وَغير الصَّالح لَو لَيْسَ مَا عَسى أَن يلبس لَا بُد أَن يرشح من نَتن فعله أَو قَوْله مَا يميزه عَن الصَّالح وَمن ثمَّ نَاظر صوفي برهميا والبراهمة قوم تظهر لَهُم خوارق لمزيد الرياضات فطار البرهمي فِي الجو فارتفعت إِلَيْهِ نعل الشَّيْخ وَلم تزل تضرب رَأسه وتصفعه حَتَّى وَقع على الأَرْض منكوسا على رَأسه بَين يَدي الشَّيْخ وَالنَّاس ينظرُونَ أَقُول وَوَقع نَظِير هَذَا لشَيْخِنَا الْعَارِف ابْن أبي الحمائل لما كَانَ بِفَارِس كور بلد قريب من دمياط فَدَخلَهَا متوسم بوسم الصُّوفِيَّة فأظهر لَهُم من الخوارق مَا أوجب لغالب أهل الْبَلَد أَنهم تبعوه فَظهر مِنْهُ انحلال كثير عَن طَرِيق الاسْتقَامَة حَتَّى أغوى كثيرين وَكَانَ لَهُ مجْلِس ذكر بالجامع الَّذِي فِيهِ شَيخنَا وَله بِهِ أَيْضا مجْلِس ذكر فَفِي لَيْلَة فرغ شَيخنَا من مَجْلِسه وَأُولَئِكَ لم يفرغوا فأنصت سَاعَة ثمَّ قَالَ لتاسومته الَّتِي يلبسهَا فِي الْجَامِع يَا هَذِه التاسومة اذهبي إِلَى هَذَا الشَّيْخ فَإِن كَانَ كَاذِبًا فاصفعيه إِلَى أَن يخرج من هَذَا الْجَامِع فَلم يلبث جمَاعَة شَيخنَا السامعون لكَلَامه إِلَّا وهم يسمعُونَ صَوت الصفع فِي رَقَبَة ذَلِك الشَّيْخ ففر وفرت جماعته حَتَّى خَرجُوا من الْجَامِع ثمَّ من الْبَلَد وَلم نعلم أَيْن ذهب وَوَقع للْإِمَام الْعَارِف البهائي السندي صَاحب الإِمَام السهروردي أَن برهميا جَاءَ مَجْلِسه وارتفع فِي الْهَوَاء فارتفع الشَّيْخ حِينَئِذٍ فِي الْهَوَاء وَدَار فِي جَانب الْمجْلس فَأسلم البرهمي لعَجزه عَن ذَلِك فَإِنَّهُم لَا يقدرُونَ على الدوران فِي الْهَوَاء وَإِنَّمَا يرْتَفع الْوَاحِد فِي الْهَوَاء مستويا لَا غير وناظر عبد الله بن حنيف برهميا على حَقِيقَة الْإِسْلَام ليطوى مَعَ البرهمي أَرْبَعِينَ يَوْمًا فشرعا فعجز البرهمي عَن إِكْمَال الْمدَّة وأكملها ابْن حنيف على غَايَة من اللَّذَّة وَالْقُوَّة وَوَقع لَهُ مَعَ برهمي أَيْضا أَنه ناظره على الْمكْث تَحت المَاء مُدَّة فَمَاتَ البرهمي أثناءها وَظَهَرت جيفته وَبَقِي ابْن حنيف حَتَّى أكملها ثمَّ ظهر وَمِمَّا يفترقان فِيهِ أَيْضا أَن دلَالَة المعجزة على النُّبُوَّة قَطْعِيَّة وَأَن النَّبِي يعلم أَنه نَبِي وَدلَالَة الْكَرَامَة على الْولَايَة ظنية وَلَا يعلم مظهرها أَو من ظَهرت عَلَيْهِ أَنه ولي وَقد يعلم ذَلِك وفَاقا للأستاذين الكبيرين الْإِمَامَيْنِ أبي عَليّ الدقاق وَأبي الْقَاسِم الْقشيرِي ورادا على من نَازع فِي ذَلِك بِأَنَّهُ يُنَافِي الْخَوْف فَقَالَا وَمَا يجدونه فِي قُلُوبهم من الهيبة والإجلال للحق سُبْحَانَهُ يزِيد على كثير من الْخَوْف انْتهى على أَن التَّحْقِيق أَن علم الْولَايَة لَا يُنَافِي الْخَوْف أَلا ترى أَن الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ عالمون بِأَنَّهُم من أَهلهَا وَمَعَ ذَلِك كَانَ عِنْدهم من الْخَوْف مَا لَا يحد كَمَا يعلم من سيرهم فِي ذَلِك رضوَان الله عَلَيْهِم وَإِنَّمَا كَانَت الْكَرَامَة بِعُذْر من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَكثر قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ لِأَن أُولَئِكَ كَانَ إِيمَانهم قَوِيا فَلم يحتاجوا إِلَى زِيَادَة مقو بِخِلَاف من بعدهمْ فَوق وَبِزِيَادَة الكرامات وَقَالَ الشهَاب السهروردي وَهُوَ كالشرح لما قبله لأَنهم ببركة رُؤْيَته - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدته مَعَ نزُول الْوَحْي تنورت بواطنهم وتزكت نُفُوسهم وانصقلت مرْآة قُلُوبهم فاستغنوا بِمَا أعْطوا عَن رُؤْيَة الْكَرَامَة واستماع أنوار الْقُدْرَة ووطأ لهَذَا بقوله قبله وخرق الْعَادة قد يكاشف بِهِ لضعف يَقِين المكاشف رَحْمَة ناجزة وثوابا معجلا لبَعض الْعباد وَفَوق هَؤُلَاءِ قوم ارْتَفَعت الْحجب عَن قُلُوبهم وباشرت بواطنهم روح الْيَقِين وَصرف الْمعرفَة فَلَا حَاجَة لَهُم إِلَى رُؤْيَة خارق وَأجَاب اليافعي بِأَن الْكَرَامَة نور وزين والنور إِنَّمَا يظْهر حسن بهائه فِي الظلمَة والزين إِنَّمَا يظْهر كَمَال حسنه بِحَسب الشين والظلمة والشين إِنَّمَا وجدا بعد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَلا ترى أَن الشَّمْس إِذا غربت لَا تظهر الظلمَة وَلَا الْكَوَاكِب عقب غُرُوبهَا إِلَّا بعد مزِيد بعْدهَا عَن الْأُفق وَبِأَن الصَّحَابَة كَانُوا أهل حق وَسنة وَعدل وَمن بعدهمْ بضدهم فَبعث الله فِي سَائِر الْبلدَانِ رجَالًا قلدهم سيوفا مَاضِيَة قطعُوا بهَا مواد الْفساد والبدع والمخالفات حَتَّى خافهم النَّاس وأذعنوا لَهُم أَي فَمن ثمَّ كثرت فيهم تِلْكَ السيوف المكنى بهَا فَلَا زَالَت دائمة مستمرة معْجزَة لَهُ - صلى الله عليه وسلم - انْتهى ملخص جوابيه وَالثَّانِي مِنْهُمَا يؤل حَاصله إِلَى الجوابين الْأَوَّلين وَالثَّانِي لَا يصلح جَوَابا لِكَثْرَة المسؤل عَنْهَا بل لظُهُور عَظِيم موقع الْكَرَامَة فِي النُّفُوس بعد زمن الصَّحَابَة أَكثر مِنْهُ فِي زمنهم وَهَذَا مَبْحَث آخر على أَنه قد يتَوَهَّم من تمثيله بالشمس وَالْكَوَاكِب أَن الْأَزْمِنَة الْمُتَأَخِّرَة فِيهَا من نُجُوم العارفين وكواكب المهتدين مَا لَيْسَ فِي الْأَزْمِنَة الأول وَهَذَا وَإِن وجد مِنْهُ أَفْرَاد إِلَّا أَنه بِالنِّسْبَةِ لغير الصَّحَابَة إِذْ الصَّوَاب أَن من بعدهمْ وَإِن كمل مَا كمل لَا يصل إِلَى غايتهم كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - لَو أنْفق أحدكُم مثل جبل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم أَي الصَّحَابَة وَلَا نصيفه وَأما قَول ابْن عبد الْبر(1/217)
قد يُوجد فِي الْخلق من هُوَ أفضل من الصَّحَابَة لحَدِيث أمتِي كالمطر لَا يدرى أَوله خير أم آخِره وَأَحَادِيث أخر قريبَة مِنْهُ فَهُوَ مقَالَة شَاذَّة جدا وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث دلَالَة لِأَن بعض الْمُتَأَخِّرين قد يُوجد لَهُ مزايا لَا تُوجد فِي بعض الصَّحَابَة وَمن الْمُقَرّر أَن الْمَفْضُول قد يتَمَيَّز بمزايا وَيُؤَيّد ذَلِك أَن ابْن الْمُبَارك وناهيك بِهِ إِمَامَة وعلما وَمَعْرِفَة سُئِلَ أَيّمَا فضل مُعَاوِيَة أَو عمر بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ وَالله للغبار الَّذِي دخل أنف فرس مُعَاوِيَة مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من مائَة وَاحِد مثل ابْن عبد الْعَزِيز يُرِيد بذلك أَن شرف الصُّحْبَة والرؤية لرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلول نظره الْكَرِيم لَا يعادله عمل وَلَا يوازيه شرف (تتمات) مِنْهَا نقل اليافعي رَحمَه الله تَعَالَى أَن كرامات الْأَوْلِيَاء من تَتِمَّة معجزات النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهَا تشهد للْوَلِيّ بِالصّدقِ المستلزم لكَمَال دينه المستلزم لحقيته المستلزم لصدق نبيه فِيمَا أخبر بِهِ من الرسَالَة وَكَانَت الْكَرَامَة من جملَة المعجزة بِهَذَا الِاعْتِبَار وَمِنْهَا لَا تتعجب من إِنْكَار قوم للمعجزات وَإِن بلغت من الْكَثْرَة والظهور إِلَى أَن صَار الْعلم بهَا ضَرُورِيًّا بل بديهيا فقد أنكر قوم الْقُرْآن الَّذِي هُوَ أعظم المعجزات وأبهر الْآيَات وَوصل العناد بهؤلاء إِلَى أَن قَالَ الله فِي حَقهم {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتاب فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} وَلَيْسَ الْعجب من إِنْكَار الْمُعْتَزلَة الكرامات فَإِنَّهُم قد خَاضُوا فِيمَا هُوَ أقبح من ذَلِك وأنكروا النُّصُوص المتواترة الْمَعْنى عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كسؤال الْملكَيْنِ وَعَذَاب الْقَبْر والحوض وَالْمِيزَان وَغير ذَلِك من عَظِيم كذبهمْ وافترائهم لتقليدهم لعقولهم الْفَاسِدَة وتحكيمهم لَهَا على الله وآياته وأسمائه وَصِفَاته وأفعاله فَمَا رَأَوْهُ من ذَلِك مُوَافقا لتِلْك الْعُقُول السقيمة الْفَاسِدَة اللئيمة قبلوه وَمَا لَا ردُّوهُ وَلم يبالوا بتكذيب السّنة وَالْقُرْآن وَالْإِجْمَاع لِأَن كلمة الْغَضَب حقت عَلَيْهِم وقبائح المذام تسابقت إِلَيْهِم وَإِنَّمَا الْعجب من قوم تسموا بِأَهْل السّنة وَزَعَمُوا أَنهم من حَملَة تِلْكَ الْمِنَّة وَمَعَ ذَلِك يبالغون فِي الْإِنْكَار لِأَن كلمة الحرمان حقت عَلَيْهِم إِلَى أَن ألحقتهم بِأَهْل الْبَوَار وأوجبت لَهُم نوعا من الوبال والخسار وَهَؤُلَاء أَقسَام فَمنهمْ من يُنكر على مَشَايِخ الصُّوفِيَّة ومتابعيهم وَمِنْهُم من يعتقدهم إِجْمَالا وَإِن لَهُم كرامات وَمَتى عين لَهُ أحد مِنْهُم أَو رأى كَرَامَة أنكر ذَلِك لما خيله لَهُ الشَّيْطَان أَنهم انْقَطَعُوا وَأَنه لم يبْق إِلَّا متلبس مغرورا احتوى عَلَيْهِ الشَّيْطَان وَلبس عَلَيْهِ وَهَؤُلَاء من العناد والحرمان بمَكَان أَيْضا وَقد قرر ابْن الْجَوْزِيّ من الْوُقُوع فِي خطرهم إِلَّا أَن تكون لَهُ نِيَّة صَالِحَة كقصده قمع مبتدعة فِي زَمَانه وَذَلِكَ أَنه صنف كتابا سَمَّاهُ تلبيس إِبْلِيس تكلم فِيهِ على شُيُوخ الصُّوفِيَّة وطريقهم وَزعم أَن إِبْلِيس لبس عَلَيْهِم قَالَ اليافعي وَلم يدر أَنه هُوَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ فِي كَلَامه هَذَا واعتقاده فيهم وَهُوَ لَا يشْعر وَالْعجب كل الْعجب مِنْهُ فِي إِنْكَاره سَادَات مَا بَين أوتاد وإبدال وصديقين وعارفين بِاللَّه قد ملؤا الْوُجُود كرامات وأنوارا ومعارف أَعرضُوا فِي بدايتهم عَمَّا سوى الله فَحصل لَهُم فِي نهايتهم من فضل الله مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله فَقَوْل الصَّغِير مِنْهُم وقفت على بَاب قلبِي عشْرين سنة مَا جاذبه شَيْء لغير الله إِلَّا رَددته هَذَا وَهُوَ يطول كَلَامه بحكاياتهم وَينْفق بضاعته بمحاسن صفاتهم فَهَلا أخلى كتبه من ذكرهم إخلاء عَاما وَلَا يكون مِمَّن يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما أما علم أَن عُلَمَاء أَعْلَام الْأَئِمَّة من الْمُجْتَهدين وَمن بعدهمْ من الْأَئِمَّة لم يزَالُوا قَدِيما وحديثا يَعْتَقِدُونَ الصُّوفِيَّة ويتبركون بهم ويستمدون مِنْهُم وَلَقَد وَقع للتقي ابْن دَقِيق الْعِيد أَنه قَالَ فِي حق فَقير كَانَ يَعْتَقِدهُ ويخضع لَهُ هُوَ عِنْدِي خير من مائَة فَقِيه أَو من ألف فَقِيه وَكَذَلِكَ النَّوَوِيّ رَضِي الله عَنهُ كَانَ يعْتَقد الشَّيْخ يس المزين وَيقبل إِشَارَته حَتَّى أَنه أمره بِالسَّفرِ ورد مَا عِنْده من الْكتب المستعارة قبل مَوته بِقَلِيل فَفعل وسافر من دمشق رَاجعا الْبَلدة نوى فتوفى بهَا بَين أَهله وَكَذَلِكَ الْعِزّ بن عبد السَّلَام كَانَ يُبَالغ فِي تَعْظِيم الصُّوفِيَّة وَفِي حَيَاة الْخضر مَا يرد على ابْن الْجَوْزِيّ فِي إِنْكَار حَيَاته على أَنه نَاقض نَفسه فَإِنَّهُ روى بِإِسْنَادِهِ الْمُتَّصِل أَربع رِوَايَات تدل على حَيَاته مِنْهَا عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه رَآهُ مُتَعَلقا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة وَمِنْهَا عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ وَلَا أعلمهُ إِلَّا مَرْفُوعا عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يلتقي الْخضر وإلياس فِي كل عَام فِي الْمَوْسِم فيحلق كل وَاحِد مِنْهُمَا رَأس صَاحبه وَمِنْهَا عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه يجْتَمع مَعَ إسْرَافيل وَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل بِعَرَفَات والحجيج بهَا وَلَقَد وَقع لمن أنكر على(1/218)
فَقير فِي سَماع وبقربهم نسَاء أَنه رأى ذكره فرج امْرَأَة فبهت سَاعَة طَوِيلَة فَقَامَ الشَّيْخ وجاءه وَقَالَ لَهُ هَكَذَا تكون الْفُقَرَاء إِذا جلس عِنْدهم النِّسَاء فَتَابَ فَدَعَا لَهُ الشَّيْخ فَعَاد لحاله الأول قلت وَمثل هَذَا السماع لَا يُبَاح إِلَّا لمثل هَذَا الشَّيْخ وَأَتْبَاعه المحفوظين بِهِ مَعَ أَن السماع الْخَالِي عَن الْمُحرمَات الظَّاهِرَة فِيهِ اخْتِلَاف وتفصيل وَجَاء غلْمَان السُّلْطَان لأخذ خراج أَرض لبَعض الْفُقَرَاء فَخرج عَلَيْهِم مِنْهَا ثعابين فَهَرَبُوا وَلم يزَالُوا هاربين حَتَّى انقرض الشَّيْخ وَأَوْلَاده فعادوا للأخذ من أَوْلَاد الْأَوْلَاد فَخرجت إِلَيْهِم الثعابين وتبعتهم كَذَلِك وَأَنا مِمَّن رأى تِلْكَ الأَرْض حِين خرج مِنْهَا الثعابين وسرق لبَعض ذُرِّيَّة هَذَا الشَّيْخ بقرة فَلَمَّا أَرَادَ السراق حلبها الْتفت الثعابين بأرجلهم فَمَا خلصوا إِلَّا بالمبادرة بردهَا انْتهى كَلَام اليافعي قدس سره مُلَخصا وَلَقَد قَالَ الْأُسْتَاذ الْعَارِف أَبُو الْحسن الشاذلي رَحمَه الله فِي قوم يكذبُون بكرامات أَوْلِيَاء زمانهم فَقَط وَالله مَا هِيَ إِلَّا إسرائيلية صدقُوا مُوسَى وكذبوا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - لأَنهم أدركوا زَمَنه وَمِنْهَا أَي من جملَة الكرامات الخوارق الَّتِي وَقعت للأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قبل النُّبُوَّة كإظلال الْغَمَام وشق الصَّدْر الواقعين لنبينا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فَلَيْسَتْ معجزات لتقدمها على التحدي بل كرامات وَتسَمى إرهاصا أَي تأسيسا للنبوة ذكر ذَلِك جُمْهُور أَئِمَّة الْأُصُول وَغَيرهم وَمِنْهَا التحدي أَي طلب الْمُعَارضَة والمقابلة قَالَ الْجَوْهَرِي يُقَال تحديت فلَانا إِذا باريته فِي فعل ونازعته للغلبة وَفِي الأساس حدا يَحْدُو وَهُوَ حادي الْإِبِل واحتدى بهَا حدوا إِذا غنى وَمن الْمجَاز تحدى أقرانه إِذا باراهم ونازعهم للغلبة وَأَصله الحدو يتبارى فِيهِ الحاديان ويتعارضان فيتحدى كل وَاحِد صَاحبه أَي يطْلب حداه كَمَا يُقَال توفاه بِمَعْنى اسْتَوْفَاهُ وأصل ذَلِك أَنه كَانَ عِنْد الحدو يقوم حاد عَن يَمِين القطار وحاد عَن يسَاره يتحدى كل مِنْهُمَا صَاحبه بِمَعْنى يستحد بِهِ أَي يطْلب مِنْهُ حداه ثمَّ اتَّسع فِيهِ حَتَّى اسْتعْمل فِي كل مباراة وَمِنْهَا اخْتلفُوا فِي السحر هَل تنْقَلب بِهِ الْأَعْيَان والطبائع فَقَالَ قوم نعم كجعل الْإِنْسَان حمارا وَقَالَ قوم لَا فالساحر والصالح لَا يقلبان عينا مُطلقًا قَالُوا وَإِلَّا لاشتبهت المعجزة بالكرامة والكرامة بِالسحرِ وَيَردهُ مَا مر من امتياز المعجزة باقترانها بالتحدي وَأما زعمهم أَن أَكثر آيَاته - صلى الله عليه وسلم - وأعمها وأغلبها كَانَ بِلَا تحدي كنطق الْحَصَى والجذع ونبع المَاء وَلَعَلَّه لم يتحد بِغَيْر الْقُرْآن وَتمنى الْمَوْت وَأَن عدم تَسْمِيَة مَا عدا هَاتين آيَة وَلَا معْجزَة أقرب إِلَى الْكفْر مِنْهُ إِلَى الْبِدْعَة وَقد كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول عِنْد بَعْضهَا أشهد أَنِّي رَسُول الله وَقد سمى الله معجزات الْأَنْبِيَاء آيَات وَلم يشرط تحديا انْتهى فَيرد بِأَن المُرَاد بقَوْلهمْ فِي المعجزة لَا بُد من اقترانه بالتحدي الاقتران بِالْقُوَّةِ أَو الْفِعْل وَلَا شكّ أَن كل مَا وَقع مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بعد النُّبُوَّة مقرون بالتحدي لِأَن قَرَائِن أَقْوَاله وأحواله ناطقة بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّة وتحديه للمخالفين وإظهاره مَا يقمعهم ويحديهم فَكَانَ كل مَا ظهر مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - يُسمى آيَات ومعجزات وَقَوله - صلى الله عليه وسلم - عِنْد ظُهُور بَعْضهَا أشهد أَنِّي رَسُول الله شَاهد صدق على مَا ذكرته فَتَأَمّله وَمِنْهَا التَّمْيِيز بَين الْكَرَامَة والمعجزة بِمَا مر أَن لفظ المعجزة خَاص بخوارق الْأَنْبِيَاء وَلَفظ الْكَرَامَة خَاص بخوارق الْأَوْلِيَاء وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاح الْخلف وَأما السّلف فَكَانُوا يسمون كلا من الْأَمريْنِ معْجزَة كَالْإِمَامِ أَحْمد وَغَيره ويخصون خوارق الْأَنْبِيَاء باسم الْآيَة والبرهان وَقد يسمون الْكَرَامَة آيَة لدلالتها على نبوة من اتبعهُ ذَلِك الْوَلِيّ كَمَا مر بَيَانه وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ وبعلومه هَل أَصْحَاب الكرامات من الْأَوْلِيَاء أفضل مِمَّن لَا تظهر على يَده كَرَامَة ظَاهِرَة (فَأجَاب) بقوله لَيْسَ ذُو الكرامات أفضل من غَيرهم على الْإِطْلَاق بل قد تنبئ الْكَرَامَة عَن ضعف يَقِين أَو همة فتعجل لمن أُرِيد بِهِ عناية حَتَّى يَزُول عَنهُ كل من ذَيْنك أَو أَحدهمَا بل قد تقع الْكَرَامَة لمحب أَو زاهد وَلَا تقع لعارف مَعَ أَن الْمعرفَة أفضل من الْمحبَّة عِنْد الْأَكْثَرين وَأفضل من الزّهْد عِنْد الْكل لِأَن الزّهْد من أَوَائِل المقامات والمحبة أول الْأَحْوَال الناشئة عَن مُجَاوزَة المقامات وَيُؤَيّد ذَلِك قَول أبي يزِيد رَضِي الله عَنهُ الْعَارِف طيار والزاهد سيار وَقَالَ غَيره وأنى يلْحق السيار الطيار وَقَالَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ الزهاد مُلُوك الْآخِرَة وهم فُقَرَاء العارفين فَعلم أَنه لَا دخل للكرامة فِي الْأَفْضَلِيَّة وَإِنَّمَا منشأ الْأَفْضَلِيَّة قُوَّة الْيَقِين وَكَمَال الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى فَكل من كَانَ أقوى يَقِينا وأكمل معرفَة كَانَ أفضل وَلِهَذَا(1/219)
قَالَ سيد الطَّائِفَة أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد قدس الله سره مَشى رجال بِالْيَقِينِ على المَاء وَمَات بالعطش من هُوَ أفضل مِنْهُم يَقِينا وَقَالَ أَيْضا الْيَقِين ارْتِفَاع الريب فِي مشْهد الْغَيْب وَقَالَ سهل التسترِي حرَام على قلب أَن يشم رَائِحَة الْيَقِين وَفِيه سُكُون إِلَى غير الله وَلَا يشكل عَلَيْك مَا مر من حِكَايَة الْإِطْلَاق فِي التَّفْضِيل بَين الْمُحب والعارف مَعَ أَن الْعَارِف لَا بُد أَن يكون محبا لِأَن المُرَاد من ذَلِك إِنَّمَا هُوَ التَّفْضِيل بَين غَلَبَة الْمحبَّة وَغَلَبَة الْمعرفَة لِأَن بَعضهم يغلب عَلَيْهِ سكر الْمحبَّة وَشدَّة الهمان والوله بمحبوبه وَبَعْضهمْ يغلب عَلَيْهِ الْمُشَاهدَة وَظُهُور الْأَسْرَار والمعارف وَكَثْرَة التجليات مَعَ اعْتِدَال حَاله فِي الْمحبَّة فِي غَالب الْحَالَات فَيكون أَكثر معارف وَالْأول أَشد وَلها وسكرا وَمن ثمَّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ الْمحبَّة اسْتِهْلَاك فِي لَذَّة والمعرفة شُهُود فِي حيرة وفناء فِي محنة انْتهى وَاعْلَم أَن الْيَقِين هُوَ نِهَايَة الْمعرفَة ومراتبه ثَلَاثَة علم الْيَقِين وَهُوَ مَا ينشأ عَن النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَعين الْيَقِين وَهُوَ مَا يكون من طَرِيق الْكَشْف والنوال وَحقّ الْيَقِين وَهُوَ مُشَاهدَة الْغَيْب مُشَاهدَة العيان كَمَا يُشَاهد الرَّائِي فَالْأول للأولياء وَالثَّانِي لخواصهم وَالثَّالِث للأنبياء وَحَقِيقَته اخْتصَّ بهَا نَبينَا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - (وَسُئِلَ) رَضِي الله عَنهُ ونفع بِهِ أَيّمَا أفضل عُلَمَاء الْبَاطِن أم عُلَمَاء الظَّاهِر (فَأجَاب) بقوله إِن أردْت بعلماء الْبَاطِن مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ عِنْد أَهله وهم العارفون بِاللَّه الَّذين وفقهم الله لأَفْضَل الْأَعْمَال وحفظهم من سَائِر المخالفات فِي كل الْأَحْوَال ثمَّ كشف لَهُم الغطاء فعبدوه كَأَنَّهُمْ يرونه وَاشْتَغلُوا بمحبته عَمَّا سواهُ وأطلعهم على عجائب ملكه وغرائب حكمه وقربهم من حَضْرَة قدسه وأجلسهم على بِسَاط أنسه وملا قُلُوبهم بِصِفَات جماله وجلاله وَجعلهَا مطالع أنواره ومعادن أسراره وخزائن معارفه وكنوز لطائفه وَأَحْيَا بهم الدّين ونفع بهم المريدين وأغاث بهم العتاد وَأصْلح بهم الْبِلَاد وبعلماء الظَّاهِر الَّذين عرفُوا رسوم الْعُلُوم الكسيبة وعويصات الوقائع الفعلية والقولية وغرائب الْبَرَاهِين الْعَقْلِيَّة والنقلية حَتَّى حفظوا سياج الشَّرْع من أَن يلم بِهِ طَارق أَو يخرقه مُبْتَدع مارق فالأولون أفضل وَإِن كَانَ للآخرين فضل عَظِيم بل رُبمَا كَانُوا أفضل من حيثية لَا مُطلقًا وَمَعَ ذَلِك فأفضلية الْأَوَّلين على حَالهَا إِذْ قد يكون فِي الْمَفْضُول مزية بل مزايا هَذَا إِن وجدت فِي هَؤُلَاءِ صفة الْعَدَالَة وَإِلَّا فَلَا مفاضلة إِذْ لَا مُشَاركَة بَينهم وَبَين الْأَوَّلين فِي شَيْء من صِفَات الْكَمَال لِأَن رسوم الْعُلُوم الخالية عَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِي الْحَقِيقَة مقت أَي مقت وَغَضب أَي غضب وَمن ثمَّ جَاءَ فِي الْأَخْبَار الصَّحِيحَة من عِقَاب الْعلمَاء الَّذين لم يعلمُوا بعلمهم مَا يدهش اللب ويحير الْفِكر هَذَا هُوَ الْحق فِي هَذِه المسئلة خلافًا لمن أطلق الْكَلَام فِي تَفْضِيل أحد الشقين وَلم ينح هَذَا التَّفْصِيل الَّذِي أبديته وَلَا يرد على ذَلِك مَا وَقع لمُوسَى مَعَ الْخضر صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم بِنَاء على مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور من الصُّوفِيَّة أَن الْخضر ولي لِأَن مُوسَى أفضل مِنْهُ إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ امتاز على الْخضر بخصوصيات لَا تحصى وَإِنَّمَا غَايَة مَا يتَمَيَّز بِهِ الْخضر أَنه اطلع على جزئيات من عَالم الْغَيْب لم يطلع عَلَيْهَا مُوسَى فتلمذ لَهُ لأَجلهَا وتأديبا من الله لَهُ إِذا سُئِلَ من أعلم النَّاس فَقَالَ أَنا وَلم يرد الْعلم إِلَى الله فَلَيْسَتْ قضيتهما مِمَّا نَحن فِيهِ بِوَجْه خلافًا لليافعي رَحمَه الله حَيْثُ جعلهَا دَلِيلا لتفضيل الْأَوَّلين وَمِمَّا يدل لأفضلية الْأَوَّلين مَا هُوَ مُقَرر أَن الْعلمَاء إِنَّمَا يشرفون على قدر شرف معلومهم وَشرف الْعُلُوم تَابع لشرف غاياتها فعلوم المعارف الْمُتَعَلّقَة بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته أشرف الْعُلُوم وأصحابها أشرف الْعلمَاء ويليها فِي الشّرف علم الْفِقْه لِأَن غَايَته معرفَة أَحْكَام الله وشرعه الَّذِي تعبد بِهِ عباده وَجَمِيع الْعُلُوم وَسِيلَة إِلَى هذَيْن العلمين المشتملين على معرفَة الله وَمَعْرِفَة عِبَادَته لِأَن الْخلق لم يخلقوا إِلَّا لذَلِك {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} وَالْعِبَادَة تفْتَقر إِلَى الْمعرفَة وَمن فَسرهَا بالمعرفة فَهِيَ مستلزمة لِلْعِبَادَةِ إِذْ من عرف الله عرف وجوب عِبَادَته وطاعته وَمِمَّا يُوضح لَك أَن الْعُلُوم وَسِيلَة لِذَيْنِك العلمين أَنَّهَا وَسِيلَة لمعْرِفَة الْفِقْه الْوَسِيلَة لمعْرِفَة الْعَمَل الْوَسِيلَة للْعَمَل الْوَسِيلَة لطاعة الله وقربه الْوَسِيلَة لمعرفته فَمن اسْتعْمل هَذِه الْوَسَائِل على وَجههَا وصل بهَا إِلَى الْمَقْصُود الْأَعْظَم وَإِلَّا فَهُوَ الخاسر الْجَاهِل وَإِن كَانَ بِصُورَة عَالم وَمِمَّا يدل على أَفضَلِيَّة علم الْمعرفَة على الْفِقْه وَغَيره أُمُور مِنْهَا أَن الْعُلُوم والمعارف الدنية يخْتَص بهَا الْأَوْلِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ والعلوم الظَّاهِرَة ينالها حَتَّى الفسقة والزنادقة وَمن ثمَّ قَالَ السهروردي فِي عوارفه وينبيك عَن شرف علم الصُّوفِيَّة وزهاد الْعلمَاء أَن الْعُلُوم كلهَا لَا يبعد تَحْصِيلهَا مَعَ محبَّة(1/220)
الدُّنْيَا والأخلال بحقائق التَّقْوَى وَرُبمَا كَانَت محبَّة الدُّنْيَا عونا على اكتسابها لِأَن الِاشْتِغَال بهَا شاق على النُّفُوس فجبلت على محبَّة الجاه والرفعة حَتَّى إِذا استشعرت حُصُول ذَلِك بِحُصُول الْعلم أجابت إِلَى تحمل الكلف وسهر اللَّيْل وَالصَّبْر على الغربة والأسفار وفقد الملاذ والشهوات وعلوم هَؤُلَاءِ الْقَوْم يَعْنِي الصُّوفِيَّة لَا تحصل بمحبة الدُّنْيَا وَلَا تنكشف إِلَّا بمجانبة الْهوى وَلَا تدرس إِلَّا فِي مدرسة التَّقْوَى قَالَ الله تَعَالَى {وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله} وَمِنْهَا أَن شرف الْعلم على قدر شرف انْتِفَاع صَاحبه ونفعه الْغَيْر بِهِ والعارفون هم الَّذين انتفعوا ونفعوا حَقًا وَيَكْفِي فِي انتفاعهم تَطْهِير قُلُوبهم مِمَّا سوى الله وامتلاؤها بمحبته ومعرفته وَمن نفعهم لِلْخلقِ أَن بركتهم تغيث الْعباد وَيدْفَع بهَا الْفساد وَإِلَّا لفسدت الأَرْض ويقام بهم الدّين ويرشد بهم المريدون إِلَى التَّطْهِير من كل خلق دنئ والترقي إِلَى التحلي بِكُل وصف على وَمن ثمَّ وَقع لعارف أَن تِلْمِيذه أَرَادَ الزِّنَا بِامْرَأَة فَلَمَّا هم سمع صَوت شَيْخه من بِلَاد بعيدَة يَقُول هَكَذَا تفعل يَا فلَان ففر هَارِبا وَوَقع لآخر من تِلْمِيذه فِي نَظِير ذَلِك أَنه مَا شعر إِذْ هم غلا وَالشَّيْخ قد لطمه لطمة أذهبت بَصَره فَخرج وَأمر من جَاءَ بِهِ إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ أدع الله لي أَن يرد بَصرِي فَإِنِّي تائب إِلَى الله تَعَالَى فَقَالَ نعم وَلَكِن لَا تَمُوت إِلَّا أعمى فَدَعَا لَهُ فَرد عَلَيْهِ بَصَره ثمَّ عمى قبل مَوته بِثَلَاثَة أَيَّام وَكَذَلِكَ وَقع للشَّيْخ أبي الْغَيْث بن جميل اليمني رَحمَه الله أَنه كَانَ لَهُ تلميذ بالعجم هم بِالزِّنَا بِامْرَأَة فَضَربهُ الشَّيْخ بقبقابه مَعَ زجر وَغَضب بِحَضْرَة الْفُقَرَاء فَلم يدروا مَا الْخَبَر حَتَّى قدم الشَّيْخ العجمي بقبقاب الشَّيْخ بعد شهر تَائِبًا وَكَذَلِكَ للجيلاني أَنه رمى بفردتي قبقابه أثر وضوئِهِ مَعَ صرختين عظيمتين فَلم ترد الْفُقَرَاء مَا الْخَبَر حَتَّى قدمت قافلة بعد ثَلَاثَة وَعشْرين يَوْمًا فَأخْبرُوا أَن عربا نهبوا أَمْوَالهم واقتسموها وهم ينظرُونَ فنذروا للشَّيْخ بشئ أَن نَجوا مِنْهُم فَسَمِعُوا الصرحتين وجاءهم الْعَرَب بِأَمْوَالِهِمْ وأخبروهم أَن فردتى القبقاب جاءتا إِلَى كبيريهم فقتلتاهما فأخذوهما وهما مبلولتان وَقدمُوا بهما وَمِنْهَا مَا ورد فِي فضل أويس الْقَرنِي رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِهِ وَكَونه أفضل التَّابِعين فِي بعض رِوَايَات صَحِيح مُسلم مَعَ مَا فِي التَّابِعين من الْعلمَاء الْكِبَار الَّذين لَا يُحصونَ وَمِنْهَا أَن ابْن عبد السَّلَام صرح بتفضيل العارفين بِاللَّه تَعَالَى وَمن ثمَّ لما سمع إملاء القطب أبي الْحسن الشاذلي رَحمَه الله تَعَالَى على رِسَالَة الْقشيرِي صَار يَقُول اسمعوا إِلَى هَذَا الْكَلَام العجيب الْغَرِيب الْقَرِيب الْعَهْد بربه وَمِنْهَا قَول الْأُسْتَاذ أبي الْقَاسِم الْجُنَيْد نفع الله بِهِ لَو علمت تَحت أَدِيم السَّمَاء علما أشرف من علمنَا هَذَا لسعيت إِلَيْهِ وقصدته وَقَالَ الشهَاب السهروردي الْإِشَارَة فِي خبر فضل الْعَالم على العابد كفضلي على أدناكم إِلَى هَذَا الْعلم الَّذِي هُوَ الْعلم بِاللَّه وَقُوَّة الْيَقِين دون علم نَحْو البيع وَالطَّلَاق وَالْعتاق قَالَ وَقد يكون الْإِنْسَان عَالما بِاللَّه ذَا يَقِين وَلَيْسَ عِنْده علم من فروض الكفايات وَقد كَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أعلم من عُلَمَاء التابعيين بحقائق الْيَقِين ودقائق الْمعرفَة مَعَ أَن فِي عُلَمَاء التَّابِعين من هُوَ أقوم بِعلم الْفِقْه من بعض الصَّحَابَة قَالَ وَالْعُلَمَاء الزاهدون بعد الْأَخْذ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ أَقبلُوا على الله وانقطعوا إِلَيْهِ وخلصت أَرْوَاحهم إِلَى مقَام الْقرب فأفاضت على قُلُوبهم أنوارا الهيات تهيأت بهَا لإدراك الْعُلُوم الربانية والمعارف الإلهية وَالله أعلم (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ عَن حَقِيقَة الْفرق بَين الشَّرِيعَة والحقيقة (فَأجَاب) بقوله فرق بَينهمَا بفروق مِنْهَا أَن الْحَقِيقَة هِيَ مُشَاهدَة أسرار الربوبية وَلها طَريقَة هِيَ عزائم الشَّرِيعَة وَنِهَايَة الشَّيْء غير مُخَالفَة لَهُ على مَا يَأْتِي فالشريعة هِيَ الأَصْل وَمن ثمَّ شبهت بالبحر والمعدن وَاللَّبن والشجرة والحقيقة هِيَ الْفَرْع الْمُسْتَخْرج من الشَّرِيعَة وَمن ثمَّ شبهت بالدر والتبر والزبد وَالثَّمَرَة وَمعنى سلب الْمُخَالفَة لَهما الْمَذْكُور أَنه لَيْسَ بَينهمَا اخْتِلَاف فِي مجاري أَحْكَام الْعُبُودِيَّة وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مُشَاهدَة أسرار الربوبية وَلَا شكّ أَن أهلهما متفاوتون فِي الاعتناء والاهتمام بِعلم صِفَات الْقلب وَالْأَخْذ بعزائم الْأَحْكَام وَلَيْسَ ذَلِك اخْتِلَافا بَينهمَا وَبَين ذَلِك اليافعي رَحمَه الله تَعَالَى بِأَن الشَّرِيعَة علم وَعمل وَالْعلم ظَاهر وباطن وَالظَّاهِر شَرْعِي وَغَيره والشرعي فرض ومندوب وَالْفَرْض عين وكفاية وَالْعين علم صِفَات الْقلب وَعلم أصل وَعلم فرع وَالْعَمَل عزائم وَرخّص والحقيقة مُشْتَمِلَة أَيْضا على قسمَيْنِ علم وَعمل وَالْعلم وهبي وكسبي فالوهبي علم المكاشفة والكسبي فرض عين وَفرض كِفَايَة وَفرض الْعين علم قلب وَعلم أصل وَعلم فرع فالكسبي الَّذِي هُوَ أحد علم نَوْعي قسمي(1/221)
الْحَقِيقَة هُوَ علم الشَّرِيعَة وَالْعَمَل الَّذِي هُوَ العزائم مُشْتَمل على سلوك طَرِيق الْحَقِيقَة والطريقة مُشْتَمِلَة على منَازِل السالكين وَتسَمى مقامات الْيَقِين والحقيقة مُوَافقَة للشريعة فِي جَمِيع علمهَا وعملها أُصُولهَا وفروعها وفرضها ومندوبها لَيْسَ بَينهمَا مُخَالفَة أصلا نعم هُنَا شيآن أَحدهمَا علم صِفَات الْقلب فَأهل الْحَقِيقَة لَهُم بِهِ اعتناء واهتمام جدا وسلوك طريقتهم مَوْقُوف على مَعْرفَته وتبديل صِفَاته الذميمة وَأكْثر أهل الشَّرِيعَة يهملون ذَلِك ويتهاونون بِهِ مَعَ كَونه فرض عين فِي الشَّرِيعَة والحقيقة بِلَا خلاف وَالثَّانِي الرُّخص فَأهل الْحَقِيقَة من حَيْثُ الْعلم والاعتقاد لَا يَشكونَ فِي حَقِيقَتهَا وَإِنَّهَا من رَحْمَة الله بعباده وَأما من حَيْثُ عَمَلهم فَإِنَّمَا يسلكون شوامخ عزائم الشَّرِيعَة الغراء إِلَى الله بتوفيقه وعنايته وَجَمِيل لطفه وصيانته فَمنهمْ من لَا يقطعهَا إِلَّا فِي سبعين سنة وَمِنْهُم من يقطعهَا فِي سَاعَة وَاحِدَة بِحَسب مَعُونَة الله وتسهيله (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ بِمَا لَفظه من قَالَ أَن الْمُؤمن يعلم الْغَيْب هَل يكفر لقَوْله تَعَالَى {قل لَا يعلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله} وَقَوله {عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا} أَو يستفصل لجَوَاز الْعلم بجزئيات من الْغَيْب (فَأجَاب) بقوله رَحمَه الله ونفعنا بِهِ آمين لَا يُطلق القَوْل بِكُفْرِهِ لاحْتِمَال كَلَامه وَمن تكلم بِمَا يحْتَمل الْكفْر وَغَيره وَجب استفصاله كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا وَمن ثمَّ قَالَ الرَّافِعِيّ يَنْبَغِي إِذا نقل عَن أحد لفظ ظَاهره الْكفْر أَن يتَأَمَّل ويمعن النّظر فِيهِ فَإِن احْتمل مَا يخرج اللَّفْظ عَن ظَاهره من إِرَادَة تَخْصِيص أَو مجَاز أَو نَحْوهمَا سُئِلَ اللافظ عَن مُرَاد وَإِن كَانَ الأَصْل فِي الْكَلَام الْحَقِيقَة والعموم وَعدم الْإِضْمَار لِأَن الضَّرُورَة ماسة إِلَى الِاحْتِيَاط فِي هَذَا الْأَمر وَاللَّفْظ مُحْتَمل فَإِن ذكر مَا ينفى عَنهُ الْكفْر مِمَّا يحْتَملهُ اللَّفْظ ترك وَإِن لم يحْتَمل اللَّفْظ خلاف ظَاهره أَو ذكر غير مَا يحْتَمل أَو لم يذكر شيأ أستتيب فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَإِلَّا فَإِن كَانَ مَدْلُول لَفظه كفرا مجمعا عَلَيْهِ حكم بردته فَيقْتل إِن لم يتب وَإِن كَانَ فِي مَحل الْخلاف نظر فِي الرَّاجِح من الْأَدِلَّة إِن تأهل وَإِلَّا أَخذ بالراجح عِنْد أَكثر الْمُحَقِّقين من أهل النّظر فَإِن تعادل الْخلاف أَخذ بالأحوط وَهُوَ عدم التَّكْفِير بل الَّذِي أميل إِلَيْهِ إِذا اخْتلف فِي التَّكْفِير وقف حَاله وَترك الْأَمر فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى انْتهى كَلَامه وَقَوله وَإِن كَانَ فِي مَحل الْخلاف الخ مَحَله فِي غير قَاض مقلد رفع إِلَيْهِ أمره وَإِلَّا لزمَه الحكم بِمَا يَقْتَضِيهِ مذْهبه إِن انحصر الْأَمر فِيهِ سَوَاء وَافق الِاحْتِيَاط أم لَا وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيّ من الِاحْتِيَاط فِي إِرَاقَة الدِّمَاء مَا أمكن وجيه فقد قَالَ حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ ترك قتل ألف نفس استحقوا الْقَتْل أَهْون من سفك محجم من دم مُسلم بِغَيْر حق ومني استفصل فَقَالَ أردْت بِقَوْلِي الْمُؤمن يعلم الْغَيْب أَن بعض الْأَوْلِيَاء قد يُعلمهُ الله بِبَعْض المغيبات قبل مِنْهُ ذَلِك لِأَنَّهُ جَائِز عقلا وواقع نقلا إِذْ هُوَ من جملَة الكرامات الْخَارِجَة عَن الْحصْر على ممر الْأَعْصَار فبعضهم يُعلمهُ بخطاب وَبَعْضهمْ يُعلمهُ بكشف حجاب وَبَعْضهمْ يكْشف لَهُ عَن اللَّوْح الْمَحْفُوظ حَتَّى يرَاهُ وَيَكْفِي بذلك مَا أخبر بِهِ الْقُرْآن عَن الْخضر بِنَاء على أَنه ولي وَهُوَ مَا نقل عَن جُمْهُور الْعلمَاء وَجَمِيع العارفين وَإِن كَانَ الْأَصَح أَنه نَبِي - صلى الله عليه وسلم - وَمَا جَاءَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه أخبر عَن حمل امْرَأَته أَنه ذكر وَكَانَ كَذَلِك وَعَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كشف عَن سَارِيَة وجيشه وهم بالعجم فَقَالَ على مِنْبَر الْمَدِينَة وَهُوَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة يَا سَارِيَة الْجَبَل يحذرهُ الكمين الَّذِي أَرَادَ استئصال الْمُسلمين وَمَا صَحَّ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنه قَالَ فِي حق عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه من الْمُحدثين أَي الملهمين وَفِي رِسَالَة الْقشيرِي وعوارف السهروردي وَغَيرهمَا من كتب الْقَوْم وَغَيرهم مَا لَا يُحْصى من القضايا الَّتِي فِيهَا أَخْبَار الْأَوْلِيَاء بالمغيبات كَقَوْل بَعضهم أَنا غَدا أَمُوت وَقت الظّهْر وَكَانَ كَذَلِك وَلما دفن فتح عَيْنَيْهِ فَقَالَ لَهُ دافنه أحياة بعد موت فَقَالَ أَنا حَيّ وكل محب لله حَيّ وكقول سَائل لم حضر للإنكار عَلَيْهِ وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ فَتَابَ بباطنه فَقَالَ وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وروى السهروردي عَن الجيلاني أَنه قَالَ لرجل عنْدك وَدِيعَة لفُلَان فتوقف لامتناعه شرعا ثمَّ لما لم ير من ذَلِك بدا دفع للشَّيْخ مَا طلبه فَقدم كتاب من الْمُودع لوديعه أعْط الشَّيْخ كَذَا بِقدر مَا أَخذه الشَّيْخ قَالَ اليافعي وروى مُسْندًا عَنهُ أَعنِي الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَن شَيخا أرسل جمَاعَة يَقُولُونَ لَهُ إِن لي أَرْبَعِينَ سنة فِي دركات بَاب الْقُدْرَة فَمَا رَأَيْتُك ثمَّ فَقَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر فِي ذَلِك الْوَقْت لجَماعَة من أَصْحَابه اذْهَبُوا(1/222)
إِلَى فلَان تَجِدُونَ جماعته فِي بعض الطَّرِيق أرسلهم إِلَى بلد بِكَذَا فردوهم مَعكُمْ إِلَيْهِ ثمَّ قُولُوا لَهُ يسلم عَلَيْك الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَيَقُول لَك أَنْت فِي الدركات وَمن هُوَ فِي الدركات لَا يرى من هُوَ فِي الحضرة وَمن هُوَ فِي الحضرة لَا يرى من فِي المخدع وَأَنا فِي المخدع أَدخل وَأخرج من بَاب السِّرّ حَيْثُ لَا تراني بإمارة إِن خرجت لَك الخلعة الْفُلَانِيَّة فِي الْوَقْت الْفُلَانِيّ على يَدي خرجت لَك وَهِي خلعة الرِّضَا وبإمارة خُرُوج التشريف الْفُلَانِيّ فِي اللَّيْلَة الْفُلَانِيَّة لَك على يَدي خرج وَهُوَ تشريف الْفَتْح وبإمارة أَن خلع عَلَيْك فِي الدركات بِمحضر اثْنَي عشر ألف ولي وَهِي خلعة الْولَايَة وَهِي فرجية خضراء طرازها سُورَة الْإِخْلَاص على يَدي خرجت لَك فَانْتَهوا فوجدوا جمَاعَة ذَلِك الشَّيْخ فردوهم ثمَّ أَخْبرُوهُ بِمَا ذكره الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَقَالَ صدق وَهُوَ صَاحب الْوَقْت والتصريف وَوَقع للشَّيْخ أبي الْغَيْث بن جميل أَن قَاطع طَرِيق جَاءَهُ بحب وَآخر بثور فَأمر بطبخ ذَلِك وَأكله فَامْتنعَ الْفُقَهَاء من أكل ذَلِك فَبعد أَن أكل الْفُقَرَاء ذَلِك جَاءَهُ شخص قَالَ كنت نذرت لفقرائك بحب وَجَاء آخر وَقَالَ كنت نذرت لَهُم بثور فَأخذ القطاع الْحبّ والثور وَكَانَ الشَّيْخ أمره بإبقاء رَأس الثور فَأخْرجهُ لصَاحبه فَعرفهُ فندم الْفُقَهَاء على مُخَالفَة الشَّيْخ وأمثال ذَلِك من الْأَوْلِيَاء لَا تحصى وَيَكْفِي دَلِيلا قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخَبَر الصَّحِيح إِن فِي أمتِي 2 ملهمون أَو محدثون وَمِنْهُم عمر وَقَوله - صلى الله عليه وسلم - اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله ووقف نَصْرَانِيّ على الْجُنَيْد رَحمَه الله تَعَالَى وَهُوَ يتَكَلَّم فِي الْجَامِع على النَّاس فَقَالَ أَيهَا الشَّيْخ مَا معنى حَدِيث اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَأَطْرَقَ الْجُنَيْد ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ أسلم فقد جَاءَ وَقت إسلامك فَأسلم الْغُلَام وَسُئِلَ بَعضهم عَن الفراسة فَقَالَ أَرْوَاح تتقلب فِي الملكوت فتشرف على مَعَاني الغيوب فَتَنْطِق عَن أسرار الْخلق نطق مُشَاهدَة وعيان لَا نطق ظن وحسبان وَلَا يُنَافِي مَا تقرر من اطلَاع الْأَوْلِيَاء على بعض الغيوب الْآيَتَانِ المذكورتان فِي السُّؤَال بِنَاء على أَن الِاسْتِثْنَاء فِي الثَّانِيَة مُنْقَطع وَهُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُعْتَزلَة وَاسْتَدَلُّوا بِهِ على نفي كرامات الْأَوْلِيَاء جهلا مِنْهُم أَن لَا يدل عَلَيْهَا أَو على خُصُوص علمهمْ بجزئيات من الْغَيْب لَا هَذِه الْآيَة إِن جعلنَا الِاسْتِثْنَاء فِيهَا مُنْقَطِعًا وَوجه عدم الْمُنَافَاة أَن علم الْأَنْبِيَاء والأولياء إِنَّمَا هُوَ بإعلام من الله لَهُم وَعلمنَا بذلك إِنَّمَا هُوَ بإعلامهم لنا وَهَذَا غير علم الله تَعَالَى الَّذِي تفرد بِهِ وَهُوَ صفة من صِفَاته الْقَدِيمَة الأزلية الدائمة الأبدية المنزهة عَن التَّغَيُّر وسمات الْحُدُوث وَالنَّقْص والمشاركة والانقسام بل هُوَ علم وَاحِد علم بِهِ جَمِيع المعلومات كلياتها وجزئياتها مَا كَانَ مِنْهَا وَمَا يكون أَو يجوز أَن يكون لَيْسَ بضروري وَلَا كسبي وَلَا حَادث بِخِلَاف علم سَائِر الْخلق إِذا تقرر ذَلِك فَعلم الله الْمَذْكُور هُوَ الَّذِي تمدح بِهِ وَأخْبر فِي الْآيَتَيْنِ المذكورتين بِأَنَّهُ لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد فَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا هُوَ وَمن سواهُ إِن علمُوا جزئيات مِنْهُ فَهُوَ بإعلامه واطلاعه لَهُم وَحِينَئِذٍ لَا يُطلق أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب إِذْ لَا صفة لَهُم يقتدرون بهَا على الِاسْتِقْلَال بِعِلْمِهِ وَأَيْضًا هم مَا علمُوا وَإِنَّمَا علمُوا وَأَيْضًا هم مَا علمُوا غيبا مُطلقًا لِأَن من أعلم بِشَيْء مِنْهُ يُشَارِكهُ فِيهِ الْمَلَائِكَة ونظراؤه مِمَّن اطلع ثمَّ أَعْلَام الله تَعَالَى للأنبياء والأولياء بِبَعْض الغيوب مُمكن لَا يسْتَلْزم محالا بِوَجْه فإنكار وُقُوعه عناد وَمن البداهة أَنه لَا يُؤَدِّي إِلَى مشاركتهم لَهُ تَعَالَى فِيمَا تفرد بِهِ من الْعلم الَّذِي تمدح بِهِ واتصف بِهِ فِي الْأَزَل وَمَا لَا يزَال وَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْآيَة صرح بِهِ النَّوَوِيّ رَحمَه الله فِي فَتَاوِيهِ فَقَالَ مَعْنَاهَا لَا يعلم ذَلِك اسْتِقْلَالا وَعلم إحاطة بِكُل المعلومات إِلَّا الله وَأما المعجزات والكرامات فبإعلام الله لَهُم علمت وَكَذَا مَا علم بإجراء الْعَادة انْتهى كَلَامه (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ بِمَا لَفظه مَا الَّذِي يُجَاب بِهِ عَمَّا وَقع من شطحات الْأَوْلِيَاء كَقَوْل أبي يزِيد سبحاني مَا فِي الْجُبَّة غير الله وَقَول الحلاج أَنا الْحق وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يخفى من كلماتهم وإشاراتهم الَّتِي ظَاهرهَا انتقاد وباطنها حق إِلَّا عِنْد أهل المقت والعناد (فَأجَاب) بقوله مَا وَقع لَهُم رضوَان الله عَلَيْهِم من الشطحات للأئمة الْعلمَاء العارفين الْحُكَمَاء الَّذين حماهم الله بالسلامة من حرمَان الْإِنْكَار وَمن عَلَيْهِم بالاعتقاد فِي أوليائه وَحمل مَا صدر عَنْهُم على أحسن المحامل وأقومها عَنْهَا أجوبة مسكتة وتحقيقات مبهتة لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا إِلَّا الموفقون وَلَا يعرض عَنْهَا إِلَّا المخذولون فاحذر أَن تكون مِمَّن يتحسى كأس سم الْإِنْكَار فَيهْلك لوقته وبادر إِلَى السَّلامَة من غضب الله ومحاربته ومقته فقد قَالَ على لِسَان الصَّادِق المصدوق من عَاد لي وليا فقد آذنته بِالْحَرْبِ أَي أعلمته أَنِّي(1/223)
محَارب لَهُ قَالَ الْأَئِمَّة وَلم ينصب الله تَعَالَى الْمُحَاربَة لأحد من العصاة إِلَّا للمنكرين على أوليائه وآكلي الرِّبَا وَمن حاربه الله لَا يفلح أبدا أحد تِلْكَ المسالك أَن تِلْكَ الْكَلِمَات حِكَايَة عَن حَضْرَة الْحق ونطق عَمَّا يَلِيق وَمَا شاهدوه من أنوارها وَغَلَبَة التَّجَوُّز فِي نَحْو ذَلِك من مقامات الْمحبَّة والعبودية والقرب يبسط لَهُم الْعذر وَيرْفَع عَنْهُم الإصر مِمَّن اعْتمد هَذَا المسلك الشهَاب السهروردي الْمجمع على إِمَامَته فِي الْعُلُوم الظَّاهِرَة والباطنة فِي عوارفه حَيْثُ قَالَ وَمَا حكى عَن أبي يزِيد رَضِي الله عَنهُ من قَوْله سبحاني حاشا الله أَن يعْتَقد فِي أبي يزِيد أَن يَقُول مثل ذَلِك إِلَّا على معنى الْحِكَايَة عَن الله تَعَالَى قَالَ وَذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يعْتَقد فِي الحلاج رَحمَه الله فِي قَوْله أَنا الْحق ثَانِيهَا إِن ذَلِك وَقع مِنْهُم فِي حَال الْغَيْبَة وَالسكر الناشئين عَن الفناء فِي الْمحبَّة وَالشُّهُود لموارد الْأَحْوَال المزعجة للقلب الآخذة لَهُ من صحوه وتمييزه أَلا ترى أَن بعض الهموم أَو الواردات الدُّنْيَوِيَّة إِذا وَردت على الْقلب أذهلته وأذهبت تَمْيِيزه لشدَّة تمكنها مِنْهُ واستغراقه فِي فكره وخطرها فَإِنَّهُ إِذا كَانَ هَذَا فِي الْأُمُور السافلة الَّتِي لَا تقاوم جنَاح بعوضة فَكيف بواردات الْحق على الْقُلُوب ولواعج الْمحبَّة المذهلة عَن كل مَطْلُوب ومرغوب وعوالم الملكوت المنكشفة لَهُم فِي منازلاتهم ومشاهدة عجائب الْقُدْرَة فِي ترقياتهم فَإِن ذَلِك لَا يبْقى فِي الْقلب شعورا وَلَا تمييزا بل يصير صَاحبه كَالسَّكْرَانِ الثمل فَحِينَئِذٍ ينْطق بِمَا رسخ فِي خلده قبل وَيرجع بطبعه قهرا عَلَيْهِ إِلَى مَكَان يلحظه ويعول عَلَيْهِ فينطق لِسَانه بطبق تِلْكَ الْأَحْوَال لَكِن بعبارات لَا يقْصد بهَا مَا يُوهِمهُ ظَاهرهَا من اتِّحَاد أَو حُلُول أَو انحلال فَتَأمل ذَلِك وعول عَلَيْهِ تسلم وكل سكر نَشأ عَن سَبَب جَائِز فصاحبه غير مُكَلّف وَمِمَّنْ اعْتمد هَذَا المسلك القطب الرباني عبد الْقَادِر الجيلاني نفع الله بِهِ حَيْثُ قَالَ مترجما عَن حَال الحلاج طَار طَائِر عقل بعض العارفين من وكر شجر صورته وَعلا إِلَى السَّمَاء خارقا صُفُوف الْمَلَائِكَة فَكَانَ بازيا من بزاة الْملك مخيط الْعَينَيْنِ بخيط وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا فَلم يجد فِي السَّمَاء مَا يحاول من الصَّيْد فَلَمَّا لاحت لَهُ فريسة رَأَيْت رَبِّي ازْدَادَ تحيره فِي قَول مَطْلُوبه فأينما توَلّوا فثم وَجه الله عادها بطا إِلَى حَضْرَة خطة الأَرْض طَالبا مَا هُوَ أعدم من جود النَّار فِي قعور الْبحار يتلفت بِعَين عقله فَمَا شَاهد سوى الْآثَار فكر فَلم يجد فِي الدَّاريْنِ محبوبا سوى محبوبه فطرب وَقَالَ بِلِسَان سكر قلبه أَنا الْحق ثمَّ ترنم بلحن غير مَعْهُود صفر فِي رَوْضَة الْوُجُود صَغِير إِلَّا يَلِيق ولحن بِصَوْتِهِ لحنا عرضه لحتفه نودى فِي سره يَا حلاج اعتقدت أَن قوتك لَك قل الْآن نِيَابَة عَن جَمِيع العارفين حسب الْوَاحِد إِفْرَاد الْوَاحِد قل يَا مُحَمَّد أَنْت سُلْطَان الْحَقِيقَة أَنْت إِنْسَان عين الْوُجُود على عتبَة بَاب الْملك لمعرفتك تخضع أَعْنَاق العارفين وَفِي حمى جلالتك تُوضَع جباه الْخلق أَجْمَعِينَ انْتهى كَلَامه رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ من النفاسة وَالْجَلالَة بِالْمحل الْأَسْنَى فتدبره حق تدبره وَيَكْفِي الحلاج شرفا شَهَادَة هَذَا القطب لَهُ بِهَذَا الْمقَام مَعَ أَن الصُّوفِيَّة وَغَيرهم مُخْتَلفُونَ فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا فجماعة من العارفين كَأبي الْعَبَّاس بن عَطاء وَأبي عبد الله ابْن حنيف وَأبي الْقَاسِم النَّصْر أباذي رَضِي الله عَنْهُم أثنوا عَلَيْهِ وصححوا لَهُ حَاله وجعلوه أحد الْمُحَقِّقين وَخَالفهُم أَكثر الْمَشَايِخ فَلم يثبتوا لَهُ قدما فِي التصوف وَلم يقبلوه وَلم يَأْخُذُوا عَنهُ وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَه الْأَولونَ لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ محقا بل عَالما ربانيا كَمَا قَالَه ابْن حنيف إِلَّا أَنه كَانَ مخلطا تكْثر مِنْهُ الْكَلِمَات الَّتِي ظواهرها منتقدة فَلِذَا أَعرضُوا عَن الْأَخْذ عَنهُ وَلم يثبتوا لَهُ قدما فِي التصوف أَي فِي التربية والاقتداء وجعلوه فِي حيّز المجاذيب الَّذين يَعْتَقِدُونَ وَلَا يُؤْخَذ عَنْهُم وَلَا يعدون من أَصْحَاب الْمَرَاتِب وَالتَّصَرُّف فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ مُهِمّ وَإِيَّاك أَن تفهم أَن من الصُّوفِيَّة من يُنكر عَلَيْهِ حَالَة الْبَاطِن فَإِن الْأَمر لَيْسَ كَذَلِك وَقد بسط الْغَزالِيّ رَحمَه الله أَحْوَاله فَأجَاب عَن كَلِمَاته وَوَقَائعه بِمَا ينزه ساحته عَن حُلُول أَو غَيره من الاعتقادات الْبَاطِلَة وكلماته الدَّالَّة على مَعْرفَته وَحَقِيقَة مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْهَا الْحق إِذا استولى على سر ملكه الْأَسْرَار فيعانيها وَخبر عَنْهَا وَقَوله لما سُئِلَ عَن التصوف وَهُوَ مَطْلُوب أهونه مَا تري وَقَوله لما قَالَ خادمه وَقد قرب صلبه أوصني قَالَ عَلَيْك بِنَفْسِك إِن لم تشغلها شغلتك وَقَوله وَهُوَ يتبختر فِي قَيده للصلب شعرًا:
(نديمي غير مَنْسُوب ... إِلَى شَيْء من الحيف)
(سقاني مثل مَا يشرب ... كَفعل الضَّيْف بالضيف)(1/224)
(فَلَمَّا دارت الكاسات ... دَعَا بالنطع وَالسيف)
ثمَّ قَالَ {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا وَالَّذين آمنُوا مشفقون مِنْهَا ويعلمون أَنَّهَا الْحق} وَهَذَا مِنْهُ رَحمَه الله صَرِيح فِيمَا ذَكرْنَاهُ أَن مَا صدر مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ فِي حَال سكره وغيبته وَقَالَ المعتزلي ردا عَلَيْهِ لما أوجد الله تَعَالَى الْأَجْسَام بِلَا عِلّة كَذَلِك أوجد فِيهَا صفاتها وكما لَا يملك العَبْد أصل فعله كَذَلِك لَا يملك فعله وَقَوله المريد هُوَ الْخَارِج عَن أَسبَاب الدَّاريْنِ وَقَوله وَقد رؤى فِي ثِيَاب رثَّة فَقيل لَهُ مَا حالك فَقَالَ:
(لَئِن أمسيت فِي ثوبي عديم ... لقد بليا على حر كريم)
(فَلَا يحزنك إِذْ أَبْصرت حَالا ... تغير فيّ عَن حَال قديم)
(فلي نفس ستتلف أَو سترقى ... لعمر الله فِي أَمر جسيم)
ثَالِثهَا أَنهم قد يؤمرون تعريفا لجَاهِل أَو شكر أَو تحدثا بِنِعْمَة الله كَمَا وَقع للشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه بَيْنَمَا هُوَ بِمَجْلِس وعظه وَإِذا هُوَ يَقُول قدمي هَذِه على رَقَبَة كل ولي لله تَعَالَى فَأَجَابَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَة أَوْلِيَاء الدُّنْيَا قَالَ جمَاعَة بل وأولياء الْجِنّ جَمِيعهم وطأطؤا رُؤْسهمْ وخضعوا لَهُ واعترفوا بِمَا قَالَه إِلَّا رجلا بأصبهان فَأبى فسلب حَاله وَمِمَّنْ طأطأ رَأسه أَبُو النجيب السهروردي وَقَالَ على رَأْسِي على رَأْسِي وَأحمد الرِّفَاعِي فَقَالَ وَحميد مِنْهُم وَسُئِلَ فَقَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يَقُول كَذَا وَكَذَا وَأَبُو مَدين فِي الْمغرب وَأَنا مِنْهُم اللَّهُمَّ إِنِّي أشهدك وَأشْهد ملائكتك أَنِّي سَمِعت وأطعت فَسئلَ فاخبر بِمَا قَالَه الشَّيْخ بِبَغْدَاد فارخ فَكَانَ قَول أبي مَدين عقب قَول الشَّيْخ عبد الْقَادِر ذَلِك وَكَذَا الشَّيْخ عبد الرَّحِيم القناوي مدعنقه وَقَالَ صدق الصَّادِق المصدوق فَسئلَ فَأخْبر بِمَا قَالَه الشَّيْخ وَذكر كَثِيرُونَ من العارفين الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ وَغَيرهم أَنه لم يقل إِلَّا بِأَمْر إعلاما بقطبيته فَلم يسع أحد التَّخَلُّف بل جَاءَ بأسانيد مُتعَدِّدَة عَن كثيرين أَنهم أخبروا قبل مولده بِنَحْوِ مائَة سنة أَنه سيولد بِأَرْض الْعَجم مَوْلُود لَهُ مظهر عَظِيم يَقُول ذَلِك فتندرج الْأَوْلِيَاء فِي وقته تَحت قدمه وَحكى إِمَام الشَّافِعِيَّة فِي زَمَنه أَبُو سعيد عبد الله بن أبي عصرون قَالَ دخلت بَغْدَاد فِي طلب الْعلم فَوَافَقت ابْن السقا ورافقته فِي طلب الْعلم بالنظامية وَكُنَّا نزور الصَّالِحين وَكَانَ بِبَغْدَاد رجل يُقَال لَهُ الْغَوْث يظْهر إِذا شَاءَ ويختفي إِذا شَاءَ فقصدنا زيارته أَنا وَابْن السقا وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَاب فَقَالَ ابْن السقا وَنحن سائرون لأسألنه مسئلة لَا يدْرِي لَهَا جَوَابا وَقلت لأسألنه مسئلة وَأنْظر مَا يَقُول فِيهَا وَقَالَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر معَاذ الله أَن أسأله شيأ أَنا بَين يَدَيْهِ أنْتَظر بركَة رُؤْيَته فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَلم نره إِلَّا بعد سَاعَة فَنظر الشَّيْخ إِلَى ابْن السقا مغضبا وَقَالَ وَيحك يَا ابْن السقا تَسْأَلنِي مسئلة لَا أَدْرِي لَهَا جَوَابا هِيَ كَذَا وجوابها كَذَا إِنِّي لأرى نَار الْكفْر تلتهب فِيك ثمَّ نظر إِلَيّ وَقَالَ يَا عبد الله أتسألني عَن مسئلة لتنظر مَا أَقُول فِيهَا هَذَا كَذَا وجوابها كَذَا لتخزن الدُّنْيَا عَلَيْك إِلَى شحمة أذنيك بإساءة أدبك ثمَّ نظر إِلَى الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَأَدْنَاهُ مِنْهُ وأكرمه وَقَالَ يَا عبد الْقَادِر لقد أرضيت الله وَرَسُوله بِحسن أدبك كَأَنِّي أَرَاك بِبَغْدَاد وَقد صعدت الْكُرْسِيّ متكلما على الْمَلأ وَقلت قدمي هَذِه على رَقَبَة كل ولي الله وَكَأَنِّي أرى الْأَوْلِيَاء فِي وقتك وَقد حنوا رقابهم إجلالا لَك ثمَّ غَابَ عَنَّا فَلم نره قَالَ وَأما الشَّيْخ عبد الْقَادِر فقد ظَهرت أَمَارَات قربه من الله وَأجْمع عَلَيْهِ الْخَاص وَالْعَام وَقَالَ قدمي الخ وأقرت الْأَوْلِيَاء فِي وقته لَهُ بذلك وَأما ابْن السقا فَإِنَّهُ اشْتغل بالعلوم الشَّرْعِيَّة حَتَّى برع فِيهَا وفَاق فِيهَا كثيرا من أهل زَمَانه واشتهر بِقطع من يناظره فِي جَمِيع الْعُلُوم وَكَانَ ذَا لِسَان فصيح وسمت بهي فأدناه الْخَلِيفَة مِنْهُ وَبَعثه رَسُولا إِلَى ملك الرّوم فَرَآهُ ذَا فنون وفصاحة وسمة فأعجب بِهِ وَجمع لَهُ القسيسين وَالْعُلَمَاء بالنصرانية فناظرهم وأفحمهم وعجزوا فَعظم عِنْد الْملك فزادت فتنته فتراأت لَهُ بنت الْملك فَأَعْجَبتهُ وَفتن بهَا فَسَأَلَهُ أَن يُزَوّجهَا لَهَا فَقَالَ إِلَّا أَن تتنصر فَتَنَصَّرَ وَتَزَوجهَا ثمَّ مرض فألقوه بِالسوقِ يسْأَل الْقُوت فَلَا يُجَاب وعلته كآبة وَسَوَاد حَتَّى مر عَلَيْهِ من يعرفهُ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا قَالَ فتْنَة حلت بِي سَببهَا مَا ترى قَالَ لَهُ هَل تحفظ شيأ من الْقُرْآن قَالَ لَا إِلَّا قَوْله {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} قَالَ ثمَّ خرجت عَلَيْهِ يَوْمًا فرأيته كَأَنَّهُ قد حرق وَهُوَ فِي النزع فقبلته إِلَى الْقبْلَة فَاسْتَدَارَ إِلَى الشرق فعدت فَعَاد وَهَكَذَا إِلَى أَن خرجت روحه وَوَجهه إِلَى الشرق وَكَانَ يذكر كَلَام الْغَوْث وَيعلم أَنه أُصِيب بِسَبَبِهِ قَالَ ابْن(1/225)
أبي عصرون وَأما أَنا فَجئْت إِلَى دمشق فأحضرني السُّلْطَان الصَّالح نور الدّين الشَّهِيد وأكرهني على ولَايَة الْأَوْقَاف فَوليتهَا وَأَقْبَلت على الدُّنْيَا إقبالا كثيرا فقد صدق قَول الْغَوْث فِينَا كلنا وَفِي هَذِه الْحِكَايَة الَّتِي كَادَت أَن تتواتر فِي الْمَعْنى لِكَثْرَة نَاقِلِيهَا وعدالتهم فِيهَا أبلغ زجر وآكد ردع عَن الْإِنْكَار على أَوْلِيَاء الله تَعَالَى خوفًا من أَن يَقع الْمُنكر فِيمَا وَقع فِيهِ ابْن السقا من تِلْكَ الْفِتْنَة الْمهْلكَة الأبدية الَّتِي لَا أقبح مِنْهَا وَلَا أعظم مِنْهَا نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك ونسأله بِوَجْهِهِ الْكَرِيم وحبيبه الرؤوف الرَّحِيم أَن يؤمننا من ذَلِك وَمن كل فتْنَة ومحنة بمنه وَكَرمه وفيهَا أَيْضا أتم حث على اعْتِقَادهم وَالْأَدب مَعَهم وَحسن الظَّن بهم مَا أمكن رَابِعهَا أَن الشطح قد يكون فِيهِ نفع لِلْخلقِ وَقد عرفُوا ذَلِك بإلهام أَو كشف أَو خطاب أَو نَحْوهَا من وُجُوه التعريفات كَمَا تَوَاتر بِالْيمن فِي الشَّيْخ الْعَارِف إِمَام الْفُقَهَاء والصوفية فِي وقته إِسْمَاعِيل الْحَضْرَمِيّ نفع الله بِهِ أَنه قَالَ من قبل قدمي دخل الْجنَّة فَلم يزل يقبل قدمه كل زائر وَإِن جلت مراتبه وَمن كراماته أَنه كَانَ دَاخِلا لزبيد وَقد دنت الشَّمْس للغروب فَقَالَ لَهَا لَا تغربي حَتَّى ندْخلهَا فوقفت سَاعَة طَوِيلَة فَلَمَّا دَخلهَا أَشَارَ إِلَيْهَا فَإِذا الدُّنْيَا مظْلمَة والنجوم ظَاهِرَة ظهورا تَاما خَامِسهَا ظُهُور المُرَاد من اللَّفْظ وَإِن أشكل ظَاهره كَمَا وَقع للشَّيْخ أبي الْغَيْث بن جميل نفع الله بِهِ أَنه جَاءَ إِلَيْهِ جمَاعَة من الْفُقَهَاء فَقَالَ لَهُ مرْحَبًا بعبيدي فَاشْتَدَّ إنكارهم عَلَيْهِ وَذكروا ذَلِك للشَّيْخ إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور قبله فَقَالَ صدق أَنْتُم عبيد الْهوى وَهُوَ عَبده سادسها الْإِشَارَة إِلَى الْخلَافَة عَن الْحق بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التَّصَرُّف فِي الْكَوْن كَمَا قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْغَيْث:
(وحباني الْملك الْمُهَيْمِن خلعة ... فالأرض أرضي وَالسَّمَاء سمائي)
وَفِي رِوَايَة
(وحلاني الْملك الْمُهَيْمِن باسمه)
أَي سره أَو صفته أَو بركته أَو بالنيابة عَنهُ فِي التَّصَرُّف فِيمَا أذن لي فِيهِ أَو أَن اسْمِي الَّذِي هُوَ أَبُو الْغَيْث مُشْتَقّ من اسْم الله تَعَالَى المغيث فَأَبُو المغيث نفع الله بِهِ كتب هَذَا جَوَابا لما كتبه إِلَيْهِ الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه أَحْمد بن علوان رَحمَه الله ونفع بِالْجَمِيعِ وَهُوَ جزت الصُّفُوف أَي مقامات الْأَوْلِيَاء أَو صُفُوف الْمَلَائِكَة إِلَى الْحُرُوف أَي علم الْحُرُوف والأسماء إِلَى الهجاء أَي الِاطِّلَاع على الْأَسْرَار حَتَّى انْتَهَيْت مَرَاتِب الإبداع أَي إِلَى أَن تتصرف فِيمَا أذن لَك الله فِيهِ بقدرته وَقد مر أَنه يجوز أَن يعْطى الْوَلِيّ نَظِير كرامات الْأَنْبِيَاء بِشَرْط عدم التحدي بِالنُّبُوَّةِ أَو أَن المُرَاد أَن الله أطلعك على تكوين الْخلق أَو أسمعك صريف الْقَلَم الَّذِي أَمر بكتب مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمعنى جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق الْكِنَايَة عَن الْقَضَاء المبرم الَّذِي هُوَ فِي أم الْكتاب لَا يقبل تبديلا وَلَا تغييرا بَيت:
(لَا باسم ليلى استعنت على السرى ... كلا وَلَا لبني يرد شراعي)
أَي لم تستعن بشيخ وَلَا غَيره فِيمَا فوّض إِلَيْك من الْمُتَصَرف فِي قطع مهامه الْعَوَائِق بل صرت مُسْتقِلّا بِنَفْسِك فِي التَّصَرُّف مَأْذُونا فِيهِ لَا تحْتَاج إِلَى شيخ يدلك وَلَا تحمل شراع أَي قلع مركبك الساري فِي بَحر المعارف وشهود مجاري الأقدار واللطائف وَلَا تمسك سكانه لعرفانك بالبحر وَمحل أخطاره سابعها قصد التخريب وَهُوَ مَا يَقع للملامتية وهم قوم طابت نُفُوسهم مَعَ الله فَلم يودوا أَن أحدا يطلع على أَعْمَالهم غَيره فَإِذا رأى أحد مِنْهُم أَن أحدا اعْتقد فِيهِ خرب أَي ارْتكب مَا يذم بِهِ ظَاهره من فعل وَقَول كسرقة بعض الْأَوْلِيَاء وَهُوَ إِبْرَاهِيم الْخَواص نفع الله بِهِ وناهيك بِهِ علما وَمَعْرِفَة لما رأى أهل بَلَده يعتقدونه سرق ثيابًا من الْحمام لِابْنِ الْملك وَخرج يتبختر بهَا حَتَّى أدْرك فَضرب وَأخذت مِنْهُ وسمى لص الْحمام فَقَالَ الْآن طابت الْإِقَامَة فِي هَذِه الْبَلَد فَإِن قلت مَا تَأْوِيله فِي لبس ثِيَاب الْغَيْر قلت يحْتَمل أَنه علم عَتبه وَرضَاهُ بل أرضاه وَإِن لم يعلم قلبه نظرا إِلَى الْغَالِب لِأَن من اطلع على بَاطِن عبد أَنه فِي غَايَة الصّلاح وَأَن لبسه هَذَا الزَّمن الْيَسِير ليطهر نَفسه من النّظر إِلَى الْخلق رضى لَهُ بذلك قطعا وَقد صرح الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِأَنَّهُ يجوز أَخذ خلال وخلالين من مَال الْغَيْر نظرا إِلَى أَن ذَلِك مِمَّا يتَسَامَح بِهِ عَادَة ومسئلتنا أولى من ذَلِك لِأَن أَكثر النَّاس مجبولون على محبَّة هَذِه الطَّائِفَة بل كلهم منقادون إِلَى الصَّادِقين من أَهلهَا ثمَّ رَأَيْت بَعضهم أجَاب بِجَوَاب آخر حِين سَأَلَهُ فَقِيه عَنْهَا لَا أقنع إِلَّا بِكَلَام الْفُقَهَاء فَقَالَ أَلَيْسَ يجوز فِي ظَاهر الْفِقْه اسْتِعْمَال بعض الْمُحرمَات للضَّرُورَة كالتداوي بِالنَّجَاسَةِ فَقَالَ الْفَقِيه بلَى فَقَالَ(1/226)
فَكَذَا هَذَا داوى نَفسه بل قلبه بِهَذَا الْمحرم وَمَا أجبْت بِهِ أولى لِأَن التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَةِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حق الله فسومح بِهِ لأجل الْمَرَض وَأما هَذَا فَحق الْآدَمِيّ لَا يجوز إِلَّا بِرِضَاهُ فَكيف يجوز لأجل صَلَاح قلبه فَالصَّوَاب مَا أجبْت بِهِ إِذْ لَا يرد عَلَيْهِ مَا أوردهُ اليافعي رَحمَه الله على ذَلِك الْجَواب فَقَالَ بعد قَوْله لَا يداوى التخريب بِحرَام مغلظ كالكبائر وَنَحْوهَا وَفِي جَوَاز ارْتِكَاب الْحَرَام للتخريب بِمُجَرَّد الظَّن حُصُول الْفساد وَالضَّرَر الراجحين على فَسَاد الْحَرَام وضرره عِنْدِي فِيهِ نظر وَيَتَرَتَّب على هَذَا سُؤال فَيُقَال إِذا تعَارض مفسدتان صغرى قَطْعِيَّة وكبرى ظنية فايتهما أولى بِالدفع وَإِذا حصل الْغَرَض من التخريب بمكروه فَلَا يجوز بِحرَام انْتهى كَلَام اليافعي رَضِي الله عَنهُ وتوقفه فِي تعَارض المفسدتين المذكورتين فِيهِ نظر وَقَضِيَّة قَوْلهم دَرْء الْمَفَاسِد مقدم على جلب الْمصَالح تَقْدِيم دفع الْمفْسدَة القطعية صغرت أَو كَبرت كَمَا يعلم من كَلَام الْأَئِمَّة فِي الْمُضْطَر يَأْخُذ طَعَام الْغَيْر المستغنى عَنهُ قهرا عَلَيْهِ ويقتله إِن امْتنع من إِعْطَائِهِ وَتعين الْقَتْل طَرِيقا لتحصيله وَمَعَ ذَلِك لَا يَأْخُذهُ مجَّانا بل يُبدلهُ حَالا أَن قدر عَلَيْهِ وَإِلَّا فحتى يقدر (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ ورضى عَنهُ بِمَا لَفظه نقل عَن جمَاعَة من الصُّوفِيَّة كَلِمَات تدل على انحلال عقائدهم لَا سِيمَا الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلاني نفع الله بِهِ ورحمه فَإِنَّهُ نقل عَنهُ القَوْل بالجهة وَهَذَا قدح عَظِيم وخرق جسيم وحاشا هَذَا الْوَلِيّ أَن يَقُول ذَلِك أَو أَن يرتبك فِي شَيْء من المهالك ووعر تِلْكَ المسالك فبينوا مَا فِي ذَلِك (فَأجَاب) بل الله ثراه حاشا لله ومعاذ الله أَن يظنّ بِأحد من الصُّوفِيَّة الْمَذْكُورين فِي رِسَالَة الْقشيرِي وعوارف المعارف وَغَيرهمَا من كتب الْأَئِمَّة الجامعين بَين علمي الظَّاهِر وَالْبَاطِن شَيْء مِمَّا يُخَالف عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَقد ذكر الْقشيرِي وَغَيره من كلماتهم فِي العقائد مَا يبين ذَلِك ويوضحه فَانْظُر فِي الرسَالَة وَغَيرهَا وَمن نسب إِلَى وَاحِد مِنْهُم شيأ مِمَّا يُخَالف ذَلِك كالقول بقدم الْحُرُوف فقد افترى فقد صرح سهل بن عبد الله وَأَبُو بكر الشبلي وَأَبُو الْعَبَّاس بن عَطاء بحدوثها وَابْن عَطاء هَذَا هُوَ أحد الشُّيُوخ الْخَمْسَة الَّذين أجمع على الِاقْتِدَاء بهم لجمعهم بَين علمي الظَّاهِر وَالْبَاطِن وهم أَبُو عبد الله الْحَرْث بن أسيد المحاسبي وإنكار الإِمَام أَحْمد عَلَيْهِ بالغوافي رده وَأَنه لعدم علمه بِحَقِيقَة حَاله وَأَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد وَأَبُو مُحَمَّد رُوَيْم وَأَبُو عبد الله عَمْرو بن عُثْمَان الْمَكِّيّ وَابْن عَطاء الْمَذْكُور وَتَخْصِيص هَؤُلَاءِ بذلك إِنَّمَا هُوَ لكَوْنهم كَانُوا مُجْتَمعين اجتماعا مَخْصُوصًا فِي عصر وَاحِد لَا لنفي الِاقْتِدَاء عَن غَيرهم إِذْ الجامعون بَين العلمين الْمَذْكُورين من الْقَوْم كَثِيرُونَ على أَن تَخْصِيص الِاقْتِدَاء بالجامعين بَين العلمين الْمَذْكُورين إِنَّمَا هُوَ لبَيَان الْأَكْمَل إِذْ لَا خلاف بَينهم أَن جَمِيع السالكين العارفين بِاللَّه تَعَالَى يجوز الِاقْتِدَاء بهم سَوَاء حصل السلوك قبل الجذبة أَو بعْدهَا وَسَوَاء علمُوا جَمِيع عُلُوم الشَّرِيعَة الْمَفْرُوضَة والمندوبة أم لم يعرفوا سوى فرض الْعين الَّذِي لَا بُد لكل مُكَلّف مِنْهُ أَو لبَيَان من يقْتَدى بِهِ فِي العلمين مَعًا وَقد قَالَ أَبُو عُثْمَان المقرى كنت أعتقد شيأ من حَدِيث الْجِهَة فَلَمَّا قدمت بَغْدَاد زَالَ عني ذَلِك فَكتبت إِلَى أَصْحَابنَا بِمَكَّة أَنِّي أسلمت جَدِيدا وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني قدمت من بَغْدَاد إِلَى نيسابور فدرست فِي جَامعهَا فشرحت القَوْل فِي الرّوح وَأَنَّهَا مخلوقة فأصغى الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم النَّصْر أباذي إِلَيّ من بعيد ثمَّ اجتاز بِنَا بعد أَيَّام فَقَالَ لبَعض أَصْحَابِي اشْهَدُوا أَنِّي أسلمت على يَد هَذَا الرجل وَأَشَارَ إِلَيّ فَانْظُر إِلَى تواضع هَذَا الْأُسْتَاذ الَّذِي هُوَ أَبُو الْقَاسِم وإنصافه ورجوعه للحق مَعَ أَنه كَانَ شيخ وقته وَكَذَا أَبُو عُثْمَان السَّابِق وكل هَذَا يدل على أَنهم مطهرون من الحظوظ النفسية متصفون بِالصِّفَاتِ الْعلية وَمن كَلَام أبي الْقَاسِم الْمَذْكُور الْجنَّة بَاقِيَة بإبقائه وَذكره لَك رَحمته ومحبته لَك بَاقِيَة لَك بِبَقَائِهِ فشتان مَا بَين مَا هُوَ بَاقٍ بِبَقَائِهِ وَمَا هُوَ بَاقٍ بإبقائه فَتَأمل هَذَا التَّحْقِيق عَن هَذَا الإِمَام الْمُوَافق لما عَلَيْهِ أهل الْحق إِن صِفَات الْقَدِيم سُبْحَانَهُ بَاقِيَة بإبقائه وَإِن ذَاته بَاقِيَة بِبَقَائِهِ وَلما ذكر الْقشيرِي عقائدهم الْمَأْخُوذَة من مَجْمُوع كَلَامهم قَالَ دلّت هَذِه المقالات على أَن عقائد مَشَايِخ الصُّوفِيَّة توَافق أقاويل أهل الْحق فِي مسَائِل الْأُصُول وَقَالَ أَيْضا اعلموا رحمكم الله أَن شُيُوخ هَذِه الطَّرِيقَة بنوا قَوَاعِد أَمرهم على أصُول صَحِيحَة فِي التَّوْحِيد وصانوا عقائدهم من الْبدع وَأتوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل وَقَالَ سُلْطَان الْعلمَاء الْعِزّ بن عبد السَّلَام رَحمَه الله تَعَالَى بعد أَن ذكر عقائد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة هَذَا إِجْمَال من(1/227)
اعْتِقَاد الْأَشْعَرِيّ واعتقاد السّلف وَأهل الطَّرِيقَة والحقيقة نسبته إِلَى التَّفْصِيل الْوَاضِح كنسبة القطرة إِلَى الْبَحْر الطافح وَمرَاده بِأَهْل الطَّرِيقَة والحقيقة الصُّوفِيَّة وَأما أحسن قَول بَعضهم الْمُعْتَزلَة نزهوا الله من حَيْثُ الْعقل فأخطؤا والصوفية نزهوه من حَيْثُ الْعلم فَأَصَابُوا قَالَ اليافعي وَقد اشْتهر عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه كَانَ يعْتَقد الْجِهَة وَقد اسْتغْرب ذَلِك مِنْهُ وعد شاذا فِي ذَلِك عَن أَئِمَّة الْمشرق وَلَكِن قد أخبر الشَّيْخ الْكَبِير الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشهير نجم الدّين الْأَصْبَهَانِيّ أَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر رَجَعَ آخرا عَمَّا كَانَ يَعْتَقِدهُ أَو لأذكر ذَلِك لما بلغه أَن الإِمَام ابْن دَقِيق الْعِيد تعجب من اعْتِقَاد الشَّيْخ عبد الْقَادِر ذَلِك مَعَ مَا جوى من الْعُلُوم والمعارف وَمثل الشَّيْخ نجم الدّين الْأَصْبَهَانِيّ إِذا أخبر عَن الْقَوْم بقول فعلي الْخَبِير يسْقط الْمخبر إِذْ هُوَ من أهل الِاطِّلَاع ظَاهرا وَبَاطنا لكَونه من أهل النُّور والكشف الْمَشْهُور وَكَون الْعرَاق لَهُ وطنا وَصَحب الْمَشَايِخ هُنَالك وَالْعُلَمَاء وَعقد النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - للوائه أحد عشر علما أخبر بِالرُّجُوعِ عَن الإعتقاد الْمَذْكُور وَعقد الْأَعْلَام الْمَذْكُور غير وَاحِد من أَصْحَاب الشَّيْخ نجم الدّين الْمَذْكُور عَنهُ مِمَّن لَا يشك وَالله فِي صدقهم انْتهى كَلَام اليافعي قدس سره ثمَّ حكى من كَلَام الشَّيْخ عبد الْقَادِر مَا اشْتَمَل على بَدَائِع من التَّوْحِيد والتنزيه وعجائب من المعارف وقواطع تَنْفِي التجسيم وَالْمَكَان والتشبيه مفصحا بِكَوْن الْحق تَعَالَى لم يسْتَقرّ فِي مَكَان وَلم يتَغَيَّر عَمَّا عَلَيْهِ كَانَ جَامعا بَين فصاحة الْعبارَة وبلاغة الِاسْتِعَارَة وحلاوة نظم الدّرّ فِي سلك معارف الْأَنْوَار وطلاوة تناسب الفواصل فِي سلك محَاسِن الْأَسْرَار وَمن جملَة تِلْكَ الْكَلِمَات الأنيقة والعبارات الرائقة الفائقة الرشيقة نُودي فِي معاقل الْآفَاق وفجاج الأكوان ومعالم المصنوعات أَن سُلْطَان الصِّفَات الْقَدِيمَة وَملك النعوت الْعَظِيمَة يُرِيد أَن يمر على مسالك العوالم ويعدو فِي مشَاهد الشواهد فحدقوا عيونكم وصفوا سرائركم وقيدوا أفكاركم وغضوا أبصاركم واحضروا بلاغتكم وفكوا مناطقكم وألسنتكم فتروا من جنان الْعِزَّة سناء بارقا مجللا بالهيبة مظللا بالعظمة متوجا بالجمال مكللا بالكمال آخِذا بنواصي الْأَنْوَار قاهر الْمعَانِي الْأَسْرَار فتجلى فِي حلل لطفه وتلطفه ودنا بِقُرْبِهِ وتعرفه لَهُ مطالع ومشارق ولوامح وبوارق وشواهد ومناطق ومعارف وحقائق وعوارف ومناشق تجلوا مطالعه الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى وتسفر مشارقه وسع كرسيه السَّمَوَات وَالْأَرْض وتوضح لوامحه يَدَاهُ مبسوطتان وَتكشف بوارقه وَهُوَ مَعكُمْ وتبدي شواهده وَالسَّمَوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ وتفصح مناطقه وَالله من ورائهم مُحِيط وتنادي معارفه وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير وتنطق حقائقه لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير وَتشهد عوارفه لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار وتتأرج مناشقه قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ فظهرت بَدَائِع صنائع الْقدَم فِي أحسن صُورَة من بهجة الْكَمَال البارز من حَرِيم الْعِزَّة عَلَيْهَا ملابس الْجمال غرائب الْعَجَائِب وَطَاف بِهِ طائف من رَبك فِي طرائق الملكوت ومصنوعات المصنوعات ومكنون الكائنات فَوَقع الْكل فِي مهاوي البهتة وتاهوا فِي مهامه الدهشة وَإِذا النداء من حَضْرَة الْقُدس أَلَسْت بربكم قَالُوا بِلِسَان الذل والخضوع فِي مقَام الْإِقْرَار بوحدانية الإلهية بلَى وأشهدهم على أنفسهم بِقِيَام الْحجَّة يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم فتبع الْخَلَائق ذَلِك البارق وسلكوا نَحوه طرائق فاقتفى قوم آثاره فَلم يستضيئوا هدى من علمه وَلَا آثاره بل حكمُوا الْعُقُول ومقايسها وَاتبعُوا الأهوية وأبالسها فَمنهمْ طَائِفَة ضلوا فِي تيه التمويه ووقعوا فِي التجسيم والتشبيه فَأُولَئِك الَّذين أهلكهم الشَّقَاء حِين ابتلى أخيارهم وَأُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أَبْصَارهم وَمِنْهُم فرقة حاروا فِي أضاليل التعطيل وَمِنْهُم عِصَابَة هَلَكُوا بأباطيل الْحُلُول فأغرقوا فأدخلوا نَارا فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا ومنادي التَّوْحِيد والتنزيه يُنَادي فِي صفحات الْوُجُود أَن سُلْطَان الصّفة الْقَدِيمَة وَملك النعوت القويمة إِلَى الْآن فِي مقرّ الْعِزّ والجلال ومظل الْقُدْرَة والكمال مَا انْتقل إِلَى مَكَان وَلم يتَغَيَّر عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ كَانَ محتجبا بِجلَال عزته فِي تعالي كبريائه وعظمته فأحجم الْعَرْش من خوف الْبَطْش إِذْ جعل محلا للافتراء ومجالا للامتراء وَصَاح بِلِسَان الرهبة من الْبعد بأرباب الْغَيْبَة عَن الرشاد أَنِّي مُنْذُ خلقت فِي دهشة الوله ووحشه التحير حَتَّى لمع لي من جناب الْأَزَل بارق الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى فَلَمَّا صوبت إِلَى نَفسِي نَظَرِي وَقع حَده على(1/228)
جرم السَّمَاء فانطبع فِيهِ رقم ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فبهت فِيهِ نَظَرِي وشخص إِلَيْهَا بَصرِي فطمحت إشراقات أنواره إِلَى عَالم الثرى فانتقش فِي طي مكنوناته مَكْتُوب واسجد واقترب فأنارت بذلك ظلمتي واطمأنت لذَلِك فكرتي وَقربت زفرتي وَلَا أسمع إِلَّا الْأَخْبَار وَلَا أشهد غير الْآثَار وَاتبع قوم سَبِيل الرشاد فِي إشراق أنواره ونصبوا الشَّرْع أمامهم وافتدوا بعساكر التَّوْفِيق جندا جندا وسارت ركائب التأييد وَفْدًا وَفْدًا وشموس الْهِدَايَة تسري مَعَهم وعيون الْعِنَايَة ترعى مرتعهم وتجمعهم فأوصلهم الصدْق فِي اتِّبَاع الْحق إِلَى مسالك التَّوْحِيد ومعافل التَّحْمِيد وعلت بهم الرتب عَن مقَام الريب انْتهى الْغَرَض مِنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ بَحر لَيْسَ لَهُ سَاحل وتيه لَا يهتدى فِيهِ إِلَّا كَامِل (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ عَن معنى قَول أبي يزِيد خضت بحرا وقف الْأَنْبِيَاء بساحله (فاجاب) بقوله هَذَا القَوْل لم يَصح عَنهُ وان صَحَّ فَقَوله جَمِيع مَا أعْطى الْأَوْلِيَاء مِمَّا أعْطى الْأَنْبِيَاء كزق ملئ عسلا فرشحت مِنْهُ رشحات فَتلك الرشحات هِيَ مَا أعْطى الْأَوْلِيَاء وَمَا فِي بَاطِن الزق هُوَ مَا أعْطى الْأَنْبِيَاء يُوجب إِن لم يكن صدر مِنْهُ فِي حَال السكر صرف ذَلِك القَوْل عَن ظَاهره ويعين تَأْوِيله بِمَا يَلِيق بجلالة الْأَنْبِيَاء بِأَن يُقَال وقفُوا بساحله ليعبروا فِيهِ من رَأَوْا فِيهِ أَهْلِيَّة العبور ويمنعوا من لم يرَوا فِيهِ أَهْلِيَّة العبور أَو ليدركوا من رَأَوْهُ أشرف على الْغَرق أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ نفع للْغَيْر كَمَا يقف الْأَفْضَل يشفع فِي دُخُول الْجنَّة وَيدخل الْمَفْضُول قَالَ بَعضهم أَو يُقَال وقوفهم وقُوف صُدُور لَا وقُوف وُرُود وعَلى كل حَال فَلَا يظنّ بِأبي يزِيد نفع الله بِهِ إِلَّا مَا يَلِيق بجلالة قدره وعلو مقَامه وَمَا علم مِنْهُ من تَعْظِيم الْأَنْبِيَاء وشرائعهم وَنِهَايَة الْأَدَب مَعَ جَمِيعهم (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ عَن الْخطاب الَّذِي يذكرهُ الْأَوْلِيَاء فَيَقُول أحدهم حَدثنِي قلبِي عَن رَبِّي وَيَقُول بَعضهم خاطبني رَبِّي بِكَذَا هَل ينْسب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَمَا حَقِيقَته وَهل يُسمى كلَاما أَو حَدِيثا وَمَا الْفرق بَين مَا سَمعه الْأَنْبِيَاء وَمَا سَمعه الْأَوْلِيَاء وَمَا على من جحد أَحدهمَا (فَأجَاب) بقوله فرق القطب الرباني الشَّيْخ عبد الْقَادِر الجيلاني نفع الله بِهِ بَين النُّبُوَّة وَالْولَايَة بِمَا حَاصله أَن النُّبُوَّة كَلَام الله الْوَاصِل للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الْملك وَالروح الْأمين وَالْولَايَة حَدِيث يلقى فِي قلب الْوَلِيّ على سَبِيل الإلهام المصحوب بسكينة توجب الطُّمَأْنِينَة وَالْقَبُول لَهُ من غير توقف وَلَا تلعثم ورد الأول كفر وَالثَّانِي نقص وَجَاء فَقِيه لأبي يزِيد مُعْتَرضًا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ علمك عَمَّن وَمن أَيْن فَقَالَ علمي من عَطاء الله وَعَن الله عز وَجل وَمن حَيْثُ قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمل بِمَا يعلم أورثه الله علم مَا لم يعلم وَقَالَ الْعلم علمَان علم ظَاهر وَعلم بَاطِن فالعلم الظَّاهِر حجَّة الله على خلقه وَالْعلم الْبَاطِن هُوَ الْعلم النافع فعلمك يَا فَقِيه نقل من لِسَان إِلَى لِسَان للتعلم لَا للْعَمَل وَعلمِي من علم الله عز وَجل إلهاما ألهمني من عِنْده فَقَالَ لَهُ الْفَقِيه علمي عَن الثِّقَات عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَن جِبْرِيل عَن الله فَقَالَ للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - علم عَن الله عز وَجل لم يطلع عَلَيْهِ جِبْرِيل وَلَا مِيكَائِيل عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام فَطلب مِنْهُ الْفَقِيه أَن يُوضح لَهُ علمه الَّذِي ذكره فَقَالَ يَا فَقِيه أعلمت أَن الله عز وَجل كلم مُوسَى تكليما وكلم مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - وَرَآهُ كفاحا وكلم الْأَنْبِيَاء وَحيا قَالَ بلَى قَالَ أما علمت أَن كَلَامه للصديقين والأولياء بإلهام مِنْهُ لَهُم وَألقى فَوَائده فِي قُلُوبهم وتأييده لَهُم ثمَّ أنطقهم بالحكمة ونفع بهم الْأمة وَمِمَّا يُؤَيّد مَا قَتله مَا ألهم الله عز وَجل أم مُوسَى أَن تقذفه فِي التابوت ثمَّ تلقيه فِي اليم وكما أفهم الْحَضَر فِي أَمر السَّفِينَة وَأمر الْغُلَام والحائط وَقَوله لمُوسَى وَمَا فعلته عَن أَمْرِي أَي إِنَّمَا هُوَ علم الله عز وَجل وَقَالَ تَعَالَى وعلمناه من لدنا علما أَي بِنَاء على مَا عَلَيْهِ الصُّوفِيَّة قاطبة أَنه ولي لَا نَبِي وكما ألهم يُوسُف - صلى الله عليه وسلم - فِي السجْن فَقَالَ ذلكما مِمَّا عَلمنِي رَبِّي أَي وَكَانَ ذَلِك قبل النُّبُوَّة وكما قَالَ أَبُو بكر لعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن بنت خَارِجَة حَامِل ببنت وَلم يكن استبان حملهَا فَولدت جَارِيَة وَمثل هَذَا كثير وَأهل الإلهام قوم اختصهم الله بالفوائد فضلا مِنْهُ عَلَيْهِم وَقد فضل الله بَعضهم على بعض فِي الإلهام والفراسة فَقَالَ الْفَقِيه قد أَعْطَيْتنِي أصلا وشفيت صَدْرِي وَمِمَّا يُؤَيّد مَا رَوَاهُ الصُّوفِيَّة من أَن الإلهام حجَّة أَي فِيمَا لَا مُخَالفَة فِيهِ لحكم شَرْعِي مَا صَحَّ من قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي الحَدِيث الْقُدسِي فَإِذا أحببته كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ الحَدِيث وَفِي رِوَايَة فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق وَفِي أُخْرَى وَكنت لَهُ سمعا(1/229)
وبصرا ويدا ومؤيدا وَالْحَاصِل أَن الْعلمَاء بِاللَّه عز وَجل هم الواقفون مَعَ الله فِي الْعُلُوم والأعمال والمقامات وَالْأَحْوَال والأقوال وَالْأَفْعَال وَسَائِر الحركات والسكنات والإرادات والخطرات ومعادن الْأَسْرَار ومطالع الْأَنْوَار والعارفون المحبون المحبوبون المقربون رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم ونفع بهم إِذا تقرر ذَلِك علم مِنْهُ الْجَواب عَن جَمِيع مَا فِي السُّؤَال وَهُوَ الْفرق بَين خطاب النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وخطاب الْوَلِيّ فَالْأول بِوَاسِطَة الْملك أَو لَا بِوَاسِطَة أَو بالرؤيا الصادقة أَو بالنفث فِي الروع وكل ذَلِك يُسمى وَحيا وكلاما ينْسب إِلَى الله حَقِيقَة وَمن أنكر مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ كفر وَالثَّانِي شَيْء يلقى فِي الْقلب يثلج لَهُ الصَّدْر وَهُوَ الْمُسَمّى حَدِيثا وإلهاما لقَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي الحَدِيث أَن فِي أمتِي 2 محدثون بِفَتْح الدَّال ملهمون وَمِنْهُم عمر وَاخْتلف الْعلمَاء فِي حجية الإلهام بقيده السَّابِق فالأرجح عِنْد الْفُقَهَاء أَنه لَيْسَ بِحجَّة إِذْ لَا ثِقَة بخواطر غير الْمَعْصُوم وَعند الصُّوفِيَّة أَنه حجَّة مِمَّن حفظه الله فِي سَائِر أَعماله الظَّاهِرَة والباطنة والأولياء وَإِن لم يكن لَهُم الْعِصْمَة لجَوَاز وُقُوع الذَّنب مِنْهُم وَلَا يُنَافِيهِ الْولَايَة وَمن ثمَّ قيل للجنيد أيزني الْوَلِيّ فَقَالَ وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا لَكِن لَهُم الْحِفْظ فَلَا تقع مِنْهُم كَبِيرَة وَلَا صَغِيرَة غَالِبا وعَلى القَوْل بحجته فَهُوَ ينْسب إِلَى الله تَعَالَى بِمَعْنى أَنه الْملقى لَهُ فِي الْقلب كَرَامَة لذَلِك الْوَلِيّ وإنعاما عَلَيْهِ بِمَا يكون سَببا لمزيد لَهُ أَو صَلَاح لغيره (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ مَا عدَّة رجال الْغَيْب وَمَا الدَّلِيل على وجودهم (فَأجَاب) بقوله رجال الْغَيْب سموا بذلك لعدم معرفَة أَكثر النَّاس لَهُم رَأْسهمْ قطب الْغَوْث الْفَرد الْجَامِع جعله الله دائرا فِي الْآفَاق الْأَرْبَعَة أَرْكَان الدُّنْيَا كدوران الْفلك فِي أفق السَّمَاء وَقد ستر الله أَحْوَاله عَن الْخَاصَّة والعامة غيرَة عَلَيْهِ غير أَنه يرى عَالما كجاهل وأبله كفطن وتاركا آخِذا قَرِيبا بَعيدا سهلا عسرا أمنا حذرا ومكانته من الْأَوْلِيَاء كالنقطة من الدائرة الَّتِي هِيَ مركزها بِهِ يَقع صَلَاح الْعَالم والأوتاد وهم أَرْبَعَة لَا يطلع عَلَيْهِم إِلَّا الْخَاصَّة وَاحِد بِالْيمن وَوَاحِد بِالشَّام وَوَاحِد بالمشرق وَوَاحِد بالمغرب والأبدال وهم سَبْعَة على الْأَصَح وَقيل ثَلَاثُونَ وَقيل أَرْبَعَة عشر كَذَا قَالَه اليافعي وَسَيَأْتِي حَدِيث أَنهم أَرْبَعُونَ وَحَدِيث أَنهم ثَلَاثُونَ وكل مِنْهُمَا يُعَكر على قَوْله وَالأَصَح أَنهم سَبْعَة والنقباء وهم أَرْبَعُونَ والنجباء وهم ثلثمِائة فَإِذا مَاتَ القطب أبدل بِخِيَار الْأَرْبَعَة أَو أحد الْأَرْبَعَة أبدل بِخِيَار السَّبْعَة أَو أحد السَّبْعَة أبدل بِخِيَار الْأَرْبَعين أَو أحد الْأَرْبَعين أبدل بِخِيَار الثلاثمائة أَو أحد الثلمائة أبدل بِخَير الصَّالِحين فَإِذا أَرَادَ الله قيام السَّاعَة أماتهم أَجْمَعِينَ وَذَلِكَ أَن الله يدْفع عَن عباده الْبلَاء بهم وَينزل بهم قطر السَّمَاء وروى بَعضهم عَن الْخضر أَنه قَالَ ثلثمِائة هم الْأَوْلِيَاء وَسَبْعُونَ هم النجباء وَأَرْبَعُونَ هم أوتاد الأَرْض وَعشرَة هم النُّقَبَاء وَسَبْعَة هم العرفاء وَثَلَاثَة هم المختارون وَوَاحِد هُوَ الْغَوْث وَجَاء عَن على كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الأبدال بِالشَّام والنجباء بِمصْر والعصائب بالعراق والنقباء بخراسان والأوتاد بِسَائِر الأَرْض وَالْخضر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام سيد الْقَوْم وَفِي حَدِيث الإِمَام الرَّافِعِيّ أَنه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِن الله فِي الأَرْض ثلثمِائة قُلُوبهم على قلب آدم وَله أَرْبَعُونَ قُلُوبهم على قلب مُوسَى وَله سَبْعَة قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم وَله خَمْسَة قُلُوبهم على قلب جِبْرِيل وَله ثَلَاثَة قُلُوبهم على قلب مِيكَائِيل وَوَاحِد قلبه على قلب إسْرَافيل فَإِذا مَاتَ الْوَاحِد أبدل الله مَكَانَهُ من الثَّلَاثَة وَإِذا مَاتَ من الثَّلَاثَة أبدل الله مَكَانَهُ من الْخَمْسَة وَإِذا مَاتَ من الْخَمْسَة أبدل الله مَكَانَهُ من السَّبْعَة وَإِذا مَاتَ من السَّبْعَة أبدل الله مَكَانَهُ من الْأَرْبَعين وَإِذا مَاتَ من الْأَرْبَعين أبدل الله مَكَانَهُ من الثلاثمائة وَإِذا مَاتَ من الثلثمائة أبدل الله مَكَانَهُ من الْعَامَّة يدْفع الله بهم الْبلَاء عَن هَذِه الْأمة قَالَ اليافعي رَضِي الله عَنهُ قَالَ بعض العارفين وَالْوَاحد الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ القطب وَهُوَ الْغَوْث قَالَ بَعضهم لم يذكر رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قلبه فِي جملَة الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة لِأَنَّهُ لم يخلق الله فِي عَالم الْخلق وَالْأَمر أعز وألطف وأشرف من قلبه - صلى الله عليه وسلم - فقلوب الْمَلَائِكَة والأنبياء والأولياء بِالْإِضَافَة إِلَى قلبه كإضافة سَائِر الْكَوَاكِب إِلَى الشَّمْس وَلَقَد سَمِعت النَّجْم الْأَصْبَهَانِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ خلف مقَام إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صلى الله عليه وسلم - يذكر أَن الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَهُ الله عز وَجل أَن يقبضهُ عِنْدَمَا يرفع الْقُرْآن وَالظَّاهِر وَالله أعلم أَن القطب سَائِر الْأَوْلِيَاء الْمَعْدُودين وَغَيرهم من الْمَوْجُودين فِي ذَلِك الْوَقْت يطْلبُونَ الْمَوْت أَيْضا حِينَئِذٍ إِذْ لَيْسَ بعد رفع الْقُرْآن(1/230)
تطيب الْحَيَاة لأهل الْخَيْر بل لَا يبْقى فِي الأَرْض خير وَمَا ذكرته من حَيَاة الْخضر هُوَ الَّذِي قطع بِهِ الْأَوْلِيَاء وَرجحه الْفُقَهَاء والأصوليون وَأكْثر الْمُحدثين وَقد اجْتمع بِهِ وَأخْبر عَنهُ من لَا يُحْصى من الصديقين والأولياء فِي كل زمَان بل وَالله لقد أخبروني أَنه اجْتمع بِي وسألني عَن شَيْء فأجبته وَلم أعرفهُ لِأَنَّهُ لم يعرفهُ إِلَّا صَاحب استعداد مِمَّن شَاءَ الله ومبالغة ابْن الْجَوْزِيّ فِي إِنْكَار حَيَاته علو مِنْهُ إِذْ هُوَ إِنْكَار للشمس وَلَيْسَ دونهَا حجاب بل كَلَامه فِيهِ متناقص لِأَنَّهُ روى فِي حَيَاته أَربع رِوَايَات بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَة عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُم وَكَذَلِكَ إِنْكَاره على أكَابِر من الصُّوفِيَّة أَشْيَاء صدرت عَن أَحْوَال لَا يعرفهَا وعلوم لَا يُدْرِكهَا وَلَا يفهمها وَالْعجب مِنْهُ أَنه يحْكى عَنْهُم كَلِمَات عَظِيمَة عَجِيبَة يطرز بهَا كَلَامه ثمَّ ينكرها عَلَيْهِم فِي مَوضِع آخر انْتهى كَلَام اليافعي مُلَخصا والْحَدِيث الَّذِي ذكره إِن صَحَّ فِيهِ فَوَائِد خُفْيَة مِنْهَا أَنه مُخَالف للعدد السَّابِق قبله وَقد يُجَاب بِأَن تِلْكَ الْأَعْدَاد اصْطِلَاح بِدَلِيل وُقُوع الْخلاف فِي بَعضهم كالأبدال فقد يكونُونَ فِي ذَلِك الْعدَد نظرُوا إِلَى مَرَاتِب عبروا عَنْهَا بالأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد وَغير ذَلِك مِمَّا مر والْحَدِيث نظر إِلَى مَرَاتِب أُخْرَى وَالْكل متفقون على وجود تِلْكَ الْأَعْدَاد وَمِنْهَا أَنه يقتضى أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْأَنْبِيَاء وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام أهل السّنة وَالْجَمَاعَة إِلَّا من شَذَّ مِنْهُم أَن الْأَنْبِيَاء أفضل من جَمِيع الْمَلَائِكَة وَمِنْهَا أَنه يَقْتَضِي أَن مِيكَائِيل أفضل من جِبْرَائِيل وَالْمَشْهُور خِلَافه وَأَن إسْرَافيل أفضل مِنْهُمَا وَهُوَ كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ لميكائيل وَأما بِالنِّسْبَةِ لجبريل فَفِيهِ خلاف والأدلة فِيهِ متكافئة فَقيل جِبْرِيل أفضل لِأَنَّهُ صَاحب سر الْمَخْصُوص بالرسالة إِلَى الْأَنْبِيَاء وَالرسل والقائم بخدمتهم وتربيتهم وَقيل إسْرَافيل لِأَنَّهُ صَاحب سر الْخَلَائق أَجْمَعِينَ إِذْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ فِي جَبهته لَا يطلع عَلَيْهِ غَيره وَجِبْرِيل وَغَيره إِنَّمَا يتلقون مَا فِيهِ عَنهُ وَهُوَ صَاحب الصُّور الْقَائِم ملتقما لَهُ ينْتَظر السَّاعَة وَالْأَمر بِهِ لينفخ فِيهِ فَيَمُوت كل شَيْء إِلَّا من اسْتثْنى الله ثمَّ بعد أَرْبَعِينَ سنة يُؤمر بالنفخ فيحيون ثمَّ يبعثون وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث لم أر من خرجه من حفاظ الْمُحدثين الَّذين يعْتَمد عَلَيْهِم لَكِن وَردت أَحَادِيث تؤيد كثيرا مِمَّا فِيهِ مِنْهَا حَدِيث أبي نعيم فِي الْحِلْية خِيَار أمتِي كل قرن خَمْسمِائَة والأبدال أَرْبَعُونَ فَلَا الْخَمْسمِائَةِ ينقصُونَ وَلَا الأبدال كلما مَاتَ مِنْهُم رجل أبدل الله من الْخَمْسمِائَةِ مَكَانَهُ وَأدْخلهُ فِي الْأَرْبَعين مَكَانَهُ يعفون عَمَّن ظلمهم ويحسنون لمن أَسَاءَ إِلَيْهِم ويتسامتون فِيمَا آتَاهُم الله وهم فِي الأَرْض كلهَا وَمِنْهَا حَدِيث أَحْمد الأبدال فِي هَذِه الْأمة ثَلَاثُونَ رجلا قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ رجلا وَلَا تخَالف بَين الْحَدِيثين فِي عدد الأبدال لِأَن الْبَدَل لَهُ إطلاقان كَمَا يعلم من الْأَحَادِيث الْآتِيَة فِي تخَالف علاماتهم وصفاتهم أَو أَنهم قد يكونُونَ فِي زمَان أَرْبَعِينَ وَفِي آخر ثَلَاثِينَ لَكِن يُعَكر على هَذَا رِوَايَة وَلَا الْأَرْبَعُونَ كلما مَاتَ رجل الخ وَالرِّوَايَة الْآتِيَة وهم أَرْبَعُونَ رجلا كلما مَاتَ الخ وَمِنْهَا حَدِيث الطَّبَرَانِيّ أَن الأبدال فِي أمتِي ثَلَاثُونَ بهم تقوم الأَرْض وبهم يمطرون وبهم ينْصرُونَ وَحَدِيث ابْن عَسَاكِر أَن الأبدال بِالشَّام يكونُونَ وهم أَرْبَعُونَ رجلا بهم تسقون الْغَيْث وبهم تنْصرُونَ على أعدائكم يصرف بهم عَن أهل الأَرْض الْبلَاء وَالْغَرق وَمِنْهَا حَدِيث الطَّبَرَانِيّ الأبدال فِي أهل الشَّام وبهم تنْصرُونَ وبهم ترزقون وَمِنْهَا حَدِيث أَحْمد الأبدال بِالشَّام وهم أَرْبَعُونَ رجلا كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ رجلا تسقون بهم الْغَيْث وتنصرون بهم على الْأَعْدَاء وَيصرف عَن أهل الشَّام بهم الْعَذَاب وَمِنْهَا حَدِيث الْجلَال الَّذِي رَوَاهُ فِي كرامات الْأَوْلِيَاء وَرَوَاهُ الديلمي أَيْضا الأبدال أَرْبَعُونَ رجلا وَأَرْبَعُونَ امْرَأَة كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ رجلا كلما مَاتَ امْرَأَة بدل الله مَكَانهَا امْرَأَة وَمِنْهَا خبر الْحَاكِم عَن عَطاء مُرْسلا الأبدال من الموَالِي وَمِنْهَا خبر ابْن أبي الدُّنْيَا مُرْسلا عَلامَة أبدال أمتِي أَنهم لَا يلعنون شيأ أبدا وَرَفعه معضل وَمِنْهَا خبر ابْن حبَان لَا تخلوا الأَرْض من ثَلَاثِينَ وَثَمَانِينَ مثل إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن بهم تغاثون وبهم ترزقون وبهم تمطرون وَمِنْهَا خبر الْبَيْهَقِيّ أَن أبدال أمتِي لم يدخلُوا الْجنَّة بأعمالهم وَلَكِن إِنَّمَا دخلوها برحمة الله وسخاوة الْأَنْفس وسلامة الصَّدْر وَرَحْمَة لجَمِيع الْمُسلمين وَمِنْهَا خبر الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط لن تَخْلُو الأَرْض من أَرْبَعِينَ رجلا مثل خَلِيل الرَّحْمَن بهم تسقون وبهم تنْصرُونَ مَا مَاتَ مِنْهُم أحد إِلَّا أبدل الله(1/231)
مَكَانَهُ آخر وَمِنْهَا خبر ابْن عدي فِي كَامِله البدلاء أَرْبَعُونَ اثْنَان وَعِشْرُونَ بِالشَّام وَثَمَانِية عشر بالعراق كلما مَاتَ مِنْهُم أحد أبدل الله مَكَانَهُ آخر فَإِذا جَاءَ الْأَمر قبضوا كلهم فَعِنْدَ ذَلِك تقوم السَّاعَة وَمِنْهَا خبر أبي نعيم فِي الْحِلْية أَيْضا لَا يزَال الْأَرْبَعُونَ رجلا من أمتِي قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم يدْفع بهم عَن أهل الأَرْض يُقَال لَهُم الأبدال أَنهم لم يدركوها بِصَلَاة وَلَا بِصَوْم وَلَا بِصَدقَة قَالَ ابْن مَسْعُود رَاوِيه فَبِمَ أدركوها يَا رَسُول الله قَالَ بالسخاء والنصيحة للْمُسلمين وَمِمَّا جَاءَ فِي القطب كَمَا قَالَ بعض الْمُحدثين خبر أبي نعيم فِي الْحِلْية أَن لله تَعَالَى فِي كل بِدعَة كيد بهَا الْإِسْلَام وَأَهله وليا صَالحا يذب عَنهُ وَيتَكَلَّم بعلاماته فاغتنموا حصور تِلْكَ الْمجَالِس بالذب عَن الضُّعَفَاء وتوكلوا على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا وَمِمَّا جَاءَ فِي جَمِيع من ذكر وَغَيرهم حَدِيث التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم وَأبي نعيم فِي كل قرن من أمتِي سَابِقُونَ وَحَدِيث أبي نعيم لكل قرن من أمتِي سَابِقُونَ والْحَدِيث الْمَشْهُور يبْعَث لهَذِهِ الْأمة على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا أَمر دينهَا والْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيرهمَا من طرق كَثِيرَة لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم ظاهرون وَفِي رِوَايَة لَهما لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي قَائِمَة على الْحق لَا يضرهم من خذلهم وَلَا من خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم ظاهرون على النَّاس وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَاجَه لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي قَائِمَة على الْحق قَوَّامَة على أَمر الله لَا يَضرهَا من خالفها وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَاجَه لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي 3 منصورون لَا يضرهم خذلان من خذلهم حَتَّى تقوم السَّاعَة وَفِي أُخْرَى لمُسلم وَأحمد لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي يُقَاتلُون على الْحق ظَاهِرين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَينزل عِيسَى بن مَرْيَم فَيَقُول أَمِيرهمْ تَعَالَى صل بِنَا فَيَقُول لَا إِن بَعْضكُم على بعض أَمِير تكرمة من الله لهَذِهِ الْأمة (تَنْبِيه) قَالَ يزِيد بن هرون الأبدال هم أهل الْعلم أَي النافع الَّذِي هُوَ علم الظَّاهِر وَالْبَاطِن لَا علم الظَّاهِر وَحده وَقَالَ الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ هم إِن لم يَكُونُوا أَصْحَاب الحَدِيث فَمن هم وَمرَاده بأصحاب الحَدِيث من هُوَ مثله مِمَّن جمع بَين علمي الظَّاهِر وَالْبَاطِن وأحاط بِالْأَحْكَامِ وَالْحكم والمعارف والمكامن كالأئمة الثَّلَاثَة الشَّافِعِي وَمَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد ونظرائهم فَإِن هَؤُلَاءِ أخيار الأبدال والنجباء والأوتاد فاحذر أَن تسئ ظَنك بِأحد من مثل أُولَئِكَ ويسوّل لَك الشَّيْطَان وَمن استولى عَلَيْهِ مِمَّن لم يهتد بِنور الْعلم أَن أَئِمَّة الْفُقَهَاء والمجتهدين لم يبلغُوا تِلْكَ الْمَرَاتِب وَقد اتَّفقُوا على أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ كَانَ من الْأَوْتَاد وَفِي رِوَايَة أَنه تقطب قبل مَوته وَكَذَلِكَ جَاءَ هَذَا عَن بعض تابعيه من الْفُقَهَاء كَالْإِمَامِ النَّوَوِيّ وَغَيره وروى الْخَطِيب فِي تَارِيخ بَغْدَاد عَن الْكِنَانِي أَنه قَالَ النُّقَبَاء ثلثمِائة والنجباء سَبْعُونَ والبدلاء أَرْبَعُونَ والأخيار سَبْعَة والعمد أَربع والغوث وَاحِد فمسكن النُّقَبَاء الْمغرب ومسكن النجباء بِمصْر ومسكن الأبدال الشَّام والأخيار سياحون فِي الأَرْض والعمد زوايات الأَرْض ومسكن الْغَوْث مَكَّة فَإِذا عرضت الْحَاجة من أَمر الْعَامَّة ابتهل فِيهَا النُّقَبَاء ثمَّ النجباء ثمَّ الأبدال ثمَّ الأخيار ثمَّ الْعمد فَإِن أجِيبُوا وَإِلَّا ابتهل الْغَوْث فَلَا يتم مسئلته حَتَّى تجاب دَعوته انْتهى وَفِيه تأييد لبَعض مَا مر وَمُخَالفَة لَهُ وَذَلِكَ كُله يبين أَن تِلْكَ الْأَعْدَاد ترجع إِلَى الاصطلاحات وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح وَلَقَد وَقع لي فِي هَذَا المبحث غَرِيبَة مَعَ بعض مشايخي هِيَ أَنِّي إِنَّمَا ربيت فِي حجور بعض أهل هَذِه الطَّائِفَة أَعنِي الْقَوْم السالمين من الْمَحْذُور واللوم فوقر عِنْدِي كَلَامهم لِأَنَّهُ صَادف قلبا خَالِيا فَتمكن فَلَمَّا قَرَأت فِي الْعُلُوم الظَّاهِرَة وسنى نَحْو أَربع عشرَة سنة فَقَرَأت مُخْتَصر أبي شُجَاع عَليّ شَيخنَا أبي عبد الله الإِمَام الْمجمع على بركته وتنسكه وَعلمه الشَّيْخ مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ بالجامع الْأَزْهَر بِمصْر المحروسة فلازمته مُدَّة وَكَانَ عِنْده حِدة فانجر الْكَلَام فِي مَجْلِسه يَوْمًا إِلَى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال وَغَيرهم مِمَّن مر فبادر الشَّيْخ إِلَى إِنْكَار ذَلِك بغلظة وَقَالَ هَذَا كُله لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقلت لَهُ وَكنت أَصْغَر الْحَاضِرين معَاذ الله بل هَذَا صدق وَحقّ لَا مرية فِيهِ لِأَن أَوْلِيَاء الله أخبروا بِهِ وحاشاهم من الْكَذِب وَمِمَّنْ نقل ذَلِك الإِمَام اليافعي وَهُوَ رجل جمع بَين الْعُلُوم الظَّاهِرَة والباطنة فَزَاد إِنْكَار الشَّيْخ وإغلاظه عليّ فَلم يسعني إِلَّا السُّكُوت فَسكت وأضمرت أَنه لَا ينصرني إِلَّا شَيخنَا شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وَإِمَام الْفُقَهَاء والعارفين أَبُو يحيى زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ وَكَانَ من عادتي أَنِّي أَقُود الشَّيْخ مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ لِأَنَّهُ كَانَ ضريرا وأذهب أَنا وَهُوَ إِلَى شَيخنَا الْمَذْكُور أَعنِي شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا يسلم عَلَيْهِ(1/232)
فَذَهَبت أَنا وَالشَّيْخ مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ إِلَى شيخ الْإِسْلَام فَلَمَّا قربنا من مَحَله قلت للشَّيْخ الْجُوَيْنِيّ لَا بَأْس أَن أذكر لشيخ الْإِسْلَام مسئلة القطب وَمن دونه وَنَنْظُر مَا عِنْده فِيهَا فَلَمَّا وصلنا إِلَيْهِ أقبل على الشَّيْخ الْجُوَيْنِيّ وَبَالغ فِي إكرامه وسؤال الدُّعَاء مِنْهُ ثمَّ دَعَا إِلَيّ بدعوات مِنْهَا اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَكَانَ كثيرا مَا يَدْعُو لي بذلك فَلَمَّا تمّ كَلَام الشَّيْخ وَأَرَادَ الْجُوَيْنِيّ الِانْصِرَاف قلت لشيخ الْإِسْلَام يَا سَيِّدي القطب والأوتاد والنجباء والأبدال وَغَيرهم مِمَّن يذكرهُ الصُّوفِيَّة هَل هم موجودون حَقِيقَة فَقَالَ نعم وَالله يَا وَلَدي فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي إِن الشَّيْخ وأشرت إِلَى الشَّيْخ الْجُوَيْنِيّ يُنكر ذَلِك ويبالغ فِي الرَّد على من ذكره فَقَالَ شيخ الْإِسْلَام هَكَذَا يَا شيخ مُحَمَّد وَكرر ذَلِك عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ الشَّيْخ مُحَمَّد يَا مَوْلَانَا شيخ الْإِسْلَام آمَنت بذلك وصدقت بِهِ وَقد تبت فَقَالَ هَذَا هُوَ الظَّن بك يَا شيخ مُحَمَّد قمنا وَلم يعاتبني الْجُوَيْنِيّ على مَا صدر مني وَنَظِير هَذِه الْوَاقِعَة من بعض وَجههَا مَا وَقع لي وعمري نَحْو ثَمَانِيَة عشر سنة مَعَ بعض مَشَايِخنَا أَيْضا وَهُوَ شيخ الْإِسْلَام الشَّمْس الدلجى وَكَانَ أعْطى فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والعقلية من متانة التصنيف وَقُوَّة السبك مَا لم يُعْطه أحد من أهل زَمَانه كُنَّا نَقْرَأ عَلَيْهِ ذَات يَوْم فِي شرح التَّلْخِيص للسعد التَّفْتَازَانِيّ وَفِي كتاب صنفه الشَّيْخ فِي أصُول الدّين فَوَقع ذكر الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى عمر بن الفارض رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الْمجْلس فبادر الشَّيْخ وَقَالَ قَاتله الله مَا أكفره كَيفَ وَكَلَامه ينْطق بالحلول والاتحاد وَأما شعره فَفِي الذورة الْعليا فَقلت لَهُ من بَين الْحَاضِرين حاشاه الله من الْكفْر وَمن الْحُلُول والاتحاد فَأَغْلَظ الشَّيْخ فِي الْإِنْكَار عَليّ وَعَلِيهِ فأغلظت فِي جَوَابه وَكَانَ بالشيخ مرض بِضيق النَّفس وَكَانَ قد أخبرنَا أَن لَهُ مُدَّة مديدة لَا يقدر على وضع جنبه على الأَرْض لَيْلًا وَلَا نَهَارا فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي أَنا ألتزم لَك إِنَّك إِن رجعت عَن إنكارك على الشَّيْخ عمر بن الفارض وَابْن عَرَبِيّ وتابعيهما بَرِئت من هَذَا الدَّاء العضال فَقَالَ هَذَا لَا يَصح فَقلت صدقُوا قولي بِالرُّجُوعِ عَن ذَلِك مُدَّة يسيرَة فَإِن ذهب وَإِلَّا فَأنْتم تعرفُون مَا ترجعون إِلَيْهِ فَقَالَ يُمكن أَن نجرب ثمَّ أظهر لنا الرُّجُوع وَالتَّوْبَة فانصلح حَاله وخف مَرضه مُدَّة مديدة وَكنت أَقُول لَهُ يَا سَيِّدي صحت ضمانتي فيضحك وَيُعْجِبهُ ذَلِك وَفِي تِلْكَ الْمدَّة مَا سمعنَا مِنْهُ عَن هَذِه الطَّائِفَة إِلَّا خيرا ثمَّ عَاد فَعَاد لَهُ بعد ذَلِك الْمَرَض بأشد مَا كَانَ وَأتبعهُ فاذيق ألم ذَلِك الْمَرَض وَاسْتمرّ يشْتَد عَلَيْهِ بعد ذَلِك نَحْو عشْرين سنة حَتَّى مَاتَ وَهُوَ على حَاله (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ مَا حد التصوف والصوفي وَلم سمي بذلك وَمَتى حدثت هَذِه التَّسْمِيَة وَمَا الْفرق بَين الصُّوفِي وَغَيره من الْفرق المنتمية للصوفية وَمَا الْفرق بَين التصوف والفقر والزهد وَبَين الصُّوفِي والمتصوف والمتشبه (فَأجَاب) بقوله اخْتلفت عبارَة العارفين فِي حَده على أَكثر من ألف قَول نظرا إِلَى شُرُوطه وآدابه وغاياته وثمراته فحده سيد الطَّائِفَة الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ بِأَن يكون مَعَ الله بِلَا علاقَة وَبِأَن يُمِيتك الْحق عَنْك ويحييك بِهِ وَبِأَنَّهُ ذكر مَعَ اجْتِمَاع وَوجد مَعَ اسْتِمَاع وَعمل مَعَ اتِّبَاع وَأَبُو مُحَمَّد رُوَيْم بِأَنَّهُ استرسال النَّفس مَعَ الله على مَا يُريدهُ وَأَبُو مَحْفُوظ مَعْرُوف الْكَرْخِي بِأَنَّهُ الْأَخْذ بالحقائق واليأس مِمَّا فِي أَيدي الْخَلَائق وَأَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي بِأَنَّهُ الإناخة على بَاب الحبيب وَإِن طرد وَأَبُو مُحَمَّد الحريري بِأَنَّهُ التحلي بِكُل خلق حسن سني والتخلي عَن كل خلق دنئ وَاخْتلفت عبارتهم فِي حد الصُّوفِي نظرا لذَلِك فحده الْجُنَيْد بِأَنَّهُ كالأرض يطْرَح عَلَيْهَا كل قَبِيح وَلَا يخرج مِنْهَا إِلَّا كل مليح وَكَانَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَليّ الدقاق شرح ذَلِك بقوله أحسن مَا قيل فِي هَذَا الْبَاب قَول من قَالَ هَذَا طَرِيق لَا يصلح إِلَّا لأقوام كنست بأرواحهم الْمَزَابِل وَأَبُو مُحَمَّد سهل بن عبد الله بِأَنَّهُ من صفا من الكدر وتسل عَن الْكفْر وَانْقطع إِلَى الله عَن الْبشر واستوى عِنْده الذَّهَب والمدر وَذُو النُّون بِأَنَّهُم قوم آثروا الله على كل شَيْء فآثرهم على كل شَيْء وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي الْمَنْسُوب إِلَيْهِ فَقيل نسب للصفة الَّتِي كَانَت بِمَسْجِد النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لفقراء الْمُهَاجِرين وَقيل إِلَى الصَّفّ الأول بَين يَدي الله عز وَجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله بقلوبهم وَقيل إِلَى الصُّوف لِأَنَّهُ لباسهم غَالِبا لكَونه أقرب إِلَى الخمول والتواضع والزهد ولكونه لِبَاس الْأَنْبِيَاء - صلى الله عليه وسلم - وَقد جَاءَ أَن نَبينَا - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يركب الْحمار ويلبس الصُّوف وَفِي حَدِيث مر بالصخرة من الروحاء سَبْعُونَ نَبيا حُفَاة عَلَيْهِم العباءة يؤمُّونَ الْبَيْت الْحَرَام وَفِي آخر يَوْم كلم الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ عَلَيْهِ جُبَّة من الصُّوف وَسَرَاويل(1/233)
من صوف وَكسَاء من صوف وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لقد أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا لباسهم الصُّوف قَالَ اليافعي وَهَذَا القَوْل الثَّالِث هُوَ الْمُنَاسب للاشتقاق اللّغَوِيّ أَعنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصُّوف وَقيل أصل هَذَا الِاسْم صوفي من الصَّفَا أَو من المصافاة وَبَين الْعَارِف الشهَاب السهروردي وَقت حُدُوث هَذَا الِاسْم فَقَالَ مَا حَاصله لم يكن هَذَا الِاسْم فِي زمن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ كَانَ فِي زمن التَّابِعين وَنقل عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ رَأَيْت صوفيا فِي المطاف فأعطيته شيأ فَقَالَ معي أَرْبَعَة دوانق تكفيني وَنَحْوه مَا جَاءَ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ لَوْلَا أَبُو هَاشم الصُّوفِي مَا عرفت دقائق الرِّيَاء وَقيل لم يعرف هَذَا الِاسْم إِلَى الْمِائَتَيْنِ من الْهِجْرَة لِأَن من رأى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَحَق باسم الصَّحَابِيّ لشرفه على كل وصف وَمن رأى الصَّحَابَة وَأخذ عَنْهُم الْعلم أَحَق باسم التَّابِعِيّ لذَلِك ثمَّ لما بعد عهد النُّبُوَّة وتوارى نورها وَاخْتلفت أَيْضا الآراء وكدر شرب الْعُلُوم شرب الأهوية وتزعزت أبنية الْمُتَّقِينَ واضطربت عزائم الزاهدين وغلبت الجهالات وكثف حجابها وَكَثُرت الْعَادَات وتملكت أَرْبَابهَا وتزخرفت الدُّنْيَا وَكثر خطابها تفرد طَائِفَة بأعمال صَالِحَة وأحوال سنية واغتنموا الْعُزْلَة وَاتَّخذُوا لنفوسهم زَوَايَا يَجْتَمعُونَ فِيهَا تَارَة وَيغْفر دون أُخْرَى أُسْوَة أهل الصّفة تاركين للأسباب مبتهلين إِلَى رب الأرباب فأثمر لَهُم صَالح الْأَعْمَال سني الْأَحْوَال وتهيأ صفاء الفهوم لقبُول الْعُلُوم وَصَارَ لَهُم بعد اللِّسَان لِسَان وَبعد الْعرْفَان عرفان وَبعد الْإِيمَان إِيمَان كَمَا قَالَ حَارِثَة أَصبَحت مُؤمنا حَقًا لما كوشف بمرتبة فِي الْإِيمَان غير مَا عهد فَصَارَ لَهُم بِمُقْتَضى ذَلِك عُلُوم يعرفونها وإشارات يعهدونها فحزر والنفوسهم اصْطِلَاحَات تُشِير إِلَى معارف يعرفونها وتعرب عَن أَحْوَال يجدونها فَأخذ ذَلِك الْخلف من السّلف حَتَّى صَار ذَلِك رسما مستمرا وَخيرا مُسْتَقرًّا فِي كل عصر وزمان فَظهر هَذَا الِاسْم بَينهم وتسموا بِهِ فالاسم سمتهم وَالْعلم بِاللَّه صفتهمْ وَالْعِبَادَة حليتهم وَالتَّقوى شعارهم وحقائق الْحَقِيقَة أسرارهم انْتهى وَسَبقه الْقشيرِي فِي رسَالَته إِلَى أَكثر من ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ مَا حَاصله اعلموا أَن الْمُسلمين بعد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتسم أفاضلهم فِي عصرهم بِتَسْمِيَة علم سوى الصَّحَابَة إِذْ لَا أَفضَلِيَّة فَوْقهَا ثمَّ سمى من أدركهم التَّابِعين ثمَّ من أدركهم تَابِعِيّ التَّابِعين ثمَّ تباينت الْمَرَاتِب فَقيل لخواص النَّاس من لَهُم شدَّة عناية بِأَمْر الدّين الزهاد والعباد ثمَّ ظَهرت الْبدع وَحصل التداعي من الْفرق فَكل فريق ادعوا أَن فيهم زهدا فَانْفَرد خَواص أهل السّنة المراعون أنفاسهم مَعَ الله تَعَالَى الحافظون قُلُوبهم عَن طوارق الْغَفْلَة باسم التصوف واشتهر هَذَا الِاسْم لهَؤُلَاء الأكابر قبل الْمِائَتَيْنِ من الْهِجْرَة انْتهى قَالَ الإِمَام الشهَاب السهروردي وَمِمَّنْ انْتَمَى إِلَى الصُّوفِيَّة وَلَيْسَ مِنْهُم قوم يسمون أنفسهم قلندرية تَارَة وملامتية أُخْرَى قَالَ وَقد ذكرنَا حَال الملامتية وَإنَّهُ حَال شرِيف ومقام عَزِيز وَتمسك بالسنن والْآثَار وَتحقّق بالإخلاص والصدق وَلَيْسَ مِمَّا يزْعم المفتونون بِشَيْء وَأما القلندرية فهم أَقوام ملكهم سكر طيبَة الْقُلُوب حَتَّى خرقوا الْعَادَات وطرحوا التَّقْلِيد بآداب المجالسات وساحوا فِي ميادين طيبَة الْقُلُوب فَقلت أَعْمَالهم من الصَّلَاة وَالصَّوْم إِلَّا الْفَرَائِض وَلم يبالوا بتناول شَيْء من لذات الدُّنْيَا الْمُبَاحَة بِرُخْصَة الشَّرْع وَرُبمَا اقتصروا على رِعَايَة الرُّخْصَة وَلم يطلبوا حقائق الْعَزِيمَة وَمَعَ ذَلِك يتمسكون بترك الادخار وَترك الْجمع والاستكثار وَلَا يتوسمون بوسم المتقشفين والمتزهدين والمتعبدين وقنعوا بِطيب قُلُوبهم مَعَ الله تَعَالَى وَلم يتطلبوا إِلَى طلب مزِيد سواهَا وَالْفرق بَين الملامتي والقلندري أَن الأول بَالغ مَعَ تمسكه بِأَبْوَاب الْخَيْر وَالْبر وبذله الْجهد فِي ذَلِك وَطلب الْمَزِيد فِي كتم الْعِبَادَة وَالْأَحْوَال حَتَّى ترقى بالعلوم فِي كل أَحْوَاله حَتَّى لَا يفْطن بِهِ وَالثَّانِي يُبَالغ فِي تَحْرِير الْعِبَادَات غير متقيد بهيئة وَلَا يُبَالِي بِمَا يعرف من أَحْوَاله أَو يجهل وَلَيْسَ رَأس مَاله إِلَّا طيبَة قلبه وَأما الصُّوفِي فَهُوَ الَّذِي يضع كل شَيْء مَوْضِعه وَيُدبر أوقاته وأحواله كلهَا بِالْعلمِ يُقيم الْخلق مقَامه وَيُقِيم أَمر الْحق مقَامه وَيسْتر مَا يَنْبَغِي ستره وَيظْهر مَا يَنْبَغِي إِظْهَاره كل ذَلِك مَعَ حُضُور عقل وَصِحَّة تَوْحِيد وَكَمَال معرفَة ورعاية صدق وأخلاق وَوَقع لقوم مفتونين أَنهم سموا أنفسهم ملامتية ولينسبوا لبس الصُّوفِيَّة لنسبوا إِلَيْهِم وَلَيْسوا مِنْهُم فِي شَيْء بل فِي غرور وباطل وَغلط يتسترون بِلبْس الصُّوفِيَّة توقيا تَارَة وَدَعوى أُخْرَى وَبَعض(1/234)
هَؤُلَاءِ ينهجون مَنْهَج أهل الْإِبَاحَة ويزعمون أَن ضمائرهم خلصت إِلَى الله وَأَن الترسم بمراسم الشَّرِيعَة رُتْبَة الْعَوام وَهَذَا هُوَ عين الْإِلْحَاد والزندقة إِذْ كل حَقِيقَة ردتها الشَّرِيعَة زندقة وَبَعْضهمْ يَقُول بالحلول ويزعمون أَن الله تَعَالَى حل فيهم وَيحل فِي أجسامهم مصطفيها ويسبق إِلَى فهومهم معنى من النَّصَارَى فِي اللاهوت والناسوت تَعَالَى الله أَن يحل فِي شَيْء أَو يحل بِهِ شَيْء وَمِنْهُم من يسْتَحل النّظر إِلَى المستحسنات إِشَارَة إِلَى هَذَا الْوَهم وَبَعْضهمْ يَزْعمُونَ أَنهم مَجْبُورُونَ على الْأَشْيَاء لَا فعل لَهُم مَعَ الله ويسترسلون فِي الْمعاصِي وكل مَا تَدْعُو إِلَيْهِ النُّفُوس ويركنون إِلَى البطالة ودوام الْغَفْلَة والاغترار بِاللَّه وَالْخُرُوج من الْملَّة وَترك الْحُدُود وَالْأَحْكَام والحلال وَالْحرَام وَقد سُئِلَ سهل رَضِي الله عَنهُ عَن رجل يَقُول أَنا كالباب لَا أتحرك إِلَّا إِذا حرك فَقَالَ هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا أحد رجلَيْنِ إِمَّا صديق إِشَارَة إِلَى أَن قوم الْأَشْيَاء بِاللَّه مَعَ أَحْكَام الْأُصُول ورعاية حُدُود الْعُبُودِيَّة وَإِمَّا زنديق إِحَالَة للإشياء على الله وإسقاطا للوم عَن نَفسه وانخلاعا عَن الدّين ورسمه وَبَعْضهمْ رُبمَا كَانَ ذَا ذكاء وفطنة غريزية وَيكون قد سمع كَلِمَات تعلّقت بباطنه فيتألف لَهُ من بَاطِنه كَلِمَات ينسبها إِلَى الله تَعَالَى وَأَنَّهَا مكالمة الله إِيَّاه مثل أَن يَقُول قَالَ لي وَقلت لَهُ وَهَذَا رجل جَاهِل بِنَفسِهِ وحديثها وبربه وبكيفية بَيَان المكالمة والمحادثة أَو عَالم بطلَان مَا يَقُوله وَإِنَّمَا يحملهُ هَوَاهُ على الدَّعْوَى بذلك ليوهم أَنه قد ظفر بِشَيْء وكل هَذَا ضلال وَسبب تجريه مَا سَمعه من كَلَام بعض الْمُحَقِّقين عَن مخاطبات وَردت عَلَيْهِم بعد طول معاملات لَهُم ظَاهِرَة وباطنة وتمسكهم بأصول الْقَوْم من صدق التَّقْوَى وَكَمَال الزّهْد فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا صفت أسرارهم تشكلت فِي سرائرهم مخاطبات مُوَافقَة للْكتاب وَالسّنة مفهوما عِنْد أَهله مُوَافقا للْعلم وَيكون ذَلِك مُنَاجَاة لسرائرهم ومناجاة سرائرهم إيَّاهُم فيثبتون لأَنْفُسِهِمْ مقَام الْعُبُودِيَّة ولمولاهم الربوبية فيضيفون مَا يجدونه إِلَى نُفُوسهم وَإِلَى مَوْلَاهُم وهم مَعَ ذَلِك عالمون بِأَن ذَلِك لَيْسَ بِكَلَام الله وَإِنَّمَا هُوَ علم حَادث أحدثه الله فِي بواطنهم فطريق الأصحاء فِي ذَلِك الْفِرَار إِلَى الله تَعَالَى من كل مَا تحدث نُفُوسهم بِهِ حَتَّى إِذا بَرِئت ساحتهم من الْهوى ألهموا فِي بواطنهم شيأ ينسبونه إِلَى الله تَعَالَى نِسْبَة الْحَادِث إِلَى الْمُحدث لَا نِسْبَة الْكَلَام إِلَى الْمُتَكَلّم ليصانوا عَن الزيغ والتحريف انْتهى حَاصِل كَلَامه رَضِي الله عَنهُ وَحَاصِله أَن هَذَا يرجع إِلَى الإلهام الَّذِي قَالَه السَّادة الصُّوفِيَّة أَنه حجَّة لتوفر قَرَائِن عِنْد من وَقع لَهُ تقضي بحقيته وَأَنه لَيْسَ من الخواطر النفسانية فِي شَيْء قطعا وَخَالفهُم الْفُقَهَاء والأصوليون فِيهِ لَا لإنكاره من أَصله كَيفَ والْحَدِيث الصَّحِيح إِن فِي أمتِي 2 محدثون أَو ملهمون وَمِنْهُم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بل لِئَلَّا يَدعِيهِ ويحتج بِهِ من لَيْسَ من أَهله وَلِأَنَّهُ لَا ثِقَة بخواطر غير الْمَعْصُوم فَرُبمَا يخْطر لَهُ فِي حَدِيث نَفسه أَنه إلهام وزين لَهُ الشَّيْطَان ذَلِك بمخايل يظهرها لَهُ فيظن صدقهَا فيعتقد حقية ذَلِك الْوَارِد 5 وَفِي الْحَقِيقَة لَيْسَ هُوَ وَارِد حق وَإِنَّمَا هُوَ حَدِيث نفس وخاطر شيطاني حمله عَلَيْهِ عدم جَرَيَانه على قوانين الاسْتقَامَة وَالْقِيَام بالعبودية على وَجههَا الْأَكْمَل فَلَمَّا كَانَ للنَّفس والهوى والشيطان دخل فِي تَزْيِين ذَلِك والتلبيس فِيهِ رأى الْفُقَهَاء والأصوليون أَن الْمصلحَة للنَّاس المتكلفة بسلامتهم من تغرير الشَّيْطَان والوقوع فِي هفوة الطغيان قطعهم عَن الِاحْتِجَاج بالإلهامات وَأَن ذَلِك بَاب يجب سَده على النَّاس لِئَلَّا يَتَرَتَّب على فَتحه لَهُم من الْمَفَاسِد مَا لَا يُحْصى وَأما الْفرق بَين التصوف والفقر والزهد فَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَام الشهَاب السهروردي هُوَ أَن التصوف اسْم جَامع لمعاني الْفقر ومعاني الزّهْد مَعَ مزِيد وإضافات لَا يكون الرجل بِدُونِهَا صوفيا وَإِن كَانَ زاهدا فَقِيرا بل قيل نِهَايَة الْفقر مَعَ شرفه بداية التصوف قَالَ وَأهل الشَّام لَا يفرقون بَين الْفُقَرَاء والصوفية فِي قَوْله عز وَجل {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} الْآيَة وَالْحق أَن بَينهمَا فرقا لِأَن الْفَقِير متمسك بفقره مُؤثر لَهُ على الْغنى لعلمه بفضائله الَّتِي مِنْهَا أَن الْفُقَرَاء يدْخلُونَ الْجنَّة قبل الْأَغْنِيَاء بِخَمْسِمِائَة عَام فَهُوَ لملاحظة الْعِوَض الْبَاقِي معرض عَن الْحَاصِل الفاني وَهَذَا عين الاعتلال فِي طَرِيق الصُّوفِيَّة لِأَنَّهُ يتطلع إِلَى الأعواض وَلم يتْرك الْغنى إِلَّا لأَجلهَا والصوفي يتْرك الْأَشْيَاء لَا للأعواض الموعودة بل للأحوال الْمَوْجُودَة فَإِنَّهُ ابْن وقته وَأَيْضًا الْفَقِير ترك الْحَظ العاجل اخْتِيَار أَمنه وَإِرَادَة الِاخْتِيَار والإرادة عِلّة فِي حَال الصُّوفِي لِأَن الصُّوفِي صَار قَائِما فِي الْأَشْيَاء بِإِرَادَة الله تَعَالَى لَا بِإِرَادَة نَفسه فَلَا يرى فَضِيلَة فِي(1/235)
صُورَة فقره وَلَا فِي صُورَة غناهُ وَإِنَّمَا يرى الْفَضِيلَة فِيمَا يوقفه الْحق فِيهِ ويدخله عَلَيْهِ وَيعلم الْإِذْن من الله فِي الدُّخُول فِي الشَّيْء وَقد يدْخل فِي صُورَة سَعَة مباينة للفقر بِإِذن من الله فَيرى الْفَضِيلَة حِينَئِذٍ فِي السعَة لمَكَان إِذن الله فِي ذَلِك وَلَا يفسح فِي السعَة وَالدُّخُول فِيهَا للصادقين إِلَّا بعد أحكامهم علم الْإِذْن وَفِي هَذِه مزلة الْأَقْدَام وَبَاب دَعْوَى للمدعين وَمَا من حَال يتَحَقَّق بِهِ صَاحب الْحَال إِلَّا وَقد يحكيه رَاكب الْحَال ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة ويحيا من حَيّ عَن بَيِّنَة فَإِذا اتَّضَح لَك معنى الْفرق بَين الْفقر والتصوف وَإِن كَانَ الْفقر أساس التصوف وَبِه قوامه على الْوُصُول إِلَى رتب التصوف على طَريقَة الْفقر لَا على معنى أَنه يلْزم من وجود التصوف وجود الْفقر انْتهى وَالْفرق بَين الْفقر والزهد أَن الْفقر فِيهِ تحل بمحاسنه كالاطراح والخمول والتمزق وخدمة الْفُقَرَاء والوجد والكياسة والرياضة وَالْأَدب والتنقي من الْأَوْصَاف الذميمة كالكبر وَالْعجب والحسد وَهَذِه قد لَا تُوجد مَعَ الزّهْد وَالْحَاصِل أَن محَاسِن الزَّاهِد بعض محَاسِن الْفَقِير ومحاسن الْفَقِير بعض محَاسِن الصُّوفِي وَأما بَيَان الْفرق بَين الصُّوفِي والمتصوف والمتشبه فقد بَينه السهروردي أَيْضا بِأَن طَرِيق الصُّوفِيَّة أَوله إِيمَان ثمَّ علم ثمَّ ذوق فالمتشبه صَاحب إِيمَان وَالْإِيمَان بطرِيق الصُّوفِيَّة أصل كَبِير قَالَ سيد الطَّائِفَة أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد قدس الله سره التَّصْدِيق بطريقنا هَذَا ولَايَة قَالَ السهروردي لِأَن الصُّوفِيَّة تميزوا بأحوال عزيزة وآثار مستغربة عِنْد أَكثر الْخلق لأَنهم مكاشفون بِالْقدرِ وغرائب الْعُلُوم إشاراتهم إِلَى عَظِيم أَمر الله والقرب مِنْهُ وَالْإِيمَان بذلك إِيمَان بِالْقُدْرَةِ وَلَهُم عُلُوم وَمن هَذَا الْقَبِيل فَلَا يُؤمن بطريقتهم إِلَّا من خصّه الله تَعَالَى بمزيد عنايته فالمتشبه صَاحب إِيمَان والمتصوف صَاحب علم لِأَنَّهُ بعد الْإِيمَان اكْتسب مزِيد علم بطريقهم وَصَارَ لَهُ فِي ذَلِك مواجيد يسْتَدلّ بهَا على سائرها والصوفي صَاحب ذوق فللمتصوف الصَّادِق نصيب من حَال الصُّوفِي وللمتشبه الصَّادِق نصيب من حَال المتصوف قَالَ وَهَكَذَا سنة الله تَعَالَى جَارِيَة أَن كل صَاحب حَال لَهُ ذوق فِيهِ لَا بُد أَن يكْشف لَهُ علم بِحَال أَعلَى مِمَّا هُوَ فِيهِ فَيكون فِي حَاله الأول صَاحب ذوق وَفِي الْحَال الَّذِي كوشف بِهِ صَاحب علم وبحال فَوق ذَلِك صَاحب إِيمَان ثمَّ قَالَ بعد كَلَام طَوِيل الصُّوفِي فِي مقاومة الرّوح صَاحب مُشَاهدَة والمتصوف فِي مقاومة الْقلب صَاحب مراقبة والمتشبه فِي مقاومة النَّفس صَاحب مجاهدة ومحاسبة فتكوين الصُّوفِي بِوُجُود قلبه وتكوين المتصوف بِوُجُود نَفسه والمتشبه لَا تكوين لَهُ لِأَن التكوين لأرباب الْأَحْوَال والمتشبه مُجْتَهد سالك لم يصل بعد إِلَى الْأَحْوَال وَالْكل يجمعهُمْ دَائِرَة الاصطفاء فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله} قَالَ بَعضهم الظَّالِم يجزع من الْبلَاء والمقتصد يصبر عِنْد الْبلَاء وَالسَّابِق يتلذذ بالبلاء وَقَالَ بَعضهم الظَّالِم يعبد على الْغَفْلَة وَالْعَادَة والمقتصد يعبد على الرَّغْبَة والرهبة وَالسَّابِق يعبد على الهيبة والْمنَّة وَقَالَ بَعضهم الظَّالِم صَاحب الْأَقْوَال والمقتصد صَاحب الْأَفْعَال وَالسَّابِق صَاحب الْأَحْوَال وكل هَذِه الْأَقْوَال قريبَة التناسب من حَال الصُّوفِي والمتصوف والمتشبه وَكلهمْ من أهل الْفَلاح والنجاح والمتشبه بالصوفية مَا اخْتَار التَّشَبُّه بهم دون غَيرهم من الطوائف إِلَّا لمحبته إيَّاهُم وَهُوَ على قصوره عَن الْقيام بِمَا هم فِيهِ يكون مَعَهم لموْضِع إِرَادَته ومحبته وَقد ورد عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنه قَالَ الْمَرْء مَعَ من أحب فَقَالَ أَبُو ذَر يَا رَسُول الله الرجل يحب الْقَوْم وَلَا يَسْتَطِيع يعْمل كعملهم قَالَ أَنْت يَا أَبَا ذَر مَعَ من أَحْبَبْت قَالَ فَإِنِّي أحب الله وَرَسُوله قَالَ فَإنَّك مَعَ من أَحْبَبْت قَالَ الشهَاب السهروردي جَاءَ فَتى إِلَى الشَّيْخ أَحْمد الْغَزالِيّ ابْن أخي حجَّة الْإِسْلَام يُرِيد مِنْهُ أَن يلْبسهُ الْخِرْقَة فَأرْسلهُ إِلَى شَيخنَا أَي وَالظَّاهِر أَنه عَمه أَبُو النجيب ليذكر لَهُ معنى الْخِرْقَة فجَاء إِلَيْهِ فَذكر للمتبدى شُرُوطهَا وآدابها وحقوقها فجبن الرجل عَن ذَلِك وَرجع للغزالي فَاسْتَحْضرهُ وَقَالَ لَهُ مَا ذكرته صَحِيح وَلَكِن إِذا ألزمنا الْمُبْتَدِئ بذلك نفر وَعجز عَن الْقيام بِهِ فَنحْن نلبسه الْخِرْقَة حَتَّى يتشبه بالقوم ويتزيا بزيهم فَيقر بِهِ ذَلِك من مجَالِسهمْ ومحافلهم فببركة مخالطته بهم وَنَظره إِلَى أَحْوَال الْقَوْم ومسيرهم يحب أَن يسْلك بذلك مسلكهم ويصل بذلك إِلَى شَيْء من أَحْوَالهم قَالَ الشهَاب السهروردي فالمتشبه الْحَقِيقِيّ لَهُ إِيمَان بطرِيق الْقَوْم وَعمل بِمُقْتَضَاهُ وسلوك واجتهاد لِأَنَّهُ صَاحب مجاهدة ومحاسبة كَمَا مر ثمَّ يصير متصوفا صَاحب مراقبة ثمَّ يصير صوفيا صَاحب مُشَاهدَة فإمَّا من(1/236)
لم يقْصد أَوَائِل مقاصدهم بل هُوَ على مُجَرّد تشبه ظَاهر من ظَاهر التَّشَبُّه والمشاركة فِي الزي وَالصُّورَة دون السِّيرَة وَالصّفة فَلَيْسَ متشبها بالصوفية لِأَنَّهُ غير محاك لَهُم فِي الدُّخُول فِي بداياتهم فَإِذا هُوَ متشبه بالمتشبه يعزى إِلَى الْقَوْم بِمُجَرَّد لبسه وَمَعَ ذَلِك هم الْقَوْم لَا يشقى بهم جليسهم وَقد ورد من تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم (وَسُئِلَ) رَضِي الله عَنهُ عَن قوم من الْفُقَهَاء يُنكرُونَ على الصُّوفِيَّة إِجْمَالا أَو تَفْصِيلًا فَهَل هم معذورون أم لَا (فَأجَاب) بقوله يَنْبَغِي لكل ذِي عقل وَدين أَن لَا يَقع فِي ورطة الْإِنْكَار على هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَإِنَّهُ السم الْقَاتِل كَمَا شوهد ذَلِك قَدِيما وحديثا وَقد قدمنَا صِحَة قصَّة ابْن السقاء الْمُنكر على ولي الله فَأَشَارَ لَهُ أَنه يَمُوت كَافِرًا فشوهد عِنْد مَوته بعد تنصره لفتنته بنصرانية أَبَت مِنْهُ إِلَّا أَن يتنصر مُسْتَقْبل الشرق وَكلما حول للْقبْلَة يتَحَوَّل إِلَى الشرق حَتَّى طلعت روحه وَهُوَ كَذَلِك وَإنَّهُ كَانَ أوجه أهل زَمَانه علما وذكاء وشهرة وتقدما عِنْد الْخَلِيفَة فَحلت عَلَيْهِ الْكَلِمَة بِوَاسِطَة إِنْكَاره وَقَوله عَن ذَلِك الْوَلِيّ لأسألنه مسئلة لَا يقدر على جوابها وَتقدم أَيْضا أَن الإِمَام أَبَا سعيد بن أبي عصرون إِمَام الشَّافِعِيَّة فِي زَمَنه صدر مِنْهُ لذَلِك الْوَلِيّ نوع قلَّة أدب فوعده بِأَن يغرق فِي الدُّنْيَا إِلَى أُذُنَيْهِ فولاه نور الدّين الشَّهِيد الْأَوْقَاف بِدِمَشْق وَكَانَ كَذَلِك وَأَن إِمَام العارفين وتاج الْخُلَفَاء الْوَارِثين محيي الدّين عبد الْقَادِر الجيلاني رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة جَاءُوا للْوَلِيّ مَعًا فَوَقع للأولين مَا ذكر وَأما الشَّيْخ عبد الْقَادِر لما تأدب مَعَه دَعَا لَهُ ووعده بِالْولَايَةِ بل القطبية وَأَن قدمه سيصير على عنق كل ولي لله لي فَانْظُر شُؤْم قلَّة الْأَدَب وَفَائِدَة الْأَدَب والاعتقاد وَجَاء عَن الْمَشَايِخ العارفين وَالْأَئِمَّة الْوَارِثين أَنهم قَالُوا أقل عُقُوبَة الْمُنكر على الصَّالِحين أَن يحرم بركتهم قَالُوا ويخشى عَلَيْهِ سوء الخاتمة نَعُوذ بِاللَّه من سوء الْقَضَاء وَقَالَ بعض العارفين من رَأَيْتُمُوهُ يُؤْذِي الْأَوْلِيَاء وينكر مواهب الأصفياء فاعلموا أَنه محَارب لله مبعد مطرود عَن حَقِيقَة قرب الله وَقَالَ الإِمَام الْمجمع على جلالته وإمامته أَبُو تُرَاب النخشبي رَضِي الله عَنهُ إِذا ألف الْقلب الْإِعْرَاض عَن الله صحبته الوقيعة فِي أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وَقَالَ الإِمَام الْعَارِف شاه بن شُجَاع الْكرْمَانِي مَا تعبد متعبد بِأَكْثَرَ من التحبب إِلَى أَوْلِيَاء الله لِأَن محبتهم دَلِيل على محبَّة الله عز وَجل وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي قبُول قُلُوب الْمَشَايِخ للمريد أصدق شَاهد لسعادته وَمن رده قلب شيخ من الشُّيُوخ فَلَا محَالة يرى غب ذَلِك وَلَو بعد حِين وَمن خذل بترك حُرْمَة الشُّيُوخ فقد أظهر رقم شقاوته وَذَلِكَ لَا يُخطئ انْتهى وَيَكْفِي فِي عُقُوبَة الْمُنكر على الْأَوْلِيَاء قَوْله - صلى الله عليه وسلم - فِي الحَدِيث الصَّحِيح من آذَى لي وليا فقد آذنته بِالْحَرْبِ أَي أعلمته أَنِّي محَارب لَهُ وَمن حَارب الله لَا يفلح أبدا وَقد قَالَ الْعلمَاء لم يحارب الله عَاصِيا إِلَّا الْمُنكر على الْأَوْلِيَاء وآكل الرِّبَا وكل مِنْهُمَا يخْشَى عَلَيْهِ خشيَة قريبَة جدا من سوء الخاتمة إِذْ لَا يحارب الله إِلَّا كَافِرًا وَحكى اليافعي قدس سره عَن عصريه الشَّيْخ الإِمَام عبد الْعَزِيز الديريني أَنه أدْركهُ الْمغرب وَهُوَ فِي حَاجَة فصلاه وَرَأى فَقِيها يلحن فِي قِرَاءَته فعزم الشَّيْخ على الْإِقَامَة عِنْده ليعلمه فَلَمَّا سلم قَالَ لَهُ يَا عبد الْعَزِيز الْحق حَاجَتك فَإِن من هِيَ عِنْده يُرِيد السّفر وَمَا عَلَيْك من هَذَا اللّحن الَّذِي سمعته والتعليم الَّذِي نويته فركبت فَلَمَّا وصلت لمن عِنْده تِلْكَ الْحَاجة رَأَيْته عَازِمًا على السّفر وَلَو تَأَخَّرت لَحْظَة فَاتَنِي وَذكر اليافعي أَن جمَاعَة من الْفُقَهَاء أَنْكَرُوا على جمَاعَة من الصُّوفِيَّة لحنهم فِي مواجيدهم فَأَعَادُوا تِلْكَ الْكَلِمَات فِي الْحَال وأعربوها بِوُجُوه من الْإِعْرَاب ثمَّ أنشدوا عقيب ذَلِك شعرًا:
(لحنها مُعرب وأعجب من ذَا ... أَن إِعْرَاب غَيرهَا ملحون)
وَقَالَ بعض الْمَشَايِخ لبَعض الْفُقَهَاء الْمُنكر عَلَيْهِ فَعرض لَهُ أَسد فَمَنعه مِنْهُ اشتغلتم باصطلاح الظَّاهِر فخفتم الْأسد وَاشْتَغَلْنَا بإصلاح الْبَاطِن فخافنا الْأسد وَقَالَ آخر لمن أنكر عَلَيْهِ قِرَاءَته إِن كنت لحنت فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فقد لحنت أَنْت فِي الْإِيمَان وَذَلِكَ أَنه لما أنكر عَلَيْهِ وَخرج قَصده السَّبع فخشي عَلَيْهِ من جَوْفه لضعف إيمَانه وَقلة يقينه بِاللَّه إِذا لسبع كلب من الْكلاب ودابة من دَوَاب الْبر لَا يَتَحَرَّك شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِإِذن رب الأرباب وَوَقع لصوفي أَنه دخل بلد أفتخلف فَقِيها عَن زيارته فَسَأَلَهُ أَهلهَا أَن يغاثوا لشدَّة مَا عِنْدهم من الجدب فَقَالُوا سلوا فقيهكم فَإِن سقيتم بدعوته زرته فسالوه فَقَالَ لَا أسألوه هُوَ فَإِن سقيتم بدعائه زرته فَرَجَعُوا إِلَيْهِ فَدَعَا فسقوا فِي الْحَال فجَاء فزاره وَمِمَّا يلجئك على اعْتِقَادهم مَا جَاءَ عَن أبي الْحسن النَّوَوِيّ أَنه وَأَصْحَابه رموا بالزندقة وسعى(1/237)
بهم إِلَى الْخَلِيفَة فَأَما الْجُنَيْد فتستر بالفقه فَإِنَّهُ كَانَ يُفْتِي على مَذْهَب أبي ثَوْر صَاحب الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فجِئ بهم وَبسط لَهُم النطع لتضرب أَعْنَاقهم فبادر النَّوَوِيّ فَقَالَ لَهُ السياف وَلم تبادر للْقَتْل فَقَالَ لأوثر أَصْحَابِي بحياة سَاعَة لإنا قوم بنينَا مَذْهَبنَا على الإيثار فأنهى الْأَمر إِلَى الْخَلِيفَة فَعجب من ذَلِك وَأرْسل لَهُ قاضيه فَسَأَلَهُ عَن مسَائِل مشكلة فَالْتَفت عَن يَمِينه وَعَن يسَاره ثمَّ أطرق ثمَّ تكلم عَلَيْهَا بِمَا يشفي الصُّدُور فَرجع القَاضِي وَهُوَ يَقُول إِن كَانَ هَؤُلَاءِ زنادقة فَلَيْسَ على وَجه الأَرْض صديق فأطلقوهم وَسُئِلَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن ذَلِك الِالْتِفَات فَقَالَ سَأَلت عَنْهَا ملك الْيَمين فَقَالَ لَا أعلمها ثمَّ ملك الشمَال فَقَالَ كَذَلِك فَسَأَلت قلبِي فَأَخْبرنِي عَن رَبِّي بِمَا أجبْت بِهِ وَكَانَ هَذَا لشدَّة إشكالها وَإِلَّا فالنووي من أَئِمَّة عُلَمَاء الظَّاهِر أَيْضا رَضِي الله عَنهُ ونفعنا بِسَائِر الْأَوْلِيَاء والعارفين فَإنَّا نعتقدهم ونحبهم وَمن أحب قوما حشر مَعَهم حقق الله لنا الدُّخُول فِي أعدادهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة آمين (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ مَا معنى تَوْحِيد الصُّوفِيَّة الموهم للحلول والاتحاد الْمُوجب لكثير من الْفُقَهَاء الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم بذلك وَتَشْديد النكير عَلَيْهِم فِي جَمِيع تِلْكَ المسالك حَتَّى بَالغ كثير مِنْهُم بالتكفير حَقِيقَة أَو للتنفير (فَأجَاب) بقوله اعْلَم وفقني الله وَإِيَّاك لمرضاته وأدخلنا تَحت حيطة الصفوة من أوليائه ليتجلى علينا عرائس هباته أَن تَوْحِيد الله تَعَالَى بِاللِّسَانِ العلمي الْمُقَرّر فِي كتب أَئِمَّة الْكَلَام القَوْل فِيهِ مَشْهُور عِنْد من مارس ذَلِك الْفَنّ وأطلع على دقائقه وأحاط بِمَا فِيهِ من العويصات والشبه والإيرادات وأجوبتها وَمن ثمَّ كَانَ هَذَا الْعلم فِي الْحَقِيقَة أشرف الْعُلُوم إِذْ هِيَ تشرف بشرف معلومها وأفضلها إِذْ معرفَة الله تَعَالَى وَالنَّظَر الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا هما أول الْوَاجِبَات العينية وأساس جَمِيع الْفُرُوض وَغَيرهَا وَسَائِر أصُول الشَّرِيعَة وفروعها وَأما التَّوْحِيد بالأحوال الشهودية والمواجيد العرفانية فَهُوَ حَال أَئِمَّة التصوف الَّذين أتحفهم الله بِمَا لم يتحف بِهِ أحد سواهُم لِأَن أهل ذَلِك الْعلم لَيْسَ لَهُم من الْحُضُور مَعَ الْحق وآثار شُهُود صِفَاته وحقائق تجلياته فِي جَمِيع أَحْوَالهم وأقوالهم وأفعالهم مَا لأئمة الصُّوف الغارقين فِي بحار شُهُود التَّوْحِيد الواقفين مَعَ الله تَعَالَى على قدم الصدْق والتجريد والمتخلين عَمَّا سواهُ على غَايَة الْكَمَال والتفريد فتوحيدهم هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمعول وحالهم هُوَ الْحَال الْأَكْمَل الَّذِي لَيْسَ لَهُم عَنهُ محول بل هم دَائِما فِي ظله الظليل لَا براح لَهُم عَن الحضرة الشهودية وَلَا شاغل لَهُم عَن استجلاء الْحَقَائِق الْوُجُود ليتعرفوا بهَا حكم الْأَقْضِيَة وحقائق الْقُدْرَة وآثار صِفَات الْجلَال وَالْجمال وَمن ثمَّ قَالَ بعض محققيهم فارقا بَينهم وَبَين عُلَمَاء الْكَلَام أُولَئِكَ قوم اشتغلوا بِالِاسْمِ عَن الْمُسَمّى وَنحن قوم اشتغلنا بِالْمُسَمّى عَن الِاسْم وَلذَلِك تَجِد أُولَئِكَ لَا شُهُود لَهُم وَلَا استحضار بل قُلُوبهم مَمْلُوءَة بِشُهُود الأغيار مستغرقة فِي الشَّهَوَات وَإِن فرض أَن لَهُم استحضارا فَهُوَ مَقْصُور على حَالَة استحضار شَيْء من علمهمْ على أَن هَذَا للنادر مِنْهُم وَأما أَكْثَرهم فهم لَا يستحضرون إِلَّا الْأَلْفَاظ ومعانيها فَحسب دون أَمر زَائِد على ذَلِك وَقد شرحوا محققوا الصُّوفِيَّة توحيدهم الَّذِي اختصوا بِهِ بعبارات مُخْتَلفَة هِيَ فِي الْحَقِيقَة مؤتلفة من أحْسنهَا قَول إِمَام الْعُلُوم الظَّاهِرَة والباطنة الْمجمع على جلالته وأمامته فِي الطَّرِيقَيْنِ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي قدس الله سره وروحه ونوّر ضريحه فارقا بَين تَوْحِيد الصُّوفِيَّة وتوحيد غَيرهم تَوْحِيد العَبْد لرَبه على مَرَاتِب تَوْحِيد لَهُ بالْقَوْل وَالْوَصْف بِأَن يخبر عَن وحدانيته وتوحيد لَهُ بِالْعلمِ وَهُوَ أَن يُعلمهُ بالبرهان على وحدانيته وتوحيد لَهُ بالمعرفة وَهُوَ أَن يعرفهُ بِالْبَيَانِ كَمَا علمه بالبرهان وَالْبَيَان أجلى من الْبُرْهَان فَفِي حَال مَعْرفَته بِالْبَيَانِ لَا يفْتَقر إِلَى نظره وَلَا إِلَى تذكر نظره وَلَيْسَ بضروري علمه وَلكنه كالضروري فِي أَنه أقوى حَالا مِمَّا كَانَ وَقد تسمى هَذِه الْحَالة الإلهام وَإِنَّمَا يَصح ذَلِك إِذا ترقى إِلَى هَذِه الصّفة عَن الْعلم البرهاني بِقُوَّة الْحَال ثمَّ تَوْحِيد من حَيْثُ الْحَال يشهده وَاحِد أَو حَال الشُّهُود لَيْسَ لَهُ الرُّؤْيَة وَلكنه كالرؤية كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - اعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ وَهَذِه هِيَ حَالَة الْمُشَاهدَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْقَوْم بتوالي التجلي على قلبه فَصَارَ كالعيان حَاله وَمن أهل التَّوْحِيد من يشْهد لَهُ الحادثات بجملتها بِاللَّه تَعَالَى بظهورها فيشهدها بِهِ سُبْحَانَهُ تجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامه وَتظهر فِيهَا أَفعاله وَمن أهل التَّوْحِيد من يُوجد من حَيْثُ التَّنْزِيه فَهَؤُلَاءِ قَالُوا الْحق وَرَاء مَا أدْركهُ الْخلق بأفواههم وَأَحَاطُوا بِهِ بعلومهم وأشرفوا عَلَيْهِ بمعارفهم(1/238)
قَالُوا وكل من كوشف بِشَيْء فعلى قدر قوته وَضَعفه قَالُوا وَالْقَوْم الَّذين كوشفوا بِالْحَقِيقَةِ أَو شاهدوا الْحق واحتفظوا بشواهدهم عَن شُهُود الْحق أَو استمسكوا فِي عين الْجمع أَو لَيْسَ يشْهدُونَ إِلَّا الْحق أَو لَيْسَ يَخْشونَ إِلَّا الْحق أَو هم محوا فِي حق الْحق أَو مصطلون فِيهِ بسُلْطَان الْحَقِيقَة أَو تجلى لَهُم الْحق بِجلَال الْحق وَغير هَذَا إِلَى آخر مَا عبر عَنهُ معبر أَو أخبر عَنهُ مخبر أَو أَشَارَ إِلَيْهِ مشير أَو أدْركهُ فهم أَو انْتهى إِلَيْهِ علم أَو حَضَره بالتفصيل ذكر فهم شَوَاهِد الْحق وَهُوَ حق من الْحق وَلكنه لَيْسَ بِحَقِيقَة الْحق فَإِن الْحق منزه عَن الْإِدْرَاك والإحاطة وَالْإِشْرَاق قَالُوا وَكلما يدل على خلق أَو جَار على الْخلق فَذَاك مِمَّا يَلِيق بالخلق وَالْحق مقدس عَن جَمِيع ذَلِك انْتهى حَاصِل كَلَام الْقشيرِي وَهُوَ لاسيما آخِره أوضح عاضد وَأقوى شَاهد على حَقِيقَة تَوْحِيد الْقَوْم السالمين من الْمَحْذُور واللوم وعَلى أَنه الْغَايَة القصوى فِي التَّوْحِيد والحقيقة الْعليا فِي الْمعرفَة والتنزيه والتمجيد فشرفهم بذلك وَإِيَّاك أَن تقع فِي ورطة الِاعْتِرَاض عَلَيْهِم فتتسابق أسْهم القواطع إِلَيْك فَإِنَّهُم بُرَآء من ذَلِك منزهون عَنهُ إِذْ هم أكمل الْخلق عقلا وَمَعْرِفَة فَكيف يتوهمون مَا هُوَ بديهي الْبطلَان وَبَيَان ذَلِك أَن الِاتِّحَاد بَعْدَمَا قَامَ من الْبَرَاهِين المقررة فِي كتب الْحِكْمَة وَالْكَلَام على امْتنَاع اتِّحَاد الِاثْنَيْنِ هُوَ يسْتَلْزم كَون الْوَاجِب هُوَ الْمُمكن وَعَكسه وَذَلِكَ محَال بِالضَّرُورَةِ وَأما الْحُلُول فلوجوه الأول أَن الْحَال فِي الشَّيْء يفْتَقر إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَة سَوَاء كَانَ حُلُول جسم فِي مَكَان أَو عرض فِي جَوْهَر أَو صُورَة فِي مَادَّة كَمَا هُوَ رَأْي الْحُكَمَاء أَو صفة فِي مَوْصُوف والافتقار إِلَى الْغَيْر يُنَافِي الْوُجُوب وَمن ذَلِك حُلُول الامتزاج كَالْمَاءِ فِي الْورْد فَإِنَّهُ من خَواص الْأَجْسَام وَهِي مفتقرة إِلَى الْغَيْر الثَّانِي أَن الْحُلُول فِي الْغَيْر أَن لم يكن صفة كَمَال وَجب نَفْيه عَن الْوَاجِب وَإِلَّا لزم كَون الْوَاجِب مستكملا بِالْغَيْر وَهُوَ بَاطِل الثَّالِث لَو حل فِي جسم على مَا زعم بعض الْمُلْحِدِينَ الَّذين لَا عقول لَهُم وَلَا دين فَأَما أَن يحل فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ فَيلْزم الانقسام أَو فِي جُزْء مِنْهُ فَيكون أَصْغَر الْأَشْيَاء وَكِلَاهُمَا بَاطِل بِالضَّرُورَةِ وَالِاعْتِرَاف والأدلة على ذَلِك كَثِيرَة مَحل بسطها كتب الْكَلَام وَإِذا بَان واتضح بطلَان الْحُلُول والاتحاد وامتناعها على الذَّات فَكَذَا على الصِّفَات لِاسْتِحَالَة انْتِقَال صفة الذَّات المختصة بهَا إِلَى غَيرهَا فرأس الْقَائِلين بهَا النَّصَارَى وَبَعض المنتسبين إِلَى الْإِسْلَام كغلاة الشِّيعَة قَالُوا لَا يمْتَنع ظُهُور الروحاني فِي الجسماني كجبريل فِي صُورَة دحْيَة وكالجني فِي صُورَة إنسي وَحِينَئِذٍ فَلَا يبعد أَن يظْهر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ والجاحدون علوا كَبِيرا فِي صُورَة بعض الكاملين وَأولى النَّاس بذلك عَليّ وَأَوْلَاده الَّذين هم خير الْبَريَّة رَضِي الله عَنْهُم وأطالوا فِي هَذِه النزهات البديهية الْبطلَان لَكِن لفساد عُقُولهمْ حَتَّى صَارُوا كالأنعام بل هُوَ أضلّ سَبِيلا راجت عَلَيْهِم حَتَّى حسبوا أَنهم على حق فزلوا وأزلوا وَضَلُّوا وأضلوا وكفرتهم يَزْعمُونَ أَنهم من عداد الصُّوفِيَّة وَلَيْسوا كَمَا زَعَمُوا بل هم من عداد الحمقاء الَّذين لَا يَدْرُونَ مَا يَقُولُونَ وَلَا يعون مَا يَزْعمُونَ فهم أضلّ من الْحَيَوَان وأحمق من الْفراش الَّتِي ترمي نَفسهَا إِلَى النيرَان وَمن جملَة خرافاتهم وكذبهم وجهالاتهم قَوْلهم أَن السالك إِذا أمعن فِي سلوكه وخاض لجة الْوُصُول يحل الله سُبْحَانَهُ وتقدس عَن مرية المفترين فِيهِ كَمَا تحل النَّار فِي الْجَمْر بِحَيْثُ لَا يتمايز أَو يتحد بِحَيْثُ لَا اثنينية وَلَا تغاير وَصَحَّ أَن يَقُول هُوَ أَنا وَأَنا هُوَ وَحِينَئِذٍ يرْتَفع الْأَمر وَالنَّهْي وَيظْهر من الغرائب والعجائب مَا لَا يَصح أَن يكون من الْبشر وَفَسَاد هَذَا كَالَّذي قبله غنى عَن الْإِيضَاح وَالْبَيَان فَذكره استطراد وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي أَن يعتني بتحقيقه وتحريره وَحفظه وَتَقْرِيره هُوَ أَن مَا وَقع فِي كَلِمَات بعض الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين من أَئِمَّة الصُّوفِيَّة مِمَّا يُوهم حلولا واتحادا لَيْسَ مُرَادهم ذَلِك بِالنِّسْبَةِ لأحوالهم واصطلاحهم وَمن ثمَّ قَالَ الْعَلامَة الْمُحَقق زِمَام الْمُتَأَخِّرين فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة والنقلية السعد التَّفْتَازَانِيّ أَن السالك إِذا انْتهى سلوكه إِلَى الله تَعَالَى أَي إِلَى مرتبَة من قربه وشهوده وَفِي الله تَعَالَى أَي وَفِي بُلُوغ رِضَاهُ وَمَا يؤمله من حَضرته الْعلية يسْتَغْرق فِي بحار التَّوْحِيد والعرفان بِحَيْثُ تضمحل أَي بِاعْتِبَار الشُّهُود لَا الْحَقِيقَة ذَاته فِي ذَاته وَصِفَاته فِي صِفَاته ويغيب عَن كل مَا سواهُ وَلَا يرى فِي الْوُجُود إِلَّا الله تَعَالَى قَالَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يسمونه الفناء فِي التَّوْحِيد وَإِلَيْهِ يُشِير الحَدِيث الإلهي لَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته كنت سَمعه يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ وَيَده الَّتِي يبطش بهَا الحَدِيث وَحِينَئِذٍ رُبمَا يصدر(1/239)
عَن الْوَلِيّ عِبَارَات تشعر بالحلول أَو الِاتِّحَاد لقُصُور الْعبارَة عَن بَيَان تِلْكَ الْحَال وَبعد الْكَشْف عَنْهَا بالمثال قَالَ وَنحن على سَاحل التَّمَنِّي نغترف من بَحر التَّوْحِيد بِقدر الْإِمْكَان ونعترف أَن طَرِيق الفناء فِيهِ العيان دون الْبُرْهَان قَالَ وَهنا مَذْهَب ثَان يُوهم ذَلِك وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْضا وَهُوَ أَن الْوَاجِب هُوَ الْوُجُود الْمُطلق وَهُوَ وَاحِدَة لَا كَثْرَة فِيهِ أصلا وَإِنَّمَا الْكَثْرَة فِي الإضافات والتعينات الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَة الخيال والسراب إِذْ الْكل فِي الْحَقِيقَة وَاحِد يتَكَرَّر على مظَاهر لَا بطرِيق المخالطة ويتكثر فِي البواطن لَا بطرِيق الانقسام فَلَا حُلُول هُنَا وَلَا اتِّحَاد لعدم الاثنينية والغيرية انْتهى كَلَام السعد رَحمَه الله تَعَالَى وَبِه يعلم أَن مَا يَقع من كَلِمَات الْقَوْم لَا سِيمَا ابْن عَرَبِيّ وَابْن الفارض وأتباعهما رَحِمهم الله تَعَالَى ونفع بهم فِي حضرات التَّوْحِيد منزل على مَا ذكره السعد رَحمَه الله ولبعض أَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين من تلامذة مَوْلَانَا عبد الرَّحْمَن الجامي الْمَشْهُور فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ المتمم بِهِ مَا كنى بِهِ عَن نُسْخَة النفحات وَهُوَ مَوْلَانَا عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن الْمُؤمن الإبيبزي بتحتانية ممدودة وَكسر بَاء مُوَحدَة تَحْتَانِيَّة وزاي من أجل تلامذة مَوْلَانَا سعد الدّين الكازورى من أجل أساتذة الطَّرِيقَة الْعلية السالمة من كدورات جهلة الصُّوفِيَّة وَهِي طَريقَة النقشبندية أَنه قَالَ فِي الريحانة الثَّانِيَة مِنْهُ رَيْحَانَة ذكر الاباه معنى لَا إِلَه إِلَّا الله أَن الذّكر ثَلَاث مراقب فِي السلوك فَفِي الأولى يقدر لَا معبود إِلَّا الله وَفِي الثَّانِيَة الَّتِي هِيَ مرتبَة السّير إِلَى الله يقدر لَا مَقْصُود إِلَّا الله وَفِي الْمرتبَة الثَّالِثَة وَهِي السّير فِي الله وَهِي مقَام المنتهين يقدر لَا مَوْجُود إِلَّا الله فَهُوَ مَا لم ينْتَه السالك فِي السّير فِي الله وَذكر لَا مَوْجُود إِلَّا الله فَهُوَ كفر صَرِيح أَي رُبمَا أدّى إِلَيْهِ كَمَا لَا يخفى فَأَطْلقهُ مُبَالغَة فِي الزّجر والتنفير لمن يدعى هَذِه الْمرتبَة بِالْبَاطِلِ فَتَأَمّله ووفاة صَاحب الريحانة سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة ووفاة عَلَاء الدّين سنة اثْنَيْنِ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ووفاة الكازورى سنة سِتِّينَ وَثَمَانمِائَة فاحذر من الْإِنْكَار فَإِنَّهُ يُوقع الْمُنكر فِي العثار وَكن محسن الإعتقاد على غَايَة من الازدياد فَإِن الْمُنكر محروم والمتعنت مَذْمُوم وَالْحق أَحَق أَن يتبع وَالْبَاطِل عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة قد انْدفع أدخلنا الله تَحت أَلْوِيَتهم الطاهرة من الريب الظَّاهِرَة على سَائِر الرتب فإننا نعتقدهم ونحبهم وَمن أحب قوما فَهُوَ يحْشر مَعَهم (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ بِمَا لَفظه مَا تَقولُونَ فِي ابْن عَرَبِيّ هَل هُوَ على طَريقَة الْهدى أم نهج الردى وَهل صَحَّ تكفيره أَو لَا وَهل قَالَ أحد أَنه على الصَّوَاب أَو لَا أوضحُوا الْجَواب وأوضحوا لنا حَاله فَإِنَّهُ تكاثرت الْأَقْوَال فِيهِ وَلم ندر الصَّحِيح من السقيم (فَأجَاب) رَضِي الله عَنهُ بقوله الشَّيْخ محيي الدّين ابْن عَرَبِيّ رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ إِمَام جمع بَين الْعلم وَالْعَمَل كَمَا اتّفق على ذَلِك من يعْتد بِهِ كَيفَ وَقد ذكر بعض المنكرين فِي تَرْجَمته أَنه كَانَ وصل لمرتبة الِاجْتِهَاد وَحِينَئِذٍ فإسلامه مُتَيَقن وَكَذَلِكَ علمه وَعَمله وزهادته وورعه ووصوله فِي الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة إِلَى مَا لم يصل إِلَيْهِ أكَابِر أهل الطَّرِيق وَإِذا تقرر أَن هَذَا كُله مَعْلُوم من حَاله فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتَ فَلَا يجوز الْإِقْدَام على تنقيصه بِمُجَرَّد التهور والتخيلات الَّتِي لَا مُسْتَند لَهَا يعْتد بِهِ بل يستصحب مَا علم من إِسْلَامه ومعارفه وعلومه هَذَا مَا يتَعَلَّق بذلك وَأما الْكتب المنسوبة لَهُ فَالْحق أَنه وَاقع فِيهَا مَا يُنكر ظَاهره والمحققون من مَشَايِخنَا وَمن قبلهم على تَأْوِيل تِلْكَ المشكلات بِأَنَّهَا جَارِيَة على اصْطِلَاح الْقَوْم وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهَا ظواهرها قَالَ بعض الْمُحَقِّقين من مَشَايِخ مَشَايِخنَا مَعَ اعتقادي فِيهِ الْمعرفَة الْكُبْرَى والنزاهة الْعُظْمَى لَو رَأَيْته للمته وَقلت لَهُ قد أودعت فِي كتبك أَشْيَاء كَانَت سَببا لضلال كثيرين من الْجُهَّال بطريقتك واصطلاحك فَإِن أَكثر النَّاس لَيْسَ لَهُم من الْكَلَام إِلَّا ظَاهره وَظَاهر تِلْكَ الْكَلِمَات كفر صَرِيح ارتبك فِيهِ أَقوام اغتروا بكلامك وَلم يدروا أَنه جَار على اصطلاحك فليتك أخليت تِلْكَ الْكتب عَن الْكَلِمَات المشكلة انْتهى حَاصِل مَا قَالَه ذَلِك الْمُحَقق وَهُوَ كَلَام حسن وَإِن فرض أَن للشَّيْخ عذرا فِي ذكرهَا غيرَة على طريقتهم أَن ينتحلها الكذابون لِأَن هَذَا لَو فرض وُقُوعه كَانَ أخف مِمَّا ترَتّب على ذكر تِلْكَ الْكَلِمَات من زلل كثير بِسَبَبِهَا وَلَقَد رَأَيْت مِمَّن ضل بهَا من يُصَرح بمكفرات أجمع الْمُسلمُونَ على أَنَّهَا مكفرات وَمَعَ ذَلِك يعتقدها وينسبها لِابْنِ عَرَبِيّ وَلَقَد كذب فِي ذَلِك وافترى فَإِن ابْن عَرَبِيّ برِئ من ذَلِك بِاعْتِبَار مَا علم واستقرى من حَاله وَالْحَاصِل أَنه يتَعَيَّن على كل من أَرَادَ السَّلامَة لدينِهِ أَن لَا ينظر فِي تِلْكَ المشكلات وَلَا يعوّل عَلَيْهَا سَوَاء قُلْنَا أَن لَهَا بَاطِنا صَحِيحا أم لَا وَأَن لَا يعْتَقد فِي ابْن عَرَبِيّ(1/240)
خلاف مَا علم مِنْهُ فِي حَيَاته من الزّهْد وَالْعِبَادَة الخارقين للْعَادَة وَقد ظهر لَهُ من الكرامات مَا يُؤَيّد ذَلِك مِنْهَا مَا حَكَاهُ صَاحب الْقَامُوس أَنه لما فرغ من تأليف كِتَابه الفتوحات المكية جعله وَهُوَ ورق مفرق على ظهر الْكَعْبَة فَمَكثَ سنة لم تطير الرّيح مِنْهُ ورقة وَلَا وصلت إِلَيْهِ قَطْرَة مطر مَعَ كَثْرَة أمطارها ورياحها فسلامة تِلْكَ الأوراق من الْمَطَر وَالرِّيح مَعَ مكثها سنة على السَّطْح من الكرامات الباهرة الدَّالَّة على إخلاصه فِي تأليفه يَقْتَضِي التضليل كَقَوْلِه بِإِسْلَام فِرْعَوْن لِأَن هَذَا لَا يَقْتَضِي كفرا وَإِنَّمَا غَايَته أَنه خطأ فِي الِاجْتِهَاد وَهُوَ غير قَادِح فِي صَاحبه إِذْ كل من الْعلمَاء مَأْخُوذ من قَوْله ومردود عَلَيْهِ إِلَّا المعصومين وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب وَقد تمّ الْكتاب بعون الْملك الْوَهَّاب وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا دَائِما إِلَى يَوْم الدّين آمين.
(يَقُول مصححه راجي عَفْو ربه العلى ... مُحَمَّد كَامِل بن مُحَمَّد الأسيوطي الْأَزْهَرِي)
يَا من بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وبكريم فَضله تنشر البركات نَسْأَلك الْهِدَايَة لحمدك وَإِن كُنَّا عاجزين عَن الْخَوْض فِي لجج بحره المتلاطم والمعونة على شكر آلَائِكَ وَإِن جلت عَن الدُّخُول تَحت مَرَاتِب الْعد المتعاظم ونستجدي مِنْك وافر الصَّلَاة وعليّ التسليمات على سيدنَا مُحَمَّد أفضل الْمَخْلُوقَات الْآتِي فِي مَنْطِقه بِالْآيَاتِ الْبَينَات وعَلى آله وَصَحبه أولى المكرمات وَمن اتبع سبيلهم وارتشف من سحب معاليهم طلهم (أما بعد) فقد تمّ بِحَمْدِهِ تَعَالَى طبع كتاب الْفَتَاوَى الحديثية لبَقيَّة الْمُجْتَهدين وخاتمة الْمُحدثين من أَحْيَا بتأليفه رَمِيم التحقيقات وشيد بصنعه معالي الْفضل المندرسات شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين الشَّيْخ أَحْمد شهَاب الدّين بن حجر الهيتمي لَا زَالَت سحائب الغفران تمطر قَبره الْكَرِيم وَلَا برح يبزغ من شموس عرفانه كل آونة سَاطِع نفع عميم وَهُوَ كتاب حوى من الْفَوَائِد الحديثية وغرائب تَفْسِير الآى القرآنية وَحل مشكلات كَلَام أهل الْعرْفَان وَمن نَالَ من صفاء النَّفس ورسوخ الْقدَم فِي التصوف كل إتقان مَا يبهر الْعقل بصفاء أنواره ويخلص للروح عِنْد تبلج أسراره لم يحذ حَذْو مسلكه الشريف ناسج من برود الْفضل حلّه وَلم يتْرك لناظره من أسقام الْجَهْل فِي هَذِه الْفُنُون عله فَهُوَ لمؤلفه من آيَات التَّحْقِيق الدامغة لأباطيل خَفَاء ذكره المعلنة بعظيم مَحَله وكبير قدره وَقد تحلت طرره ووشيت غرره بِكِتَاب الدُّرَر المنتثره فِي الْأَحَادِيث المشتهرة لواسطة عقد الْمُحدثين وَبَيت قصيدة الْمُتَأَخِّرين من يَكْفِي اسْمه عَن التنويه بِشَأْنِهِ وتلوح من تباشير ذكره آيَات عرفانه شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين جلال الدّين السُّيُوطِيّ وَهَذَانِ الكتابان وَإِن عزت نسخهما وكادت يَد التبديل تعدم روحهما وَلَكِن لخلوص نِيَّة مؤلفيهما وَصدق عزيمتيهما قيض الله من كَبرت فِي الْخَيْر رغبته وصدقت فِي حب نشر الْمَنَافِع نِيَّته فَاحْضُرْ مَا عثر عَلَيْهِ من صَحِيح النّسخ وَمَا طَالَتْ يَد جلبه وَفِي الصِّحَّة قدمه رسخ وبذلت غَايَة الْجهد فِي تَصْحِيحه وتدبره وتنقيحه فجَاء بِحَمْد الله تقربه عين النَّاظر وتنشرح بِهِ الرّوح والخاطر وَذَلِكَ بمطبعة التَّقَدُّم العلمية بِمصْر المحمية بجوار سَيِّدي أَحْمد الدردير قَرِيبا من الْجَامِع الْأَزْهَر الْمُنِير وَذَلِكَ فِي أَوَائِل شهر ربيع الثَّانِي سنة 1346 هجرية على صَاحبهَا أفضل الصَّلَاة وأزكى التَّحِيَّة آمين.(1/241)