصحيح معاوية ابن عمار.
والمراد بالرأس هنا منابت الشعر حقيقة أو حكما، فالأذنان ليستا منه خلافا للتحرير.
وتغطية الوجه أو بعضه للمرأة ولا يصدق باليد كالرأس ولا بالنوم عليه، ويستثنى من الوجه ما يتم به ستر الرأس لأن مراعاة الستر أقوى وحق الصلاة أسبق.
ويجوز لها سدل القناع إلى طرف أنفها بغير إصابة وجهها على المشهور، والنص خال من اعتبار عدم الإصابة، ومعه لا يختص بالأنف بل يجوز الزيادة ويتخير الخنثى بين وظيفة الرجل والمرأة فيغطى الرأس أو الوجه، ولو جمعت بينهما كفرت.
والنقاب للمرأة وخصه مع دخوله فى تحريم تغطية الوجه تبعا للرواية، وإلا فهو كالمستغنى عنه والحناء للزينة لا للسنة سواء الرجل والمرأة، والمرجع فيهما إلى القصد أيضا ولبس المرأة ما لم تعتده من الحلى وإظهار المعتاد منه للزوج وغيره من المحا رم.
وكذا يحرم عليها لبسه للزينة مطلقا والقول بالتحريم كذلك هو المشهود. ولبس الخفين للرجل وما يستر ظهر قدميه مع تسميته لبسا، والظاهر أن بعض الظهر كالجميع إلا ما يتوقف عليه لبس النعلين.
والتظليل للرجل الصحيح سائرا فلا يحرم نازلا إجماعا ولا ماشيا إذا مر تحت المحمل ونحوه ، والمعتبر منه ما كان فوق رأسه فلا، يحرم الكون فى ظل المحل عند ميل الشمس إلى أحد جانبيه.
وأحترز بالرجل عن المرأة والصبى فيجوز لهما الظل اتفاقا وبالصحيح عن العليل، ومن لا يتحمل الحر والبرد بحيث يشق عليه بما لا يتحمل عادة فيجوز له الظل ولبس السلاح اختيارا فى المشهور، ومع الحاجة إليه يباح قطعا.
وقطع شجر الحرم وحشيشة الأخضرين إلا الأذخر، وما ينبت فى ملكه وشجر الفواكه.
ويحرم ذلك على المحل أيضا، وقتل هوام الجسد وهى ثوابه ولا فرق بين قتله مباشرة وتسببا كوضع دواء يقتله (138).
مذهب الإباضية
قال الإباضية: منع المحرم من استعمال الطيب وإلقاء تفث كظفر وشارب وشعر العانة وغير ذلك، والمراد بإلقائه نزعه، وجماع واصطياد ولبس مخيط للنهى عن القميص والسراويل والعمامة كعلة تغطية الرأس ومنع من لبس البرنوس وهو ثوب له رأس، والخف وإن لم يجد نعلا لبس خفا بعد قطعه من أسفل الكعبين علي خلاف فى ذلك.
ولا يلبس المحرم ولو امرأة القفازين ، ونهى عن لبس مزعفر (أى مصبوغ بزعفران) كله أو بعضه، وذلك لرائحته.
ويجوز المصبوغ بغيره على أى لون، ومورس( مصبوغ فى ورس) كله أو بعضه، وهو نبات أصفر باليمن، وعن بعض أنه كالسمسم يزرع باليمن، ونهى المحرم عما جعل مستديرا ثوبا أو غيره ولو بلا خياطة، وعن تغطية رأس إن كان المحرم دجلا ووجهه مطلقا.
ولا يحمل علي رأسه شيئا ولا يستره، وقال بعضهم: لا بأس أن يحمل طعامه على رأسه، وإنما يكره له ما كان على وجه اللبس.
وقال: ولا يشد على جسده ولو على ذراعه أو أصبعه ولو بخيط ولا يحتزم وقيل يجوز أن يحتزم ولو بعقد بخيط أو حبل علي بطنه إذا أراد العمل، ولا يحتزم لغيره ولا يعقد ثوبه أو غيره على نفسه ولا يتقلد سيفا ولا قوسا.(24/52)
ورخص فى شد نفقة على عقوبة أو غيرهما كصدره وعضده من داخله مما يلى جلده، ورخص باحتباء بثوب هو على جسده ملبوسا أى ليس كذلك، وتمنع المرأة المحرمة من ليس الحرير أو الذهب أو الحلى.
ولها أن ترخى علي وجهها ثويا إن لم يمسه، ومنع المحرم ذكرا أو أنثى من طيب ولو بثوبه ولا يضر إن غسل ولم يبق فيها ريح ولو بقى به لون أو منع من دهن خلط به الطيب ولا يشمه أو يلتذ بريحه وقيل لا يلزم بالسم والالتذاذ فى الطيب الغير المؤنث وأن وقع بثوبه أو جسده ولو ألقته عليه الريح أو طيب به وهو نائم أو مكره أو غافل، غسله من حينه أو نزعه من حينه وندب اجتناب الطيب قبل الإحرام بيومين، والطيب ضربان: ما غلب لونه رائحته ، ويسمى الطيب المؤنث لأنه هو الذى تستعمله المرأة كمخلوق من الطيب يصنع من زعفران وغيره، وما لم يغلب لونه رائحته يسمى المذكر لأنه هو الذى يستعمله الرجل كالمسك. ولا تتزين المرأة وإن بكحل وكذا الرجل ورخص فى الكحل ولو لرجل. وكلام الدعائم أنه يجوز للرجل الاكتحال والدهن بما لا طيب فيه لأجل وجع بأثمد وإن كان مخلوطا بأشياء كثيرة مخلوطة لا بطيب
ومنع المحرم والمحل من صيد الحرم ولو من ماء مطر أو عين أو غيره تولد منه الحيوان.
ومنع المحرم من اصطياد فى بر ومن أكمل صيده( أى صيد البر) ولو صاده محل ولو من الحل أيضا، وإنما منع المحرم من اصطياد البر لما فيه من الفخر بخلاف صيد البحر فلا فخر فيه، ولا يحل وإن كان لمحل شجر الحرم وصيده ولقطته وحلت لمعرفها على أنه إن لم يجد صاحبها تصدق بهما، ولا يحل خلاؤه وهو الرطب من النبات لا يحتش ويجوز رعيه ويمنع للمحرم الاحتجام فى الحرم وهو الصحيح إلا لضرورة (139) وجاز للمحرم استظلال بعريش بيت من قصب أو غيره وما يجعل للعنب يعلوه ويفرش عليه وخيمة وقبة من بناء أو جلد أو غيرهما ومظلة من أى نوع كانت وعلى أى هيئة كانت وثوب على عصا أو شجرة، وليحذر فى ذلك كله مسه لرأسه أو وجهه، وقيل لا يجوز الاستظلال بالثوب على عصا ولا المظلة ولا يجوز لمن لم يكن على دابة ولا بأس للمحرم أن يلقى على نفسه ما شاء من الثياب والمسوح والقطائف من غير أن يغطى رأسه ، وقيد بعض أصحابنا الارتداء بالقميص بعدم وجود لك داء، ولا بأس فى توسد الوسادة.
وجاز للمحرم الاستظلال بظل الإنسان وغيره وأجاز قومنا أن يجعل يده على رأسه أو وجهه للحر، وأجيز الحمل على الرأس، وقال بعض: لا يستظل بالمحمل ولا بأس عندنا باستظلاله بداخل البيت والفسطاط والخباء والقبة ومن عجز عن مس جبهته الأرض من شدة الحر سجد على ثوب من نبات أو من الصوف عند مجيز الصلاة عمى ما يصلى به ويجوز وضع الرأس على الحائط أو الأرض أو الفراش أو غير ذلك على وجه الارتياح أو غير ذلك، ولا خلاف فى جواز وضعه للنوم.
وجاز له احتطاب وشد محملة أى ربطه والعقد عليه لا على نفسه معه.
وجاز للمحرم أن يحتجم لضرورة ، وروى: أن رسول الله صلى عليه وسلم احتجم وهو محرم.
وجاز له قتل كل مؤذ وإن بالحرم ولو ذبابا إن أذى أو زنبورا وغيرها.
ويجوز قتل الغراب والحدأة والفأر والعقرب والحية والكلب العقور ولو لم يخف منهن.
ويجوز له أن يدهن شقوق رجله أو وجهه أو يديه وغير ذلك مما لا طيب فيه ويكره له غمس رأسه فى الماء، وله غسل رأسه بالماء ولا يدلكه أو بدنه عند الغسل ولا يدلك رأسه إلا بإبهامه.
ورخص للمحرم فى القطع للأكل من شجر الحرم مما يؤكل كنبت وإن اختلط بما لا يؤكل ولا يحرث.
وقد يرخص فى الخارج فى الحرث للتعذر.
وجوز نزع السنا المكى بلا قطع أصله وأكله وشربه لإسهال أو لضرس أوجعته. وجوز نزع الحطب اليابس الميت والثمر الساقط.
ويجوز له الانتفاع بالعود أو الغصن أو الورقة أو أكثر من ذلك إذا نزعه غيره ولو عمدا، ولا يجوز لنازعه الانتفاع به. وقيل ان نزعه بلا عمد فله الانتفاع به، وكره له رعى شجره وإن رعى فعليه أن يتصدق. وأجاز بعضهم رعى نباته وهو الصحيح، ولا يضر حافرا قطع شجر صغير وأن من أصله إن صادفه بحفره لا عمداً ولو علم أنه إذا كان يحفر يقطع وذلك إذا أحتاج للحفر(140).
--------------------------------------------------------------------------------
(1) لسان العرب للعلامة ابن منظور ج 49 مادة " حرم"، طبع دار بيروت للطباعة والنشر سنة 1375 هجرية وترتيب القاموس المحيط لطاهر الزاوى ج1 مادة " حر م، طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة الطبعة الأولى سنه 1959.
(2) فتح القدير وبهامشه شرح العناية على الهداية ج 2 ص134 طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر الطبعة الأولى سنة 1310 م.
(3) بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير للدردير ج1 ص250 طبع المطبعة التجارية الكبرى بمصر سنة 1223 هجرية .
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لابن. شهاب الرملى ج 3 ص256 طبع مطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاد بمصر سنة 1357 هجرية .
(5)كشاف القناع وبهامشه منتهى الإرادات ج 1 ص564 طبع المطبعة العامرة الشرفية، الطبعة الأولى سنة 1319 هجرية .
(6) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص سنه 7 مسألة رقم 823، ص90 مسالة رقم 826 طبع أداره الطباعة المنيرية بمصر الطبعة الأولى سنة 1349 هجرية .
(7) البحر الزخار، الجامع لمذاهب علماء الأمصار ج 2 ص290، 291، 294، 295 طبع مطبعة العادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1367 هجرية .
(8)الروضة "البهية، شرح اللمعة الدمشقية للجبعى العاملى ج 1 ص 173طبع مطابع دار الكتاب العربى بمصر سنة 1379 هجرية .
(9)كتاب شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص 299، ص300، ص ،ص301 طبع على ذمة يوسف البارونى و شركاه.(24/53)
(10) رد المحتار على الدر المختار شرح تنوبر الأبصار لابن عابدين ج2 ص 202 ص 202 طبع المطبعة العثمانية سنة 1324 هجرية
(11)الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوى عليه ج1 ص 247 الطبعة السابقة.
(12) نهابة المحتاج ج3 ص256 الطبعة السابقة
(13)الشرح الكبير بهامش المغنى ج2 ص503،504 لابن قدامة المقدسى الطبعة الأولى مطبعة المنار بمصر فى سنة 1341 هجرية
(14) البحر الزخار ج 2 ص 294 الطبعة السابقة.
(15)الروضة البهية ج ص173، 179 الطبعة السابقة.
(16) كتاب الوضع لأبى زكريا الجناوى ج ص 206 طبع مطبعة الفجالة الجديد ة الطبعة الأولى.
(17)كتاب بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى ج 1ص 130 طبع مطبعة شركة المطبوعات العلمية يمصر الطبعة الأولى سنة 327 هجرية .
(18) الشرح الصغير للدردير ج 1 الطبعة السابقة
(19) نهاية المحتاج على الشبراملسى ج1 ص439، الطبعة السابقة، والمهذب للشيرازى ج1 ص70 طبع مصطفى عيسى البابى الحلبى وشركاه بصر.
(20) المغنى لابن قدامة المقدسى ج1 ص 511 الطبعة السابقة.
(21) المحلى لابن حزم الظاهرى ج3 ص 232، 232 الطبعة السابقة مسألة رقم 356.
(22) شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار فى فقه الأئمة الأطهار ج 1 ص 231، 232 طبع مطبعة حجارى بالقاهرة الطبعة الثانية سنة 1357 هجرية .
(23) المختصر النافع فى فقه الأمامية ص 53 طبع وزارة الأوقاف الطبعة الثانية.
(24)شرح النيل ج 1 ص 382، 383،،384 الطبعة السابقة
(25) سورة البقرة: 197
(26) تبين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى مع حاشية الشلبى عليه ج2 ص8 وما بعدما طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر الطبعة الأولى سنة 313 هجرية
(27) الشرح الصغير على الدردير ج1 من ص 472 إلى ص 251 الطبعة السابقة
(28) الخرشى على مختصر خليل مع حاشية العدوى ج 2 ص 3234،424 طبع المطبعة الكبرى الأمهرية بمصر الطبعة الثانية سنة 1317 هجرية .
(29) الدردير مع حاسثيه الصاوى ج 1ص 251 الطبعة السابقة.
(30) المهذب للشيرازى ج1 ص 204 الطبعة السابقة.
(31) نهاية المحتاج للرملى ج 3 ص 262 الطبعة السابقة.
(32) المهذب للشيرازى ج1 ص204 الطبعة السابقة ونهابة المحتاج للرملى ج 3 ص263 الطبعة السابقة
(33) نهاية المحتاج ج 3 ص 259، 260، 261 الطبعة السابقة.
(34) كشاف القناع ج1 الطبعة السابقة ، ص 564 الطبعة السابقة والروض المريع بشرح فى زاد المستنقع لمختصر المقنع ج1 ص 136طبع المطبعة السلفية ومكتبتها الطبعة السابقة
(35) كشاف القناع ج1 ص 564،565 الطبعة السابقة، والروض المربع ج1 ص136 الطبعة السابقة
(36) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص78، 79، 82، 82 مسالة رقم،83 مسالة رقم82 5
(37) المحلى لابن حزم ج7 ص93 مسالة رقم 829.
(38) شرح الإزهار ج2 ص74 وما بعدها الطبعة السابقة ، والبحر الزخار ج2 ص294 الطبعة السابقة
(39) المختصر النافع ص 105، 106، 107 الطبعة السابقة
(40) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص298، 299 الطبعة السابقة
(41) سورة البقرة:196
(42) حاشية ابن عابدين على الدر المختار ج 2 ص208، 209، 210 الطبعة السابقة، وبدائع الصنائع للكاسانى ج2 من ص 4 إلى صى167 الطبعة السابقة.
(43) حاشية الصاوى على الشرح الصغير ج1 ص247، 8،2 الطبعة السابقة، والخرشى على مختصر خليل ج2 ص 303 الطبعة السابقة.
(44) نهاية المحتاج للرملىج3 ص250 الطبعة السابقة
(45) نهاية المحتاج ج3 ص ا 25،252 الطبعة السابقة
(46) المرجع السابق ج3ص252، الطبعة السابقة
(47) نهاية المحتاج للرملى ج3 ص 252، 253 الطبعة السابقة.
(48) المرجع السابق ج3 ص255 الطبعة السابقة
(49) المغنى لابن قدامة المقدسى ج 3 من ص206 إلى ص 215 الطبعة السابقة، وكشاف القناع ومنتهى الإيرادات ج ا ص 561، 562 الطبعة السابقة والروض المريع ج ص 135 الطبعة السابقة
(50) المحلى لابن حزم ج 7 ص 69 مسألة رقم 822، ص70، 71، 98 مسألة رقم 832، ص266 مسألة رقم من904 الطبعة السابقة
(51) شرح الأزهار ج2 ص 75، 76،،5 1 الطبعة السابقة، والبحر الزخار ج 2 ص 28، 289 الطبعة السابقة.
(52) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص178، 179 الطبعة السابقة.
(53) شرح النيل وشفاء العليل ج2 من ص291 إلى ص 291 الطبعة السابقة وكتاب الوضع فى مختصر الأصول والفقه ص206، 207، 208 الطبعة السابقة.
(54) تبيين الحقائق للزيلعى ج 2 صفا، الطبعة السابقة.
(55) حاشية ابن عابدين على الدر المختار ج 2 ص207، 208 الطبعة السابقة.
(56) الشرح الصغير وحاشية الصاوى عليه ج ا ص 247، 248 الطبعة السابقة، والشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه ج 2 ص ا 2 الطبعة السابقة
(57) نهابة المحتاج للرملى ج 3 ص248 ، ص250 الطبعة السابقة.
(58) كشاف القناع ومنتهى الإيرادات ج ا ص 630 الطبعة السابقة.
(59) كشاف القناع ج ص564 الطبعة السابقة
(60) سورة البقرة 1970.
(61) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 65 إلى ص 69 الطبعة السابقة.
(62) البحر الزخار ج 2 ص 292 الطبعة السابقة وشرح الأزهار ج 2 ص 75، ص76 الطبعة السابقة.
(63) المختصر النافع ص 103 الطبعة السابقة.
(64) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص 291 وما بعدها الطبعة السابقة وكتاب الوضع فى مختصر الأصول والفقه ص206 وما بعدها، الطبعة السابقة.
(65) حاشية ابن عابدين على الدر المختارج61 ص2 الطبعة السابقة.
(66) الشرح الصغير وحاشية الصاوى عليه ج1 الطبعة السابقة
(67)نهاية المحتاج للرملى وحاشية الشبراملسى عليه ج 3 ص.25 الطبعة السابقة.
(68) كشاف القناع ومنتهى الإيرادات ج1 ص563، 564 الطبعة السابقة.(24/54)
(69) المحلى لابن حزم الظاهرىج7 ص 65، 66 مسألة رقم 819 الطبعة السابقة.
(70) البحر الزخار ج 2 ص 292 11 الطبعة السابقة، وشرح الأزهار ج 2 ص77 الطبعة السابقة.
(71) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج 1 ص 172 الطبعة السابقة.
(72) شرح النيل وشفاء العليل ج ص297 الطبعة السابقة
(73) صورة البقرة: 0196
(74) بدائع الصنائع للكاسانى ج 2 من ص164 إلى 167 الطبعة السابقة.
(75) بلغة السالك لاقرب المسالك على الشرح الصغير للدردير ج ا صح249: 250 الطبعة السابقة.
(76) نهاية المحتاج ج 3 ص 253،،254 الطبعة السابقة.
(77) المغنى لابن قدامة المقدسى ج 3 من ص 216 إلى ص 221 الطبعة السابقة.
(78)المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص70، 71، الطبعة السابقة.
(79) المرجع السابق ج 7 ص266 الطبعة السابقة
(80) شرح الأزهار ج 2 ص154، 155 الطبعة السابقة.
(81) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص 177 وما بعدها، الطبعة السابقة.
(82) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص294، 295 الطبعة السابقة.
(83) سورة البقرة: 196.
(84) سورة الحج: 29.
(85) سورة البقرة:197.
(86) سورة البقرة: 197.
(87) بدائع الصنائع للكاساتى ج 2 ص 83 1 إلى ص196،206
(88) الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوى عليه ج1 من ص 266 إلى ص الطبعة السابقة.
(89) سورة لبقرة: 196.
(90) سورة البقرة:197
(91) المهذب للشيرازى ج1 ص 207 إلى ص 214 الطبعة السابقة.
(92) سورة البقرة: 196.
(93) سورة المائدة: 95
(93) سورة المائدة: 96
(94) سورا البقرة:197.
(95) سورة البقرة: 187.
(96) سورة الطلاق: 2.
(97) المغنى لابن قدامة المقدسى ج 3 من ص337 إلى ص 396 الطبعة السابقة، وكشاف القناع ومنتهى الإرادات ج 1 من ص573 إلى ص 588 الطبعة السابقة
(98) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص 78 ، 79 مسألة رقم 823.
(99) المحلى ج7 ص 90 مسألة رقم 827.
(100) المرجع السابق ج7 ص 98 مسألة رقم 831، الطبعة السابقة.
(101) صورة المائدة: 95.
(102) سورة البقرة: 197.
(103) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 18 مسألة رقم 850 الطبعة السابقة.
(104) المرجع السابق ج 7 ص189، مسألة رقم 855 الطبعة السابقة.
(105) المرجح السابق ج7 ص194 مسالة رقم 863
(106) المرجع السابق ج 7 ص 195 مسألة رقم 864
(107) المرجع السابق ج 7 ص196 مسألة رقم 865
(108) المرجع السابق ج7 ص 197، 198 مسألة رقم 869.
(109) المحلى لابن حزم ج 7 ص 214 مسألة رقم 876 الطبعة السابقة.
(110) المرجع السابق ج 7 ص 4 5 2 مسألة رقم 893
(111) المرجع السابق ب 7 ص 260، 261 مسألة رقم 897 الطبعة السابقة.
(112) القيون جمع قين وهو الحداد والصانع الذى بعمل بالكير- لسان العرب لابن منظور ج 56 ص 350 طبع بيروت.
(113) المحلى لابن حزم ج 7 من78، 79 مسألة رقم 823 الطبعة السابقة.
(114) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 91 مسألة رقم 828 الطبعة السابقة.
(115) المرجع السابق ج 7 ص 196 ، 197 مسألة رقم 865 مسألة رقم867 الطبعة السابقة.
(116) سورة النحل: 125.
(117) المحلى لابن حزم ج 7 ص97 1 مسألة وقم 868 الطبعة السابقة.
(118) صورة الأنعام: 119.
(119) المحلى لابن حزم ج 7 ص 214 مسألة رقم 876 الطبعة السابقة.
(120) المرجع السابق ج7 ص 23، 239، مسألة رقم 9 ، 8 الطبعة السابقة.
(121) المرجع السابق ج7 ص 238 مسألة رقم 890 الطبيعة السابقة.
(122) المرجع السابق ج 7 ص 246 مسألة رقم 891 الطبعة السابقة.
(123) المرجع: السابق ج7 ص 248 ، 249 مسألة 892 الطبعة السابقة.
(124) سورة المائدة رقم 96
(125) المحلى ج 7 ص25، 255 مسألة رقم 893 الطبعة السابقة، مسألة رقم 894.
(126) المرجع السابق ج 7 ص 258، 259 مسألة رقم 896 الطبعه السابقة.
(127) شرح الأزهار ج 2 من ص 84 إلى94 الطبعة السابقة، والبحر الزخار ج 2 ص 310 الطبعة السابقة.
(128) المرجع السابق ج 2 من ص 101 إلى ص 104 الطبعة السابقة.
(129) الهميان (بالكسر): شداد السراويل ووعاء ا لدراهم.
(130) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص 181، 182، 183 الطبعة السابقة.
(131) شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص310 إلى ص 328،ص337، عي 383 الطبعة السابقة
(132) كتاب شرح شفاء العليل ج 2 من ص310 إلى ص 342 الطبعة السابقة.
(133) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى ج 2 ص 53، 56، 2 5، 58، الطبعة السابقة.
(134) المرجع السابق ج 2 من ص 52 إلى ص 55، ص 59 الطبعة السابقة.
(135) سورة البقرة: 197.
(136) تبيين الحقائق للزيلعى ج 2 ص 56 الطبعة السابقة..
(137) المرجع السابق ج 2 ص 52، ص 53، ص 54، الطبعة السابقة.
(138) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج 2 ص 286، ص287 الطبعة السابقة.
(139) سورة المائدة: 95.
(140) الزيلعى ج 2 ص 63 الطبعة السابقة.
***********
إحرامُ (ب)
الجناية على الإحرام
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: الجناية على الإحرام تكون بفعل واحد من محظورات الإحرام التى سبق بيانها وهى فى أثرها متفأوتة، فهى أحيانا توجب بدنة وأحيانا دما (أى شاة) وأحيانا توجب صدقة (141).
ما يوجب بدنة:
إذا جامع بعد الوقوف بعرفة وقبل الحلق وجبت عليه بدنة ولا يفسد حجه بخلاف ما إذا كان الجماع قبل الوقوف بعرفة فإن الحج يفسد به (142).
ما يوجب دما(24/55)
إذا طاف المحرم للزيارة ثم جامع قبل الحلق وجب عليه دم لوجود الجناية فى الإحرام لأنه لا يتحلل ألا بالحلق، وإن كان قارنا يجب عليه دمان ، ولا فرق بين أن يكون الواطىء عامدا أو ناسيا، طائعا أو مكرها وإن كان المحرم قارنا فسد حجه وعمرته إن جامع قبل أن يطوف للعمرة وعليه دمان وقضاء الحج والعمرة ولو خضب المحرم رأسه أو لحيته بالحناء وجب عليه دم إن كان الخضاب مائعا وإن كان متلبدا فعليه دمان: دم للتطيب، ودم لتغطية الرأس. ولو ادهن بالزيت البحت وجب عليه دم عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى.
وقال الصاحبان رحمهما الله تعالى فى الإدهان بالزيت صدقة.
ولو لبس المحرم مخيطا لبسا معتاداً أو غطى رأسه يوما كاملا لا يلزمه إلا دم.
وعن أبى يوسف رضى الله عنه: يجب دم بلبسه أكثر اليوم، وهو قول أبى حنيفة رحمه الله الأول. وعن محمد إن لبسه فى بعض اليوم يجب من قيمة الدم بحسابه ولو لبس قميصا وسرأويل وقباء وخفين يوما كاملا لا يلزمه إلا دم واحد لأنها من جنس واحد، فصار كجناية واحدة، وكذلك لو دام اللبس أياما أو كان يلبس بالنهار وينزعها ليلا بدون عزم على الترك، أما إذا نزعها ليلا وعزم على الترك ثم لبسها نهارا وجب عليه دم آخر لأن اللبس الأول انفصل عن الثانى بالترك.
وإذا حلق المحرم ربع رأسه أو ربع لحيته أو حلق رقبته أو حلق إبطيه أو أحدهما أو حلق مكان احتجامه وجب عليه دم، خلافا للصاحبين فى حلق موضع الحجامة.
ولو حلق شاربه أو قصه كان فى ذلك حكومة عدل ينظر كم يكون من ربع اللحية فإن كان ربع الريع وجب ربع الدم، ويجب الدم على المحرم المحلوق سواء أحلقه بنفسه أما حلقه غيره بأمره أو بغير أمره، كما إذا كان المحرم نائما أو مكرها.
ولو جامع بعدما طاف للعمرة بعض الأشواط وجب عليه دم، لكن إن طاف أكثر الأشواط لا تفسد العمرة، وإن طاف ثلاثة أشواط أو أقل فسدت العمرة، وإنما وجب عليه شاة لا بدنه،لأن العمرة سنة والحج فرض، فكانت أحط رتبة منه.
وإذا قص المحرم يدى نفسه ورجليه فى مجلس وأحد وجب عليه دم واحد، ولو قص يدا واحدة أو رجلا واحدة وجب عليه دم كذلك لقص الأصابع الخمس متوالية، وإذا كان القص فى مجالس وجب عليه دم واحد عند الإمام محمد رحمه الله، لأن مبناها على الداخل ككفارة الفطر إلا إذا تخللت الكفارة بينهما لارتفاع الأول بالتكفير فصار كما لو حلق رأسه فى مجالس فى كل مجلس ربعه، وعلى قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى يجب لكل يد دم ولكل رجل دم إذا وجد ذلك فى كل مجلس حتى يجب عليه أربع دماء إذا وجد فى كل مجلس قص يد أو رجل لأن الغالب فيها سنى العبادة فيتقيد التداخل باتحاد المجلس. وقال زفر رحمه الله تعالى: يجب على المحرم دم بقلم ثلاث من الأظافر، وهو قول أبى حنيفة رحمه الله الأول، لأن فى أظافر اليد الواحدة دما والثلاث كثرها.
والتطيب واللبس والحلق بعذر يخير فيه المحرم بين ذبح شاة أو تصدق بثلاثة أصوع على ستة مساكين أو صوم ثلاثة أيام لقول الله تعالى: ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك( (143).
قال هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصفه صاع طعاما لكل مسكين - متفق عليه-.
وفسر النسك صلى الله عليه وسلم بالشاة فيما رواه أبو دأود، وكلمة " أو " للتخيير فصار هذا أصلا فى كل ما يفعله المحرم للضرورة كلبس المخيط والتطيب ثم الصوم يجزئه فى أى موضع شاء لأنه عبادة فى كل مكان، وكذا الصدقة عندنا، وأما النسك فمختص بالحرم بالاتفاق، لأن الإراقة لم تعرف قربة إلا فى زمان أو فى مكان، وهذا الدم لا يختص بزمان، فوجب اختصاصه بالمكان، ثم إن أختار الإطعام تجزىء فى التغذية أو التعشية بالإباحة عند أبى يوسف رحمه الله.
وقال محمد رضى الله عنه: لا يجزئه إلا التمليك لأن المذكور فى النص بلفظ الصدقة وكل شىء على المفرد به دم، فعلى القارن دمان لأنه محرم بإحرامين ، وقد جنى عليهما فيجب عليه دمان (144).
ما يجب به صدقة فى الإحرام
إذا طيب أقل من عضو وجبت عليه صدقة لقصور الجناية، وقال محمد رحمه الله يجب بقدره من قيمة الدم، وإذا جمر ثوبه فتعلق به البخور قليلا، فعليه صدقة، والفرق بين التطيب وحلق الرأس، وتطيب بعض العضو غير معتاد، فلا تتكامل الجناية بخلاف حلق ربع الرأس فإنه معتاد، وإذا لبس مخيطا أو غطى رأسه أقل من يوم فعليه صدقة عند أبى حنيفة - رضى الله تعالى عنه - لقصور الجناية وكذلك إذا كانت التغطية أقل من ربع الرأس وقال أبو يوسف - رحمه الله - يجب عليه صدقة إذا لبس مخيطا أو غطى رأسه نصفه يوم فأقل إذا حلق أقل من ربع الرأس أو أقل من ربع اللحية أو بعض الرقبة أو بعض الإبط أو بعض اللحية فعليه صدقة أما فى الرأس واللحية فلقصور الجناية فى حلق أقل من الربع.
وأما فى الرقبة والإبط والمحجم فلأن حلق بعضها لا يكون ارتفاقا كاملا إذا حلق المحرم رأس غير محرما أو قص شاربه أو قلم أظافره فعليه صدقة، وكذلك إذا حلق رأس محرم أو قص شاربه أو قلم أظافره، إلا أن كمال الجناية فى إزالة تفث نفسه فيجب عليه دم فتأذيه بتفث غيره أقل من تأذيه بتفث نفسه فيجب عليه الصدقة (145).
وإذا قص أقل من خمسة أظافر أو قص خمسة إلى ستة عشر متفرقة من كل عضو أربعة تصدق بنصفه صاع من بر عن كل ظفر ما لم يبلغ مجموع الأصابع قيمة الدم فإن بلغ نقص ما شاء كى لاتبلغ الدم، وفى اللباب ينقص من ذلك نصف صاع (146).
جزاء الصيد
إذا قتل المحرم صيدا أو دل عليه فعليه الجزاء.
وأما وجوبه بالقتل فلقول الله عز وجل: ( ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم ((147).(24/56)
وأما وجوبه بالدلالة فلما روى من حديث أبى قتادة - رضى الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل: " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقى من لحمها.
ووجه الاستدلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علق الحل على عدم الإشارة وهى الدلالة بغير اللسان ، فأحرى ألا يحل له الأكل من الصيد إذا دل باللفظ (148). والجزاء فى الصيد قيمته، وذلك بأن يقومه عدلان فى موضع قتله أو فى أقرب موضع منه، إن قتل فى برية، ثم هو مخير. فى القيمة إن بلغت هديا اشتراه وذبحه أو اشترى طعاماً وتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من نهر أو شعير وإن شاء صام عن كل نصفه صاع يوما، وهذا عند الشيخين رحمهما الله تعالى. وقال محمد: يجب النظير فيما له نظير، ففى الظبى شاة وفى الضبع شاة مثلا.
ثم إذا ظهرت قيمته بتقويمها خير القاتل بين الأشياء الثلاثة عند أبى حنيفة وأبى يوسف - رحمهما الله تعالى - وعند محمد الخيار إلى الحكمين فى ذلك فإن حكما بالهدى يجب النظير على ما مر، وإن حكما بالطعام أو الصوم فعلى ما مر من قول الشيخين، وإن جرح المحرم الصيد أو قطع عضوه أو نتف شعره ضمن ما نقص اعتبارا للجزء بالكل كما فى حقوق العباد وهذان إذا برىء وبقى أثره وان لم يبق له أثر لا يضمن لزوال الموجب.
وقال أبو يوسف: يلزمه صدقة للألم، ولو مات الصيد بعدما جرحه ضمن كله ، لأن جرحه سبب لموته، فيحال به عليه ما لم يبرأ ولو غاب الصيد ولم يعلم أمات أم برىء ضمن نقصانه لأنه لزمه بالجرح فلا يسقط عنه ولا يلزمه جميع القيمة بالاحتمال أو الشك، وهذا قياس.
وفى الاستحسان، يلزمه جميع القيمة احتياطا لمعني العبادة كمن أخذ صيدا فى الحرم فأرسله ولم يعلم دخوله فى الحرم، بخلاف الصيد المملوك (149).
ويزيد الجزاء الواجب فى قتل السبع عن شاة (150).ولو أخذ المحرم صيدا فقتله محرم آخر وهو فى يده يضمن الآخذ والقاتل جميعا ويرجع آخذه على قاتله. أما وجوب الجزاء عليهما فلوجود الجناية منهما، لأن الآخذ متعرض للصيد بالأخذ والآخر متعرض له بالقتل، فيضمن كل واحد منهما، ثم يرجع الآخذ عن القاتل ولو كان القاتل غير محرم (151).
وقال زفر: لا يرجع، لأن الأخذ مؤاخذ بصنعه فلا يرجع على غيره وهذا لأنه لم يملك الصيد لا قبل الضمان ولا بعده، ولا كانت له فيه يد محترمة، ووجوب الضمان بتفويت يد أو ملك، فلم يوجد، وإذا اشترك المحرمان فى قتل الصيد فعلى كل واحد منهما جزاء كامل لأنه كفارة قتل. وبدل للمحل، ويبطل بيع المحرم صيدا وشراؤه لأن بيعه حيا تعرض للصيد وبيعه بعد قتله بيع ميتة بخلاف ما إذا باع لبن الصيد أو بيضه أو الجراد أو شجر الحرم لأن هذه الأشياء لا يشترط فيها الزكاة، ثم إذا قبض المشترى وعطب فى يده فعليه وعلى البائع الجزاء لأنهما قد جنيا عليه، البائع بالتسليم والمشترى بإثبات اليد عليه، ويضمن المشترى أيضا للبائع لفساد البيع ولو رده على البائع يجب على المشترى الجزاء للتعدى بالتسليم إليه وجعله عرضة للهلاك، ويبرأ من الضمان للبائع، وعلى هذا لو وهب محرم صيدا من محرم فهلك عنده يجب عليه جزاءان: ضمان. لصاحبه لفساد الهبة وجزاء حقا لله تعالى، وإن أكله فعليه ثلاثة أجزية عند أبى حنيفة رحمه الله لأنه يجب عنده بالأكل الجزاء، ولو غصب محرم من محرم صيدا وجب عليهما الجزاء لتعديهما بالتسليم والتسلم.
وإن هلك فى يده فعليه قيمتان: قيمة لمالكه وقيمة حقا لله تعالى، ويجب عليه إرساله، ولا يجوز له أن يسلمه إلى صاحبه فإن أرسله، يجب عليه الضمان لصاحبه وبرئ من الضمان لحق الشرع.
ومن أخرج ظبية من الحرم فولدت: ماتا ضمن الولد والأم جميعا لأن الصيد بعد الإخراج ممن الحرم مستحق الأمن حتى يجب عليه رده أى مأمنه وهو الحرم، وهذه صفة شرعية فتسرى إلى الولد كسائر الصفات الشرعية مثل الرق والحرية فيضمن الولد كالأم (152).
ما لا يوجب على المحرم شيئا
مما يظن تحريمه
مذهب الحنفية:
لا شىء على المحرم بقتل البعوض والنمل والبرغوث والقراد والسلحفاة ،لأنها ليست بصيود بصيد ما هى من الحشرات كالخنافس ومع هذا فإن بعضها يبتدئ بالأذى وما لا تؤذى لا يحل قتلها، ولكن لا تضمن لأنها ليست بصيد ولا هى متولدة من البدن.
وذكر فى الغاية نقلا عن المحيط أنه لاشيء فى القنافذ والخنافس والوزغ والذباب والزنبور والحلمة وصياح الليل والصردوأم حبين وابن عرس، لأنها من هوام الأرض وحشراتها، وليست بصيود ولا هى متولدة من البدن.
وللمحرم ذبح شاة وبقرة وبعير ودجاجة وبط أهلى لإجماع الأمة على ذلك، ولأنها ليست يصيد.
والمراد بالبط الأهلى ما يكون فى المساكن والحياض ولا يطير لأنها ألوف بأصل الخلقة كالدجاج ، وأما ما تطير فهى صيد فيه الجزاء والجواميس حكمها على التفصيل كذلك، فما أستأنس منه لا شىء فيه، وما لم يستأنس فهو صيد وإن أضطر المحرم إلى قتل صيد فقتله فعليه الجزاء، لأن الأذن مقيد بالكفارة فى حق المضطر لقول الله تعالى: ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك((153) وأن نزلت فى الحلق تتناول كل مضطر دلالة، وإن وجد صيداً ذبحه محرم يأكل الصيد ويدع الميتة (154).
قال المالكية: الفدية واجبة فيما يترفه به أو يزال به أذى مما حرم على المحرم لغير ضرورة كحناء وكحل وستر المرأة وجهها وكفيها بمخيط ولبس خفه مع وجود النعل بثمن معتاد، أو احتزم لغير عمل ففدية أيضا ثم الأصل تعدد الفدية بتعدد موجبها إلا فى أربعة مواضع:(24/57)
أولا: إن يمس الطيب ويلبس ثوبه ويقلم أظافره ويحلق رأسه فى وقت واحد بلا تراخ ففيها فدية واحدة، ولو فعل شيئا منها على حدة ففيه فدية.
وإذا تراخى ما بين الموجبات ولكن نوى عند فعل الأول التكرار كأن ينوى فعل كل ما أحتاج له من موجبات الكفارة أو متعدداً معينا ففعل الكل أو البعض فكفارة واحدة وإذا لم ينو التكرار ولكن قدم ما نفعه أعم كثوب على سرأويل أو غلالة أو حزام فتتحد بخلاف العكس، وهذا ما لم يخرج للأول قبل فعل الثانى، وإلا أخرج للثانى أيضا وإذا ظن من أرتكب موجبات متعددة ، للكفارة الإباحة بظن خروج من الإحرام، كمن طاف للإفاضة أو للعمرة بلا وضوء معتقداً أنه متوضئ فلما فرغ من حجه أو عمرته بالسعى بعدهما معتقدا أنه أتم حجه أو عمرته فعل موجبات الكفارة ثم تبين له فساد الحج أو العمرة وأنه باق على إحرامه فعليه كفارة واحدة، وكذا من رفض حجه أو عمرته أو أفسدهما بوطء فظن خروجه منه وأنه لا يجب عليه إتمام ما أفسده أو رفضه فارتكب موجبات متعددة للكفارة فظن خروجه من الإحرام فليس عليه إلا كفارة فقط، وأما إذا كان المحرم جاهلا ظن إباحة أشياء تحرم بالإحرام ففعلها متفرقة على التراخى فعليه لكل فدية، ولا ينفعه جهله وكذا من علم الحرمة وظن إن الموجبات تتداخل وإن ليس عليه إلا فدية فقط لموجبات متعددة لم ينفعه ظنه يندفع إلا بقتله (155).
والجزاء واجب بقتل الحيوان البرى مطلقا قتله عمدا أو خطأ أو ناسيا أنه محرم أو لمجاعة أو لجهل الحكم.
والجزاء يتأذى بأحد الأنواع الثلاثة على ما فى" فدية ".
وكذا يجب الجزاء بتعريضه للتلفظ كنتف ريشه وجرحه وتعطيله ولم تتحقق سلامته فإن تحققت ( أى غلبت على الظن سلامته ولو على نقص) فلا جزاء والجزاء أيضا بسبب الإتلاف كحفر بئر للصيد فوقع فيها فهلك أو نصب شرك له بالأولى أو طرده فسقط فمات أو فزعه منه فسقط فمات 000 قاله ابن القاسم.
وقال أشهب: لا جزاء فى هذا، ويتعدد الجزاء بتعدد الصيد ولو فى رمية واحدة، أو تعدد الشركاء فى قتل، فعلى كل واحد منهم جزاء، وليس الدجاج والأوز بصيد، فيجوز للمحرم ذبحها وكلها بخلاف الحمام ولو كان قد أتخذ فى البيوت للفراخ فإنه صيد لأنه من أصل ما يطير فى الخلاء فلا يجوز للمحرم ذبحه، فإن ذبحه أو أمر بذبحه فميتة.
وما صاده المحرم بسهمه أو بكلبه أو بغير ذلك أو صيد له فمات بسبب اصطياده أو ذبحه المحرم حال إحرامه أو أمر بذبحه أو صيده فمات لاصطياد أو دل المحرم عليه حلالا فصاده فمات بذلك قيمته لا يحل لأحد تنازله وجلده نجس كسائر أجزائه، وبيض الطيور سوى الأوز والدجاج ميتة إذا كسره أو شواه محرم أو أمر حلالا: لا بذلك لا يجوز لأحد أكله، وقشره نجس كسائر أجزائه.
وجائز للمحرم أكل ما صاده غير المحرم لأخر غير محرم.
والجزاء كالفدية فى التخيير، انظر:" جزاء، فدية ".
والفدية والجزاء غير الهدى الذى يجب على المتمتع أو لقران أو بترك واجب فى الحج وأكل المحرم من شىء من ذلك، موضعه مصطلحات: "هدى، فدية، جزاء".
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: إذا حلق المحرم رأسه فكفارته أن تذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام، وهو مخير بين الثلاثة لقول الله تعالى: ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ( (156).
وإن حلق ثلاث شعرات كانت كفارته ما ذكرناه فى حلق الرأس لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كما لو حلق جميع رأسه وأن حلق شعر رأسه وشعر بدنه لزمه ما ذكرناه.
وقال أبو القاسم الأنماطى: يجب عليه فديتان لأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ألا ترى أنه يتعلق النسك بحلق الرأس ولا يتعلق يشعر البدن.
والمذهب الأول، لأنهما وإن اختلفا فى النسك إلا أن الجميع جنس واحد فأجزأه لهما فدية واحدة، كما لو غطى رأسه ولبس القميص والسراويل، وإن حلق شعرة أو شعرتين ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب لكل شعرة ثلث دم لأنه إذا وجب فى ثلاث شعرات دم وجب فى كل شعرة ثلثه.
والثانى: يجب لكل شعرة ثلث قيمة الدم لأن إخراج الدم يشق فعدل إلى قيمته.
والثالث: مد ( والمد نصف قدح بالكيل المصرى) لأن الله تعالى عدد فى جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام، فيجب أن يكون هاهنا مثله، وأقل ما يجب من الطعام مد، فوجب ذلك فإن قلم أظفاره أو ثلاثة أظفار وجب عليه ما وجب فى الحلق، وإن قلم ظفرا أو ظفرين وجب فيهما ما يجب فى الشعرة أو الشعرتين لأنه فى معناهما، وأن تطيب أو لبس المخيط فى شىء من بدنه أو غطى رأسه أو شيئا منه أو دهن رأسه أو لحيته وجب عليه ما يجب فى حلق الشعر لأنه ترفه وزينة، فهو كالحلق.
وإن تطيب ولبس وجب لكل واحد منهما كفارة لأنهما جنسان مختلفإن.
وإن لبس ثوبا مطيبا وجبت كفارة واحدة لأن الطيب تابع للثوب فدخل فى ضمانه أن لبس ثم لبس أو تطيب فى أوقات متفرقة ففيه قولان: أحدهما تتداخل لأنهما من جنس واحد، فأشبه إذا كانت فى وقت واحد. والثانى ألا تتداخل لأنها فى أوقات مختلفة فكان لكل وقت من ذلك حكم نفسه.
وإن حلق ثلاث شعرات فى ثلاثة أوقات فهى على القولين: إن قلنا يتداخل لزمه دم وإن قلنا لا يتداخل وجب لكل شعرات فى ثلاث أوقات فعلى القولين إن قلنا لا تتداخل وجب ثلاثة دماء وإن قلنا لا تتداخل وجب ثلاثة دماء وإن قلنا تتداخل لزمه دم واحد (157).(24/58)
وإن احتاج المحرم إلى اللبس لحر شديد أو برد شديد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس للأذى أو إلى شد رأسه بعصابة لجراحة عليه ، أو إلى ذبح الصيد للمجاعة لم يحرم عليه و تجب علية الكفارة لقول الله تعالى:( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك((158) فثبت الحلق بالنص وقسنا ما سواه عليه لأنه فى معناه وإن نبت فى عينه شعرة فقلعها أو شعر الرأس إلى عينه فغطاها فقطع ما غطى العين أو انكسر شىء من ظفره فقطع ما انكسر منه أو صال عليه صيد دفعا عن نفسه جاز ولا كفارة عليه لأن الذى تعلق به المنع ألجأه إلى إتلافه، ويختلف الحكم فيما إذا أذاه الهوام فى رأسه فحلق الشعر، لأن الأذى لم يكن من جهة الشعر الذى تعلق به المنع وإنما كان من غيره وأن كشط من بدنه جلداً وعليه شعر أو قطع كفه وفيه أظفار لم تلزمه فدية لأنه تابع لمحله فسقط حكمه تبعا لمحله كالأطراف مع النفس فى قتل الآدمى ، وإن لبس أو تطيب أو دهن رأسه أو لحيته جاهلا بالتحريم أو ناسيا للإحرام لم تلزمه الفدية لما روى أبو يعلى به أمية قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة وعليه جبة وهو مصفر للحيته ورأسه فقال: يا رسول الله ، أحرمت بعمرة ، وأنا كما ترى فقال: " أغسل عنك إصفرة ، وانزع عنك الجبة ، وما كنت صانعا فى حجك فاصنع فى عمرتك" ، ولم يأمره بالفدية فدل على أن الجاهل لا فدية عليه (159).
فإذا ثبت هذا فى الجاهل ثبت هذا فى الناسى ، لأن الناسى يفعل وهو يجهل تحريمه عليه ، فإذا ذكر ما فعله ناسيا أو علم ما فعله جاهلا نزع اللباس وأزال الطيب لحديث يعلى بن أمية فإن لم يقدر على إزالة الطيب لم تلزمه الفدية لأنه مضطر إلى تركه فلم تلزمه فديه وإن مس طيبا وهو يظن أنه يابس وكان رطبا ففيه قولان: أحدهما تلزمه الفدية لأنه قصد مس الطيب. والثانى: لا تلزمه لأنه جهل تحريمه فأشبه إذا جهل تحريم الطيب فى الإحرام، ومن حك شعره فإنتثر منه شعرة لزمته الفدية (160).
وإن وطىء فى العمرة أو فى الحج قبل التحلل الأول فقد فسد نسكه ويجب عليه أن يمضى فى فاسده ثم يقضى، لما روى عن عمر وعلى وابن عمر وابن عباس وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وأبى هريرة رضى الله عنهم أنهم أوجبوا ذلك.
ويجب عليه بدنه لما روى عن على كرم الله وجهه قال: على كل واحد منهما بدنة، فإن لم يجد فبقرة، لأن البقرة كالبدنه لأنها تجزىء فى الأضحية عن سبعة، فإن لم يجد لزمه سبع من الغنم، فإن لم يجد قوم البدنه دراهم والدراهم طعاما، ف ن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوما.
وقال أبو اسحاق فيه قول آخر أنه مخير بين هذه الثلاثة قياسا على فديه الأذى، وإن كان المحرم صبيا فوطىء عامدا بنيت على القولين، فإن قلنا أن عمده خطأ فهو كالناسى، وقد بيناه ، فإن قلنا أن عمده عمد فسد نسكه ووجبت الكفارة، وعلى من تجب فيه قولان:أحدهما: فى ماله، والثانى: على الولى وإن وطىء وهو قارن وجب مع البدنة دم القران لأنه دم وجب بغير الوطء فلا يسقط بالوطء كدم الطيب، وإن وطئ ثم وطئ ولم يكفر عن الأول، ففيه قولان: قال فى القديم: يجب عليه بدنة واحدة، كما لو زنى ثم زنى كفاه لهما حد واحد. وقال فى الجديد: يجب عليه للثانى كفارة أخرى، وفى الكفارة الثانية قولان: أحدهما: شاة لأنها مباشرة لا توجب الفساد فوجبت فيها شاة، كالقبلة بشهوة والثانى: يلزمه بدنة لأنه وطء فى إحرام منعقد، فأشبه الوطء فى إحرام صحيح. وإن قبلها بشهوة أو باشرها فيما دون الفرج بشهوة لم يفسد حجه لأنها مباشرة لا توجب الحد فلم تفسد الحج كالمباشرة بغير شهوة، ويجب عليه فدية الأذى لأنه استمتاع لا يفسد الحج فكانت كفارته ككفارة فديه الأذى.
والطيب والاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج لأنه بمنزلتها فى التحريم والتعزير: فكان بمنزلتها فى الكفارة.
وإن قتل صيدا نظرت فإن كان له مثل من النعم وجب عليه مثله من النعم( والنعم هى الإبل والبقر والغنم).
والدليل عليه قول الله عز وجل: ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم( (161)
وما ورد فيه تقدير المثل عن الصحابه لا يحتاج إلى اجتهاد، وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فى معرفة المماثلة بينه وبين النعم إلى عدلين من أهل المعرفة لقول الله تعالى: ( يحكم به ذوا عدل منكم هديا ((162).
روى قبيصة بن جابر الأسدى قال: أصبت ظبيا وأنا محرم فأتيت عمر - رضى الله عنه- ومعى صاحب لى فذكرت له، فأقبل على رجل إلى جنبه فشاوره ، فقال لى: اذبح شاة. وإذا وجب عليه المثل فهو بالخيار بين أن يذبح المثل ويفرقه وبين أن يقومه بالدراهم، والدراهم طعاما ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوم لقول الله عز وجل:( هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما (.
وإن جرح صيدا له مثل فنقص عشر قيمته، فالمنصوص أنه يجب عليه عشر ثمن المثل، وإن ضرب صيدا حاملا فأسقطت ولدا حيا ثم ماتا ضمن الأم بمثلها وضمن الولد بمثله، وإن ضربها فأسقطت جنينا ميتا والأم حية ضمن ما بين قيمتها حاملا وحائلا ولا يضمن الجنين (163).
وإن كان الصيد لا مثل له من النعم وجب عليه قيمته فى الموضع الذى أتلفه فيه لما روى أن مروان سأل ابن عباس - رضى الله عنه- عن الصيد يصيده المحرم ولا مثل له من النعم.
قال ابن عباس: ثمنه بهدى إلى مكة، ولأنه تعذر إيجاب المثل فيه فضمن بالقيمة كمال الآدمى، وإن كان الصيد طائرا نظرت فإن كان حماما، وهو الذى يعب ويهدر كالذى يقتنيه الناس فى البيوت، كالدبسى والقمرى، فإنه يجب فيه شاة، لأنه روى ذلك عن عمر وعثمان ونافع بن عبد الحرث وابن عباس - رضى الله عنهم -.(24/59)
وإن كان أصغر من الحمام كالعصفور والبلبل والجراد ضمنه بالقيمة ، لأنه لا مثل له فضمن. بالقيمة.
وإن كان كبر من الحمام كالقط واليعقوب والبط والأوز، ففيه قولان: أحدهما: يجب فيه شاة لأنها إذا وجبت فى الحمام فلأن تجب فى هذا وهو أكبر منه أولى.
والثانى: أنه يجب فيها قيمتها لأنه لا مثل لها من النعم، فضمن بالقيمة، وإن كسر بيض صيد ضمنه بالقيمة.
وإن نتف ريش طائر ثم نبت ففيه وجهان: أحدهما لا يضمن، والثانى يضمن، بناء على القولين فيمن قلع شيئا ثم نبت، وإن قتل صيدا بعد صيد وجب لكل واحد منهما جزاء لأنه ضمان متلف فيتكرر بتكر الإتلاف.
وإن اشترك جماعة من المحرمين فى قتل صيد وجب عليهم جزاء واحد، وإذا اشترك محل ومحرم فى قتل صيد وجب على المحرم نصفه الجزاء ولم يجب على المحل شىء، كما لو اشترك رجل وسبع فى قتل آدمى وإن أمسك محرم صيدا فقتله حلال ( أى محل) ضمنه المحرم بالجزاء ثم يرجع به على القاتل لأن القاتل أدخله فى الضمان فرجع علية كما لو غصب مالا من رجل فأتلفه آخر فى يده.
وإن جنى على صيد فأزال امتناعه نظرت فإن قتله غيره ففيه طريقان:
قال أبو العباس: عليه ضمان ما نقص وعلى القاتل جزاؤه مجروحا إن كان محرما ولا شىء عليه إن كان حلالا.
وقال غيره: فيه قولان: أحدهما عليه ضمان ما نقص، لأنه جرح ولم يقتل فلا يلزمه جزاء كامل كما لو بقى ممتنعا.
والقول الثانى: أنه يجب عليه جزاؤه كاملا لأنه جعله غير ممتنع فأشبه الهالك، والمفرد والقارن فى كفارات الإحرام واحد لأن القارن كالمفرد فى الأفعال، فكان كالمفرد فى الكفارات (164).
وحكم صيد الحرم على المحرم فى الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله فى التحريم، فكان مثله فى الجزاء.
فإن قتل محرم صيدا فى الحرم لزمه جزاء واحد لأن المقتول واحد فكان الجزاء واحد كما لو قتله فى الحل.
ويجب الجزاء فى قطع شجر الحرم فإن كانت شجرة كبيرة ضمنها ببقرة، وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة، لما روى عن ابن عباس - رضى الله عنه - أنه قال فى الدوحة بقرة، وفى الشجرة الجزلة شاة، فإن قطع غصنا منها ضمن ما نقص ، وأن قلع شجرة من الحرم لزمه ردها إلى موضعها كما إذا أخذ صيداً منه لزمه تخليته فإن أعادها إلى موضعها فنبتت لم يلزمه شىء وأن لم تنبت وجب عليه ضمانها (165).
مذهب الحنابلة:
قالت الحنابلة فى كشاف القناع: إن الفدية تجب على من أزل شعر بدنه، وأو لعذر لقول الله تعالى:( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أونسك ( (166).
فيمن حلق ثلاث شعرات فصاعدا أو قلم ثلاثة أظفار فصاعدا ولو مخطئا أو ناسيا فعليه دم( يعنى شاة) أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين وفيما دون ذلك - أى فيما دون ثلاث شعرات أو ثلاثة أظفار- فى كل واحد طعام مسكين، ففى شعرة إطعام مسكين وفى شعرتين إطعام مسكينين وفى تقليم ظفر واحد إطعام مسكين وفى ظفرين إطعام مسكينين وفى قص بعض الظفر ما فى جميعه، وكذا قطع بعض الشعرة فيه ما فى جميعها، ففى بعض الظفر أو بعض الشعرة طعام مسكين وفى ظفرين وبعض ظفر آخر فدية، و فى شعرتين وبعض شعرة أخرى فدية.
ومن حلق رأسه بإذنه فالفدية على المحلوق رأسه دون الحالق ولو حلق رأسه بلا إذنه لكنه سكت ولم ينه الحالق فالفدية على المحلوق رأسه ولو كان الحالق محرما، ولو أكره المحرم على حلق رأسه فحلقت بيد غيره أو كان نائما وحلقت رأسه فالفدية على الحالق أما لو أكره فحلقه بيده فالفدية عليه.
ومن طيب غيره والغير محرم فحكمه حكم الحلق ، فإن كان بإذنه أو سكت ولم ينهه فالفدية على المطيب ( بفتح الياء) وحاكم الرأس والبدن فى إزالة الشعر وفى الطيب وفى اللبس واحد لأنه جنس واحد لم يختلف ألا موضعه، فإن حلق شعر رأسه وبدنه ففدية واحدة، وكما لو لبس قميصا وسراويل أو تطيب فى رأسه وبدنه أو لبس فيهما فعليه فدية واحدة.
وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنه شعرة أو العكس فعليه دم أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين، وإن غطى المحرم رأسه بلاصق معتاد أو يلاصق غير معتاد كدمامة وخرقة وقرطاس فيه دواء أو غيره أو لا دواء فيه وكعصابة لصداع ونحوه كرمد ولو يسير أو طين، أو حناء لعذر أو لعير عذر، فعلية الفدية لأنه فعل محرم فى الإحرام، وإن أستظل فى محمل ونحوه من هودج وغيره حرم وفدى، لأن ابن عمر - رضى الله عنه - رأى على رجل محرم عوداً يستره من الشمس فنهاه عن ذلك ، رواه الأثرم واحتج به أحمد وكذا لو أستظل بثوب ونحوه راكبا و نازلا ، ومن لبس مخيطا ولو غير معتاد كجورب فى كفه وخفه فى رأس فعليه الفدية ومن لبس مقطوعا من خف أو غيره دون الكعبين مع وجود نعل فعليه، الفدية ومن لبس منطقة لوجع ظهر أو حاجة غيره حاجة فعليه الفدية.
وإن غطى وجهه ورأسه فعليه الفدية، ويفدى بطرح قباء ونحوه على كتفيه مطلقا نص عليه لما روى ابن المنذر مرفوعا أنه نهى عن لبس الأقبية للمحرم، ورواه البخارى عن على ولأنه مخيط ومن به شىء من قروح أو غيرها لا يحب أن يطلع عليه أحد لبس أوفدى و خاف المحرم من برد لبس وفدى وتجب الفدية بطيب أو لبس ما صبغ بزعفران أو ورس أو ما غمس فى ماء ورد أو بخر بعود أو جلس أو نام عليه أو إكتحل، أو شم الأدهان المطيبة كدهن ورد وبنفسج، أو أدهن بها أو أكل أو شرب ما فيه طيب.
ومن قتل أو صاد صيدا بريا وحشى الأصل لا الوصف ، مأكولا أو ذبحه، أو قتل أو اصطاد متولدا من المأكول وغيره فعليه الفدية.
ولو أتلف الصيد أو تلف فى يده بمباشرة أو سبب فعليه جزاؤه.(24/60)
ومن دل على صيد أو أشار إليه أو أعان على صيده ولو بإعارة سلاح ضمنه. وإن اشترك محل ومحرم فى قتل صيد أو اشترك فى قتله سبع ومحرم فى الحل فعلى المحرم الجزاء جميعه، وإن سبق المحرم فجرحه وقتله المحل أو السبع بعد ذلك فعلى المحرم أرش جرحه فقط، وإن كان جرحهما فى حالة وأحلم ومات منهما فالجزاء كله على المحرم.
وإن نصب محل شبكة ونحوها كفخ ثم أحرم لم يضمن ما تلف بذلك ما لم يكن حيلة أو إحرام ثم حفر بئرا بحق كأن حفرها فى داره ونحوها من ملكه أو موات، أو حفر البئر للمسلمين بطريق واسع لم يضمن ما تلف بذلك لعدم تحريمه، ما لم يكن حيلة علي الاصطياد، فإن كان حيلة ضمن، وان لم يكن حفر البئر بحق كحفرها بطريق ضيق ضمن ما تلف بها.
ومن كل صيداً صاده أو صيد لأجله، فعليه الجزاء، فإن أكل بعض ما صيد لأجله ضمنه بمثله من اللحم من النعم لضمان أصله لو أكله كله بمثله من النعم، ويجوز عدوله إلى عدله (167)، ومن طعام أو صوم.
ومن نفر صيداً فتلف أو نقص فى حال نفوره ضمن التالف بمثله أو قيمته، وما نقص بأرشه لتسببه فيه ولو أتلف بيض الصيد ضمنه بقيمته مكانه.
ومن ملك صيدا بشراء أو إتهاب أو اصطياد ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعا وتلف فى يد المحرم المشترى فعليه القيمة لمالكه والجزاء لمساكين الحرم، وإن أخذه رهنا فتلف فعليه الجزاء لمساكين الحرم ولا يضمنه لمالكه، ومن أمسك صيدا فى الحل فأدخله الحرم المكى أو أمسكه فى الحرم فأخرجه إلى الحل وتلف فى يده ضمنه 0
ومن جامع قبل التحلل الأول ولو بعد الوقوف بعرفة فسد النسك، ولو كان المجامع ساهيا أو جاهلا أو مكرها، ويجب بالجماع بدنة لقول ابن عباس رضى الله عنه أهد ناقة، ولتهد ناقة.
ولا يفسد الإحرام بشىء من المحظورات غير الجماع لعدم النص فيه والإجماع وعليهما( أى الواطىء والموطوءة) المضى فى فاسده، وحكم الإحرام الذى أفسده بالجماع حكم الإحرام الصحيح، فيفعل بعد الإفساد كما كان يفعل قبله من الوقوف وغيره، ويجتنب ما يجتنب قبله وعليه الفديه إذا فعل محظوراً بعده. والعمرة فى ذلك كالحج، يفسدها الوطء قبل الفراغ من السعى كالحج قبل التحلل الأول، ويجب المضى فى فاسدها والدم، وهو شاة، لنقص العمرة عن الحج. وإن أفسد القارن نسكه فعليه فداء واحد وإن جامع المحرم بعد التحلل الأول وقبل الثانى لم يفسد حجه قارنا كان أو مفرداً أو متمتعا لكن فسد إحرامه بالوطء فيمضى إلى الحل فيحرم منه ليطوف للزيارة فى إحرام صحيح، ويلزمه شاة.
ومن باشر فيما دون الفرج لشهوة بوطء أو قبلة أو لمس، وكذا نظر بشهوة، فعليه بدنه ولم يفسد نسكه لعدم الدليل ولأنه استمتاع لم يجب بنوعه الحد فلم يفسده.
والمرأة إن غطت وجهها لغير حاجة أو أزالت الشعر أو قلمت الأظافر أو لبست القفاز فعليها الفدية، وتجب الفدية لفعل محظور، وللمحرم تقديم الفدية على الفعل المحظور إذا احتاج إلى فعله لعذر، كأن يحتاج إلى حلق ولبس وتطيب بعد وجود السبب المبيح لفعل المحظور لأنها كفارة فجاز تقديمها على وقت الوجوب.
ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد مثل أن حلق ثم أعاد أو قلم ثم أعاد أو لبس مخيطا ثم أعاد أو تطيب أو وطىء ثم أعاد أو فعل غيرها من المحظورات. كأن باشر دون الفرج ثم أعاد ذلك ثانيا ولو مع غير الموطوءة أولا، أو كان تكريره للمحظور بلبس مخيط فى رأسه فعليه فدية واحدة.
قال فى شرح منتهى الإرادات فإن لبس قميصا وسراويل وعمامة وخفين كفاه فدية. واحدة لأن الجميع ليس فأشبه الطيب فى رأسه وبدنه، وإذا كانت إعادة الفعل قبل التكفير عن الأول فعليه كفارة واحدة تابع الفعل أو فرقه، لأن الله تعالى أوجب فى حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع فى دفعة أو دفعات ولو قلم ثلاثة أظفار أو قطع ثلاث شعرات فى أوقات قبل التكفير لزمه دم أو صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين.
وأن كفر عن الفعل الأول لزمه عن الثانى كفارة ثانية لأن السبب الموجب للكفارة الثانية غير عين السبب الموجب للكفارة الأولى وتتعدد كفارة الصيد أى جزاؤه بتعدده.
ولو قتلت الصيود معا لقول الله تعالى:( فجزاء مثل ما قتل من النعم ( (168).
وإن فعل محظورا من أجناس فعليه لكل جنس واحد فداء سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا، اتحدت فديتها أو اختلفت لأنها محظوران مختلفة الأجناس، فلم يتداخل موجبها كالحدود المختلفة.
وإن حلق أو قلم أظفاره أو وطئ أو قتل صيدا عامدا أو ناسيا أو مخطئا أو مكرها ولو نائما قلع شعره أو صوب رأسه إلى تنور فأحرق اللهب شعره، فعليه الكفارة، لأن هذه إتلاف، فاستوى عمدها. وسهوها وجهلها كاتلاف مال الآدمى 0
ويستوى العمد والسهو والجهل فى بعض المحظورات، مبينة فيما قال أحمد: إذا جامع أهله بطل حجه، لأنه شىء لا يقدر علي رده. والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر علي رده، والشعر إذا حلقه فقد ذهب فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء، وكل شئ من النسيان بعد هذه الثلاثة فهو يقدر على رده، مثل ما إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه وليس عليه شئ أو ليس خفا نزعه، وليس عليه شىء ويلحق بالحلق التقليم بجامع الإتلاف ومن أخر غسل الطيب وخلع اللباس عن زمن الإمكان فعليه الفدية لاستدامة المحظور من غير عذر فإن استدام لبس المخيط ولو لحظة فوق المعتاد من خلعه فداه.
وإن لبس بعد إحرامه ثوبا كان مطيبا وانقطع ريحه إذا رش فيه ما فاح ريحه فدى ، أو افترشه ولو تحت حائل غير ثيابه لا يمنع ريحه ومباشرته إذا رش فيه ما فاح ريحه فدى. ومن فرضن إحرامه لم يفسد وحكم إحرامه باق ، فإن فعل محظور بعد رفضه إحرامه فعليه فداؤه لبقاء إحرامه (169).(24/61)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: من احتاج إلى حلق رأسه وهو محرم لمرض أو صداع أو لقمل أو لجرح به أو نحو ذلك مما يؤذيه فليحلقه وعليه أحد ثلاثة أشياء هو مخير فى أيها شاء ، لا بد له من أحدها: إما أن يصوم ثلاثة أيام وإما أن يطعم ستة مساكين متغايرين لكل مسكين منهم نصف صاع تمر ، وإما أن يهدى شاة يتصدق بها على المساكين أو يصوم أو يطعم أو ينسك الشاة فى المكان الذى حلق فيه أو فى غيره ، فإن حلق رأسه لغير ضرورة أو حلق بعض رأسه دون بعض عامداً ، عالما أن ذلك لا يجوز بطل حجه فلو قطع من شعر رأسه ما لا يسمى به حالقاً بعض رأسه فلا شىء عليه ، لا إثم ولا كفارة بأي وجه قطعه أو نزعه.
برهان ذلك قول الله عز وجل ( فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديه من صيام أو صدقه أو نسك..( الآية (170).
فإن حلق رأسه بنورة فهو حالق فى اللغة ففيه ما فى الحالق من كل ما ذكرنا بأى شىء حلقه. فإن نتفه فلا شىء علية فى ذلك لأنه لم يحلقه ، والنتف غير الحلق لقول الله تعالى: ( وما كان ربك نسيا ( (171).
وإنما جاء النهى والفدية فى الحلق لا فى النتف ، ومن قتل صيداً متصيداً له ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فقد بطل حجه أو عمرته لبطلان إحرامه وعليه الجزاء مع ذلك لقول الله تعالى:(لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم ( (172)
وأما المتعمد لقتل الصيد وهو محرم فهو مخير بين ثلاثة أشياء أيها شاء فعل وقد أدى ما عليه إما أن يهدى مثل الصيد الذى قتل من النعم وعلية من ذلك ما يشبه الصيد الذى قتل مما قد حكم به عدلان من الصحابة - رضى الله عنهم - أو من التابعين رحمهم الله وليس عليه أن يستأنف تحكيم حكمين الآن ، وإن شاء أطعم مساكين وأقل ذلك ثلاثة وإن شاء نظر إلى ما يشبع ذلك الصيد من الناس فصام بدل كل إنسان يوما لقول الله عز وجل: ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ( (173)
وبيض النعام وسائر الصيد حلال للمحرم وفى الحرم إلا أن وجد فيها فرخ حى فمات ، فجزاؤه بجنين من مثله لأنه صيد قتله ، ومن قتل الصيد مرة بعد مرة فعليه لكل مرة جزاء ، وليس قول الله تعالى: ( ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ( (174) بمسقط للجزاء عنه لأن الله تعالى لم يقل لا جزاء عليه بل قد أوجب الجزاء على القاتل للصيد عمدا فهو على كل قاتل مع النقمة على العائد، وإن اشترك جماعة فى قتل صيد عامدين لذلك كلهم فليس عليهم كلهم إلا جزاء واحد لقول الله عز وجل: ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ( (175) ، فليس فى الصيد إلا مثله ولا أمثاله والجزاء واجب كما ذكرنا، سواء فيما أصيب فى حرم مكة أو فى حرم المدينة أصابه حلال أو محرم لقوله تعالى: ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم( (176) ، فمن كان فى حرم مكة و فى حرم المدينة فاسم حرم يقع عليه، والجزاء بالنسبة للقارن والمعتمر والمتمتع سواء فى الجزاء فيما ذكرنا سواء فى الحل أصابوه أو فى الحرم إنما فى كل ذلك جزاء واحدا.
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: من محظورات الإحرام ما لا يجب فيه شىء ومنها ما تجب فيه الكفارة فتجب فى الوطء والمراد بالوطء غير المفسد نحو أن يكون بعد الرمى، وقبل طواف الزيارة.
فأما الوطء المفسد ففيه الفدية على الترتيب، وتجب أيضا فى مقدماته من لمس أو تقبيل بشهوة الكفارة، فيجب فى الإمناء والوطء بدنه إذا كان الإمناء لشهوة فى يقظة سواء كان عن تقبيل أو لمس أو نظر أو تفكر، وسواء وقع مع الوطء إنزال أم لا، وفى أى فرج كان، وسواء الرجل والمرأة وفى الإمذاء أو ما فى حكمه بقرة ، وفى تحرك الساكن إذا تحرك لأجل شهوة عن لمس أو تقبيل أو نظر أو تفكر شاة للمساكين 0
وفى لبس الرجل المخيط كالقميص أو ما فى حكمه كالدرع والسراويل والقلنسوة والخف والجورب وكل مخيط عن تفصيل وتقطيع إن لبسه مطلقا الفدية، سواء لبسه عامدا أم ناسيا لعذر أم لغير عذر، إلا أن يلبس المخيط على غير فى المعتاد فى لبس الثوب، وهو أن يصطلى به اصطلاء نحو أن يرتدى بالقميص أو بالسراويل منكوسا أم غير منكوس إذا أمكن ذلك فلا فدية عليه، فإن رمى نسى كونه محرما أو جهل تحريم لبس المخيط فلبسه ثم ذكر التحريم شقه وجوبا وأخرجه من ناحية رجليه وعليه دم.
وفى تغطية رأس الرجل، لأن إحرامه فى رأسه، وتغطية وجه المرأة، لأن إحرامها فى وجهها، وسواء كان الغطاء لباسا كالقلنسوة للرجل والنقاب والبرقع للمرأة أو غير لباس كالظلة إذا باشرت الرأس أو الثوب إذا رفع ليستظل به فباشر الرأس الفدية شاة أو إطعام ستة مساكين أو صوم ثلاثة أيام متوالية.
وفى التماس الطيب فدية، وفى أكل صيد البر سواء صاده هو أم محرم غيره أم حلال له أم لغيره الفدية.
وكذلك تجب الفدية فى خضب كل الأصابع من اليدين والرجلين أو تقصيرهما أو تقصير خمس منها.
وتجب الفدية فى إزالة سن أو شعر من جسد المحرم، وسواء أزاله من جسد نفسه أو أزاله من جسد إنسان محرم غيره فإنه تلزمه الفدية، وسواء كان ذلك الغير طائعا أم مكرها، وإنما تجب الفدية فى الشعر بشرط أن يكون الذى أزاله منه يبين أثره فى حال القرب من غير تكليف.
وكذلك تجب الفدية فيما دون السن والشعر، ويجب فى كل إصبع خضبها أو قصر ظفرها صدقة، والصدقة نصف صاع وفى الإصبعين صدقتان وفى الثلاث ثلاثة وفى الأربع أربعة ، فإن كملت خمساً لزمت الفدية ولو كانت متفرقة.(24/62)
وتجب فيما دون ما ذكر حصته من الصدقة، ولا تتضاعف الفدية لتضعيف الجنس الواحد من هذه المحظورات فى المجلس، فلبس المخيط جنس واحد وهو أربعة أنواع للرأس كالقلنسوة، ولليدين كالقفازين، وللرجلين كالخفين، وللبدن كالقميص، فإذا لبس المحرم جميعها فى مجلس واحد لم تلزمه إلا فدية واحدة ولو طال المجلس واستمر فى لبسه فى مجالس عدة، وهكذا فى كل جنس وإنما تتعدد الفدية بتعدد الجنس مثل أن يلبس مخيطا ويحلق رأسه ولو فى مجلس واحد.
ومن المحظورات ما يستوى فيه العمد والخطأ، وهو قتل القمل ففيه الفدية فى عمده وخطئه.
وأما قتل الحيوان المتوحش وإن تأهل وكان مأمون الضرر ففيه مع العمد الجزاء وهو أن ينحر مثله فى الخلقة من الإبل أو البقر أو الشاة بمماثلة فى الخلقة أو فى فعله فى شىء واحد، كالشاة تماثل الحمام فى العب( أى فى شربه للماء) أو عدل المماثل من إطعام أو صيام.
وأما الخطأ فلا جزاء فيه ولو قتله ناسيا لإحرامه لزمه الجزاء.
قال فى الكافى وهو إجماع إلا عن الناصر، ويجب فى بيضة النعامة ونحوها كبيض الطيور الكبار كالرخ إذا كسرها المحرم صوم يوم أو إطعام مسكين.
قال فى الانتصار: أما لو كان البيض فاسد فلا جزاء فيه ما لم تكن له قيمة فيجب.
و يجب فى إفزاع الصيد عمدا أو إيلامه مقتضى الحال، فإذا أفزع المحرم صيدا بنفسه أو دل عليه من أفزعه أو أمسكه ثم أرسله لزمه أن يتصدق بطعام قلته وكثرته بقدر ما رأى من إفزاعه(177).
مذهب الإمامية:
قال صاحب المختصر النافع: يحرم علي المحرم صيد البر، وينقسم قسمين: الأول ما لكفارته بدل على الخصوص، والثانى ما لا بدل لفديته. ثم أسباب الضمان إما مباشرة وإما إمساك وإما تسبب (178) والتفصيل فى ذلك ينظر فى مصطلحى " صيد، جزاء الصيد ".
ثم ذكر باقى المحظورات وهى تسعة: الاستمتاع بالنساء فمن جامع أهله قبل أحد الموقفين، وهما الوقوف بعرفة والمشعر الحرام، عامدا عالما بالتحريم أتم حجه ولزمه بدنة.
والحج من قابل فرضا كان حجه أو نفلا ولو طاوعته لزمها ما يلزمه ولم يتحمل عنها كفارة ولو كان ذلك بعد الوقوف بالمشعر لم يلزمه الحج من قابل وجبره ببدنة. ولو جامع قبل طواف الزيارة لزمه بدنة فإن عجز فبقرة أو شاة، ولو طاف من طواف النساء خمسة أشواط ثم واقع لم يلزمه الكفارة وأتم طوافه، وقيل يكفى فى البناء مجاوزة النصف.
ولو عقد المحرم لمحرم على امرأة ودخل فعلى كل واحد كفارة، وكذا لو كان العاقد محلا على رواية سماعه.
ومن جامع فى إحرام العمرة قبل السعى فعليه بدنة وقضاء العمرة ولو نظر إلى أهله لم يلزمه شىء إلا أن ينظر إليها بشهوة فيمنى فعليه بدنة، ولو مسها بشهوة فشاة أمنى أم لم يمن، ولو قبلها بشهوة كان عليه جزور وكذا لو أمنى من ملاعبة.
والطيب، ويلزم باستعماله شاة صبغا وإطلاء وبخورا فى الطعام، والقلم، وفى كل ظفر مد من طعام، وفى يديه ورجليه شاة إذا كان فى مجلس واحد ولو كل واحد منهما فى مجلس فدمان، ولو أفتاه بالقلم فأدمى ظفره فعلى المفتي شاة.
والمخيط يلزم به دم ولو أضطر جاز، ولو لبس عدة على فى مكان وحلق الشعر فيه شاة أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مدان أو عشرة لكل مسكين مد، وصيام ثلاثة أيام مختارا أو مضطرا.
على نفسه أو نفقته فوق الثوب افتدى ، وقيل أن تقلد لضرورة فلا فدية عليه ولا فدية على من أجتبى بثوب هو على جسده ملبوسا أو لبث كذلك.
ومن تعمد لبس منهى عنه أو تغطية رأسه أو فعل ما لملا يجوز لزمه دم وإن نسى نزعه من حينه ولبى ولا فدية عليه إلا أن تركه بعد الذكر ، وإن تركه ناسيا إلى ليل ولو من وسط النهار أو آخره لزمه دم وكذا إن تركه من ليله للصبح ولا يجوز تعمد مالا يجوز على أن يجبر بكفارته إلا لضرورة: وإن نزعه من فوق فعلية لأنه يمس رأسه أو وجهه سواء كان ذلك فى بدء الإحرام أو بعد بدئه: وإن غطى رأسه ناسيا نزعه من حين تذكر ولبى ولا شىء عليه إن لم يترك لليل أو صبح.
وقيل لا يلزم إلا بكمال يوم وليلة وقيل بكمال أحدهما.
ومن تعمد لبس خف بلا قطع من أسفل الكعبين وقميص وسروال ونحو ذلك فى وقت شيئا بعد شىء بلا فصل لزمته كفارة الفداء لأنها من جنس واحد وهو لبس المخيط، وإن لبسها فى أوقات فعليه كفارات ثلاث بتعدد الوقت.
وإن أحتاج لقميص أو عمامة لبرد أو مرض أو لنحو ذلك لزمته الفدية إن فعل لقول الله تعالى:
( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ( (179).
ويقاس عيه جميع التفث ، يعنى إن حلق وقيس غير الحلق على الحلق ، أى إن حلق أو فعل ما يدافع به المرض لعموم قوله تعالى:( فمن كان منكم مريضا ( (180) أو فعل ما لا يجوز فى الإحرام. فإن عصب رأسه لضر حل به ، جاز له وعليه فدية واحدة ولو فعل ذلك مراراً للضر لا للبرد ، ومن تعمد الطيب بأن شمه أو التذ بريحه لزمه دم وإن لبس المحرم ولو امرأة حريراً أو ذهبا لزمه دم للنهى عن التزين فيه. وعن لبس الحلى للمرأة وتنزع حليها إن لم تخف كسره بالنزع أو القعود عليه بعد النزع أو بمصادمة، والخاتم إذا كان ذهبا لزم به الدم ولو امرأة: والمرأة لو اكتحلت بأثمد، و نحوه مخلوطا بطيب فدم وإن لوجع.(24/63)
وفى تقليم ظفر ونتف شعر الإبط وإزالة الشعر بالنورة والحلق مطلقا حلق عانة أو شارب أو إبط أو غير ذلك والقص كذلك وإن بلغ شعر إبطه أو عانته أو شاربه أو ظفره حيث تجب إزالته أزاله وأفتدى، وأما إن بلغ الحد الذى تجب إزالته قبل الإحرام ولم يزله فأزاله بعد إحرامه فعليه فداء مع لزوم إزالته: ولزم بنتف شعرة أو قطعها و لو من طرفها إطعام مسكين وضعفه بضعف الشعرة، والمراد اثنتان فقط وبالثلاثة فأكثر دم وإن لم يكفر حتى نتف ثلاث أخرى فواحدة ولو فى أيام مثل أن ينتف شعرة فى يوم ثم ينتف شعرتين فى يوم آخر، ثم ثلاثا فى يوم آخر فإنه يعطى الكفارة على الثلاثة وهكذا يكفر على الأكثر إذا تعدد أنواع نتفه مثل أن ينتف شعرة ثم شعرتين فى يوم آخر لا كفارة ثلاث ، ومثل أن ينتف شعرتين ثم واحدة فإنه يكفر كفارة الشعرتين فقط وإذا كفر ثم أعاد نتفا أعاد تكفيراً: لو فى يوم واحد ، وقيل لكل يوم كفارة ورجح الأولى.
والظفر كالشعر وإن حلق لزمه دم وإن أضطر لممنوع فعله وأفتدى كالاحتزام للفتق وكمن أصابه أذى برأسه وحلق فإنه يصوم أياما ثلاثة أو يطعم مساكين ستة ، وقيل ثلاثة ، وقيل عشرة لكل مدان ،أو يذبح بمكة شاة ، بر وهو المعنى بقول الله تعالى( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك 000( الآية.
وإن خمش بدنه خمشة بظفره فمسكين أو خمشتين فمسكينان ولو ناسيا ، وإن احتك بنحو جدار فانسلخت، منه جلدة أو انقلعت شعرة فإطعام مسكين أن تعمد بر وإن أصابته شوكة فنقش لها فأدمى فلا شىء عليه ،وإن عصر رجله حتى أدمى فالفدية لا إن أدمى قبل عصره و من جرح نفسه أو غيره فأدمى قدم.
أما جزاء الصيد فعلى من قتله(أى الصيد): وإن خطأ أو أشار اليه فأصيب أو: أزمنة ولم يعلم بصحته بعد أو دل عليه أحدا أو حيوانا ففعل به شيئا لزمه الجزاء لقول الله تعالى ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ( (167).
إضافة الإحرام إلى الإحرام
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: إضافة الإحرام إلى الإحرام من أهل مكة وممن منزله داخل الميقات جناية ،وكذا إضافة إحرام العمارة إلى الحجة من الآفاقى إساءة ، بخلاف إضافة الحجة إلى إحرام العمرة من الآفاقى فإنها مشروعة فمكى طاف شوطا لعمرته فأحرم بحج رفضه وعلية حج: وعمرة و دم لرفضه ،و هذا عند أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه وقالا يرفض العمرة ويقضيها وعليه دم لرفضها ويمضى فى الحج لأن الجمع بينهما غير مشروع حق المكى ، فلا بد من رفض أحدهما فكانت العمرة أولى بالرفض لأنها أدنى حالا و أقل أعمالا وايسر قضاء لكونها غير مؤقتة وليس فيها إلا الطواف والسعى وهى سنة ، وليس الحج كذلك ، ولأنة لو رفض العمرة يلزمه قضاؤه وقضاء العمرة بخلاف ما إذا طاف لها أربعة أشواط حيث يرفض العمرة بالإجماع ، لأن للأكثر حكم الكل.
وفى المبسوط لا يرفض واحدا منهما لأن للأكثر حكم الكل فصار كما إذا فرغ منها وعليه دم لمكان النقض بالجمع بينهما.
ولأبى حنيفة - رضى الله عنه- إن أحرم العمرة تأكد بما أتى به من الطواف وإحرام الحج لم يتأكد بشىء من أعماله ، وغير المتأكد أولى بالرفض ، وإنما يرجح بالأيسر إذا استويا فى القوة.
والدليل علي أنه يتأكد بالسقوط أن الآفاقى إذا جاوز الميقات غير محرم فأحرم داخل الميقات فطاف شوطا، ثم عاد إلى الميقات لا يسقط عنه الدم لبى أو لم يلب بالاتفاق لتأكده بالطواف، ولأن فى رفض العمرة إبطال العمل.
وفى رفض الحج امتناعا عنه فكان أولى وعليه دم للرفض أيهما رفض لتحلله قبل أوانه كالمحصر ثم إن رفض العمرة قضاها لا غير، وإن رفض الحج قضاه وقضى العمرة معه، فلو أتمهما جاز وعليه دم لأنه أداهما كما ألتزمهما، غير أنه منهى عنه، والنهى لا يمنع المشروعية ولا تحقق الفعل وعليه دم لجمعه بينهما وهو دم جبر. ومن أحرم بحج ثم بآخر يوم النحر فإن حلق فى الأول لزمه الآخر ولا دم، وإلا لزمه وعليه دم قصر أو لا.
ومن فرغ من عمرته إلا التقصير أو الحلق فأحرم من بأخرى لزمه دم للجمع بينهما، وأصل هذا إن الجمع بين إحرامى الحج أو إحرامى العمرة بدعة، فإذا أحرم بالحج الثانى بعدما حلق للأول لزمه ولا شىء عليه بالاتفاق ، لأنه حل من الأول وأحرم بالثانى بعده وإن لم يحلق حتي أحرم بالثانى لزمه لصحت شروعه فيه وعليه دم، حلق بعدما أحرم بالثانى أو لم يحلق عند أبى حنيفة لأنه إن حلق يكون جانيا على الإحرام الثانى، وإن لم يحلق يكون مؤخرا للحلق فى الحج الأول عن أيام النحر وهو يوجب الدم عنده، وعندهما، إن حلق بعد الإحرام بالثاني يجب عليه الدم لما قال أبو حنيفة، وإن لم يحلق فلا شىء عليه لأن تأخير الحلق عندهما لا يوجب شيئا، ومن أحرم بحج ثم بعمرة ثم وقف بعرفة فقد رفض عمرته، وإن توجه إلى عرفة ولم يقف بها بعد لا يصير رافضا لأنه يصير قارنا بالجمع بين الحج والعمرة لأنه مشروع فى حق الآفاقى لكنه مسىء بتقديم إحرام الحج على إحرام العمرة لكونه اخطأ السنة، لأن السنة فى القرآن إن يحرم بهما معا أو يقدم إحرام العمرة علي إحرام الحج، فلو طاف للحج ثم أحرم بعمرة ومضى عليهما يجب دم. وندب رفض العمرة لأنه فات الترتيب فى الفعل من وجه بتقديم طواف القدوم على العمرة، وإن أهل بعمرة يوم النحر لزمته ولزمه الرفض والدم والقضاء لأنه أدى أركان الحج، فيكون بانيا أفعال العمرة علي أفعال الحج من كل وجه فكان خطأ محضا.(24/64)
وقد كرهت العمرة فى هذه للأيام تعظيما لأمر الحج، وترفض فإذا رفضها يجب عليه دم لرفضها للتحلل منها قبل أوانه، ويجب عليه قضاؤها لصحة المشروع فيها، فإن مضى عليها صح ويجب دم بالمضى عليها لأنه جمع بينهما فى الإحرام أو فى بقية الأفعال.
ومن فاته الحج فأحرم بعمرة أو حجة رفضها لأن فائت الحج يتحلل بأفعال العمرة من غير أن يقلب إحرامه إحرام العمرة، والجمع بين الحجتين أو العمرتين غير مشروع فإذا أحرم بحجة يصير جامعا بين الحجتين إحراما وهو بدعة فيرفضها، وإن أحرم بعمرة. يصير جامعا بين العمرتين أفعالا وهو بدعة أيضا فيرفضها(168).
مذهب المالكية:
قال المالكية: لا تنعقد عمرة على حج ولا على عمرة (196) أما إدخال الحج على العمرة. فقد جاء فى الشرح الصغير ما نصه: الثانية من صور القرآن أن ينوى العمرة ثم يبدو له فيردف الحج عليها قبل الشروع فى طوافها قبل تمامها، على خلاف بين ابن القاسم وأشهب فى وقت الأرداف، إن بقيت العمرة صحيحه لوقف الأرداف فإن فسدت بجماع أو إنزال قبل الأرداف لم يصح الإرداف عند ابن القاسم ووجب إتمامها فاسدة ثم يقضيها وعليه دم وكمل الطواف الذى أردف الحج علي العمرة فيه ولا يسعى لهذه العمرة حينئذ لأنه صار غير واجب لاندراج العمرة فى الحج.
وكره الأرداف بعد الطواف فلا يصح بتمام غالب أركانها إذ لم يبق عليه منها إلا السعى والواجب أصالة ترك الإحرام بالحج حتى يحلق للعمرة فإن خالفه ذلك الواجب وأحرم به قبل حلاقها وبعد سعيها صح ولزمه تأخير الحلق للفراغ من الحج و أهدى (170).قال الشافعية: إن أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الطواف جاز، ويصير قارنا فقد روى مسلم إن عائشة - رضى الله عنها - أحرمت بعمرة فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكى، فقال: ما شأنك؟ قالت: حضت، وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهلى بالحج. ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك جميعا.
فلو شرع فى الطواف لم يصح الإحرام بالحج لأنه اشتغل بعمل من أعمال العمرة ولا يجوز عكسه فى الجديد وهو أن يحرم بالحج فى أشهره ثم بعمرة قبل الطواف للقدوم وجوزه القديم قياسا على العكس فيكون قارنا أيضا، ولو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم أدخله عليها فى أشهره فقيل لا يصح هذا الإدخال لأنه يؤدى إلى صحة الإحرام بالحج قبل أشهره، وقيل يصح لأنه إنما يصير محرما بالحج وقت إدخاله. وقال فى الروضة الثانى أصح، وإن أحرم بالحج ودخل عليه بالعمرة ففيه قولان أحدهم يجوز، فإن أحرم بالعمرة فأفسدها من أدخل عليها الحج ففيه وجهان أحدهما ينقد الحج ويكون فاسدا، والثانى لا ينعقد (171).
قال الحنابلة: إذا أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج قبل الشروع فى طواف العمرة كان نوعا من القرآن لأنه ليس من اللازم فى القران أن يحرم بهما جميعا.
وقد روت عائشة - رضى الله عنها- قالت: أهللنا بالعمرة ثم أدخلنا عليها الحج.
وفى الصحيحين أن ابن عمر - رضى الله عنه- فعله وقال هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى الصحيحين أنه أمر عائشة- رضى الله عنها - بذلك.
فإن كان شرع فى طوافه العمرة لم يصح إدخاله عليها لأنه شرع بالتحلل من العمرة كما لو سعى إلا لمن معه الهدى فيصح الإدخال ولو بعد السعى بناء على المذهب أنه لا يجوز له التحلل حتي يبلغ الهدى محله ويصير قارنا جزم به فى المبدع والشرح وشرح المنتهى هنا وهو مقتضى كلامه فى الإنصاف، ولا يعتبر لصحة إدخال الحج على العمرة الإحرام به فى أشهره لصحة الإحرام به قبلها، وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها لأنه لم يرد به أثر ولم يستفد به فائدة بخلاف ما سبق ولم يصر قارنا لأنه لا يلزمه بالإحرام الثانى شىء(172).
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى فى المحلى: المرأة المتمتعة بعمرة إن حاضت قبل الطواف بالبيت ففرضها أن تضيف حجا إلى عمارتها إن كانت تريد الحج من عامها وتعمل عمل الحج، حاشا الطواف بالبيت، فإذا طهرت طافت، وهذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضى الله عنها بذلك، على ما جاء فى الحديث السابق ونحوه فى مذهب الشافعية (173).
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: من أدخل نسكا على نسك نحو أن ينوى إحرامه بحجة فقط ثم بعد ذلك يهل بعمرة أو حجة غير الذى قد كان نواها أو العكس، وهو أن يبتدئ الإحرام بعمرة ثم يهل- بحجة أو عمرة غير التى نواها استمر فى الأول منهما، ويتعين رفض ما أدخله ولو كان الدخيل حجة على عمرة ولو خشى فوت الحجة أيضا.
وقال أبو جعفر: إن أدخل حجة على عمرة صار قارنا وعليه دم للرفض (174)
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: إضافة الإحرام إلى الإحرام معناه إدخال أحد النسكين على الآخر بأن ينوى الثانى قبل إكمال تحلله من الأول، وهو الفراغ منه، لا مطلق التحلل، فيبطل الثانى إن كان الداخل حجا على العمرة قبل السعى لها ولو كان بعده وقبل التقصير وتعمد ذلك، فالمروى صحيحا عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام، أنه يبقى على حجة مفردة بمعنى بطلان التمتع وصيرورتها بالإحرام قبل إكمالها حجة مفردة، فيكملها ثم يعتمر بعدها عمرة مفردة (175).
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: لا يجوز أن يحرم الإنسان بالحج لم يردف عليه العمرة فيكون قارنا بعد كونه مفردا، أما أن يحرم بالعمرة ثم يردف عليها الحج فيكون قارنا بعد أن كان متمتعا. قال فى التاج: أجمع المسلمون أن لمن أهل بعمرة إدخال حج عليها ما لم يبتدىء الطواف (176).(24/65)
متى يكون التحلل من الإحرام وكيف يتحلل
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: التحلل من الإحرام يكون بعد الذبح لقول الله تعالى: ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( (177) مرتبا على الذبح.
وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق خذ) وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس - رواه مسلم وأبو دأود وأحمد-.
ويكون التحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير، والحلق أحب لما روى أبو هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم اغفر للمحلقين " قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين. قال: " اللهم اغفر للمحلقين ". قالوا: يا رسول الله ، وللمقصرين. قال: " اللهم اغفر للمحلقين ". قالوا: و للمقصرين. قال: "وللمقصرين ".- متفق عليه-.
لأن المقصود قضاء التفث لما تلونا وهو بالحلق أتم فكان أولى (178) على تفصيل ينظر فى مصطلح "حلق ".
مذهب المالكية:
قال المالكية: وحل برمى جمرة العقبة كل شىء يحرم على المحرم غير نساء وصيد وكره له الطيب، وهذا هو التحلل الأصغر، فإن طاف للإفاضة سبعة أشواط حل به ما بقى من نساء وصيد وطيب، وهذا هو التحلل الأكبر. فيجوز له وطء حليلته بمنى أيام التشريق إن حلق أو قصر قبل الإفاضة أو بعدها، وقدم سعيه عقب القدوم، فإن لم يقدمه عقبه أو كان لا قدوم عليه فلا يحل ما بقى إلا بالسعى، فإن وطىء أو اصطاد قبله فالدم (179).
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: إذا رمى المحرم وحلق وطاف حصل له التحلل الأول والثانى، فإن قلنا أن الحلق نسك حصل له التخلل الأول باثنين من ثلاثة، وهى الرمى والحلق والطواف، وحصل له التحلل الثانى بالثالث، وإن قلنا أن الحلق ليس بنسك حصل له التحلل الأول بواحد من أثنين، وهى الرمى والطواف وحصل له التحلل الثانى بالثانى.
وقال أبو سعيد الأصطخرى: إذا دخل وقت الرمى حصل له التحلل الأول، وإن لم يرم، كما إذا قات وقت الرمى حصل له التحلل الأول وإن لم يرم. والمذهب الأول، لما روت عائشة رضى الله عها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب و اللباس وكل شىء إلا النساء. فعلق التحلل بفعل الرمى، ولأن ما تعلق به التحلل لم يتعلق بدخول وقته كالطواف، وفيما يحل بالتحلل الأول والثانى قولان: أحدهما، وهو الصحيح، أنه يحل بالأول جميع المحظورات إلا الوطء وبالثانى يحل الوطء لحديث عائشة رضى الله عنها. والقول الثانى أنه يحل بالأول كل شىء إلا الطيب والنكاح والاستمتاع بالنساء وقتل الصيد(180).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: إذا فرغ المحرم من السعى فإن كان متمتعا بلا هدى حلق أو قصر من جميع شعره وقد حل، فيستبيح جميع محظورات الإحرام، والأفضل هنا التقصير ليتوفر الحلق للحج، وإن كان مع المتمتع هدى أدخل الحج على العمرة، وليس له أن يحل ولا أن يحلق حتي يحج فيحرم به بعد طوافه وسعيه لعمرته، ويحل منهما( أى من الحج والعمرة يوم النحر) ، نص عليه لحديث حفصة ، قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك.
فقال: " إنى لبدت رأسى وقلدت هدى فلا أحل حتي أنحر " 0- متفق عليه-.
وإن كان الذى طاف وسعى لعمرته معتمرا غير متمتع، فإنه يحل( أى يحلق أو يقصر) وقد حل، ولو كان معه هدى سواء كان فى أشهر الحج ولم يقصد الحج من عامه أو كان فى غير أشهر الحج.
وللمحرم تحللان: الأول منهما لحصل باثنين من ثلاثة: رمى لجمرة العقبة وحلق أو تقصير، وطواف إفاضة.
ويحصل التحلل الثانى بالثالث منها (أى من الحلق والرمى والطواف مع السعى) إن كان متمتعا أو كان مفردا أو قارنا، ولم يسع ومع طواف القدوم، فالحلق أو التقصير نسك لقول الله تعالى: ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ( (181) فوصفهم وامتن عليهم بذلك، فدل أنه من العبادة لا اطلاق من محظور، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقصر ثم ليحل (182)
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: إذا أتى المحرمون مني ورموا جمرة العقبة فقد تم إحرامهم، ويحلقون أو يقصرون،والحلق أفضل للرجال، وينحرون الهدى، إن كان معهم ير ثم قد حل لهم كل ما كان من اللباس حراما على المحرم، وحل لهم الصيد فى الحل والتطيب، حاشا الوطء فقط. برهان ذلك ما روينا من طريق سعيد بن منصور قال: قال عمر رضى الله عنه: " إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شىء إلا الطيب والنساء ". فقالت عائشة رضى الله عنها: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسنة رسول الله أحق أن تتبع.
وإذا نهض إلى مكة فطاف بالبيت سبعا لا رمل فيها، وسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو لم يسع إن كان قارنا وكان قد سعى بينهما فى أول دخوله فقد تم حجه وقرانه وحل له النساء بالإجماع لا خلاف فيه مع النص(183) فى قول الله تعالى: ( وليطوفوا بالبيت العتيق ( (184).
قال الزيدية: يحل للمحرم محظورات الإحرام غير الوطء للنساء بعد أول حصاة يرمى بها ولا يحل له الوطء حتي يطوف طواف الزيارة فلو قدم طواف الزيارة على الرمى جاز له جميع المحظورات من وطء وغيره، والمتمتع يتحلل عقيب السعى فيتحلل بعده من المحظورات فيما عدا الوطء فإنه لا يخل إلا بعد أن يحلق رأسه أو يقصر(185).
مذهب الإمامية:(24/66)
قال الإمامية: يتحلل المحرم من كل ما حرمه الإحرام إلا من النساء والطيب والصيد بالحلق بعد الرمى والذبح فلو قدمه عليهما أو وسطه بينهما ففى تحلله به أو توقفه على الثلاثة، قولان: أجودهما الثانى، وإذا طاف طواف الحج وسعى سعيه حل الطيب، وقيل يحل بالطواف خاصة، والأول أقوى، هذا إذا أخر الطواف والسعى عن الوقوفين، أما لو قدمهما على أحد الوجهين ففى حله من حين فعلهما أو توقفه على أفعال منى وجهان، وقطع العاملى بالثانى، وبقى من المحرمات النساء والصيد، فإذا طاف للنساء حللن له إن كان رجلا، ولو كان صبيا فالظاهر أنه كذلك، من حيث الخطاب الوضعى. وأما المرأة فلا إشكال فى تحريم الرجال عليها بالإحرام، وإنما الشك فى المحلل، والأقوى أنها كالرجل (186).
مذهب الإباضية:
قال الإباضية، كما جاء فى شرح النيل:
إذا ذبحت فاحلق، وخذ من شاربك لا لحيتك وقلم أظفارك واحلق عانتك ، وقد حل بعد ذبح وحلق كل حلال غير صيد ونساء حتى تزور البيت. وقيل يحل له غير النساء والصيد برمى جمرة العقبة حلق أو لم يحلق قصر أو لم يقصر (187).
تجديد الإحرام يوم التروية
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: المتمتع يحرم بالحج يوم التروية من الحرم، لأنه فى معنى المكى، وميقات أهل مكة فى الحج الحرم، وان أحرم. قبل يوم التروية جاز وهو الأفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد الحج فليتعجل " ، ولأن فيه مسابقة إلى الخير وزيادة فى المشقة، فكان أولى، وهذا الحكم عام فى متمتع سواء من ساق الهدى ومن لم يسقه (188).
مذهب المالكية:
قال ابن القاسم من المالكية عن المتمتع: إذا كان يوم التروية أحرم للحج.
قال: وكان مالك يستحب أن يحرم فى أول العشر( أى أول ذى الحجة) (189).
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: تجديد الإحرام يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذى الحجة 0
خاص بالمتمتعين والمكيين بخلاف غيرهم من المفردين والقارنين والآفاقيين لعدم تحللهم (190).
وجاء فى المجموع: إذا تحلل المتمتع من العمرة أستحب له ألا يحرم بالحج إلا يوم التروية، هذا إذا كان واجد الهدى. وإن كان عادمه استحب له تقديم الإحرام بالحج قبل اليوم السادس لأنه فرضه الصوم ولا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج وواجبه ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ويستحب ألا يصوم يوم عرفة، فيتعين ثلاثة أيام قبله، وهى السادس والسابع والثامن، هذا مذهبنا.
ودليلنا ما ثبت عن جابر رضى الله تعالى عنه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدى معه ( يعنى حجة الوداع) وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:
" أحلوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، وقصروا، وأقيموا حلالا، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة " (191).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: يستحب للمتمتع الذى حل من عمرته ولغيره من المحلين بمكة وقربها الإحرام بالحج يوم التروية لقول جابر رضى الله عنه فى صفة حج النبى صلى الله عليه وسلم: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبى صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة (192).
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: وأما استحبابنا للمتمتع أن يهل بالحج يوم التروية فى أخذه فى النهوض إلى منى، فلما ذكرنا من فعل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بحضرته.
عن عطاء بن أبى رباح قال: رأيت ابن عمر رضى الله تعالى عنه فى المسجد الحرام وقد أهل بالحج إذا رأى هلال ذى الحجة عاما ثم عاما آخر، فإن كان فى العام الثالث قيل له قد رؤى هلال ذى الحجة.
فقال: ما أنا إلا كرجل من أصحابى وما أرانى أفعل إلا كما فعلوا فأمسك إلى يوم التروية ثم أحرم من البطحاء حتى استوت به راحلته بالحج (193).
مذهب الزيدية:
قال الزيدية: إذا فرغ المتمتع من أعمال العمرة كان حكمه حكم الحلال، فإذا كان يوم التروية فإنه يحرم إن شاء للحج وليس الإحرام من مكة شرطا فى صحة الحج ولا فى صحة التمتع بل لو أحرم للحج من المواقيت جاز له ذلك وصح تمتعه ولا دم علية (194).
مذهب الإمامية:
جاء فى شرح الإسلام ما نصه: أما المتمتع فصورته أن يحرم من الميقات بالعمرة المتمتع فصورته أن يحرم من الميقات بالعمرة المتمتع بها ثم يدخل مكة فيطوف سبعا بالبيت ويصلى ركعتيه بالمقام ، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ويقصر ، ثم ينشىء إحراما آخر للحج من مكة يوم التروية على الأفضل ، وإلا بقدر ما يعلم أنه يدرك الوقوف.
مذهب الإباضية:
قال الإباضية: يحرم المتمتع يوم التروية ، وهو ثامن ذى الحجة وذلك هو المختار وأختار بعضهم من أول ذى الحجة وأجيز قبل ذلك (195).
الفرق بين من يسوق الهدى ومن لم يسقه
مذهب الحنفية:
قال الحنفية: من لم يسق الهدى فى حج المتمتع يجوز له أن يتحلل بعد الفراغ من العمرة ، وأما من ساق الهدى فلا يجوز له التحلل لحديث ابن عمر رضى الله تعالى عنه
قال: تمتع الناس بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: " من كان معه مدى فإنه لا يحل من شىء حرم منه حتى يقضى حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة، وليقصر وليتحلل ".. متفق عليه، والهدى إما أن يكون لمتعة أو قران أو احصار أو جزاء صيد أو كفارة جناية أخرى(197).
وتفصيل القول فى هذا الموضوع بالنسب للمذاهب الثمانية يراجع فى مصطلحات " هدى، قران تمتع، إحصار جزاء صيد، كفارة ".
الإحرام عن الغير
مذهب الحنفية:(24/67)
قال الحنفية: إذا أهل الرجل عن ولده الصغير الذى معه لا يجب عليه من جهة إهلاله عن ابنه شىء لأن عبارته فى إهلاله عن ابنه كعبارة ابنه، فيصير الابن محرما بهذا لا أن يصير الأب محرما عنه.
وإذا أم الرجل البيت فأغمى عليه، فأهل عنه أصحابه بالحج ووقفوا به فى المواقف وقضوا له النسك كله يجزيه ذلك عن حجة الإسلام فى قول أبى حنيفة - رحمه الله تعالى-.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله:لا يجزئه. والقياس قولهما، لأنه لم يأمر أصحابه بالإحرام عنه، وليس للأصحاب عليه ولاية، فلا يصير هو محرما بإحرامهم عنه، لأن عقد الإحرام عقد لازم، وإلزام العقد على الغير لا يكون إلا بولاية، ولأن الإحرام لا ينعقد إلا بالنية، وقد انعدمت النية من المغمى عليه حقيقة وحكما، لأن نية الغير عنه بدون أمره لملا تقوم مقام نيته، والدليل عليه أن سائر المناسك لا تتأدى بأداء الأصحاب عنه، فكذلك الإحرام وجه قول أبى حنيفة رحمه الله، وهو أنه لما عاقدهم عقد الرفقة، فقد استعان بهم فى كل ما يعجز عن مباشرته بنفسه والإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحا، وإذا ثبت الإذن قامت نيتهم مقام نيته كما لو كان أمرهم بذلك نصا، ومن أصحابنا من فرق، فقال الإحرام بمنزلة الشرط فتجزىء النيابة فى الشروط، وإن كان لا تجزىء فى الأعمال، فإن أصاب الذى أهل عن المغمى عليه صيدا فعليه الجزاء من قبل إهلاله عن نفسه، وأن كان محرما وليس عليه من جهة إهلاله عن المغمى عليه شىء.
مذهب المالكية:
سئل ابن القاسم من المالكية عمن أغمى علية قبل أن يأتى عرفة فوقف به بعرفة وهو مغمى عليه حتى دفعوا( أى أفاضوا) من عرفات، وهو بحاله مغمى عليه، فقال: قال لى مالك: ذلك يجزئه. فسئل إن أتى الميقات وهو مغمى عليه فأحرما عنه أصحابه أيجزئه؟.
فقال: إن أفاق فأحرم قبل أن يقف بعرفات أجزأه حجه، وإن لم يفق حتى يقفوا به بعرفات وأصبحوا من ليلتهم لم يجزه حجه.
فقيل: فإن أفاق قبل انفجار الصبح، فأحرم ووقف أيجزئه حجه فى قول مالك، قال: نعم.
فسئل: عما إذا مر به أصحابه بالميقات وهو مغمى عليه فأحرموا عنه ثم أفاق بعدما جاوز الميقات فأحرم حين أفاق أيكون عليه الدم لترك الميقات.
قال: لا أحفظ هذا عن مالك، وأرجو ألا يكون عليه شىء.
فسئل عما إذا كان أصحابه قد أحرموا عنه بحج أو بعمرة أو قرنوا عنه، فلما أفاق أحرم بغير ذلك.
قال: ليس الذى أحرم عنه أصحابه بشىء وإنما إحرامه هذا الذى ينوى به هو، وهو رأيى.
وقال ابن القاسم عن الصبى يصيب صيدا أنه يحكم عليه فى قول مالك. وقال الذى أستر من ذلك أن يكون ما يحكم به علي والده، لأن والده هو الذى أحجه فلزم الصبى الإحرام بفعل والده، فعلى الوالد ما يصيب هذا الصبى فى حجه ويندب إحرام ولى لما ورد أن له أجرا بقرب مكة لا من الميقات للمشقة عن رضيع بأن ينوى إدخاله فى النسك ومجنون أطبق عليه أو خفيف الفوات وجرد المحرم عنه وقت الإحرام، فإن خيف ضرر فالفدية ولا يجرد ولا يندب الإحرام عن مغمى عليه بل لا يصح الإحرام عنه (200).
مذهب الشافعية:
قال الشافعية: الصبى إن كان غير مميز جاز لأمه أن تحرم عنه لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن إمراة رفعت صبيا إلى النبى صلى الله عليه وسلم من محفتها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج. قال: نعم، ولك أجرى.
ويجوز لأبيه قياسا على الأم، ولا يجوز للأخ والغم أن يحرما عنه لأنه لا ولاية لهما على الصغير، فإن عقد له الإحرام فعل بنفسه ما يقدر عليه، ويفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه لما روى جابر رضى الله عنه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم.
وقال صاحب المجموع: قال صحابنا: يحرم عنه وليه سواء كان الولى محرما عن نفسه أو عن غيره أو حلالا، وسواء كان حج عن نفسه أم لا، وهل يشترط حضور الصبى ومواجهته بالإحرام فيه وجهان: أصحهما لا يشترط.
وجزم صاحب المهذب وآخرون بعدم صحة الحج من المجنون وأنه لا يجوز الإحرام عنه لأنة ليس من أهل العبادات.
وجزم البغوى والمتولى والرافعى وآخرون بصحته منه كالصبى الذى لا يميز قالوا: وأما المغمى عليه فلا يجوز أن يحرم عنه غيره لأنه ليس بزائل العقل ويرجى برؤه عن قريب فهو كالمريض (201).
مذهب الحنابلة:
قال الحنابلة: غير المميز يحرم عنه وليه لما روى جابر - رضى الله تعالى عنه - فى الحديث السابق فى مذهب الشافعية ، فيعقد له وليه الإحرام ، ولو كان الولى محرما أو لم يحج عن نفسه والولى من يلى ماله من أب ووصيه وحاكم ، ولا يصح من غير الولى والأقارب ومعنى إحرامه عند عقده الإحرام له فيصير الصغير بذلك مميزا كان أو دونه أن يفعله بنفسه لزمه فعله كالوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة سواء أحضره الولى فيهما أو لم يحضر أحد ، وما عجز عنه الصغير فعله عنه الولى ، ولكن لا يجوز أن يرمى عن الصغير إلا من رمى نفسه ، وإن كان الولى حلالا لم يعتد برميه ولا يصح الحج من المجنون أن عقد الإحرام بنفسه أو عقد له وليه (202).
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى: نستحب الحج بالصبى وإن كان صغيرا جدا أو كبيرا وله حج وأجر وهو تطوع وللذى يحج به أجر ويجتنب ما يجتنب المحرم ويجزى الطائف به طوافه ذلك عن نفسه، وأورد حديث ابن عباس رضى الله عنه السابق فى مذهب الشافعيه ، ولا تلزم الصبى النية إنما تلزم المخاطب المأمور المكلف (203).
مذهب الزيدية:
ذهبت الهادوية من الزيدية إلى أنه لا تنعقد نية الصبى فى الحج.(24/68)
قال فى الجامع: قول محمد يدل على أن حج الصبى جائز وأنه يحرم عنه ويلبى عنه، ويجتنب ما يجب على الرجل اجتنابه من الطيب واللباس وأخذ الشعر ويطاف به ويرمى عنه الجمار، ويصلى عنه ركعتا الطواف إن كان لا يعقل الصلاة، ويشهد به المشاهد كلها لأنه قال: كان من مضى من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرون أن يصلوا عن الصبى ركعتى الطواف إذا كان لا يعقل الصلاة.
وقال محمد: وإذا كان الصبى لا يفهم الرمى رمى عنه ، و يكون حاضرا عند الجمرة أحب إلى ويرمى عنه حاج من أهله وإن رمى عنه حاج أجنبى أجزأه، ثم ذكر حديث الصبى الذى رفعته من هودجها ثم قال: وعن جعفر عليه السلام قال: حججت مع على بن الحسين ومع أبى فكانوا إذا كان الإحرام جردونا من القمص وتركونا فى الأزر فإذا قدموا مكة بعثوا بنا مع الغلمان فطافوا بنا وصلوا عنا (204).
مذهب الإمامية:
قال الإمامية: يحرم الولى عن غير المميز إن أراد الحج به ندبا طفلا كان أو مجنونا، محرما كان الولى أم محلا لأنه يجعلهما محرمين بفعله لا نائبا عنهما، ويكون الولى عليه حاضرا مواجها له ويأمره بالتلبية إن أحسنها وإلا لبى عنه ويلبسه ثوبى الإحرام ويجنبه تروكه (محظوراته) وإذا طاف به أوقع به صورة الوضوء وحمله ولو على المشى أو ساق به أو قاذ به أو استناب فيه ويصلى عنه ركعتيه إن نقص سنه عن ست ولو أمره بصورة الصلاة فحسن، وكذا القول فى سائر الأفعال فإذا فعل به ذلك فله أجر حجة(205).
مذهب الإباضية:
جاء فى شرح النيل تعليقا على الحديث الذى رواه ابن عباس- رضى الله عنه- الذى سبق ذكره، أما حديث المرأة التي قال له لها نعم ولك أجر، إنما هو فى صحته نقلا ، للصبى لا فى أجزائه عن حجة الفرض. وفاد بعض المخالفين أن الصبى يحرم عنه وليه ويجتنب ما يجتنبه البالغ المحرم والظاهر أن وليه يحرم لنفسه أولا وأنه إذا بلغ السن الذى يؤمر فيه بالصلاة يحرم بنفسه، وذكر المخالفون أن الرضيع يجرد قرب الحرم، ويعيد المجنون بعد إفاقة. وزعم المخالفون أنه يحرم عنه أبوه أو وليه (206).
--------------------------------------------------------------------------------
(141) الزيلعى ج 2 ص 63،64، 65 الطبعة السابقة.
(142) المرجع السابق ج2 ص 66 الطبعة السابقة.
(143) المرجع السابق ج 2 ص 7 الطبعة السابقة.
(144) الزيلعى ج 2 ص71، 73 الطبعة السابقة.
(145)سورة البقرة: 196.
(146) الزيلعى ج 2 ص 56، 66، 67، الطبعة السابقة.
(147) بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير للدردير وحاشيه الصاوى عليه ج1 من ص 26 إلى ص 275 الطبعة السابقة.
(148) صورة البقرة:196.
(149) المهذب للشيرازى ج1 ص 214 الطبعة السابقة
(150) المهذب للشيرازى ج1 ص 212 ، 213 الطبعة السابقة
(151) المرجع السابق ج 1 ص 213،214
(152) سورة المائدة: 95.
(153) المهذب ج1 ص 215، 216، 217 الطبعة السابقة.
(154) المهذب للشيرازى ج1 ص 217 ، الطبعة السابقة
(155) المرجع السابق ج1 ص 218 ، ص 219 الطبعة السابقة
(156) سورة البقرة: 196
(157) العدل والنظير والمثل- القيمة، ترتيب القاموس المحيط ج 3 ص 149 الطبعة الأولى سنه 1959
(158) سورة المائدة: 95.
(159) كشاف القناع ج1 ص 574 إلى ص 594 الطبعة السابقة.
(160) سورة البقرة: 196
(161) سورة مريم: 64
(162) سورة المائدة: 95
(163) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص 208 مسألة رقم874 وص 214مسألة رقم 875، مسألة رقم 876 ص 194 مسألة رقم 863، ص 219 مسألة رقم 878 ، ص 233 مسألة رقم880 ، ص 236 مسألة رقم 884، ص 237 مسألة رقم 887 ، ص 238 مسألة رقم 888 الطبعة السابقة
(164) شرح الأزهار ج2 من ص 86 إلى ص 96 الطبعة السابقة.
(165) المختصر النافع ص 125، 126، 127 الطبعة السابقة.
(166) المختصر النافع ص 130 ، 131 ، 132 الطبعة السابقة.
(167) كتاب شرح النيل وشفاء العليل ج2 من ص 314 إلى ص 325.
(168) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى ج 2 ص 74 ،75، 76 الطبعة السابقة.
(169) الشرح الصغير وحاشية الصاوى عليه ج1 ص 248 الطبعة السابقة.
(170) المرجع السابق ج1 ص 253 الطبعة السابقة.
(171) المهذب للشيرازى ج 1 ص 201 الطبعة السابقة ونهاية المحتاج للرملى ج2 ص313 وما بعدها الطبعة السابقة.
(172) كشاف القناع مع منتهى الإرادات ج1 ص567 الطبعة السابقة.
(173) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 186 مسألة رقم 848 الطبعة السابقة.
(174) شرح الأزهار ج 2 ص 83، 84، الطبعة السابقة.
(175) إلي الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للجبعى العاملى ج 1ص 176، 177 الطبعة السابقة.
(176) كتاب شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص 307 ، 308 الطبعة السابقة.
(177) سورة الحج.
(178) تبيين الحقائق شرح كنز- الدقائق للزيلعى ج 2 ص 32.
(179) الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوى عليه ج1 ص 261 الطبعة السابقة.
(180) المهذب للشيرازى ج1 ص230 الطبعة السابقة.
(181) سورة الفتح: 027
(182) كشاف القناع مع منتهى الإرادات ج 1 ص 611 الطبعة السابقة.
(183) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص 118 ، 139 الطبعة السابقة.
(184) سورة الحج: 29.
(185) التاج المذهب ج 1 ص 298 الطبعة السابقة وكتاب شرح الأزهار ج 2 ص 142 الطبعة السابقة.
(186) الروضة البهية على اللمعة الدمشقية ج1 ص 199 الطبعة السابقة.
(187) كتاب شرح النيل وشفاء العليل ج 2 ص380 ص 381 الطبعة السابقة.
(188) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى ج 2 ص 45 الطبعة السابقة.
(189) المدونة الكبرى للإمام مالك ج 2 ص 143 طبع مطبعة السعادة بمصر، طبعة الساسى سنة 1323 هجرية الطبعة الأولى.(24/69)
(190) شرح جلال الدين المحلى وحاشيتى القليوبى وعميرة ج2 ص 112 الطبعة السابقة.
(191)المجموع شرح المهذب للإمام النووى ج 7 ص 181 ص 182 طبع مطبعة التضامن الأخوى إدارة الطباعة المنيرية.
(192) كشاف القناع مع شرح منتهى الإرادات ج1 ص 612 الطبعة السابقة.
(193) المحلى لابن حزم الظاهرى ج7 ص 124 الطبعة السابقة.
(194) التاج المذهب ج1 ص 311 لابن القاسم الصنعانى الطبعة الأولى طبع دار إحياء الكتب العربية سنه1366 هجرية .
(195) شرائع الإسلام للمحقق الحلى ج1 ص 118 طبع دار الحياة ببيروت 1295 هجرية .
(196) شرح النيل شفاء العليل ج2 ص 359 ، 360 الطبعة السابقة.
(197) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى ج 2 ص 45 الطبعة السابقة.
(198) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسى ج4 ص160، ص 161 طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1324 هجرية طبع الساسى.
(199) المدونة للإمام مالك ج 2 ص 173 ، 174 ، 184 ، 195 الطبعة السابقة 0
(200) شرح مجموع الأمير وحاشية الشيخ حجازى عليه ج1 ص 311 طبع المطبعة البهية الشرقية بمصر سنه 1304 هجرية .
(201) المجموع شرح المهذب للإمام النووى ج7 ص 20 ص 21 ، ص 23 ، 38 طبع مطبعة التضامن الأخوى إدارة الطباعة المنيرية بمصر.
(202) كشاف القناع مع شرح منتهى الإرادات ج1 ص 548 ، ص 549 الطبعة السابقة.
(203) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 7 ص276 مسألة رقم 915 الطبعة السابقة.
(204) كتاب الروض النضير، شرح مجموع الفقه الكبير لشرف الدين الحسين الصنعانى ج 3 ص 121 ص 122 طبع مطبعة السعادة، بمصر الطبعة الأولى سنة 1348 هجرية
(205) الروضة البهية شرح المعة الدمشقية ج 1 ص 160 الطبعة السابقة.
(206) كتاب شرح النيل وشفاء العليل ج2 ص 279 الطبعة السابقة.(24/70)
إحصار
التّعريف
1 - من معاني الإحصار في اللّغة المنع من بلوغ المناسك بمرض أو نحوه ، وهو المعنى الشّرعيّ أيضاً على خلاف عند الفقهاء فيما يتحقّق به الإحصار .
2 - واستعمل الفقهاء مادّة ( حصر ) بالمعنى اللّغويّ في كتبهم استعمالاً كثيراً . ومن أمثلة ذلك : قول صاحب تنوير الأبصار وشارحه في الدّرّ المختار : « والمحصور فاقد الماء والتّراب الطّهورين ، بأن حبس في مكان نجس ، ولا يمكنه إخراج مطهّر ، وكذا العاجز عنهما لمرض يؤخّر الصّلاة عند أبي حنيفة ، وقالا يتشبّه بالمصلّين وجوباً ، فيركع ويسجد إن وجد مكاناً يابساً ، وإلاّ يومئ قائماً ثمّ يعيد » . ومنه أيضاً قول صاحب تنوير الأبصار : « وكذا يجوز له أن يستخلف إذا حصر عن قراءة قدر المفروض » . وقال أبو إسحاق الشّيرازيّ : « ويجوز أن يصلّي بتيمّم واحد ما شاء من النّوافل ؛ لأنّها غير محصورة ، فخفّ أمرها » . وتفصيله في مصطلح ( صلاة ) . إلاّ أنّهم غلّبوا استعمال هذه المادّة ( حصر ) ومشتقّاتها في باب الحجّ والعمرة للدّلالة على منع المحرم من أركان النّسك ، وذلك اتّباعاً للقرآن الكريم ، وتوافقت على ذلك عباراتهم حتّى أصبح ( الإحصار ) اصطلاحاً فقهيّاً معروفاً ومشهوراً .
2 - ويعرّف الحنفيّة الإحصار بأنّه : هو المنع من الوقوف بعرفة والطّواف جميعهما بعد الإحرام بالحجّ الفرض ، والنّفل ، وفي العمرة عن الطّواف ، وهذا التّعريف لم يعترض عليه . ويعرّفه المالكيّة بأنّه المنع من الوقوف والطّواف معاً أو المنع من أحدهما . وبمثل مذهب الشّافعيّة هذا التّعريف الّذي أورده الرّمليّ الشّافعيّ في نهاية المحتاج ، ونصّه : « هو المنع من إتمام أركان الحجّ أو العمرة » . وينطبق هذا التّعريف للشّافعيّة على مذهب الحنابلة في الإحصار ؛ لأنّهم يقولون بالإحصار عن أيّ من أركان الحجّ أو العمرة ، على تفصيل يسير في كيفيّة التّحلّل لمن أحصر عن الوقوف دون الطّواف . الأصل التّشريعيّ في موجب الإحصار :
3 - موجب الإحصار - إجمالاً - التّحلّل بكيفيّة سيأتي تفصيلها . والأصل في هذا المبحث حادثة الحديبية المعروفة ، وفي ذلك نزل قوله تبارك وتعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وقال ابن عمر رضي الله عنهما « : خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحال كفّار قريش دون البيت ، فنحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه » . أخرجه البخاريّ .
ما يتحقّق به الإحصار
4 - يتحقّق الإحصار بوجود ركنه ، وهو المنع من المضيّ في النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، إذا توافرت فيه شروط بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه . ركن الإحصار :
5 - اختلف الفقهاء في المنع الّذي يتحقّق به الإحصار هل يشمل المنع بالعدوّ والمنع بالمرض ونحوه من العلل ، أم يختصّ بالحصر بالعدوّ ؟ فقال الحنفيّة : « الإحصار يتحقّق بالعدوّ ، وغيره ، كالمرض ، وهلاك النّفقة ، وموت محرم المرأة ، أو زوجها ، في الطّريق " ويتحقّق الإحصار بكلّ حابس يحبسه ، يعني المحرم ، عن المضيّ في موجب الإحرام . وهو رواية عن الإمام أحمد . وهو قول ابن مسعود ، وابن الزّبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيّب ، وعروة بن الزّبير ، ومجاهد ، والنّخعيّ ، وعطاء ، ومقاتل بن حيّان ، وسفيان الثّوريّ ، وأبي ثور . ومذهب المالكيّة : أنّ الحصر يتحقّق بالعدوّ ، والفتنة ، والحبس ظلماً . كذلك هو مذهب الشّافعيّة والمشهور عند الحنابلة ، مع أسباب أخرى من الحصر بما يقهر الإنسان ، ممّا سيأتي ذكره ، كمنع الزّوج زوجته عن المتابعة . واتّفقت المذاهب الثّلاثة على أنّ من يتعذّر عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخر غير العدوّ ، كالحصر بالمرض أو بالعرج أو بذهاب نفقة ونحوه ، أنّه لا يجوز له التّحلّل بذلك . لكن من اشترط التّحلّل إذا حبسه حابس له حكم خاصّ عند الشّافعيّة والحنابلة يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى . وهذا القول ينفي تحقّق الإحصار بالمرض ونحوه من علّة وهو قول ابن عبّاس وابن عمر وطاوس والزّهريّ وزيد بن أسلم ومروان بن الحكم .
6 - استدلّ الحنفيّة ومن معهم بالأدلّة من الكتاب والسّنّة والمعقول : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . ووجه دلالة الآية قول أهل اللّغة إنّ الإحصار ما كان بمرض أو علّة ، وقد عبّرت الآية بأحصرتم ، فدلّ على تحقّق الإحصار شرعاً بالنّسبة للمرض وبالعدوّ . وقال الجصّاص : « لمّا ثبت بما قدّمته من قول أهل اللّغة أنّ اسم الإحصار يختصّ بالمرض ، وقال اللّه { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وجب أن يكون اللّفظ مستعملاً فيما هو حقيقة فيه ، وهو المرض ، ويكون العدوّ داخلاً فيه بالمعنى » . وأمّا السّنّة : فقد أخرج أصحاب السّنن الأربعة بأسانيد صحيحة ، كما قال النّوويّ ، عن عكرمة ، قال : سمعت الحجّاج بن عمرو الأنصاريّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . قال عكرمة سألت ابن عبّاس وأبا هريرة عن ذلك فقالا : صدق . وفي رواية عند أبي داود وابن ماجه : « من كسر أو عرج أو مرض . . . » . وأمّا العقل : فهو قياس المرض ونحوه على العدوّ بجامع الحبس عن أركان النّسك في كلّ ، وهو قياس جليّ ، حتّى جعله بعض الحنفيّة أولويّاً .(25/1)
7 - واستدلّ الجمهور بالكتاب والآثار والعقل : أمّا الكتاب فآية : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } قال الشّافعيّ : « فلم أسمع مخالفاً ممّن حفظت عنه ممّن لقيت من أهل العلم بالتّفسير في أنّها نزلت بالحديبية . وذلك إحصار عدوّ ، فكان في الحصر إذن اللّه تعالى لصاحبه فيه بما استيسر من الهدي . ثمّ بيّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ الّذي يحلّ منه المحرم الإحصار بالعدوّ ، فرأيت أنّ الآية بأمر اللّه تعالى بإتمام الحجّ والعمرة للّه عامّة على كلّ حاجّ ومعتمر ، إلاّ من استثنى اللّه ، ثمّ سنّ فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحصر بالعدوّ . وكان المريض عندي ممّن عليه عموم الآية » . يعني { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . وأمّا الآثار : فقد ثبت من طرق عن ابن عبّاس أنّه قال : لا حصر إلاّ حصر العدوّ ، فأمّا من أصابه مرض ، أو وجع ، أو ضلال ، فليس عليه شيء ، إنّما قال اللّه تعالى : { فإذا أمنتم } وروي عن ابن عمرو والزّهريّ وطاوس وزيد بن أسلم نحو ذلك . وروى الشّافعيّ في الأمّ عن مالك - وهو عنده في الموطّأ - عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أنّ عبد اللّه بن عمر ، ومروان بن الحكم ، وابن الزّبير أفتوا ابن حزابة المخزوميّ ، وأنّه صرع ببعض طريق مكّة وهو محرم ، أن يتداوى بما لا بدّ له منه ، ويفتدي ، فإذا صحّ اعتمر فحلّ من إحرامه ، وكان عليه أن يحجّ عاماً قابلاً ويهدي . وهذا إسناد صحيح . وأمّا الدّليل من المعقول : فقال فيه الشّيرازيّ : « إن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلّل ؛ لأنّه لا يتخلّص بالتّحلّل من الأذى الّذي هو فيه ، فهو كمن ضلّ الطّريق » .
شروط تحقّق الإحصار :
8 - لم ينصّ الفقهاء صراحةً على شروط تحقّق الإحصار أنّها كذا وكذا ، ولكن يمكن استخلاصها ، وهي : الشّرط الأوّل : سبق الإحرام بالنّسك ، بحجّ أو عمرة ، أو بهما معاً ؛ لأنّه إذا عرض ما يمنع من أداء النّسك ، ولم يكن أحرم ، لا يلزمه شيء . ويتحقّق الإحصار عن الإحرام الفاسد كالصّحيح ، ويستتبع أحكامه أيضاً . الشّرط الثّاني : ألاّ يكون قد وقف بعرفة قبل حدوث المانع من المتابعة ، إذا كان محرماً بالحجّ . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فيتحقّق الإحصار عن الطّواف بالبيت ، كما سيتّضح في أنواع الإحصار . أمّا في العمرة فالإحصار يتحقّق بمنعه عن أكثر الطّواف بالإجماع . الشّرط الثّالث : أن ييأس من زوال المانع ، بأن يتيقّن أو يغلب على ظنّه عدم زوال المانع قبل فوات الحجّ ، " بحيث لم يبق بينه وبين ليلة النّحر زمان يمكنه فيه السّير لو زال العذر » . وهذا نصّ عليه المالكيّة والشّافعيّة ، وقدّر الرّمليّ الشّافعيّ المدّة في العمرة إلى ثلاثة أيّام . فإذا وقع مانع يتوقّع زواله عن قريب فليس بإحصار . ويشير إلى أصل هذا الشّرط تعليل الحنفيّة إباحة التّحلّل بالإحصار بأنّه معلّل بمشقّة امتداد الإحرام . الشّرط الرّابع : نصّ عليه المالكيّة وتفرّدوا به ، وهو ألاّ يعلم حين إحرامه بالمانع من إتمام الحجّ أو العمرة . فإن علم فليس له التّحلّل ، ويبقى على إحرامه حتّى يحجّ في العام القابل ، إلاّ أن يظنّ أنّه لا يمنعه فمنعه ، فله أن يتحلّل حينئذ ، كما وقع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه أحرم بالعمرة عام الحديبية عالماً بالعدوّ ، ظانّاً أنّه لا يمنعه ، فمنعه العدوّ ، فلمّا منعه تحلّل » .
أنواع الإحصار
بحسب الرّكن المحصر عنه يتنوّع الإحصار بحسب الرّكن الّذي أحصر عنه المحرم ثلاثة أنواع :
الأوّل : الإحصار عن الوقوف بعرفة وعن طواف الإفاضة :
9 - هذا الإحصار يتحقّق به الإحصار الشّرعيّ ، بما يتربّب عليه من أحكام ستأتي ( ف 26 ) وذلك باتّفاق الأئمّة ، مع اختلافهم في بعض أسباب الإحصار .
الثّاني : الإحصار عن الوقوف بعرفة دون الطّواف :
10 - من أحصر عن الوقوف بعرفة ، دون الطّواف بالبيت ، فليس بمحصر عند الحنفيّة ، وهو رواية عن أحمد . ووجه ذلك عندهم أنّه يستطيع أن يتحلّل بمناسك العمرة ، فيجب عليه أن يؤدّي مناسك العمرة بالإحرام السّابق نفسه . ويتحلّل بتلك العمرة . قال في المسلك المتقسّط : « وإن منع عن الوقوف فقط يكون في معنى فائت الحجّ ، فيتحلّل بعد فوت الوقوف عن إحرامه بأفعال العمرة ، ولا دم عليه ، ولا عمرة في القضاء » . وهذا يفيد بظاهره أنّه ينتظر حتّى يفوت الوقوف ، فيتحلّل بعمرة ، أي بأعمال عمرة بإحرامه السّابق ، كما صرّح بذلك في المبسوط بقوله : « إن لم يكن ممنوعاً من الطّواف يمكنه أن يصبر حتّى يفوته الحجّ ، فيتحلّل بالطّواف والسّعي " ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يعتبر من أحصر عن الوقوف فقط محصراً ، ويتحلّل بأعمال العمرة . لكنّه وإن تشابهت الصّورة عند هؤلاء الأئمّة إلاّ أنّ النّتيجة تختلف فيما بينهم . فالحنفيّة يعتبرونه تحلّل فائت حجّ ، فلا يوجبون عليه دماً ، ويعتبره المالكيّة والشّافعيّة تحلّل إحصار ، فعليه دم أمّا الحنابلة فقالوا : له أن يفسخ نيّة الحجّ ، ويجعله عمرةً ، ولا هدي عليه ، لإباحة ذلك له من غير إحصار ، ففيه أولى ، فإن كان طاف وسعى للقدوم ثمّ أحصر أو مرض ، حتّى فاته الحجّ ، تحلّل بطواف وسعي آخر ، لأنّ الأوّل لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها ، وليس عليه أن يجدّد إحراماً .
الثّالث : الإحصار عن طواف الرّكن :(25/2)
11 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة أنّ من وقف بعرفة ثمّ أحصر لا يكون محصراً ، لوقوع الأمن عن الفوات ، كما قال الحنفيّة . ويفعل ما سوى ذلك من أعمال الحجّ ، ويظلّ محرماً في حقّ النّساء حتّى يطوف طواف الإفاضة . وقال الشّافعيّة : إن منع المحرم من مكّة دون عرفة وقف وتحلّل ، ولا قضاء عليه في الأظهر . وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين أمرين فقالوا : إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة قبل رمي الجمرة فله التّحلّل . وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلّل . واستدلّوا على التّحلّل في الصّورة الأولى في الإحصار قبل الرّمي بأنّ " الحصر يفيده التّحلّل من جميعه ، فأفاد التّحلّل من بعضه » . وهو دليل لمذهب الشّافعيّة أيضاً . واستدلّوا لعدم التّحلّل بعد رمي جمرة العقبة إذا أحصر عن البيت : بأنّ إحرامه أي بعد الرّمي عندهم إنّما هو عن النّساء ، والشّرع إنّما ورد بالتّحلّل الإحرام التّامّ الّذي يحرم جميع محظوراته ، فلا يثبت - التّحلّل - بما ليس مثله . ومتى زال الحصر أتى بالطّواف ، وقد تمّ حجّه .
أنواع الإحصار من حيث سببه
الإحصار بسبب فيه قهر ( أو سلطة ) :
12 - ذكروا من صوره ما يلي : الحصر بالعدوّ - الفتنة بين المسلمين - الحبس - منع السّلطان عن المتابعة - السّبع - منع الدّائن مدينه عن المتابعة - منع الزّوج زوجته عن المتابعة - موت المحرم أو الزّوج أو فقدهما - العدّة الطّارئة - منع الوليّ الصّبيّ والسّفيه عن المتابعة - منع السّيّد عبده عن المتابعة . وقبل الدّخول في تفصيل البحث لا بدّ من إجمال مهمّ ، هو : أنّ المالكيّة قصروا الحصر الّذي يبيح التّحلّل للمحصر بثلاثة أسباب ، أحصوها بالعدد ، وهي : الحصر بالعدوّ ، والحصر بالفتنة ، والحبس ظلماً . وبالتّالي فإنّ هذه الأسباب متّفق عليها بين المذاهب . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فاتّفقوا مع الحنفيّة على جميع الصّور الّتي صدر بها الموضوع ما عدا ثلاثة أسباب هي : منع السّلطان عن المتابعة ، والحصر بالسّبع ، والعدّة الطّارئة . فهذه الثّلاثة تفرّد بها الحنفيّة . هذا مع مراعاة تفصيل في بعض الأسباب الّتي ذكر اتّفاق الحنفيّة مع الشّافعيّة والحنابلة عليها ويأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى . أ - الحصر بالعدوّ الكافر :
13 - وهو أن يتسلّط العدوّ على بقعة تقع في طريق الحجّاج ، فيقطع على المحرمين السّبل ، ويصدّهم عن المتابعة لأداء مناسكهم . وتحقّق الحصر الشّرعيّ بهذه الصّورة محلّ إجماع العلماء ، وفيها نزل القرآن الكريم . كما سبق . وقد قرّر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو أحصر العدوّ طريقاً إلى مكّة أو عرفة ، ووجد المحصر طريقاً آخر ، ينظر فيه : فإن أضرّ به سلوكها لطوله ، أو صعوبة طريقه ، ضرراً معتبراً ، فهو محصر شرعاً . وإن لم يتضرّر به فلا يكون محصراً شرعاً . أمّا الشّافعيّة فقد ألزموا المحصر بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو فيه مشقّة ، ما دامت النّفقة تكفيهم لذلك الطّريق . أمّا الحنابلة فعباراتهم مطلقة عن التّقييد بأيّ من هذين الأمرين ، ممّا يشير إلى أنّهم يلزمونه بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو أشقّ ، ولو كانت النّفقة لا تكفيهم . وهذا يشير إلى ترجيح وجوب القضاء عند الحنابلة لفوات الحجّ بسبب الطّريق الثّاني ، ولعلّه لذلك ذكره ابن قدامة أوّلاً . فإذا سلك الطّريق الأطول ففاته الحجّ بطول الطّريق أو خشونته أو غيرهما ، فما يحصل الفوات بسببه فقولان مشهوران في المذهبين الشّافعيّ والحنبليّ أصحّهما عند الشّافعيّة : لا يلزمه القضاء ، بل يتحلّل تحلّل المحصر ؛ لأنّه محصر ، ولعدم تقصيره . والثّاني : يلزمه القضاء ، كما لو سلكته ابتداءً ، ففاته بضلال في الطّريق ونحوه ، ولو استوى الطّريقان من كلّ وجه وجب القضاء بلا خلاف ؛ لأنّه فوات محض .
ب - الإحصار بالفتنة :
14 - بأن تحصل حرب بين المسلمين عياذاً باللّه تعالى ، ويحصر المحرم بسبب ذلك ، مثل الفتنة الّتي ثارت بحرب الحجّاج وعبد اللّه بن الزّبير سنة 73 هـ . وهذا يتحقّق به الإحصار شرعاً أيضاً باتّفاق الأئمّة كالإحصار بالعدوّ سواءً بسواء .
ج - الحبس :
15 - بأن يسجن المحرم بعدما تلبّس بالإحرام . وقد فرّق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بين الحبس بحقّ أو بغير حقّ . فإن حبس بغير حقّ ، بأن اعتقل ظلماً ، أو كان مديناً ثبت إعساره فإنّه يكون محصراً . وإن حبس بحقّ عليه يمكنه الخروج منه فلا يجوز له التّحلّل ولا يكون محصراً ، ويكون حكمه حكم المرض . أمّا الحنفيّة فقد أطلقوا الحبس سبباً للإحصار .
د - منع الدّائن مدينه عن المتابعة :
16 - عدّ الشّافعيّة والحنابلة الدّين مانعاً من موانع النّسك في باب الإحصار . وأمّا المالكيّة فقد صرّحوا بأنّه إن حبس ظلماً كان محصراً ، وإلاّ فلا ، فآلت المسألة عندهم إلى الحبس ، كالحنفيّة .
هـ - منع الزّوج زوجته عن المتابعة :(25/3)
17 - منع الزّوج زوجته عن المتابعة يتحقّق به إحصارها باتّفاق المذاهب الأربعة ( الحنفيّة المالكيّة ، على الأصحّ عندهم ، والشّافعيّة والحنابلة ) ، وذلك في حجّ النّفل ، أو عمرة النّفل ، عند الجميع ، وعمرة الإسلام ، عند الحنفيّة والمالكيّة لقولهم بعدم فرضيّتها . وإن أذن لها الزّوج ابتداءً بحجّ النّفل أو عمرة النّفل ولها محرم فإنّه ليس له منعها بعد الإحرام ؛ لأنّه تغرير ، ولا تصير محصرةً بمنعه . وحجّة الإسلام ، أو الحجّ الواجب ، كالنّذر ، إذا أحرمت الزّوجة بهما بغير إذن الزّوج ، ولها محرم ، فلا تكون محصرةً عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّهم لا يشترطون إذن الزّوج لوجوب الحجّ عليها ، وليس له أن يمنعها من حجّ الفرض ، ولا يجوز له أن يحلّلها بمحظور من محظورات الإحرام ، ولو تحلّلت هي لم يصحّ تحلّلها . وأمّا الشّافعيّة فيقولون باشتراط إذن الزّوج لفرضيّة الحجّ ، فإذا لم يأذن لها قبل إحرامها ، وأحرمت ، كان له منعها ، فصارت كالصّورة الأولى على الأصحّ عندهم . وإن أحرمت بحجّة الفرض وكان لها زوج وليس معها محرم ، فمنعها الزّوج ، فهي محصرة في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وكذا عند الشّافعيّة والحنابلة . وأمّا عند المالكيّة فلا تكون محصرةً إذا سافرت مع الرّفقة المأمونة ، وكانت هي مأمونةً أيضاً ، لأنّهم يكتفون بهذا لسفر المرأة في الحجّ الفرض ، ولا يشترطون إذن الزّوج للسّفر في الحجّ الفرض .
و - منع الأب ابنه عن المتابعة :
18 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ للأبوين أو أحدهما منع ابنه عن حجّ التّطوّع لا الفرض . وفي رواية عند المالكيّة والفرض أيضاً ، لكن لا يصير عند المالكيّة والحنابلة محصراً بمنعهما ، لما عرف من حصر المالكيّة أسباب الإحصار بما لا يدخل هذا فيه . ومذهب الحنفيّة : يكره الخروج إلى الحجّ إذا كره أحد أبويه وكان الوالد محتاجاً إلى خدمة الولد ، وإن كان مستغنياً عن خدمته فلا بأس . وذكر في السّير الكبير إذا كان لا يخاف عليه الضّيعة فلا بأس بالخروج . وحجّ الفرض أولى من طاعة الوالدين ، وطاعتهما أولى من حجّ النّفل .
ز - العدّة الطّارئة :
19 - والمراد طروء عدّة الطّلاق بعد الإحرام : فإذا أهلّت المرأة بحجّة الإسلام أو حجّة نذر أو نفل ، فطلّقها زوجها ، فوجبت عليها العدّة ، صارت محصرةً ، وإن كان لها محرم ، عند الحنفيّة دون أن تتقيّد بمسافة السّفر . وأمّا المالكيّة فأجروا على عدّة الطّلاق حكم وفاة الزّوج . وقال الشّافعيّة : لو أحرمت بحجّ أو قران بإذنه أو بغيره ، ثمّ طلّقها أو مات ، وخافت فوته لضيق الوقت ، خرجت وجوباً وهي معتدّة ؛ لتقدّم الإحرام . وإن أمنت الفوات لسعة الوقت جاز لها الخروج لذلك ، لما في تعيّن التّأخير من مشقّة مصابرة الإحرام . وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين علّة الطّلاق المبتوت والرّجعيّ ، فلها أن تخرج إليه - يعني الحجّ - في عدّة الطّلاق المبتوت ، وأمّا عدّة الرّجعيّة فالمرأة في الإحصار كالزّوجة .
المنع بعلّة تمنع المتابعة
20 - ومن صوره : الكسر أو العرج - المرض - هلاك النّفقة - هلاك الرّاحلة - العجز عن المشي - الضّلالة عن الطّريق . وتحقّق الإحصار بسبب من هذه الأسباب هو مذهب الحنفيّة . أمّا الجمهور فيقولون إنّها لا تجعل صاحبها محصراً شرعاً ، فإذا حبس بشيء منها لا يتحلّل حتّى يبلغ البيت ، فإن أدرك الحجّ فيها ، وإلاّ تحلّل بأعمال العمرة ، ويكون حكمه حكم ( الفوات ) . انظر مصطلح ( فوات ) الكسر أو العرج :
21 - والمراد بالعرج المانع من الذّهاب والأصل في هذا السّبب ما سبق في الحديث : « من كسر أو عرج فقد حلّ » . المرض :
22 - والمعتبر هنا المرض الّذي لا يزيد بالذّهاب ، بناءً على غلبة الظّنّ ، أو بإخبار طبيب حاذق متديّن . والأصل في الإحصار بالمرض من السّنّة الحديث الّذي سبق فقد ورد في بعض رواياته : « أو مرض » . هلاك النّفقة أو الرّاحلة :
23 - إن سرقت نفقة المحرم في الطّريق بعد أن أحرم ، أو ضاعت ، أو نهبت ، أو نفدت ، إن قدر على المشي فليس بمحصر ، وإن لم يقدر على المشي فهو محصر ، على ما في التّجنيس . العجز عن المشي :
24 - إن أحرم وهو عاجز عن المشي ابتداءً من أوّل إحرامه ، وله قدرة على النّفقة دون الرّاحلة ، فهو محصر حينئذ . والضّلالة عن الطّريق :
25 - أي طريق مكّة أو عرفة . فمن ضلّ الطّريق فهو محصر .
أحكام الإحصار
تندرج أحكام الإحصار في أمرين : التّحلّل ، وما يجب على المحصر بعد التّحلّل .
التّحلّل
تعريف التّحلّل :
26 - التّحلّل لغةً : أن يفعل الإنسان ما يخرج به من الحرمة . واصطلاحاً : هو فسخ الإحرام ، والخروج منه بالطّريق الموضوع له شرعاً .
جواز التّحلّل للمحصر :(25/4)
27 - إذا تحقّق للمحرم وصف الإحصار فإنّه يجوز له التّحلّل . وهذا الحكم متّفق عليه بين العلماء ، كلّ حسب الأسباب الّتي يعتبرها موجبةً لتحقّق الإحصار الشّرعيّ . والأصل في الإحرام وجوب المضيّ على المحرم في النّسك الّذي أحرم به ، وألاّ يخرج من إحرامه إلاّ بتمام موجب هذا الإحرام ، لقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . لكن جاز التّحلّل للمحصر قبل إتمام موجب إحرامه استثناءً من هذا الأصل ، لما دلّ عليه الدّليل الشّرعيّ . والدّليل على جواز التّحلّل قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . وجه الاستدلال بالآية : أنّ الكلام على تقدير مضمر ، ومعناه واللّه أعلم ، فإن أحصرتم عن إتمام الحجّ أو العمرة ، وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما تيسّر من الهدي . والدّليل على هذا التّقدير أنّ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي ، ألا ترى أنّ له أن لا يتحلّل ويبقى محرماً كما كان ، إلى أن يزول المانع ، فيمضي في موجب الإحرام . ومن السّنّة : « فعله صلى الله عليه وسلم فقد تحلّل وأمر أصحابه بالتّحلّل عام الحديبية حين صدّهم المشركون عن الاعتمار بالبيت العتيق » ، كما وردت الأحاديث الصّحيحة السّابقة .
المفاضلة بين التّحلّل ومصابرة الإحرام :
28 - أطلق الحنفيّة الحكم على المحصر أنّه " جاز له التّحلّل " وأنّه رخصة في حقّه ، حتّى لا يمتدّ إحصاره ، فيشقّ عليه ، وأنّ له أن يبقى محرماً . يرجع إلى أهله بغير تحلّل ويعتبر محرماً حتّى يزول الخوف . وقال المالكيّة إن منعه بعض ما ذكر من أسباب الإحصار الثّلاثة المعتبرة عندهم ، عند إتمام حجّ ، بأن أحصر عن الوقوف والبيت معاً ، أو عن إكمال عمرة ، بأن أحصر عن البيت أو السّعي ، فله التّحلّل بالنّيّة ، ممّا هو محرم به ، في أيّ محلّ كان ، قارب مكّة أو لا ، دخلها أو لا . وله البقاء لقابل أيضاً ، إلاّ أنّ تحلّله أفضل . أمّا من منع عن إتمام نسكه بغير الأسباب الثّلاثة ( العدوّ والفتنة والحبس ) كالمرض ، فإن قارب مكّة كره له إبقاء إحرامه بالحجّ لقابل ، ويتحلّل بفعل عمرة . أمّا الشّافعيّة ففرّقوا بين حالي اتّساع الوقت وضيقه : فإن كان الوقت واسعاً فالأفضل أن لا يعجّل التّحلّل ، فربّما زال المنع فأتمّ الحجّ ، ومثله العمرة ، وإن كان الوقت ضيّقاً فالأفضل تعجيل التّحلّل ؛ لئلاّ يفوت الحجّ . وذلك ما لم يغلب على ظنّ المحرم المحصر إدراكه بعد الحصر ، أو إدراك العمرة في ثلاثة أيّام فيجب الصّبر كما سبق . وأطلق الحنابلة فقالوا " المستحبّ له الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر ، فمتى زال قبل تحلّله فعليه المضيّ لإتمام نسكه . والحاصل أنّ جواز التّحلّل متّفق عليه ، إنّما اختلفوا في المفاضلة بينه وبين البقاء على الإحرام ، فإن اختار المحصر التّحلّل تحلّل متى شاء ، إذا صنع ما يلزمه للتّحلّل ، ممّا سيأتي ذكره في موضعه . وهذا الحكم سواء فيه المحصر عن الحجّ ، أو عن العمرة ، أو عنهما معاً ، عند عامّة العلماء .
التّحلّل من الإحرام الفاسد :
29 - يجوز للمحرم الّذي فسد إحرامه - إذا أحصر - أن يتحلّل من إحرامه الفاسد ، فإذا جامع المحرم بالحجّ جماعاً مفسداً ثمّ أحصر تحلّل ، ويلزمه دم للإفساد ، ودم للإحصار ، ويلزمه القضاء بسبب الإفساد اتّفاقاً هنا ؛ لأنّ الخلاف في القضاء هو في الإحصار بعد الإحرام الصّحيح . فلو لم يتحلّل حتّى فاته الوقوف ، ولم يمكنه الطّواف بالكعبة ، تحلّل في موضعه تحلّل المحصر ، ويلزمه ثلاثة دماء : دم للإفساد ، ودم للفوات ، ودم للإحصار . فدم الإفساد بدنة ، والآخران شاتان ، ويلزمه قضاء واحد . لكن عند المالكيّة يكفيه في الصّورة الأولى هدي واحد هو هدي الإفساد : بدنة ؛ لأنّه لا هدي على المحصر عند المالكيّة . وعليه في الصّورة الثّانية هديان عند الحنفيّة والمالكيّة : هدي الإفساد وهدي الإحصار عند الحنفيّة ؛ لأنّه لا دم عندهم للفوات ، وهدي الإفساد . وهدي الفوات عند المالكيّة .
البقاء على الإحرام :
30 - إن اختار المحصر البقاء على الإحرام ومصابرته حتّى يزول المانع فله بالنّسبة للحجّ حالان : الحالة الأولى : أن يتمكّن من إدراك الحجّ بإدراك الوقوف بعرفة ، فبها ونعمت . الحالة الثّانية : أن لا يتمكّن من إدراك الحجّ ، بأن يفوته الحجّ لفوات الوقوف بعرفة . فاتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يتحلّل تحلّل فوات الحجّ ، بأن يؤدّي أعمال العمرة . ثمّ اختلفوا : فقال : الحنفيّة لا دم عليه لأنّ ذلك هو حكم الفوات وعليه القضاء . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : عليه دم الفوات دون دم الإحصار . والأصحّ أنّه لا قضاء عليه عند الشّافعيّة وعليه القضاء عند الحنابلة ، كما هي القاعدة عندهم : « إنّ من لم يتحلّل حتّى فاته الحجّ لزمه القضاء » . وأمّا المالكيّة فقالوا : لو استمرّ المحصر على إحرامه حتّى دخل وقت الإحرام من العام القابل ، وزال المانع فلا يجوز له أن يتحلّل بالعمرة ليسر ما بقي . فقد أجاز المالكيّة البقاء على الإحرام بعد الفوات ، ولم يلزموه بالتّحلّل بعمرة ، وعندهم يجزئه الإحرام السّابق للحجّ في العام القابل .
31 - وأمّا إذا بقي الإحصار قائماً وفات الحجّ : فعند المالكيّة والشّافعيّة له أن يحلّ تحلّل المحصر ، ولا قضاء عليه . وعليه دم عند الشّافعيّة . وفي قول عليه القضاء . أمّا الحنابلة فأوجبوا عليه القضاء ، فيما يظهر من كلامهم . وأمّا الحنفيّة فحكمه عندهم حكم الفوات ، ولا أثر للحصر .
حكمة مشروعيّة التّحلّل :(25/5)
32 - المحصر كما قال الكاسانيّ محتاج إلى التّحلّل ؛ لأنّه منع عن المضيّ في موجب الإحرام ، على وجه لا يمكنه الدّفع ، فلو لم يجز له التّحلّل لبقي محرماً لا يحلّ له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام ، وفيه من الضّرر والحرج ما لا يخفى ، فمسّت الحاجة إلى التّحلّل والخروج من الإحرام ، دفعاً للضّرر والحرج . وسواء كان الإحصار عن الحجّ ، أو عن العمرة ، أو عنهما عند عامّة العلماء .
ما يتحلّل به المحصر
33 - الإحصار بحسب إطلاق الإحرام الّذي وقع فيه أو تقييده بالشّرط نوعان : النّوع الأوّل : الإحصار في الإحرام المطلق ، وهو الّذي لم يشترط فيه المحرم لنفسه حقّ التّحلّل إذا طرأ له مانع . النّوع الثّاني : الإحصار في الإحرام الّذي اشترط فيه المحرم التّحلّل . التّحلّل بالإحصار في الإحرام المطلق 34 - ينقسم هذا الإحصار إلى قسمين ، حسبما يستخلص من الفقه الحنفيّ : القسم الأوّل : الإحصار بمانع حقيقيّ ، أو شرعيّ لحقّ اللّه تعالى ، لا دخل لحقّ العبد فيه . القسم الثّاني : الإحصار بمانع شرعيّ لحقّ العبد لا لحقّ اللّه تعالى . وقد وجدت نتيجة التّقسيم من حيث الحكم مطابقةً لغير الحنفيّة إجمالاً ، فيما اتّفقوا مع الحنفيّة على كونه إحصاراً .
كيفيّة تحلّل المحصر أوّلاً : نيّة التّحلّل :
35 - إنّ مبدأ نيّة التّحلّل بالمعنى الواسع متّفق عليه كشرط لتحلّل المحصر من إحرامه ، ثمّ وقع الخلاف فيما وراء ذلك : أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد شرطوا نيّة التّحلّل عند ذبح الهدي ، بأن ينوي التّحلّل بذبحه ؛ لأنّ الهدي قد يكون للتّحلّل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميّز بينهما ثمّ يحلق ؛ ولأنّ من أتى بأفعال النّسك فقد أتى بما عليه فيحلّ منها بإكمالها ، فلم يحتج إلى نيّة ، بخلاف المحصور ، فإنّه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها ، فافتقر إلى قصده . كذلك تشترط نيّة التّحلّل عند الحلق ، بناءً على الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الحلق نسك ، وأنّه شرط لحصول التّحلّل ، كما سيأتي ( ف . . . . ) وذلك من الدّليل على شرطيّة النّيّة عند ذبح الهدي . وأمّا المالكيّة فقالوا : نيّة التّحلّل وحدها هي ركن التّحلّل فقط ، بالنّسبة لتحلّل المحصر بالعدوّ ، أو الفتنة ، أو الحبس بغير حقّ . هؤلاء يتحلّلون عند المالكيّة بالنّيّة فحسب ، ولا يغني عنها غيرها ، حتّى لو نحر الهدي وحلق ولم ينو التّحلّل لم يتحلّل . وأمّا الحنفيّة فقالوا : « إذا أحصر المحرم بحجّة أو عمرة ، وكذا إذا كان محرماً بهما ، وأراد التّحلّل - بخلاف من أراد الاستمرار على حاله ، منتظراً زوال إحصاره - يجب عليه أن يبعث الهدي . . . إلخ " فقد علّقوا التّحلّل ببعث الهدي وذبحه على إرادة التّحلّل ، واحترزوا عمّن أراد الاستمرار على حاله . فلو بعث هدياً ، وهو مريد الانتظار لا يحلّ بذبح الهدي إلاّ إذا قصد به التّحلّل .
ثانياً : ذبح الهدي : تعريف الهدي :
36 - الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره . لكن المراد هنا وفي أبحاث الحجّ خاصّةً : ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم والماعز خاصّةً . حكم ذبح الهدي لتحلّل المحصر :
36 م - ذهب جمهور العلماء إلى وجوب ذبح الهدي على المحصر ، لكي يتحلّل من إحرامه ، وأنّه لو بعث به واشتراه ، لا يحلّ ما لم يذبح . وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وقول أشهب من المالكيّة . وذهب المالكيّة إلى أنّ المحصر يتحلّل بالنّيّة فقط ، ولا يجب عليه ذبح الهدي ، بل هو سنّة ، وليس شرطاً . استدلّ الجمهور بقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } على ما سبق . واحتجّ الجمهور أيضاً بالسّنّة : « بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يحلّ يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتّى نحر الهدي » ، فدلّ ذلك على أنّ من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده . وأمّا وجه قول المالكيّة ودليلهم فهو دليل من جهة القياس ، وهو كما ذكره أبو الوليد الباجيّ أنّه تحلّل مأذون فيه ، عار من التّفريط وإدخال النّقص ، فلم يجب به هدي ، أصل ذلك إذا أكمل حجّه .
ما يجزئ من الهدي في الإحصار
37 - يجزئ في الهدي الشّاة عن واحد ، وكذا الماعز باتّفاق العلماء ، وأمّا البدنة وهي من الإبل والبقر ، فتكفي عن سبعة عند الجماهير ومنهم الأئمّة الأربعة . وللتّفصيل ( ر : هدي ) .
ما يجب من الهدي على المحصر :
38 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم بالعمرة مفردةً ، أو الحجّ مفرداً ، إذا أحصر يلزمه ذبح هدي واحد للتّحلّل من إحرامه . أمّا القارن فقد اختلفوا فيما يجب عليه من الهدي للتّحلّل بالإحصار : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحلّ بدم واحد ، حيث أطلقوا وجوب هدي على المحصر دون تفصيل ، والمسألة مشهورة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحلّ إلاّ بدمين يذبحهما في الحرم . ومنشأ الخلاف هو اختلاف الفريقين في حقيقة إحرام القارن . ( انظر مصطلح إحرام ) . فالشّافعيّة ومن معهم : القارن عندهم محرم بإحرام واحد يجزئ عن الإحرامين : إحرام الحجّ وإحرام العمرة ، لذلك قالوا : يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحجّ والعمرة مقرونين ، فألزموه إذا أحصر بهدي واحد . وأمّا الحنفيّة فالقارن عندهم محرم بإحرامين : إحرام الحجّ وإحرام العمرة ، لذلك ألزموه بطوافين وسعيين ، فألزموه إذا أحصر بهديين . وقالوا : الأفضل أن يكونا معيّنين مبيّنين ، هذا لإحصار الحجّ ، وهذا لإحصار العمرة ، كما ألزموه في جنايات الإحرام على القران الّتي يلزم فيها المفرد دم ألزموا القارن بدمين ، وكذا الصّدقة .
مكان ذبح هدي الإحصار :(25/6)
39 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في رواية إلى أنّ المحصر يذبح الهدي حيث أحصر ، فإن كان في الحرم ذبحه في الحرم ، وإن كان في غيره ذبحه في مكانه . حتّى لو كان في غير الحرم وأمكنه الوصول إلى الحرم فذبحه في موضعه أجزأه على الأصحّ في المذهبين . وذهب الحنفيّة - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ ذبح هدي الإحصار مؤقّت بالمكان ، وهو الحرم ، فإذا أراد المحصر أن يتحلّل يجب عليه أن يبعث الهدي إلى الحرم فيذبح بتوكيله نيابةً عنه في الحرم ، أو يبعث ثمن الهدي ليشتري به الهدي ويذبح عنه في الحرم . ثمّ لا يحلّ ببعث الهدي ولا بوصوله إلى الحرم ، حتّى يذبح في الحرم ، ولو ذبح في غير الحرم لم يتحلّل من الإحرام ، بل هو محرم على حاله . ويتواعد مع من يبعث معه الهدي على وقت يذبح فيه ليتحلّل بعده . وإذا تبيّن للمحصر أنّ الهدي ذبح في غير الحرم فلا يجزي . وفي رواية أخرى عن أحمد أنّه إن قدر على الذّبح في أطراف الحرم ففيه وجهان . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه نحر هديه في الحديبية حين أحصر ، وهي من الحلّ . بدليل قوله تعالى : { والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه } . واستدلّوا كذلك من جهة العقل بما يرجع إلى حكمة تشريع التّحلّل من التّسهيل ورفع الحرج ، كما قال في المغني : « لأنّ ذلك يفضي إلى تعذّر الحلّ ، لتعذّر وصول الهدي إلى الحرم » ، أي وإذا كان كذلك دلّ على ضعف هذا الاشتراط . واستدلّ الحنفيّة على توقيت ذبح الهدي بالحرم بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وتوجيه الاستدلال بالآية عندهم من وجهين : الأوّل : التّعبير ب " الهدي » . الثّاني : الغاية في قوله { حتّى يبلغ الهدي محلّه } وتفسير قوله " محلّه " بأنّه الحرم . واستدلّوا بالقياس على دماء القربات ، لأنّ الإحصار دم قربة ، والإراقة لم تعرف قربةً إلاّ في زمان ، أو مكان ، فلا يقع قربةً دونه . أي دون توقيت بزمان ولا مكان ، والزّمان غير مطلوب ، فتعيّن التّوقيت بالمكان .
زمان ذبح هدي الإحصار :
40 - ذهب أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد - على المعتمد في مذهبه - إلى أنّ زمان ذبح الهدي هو مطلق الوقت ، لا يتوقّت بيوم النّحر ، بل أيّ وقت شاء المحصر ذبح هديه ، سواء كان الإحصار عن الحجّ أو عن العمرة . وقال أبو يوسف ومحمّد - وهو رواية عن الإمام أحمد - لا يجوز الذّبح للمحصر بالحجّ إلاّ في أيّام النّحر الثّلاثة ، ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء . استدلّ الجمهور بقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . فقد ذكر الهدي في الآية مطلقاً عن التّوقيت بزمان ، وتقييده بالزّمان نسخ أو تخصيص لنصّ الكتاب القطعيّ فلا يجوز إلاّ بدليل قاطع ولا دليل . واستدلّ أبو يوسف ومحمّد بأنّ هذا دم يتحلّل به من إحرام الحجّ ، فيختصّ بيوم النّحر في الحجّ . وربّما يعتبرانه بدم التّمتّع والقران فيقيسانه عليه ، حيث إنّه يجب أن يذبح في أيّام النّحر . ويتفرّع على هذا الخلاف أنّ المحصر يستطيع على مذهب الجمهور أن يتحلّل متى تحقّق إحصاره بذبح الهدي ، دون مشقّة الانتظار . أمّا على قول الصّاحبين : فلا يحلّ إلى يوم النّحر ؛ لأنّ التّحلّل متوقّف على ذبح الهدي ، ولا يذبح الهدي عندهما إلاّ أيّام النّحر .
العجز عن الهدي :(25/7)
41 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مرويّ عن أبي يوسف من عجز عن الهدي فله بدل يحلّ محلّ الهدي ، وفي تعيين هذا البدل ثلاثة أقوال عند الشّافعيّة . القول الأوّل وهو الأظهر : أنّ بدل الهدي طعام تقوّم به الشّاة ويتصدّق به ، فإن عجز عن قيمة الطّعام صام عن كلّ مدّ يوماً ، وهو قول أبي يوسف ، لكنّه قال : يصوم لكلّ نصف صاع يوماً . ثمّ إذا انتقل إلى الصّيام فله التّحلّل في الحال في الأظهر عند الشّافعيّة بالحلق والنّيّة عنده ؛ لأنّ الصّوم يطول انتظاره ، فتعظم المشقّة في الصّبر على الإحرام إلى فراغه . القول الثّاني : بدل الهدي الطّعام فقط ، وفيه وجهان : الأوّل أن يقوّم كما سبق . الثّاني أنّه ثلاث آصع لستّة مساكين ، مثل كفّارة جناية الحلق . القول الثّالث للشّافعيّة وهو مذهب الحنابلة أنّ بدل الدّم الصّوم فقط . وهو عشرة أيّام كصوم التّمتّع . وقال أبو حنيفة ومحمّد ، وهو قول عند الشّافعيّة وهو المعتمد في المذهب الحنفيّ لا بدل للهدي . فإن عجز المنحصر عن الهدي بأن لم يجده ، أو لم يجد ثمنه ، أو لم يجد من يبعث معه الهدي إلى الحرم بقي محرماً أبداً ، لا يحلّ بالصّوم ، ولا بالصّدقة ، وليسا ببدل عن هدي المحصر . وأمّا المالكيّة فلا يجب الهدي من أصله على المحصر عندهم ، فلا بحث في بدله عندهم . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة القائلون بمشروعيّة البدل لمن عجز عن الهدي بالقياس ، ووجهه " أنّه دم يتعلّق وجوبه بإحرام ، فكان له بدل ، كدم التّمتّع » . وقاسوه أيضاً على غيره من الدّماء الواجبة ، فإنّ لها بدلاً عند العجز عنها ( ر : إحرام ) . واستدلّ الحنفيّة بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وجه دلالة الآية كما قال في البدائع : « نهى اللّه عن حلق الرّأس ممدوداً إلى غاية ذبح الهدي ، والحكم المدوّد إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية ، فيقتضي أن لا يتحلّل ما لم يذبح الهدي ، سواء صام ، أو أطعم ، أو لا » . وبتوجيه آخر : أنّه تعالى " ذكر الهدي ، ولم يذكر له بدلاً ، ولو كان له بدل لذكره ، كما ذكره في جزاء الصّيد » . واستدلّوا بالعقل وذلك " لأنّ التّحلّل بالدّم قبل إتمام موجب الإحرام عرف بالنّصّ ، بخلاف القياس ، فلا يجوز إقامة غيره مقامه بالرّأي » .
ثالثاً : الحلق أو التّقصير :
42 - مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف في رواية عنه - ومحمّد ومالك وهو قول عند الحنابلة الحلق ليس بشرط لتحلّل المحصر من الإحرام . ويحلّ المحصر عند الحنفيّة بالذّبح بدون الحلق ، وإن حلق فحسن ، وصرّح المالكيّة أنّ الحلق سنّة . وقال أبو يوسف في رواية ثانية : إنّه واجب ، ولو تركه لا شيء عليه . أي أنّه سنّة ، وفي رواية ثالثة عن أبي يوسف أنّه قال في الحلق للمحصر : « هو واجب لا يسعه تركه " وهو قوله آخراً ، وأخذ به الطّحاويّ . والأظهر عند الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة أنّ الحلق أو التّقصير شرط للتّحلّل ، وذلك بناءً على القول بأنّ الحلق نسك من مناسك الحجّ والعمرة ، كما هو المشهور الرّاجح في المذهبين ، ولا بدّ من نيّة التّحلّل بالحلق أو التّقصير لما ذكر في النّيّة عند الذّبح . استدلّ أبو حنيفة ومن معه بالقران وهو قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ووجه دلالة الآية : أنّ المعنى : « إن أحصرتم وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما استيسر من الهدي . جعل ذبح الهدي في حقّ المحصر إذا أراد الحلّ كلّ موجب الإحصار ، فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب ، وهذا خلاف النّصّ » . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف : « بفعله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فإنّه حلق ، وأمر أصحابه أن يحلقوا ، ولمّا تباطئوا عظم عليه صلى الله عليه وسلم حتّى بادر فحلق بنفسه ، فأقبل النّاس فحلقوا وقصّروا ، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّهمّ اغفر للمحلّقين قالوا : والمقصّرين ؟ ، فقال والمقصّرين في الثّالثة أو الرّابعة » . ولولا أنّ الحلق نسك ما دعا لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وإذا كان نسكاً وجب فعله كما يجب عند القضاء لغير المحصر . واستدلّ لهم أيضاً بالآية { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . ووجه الاستدلال بها أنّ التّعبير بالغاية يقتضي " أن يكون حكم الغاية بضدّ ما قبلها ، فيكون تقديره ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فإذا بلغ فاحلقوا . وذلك يقتضي وجوب الحلق » .
تحلّل المحصر لحقّ العبد
43 - المحصر لحقّ العبد - على التّفصيل والخلاف السّابق - يكون تحليله على النّحو الآتي : عند الحنفيّة بأن يأتي من له الحقّ في الإحصار عملاً من محظورات الإحرام ناوياً التّحليل كقصّ شعر أو تقليم ظفر أو نحوهما ، ولا يكفي القول ، وعند المالكيّة على الرّاجح : يكون التّحلّل بنيّة المحصر ، فإن امتنع عن التّحلّل قام من كان الإحصار لحقّه بتحليله بنيّته أيضاً . وعند الشّافعيّة والحنابلة للزّوج تحليل زوجته ، وللأب تحليل ابنه ، وللسّيّد تحليل عبده في الأحوال السّابقة . ومعنى التّحليل عندهم على ما ذكروا في الزّوج والسّيّد : أن يأمر الزّوج زوجته بالتّحلّل ، فيجب عليها التّحلّل بأمره ، ويمتنع عليها التّحلّل قبل أمره . وتحلّلها كتحلّل المحصر بالذّبح ثمّ الحلق ، بنيّة التّحلّل فيهما . ولا يحصل التّحلّل إلاّ بما يحصل به تحلّل المحصر عند الشّافعيّة . ويقاس عليه تحليل الأب للابن أيضاً . ولو لم تتحلّل الزّوجة بعد أن أمرها زوجها بالتّحلّل ، فللزّوج أن يستمتع بها ، والإثم عليها .
إحصار من اشترط في إحرامه التّحلّل إذا حصل له مانع(25/8)
معنى الاشتراط والخلاف فيه :
44 - الاشتراط في الإحرام : هو أن يقول المحرم عند الإحرام : « إنّي أريد الحجّ " مثلاً ، أو " العمرة ، فإن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني » . وقد اختلفت المذاهب في مشروعيّة الاشتراط في الإحرام ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الاشتراط في الإحرام غير مشروع ، ولا أثر له في إباحة التّحلّل وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى مشروعيّة الاشتراط في الإحرام ، وأنّ له أثراً في التّحلّل . وتفصيله في مصطلح : ( إحرام ) .
آثار الاشتراط :
45 - أمّا عند الحنفيّة والمالكيّة المانعين لشرعيّة الاشتراط في الإحرام . فإنّ الاشتراط في الإحرام لا يفيد المحرم شيئاً ، ولا يجيز له أن يتحلّل إذا طرأ له مانع عن المتابعة ، من عدوّ ، أو مرض ، فلا يسقط عنه الهدي الّذي يتحلّل به المحصر عند الحنفيّة إذا أراد التّحلّل ، ولا يجزئه عن نيّة التّحلّل الّتي بها يتحلّل عند المالكيّة . ومذهب الشّافعيّة أنّ الاشتراط في الإحرام يفيد المحرم المشترط جواز التّحلّل إذا طرأ له مانع ممّا لا يعتبر سبباً للإحصار عند الشّافعيّة كالمرض ونفاد النّفقة ، وضلال الطّريق ، والأوجه في المرض أن يضبط بما يحصل معه مشقّة لا تحتمل عادةً في إتمام النّسك . ثمّ يراعي في كيفيّة التّحلّل ما شرطه عند الإحرام ، وفي هذا يقول الرّمليّ الشّافعيّ : إن شرطه بلا هدي لم يلزمه هدي ، عملاً بشرطه . وكذا لو أطلق - أي لم يتعرّض لنفي الهدي ولا لإثباته - لعدم شرطه ، ولظاهر خبر ضباعة . فالتّحلّل فيهما يكون بالنّيّة فقط . وإن شرطه بهدي لزمه ، عملاً بشرطه . ولو قال : إن مرضت فأنا حلال ، فمرض صار حلالاً بالمرض من غير نيّة وعليه حملوا خبر أبي داود وغيره بإسناد صحيح : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . وإن شرط قلب حجّه عمرةً بالمرض أو نحوه ، جاز ، كما لو شرط التّحلّل به ، بل أولى ، ولقول عمر لأبي أميّة سويد بن غفلة : حجّ واشترط ، وقل : اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت ، فإن تيسّر ، وإلاّ فعمرة رواه البيهقيّ بسند حسن . ولقول عائشة لعروة : هل تستثني إذا حججت ؟ فقال : ماذا أقول ؟ قالت : قل : اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت ، فإن يسّرته فهو الحجّ ، وإن حبسني حابس فهو عمرة . رواه الشّافعيّ والبيهقيّ بسند صحيح على شرط الشّيخين . فله في ذلك - أي إذا شرط قلب حجّه عمرةً - إذا وجد العذر أن يقلب حجّه عمرةً ، وتجزئه عن عمرة الإسلام . والأوجه أنّه لا يلزمه في هذه الحالة الخروج إلى أدنى الحلّ ولو بيسير ، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء . ولو شرط أن ينقلب حجّه عمرةً عند العذر ، فوجد العذر ، انقلب حجّه عمرةً ، وأجزأته عن عمرة الإسلام ، بخلاف عمرة التّحلّل بالإحصار فإنّها لا تجزئ عن عمرة الإسلام ؛ لأنّها في الحقيقة ليست عمرةً ، وإنّما هي أعمال عمرة . وحكم التّحلّل بالمرض ونحوه حكم التّحلّل بالإحصار . وقال الحنابلة : يفيد الاشتراط عند الإحرام جواز التّحلّل على نحو ما قاله الشّافعيّ ، إلاّ أنّ الحنابلة توسّعوا ، فقالوا : يفيد اشتراط التّحلّل المطلق شيئين : أحدهما : أنّه إذا عاقه عائق من عدوّ ، أو مرض ، أو ذهاب نفقة ، ونحوه أنّ له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى حلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم أي بدلاً عن الدّم - بل يحلّ بالحلق عليه التّحلّل . وهذا يوافق ما قاله الشّافعيّة ، إلاّ أنّ الحنابلة سوّوا في الاشتراط بين الموانع الّتي تعتبر سبباً للإحصار كالعدوّ ، وبين الموانع الّتي لا تعتبر سبباً للإحصار عندهم . أمّا الشّافعيّة فلم يجروا الاشتراط فيما يعتبر سبباً للإحصار . وملحظهم في ذلك أنّ التّحلّل بالإحصار جائز بلا شرط ، فشرطه لاغ . وإذا كان لاغياً ، لا يؤثّر في سقوط الدّم .
تحلّل من أحصر عن الوقوف بعرفة دون الطّواف
46 - هذا لا يعتبر محصراً عند الحنفيّة والحنابلة ، ويعتبر محصراً عند الشّافعيّة والمالكيّة ، ويتحلّل عند جميعهم بعمل عمرة ، على التّفصيل والاعتبار الخاصّ لهذه العمرة ، عند كلّ مذهب ، كما سبق . هذا وإنّ من أحصر عن الوقوف دون الطّواف إذا تحلّل قبل فوات وقت الوقوف بعرفة أجري عليه حكم المحصر . أمّا إن تأخّر في التّحلّل حتّى فات الوقوف أصبح حكمه حكم الفوات لا الحصر ، على ما قرّره المالكيّة . وهذا ينبغي أن يجري عند الشّافعيّ أيضاً . وقد قرّر الحنابلة أن يجري هذا الحكم عندهم إذا لم يفسخ الحجّ إلى عمرة حتّى فاته الحجّ .
تحلّل من أحصر عن البيت دون الوقوف
47 - من أحصر عن البيت دون الوقوف يعتبر محصراً عند الشّافعيّة والحنابلة ، على تفصيل سبق ذكره . وهذا يجب عليه أن يقف بعرفة ثمّ يتحلّل . ويحصل تحلّله بما يتحلّل به المحصر ، وهو الذّبح والحلق بنيّة التّحلّل فيهما . أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يكون محصراً عندهم ، وعليه أن يأتي بطواف الإفاضة ، ويظلّ محرماً بالنّسبة للنّساء حتّى يفيض . وكذا هو عند الحنابلة إذا أحصر عن البيت بعد الرّمي ، على ما سبق بيانه . وكذا لو لم يتحلّل عند الشّافعيّة والحنابلة . ويؤدّي طواف الإفاضة بإحرامه الأوّل ؛ لأنّه ما دام لم يتحلّل التّحلّل الأكبر فإحرامه قائم ، إذ التّحلّل يكون بالطّواف ، ولم يوجد الطّواف ، فيكون الإحرام قائماً ، ولا يحتاج إلى إحرام جديد .
تفريع على شروط تحلّل المحصر
أجزية محظورات الإحرام قبل تحلّل المحصر :(25/9)
48 - يتفرّع على شروط التّحلّل للمحصر أنّ المحصر إذا لم يتحلّل ، ووقع في بعض محظورات الإحرام ، أو تحلّل لكن وقع قبل التّحلّل في شيء من محظورات الإحرام فإنّه يجب عليه من الجزاء ما يجب على المحرم غير المحصر ، باتّفاق المذاهب الأربعة . إلاّ أنّ الحنابلة فيما ذهب إليه أكثرهم وقال المرداويّ : إنّه المذهب . قالوا : من كان محصراً فنوى التّحلّل قبل ذبح الهدي - أو الصّوم عند عدم الهدي - لم يحلّ . لفقد شرطه ، وهو الذّبح أو الصّوم بالنّيّة : أي بنيّة التّحلّل ، ولزم دم لكلّ محظور فعله بعد التّحلّل ، ودم لتحلّله بالنّيّة . فزادوا على الجمهور دماً لتحلّله بالنّيّة ، ووجهه عندهم : أنّه عدل عن الواجب عليه من هدي أو صوم - أي عند عدم الهدي - فلزمه دم .
ما يجب على المحصر بعد التّحلّل
قضاء ما أحصر عنه المحرم قضاء النّسك الواجب الّذي أحصر عنه المحرم :
49 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب على المحصر قضاء النّسك الّذي أحصر عنه إذا كان واجباً ، كحجّة الإسلام ، والحجّ والعمرة المنذورين عند جميعهم ، وكعمرة الإسلام عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يسقط هذا الواجب عنه بسبب الإحصار . وهذا ظاهر ؛ لأنّ الخطاب بالوجوب لا يسقط عن المكلّف إلاّ بأداء ما وجب عليه . لكن الشّافعيّة فصلوا بين الواجب المستقرّ وبين الواجب غير المستقرّ ، فقالوا : « إن كان واجباً مستقرّاً كالقضاء ، والنّذر ، وحجّة الإسلام الّتي استقرّ وجوبها قبل هذه السّنة بقي الوجوب في ذمّته كما كان ، وإنّما أفاده الإحصار جواز الخروج منها ، وإن كان واجباً غير مستقرّ ، وهي حجّة الإسلام في السّنة الأولى من سني الإمكان سقطت الاستطاعة فلا حجّ عليه إلاّ أن تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك . فلو تحلّل بالإحصار ثمّ زال الإحصار والوقت واسع وأمكنه الحجّ من سنته استقرّ الوجوب عليه لوجود الاستطاعة لكن له أن يؤخّر الحجّ عن هذه السّنة لأنّ الحجّ على التّراخي » . 50 - أمّا من أحصر عن نسك التّطوّع فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجب عليه القضاء ، واستدلّوا بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين رجع عن البيت في عام الحديبية لم يأمر أحداً من أصحابه ولا ممّن كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إنّ عمرتي هذه قضاء عن العمرة الّتي حصرت فيها . ولم ينقل ذلك عنه ، وإنّما سمّيت عمرة القضاء وعمرة القضيّة لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قاضى قريشاً وصالحهم في ذلك العام على الرّجوع عن البيت ، وقصده من قابل فسمّيت بذلك عمرة القضيّة . وصرّح ابن رشد من المالكيّة بوجوب القضاء على الزّوجة والسّفيه وعزاه إلى ابن القاسم روايةً عن مالك . وقال الدّردير : يجب القضاء على الزّوجة فقط . وعلّله الدّسوقيّ بأنّ الحجر على الزّوجة ضعيف ؛ لأنّه لحقّ غيرها ، بخلاف الحجر على السّفيه ومن يشبهه لأنّه لحقّ نفسه . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب قضاء النّفل الّذي أحصر عنه المحرم ؛ لأنّ اعتمار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنّما كان قضاءً لتلك العمرة ، ولذلك قيل لها عمرة القضاء . وروي ذلك عن الإمام أحمد . وهي رواية مقابلة للصّحيح .
ما يلزم المحصر في القضاء :
51 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المحصر عن الحجّ إذا تحلّل وقضى فيما يستقبل يجب عليه حجّ وعمرة ، والقارن عليه حجّة وعمرتان . أمّا المعتمر فيقضي العمرة فقط . وعليه نيّة القضاء في ذلك كلّه . وذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ النّسك الّذي وجب فيه القضاء للتّحلّل بالإحصار يلزم فيه قضاء ما فاته بالإحصار فحسب ، إن حجّةً فحجّةً فقط ، وإن عمرةً فعمرةً ، وهكذا . وعليه نيّة القضاء عندهم أيضاً . استدلّ الحنفيّة بما روي عن بعض الصّحابة كابن مسعود وابن عبّاس ، فإنّهما قالا في المحصر بالحجّ : « عليه عمرة وحجّة " وذلك لا يكون إلاّ عن توقيف . وتابعهما في ذلك علقمة ، والحسن ، وإبراهيم ، وسالم ، والقاسم ، ومحمّد بن سيرين . واستدلّ الجمهور بحديث : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . وجه الاستدلال به أنّه لم يذكر العمرة ، ولو كانت واجبةً مع الحجّ لذكرها .
موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة :
52 - موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة لها حالان : الحال الأولى : أن تمنع من الإفاضة وما بعدها . الحال الثّانية : أن تمنع ممّا بعد طواف الإفاضة . سبق البحث فيمن منع من طواف الإفاضة ، هل يكون محصراً أو لا ، مع بيان الخلاف في ذلك . أمّا على القول بأنّه يتحقّق فيه الإحصار إذا استوفى المانع شروط الإحصار فحكم تحلّله حكم تحلّل المحصر ، بكلّ التّفاصيل الّتي سبقت . وأمّا على القول بأنّه لا يتحقّق فيه الإحصار فإنّه يظلّ محرماً حتّى يؤدّي طواف الإفاضة ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة . وعليه جزاء ما فاته من واجبات ، كما سيأتي .
موانع المتابعة بعد طواف الإفاضة :(25/10)
53 - اتّفق العلماء على أنّ الحاجّ إذا منع عن المتابعة بعد أداء الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة فليس بمحصر ، أيّاً كان المانع عدوّاً أو مرضاً أو غيرهما وليس له التّحلّل بهذا الإحصار ؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ما بعد الوقوف والطّواف ، ويجب عليه فداء ترك ما تركه من أعمال الحجّ . فروع : ويتفرّع على هذين الأصلين فروع في المذاهب الفقهيّة هي . 54 - قال الحنفيّة : لو وقف بعرفة ، ثمّ عرض له مانع لا يكون محصراً شرعاً كما تقدّم ، ويبقى محرماً في حقّ كلّ شيء من محظورات الإحرام إن لم يحلق ، وإن حلق فهو محرم في حقّ النّساء لا غير إلى أن يطوف للزّيارة . وإن منع عن بقيّة أفعال حجّه بعد وقوفه حتّى مضت أيّام النّحر فعليه أربعة دماء مجتمعة ، لترك الوقوف بمزدلفة ، والرّمي ، وتأخير الطّواف ، وتأخير الحلق . وعليه دم خامس لو حلق في الحلّ ، بناءً على القول بوجوبه في الحرم ، وسادس لو كان قارناً أو متمتّعاً لفوات التّرتيب ، وعليه أن يطوف للزّيارة ولو إلى آخر عمره ، ويطوف للصّدر إن خلّى بمكّة وكان آفاقيّاً . وقال المالكيّة : لا يحلّ إلاّ بطواف الإفاضة إذا كان قدّم السّعي قبل الوقوف ثمّ حصر بعد ذلك . وأمّا إن كان حصر قبل سعيه فلا يحلّ إلاّ بالإفاضة والسّعي . وعليه هدي واحد للرّمي ومبيت ليالي منًى ونزول مزدلفة إذا تركها للحصر عنها ، كما لو تركها بنسيانها جميعها ، فإنّه يكون عليه هدي واحد . « وكأنّهم لاحظوا أنّ الموجب واحد ، لا سيّما وهو معذور » . وقال الشّافعيّة : إن كان الإحصار بعد الوقوف ، فإن تحلّل فذاك ، وإن لم يتحلّل حتّى فاته الرّمي والمبيت بمنًى فهو فيما يرجع إلى وجوب الدّم لفواتهما كغير المحصر . وقال الحنابلة : إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التّحلّل ؛ لأنّ الحصر يفيده التّحلّل من جميعه فأفاد التّحلّل من بعضه . وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحجّ كالرّمي ، وطواف الوداع ، والمبيت بمزدلفة ، أو بمنًى في لياليها فليس له تحلّل الإحصار ؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ذلك ، ويكون عليه دم لتركه ذلك ، وحجّه صحيح ، كما لو تركه من غير حصر .
زوال الإحصار :
55 - اختلفت المذاهب في الآثار المترتّبة على زوال الإحصار ، فعند الحنفيّة تأتي الأحوال الآتية . الحالة الأولى : أن يزول الإحصار قبل بعث الهدي مع إمكان إدراك الحجّ . والحالة الثّانية : أن يزول الإحصار بعد بعث الهدي ، وهناك متّسع لإدراك الهدي والحجّ جميعاً . ففي هاتين الحالتين يجب عليه المضيّ في موجب إحرامه وأداء النّسك الّذي أحرم به . الحالة الثّالثة : أن لا يقدر على بعث الهدي ولا الحجّ معاً . فلا يلزمه المضيّ ، ويجوز له التّحلّل ، لعدم الفائدة من المضيّ ، فتقرّر الإحصار ، فيتقرّر حكمه . فيصبر حتّى يتحلّل بنحر الهدي في الوقت الّذي واعد عليه . وله أن يتوجّه ليتحلّل بأفعال العمرة ؛ لأنّه فائت الحجّ . فإذا تحلّل يلزمه في القضاء أداء عمرة إضافةً لما فاته ، لما سبق . الحالة الرّابعة : أن يقدر على إدراك الهدي ولا يقدر على إدراك الحجّ . فلا يلزمه المضيّ في أداء الحجّ أيضاً ؛ لعدم الفائدة في إدراك الهدي بدون إدراك الحجّ ، إذ الذّهاب لأجل إدراك الحجّ ، فإذا كان لا يدركه فلا فائدة في الذّهاب ، فكانت قدرته على إدراك الهدي وعدمها بمنزلة واحدة . الحالة الخامسة : أن يقدر على إدراك الحجّ ولا يقدر على إدراك الهدي : قياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أن يلزمه المضيّ ، ولا يجوز له التّحلّل ؛ لأنّه إذا قدر على إدراك الحجّ لم يعجز عن المضيّ في الحجّ ، فلم يوجد عذر الإحصار ، فلا يجوز له التّحلّل ، ويلزمه المضيّ . ووجه الاستحسان أنّا لو ألزمناه التّوجّه لضاع ماله ؛ لأنّ المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا حصل مقصوده . والأولى في توجيه الاستحسان أن نقول : يجوز له التّحلّل ؛ لأنّه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كأنّ الإحصار زال عنه بالذّبح ، فيحلّ بالذّبح عنه ؛ ولأنّ الهدي قد مضى في سبيله ، بدليل أنّه لا يجب الضّمان بالذّبح على من بعث على يده بدنةً ، فصار كأنّه قدر على الذّهاب بعد ما ذبح عنه ، واللّه أعلم . وأمّا المالكيّة فقالوا . أ - من أحصر فلمّا قارب أن يحلّ انكشف العدوّ قبل أن يحلق وينحر فله أن يحلّ ويحلق ، كما لو كان العدوّ قائماً إذا فاته الحجّ في عامه ، وهو أيضاً على بعد من مكّة .
ب - إن انكشف الحصر وكان في الإمكان إدراك الحجّ في عامه فلا يحلّ .
ج - وأمّا إن انكشف الحصر وقد ضاق الوقت عن إدراك الحجّ إلاّ أنّه بقرب مكّة لم يحلّ إلاّ بعمل عمرة ؛ لأنّه قادر على الطّواف والسّعي من غير كبير مضرّة . وأمّا الشّافعيّة فقالوا : أ - إن زال الإحصار وكان الوقت واسعاً بحيث يمكنه تجديد الإحرام وإدراك الحجّ ، وكان حجّه تطوّعاً ، فلا يجب عليه شيء .
ب - وإن كان الوقت واسعاً وكانت الحجّة قد تقدّم وجوبها بقي وجوبها كما كان . والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة ، وله التّأخير .
ج - وإن كانت الحجّة حجّة الإسلام وجبت هذه السّنة بأن استطاع هذه السّنة دون ما قبلها فقد استقرّ الوجوب في ذمّته لتمكّنه ، والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة ، وله التّأخير ؛ لأنّ الحجّ عند الشّافعيّة على التّراخي . انظر مصطلح ( حجّ ) .(25/11)
د - وإن كان الوقت ضيّقاً بحيث لا يمكنه إدراك الحجّ ، أي ولم يستقرّ الوجوب في ذمّته لكونها وجبت هذه السّنة - سقط عنه الوجوب في هذه السّنة ، فإن استطاع بعده لزمه ، وإلاّ فلا . وأمّا الحنابلة فقالوا : أ - إن لم يحلّ المحصر حتّى زال الحصر لم يجز له التّحلّل ؛ لأنّه زال العذر .
ب - إن زال العذر بعد الفوات تحلّل بعمرة ، وعليه هدي للفوات ، لا للحصر ؛ لأنّه لم يحلّ بالحصر .
ج - إن فاته الحجّ مع بقاء الحصر فله التّحلّل به ؛ لأنّه إذا حلّ بالحصر قبل الفوات فمعه أولى ، وعليه الهدي للحلّ ، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات .
د - إن حلّ بالإحصار ثمّ زال الإحصار وأمكنه الحجّ من عامه لزمه ذلك إن قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجّة واجبةً لأنّ الحجّ على الفور ، وإن لم نقل بوجوب القضاء ولم تكن الحجّة واجبةً فلا يجب شيء .
زوال الإحصار بالعمرة :
56 - معلوم أنّ وقت العمرة جميع العمر ، فلا يتأتّى فيها كلّ الحالات الّتي ذكرت في زوال الإحصار بالحجّ . ويتأتّى فيها عند الحنفيّة الأحوال التّالية : الحال الأولى : أن يزول الإحصار قبل البعث بالهدي . وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة ووجهه ظاهر وقد تقدّم . الحال الثّانية : أن يتمكّن بعد زوال الإحصار من إدراك الهدي والعمرة ، وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة أيضاً كما تقدّم . الحال الثّالثة : أن يتمكّن من إدراك العمرة فقط دون الهدي . وهذه حكمها في الاستحسان ألاّ يلزمه التّوجّه ، وفي القياس أن يلزمه التّوجّه . وأمّا المالكيّة فقالوا : أ - إن انكشف العدوّ عن المحصر بالعمرة وكان بعيداً من مكّة وبلغ أن يحلّ فله أن يحلّ .
ب - وإن انكشف العدوّ وكان قريباً من مكّة " ينبغي ألاّ يتحلّل ، لأنّه قادر على فعل العمرة ، كما لو انكشف العدوّ في الحجّ والوقت متّسع » . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فعندهم : أ - إن انصرف العدوّ قبل تحلّل المحصر بالعمرة لم يجز له التّحلّل ، ووجب عليه أداء العمرة .
ب - إن انصرف العدوّ بعد التّحلّل وكانت العمرة الّتي تحلّل عنها واجبةً ، وجب عليه قضاؤها ، لكنّه لا يلزم به في وقت معيّن ؛ لأنّ العمرة غير مؤقّتة .
ج - إن زال الحصر بعد التّحلّل وكانت العمرة تطوّعاً فعلى القول بعدم وجوب قضاء التّطوّع لا شيء عليه .
تفريع على التّحلّل وزوال الإحصار :
أ - ( فرع ) في تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره :
57 - يتفرّع على تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره : أنّه إذا تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ، ثمّ زال الإحصار وفي الوقت متّسع ، فإنّه يقضي الحجّ الفاسد من سنته ، ويلزمه ذلك بناءً على من ذهب إلى أنّ القضاء على الفور . وهذه لطيفة : أن يتمكّن من قضاء الحجّ الفاسد في سنة الإفساد نفسها ، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ في هذه المسألة . وهذا متّفق عليه .
ب - ( فرع ) في الإحصار بعد الإحصار :
58 - إن بعث المحصر بالهدي إلى الحرم ثمّ زال إحصاره ، وحدث إحصار آخر ، فإن علم المحصر أنّه يدرك الهدي حيّاً ، ونوى به التّحلّل من إحصاره الثّاني بعد تصوّر إدراكه جاز وحلّ به ، إن صحّت شروطه ، وإن لم ينو لم يجز أصلاً . وهذا بناءً على مذهب الحنفيّة بوجوب بعث المحصر هديه إلى الحرم ، أمّا عند غيرهم فهو إحصار قبل التّحلّل ، يتحلّل منه بما يتحلّل من الإحصار السّابق واللّه تعالى أعلم .(25/12)
إحلال
التّعريف
1 - الإحلال في اللّغة مصدر أحلّ ضدّ حرّم ، يقال : أحللت له الشّيء ، أي جعلته له حلالاً . ويأتي بمعنًى آخر وهو أحلّ لغة في حلّ ، أي دخل في أشهر الحلّ ، أو جاوز الحرم ، أو حلّ له ما حرم عليه من محظورات الحجّ . ولم يستعمل الفقهاء ، لفظ « إحلال " إلاّ للتّعبير عن معاني غيره من الألفاظ المشابهة مثل " استحلال ، وتحليل ، وتحلّل ، وحلول " فهي الّتي أكثر الفقهاء استعمالها ، لكنّهم استعملوا " الإحلال " بمعنى الإبراء من الدّين أو المظلمة . وأمّا استعمال البعض الإحلال بالمعنى اللّغويّ فيراد به الإطلاقات التّالية : أ - ففي مسألة الخروج من الإحرام عبّر الفقهاء بالتّحلّل ، أمّا التّعبير بالإحلال في هذه المسألة فهو لغويّ . ( ر : تحلّل ) .
ب - وفي مسألة جعل المحرم حلالاً عبّر الفقهاء بالاستحلال ، سواء كان قصداً أو تأويلاً . ( ر : استحلال ) .
ج - وفي المطلّقة ثلاثاً عبّروا بالتّحليل ( ر : تحليل ) .
د - وفي الدّين المؤجّل إذا حلّ عبّروا بالحلول ( ر حلول ) . الحكم الإجماليّ :
2 - يختلف الحكم بحسب اختلاف إطلاق لفظ ( إحلال ) على ما سبق في التّعريف . مواطن البحث :
3 - يرجع في كلّ إطلاق إلى مصطلحه(26/1)
إحياء اللّيل
التّعريف
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً ، ويريد الفقهاء من قولهم : « إحياء اللّيل " قضاء اللّيل أو أكثره بالعبادة ، كالصّلاة والذّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك . وبذلك تكون المدّة هي أكثر اللّيل ، ويكون العمل عامّاً في كلّ عبادة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - قيام اللّيل :
2 - المستفاد من كلام الفقهاء أنّ قيام اللّيل قد لا يكون مستغرقاً لأكثر اللّيل ، بل يتحقّق بقيام ساعة منه . أمّا العمل فيه فهو الصّلاة دون غيرها . وقد يطلقون قيام اللّيل على إحياء اللّيل . فقد قال في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم اللّيل بطاعة ، وقيل ساعةً منه ، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وكلّ واحد منهما قد يسبقه نوم بعد صلاة العشاء وقد لا يسبقه نوم .
ب - التّهجّد :
3 - التّهجّد لا يكون إلاّ بعد نوم . ولكن يطلقه كثير من الفقهاء على صلاة اللّيل مطلقاً .
مشروعيّته :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء اللّيالي الفاضلة الّتي ورد بشأنها نصّ ، كما يندب إحياء أيّ ليلة من اللّيالي ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره » ؛ لأنّ التّطوّع بالعبادة في اللّيل ، كالدّعاء والاستغفار في ساعاته مستحبّ استحباباً مؤكّداً ، وخاصّةً في النّصف الأخير من اللّيل ، ولا سيّما في الأسحار ، لقوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } ، ولحديث جابر مرفوعاً : « إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه اللّه إيّاه » رواه مسلم ، فهو ممّا يدخل في النّصوص الكثيرة الّتي تحضّ على العبادة .
أنواعه
5 - أ - إحياء ليال مخصوصة ورد نصّ بإحيائها كالعشر الأواخر من رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجّة .
ب - إحياء ما بين المغرب والعشاء من كلّ ليلة ، وهذان النّوعان موضوع البحث .
الاجتماع لإحياء اللّيل :
6 - كره الحنفيّة والشّافعيّة الاجتماع لإحياء ليلة من اللّيالي في المساجد غير التّراويح ، ويرون أنّ من السّنّة إحياء النّاس اللّيل فرادى . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكره ذلك ، ويصحّ مع الكراهة . وأجاز الحنابلة إحياء اللّيل بصلاة قيام اللّيل جماعةً ، كما أجازوا صلاته منفرداً ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين ، ولكن كان أكثر تطوّعه منفرداً ، فصلّى بحذيفة مرّةً ، وبابن عبّاس مرّةً ، وبأنس وأمّه مرّةً . وفرّق المالكيّة في الاجتماع على إحياء اللّيل بقيامه بين الجماعة الكثيرة والجماعة القليلة ، وبين المكان المشتهر والمكان غير المشتهر ، فأجازوا - بلا كراهة - اجتماع العدد القليل عليه إن كان اجتماعهم في مكان غير مشتهر ، إلاّ أن تكون اللّيلة الّتي يجتمعون لإحيائها من اللّيالي الّتي صرّح ببدعة الجمع فيها ، كليلة النّصف من شعبان ، وليلة عاشوراء ، فيكره .
إحياء اللّيل كلّه :
7 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بكراهة قيام اللّيل كلّه لحديث عائشة : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتّى الصّباح » . رواه مسلم . واستثنوا إحياء ليال مخصوصة ، لحديث عائشة : « كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا اللّيل كلّه » . متّفق عليه .
كيفيّته
8 - يكون إحياء اللّيل بكلّ عبادة ، كالصّلاة ، وقراءة القرآن والأحاديث ، وسماعها ، وبالتّسبيح والثّناء والصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ويصلّي في إحياء اللّيل ولو ركعتين . والتّفصيل في عدد ما يصلّي وكونه مثنى أو رباع ، موطنه " قيام اللّيل » . وكما يجوز له أن يحيي اللّيل بالصّلاة يجوز له أن يحييه بالدّعاء والاستغفار ، فيستحبّ لمن أحيا اللّيل أن يكثر من الدّعاء والاستغفار في ساعات اللّيل كلّها . وآكده النّصف الأخير ، وأفضله عند الأسحار . وكان أنس بن مالك يقول : أمرنا أن نستغفر بالسّحر سبعين مرّةً . وقال نافع : كان ابن عمر يحيي اللّيل ، ثمّ يقول : يا نافع ، أسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصّلاة . ثمّ يسأل ، فإذا قلت : نعم ، قعد يستغفر . وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السّحر في ناحية المسجد يقول : يا ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي ، فنظرت فإذا هو ابن مسعود .
إحياء اللّيالي الفاضلة :
9 - اللّيالي الفاضلة الّتي وردت الآثار بفضلها هي : ليلة الجمعة ، وليلتا العيدين ، وليالي رمضان ، ويخصّ منها ليالي العشر الأواخر منه ، ويخصّ منها ليلة القدر ، وليالي العشر الأول من ذي الحجّة ، وليلة نصف شعبان ، واللّيلة الأولى من رجب . وحكم إحياء هذه اللّيالي فيما يلي : إحياء ليلة الجمعة :
10 - نصّ الشّافعيّة على كراهة تخصيص ليلة الجمعة بقيام بصلاة ، لما رواه مسلم في صحيحه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين اللّيالي » . أمّا إحياؤها بغير صلاة فلا يكره ، لا سيّما الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّ ذلك مطلوب فيها . ولا يكره إحياؤها مضمومةً إلى ما قبلها ، أو إلى ما بعدها ، أو إليهما ، قياساً على ما ذكروه في الصّوم . وظاهر كلام بعض الحنفيّة ندب إحيائها بغير الصّلاة ؛ لأنّ صاحب مراقي الفلاح ساق حديث : « خمس ليال لا يردّ فيهنّ الدّعاء : ليلة الجمعة ، وأوّل ليلة من رجب ، وليلة النّصف من شعبان ، وليلتا العيد » . ولم يعلّق عليه .
إحياء ليلتي العيد(27/1)
11 - يندب إحياء ليلتي العيدين ( الفطر ، والأضحى ) باتّفاق الفقهاء . لقوله عليه الصلاة والسلام : « من قام ليلتي العيد محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » . وذهب الحنفيّة اتّباعاً لابن عبّاس إلى أنّه يحصل له ثواب الإحياء بصلاة العشاء جماعةً ، والعزم على صلاة الصّبح جماعةً .
إحياء ليالي رمضان
12 - أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ويخصّ منها العشر الأخير ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كان إذا كان العشر الأواخر طوى فراشه ، وأيقظ أهله ، وأحيا ليله » . وذلك طلباً لليلة القدر الّتي هي إحدى ليالي العشر الأخير من رمضان . قال صلى الله عليه وسلم : « اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر » . وكلّ هذا لا خلاف فيه .
إحياء ليلة النّصف من شعبان
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب إحياء ليلة النّصف من شعبان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ، فإنّ اللّه ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السّماء الدّنيا ، فيقول : ألا من مستغفر فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلًى فأعافيه . . . كذا . . . كذا . . . حتّى يطلع الفجر » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يطّلع ليلة النّصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه إلاّ لمشرك أو مشاحن » . وبيّن الغزاليّ في الإحياء كيفيّةً خاصّةً لإحيائها ، وقد أنكر الشّافعيّة تلك الكيفيّة واعتبروها بدعةً قبيحةً ، وقال الثّوريّ هذه الصّلاة بدعة موضوعة قبيحة منكرة .
الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان :
14 - جمهور الفقهاء على كراهة الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان ، نصّ على ذلك الحنفيّة والمالكيّة ، وصرّحوا بأنّ الاجتماع عليها بدعة وعلى الأئمّة المنع منه . وهو قول عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة . وذهب الأوزاعيّ إلى كراهة الاجتماع لها في المساجد للصّلاة ؛ لأنّ الاجتماع على إحياء هذه اللّيلة لم ينقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه . وذهب خالد بن معدان ولقمان بن عامر وإسحاق بن راهويه إلى استحباب إحيائها في جماعة .
إحياء ليالي العشر من ذي الحجّة :
15 - نصّ الحنفيّة والحنابلة على ندب إحياء اللّيالي العشر الأول من ذي الحجّة . لما رواه التّرمذيّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة ، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر » .
إحياء أوّل ليلة من رجب :
16 - ذكر بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة من جملة اللّيالي الّتي يستحبّ إحياؤها أوّل ليلة من رجب ، وعلّل ذلك بأنّ هذه اللّيلة من اللّيالي الخمس الّتي لا يردّ فيها الدّعاء ، وهي : ليلة الجمعة ، وأوّل ليلة من رجب ، وليلة النّصف من شعبان ، وليلتا العيد .
إحياء ليلة النّصف من رجب :
17 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة النّصف من رجب .
إحياء ليلة عاشوراء :
18 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة عاشوراء .
إحياء ما بين المغرب والعشاء : مشروعيّته :
19 - الوقت الواقع بين المغرب والعشاء من الأوقات الفاضلة ، ولذلك شرع إحياؤه بالطّاعات ، من صلاة - وهي الأفضل - أو تلاوة قرآن ، أو ذكر للّه تعالى من تسبيح وتهليل ونحو ذلك . وقد كان يحييه عدد من الصّحابة والتّابعين وكثير من السّلف الصّالح . كما نقل إحياؤه عن الأئمّة الأربعة . وقد ورد في إحياء هذا الوقت طائفة من الأحاديث الشّريفة ، وإن كان كلّ حديث منها على حدة لا يخلو من مقال ، إلاّ أنّها بمجموعها تنهض دليلاً على مشروعيّتها ، منها :
1 - ما روته السّيّدة عائشة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صلّى بعد المغرب عشرين ركعةً بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » .
2 - وعن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات كتب من الأوّابين » . حكمه :
20 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إحياء ما بين المغرب والعشاء مستحبّ . وهو عند الشّافعيّة والمالكيّة مستحبّ استحباباً مؤكّداً . وكلام الحنابلة يفيده . عدد ركعاته :
21 - اختلف في عدد ركعات إحياء ما بين العشاءين تبعاً لما ورد من الأحاديث فيها . فذهب جماعة إلى أنّ إحياء ما بين العشاءين ، يكون بستّ ركعات ، وبه أخذ أبو حنيفة ، وهو الرّاجح من مذهب الحنابلة . واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر السّابق . وفي رواية عند الحنابلة أنّها أربع ركعات ، وفي رواية ثالثة أنّها عشرون ركعةً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أقلّها ركعتان وأكثرها عشرون ركعةً . وذلك جمعاً بين الأحاديث الواردة في عدد ركعاتها . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا حدّ لأكثرها ولكن الأولى أن تكون ستّ ركعات . وتسمّى هذه الصّلاة بصلاة الأوّابين ، للحديث السّابق . وتسمّى صلاة الغفلة . وتسميتها بصلاة الأوّابين لا تعارض ما في الصّحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال " ، لأنّه لا مانع أن تكون كلّ من الصّلاتين صلاة الأوّابين .
صلاة الرّغائب :
22 - ورد خبر بشأن فضل صلاة تسمّى صلاة الرّغائب في أوّل ليلة جمعة من رجب ، بين العشاءين . وممّن ذكره الغزاليّ في الإحياء . وقد قال عنه الحافظ العراقيّ : إنّه موضوع . وقد نبّه الحجّاويّ في الإقناع على أنّ تلك الصّلاة بدعة لا أصل لها .(27/2)
إحياء
التّعريف
1 - الإحياء مصدر " أحيا " وهو جعل الشّيء حيّاً ، أو بثّ الحياة في الهامد ، ومنه قولهم : أحياه اللّه إحياءً ، أي جعله حيّاً ، وأحيا اللّه الأرض ، أي أخصبها بعد الجدب ، جاء في كتاب اللّه تعالى : { واللّه الّذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشور } . ولم يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " إحياء " عن المعنى اللّغويّ ، فقالوا : « إحياء الموات " ، وأرادوا بذلك إنبات الأرض المجدبة ، وقالوا : إحياء اللّيل ، وإحياء ما بين العشاءين ، وأرادوا بذلك شغله بالصّلاة والذّكر ، وعدم تعطيله وجعله كالميّت في عطلته . وقالوا : إحياء البيت الحرام ، وأرادوا بذلك دوام وصله بالحجّ والعمرة ، وعدم الانقطاع عنه كالانقطاع عن الميّت ، وهكذا . وقالوا : إحياء السّنّة وأرادوا إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها . يختلف الإحياء بحسب ما يضاف إليه ، فهناك : أ - إحياء البيت الحرام .
ب - إحياء السّنّة .
ج - إحياء اللّيل .
د - وإحياء الموات . والمراد بإحياء البيت الحرام عند الفقهاء عمارة البيت بالحجّ ، وبالعمرة أيضاً عند بعضهم ، تشبيهاً للمكان المعمور بالحيّ ، ولغير المعمور بالميّت .
( الحكم الإجماليّ )
2 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ إحياء البيت الحرام بالحجّ فرض كفاية كلّ عام على المسلمين في الجملة . وهذا لا يتعارض مع كونه فرض عين في العمر مرّة واحدة على كلّ من استطاع إليه سبيلاً كما هو معلوم من الدّين بالضّرورة ؛ لأنّ المسألة مفروضة فيما إذا لم يحجّ عدد من المسلمين فرضاً ولا تطوّعاً ممّن يحصل بهم الشّعار عرفاً في كلّ عام ، فإنّ الإثم يلحق الجميع ، إذ المقصود الأعظم ببناء الكعبة هو الحجّ ، فكان به إحياؤها ، ولما أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : لو ترك النّاس زيارة هذا البيت عاماً واحداً ما أمطروا . ومثل الحجّ في ذلك العمرة عند الشّافعيّة والتّادليّ من المالكيّة . ولا يغني عنهما الطّواف والاعتكاف والصّلاة ونحو ذلك ، وإن كانت هذه الطّاعات واجبةً أيضاً في المسجد الحرام وجوباً على الكفاية ، فإنّ التّعظيم وإحياء البقعة يحصل بجميع ذلك . وتطبيقاً على هذا فقد نصّ المالكيّة على أنّه يجب على إمام المسلمين أن يرسل جماعةً في كلّ سنة لإقامة الموسم ، فإن لم يكن هناك إمام فعلى جماعة المسلمين . هذا ولم أجد فيما وقفت عليه نصّاً للحنفيّة على ذلك .
( مواطن البحث )
3 - تناول الفقهاء حكم إحياء البيت الحرام بالتّفصيل في أوّل كتاب الجهاد ، لمناسبة حكم الجهاد ، وهو الوجوب الكفائيّ ، حيث تعرّضوا لتعريف الواجب على الكفاية وذكر شيء من فروض الكفايات وأحكامها ، كما ذكره بعضهم في أوّل كتاب الحجّ عند الكلام على حكم الحجّ . والّذين جمعوا أحكام المساجد في تآليف خاصّة ، أو عقدوا في كتبهم فصلاً خاصّاً بأحكام المسجد الحرام ، تعرّضوا له أيضاً كالبدر الزّركشيّ رحمه الله في كتابه : « إعلام السّاجد بأحكام المساجد » .(28/1)
إدراك
التّعريف
1 - يطلق الإدراك في اللّغة ويراد به اللّحوق والبلوغ في الحيوان ، والثّمر ، والرّؤية . واسم المصدر منه الدّرك بفتح الرّاء . والمدرك بضمّ الميم يكون مصدراً واسم زمان ومكان ، تقول : أدركته مدركاً ، أي إدراكاً ، وهذا مدركه ، أي موضع إدراكه أو زمانه . وقد استعمل الفقهاء الإدراك في هذه المعاني اللّغويّة ، ومن ذلك قولهم : أدركه الثّمن ، أي لزمه ، وهو لحوق معنويّ ، وأدرك الغلام : أي بلغ الحلم ، وأدركت الثّمار : أي نضجت . والدّرك بفتحتين ، وسكون الرّاء لغة فيه : اسم من أدركت الشّيء ، ومنه ضمان الدّرك . ويطلق بعض الفقهاء الإدراك ويريد به الجذاذ . وقد استعمل الأصوليّون والفقهاء ( مدارك الشّرع ) بمعنى مواضع طلب الأحكام ، وهي حيث يستدلّ بالنّصوص ، كالاجتهاد ، فإنّه مدرك من مدارك الشّرع .
( الألفاظ ذات الصّلة )
اللاّحق والمسبوق :
2 - يفرّق بعض الفقهاء بين المدرك للصّلاة مثلاً واللاّحق بها والمسبوق ، مع أنّ الإدراك واللّحاق في اللّغة مترادفان . فالمدرك للصّلاة من صلاّها كاملةً مع الإمام ، أي أدرك جميع ركعاتها معه ، سواء أدرك التّحريمة أو أدركه في جزء من ركوع الرّكعة الأولى . واللاّحق من فاتته الرّكعات كلّها أو بعضها بعذر بعد اقتدائه . أمّا المسبوق فهو من سبقه الإمام بكلّ الرّكعات أو بعضها .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الحكم الإجماليّ للإدراك تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة ، فاستعماله الأصوليّ سبقت الإشارة إليه عند الكلام عن مدارك الشّريعة ، وتفصيله في الملحق الأصوليّ . أمّا الاستعمال الفقهيّ فيصدق على أمور عدّة . فإدراك الفريضة : اللّحوق بها وأخذ أجرها كاملاً عند إتمامها على الوجه الأكمل ، مع الخلاف بأيّ شيء يكون الإدراك . وإدراك فضيلة صلاة الجماعة عند جمهور الفقهاء يكون باشتراك المأموم مع الإمام في جزء من صلاته ، ولو آخر القعدة الأخيرة قبل السّلام ، فلو كبّر قبل سلام إمامه فقد أدرك فضل الجماعة . أمّا المالكيّة فعندهم تدرك الصّلاة ويحصل فضلها بإدراك ركعة كاملة مع الإمام .
4 - وفي المعاملات نجد في الجملة القاعدة التّالية : وهي أنّ من أدرك عين ماله عند آخر فهو أحقّ به من كلّ أحد ، إذا ثبت أنّه ملكه بالبيّنة ، أو صدّقه من في يده العين . ويندرج تحت هذه القاعدة مسألة ( ضمان الدّرك ) وهو الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع . فعند جمهور الفقهاء يصحّ ضمان الدّرك ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من وجد عين ماله عند رجل فهو أحقّ به ، ويتبع البيع من باعه » ، ولكون الحاجة تدعو إليه . مواطن البحث :
5 - يبحث الفقهاء مصطلح ( إدراك ) في كثير من المواطن . فمسألة إدراك الصّلاة بحثت في الصّلاة عند الحديث عن إدراك ركعة في آخر الوقت : ( إدراك الفريضة ، صلاة الجمعة ، صلاة الجماعة ، صلاة الخوف ) ، ومسألة إدراك الوقوف بعرفة في الحجّ عند الحديث عن الوقوف بعرفة ، ومسألة زكاة الثّمرة إذا أدركت في الزّكاة عند الحديث عن زكاة الثّمار ، وضمان الدّرك عند الشّافعيّة في الضّمان ، وعند المالكيّة في البيع ، وعند الحنفيّة في الكفالة ، أمّا الحنابلة ويسمّونه عهدة المبيع - فبحثوه في السّلم ، عند الحديث عن أخذ الضّمان على عهدة المبيع ، ومسألة إدراك الغلام والجارية في الحجر ، عند الحديث عن بلوغ الغلام ، ومسألة بيع الثّمر على الشّجر قبل الإدراك وبعده في المساقاة ، عند الحديث عن إدراك الثّمر ، ومسألة إدراك الصّيد حيّاً في الصّيد والذّبائح .(29/1)
إرَادَةٌ
إرَادَةٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْإِرَادَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَشِيئَةُ . وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إلَى الشَّيْءِ وَالِاتِّجَاهِ إلَيْهِ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - النِّيَّةُ : 2 - إذَا كَانَتْ الْإِرَادَةُ مَا سَبَقَ , فَإِنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ , وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ : عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إيجَادِ الْفِعْلِ جَزْمًا وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ يُلْحَظُ فِي النِّيَّةِ ارْتِبَاطُهَا بِالْعَمَلِ , وَهِيَ بِغَيْرِ هَذَا الِارْتِبَاطِ لَا تُسَمَّى نِيَّةً , بَيْنَمَا لَا يُلَاحَظُ ذَلِكَ فِي الْإِرَادَةِ . ب - الرِّضَا : 3 - الرِّضَا هُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْفِعْلِ وَالِارْتِيَاحُ إلَيْهِ , فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَا , فَقَدْ يُرِيدُ الْمَرْءُ شَيْئًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ - أَيْ لَا يَرْتَاحُ إلَيْهِ وَلَا يُحِبُّهُ - وَمِنْ هُنَا كَانَ تَفْرِيقُ عُلَمَاءِ الْعَقِيدَةِ بَيْنَ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ , وَكَذَلِكَ تَفْرِقَةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهِ . ج - الِاخْتِيَارُ : 4 - الِاخْتِيَارُ لُغَةً : تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ . وَاصْطِلَاحًا : الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ أَنَّهَا تُتَّجَهُ إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ , وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : 5 - أ - لَا تُعْتَبَرُ الْإِرَادَةُ صَحِيحَةً إلَّا إذَا صَدَرَتْ عَنْ ذِي أَهْلِيَّةٍ وَقَدْ تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ , عِنْدَمَا حَكَمُوا بِفَسَادِ تَبَرُّعَاتِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ , وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَنَحْوِهِمْ , وَاعْتَبَرُوا إرَادَتَهُمْ الصَّادِرَةَ بِذَلِكَ لَاغِيَةً لِصُدُورِهَا عَنْ غَيْرِ ذِي أَهْلِيَّةٍ , أَوْ عَنْ مُقَيَّدِ الْأَهْلِيَّةِ , أَوْ نَاقِصِهَا . ب الْأَصْلُ فِي الْإِرَادَةِ أَنْ تَصْدُرَ عَنْ الْأَصِيلِ , وَلَكِنْ قَدْ تَنُوبُ عَنْ إرَادَةِ الْأَصِيلِ إرَادَةُ غَيْرِهِ , كَمَا فِي الْوَكَالَةِ , حَيْثُ تَنُوبُ إرَادَةُ الْوَكِيلِ عَنْ إرَادَةِ الْمُوَكِّلِ , كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . وَقَدْ تَنُوبُ إرَادَةُ غَيْرِ الْأَصِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ جَبْرًا كَالْوِلَايَةِ أَوْ الْوِصَايَةِ فَيَلْزَمُ الْأَصِيلَ بِمَا أَمْضَاهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ فِي الْجُمْلَةِ , وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهُ فِي مُصْطَلَحِ ( إجْبَارٌ ) .
مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْإِرَادَةِ : 6 - الْأَصْلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْ أَهْلِهِ , وَتَقُومُ مَقَامَهُ الْإِشَارَةُ مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ اللَّفْظِ , أَوْ الرِّسَالَةُ , أَوْ السُّكُوتُ , أَوْ التَّعَاطِي , أَوْ الْقَرَائِنُ الْقَوِيَّةُ . وَذَلِكَ مَنْثُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ شَتَّى : كَالطَّلَاقِ , وَالنِّكَاحِ , وَالْبُيُوعِ , وَمِنْ هُنَا اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ كَعِبَارَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ .
الْإِرَادَةُ وَالتَّصَرُّفَاتُ : 7 - هُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ لَا تُنْتِجُ آثَارَهَا إلَّا بِمُطَابَقَةِ الْقَبُولِ لِلْإِيجَابِ , كَالْعُقُودِ , لِأَنَّ الْعَقْدَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَقَدَ طَرَفَيْ الْحَبْلِ , وَقَدْ شَبَّهَ الْفُقَهَاءُ الْعَقْدَ بِالْحَبْلِ , لِاحْتِيَاجِهِ إلَى طَرَفَيْنِ , وَبِالتَّالِي إلَى إرَادَتَيْنِ , نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعَ , وَالْإِجَارَةَ , وَالرَّهْنَ , وَالصُّلْحَ , وَالشَّرِكَةَ , وَالْمُضَارَبَةَ , وَالْمُزَارَعَةَ , وَالنِّكَاحَ , وَالْخُلْعَ , وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ تُنْتِجُ آثَارَهَا بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ : النَّوْعُ الْأَوَّلُ : مَا لَا تَرِدُ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِالرَّدِّ كَالْوَقْفِ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . النَّوْعُ الثَّانِي : مَا تَرِدُ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِالرَّدِّ , كَالْإِقْرَارِ , وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَيْضًا .
8 - إنَّ إرَادَةَ الْعَاقِدَيْنِ تُنْشِئُ الْعَقْدَ , وَالْإِرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ تُنْشِئُ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرَ الْعَقْدِيَّةِ . أَمَّا أَحْكَامُ الْعُقُودِ , وَآثَارُهَا فَإِنَّهَا مِنْ تَرْتِيبِ الشَّارِعِ لَا الْعَاقِدِ . 9 - إذَا وَقَعَ فِي تَصَرُّفٍ مَا الْغَلَطُ أَوْ التَّغْرِيرُ أَوْ التَّدْلِيسُ أَوْ الْإِكْرَاهُ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلْإِبْطَالِ فِي الْجُمْلَةِ , بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي إرَادَتِهِ .
إرَاقَةٌ(30/1)
إرَاقَةٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْإِرَاقَةُ فِي اللُّغَةِ : الصَّبُّ , يُقَالُ : أَرَاقَ الْمَاءَ أَيْ صَبَّهُ . وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ " إرَاقَةٍ " اسْتِعْمَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةً , كُلُّهَا تَعُودُ لِمَعْنَى الصَّبِّ , فَيَقُولُونَ : إرَاقَةُ الْخَمْرِ , وَإِرَاقَةُ الدَّمِ , وَكُلُّهَا بِمَعْنًى . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : أ - إرَاقَةُ الدَّمِ : 2 - اعْتَبَرَ الشَّارِعُ إرَاقَةَ دَمِ الْأَنْعَامِ قُرْبَةً بِذَاتِهَا فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ , قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : " وَالذَّبَائِحُ الَّتِي هِيَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى , وَعِبَادَةٌ ثَلَاثَةٌ : الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيَّةُ وَالْعَقِيقَةُ " . وَقَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ : لَا يَجُوزُ فِي الْهَدَايَا إلَّا مَا جَازَ فِي الضَّحَايَا , لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَعَلَّقَتْ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ " . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِرَاقَةِ غَيْرُهَا , حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِالْأُضْحِيَّةِ أَوْ الْهَدْيِ أَوْ شَاةِ الْعَقِيقَةِ قَبْلَ ذَبْحِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ أَوْ الْهَدْيِ أَوْ الْعَقِيقَةِ . وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَضَاحِيِّ , وَفِي الْحَجِّ . كَمَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ إرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةً عِنْدَمَا تَكُونُ وَسِيلَةً لِتَحْقِيقِ الْخَيْرِ , كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي وُجُوبِ قِتَالِ الْكَافِرِينَ وَالْبُغَاةِ , وَقَتْلِهِمْ إزَالَةً لِطُغْيَانِهِمْ , وَإِعْلَاءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ , حَتَّى إذَا مَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ الْخَيْرُ بِغَيْرِ إرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَجَبَ أَلَّا يُلْجَأَ إلَيْهِ , وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ الْقِتَالُ وَالْقَتْلُ إذَا مَا أَجَابُوا أَهْلَ الْحَقِّ إلَى الِانْضِوَاءِ تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي كِتَابَيْ الْجِهَادِ وَالْبُغَاةِ . وَكَمَا هُوَ الْحَالُ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا , لِيَرْتَدِعَ النَّاسُ عَنْ الطُّغْيَانِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } . وَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ إرَاقَةَ الدَّمِ حَرَامًا إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَلَمْ تَكُنْ لِغَرَضٍ مَشْرُوعٍ , وَلِذَلِكَ حَرَّمَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ ظُلْمًا , وَحَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُؤْذِي لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ . وَحَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ إذَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ , كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ . وَاعْتَبَرَ الشَّارِعُ إرَاقَةَ الدَّمِ مُبَاحَةً لِدَفْعِ صِيَالِ إنْسَانٍ عَلَى إنْسَانٍ , أَوْ لِحُصُولِهِ عَلَى مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَوْتَ , إنْ لَمْ يُمْكِنْ الْحُصُولُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِرَاقَةِ دَمِ مَنْ يَمْنَعُهُ مَا يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ مِمَّا هُوَ فَائِضٌ عَنْ حَاجَتِهِ , كَمَا تُبَاحُ إرَاقَةُ دَمِ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي . وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَبْوَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ , كَالصِّيَالِ , وَالْجِنَايَاتِ , وَالْحَجِّ عِنْدَ حَدِيثِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ .
ب - إرَاقَةُ النَّجَاسَاتِ : 3 - إرَاقَةُ النَّجَاسَةِ إتْلَافٌ لَهَا , وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ أَوْ اضْطِرَارٌ إلَيْهَا , وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى إرَاقَتِهَا تَرِدُ عَلَى إتْلَافِهَا , وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهُ تَحْتَ مُصْطَلَحِ : " إتْلَافٌ " .
ج - إرَاقَةُ الْمَنِيِّ : 4 - يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ عَنْ إرَاقَةِ الْمَنِيِّ خَارِجَ الْفَرْجِ عِنْدَ الْوَطْءِ بِالْعَزْلِ . وَهُوَ جَائِزٌ عَنْ الْحُرَّةِ بِإِذْنِهَا , وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِذْنِ عَنْ الْأَمَةِ فِي الْجُمْلَةِ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : " عَزْلٌ " . وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ عَنْهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
أَرَاكٌ اُنْظُرْ : اسْتِيَاكٌ
إرْبَةٌ(30/2)
إرْبَةٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الْإِرْبَةُ لُغَةً : الْحَاجَةُ , وَالْجَمْعُ الْإِرَبُ . يُقَالُ : أَرِبَ الرَّجُلُ إلَى الشَّيْءِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ فَهُوَ آرِبٌ . وَاصْطِلَاحًا : الْحَاجَةُ إلَى النِّسَاءِ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ : 2 - قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : قِيلَ : هُمْ الَّذِينَ يَتْبَعُونَكُمْ لِيَنَالُوا مِنْ فَضْلِ طَعَامِكُمْ , وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى النِّسَاءِ , لِأَنَّهُمْ بُلْهٌ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيْئًا , أَوْ شُيُوخٌ صُلَحَاءُ إذَا كَانُوا مَعَهُنَّ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْعِنِّينَ وَمَنْ شَاكَلَهُمَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إرْبَةٌ فِي نَفْسِ الْجِمَاعِ , وَيَكُونُ لَهُ إرْبَةٌ قَوِيَّةٌ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ التَّمَتُّعِ , وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ . فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ عَلَى مَنْ الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا إرْبَةَ لَهُ فِي سَائِرِ وُجُوهِ التَّمَتُّعِ , إمَّا لِفَقْدِ شَهْوَةٍ , وَإِمَّا لِفَقْدِ الْمَعْرِفَةِ , وَإِمَّا لِلْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ , فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ بِهِمْ الْفَاقَةُ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ وَالصَّبِيُّ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الشَّيْخُ , وَسَائِرُ مَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ , وَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْكُلِّ فِي ذَلِكَ . عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي - كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ - أَنْ يَشْمَلَ ذَلِكَ ( الصَّبِيَّ ) , لِأَنَّهُ أُفْرِدَ بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ . وَهُوَ قوله تعالى : { مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ : 3 - الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخَصِيَّ وَالْمَجْبُوبَ وَالشَّيْخَ وَالْعَبْدَ وَالْفَقِيرَ وَالْمُخَنَّثَ وَالْمَعْتُوهَ وَالْأَبْلَهَ فِي النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ كَالْفَحْلِ ( أَيْ كَصَاحِبِ الْإِرْبَةِ ) لِأَنَّ الْخَصِيَّ قَدْ يُجَامِعُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ , وَالْمَجْبُوبُ يَتَمَتَّعُ وَيُنْزِلُ , وَالْمُخَنَّثُ فَحْلٌ فَاسِقٌ , وَأَمَّا الْمَعْتُوهُ وَالْأَبْلَهُ فَفِيهِمَا شَهْوَةٌ , وَقَدْ يَحْكِيَانِ مَا يَرَيَانِهِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ : حُكْمُ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ حُكْمُ الْمَحَارِمِ فِي النَّظَرِ إلَى النِّسَاءِ , يَرَوْنَ مِنْهُنَّ مَوْضِعَ الزِّينَةِ مِثْلَ الشَّعْرِ وَالذِّرَاعَيْنِ , وَحُكْمُهُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ مِثْلُ الْمَحَارِمِ أَيْضًا لقوله تعالى : { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ } .
أَرَتُّ اُنْظُرْ : أَلْثَغُ
ارْتِثَاثٌ
ارْتِثَاثٌ التَّعْرِيفُ : 1 - الِارْتِثَاثُ فِي اللُّغَةِ : أَنْ يُحْمَلَ الْجَرِيحُ مِنْ الْمَعْرَكَةِ , وَهُوَ ضَعِيفٌ قَدْ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ يُقَالُ : ارْتَثَّ الرَّجُلُ - عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ - أَيْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ رَثِيثًا أَيْ جَرِيحًا وَبِهِ رَمَقٌ , وَيَزِيدُ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ بَعْضَ الْقُيُودِ , فَهُوَ عِنْدَهُمْ : الْخُرُوجُ عَنْ صِفَةِ الْقَتْلَى , وَالصَّيْرُورَةُ إلَى حَالِ الدُّنْيَا , وَالْمُرْتَثُّ هُوَ مَنْ حُمِلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ مُسْتَقِرَّ الْحَيَاةِ , بِأَنْ تَكَلَّمَ , أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ , أَوْ نَامَ , أَوْ بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ , أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفًا , ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 2 - الْمُرْتَثُّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا , فَلَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشُّهَدَاءِ . وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فَهُوَ شَهِيدٌ فِي حَقِّ الثَّوَابِ , حَتَّى إنَّهُ يَنَالَ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ . أَمَّا الْمُرْتَثُّ مِنْ الْبُغَاةِ , أَوْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي الْمَعَارِكِ بَيْنَهُمْ , فَفِيهِ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ مِنْ حَيْثُ الْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ . ر : بُغَاةٌ . ( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 3 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْمُرْتَثِّ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ وَفِي بَابِ الْبُغَاةِ .
ارْتِدَادٌ اُنْظُرْ : رِدَّةٌ
ارْتِزَاقٌ اُنْظُرْ : رِزْقٌ
ارْتِفَاقٌ(30/3)
ارْتِفَاقٌ التَّعْرِيفُ : 1 - مِنْ مَعَانِي الِارْتِفَاقِ لُغَةً : الِاتِّكَاءُ . وَارْتَفَقَ بِالشَّيْءِ انْتَفَعَ بِهِ . وَمَرَافِقُ الدَّارِ : مَصَابُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهَا , كَالْمَطْبَخِ وَالْكَنِيفِ وَفِي الِاصْطِلَاحِ : عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ حَقٌّ مُقَرَّرٌ عَلَى عَقَارٍ لِمَنْفَعَةِ عَقَارٍ آخَرَ . وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ تَحْصِيلُ مَنَافِعَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ , فَالِارْتِفَاقُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , لِأَنَّهُ يَشْمَلُ انْتِفَاعَ الشَّخْصِ بِالْعَقَارِ فَضْلًا عَنْ انْتِفَاعِ الْعَقَارِ بِالْعَقَارِ . وَاَلَّذِي يُسْتَفَادُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صُوَرِ الِارْتِفَاقِ أَنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - الِاخْتِصَاصُ : 2 - الِاخْتِصَاصُ : مَصْدَرُ اخْتَصَصْته بِالشَّيْءِ فَاخْتَصَّ هُوَ بِهِ , وَمَتَى اخْتَصَّ شَخْصٌ بِشَيْءٍ فَقَدْ امْتَنَعَ عَلَى غَيْرِهِ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ , فَالْفَرْقُ , عَدَا شَرْطِ الْإِذْنِ , هُوَ أَنَّ الِارْتِفَاقَ تُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الِانْتِفَاعِ , خِلَافًا لِلِاخْتِصَاصِ , كَمَا أَنَّ الِارْتِفَاقَ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الدَّيْمُومَةُ , أَمَّا الِاخْتِصَاصُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ عَدَمُهَا . ب - ( الْحِيَازَةُ أَوْ الْحَوْزُ ) : 3 - مِنْ مَعَانِي الْحِيَازَةِ أَوْ الْحَوْزُ لُغَةً : الْجَمْعُ وَالضَّمُّ . وَاصْطِلَاحًا : وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ . ج - ( الْحُقُوقُ ) : 4 - الْحُقُوقُ جَمْعُ حَقٍّ , وَالْحَقُّ لُغَةً : الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ . وَاصْطِلَاحًا يَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ بِمُقْتَضَى الشَّرْعِ مِنْ أَجْلِ صَالِحِهِ . وَمِمَّا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ وَمَا يُذْكَرُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ مِنْ قَوْلِهِ بِحُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ : فَحُقُوقُهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَسِيلِ الْمَاءِ وَطَرِيقِ غَيْرِهِ وِفَاقًا , وَمَرَافِقُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَنَافِعُ الدَّارِ , وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَرَافِقُ : هِيَ الْحُقُوقُ . فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَرَافِقُ وَالْحُقُوقُ سَوَاءٌ , وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَرَافِقُ أَعَمُّ , لِأَنَّهَا تَوَابِعُ الدَّارِ مِمَّا يُرْتَفَقُ بِهِ , كَالْمُتَوَضِّئِ , وَالْمَطْبَخِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ , وَحَقُّ الشَّيْءِ تَابِعٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ , كَالطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ فَهُوَ أَخَصُّ . صِفَتُهُ ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : 5 - الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلِارْتِفَاقِ الْإِبَاحَةُ , مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُرْتَفِقِ ضَرَرٌ , أَوْ مَا لَمْ يَتَعَيَّنُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ , أَمَّا الْإِرْفَاقُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لِحَضِّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَيْهِ , حَيْثُ قَالَ : { لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ } وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
أَنْوَاعُهُ مِنْ حَيْثُ قَابِلِيَّةُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ : 6 - الْإِرْفَاقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِزَمَنٍ كَسَنَةٍ , أَوْ عَشْرِ سِنِينَ , أَوْ إلَى الْأَبَدِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ اُتُّبِعَ , وَكَانَ لَازِمًا لِلْمُرْفِقِ , لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِرْفَاقُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأَجَلٍ , وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ قَدْرُ مَا يُعَدُّ ارْتِفَاقًا بَيْنَ الْجِيرَانِ , بِأَنْ يَتْرُكَ مُدَّةً يَنْتَفِعُ فِيهَا عَادَةً أَمْثَالُهُ , وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْإِرْفَاقُ بِالْغَرْزِ , أَوْ فَتْحِ بَابٍ , أَوْ سَقْيِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , كَإِعَادَةِ عَرْصَةٍ لِلْبِنَاءِ . وَيَأْتِي تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الرُّجُوعِ فِي ( ف 24 )
أَسْبَابُ الِارْتِفَاقِ : 7 - يَنْشَأُ الِارْتِفَاقُ عَنْ إذْنِ الشَّارِعِ , وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ , أَوْ الْمُبَاحَاتِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَغَيْرِهِ , أَوْ إذْنِ الْمَالِكِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ , أَوْ بِاقْتِضَاءِ التَّصَرُّفِ بِثُبُوتِ الِارْتِفَاقِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ , وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الِانْتِفَاعَ بِحُقُوقِ الِارْتِفَاقِ , وَقَدْ يَثْبُتُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُشُوئِهِ , وَذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَيْهِ .(30/4)
الِارْتِفَاقُ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَالْأَوْلَوِيَّةُ فِيهِ : 8 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ : يَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْقُعُودِ فِي الْوَاسِعِ مِنْ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيقُ عَلَى أَحَدٍ , وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ , لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ , وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ , فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَالِاجْتِيَازِ . قَالَ أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ ( أَيْ الْأَمَاكِنِ الْمُعَدَّةِ لِلْبَاعَةِ غَيْرِ الدَّائِمِينَ ) غَدْوَةً : فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ . وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ } وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ . . . فَإِنْ قَامَ وَتَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إزَالَتُهُ , لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ , وَإِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِ , لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ زَالَتْ , وَإِنْ قَعَدَ وَأَطَالَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ , وَيَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ . وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَا يُزَالُ , لِأَنَّهُ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ . وَإِنْ اسْتَبَقَ اثْنَانِ إلَيْهِ احْتَمَلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا , وَاحْتَمَلَ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِمَامُ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا . وَإِنْ كَانَ الْجَالِسُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ , وَلَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ تَمْكِينُهُ بِعِوَضٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَبِنَحْوِ ذَلِكَ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ قَالَ الرَّمْلِيُّ : ( وَمَنْ أَلِفَ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ النَّاسَ , أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا , أَوْ عِلْمًا شَرْعِيًّا , أَوْ آلَةً لَهُ , أَوْ لِتَعَلُّمِ مَا ذُكِرَ كَسَمَاعِ دَرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُدَرِّسٍ فَهُوَ كَالْجَالِسِ فِي الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ , لَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يُفِيدَ أَوْ يَسْتَفِيدَ . بَلْ هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الشَّارِعِ لِمُعَامَلَةٍ , لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي مُلَازَمَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَأْلَفَهُ النَّاسُ . وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَطَنًا . . . مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا ذَلِكَ , وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ إذْنُ الْإِمَامِ , وَإِذَا غَابَ الْمُدَرِّسُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِي مَكَانِهِ , حَتَّى لَا تَتَعَطَّلَ مَنْفَعَتُهُ ) . وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ وَانْطَبَقَ عَلَيْهِ شَرْطُهُ , أَوْ فَقِيهٌ إلَى مَدْرَسَةٍ , أَوْ مُتَعَلِّمُ قُرْآنٍ إلَى مَا بُنِيَ لَهُ , أَوْ صُوفِيٌّ إلَى خَانِقَاهُ لَمْ يُزْعَجْ وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ مِنْهُ بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ , وَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ مَتَاعًا وَلَا نَائِبًا . وَمَتَى عَيَّنَ الْوَاقِفُ مُدَّةً لِلْإِقَامَةِ فَلَيْسَ لِلْمُرْتَفِقِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا , إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ , لِأَنَّ الْعُرْفَ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يُرِدْ خُلُوَّ الْمَدْرَسَةِ , وَكَذَا يُعْمَلُ بِالْعُرْفِ فِي كُلِّ شَرْطٍ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ , وَلَا يُزَادُ فِي رِبَاطٍ مُدَّةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ 9 - هَذَا وَقَدْ فَصَّلَ كُلٌّ مِنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبِي يَعْلَى بَيَانَ الِارْتِفَاقِ بِالْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَلَا سِيَّمَا مِنْ حَيْثُ الْحَاجَةُ إلَى إذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ عَدَمُهَا فَقَالَا : وَأَمَّا الْإِرْفَاقُ فَهُوَ مِنْ ارْتِفَاقِ النَّاسِ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ , وَأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ , وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ , وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِيِ وَالْفَلَوَاتِ , وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَفْنِيَةِ الْأَمْلَاكِ , وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ بِالشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ . وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِاجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ فَلَا نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَضَرُورَةِ السَّابِلَةِ فِيهِ . وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ السُّلْطَانُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إصْلَاحُ عَوْرَتِهِ " خَلَلِهِ " وَحِفْظُ مِيَاهِهِ , وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَنُزُولُهُ , وَيَكُونُ السَّابِقُ إلَى الْمَنْزِلِ أَحَقَّ بِحُلُولِهِ مِنْ الْمَسْبُوقِ حَتَّى يَرْتَحِلَ . فَإِنْ وَرَدُوهُ عَلَى سَوَاءٍ وَتَنَازَعُوا فِيهِ , نَظَرَ فِي التَّعْدِيلِ بَيْنَهُمْ بِمَا يُزِيلُ تَنَازُعَهُمْ . وَكَذَلِكَ الْبَادِيَةُ إذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْكَلَأِ وَارْتِفَاقًا بِالْمَرْعَى وَانْتِقَالًا مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ كَانُوا فِيمَا تَرَكُوهُ وَارْتَحَلُوا عَنْهُ(30/5)
كَالسَّابِلَةِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِي تَنَقُّلِهِمْ وَرَعْيِهِمْ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي . أَنْ يَقْصِدُوا بِنُزُولِهِمْ بِهَا الْإِقَامَةَ وَالِاسْتِيطَانَ , فَلِلسُّلْطَانِ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا نَظَرٌ يُرَاعَى فِيهِ الْأَصْلَحُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالسَّابِلَةِ مُنِعُوا مِنْهَا قَبْلَ النُّزُولِ وَبَعْدَهُ , وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسَّابِلَةِ رَاعَى الْأَصْلَحَ فِي نُزُولِهِمْ بِهَا أَوْ مَنَعَهُمْ مِنْهَا وَنَقَلَ غَيْرَهُمْ إلَيْهَا , كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ مَصَّرَ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ . نَقَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمِصْرَيْنِ مَنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ , لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ , فَيَكُونَ سَبَبًا لِانْتِشَارِ الْفِتْنَةِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ , كَمَا يُفْعَلُ فِي إقْطَاعِ الْمَوَاتِ مَا يُرَى , فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ حَتَّى نَزَلُوا فِيهِ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ . كَمَا لَا يَمْنَعُ مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إذْنِهِ . وَدَبَّرَهُمْ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ , وَنَهَاهُمْ عَنْ إحْدَاثِ زِيَادَةِ مِنْ بَعْدُ , إلَّا عَنْ إذْنِهِ . رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ , فَكَلَّمَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ فِي الطَّرِيقِ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُمْ , وَاشْتَرَطَ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ وَالظِّلِّ . الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالْأَمْلَاكِ . يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِأَرْبَابِهَا مُنِعَ الْمُرْتَفِقُ مِنْهَا , وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِمْ فَفِي إبَاحَةِ ارْتِفَاقِهِمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُمْ الِارْتِفَاقَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَرْبَابُهَا , لِأَنَّ الْحَرِيمَ مِرْفَقٌ إذَا وَصَلَ أَهْلُهُ إلَى حَقِّهِمْ مِنْهُ سَاوَاهُمْ النَّاسُ فِيمَا عَدَاهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِحَرِيمِهِمْ إلَّا عَنْ إذْنِهِمْ , لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَمْلَاكِهِمْ فَكَانُوا بِهِ أَحَقَّ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَخَصَّ . وَأَمَّا حَرِيمُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ فَيُنْظَرُ , فَإِنْ كَانَ الِارْتِفَاقُ بِهَا مُضِرًّا بِأَهْلِ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ , وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ , لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ بِهَا أَحَقُّ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُضِرًّا جَازَ ارْتِفَاقُهُمْ بِحَرِيمِهَا . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ فَكِلَاهُمَا فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ .(30/6)
حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : 10 - تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُطْلِقُونَ الِارْتِفَاقَ عَلَى مَا يَرْتَفِقُ بِهِ , وَيَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مِنْ التَّوَابِعِ , كَالشُّرْبِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالطَّرِيقِ وَالْمُرُورِ وَالْمَجْرَى وَالْجِوَارِ , وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَصَّ الِارْتِفَاقَ بِمَنَافِعِ الدَّارِ . وَلِكُلٍّ مِنْ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ مُصْطَلَحٌ خَاصٌّ بِهِ , وَلِذَلِكَ فَيَكْفِي هُنَا أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَافِقِ , وَيُبَيِّنَ حُكْمَهُ , عَلَى أَنْ يَتْرُكَ التَّفْصِيلَ لِلْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ . الشُّرْبُ : 11 - الشُّرْبُ : لُغَةً النَّصِيبُ مِنْ الْمَاءِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ النَّصِيبُ مِنْ الْمَاءِ لِلْأَرَاضِيِ لَا لِغَيْرِهَا . وَرُكْنُهُ الْمَاءُ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِهِ . وَشَرْطُ حِلُّهُ أَنْ يَكُونَ ذَا حَظٍّ مِنْ الشُّرْبِ . وَحُكْمُهُ الْإِرْوَاءُ , لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يُفْعَلُ لِأَجْلِهِ . مَسِيلُ الْمَاءِ : 12 - الْمَسِيلُ : الْمَجْرَى وَمَسِيلُ الْمَاءِ مَجْرَاهُ , وَإِذَا كَانَ لِشَخْصٍ مَجْرَى مَاءٍ جَارٍ أَوْ سِيَاقِ مَاءٍ بِحَقٍّ قَدِيمٍ فِي مِلْكِ شَخْصٍ آخَرَ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ مَنْعُهُ . وَإِذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلُ مَطَرٍ عَلَى دَارِ جَارٍ مِنْ قَدِيمٍ فَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ , وَصُورَةُ حَقِّ الْمَسِيلِ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ لَهَا مَجْرَى مَاءٍ فِي أَرْضٍ أُخْرَى . حَقُّ التَّسْيِيلِ : 13 - صُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ لِشَخْصٍ دَارٌ لَهَا حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ عَلَى أَسْطُحَةِ دَارٍ أُخْرَى , أَوْ عَلَى أَرْضِ دَارٍ أُخْرَى الطَّرِيقُ : 14 - فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلَاثَةٌ : طَرِيقٌ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ , وَطَرِيقٌ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ , وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ , وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ التَّصَرُّفِ فِيهَا . حَقُّ الْمُرُورِ : 15 - هُوَ أَنْ يَكُونَ لِشَخْصٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي أَرْضِ شَخْصٍ آخَرَ . وَالْحُكْمُ فِيهِ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ ( 1225 ) مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ : " إذَا كَانَ لِأَحَدٍ حَقُّ الْمُرُورِ فِي عَرْصَةِ آخَرَ , فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمُرُورِ وَالْعُبُورِ " . وَقَدْ نَصَّتْ الْمَادَّةُ ( 1224 ) عَلَى حُكْمٍ عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي الْمَرَافِقِ , هُوَ : " يُعْتَبَرُ الْقِدَمُ فِي حَقِّ الْمُرُورِ وَحَقِّ الْمَجْرَى وَحَقِّ الْمَسِيلِ . يَعْنِي تُتْرَكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَتَبْقَى عَلَى وَجْهِهَا الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الشَّيْءَ الْقَدِيمَ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ بِحُكْمِ الْمَادَّةِ ( 6 ) وَلَا يَتَغَيَّرُ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ . أَمَّا الْقَدِيمُ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ فَلَا اعْتِبَارَ لَهُ . يَعْنِي إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَعْمُولُ بِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ فَلَا اعْتِبَارَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا , وَيُزَالُ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ . مَثَلًا إذَا كَانَ لِدَارٍ مَسِيلٌ قَذَرٌ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ , وَلَوْ مِنْ الْقَدِيمِ , وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمَارَّةِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ يُرْفَعُ , وَلَا اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ " . وَفِي شَرْحِ الْمَادَّةِ قَالَ الْأَتَاسِيُّ : ( وَكَذَا لَا اعْتِبَارَ لِقِدَمِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ , ) وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ خَاصًّا . كَمَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ كَوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى مَقَرِّ نِسَاءِ جَارِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إزَالَةُ الضَّرَرِ , وَإِنْ كَانَ قَدِيمًا , كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ قَائِلًا : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ بَيِّنًا , فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا كَمَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الْجَارَ أَحْدَثَ الْبِنَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْكَوَّةُ تُشْرِفُ عَلَى أَرْضٍ سَبْخَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَةُ الضَّرَرِ . حَقُّ التَّعَلِّي : 16 - نَصَّتْ الْمَادَّةُ ( 1198 ) مِنْ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ ( كُلَّ أَحَدٍ لَهُ التَّعَلِّي عَلَى حَائِطِهِ الْمِلْكِ , وَبِنَاءُ مَا يُرِيدُ , وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ مَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرًا فَاحِشًا ) . وَقَالَ الْأَتَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْمَادَّةِ : ( وَلَا عِبْرَةَ بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ , كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ . وَفِي الْأَنْقِرَوِيَّةِ : لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَائِطِ نَفْسِهِ أَزْيَدَ مِمَّا كَانَ , وَلَيْسَ لِجَارِهِ مَنْعُهُ وَإِنْ بَلَغَ عَنَانَ السَّمَاءِ ) . أَقُولُ : هَذَا مُسَلَّمٌ إذَا كَانَ التَّعَلِّي يَسُدُّ الرِّيحَ وَالشَّمْسَ عَنْ مِثْلِ سَاحَةِ دَارِ الْجَارِ . أَمَّا إذَا كَانَ يَسُدُّهُمَا عَنْ سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُسْقَفِ بِالْخَشَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ . حَقُّ الْجِوَارِ : 17 - نَصَّتْ الْمَادَّةُ ( 1201 ) مِنْ الْمَجَلَّةِ عَلَى أَنَّ : ( مَنْعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ(30/7)
الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ , كَسَدِّ الْهَوَاءِ وَالنَّظَّارَةِ , أَوْ مَنْعِ دُخُولِ الشَّمْسِ لَيْسَ بِضَرَرٍ فَاحِشٍ , لَكِنْ سَدُّ الضِّيَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ ضَرَرٌ فَاحِشٌ . فَإِذَا أَحْدَثَ رَجُلٌ بِنَاءً فَسَدَ بِسَبَبِهِ شُبَّاكُ بَيْتِ جَارِهِ , وَصَارَ بِحَالٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ مَعَهَا مِنْ الظُّلْمَةِ , فَلَهُ أَنْ يُكَلَّفَ رَفْعُهُ لِلضَّرَرِ الْفَاحِشِ , وَلَا يُقَالُ الضِّيَاءُ مِنْ الْبَابِ كَافٍ , لِأَنَّ بَابَ الْبَيْتِ يُحْتَاجُ إلَى غَلْقِهِ لِلْبَرْدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمَحَلِّ شُبَّاكَانِ فَسَدَ أَحَدُهُمَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ فَلَا يَضُرُّ ضَرَرًا فَاحِشًا ) . وَالْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ هُوَ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ , فَإِذَا تَحَقَّقَ مُنِعَ الْعَمَلُ , وَإِلَّا أُبِيحَ . تِلْكَ هِيَ حُقُوقُ الِارْتِفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . 18 - وَيُمْكِنُ إنْشَاءُ حُقُوقِ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى غَيْرِهَا حَسْبَمَا يَجْرِي الْعُرْفُ وَاسْتِعْمَالُ النَّاسِ , فَإِنْ حَدَثَتْ حُقُوقُ ارْتِفَاقٍ أُخْرَى بِالِاسْتِعْمَالِ تُطَبَّقُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ , فَفِي وَسَائِلِ الْمُوَاصَلَاتِ الْعَامَّةِ مَثَلًا كَالْقِطَارَاتِ وَالطَّيَّارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ , وَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا , إمَّا أَنْ يُخَصَّصَ مَقْعَدٌ مُعَيَّنٌ لِكُلِّ رَاكِبٍ أَوْ لَا , فَإِنْ خُصِّصَ لِكُلِّ رَاكِبٍ مَقْعَدٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ تُعَيَّنْ الْمَقَاعِدُ لِلرَّاكِبِينَ . فَلِكُلِّ رَاكِبٍ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَقْعَدِ الَّذِي سَبَقَ إلَيْهِ , وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ . 19 - هَذَا وَقَدْ أَوْرَدَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَحْكَامَ الْمَرَافِقِ السَّابِقَةِ , لَكِنْ تَحْتَ عَنَاوِينَ أُخْرَى غَيْرِ الِارْتِفَاقِ , حَيْثُ أَوْرَدَهَا الْمَالِكِيَّةُ فِي بَابِ ( نَفْيُ الضَّرَرِ وَسَدُّ الذَّرَائِعِ ) , وَأَوْرَدَهَا الشَّافِعِيَّةُ فِي بَابِ ( تَزَاحُمُ الْحُقُوقِ ) وَأَوْرَدَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي بَابِ ( الصُّلْحُ )(30/8)
التَّصَرُّفُ فِي حُقُوقِ الِارْتِفَاقِ : 20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الطَّرِيقَ نَوْعَانِ : نَافِذٌ , وَغَيْرُ نَافِذٍ . فَالطَّرِيقُ النَّافِذُ مُبَاحٌ لَا يُمْلَكُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ , فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فَتْحُ بَابِ مِلْكِهِ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ , فَلِلْعَامَّةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا لَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ . وَأَمَّا غَيْرُ النَّافِذِ فَهُوَ مِلْكُ مَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إلَيْهِ , لَا مَنْ لَاصَقَهُ جُدْرَانُهُمْ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ أَبْوَابِهِمْ إلَيْهِ , فَمَنْ نَفَذَتْ أَبْوَابُهُمْ إلَيْهِ فَهُمْ الْمُلَّاكُ وَهُمْ شُرَكَاءُ فِي ذَلِكَ , وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ إشْرَاعُ جَنَاحٍ فِيهِ , أَوْ بَابٍ لِلِاسْتِطْرَاقِ إلَّا بِرِضَاهُمْ . وَهَذَا فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . 21 - وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الشُّرْبِ , أَوْ بَعْضَهُ , وَبَيْعَ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ , كَحَقِّ الْمُرُورِ , وَحَقِّ الْمَجْرَى , وَحَقِّ التَّعَلِّي , لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ , وَجَوَّزُوا الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ , وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً , إرْفَاقًا بِالنَّاسِ , لَكِنْ اشْتَرَطُوا فِي حَقِّ إجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى السُّطُوحِ وَإِجَارَتِهِ وَإِعَارَتِهِ أَنْ تُعْرَفَ السُّطُوحُ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا وَمِنْهَا , كَمَا أَجَازُوا إعَارَةَ الْعُلُوِّ مِنْ جِدَارٍ وَنَحْوِهِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ , وَإِجَارَتَهُ لِذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُعَارُ وَتُؤْجَرُ , فَإِنْ بَاعَهُ حَقَّ الْبِنَاءِ أَوْ الْعُلُوِّ الْمَعْلُومِ اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ عَلَيْهِ . 22 - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الطُّرُقَ ثَلَاثَةٌ : طَرِيقٌ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ , وَطَرِيقٌ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ , وَطَرِيقٌ خَاصٌّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ , فَالْأَخِيرُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِلَا ذِكْرِهِ أَوْ ذِكْرِ الْحُقُوقِ أَوْ الْمَرَافِقِ . وَالْأَوَّلَانِ يَدْخُلَانِ بِلَا ذِكْرٍ . وَالْمُرَادُ بَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ لَا حَقِّ الْمُرُورِ , فَإِذَا كَانَتْ دَارُهُ دَاخِلَ دَارِ رَجُلٍ , وَكَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي دَارِ ذَلِكَ الرَّجُلِ إلَى دَارِهِ , فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْمُرُورِ فَقَطْ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ رَقَبَةُ الطَّرِيقِ , فَإِذَا بَاعَ رَقَبَةَ الطَّرِيقِ صَحَّ , فَإِنْ حَدَّ فَظَاهِرٌ , وَإِلَّا فَلَهُ بِقَدْرِ عَرْضِ الْبَابِ الْعُظْمَى . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الطَّرِيقِ وَاَلَّذِي يَكُونُ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ , وَالثَّانِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ السِّكَّةِ , وَفِيهِ أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَامَّةِ . وَلَا يُبَاعُ الشُّرْبُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُؤْجَرُ وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهِ إلَّا تَبَعًا لِلْأَرْضِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ , وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى , وَنُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَوَّزَ بَيْعَهُ , ثُمَّ قَالَ : وَيَنْفُذُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ . 23 - أَمَّا حَقُّ الْمَسِيلِ فَإِذَا كَانَ مُحَدَّدًا بِبَيَانِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ , وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَيَّنٍ فَلَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ . أَمَّا بَيْعُ الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيْعِ حَقِّ الْمَسِيلِ مَعَهُ , لَكِنْ يُشْتَرَطُ تَحْدِيدُهُ , وَيَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ بِلَا خَوْفٍ , وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَحْدَهُ فِي رِوَايَةٍ , وَبِهِ أَخَذَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ , قَالَ السَّائِحَانِيُّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى . وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ التَّعَلِّي , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّ الْمُرُورِ , أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْأَرْضِ وَهِيَ مَالٌ هُوَ عَيْنٌ , أَمَّا حَقُّ التَّعَلِّي فَمُتَعَلِّقٌ بِالْهَوَاءِ , وَهُوَ لَيْسَ بِعَيْنٍ , وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ حَقِّ الْمُرُورِ وَحْدَهُ وَصَحَّحَهُ أَبُو اللَّيْثِ . وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ الشُّرْبِ إلَّا تَبَعًا , وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْفَتْحِ , وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ , قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا , لِأَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ , وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ .(30/9)
أَحْكَامُ رُجُوعِ الْمُرْفِقِ وَأَثَرِهِ عَلَى الِارْتِفَاقِ : 24 - الْمُعْتَمَدُ فِي الْإِرْفَاقِ بِالْغَرْزِ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِيهِ بَعْدَ الْإِذْنِ , طَالَ الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ , عَاشَ أَوْ مَاتَ ( الْمُرْتَفِقُ ) , إلَّا أَنْ يَنْهَدِمَ الْجِدَارُ فَلَا يُعِيدُ الْغَرْزَ إلَّا بِإِرْفَاقٍ جَدِيدٍ , وَأَمَّا إعَادَةُ الْعَرْصَةِ لِلْبِنَاءِ فَالرَّاجِحُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ , وَلَوْ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مَا يُرْفَقُ وَيُعَارُ لِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ , وَلَكِنْ عَلَى الْمُرْفِقِ دَفْعُ مَا أَنْفَقَ الْمُرْتَفِقُ أَوْ قِيمَتِهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرْصَةِ وَالْجِدَارِ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الْقَضَاءَ بِإِعَارَةِ الْجِدَارِ إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْإِعَارَةِ ضَرَرٌ , وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ كِنَانَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ . وَمَا ذُكِرَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْصَةِ مِنْ جَوَازِ الرُّجُوعِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ . وَجَعَلَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ زَرْقُونٍ حُكْمَ الْعَرْصَةِ جَارِيًا فِي الْجِدَارِ أَيْضًا , لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ , وَرَجَّحَهُ ابْنُ رِحَالٍ فَقَالَ : قَدْ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجِدَارِ وَالْعَرْصَةِ فِي أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ صَاحِبَيْهِمَا الرُّجُوعَ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَجَلٍ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُرْفِقُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَنْفَقَهُ , وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ يَرْتَفِقُ فِيهَا الْمُعَارُ , فَهُنَاكَ إذَنْ رَأْيَانِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْعَرْصَةِ
إرْثٌ
إرْثٌ التَّعْرِيفُ : 1 - مِنْ مَعَانِي الْإِرْثِ فِي اللُّغَةِ : الْأَصْلُ , وَالْأَمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الْآخَرُ عَنْ الْأَوَّلِ , وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَهَمْزَتُهُ أَصْلُهَا وَاوٌ . وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ وَيُرَادُ مِنْهُ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ . وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْمَوْرُوثُ . وَيُقَارِبُهُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْمَعْنَى التَّرِكَةُ . وَعِلْمُ الْمِيرَاثِ - وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْفَرَائِضِ - هُوَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ فِي التَّرِكَةِ . وَالْإِرْثُ اصْطِلَاحًا : عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَفْضَلُ الدِّينِ الْخُونَجِيُّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا . أَهَمِّيَّةُ الْإِرْثِ : 2 - مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ . وَقَدْ حَثَّ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا . فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه . أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ , وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ , فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ , وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ الرَّجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا } . وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ .
عَلَاقَةُ الْإِرْثِ بِالْفِقْهِ : 3 - وَالْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَنْ الْمِيرَاثِ يُعَنْوِنَونَ لِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْفَرَائِضِ . وَقَدْ أَفْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِكُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ كُتُبِ الْفِقْهِ . وَابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَدْوِينِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ . وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ أَلَّفَ الْكُتُبَ الْخَاصَّةَ بِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ . وَكَانَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ الْمُدَوَّنَةُ فِي هَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ خَالِيَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ مِثْلَ الْمُدَوَّنَةِ لِسَحْنُونٍ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , وَالْأُمِّ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ . وَعَلَى الْخِلَافِ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ كُتُبُ السُّنَّةِ , فَقَدْ شَمِلَتْ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ أَحْكَامِ الْفِقْهِ كَالْمُوَطَّأِ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ , وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ , وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَلَمْ تَبْدَأْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَشْمَلُ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ إلَّا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ , مِثْلَ رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .(30/10)
دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ : 4 - الْمِيرَاثُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَمِثْلُ ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لِأُمٍّ بِشَهَادَةِ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ سَلَمَةَ لَدَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَّثَهَا , وَلَمْ يَرِدْ تَوْرِيثُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِثْلُ إرْثِ الْجَدَّةِ لِأَبٍ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رضي الله عنه الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ الْإِجْمَاعِ , وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ .
التَّدَرُّجُ فِي تَشْرِيعِ الْمِيرَاثِ : 5 - كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ : النَّسَبِ وَالسَّبَبِ . فَأَمَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ , وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَآخَرِينَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } : إلَى قوله تعالى : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } . وَقَدْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْت لِعَطَاءٍ : { أَبَلَغَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ ؟ , قَالَ : لَمْ يَبْلُغْنَا إلَّا ذَلِكَ } . وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ , وَإِلَّا فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ . وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْحَلِفُ وَالْمُعَاقَدَةُ , وَالْآخَرُ التَّبَنِّي . ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ , ثُمَّ نُسِخَ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ , وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } : كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ : دَمِي دَمُك , وَهَدْمِي هَدْمُك , وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك , وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِك . قَالَ : فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ , ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ , ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } .(30/11)
الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا : 6 - مِنْ إطْلَاقَاتِ الْإِرْثِ لُغَةً : التَّرِكَةُ . وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : هِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ الْأَمْوَالِ صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنٍ مِنْ الْأَمْوَالِ , فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُقُوقَ لَا يُورَثُ مِنْهَا إلَّا مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَالِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِ , كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الِارْتِفَاقِ , أَمَّا حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا فَلَا تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَيَدْخُلُ فِي التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ , أَوْ بِالصُّلْحِ عَنْ الْعَمْدِ , أَوْ بِانْقِلَابِ الْقِصَاصِ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنْ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا قَبْلَ الْوَفَاةِ كَالْأَعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ , لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ , فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ . فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلَّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ الْمُوَرِّثَ ( الْمَيِّتَ ) لَا يُجَهَّزُ إلَّا بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ , أَوْ فِيمَا يَفْضُلُ بَعْدَ سَدَادِهِ , فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ , كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ , ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ . 7 - لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ : فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ الدَّيْنَ إنْ كَانَ لِلْعِبَادِ فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ , وَإِنْ لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ . وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إنْ شَاءَ عَفَا , وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ . وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا , فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الصِّحَّةِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ - أَوْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الْمَرَضِ - وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ - فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الْبَاقِي إلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ . وَإِنْ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى , لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنْ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ , فَفِي إقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ . وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ , كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلًا عَنْ مَالِ مِلْكِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ , إذْ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ , فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ , فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ , وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لِآدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لَا . حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً . لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ , ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا , ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا , وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا , مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ , فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ , لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ , أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا , فَإِنْ أَوْصَى بِهَا , وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنْ الثُّلُثِ , وَمِثْلُ الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا , وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلَا سَاعِيَ , وَلَمْ تُوجَدْ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا , فَإِنْ وُجِدَ(30/12)
فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إخْرَاجُهُ قَبْلَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لِآدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا , لِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ , وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ . وَذَلِكَ فِيمَا إذَا تَلِفَ الْمَالُ . فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْلَ التَّجْهِيزِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ , وَإِنْ كَانَتْ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ كَمَا سَبَقَ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ , ثُمَّ إنْ فَضَلَ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ , لِأَنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ , فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَالِ لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ , ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ . وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ , أَمْ كَانَ لِآدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ , فَإِنْ زَادَتْ الدُّيُونُ عَنْ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَالِ الْمُفْلِسِ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ الدُّيُونُ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَمْ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً , ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ - وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ - مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ , فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ , وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنْ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ كُلِّ الْوَرَثَةِ . 8 - وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ - كَمَا سَبَقَ - عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ , لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ } , وَلِأَنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ . 9 - وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ , لِكَوْنِهَا مَأْخُوذَةً بِلَا عِوَضٍ , فَيَشُقُّ إخْرَاجُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ , فَكَانَتْ لِذَلِكَ مَظِنَّةً فِي التَّفْرِيطِ فِيهَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إلَى أَدَائِهِ , فَقُدِّمَ ذِكْرُهَا حَثًّا عَلَى أَدَائِهَا , وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ , أَوْ الْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ , وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِكَلِمَةِ التَّسْوِيَةِ , وَأَيْضًا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالْكُلِّ فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ , لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ , وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَطَوُّعُ , وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ أَقْوَى . 10 - ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ تَنْفُذُ الْوَصَايَا مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ , وَذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ - عَدَا خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ - لَا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ , لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا , فَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ , وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الْأَصْلِ جَمِيعَ الْبَاقِي , فَيُؤَدِّي إلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ , وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً , وَهُوَ الصَّحِيحُ . 11 - وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ . وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً كَأَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ رُبُعِهِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ لِشُيُوعِهَا فِي التَّرِكَةِ , فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ لَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ , وَيَدُلُّ عَلَى شُيُوعِهِ فِيهَا كَحَقِّ الْوَارِثِ أَنَّهُ إذَا زَادَ الْمَالُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ زَادَ عَلَى الْحَقَّيْنِ , وَإِذَا نَقَصَ نَقَصَ عَنْهُمَا , حَتَّى إذَا كَانَ مَالُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ أَلْفًا مَثَلًا فَصَارَ أَلْفَيْنِ , فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ . وَإِنْ انْعَكَسَ فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ . ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ(30/13)
وَالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ إرْثُهُمْ بِالْكِتَابِ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ , أَوْ الَّذِينَ ثَبَتَ إرْثُهُمْ بِالنِّسْبَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَطْعِمُوا الْجَدَّاتِ السُّدُسَ } , أَوْ الَّذِينَ ثَبَتَ إرْثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ كَالْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ وَسَائِرِ مَنْ عُلِمَ تَوْرِيثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ .
أَرْكَانُ الْإِرْثِ : 12 - الرُّكْنُ لُغَةً جَانِبُ الشَّيْءِ الْأَقْوَى , وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةُ عَنْ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِرْثَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِحْقَاقُ وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ لَهُ أَرْكَانٌ ثَلَاثَةٌ إنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا تَحَقَّقَتْ الْوِرَاثَةُ , وَإِنْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْهَا فَلَا إرْثَ . أَوَّلُهَا : الْمُورَثُ وَهُوَ الْمَيِّتُ أَوْ الْمُلْحَقُ بِالْأَمْوَاتِ . وَثَانِيهَا : الْوَارِثُ وَهُوَ الْحَيُّ بَعْدَ الْمُورَثِ أَوْ الْمُلْحَقُ بِالْأَحْيَاءِ . وَثَالِثُهَا : الْمَوْرُوثُ ( أَيْ التَّرِكَةُ ) وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ , بَلْ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَارِثٌ وَلَا مَالَ لَهُ فَلَا إرْثَ , وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَلَا إرْثَ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْتَ الْمَالِ وَارِثًا , كَمَا سَيَأْتِي .
شُرُوطُ الْمِيرَاثِ : 13 - الشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ لُغَةً الْعَلَامَةُ . وَاصْطِلَاحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ , وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ . ( وَلِلْإِرْثِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ ) : أَوَّلُهَا : تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُورَثِ أَوْ إلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى حُكْمًا كَمَا فِي الْمَفْقُودِ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ تُوجِبُ غُرَّةً . ثَانِيهَا : تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ , أَوْ إلْحَاقُهُ بِالْأَحْيَاءِ تَقْدِيرًا , كَحَمْلٍ انْفَصَلَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ نُطْفَةً عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ . ثَالِثُهَا : الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ , وَتَعَيُّنُ جِهَةِ الْقَرَابَةِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ أَوْ أُمُومَةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ أَوْ عُمُومَةٍ , وَالْعِلْمُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ الْمَيِّتُ وَالْوَارِثُ فِيهَا .
أَسْبَابُ الْإِرْثِ : 14 - السَّبَبُ لُغَةً مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ . وَاصْطِلَاحًا : مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ . أَسْبَابُ الْإِرْثِ أَرْبَعَةٌ , ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ , وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . فَالثَّلَاثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا : النِّكَاحُ , وَالْوَلَاءُ , وَالْقَرَابَةُ , وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ بِالرَّحِمِ , وَالرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ جِهَةُ الْإِسْلَامِ , وَاَلَّذِي يَرِثُ بِهَذَا السَّبَبِ - عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ وَهُمْ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - هُوَ بَيْتُ الْمَالِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ . وَكُلُّ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ يُفِيدُ الْإِرْثَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ .
مَوَانِعُ الْإِرْثِ : 15 - الْمَانِعُ : مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ . وَمَوَانِعُ الْإِرْثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ : الرِّقُّ , وَالْقَتْلُ , وَاخْتِلَافُ الدِّينِ , وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ أُخْرَى وَهِيَ : الرِّدَّةُ , وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ , وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ الْمَوَانِعِ جَهْلُ تَأَخُّرِ مَوْتِ الْوَارِثِ عَنْ مَوْتِ الْمُورَثِ وَاللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ , وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا . الرِّقُّ مَوَانِعُ الْإِرْثِ : 16 - اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ الْكَامِلَ يَمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ . فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ لَوَقَعَ الْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ , فَيَكُونُ تَوْرِيثًا لِلْأَجْنَبِيِّ بِلَا سَبَبٍ , وَذَلِكَ بَاطِلٌ إجْمَاعًا .(30/14)
الْقَتْلُ : 17 - اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ مِنْ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ , كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً . فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانَ الْعَمْدَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ : هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَانِي مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ : مَا يَكُونُ بِضَرْبَةِ سِلَاحٍ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنْ الْخَشَبِ أَوْ الْحَجَرِ , وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يَمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ , وَالْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ : كَأَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَاتِلُ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ بِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا , وَمُوجِبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ , وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ . وَالْخَطَأُ كَأَنْ رَمَى إلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ إنْسَانًا , أَوْ انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ فَقَتَلَهُ , أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةٌ , وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ عَلَيْهِ , أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ . وَمُوجِبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا إثْمَ فِيهِ . وَفِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ بِحَقٍّ . وَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالسَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ , أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حِرْمَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقَتْلِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَرْجَحِ إلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا مُبَاشِرًا أَوْ مُتَسَبِّبًا يُمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ مِنْ الْمَالِ وَالدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا , وَإِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ تَدْفَعُ الْقِصَاصَ كَرَمْيِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْخَطَأِ , فَيَرِثُ مِنْ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ , وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا إذَا قَتَلَ مُورَثُهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْرَمُ مِنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ يُمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ , وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ , وَإِمَامٍ , وَقَاضٍ , وَجَلَّادٍ بِأَمْرِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَشَاهِدٍ وَمُزَكٍّ . وَيُحْرَمُ الْقَاتِلُ وَلَوْ قَتَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَنَائِمٍ وَمَجْنُونٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ مَصْلَحَةً كَضَرْبِ الْأَبِ ابْنَهُ لِلتَّأْدِيبِ , وَفَتْحِهِ الْجَرْحَ لِلْمُعَالَجَةِ , وَقَالُوا : لَوْ قَالَ الْمَقْتُولُ : وَرِّثُوهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ . وَلَوْ سَقَطَ مُتَوَارِثَانِ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ وَأَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ فَمَاتَ الْأَسْفَلُ لَمْ يَرِثْهُ الْأَعْلَى , لِأَنَّهُ قَاتِلٌ . وَإِنْ مَاتَ الْأَعْلَى وَرِثَهُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ لَهُ . اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ بِالْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ , وَمِنْ عَدَمِ حِرْمَانِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِأَنَّ الْقَاتِلَ بِالتَّسَبُّبِ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً , لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِيهَا مُورَثُهُ فَمَاتَ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ . وَالْقَاتِلُ يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَقْتُولٍ وَقَدْ انْعَدَمَ حَالَ التَّسَبُّبِ . فَإِنَّ حَفْرَهُ مَثَلًا قَدْ اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ دُونَ الْحَيِّ , وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا حَالَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ ; إذْ رُبَّمَا كَانَ الْحَافِرُ حِينَئِذٍ مَيِّتًا . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا حَقِيقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ جَزَاءُ الْقَتْلِ , وَهُوَ الْحِرْمَانُ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ . وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يُحْرَمَانِ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ , لِأَنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءٌ لِلْقَتْلِ الْمَحْظُورِ , وَفِعْلُهُمَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَظْرِ شَرْعًا , إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّارِعِ إلَيْهِمَا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَرُّزِ , وَلَا يُتَصَوَّرُ نِسْبَةُ(30/15)
التَّقْصِيرِ إلَيْهِمَا . وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ { لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ } وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنْ الْإِرْثِ . وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خَوْفُ اسْتِعْجَالِ الْوَارِثِ لِلْإِرْثِ بِقَتْلِ مُورَثِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ , وَهُوَ مَا إذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ حِرْمَانَهُ مِنْ الْإِرْثِ , عَمَلًا بِقَاعِدَةِ : مَنْ اسْتَعْجَلَ بِشَيْءٍ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ , وَالِاسْتِعْجَالُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ , وَبِالنَّظَرِ لِلظَّاهِرِ وَسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ فِي بَاقِي الصُّوَرِ , وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ . وَلَا مَدْخَلَ لِلْمُفْتِي فِي الْقَتْلِ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْإِفْتَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ , لِأَنَّ إفْتَاءَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ , وَلَا رَاوِي الْحَدِيثِ , وَلَا الْقَاتِلِ بِالْعَيْنِ , وَلَا مَنْ أَتَى لِامْرَأَتِهِ بِلَحْمٍ فَأَكَلَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ ثُمَّ أَكَلَتْ مِنْهُ الزَّوْجَةُ فَمَاتَتْ . وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ عَلَى مُورَثٍ بِمُقْتَضَى جَلْدٍ فَجُلِدَ فَمَاتَ فَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ , لَكِنْ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ مَنْعُهُ بِذَلِكَ .
اخْتِلَافُ الدِّينَيْنِ : 18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ , لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ قَدْ وَجَبَتْ لِأَهْلِهَا بِمَوْتِ الْمُورَثِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِالْقَرَابَةِ أَمْ بِالنِّكَاحِ أَمْ بِالْوَلَاءِ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ إنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ } وَلِأَنَّ فِي تَوْرِيثِهِ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ . كَمَا ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْمُسْلِمَ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ . وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَسْرُوقٌ إلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ . اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَلٍ شَتَّى } وَلِقَوْلِهِ عليه السلام : { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } وَمِنْ الْعُلُوِّ أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ . وَفَسَّرَ الْمَانِعُونَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْلُو , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وَيَعْلُو . أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُلُوُّ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ أَوْ بِحَسَبِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ . أَيْ النُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ .(30/16)
إرْثُ الْمُرْتَدِّ : 19 - لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ - وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ - لَا يَرِثُ أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ , لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ , أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ خِلَافُهُ , لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ . وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ لَا تَرِثُ أَحَدًا , لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ إنْ كَانَ رَجُلًا هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يُقْتَلَ إنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ , وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ , وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى مُطْلَقًا لَأَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يَرِثُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - قَالَ الْقَاضِي : هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ - أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ انْتَقَلَ إلَى دِينِهِمْ بَلْ مَالُهُ كُلُّهُ - إنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ - يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَالِ . وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ , وَعَلِيٍّ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنِ الْمُسَيِّبِ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَالْحَسَنِ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ , وَالثَّوْرِيِّ , وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَابْنِ شُبْرُمَةَ , وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِفِعْلِ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ , وَعَلِيٍّ , وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِلُ بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوْ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ , فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ كُلَّ مَالِهَا , سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ حَالَ إسْلَامِهَا أَوْ حَالَ رِدَّتِهَا . أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إسْلَامِهِ . وَلَا يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ . وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَلْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ؟ أَوْ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ ؟ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ . فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ , أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَرِثُهُ , فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ , فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ , لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا الرِّدَّةُ , فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ , وَتَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ , فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ , وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ , لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ , وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِلُّ وَارِثُهُ مَحَلَّهُ . وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ , وَهُوَ الْأَصَحُّ , أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ , لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ , مِثْلُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ; إذْ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ , وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ , فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا . وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ إلْحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ , فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ . وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ , وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إنْ مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ(30/17)
الصَّاحِبَيْنِ , لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَإِنْ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا . وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ مَوْتِهِ . وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْإِمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ , لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ ; إذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ .(30/18)
اخْتِلَافُ الدِّينِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ : 20 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , لِأَنَّهُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ , فَيَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَالْعَكْسُ , وَيَرِثُ الْمَجُوسِيُّ وَعَابِدُ الْوَثَنِ النَّصْرَانِيَّ وَالْيَهُودِيَّ وَيَرِثُهُمَا الْمَجُوسِيُّ وَغَيْرُهُ . وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ مِلَلٌ , فَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ الْمِلَلِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَلَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ وَلَا الْعَكْسُ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ مُرَجَّحٍ وَنُسِبَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلَاثُ مِلَلٍ : النَّصَارَى مِلَّةٌ , وَالْيَهُودُ مِلَّةٌ , وَمَنْ عَدَاهُمَا مِلَّةٌ , وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَكَمِ وَشَرِيكِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَوَكِيعٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ مُرَجَّحٌ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ , وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِلَّةٌ , وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ . وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ . وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا يَرِثُهُمْ الْمَجُوسُ وَلَا يَرِثُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى الْمَجُوسَ . وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنْ الْمِيرَاثِ فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى } وَهُمْ أَهْلُ مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى } فَقَدْ عَطَفَ النَّصَارَى عَلَى الَّذِينَ هَادُوا , وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْك الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وَالْيَهُودُ لَا تَرْضَى إلَّا بِاتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ مَعَهُمْ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ , وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مِلَّةً عَلَى حِدَةٍ , وَلِأَنَّ النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ عِيسَى عليه السلام وَالْإِنْجِيلِ , وَالْيَهُودُ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ . وَاسْتَدَلَّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّفَقُوا عَلَى دَعْوَى التَّوْحِيدِ , وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ فِي ذَلِكَ , وَاتَّفَقُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُوسَى عليه السلام وَالتَّوْرَاةِ , بِخِلَافِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ التَّوْحِيدَ وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ مُوسَى وَلَا بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ , وَلَا يُوَافِقُهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا أَهْلَ مِلَّتَيْنِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حِلُّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ , إذْ تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْمَجُوسِ . وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ الدِّينَ دِينَيْنِ , الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينٌ } وَجَعَلَ النَّاسَ فَرِيقَيْنِ فَقَالَ : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } . وَفَرِيقُ الْجَنَّةِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , وَفَرِيقُ السَّعِيرِ هُمْ الْكُفَّارُ جَمِيعُهُمْ , وَجَعَلَ الْخَصْمَ خَصْمَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } وَالْمُرَادُ الْكُفَّارُ جَمِيعًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ , وَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِلَلٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ مُقَابَلَتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ , لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُقِرُّونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِالْقُرْآنِ وَجَمِيعُهُمْ يُنْكِرُ ذَلِكَ , وَبِإِنْكَارِهِمْ كَفَرُوا , فَكَانُوا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِلَّةً وَاحِدَةً فِي الشِّرْكِ . وَيُشِيرُ إلَى هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ } فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ الْمِلَّتَيْنِ قَوْلُهُ : { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } , إذْ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الْوَصْفِ الْعَامِّ وَهُوَ الْكُفْرُ بَيَانُ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ .(30/19)
اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ : 21 - يَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ اخْتِلَافَ الْمَنَعَةِ , وَفَسَّرُوا الْمَنَعَةَ بِالْعَسْكَرِ وَاخْتِلَافِ الْمَلِكِ وَالسُّلْطَانِ , كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِالْهِنْدِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ وَالْآخَرُ فِي التُّرْكِ وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ أُخْرَى , وَانْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا الْعِصْمَةُ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمَا يَسْتَحِلُّ قَتْلَ الْآخَرِ . وَمِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دِيَارُهُمْ وَدُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ , لِأَنَّ دِيَارَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لقوله تعالى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } , وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ } وَلِأَنَّ وِلَايَةَ كُلِّ مُسْلِمٍ هِيَ لِلْإِسْلَامِ وَتَنَاصُرُهُمْ يَكُونُ بِهِ وَلَهُ . وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً , فَإِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَرِثَهُ أَقَارِبُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ وُجِدَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً , لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا , لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لِيَقْضِيَ غَرَضَهُ ثُمَّ يَعُودَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوُجِدَ اتِّحَادُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا . وَالِاخْتِلَافُ الْحَقِيقِيُّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ اخْتِلَافٌ حُكْمِيٌّ . وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ مِنْ الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , فَيَرِثُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ قَرِيبَهُ غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ دُوَلُهُمْ وَجِنْسِيَّاتُهُمْ ; إذْ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمِيرَاثِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ , وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ , أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ التَّوَارُثِ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ , وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعَدَمِ وُجُودِ التَّنَاصُرِ وَالْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ دَوْلَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا , وَالْمُوَالَاةُ وَالتَّنَاصُرُ أَسَاسُ الْمِيرَاثِ . 22 - وَهُنَاكَ مَوَانِعُ أُخْرَى فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ , وَهِيَ اللِّعَانُ وَالزِّنَى , وَلَكِنَّ هَذَيْنِ الْمَانِعَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ , وَفِي انْتِفَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِاللِّعَانِ .(30/20)
الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ : 23 - عِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ , الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ , وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ التَّوْرِيثِ عَدَمُهُ , وَذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ حَائِزٌ لِلْمَالِ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا , كَمَا إذَا أَقَرَّ أَخٌ لِأَبٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِابْنٍ لِلْمُتَوَفَّى مَجْهُولِ النَّسَبِ ; إذْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْقَرَابَةِ وَلَكِنْ لَا يَرِثُ . إذْ يَلْزَمُ مِنْ تَوْرِيثِهِ الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ , لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ الِابْنُ لَحَجَبَ الْأَخَ . فَلَا يَكُونُ الْأَخُ وَارِثًا فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ , وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ , وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ , لَمْ يَثْبُتْ الْإِرْثُ . فَإِثْبَاتُ الْإِرْثِ يُؤَدِّي إلَى نَفْيِهِ , وَمَا أَدَّى بِإِثْبَاتِهِ إلَى نَفْيِهِ انْتَفَى مِنْ أَصْلِهِ , وَلَا يَكُونُ الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ إلَّا إذَا كَانَ الْمُقِرُّ حَائِزًا لِلْمَالِ , وَأَقَرَّ بِمَنْ يَحْجُبُهُ حِرْمَانًا وَإِلَّا فَلَا , كَمَا إذَا أَقَرَّ بَنُونَ بِابْنٍ آخَرَ أَوْ إخْوَةٌ بِأَخٍ آخَرَ , أَوْ أَعْمَامٌ بِعَمٍّ آخَرَ , فَإِنَّ نَسَبَ الْمُقَرِّ بِهِ يَثْبُتُ , وَكَذَلِكَ إرْثُهُ , لِأَنَّ الْإِرْثَ فَرْعُ النَّسَبِ وَقَدْ ثَبَتَ , وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ الْحَائِزَيْنِ بِابْنٍ ثَالِثٍ وَأَنْكَرَهُ الِابْنُ الْآخَرُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الِابْنِ الثَّالِثِ الْمُقَرِّ بِهِ إجْمَاعًا , وَلَا يَرِثُ ظَاهِرًا لِعَدَمِ النَّسَبِ , وَيُشَارِكُ الْمُقَرُّ بِهِ بَاطِنًا عَلَى الْأَظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله , وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ : أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : يُشَارِكُهُ ظَاهِرًا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ , وَالْقَوْلُ الثَّانِي مِنْ قَوْلَيْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لَا يُشَارِكُهُ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا , وَعَلَى الْأَظْهَرِ يُشَارِكُهُ فِي ثُلُثِ مَا فِي يَدِهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَفْضَلَهُ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ يُشَارِكُهُ فِي نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ , لِأَنَّ مُقْتَضَى إقْرَارِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا , وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
24 - الْمُسْتَحِقُّونَ لِلتَّرِكَةِ : 1 - أَصْحَابُ الْفُرُوضِ . 2 - الْعَصَبَاتُ النَّسَبِيَّةُ . ثُمَّ الْعَصَبَاتُ السَّبَبِيَّةُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى خِلَافٍ فِي التَّرْتِيبِ وَالتَّفْصِيلِ . 3 - الْمُسْتَحِقُّونَ بِالرَّدِّ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يُرَدُّ , وَفِي الرَّدِّ عَلَى أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ . 4 - ذَوُو الْأَرْحَامِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي أَصْلِ تَوْرِيثِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهِ . 5 - مَوْلَى الْمُوَالَاةِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيهِ . 6 - الْمُقَرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ . 7 - الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ . 8 - بَيْتُ الْمَالِ :(30/21)
الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ : 25 - الْفُرُوضُ الْمُقَدَّرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سِتَّةٌ هِيَ : النِّصْفُ , وَالرُّبُعُ , وَالثُّمُنُ , وَالثُّلُثَانِ , وَالثُّلُثُ , وَالسُّدُسُ . الْأَوَّلُ : النِّصْفُ : وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : نَصِيبُ الْبِنْتِ فِي قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } وَنَصِيبُ الزَّوْجِ فِي قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } وَنَصِيبُ الْأُخْتِ فِي قوله تعالى : { إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } . الثَّانِي : الرُّبُعُ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي قوله تعالى مِيرَاثِ الْأَزْوَاجِ : { فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ } وَالزَّوْجَاتِ فِي قوله تعالى : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ } . الثَّالِثُ : الثُّمُنُ : ذُكِرَ فِي قوله تعالى فِي نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ : { فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ } . الرَّابِعُ : الثُّلُثَانِ : ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَصِيبِ الْبَنَاتِ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } . الْخَامِسُ : الثُّلُثُ : وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي قوله تعالى : { فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } وَفِي أَوْلَادِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } . وَالسَّادِسُ : السُّدُسُ : وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي قوله تعالى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } وقوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وَفِي قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } .
أَصْحَابُ الْفُرُوضِ : 26 - يَسْتَحِقُّ الْفُرُوضَ السَّابِقَةَ اثْنَا عَشَرَ شَخْصًا , أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ , وَثَمَانِيَةٌ مِنْ النِّسَاءِ . فَالرِّجَالُ هُمْ : الْأَبُ , وَالْجَدُّ الصَّحِيحُ ( أَبُو الْأَبِ ) وَإِنْ عَلَا , وَالْأَخُ لِأُمٍّ , وَالزَّوْجُ . وَالنِّسَاءُ هُنَّ : الزَّوْجَةُ , وَالْبِنْتُ , وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَتْ , وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ , وَالْأُخْتُ لِأَبٍ , وَالْأُخْتُ لِأُمٍّ , وَالْأُمُّ , وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ , وَهِيَ الَّتِي لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الْمَيِّتِ جَدٌّ فَاسِدٌ أَيْ : رَحِمِيٌّ , وَهُوَ مَنْ يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِأُنْثَى . وَيُسَمَّى الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ السَّبَبِيَّةِ , إذْ إنَّ مِيرَاثَهُمَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِ لَا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ . وَيُسَمَّى مَنْ عَدَاهُمَا - وَهُمْ الْأَقَارِبُ - أَصْحَابَ الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ , لِأَنَّ الْقَرَابَةَ تُسَمَّى نَسَبًا . وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْإِرْثُ بِالْفَرْضِ مَعَ الْإِرْثِ بِالتَّعْصِيبِ . وَأَصْحَابُ الْفُرُوضِ يَرِثُونَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْجُبُهُمْ مِنْ الْمِيرَاثِ حَجْبَ حِرْمَانٍ .(30/22)
أَحْوَالُ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ : 27 - لِلْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ : الْأُولَى : أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ فَقَطْ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُذَكَّرٌ , وَهُوَ الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , وَمِيرَاثُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ السُّدُسُ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَبِالتَّعْصِيبِ مَعًا , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ مَهْمَا نَزَلَ أَبُوهَا . وَإِنَّمَا وَرِثَ الْأَبُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوَّلًا , ثُمَّ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ , لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ , فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرِثَ أَوَّلًا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ السُّدُسَ . الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَقَطْ , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا , فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ كُلَّهَا , أَوْ الْبَاقِيَ مِنْهَا بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ قوله تعالى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ . فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } . فَإِنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ فِي تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى إنْ كَانَ لَهُ مَعَهُمَا وَلَدٌ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى , فَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ ابْنًا كَانَ لَهُ الْبَاقِي بَعْدَ الْأَبَوَيْنِ , لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ وَأَحَقُّهُمْ بِمِيرَاثِ الْبَاقِي بَعْدَ سِهَامِ . ذَوِي الْفُرُوضِ , وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا , فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مِيرَاثُ الْأَبِ هُوَ السُّدُسَ فَرْضًا , وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الْأُولَى مِنْ حَالَاتِ الْأَبِ . وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُتَوَفَّى بِنْتًا , أَوْ بِنْتَ ابْنٍ وَإِنْ نَزَلَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَرْعٌ ذَكَرٌ يُعَصِّبُهَا كَانَ الْبَاقِي - بَعْدَ نَصِيبِ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الِابْنِ - لِلْأَبِ مَعَ السُّدُسِ الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ . وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِهِ أَقْرَبَ الْعَصَبَاتِ إلَى الْمُتَوَفَّى , وَهَذِهِ هِيَ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى وَلَدٌ مُطْلَقًا وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَقَطْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إخْوَةٌ كَانَ لِأُمِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الثُّلُثُ , وَيَكُونُ الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثَانِ لِلْأَبِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ , لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ فَرْضَ الْأُمِّ وَهُوَ الثُّلُثُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْإِخْوَةِ , وَالسُّدُسَ عِنْدَ وُجُودِ الْإِخْوَةِ , وَلَمْ تَذْكُرْ فَرْضًا لِلْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ , فَكَانَ مَدْلُولُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَبَ يَرِثُ الْبَاقِيَ بَعْدَ نَصِيبِ الْأُمِّ , لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْعَصَبَاتِ , وَالْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ .(30/23)
مِيرَاثُ الْأُمِّ : 28 - لِلْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ : أَوَّلُهَا : أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا السُّدُسَ . وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ يَرِثُ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ أَوْ جَمْعٌ مِنْ الْإِخْوَةِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } , وَلَفْظُ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَلَا قَرِينَةَ تُخَصِّصُهُ بِأَحَدِهِمَا , كَمَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمْعَ , وَفِي حُكْمِ الْوَلَدِ وَلَدُ الِابْنِ , وَإِنْ نَزَلَ , لِأَنَّ لَفْظَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُهُ , وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي تَوْرِيثِ الْأُمِّ , وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِخْوَةِ الِاثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ أَوْ الْأَخَوَاتِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَا مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَلَوْ مَحْجُوبَيْنِ , لقوله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْأُخُوَّةِ , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الثَّلَاثَةَ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ حَاجِبَةً لِلْأُمِّ دُونَ الِاثْنَيْنِ , فَلَهَا مَعَهُمَا الثُّلُثُ عِنْدَهُ , بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَصَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَحْجُبُ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ هُمْ الْإِخْوَةُ وَهُوَ جَمْعٌ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ . وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ : أَوَّلًا : أَنَّ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ الْجَمْعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالْجَمْعِ مِنْ الْبَنَاتِ , وَالْأُخْتَيْنِ تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ كَالْأَخَوَاتِ فَيَكُونُ الِاثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ كَالْجَمْعِ فِي الْحَجْبِ . ثَانِيًا : أَنَّ الْجَمْعَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمُثَنَّى وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ { وَهَلْ أَتَاك نَبَأُ الْخَصْمِ ; إذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ; إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُد فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } فَقَدْ تَكَرَّرَ عَوْدُ الضَّمِيرِ - وَهُوَ جَمْعٌ - عَلَى الْمُثَنَّى وَهُمَا الْخَصْمَانِ . وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالْجَمْعِ عَنْ الْمُثَنَّى فِي قوله تعالى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ : لِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِك لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فَقَالَ عُثْمَانُ : هَلْ أَسْتَطِيعُ نَقْضَ أَمْرٍ كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ . وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْأُمَّ لَا تُحْجَبُ بِالْإِنَاثِ فَقَطْ , فَلَا تُحْجَبُ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ إلَّا بِالْإِخْوَةِ الذُّكُورِ أَوْ الذُّكُورِ مَعَ الْإِنَاثِ , لِأَنَّ ( إخْوَةٌ ) فِي قوله تعالى { فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ } جَمْعُ ذُكُورٍ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْإِنَاثُ وَحْدَهُنَّ . وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ : إنَّ لَفْظَ الْإِخْوَةِ يَشْمَلُ الْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ فَرْعٌ وَارِثٌ , وَلَا عَدَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ , وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ , وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا إلَّا الْأَبُ لقوله تعالى : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَيَكُونَ فَرْضُهَا هُوَ ثُلُثَ الْبَاقِي مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ ثُلُثَ التَّرِكَةِ كُلِّهَا , وَذَلِكَ إذَا تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنْ الْأُمِّ وَالْأَبِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ جَمْعٌ مِنْ الْإِخْوَةِ . وَتُسَمَّى الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ بِصُورَتَيْهَا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ الْعُمَرِيَّتَيْنِ , لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي قَضَى فِيهِمَا بِمَا سَبَقَ . وَتُسَمَّى أَيْضًا الْغَرَّاوِيَّةَ أَيْ الْمَشْهُورَةَ . نَظَرًا لِشُهْرَتِهَا . وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالْغَرْبِيَّةِ .(30/24)
حَالَاتُ الْجَدِّ الصَّحِيحِ : أ - عِنْدَ عَدَمِ الْإِخْوَةِ : 29 الْجَدُّ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي لَا تَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الْمَيِّتِ أُمٌّ كَأَبِي الْأَبِ , وَأَبِي أَبِي الْأَبِ مَهْمَا عَلَا . وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَمِنْ الْعَصَبَاتِ . وَيُحْجَبُ بِالْأَبِ فَلَا يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْأَبُ حَلَّ الْجَدُّ مَحَلَّهُ , وَوَرِثَ بِاعْتِبَارِهِ أَبًا , وَكَانَ لَهُ نَفْسُ حَالَاتِ الْأَبِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ : السُّدُسُ عِنْدَ وُجُودِ الْفَرْعِ الْمُذَكَّرِ فَرْضًا , وَالْفَرْضُ مَعَ التَّعْصِيبِ عِنْدَ وُجُودِ فَرْعٍ مُؤَنَّثٍ لِلْمُتَوَفَّى , وَالتَّعْصِيبُ فَقَطْ , فَيَأْخُذُ التَّرِكَةَ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إذَا لَمْ يُوجَدْ فَرْعٌ وَارِثٌ مُطْلَقًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى مِيرَاثِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ هُوَ نَفْسُ دَلِيلِ تَوْرِيثِ الْأَبِ . فَهُوَ أَبٌ فِي الْمِيرَاثِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ الْأُخْرَى . وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَبًا فِي قوله تعالى : { كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } وَهُمَا آدَم وَحَوَّاءُ , وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ عليه السلام : { وَاتَّبَعْت مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } . وَمِثَالُ هَذَا مِنْ السُّنَّةِ { ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا } . وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ , إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ الْجَدِّ إخْوَةٌ لِلْمُتَوَفَّى . 30 - ب - ( الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ ) : اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ أَوْ الْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ مَعَ الْجَدِّ . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِأَبٍ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ : مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَهَبُوا إلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِأَبٍ مَعَ الْجَدِّ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ حُكْمَ الْأَبِ فَيَحْجُبُ الْإِخْوَةَ , وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ مَسْأَلَتَيْنِ يَأْتِي ذِكْرُهُمَا ( ف / 32 ) . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْجَدَّ أَبٌ , فَيَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ , وَيَحْجُبُ الْإِخْوَةَ كَمَا يَحْجُبُهُمْ الْأَبُ , وَقَدْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَبًا , وَهُوَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْأَبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ , فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ , وَلِأَنَّ الْجَدَّ الْمُبَاشِرَ فِي أَعْلَى عَمُودِ النَّسَبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ , وَابْنَ الِابْنِ الْمُبَاشِرِ فِي أَسْفَلِ الْعَمُودِ , وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ . وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَدُّ كَذَلِكَ . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَالْجَدُّ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْأَخِ . إذْ لَهُ قَرَابَةُ وَلَاءٍ وَجُزْئِيَّةٍ كَالْأَبِ , وَلَا يَحْجُبُهُ عَنْ الْإِرْثِ سِوَى الْأَبِ . بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ , فَإِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِثَلَاثَةٍ : بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ , وَالْجَدُّ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ كَالْأَبِ , وَالْإِخْوَةُ يَنْفَرِدُونَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ بِأَدِلَّةٍ هِيَ : أَوَّلًا : أَنَّ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يَمْنَعُهُمْ الْإِرْثَ , وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ . ثَانِيًا : أَنَّ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةَ يَتَسَاوُونَ فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ مِنْ الْمَيِّتِ . فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ , فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَّصِلُ بِهِ عَنْ طَرِيقِ الْأَبِ , فَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ , وَالْأَخُ ابْنُ الْأَبِ , وَقَرَابَةُ الْبُنُوَّةِ لَا تَقِلُّ عَنْ قَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ . ثَالِثًا : أَنَّ الْجَدَّ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي كُلِّ حَالٍ بَلْ يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ , فَالصَّغِيرُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ .(30/25)
نَصِيبُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ : 31 - لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ مِيرَاثِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ , وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم . فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ لِلْجَدِّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْأَخَوَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ أَخٌ مَا لَمْ يَنْقُصْ عَنْ السُّدُسِ , وَإِلَّا قَاسَمَ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ الْمُقَاسَمَةُ عَنْ السُّدُسِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنْ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ . فَإِنْ نَقَصْنَهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الْأَخَوَاتِ أَقَلَّ مِنْهُ , أَوْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ . وَعَنْهُ أَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبَدًا . وَمَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ يَجِبُ أَلَّا يَنْقُصَ عَنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ إنْ كَانَ مِيرَاثُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ; إذْ عِنْدَهُ أَنَّ الْجَدَّ يُعَصِّبُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا فَقَطْ , أَمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا , أَمْ إنَاثًا فَقَطْ . فَإِنْ كَانَ مَعَ إخْوَةٍ أَشِقَّاءَ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ شَقِيقٌ , وَإِنْ كَانَ مَعَ إخْوَةٍ لِأَبٍ قَاسَمَهُمْ عَلَى أَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ , عَلَى أَلَّا يَقِلَّ نَصِيبُهُ فِي أَيِّ حَالٍ عَنْ الثُّلُثِ , وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ : مَالِكٌ , وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , وَأَبُو يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ , فَإِنْ كَانَ مَعَهُ صَاحِبُ فَرْضٍ , فَلَهُ خَيْرُ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : إمَّا الْمُقَاسَمَةُ , وَإِمَّا ثُلُثُ الْبَاقِي , وَإِمَّا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ . وَيَضْرِبُ ابْنُ قُدَامَةَ مَثَلًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَيَقُولُ : إنْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ اثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ . فَإِنَّ الْجَدَّ يُعْطَى الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّ الثُّلُثَ وَالْمُقَاسَمَةَ سَوَاءٌ . فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ فَالثُّلُثُ أَحَظُّ لَهُ فَقَاسَمَ بِهِ لَا غَيْرُ , وَإِنْ زَادُوا فَالثُّلُثُ خَيْرٌ لَهُ , فَأَعْطِهِ إيَّاهُ وَسَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَبٍ أَمْ أَبَوَيْنِ . وَمَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ حُكْمَ الْجَدِّ مَعَ الْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ عَنْ أَخٍ أَوْ فَرْعٍ وَارِثٍ يُعَصِّبُهُنَّ أَنَّهُ يَرِثُ الْبَاقِيَ بِاعْتِبَارِهِ عَصَبَةً بَعْدَ أَنْصِبَةِ الْأَخَوَاتِ وَأَنْصِبَةِ مَنْ يُوجَدُ مَعَهُنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , لَكِنْ عَلَى أَلَّا يَقِلَّ نَصِيبُهُ عَنْ الثُّلُثِ , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ كَانَ نَصِيبُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أُعْطِيَ الثُّلُثُ . وَحُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ نَصِيبَ الْجَدِّ مَعَ بَنَاتِ الْمُتَوَفَّى وَحْدَهُنَّ لَا يَقِلُّ عَنْ الثُّلُثِ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ إذَا تُوُفِّيَ عَنْ جَدٍّ وَإِخْوَةٍ , لِأَنَّ قَرَابَةَ الْفَرْعِ لَهَا صِلَةٌ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ . وَمَا دَامَ الْفَرْعُ لَا يُنْقِصُ نَصِيبَ الْجَدِّ عَنْ الثُّلُثِ فَبِالْأَوْلَى يَكُونُ الثُّلُثُ نَصِيبَهُ مَعَ الْإِخْوَةِ . 32 - وَالْمَسْأَلَتَانِ اللَّتَانِ اسْتَثْنَاهُمَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ إقَامَةِ الْجَدِّ مَقَامَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْحَجْبِ هُمَا : أُولَاهُمَا : زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ . فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ لِلْأُمِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ . وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْجَدِّ أَبٌ كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا بَقِيَ . وَثَانِيَتُهُمَا : زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ , فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ . وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِلْأُمِّ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ أَيْضًا . وَهَذَا مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَرَوَى أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ , وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَيْنِ . وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ هَارُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ , وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَيْنِ , وَقَدْ غَلَّطَ الرُّوَاةُ كُلُّهُمْ زَيْدًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ , فَقَالُوا : إنَّمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَذَا فِي : زَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ .(30/26)
مِيرَاثُ الْجَدَّاتِ : 33 - الْجَدَّاتُ نَوْعَانِ : جَدَّاتٌ صَحِيحَاتٌ , وَجَدَّاتٌ غَيْرُ صَحِيحَاتٍ . فَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ : هِيَ الَّتِي لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الْمَيِّتِ أَبٌ , أَوْ هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِعَصَبَةٍ أَوْ صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ الْأُمِّ . وَغَيْرُ الصَّحِيحَةِ : هِيَ الَّتِي تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ , وَلَا صَاحِبَةِ فَرِيضَةٍ كَأُمِّ أَبِي الْأُمِّ . وَمِيرَاثُ الْجَدَّةِ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ , وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ , وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ , كَمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ . وَالْجَدَّةُ غَيْرُ الصَّحِيحَةِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ . 34 - وَلِلْجَدَّةِ الصَّحِيحَةُ فِي الْمِيرَاثِ حَالَتَانِ : الْأُولَى : أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , وَيَكُونَ فَرْضُهَا السُّدُسَ , تَسْتَقِلُّ بِهِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ , وَتَشْتَرِكُ فِيهِ الْجَدَّاتُ الْمُتَعَدِّدَاتُ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَأُمِّ الْأُمِّ , أَمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ كَأُمِّ الْأَبِ , أَمْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ مَعًا كَأُمِّ الْأُمِّ الَّتِي هِيَ أُمُّ أَبِي الْأَبِ أَيْضًا . وَإِذَا اجْتَمَعَتْ الْجَدَّةُ ذَاتُ الْقَرَابَتَيْنِ مَعَ الْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ اشْتَرَكَتَا فِي السُّدُسِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ , وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْقِيَاسُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . لِأَنَّ تَعَدُّدَ جِهَةِ الْقَرَابَةِ فِي الْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ لَمْ يُكْسِبْهَا اسْمًا جَدِيدًا تَرِثُ بِهِ , بَلْ هِيَ فِي الْقَرَابَتَيْنِ جَدَّةٌ . وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الصَّحِيحِ : إلَى أَنَّ السُّدُسَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا : الثُّلُثَانِ لِذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ . وَثُلُثُهُ لِذَاتِ الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ , لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ . فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ سَبَبَانِ , وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقَيْنِ وَرِثَ بِهِمَا , كَالْجَدَّةِ ذَاتِ الْقَرَابَتَيْنِ , وَكَانَتْ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ كَأَنَّهَا جَدَّتَانِ , وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي شَخْصِهَا حَقِيقَةً فَإِنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا وَمَعْنَى , فَتَسْتَحِقُّ بِالسَّبَبَيْنِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّعَدُّدِ . وَهَذَا مِثْلُ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ لِلْإِرْثِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهِمَا اتِّفَاقًا , كَمَا إذَا تُوُفِّيَتْ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمِّهَا الشَّقِيقِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ النِّصْفَ فَرْضًا بِاعْتِبَارِهِ زَوْجًا , وَالْبَاقِيَ تَعْصِيبًا بِاعْتِبَارِهِ ابْنَ عَمٍّ شَقِيقٍ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْجَدَّةِ : حَجْبُ الْجَدَّاتِ كُلِّهِنَّ بِالْأُمِّ , سَوَاءٌ أَكُنَّ لِأَبٍ أَمْ لِأُمٍّ , أَمَّا الْأُمِّيَّاتُ فَلِأَنَّهُنَّ يُدْلِينَ بِالْأُمِّ . وَأَمَّا الْأَبَوِيَّاتُ فَلِأَنَّهُنَّ مِثْلُ الْجَدَّاتِ لِأُمٍّ , بَلْ هُنَّ أَضْعَفُ , وَلِهَذَا تُقَدَّمُ الْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدَّةِ لِأَبٍ فِي الْحَضَانَةِ . وَالْجَدَّاتُ الْأَبَوِيَّاتُ يَسْقُطْنَ بِالْأَبِ , وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ . وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ : أَنَّ أُمَّ الْأَبِ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ , وَاخْتَارَهُ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ , لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى أُمَّ الْأَبِ السُّدُسَ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ } . وَالْجَدَّةُ الْقُرْبَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ الْبُعْدَى . وَهَذَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ زَيْدٍ : أَنَّ الْقُرْبَى إنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْبُعْدَى مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فَهُمَا سَوَاءٌ , وَالْقَوْلَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ . وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لَا تَسْقُطُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ . وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْحَجْبُ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ , وَعَلَى الثَّانِيَةِ يَكُونُ الْحَجْبُ فِي ثَلَاثَةٍ , وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْهِ , وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .(30/27)
مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ : 35 - مِيرَاثُ الزَّوْجَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قوله تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } . فَالْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الزَّوْجَيْنِ لَا يَرِثُ إلَّا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَأَنَّ لِكُلٍّ حَالَتَيْنِ : أَحْوَالُ الزَّوْجِ : 36 - أ - يَرِثُ الزَّوْجُ نِصْفَ مِيرَاثِ زَوْجَتِهِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ , وَهُوَ الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنْ الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ , وَتَشْمَلُ هَذِهِ الْحَالَةُ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ أَصْلًا وَمَا إذَا كَانَ لَهَا فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ , وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوْ ابْنُ الْبِنْتِ . ب - أَنْ يَرِثَ الرُّبُعَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلزَّوْجَةِ فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ , سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ .
حَالَاتُ الزَّوْجَةِ : لَا تَرِثُ الزَّوْجَةُ إلَّا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , وَلَهَا حَالَتَانِ : 37 - ( الْأُولَى ) أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا الرُّبُعَ , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا فَرْعٌ وَارِثٌ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ , وَهُوَ الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ الْوَارِثُ وَلَدًا لَهُ مِنْ هَذِهِ الزَّوْجَةِ أَمْ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا . فَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ فَرْعٌ أَصْلًا , وَمَا إذَا كَانَ لَهُ فَرْعٌ غَيْرُ وَارِثٍ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ أَوْ ابْنُ الْبِنْتِ . ( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنْ يَكُونَ فَرْضُهَا الثُّمُنَ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلزَّوْجِ فَرْعٌ وَارِثٌ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا . 38 - وَيُشْتَرَطُ لِلْمِيرَاثِ بِالزَّوْجِيَّةِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ صَحِيحَةً . . فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَلَا تَوَارُثَ وَلَوْ اسْتَمَرَّتْ الْعِشْرَةُ بِمُقْتَضَاهُ إلَى الْوَفَاةِ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ . وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ : إنَّ سَبَبَ الْفَسَادِ إنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ كَتَزَوُّجِ خَامِسَةٍ وَفِي عِصْمَتِهِ أَرْبَعٌ , أَوْ تَزَوُّجِ الْمُحَرَّمَةِ رَضَاعًا جَاهِلًا بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ لَا تَوَارُثَ , سَوَاءٌ أَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْمُتَارَكَةِ وَالْفَسْخِ , أَمْ مَاتَ بَعْدَهُمَا , وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَعَدَمِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ فِي زَوَاجِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ , فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَمْثَالِهَا إنْ كَانَتْ الْوَفَاةُ بَعْدَ الْفَسْخِ فَلَا تَوَارُثَ , لِعَدَمِ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِيرَاثِ ; إذْ انْتَهَتْ الزَّوْجِيَّةُ . وَإِنْ كَانَتْ الْوَفَاةُ قَبْلَ الْفَسْخِ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ ثَابِتًا , لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ . ثَانِيهِمَا : أَنْ تَكُونَ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْوَفَاةِ حَقِيقَةً , أَوْ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً حُكْمًا , وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا , وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ . أَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنَّهُ لَا تَوَارُثَ وَلَوْ كَانَتْ الْوَفَاةُ فِي حَالِ الْعِدَّةِ , إلَّا إذَا كَانَ مَنْ تَوَلَّى سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَدْ اُعْتُبِرَ فَارًّا مِنْ الْمِيرَاثِ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ . وَتَنْفَرِدُ الْوَاحِدَةُ بِالرُّبُعِ وَالثُّمُنِ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ : اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ .(30/28)
أَحْوَالُ الْبَنَاتِ : 39 - جُمِعَتْ أَحْكَامُ مِيرَاثِ بَنَاتِ الْمُتَوَفَّى فِي قوله تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ . وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } . فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ ثَلَاثٌ : الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ابْنُ صُلْبِيٌّ أَوْ أَبْنَاءُ , فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْجَمِيعُ عَصَبَةً لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , وَيَأْخُذُونَ التَّرِكَةَ كُلَّهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُورَثِ أَصْحَابُ فَرْضٍ , أَوْ الْبَاقِي بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ بِنْتَانِ فَأَكْثَرُ , وَلَيْسَ مَعَهُنَّ ابْنٌ لِلْمَيِّتِ , فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُنَّ ثُلُثَا التَّرِكَةِ بِالتَّسَاوِي . أَمَّا الْبِنْتَانِ فَاسْتِحْقَاقُهُمَا الثُّلُثَانِ , وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ { لَمَّا اُسْتُشْهِدَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ رضي الله عنه يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ وَزَوْجَةً , فَاسْتَوْلَى أَخُوهُ عَلَى مَالِهِ , فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ : إنَّ سَعْدًا قُتِلَ مَعَك وَخَلَفَ ابْنَتَيْنِ , وَقَدْ غَلَبَ عَمُّهُمَا عَلَى مَالِهِمَا وَلَا يُرْغَبُ فِي النِّسَاءِ إلَّا بِمَالٍ , وَفِي رِوَايَةٍ : وَلَا يُنْكَحَانِ إلَّا وَلَهُمَا مَالٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَمْ يُنْزِلْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ شَيْئًا . ثُمَّ ظَهَرَ آثَارُ الْوَحْيِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : قِفُوا مَالَ سَعْدٍ , فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مَا إنْ بَيَّنَهُ لِي بَيَّنْته لَكُمْ , وَتَلَا عَلَيْهِمْ قوله تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبُ مِمَّا تَرَكَ } الْآيَةَ ثُمَّ قوله تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } فَدَعَا أَخَا سَعْدٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَرْأَةَ الثُّمُنَ وَلَهُ مَا بَقِيَ } . وَقِيلَ : هَذَا أَوَّلُ مِيرَاثٍ فِي الْإِسْلَامِ . كَمَا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ أَدْنَى مَرَاتِبِ الِاخْتِلَاطِ : ابْنٌ وَبِنْتٌ , فَلِلِابْنِ حِينَئِذٍ الثُّلُثَانِ بِالِاتِّفَاقِ , فَعُرِفَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَهُمَا الثُّلُثَانِ فِي الْجُمْلَةِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي حَالَةِ انْفِرَادِهِمَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ حَالِهِمَا , بَلْ إلَى بَيَانِ حَالِ مَا فَوْقَهُمَا , فَلِذَلِكَ جَاءَتْ الْآيَةُ { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أَيْ فَإِنْ كُنَّ جَمَاعَةً بَالِغَاتٍ مَا بَلَغْنَ مِنْ الْعَدَدِ فَلَهُنَّ مَا لِلِاثْنَتَيْنِ أَيْ الثُّلُثَانِ لَا يَتَجَاوَزْنَهُ , وَبِأَنَّ الْبِنْتَيْنِ أَمَسُّ رَحِمًا مِنْ الْأُخْتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُحْرِزَانِ الثُّلُثَيْنِ فَهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ الْإِحْرَازِ . وَبِأَنَّ الْأُخْتَ إذَا كَانَتْ مَعَ أَخِيهَا وَجَبَ لَهَا الثُّلُثُ , فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَجِبَ لَهَا ذَلِكَ مَعَ أُخْتٍ أُخْرَى . وَكَذَا الْبِنْتُ يَجِبُ لَهَا مَعَ أُخْتِهَا مِثْلُ مَا كَانَ لَهَا لَوْ انْفَرَدَتْ مَعَ أَخِيهَا فَوَجَبَ لَهُمَا ذَلِكَ . وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ , أَيْ أَنَّ نَصِيبَهُمَا إذَا انْفَرَدَتَا عَنْ عَاصِبٍ هُوَ النِّصْفُ . وَاسْتَدَلَّ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِأَنَّ الْآيَةَ { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } قَدْ نَصَّتْ عَلَى حُكْمِ الْأَكْثَرِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ . فَإِذَا أَعْطَيْت الثِّنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ فَقَدْ خَالَفْت الْآيَةَ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تُعْطَيَا الْأَقَلَّ . لَكِنْ قَالَ الشَّرِيفُ الْأُرْمَوِيُّ : صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ , وَصَارَ إجْمَاعًا ; إذْ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ حُجَّةٌ . وَحَكَى الْإِجْمَاعَ الْعَلَّامَةُ الشِّنْشَوَرِيُّ وَقَالَ : مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمُنْكَرٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَرِثَ النِّصْفَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا , وَهُوَ ابْنُ الْمُتَوَفَّى الْمُبَاشِرُ : وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } .(30/29)
أَحْوَالُ بَنَاتِ الِابْنِ : 40 بِنْتُ الِابْنِ هِيَ كُلُّ بِنْتٍ تَنْتَسِبُ إلَى الْمُتَوَفَّى بِطَرِيقِ الِابْنِ مَهْمَا نَزَلَتْ دَرَجَةُ أَبِيهَا فَتَشْمَلُ بِنْتَ الِابْنِ وَبِنْتَ ابْنِ الِابْنِ مَهْمَا نَزَلَ . وَلَهَا فِي الْمِيرَاثِ سِتُّ حَالَاتٍ : ثَلَاثٌ مِنْهَا تَكُونُ لَهَا إذَا قَامَتْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى أَقْرَبُ مِنْهَا دَرَجَةً سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْفَرْعُ مُذَكَّرًا أَمْ مُؤَنَّثًا . وَثَلَاثٌ مِنْهَا تَكُونُ لَهَا إذَا لَمْ تَقُمْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ . فَإِذَا قَامَتْ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ كَانَتْ لَهَا الْحَالَاتُ الثَّلَاثُ الْآتِيَةُ : الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ تَرِثَ النِّصْفَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً وَلَيْسَ مَعَهَا مَنْ يَعْصِبُهَا . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ تَرِثَ بَنَاتُ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , وَذَلِكَ إذَا كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ عَاصِبٌ . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَرِثَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهَا أَوْ مَعَهُنَّ مَنْ يُعَصِّبُ . 41 - فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِنْتُ الِابْنِ مَقَامَ الْبِنْتِ الصُّلْبِيَّةِ بِأَنْ وُجِدَ مَعَهَا فَرْعٌ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى أَقْرَبُ دَرَجَةً مِنْهَا كَانَتْ لَهَا الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْآتِيَةُ : الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ تَأْخُذَ السُّدُسَ فَرْضًا تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهَا بِنْتٌ أَعْلَى مِنْهَا دَرَجَةً , صُلْبِيَّةً كَانَتْ أَمْ غَيْرَ صُلْبِيَّةٍ , بِشَرْطِ أَلَّا يُوجَدَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ مَنْ يُعَصِّبُهَا , فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا وَرِثَتْ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ لَا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَبْقَى لَهَا شَيْءٌ مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ , وَذَلِكَ إذَا وُجِدَ مَعَهَا اثْنَتَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ الْبَنَاتِ الصُّلْبِيَّاتِ أَوْ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الْأَعْلَى دَرَجَةً , عَلَى أَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَرِثُ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ إنْ وُجِدَ مَعَهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلَا شَيْءَ لَهَا . وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَنَّ بِنْتَ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ تَأْخُذُ أَوْ يَأْخُذْنَ السُّدُسَ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ , لِأَنَّ الْبِنْتَيْنِ عِنْدَهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الْوَاحِدَةِ . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتَيْنِ لَا يَرِثْنَ مَعَ ابْنِ الِابْنِ أَوْ أَبْنَائِهِ , بَلْ يَكُونُ الْبَاقِي لِابْنِ الِابْنِ , لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَى بَنَاتِ الِابْنِ لَزَادَ حَقُّ الْبَنَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ , وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يَجْعَلْ لَهُنَّ إلَّا الثُّلُثَيْنِ . وَحُجَّةُ مَنْ عَدَا ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الثُّلُثَيْنِ لِلْبَنَاتِ بِطَرِيقَةِ الْفَرْضِ , وَاسْتِحْقَاقُ بَنَاتِ الِابْنِ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ , فَلَا يُضَمُّ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ إلَى الْآخَرِ فَلَا زِيَادَةَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : لَا تَرِثُ شَيْئًا , وَاحِدَةً كَانَتْ أَوْ أَكْثَرَ , مَعَهَا مُعَصِّبٌ , أَوْ لَيْسَ مَعَهَا مُعَصِّبٌ , وَذَلِكَ إذَا وُجِدَ مَعَهَا ابْنٌ أَوْ ابْنُ ابْنٍ أَعْلَى دَرَجَةً وَهَذِهِ الْحَالَاتُ هِيَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ عَدَا ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ .(30/30)
أَحْوَالُ الْأَخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ : 42 - لِلْأَخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ . وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ , وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ , وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ . الْحَالَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ : النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ إذَا انْفَرَدَتْ وَلَيْسَ فِي الْوَرَثَةِ مَنْ يَحْجُبُهَا , أَوْ أَخٌ شَقِيقٌ . وَالثُّلُثَانِ لِلِاثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا أَخٌ شَقِيقٌ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ . فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ . وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } . فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَخَوَاتِ فِي الْآيَةِ : الشَّقِيقَاتُ , أَوْ لِأَبٍ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ اللَّائِي يَرِثْنَ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ . وَالْأَخَوَاتُ لِأُمٍّ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ فَقَطْ , وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكَلَالَةِ أَوَائِلَ السُّورَةِ , كَمَا بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ السُّورَةِ نَصِيبَ الْأَخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ لِأَبٍ . وَإِذَا زَادَتْ الْأَخَوَاتُ عَنْ الِاثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ , وَدَلِيلُهُ قوله تعالى فِي بَيَانِ نَصِيبِ الْأَوْلَادِ : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْبَنَاتُ الثَّلَاثُ فَأَكْثَرَ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ وَقَرَابَتُهُنَّ بِالْمُتَوَفَّى أَكْثَرُ , فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَلَّا تَأْخُذَ الْأَخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ , وَلَمْ يَنُصَّ فِي الْآيَةِ عَلَى نَصِيبِ الْأَكْثَرِ مِنْ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْأَخَوَاتِ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ بِنَصِيبِ الْأَوْلَادِ عَلَيْهِ . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ الْأَخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَخٌ شَقِيقٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ مَعَهُ الْبَاقِي بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , لِأَنَّهُنَّ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِهِ وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْأُخْتَ الشَّقِيقَةَ أَوْ لِأَبٍ تَصِيرُ عَصَبَةً بِالْجَدِّ , مِنْ بَابِ الْعَصَبَةِ بِالْغَيْرِ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَخٌ يُعَصِّبُهَا , وَيَكُونُ لَهُ ضِعْفُ نَصِيبِهَا . الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ تَكُونَ الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ الْأَخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ عَصَبَةً مَعَ الْغَيْرِ , وَذَلِكَ إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخَوَاتٌ شَقِيقَاتٌ وَلَيْسَ مَعَهُنَّ أَخٌ شَقِيقٌ وَقَدْ تَرَكَ الْمَيِّتُ فَرْعًا وَارِثًا مُؤَنَّثًا , فَإِنَّ الْفَرْعَ الْوَارِثَ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ وَالْأُخْتَ أَوْ الْأَخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ يَأْخُذْنَ الْبَاقِيَ بِاعْتِبَارِهِنَّ عَصَبَةً , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { اجْعَلُوا الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً } . وَهَذَا مَا أَفْتَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ . وَقَالَ : إنَّهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ : الْحِرْمَانُ وَذَلِكَ إنْ تَرَكَ الْمَيِّتُ فَرْعًا وَارِثًا ذَكَرًا أَوْ أَبًا , وَفِي مِيرَاثِهِنَّ مَعَ الْجَدِّ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ .(30/31)
أَحْوَالُ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ : 43 - لِلْأَخَوَاتِ لِأَبٍ سَبْعُ حَالَاتٍ : ( 1 ) النِّصْفُ لِلْوَاحِدَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهَا أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخٌ لِأَبٍ يُعَصِّبُهَا . ( 2 ) الثُّلُثَانِ لِلْأُخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُنَّ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ أَخٌ لِأَبٍ يُعَصِّبُهُنَّ . وَدَلِيلُ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ آيَةُ الْكَلَالَةِ آخِرَ سُورَةِ النِّسَاءِ { يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } . ( 3 ) السُّدُسُ لِلْوَاحِدَةِ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ , لِأَنَّ فَرْضَ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ , وَالْأُخْتُ لِأَبٍ مَعَهَا كَبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الْبِنْتِ , فَتَأْخُذُ السُّدُسَ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ , إلَّا إذَا كَانَ مَعَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَخٌ لِأَبٍ فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهَا , وَهِيَ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ الْآتِيَةُ , وَيَسْقُطَانِ مَعًا " الْأَخُ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ " لَوْ اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ , لِأَنَّ حَقَّ الْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ لقوله تعالى : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } . التَّعْصِيبُ بِالْأَخِ لِأَبٍ فَيُعْطَى الذَّكَرُ ضِعْفَ الْأُنْثَى . ( 5 ) الْإِرْثُ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ أَوْ مَعَهُمَا , فَتَأْخُذُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُنَّ مِنْ التَّرِكَةِ بِالْعُصُوبَةِ , وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ , وَتَسْقُطُ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ فَلَا تَأْخُذُ شَيْئًا . ( 6 ) تُحْجَبُ بِالْأُخْتَيْنِ الشَّقِيقَتَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ مَعَهَا أَخٌ لِأَبٍ , فَيَأْخُذَانِ الْبَاقِيَ تَعْصِيبًا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . ( 7 ) تُحْجَبُ بِالْأَبِ , وَالِابْنِ , وَابْنِ الِابْنِ , وَإِنْ نَزَلَ , وَبِالْأَخِ الشَّقِيقِ , وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ إذَا صَارَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الِابْنِ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ أَخٌ يُعَصِّبُهَا أَمْ لَا . لِأَنَّ الْأُخْتَ الشَّقِيقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَنَّهَا أَخٌ شَقِيقٌ فِي كَوْنِهَا عَصَبَةً أَقْرَبَ إلَى الْمَيِّتِ .
مِيرَاثُ أَوْلَادِ الْأُمِّ : 44 - الْمُرَادُ بِأَوْلَادِ الْأُمِّ , إخْوَةُ الْمُتَوَفَّى وَأَخَوَاتُهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ فَقَطْ . وَأَوْلَادُ الْأُمِّ يَرِثُونَ دَائِمًا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ , وَلَا يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ وَلَوْ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهُمْ أَخًا , لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَصَبَةً لِإِدْلَائِهِمْ إلَى الْمُتَوَفَّى بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَحْدَهَا , وَلَا يَصِيرُونَ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ وَلَا مَعَ الْغَيْرِ . وَذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ سَوَاءٌ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ , فَلَا يَفْضُلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى . وَلَهُمْ ثَلَاثُ حَالَاتٍ : الْأُولَى : السُّدُسُ فَرْضًا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ , ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى فَرْعٌ وَارِثٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى , أَوْ أَصْلٌ مُذَكَّرٌ وَارِثٌ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا . الثَّانِيَةُ : الثُّلُثُ فَرْضًا إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا أَوْ مُخْتَلِفِينَ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ , وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَوَفَّى فَرْعٌ وَارِثٌ أَوْ أَصْلٌ مُذَكَّرٌ . الثَّالِثَةُ : أَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , وَالْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ وَإِنْ نَزَلَ , وَبِالْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا . وَدَلِيلُ مَا ذُكِرَ قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ } إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَوْلَادُ الْأُمِّ إجْمَاعًا . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ الْأُمِّ ) . وَدَلِيلُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَنَّ نَصِيبَهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ قوله تعالى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَقَدْ حَصَرَتْ الْآيَةُ نَصِيبَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْوَاحِدِ فِي الثُّلُثِ . وَلِأَنَّ إدْلَاءَ أَوْلَادِ الْأُمِّ إلَى الْمَيِّتِ هُوَ بِالْأُمِّ , فَفُرِضَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَقَلُّ فَرْضِهَا وَهُوَ السُّدُسُ , وَفُرِضَ لِلْأَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ أَكْثَرُ فَرْضِهَا وَهُوَ الثُّلُثُ . وَلَمْ يُفْرَضْ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْضِيلِ نَصِيبِ الْمُدْلِي عَلَى نَصِيبِ الْمُدْلَى بِهِ . وَسُوِّيَ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ قِسْمَةً وَاسْتِحْقَاقًا , لِأَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ , وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ , فَلَا يَفْضُلُ الذَّكَرُ مِنْهُمْ عَلَى الْأُنْثَى لَا فِي الْقِسْمَةِ وَلَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ .(30/32)
الْإِرْثُ بِالْعُصُوبَةِ : 45 - عَصَبَةُ الرَّجُلِ لُغَةً : بَنُوهُ وَقَرَابَتُهُ لِأَبِيهِ , سُمُّوا بِذَلِكَ , لِأَنَّهُمْ عُصِّبُوا بِهِ , أَيْ أَحَاطُوا بِهِ . وَالْأَبُ طَرَفٌ وَالِابْنُ طَرَفٌ . وَالْعَمُّ جَانِبٌ , وَالْأَخُ جَانِبٌ . وَيُسَمَّى بِهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ لِلْغَلَبَةِ . وَقَالُوا فِي مَصْدَرِهَا الْعُصُوبَةَ . وَالذَّكَرُ يُعَصِّبُ الْأُنْثَى أَيْ يَجْعَلُهَا عَصَبَةً . 46 - وَالْعَاصِبُ بِنَفْسِهِ فِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ مَنْ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ إذَا انْفَرَدَ أَوْ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ , وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ السِّرَاجِيَّةِ : بِأَنَّهُ كُلُّ ذَكَرٍ لَا تَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الْمَيِّتِ أُنْثَى , فَإِنَّ مَنْ دَخَلَتْ الْأُنْثَى فِي نِسْبَتِهِ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً كَأَوْلَادِ الْأُمِّ . 47 - وَالْعَصَبَةُ نَوْعَانِ , عَصَبَةٌ نَسَبِيَّةٌ وَهِيَ مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ . وَعَصَبَةٌ سَبَبِيَّةٌ وَيُرَادُ بِهَا الْمُعْتَقُ وَعَصَبَتُهُ الذُّكُورُ . وَالْعَصَبَةُ النَّسَبِيَّةُ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ : عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ , وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ , وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ . 48 - وَالْعَصَبَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ : الْأَوَّلُ : جُزْءُ الْمَيِّتِ , وَالثَّانِي أَصْلُهُ , وَالثَّالِثُ جُزْءُ أَبِيهِ , وَالرَّابِعُ جُزْءُ جَدِّهِ . فَيُقَدَّمُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَالْمُنْدَرِجِينَ فِيهَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ , أَيْ يُرَجَّحُونَ بِقُرْبِ الدَّرَجَةِ . فَأَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ بَنُو الْمَيِّتِ , ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا , ثُمَّ أَصْلُ الْمَيِّتِ أَيْ الْأَبُ , ثُمَّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا . وَقُدِّمَ الْبَنُونَ عَلَى الْأَبِ , لِأَنَّهُمْ فُرُوعُ الْمَيِّتِ وَالْأَبُ أَصْلُهُ , وَاتِّصَالُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ أَظْهَرُ مِنْ اتِّصَالِ الْأَصْلِ بِفَرْعِهِ . فَإِنَّ الْفَرْعَ يَتْبَعُ أَصْلَهُ وَيَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِهِ دُونَ الْعَكْسِ , فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالْأَشْجَارَ يَدْخُلَانِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ , وَلَا يَدْخُلَانِ فِي بَيْعِهَا إلَّا بِالنَّصِّ عَلَيْهِمَا . وَقُدِّمَ بَنُو الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى الْأَبِ , لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ أَيْضًا الْبُنُوَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى الْأُبُوَّةِ . وَكَوْنُ الْأَبِ أَقْرَبَ مِنْ الْجَدِّ ظَاهِرٌ كَظُهُورِهِ فِيمَا بَيْنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ , وَإِذَا أُرِيدَ بِالْجَدِّ أَبُو الْأَبِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ أَبُو الْأُمِّ , ثُمَّ يُقَدَّمُ بَعْدَ مَنْ ذُكِرُوا جُزْءُ الْأَبِ أَيْ الْإِخْوَةُ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا . وَهَذَا ( أَيْ تَأْخِيرُ الْإِخْوَةِ عَنْ الْجَدِّ ) عِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ , ثُمَّ جُزْءُ جَدِّهِ أَيْ الْأَعْمَامُ , ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا . وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ جِهَاتِ الْعُصُوبَةِ سِتٌّ : الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الْأُبُوَّةُ ثُمَّ الْجُدُودَةُ مَعَ الْأُخُوَّةُ ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلَاءُ , وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خَمْسُ جِهَاتٍ فَقَطْ : الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الْأُبُوَّةُ ثُمَّ الْأُخُوَّةُ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلَاءُ , بِإِدْخَالِ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا فِي الْأُبُوَّةِ وَإِدْخَالِ بَنِي الْإِخْوَةِ وَإِنْ نَزَلُوا بِمَحْضِ الذُّكُورَةِ فِي الْأُخُوَّةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجِهَاتُ سَبْعٌ : الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الْأُبُوَّةُ ثُمَّ الْجُدُودَةُ مَعَ الْأُخُوَّةِ ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ ثُمَّ الْعُمُومَةُ ثُمَّ الْوَلَاءُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَالِ وَمِمَّا تَقَدَّمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَصَبَةَ إذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُلَّ التَّرِكَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ فَرْضٍ , فَإِنْ وُجِدَ كَانَ لَهُ الْبَاقِي , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ . وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْعَصَبَاتُ وَتَعَدَّدَتْ جِهَاتُهُمْ , فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْبُنُوَّةِ كَمَا سَبَقَ . فَإِذَا تَعَدَّدُوا وَكَانُوا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ قُدِّمَ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً , فَيُقَدَّمُ الِابْنُ عَلَى ابْنِ الِابْنِ , وَالْأَبُ عَلَى الْجَدِّ , وَيُقَدَّمُ فُرُوعُ الْجَدِّ الْأَوَّلِ مَهْمَا نَزَلُوا عَلَى فُرُوعِ الْجَدِّ الثَّانِي مَهْمَا عَلَوْا , لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ دَرَجَةً . وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ وَاتَّحَدَتْ الدَّرَجَةُ قُدِّمَ الْأَقْوَى قَرَابَةً , وَهُوَ مَنْ تَكُونُ قَرَابَتُهُ لِأَبَوَيْنِ , فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ تَكُونُ قَرَابَتُهُ لِأَبٍ فَقَطْ , فَيُقَدَّمُ الْأَخُ الشَّقِيقُ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ , وَابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَهَكَذَا . وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْعَصَبَاتُ وَكَانُوا جَمِيعًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ , وَفِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ , وَقُوَّةُ قَرَابَتِهِمْ وَاحِدَةٌ , اسْتَحَقُّوا جَمِيعًا فِي الْمِيرَاثِ ; إذْ لَا تَفَاوُتَ(30/33)
بَيْنَهُمْ وَلَا وَجْهَ لِتَرْجِيحِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , فَيَكُونُونَ فِي التَّعْصِيبِ سَوَاءً . الْعَصَبَةُ بِالْغَيْرِ : 49 - وَهُنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي يَصِرْنَ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ وَهُنَّ أَرْبَعٌ : بِنْتُ الصُّلْبِ , وَبِنْتُ الِابْنِ إذَا لَمْ تُوجَدْ الْبِنْتُ , وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ , وَالْأُخْتُ لِأَبٍ عِنْدَ عَدَمِ الشَّقِيقَةِ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِإِخْوَتِهِنَّ الَّذِينَ فِي قُوَّتِهِنَّ , وَيُعَصَّبُ بَنَاتُ الِابْنِ أَيْضًا بِبَنِي عَمِّهِنَّ الَّذِينَ فِي دَرَجَتِهِنَّ , وَيُعَصِّبْنَ كَذَلِكَ بِبَنِي إخْوَتِهِنَّ , وَبَنِي أَبْنَاءِ عَمِّهِنَّ إذَا احْتَجْنَ إلَيْهِمْ فِي التَّوْرِيثِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْأُخْتَ الشَّقِيقَةَ أَوْ لِأَبٍ تُعَصَّبُ أَيْضًا بِالْجَدِّ وَتَكُونُ عَصَبَةً بِالْغَيْرِ . وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَخٌ يُعَصِّبُهَا . وَمَنْ لَا فَرْضَ لَهَا مِنْهُنَّ يُعَصِّبُهَا أَيْضًا مَنْ دُونَهَا مِنْ بَنِي الِابْنِ . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قوله تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } . وقوله تعالى : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } . وَمَنْ لَا فَرْضَ لَهَا وَأَخُوهَا عَصَبَةٌ لَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِأَخِيهَا , وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي صَيْرُورَةِ الْإِنَاثِ بِالذُّكُورِ عَصَبَةً إنَّمَا هُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : الْبَنَاتِ بِالْبَنِينَ , وَالْأَخَوَاتِ بِالْإِخْوَةِ , وَالْإِنَاثُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ذَوَاتُ فُرُوضٍ . فَمَنْ لَا فَرْضَ لَهَا مِنْ الْإِنَاثِ كَبِنْتِ الْأَخِ مَعَ أَخِيهَا , وَالْعَمَّةِ مَعَ الْعَمِّ , لَا يَتَنَاوَلُهَا النَّصُّ , وَالْأَخُ يَنْقُلُ أُخْتَهُ مِنْ فَرْضِهَا حَالَةَ الِانْفِرَادِ إلَى الْعُصُوبَةِ , كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْضِيلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ أَوْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا . الْعَصَبَةُ مَعَ الْغَيْرِ : 50 - وَهِيَ كُلُّ أُنْثَى تَصِيرُ عَصَبَةً مَعَ أُنْثَى غَيْرِهَا , وَهِيَ الْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أَوْ لِأَبٍ مَعَ الْبِنْتِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبِيَّةً أَمْ بِنْتَ ابْنٍ , وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { اجْعَلُوا الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً } وَالْمُرَادُ مِنْ الْجَمْعَيْنِ ( الْأَخَوَاتُ ) ( وَالْبَنَاتُ ) هُوَ الْجِنْسُ وَاحِدًا كَانَ أَوْ مُتَعَدِّدًا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَصَبَةِ بِالْغَيْرِ وَالْعَصَبَةِ مَعَ الْغَيْرِ , أَنَّ الْمُعَصِّبَ لِغَيْرِهِ يَكُونُ عَصَبَةً بِنَفْسِهِ , فَتَتَعَدَّى بِسَبَبِهِ الْعُصُوبَةُ إلَى الْأُنْثَى . وَفِي الْعَصَبَةِ مَعَ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ ثَمَّةَ عَاصِبٌ بِالنَّفْسِ أَصْلًا .(30/34)
الْإِرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ : 51 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً يَرِثُ جَمِيعَ مَالِ مَنْ أَعْتَقَهُ أَوْ الْبَاقِيَ مِنْهُ إذَا اتَّفَقَا فِي الدِّينِ , وَلَمْ يَخْلُفْ الْعَتِيقُ مَنْ يَرِثُهُ , أَوْ خَلَفَ مَنْ يَرِثُ الْبَعْضَ . أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا , وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ إلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْكَافِرَ بِالْوَلَاءِ وَعَكْسِهِ . ( وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ) : 52 - عَقْدُ الْمُوَالَاةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ . فَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ ( عَاقَدَتْ ) فَالْآيَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَقَدْ رُوِيَ عَنْ { تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ } فَقَوْلُهُ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَمَاتِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلَاهُمْ بِمِيرَاثِهِ , إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَهُمَا وِلَايَةٌ إلَّا فِي الْمِيرَاثِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ : مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : إذَا جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لِمَنْ وَالَاهُ . وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً . وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلَاءٍ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا , وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ , وَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ مَعَ ذِي رَحِمٍ شَيْئًا , وقوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } مَنْسُوخٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ : نَسَخَتْهَا { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَقَالَ مُجَاهِدٌ : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أَيْ مِنْ الْعَقْلِ - الدِّيَةِ - وَالنُّصْرَةِ وَالرِّفَادَةِ . وَلَيْسَ هَذَا بِوَصِيَّةٍ , لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُشَارِكُ فِي دِيَةٍ , فَلَهُ الرُّجُوعُ(30/35)
بَيْتُ الْمَالِ : 53 - بَيْتُ الْمَالِ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يَؤُولُ إلَيْهَا كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ , كَالْفَيْءِ وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ جِهَةَ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ شَاذٌّ - أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَيْسَ وَارِثًا , وَإِنَّمَا تَئُولُ إلَيْهِ التَّرِكَةُ أَوْ مَا يَبْقَى مِنْهَا بِاعْتِبَارِهِ مَالًا لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ , فَيَأْخُذُهُ بَيْتُ الْمَالِ كَمَا يَأْخُذُ كُلَّ مَالٍ ضَائِعٍ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ كَاللُّقَطَةِ , وَيَصْرِفُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ , وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُزَنِيّ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ . وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مِنْ الْعَصَبَةِ وَرُتْبَتُهُ تَلِي رُتْبَةَ الْمُعْتِقِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِبَيْتِ الْمَالِ : بَيْتُ مَالِ وَطَنِهِ , مَاتَ فِيهِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ , كَانَ مَالُهُ بِوَطَنِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَطَنٌ فَقِيلَ : الْمُعْتَبَرُ الْوَطَنُ الَّذِي بِهِ الْمَالُ , وَقِيلَ الَّذِي مَاتَ بِهِ , وَهُمْ يَعُدُّونَ بَيْتَ الْمَالِ عَاصِبًا فَهُوَ كَوَارِثٍ ثَابِتِ النَّسَبِ , وَذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ , سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْتَظِمًا أَمْ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ . وَقِيلَ : إنَّهُ حَائِزٌ لِلْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ لَا وَارِثٌ , وَهُوَ شَاذٌّ , وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ , إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ مِنْ النَّسَبِ , كَمَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ , بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ وَارِثٌ فَلَا يَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِكُلِّ الْمَالِ وَلَا الْإِقْرَارُ بِوَارِثٍ . وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَلِي الْعَصَبَةَ النَّسَبِيَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ , وَأَنَّهُ يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ أَوْ الْبَاقِيَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَظِمًا , بِأَنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ جَائِرًا أَوْ غَيْرَ أَهْلٍ لِلْقِيَامِ عَلَيْهِ , لِأَنَّ الْإِرْثَ لِجِهَةِ الْإِسْلَامِ , وَلَا ظُلْمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُمْ بِجَوْرِ الْإِمَامِ , وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمْ . وَأَفْتَى الْمُتَأَخِّرُونَ : بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَالِ , بِأَنْ فَقَدَ الْإِمَامَ أَوْ بَعْضَ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ , كَأَنْ جَارَ , فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , لِانْحِصَارِ مَصْرِفِ التَّرِكَةِ فِيهِمْ وَفِي بَيْتِ الْمَالِ , فَإِذَا تَعَذَّرَ بَيْتُ الْمَالِ تَعَيَّنُوا .(30/36)
الْحَجْبُ : 54 - الْحَجْبُ فِي اللُّغَةِ : الْمَنْعُ , بَابُهُ قَتَلَ , وَمِنْهُ قِيلَ لِلسِّتْرِ حِجَابٌ , لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ , وَقِيلَ لِلْبَوَّابِ حَاجِبٌ , لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهُ صَاحِبُ السِّرَاجِيَّةِ : بِأَنَّهُ مَنْعُ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ عَنْ مِيرَاثِهِ إمَّا كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِوُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ , وَلَا تَخْرُجُ التَّعْرِيفَاتُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى عَنْ هَذَا التَّعْرِيفِ . وَالْحَجْبُ مُطْلَقًا قِسْمَانِ : حَجْبٌ بِوَصْفٍ , وَهُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ عُلَمَاءُ الْمِيرَاثِ بِالْمَانِعِ , كَمَنْعِ الْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ . وَحَجْبٌ بِشَخْصٍ , وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَهُوَ قِسْمَانِ : حَجْبُ حِرْمَانٍ , وَهُوَ أَنْ يُسْقِطَ الشَّخْصُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَهُوَ لَا يَدْخُلُ عَلَى سِتَّةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ إجْمَاعًا , وَهُمْ : الْأَبَوَانِ وَالزَّوْجَانِ وَالْوَلَدَانِ ( الِابْنُ وَالْبِنْتُ ) وَضَابِطُهُمْ كُلُّ مَنْ أَدْلَى بِنَفْسِهِ إلَى الْمَيِّتِ إلَّا الْمُعْتَقَ . وَالثَّانِي حَجْبُ نُقْصَانٍ . وَهُوَ : حَجْبٌ عَنْ سَهْمٍ أَكْثَرَ إلَى سَهْمٍ أَقَلَّ , وَهُوَ لِخَمْسَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ , لِلزَّوْجَيْنِ , إذْ الزَّوْجُ يُحْجَبُ مِنْ النِّصْفِ إلَى الرُّبُعِ , وَالزَّوْجَةُ مِنْ الرُّبُعِ إلَى الثُّمُنِ بِوُجُودِ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ , وَالْأُمُّ تُحْجَبُ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْوَلَدِ , أَوْ وَلَدِ الِابْنِ , أَوْ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ , وَبِنْتُ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ مِنْ النِّصْفِ إلَى السُّدُسِ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ , وَالْأُخْتُ لِأَبٍ تَحْجُبُ الشَّقِيقَةَ مِنْ النِّصْفِ إلَى السُّدُسِ . وَالْمَحْرُومُ ( الْمَمْنُوعُ ) مِنْ الْمِيرَاثِ , لِوُجُودِ وَصْفٍ مَانِعٍ بِهِ لَا يَحْجُبُ غَيْرَهُ , لَا حِرْمَانًا كَامِلًا وَلَا نَاقِصًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَمِنْهُمْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ , لِأَنَّ وُجُودَهُ كَالْعَدَمِ , خِلَافًا لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي حَجْبِ الزَّوْجَيْنِ وَالْأُمِّ حَجْبَ نُقْصَانٍ بِالْوَلَدِ وَالْإِخْوَةِ الْكُفَّارِ وَالْأَرِقَّاءِ وَالْقَاتِلِينَ , وَتَبِعَهُ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ فِي الثَّلَاثَةِ , وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي الْقَاتِلِ خَاصَّةً . فَإِنْ مَاتَ شَخْصٌ عَنْ ابْنِهِ الْكَافِرِ وَزَوْجَةٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ , فَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ الشَّقِيقِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَالْمَحْجُوبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ قَدْ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ . فَإِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ أُمٍّ وَأَبٍ وَإِخْوَةٍ , فَإِنَّ الْإِخْوَةَ وَإِنْ كَانُوا مَحْجُوبِينَ بِالْأَبِ يُصَيِّرُونَ نَصِيبَ الْأُمِّ إلَى السُّدُسِ . 55 - وَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ يَقُومُ عَلَيْهَا الْحَجْبُ هِيَ : الْأُولَى : أَنَّ مَنْ يُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ يُحْجَبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَارِثِ , لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ هُوَ وَمَنْ يُدْلِي بِسَبَبِهِ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْهُ , لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ , وَلِأَنَّ الْبَعِيدَ إنَّمَا اتَّصَلَ بِالْمَيِّتِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَلِقِيَامِهِ مَقَامَهُ , وَحَيْثُ وُجِدَ الْأَصْلُ لَا يَسْتَحِقُّ مَنْ كَانَ بَدَلًا عَنْهُ . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَسْرِي عَلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ , فَالْأَبُ يَحْجُبُ الْجَدَّ , وَالْأَخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُ ابْنَهُ وَهَكَذَا . وَتَسْرِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , فَالْأَبُ يَحْجُبُ الْجَدَّ عَنْ فَرْضِهِ , وَالْأُمُّ تَحْجُبُ أُمَّ الْأُمِّ , وَلَا تَسْرِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَأَوْلَادِ الْأُمِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمِّ , فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ وُجُودِهَا , لَكِنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ إذَا تَعَدَّدُوا , وَيَحْجُبُهُمْ الْأَبُ وَالْجَدُّ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يُدْلُونَ بِهِمَا , لِأَنَّ النَّصَّ قَيَّدَ مِيرَاثَهُمْ بِأَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ . الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْأَقْرَبَ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ إذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِوَصْفِهِ وَنَوْعِهِ . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَعَمُّ مِنْ السَّابِقَةِ , لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْبَعِيدَ الَّذِي يُدْلِي بِأَقْرَبَ مِنْهُ , وَمَنْ لَا يُدْلِي بِهِ , فَالِابْنُ يَحْجُبُ ابْنَ الِابْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ , وَالْبِنْتَانِ تَحْجُبَانِ بِنْتَ الِابْنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْفَرْضِ , وَالْأَخُ يَحْجُبُ الْعَمَّ وَلَوْ كَانَ لَا يُدْلِي بِهِ , وَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُدْلِي بِهَا , وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَتَحَقَّقُ فِي الْعَصَبَاتِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ عَلَى السَّوَاءِ . الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْأَقْوَى قَرَابَةً يَحْجُبُ الْأَضْعَفَ مِنْهُ , فَالْأَخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُ الْأَخَ لِأَبٍ(30/37)
, وَالْأُخْتُ لِأَبٍ لَا تَأْخُذُ النِّصْفَ مَعَ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ , وَهَكَذَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَتَّحِدُ فِيهَا الدَّرَجَةُ وَتَخْتَلِفُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ , فَإِنْ اتَّحَدَتْ الدَّرَجَةُ اُعْتُبِرَ الْحَجْبُ بِقُرْبِهَا .
الْعَوْلُ : 56 - مِنْ مَعَانِي الْعَوْلِ فِي اللُّغَةِ : الزِّيَادَةُ , وَعَالَتْ الْفَرِيضَةُ فِي الْحِسَابِ زَادَتْ . وَالْفِعْلُ عَالَ وَمُضَارِعُهُ يَعُولُ وَتُعِيلُ . 57 - وَفِي الِاصْطِلَاحِ : زِيَادَةُ سِهَامِ الْفُرُوضِ عَنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ , بِزِيَادَةِ كُسُورِهَا عَنْ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ . وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نُقْصَانُ أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ , كَمَا إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ , فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ فَرْضًا , وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ فَرْضًا , وَلِلْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفَ فَرْضًا , فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ زَادَتْ الْفُرُوضُ عَمَّا تَنْقَسِمُ إلَيْهِ التَّرِكَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْوَاحِدِ الصَّحِيحِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ عَالَتْ فِي الْإِسْلَامِ - وَقِيلَ : إنَّ أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ عَالَتْ هِيَ امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ - وَقَدْ وَقَعَتْ فِي صَدْرِ خِلَافَةِ عُمَرَ , فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَ اللَّهُ وَأَيُّكُمْ أَخَّرَ ؟ وَإِنِّي إنْ بَدَأْت بِالزَّوْجِ فَأَعْطَيْته حَقَّهُ كَامِلًا لَمْ يَبْقَ لِلْأُخْتَيْنِ حَقَّهُمَا , وَإِنْ بَدَأْت بِالْأُخْتَيْنِ فَأَعْطَيْتهمَا حَقَّهُمَا كَامِلًا لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجِ حَقُّهُ . فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْعَوْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ , أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ , أَوْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى . وَيُرْوَى أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَك سِتَّةَ دَرَاهِمَ , لِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ , وَلِآخَرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ كَيْفَ تَصْنَعُ ؟ أَلَيْسَ تَجْعَلُ الْمَالَ سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ الْعَبَّاسُ : هُوَ ذَلِكَ فَقَضَى عُمَرُ بِالْعَوْلِ . وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ عُمَرُ لَمَّا الْتَوَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ وَدَافَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا , فَقَالَ : مَا أَدْرِي أَيُّكُمْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَلَا أَيُّكُمْ أَخَّرَهُ , وَكَانَ امْرَأً وَرِعًا , فَقَالَ : مَا أَجِدُ شَيْئًا أَوْسَعَ لِي مِنْ أَنْ أَقْسِمَ التَّرِكَةَ عَلَيْكُمْ بِالْحِصَصِ , وَأُدْخِلَ عَلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ عَوْلِ الْفَرِيضَةِ , وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ حَتَّى انْتَهَى أَمْرُ الْخِلَافَةِ إلَى عُثْمَانَ , فَأَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي ذَلِكَ , وَقَالَ : لَوْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ وَأَخَّرُوا مَنْ أَخَّرَ اللَّهُ مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ قَطُّ . فَقِيلَ لَهُ : مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : قَدَّمَ اللَّهُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَالْأُمَّ وَالْجَدَّةَ , وَأَمَّا مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ فَالْبَنَاتُ , وَبَنَاتُ الِابْنِ , وَالْأَخَوَاتُ الشَّقِيقَاتُ , وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَهْبَطَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضٍ إلَى فَرْضٍ فَهُوَ الَّذِي قَدَّمَهُ , وَمَنْ أَهْبَطَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضٍ إلَى غَيْرِ فَرْضٍ فَهُوَ الَّذِي أَخَّرَهُ . احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْعَوْلِ بِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَسَاوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ , وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِيهِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ حَقِّهِ إنْ اتَّسَعَ الْمَحَلُّ , فَإِنْ ضَاقَ تَحَاصَّوْا - كَالْغُرَمَاءِ - فِي التَّرِكَةِ , وَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ , لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ بِنَصٍّ ثَابِتٍ . وَهَذَا هُوَ رَأْيُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَيَحْتَجُّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْحُقُوقَ فِي الْأَمْوَالِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ , فَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لَا يَفِي بِهَا يُقَدَّمُ مِنْهَا مَا كَانَ أَقْوَى , فَفِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ يُقَدَّمُ التَّجْهِيزُ , وَالدَّيْنُ , وَالْوَصِيَّةُ , وَالْمِيرَاثُ , فَإِذَا ضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ الْفُرُوضِ يُقَدَّمُ الْأَقْوَى . وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يُنْقَلُ مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إلَى فَرْضٍ آخَرَ مُقَدَّرٍ يَكُونُ صَاحِبَ فَرْضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , فَيَكُونُ أَقْوَى مِمَّنْ يُنْقَلُ مِنْ فَرْضٍ مُقَدَّرٍ إلَى فَرْضٍ آخَرَ غَيْرِ مُقَدَّرٍ , لِأَنَّهُ صَاحِبُ فَرْضٍ مِنْ وَجْهٍ وَعَصَبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَإِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَيْهِ أَوْ الْحِرْمَانِ أَوْلَى , لِأَنَّ ذَوِي الْفُرُوضِ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْعَصَبَاتِ . 58 - وَلَقَدْ وُجِدَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ أُصُولَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَعُولُ هِيَ : مَا كَانَ أَصْلُهُ سِتَّةً , وَاثْنَيْ عَشَرَ , وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ . 59 - فَمَا(30/38)
أَصْلُهُ سِتَّةٌ قَدْ يَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ وَإِلَى تِسْعَةٍ وَإِلَى عَشَرَةٍ . فَالْأَوَّلُ , كَزَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ : فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ النِّصْفَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ , وَالْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ , وَهُوَ أَرْبَعَةٌ , فَالْمَجْمُوعُ سَبْعَةٌ . وَمِثَالُ الْعَوْلِ إلَى ثَمَانِيَةٍ : زَوْجٌ , وَأُخْتَانِ لِأَبٍ , وَأُمٌّ , فَإِنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ النِّصْفَ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ , وَتَأْخُذُ الْأُخْتَانِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ , وَالْأُمُّ السُّدُسَ سَهْمًا , فَالْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةٌ . وَمِثَالُ الْعَوْلِ إلَى تِسْعَةٍ : زَوْجٌ , وَأُخْتَانِ شَقِيقَتَانِ , وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ , فَإِنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ثَلَاثَةً , وَلِلْأُخْتَيْنِ الشَّقِيقَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةً , وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ سَهْمَيْنِ , فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعَةً . وَمِثَالُ الْعَوْلِ إلَى عَشَرَةٍ : زَوْجٌ , وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ , وَأُخْتٌ لِأَبٍ , وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ , وَأُمٌّ , فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ , وَلِلْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ , وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ سَهْمٌ , وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ سَهْمَانِ , وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ , فَالْمَجْمُوعُ عَشَرَةٌ . 60 - وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةُ اثْنَيْ عَشَرَ فَقَدْ تَعُولُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ , كَزَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٍ لِأَبٍ , فَإِنَّ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ , وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ , وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ النِّصْفَ , فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ : اثْنَا عَشَرَ , لِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ , وَلِلْأُخْتِ سِتَّةٌ , وَلِلْأُمِّ أَرْبَعَةٌ . وَقَدْ تَعُولُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ , كَزَوْجٍ , وَبِنْتَيْنِ , وَأُمٍّ , وَأَبٍ , لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ , وَلِلْبِنْتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ , وَلِكُلٍّ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ اثْنَانِ , فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةَ عَشَرَ . وَقَدْ تَعُولُ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ , كَزَوْجَةٍ , وَأُمٍّ , وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ , وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ . لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ , وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ اثْنَانِ , وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ , وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ , فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةَ عَشَرَ . 61 - وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ , فَإِنَّهَا لَا تَعُولُ إلَّا إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ , وَذَلِكَ كَزَوْجَةٍ , وَبِنْتَيْنِ , وَأُمٍّ , وَأَبٍ , لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ , وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ , وَلِكُلٍّ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ , فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ . 62 - وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِنْ أُصُولِ الْمَسَائِلِ فَلَا تَعُولُ , وَهِيَ الِاثْنَانِ , وَالثَّلَاثَةُ , وَالْأَرْبَعَةُ , وَالثَّمَانِيَةُ , فَلَا عَوْلَ فِي الِاثْنَيْنِ , لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ إذَا كَانَ فِيهَا نِصْفَانِ , كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ , أَوْ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ , كَزَوْجٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ . كَمَا لَا عَوْلَ فِي الثَّلَاثَةِ , لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا إمَّا ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ , كَأُمٍّ وَأَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ , وَإِمَّا ثُلُثَانِ وَمَا بَقِيَ , كَبِنْتَيْنِ وَأَخٍ لِأَبٍ , وَإِمَّا ثُلُثٌ وَثُلُثَانِ , كَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ . وَلَا عَوْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ , لِأَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا , إمَّا رُبُعٌ وَمَا بَقِيَ , كَزَوْجٍ وَابْنٍ , أَوْ رُبُعٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ , كَزَوْجٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ شَقِيقٍ , أَوْ رُبُعٌ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ , كَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ . وَلَا عَوْلَ فِي الثَّمَانِيَةِ , لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا إمَّا ثُمُنٌ وَمَا بَقِيَ , كَزَوْجَةٍ وَابْنٍ , أَوْ ثُمُنٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ كَزَوْجَةٍ وَبِنْتٍ وَأَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ .(30/39)
الْإِرْثُ بِالرَّدِّ : 63 - مِنْ مَعَانِي الرَّدِّ فِي اللُّغَةِ : الرَّجْعُ . يُقَالُ : رَجَعْت بِمَعْنَى رَدَدْت . وَمِنْهُ رَدَدْت عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ وَرَدَدْته إلَى مَنْزِلِهِ فَارْتَدَّ إلَيْهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : دَفْعُ مَا فَضَلَ مِنْ فُرُوضِ ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ , عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ . فَالرَّدُّ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَمْرَانِ : أَوَّلُهُمَا : أَلَّا تَسْتَغْرِقَ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ ; إذْ لَوْ اسْتَغْرَقَتْهَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ حَتَّى يُرَدَّ . ثَانِيهِمَا : أَلَّا يُوجَدَ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ أَوْ سَبَبِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ . فَلَوْ وُجِدَ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , وَهُوَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ أَخَذَ الْبَاقِيَ تَعْصِيبًا بَعْدَ الْفَرْضِ . 64 - وَالرَّدُّ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ . فَقَدْ انْقَسَمُوا فِيهِ إلَى فَرِيقَيْنِ , وَتَبِعَ كُلَّ فَرِيقٍ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ . 65 - فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى الرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ , وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِمَامَانِ : أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ . فَذَهَبَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ إلَى : أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَ ذَوِي الْفُرُوضِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ , وَلَا مِنْ السَّبَبِ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ إلَّا الزَّوْجَيْنِ , وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ . وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَذَهَبَ عُثْمَانُ إلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ أَيْضًا , وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَاحْتَجَّ عُثْمَانُ لِلرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ , فَكَمَا أَنَّ بِالْعَوْلِ تَنْقُصُ سِهَامُهُمَا , فَيَجِبُ أَنْ تُزَادَ بِالرَّدِّ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ إلَّا عَلَى سِتَّةٍ : الزَّوْجَيْنِ , وَابْنَةِ الِابْنِ مَعَ ابْنَةِ الصُّلْبِ , وَالْأُخْتِ لِأَبٍ مَعَ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ , وَأَوْلَادِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ , وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ أَيًّا كَانَ , وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى جِهَةَ الرَّدِّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ , وَأَوْلَادِ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ , وَالْجَدَّةِ مَعَ ذِي سَهْمٍ فَقَطْ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ إلَّا ثَلَاثَةً : الزَّوْجَيْنِ وَالْجَدَّةَ . وَقَدْ أَجْمَعُ مُتَأَخِّرُو فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُمْ مَنْ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ , عَلَى أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ , وَيُورَثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ إذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ , وَذَلِكَ بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ إمَامٌ أَصْلًا , أَوْ وُجِدَ وَفَقَدَ بَعْضَ شُرُوطِهِ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ , إذَا فَقَدَ الْإِمَامُ بَعْضَ الشُّرُوطِ لَكِنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ الْعَدَالَةُ , وَأَوْصَلَ الْحُقُوقَ إلَى أَصْحَابِهَا , كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مُنْتَظِمًا . أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالرَّدِّ : 66 - اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالرَّدِّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ : أَوَّلًا : بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فَإِنَّ مَعْنَاهَا بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ بِسَبَبِ الرَّحِمِ , فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَوِي الرَّحِمِ يَسْتَحِقُّونَ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ . وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ الْمِيرَاثِ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ مَجْمُوعُهُ . وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ الْمَفْهُومَةَ مِنْ الْآيَةِ تَحْصُلُ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ , لِأَنَّ إعْطَاءَ الْفَرْضِ حَصَلَ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى هِيَ آيَةُ النِّسَاءِ , وَحَمْلُ آيَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى التَّأْسِيسِ وَإِفَادَةُ حُكْمٍ جَدِيدٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى تَأْكِيدِ مَا فِي آيَةِ الْفَرْضِ , فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا فِي الْآيَتَيْنِ , وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَلَا يُرَدُّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ , لِانْعِدَامِ الرَّحِمِ فِي حَقِّهِمَا . ثَانِيًا : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ قَالَ سَعْدٌ : أَمَا إنَّهُ لَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي , أَفَأُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي ؟ إلَى أَنْ قَالَ عليه الصلاة والسلام : الثُّلُثُ خَيْرٌ . وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } . لَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ سَعْدًا اعْتَقَدَ أَنَّ الْبِنْتَ تَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام , وَمَنَعَهُ عَنْ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ , مَعَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ إلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالرَّدِّ ; إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ ابْنَتُهُ تَسْتَحِقُّ مَا زَادَ عَلَى فَرْضِهَا -(30/40)
وَهُوَ النِّصْفُ بِطَرِيقِ الرَّدِّ - لَجَوَّزَ لَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْوَصِيَّةَ بِالنِّصْفِ . ثَالِثًا : { أَنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام وَرَّثَ الْمُلَاعَنَةَ لِجَمِيعِ مَالِ وَلَدِهَا } , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ الرَّدِّ . وَفِي حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ { أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ : تُحْرِزُ الْمَرْأَةُ مِيرَاثَ لَقِيطِهَا وَعَتِيقِهَا وَالِابْنِ الَّذِي لُوعِنَتْ بِهِ } . رَابِعًا : إنَّ أَصْحَابَ الْفُرُوضِ قَدْ شَارَكُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ , وَتَرَجَّحُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالْقَرَابَةِ , وَمُجَرَّدُ الْقَرَابَةِ فِي أَصْحَابِ الْفُرُوضِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةَ الْعُصُوبَةِ لَكِنْ يَثْبُتُ بِهَا التَّرْجِيحُ , بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْأُمِّ فِي حَقِّ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ , فَإِنَّ قَرَابَةَ الْأُمِّ , وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ بِانْفِرَادِهَا الْعُصُوبَةَ إلَّا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا التَّرْجِيحُ . وَلَمَّا كَانَ هَذَا التَّرْجِيحُ بِالسَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ الْفَرِيضَةَ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَرِيضَةِ , فَيُرَدُّ الْبَاقِي كُلُّهُ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ , وَكَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْأَقْرَبِ وَالْأَقْوَى فِي أَصْلِ الْفَرِيضَةِ يَسْقُطُ أَيْضًا فِي اعْتِبَارِ الرَّدِّ . 67 - وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , فَإِذَا لَمْ تَسْتَغْرِقْ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ , وَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ , وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْوَرَثَةِ عَاصِبٌ يَرِثُ الْبَاقِيَ , فَإِنَّهُ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ , لِأَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ لَا يَرَى تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ , وَلَا الرَّدَّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ , وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , وَبِهِ أَخَذَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْإِمَامَانِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ . وَقَيَّدَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ الدَّفْعَ لِبَيْتِ الْمَالِ , إذَا لَمْ يُوجَدُ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ أَوْ سَبَبِيٌّ بِمَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا , يَصْرِفُ الْمَالَ فِي مَصَارِفِهِ الشَّرْعِيَّةِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَلِبَيْتِ الْمَالِ . وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بَيْتَ الْمَالِ عَاصِبًا يَلِي فِي الرُّتْبَةِ الْعَاصِبَ النَّسَبِيَّ وَالسَّبَبِيَّ . 68 - اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ مِنْ الرَّدِّ : أَوَّلًا : بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ , فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِيهَا نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ . وَالتَّقْدِيرُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ . لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - بَعْدَ آيَةِ الْمَوَارِيثِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } الْآيَةَ , فَقَدْ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ . ثَانِيًا : أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الْفُرُوضِ مَالٌ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ , فَيَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ , كَمَا إذَا لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا أَصْلًا , لِأَنَّ الرَّدَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْفَرْضِيَّةِ , أَوْ الْعُصُوبَةِ أَوْ الرَّحِمِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْفَرْضِيَّةِ , لِأَنَّ كُلَّ ذِي فَرْضٍ قَدْ أَخَذَ فَرْضَهُ , وَلَا بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ , لِأَنَّ بِاعْتِبَارِهَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ , وَلَا بِاعْتِبَارِ الرَّحِمِ , لِأَنَّهُ فِي إرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ أَيْضًا . فَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالرَّدِّ .(30/41)
أَقْسَامُ مَسَائِلِ الرَّدِّ : 69 - مَسَائِلُ الرَّدِّ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْمَسْأَلَةِ إمَّا صِنْفٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا فَضَلَ وَإِمَّا أَكْثَرُ مِنْ صِنْفٍ , وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ , أَوْ لَا يَكُونُ , فَانْحَصَرَتْ الْأَقْسَامُ فِي أَرْبَعَةٍ : 70 - أَوَّلُهَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الْفُرُوضِ , عِنْدَ عَدَمِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَدَدَ رُءُوسِهِمْ , لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ لَهُمْ فَرْضًا وَرَدًّا , وَذَلِكَ كَمَا إذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَيْنِ , أَوْ أُخْتَيْنِ , أَوْ جَدَّتَيْنِ فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْنِ , وَتُعْطَى كُلُّ وَاحِدَةٍ نِصْفَ التَّرِكَةِ , لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ . 71 - ثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ جِنْسَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ , وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ أَجْنَاسَ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ لَا تَزِيدُ عَنْ ثَلَاثَةٍ , فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَجْمُوعَ سِهَامِ الْمُجْتَمِعِينَ . فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُدُسَانِ , كَجَدَّةٍ وَأُخْتٍ لِأُمٍّ , فَالْمَسْأَلَةُ حِينَئِذٍ مِنْ سِتَّةٍ , وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَرْضًا , فَيُجْعَلُ الِاثْنَانِ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ , وَيُقْسَمُ الْمَالُ مُنَاصَفَةً بَيْنَ الْجَدَّةِ وَالْأُخْتِ لِأُمٍّ , لِتَسَاوِي نَصِيبِهِمَا . وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُلُثٌ وَسُدُسٌ , كَوَلَدَيْ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ , فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ , وَمَجْمُوعُ سِهَامِ الْوَرَثَةِ ثَلَاثَةٌ , فَتُجْعَلُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ , وَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ أَثْلَاثًا , لِوَلَدَيْ الْأُمِّ الثُّلُثَانِ , وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ . 72 - ثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ , مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ كَالزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ , وَحِينَئِذٍ يُعْطَى فَرْضَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَقَلِّ أَصْلٍ لِلْمَسْأَلَةِ , وَيُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ , إنْ اسْتَقَامَ الْبَاقِي عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ , وَذَلِكَ كَزَوْجٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ , فَإِنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ , يُعْطَى الزَّوْجُ وَاحِدًا مِنْهَا , وَالْبَاقِي لِلْبَنَاتِ بِالتَّسَاوِي . وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ الْبَاقِي , فَيَضْرِبُ عَدَدَ رُءُوسِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ إنْ وَافَقَ رُءُوسَهُمْ ذَلِكَ الْبَاقِي , فَمَا حَصَلَ تَصِحُّ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ , كَزَوْجٍ وَسِتِّ بَنَاتٍ . فَإِنَّ أَقَلَّ أَصْلٍ لِلْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ , يَبْقَى مِنْهَا ثَلَاثَةٌ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ , فَلَا تَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ السِّتِّ , لَكِنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ , فَيَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِ الرُّءُوسِ , وَهُوَ اثْنَانِ فِي الْأَرْبَعَةِ , فَيَبْلُغُ ثَمَانِيَةً , لِلزَّوْجِ مِنْهَا اثْنَانِ وَلِلْبَنَاتِ سِتٌّ . وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ الْبَاقِي عَدَدَ الرُّءُوسِ , فَيَضْرِبُ كُلَّ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ فِي أَصْلِ مَسْأَلَةِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ , فَالْمَبْلَغُ هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ وَفْقِ عَدَدِ الرُّءُوسِ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّوَافُقِ , أَوْ مِنْ ضَرْبِ كُلِّ عَدَدِ الرُّءُوسِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّبَايُنِ , وَذَلِكَ كَزَوْجٍ وَخَمْسِ بَنَاتٍ . فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ , لِاجْتِمَاعِ الرُّبُعِ وَالثُّلُثَيْنِ , لَكِنْ مِثْلُهَا يُرَدُّ إلَى الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ أَصْلِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ , فَإِذَا أَعْطَى الزَّوْجَ وَاحِدًا يَبْقَى ثَلَاثَةٌ , فَلَا تَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسِ بَنَاتٍ , فَيَضْرِبُ الْأَصْلَ أَرْبَعَةً فِي عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ , فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ عِشْرِينَ , فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ , وَيَضْرِبُ نَصِيبَ الزَّوْجِ , وَهُوَ وَاحِدٌ فِي خَمْسَةٍ , فَيَصِيرُ نَصِيبُهُ خَمْسَةً , وَيُقْسَمُ الْبَاقِي , وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الْبَنَاتِ , فَتَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةً . 73 - رَابِعُهَا : أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَعَهُمْ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ , وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَخْرَجَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ , فَيُعْطَى نَصِيبُهُ مِنْهُ , ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ الَّذِينَ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِنِسْبَةِ فُرُوضِهِمْ , فَإِذَا احْتَاجَ الْأَمْرُ إلَى تَصْحِيحِ الْمَسْأَلَةِ صُحِّحَتْ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ . فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ , فَإِنَّ أَصْلَ(30/42)
الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ , لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا الرُّبُعُ سَهْمٌ , وَلِلْأُمِّ وَالْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثَّلَاثَةُ الْأَسْهُمِ الْبَاقِيَةُ . لِلْأُمِّ سَهْمٌ فَرْضًا وَرَدًّا وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ فَرْضًا وَرَدًّا . وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَيْ ابْنٍ , فَيَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ثَمَانِيَةً , لِلزَّوْجَةِ مِنْهَا سَهْمٌ , وَالْبَاقِي - وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ - يُقْسَمُ عَلَى بِنْتَيْ الِابْنِ وَالْأُمِّ بِنِسْبَةِ 3 / 2 إلَى 6 / 1 أَيْ 4 إلَى 1 فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ خَمْسَةً , وَالسَّبْعَةُ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى خَمْسَةٍ , فَيُصَحَّحُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ بِضَرْبِ خَمْسَةٍ فِي ثَمَانِيَةٍ فَيَصِيرُ أَرْبَعِينَ , لِلزَّوْجَةِ ثُمُنُهَا خَمْسَةٌ , وَلِلْأُمِّ سَبْعَةٌ , وَلِبِنْتَيْ الِابْنِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ .(30/43)
مِيرَاثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ : 74 - الرَّحِمُ لُغَةً : بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ , وَالْقَرَابَةُ , أَوْ أَصْلُهَا وَأَسْبَابُهَا , وَجَمْعُهُ أَرْحَامٌ , وَشَرْعًا : كُلُّ قَرِيبٍ . وَفِي عُرْفِ الْفَرْضِيِّينَ : كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ مُقَدَّرٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى , أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ , وَلَا عَصَبَةَ تُحْرِزُ الْمَالَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ . 75 - وَفِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ , فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ . فَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ , وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ , وَمِنْ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ . وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ : زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ , وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ , وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . وَلَكِنْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ . فَإِنَّهُ حُكِيَ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ سَأَلَ أَبَا حَازِمٍ الْقَاضِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ : أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ إجْمَاعِهِمْ . وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَمِمَّنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِمْ : الْحَنَفِيَّةُ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَمُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ , وَأَهْلُ التَّنْزِيلِ رحمهم الله . وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمُتَقَدِّمُو الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . أَدِلَّةُ الْمَانِعِينَ : 76 - اسْتَدَلَّ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِمَا يَلِي : أَوَّلًا : أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - نَصَّ فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ عَلَى بَيَانِ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَالْعَصَبَاتِ , وَلَمْ يَذْكُرْ لِذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْئًا , { وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًا } وَأَدْنَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ , وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْقِيَاسِ . ثَانِيًا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَقَالَ : نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام وَأَخْبَرَنِي أَلَّا مِيرَاثَ لِلْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ . } أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ : 77 - وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِمَا يَأْتِي : أَوَّلًا : بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } إذْ مَعْنَى الْآيَةِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ , فَقَدْ أَثْبَتَتْ اسْتِحْقَاقَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِوَصْفٍ عَامٍّ , هُوَ وَصْفُ الرَّحِمِ , فَإِذَا انْعَدَمَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ , وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَصْحَابَ فُرُوضٍ أَوْ عَصَبَاتٍ , اسْتَحَقُّوا بِالْوَصْفِ الْعَامِّ , وَهُوَ كَوْنُهُمْ ذَوِي رَحِمٍ , وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ بِالْوَصْفِ الْخَاصِّ , فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى كِتَابِ اللَّهِ . ثَانِيًا : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ , وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ . } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ , يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ } وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَرِثُونَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَصْحَابُ فُرُوضٍ , وَلَا عَصَبَةٌ , وَلَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ عَدْلًا . وَأَجْمَعَ مُتَأَخِّرُو الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ فَإِنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَرِثُونَ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَصْحَابُ فُرُوضٍ أَوْ عَصَبَةٍ . وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ انْتِظَامِهِ أَلَّا يَصْرِفَ الْإِمَامُ التَّرِكَةَ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ . 78 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , يُقَدِّمُونَ الرَّدَّ فِي حَالِ وُجُودِ أَصْحَابِ فُرُوضٍ لَمْ يَسْتَغْرِقُوا التَّرِكَةَ عَلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا , وَرِثَ ذَوُو الْأَرْحَامِ بِالْقَيْدِ السَّابِقِ . وَمَنْ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَخَذَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى , أَمَّا إذَا تَعَدَّدُوا , فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : 1 - مَذْهَبُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ . 2 - مَذْهَبُ أَهْلِ الرَّحِمِ . 3 - مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ . 79 - وَأَهْلُ الْقَرَابَةِ هُمْ(30/44)
الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ قُوَّةَ الْقَرَابَةِ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَيُقَدِّمُونَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي إرْثِ الْعَصَبَاتِ , وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِأَهْلِ الْقَرَابَةِ . فَكَمَا أَنَّ لِلْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ جِهَاتٍ أَرْبَعًا , فَكَذَلِكَ ذَوُو الْأَرْحَامِ , لِأَنَّ الْقَرِيبَ الَّذِي لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ وَلَا عَاصِبًا , إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فُرُوعِ الْمَيِّتِ , أَوْ مِنْ أُصُولِهِ , أَوْ مِنْ فُرُوعِ أَبَوَيْهِ , أَوْ مِنْ فُرُوعِ أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ . وَتَقْدِيمُ الْأَقْرَبِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَبِهِ قَطَعَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي . 80 - وَذَوُو الْأَرْحَامِ عِنْدَهُمْ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ : الصِّنْفُ الْأَوَّلُ : مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَيِّتِ , وَهُمْ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا , وَأَوْلَادُ بَنَاتِ الِابْنِ كَذَلِكَ . الصِّنْفُ الثَّانِي : مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمْ الْمَيِّتُ , وَهُمْ الْأَجْدَادُ الرَّحِمِيُّونَ وَإِنْ عَلَوْا , كَأَبِي أُمِّ الْمَيِّتِ وَأَبِي أَبِي أُمِّهِ , وَالْجَدَّاتِ الرَّحِمِيَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ , كَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْمَيِّتِ , وَأُمِّ أُمِّ أَبِي أُمِّهِ . الصِّنْفُ الثَّالِثُ : مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى أَبَوَيْ الْمَيِّتِ أَوْ أَحَدِهِمْ . وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ وَإِنْ نَزَلُوا , سَوَاءٌ أَكَانُوا ذُكُورًا أَمْ إنَاثًا , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ , أَمْ لِأَبٍ , أَمْ لِأُمٍّ , وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَإِنْ نَزَلُوا , سَوَاءٌ أَكَانَتْ الْأُخُوَّةُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ , أَمْ مِنْ الْأَبِ , أَمْ مِنْ الْأُمِّ , وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَإِنْ نَزَلُوا . الصِّنْفُ الرَّابِعُ : مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى جَدَّيْ الْمَيِّتِ , أَوْ أَحَدِهِمَا , وَهُمَا أَيْ جَدَّا الْمَيِّتِ أَبُو الْأَبِ , وَأَبُو الْأُمِّ , أَوْ يَنْتَسِبُ إلَى جَدَّتَيْهِ أَوْ إحْدَاهُمَا , وَهُمَا أُمُّ الْأَبِ , وَأُمُّ الْأُمِّ , وَيَشْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَّاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَالْأَعْمَامَ لِأُمٍّ , وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ وَإِنْ تَبَاعَدَ هَؤُلَاءِ , وَأَوْلَادُهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا . كَيْفِيَّةُ التَّوْرِيثِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ : 81 - اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضٍ . فَرَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَقْرَبَ الْأَصْنَافِ إلَى الْمَيِّتِ وَأَوْلَاهُمْ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْوِرَاثَةِ عَنْهُ هُوَ الصِّنْفُ الثَّانِي , وَهُمْ الرَّحِمِيُّونَ مِنْ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا , ثُمَّ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ وَإِنْ نَزَلُوا , ثُمَّ الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَإِنْ نَزَلُوا , ثُمَّ الصِّنْفُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَعُدُوا بِالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ . وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ أَقْرَبَ الْأَصْنَافِ وَأَوْلَاهُمْ بِالتَّقْدِيمِ إلَى الْمَيِّتِ فِي الْمِيرَاثِ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ , ثُمَّ الثَّانِي , ثُمَّ الثَّالِثُ , ثُمَّ الرَّابِعُ , كَتَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ , إذْ يُقَدَّمُ مِنْهُمْ الِابْنُ , ثُمَّ الْأَبُ , ثُمَّ الْجَدُّ , ثُمَّ الْإِخْوَةُ ثُمَّ الْأَعْمَامُ , وَهُوَ الْمَأْخُوذُ لِلْفَتْوَى . وَوَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ مَا رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ , وَمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ هُوَ قَوْلُهُ الثَّانِي . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الصِّنْفَ الثَّالِثَ , وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ , وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ , وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ , مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ , وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِمَا فِي الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ - وَهُوَ مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَا دَامَتْ الْقِسْمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ الْمَالِ - يَقْتَضِي أَلَّا يُقَدَّمَ الصِّنْفُ الثَّالِثُ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ . وَتَوْجِيهُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْأُولَى جَرَى فِيهَا عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِي الْعَصَبَاتِ , حَيْثُ قَدَّمَ هَا هُنَا الْجَدَّ أَبَا الْأُمِّ الَّذِي هُوَ فِي دَرَجَةِ الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ عَلَى أَوْلَادِ أَبِي الْمَيِّتِ , فَلَا يَرِثُونَ مَعَهُ , أَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَادَ الْمَيِّتِ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ فَهِيَ جَارِيَةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْعَصَبَاتِ , حَيْثُ كَانَ فِيهَا ابْنُ الِابْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَدِّ أَبِي الْأَبِ . كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ كُلِّ صِنْفٍ : 82 - الصِّنْفُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَأَوْلَادُ بَنَاتِ الِابْنِ , أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إلَى(30/45)
الْمَيِّتِ , كَبِنْتِ الْبِنْتِ , فَإِنَّهَا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ , لِأَنَّ بِنْتَ الْبِنْتِ تُدْلِي إلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ , وَالثَّانِيَةُ بِوَاسِطَتَيْنِ . وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ , بِأَنْ يُدْلُوا كُلُّهُمْ إلَى الْمَيِّتِ بِدَرَجَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ , فَحِينَئِذٍ يُقَدَّمُ وَلَدُ الْوَارِثِ عَلَى وَلَدِ ذِي الرَّحِمِ , كَبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ , فَإِنَّهَا أَوْلَى مِنْ ابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ , لِأَنَّ الْأُولَى وَلَدُ بِنْتِ الِابْنِ , وَهِيَ صَاحِبَةُ فَرْضٍ , وَالثَّانِيَةُ ذَاتُ رَحِمٍ , وَسَبَبُ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ وَلَدَ الْوَارِثِ أَقْرَبُ حُكْمًا , وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بِالْقُرْبِ الْحَقِيقِيِّ إنْ وُجِدَ , وَإِلَّا فَبِالْقُرْبِ الْحُكْمِيِّ . 83 - وَإِنْ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَارِثٌ كَبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ , وَابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ , أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ , كَابْنِ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الْبِنْتِ , فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يُعْتَبَرُ أَشْخَاصُ الْفُرُوعِ الْمُتَسَاوِيَةِ الدَّرَجَاتِ , وَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ حَالِ ذُكُورَتِهِمْ وَأُنُوثَتِهِمْ , سَوَاءٌ أَكَانَ أُصُولُهُمْ مُتَّفِقِينَ فِي الذُّكُورَةِ أَوْ الْأُنُوثَةِ أَمْ لَا . فَإِنْ كَانَتْ الْفُرُوعُ ذُكُورًا فَقَطْ , أَوْ إنَاثًا فَقَطْ تَسَاوَوْا فِي الْقِسْمَةِ . وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ حَالُ أُصُولِهِمْ مِنْ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَيَعْتَبِرُ مُحَمَّدٌ أَشْخَاصَ الْفُرُوعِ إنْ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فِي الذُّكُورَةِ أَوْ الْأُنُوثَةِ , وَيَعْتَبِرُ الْأُصُولَ إنْ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهُمْ , وَيُعْطِي الْفُرُوعَ مِيرَاثَ الْأُصُولِ . وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِأَبِي يُوسُفَ وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَجِهَةُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُرُوعِ إنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى فِيهِمْ , وَهُوَ الْقَرَابَةُ , لَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِمْ , فَقَدْ اتَّحَدَتْ الْجِهَةُ , وَهِيَ الْوِلَادَةُ , فَيَتَسَاوَى الِاسْتِحْقَاقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الصِّفَةُ فِي الْأُصُولِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ الْكُفْرِ أَوْ الرِّقِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْمُدْلَى بِهِ , وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْتَبَرُ صِفَةُ الْمُدْلِي , فَكَذَا تُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ أَوْ الْأُنُوثَةُ فَقَطْ . وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ : أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ تَرَكَ عَمَّةً وَخَالَةً , فَإِنَّ لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَيْنِ , وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ , وَلَوْ كَانَتْ الْعِبْرَةُ بِأَشْخَاصِ الْفُرُوعِ لَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ , وَبِذَلِكَ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ صِفَةَ الْأَصْلِ الْمُدْلَى بِهِ , وَهُوَ الْأَبُ فِي الْعَمَّةِ , وَالْأُمُّ فِي الْخَالَةِ . 84 - وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ , وَابْنَ بِنْتِ بِنْتٍ فَالْمَالُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ , لِكَوْنِهِ ذَكَرًا , وَثُلُثُهُ لِلْبِنْتِ . وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَ الْأُصُولِ ( الْبَطْنُ الثَّانِي ) , وَهُوَ أَوَّلُ مَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ , وَهُوَ بِنْتُ الْبِنْتِ وَابْنُ الْبِنْتِ أَثْلَاثًا : لِبِنْتِ ابْنِ الْبِنْتِ ثُلُثَاهُ , لِأَنَّهُ نَصِيبُ أَبِيهَا , وَثُلُثُهُ لِابْنِ بِنْتِ الْبِنْتِ , لِأَنَّهُ نَصِيبُ أُمِّهِ . وَكَمَا اُعْتُبِرَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَالُ الْأُصُولِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي , فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ عِنْدَهُ حَالُ الْأُصُولِ الْمُتَعَدِّدَةِ , إذَا كَانَ فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الدَّرَجَةِ بُطُونٌ مُخْتَلِفَةٌ , فَحِينَئِذٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِي الْأُصُولِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , ثُمَّ يَجْعَلُ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى حِدَةٍ , وَالْإِنَاثَ أَيْضًا طَائِفَةً أُخْرَى عَلَى حِدَةٍ , بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ , فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ مِنْ أَوَّلِ بَطْنٍ وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ يَجْمَعُ وَيُعْطِي فُرُوعَهُمْ بِحَسَبِ صِفَاتِهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ فُرُوعِهِمْ مِنْ الْأُصُولِ اخْتِلَافٌ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ , بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ إنَاثًا فَقَطْ . 85 - وَإِنْ كَانَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ , بِأَنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا يَجْمَعُ مَا أَصَابَ الذُّكُورَ وَيُقْسَمُ عَلَى أَعْلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا ذُكُورَةً وَأُنُوثَةً فِي أَوْلَادِهِمْ , وَيَجْعَلُ الذُّكُورَ طَائِفَةً وَالْإِنَاثَ طَائِفَةً أُخْرَى حَسْبَمَا سَبَقَ(30/46)
, وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ الْإِنَاثَ يُعْطِي فُرُوعَهُنَّ , إنْ لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُصُولُ الَّتِي بَيْنَهُمَا , فَإِنْ اخْتَلَفَتْ يَجْمَعُ مَا أَصَابَهُنَّ وَيُقْسَمُ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ وَهَكَذَا يَكُونُ الْحَالُ . هَذَا وَإِنَّ مَشَايِخَ بُخَارَى أَخَذُوا بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى فِي مَسَائِلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ . ( الصِّنْفُ الثَّانِي ) : 86 - وَهُمْ الرَّحِمِيُّونَ مِنْ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ , وَالْحُكْمُ فِي تَوْرِيثِهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ , مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ , فَأَبُو الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ . وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي دَرَجَاتِ الْقُرْبِ يُقَدَّمُ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ عِنْدَ أَبِي سَهْلٍ الْفَرْضِيِّ وَأَبِي فَضْلٍ الْخِفَافِ وَعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْبَصْرِيِّ ; إذْ عِنْدَهُمْ يَكُونُ أَبُو أُمِّ الْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أَبِي أَبِي الْأُمِّ , لِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّرَجَةِ , لَكِنَّ أَبَا أُمِّ الْأُمِّ يُدْلِي بِوَارِثٍ , وَهِيَ الْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ ( أُمُّ الْأُمِّ ) وَالثَّانِي يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ , وَهُوَ الْجَدُّ الرَّحِمِيُّ أَبُو الْأُمِّ , وَهُوَ لَا يَرِثُ مَعَ الْأُمِّ . وَعِنْدَ أَبِي سُلَيْمَان الْجُوزَجَانِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْبُسْتِيِّ لَا تَفْضِيلَ لِمَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ عَلَى مَنْ لَا يُدْلِي بِوَارِثٍ , وَيُقْسَمُ الْمَالُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِأَبِي أَبِي الْأُمِّ , وَثُلُثُهُ لِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ , مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ فِي هَؤُلَاءِ بِالْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ الْأَصْلِ - وَهُوَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ - تَابِعًا لِلْفَرْعِ , وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ . 87 - وَإِنْ اسْتَوَتْ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ , وَلَيْسَ فِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِوَارِثٍ كَأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ , وَأُمِّ أَبِي أُمِّ الْأَبِ , أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ يُدْلُونَ بِوَارِثٍ , كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ , وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ , وَاتَّفَقَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ , فَإِنَّ الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَّحِدَانِ فِيمَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ , فَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْمُدْلَى بِهِ , فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , فَيَكُونُ لِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ , وَلِأَبِي أَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثُ . وَإِنْ اسْتَوَتْ الدَّرَجَةُ وَاخْتَلَفَتْ صِفَةُ مَنْ يُدْلُونَ بِهِمْ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ , كَأَبِي أُمِّ أَبِي أَبِي الْأَبِ وَأَبِي أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ , يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ , كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ , فَيَجْعَلُ لِلذَّكَرِ مِثْلَ ضِعْفِ نَصِيبِ الْأُنْثَى , وَيَتْبَعُ مَا اتَّبَعَ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ . 88 - وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قَرَابَتُهُمْ مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَاتِهِمْ , كَمَا إذَا تَرَكَ أُمَّ أَبِي أُمِّ أَبِي الْأَبِ , وَأُمَّ أَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ , فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ , وَالثُّلُثُ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ , لِأَنَّ الَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ , وَاَلَّذِينَ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ يَقُومُونَ مَقَامَهَا , فَيَجْعَلُ الْمَالَ أَثْلَاثًا , كَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا . ثُمَّ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ , كَمَا لَوْ اتَّحَدَتْ قَرَابَتُهُمْ , عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُقْسَمُ الثُّلُثَانِ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ , وَالثُّلُثُ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ . وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ أَوْ لَا . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْتِوَاءٌ فَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوْلَى بِالْمِيرَاثِ , وَإِنْ وُجِدَ اسْتِوَاءٌ فِي الدَّرَجَةِ فَإِمَّا أَنْ تَتَّحِدَ الْقَرَابَةُ أَوْ تَخْتَلِفَ , فَإِنْ اخْتَلَفَتْ يُقْسَمُ الْمَالُ أَثْلَاثًا . وَإِنْ اتَّحَدَتْ : فَإِنْ اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْأُصُولِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى أَشْخَاصِ الْفُرُوعِ . وَإِنْ لَمْ تَتَّفِقْ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ . ( الصِّنْفُ الثَّالِثُ ) : 89 - وَهُمْ أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ , وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ مُطْلَقًا , وَبَنُو الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ . وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ دَرَجَةً إلَى الْمَيِّتِ , فَبِنْتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ بِنْتِ الْأَخِ , لِقُرْبِهَا , وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقُرْبِ فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , كَبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ , وَابْنِ بِنْتِ الْأُخْتِ , سَوَاءٌ أَكَانَ كِلَاهُمَا لِأَبٍ وَأُمٍّ , أَمْ لِأَبٍ , أَمْ مُخْتَلِفَيْنِ , فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ , لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ .(30/47)
وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِنْتَ ابْنِ الْأَخِ , وَابْنَ الْأَخِ لِأُمٍّ , كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ . لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوَارِيثِ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى , وَإِنَّمَا تُرِكَ هَذَا الْأَصْلُ فِي أَوْلَادِ الْأُمِّ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قوله تعالى : { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَمَا كَانَ مَخْصُوصًا عَنْ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ . وَلَيْسَ أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , إذْ لَا يَرِثُونَ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا , فَيَجْرِي فِيهِمْ ذَلِكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ لِلذَّكَرِ ضِعْفَ الْأُنْثَى , وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِمَعْنَى الْعُصُوبَةِ , فَيَفْضُلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى , كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْعُصُوبَةِ . وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ : الْمَالُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ , وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ , وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا لِلْمِيرَاثِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ , وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا تَفْضِيلَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى أَصْلًا , بَلْ رُبَّمَا تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَيْهِ , فَإِنَّ أُمَّ الْأُمِّ صَاحِبَةُ فَرْضٍ بِخِلَافِ أَبِي الْأُمِّ , فَإِنْ لَمْ تَفْضُلْ الْأُنْثَى هُنَا فَلَا أَقَلَّ مِنْ التَّسَاوِي . 90 - وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ وَلَدَ الْعَصَبَةِ , وَبَعْضُهُمْ وَلَدُ ذَوِي الْأَرْحَامِ , كَأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ الْعَصَبَةِ , كَبِنْتِ أَخٍ شَقِيقٍ , وَبِنْتِ أَخٍ لِأَبٍ , أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , كَثَلَاثَةِ أَوْلَادِ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ , أَوْ يَكُونَ الْكُلُّ أَوْلَادَ ذِي الرَّحِمِ كَبِنْتِ بِنْتِ أَخٍ , وَابْنِ بِنْتِ أَخٍ آخَرَ , أَوْ يَكُونَ الْبَعْضُ وَلَدَ الْعَصَبَةِ , وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَلَدُ صَاحِبِ الْفَرْضِ , كَثَلَاثِ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مُفْتَرِقِينَ , فَأَبُو يُوسُفَ رحمه الله تعالى يَعْتَبِرُ الْأَقْوَى فِي الْقَرَابَةِ , فَعِنْدَهُ يَجْعَلُ الْمَالَ أَوَّلًا لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَعْيَانِ , ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْعَلَّاتِ إنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْأَعْيَانِ , ثُمَّ لِأَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ إنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْلَادُ بَنِي الْعَلَّاتِ , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . 91 - وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْأَقْوَى بِأَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الْقُوَّةِ , يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَ أَبْدَانِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , وَمُحَمَّدٌ رحمه الله تعالى يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ , كَمَا لَوْ كَانُوا هُمْ الْوَرَثَةَ دُونَ فُرُوعِهِمْ , مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ , وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , ثُمَّ يُقْسَمُ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ بَيْنَ فُرُوعِهِمْ , كَمَا تَقَرَّرَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ , مِثَالُ ذَلِكَ : لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ وَثَلَاثَ بَنِينَ وَثَلَاثَ بَنَاتٍ مِنْ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ بِهَذِهِ الصُّورَةِ : مَيِّتٌ 1 - بِنْتُ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ 2 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ 3 - بِنْتُ أَخٍ لِأَبٍ 4 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ 5 - بِنْتُ أَخٍ لِأُمٍّ 6 - ابْنٌ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله تعالى يُقْسَمُ كُلُّ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَعْيَانِ , ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْعَلَّاتِ , ثُمَّ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَرْبَاعًا , بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِ الْفُرُوعِ وَصِفَاتِهِمْ , فَيُعْطِي بِنْتَ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفَ , وَبِنْتَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ الرُّبُعَ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْأَعْيَانِ , يُقْسَمُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْعَلَّاتِ . أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ , لِابْنِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ النِّصْفُ , وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ الرُّبُعُ , وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ الرُّبُعُ . فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فُرُوعُ بَنِي الْعَلَّاتِ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ أَرْبَاعًا أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ , وَقَدَّمَ أَوْلَادَ بَنِي الْعَلَّاتِ عَلَى أَوْلَادِ بَنِي الْأَخْيَافِ , لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ , فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْهَا تَصِحُّ . وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى يُقْسَمُ ثُلُثُ الْمَالِ بَيْنَ فُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ عَلَى السَّوِيَّةِ أَثْلَاثًا , لِاسْتِوَاءِ أُصُولِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ , فَإِذَا اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْفُرُوعِ فِي الْأُخْتِ , صَارَتْ كَأَنَّهَا أُخْتَانِ لِأُمٍّ , فَتَأْخُذُ هِيَ ثُلُثَيْ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْأَخُ لِأُمٍّ ثُلُثَهُ , ثُمَّ يَنْتَقِلُ مَا أَصَابَ الْأَخَ ,(30/48)
وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ لِبِنْتِهِ , وَمَا أَصَابَ الْأُخْتَ وَهُوَ تُسْعُ الْمَالِ إلَى ابْنِهَا وَابْنَتِهَا بِالسَّوِيَّةِ , وَثُلُثَا الْمَالِ يُقْسَمُ بَيْنَ بَنِي الْأَعْيَانِ أَنْصَافًا , بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ فِي الْأُصُولِ , نِصْفُهُ لِبِنْتِ الْأَخِ نَصِيبُ أَبِيهَا , وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ وَلَدَيْ الْأُخْتِ الْمُقَدَّرَةِ بِأُخْتَيْنِ أَثْلَاثًا , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ , وَلَا شَيْءَ لِفُرُوعِ بَنِي الْعَلَّاتِ , لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِبَنِي الْأَعْيَانِ كَمَا سَبَقَ , فَتَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله تعالى مِنْ تِسْعَةٍ , ثَلَاثَةٌ مِنْهَا لِفُرُوعِ بَنِي الْأَخْيَافِ الثَّلَاثَةِ بِالسَّوِيَّةِ , وَثَلَاثَةٌ لِبِنْتِ الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ , وَثَلَاثَةٌ لِوَلَدَيْ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . الصِّنْفُ الرَّابِعُ : 92 - هُوَ الَّذِي يَنْتَسِبُ إلَى أَحَدِ جَدَّيْ الْمَيِّتِ أَوْ جَدَّتَيْهِ , وَهُمْ الْعَمَّاتُ عَلَى الْإِطْلَاقِ , وَالْأَعْمَامُ لِأُمٍّ , وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ مُطْلَقًا . وَالْحُكْمُ فِيهِمْ : أَنَّهُ إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ الْمَالَ كُلَّهُ , لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ . فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً وَاحِدَةً , أَوْ عَمًّا وَاحِدًا لِأُمٍّ , أَوْ خَالًا وَاحِدًا , أَوْ خَالَةً وَاحِدَةً , كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ الْأَصْنَافِ . فَإِذَا اجْتَمَعُوا , وَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ , كَالْأَعْمَامِ لِأُمٍّ , وَالْعَمَّاتِ ( فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ ) , أَوْ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ ( فَإِنَّهُمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ ) , فَالْحُكْمُ فِيهِمْ : أَنَّ الْأَقْوَى مِنْهُمْ فِي الْقَرَابَةِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ إجْمَاعًا , فَمَنْ كَانَ شَقِيقًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأَبٍ . وَمَنْ كَانَ لِأَبٍ فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأُمٍّ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَقْرَبُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى , فَعَمَّةٌ شَقِيقَةٌ أَوْلَى مِنْ عَمَّةٍ لِأَبٍ أَوْ عَمَّةٍ لِأُمٍّ أَوْ عَمٍّ لِأُمٍّ , لِقُوَّةِ قَرَابَتِهَا , وَكَذَا الْخَالُ أَوْ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ . 93 - وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا , وَاتَّحَدَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ , وَاسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فِي الْقُوَّةِ , بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ , كَانَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , كَعَمٍّ وَعَمَّةٍ كِلَاهُمَا لِأُمٍّ . أَوْ خَالٍ وَخَالَةٍ كِلَاهُمَا شَقِيقٌ , أَوْ لِأَبٍ , أَوْ لِأُمٍّ , لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْعَمَّةَ مُتَّحِدَانِ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ , وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْخَالِ وَالْخَالَةِ وَاحِدٌ , وَهُوَ الْأُمُّ . وَمَتَى اتَّفَقَ الْأَصْلُ فَالْعِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَشْخَاصِ عِنْدَ الْجَمِيعِ . 94 - وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ , بِأَنْ كَانَتْ قَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ , وَقَرَابَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ . فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ عَمَّةً شَقِيقَةً وَخَالَةً لِأُمٍّ , أَوْ خَالًا شَقِيقًا وَعَمَّةً لِأُمٍّ , فَالثُّلُثَانِ - وَهُوَ نَصِيبُ الْأَبِ - لِقَرَابَةِ الْأَبِ , وَالثُّلُثُ - وَهُوَ نَصِيبُ الْأُمِّ - لِقَرَابَةِ الْأُمِّ . كَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِ أَوْلَادِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ : 95 - الْحُكْمُ السَّابِقُ فِي تَوْرِيثِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ لَا يَسْرِي عَلَى أَوْلَادِهِمْ , لِأَنَّ أَوْلَى الْأَوْلَادِ بِالْمِيرَاثِ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ , فَبِنْتُ الْعَمَّةِ أَوْ ابْنُهَا أَوْلَى مِنْ بِنْتِ بِنْتِ الْعَمَّةِ وَابْنِ بِنْتِهَا , لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ . وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ إلَى الْمَيِّتِ , وَكَانَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ مُتَّحِدَةً , بِأَنْ تَكُونَ قَرَابَةُ الْكُلِّ مِنْ جَانِبِ أَبِي الْمَيِّتِ , أَوْ مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ , فَمَنْ كَانَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ , فَإِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ثَلَاثَةَ أَوْلَادِ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ , كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِوَلَدِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأَبٍ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلِوَلَدِ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ , وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي أَوْلَادِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ , أَوْ خَالَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ . 96 - وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ الدَّرَجَةِ وَقُوَّةِ الْقَرَابَةِ , وَكَانَتْ جِهَةُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدَةً , بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جِهَةِ أُمِّهِ , فَوَلَدُ الْعَصَبَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ , كَبِنْتِ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ , أَوْ لِأَبٍ , أَوْ لِأُمٍّ , فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ , لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ , دُونَ ابْنِ الْعَمَّةِ , لِأَنَّهُ وَلَدُ(30/49)
رَحِمٍ . وَإِنْ كَانَ الْعَمُّ أَوْ الْعَمَّةُ شَقِيقًا , وَالْآخَرُ لِأَبٍ , كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْعَمِّ الشَّقِيقِ , لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ , فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنَ عَمَّةٍ شَقِيقَةٍ , وَبِنْتَ عَمٍّ لِأَبٍ , فَالْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , لِقُوَّةِ قَرَابَتِهِ دُونَ بِنْتِ الْعَمِّ , وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ وَارِثٍ . وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ , بِنَاءً عَلَى رِوَايَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ , الْمَالُ كُلُّهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِبِنْتِ الْعَمِّ لِأَبٍ , لِأَنَّهَا وَلَدُ الْعَصَبَةِ , بِخِلَافِ ابْنِ الْعَمَّةِ , فَإِنَّهُ وَلَدُ ذَاتِ رَحِمٍ . 97 - وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ , وَاخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمْ , بِأَنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ , وَبَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ , فَلَا اعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَلَا لِوَلَدِ الْعَصَبَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ , فَلَا يَكُونُ وَلَدُ الْعَمَّةِ الشَّقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ الْخَالِ الشَّقِيقِ أَوْ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ , لِعَدَمِ اعْتِبَارِ قُوَّةِ قَرَابَةِ وَلَدِ الْعَمَّةِ . وَكَذَا بِنْتُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْخَالِ أَوْ الْخَالَةِ الشَّقِيقَةِ , لِعَدَمِ اعْتِبَارِ كَوْنِ بِنْتِ الْعَمِّ وَلَدَ عَصَبَةٍ , لَكِنْ يُقْسَمُ الْمِيرَاثُ بِاعْتِبَارِ الثُّلُثَيْنِ لِقَرَابَةِ الْأَبِ , وَالثُّلُثِ لِقَرَابَةِ الْأُمِّ , لِقِيَامِ قَرَابَةِ الْأَبِ مَقَامَهُ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ مَقَامَهَا . ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا أَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ جِهَةِ الْأُمِّ , يُقْسَمُ عَلَى أَشْخَاصِ فُرُوعِهِمْ مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْجِهَاتِ فِي الْفُرُوعِ . وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أَوَّلِ بَطْنٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ , مَعَ اعْتِبَارِ عَدَدِ الْفُرُوعِ وَالْجِهَاتِ فِي الْأُصُولِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا . هَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ : 98 - مَعْنَى التَّنْزِيلِ : أَنَّ مَنْ أَدْلَى مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ قَامَ مَقَامَ ذَلِكَ الْوَارِثِ , فَوَلَدُ الْبَنَاتِ , وَوَلَدُ بَنَاتِ الِابْنِ , وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ مُطْلَقًا كَأُمَّهَاتِهِمْ . وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ , وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ الْأَشِقَّاءِ , أَوْ لِأَبٍ , وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ , وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ , وَأَوْلَادُ الْأَعْمَامِ لِأُمٍّ كَآبَائِهِمْ . وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ , وَاسْتَثْنَيَا مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَيْنِ : 1 - أَنَّهُمَا نَزَّلَا الْخَالَ وَالْخَالَةَ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ , وَنَزَّلَا جَدَّ الْمَيِّتِ لِأُمٍّ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ عَلَى الْأَصَحِّ . 2 - نَزَّلَا الْأَعْمَامَ لِأُمٍّ وَالْعَمَّةَ مُطْلَقًا مَنْزِلَةَ الْأَبِ عَلَى الْأَصَحِّ . وَقَدْ رَجَّحَ الْإِمَامَانِ مَذْهَبَ أَهْلِ التَّنْزِيلِ , لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقَائِلِينَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَلَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتَ بِنْتٍ , وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ , فَعَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا : ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِبِنْتِ الْبِنْتِ , وَرُبُعُهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ فَرْضًا وَرَدًّا . 99 - وَمَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ كَمَذْهَبِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ فِي أَنَّ مَنْ انْفَرَدَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَأْخُذُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ , ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى . لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ يَظْهَرُ فِي اجْتِمَاعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَأَهْلُ التَّنْزِيلِ حِينَئِذٍ يَجْعَلُونَ الْفُرُوعَ قَائِمِينَ مَقَامَ أُصُولِهِمْ , وَيَأْخُذُونَ أَنْصِبَتَهُمْ . فَإِنْ أَدْلَوْا بِعَاصِبٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ تَعْصِيبًا . وَإِنْ أَدْلَوْا بِذِي فَرْضٍ أَخَذُوا نَصِيبَهُ فَرْضًا وَرَدًّا , وَيُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ الْمُجَرَّدِ , فَيَسْتَوُونَ كَأَوْلَادِ الْأُمِّ . وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الذَّكَرَ يَأْخُذُ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . فَفِي بِنْتِ بِنْتٍ , وَابْنٍ , وَبِنْتٍ مِنْ بِنْتٍ أُخْرَى , إذَا رُفِعُوا دَرَجَةً صَارُوا فِي مَنْزِلَةِ بِنْتَيْنِ , فَتَكُونُ التَّرِكَةُ مُنَاصَفَةً , تَأْخُذُ بِنْتُ الْبِنْتِ نِصْفَهَا , وَيَأْخُذُ الِابْنُ وَالْبِنْتُ النِّصْفَ الْآخَرَ , فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ , لِأَنَّ أَصْلَ(30/50)
الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ . وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَوْلَادِ الْأُمِّ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّصِيبِ بِالنَّصِّ . مَذْهَبُ أَهْلِ الرَّحِمِ : 100 - هُمْ الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي التَّوْرِيثِ , فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ , وَلَا بَيْنَ دَرَجَةٍ وَدَرَجَةٍ , وَلَا بَيْنَ قَرَابَةٍ قَوِيَّةٍ وَأُخْرَى ضَعِيفَةٍ . فَلَوْ كَانَ لِلْمُتَوَفَّى بِنْتُ أُخْتٍ , وَبِنْتُ بِنْتٍ , فَإِنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ , وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ , وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ , فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ , وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمِيرَاثِ هُوَ الرَّحِمُ , وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ , وَتَحَقُّقُهَا فِي الْجَمِيعِ بِقَدْرٍ مُشْتَرَكٍ , فَثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْجَمِيعِ بِالتَّسَاوِي . وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ هَذَا الرَّأْيِ حَسَنُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَنُوحُ بْنُ ذُرَاحٍ , وَلَمْ يَأْخُذْ هَذَا الرَّأْيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ .
إرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ : 101 - لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ وَرَّثُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبُهُ كَامِلًا , فَلَا يُحْجَبُ الزَّوْجُ مِنْ النِّصْفِ إلَى الرُّبُعِ , وَلَا تُحْجَبُ الزَّوْجَةُ مِنْ الرُّبُعِ إلَى الثُّمُنِ بِأَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الزَّوْجَيْنِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ , وَإِرْثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَلَا يُعَارِضُهُ . وَمَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَكُونُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ . 102 - لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ : فَقَالَ أَهْلُ الْقَرَابَةِ : يُخْرَجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ أَوَّلًا , ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ , كَمَا يُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ لَوْ انْفَرَدُوا . وَلِأَهْلِ التَّنْزِيلِ مَذْهَبَانِ : أَصَحُّهُمَا مَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَرَابَةِ : رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَا فَضَلَ كَمَا يَرِثُونَ الْمَالَ إذَا انْفَرَدُوا , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَعَامَّةِ مَنْ وَرَّثَهُمْ . وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهَامِ الَّذِينَ يُدْلِي بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ الْوَرَثَةِ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ , وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارٍ . وَيُعْرَفُ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ بِأَصْحَابِ : ( اعْتِبَارِ مَا بَقِيَ ) . وَالْقَائِلُونَ بِالثَّانِي بِأَصْحَابِ : ( اعْتِبَارِ الْأَصْلِ ) . وَلَا خِلَافَ فِي التَّوْرِيثِ إذَا كَانَ ذَوُو الْأَرْحَامِ يُدْلُونَ بِذِي فَرْضٍ فَقَطْ , أَوْ بِعَصَبَةٍ فَقَطْ , وَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلَافُ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُدْلِي بِعَصَبَةٍ , وَبَعْضُهُمْ يُدْلِي بِذِي فَرْضٍ . فَلَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ , عَنْ زَوْجٍ , وَبِنْتِ بِنْتٍ , وَخَالَةٍ , وَبِنْتِ عَمٍّ شَقِيقٍ أَوْ لِأَبٍ . فَعِنْدَ أَهْلِ الْقَرَابَةِ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ , وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْبِنْتِ وَحْدَهَا . وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ : لِلزَّوْجِ النِّصْفُ , وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُ الْبَاقِي , وَلِلْخَالَةِ سُدُسُ الْبَاقِي , وَلِبِنْتِ الْعَمِّ الْبَاقِي . فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ : لِلزَّوْجِ مِنْهَا سِتَّةٌ , وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ ثَلَاثَةٌ , وَلِلْخَالَةِ وَاحِدٌ , وَلِبِنْتِ الْعَمِّ اثْنَانِ . وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي : إذَا نَزَلُوا حَصَلَ مَعَ الزَّوْجِ أُمٌّ , وَعَمٌّ , وَبِنْتٌ بِالتَّنْزِيلِ , وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ بِنْتُ ابْنٍ وَهِيَ كَالْبِنْتِ فِي التَّنْزِيلِ لَا فِي الْحَجْبِ , فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ . يَخْرُجُ نَصِيبُ الزَّوْجِ أَوَّلًا الرُّبُعُ , ثَلَاثَةٌ , ثُمَّ يَخْرُجُ تَمَامُ نَصِيبِ النِّصْفِ لِلزَّوْجِ لِعَدَمِ الْحَجْبِ الْحَقِيقِيِّ , فَيَبْقَى سِتَّةٌ , تُقْسَمُ عَلَى التِّسْعَةِ , فَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ , لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ , وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةٌ , وَلِلْخَالَةِ اثْنَانِ , وَلِبِنْتِ الْعَمِّ وَاحِدٌ .(30/51)
الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَتَيْنِ : 103 - قَدْ يَكُونُ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ جِهَتَانِ لِلْمِيرَاثِ . فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَتَانِ مَعًا مِنْ طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَرِثَ بِأَقْوَاهُمَا . فَإِذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ عَنْ ابْنٍ , هُوَ ابْنُ ابْنِ عَمٍّ . فَإِنَّ التَّرِكَةَ تَكُونُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ ابْنًا وَلَا شَيْءَ لَهُ بِالْقَرَابَةِ الْأُخْرَى , لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ . فَإِذَا اخْتَلَفَتْ جِهَتَا إرْثٍ تَقْتَضِي كُلٌّ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ , وَرِثَ بِالْجِهَتَيْنِ . فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ عَنْ أَخَوَيْنِ لِأُمٍّ , أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ . فَإِنَّ لِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ فَرْضًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا , وَالْبَاقِي يَنْفَرِدُ بِهِ الْأَخُ لِأُمٍّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ شَقِيقٍ بِاعْتِبَارِهِ عَاصِبًا فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ . وَقَدْ يُحْجَبُ الشَّخْصُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَيَرِثُ بِالْأُخْرَى , لِعَدَمِ وُجُودِ حَاجِبٍ لَهُ فِيهَا , كَمَا إذَا تُوُفِّيَ عَنْ بِنْتٍ , وَابْنَيْ عَمٍّ شَقِيقٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ , فَإِنَّ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ فَرْضًا , وَالْبَاقِي لِابْنَيْ الْعَمِّ الشَّقِيقِ تَعْصِيبًا مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا , وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْعَمِّ الثَّانِي بِاعْتِبَارِهِ أَخًا لِأُمٍّ , لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْبِنْتِ .
مِيرَاثُ الْخُنْثَى : 104 - الْخُنْثَى لُغَةً : مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا , جَمْعُهُ خَنَاثَى وَخَنَاثٌ . وَالْخَنِثُ كَكَتِفٍ مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ , أَيْ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ . وَقَدْ خَنِثَ كَفَرِحَ وَانْخَنَثَ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : مَنْ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَآلَةُ النِّسَاءِ مَعًا . أَوْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلًا , فَقَدْ سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مِيرَاثِ مَوْلُودٍ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْآلَتَيْنِ وَيَخْرُجُ مِنْ سُرَّتِهِ شِبْهُ بَوْلٍ غَلِيظٍ , فَاعْتَبَرَهُ أُنْثَى . وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ . فَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلَامَاتُ الذُّكُورِيَّةِ أَوْ الْأُنُوثِيَّةِ , فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَلَيْسَ بِمُشْكِلٍ , إنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ , أَوْ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ . 105 - وَحُكْمُهُ فِي إرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ : حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلَامَاتُهُ فِيهِ . وَيُعْتَبَرُ بِمَبَالِهِ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ , قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ . فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ , وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهُوَ امْرَأَةٌ , وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ : عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ : مِنْ أَيْنَ يُورَثُ ؟ قَالَ : مِنْ حَيْثُ يَبُولُ } . وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام { أُتِيَ بِخُنْثَى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَبُولُ مِنْهُ . } وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ أَعَمُّ الْعَلَامَاتِ , لِوُجُودِهَا مِنْ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ . وَسَائِرُ الْعَلَامَاتِ إنَّمَا تُوجَدُ بَعْدَ الْكِبَرِ مِثْلَ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ , وَتَفَلُّكِ الثَّدْيِ ( اسْتِدَارَتُهُ ) , وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ , وَالْحَيْضِ , وَالْحَبَلِ , وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا جَمِيعًا اُعْتُبِرَ أَسْبَقُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . فَإِنْ خَرَجَا مَعًا وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا , فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ : يَرِثُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ أَكْثَرُ , وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ . وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عَنْهُ , وَإِنْ اسْتَوَى الْمِقْدَارُ الْخَارِجُ مِنْ الْمَحَلَّيْنِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ , وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مُشْكِلًا . 106 - فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَنْ يَرِثُهُ . فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يَبْلُغَ , فَيَتَبَيَّنَ فِيهِ عَلَامَاتُ الرِّجَالِ مِنْ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ , وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ , وَكَوْنِهِ مَنِيَّ رَجُلٍ , أَوْ عَلَامَاتُ النِّسَاءِ مِنْ الْحَيْضِ , وَالْحَبَلِ , وَتَفَلُّكِ الثَّدْيَيْنِ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ . فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ أُعْطِي هُوَ وَبَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ الْيَقِينَ , وَوُقِفَ الْبَاقِي إلَى حِينِ بُلُوغِهِ , فَتَعْمَلُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّهُ ذَكَرٌ ثُمَّ عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى , وَيَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَارِثٍ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ , وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْلُغَ .(30/52)
107 - وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُلُوغِهِ , أَوْ بَلَغَ مُشْكِلًا فَلَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةٌ . وَرِثَ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ , وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالثَّوْرِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ . وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَسْوَأِ حَالَاتِهِ , وَأَعْطَى الْبَاقِيَ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ , وَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ الْيَقِينَ , وَوَقَفَ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَ الْوَرَثَةُ , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَابْنُ جَرِيرٍ . وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ هَذِهِ . 108 - وَإِذَا أَخْبَرَ الْخُنْثَى بِحَيْضٍ , أَوْ مَنِيٍّ , أَوْ مَيْلٍ إلَى الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ , فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ , وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ يَقِينًا , مِثْلَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ , ثُمَّ تَلِدَ , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ السَّابِقِ .
مِيرَاثُ الْحَمْلِ : 109 - الْحَمْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ إذَا عُلِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ وَانْفَصَلَ حَيًّا . وَيُعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْبَطْنِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ , وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مُنْذُ مَوْتِ الْمُورَثِ , إذَا كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ . وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً , وَجَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ , وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ أَرْبَعُ سِنِينَ , وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ , وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ : أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ خَمْسُ سِنِينَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : سَنَةٌ . وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ : " لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرُ مِنْ سَنَتَيْنِ , وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا بَلْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَلِيلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَقْصَى الْمُدَّةِ الِاسْتِقْرَاءُ , وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ : تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ , ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ . وَسَبَبُ التَّقْدِيرِ بِالْأَرْبَعِ أَنَّهَا نِهَايَةُ مُدَّةِ الْحَمْلِ . وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ : ( وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ . وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَقْرَبُ إلَى الْمُعْتَادِ . وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لَا بِالنَّادِرِ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا ) .
110 - وَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَمْلٍ يَرِثُهُ , وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ , فَإِنْ طَالَبَ الْوَرَثَةُ بِالْقِسْمَةِ لَمْ يُعْطُوا كُلَّ الْمَالِ بِغَيْرِ خِلَافٍ . وَلَكِنْ يُدْفَعُ إلَى مَنْ لَا يُنْقِصُهُ الْحَمْلُ كُلُّ مِيرَاثِهِ , وَيُدْفَعُ إلَى مَنْ يُنْقِصُ الْحَمْلُ نَصِيبَهُ أَقَلُّهُ , وَلَا يُدْفَعُ إلَى مَنْ يُسْقِطُهُ الْحَمْلُ شَيْءٌ . 111 - وَيَرِثُ الْحَمْلُ إذَا وُلِدَ لِأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ . وَكَذَلِكَ يَرِثُ إذَا وُلِدَ لِأَقْصَى مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ . فَإِنْ وُلِدَ بَعْدَهَا فَلَا يَرِثُ إلَّا بِإِقْرَارِ الْوَرَثَةِ .(30/53)
وَيَرِثُ الْحَمْلُ بِشَرْطَيْنِ : الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : أَنْ يُولَدَ حَيًّا , حَتَّى تُعْتَبَرَ حَيَاتُهُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ امْتِدَادًا لِحَيَاتِهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ , وَدَلِيلًا عَلَيْهَا . يَقُولُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام : { إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ } وَيَرْوِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَوْلَهُمَا : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا يَرِثُ الصَّبِيُّ حَتَّى يَسْتَهِلَّ } . فَإِذَا وُلِدَ مَيِّتًا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ . وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِهِ فِيمَا قَبْلُ , لَا يَكُونُ وَارِثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , لِأَنَّ شَرْطَ الْمِيرَاثِ حَيَاةُ الْوَارِثِ . وَإِذَا نَزَلَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِجِنَايَةٍ عَلَيْهَا فَلَا يَرِثُ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , لِعَدَمِ وُجُودِ دَلِيلٍ عَلَى حَيَاتِهِ , وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَرِثُ , لِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ حَيًّا قَبْلَ الْجِنَايَةِ ; إذْ أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ( الْغُرَّةَ ) وَوُجُوبُهَا لِلْجِنَايَةِ عَلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ , وَكَذَلِكَ يَرِثُ عِنْدَهُمْ مُورَثُهُ الَّذِي مَاتَ , وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ , ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ . 113 - وَيَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرُ الْحَمْلِ حَيًّا . فَإِذَا ابْتَدَأَ نُزُولَهُ مُسْتَقِيمًا بِرَأْسِهِ وَبَقِيَ حَيًّا حَتَّى خَرَجَ صَدْرُهُ كُلُّهُ , أَوْ ابْتَدَأَ نُزُولَهُ مَنْكُوسًا بِرِجْلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ حَيًّا حَتَّى ظَهَرَتْ سُرَّتُهُ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ , وَرِثَ عِنْدَهُمْ , لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ . وَاشْتَرَطَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ أَنْ تَتِمَّ وِلَادَتُهُ كُلِّهِ حَيًّا . وَتُعْرَفَ حَيَاتُهُ بِالِاسْتِهْلَالِ صَارِخًا . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الِاسْتِهْلَالِ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ , وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِهْلَالِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا , وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ } أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِغَيْرِ الِاسْتِهْلَالِ , وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ حَيٍّ . وَالْحَرَكَةُ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ حَيٍّ . وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : يَرِثُ السِّقْطُ وَيُورَثُ إذَا اسْتَهَلَّ . فَقِيلَ لَهُ مَا اسْتِهْلَالُهُ ؟ قَالَ : إذَا صَاحَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بَكَى , فَعَلَى هَذَا كُلُّ صَوْتٍ يُوجَدُ مِنْهُ تُعْلَمُ بِهِ حَيَاتُهُ فَهُوَ اسْتِهْلَالٌ , وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , لِأَنَّهُ صَوْتٌ عُلِمَتْ بِهِ حَيَاتُهُ فَأَشْبَهَ الصُّرَاخَ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ : إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ بِصَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَرِثَ وَثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الْمُسْتَهِلِّ , لِأَنَّهُ حَيٌّ . وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ . الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ , فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , وَأَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَذَبَتْ , وَوَرِثَ , وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي دَعْوَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَأَتَتْ بِهِ لِتَمَامِ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ , أَوْ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَرِثَ , لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ عَالِقَةً قَبْلَ الْمَوْتِ . وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ تَمَامِ مُدَّةِ الْحَمْلِ - عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ - فَلَا يَرِثُ , لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا عَلِقَتْ بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ .(30/54)
114 - وَإِذَا أُرِيدَ تَقْسِيمُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي فِي وَرَثَتِهِ حَمْلٌ , أُوقِفَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ نَصِيبُ أَرْبَعَةِ بَنِينَ أَوْ نَصِيبُ أَرْبَعِ بَنَاتٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ . وَيُعْطَى بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَقَلَّ الْأَنْصِبَاءِ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; إذْ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا ضَبْطَ لَهُ . وَمِثَالُ أَكْثَرِيَّةِ نَصِيبِ الْبَنِينَ : إذَا مَاتَ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَعَمٍّ أَوْ أَخٍ . وَمِثَالُ أَكْثَرِيَّةِ نَصِيبِ الْبَنَاتِ : إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ وَأَبَوَيْنِ , فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ , فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ , وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ , فَيَبْقَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ , وَذَلِكَ لِلْعَصَبَاتِ إذَا قُدِّرَ أَرْبَعَةُ بَنِينَ , وَإِذَا قُدِّرَتْ أَرْبَعُ بَنَاتٍ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ ( سِتَّةَ عَشَرَ ) . فَإِذَا ظَهَرَ الْحَمْلُ , وَزَالَ الِاشْتِبَاهُ , فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مُسْتَحِقًّا لِجَمِيعِ الْمَوْقُوفِ أَخَذَهُ , وَانْتَهَى الْأَمْرُ . وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْبَعْضِ فَيَأْخُذُ الْحَمْلُ هَذَا الْبَعْضَ , وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ , فَيُعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا كَانَ مَوْقُوفًا مِنْ نَصِيبِهِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ هُوَ مَذْهَبُ شَرِيكٍ النَّخَعِيِّ , فَقَدْ قَالَ : رَأَيْت بِالْكُوفَةِ لِأَبِي إسْمَاعِيلَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ . وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُوقَفُ نَصِيبُ ثَلَاثَةِ بَنِينَ أَوْ ثَلَاثِ بَنَاتٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ . رَوَاهُ عَنْهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ , أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنَيْنِ أَوْ بِنْتَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ . وَذَلِكَ لِأَنَّ وِلَادَةَ أَرْبَعَةٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ , فَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ بَلْ يُبْنَى عَلَى مَا يُعْتَادُ فِي الْجُمْلَةِ , وَهُوَ وِلَادَةُ اثْنَيْنِ . وَرَوَى الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنْتٍ وَاحِدَةٍ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ , وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ الْغَالِبَ أَلَّا تَلِدَ الْمَرْأَةُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إلَّا وَلَدًا وَاحِدًا فَيُبْنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ . 115 - وَذُكِرَ فِي فَتْوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ : أَنَّ الْوِلَادَةَ إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً تُوقَفُ الْقِسْمَةُ لِوُجُودِ الْحَمْلِ , إذْ لَوْ عُجِّلَتْ فَرُبَّمَا لَغَتْ بِظُهُورِ الْحَمْلِ عَلَى خِلَافِ مَا قُدِّرَ , وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً لَمْ تُوقَفْ , لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِبَاقِي الْوَرَثَةِ , وَلَمْ يُعَيَّنْ لِلْقُرْبِ مُدَّةٌ بَلْ أُحِيلَ عَلَى الْعَادَةِ . وَقِيلَ : هُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ . وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَأْخُذُ الْقَاضِي مِنْ الْوَرَثَةِ كَفِيلًا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ . وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ كُلٍّ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - أَنَّهُ يُوقَفُ لِلْحَمْلِ نَصِيبُ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ . وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ وِلَادَةَ التَّوْأَمَيْنِ كَثِيرَةٌ مُعْتَادَةٌ , وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا فَنَادِرٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ . وَالْقَاعِدَةُ بِالنِّسْبَةِ لِحَجْزِ نَصِيبِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ . أَنَّهُ مَتَى زَادَتْ الْفُرُوضُ عَلَى الثُّلُثِ فَمِيرَاثُ الْإِنَاثِ أَكْثَرُ , لِأَنَّهُ يُفْرَضُ لَهُنَّ الثُّلُثَانِ , وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى الْكُلِّ بِالْمُحَاصَّةِ , وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهُ كَانَ مِيرَاثُ الذَّكَرَيْنِ أَكْثَرَ , وَإِنْ اسْتَوَتْ كَأَبَوَيْنِ وَحَمْلٍ , اسْتَوَى مِيرَاثُ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ .(30/55)
مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ : 116 - الْمَفْقُودُ لُغَةً : هُوَ الْمَعْدُومُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ , وَلَا يُدْرَى حَيَاتُهُ مِنْ مَوْتِهِ . وَفَسَّرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ : اسْمٌ لِمَوْجُودٍ هُوَ حَيٌّ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ حَالِهِ , وَلَكِنَّهُ كَالْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ . وَقِيلَ : إنَّ هَذَا أَحْسَنُ تَعْرِيفٍ . 117 وَالْحُكْمُ فِي مِيرَاثِهِ : أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ مَالِهِ , فَلَا يَرِثُ مِنْهُ أَحَدٌ , وَمَيِّتٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَلَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ حَيَاتِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ , فَاعْتُبِرَ حَيًّا اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِ , وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقَ , وَلِذَلِكَ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ فِي مِيرَاثِهِ , لِاعْتِبَارِهِ حَيًّا , وَلَا يَسْتَحِقُّ هُوَ فِي مِيرَاثِ غَيْرِهِ . وَيُوقَفُ مَالُهُ حَتَّى يَصِحَّ مَوْتُهُ , أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَحْيَا إلَى مِثْلِهَا مِثْلُهُ , وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحَدُ رَأْيَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ .(30/56)
118 - وَاخْتَلَفَتْ رِوَايَاتُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُحْكَمُ بَعْدَهَا بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ . فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ , وَقِيلَ أَقْرَانُهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ . لَكِنْ الْأَوَّلُ أَصَحُّ , لِأَنَّ فِي الْعَمَلِ بِالْقَوْلِ الثَّانِي حَرَجًا عَظِيمًا , كَمَا أَنَّ الْأَعْمَارَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَقَالِيمِ . وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُدَّةَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلَادَةِ الْمَفْقُودِ . وَقَالَ مُحَمَّدٌ : مِائَةٌ وَعَشْرُ سِنِينَ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : مِائَةٌ وَخَمْسُ سِنِينَ . وَرُوِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَنَةٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تِسْعُونَ سَنَةً , لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلَا تُنَاطُ بِهَا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ , لِأَنَّهَا تُبْنَى عَلَى الْأَغْلَبِ . قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا سَبْعُونَ سَنَةً , لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي أَعْمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ { أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ } . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَالُ الْمَفْقُودِ مَوْقُوفٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ . وَنُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْفَرَائِضِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ تَقْدِيرًا , وَفَوَّضَ الْمُدَّةَ إلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ يَحْكُمُ بِمَوْتِهِ فِي أَيِّ مُدَّةٍ يَرَى فِيهَا مَصْلَحَةً بِاجْتِهَادِهِ , وَيَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى . وَلَمْ يُحَدِّدْ الْمَالِكِيَّةُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بَلْ قَالُوا : ( لَا يَقْسِمُ وَرَثَةُ الْمَفْقُودِ مَالَهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّمَنِ مَا لَا يَحْيَا إلَى مِثْلِهِ ) . وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ , فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ : ( مَنْ أُسِرَ أَوْ فُقِدَ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ , تُرِكَ مَالُهُ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِمَوْتِهِ , أَوْ تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ فَوْقَهَا , وَلَا تَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ عَلَى الصَّحِيحِ , فَيَجْتَهِدُ الْقَاضِي وَيَحْكُمُ بِمَوْتِهِ ) وَقِيلَ تُقَدَّرُ ( بِسَبْعِينَ وَبِثَمَانِينَ وَبِتِسْعِينَ وَبِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ ) . 119 - أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا : ( إنَّ الْمَفْقُودَ نَوْعَانِ : النَّوْعُ الْأَوَّلُ : مَنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلَاكَ , وَهُوَ مَنْ يُفْقَدُ فِي مُهْلِكَةٍ كَاَلَّذِي يُفْقَدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ , أَوْ فِي مَفَازَةٍ يَهْلَكُ فِيهَا النَّاسُ , أَوْ يُفْقَدُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ , أَوْ يَخْرُجُ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ , أَوْ لِحَاجَةٍ قَرِيبَةٍ فَلَا يَرْجِعُ , وَلَا يُعْلَمُ خَبَرُهُ , فَهَذَا يُنْتَظَرُ بِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ , فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ قُسِمَ مَالُهُ , وَاعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ , وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ . وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ . وَذَكَرَ الْقَاضِي : أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ مَالُهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ . لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُبَاحُ لِامْرَأَتِهِ التَّزَوُّجُ فِيهِ , وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ , لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ . فَإِذَا حُكِمَ بِوَفَاتِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْوُقُوفِ عَنْ قَسْمِ مَالِهِ . النَّوْعُ الثَّانِي : مَنْ لَيْسَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْهَلَاكَ , كَالْمُسَافِرِ لِتِجَارَةٍ , أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ , أَوْ سِيَاحَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ , فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَا يُقْسَمُ مَالُهُ , وَلَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ , حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتَهُ , أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ لِمِثْلِهَا , وَذَلِكَ مَرْجِعُهُ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ . قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي : ( لِأَنَّ الْأَصْلَ حَيَاتُهُ , وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ , وَلَا تَوْقِيفَ هُنَا , فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهُ ) الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يُنْتَظَرُ بِهِ تَتِمَّةُ تِسْعِينَ سَنَةً مُنْذُ وُلِدَ , لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا .
120 - وَيُوقَفُ لِلْمَفْقُودِ حِصَّتُهُ مِنْ مَالِ مَوْرُوثِهِ الَّذِي مَاتَ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ , فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ , وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ , رُدَّ الْمَوْقُوفُ إلَى وَرَثَةِ مَوْرُوثِ الْمَفْقُودِ . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمَفْقُودَ إلَّا الْأَحْيَاءُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَوْمَ قَسْمِ مَالِهِ , لَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَوْ بِيَوْمٍ .(30/57)
121 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ وَفِي وَرَثَتِهِ مَفْقُودٌ , فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ : أَنَّهُ يُعْطَى كُلُّ وَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ نَصِيبَهُ الْمُتَيَقَّنَ , وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ , أَوْ تَمْضِي مُدَّةُ الِانْتِظَارِ . وَذَلِكَ إذَا كَانَ وُجُودُ الْمَفْقُودِ يُنْقِصُ أَنْصِبَةَ الْوَرَثَةِ الْآخَرِينَ , فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ فَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ , بَلْ تُوقَفُ كُلُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ أَوْ حَيَاتُهُ .
مِيرَاثُ الْأَسِيرِ : 122 - الْأَسِيرُ لُغَةً : الْأَخِيذُ وَالْمُقَيَّدُ وَالْمَسْجُونُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ أُخِذَ سَوَاءٌ شُدَّ أَوْ لَمْ يُشَدَّ . 123 - وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ فَإِنَّهُ يَرِثُ . فَإِنْ فَارَقَ دِينَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ ; إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , وَبَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ , وَيُقِيمَ فِيهَا , فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ يَصِيرُ حَرْبِيًّا . فَإِذَا لَمْ تُعْلَمْ رِدَّتُهُ وَلَا حَيَاتُهُ وَلَا مَوْتُهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفْقُودِ , عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الَّذِي سَبَقَ ( ف / 121 ) . فَإِنْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ ارْتَدَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ , لِأَنَّ إسْلَامَهُ كَانَ مَعْلُومًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ , فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِعَدَمِهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ , لِأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ , فَعَدَمُ قَبُولِهَا فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأُمُورِ مِنْ بَابِ أَوْلَى . فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِرِدَّتِهِ , وَأَنْكَرَ الرِّدَّةَ فَلَا يَنْقُضُ الْقَاضِي حُكْمَهُ , فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَلَا مَالُهُ إلَّا مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ , كَمَا فِي الْمُرْتَدِّ الْمَعْرُوفِ إذَا جَاءَ تَائِبًا .
مِيرَاثُ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى : 124 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ : اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنهم فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ , وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ , وَبِذَلِكَ قَضَى زَيْدٌ فِي قَتْلَى الْيَمَامَةِ , وَفِيمَنْ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ , وَفِي قَتْلَى الْحَرَّةِ , وَنُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ عَلِيٍّ فِي قَتْلَى الْجَمَلِ وَصِفِّينَ , وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرِثُ مِنْ بَعْضٍ إلَّا فِيمَا وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ , لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ صَاحِبِهِ مَعْلُومٌ , وَهُوَ حَيَاتُهُ , وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ مَشْكُوكٌ فِيهِ , فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِحَيَاتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِيَقِينٍ آخَرَ , وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ مَوْتُهُ قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِهِ , وَذَلِكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ , فَلَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ بِالشَّكِّ إلَّا فِيمَا وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ , لِأَنَّهُ إذَا أَعْطَيْنَا أَحَدَهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِحَيَاتِهِ فِيمَا وَرِثَ مِنْ صَاحِبِهِ , وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ , وَلَكِنْ الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ , وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِيمَا وَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ , وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ , وَذَلِكَ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ : ( إنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ) . وَهِيَ أَصْلٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ . وَوَجْهُ قَوْلِ الْمَانِعِينَ مِنْ الْمِيرَاثِ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ يَقِينًا , وَالِاسْتِحْقَاقُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ , فَمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ , وَفِي الْفِقْهِ أَصْلٌ كَبِيرٌ : أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ .(30/58)
مِيرَاثُ وَلَدِ الزِّنَى : 125 - وَلَدُ الزِّنَى : وَهُوَ الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ أُمُّهُ نَتِيجَةَ ارْتِكَابِهَا الْفَاحِشَةَ . وَالْحُكْمُ : فِيهِ ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ أُمِّهِ . وَيَرِثُ بِجِهَتِهَا فَقَطْ , لِأَنَّ صِلَتَهُ بِهَا حَقِيقَةٌ مَادِّيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا , أَمَّا نَسَبُهُ إلَى الزَّانِي فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَلَوْ أَقَرَّ بِبُنُوَّتِهِ لَهُ مِنْ الزِّنَى , لِأَنَّ النَّسَبَ نِعْمَةٌ , فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي هُوَ جَرِيمَةٌ , فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ الزِّنَى , وَكَانَتْ أُمُّ الْوَلَدِ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ , وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الْإِقْرَارِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى الصَّلَاحِ , وَعَمَلًا بِالظَّاهِرِ . وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الْآخَرُ . وَذَهَبَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُمَا إلَى ثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِ الزِّنَى مِنْ الزَّانِي بِغَيْرِ صَاحِبَةِ فِرَاشِ الزَّوْجِيَّةِ , لِأَنَّ زِنَاهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ , فَكَمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْأُمِّ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّانِي , كَيْ لَا يَضِيعَ نَسَبُ الْوَلَدِ , وَيُصِيبَهُ الضَّرَرُ وَالْعَارُ بِسَبَبِ جَرِيمَةٍ لَمْ يَرْتَكِبْهَا , وَاَللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } . وَمُقْتَضَى هَذَا الرَّأْيِ أَنَّ التَّوَارُثَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا , لِأَنَّ التَّوَارُثَ فَرْعُ ثُبُوتِ النَّسَبِ , وَهُمْ يُثْبِتُونَهُ عَلَى الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ .
مِيرَاتُ وَلَدِ اللِّعَانِ وَالْمُتَلَاعِنِينَ : 126 - وَلَدُ اللِّعَانِ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلَاعِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَاقِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : إذَا لَاعَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ , وَنَفَى وَلَدَهَا , وَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا , انْتَفَى وَلَدُهَا عَنْهُ , وَانْقَطَعَ تَعْصِيبُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُلَاعِنِ , فَلَمْ يَرِثْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عَصَبَتِهِ , وَتَرِثُهُ أُمُّهُ , وَذَوُو الْفُرُوضِ مِنْهُ فُرُوضَهُمْ , وَيَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ , وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا . وَأَمَّا إنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ , وَرِثَهُ الْآخَرَانِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : إذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ لِعَانَهُ لَمْ يَتَوَارَثَا . وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ لِعَانِهِ . فَإِنْ لَاعَنَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تَرِثْ وَلَمْ تُحَدَّ . وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ وَرِثَتْ وَحُدَّتْ . وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ وَرِثَهَا فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ إلَّا الشَّافِعِيَّ . وَإِنْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَا يَتَوَارَثَانِ . وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَزُفَرَ , وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ , لِأَنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ , فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي حُصُولِ الْفُرْقَةِ بِهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا كَالرَّضَاعِ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يَتَوَارَثَانِ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ , وَلَوْ حَصَلَ التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَفْرِيقِهِ . وَإِنْ فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ تَمَامِ اللِّعَانِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ , وَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّوَارُثُ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : إنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَنْ تَلَاعَنَا ثَلَاثًا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ , وَانْقَطَعَ التَّوَارُثُ , لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا مُعْظَمُ اللِّعَانِ , وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ وَلَمْ يَنْقَطِعْ التَّوَارُثُ . وَرُوِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّوَارُثَ لَا يَنْقَطِعُ بِاللِّعَانِ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْمُلَاعِنِ .(30/59)
اسْتِحْقَاقُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ : 127 - إذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهُمْ بِتَرْتِيبِهِمْ , فَإِنَّ الْمَالَ يَئُولُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ عَلَى رَأْيٍ , أَوْ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ , أَوْ الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ حَسَبَ الْخِلَافِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ . 128 - وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ قِسْمَانِ , الْأَوَّلُ : إقْرَارٌ بِنَسَبٍ عَلَى الْمُقِرِّ , وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِأَصْلِ النَّسَبِ : الْبُنُوَّةُ وَالْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ مُبَاشَرَةً . فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ مَتَى تَوَافَرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْبُنُوَّةِ أَوْ الْأُبُوَّةِ لِلْمُقِرِّ , فَيَرِثُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَسَائِرِ أَبْنَائِهِ , وَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ . الثَّانِي : إقْرَارٌ بِنَسَبٍ عَلَى غَيْرِ الْمُقِرِّ , وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِقَرَابَةٍ يَكُونُ فِيهَا وَاسِطَةً بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ , كَإِقْرَارِ شَخْصٍ لِآخَرَ بِأَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ جَدُّهُ , فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ , وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ , وَلَكِنْ يُعَامَلُ الْمُقِرُّ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ , فَيَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ مَتَى تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ ; إذْ لَيْسَ فِيهِ إلْحَاقُ ضَرَرٍ بِالْغَيْرِ . فَإِذَا تُوُفِّيَ الْمَيِّتُ عَنْ ابْنَيْنِ , وَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الثَّانِي . فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ : إنَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَقًّا عَلَى الْمُقِرِّ , فَيُشَارِكُهُ فِي مِيرَاثِهِ , لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ إعْطَاؤُهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ , فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ : عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ عَنْ نَصِيبِهِ فِيمَا لَوْ ثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ أَيْ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطِيهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ , لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ يَقُولُ لِلْمُقَرِّ لَهُ : أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي مِيرَاثِ أَبِينَا , وَمَا أَخَذَهُ الْمُنْكِرُ , فَكَأَنَّهُ تَلِفَ أَوْ أَخَذَتْهُ يَدٌ مُعْتَدِيَةٌ , فَنَسْتَوِي فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ الَّذِي بِيَدِي . وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالزَّائِدِ عَنْ مِيرَاثِهِ , فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ قَضَاءً . وَهَلْ يَلْزَمُهُ دِيَانَةً ؟ قَوْلَانِ : أَصَحُّهُمَا لَا يَلْزَمُهُ , لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ , وَإِذَا كَانَ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَلَا يَرِثُ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ إنَّهُ يَلْزَمُهُ , وَالْقَدْرُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ دِيَانَةً فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ .
129 - وَإِذَا تَرَكَ الْمُتَوَفَّى ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْإِقْرَارِ , لِأَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَتِمَّ , وَلَكِنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ , وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ . وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَجِبُ الْمِيرَاثُ . وَالثَّانِي يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَجِبُ الْمِيرَاثُ . وَالضَّابِطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَالَ كُلَّهُ مِيرَاثًا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ النَّسَبُ وَيَتْبَعُهُ الْمِيرَاثُ فِي الْحُكْمِ .
الْمُوصَى لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا وَارِثَ لَهُ : 130 - إذَا لَمْ يُوجَدْ وَارِثٌ لِلْمُتَوَفَّى حَسْبَمَا سَبَقَ , أَوْ مُقَرٌّ لَهُ بِالنَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ , كَانَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا لِلْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , لِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهُ هُنَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ , وَإِنَّمَا أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , لِأَنَّ عَدَمَ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُجِيزُونَ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجَازَةِ .(30/60)
131 - التَّخَارُجُ : لُغَةً : أَنْ يَأْخُذَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ الدَّارَ , وَبَعْضُهُمْ الْأَرْضَ مَثَلًا . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : أَنْ يَتَصَالَحَ الْوَرَثَةُ عَلَى إخْرَاجِ بَعْضِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ , سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّيْءُ الْمَعْلُومُ مِنْ تَرِكَةِ الْمُوَرِّثِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا 132 - حُكْمُهُ : أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُجِيزُونَهُ فِي الْمَوَارِيثِ الْقَدِيمَةِ , أَمَّا فِي التَّرِكَاتِ الْحَاضِرَةِ , فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ إذَا عُلِمَ لِلطَّرَفَيْنِ , أَمَّا إذَا جَهِلَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُتَصَالَحَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ . 133 - وَإِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ , أَوْ هُمَا مَعًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْكَامِ الصَّرْفِ , مِنْ وُجُوبِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُسَاوَاةِ إنْ تَعَيَّنَتْ . كَمَا أَنَّهُ عِنْدَ التَّخَارُجِ تُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ . وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِ وَتَخْرِيجُ مَسَائِلِهِ فِي مُصْطَلَحِهِ .
الْمُنَاسَخَةُ : 134 - التَّنَاسُخُ لُغَةً : التَّتَابُعُ وَالتَّدَاوُلُ , وَمِنْهُ تَنَاسَخَ الْوَرَثَةُ ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يُقْسَمُ عَلَى حُكْمِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ , بَلْ عَلَى حُكْمِ الثَّانِي , وَكَذَا مَا بَعْدَهُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : انْتِقَالُ نَصِيبِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إلَى مَنْ يَرِثُ مِنْهُ . 135 - فَإِذَا مَاتَ إنْسَانٌ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَتَّى مَاتَ بَعْضُهُمْ . فَلَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ وَرَثَةُ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةُ الْأَوَّلِ . أَوْ يَكُونَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلْأَوَّلِ , فَإِذَا كَانَ وَرَثَةُ الثَّانِي هُمْ وَرَثَةُ الْأَوَّلِ فَيُكْتَفَى بِقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ الْمَوْجُودِينَ , بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ حَيًّا حِينَ وَفَاةِ الْمُتَوَفَّى الْأَوَّلِ , وَلَا دَاعِيَ لِقِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ وَرَثَةِ الْأَوَّلِ , ثُمَّ وَرَثَةِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَغَيَّرُوا .
136 - فَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ عَنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ مِنْ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ , ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ , وَلَا وَارِثَ لَهُ سِوَى إخْوَتِهِ الْبَاقِينَ , فَيُكْتَفَى بِقِسْمَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .
137 - وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ وَرَثَةِ الْمُتَوَفَّى الثَّانِي مَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لِلْأَوَّلِ , فَإِنَّهُ يَجِبُ قِسْمَةُ تَرِكَةِ الْمُتَوَفَّى الْأَوَّلِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ , ثُمَّ يَقْسِمُ نَصِيبَ الثَّانِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ حَسَبَ أَحْكَامِ الْمِيرَاثِ . وَذَلِكَ كَأَنْ يَمُوتَ إنْسَانٌ عَنْ ابْنِهِ وَبِنْتِهِ , ثُمَّ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا مَاتَ الِابْنُ عَنْ : بِنْتٍ وَأُخْتٍ , فَإِنَّ تَرِكَةَ الْأَوَّلِ تُقْسَمُ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ , لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , ثُمَّ يُقْسَمُ نَصِيبُ الِابْنِ بَيْنَ بِنْتِهِ وَأُخْتِهِ مُنَاصَفَةً بَيْنَهَا , وَهَكَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْمُنَاسَخَاتِ .(30/61)
حِسَابُ الْمَوَارِيثِ : 138 - إذَا اسْتَحَقَّ التَّرِكَةَ وَارِثٌ وَاحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْسِيمِهَا , سَوَاءٌ أَكَانَ عَاصِبًا , أَمْ صَاحِبَ فَرْضٍ , أَمْ ذَا رَحِمٍ . أَمَّا إذَا تَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ , فَيَأْخُذُ كُلُّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا , وَيَلْزَمُ لِتَقْسِيمِ التَّرِكَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ الْأُمُورُ الْآتِيَةُ : 139 - أَوَّلًا : مَعْرِفَةُ الْفُرُوضِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا أَصْحَابُ الْفُرُوضِ مِنْ الْوَرَثَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ . وَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ ذَوِي الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْوَرَثَةِ . 140 - ثَانِيًا : مَعْرِفَةُ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ , وَهُوَ أَقَلُّ عَدَدٍ يُمْكِنُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ سِهَامُ الْوَرَثَةِ بِدُونِ كَسْرٍ , وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يُوجَدُ مِنْ الْوَرَثَةِ . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ , أَوْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , أَوْ مُشْتَرَكًا . فَإِذَا وُجِدَ عَصَبَةٌ فَقَطْ يُعْتَبَرُ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ , فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ عَدَدِ الرُّءُوسِ . فَفِي ثَلَاثَةِ أَبْنَاءٍ , أَوْ ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ أَشِقَّاءٍ , أَوْ لِأَبٍ , أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ , وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا , يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثَ التَّرِكَةِ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا وُجِدَتْ مَعَهُمْ أُنْثَى مُعَصَّبَةٌ بِهِمْ , عُدَّ كُلُّ ذَكَرٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ الْإِنَاثِ , وَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ , فَفِي ابْنَيْنِ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ سَبْعَةٌ , لِكُلِّ ابْنٍ سُبُعَانِ , وَلِكُلِّ بِنْتٍ سُبُعٌ . وَفِي ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ أَشِقَّاءٍ وَأَرْبَعِ أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ . أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَشَرَةٌ , لِكُلِّ أَخٍ عُشْرَانِ , وَلِكُلِّ أُخْتٍ عَشْرٌ . 141 - وَإِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ . فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَقَامُ الْكَسْرِ الِاعْتِيَادِيِّ الدَّالِّ عَلَى فَرْضِ صَاحِبِ الْفَرْضِ , وَلَمَّا كَانَتْ الْفُرُوضُ لَا تَتَعَدَّى الْكُسُورَ الْآتِيَةَ : النِّصْفَ , الرُّبُعَ , الثُّمُنَ , الثُّلُثَيْنِ , الثُّلُثَ , السُّدُسَ . فَلَا يَخْرُجُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ مَقَامَاتِ هَذِهِ الْكُسُورِ . 142 - وَإِذَا وُجِدَ أَصْحَابُ فُرُوضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَحْدَهُمْ , أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعَصَبَاتِ النَّسَبِيَّةِ , فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الْمُضَاعَفُ الْبَسِيطُ لِمَقَامَاتِ الْكُسُورِ الِاعْتِيَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوضِ , وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَ الْبَسِيطَ لِمَقَامَاتِ الْكُسُورِ فِي أَيِّ مَسْأَلَةٍ لَا يَخْرُجُ أَوَّلًا عَنْ سَبْعَةِ أَعْدَادٍ , وَهِيَ : ( 2 , 3 , 4 , 6 , 8 , 12 , 24 ) . 143 - وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَائِلَةٌ , أَوْ فِيهَا رَدٌّ , يَخْرُجُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ , وَالْخَمْسَةُ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَقَامَاتِ الْكُسُورِ الِاعْتِيَادِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْفُرُوضِ , وَالْعَدَدُ ( 12 ) مَأْخُوذٌ مِنْ اخْتِلَاطِ . 1 / 4 بِالنَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْفُرُوضِ وَهُوَ : الثُّلُثَانِ الثُّلُثُ السُّدُسُ . وَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْفُرُوضِ فَهُوَ : النِّصْفُ الرُّبُعُ الثُّمُنُ وَالْعَدَدُ ( 24 ) مَأْخُوذٌ مِنْ اخْتِلَاطِ الثَّمَنِ بِالنَّوْعِ الثَّانِي الْمَذْكُورِ . وَيُغْنِي عَمَّا تَقَدَّمَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ ( 24 ) أَصْلًا لِمَسَائِلِ الْمَوَارِيثِ , فَذَلِكَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ . وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوضَةِ , حَتَّى يُمْكِنَ مَعْرِفَةُ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ . 144 - ثَالِثًا : مَعْرِفَةُ عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرِكَةِ . فَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَاحِبَ فَرْضٍ , فَعَدَدُ سِهَامِهِ مِنْ التَّرِكَةِ هُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى فَرْضِهِ , فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَبٌ وَأُمٌّ , فَإِنَّ الْأُمَّ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ , وَيَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ هُوَ ثَلَاثَةٌ , وَإِذَا كَانَ عَاصِبًا وَبَقِيَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ . فَعَدَدُ سِهَامِهِ هُوَ الْبَاقِي مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ طَرْحِ مَجْمُوعِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ . فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ زَوْجَةً وَأَبًا , فَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَرْبَعَةً ; لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَهَا الرُّبُعُ , فَيَكُونُ لَهَا سَهْمٌ , وَلِلْأَبِ الْبَاقِي ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ . 145 - رَابِعًا : مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنْ التَّرِكَةِ , وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ عَلَى(30/62)
أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ . فَفِي زَوْجٍ , وَابْنٍ , وَبِنْتٍ , يَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ : لِلزَّوْجِ سَهْمٌ , وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ , وَلِلِابْنِ سَهْمَانِ . 146 - خَامِسًا : مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ نَصِيبِ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ التَّرِكَةِ , وَهُوَ النَّتِيجَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ التَّرِكَةِ . وَهُوَ النَّاتِجُ مِنْ ضَرْبِ مِقْدَارِ السَّهْمِ الْوَاحِدِ مِنْ التَّرِكَةِ فِي عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ . ثُمَّ إذَا جَمَعْت سِهَامَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ عَدَدِ سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ الطَّرِيقَةِ السَّابِقَةِ , وَقَارَنْت مَجْمُوعَ تِلْكَ السِّهَامِ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ , فَلَا يَخْلُو الْحَالُ مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : أ - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ السِّهَامِ مُسَاوِيًا لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ , وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَادِلَةً ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ التَّرِكَةِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ , كَمَا فِي زَوْجٍ , وَأُخْتٍ شَقِيقَةٍ . ب - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ أَكْثَرَ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ , وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَائِلَةً , كَمَا فِي زَوْجٍ , وَأُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ , أَوْ لِأَبٍ . ج - أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ سِهَامِ الْفُرُوضِ أَقَلَّ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ نَسَبِيٌّ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , وَيُقَالُ لِلْمَسْأَلَةِ حِينَئِذٍ فِيهَا رَدٌّ . وَالْأَمْرَانِ : الثَّانِي وَالثَّالِثِ , وَهُمَا الْعَوْلُ وَالرَّدُّ , بَيَانُهُمَا فِيمَا سَبَقَ .(30/63)
الْمُلَقَّبَاتُ مِنْ مَسَائِلِ الْمِيرَاثِ : فِي الْفَرَائِضِ مَسَائِلُ اُشْتُهِرَتْ بِأَلْقَابٍ خَاصَّةٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْقَوَاعِدِ وَالْأَحْكَامِ . مِنْهَا مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُكْمِهَا , وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ : 147 - أَوَّلًا : الْمُشَرَّكَةُ , أَوْ الْحِمَارِيَّةُ , أَوْ الْحَجَرِيَّةُ , أَوْ الْيَمِّيَّةُ : وَصُورَتُهَا : امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ , أَوْ أُخْتَيْنِ لِأُمٍّ , أَوْ أَخًا وَأُخْتًا لِأُمٍّ , وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ , فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ . فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ , وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ , وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ , وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثَ , وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ . وَهَذَا هُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ , وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ : أَنَّهُ يُشْرَكُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ وَالْأَشِقَّاءِ , فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ بِالسَّوِيَّةِ , كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى , فِي النَّصِيبِ . وَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ شُرَيْحٌ , وَالثَّوْرِيُّ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ . وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي رَأْيِهِ الْأَوَّلِ يَنْفِي التَّشْرِيكَ , ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ , وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا التَّشْرِيكُ , وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ التَّشْرِيكِ . 148 - وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ التَّشْرِيكِ ; لِمُشَارَكَةِ أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ . كَمَا تُسَمَّى , الْحِمَارِيَّةُ وَالْحَجَرِيَّةُ وَالْيَمِّيَّةُ أَيْضًا . لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عُمَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ , أَفْتَى بِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلْإِخْوَةِ لِأُمٍّ فِي الْمِيرَاثِ , فَقَالَ لَهُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ : هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا , وَفِي رِوَايَةٍ حَجَرًا مُلْقًى فِي الْيَمِّ . أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ ؟ فَرَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ الْأَوَّلِ , وَأَفْتَى بِالتَّشْرِيكِ . وَقِيلَ لَهُ : لَقَدْ أَفْتَيْت سَابِقًا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ . فَقَالَ : تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا , وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي . قَالَ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ الرَّأْيَ بِالتَّشْرِيكِ : وَهُوَ " أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّشْرِيكِ " الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ . فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ . وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي الْإِدْلَاءِ إلَى الْمَيِّتِ بِالْأُمِّ وَرَجَحَ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ وَأَبٍ بِالْإِدْلَاءِ إلَيْهِ بِالْأَبِ . فَإِنْ كَانُوا لَا يَتَقَدَّمُونَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ , فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسْتَوُوا بِهِمْ , وَإِنَّمَا لَمْ يَتَقَدَّمُوا لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأَبِ بِسَبَبِ الْعُصُوبَةِ . وَاسْتِحْقَاقُ الْعَصَبَاتِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْأَبِ فِي حَقِّهِمْ . وَإِنَّمَا يَبْقَى الْإِدْلَاءُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ , وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ . وَالْقَائِلُونَ بِالتَّشْرِيكِ سَوَّوْا فِي الْمِيرَاثِ بِالنِّسْبَةِ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ , وَلِأَوْلَادِ الْأَبِ وَالْأُمِّ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ ثَبَتَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِهِمْ أَوْلَادَ أُمٍّ . وَالْحُكْمُ فِيهِمْ الْمُسَاوَاةُ . وَذَلِكَ بَعْدَ قِسْمَةِ الثُّلُثِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُنَاصَفَةً . 149 - وَاسْتَدَلُّوا لِلْقَوْلِ بِالتَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : أَوَّلًا : أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِ الْأُمِّ ابْنَ عَمٍّ يُشَارِكُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَإِنْ سَقَطَتْ عُصُوبَتُهُ , فَبِالْأَوْلَى الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ . ثَانِيًا : أَنَّهَا فَرِيضَةٌ جَمَعَتْ وَلَدَ الْأَبَوَيْنِ وَوَلَدَ الْأُمِّ , وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ . فَإِذَا وَرِثَ وَلَدُ الْأُمِّ وَرِثَ وَلَدُ الْأَبَوَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَوْجٌ . ثَالِثًا : أَنَّ الْإِرْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ . وَأَدْنَى أَحْوَالِ الْأَقْوَى مُشَارَكَتُهُ لِلْأَضْعَفِ , وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الْمِيرَاثِ سُقُوطُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ , وَوَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ . 150 - وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ التَّشْرِيكِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : أَوَّلًا : قوله تعالى { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } . إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَوْلَادُ الْأُمِّ عَلَى الْخُصُوصِ , كَمَا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ . فَتَشْرِيك الْأَشِقَّاءِ مَعَ أَوْلَادِ الْأُمِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ , وَيَلْزَمُ(30/64)
مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْآيَةِ الْأُخْرَى { فَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } . , إذْ الْمُرَادُ مِنْ الْإِخْوَةِ فِي الْآيَةِ كُلُّ الْإِخْوَةِ , مَا عَدَا إخْوَةَ الْأُمِّ . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا حَظَّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ . وَلَكِنْ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيكِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لَهَا . ثَانِيًا : قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا , فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَإِلْحَاقُ الْفَرَائِضِ بِأَهْلِهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِأَوْلَادِ الْأُمِّ فِي الْمَسْأَلَةِ كُلُّ الثُّلُثِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ , فَمُشَارَكَةُ الْإِخْوَةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ . ثَالِثًا : أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمِّ , وَعَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ , فَإِنَّ وَلَدَ الْأُمِّ يَأْخُذُ السُّدُسَ , وَكُلُّ الْإِخْوَةِ يَأْخُذُونَ الثُّلُثَ . فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يَفْضُلُهُمْ هَذَا الْفَضْلَ , فَلِمَ لَا يَجُوزُ لِلِاثْنَيْنِ إسْقَاطُهُمْ .(30/65)
الْغَرَّاوَانِ , أَوْ الْغَرِيمَتَانِ , أَوْ الْغَرِيبَتَانِ , أَوْ الْعُمَرِيَّتَانِ : 151 - صُورَتُهَا امْرَأَةٌ تُوُفِّيَتْ عَنْ : زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ , أَوْ رَجُلٌ تُوُفِّيَ عَنْ : زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَأَبٍ . فَقَدْ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فِي الْأُولَى عَلَى : أَنَّ لِلزَّوْجِ نِصْفَ التَّرِكَةِ , وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ . وَفِي الثَّانِيَةِ : لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعَ , وَلِلْأُمِّ ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَةِ , وَلِلْأَبِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَاقِيَ , بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ وَفَرْضِ الْأُمِّ . وَوَجْهُ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يَأْخُذَانِ الْمَالَ أَثْلَاثًا يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَا الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ , كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ لِغَيْرِ أُمٍّ . وَبِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ , أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ ضِعْفُ مَا لِلْأُنْثَى , فَلَوْ جَعَلَ لِلْأُمِّ ثُلُثَ كُلِّ التَّرِكَةِ مَعَ الزَّوْجِ , لَفَضَلَتْ عَلَى الْأَبِ , وَمَعَ الزَّوْجَةِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْأَبِ ضِعْفَ نَصِيبِ الْأُمِّ , وَلَا يَرِدُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا مَعَ الِابْنِ تَسَاوَيَا ; لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا : الْأَصْلُ كَذَا . فَذَلِكَ لَا يُنَافِي خُرُوجَ فَرْضٍ عَنْهُ لِدَلِيلٍ , كَمَا خَرَجَ عَنْهُ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ فِي تَسَاوِي نَصِيبِ الذَّكَرِ بِنَصِيبِ الْأُنْثَى . وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لِلْأُمِّ فِي الصُّورَتَيْنِ الثُّلُثُ كَامِلًا . وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } : وَبِقَوْلِهِ : صلى الله عليه وسلم : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ } وَالْأَبُ فِي الصُّورَةِ عَصَبَةٌ , فَلَهُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ . قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي - كَمَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ : وَالْحُجَّةُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَوْلَا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ فِيهِمَا . 152 - وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَدٌّ , لَكَانَ لِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ , وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ . وَرَوَى ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صُورَةِ الزَّوْجِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّ لِلْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ ثُلُثَ الْبَاقِي أَيْضًا , كَمَا مَعَ الْأَبِ , وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ . فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ جَعَلَ الْجَدَّ كَالْأَبِ . وَالْوَجْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى هُوَ تَرْكُ ظَاهِرِ قوله تعالى : { فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } فِي حَقِّ الْأَبِ كَيْ لَا يَلْزَمَ تَفْضِيلُهَا عَلَيْهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْجَدِّ فَأُبْقِيَ النَّصُّ عَلَى ظَاهِرِهِ { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } لِعَدَمِ تَسَاوِي الْأُمِّ وَالْجَدِّ فِي الْقُرْبِ . 153 - وَتُسَمَّى الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بِالْغَرَّاوَيْنِ ; لِشُهْرَتِهَا كَالْكَوْكَبِ الْأَغَرِّ " الْمُضِيءِ " , وَبِالْغَرِيمَتَيْنِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الزَّوْجَيْنِ كَالْغَرِيمِ صَاحِبِ الدَّيْنِ , وَالْأَبَوَانِ كَالْوَرَثَةِ يَأْخُذَانِ مَا فَضَلَ بَعْدَ فَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا , وَبِالْغَرِيبَتَيْنِ لِغَرَابَتِهِمَا بَيْنَ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ , وَبِالْعُمَرِيَّتَيْنِ ; لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِيهِمَا لِلْأُمِّ بِثُلُثِ الْبَاقِي , وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَهُنَاكَ مَسَائِلُ أُخْرَى مُسْتَثْنَاةٌ , تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا , وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا أَيْضًا لَكِنْ بِغَيْرِ تَفْصِيلٍ , مِمَّا دَعَا إلَى إفْرَادِهِمَا وَلِأَهَمِّيَّتِهِمْ ا .(30/66)
( الْخَرْقَاءُ ) : 154 - صُورَتُهَا : أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ , سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لِأَنَّ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم تَخَرَّقَتْهَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لِلْأُمِّ الثُّلُثُ , وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ , وَقَالَ زَيْدٌ : لِلْأُمِّ الثُّلُثُ , وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : لِلْأُمِّ الثُّلُثُ , وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ , وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ , وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ , وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ , وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ . وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً , لِأَنَّ عُثْمَانَ انْفَرَدَ فِيهَا بِقَوْلٍ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ فَقَالَ : لِلْأُمِّ الثُّلُثُ , وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَانِ قَالُوا : وَبِهِ سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ . وَتُسَمِّي مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ , وَمُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ , وَمُخَمَّسَةَ الشَّعْبِيِّ رضي الله تعالى عنهم , لِأَنَّ الْحَجَّاجَ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ : اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَإِذَا أُضِيفَ إلَيْهِمْ قَوْلُ الصِّدِّيقِ كَانَتْ مُسَدَّسَةً .
( الْمَرْوَانِيَّةُ ) : 155 - صُورَتُهَا : سِتُّ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَزَوْجٌ , لِلزَّوْجِ النِّصْفُ , وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ , وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ , وَسَقَطَ أَوْلَادُ الْأَبِ , أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ , وَتَعُولُ إلَى تِسْعَةٍ , سُمِّيَتْ مَرْوَانِيَّةً ; لِوُقُوعِهَا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ , وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ ; لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ .
الْحَمْزِيَّةُ ) : 156 - صُورَتُهَا : ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ , وَجَدٌّ , وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ , قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ : لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ , وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ . أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ , وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ . وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ : لِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ , وَمِنْ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةً لِلثُّلُثَيْنِ , وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ , وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ : لِلْجَدَّةِ أُمُّ الْأُمِّ السُّدُسُ , وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ . وَقَالَ زَيْدٌ : لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ , وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِأَبٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ , ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ مَا أَخَذَتْ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ , أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ , وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ , وَتَعُودُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ , لِلْجَدَّاتِ سِتَّةٌ , وَلِلْأُخْتِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ نَصِيبُهَا وَنَصِيبُ أُخْتِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ , وَلِلْجَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ . سُمِّيَتْ حَمْزِيَّةً ; لِأَنَّ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ سُئِلَ عَنْهَا فَأَجَابَ بِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ .
الدِّينَارِيَّةُ : 157 - صُورَتُهَا : زَوْجَةٌ , وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ , وَالتَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ , لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ , وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ , وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا , يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ , وَلِلْأُخْتِ دِينَارٌ , وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الدِّينَارِيَّةُ , وَتُسَمَّى الدَّاوُدِيَّةُ , لِأَنَّ دَاوُد الطَّائِيَّ سُئِلَ عَنْهَا , فَقَسَّمَهَا هَكَذَا , فَجَاءَتْ الْأُخْتُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ : إنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ , فَمَا أُعْطِيتُ مِنْهَا إلَّا دِينَارًا وَاحِدًا , فَقَالَ : مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ ؟ فَقَالَتْ : تِلْمِيذُك دَاوُد الطَّائِيُّ فَقَالَ : هُوَ لَا يَظْلِمُ , هَلْ تَرَكَ أَخُوك جَدَّةً ؟ قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَ : هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَ : هَلْ تَرَكَ زَوْجَةً ؟ قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَ : هَلْ تَرَكَ مَعَك اثْنَيْ عَشَرَ أَخًا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ , قَالَ : إذَنْ حَقُّك دِينَارٌ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمُعَايَاةِ فَيُقَالُ : رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا , ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ .(30/67)
( الِامْتِحَانُ ) : 158 - صُورَتُهَا : أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ , وَخَمْسُ جَدَّاتٍ , وَسَبْعُ بَنَاتٍ , وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ . أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ , لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ , وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ , وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ , وَلِلْأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ , وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ , وَلَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ , فَيَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ الرُّءُوسِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ , فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي خَمْسَةٍ يَكُنْ عِشْرِينَ , ثُمَّ اضْرِبْ عِشْرِينَ فِي سَبْعَةٍ يَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ , ثُمَّ اضْرِبْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فِي تِسْعَةٍ يَكُنْ أَلْفًا وَمِائَةً وَسِتِّينَ , فَاضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَكُنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ , مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ . وَجْهُ الِامْتِحَانِ أَنْ يُقَالَ : رَجُلٌ خَلَّفَ أَصْنَافًا , عَدَدُ كُلِّ صِنْفٍ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ , وَلَا تَصِحُّ مَسْأَلَتُهُ إلَّا مِمَّا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا .
( الْمَأْمُونِيَّةُ ) : 159 - صُورَتُهَا : أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ , مَاتَتْ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ . سُمِّيَتْ الْمَأْمُونِيَّةَ لِأَنَّ الْمَأْمُونَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَحَدًا , فَأَحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ فَاسْتَحْقَرَهُ ( أَيْ لِصِغَرِ سِنِّهِ ) فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : أَخْبِرْنِي عَنْ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ , ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى , فَعَلِمَ الْمَأْمُونُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْطَاهُ الْعَهْدَ , وَوَلَّاهُ الْقَضَاءَ . وَالْجَوَابُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى , فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا , فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ , وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ , فَإِذَا مَاتَتْ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتًا وَجَدًّا صَحِيحًا أَبَا أَبٍ , وَجَدَّةٌ صَحِيحَةٌ أُمَّ أَبٍ , فَالسُّدُسُ لِلْجَدَّةِ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ , وَسَقَطَتْ الْأُخْتُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ . وَقَالَ زَيْدٌ : لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا , وَصَحَّحَ الْمُنَاسَخَةَ . وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ أُنْثَى , فَقَدْ مَاتَتْ الْبِنْتُ عَنْ أُخْتٍ , وَجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أُمِّ أُمٍّ , وَجَدٍّ فَاسِدٍ أَبِي أُمٍّ , فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ , وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا , وَسَقَطَ الْجَدُّ الْفَاسِدُ بِالْإِجْمَاعِ . كَذَا فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ .
إرْجَافٌ(30/68)
( إرْجَافٌ التَّعْرِيفُ ) : 1 - الْإِرْجَافُ فِي اللُّغَةِ : الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ , وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى : الْخَوْضِ فِي الْأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ الْفِتَنِ ; لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ اضْطِرَابٌ بَيْنَ النَّاسِ . وَالْإِرْجَافُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ : الْتِمَاسُ الْفِتْنَةِ , وَإِشَاعَةُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ لِلِاغْتِمَامِ بِهِ . الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - ( التَّخْذِيلُ ) : 2 - التَّخْذِيلُ هُوَ : تَثْبِيطُ النَّاسِ عَنْ الْغَزْوِ , وَتَزْهِيدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَيْهِ , كَقَوْلِهِ : الْوَقْتُ حُرٌّ شَدِيدٌ , الْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ فِي التَّخْذِيلِ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ النُّهُوضِ لِلْقِتَالِ , وَالْإِرْجَافُ نَشْرُ الِاضْطِرَابِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . فَالْإِرْجَافُ أَعَمُّ مِنْ التَّخْذِيلِ . ب - ( الْإِشَاعَةُ ) : 3 - الْإِشَاعَةُ : لُغَةً الْإِظْهَارُ , وَاصْطِلَاحًا : نَشْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَنْبَغِي سَتْرُهَا , لِشَيْنِ النَّاسِ . وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ عَوْرَةً لِيَشِينَهُ بِهَا } . . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : 4 - الْإِرْجَافُ حَرَامٌ , وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ . قَالَ تَعَالَى : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا } . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ : لَأُسَلِّطَنك عَلَيْهِمْ فَتَسْتَأْصِلُهُمْ بِالْقَتْلِ . { وَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ , فَبَعَثَ إلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيْهِمْ الْبَيْتَ , فَفَعَلَ طَلْحَةُ ذَلِكَ } . 5 - وَلَا يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ إلَى الْجِهَادِ مُرْجِفًا , وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ هُوَ أَحَدَ الْمُرْجِفِينَ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْجِهَادِ , لقوله تعالى { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ , لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ } . وَلَوْ خَرَجَ مُرْجِفٌ مَعَ الْجَيْشِ لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ , وَلَا يُرْضَخُ لَهُ مِنْهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْإِرْجَافِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ , وَفِي قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ .
أَرْحَامٌ(30/69)
( أَرْحَامٌ التَّعْرِيفُ ) : 1 - الْأَرْحَامُ جَمْعُ رَحِمٍ , وَالرَّحِمُ وَالرَّحْمُ وَالرِّحْمُ بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ , وَمِنْ الْمَجَازِ : الرَّحِمُ الْقَرَابَةُ , وَفِي التَّهْذِيبِ : بَيْنَهُمَا رَحِمٌ : أَيْ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ . وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : ذَوُو الرَّحِمِ : هُمْ الْأَقَارِبُ . وَالرَّحِمُ يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ . وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ - غَيْرُ الْفَرْضِيِّينَ مِنْهُمْ - يُرَادُ بِهِمْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْأَقَارِبُ , غَيْرَ أَنَّهُ فِي فُرُوعِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ بَيْنَ الْأَرْحَامِ وَالْأَقَارِبِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ , فَمَثَلًا لَا تَدْخُلُ قَرَابَةُ الْأُمِّ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْقَرَابَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , بَيْنَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ يَدْخُلُ الْأَقَارِبُ مِنْ الْجِهَتَيْنِ . وَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ , وَيُرَادُ بِهِمْ " مَنْ لَيْسُوا بِذَوِي سَهْمٍ وَلَا عَصَبَةٍ , ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إنَاثًا " . وَالْأَرْحَامُ وَذَوُو الْأَرْحَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ . 2 - الرَّحِمُ نَوْعَانِ : رَحِمٌ مَحْرَمٌ , وَرَحِمُ غَيْرُ مَحْرَمٍ . وَضَابِطُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ : كُلُّ شَخْصَيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ لَوْ فُرِضَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَحِلَّ لَهُمَا أَنْ يَتَنَاكَحَا , كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا , وَالْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ نَزَلُوا , وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ , وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَرْحَامِ , فَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمْ الْمَحْرَمِيَّةُ , كَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَبَنَاتِ الْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَخْوَالِ وَبَنَاتِ الْخَالَاتِ . الصِّفَةُ ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) : تَتَّصِلُ بِالْأَرْحَامِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهَا . وَبَيَانُهَا فِيمَا يَأْتِي : صِلَةُ الْأَرْحَامِ : 3 - الصِّلَةُ هِيَ فِعْلُ مَا يُعَدُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَاصِلًا , قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ : " الصِّلَةُ إيصَالُ نَوْعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ " . وَصِلَةُ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبَوَيْنِ , وَغَيْرِهِمَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ مَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ . وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } . وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ , وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ , وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِهِمَا , فَاتَّفَقُوا مَعَ غَيْرِهِمْ عَلَى وُجُوبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ عُقُوقَهُمَا كَبِيرَةٌ , وَذَهَبُوا إلَى أَنَّ صِلَةَ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَقَارِبِ سُنَّةٌ . عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ ابْتِدَاءَ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ مَعَ الْأَقَارِبِ سُنَّةٌ , وَأَنَّ قَطْعَهُ بَعْدَ حُصُولِهِ كَبِيرَةٌ . ( صِلَةُ الْأَبَوَيْنِ ) : 4 - وَصِلَةُ الْأُمِّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صِلَةِ الْأَبِ بِالْإِجْمَاعِ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ : أُمُّك ثُمَّ أُمُّك ثُمَّ أُمُّك ثُمَّ أَبُوك } . وَالتَّعْبِيرُ الْغَالِبُ لِلْفُقَهَاءِ عَنْ الْإِحْسَانِ لِلْأَبَوَيْنِ بِالْبِرِّ , وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَقَارِبِ بِالصِّلَةِ , لَكِنَّهُ قَدْ يَحْدُثُ الْعَكْسُ فَيَقُولُونَ : صِلَةُ الْأَبَوَيْنِ , وَبِرُّ الْأَرْحَامِ , وَلَمَّا كَانَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ صِلَةِ الْوَالِدَيْنِ مُعَبَّرًا عَنْهَا بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ , فَإِنَّ مَوْطِنَ تَفْصِيلِهَا فِي ذَلِكَ الْمُصْطَلَحِ , مَعَ الْبَيَانِ هُنَا لِلتَّيْسِيرِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ مَعَ التَّفْصِيلِ لِأَحْكَامِ بَقِيَّةِ الْأَرْحَامِ(30/70)
صِلَةُ الْأَقَارِبِ : 5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي قَوْلٍ لَهُمْ - إلَى أَنَّ الْأَخَ الْأَكْبَرَ كَالْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ , وَكَذَا الْجَدُّ , وَإِنْ عَلَا , وَالْأُخْتُ الْكَبِيرَةُ , وَالْخَالَةُ كَالْأُمِّ فِي الصِّلَةِ . وَقَرِيبٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَا اخْتَارَهُ الزَّرْكَشِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَمِّ وَالْخَالَةِ , إذْ يَجْعَلُ الْعَمَّ بِمَثَابَةِ الْأَبِ , وَالْخَالَةَ بِمَثَابَةِ الْأُمِّ , لِمَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ , وَأَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ . لَكِنْ كَلَامُ الزَّرْكَشِيّ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ , لِأَنَّ الْوَالِدَيْنِ اخْتَصَّا مِنْ الرِّعَايَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْإِحْسَانِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا وَغَايَةٍ رَفِيعَةٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَرْحَامِ , وَأَجَابُوا عَمَّا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَكْفِي التَّشَابُهُ فِي أَمْرٍ مَا كَالْحَضَانَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالَةِ وَالْأُمِّ , وَالْإِكْرَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ وَالْعَمِّ .
مَنْ تُطْلَبُ صِلَتُهُ مِنْ الْأَرْحَامِ : 6 - لِلْعُلَمَاءِ فِي الرَّحِمِ الَّتِي يُطْلَبُ وَصْلُهَا رَأْيَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الصِّلَةَ خَاصَّةٌ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ , وَغَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , . قَالُوا : لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لِجَمِيعِ الْأَقَارِبِ لَوَجَبَ صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ , وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ , فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَبْطِ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا , وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ . وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا , فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ } . الثَّانِي : أَنَّ الصِّلَةَ تُطْلَبُ لِكُلِّ قَرِيبٍ , مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ , وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ الشَّافِعِيَّةِ , فَلَمْ يُخَصِّصْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ .
الصِّلَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ : 7 - لَا خِلَافَ فِي أَنَّ صِلَةَ الِابْنِ الْمُسْلِمِ لِأَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ مَطْلُوبَةٌ . أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْأَقَارِبِ الْكُفَّارِ فَلَا تُطْلَبُ صِلَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِ ; لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَدَلِيلُ اسْتِثْنَاءِ الْأَبَوَيْنِ قوله تعالى : { وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } . ذَهَبَ إلَى هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , لَكِنْ نَقَلَ السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ سَحْنُونِ بْنِ مُهَمَّدَانَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي الصِّلَةِ .
دَرَجَاتُ الصِّلَةِ : 8 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ دَرَجَاتِ الصِّلَةِ تَتَفَاوَتُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَقَارِبِ , فَهِيَ فِي الْوَالِدَيْنِ أَشَدُّ مِنْ الْمَحَارِمِ , وَفِيهِمْ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالصِّلَةِ أَنْ تَصِلَهُمْ إنْ وَصَلُوك ; لِأَنَّ هَذَا مُكَافَأَةٌ , بَلْ أَنْ تَصِلَهُمْ وَإِنْ قَطَعُوك . فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ { لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا }
بِمَ تَحْصُلُ الصِّلَةُ ؟ 9 - تَحْصُلُ صِلَةُ الْأَرْحَامِ بِأُمُورٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا : الزِّيَارَةُ , وَالْمُعَاوَنَةُ , وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ , وَالسَّلَامُ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ } وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ السَّلَامِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ كَمَا تَحْصُلُ الصِّلَةُ بِالْكِتَابَةِ إنْ كَانَ غَائِبًا , نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ , وَهَذَا فِي غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ , أَمَّا هُمَا فَلَا تَكْفِي الْكِتَابَةُ إنْ طَلَبَا حُضُورَهُ . وَكَذَلِكَ بَذْلُ الْمَالِ لِلْأَقَارِبِ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ صِلَةٌ لَهُمْ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ , وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ : صَدَقَةٌ , وَصِلَةٌ } وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْغَنِيَّ لَا تَحْصُلُ صِلَتُهُ بِالزِّيَارَةِ لِقَرِيبِهِ الْمُحْتَاجِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى بَذْلِ الْمَالِ لَهُ . وَيَدْخُلُ فِي الصِّلَةِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ مِمَّا تَتَأَتَّى بِهِ الصِّلَةُ(30/71)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الصِّلَةِ : 10 - فِي صِلَةِ الرَّحِمِ حِكَمٌ جَلِيلَةٌ , عَبَّرَ عَنْ أَهَمِّهَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ , أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ } وَمِنْ الْفَوَائِدِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ : رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ , وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْأَرْحَامِ . وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْمُرُوءَةِ , وَزِيَادَةُ الْأَجْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كُلَّمَا ذَكَرُوا إحْسَانَهُ .
( قَطْعُ الرَّحِمِ ) : 11 - بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَكُونُ بِهِ قَطْعُ الرَّحِمِ , وَوَافَقَهُ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ رَأْيَيْنِ : أَحَدَهُمَا : الْإِسَاءَةَ إلَى الْأَرْحَامِ . الثَّانِيَ : يَتَعَدَّى إلَى تَرْكِ الْإِحْسَانِ , فَقَطْعُ الْمُكَلَّفِ مَا أَلِفَهُ قَرِيبُهُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الصِّلَةِ وَالْإِحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ رَحِمَهُ , وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَبِيرَةً كَمَا سَبَقَ . وَالْأَعْذَارُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الصِّلَةِ , فَعُذْرُ تَرْكِ الزِّيَارَةِ ضَبَطَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالْعُذْرِ الَّذِي تُتْرَكُ بِهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ , بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ وَتَرْكُهُ كَبِيرَةٌ , وَإِنْ كَانَتْ الصِّلَةُ بِبَذْلِ الْمَالِ , فَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ , أَوْ فَقْدِهِ , أَوْ قَدَّمَ غَيْرَ الْقَرِيبِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ , كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا . وَعُذْرُ الْمُرَاسَلَةِ وَالْكِتَابَةِ أَلَّا يَجِدَ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي أَدَاءِ الرِّسَالَةِ . وَمِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي زَادَهَا الْمَالِكِيَّةُ تَكَبُّرُ الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ عَلَى قَرِيبِهِ الْفَقِيرِ , فَلَا صِلَةَ عَلَى الْفَقِيرِ حِينَئِذٍ .
حُكْمُ قَطْعِ الرَّحِمِ : 12 - قَطْعُ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِوَصْلِهَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ , لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ { وَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } .
تَقْدِيمُ الْأَرْحَامِ فِيمَا يَلْزَمُ الْمَيِّتَ : 13 - أَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَيِّتِ مِنْ غُسْلٍ وَصَلَاةٍ عَلَيْهِ , وَدَفْنٍ . إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّمُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْأَقَارِبِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ الْوَصِيَّ عَلَيْهِمْ , وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَفِي الْغُسْلِ وَالدَّفْنِ , وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مُصْطَلَحِ الْجَنَائِزِ .
الْهِبَةُ لِلْأَرْحَامِ : 14 - لَوْ وَهَبَ إنْسَانٌ لِرَحِمِهِ , وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ , فَفِي غَيْرِ الْفُرُوعِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ بِاتِّفَاقٍ , أَمَّا الْفُرُوعُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ : أ - مَنْعُ الرُّجُوعِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ , لِحَدِيثِ الْحَاكِمِ مَرْفُوعًا : { إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا } وَصَحَّحَهُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ . ب - جَوَازُ الرُّجُوعِ لِلْأَبِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ , إذَا بَقِيَ الْمَوْهُوبُ فِي سُلْطَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ , لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ } . وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ , إنْ سَوَّى بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ . ج - جَوَازُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ دُونَ غَيْرِهِمَا , وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ , غَيْرَ أَنَّ الْأُمَّ لَا تَعْتَصِرُ ( تَرْجِعُ ) إلَّا مِنْ الْكَبِيرِ الْبَالِغِ , وَمِنْ الصَّغِيرِ إنْ كَانَ أَبُوهُ حَيًّا , فَإِنْ تَيَتَّمَ بَعْدَ الْهِبَةِ فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ , وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْ الْوَاهِبُ : هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى , أَوْ يَجْعَلُهَا صِلَةَ رَحِمٍ , فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ كَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ , وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمِّ , لَكِنْ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ أُخْرَى فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَمُسْتَثْنَيَاتِهِ يُرْجَعُ إلَيْهَا فِي ( الْهِبَةِ ) .(30/72)
إرْثُ الْأَرْحَامِ : 15 - الرَّحِمُ فِي الْفَرَائِضِ : هِيَ كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ . وَيَرِثُونَ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَاصِبٍ أَوْ صَاحِبِ فَرْضٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ , وَيُقَدَّمُونَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ مُتَأَخِّرُو كُلٍّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إنْ لَمْ يَنْتَظِمْ بَيْتُ الْمَالِ . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَوْرِيثِهِمْ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ : مَذْهَبُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ , وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْقَرَابَةِ . وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ يُسَمَّى أَهْلَ الرَّحِمِ , وَقَدْ هَجَرَهُ الْفُقَهَاءُ . وَكَيْفِيَّةُ تَوْرِيثِهِمْ ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ ( إرْثٌ ) .(30/73)
الْوَصِيَّةُ لِلْأَرْحَامِ : 16 - الْوَصِيَّةُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ جَائِزَةٌ اتِّفَاقًا . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِأَرْحَامِهِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ يَدْخُلُ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَدُ إذَا كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الْمِيرَاثِ ; لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا هُوَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَدْخُلُونَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ ( عُرْفًا ) أَنَّهُمْ أَقَارِبُ , وَلَوْ أُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ عُقُوقًا . وَيَدْخُلُ الْجَدُّ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ , وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ غَيْرَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِدُخُولِ الْجَدِّ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ . أ - دُخُولُ أَقْرَبِ جَدٍّ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ . ب - دُخُولُ جَدِّ الْأَبِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ مَا صَرَفَ إلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ , إذْ قَالَا : تُصْرَفُ إلَى أَقْصَى جَدٍّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ . وَقَالَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ , حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي أَقْرِبَاءِ الْإِنْسَانِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَقْرَبِ أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كَثْرَةٌ , وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَفِيهِمْ كَثْرَةٌ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُمْ , فَتُصْرَفُ الْوَصِيَّةُ إلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ وَأَوْلَادِ أُمِّهِ وَجَدِّ أُمِّهِ وَجَدَّتِهِ وَجَدَّةِ أُمِّهِ . وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . ج - تَجَاوُزُ الْجَدِّ الرَّابِعِ وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ . وَأَوْلَادُ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْأَجْدَادِ يَدْخُلُونَ فِي الْأَرْحَامِ . وَالْأَحْفَادُ كَالْأَجْدَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ - وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي الْأَرْحَامِ . 17 - وَيَسْتَوِي فِي الْوَصِيَّةِ لِلْأَرْحَامِ - إنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ - الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَعَ وُجُوبِ اسْتِيعَابِهِمْ بِاتِّفَاقٍ , أَمَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا مَحْصُورِينَ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ . وَلَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ , وَلَوْ عَدِمَ رَحِمَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ , وَلَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ أَخَذَ نِصْفَهَا . وَالْغَنِيُّ كَالْفَقِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنْ كَانَ فِيهِمْ مُحْتَاجٌ , أَوْ أَحْوَجُ وَجَبَ إيثَارُهُ , أَيْ زِيَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمُحْتَاجُ أَقْرَبَ أَمْ أَبْعَدَ . 18 - وَإِذَا وُجِدَتْ قَرَابَةُ الْأُمِّ مَعَ قَرَابَةِ الْأَبِ فَالْفُقَهَاءُ فِي الِاسْتِوَاءِ وَعَدَمِهِ عَلَى رَأْيَيْنِ : الْأَوَّلِ : اسْتِوَاؤُهُمَا مَعَ قَرَابَةِ الْأَبِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ , وَأَشْهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ غَيْرِ الْعَرَبِ , وَالْمُعْتَمَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ يَفْتَخِرُونَ بِالْأُمِّ , فَقَدْ صَحَّ { أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : سَعْدٌ خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ } . وَاسْتِوَاءُ قَرَابَةِ الْأُمِّ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا , إنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ . الثَّانِي : الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ قَرَابَةِ الْأُمِّ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إنْ وُجِدَتْ قَرَابَةٌ لِلْمُوصِي مِنْ جِهَةِ الْأَبِ غَيْرُ وَارِثَةٍ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِوَصِيَّةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَفْتَخِرُونَ بِالْأُمِّ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ . وَلَا يَدْخُلُ الْوَارِثُ بِالْفِعْلِ إنْ أَوْصَى لِأَرْحَامِ نَفْسِهِ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ , وَقِيلَ يَدْخُلُ ; لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبْطُلُ نَصِيبُهُ لِتَعَذُّرِ إجَازَتِهِ لِنَفْسِهِ , وَيُصْبِحُ الْبَاقِي لِغَيْرِهِ , وَقِيلَ يَدْخُلُ وَيُعْطَى نَصِيبُهُ , فَإِنْ مَنَعَ فَلَا يَدْخُلُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَيَدْخُلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ السَّابِقِ .(30/74)
الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ الْأَرْحَامِ : 19 - الْقَرَابَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ , وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَقَارِبُهُ إلَّا أَرْبَعَةً . بَنَاتَ كُلٍّ مِنْ أَعْمَامِهِ , وَأَخْوَالِهِ , وَعَمَّاتِهِ , وَخَالَاتِهِ . وَبَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ تَفْصِيلًا , وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي ( نِكَاحٌ ) الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ النِّكَاحِ .
نَفَقَةُ الْأَرْحَامِ : 20 - تَجِبُ نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ , وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ بِاتِّفَاقٍ , وَكَذَلِكَ تَجِبُ لِلْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَحْفَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَقَصَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَبٍ حَقِيقِيٍّ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْوَلَدِ . أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَرْحَامِ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ , فَلَا تَجِبُ لَهُمْ نَفَقَةٌ وَلَا تَلْزَمُهُمْ إلَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَوْجَبُوهَا لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ دُونَ غَيْرِهِ , وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ فَأَوْجَبُوهَا لِكُلِّ وَارِثٍ , وَفِي غَيْرِ الْوَارِثِ رِوَايَتَانِ , هَذَا إنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ , فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَلَا تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ , وَلَا تَلْزَمُهُ إلَّا عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ وَأَصْحَابِ الْفُرُوضِ . وَأَدِلَّةُ نَفَقَةِ الْأَرْحَامِ وَشُرُوطُهَا وَمِقْدَارُهَا وَسُقُوطُهَا وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا تَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ ( نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ ) .
النَّظَرُ وَاللَّمْسُ وَالْخَلْوَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحَارِمِ : 21 - الرَّحِمُ غَيْرُ الْمَحْرَمِ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالْخَلْوَةِ ( ر : أَجْنَبِيٌّ ) . أَمَّا الْمَحَارِمُ مِنْ الْأَرْحَامِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي نَظَرِ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ - مَا لَمْ يَكُنْ بِشَهْوَةٍ - ثَلَاثَةُ آرَاءٍ : أ - جَوَازُ النَّظَرِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ , عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ , وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . ب - جَوَازُ النَّظَرِ إلَى الذِّرَاعَيْنِ وَالشَّعْرِ وَمَا فَوْقَ النَّحْرِ , وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ ج - جَوَازُ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَالْيَدِ وَالْقَدَمِ وَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ , وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ , وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ النَّظَرُ إلَى السَّاقِ وَالصَّدْرِ لِلتَّوَقِّي لَا لِلتَّحْرِيمِ . د - جَوَازُ النَّظَرِ إلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَالْعَضُدِ وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُلِ فَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ . وَلِكُلٍّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ , هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا , أَنَّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ إلَّا مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَى مَا دُونَ ذَلِكَ . وَكُلُّ مَا حَرُمَ نَظَرُهُ حَرُمَ مَسُّهُ , لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي اللَّذَّةِ . وَتَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ بِاتِّفَاقٍ . وَتَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا .
وِلَايَةُ الْأَرْحَامِ لِلنِّكَاحِ : 22 - الْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْحَامَ - غَيْرَ الْعَصَبَةِ - لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَلُونَ عَقْدَ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَةِ . وَبَيَانُهُمْ وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْوِلَايَةِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ نِكَاحِ ( وِلَايَتُهُ ) .
الرَّحِمِيَّةُ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ : 23 - أَحْيَانًا تَكُونُ الرَّحِمِيَّةُ سَبَبًا فِي تَشْدِيدِ الْعُقُوبَةِ , كَمَا فِي قَتْلِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ , وَأَحْيَانًا تَكُونُ سَبَبًا فِي رَفْعِهَا , كَمَا لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ أَوْ قَذَفَهُ , وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ اُنْظُرْ : ( قِصَاصٌ , زِنًا , قَذْفٌ , سَرِقَةٌ ) .(30/75)
شَهَادَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْقَضَاءُ لَهُمْ : 24 - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ , وَلَا فَرْعٍ لِأَصْلِهِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمِيلُ بِطَبْعِهِ لِلْآخَرِ , وَلِحَدِيثِ : { فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي , يَرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا } . أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَرْحَامِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ , غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِقَبُولِ شَهَادَةِ الْأَخِ أَنْ يَكُونَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ , وَأَلَّا يَكُونَ فِي عِيَالِ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ , وَأَلَّا تَكُونَ الشَّهَادَةُ فِي جُرْحٍ فِيهِ قِصَاصٌ . وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ , نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ , وَالْمَالِكِيَّةُ , وَالشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَيَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِبَاقِي أَقَارِبِهِ , إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا : لَا يَقْضِي لِلْعَمِّ , إلَّا إنْ كَانَ مُبْرِزًا فِي الْعَدَالَةِ . وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ , قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَقِيلَ : يَجُوزُ بَيْنَ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ .
عِتْقُ الْأَرْحَامِ 25 - الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَيْنِ - وَإِنْ عَلَوْا - يُعْتَقُونَ عَلَى الْمَوْلُودِينَ بِالتَّمَلُّكِ , وَأَنَّ الْمَوْلُودِينَ - وَإِنْ نَزَلُوا - يُعْتَقُونَ عَلَى الْوَالِدَيْنِ , وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى , وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَرَابَةِ , فَاسْتَوَى فِيهِ الْجَمِيعُ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ إعْتَاقِ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ } الْآيَةَ , وَلَا يَتَأَتَّى خَفْضُ الْجَنَاحِ مَعَ الِاسْتِرْقَاقِ , وَعَلَى عِتْقِ الْمَوْلُودِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } الْآيَةَ . وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : { وَقَالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } الْآيَةَ , دَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى نَفْيِ اجْتِمَاعِ الْوَلَدِيَّةِ وَالْعَبْدِيَّةِ . أَمَّا بَقِيَّةُ الْأَرْحَامِ غَيْرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي عِتْقِهِمْ عِنْدَ تَمَلُّكِهِمْ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ . الْأَوَّلُ : عِتْقُ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , فَمَنْ مَلَكَ قَرِيبًا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ . وَصِفَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا حَرُمَ نِكَاحُهُ . وَالْمَحْرَمُ بِلَا رَحِمٍ كَأَنْ يَمْلِكَ زَوْجَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ , وَكَذَا الرَّحِمُ بِلَا مَحْرَمٍ , كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ . الثَّانِي : الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ , وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَوْلَادِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ , فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْمِلْكِ , وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ . الثَّالِثُ : الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ .
إرْدَافٌ
( إرْدَافٌ التَّعْرِيفُ ) : 1 - الْإِرْدَافُ : مَصْدَرُ أَرْدَفَ , وَأَرْدَفَهُ : أَرْكَبَهُ خَلْفَهُ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى . الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ : 2 - يَجُوزُ إرْدَافُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ , وَالْمَرْأَةُ لِلْمَرْأَةِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى فَسَادٍ أَوْ إثَارَةِ شَهْوَةٍ ; لِإِرْدَافِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ . وَيَجُوزُ إرْدَافُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ , وَالْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا , لِإِرْدَافِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِزَوْجَتِهِ صَفِيَّةَ رضي الله عنها . وَإِرْدَافُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ ذَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ جَائِزٌ مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ . وَأَمَّا إرْدَافُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ , وَالرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ , سَدًّا لِلذَّرَائِعِ , وَاتِّقَاءً لِلشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ .
الضَّمَانُ بِالْإِرْدَافِ . 3 - إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا , وَأَرْدَفَ خَلْفَهُ آخَرَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا , فَهَلَكَتْ الدَّابَّةُ بِسَبَبِ الْإِرْدَافِ , ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ , وَيَضْمَنُ الْكُلَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
إرْسَالٌ(30/76)
( إرْسَالٌ التَّعْرِيفُ ) : 1 - الْإِرْسَالُ لُغَةً : مَصْدَرُ ( أَرْسَلَ ) يُقَالُ : أَرْسَلَ الشَّيْءَ : أَطْلَقَهُ وَأَهْمَلَهُ , وَيُقَالُ : أَرْسَلَ الْكَلَامَ أَيْ أَطْلَقَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ , وَأَرْسَلَ الرَّسُولَ : بَعَثَهُ بِرِسَالَةٍ , وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا : سَلَّطَهُ عَلَيْهِ , وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } . وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ الْإِرْسَالِ بِإِطْلَاقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي : الْإِرْخَاءُ , كَإِرْسَالِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ , وَإِرْسَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ , وَإِرْسَالِ الشَّعْرِ بِعَدَمِ رَبْطِهِ . وَالتَّوْجِيهُ , كَإِرْسَالِ شَخْصٍ إلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَالتَّخْلِيَةُ , وَذَلِكَ كَإِرْسَالِ الْمُحْرِمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَيْدٍ . وَالْإِهْمَالُ , كَإِرْسَالِ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْحَيَوَانِ . وَالتَّسْلِيطُ , كَإِرْسَالِ الْحَيَوَانِ أَوْ السَّهْمِ عَلَى الصَّيْدِ . وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْإِضَافَةِ وَعَدَمِ الْإِطْلَاقِ , وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِيمَا إذَا جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ فَإِلَيْهَا الْقَبُولُ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا أَمْ مُطْلَقًا , أَمْ مُضَافًا إلَى الْمَرْأَةِ أَوْ الْأَجْنَبِيِّ إضَافَةَ مِلْكٍ أَوْ ضَمَانٍ . وَمَتَى جَرَى الْخُلْعُ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجِ , فَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مُرْسَلًا ( أَيْ مُعَيَّنًا بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ ) فَالْقَبُولُ إلَيْهَا كَقَوْلِهَا : اخْلَعْنِي عَلَى هَذِهِ الدَّارِ , فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَى تَسْلِيمِهَا سَلَّمَتْهَا , وَإِلَّا فَالْمِثْلُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ , وَالْقِيمَةُ فِي الْقِيَمِيِّ , وَتَتِمَّةُ هَذَا فِي الْخُلْعِ . وَالْمُطْلَقُ كَقَوْلِهَا : خَالَعَنِي عَلَى ثَوْبٍ . وَالْمُضَافُ كَقَوْلِهَا : خَالَعَنِي عَلَى دَارِي . وَيَسْتَعْمِلُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الْإِرْسَالَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ ; لِأَنَّهَا كُلُّ مَصْلَحَةٍ أَطْلَقَهَا الشَّارِعُ فَلَمْ يَعْتَبِرْهَا وَلَمْ يُلْغِهَا .
وَالْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ لَهُ إطْلَاقٌ خَاصٌّ سَيَأْتِي فِيمَا يَلِي : الْإِرْسَالُ فِي الْحَدِيثِ : 2 - يُطْلَقُ لَفْظُ الْإِرْسَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَرْكِ التَّابِعِيِّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ رَفَعَ التَّابِعِيُّ الْحَدِيثَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا , بِأَنْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا , أَوْ فَعَلَ كَذَا , أَوْ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ كَذَا , أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِرَفْعِ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ , وَهُوَ الَّذِي رَأَى جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَجَالَسَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَأَمْثَالِهِمَا . أَمَّا إذَا انْقَطَعَ الْإِسْنَادُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى التَّابِعِيِّ , بِأَنْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ الْمَذْكُورِينَ فَوْقَهُ , فَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ , بَلْ يُسَمَّى مُنْقَطِعًا , إنْ كَانَ السَّاقِطُ وَاحِدًا فَحَسْبُ , وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ سُمِّيَ مُعْضَلًا , وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكُلُّ ذَلِكَ يُسَمَّى مُرْسَلًا . وَذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ الْخَطِيبُ وَقَطَعَ بِهِ . وَجَاءَ فِي مُسْلِم الثُّبُوت : الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : مَا رَوَاهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ إسْنَادٍ مُتَّصِلٍ لِيَشْمَلَ الْمُنْقَطِعَ . وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَالْمُرْسَلُ قَوْلُ التَّابِعِيِّ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَذَا , وَالْمُعْضَلُ مَا سَقَطَ مِنْ إسْنَادِهِ اثْنَانِ مِنْ الرُّوَاةِ , وَالْمُنْقَطِعُ مَا سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهَا , وَالْمُعَلَّقُ مَا رَوَاهُ مَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ , وَالْكُلُّ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ , وَلَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيرِ الِاصْطِلَاحِ وَالْأَسَامِي فَائِدَةٌ .(30/77)
أَقْسَامُ وَحُكْمُ الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ : 3 - يَنْقَسِمُ الْمُرْسَلُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ هِيَ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ : حُكْمُهُ أَنَّهُ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ , وَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَيْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ , وَقَدْ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ , إذْ أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَأَشْهَرِ رِوَايَتَيْ الْحَنَابِلَةِ , إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا . أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلَا يَعْتَبِرُهُ حُجَّةً إلَّا إذَا تَأَيَّدَ بِآيَةٍ , أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ , أَوْ مُوَافَقَةِ قِيَاسٍ صَحِيحٍ , أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ , أَوْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ , أَوْ اشْتَرَكَ فِي إرْسَالِهِ عَدْلَانِ , بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْخَاهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ , أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ , بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ , أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مُرَّةً أُخْرَى . وَلِثُبُوتِ الِاتِّصَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ; لِأَنَّهَا بِالتَّتَبُّعِ وُجِدَتْ مُسْنَدَةً ( أَيْ مُتَّصِلَةً مَرْفُوعَةً إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ) وَأَكْثَرُهَا مِمَّا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْمُرْسَلِ أَوْ عَدَمِهِ . وَأَمَّا رَأْيُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَيَتَّضِحُ بِمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ شَرْحِ رَوْضَةِ النَّاظِرِ , وَمُفَادُهُ أَنَّ لِلْإِمَامِ رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ حُجَّةٌ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ : وَيُعْتَبَرُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَرَاسِيلِ حُجَّةً عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ ; لِأَنَّ إرْسَالَ الْعَدْلِ يُقْبَلُ فِي كُلِّ عَصْرٍ , إذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَ مَرَاسِيلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ , تَشْمَلُ سَائِرَ الْقُرُونِ . الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّ الْمُرْسِلَ سَاكِتٌ عَنْ حَالِ الرَّاوِي , وَالْمُسْنِدُ نَاطِقٌ , وَالسَّاكِتُ لَا يُعَارِضُ النَّاطِقَ , مِثْلَ حَدِيثِ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } رَوَاهُ إسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ مُسْنَدًا , وَرَوَاهُ شُعْبَةُ مُرْسَلًا . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُقْبَلُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَرَاسِيلِ ; لِأَنَّ سُكُوتَ الرَّاوِي عَنْ ذِكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَرْحِ فِيهِ , وَإِسْنَادُ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيلِ , وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ يُعْمَلُ بِالْجَرْحِ .(30/78)