ومن هذا الباب إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك وبرخص في مثل ما فعله ابن عمر وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعاً لابن عمر. وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان: أشهرهما أنه مكروه كقول الجمهور وأما مالك وغيره من العلماء فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر فإن أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم لم يفعلها فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكاناً يصلون فيه فقال ما هذا؟ قالوا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فيه وإلا فليمض. وهكذا للناس قولان فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد وغيره كما قد بسط ذلك في موضعه، ولم يكن ابن عمر ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقطوان كان هو لم يقصد التعبد به فأما الأمكنة نفسها فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها إلا ما عظمه الشارع.
فصل
وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله فإنه ليس فيه متابعتهم لا في عمل عملوه ولا قصد قصدوه ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحل فيها إما في سفر وإما في مقامه مثل طرقه في حجه وغزواته ومنازله في أسفاره، ومثل بيوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحياناً فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " .
فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم، ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم، ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد.
ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وأراد أن تكون المساجد خالصة لله تعالى تبنى لأجل عبادته فقط، لا يشركه في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراماً، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل، ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه. وهذا الذي خاف عمر رضي الله عنه أن يقع فيه المسلمون هو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه، قال الله تعالى (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) وقال تعالى (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين) وقال تعالى (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حطبت أعمالهم وفي النار هم خالدون، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين).
ولو كان هذا مستحباً لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئاً من ذلك.
ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يقصد للصلاة إلا المسجد. ولا مكان يقصد للعبادة إلى المشاعر. فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر. وفيها الصلاة والنسك، قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت) وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك وإن كان مسكناً لنبي أو منزلاً أو ممراً.
فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها بخلاف ما كان من خصائص.(1/341)
فأما الفعل الذي لم شرعه هو لنا ولا أمرنا به ولا فعله فعلاً سن لنا أن نتأسى به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدم، وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة بل نتبعه فيه فإن فعله مباحاً فعلناه مباحاً وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصاً به نوع اختصاص.
فصل
وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادات ويبغض إليهم السبل الشرعية، حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن والحديث ولا ذكره. وقد يبغض إليهم جنس الكتاب فلا يحبون كتاباً ولا من معه كتاب ولو كان مصحفاً أو حديثاً، كما حكى النصر أبا ذي أنهم كانوا يقولون: يدع علم الخرق، ويأخذ علم الورق، قال ولست أستر ألواحي منهم، فلما كبرت احتاجوا إلى علمي، وكذلك حكى السري السقطي أن واحداً منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلما خرج ولم يعقد عنده. ولهذا قال سهل بن عبد الله التستري: يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق وقال الجنيد: علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن. وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب، وذلك أنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم فصارت شياطينهم تهربهم من هذا، كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه، وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه وقال الله تعالى عن المشركين (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وقال تعالى (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة). وهم من أرغب الناس في السماع البدعي سماع المعازف. ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات الله تعالى.
وكان مما زين لهم طريقهم أن وجودوا كثيراً من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة الله تعالى وسلك سبيله إما اشتغالاً بالدنيا وإما بالمعاصي وإما جهلاً وتكذيباً بما يحصل لأهل التأله والعبادة فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين: هؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء، وهؤلاء يقولون ليس هؤلاء على شيء، وقد يظنون أنهم يحصلون لهم بطريقهم أعظم مما في الكتب.
فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بل تلقين. ويحكون أن شخصاً حصل له ذلك، وهذا كذب. نعم قد يكون سمع آيات الله فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها. فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها، ويقول بعضهم أو يحكى أن بعضهم قال: أخذوا علمهم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. وهذا يقع، لكن منهم من يظن ما يلقى إليه من خطاب أو خاطر هو من الله تعالى بلا واسطة، وقد يكون من الشيطان. وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالف ذلك فهو خطأ.
وقد قال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).(1/342)
وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله قال تعالى (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) وقال تعالى (وما هو إلا ذكر للعالمين) وقال تعالى (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكر فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسبتها وكذلك اليوم تنسى) وقال تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليما) وقال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا لإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض إلا إلى الله تصير الأمور) وقال تعالى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) وقال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون).
ثم أن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول. يقول أحدهم فلان عطيته على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة. ويقول أيضاً: فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله ومثل هذا.
وقول القائل يأخذ عن الله وأعطاني الله لفظ مجمل، فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي بمشيئة الله وقدرته حصل لي هذا، فهو حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وذلك الذي أخذ عن الكتاب هو أيضاً عن الله بهذا الاعتبار. والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضاً هم كذلك، وإن أراد أن هذا الذي حصل لي هو مما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه وهذا الخطاب الذي يلقى إلي هو كلام الله تعالى: فهنا طريقان: أحدهما أن يقال له من أين لك أن هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم كما أخبر الله تعالى بذلك في القرآن، وهذا موجود كثيراً في عباد المشركين وأهل الكتاب وفي الكهان والسحرة ونحوهم، وفي أهل البدع بحسب بدعتهم. فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية، فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فهو (الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الرشاد والغي، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين سبيل أولياء الرحمن، وسبيل أولياء الشيطان. كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنه يقال لهم: إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركاً بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق.
الطريق الثاني أن يقال: بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب، أو أن يدعوا مخلوقاً كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكاً أو نبياً أو شيخاً، فإذا دعاه كما يدعى الخالق سبحانه إما دعاء أو عبادة وإما دعاء مسئلة صار مشركاً به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك كما كان يحصل للمشركين، وكانت الشياطين تتراءى لهم أحياناً وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة أو يقضون لهم بعض الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر قال الله تعالى (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنا نحن فئة لا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون).(1/343)
وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال اتقوا الخمر فإنها أم الخبائب. وأن رجلاً سأل امرأة فقالت لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن، فقال لا أشرك بالله، فقالت أو تقتل هذه الصبي؟ فقال لا أقتل النفس التي حرم الله، فقالت أو تشرب هذا القدح؟ فقال هذا أهون، فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة " .
والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما نفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون.
وهذه الثلاثة موجودة كثيراً في أهل سماع المعازف: سماع المكاء والتصدية، أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبو شيخهم أو غيره مثل ما يحبون الله، ويتواجدون على حبه.
وأما الفواحش فالغناء رقية الزنا وهو من أعظم الأسباب لوقوع الفواحش ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره فتنحل نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلاً مفعولاً به أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر.
وأما القتل فإن قتل بعضهم بعضاً في السماع كثير يقولون: قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته، وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر، كالذين يشربون الخمر ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر، وقد جرى مثل هذا لكثير منهم، ومنهم من يقتل إما شخصاً وإما فرساً أو غير ذلك بحاله ثم يقول صاحب الثار ويستغيث بشيخه فيقتل ذلك الشخص وجماعة معه إما عشرة وإما أقل أو أكثر كما جرى مثل هذا لغير واحد، وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات.
فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان عرف ذلك من بصره الله تعالى وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء.
وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة فبتنا بمكان وأرادوا أن يقيموا سماعاً وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك فجعلوا لي مكاناً منفرداً قعدت فيه فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده ويقول يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا: أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي على طريق محمد بن عبد الله فإني لا آكل منه شيئاً. وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة وعلم أنه كان معهم الشياطين وكان فيهم من هو سكران بالخمر.
والذي قلته معناه أن هذا النصيب وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي ليس هو طاعة لله ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال، أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك.
وقد يكون سببه نذر لغير الله سبحانه وتعالى مثل أن ينذر لصنم أو كنيسة أو قبر أو نجم أو شيخ ونحو ذلك من النذور التي فيها شرك فإذا أشرك بالنذر فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه كما تقدم في السحر، وهذا بخلاف النذر لله تعالى فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي رواية " فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر " فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به منهي عن عقده، ولكن إذا كان قد عقده فعليه الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " .(1/344)
وإنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه وقد لا يرضى به فيبقى إثماً. وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيراً له. والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير، فليس النذر سبباً في حصول مطلوبهم، وذلك أنا الناذر إذا قال: لله علي إن حفظني الله القرآن أن أصوم مثلاً ثلاثة أيام أو إن عافاني الله من هذا المرض أو إن دفع الله هذا العدو أو إن قضى عني هذا الدين فعلت كذا فقد جعل العبادة التي التزمها عوضاً عن ذلك المطلوب والله سبحانه لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة بل ينعم على عبده بذلك المطلوب ليبتليه أيشكر أم يكفر؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه.
وأما تلك العبادة المنذورة فلا تقوم بشكر تلك النعمة ولا بنعم الله، تلك النعمة ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة فصارت واجبة، لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيراً من حقوق الله ثم بذل ذلك النذر لأجل تلك النعمة، وتلك النعمة أجل من أن ينعم الله بها لمجرد ذلك المنذور المحتقر، وإن كان المبذول كثيراً والعبد مطيع لله فهو أكرم على الله من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير فليس النذر سبباً لحصول مطلوبه كالدعاء فإن الدعاء من أعظم الأسباب، وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الله تعالى أسباب لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء، وأما ما يفعله على وجه النذر فإنه لا يجلب منفعة ولا يدفع عنه مضرة، لكنه كان بخيلاً فلما نذر لزمه ذلك، فالله تعالى يستخرج بالنذر من البخيل فيعطى على النذر ما لم يكن يعطيه بدونه والله أعلم.
تمت والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً وذلك نهار الثلاثاء آخر شهر صفر من سنة تسع وأربعين وسبعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فتيا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(مسألة في الغيبة) هل تجوز على أناس معينين أو يعين شخص بعينه؟ وما حكم ذلك؟ أفتونا بجواب بسيط ليعلم ذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ويستمد كل واحد بحسب قوته بالعلم والحكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، أصل الكلام في هذا أن يعلم أن الغيبة هي كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما سئل عن الغيبة فقال " هي ذكرك أخاك بما يكره " قيل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " .
بين صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان وأن الكذب عليه بهت له كما قال سبحانه (لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) وقال تعالى (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) وفي الحديث الصحيح " أن اليهود قوم بهت " .
فالكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، لكن الافتراء على المؤمن أشد بل الكذب كله حرام.
ولكن يباح عند الحاجة الشرعية - المعاريض - وقد تسمى كذباً لأن الكلام يعني به المتكلم المحض، وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب فهذه المعاريض، وهي كذب باعتبار الإفهام، وإن لم تكن كذباً باعتبار الغاية السائغة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله: قوله لسارة أختي، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله (أبي سقيم) " وهذه الثلاثة معاريض، وبها احتج العلماء على جوار التعريض للمظلوم، وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب، ولهذا قال من قال من العلماء إن ما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من هذا كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً أو ينمي خيراً " ولم يرخص فيما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث في الإصلاح بين الناس وفي الحرب وفي الرجل يحدث امرأته.
قال فهذا كله من المعاريض خاصة ولهذا نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال " الحرب خدعة " وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها.(1/345)
ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يهديني السبيل " وقول النبي صلى الله عليه وسلم للكافر السائل له في غزوة بدر " نحن من ماء " وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره " أنه أخي " وعنى أخوة الدين، وفهموا منه أخوة النسب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن كنت لأبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم " .
والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الاغتياب وبين البهتان، وأخبر أن المخبر بما يكره أخوه المؤمن عنه إذا كان صادقاً فهو المغتاب، وفي قوله صلى الله عليه وسلم " ذكرك أخاك بما يكره " موافقة لقوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) فجعل جهة التحريم كونه أخاً أخو الإيمان، ولذلك تغلظت الغيبة بحسب حال المؤمن، فكلما كان أعظم إيماناً كان اغتيابه أشد.
ومن جنس الغيبة الهمز واللمز، فإن كلاهما فيه عيب الناس والطعن عليهم كما في الغيبة، لكن الهمز هو الطعن بشدة وعنف، بخلاف اللمز فإنه قد يخلو من الشدة والعنف، كما قال تعالى (ومنهم من يلمزك في الصدقات) أي يعيبك ويطعن عليك. وقال تعالى (ولا تلمزوا أنفسكم) أي لا يلمز بعضكم بعضاً. وقال (هماز مشاء بنميم) وقال (ويل لكل همزة لمزة).
إذا تبين هذا فنقول: ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين (أحدهما) ذكر النوع (والثاني) ذكر الشخص المعين الحي أو الميت.
أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسله يجب ذمه وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه، وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه، فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء، كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، والمحلل والمحلل له، ولعن من عمل عمل قوم لوط، ولعن من أحد حدثاً أو آوى محدثاً، ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها، ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها، ولعن الله الذي يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين.
والله هو وملائكته يصلون على النبي ويصلون على الذين آمنوا والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير، وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات.
فإذا كان المقصود الأمر بالخير والترغيب فيه والنهي عن الشر والتحذير منه فلا بد من ذكر ذلك ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه أن أحداً فعل ما ينهي عنه يقول " ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " " ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده " " ما بال رجال يقول أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر؟ ويقول الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام؟ ويقول الآخر: لا أتزوج النساء. ويقول الآخر: لا آكل اللحم؟ لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنا وأتزوج النساء وآكل اللحم؟ فمن رغب عن سنتي فليس مني " .(1/346)
وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة والصلاة واللعن بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك مثل أسماء القبائل والمدائن والمذاهب والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ونحو ذلك مما يراد به التعريف كما قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون) وقال (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) وقد قال صلى الله عليه وسلم " إن آل أبي فلان ليسوا ليس بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " وقال " إلا أن أوليائي المتقون حيث كانوا ومن كانوا " وقال " إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس من آدم وآدم من تراب " وقال " أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى " .
فذكر الأزمان والعدل بأسماء الإيثار والولاء والبلد والانتساب إلى عالم أو شيخ إنما يقصد بها التعريف به ليتميز عن غيره، فأما الحمد والذم والحب والبعض والموالاة والمعاداة فإنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان، قال تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقال تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقال تعالى (افتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين بدلا) وقال تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطى من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين - إلى قوله - إنما المؤمنون أخوة) فجعلهم أخوة مع وجود الاقتتال والبغي، وقال تعالى (أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟) وقد قال تعالى (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فهذا الكلام في الأنواع.
وأما الشخص المعين فيذكر ما فيه من الشر في مواضع (منها) المظلوم له إن يذكر ظالمه بما فيه إما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " كما قال صلى الله عليه وسلم " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " وقال وكيع: عرضه شكايته وعقوبته حبسه، وقال تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) وقد روى: إنها نزلت في رجل نزل بقوم فلم يقروه. فإذا كان هذا فيمن ظلم بترك قراه الذي تنازع الناس في وجوبه وإن كان الصحيح أنه واجب، فكيف بمن ظلم بمنع حقه الذي اتفق المسلمون على استحقاقه إياه؟ أو يذكر ظالمه على وجه القصاص من غير عدوان ولا دخول في كذب ولا ظلم الغير وترك ذلك أفضل.(1/347)
ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم من الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم من تنكج؟ وقالت: أنه خطبني معاوية وأبو جهم فقال " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء " وروي " لا يضع عصاه عن عاتقه " فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك وهذا يؤذيك بالضرب. وكان هذا نصحاً لها - وإن تضمن ذكر عيب الخاطب.
وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه. وأمثال ذلك، وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء والحكام والشهود والعمال أهل الديوان وغيرها؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا لمن يا رسول الله؟ قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " .
وقد قالوا لعمر بن الخطاب: في أهل الشورى أمر فلاناً وفلاناً، فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمراً جعله مانعاً له من تعيينه.
وإذا كان النصح واجباً في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكاً والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره.
وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا، فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم.
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبل الله ودينه ومناهجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وذلك أن الله يقول في كتابه (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكر. فقوام الدين بالكتاب الهادي، والسيف الناصر (وكفى بربك هادياً ونصيرا).
والكتاب هو الأصل ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه الكتاب ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد.
وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله (جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم) في آيتين من القرآن.(1/348)
فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله.وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوهم قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاء إلى بدع المنافقين كما قال تعالى (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيماناً يوجب موالاتهم.وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم يكن كذلك لوجب بيان حالها.ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة، وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطاه بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق الرافضة عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً وكذلك القاضي والشاهد والمفتي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بخلاف ذلك فهو في النار " وقد قاتل تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى إن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) واللي هو الكذب والإعراض كتمان الحق ومثله ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذاب وكتما محقت بركة بيعهما " .ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء. وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصاً له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل، وليس هذا الباب مخالفاً لقوله " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره " فإن الأخ هو المؤمن وأخا المؤمن إن كان صادقاً في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه، بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهداً لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه، ومتى كره هذا الحق كان ناقصاً في إيمانه، ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه، فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه إذ كراهته لما يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه).ثم قد يقال: هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظاً ومعنى وقد يقال دخل في ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه فالحكم واحد والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ إذ العلة قد يعني بها التامة وقد يعني بها المقتضي والله أعلم وأحكم.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر
والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل(1/349)
مجموع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره وما حققه في مواضع من كتبه ومؤلفاته
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين(1/350)
سؤال ورد على الشيخ تقي الدين بن تيمية رضي الله عنه من الديار المصري في شوال سنة أربع عشرة وسبعمائة، في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام، وهل يخلق لعلة أو لغير علة؟ فإن قيل لا لعلة فهو عبث تعالى الله عنه، وإن قيل لعلة، فإن قلتم أنها لم تزل، لزم أن يكون المعلول لم يزل، وإن قلتم أنها محدثة لزم أن يكون لها علة والتسلسل محال.(الجواب) الحمد لله رب العالمين. هذه المسئلة من أجل المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعباً وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات. فإن لها تعلقاً بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسئلة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه، وكذلك الشرائع كلها: الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، ومسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه هو الأمر والنهي.وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث؟ أو بمعنى الإمارة والعلامة؟ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا؟.وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم هل هو منزه عنه مع قدرته عليه أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه.وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه هل هو بمعنى إرادته وهو الثواب والعقاب المخلوق، أم هذه صفات أخص من الإرادة.وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث؟ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن أراده الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه، وفروع هذه المسئلة كثيرة.ولأجل تجاذب الأصل ووقوع الاشتباه فيه صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل، وكل تقدير قال به طواف بني آدم من المسلمين وغير المسلمين.(فالتقدير الأول) هو قول من يقول خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، وهذا قول كثير ممن يثبت القدر، وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم. وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول الأشعري وأصحابه، وقول كثير من نفاة القياس الظاهرية كابن حزم وأمثاله.ومن حجة هؤلاء أنه لو خلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء أو يكون وجودها أولى به. فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به، فيكون مستكملاً بها، فيكون قبلها ناقصاً.ومن حجتهم ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلوم لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلوم في العلم والقصد كما يقال: أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك. ويقال أن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلاً فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عن العمل، فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل، فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديماً كان الفعل قديماً بطريق الأولى.فلو قيل أنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل أنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران (أحدهما) أن يكون محلاً للحوادث فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثاً فتقوم به الحوادث.(والمحذور الثاني) أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين (أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضاً مما يحدثه الله تعالى بقدرته(1/351)
ومشيئته، فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث (الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل. وهذا نحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.ه، فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها، فإذا كان كل ما أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث (الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى، فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه، وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل. وهذا نحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
والتقدير الثاني قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم. وهؤلاء أصل قولهم أن للمبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها. وأعظم حججهم قولهم أن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها، فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول، فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة، وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضى التام لوجود الفعل وهيجميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم يكن جميعها في الأزل فلا بد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل. قالوا فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح.
ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلة ولكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية، ويقولون مع هذا ليس له إرادة بل هو موجب بالذات، فال فاعل بالاختيار. وقولهم باطل من وجوه كثيرة: منها أن يقال هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء، وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث. ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل وبطلان الترجيح بلا مرجح، وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها ولا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها، فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة، وليس هناك ما يصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة، فإذا امتنع صدور الحوادث عنه وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن يحدث بلا محدث.
وأيضاً فلو قدر أن غيره أحدثها فإن كان واجباً بنفسه كان القول فيه كالقول في الواجب الأول. وأصل قولهم أن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث، لا بواسطة ولا بغير واسطة، لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه، فامتنع صدور الحوادث عنها وإن كانت حادثة كان القول فيها كالقول في غيرها.
وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه كان ممكناً مفتقراً إلى موجب يوجب به. ثم إن قيل أنه محدث كان من الحوادث، وإن قيل أنه قديم كان له علة تامة مستلزمة له، وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه، فإن الممكن لا يوجد هو ولا شيء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه. فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة قيل هل حدث فيه سبب يقتضي الحدوث أم لا؟ فإن قيل لم يحدث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن قيل حدث سبب لزم التسلسل كما تقدم.(1/352)
الوجه الثاني الذي يبين بطلان قولهم أن يقال: مضمون الحجة أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح والتسلسل عندكم جائز. فإن أصل قولهم أن هذه الحوادث متسلسلة شيئاً بعد شيء وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم هي العقل الفعال أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول أو غير ذلك من الوسائط، وإذا كان التسلسل جائزاً عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث من غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل، بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم، وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه الملل: المسلمون واليهود والنصارى. فإن قيل بأنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك كان خيراً من قولهم أنها قديمة أزلية معه في الشرع، وكان أولى في العقل لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع، وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شيء إلا بسبب حادث فإذا قيل أن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا.
الوجه الثالث أن يقال حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكناً في العقل أو ممتنعاً، فإن كان ممتنعاً في العقل لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام، وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك، وإن كان محدثاً أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفاً على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك فيلزم فساد حجتكم على التقديرين.
ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة وإما لا تثبتوا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات، وأيضاً فالوجود يبطل هذا القول، فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء، كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه، كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، وإن أثبتم له حكمة مطلوبة - وهي باصطلاحكم العلة الغائية - لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة، فإن القول بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريداً لتلك الحكمة المطلوب جمع بين النقيضين، وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضاً ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة وأمثال ذلك.(1/353)
وأما التقدير الثالث وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين، وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم، وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله، لكن هؤلاء على أقوال: منهم من قال أن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضاً كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم، وقالوا الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق، والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب، وقالوا إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل. فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم ولا قام به فعل ولا نعت، فقال لهم الناس أنتم متناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، أما لتكميل نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بذلك الإحسان الألم، وإما للتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عبثاً ولم يكن محموداً على هذا، وأنتم عللتم أفعاله فراراً من العبث فوقعتم في العبث، فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل، ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة، وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر.
ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسئلة التحسين والتقبيح العقلي، فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه، ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعاً للفاعل ملائماً له وكونه ضاراً للفاعل منافراً له أنه يمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع، وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا، وهذا ليس كذلك، بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم، وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم، والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له، والذم والعقاب المرتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له، والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله. ومنازعوهم لما اعتقدوا أن لا حسن ولا قبح إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته، وكل ما يقدر ممكننا من الأفعال فهو حسن، إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول، وأولئك أثبتوا حسناً وقبحاً لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته، إذ عندهم لا يقوم بذاته وصف ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون.(1/354)
ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح، فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد، ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته، فلا يثبتون له مشيئة عامة، ولا قدرة تامة، فلا يجعلونه (على كل شيء قدير) ولا يقولون " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " ولا يقرون بأنه خالق كل شيء. ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه، فإنه قال (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) أي لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته. وقال تعالى (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) وقال صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وغيره " يجاء برجل من أمتي يوم القيامة فتنشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فيقال له: هل تنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقال له لا ظلم عليك اليوم، ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم بل يثاب على ما أتى به من التوحيد، كما قال تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم عدلية يقولون من فعل كبيرة واحداً أحطبت جميع حسناته وخلد في نار جهنم، فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلماً يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم، ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلماً. والكلام في هذه الأمور مبسوطفي غير هذا الموضع (وإنما) نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام.
وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه، وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه، ومذهبهم أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل، ولا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً.
وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام وغيرهم والمتفلسفة أيضاً فلا يوافقونهم على هذا بل يقولون أنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه، وهو يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك. والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة، كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وقال تعالى (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) وقال تعالى (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً) قالوا هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا قال قائل فقد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب كان عن هذا جوابان.
أحدهما أنه نفعهم بحسب الإمكان فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم، ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره، وكان ذلك تقليلاً لشره، والرسل صلوات الله عليهم بعثوا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
والجواب الثاني أن ما حصل من الضرر أمر مغمور في جنب ما حصل من النفع، كالمطر الذي عم نفعه إذا خرب به بعض البيوت أو احتبس به بعض المسافرين والمكتسبين كالقاصرين ونحوهم، وما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيراً مقصوداً ورحمة محبوبة وإن تضرر به بعض الناس. وهذا الجواب أجاب به طوائف من المسلمين وأهل الكلام والفقه وغيرهم من الحنفية والحنبلية وغيرهم ومن الكرامية والصوفية، وهو جواب كثير من المتفلسفة.(1/355)
وقال هؤلاء جميع ما يحدث في الوجود من الضرر فلا بد فيه من حكمة قال تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) وقال (الذي أحسن كل شيء خلقه) والضرر الذي يحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به. ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إضافة الشر وحده إلى الله، بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة، إما أن يدخل في عموم المخلوقات فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تعلق بالعموم، وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل، وإما أن يحذف فاعله.
فالأول كقوله تعالى (الله خالق كل شيء) ونحو ذلك، ومن هذا الباب أسماء الله المقترنة كالمعطي المانع، والضار النافع، المعز والمذل، الخافض الرافع، فلا يفرد الاسم المانع عن قرينه ولا الضار عن قرينه لأن اقترانها يدل على العموم، وكل ما في الوجود من رحمة ونفع ومصلحة فهو من فضله تعالى، وما في الوجود من غير ذلك فمن عدله، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع " فأخبر أن يده اليمنى فيها الإحسان إلى الخلق، ويده الأخرى فيها العدل والميزان الذي به يخفض ويرفع، فخفضه ورفعه من عدله، وإحسانه إلى خلقه من فضله.
وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) وقوله تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) ونحو ذلك.
وإضافته إلى السبب كقوله (من شر ما خلق) وقوله (فأردت أن أعيبها) مع قوله (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) وقوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله (ربنا ظلمنا أنفسنا) وقوله تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة مثليها قليتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) وأمثال ذلك.
ولهذا ليس في أسماء الله الحسنى اسم يتضمن الشر وإنما يذكر الشر في مفعولاته كقوله (نبيء عبادي إني أنا لغفور رحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم) وقوله (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) وقوله (اعلموا أن الله شديد العقاب) الآية، وقوله (إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدي ويعيد، وهو الغفور الودود) فبين سبحانه أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود.
واسم المنتقم ليس من أسماء الله الحسن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما جاء في القرآن مقيداً كقوله تعالى (إنا من المجرمين منتقمون) وقوله (إن الله عزيز ذو انتقام) والحديث الذي في عدد الأسماء الحسنى الذي يذكر فيه المنتقم وذكر في سياقه " البر التواب المنتقم العفو الرؤوف " ليس هو عند أهل المعرفة بالحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هذا ذكره الوليد بن مسلم عن بعض شيوخه ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المشهورة إلا الترمذي، رواه من طريق الوليد بن مسلم بسياق، ورواه غيره باختلاف في الأسماء وفي ترتيبها يبين أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وسائر من روى هذا الحديث عن أبي هريرة ثم عن الأعرج ثم عن أبي الزناد لم يذكروا أعيان الأسماء، بل ذكروا قوله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة " وهكذا أخرجه أهل الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما، ولكن روي عدد الأسماء من طريق أخرى من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ورواه ابن ماجه وإسناده ضعيف يعلم أهل الحديث أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عدد الأسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذان الحديثان كلاهما مروي من طريق أبي هريرة وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على أصول تنفع في معرفة هذه المسئلة فإن نفوس بني آدم لا يزال يجول فيها من هذه المسئلة أمر عظيم.(1/356)
وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلقه وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله ويتبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه حيث قال (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح " لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها " وفي الصحيحين عنه أنه قال " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق حتى أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها من تلك الرحمة، واحتبس عنده تسعاً وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده " أو كما قال.
ثم هؤلاء الجمهور من المسلمين وغيرهم كأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والعلماء الذين يثبتون حكمة فلا ينفونها كما نفاها الأشعرية ونحوهم الذين يثبتون إرادة بلا حكمة ومشيئة بلا رحمة ولا محبة ولا رضى، وجعلوا جميع المخلوقات بالنسبة غليه سواء لا يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضى بل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان قالوا إنه يحبه ويرضاه كما يريده، وإذا قالوا لا يحبه ولا يرضاه ديناً قالوا أنه لا يريده ديناً، وما لم يقع من الإيمان والتقوى فإنه لا يحبه ولا يرضاه عندهم كما لا يريده. وقد قال تعالى (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) فأخبر أنه لا يرضاه، مع أنه قدره وقضاه، ولا يوافقون المعتزلة على إنكار قدر الله تعالى وعموم خلقه ومشيئته وقدرته، ولا يشبهونه بخلقه فيما يوجب ويحرم كما فعل هؤلاء، ولا يسلبونه ما وصف به نفسه من صفاته وأفعاله بل أثبتوا له ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال ونزهوه عما نزه عنه نفسه من الصفات والأفعال، وقالوا إن الله خالق كل شيء ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وهو يحب المحسنين والمتقين، ويرضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يرضى بالقول المخالف لأمر الله ورسوله، وقالوا مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) وكما قال (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون) وقال تعالى (أم تجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفجار) وقال (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات) وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال تعالى (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) وقال تعالى (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما) وقال تعالى (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحيرون، وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون) ونظائر هذا في القرآن كثير.
وينبغي أن يعلم أن هذا المقام زل فيه طوائف من أهل الكلام والتصوف وصاروا فيه إلى ما هو شر من قول المعتزلة ونحوهم من القدرية، فإن هؤلاء يعظمون الأمر والنهي والوعد والوعيد وطاعة الله ورسوله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لكن ضلوا في القدر واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولاً لكل شيء لزم من ذلك القدح أنهم إذا أثبتوا مشيئة عامة وقدرة شاملة وخلقاً متناولاً لكل شيء لزم من ذلك القدح في عدل الرب وحكمته وغلطوا في ذلك.(1/357)
فقابل هؤلاء قوم من العلماء والعباد وأهل الكلام والتصوف، فأثبتوا القدر وآمنوا بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وهذا حسن وصواب. لكنهم قصروا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى غلا بهم إلى الإلحاد فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) فأولئك القدرية وإن كانوا يشبهون المجوس من حيث أنهم أثبتوا فاعلاً لما اعتقدوه شراً غير الله سبحانه، فهؤلاء شابهوا المشركين الذين قالوا (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) فالمشركون شر من المجوس، فإن المجوس يقرون بالجزية باتفاق المسلمين، وذهب بعض العلماء إلى حل نسائهم وطعامهم، وأما المشركون فاتفقت الأمة على تحريم نكاح نسائهم، ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما أنهم لا يقرون بالجزية، وجمهور العلماء على أن مشركي العربي لا يقرون بالجزية وإن أقرت المجوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل الجزية من المشركين بل قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل " .
والمقصود هنا أن من أثبت القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يثبت القدر، وهذا متفق عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل بل من جميع الخلق، فإن من احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرق بين المأمور والمحظور، والمؤمن والكافر، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواء، ونوح وقومه سواء، وموسى وفرعون سواء، والسابقون الأولون والكافرون سواء. وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد والعبادة، لا سيما إذا قرنوا به توحيد أهل الكلام المثبتين للقدر والمشيئة من غير إثبات المحبة والبغض والرضى والسخط، الذين يقولون التوحيد هو توحيد الربوبية، والآلهية عندهم هي القدرة على الاختراع ولا يعرفون توحيد الآلهية، ولا يعلمون أن الإله هو المألوه المعبود، وأن مجرد الإقرار بأن الله رب كل شيء لا يكون توحيداً حتى تشهد أن لا إله إلا الله كما قال تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون). قال عكرمة: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون الله، وهم يعبدون غيره، وهؤلاء يدعون التوحيد والفناء في التوحيد ويقولون أن هذا نهاية المعرفة، وأن العارف إذا صار في هذا المقام لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة لشهوده الربوبية العامة والقيومية الشامل. وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.(1/358)
وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام الذين قال الله عنهم (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله، قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل تسحرون) وقال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله قل فأنى تؤفكون) وقال (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) وقال تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله. فقل أفلا تتقون، فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون، كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده، فأنى تؤفكون، قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟ فما لكم كيف تحكمون) وقال تعالى (أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها؟ أإله مع الله؟ بل هم قوم يعدلون، أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً؟ أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض؟ أإله مع الله؟ قليلاً ما تذكرون، أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته؟ أإله مع الله؟ تعالى الله عما يشركون، أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض؟ أإله مع الله؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) فإن هؤلاء المشركين كانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم وبيده ملكوت كل شيء، وكانوا مقرين بالقدر، فإن العرب كانوا يثبتون القدر في الجاهلية وهو معروف عنهم في النظم والنثر، ومع هذا فلم يكونوا يعبدون الله وحده لا شريك له، بل عبدوا غيره فكانوا مشركين شراً من اليهود والنصارى، فمن كان غاية توحيده وتحقيقه هو هذا التوحيد كان غاية توحيده توحيد المشركين.
وهذا المقام مقام وأي مقام، زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وبدل فيه دين المسلمين، والتبس فيه أهل التوحيد بعباد الأصنام على كثير ممن يدعون نهاية التوحيد والتحقيق والمعرفة والكلام. ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة القدرية المثبتين للأمر والنهي والوعد والوعيد خير ممن يسوي بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبي الكاذب، وأولياء الله وأعدائه الذين ذمهم السلف، بل هم أحق بالذم من المعتزلة، كما قال الخلال في كتاب (السنة والرد على القدرية) وقولهم أن الله أجبر العباد على المعاصي: وذكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله: رجل يقول أن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا نقول وأنكر ذلك، وقال (يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) وذكر عن المروذي أن رجلاً قال أن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه آخر فقال أن الله جبر العباد، أراد بذلك إثبات القدر، فسألوا عن ذلك أحمد بن حنبل فأنكر عليهما جميعاً حتى قال - أو أمر أن يقال - (يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء).
وذكر عن عبد الرحمن بن معدي قال أنكر سفيان الثوري " جبر " وقال أن الله جبل العباد. قال المروذي أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم " لأشج عبد القيس " يعني قوله " أن فيك لخلتين يحبهما الله: الحلم والأناءة " فقال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال " بل خلقين جبلت عليهما " فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما.(1/359)
وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال قال الأوزاعي: أتاني رجلان فسألاني عن القدر فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما: قلت رحمك الله أنت أولى بالجواب، قال: فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان فقال، تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر فنازعونا في القدر ونازعناهم فيه حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا أن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت: يا هؤلاء إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثاً، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه. فقال: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق.
وذكر عن بقية بن الوليد قال؟ سألت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلاً من القرآن والسنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث.
وقال مطرف بن الشخير: لم نوكل إلى القدر وإليه نصير. وقال ضمرة بن ربيعة لم نؤمر أن نتوكل على القدر وإليه نصير.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار " قالوا يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال " لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له " وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن الخلال وغيره أدخلوا القائلين بالجبر في مسمى القدرية، وإن كانوا لا يحتجون بالقدر على المعاصي، فكيف بمن يحتج به على المعاصي؟ ومعلوم أنه يدخل في ذم من ذم الله من القدرية من يحتج به على إسقاط الأمر والنهي أعظم مما يدخل فيه المنكر له، فإن ضلال هذا أعظم. ولهذا قرنت القدرية بالمرجئة في كلام غير واحد من السلف، وروي في ذلك حديث مرفوع لأن كلاً من هاتين البدعتين تفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد. فالإرجاء يضعف الإيمان بالوعيد ويهون أمر الفرائض والمحارم، والقدري إن احتج به كان عوناً للمرجئ، وإن كذب به كان هو والمرجئ قد تقابلا، هذا يبالغ في التشديد حتى لا يجعل العبد يستعين بالله على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهذا يبالغ في الناحية الأخرى.
ومن المعلوم أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لتصديق الرسل فيما أخبرت، وتطاع فيما أمرت، كما قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) والإيمان بالقدر من تمام ذلك. فمن أثبت القدر وجعل ذلك معارضاً للأمر فقد أذهب الأصل.
ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، بل هؤلاء قولهم متناقض لا يمكن أحداً منهم أن يعيش به ولا تقوم به مصلحة أحد من الخلق ولا يتعاشر عليه اثنان، فإن القدر إن كان حجة فهو حجة لكل أحد، وإلا فليس حجة لأحد. فإذا قدر أن الرجل ظلمه ظالم أو شتمه شاتم أو أخذ ماله أو أفسد أهله أو غير ذلك فمتى لامه أو ذمه أو طلب عقوبته أبطل الاحتجاج بالقدر. ومن ادعى أن العارف إذا شهد الإرادة سقط عنه الأمر كان هذا الكلام من الفكر الذي لا يرضاه اليهود ولا النصارى، بل ذلك ممتنع في العقل محال في الشرع، فإن الجائع يفرق بين الخبز والتراب، والعطشان يفرق بين الماء والسراب، فيحب ما يشبعه ويرويه دون ما لا ينفعه، والجميع مخلوق لله تعالى، فالحي وإن كان من كان لا بد وأن يفرق بين ما ينفعه وينعمه ويسره، وبين ما يضره ويشقيه ويؤلمه. هذه حقيقة الأمر فإن الله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم.
تقسيم الناس في الشرع والقدر
إلى أربعة أصناف(1/360)
والناس في الشرع والقدر على أربعة أنواع، فشر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره، يستند إليه في الذنوب والمعايب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعايب، كما قال تعالى (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك) وقال (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) وقال تعالى (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. قال تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).
وقد ذكر الله تعالى عن آدم عليه السلام أنه لما فعل ما فعل قال (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وعن إبليس أنه قال (فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) فمن تاب أشبه أباه آدم، ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس. والحديث الذي في الصحيحين في احتجاج آدم وموسى عليهما السلام لما قال له موسى " أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وعلمك أسماء كل شيء، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق (وعصى آدم ربه فغوى؟) قال بكذا وكذا سنة، قال فحج آدم موسى " وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وقد روي بإسناد جيد عن عمر رضي الله عنه.
فآدم إنما حج موسى لأن موسى لامه على ما فعل لأجل ما حصل لهم من المصيبة بسبب أكله من الشجرة، لم يكن لومه لأجل حق الله في الذنب. فإن آدم قد تاب من الذنب كما قال تعالى (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وقال تعالى (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) ومن هو دون موسى عليه السلام يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة لا يبقى ملام على الذنب، وآدم أعلم بالله من أن يحتج بالقدر على الذنب، وموسى عليه السلام أعلم بالله تعالى من أن يقبل هذه الحجة، فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة لإبليس عدو آدم، وحجة لفرعون عدو موسى، وحجة لكل كافر، وبطل أمر الله ونهيه، بل إنما كان القدر حجة لآدم على موسى لأنه لام غيره لأجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه.
وقد قال تعالى (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه) وقال أنس: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته - لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله - لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول " دعوه فلو قضي شيء لكان " وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا امرأة ولا دابة ولا شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم لله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه بشيء حتى ينتقم لله " وقد قال صلى الله عليه وسلم " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ففي أمر الله ونهيه يساره إلى الطاعة ويقيم حدود على من تعدى حدود الله ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا آذاه مؤذ أو قصر مقصر في حقه عفا عنه ولم يؤاخذه نظراً إلى القدر.
فهذا سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وهذا واجب فيما قدر من المصائب بغير فعل آدمي كالمصائب السماوية، أو بفعل لا سبيل فيه إلى العقوبة كفعل آدم عليه السلام فإنه لا سبيل إلى لومه شرعاً لأجل التوبة، ولا قدراً لأجل القضاء والقدر. وأما إذا ظلم رجل رجلاً فله أن يستوفي مظلمته على وجه العدل، وإن عفا عنه كان أفضل له كما قال تعالى (والجروح قصاص فمن تصدق فهو كفارة له).(1/361)
وأما الصنف الثالث فهم الذين لا ينظرون إلى القدر لا في المعايب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك إلى العبد، وإذا أساءوا استغفروا، وهذا أحسن لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى بها عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم دعوه فلو قضي شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم فلا ينظرون إليها وقد قال تعالى (أو لما أصابتكم مصيبة فقد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم) وقال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم) وقال تعالى (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور).
ومن هذا قوله تعالى (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فإن هذه الآية تنازع فيها كثير من مثبتي القدر ونفاته: هؤلاء يقولون الأفعال كلها من الله لقوله تعالى (قل كل من عند الله) وهؤلاء يقولون الحسنة من الله والسيئة من نفسك لقوله (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك).
وقد يجيبهم الأولون بقراءة مكذوبة (فمن نفسك؟) بالفتح على معنى الاستفهام وربما قدر بعضهم تقديراً أي أفمن نفسك؟ وربما قدر بعضهم القول في قوله تعالى (ما أصابك) فيقولون تقدير الآية (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) يقولون فيحرفون لفظ القرآن ومعناه، ويجعلون ما هو من قول الله - قول الصدق - من قول المنافقين الذين أنكر الله قولهم، ويضمرون في القرآن ما لا دليل على ثبوته بل سياق الكلام ينفيه. فكل من هاتين الطائفتين جاهلة بمعنى القرآن وبحقيقة المذهب ينصره.
وأما القرآن فالمراد (منه) هنا بالحسنات والسيئات النعم والمصائب ليس المراد الطاعات والمعاصي، وهذا كقوله تعالى (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) وكقوله (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا) الآية. ومنه قوله تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) كما قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) أي بالنعم والمصائب.
وهذا بخلاف قوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) وأمثال ذلك فإن المراد بها الطاع والمعصية، وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ، فليس في القرآن العزيز بحمد الله تعالى إشكال بل هو مبين وذلك أنه إذا قال (ما أصابك) وما مسك ونحو ذلك كان من فعل غيرك بك كما قال (ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وكما قال تعالى (إن تصبك حسنة تسؤهم) وقال تعالى (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم).
وإذا قال (من جاء بالحسنة) كانت من فعله لأنه هو الجائي بها فهذا يكون فيما فعله العبد لا فيما فعل به. وسياق الآيتين يبين ذلك فإنه ذكر هذا في سياق الحض على الجهاد وذم المتخلفين عنه فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً، وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً، ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما).
فأمر سبحانه بالجهاد وذم المثبطين وذكر ما يصيب المؤمن تارة من المصيبة فيه وتارة من فضل الله فيه، كما أصابهم يوم أحد فقال (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثلها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم) وأصابهم يوم بدر فضل من الله بنصره لهم وتأييده كما قال تعالى (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) ثم أنه سبحانه قال (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) الآية.(1/362)
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) إلى قوله (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) فهذا من كلام الكفار والمنافقين، إذا أصابهم نصر وغيره من النعم قالوا هذا من عند الله، وإن أصابهم ذل وخوف وغير ذلك من المصائب قالوا هذا من عند محمد بسبب الدين الذي جاء به، فإن الكفار كانوا يضيفون ما أصابهم من المصائب إلى فعل أهل الإيمان.
وقد ذكر نظير ذلك في قصة موسى وفرعون قال تعالى (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون، فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) ونظيرة قوله تعالى في سورة يس (قالوا ربنا يعلم أنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) فأخبر الله تعالى أن الكفار كانوا يتطيرون بالمؤمنين فإذا أصابهم بلاء جعلوه بسبب أهل الإيمان، وما أصابهم من الخير جعلوه من الله عز وجل، فقال تعالى (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) والله تعالى نزل أحسن الحديث، فلو فهموا القرآن لعلموا أن الله أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أمر بالخير ونهى عن الشر، فليس فيما بعث الله به رسله ما يكون سبباً للشر، بل الشر حصل بذنوب العباد، فقال تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله) أي ما أصابك من نصر ورزق وعافية فمن الله نعمة أنعم بها عليك وإن كانت بسبب أعمالك الصالحة فهو الذي هداك وأعانك ويسرك لليسرى. ومن عليك بالإيمان وزينه في قلبك وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
وفي آخر الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وفي الصحيح " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة " .
ثم قال تعالى (وما أصابك من سيئة) من ذل وخوف وهزيمة كما أصابهم يوم أحد (فمن نفسك) أي بذنوبك وخطاياك، وإن كان ذلك مكتوباً مقدراً عليك. فإن القدر ليس حجة لأحد على الله ولا على خلقه، ولو جاز لأحد أن يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات لم يعاقب ظالم ولم يقتل مشرك ولم يقم حد ولم يكف أحد عن ظلم أحد، وهذا من الفساد في الدين المعلوم ضرورة فساده بصريح المعقول، المطابق لما جاء به الرسول.
فالقدر يؤمن به ولا يحتج به، فمن لم يؤمن بالقدر ضاع المجوس، ومن احتج به ضارع المشركين، ومن أقر بالأمر والقدر وطعن في عدل الله وحكمته كان شبيهاً بإبليس، فإن الله ذكر عنه أنه طعن في حكمته وعارضه برأيه وهواه، وأنه قال (فيما أغويتني لأزينن لهم في الأرض).(1/363)
وقد ذكر طائفة من أهل الكتاب وبعض المصنفين في المقالات كالشهرستاني أنه ناظر الملائكة في ذلك معارضاً لله تعالى في خلقه وأمره، لكن هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه، ولو وجدناها في كتب أهل الكتاب لم يجز أن نصدقها لمجرد ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبونه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقونه " ويشبه - والله أعلم - أن تكون تلك المناظرة من وضع بعض المكذبين بالقدر إما من أهل الكتاب وإما من المسلمين. والشهرستاني نقلها من كتب المقالات، والمصنفون في المقالات ينقلون كثيراً من المقالات من كتب المعتزلة كما نقل الأشعري وغيره ما نقله في المقالات من كتب المعتزلة، فإنهم من أكثر الطوائف وأولها تصنيفاً في هذا الباب، ولهذا توجد المقالات منقولة بعباراتهم فوضعوا هذه المناظرة على لسان إبليس، كما رأينا كثيراً منهم يضع كتاباً أو قصيدة على لسان بعض اليهود أو غيرهم، ومقصودهم بذلك الرد على المثبتين للقدر، يقولون أن حجة الله على خلقه لا تتم إلا بالتكذيب بالقدر، كما وضعوا في مثالب ابن كلاب أنه كان نصرانياً لأنه أثبت الصفات وعندهم من أثبت الصفات فقد أشبه النصارى، وتتلقى أمثال هذه الحكايات بالقبول من المنتسبين إلى السنة ممن لم يعرف حقيقة أمرها.
والمقصود هنا أن الآية الكريمة حجة على هؤلاء وهؤلاء: حجة على من يحتج بالقدر فإن الله تعالى أخبر أنه عذبهم بذنوبهم، فلو كانت حجتهم مقبولة لم يعذبهم، وحجة على من كذب بالقدر، فإن سبحانه أخبر أن الحسنة من الله وأن السيئة من نفس العبد، والقدرية متفقون على أن العبد هو المحدث للمعصية كما هو المحدث للطاعة، والله عندهم ما أحدث هذا ولا هذا، بل أمر بهذا ونهى عن هذا، وليس عندهم لله نعمة أنعمها على عباده المؤمنين في الدين إلا وقد أنعم بمثلها على الكفار، فعندهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبا لهب مستويان في نعمة الله الدينية، إذ كل منهما أرسل إليه الرسول وأجبر على الفعل وأزبحت علته، لكن هذا فعل الإيمان بنفسه من غير أن يخصه بنعمة آمن بها، وهذا فعل الكفر بنفسه من غير أن يفضل الله عليه ذاك المؤمن ولا خصه بنعمة آمن لأجلها، وعندهم أن الله حبب الإيمان إلى الكفار كأبي لهب وأمثاله كما حببه إلى المؤمنين كعلي رضي الله عنه وأمثاله، وزينه في قلوب الطائفتين، وكره الكفر والفسوق والعصيان إلى الطائفتين سواء، لكن هؤلاء كرهوا ما كرهه الله إليهم بغير نعمة خصهم بها، وهؤلاء لم يكرهوا ما كرهه الله إليهم.
ومن توهم منهم أو من نقل عنهم أن الطاعة من الله والمعصية من العبد فهو جاهل بمذهبهم، فإن هذا لم يقله أحد من علماء القدرية ولا يمكن أن يقوله، فإن أصل قولهم أن فعل العبد للطاعة كفعله للمعصية، كلتاهما فعله بقدرة تحصل له من غير أن يخصه بإرادة خلقاه فيه تختص بأحدهما، ولا قوة جعلها فيه تختص بأحدهما، فإذا احتجوا بهذه الآية على مذهبهم كانوا جاهلين بمذهبهم وكانت الآية حجة عليهم لا لهم، لأنه تعالى قال (قل كل من عند الله) وعندهم ليس الحسنات المفعولة ولا السيئات المفعولة من عند الله بل كلاهما من العبد، وقوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) مخالف لقولهم، فإن عندهم الحسنة المفعولة والسيئة المفعولة من العبد لا من الله سبحانه.
وكذلك من احتج من مثبتة القدر بالآية على إثباته إذا احتج بقوله تعالى (قل كل من عند الله) كان مخطئاً فإن الله ذكر هذه الآية رداً على من يقول الحسنة من الله والسيئة من العبد، ولم يقل أحد من الناس أن الحسنة المفعولة من الله والسيئة المفعولة من العبد.
وأيضاً فإن نفس فعل العبد وإن قال أهل الإثبات أن الله خلقه وهو مخلوق له ومفعول له فإنهم لا ينكرون أن العبد هو المتحرك بالأفعال، وبه قامت، ومنه نشأت، وإن كان الله خلقها.(1/364)
وأيضاً فإن قوله بعد هذا (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) يمتنع أن يفسر بالطاعة والمعصية، فإن أهل الإثبات لا يقولون أن الله خالق إحداهما دون الأخرى، بل يقولون بأن الله خالق لجميع الأفعال وكل الحوادث.
ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم: الله خالق كل شيء وربيه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه هو الذي خلق العبد هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، ونحو ذلك - أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة، قال تعالى (لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) وقال تعالى (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، وما تشاءون إلا أن يشاء الله) وقال تعالى (إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة).
وهذا الموضع اضطرب فيه الخائضون في القدر، فقالت المعتزلة ونحوهم من النفاة: الكفر والفسوق والعصيان أفعال قبيحة والله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين فلا يكون فعلاً له.
وقال من رد عليهم من المائلين إلى الجبر بل هي فعله وليست أفعالاً للعباد بل هي كسب للعبد: وقالوا: إن قدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها ولا في صفة من صفاتها، وإن الله أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله وإبداعاً وإحداثاً وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، وقالوا: أن العبد ليس محدثاً لأفعاله ولا موجداً لها، ومع هذا فقد يقولون أنا لا نقول بالجبر المحض، بل نثبت للعبد قدرة حادثة والجبري المحض الذي لا يثبت للعبد قدرة.
وأخذوا يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه بين الخلق، فقالوا: الكسب عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقادرة القديمة، وقالوا: أيضاً الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه.
فقال لهم الناس: هذا لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب وبين كونه فعل وأوجد وصنع وعمل ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة وهو قائم في محل القدرة الحادثة. وأيضاً فهذا فرق لا حقيقة له فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى تأثير القدرة فيه: وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك.
والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها خارجاً عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل ليس هذا موضعه.
وأيضاً فإذا فسر التأثير بمجرد الاقتران فلا فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل.
وأيضاً قال لهم المنازعون: من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلاً لكذبه وظلمه وعدله بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم، قالوا وهذا كما قلتم أنتم وسائر الصفاتية: من المستقر في فطر الناس أن من قام به العلم فهو عالم، ومن قامت به القدرة فهو قادر، ومن قامت به الحركة فهو متحرك ومن قام به التكلم فهو متكلم، ومن قامت به الإرادة فهو مريد، وقلتم إذا كان الكلام مخلوقاً كان كلاماً للمحل الذي خلقه فيه كسائر الصفات، فهذه القاعدة المطردة فيمن قامت به الصفات نظيرها أيضاً من فعل الأفعال.
وقالوا أيضاً: القرآن مملوء بذكر إضافة هذه الأفعال إلى العباد كقوله تعالى (جزاء بما كنتم تعملون) وقوله (اعملوا ما شئتم) وقوله (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) وقوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وأمثال ذلك.
وقالوا أيضاً أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله ويكون حسنة له، فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها. وفي المسئلة كلام ليس هذا موضع بسطه لكن ننبه على نكت نافعة في هذا الموضع المشكل فنقول.(1/365)
قول القائل هذا فعل هذا وفعل هذا لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل وتارة يراد به مسمى المصدر. فيقول فعلت هذا أفعله فعلاً وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك فالعمل هنا المعمول، قال تعالى (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن. ومن هذا الباب قوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) فإنه في أصح القولين (ما) بمعنى الذي، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام كما قال تعالى (أتبعدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها. ومنه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله خالق كل صانع وصنعته " لكن قد يستدل بالآية على أن الله خلق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملونه من المنحوتات لزم أن يكون هو الخالق للتأليف الذي أحدثوه فيها فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم، وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم.
والمقصود أن لفظ الفعل والعمل والصنع أنواع، وذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة تقع على نفس مسمى المصدر وعلى المفعول وكذلك لفظ التلاوة والقراءة والكلام والقول يقع على نفس مسمى المصدر وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة المقروء والمتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.
والمقصود هنا أن القائل إذا قال هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله أراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات.
ثم من هؤلاء من قال أنه ليس لله فعل يقوم به فلا فرق عنده بين فعله ومفعوله وخلقه ومخلوقه.
وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا فيقولون هذه مخلوقة لله مفعولة ليست هي نفس فعله، وأما العبد فهي فعله القائم به، وهي أيضاً مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول، فمن لم يفرق في حق الرب تعالى بين الفعل والمفعول قال إنها فعل الله تعالى وليس لمسمى فعل الله عنده معنيان، وحينئذ فلا تكون فعلاً للعبد ولا مفعولة له بطريق الأولى، وبعض هؤلاء قال هي فعل للرب وللعبد فأثبت مفعولاً بين فاعلين.
وأكثر المعتزلة يوافقون هؤلاء على أن فعل الرب تعالى لا يكون إلا بمعنى مفعوله مع أنهم يفرقون في العبد بين الفعل والمفعول، فلهذا عظم النزاع وأشكلت المسئلة على الطائفتين وحاروا فيها.
وأما من قال خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته قال أن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات ومفعولة للرب كسائر المفعولات ولم يقل أنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال أنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له كما يفعلها العبد وتقوم به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أن سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعماً مراً أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متصفاً بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسبباً لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه. وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلاً لغيره.(1/366)
ثم على قول الجمهور الذين يقولون له حكمة فيما خلقه في العالم مما هو مستقبح وضار ومؤذ يقولون: له فيما خلقه من هذه الأفعال القبيحة الضارة لفاعلها حكمة عظيمة كما له حكمة عظيمة فيما خلقه من الأمراض والغموم. ومن يقول لا تعلل أفعاله لا يعلل لا هذا ولا هذا. يوضح ذلك أن الله تعالى إذا خلق في الإنسان عمى ومرضاً وجوعاً وعطشاً ووصباً ونصباً ونحو ذلك كان العبد هو المريض الجائع العطشان المتألم، فضرر هذه المخلوقات وما فيها من الأذى والكراهة عاد إليه ولا يعود إلى الله تعالى شيء من ذلك، فكذلك ما خلق فيه من كذب وظلم وكفر ونحو ذلك هي أمور ضارة مكروهة مؤذية. وهذا معنى كونها سيئات وقبائح، أي أنها تسوء صاحبها وتضره، وقد تسود أيضاً غيره وتضره كما أن مرضه ونتن ريحه ونحو ذلك قد يسوء غيره ويضره.
يبين ذلك أن القدرية سلموا أن الله قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء كما في قوله تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) وقوله (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) وقوله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم).
ثم إنه من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزى عليها ويستحق الذم عليها والعقاب وهي مخلوقة لله تعالى، فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه من أعمال العباد ابتداء كالقول فيما يخلقه جزاء من هذا الوجه وإن افترقا من وجه آخر، وهم لا يمكنهم أن يفرقوا بينهما بفرق يعود إلى كون هذا فعلاً لله دون هذا، وهذا فعلاً للعبد دون هذا، لكن يقولون هذا يحسن من الله تعالى لكونه جزاء للعبد، وذلك لا يحسن منه لكونه ابتدأ العبد بما يضره، وهم يقولون لا يحسن منه أن يضر الحيوان إلا بجرم سابق، أو عوض لاحق.
وأما أهل الإثبات للقدر فمن لم يعلل منهم لا يفرق بين مخلوق ومخلوق. وأما القائلون بالحكمة وهم الجمهور فيقولون لله تعالى فيما يخلقه من الحيوان حكم عظيمة كما له حكم في غير هذا، ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض فإن هذا قياس لله تعالى على الواحد من الناس وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله.
والمعتزلة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات، ومن أصولهم الفاسدة أنهم يصفون الله بما يخلقه في العالم، إذ ليس عندهم صفة لله قائمة به ولا فعل قائم به يسمونه به، ويصفونه بما يخلقه في العالم: مثل قولهم هو متكلم بكلام بخلقه في غيره ومريد بإرادة يحدثها لا في محل، وقولهم أن رضاه وغضبه وحبه وبغضه هو نفس المخلوق الذي يخلقه من الثواب والعقاب، وقولهم أنه لو كان خالقاً لظلم العبد وكذبه لكان هو الظالم الكاذب، وأمثال ذلك من الأقوال التي إذا تدبرها العاقل علم فسادها بالضرورة. ولهذا اشتد تكبر السلف والأئمة عليهم، لا سيما لما أظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وعلم السلف أن هذا في الحقيقة هو إنكار لكلام الله تعالى، وإنه لو كان كلامه هو ما يخلقه للزم أن يكون كل كلام مخلوق كلاماً له، فيكون إنطاقه للجلود يوم القيامة وإنطاقه للجبال والحصى بالتسبيح وشهادة الأيدي والأرجل ونحو ذلك كلاماً له، وإذا كان خالقاً لكل شيء كان كل كلام موجود كلامه وهذا قول الخلولية والجهمية كصاحب الفصوص وأمثاله ولهذا يقولون:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
وقد علم بصريح المعقول أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل كان هو المريد المحب المبغض، فإذا خلق فعلاً لعبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذباً وظلماً وكفراً كان العبد هو الكاذب الظالم الكافر، وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج.(1/367)
والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقاته، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم، ويقولون أن خلق الله للسموات والأرض ليس هو نفس السموات والأرض بل الخلق غير المخلوق، لا سيما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة الذين وافقوهم على إثبات صفات الله وأفعاله. فإن المعتزلة ومن وافقهم من الجهمية القدرية نقضوا هذا الأصل على من لم يقل أن الخلق غير المخلوق كالأشعري ومن وافقه، فقالوا: إذا قلتم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره، كما ذكرتم في الحركة والعلم والقدرة وسائر الأعراض - انتقض ذلك عليكم بالعدل والإحسان وغيرهما من أفعال الله تعالى، فإنه يسمى عادلاً بعدل خلقه في غيره محسناً بإحسان خلقه في غيره، فكذا يسمى متكلماً بكلام خلقه في غيره.
والجمهور من أهل السنة وغيرهم يجيبون بالتزام هذا الأصل ويقولون إنما كان عادلاً بالعدل الذي قام بنفسه ومحسناً بالإحسان الذي قام بنفسه. وأما المخلوق الذي حصل للعبد فهو أثر ذلك، كما أنه رحمن رحيم بالرحمة التي هي صفته، وأما ما يخلقه من الحرمة فهو أثر تلك الحرمة، واسم الصفة يقع تارة على الصفة التي هي المصدر ويقع تارة على متعلقها الذي هو مسمى المفعول، كلفظ الخلق يقع تارة على الفعل وعلى المخلوق أخرى، والرحمة تقع على هذا وهذا، وكذلك الأمر يقع على أمره الذي هو مصدر أمر يأمر أمراً، ويقع على المفعول تارة كقوله تعالى (وكان أمر الله قدراً مقدورا) وكذلك لفظ العلم يقع على المعلوم والقدرة تقع على المقدور ونظائر هذا متعددة.
وقد استدل أحمد وغيره من أئمة السنة في جملة ما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله عليه السلام " أعوذ بكلمات الله التامات " ونحو ذلك، وقالوا الاستعاذة لا تحصل بالمخلوق، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك " .
ومن تدبر هذا الباب وجد أهل البدع والضلال لا يستطيلون على فريق المنتسبين إلى السنة والهدى إلا بما دخلوا فيه من نوع بدعة أخرى وضلال آخر لا سميا إذا وافقوهم على ذلك فيحتجون عليهم بما وافقوهم عليه من ذلك ويطلبون لوازمه حتى يخرجوهم من الدين إن استطاعوا خروج الشعرة من العجين كما فعلت القرامطة الباطنية والفلاسفة وأمثالهم بفريق فريق من طوائف المسلمين، والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم من أن كلام الله غير مخلوق، وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل. واستطالوا عليهم بذلك في مسئلة القدر، واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلاً لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل، ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا ويقولون: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري، اضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي، والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه، ويقع بين المقدور والقدرة، فليس جعل هذا مؤثراً في هذا الباب بأولى من العكس. ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا يتجاوز بمحلها. ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول وأبو إسحاق الإسفرائيني إلى قول وأبو المعالي الجويني إلى قول، لما رأوا في هذا القول من التناقض. والكلام على هذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا التنبيه.(1/368)
ومن النكت في هذا الباب أن لفظ التأثير ولفظ الجبر ولفظ الرزق ونحو ذلك ألفاظ مجملة، فإذا قال القائل هل قدرة العبد مؤثرة في مقدورها أم لا؟ قيل له أولاً لفظ القدرة يتناول نوعين: (أحدهما) القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي (والثاني) القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولى هي المذكورة في قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل لم يجب حج البيت إلا على من حج، فلا يكون من لم يحجج عاصياً بترك الحج، سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " وكذا قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم " لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل لكان قد قال فافعلوا منه ما تفعلون، فلا يكون من لم يفعل شيئاً عاصياً له. وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم.
والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة، فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل. وتجد كثيراً من الفقهاء يتناقضون فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين المثبتين للقدر أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل وافقوهم على ذلك، وإذا خاضوا في الفقه أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي.
وعلى هذا تتفرع مسألة تكليف ما لا يطاق، فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحداً شيئاً بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير، وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار، فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين.
وكذا تنازعهم في العبد هل هو قادر على خلاف المعلوم، فإذا أريد بالقدرة القدرة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي كالاستطاعة المذكورة في قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) فكل من أمره الله ونهاه فهو مستطيع بهذا الاعتبار وإن علم أنه لا يطيعه. وإن أريد بالقدرة القدرة القدرية التي لا تكون إلا مقارنة للمفعول فمن علم أنه لا يفعل الفعل لم تكن هذه القدرة ثابتة له.
ومن هذا الباب تنازع الناس في الأمر والإرادة هل يأمر بما لا يريد أو لا يأمر إلا بما يريد. فإن الإرادة لفظ فيه إجمال، يراد بالإرادة الإرادة الكونية الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكقوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) وقول نوح عليه السلام (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) ولا ريب أن الله يأمر العبادة بما لا يريده بهذا التفسير، والمعنى كما قال تعالى (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) فدل على أنه لم يؤت كل نفس هداها مع أنه أمر كل نفس بهداها، وكما اتفق العلماء على أن من حلف بالله ليقضين دين غريمه غداً إن شاء الله أو ليردن وديعته أو غصبه، أو ليصلين الظهر أو العصر إن شاء الله، أو ليصومن رمضان إن شاء الله ونحو ذلك مما أمره الله به. فإنه إذا لم يفعل المحلوق عليه لا يحنث مع أن الله أمره به لقوله: إن شاء الله، فعلم أن الله لم يشأ مع أمره به.
وأما الإرادة الدينية فهي بمعنى المحبة والرضى، وهي ملازمة للأمر كقوله تعالى (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم) ومنه قول المسلمين: هذا يفعل شيئاً لا يريده الله، إذا كان يفعل بضع الفواحش، أي أنه لا يحبه ولا يرضاه، بل ينهى عنه ويكرهه.(1/369)
وكذلك لفظ الجبر فيه إجمال يراد به إكراه الفاعل على الفعل بدون رضاه. كما يقال: إن الأب يجبر المرأة على النكاح، والله تعالى أجل وأعظم من أن يكون مجبراً بهذا التفسير فإنه يخلق للعبد الرضاء والاختيار بما يفعله، وليس ذلك جبراً بهذا الاعتقاد، ويراد بالجبر خلق ما في النفوس من الاعتقادات والإرادات كقول محمد بن كعب القرظي: الجبار الذي جبر العباد على ما أراد كما في الدعاء المأثور عن علي رضي الله عنه " جبار القلوب على فطراتها: شقيها وسعيدها " والجبر ثابت بهذا لتفسير.
فلما كان لفظ الجبر مجملاً نهى الأئمة عن إطلاق إثباته أو نفيه.
وكذلك لفظ الرزق فيه إجمال، فقد يراد بلفظ الرزق ما أباحه أو ملكه فلا يدخل الحرام في مسمى هذا الرزق كما في قوله تعالى (ومما رزقناهم ينفقون) وقوله تعالى (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) وقوله (ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً) وأمثال ذلك. وقد يراد بالرزق ما ينتفع به الحيوان وإن لم يكن هناك إباحة ولا تمليك، فيدخل فيه الحرام كما في قوله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وقوله عليه السلام في الصحيح " فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد " ولما كان لفظ الجبر والرزق ونحوهما فيه إجمال منع الأئمة من إطلاق ذلك نفياً وإثباتاً كما تقدم عن الأوزاعي وأبي إسحاق الفزاري وغيرهما.
وكذا لفظ التأثير فيه إجمال فإن القدرة مع المقدور كالسبب مع المسبب، والعلة مع المعلول، والشرط مع المشروط، فإن أريد بالقدرة القدرة الشرعية المصحح للفعل المتقدمة عليه فتلك شرط للفعل وسبب من أسبابه، وعلة ناقصة له، وإن أريد بالقدرة القدرة المقارنة للفعل المستلزمة له فتلك علة للفعل وسبب تام، ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحده علة تامة وسبب تام للحوادث بمعنى أن وجوده مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الأسباب المخلوقة كالنار في الإحراق، والشمس في الإشراق، والطعام والشراب في الإشباع والإرواء، فجميع هذه الأمور سبب لا يكون الحادث به وحده، بل لا بد أن ينضم إليه سبب آخر، ومع هذا فلهما موانع تمنعهما عن الأثر، فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع. وليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء.
وهذا يبين لك خطأ المتفلسفة الذين قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، واعتبروا ذلك بالآثار الطبيعية كالمسخن والمبرد ونحو ذلك، فإن هذا غلط، فإن التسخين لا يكون إلا بشيئين (أحدهما) فاعل كالنار (والثاني) قابل كالجسم القابل للسخونة والاحتراق، وإلا فالنار إذا وقعت على السمندل والياقوت لم تحرقه، وكذلك الشمس فإن شعاعها مشروط بالجسم القابل للشمس الذي ينعكس عليه الشعاع، وله موانع من السحاب والسقوف وغير ذلك، فهذا الواحد الذي قدروه في أنفسهم لا وجود له في الخارج، وقد بسط هذا في موضع آخر.
فإن الواحد العقلي الذي يثبته الفلاسفة كالوجود المجرد عن الصفات وكالعقول المجردة وكالكليات التي يدعون تركب الأنواع منها وكالمادة والصورة العقليين وأمثال ذلك لا وجود لها في الخارج بل إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان، وهي أشد بعداً عن الوجود من الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من أهل الكلام فإن هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وكذلك الواحد كما قد بسط في موضعه.(1/370)
والمقصود هنا أن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو بسبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى - فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار. وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع فليس شيء من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحده خالق كل شيء فلا شريك له ولا ند له، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما له فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته؟ قل حسب الله عليه يتوكل المتوكلون) ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
فإذا عرف ما في لفظ التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين. فمن قال: إن المؤمن والكافر سواء فيما أنعم الله عليهما من الأسباب المقتضية لللإيمان، وإن المؤمن لم يخصه الله بقدرة ولا إرادة آمن بها، وإن العبد إذ فعل لم تحدث له معونة من الله وإرادة لم تكن قبل الفعل - فقوله معلوم الفساد، وقيل لهؤلاء: فعل العبد من جملة الحوادث والممكنات، فكل ما به يعلم أن الله تعالى أحدث غيره يعلم به أن الله أحدثه، فكون العبد فاعلاً بعد أن لم يكن أمر ممكن حادث فإن أمكن صدور هذا الممكن الحادث بدون محدث واجب يحدثه ويرجح وجوده على عدمه أمكن ذلك في غيره، فانتقض دليل إثبات الصانع، ولا ريب أن كثيراً من متكلمة الإثبات القائلين بالقدر سلموا للمعتزلة أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وقالوا في مسئلة إحداث العالم أن القادر المختار أو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع الحوادث والأزمنة نسبة واحدة رجحت أنواعاً من الممكنات في الوقت الذي رجحته بلا حدوث سبب اقتضى الرجحان، وادعوا أن القادر المختار يمكنه الترجيح بلا مرجح أو الإرادة القديمة ترجح بلا مرجح آخر، فاعترض عليهم هناك من نازعهم من أهل الملل والفلاسفة القائلين بأن الله لم يحدث الحوادث بأفعال تقوم بنفسه، وإن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام. والقائلين بقدم العالم قالوا: هذا الذي قلتموه معلوم الفساد بالضرورة، وتجويز هذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بلا سبب، والترجيح بلا مرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
ثم أن هؤلاء المثبتين للقدر احتجوا بهذه الحجة على نفاة القدر، وقالوا: حدوث فعل العبد بعد أن لم يكن لا بد له من محدث مرجح تام غير العبد، فإن ما كان من العبد فهو محدث، وعند وجود ذلك المحدث المرجح التام يجب وجود فعل العبد، وهذا الذي قالوه حق وهو حجة قاطعة على القدرية، لكنهم نقضوه وتناقضوا فيه في فعل الرب تبارك وتعالى، وادعوا هناك أن البديهية فرقت بين فعل القادر وبين الموجب بالذات، فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطلت حجتهم على المعتزلة ولم تبطل قول القدرية، وإن كان باطلاً بطل قولهم في إحداث الله وفعله للعالم، وهذا هو الباطل في نفس الأمر، فإن القول بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام أمر معلوم بالفطرة الضرورية لا يمكن القدح فيه، وهو عام لا تخصيص فيه، فالفرق المذكور باطل، وذلك يبطل قولهم بأن خلق العالم هو العالم، وأنه حدث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث.
ومن قال أن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله تعالى بها المخلوقات ليست أسباباً، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي كاقتران الدليل بالمدلول، فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم، ولم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، وهؤلاء ينكرون ما في الأجسام المطبوعة من الطبائع والغرائز.
قال بعض الفضلاء: تكلم قوم من الناس في إبطال الأسباب والقوى والطبائع فأضحكوا العقلاء على عقولهم.(1/371)
ثم أن هؤلاء يقولون لا ينبغي للإنسان أن يقول أنه شبع بالخبز وروي بالماء، بل يقول شبعت عنده ورويت عنده فإن الله يخلق الشبع والري ونحو ذلك من الحوادث عند هذه المقترنات بها عادة لا بها. وهذا خلاف الكتاب والسنة فإن الله تعالى يقول (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) الآية، وقال تعالى (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) وقال تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) وقال (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) وقال (ونزلنا من السماء ماء فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) وقال (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء) وقال (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسميون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) وقال تعالى (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً - إلى قوله - يضل به كثيراً ويهدي به كثيرا) وقال (قد جاءكم من نور الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) ومثل هذا في القرآن كثير. وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله " لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة " وقال صلى الله عليه وسلم " إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نورا " ومثل هذا كثير.
ونظير هؤلاء الذي أبطلوا الأسباب المقدرة في خلق الله من أبطل الأسباب المشروعة في أمر الله كالذين يظنون أن ما يحصل بالدعاء والأعمال الصالحة وغير ذلك من الخيرات إن كان مقدراً حصل بدون ذلك، وإن لم يكن مقدوراً لم يحصل بذلك. وهؤلاء كالذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فال " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .
وفي السنن أنه قيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال " هي من قدر الله " ولهذا قال من قال من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً تغبير في وجوه العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع.
والله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل إن كان هذا مقدوراً حصل بدون السبب والألم يحصل، جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " وقال صلى الله عليه وسلم " اعلموا فكل ميسر لما خلق له " أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بين وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا يدخل الجنة بالعمل الذي يعمله ويختم له به، وهذا يدخل النار بالعمل الذي يعمله ويختم له به، كما قال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالخواتيم " وذلك لأن جميع الحسنات تحبط بالردة، وجميع السيئات تغفر بالتوبة، ونظير ذلك من صام ثم أفطر قبل الغروب أو صلى وأحدث عمداً قبل كمال الصلاة ثم أبطل عمله.(1/372)
وبالجملة فالذي عليه سلف الأمة وأئمتها ما بعث الله به رسله وأنزل كتبه فيؤمنون بخلق الله وأمره بقدره وشرعه بحكمه الكوني وحكمه الديني وإرادته الكونية والدينية، كما قال في الآية (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) وقال نوح عليه السلام (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم) وقال تعالى في الإرادة الدينية (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال (يريد الله أن يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم) وقال (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) وهم مع إقرارهم بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه خلق الأشياء بقدرته ومشيئته يقرون بأنه لا إله إلا هو، لا يستحق العبادة غيره، ويطيعونه ويطيعون رسله، ويحبونه ويرجونه ويخشونه، ويتكلون عليه وينيبون إليه، ويوالون أوليائه ويعادون أعداءه، ويقرون بمحبته لما أمر به ولعباده المؤمنين أيضاً ورضاه بذلك، وبغضه لما نهى عنه، وللكافرين وسخطه لذلك ومقته له، ويقرون بما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من " أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها، فقال تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته " فهو إلههم الذي يعبدونه وربهم الذي يسألونه كما قال تعالى (الحمد لله رب العالمين - إلى قوله - إياك نعبد وإياك نستعين) فهو المعبود المستعان. والعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل فهم يحبونه أعظم مما يحب كل محب لمحبوبه كما قال تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله) وكل ما يحبونه سواه فإنما يحبونه لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله: ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " وفي الترمذي وغيره " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم. فإن الله اتخذ إبراهيم خليلاً. واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا " وقال " لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسه ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يحب ويحب.
وأنكرت الجهمية ومن تعبهم محبته. وأول من أنكر ذلك الجعد بن درهم شيخ الجهم بن صفوان، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه.
وهذا أصل مسئلة إبراهيم الذي جعله الله إماماً للناس قال تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما) وقال (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلا).(1/373)
ومن قال أن المراد بمحبة الله محبة التقرب إليه فقوله متناقض فإن محبة التقرب إليه تبع لمحبته. فمن أحب الله نفسه أحب التقرب إليه ومن كان لا يحبه نفسه امتنع أن يحب التقرب إليه. وأما من كان لا يطيعه ولا يمتثل أمره إلا لأجل غرض آخر فهو في الحقيقة إنما يحب ذلك الغرض الذي عمل لأجله وقد جعل طاعة الله وسيلة إليه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخل الجنة؟ ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة " فأخبر أن النظر إليه أحب إليهم من كل ما يتنعمون فيه، ومحبة النظر إليه تبع لمحبته، فإنما أحبوا النظر إليه لمحبتهم إياه، وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه محبة الله وطمأنينة بذكره وتنعماً بمعرفته ولذة وسرواً بذكره ومناجاته. وذلك يقوى ويضعف ويزيد وينقص بحسب إيمان الخلق. فكل من كان إيمانه أكمل كان تنعمه بهذا أكمل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وغيره " حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " وكان صلى الله عليه وسلم يقول " ارحنا بالصلاة يا بلال " وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن عباده المؤمنين يحبوه وهو يحبهم سبحانه، وحبهم له بحسب فعلهم ما يحبه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليهوسلم قال " يقول الله تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " .
فقد بين أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله. وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعاً لحب نفسه.
فالمؤمنون وإن كانوا يحمدون ربهم ويثنون عليه فهم لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم " إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " وفي الصحيح أنه قال " لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه " وقال له الأسود بن سريع: إني حمدت ربي، فقال " إن ربك يحب الحمد " فهو يحب حمد العباد له وحمده لنفسه أعظم من حمد العباد له ويحب ثناءهم عليه وثناؤه على نفسه أعظم من ثنائهم عليه. وكذلك حبه لنفسه وتعظيمه لنفسه فهو سبحانه أعلم بنفسه من كل أحد وهو الموصوف بصفات الكمال التي لا تبلغها عقول الخلائق، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه) قال " يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً، أنا الذي أعيدها " وفي رواية " يحمد الرب نفسه " فهو يحمد نفسه ويثني عليها ويمجد نفسه سبحانه وهو الغني بنفسه لا يحتاج إلى أحد غيره، بل كل ما سواه فقير إليه (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شان) وهو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
فإذا فرح بتوبة التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين لم يجز أن يقال: هو مفتقر في ذلك إلى غيره ولا مستكمل بسواه، فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهداهم وأعانهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به.
فهذه المحبوبات لم تحصل إلا بقدرته ومشيئته وخلقه، فله الملك لا شريك له، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.(1/374)
فهذا ونحوه يحتج به الجمهور الذين يثبتون لأفعاله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها. قالوا: وقول القائل إن هذا يقتضي أنه مستكمل بغيره فيكون ناقصاً قبل ذلك فعنه أجوبة.
أحدها أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا، ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله.
الثاني أنهم قالوا: كما له أن يكون لا يزال قادراً على الفعل بحكمة، فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان ناقصاً.
الثالث قول القائل إنه مستكمل بغيره باطل، فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره، وإذا قيل كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره كان كما لو قيل كمل بصفاته أو بذاته.
الرابع قول القائل كان قبل ذلك ناقصاً إن أراد به عدم ما تجدد فلا نسلم إن عدمه قبل ذلك الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه يكون نقصاً، وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع، بل يقال عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه من الكمال، كما أن وجوده في وقت اقتضاء الحكمة وجوده كمال. فليس عدم كل شيء نقصاً، بل عدم ما يصلح وجوده هو النقص، كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص، فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص لا أن عدمها هو النقص. ولهذا كان الرب تعالى موصوفاً بالصفات الثبوتية المتضمنة لكماله وموصوفاً بالصفات السلبية المستلزمة لكماله أيضاً. فكان عدم ما ينفي عنه هو من الكمال كما أن وجود ما يستحق ثبوته من الكمال. وإذا عقل مثل هذا في الصفات فكذلك في الأفعال ونحوها، وليس كل زيادة يقدرها الذهن من الكمال، بل كثير من الزيادات تكون نقصاً في كمال المزيد، كما يعقل مثل ذلك في كثير من الموجودات. والإنسان قد يكون وجود أشياء في وقت نقصاً وعيباً في حقه وفي وقت آخر كمالاً ومدحاً في حقه، كما يكون في وقت مضرة له وفي وقت منفعة له.
الخامس إنا إذا قدرنا من يقدر على إحداث الحوادث لحكمة ومن لا يقدر على ذلك كان معلوماً ببديهة العقل أن القادر على ذلك أكمل، مع أن الحوادث لا يمكن وجودها إلا حوادث لا تكون قديمة، وإذا كانت القدرة على ذلك أكمل وهذا المقدور لا يكون إلا حادثاً كان وجوده هو الكمال وعدمه قبل ذلك من تمام الكمال، إذا عدم الممتنع الذي هو شرط في وجود الكمال.
ثم الجمهور القائلون بهذا الأصل هنا ثلاث فرق (فرقة) تقول إرادته وحبه ورضاه ونحو هذا قديم، ولم يزل راضياً عمن علم أنه يموت مؤمناً، ولم يزل ساخطاً على من علم أنه يموت كافراً، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية وأهل الحديث والفقهاء والصوفية، فهؤلاء لا يلزمهم التسلسل لأجل حلول الحوادث، لكن يعارضهم الأكثرون الذين ينازعونهم في الحكمة المحبوبة كما ينازعمونهم في الإرادة، فإنهم قالوا: إذا كانت الإرادة قديمة لم تزل ونسبتها إلى جميع الأزمنة والحوادث سواء فاختصاص زمان دون زمان بالحدوث ومفعول دون مفعول تخصيص بلا مخصص. قال أولئك: الإرادة من شأنها أن تخصص. قال لهم المعارضون: من شأنها جنس التخصيص. وأما تخصيص هذا المعين على هذا المعين فليس من لوازم الإرادة بل لا بد من سبب يوجب اختصاص أحدهما بالإرادة دون الآخر. والإنسان يجد من نفسه أنه يخصص بإرادته، ولكنه يعلم أنه لا يريد هذا دون هذا إلا لسبب اقتضى التخصيص، وإلا فلو تساوى ما يمكن إرادته من جميع الوجوه امتنع تخصيص الإرادة لواحد من ذلك دون أمثاله، فإن هذا ترجيح بلا مرجح. ومتى جوز هذا انسد باب إثبات الصانع، قالوا: ومن تدبر هذا وأمعن النظر فيه علمه حقيقة، وإنما ينازع فيه من يقلد قولاً قاله غيره من غير اعتبار لحقيقته.
وهكذا يقول الجمهور إذا كان الله تعالى راضياً في أزله ومحباً وفرحاً بما يحدثه قبل أن يحدثه فإذا أحدثه هل حصل بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها أو لم يحصل إلا ما كان في الأزل؟ فإن قلتم لم يحصل إلا ما كان في الأزل. قيل ذاك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات، فامتنع أن تكون المفعولات فعلت لكي يحصل ذاك، فقولكم كما تضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله تتضمن أنه يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها، قالوا: فقولكم يتضمن نفي إرادته المقارنة ومحبته وحكمته التي لا يحصل الفعل إلا بها.(1/375)
والفرقة الثاني قالوا إن الحكمة المتعلقة به تحصل بمشيئته وقدرته كما يحصل الفعل بمشيئته وقدرته، كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية وأهل الحديث والصوفية، قالوا وإن قام ذلك بذاته فهو كقيام سائر ما أخبر به من صفاته وأفعاله بذاته. والمعتزلة تنفي قيام الصفات والأفعال به وتسمى الصفات أعراضاً والأفعال حوادث، ويقولون لا تقوم به الأعراض ولا الحوادث، فيتوهم من لم يعرف حقيقة قولهم أنهم ينزهون الله تعالى عن النقائص والعيوب والآفات. ولا ريب أن الله يحب تنزيهه عن كل عيب ونقص وآفة، فإنه القدوس السلام الصمد السيد الكامل في كل نعت من نعوت الكمال كمالاً يدرك الخلق حقيقته، منزه عن كل نقص تنزيهاً لا يدرك الخلق كماله. وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه وأولى ببراءته منه.
روينا من طريق غير واحد كعثمان بن سعيد الدارمي وأبي جعفر الطبري والبيهقي وغيرهم في تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (الصمد) قال: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله عز وجل، هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفؤ ولا كمثله شيء، سبحانه الواحد القهار.
وهذا التفسير ثابت عن عبد الله بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي، لكن يقال أنه لم يسمع التفسير من ابن عباس، ولكن مثل هذا الكلام ثابت عن السلف، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: الصمد الكامل في صفاته وأفعاله. وثبت عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: الصمد السيد الذي انتهى سؤدده. وهذه الأقوال وما أشبهها لا تنافي ما قاله كثير من السلف كسعيد بن المسيب وابن جبير ومجاهد والحسن والسدي والضحاك وغيرهم من أن الصمد هو الذي لا جوف له، وهذا منقول عن ابن مسعود وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه موقوفاً أو مرفوعاً، فإن كلا القولين حق كما بسط الكلام عليه.
ولفظ الأعراض في اللغة قد يفهم منه ما يعرض للإنسان من الأمراض ونحوها، وكذلك لفظ الحوادث والمحدثات قد يفهم ما يحدثه الإنسان من الأفعال المذمومة والبدع التي ليست مشروعة، أو ما يحدث للإنسان من الأمراض ونحو ذلك. والله تعالى يجب تنزيهه عما هو فوق ذلك مما فيه نوع نقص فكيف تنزيهه عن هذه الأمور؟ ولكن لم يكن مقصود المعتزلة بقولهم هو منزه عن الأعراض والحوادث إلا نفي صفاته وأفعاله، فعندهم لا يقوم به علم ولا قدرة ولا مشيئة ولا رحمة ولا حب ولا رضى ولا فرح ولا خلق ولا إحسان ولا عدل ولا إتيان ولا مجيء ولا نزول ولا استواء ولا غير ذلك من صفاته وأفعاله.
وجماهير المسلمين يخالفونهم في ذلك، ومن الطوائف من ينازعهم في الصفات دون الأفعال، ومنهم من ينازعهم في بعض الصفات دون بعض، ومن الناس من ينازعهم في العلم القديم ويقول إن فعله قديم وإن كان المفعول محدثاً، كما يقول في نظير من يقوله في الإرادة. وبسط هذه الأقوال وذكر قائليها وأدلتهم مذكورة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أجوبة الناس عن السؤال المذكور.
وهذا الفريق الثاني إذا قال لهم الناس إذا أثبتم حكمة حدثت بعد أن لم تكن لزمكم التسلسل، قالوا: القول في حدوث الحكمة كالقول في سائر ما أحدثه من المفعولات، ونحن نخاطب من يسلم لنا أنه إذا أحدث المحدثات بعد أن لم تكن، فإذا قلنا إنه أحدثها بحكمة حادثة لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل، فإذا قلنا إنه أحدثنا بحكمة حادثة لم يكن له أن يقول هذا يستلزم التسلسل، بل نقول له: القول في حدوث الحكمة كالقول في حدوث المفعول الذي ترتبت عليه الحكمة ما كان جوابك عن هذا كان جوابنا عن هذا.(1/376)
فلما خصم الفريق الثاني الفريق الأول قال لهم الفريق الثالث من أئمة الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام: هذه حجة جدلية إلزامية ولم تشفوا الغليل بهذا الجواب، وليس معكم من الأدلة الشرعية ولا العقلية ما ينفى مثل هذا التسلسل، بل التسلسل نوعان والدور نوعان، أحدهما التسلسل في العلل والمعلولات فهذا ممتنع وفاقاً. والثاني التسلسل في الشروط والآثار فهذا في جوازه قولان معروفان للمسلمين وغيرهم. وطوائف من أهل الكلام والحديث والفلسفة يجوزون هذا ومن هؤلاء السلف والأئمة الذين يقولون لم يزل الله متكلماً إذا شاء، وأنه لم يزل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها.
وبين هؤلاء أن ما استدل به منازعوهم على نفي التسلسل في الآثار وامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي أدلة ضعيفة، كدليل المطابقة بين الجملتين مع زيادة أحدهما، وكزيادة الشفع والوتر ونحو ذلك من الأدلة التي بين هؤلاء فسادها ونقضوها عليهم بالحوادث في المستقبل، وبعقود الأعداد وبمعلومات الله مع مقدوراته وغير ذلك مما قد بسط في موضعه.
والدور نوعان: فالدور القبلي السبقي ممتنع، وأما الدور المعي الاقتراني وهو أن لا يكون هذا إلا مع هذا فهذا الدور في الشروط وما أشبهها من المتضايقات والمتلازمات، ومثل هذا جائز.
فهذه مجامع أجوبة الناس عن هذا السؤال. وهي عدة أقوال (الأول) قول من لا يعلل لا أفعاله ولا أحكامه (والثاني) قول من يعلل ذلك بأمور مباينة له منفصلة عنه من جملة مفعولاتها (والثالث) قول من يعلل ذلك بأمور قائمة به متعلقة بقدرته ومشيئته لكن يقول جنسها حادث (والخامس) قول من يعلل ذلك بأمور متعلقة بمشيئته وقدرته. فإن كان الفعل المفضي للحكمة حادث النوع كانت الحكمة كذلك، وإن قدر أنه قام به كلام أو فعل متعلق بمشيئته وأنه لم يزل كذلك كانت الحكمة كذلك، فيكون النوع قديماً وإن كانت آحاده حادثة.
ويمكن الجواب عن السؤال بتقسيم حاصر، بأن يقال: لا ريب أن الله عز وجل يحدث مفعولات لم تكن، فإما أن تكون الأفعال المحدثة يجب أن يكون لها ابتداء ويجوز أن تكون غير متناهية في الابتداء كما هي غير متناهية في الانتهاء، فإن وجب أن يكون لها ابتداء أمكن حدوث الحوادث بدون تسلسلها، فإذا قال القائل لو فعل لعلة محدثة لكان القول في حدوث تلك العلة كالقول في حدوث معلولها ويلزم التسلسل. كان جوابه على هذا التقدير أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء، وإذا فعل الفعل لحكمة محدثة كان الفعل وحكمته محدثين، ولا يجب أن يكون للعلة المحدثة علة محدثة إلا إذا حاز أن لا يكون للحوادث ابتداء، فأما إذا جاز أن يكون لها ابتداء بطل هذا السؤال، فكيف إذا وجب أن يكون لها ابتداء؟ وإن قيل يجوز أن تكون الحوادث غير متناهية في الابتداء كما أنها غير متناهية في الانتهاء عند المسلمين وسائر أهل الحق، ولم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع الذين يقولون بفناء الجنة والنار كما يقوله الجهم بن صفوان، أو بفناء حركات أهل الجنة، كما يقوله أبو الهذيل، فإن هذين أوجبا أن يكون لجنس الحوادث انتهاء كما يجوز أن يكون لها عندهم ابتداء وأكثر الذين وافقوهم على وجوب الابتداء خالفوهم في الانتهاء وقالوا لها ابتداء وليس لها انتهاء. والأقوال الثلاثة معروفة في طوائف المسلمين.
والمقصود هنا أن الجواب يحصل على التقديرين، فمن جوز أن يكون لها نهاية في الابتداء جوز تسلسل الحوادث وقال هذا تسلسل في الآثار والشروط لا تسلسل في العلل والمؤثرات والممتنع إنما هو الثاني دون الأول، وقال أنه لا يقوم دليل على امتناع الثاني كما يقول ذلك طوائف من متقدمي أهل الكلام ومتأخريهم. ومن أوجب أن يكون لها ابتداء. قال في حدوث العلة ما يقوله في حدوث المفعول إذ لا فرق بينهما في هذا المعنى.(1/377)
ومن الأجوبة الحاصرة أن يقال: خلق الله إما أن يجوز تعليله أو لا، إن لم يجز تعليله كان هذا هو التقرير الأول. وعلى هذا التقرير فلا يسمى هذا عبثاً، وإذا سماه المسمي عبثاً لم تكن تسميته عبثاً قدحاً فيما تحقق، فإنا نتكلم على تقدير امتناع التعليل، وإذا كان التعليل ممتنعاً واجب القول به، ولو سماه المسمي بأي شيء سماه، وإن جاز تعليله فلا يخلو إما أن يجوز تعليله بعلة حادثة وإما أن لا يجوز، فإن قيل لا يجوز ذلك لزم كون العلة قديمة وامتنع على هذا التقدير قدم المعلول. فإنا نتكلم على تقدير جواز تعليل المفعول الحادث بعلة قديمة، وإن قيل يجوز تعليله بعلة حادثة أمكن القول بذلك.
ثم إما أن يقال: يجوز تعليل الحوادث بعلة متناهية للفاعل لئلا يلزم أن يقوم به شيء حادث يجب أن يقوم به لحكمة، وإن كانت مقدورة مرادة له، فإن قيل بالأول لزم كون العلة الحادثة منفصلة عنه ولزم على هذا كون الفاعل يحدث الحوادث بعد أن لم تكن حادثة بغيره من غير حدوث سبب يوجب أول الحوادث ولا قيام حادث بالمحدث وإن قيل بل لا يجوز أن يحدث الحوادث لغير معنى يعود إليه بل يجب أن يقوم به ما هو السبب والحكمة في حدوث الحوادث فإنه يجب القول بذلك.
ثم إما أن يقال هذا يستلزم التسلسل أو لا يستلزمه، فإن قيل لا يستلزمه لم يكن التسلسل على هذا التقدير محذوراً لأن التقدير أنه يجوز تعليل أفعاله بعلة حادثة وإن ذلك يستلزم التسلسل.
ومن المعلوم أن الأمر الجائز لا يستلزم ممتنعاً، فإنه لو استلزم ممتنعاً لكان ممتنعاً بغيره وإن كان جائزاً بنفسه، والتقدير أنه جائز جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه. وما كان جائزاً جوازاً مطلقاً لا امتناع فيه لم يلزمه ما يمتنع ثبوته فيكون التسلسل على هذا التقدير غير ممتنع.
فهذا جواب عن السؤال من غير التزام قول بعينه، بل نبين أنه ليس في نفس الأمر محذور، ولكن السؤال مبني على ست مقدمات: لزوم العبث، وإنه منتف، ولزوم قدم المفعول، وأنه منتف، ولزوم التسلسل، وأنه منتف.
فصاحب القول الأول يقول: لا أسلم أنه يلزم العبث، وصاحب القول الثاني يقول: لا أسلم أنه يلزم قدم المفعول، وصاحب القول الثالث يقول: لا أسلم أنه يلزم التسلسل، أو يقول لا أسلم أن التسلسل في الآثار ممتنع. فهذه أربع ممانعات لا بد منها. ويمتنع أن تكون كلها فاسدة بل لا بد من صحة واحد منها وأيها صح اندفع السؤال به وهو المقصود. وذلك لأن القسمة العقلية تحصر من الأقسام فيما ذكر فمن توجه عنده أحد الأقسام قال به، ونحن قد بسطنا الكلام على أصول هذه المسئلة ولوازمها وأقوال الناس فيها في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا الذب عن مجموع المسلمين، فإن هذا السؤال مما أورده على الناس القائلون بقدم العالم، وقد ذكرنا عنه أجوبة متعددة فيما كتبناه في جواب شبهة القائلين بقدم العالم.
ومن جملة أجوبتهم أن يقال: هذا السؤال ليس مختصاً بحدوث العالم بل هو وارد في كل ما يحدث في الوجود من الحوادث، والحدوث مشهود محسوس متفق عليه بين العقلاء. فكل ما يورده على حدوث خلق السموات والأرض يورد عليه نظيره في الحوادث المشهودة.
وقد نبهنا على جنس ما تحتج به كل طائفة من الطوائف في هذا المقام لكن استقصاء الكلام في ذلك لا تسعه هذه الأوراق، ومن فهم ما كتب انفتح له الكلام في هذا الباب وأمكنه أن يحصل تمام الكلام في جنس هذه المسائل، فإن الكلام فيها بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحص به المقصود، وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها. فلهذا يجب أن يكون لخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر كل قول ومعارضة الآخر له حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والله سبحانه أعلم.
شرح حديث عمران بن حصين
المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله
من تحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره منقولة من الجزء الحادي والثلاثين من كتاب الكواكب الدراري الموجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق المحروسة بسم الله الرحمن الرحيم(1/378)
الحمد لله نستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً.
فصل
في صحيح البخاري وغيره من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا بني تميم، اقبلوا البشرى " قالوا: قد بشرتنا فاعطنا، فأقبل على أهل اليمن فقال " يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم " فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله. قالوا جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال " كان الله ولم يكن شيء قبله " وفي لفظ " معه " وفي لفظ " غيره " " وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " وفي لفظ " ثم خلق السموات والأرض " ثم جاءني رجل فقال: أدرك ناقتك، فذهبت فإذا السراب ينقطع دونها، فوالله لوددت أني تركتها ولم أقم.
قوله " كتب في الذكر " يعني اللوح المحفوظ كما قال (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) أي من بعد اللوح المحفوظ، يسمى ما يكتب في الذكر ذكراً كما يسمى ما يكتب فيه كتاباً كقوله عز وجل (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون).
والناس في هذا الحديث على قولين: منهم من قال: إن مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجوداً وحده، ثم أنه ابتدأ إحداث جميع الحوادث وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وإن جنس الزمان حادث لا في زمان، وجنس الحركات والمتحركات حادث، وإن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتدأ الفعل ولا كان الفعل ممكناً.
ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: وكذلك صار متكلماً بعد أن لم يكن يتكلم بشيء، بل ولا كان الكلام ممكناً له. ومنهم من يقول: الكلام أمر يوصف بأنه يقدر عليه، لا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، بل هو أمر لازم لذاته بدون قدرته ومشيئته. ثم هؤلاء منهم من يقول: هو المعنى دون اللفظ المقروء عبر عنه بكل من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومنهم من يقول بل هو حروف وأصوات لازمة لذاته لم تزل ولا تزال، وكل ألفاظ الكتب التي أنزلها وغير ذلك.
والقول الثاني في معنى الحديث: أنه ليس مراد الرسول هذا، بل أن الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام وكان حينئذ عرشه على الماء، كما أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه عن عمران رضي الله عنه. ومن هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب. قال وما أكتب؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة " فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان مخلوقاً قبل خلق السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص، وهو قول جمهور السلف، كما قدر ذكرت أقوال السلف في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.(1/379)
والدليل على هذا القول الثاني وجوه (أحدها) أن قول أهل اليمن " جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر " إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم أو جنس المخلوقات، فإن كان المراد هو الأول كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أجابهم لأنه أخبرهم عن أول خلق هذا العالم، وإن كان المراد الثاني لم يكن قد أجابهم لأنه لم يذكر أول الخلق مطلقاً بل قال " كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " فلم يذكر إلا خلق السموات والأرض، لم يذكر خلق العرش، مع أن العرش مخلوق أيضاً، فإنه يقول " وهو رب العرش العظيم " وهو خالق كل شيء: العرش وغيره ورب كل شيء: العرش وغيره. وفي حديث أبي رزين قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلق العرش. وأما في حديث عمران فلم يخبر بخلقه، بل أخبر بخلق السموات والأرض، فعلم أنه أخبر بأول خلق هذا العالم لا بأول الخلق مطلقاً.
وإذا كان إنما أجابهم بهذا علم أنهم إنما سألوه عن هذا لم يسألوه عن أول الخلق مطلقاً، فإنه لا يجوز أن يكون أجابهم عما لم يسألوه عنه ولم يجبهم عما سألوا عنه بل هو صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك، مع أن لفظه إنما يدل على هذا لا يدل على ذكره أول الخلق، وإخباره بخلق السموات والأرض بعد أن كان عرشه على الماء يقصد به الإخبار عن ترتيب بعض المخلوقات على بعض، فإنهم لم يسألوه عن مجرد الترتيب وإنما سألوه عن أول هذا الأمر، فعلم أنهم سألوه عن مبدأ خلق هذا العالم فأخبرهم بذلك كما نطق في أولها في أول الأمر خلق الله السموات والأرض. وبعضهم يشرحها في البدء أو في الابتداء خلق الله السموات والأرض.
والمقصود أن فيها الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض وأنه كان الماء غامراً للأرض، وكانت الريح تهب على الماء، فأخبر أنه حينئذ كان هذا ماء وهواء وتراباً، وأخبر في القرآن العظيم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، وفي الآية الأخرى (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: اءتيا طوعاً أو كرهاً، قالتا أتينا طائعين) وقد جاءت الآثار عن السلف بأن السماء خلقت من بخار الماء وهو الدخان.
والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم عما سألوه عنه ولم يذكر إلا ابتداء خلق السموات والأرض، فدل على أن قولهم " جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر " كان مرادهم خلق هذا العالم. والله أعلم.
الوجه الثاني أن قولهم " هذا الأمر " إشارة إلى حاضر موجود، والأمر يراد به المصدر ويراد به المفعول به وهو المأمور الذي كونه الله بأمره، وهذا مرادهم فإن الذي هو قوله ليس مشهوداً مشاراً إليه بل المشهود المشار ليه هذا المأمور به قال تعالى (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) وقال تعالى (أتى أمر الله) ونظائره متعددة. ولو سألوه عن أول الخلق مطلقاً لم يشيروا إليه بهذا فإن ذاك لم يشهدوه فلا يشيرون إليه بهذا، بل لم يعلموه أيضاً فإن ذاك لا يعلم إلا بخبر الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم بذلك، ولو كان قد أخبرهم به لما سألوه عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
الوجه الثالث أنه قال " كان الله ولم يكن شيء قبله " وقد روي " معه " وروي " غيره " والألفاظ الثلاثة في البخاري، والمجلس كان واحداً، وسؤالهم وجوابه كان في ذلك المجلس، وعمران الذي روى الحديث لم يقم منه حين انقضى المجلس، بل قام لما أخبر بذهاب راحلته قبل فراغ المجلس، وهو المخبر بلفظ الرسول فدل على أنه إنما قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى. وحينئذ فالذي ثبت عنه لفظ " القبل " فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء " وهذا موافق ومفسر لقوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).
وإذا ثبت في هذا الحديث لفظ القبل فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما أبداً، وكان أكثر أهل الحديث إنما يروونه بلفظ القبل " كان الله ولا شيء قبله " مثل الحميدي والبغوى وابن الأثير وغيرهم. وإذا كان إنما قال " كان الله ولم يكن شيء قبله " لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ولا لأول مخلوق.(1/380)
الوجه الرابع أنه قال فيه " كان الله ولم يكن شيء قبله، أو معه، أو غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء " فأخبر عن هذه الثلاثة بلفظ الواو، لم يذكر في شيء منها ثم، وإنما جاء ثم في قوله " خلق السموات والأرض " وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم وبعضهم ذكرها بالواو. فأما الجمل الثلاث المتقدمة فالرواة متفقون على أنه ذكرها بلفظ الواو، ومعلوم أن لفظ الواو لا يفيد الترتيب على الصحيح الذي عليه الجمهور، فلا يفيد الأخبار بتقديم بعض ذلك على بعض، وإن قدر أن الترتيب مقصود، إما من ترتيب الذكر لكونه قدم بعض ذلك على بعض، وإما من الواو عند من يقول به، فإنما فيه تقديم كونه على كون العرش على الماء، وتقديم كون العرش على الماء على كتابته في الذكر كل شيء، وتقديم كتابه في الذكر كل شيء على تقديم خلق السموات والأرض، وليس في هذا ذكر أول المخلوقات مطلقاً، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء وإن كان ذلك كله مخلوقاً كما أخبر به في مواضع أخر، لكن في جواب أهل اليمن إنما كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
الوجه الخامس أنه ذكر تلك الأشياء بما يدل على كونها ووجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، وسواء كان قوله " وخلق السموات والأرض " أو " ثم خلق السموات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن كان قد خلق من مادة، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم " فإن كان لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم " ثم خلق " فقد دل على أن خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره من كونه عرشه على الماء ومن كتابته في الذكر، وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من تمام البيان وحصول المقصود بلفظ الترتيب، وإن كان لفظه الواو فقد دل سياق الكلام على أن مقصوده أنه خلق السموات والأرض بعد ذلك، وكما دل على ذلك سائر النصوص فإنه قد علم أنه لم يكن مقصوده الإخبار بخلق العرش ولا الماء فضلاً عن أن يقصد أن خلق ذلك كان مقارناً لخلق السموات والأرض، وإذا لم يكن في اللفظ ما يدل على خلق ذلك إلا مقارنة خلقه لخلق السموات والأرض وقد أخبر عن خلق السموات مع كون ذلك علم أن مقصوده أنه خلق السموات والأرض حين كان العرش على الماء كما أخبر بذلك في القرآن، وحينئذ يجب أن يكون العرش كان على الماء قبل خلق السموات والأرض كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح حيث قال " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " فأخبر أن هذا التقدير السابق لخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة حين كان عرشه على الماء.(1/381)
الوجه السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قد قال " كان ولم يكن قبله شيء " وإما أن يكون قد قال " ولا شيء معه " " أو غيره " فإن كان إنما قال اللفظ الأول لم يكن فيه تعرض لوجوده تعالى قبل جميع الحوادث. وإن كان قد قال الثاني أو الثالث فقوله " ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر " إما أن يكون مراده أنه حين كان لا شيء معه كان عرشه على الماء أو كان بعد ذلك كان عرشه على الماء، فإن أراد الأول كان معناه لم يكن معه شيء من هذا الأمر المسؤول عنه وهو هذا العالم. ويكون المراد أنه كان الله قبل هذا العالم المشهود وكان عرشه على الماء. وأما القسم الثالث وهو أن يكون المراد به كان لا شيء معه وبعد ذلك كان عرشه على الماء وكتب في الذكر ثم خلق السموات والأرض، فليس في هذا إخبار بأول ما خلقه الله مطلقاً، بل ولا فيه إخباره بخلق العرش والماء، بل إنما فيه إخباره بخلق السموات والأرض، ولا صرح فيه بأن كون عرشه على الماء كان بعد ذلك، بل ذكره بحرف الواو، والواو للجمع المطلق والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وإذا لم يكن لم يبين الحديث أول المخلوقات ولا ذكر ما كان خلق العرش الذي أخبر أنه كان على الماء مقروناً بقوله " كان الله ولا شيء معه " ، دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الإخبار بوجود الله وحده قبل كل شيء وبابتداء المخلوقات بعد ذلك إذ لم يكن لفظه دالاً على ذلك وإنما قصد الإخبار بابتداء خلق السموات والأرض.
الوجه السابع أن يقال لا يجوز أن يجزم بالمعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بدليل يدل على مراده، فلو قدر أن لفظه يحتمل هذا المعنى وهذا المعنى لم يجز الجزم بأحدهما إلا بدليل، فيكون إذا كان الراجح هو أحدهما لمن جزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم إن أراد ذلك المعنى الآخر فهو مخطئ.
الوجه الثامن أن يقال هذا المطلوب لو كان حقاً لكان أجل من أن يحتج عليه بلفظ محتمل في خبر لم يروه إلا واحد، ولكان ذكر هذا في القرآن والسنة من أهم الأمور لحاجة الناس إلى معرفة ذلك لما وقع فيه من الاشتباه والنزاع واختلاف الناس، فلما لم يكن في السنة ما يدل على هذا المطلوب لم يجز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث بسياقه وإنما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان ولا شيء معه " فظنوه لفظاً ثابتاً مع مجرده عن سائر الكلام الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم وظنوا معناه الإخبار بتقدمه تعالى على كل شيء، وبنوا على هذين الظنين نسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم بواحدة من المقدمتين علم بل ولا ظن يستند إلى إمارة، وهب أنهم لم يجزموا بأن مراده المعنى الآخر فليس عندهم بأنه قاله. وقد قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) وقال تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). وهذا كله لا يجوز.
الوجه العاشر أنه قد زاد فيه بعض الناس " وهو الآن على ما عليه كان " وهذه الزيادة إنما زادها بعض الناس من عنده، وليست في شيء من الروايات. ثم إن منهم من يتأولها على أنه ليس معه الآن موجود بل وجوده عين وجود المخلوقات كما يقوله أهل وحدة الوجود الذين يقولون عين وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، كما يقوله ابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وابن الفارض ونحوهم. وهذا القول مما يعلم بالاضطرار شرعاً وعقلاً أنه باطل.
الوجه الحادي عاشر إن كثيراً من الناس يجعلون هذا عمدتهم من جهة السمع: أن الحوادث لها ابتداء وأن جنس الحوادث مسبوق بالعدم إذا لم يجدوا في الكتاب والسنة ما ينطق به مع أنهم يحكون هذا عن المسلمين واليهود والنصارى، كما يوجد مثل هذا في كتب أكثر أهل الكلام المبتدع في الإسلام الذي ذمه السلف وخالفوا به الشرع والعقل. وبعضهم يحكيه إجماعاً للمسلمين، وليس معهم بذلك نقل لا عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن الكتاب والسنة، فضلاً عن أن يكون هو قول جميع المسلمين.(1/382)
وبعضهم يظن أن من خالف ذلك فقد قال بقدم العالم ووافق الفلاسفة الدهرية، لأنه نظر في كثير من كتب الكلام فلم يجد فيها لا قولين: قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم إما صورته وإما مادته، سواء قيل هو موجود بنفسه أو معلول لغيره. وقول من رد على هؤلاء من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة والكرامية الذين يقولون: إن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بشيء، ثم أحدث الكلام والفعل بلا سبب أصلاً.
وطائفة أخرى كالكلابية ومن وافقهم يقولون: بل الكلام قديم العين إما معنى واحد، وأما أحرف وأصوات قديمة أزلية قديمة الأعيان، ويقول هؤلاء أن الرب لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم حدث ما يحدث بقدرته ومشيئته، إما قائماً بذاته أو منفصلاً عنه عند من يجوز ذلك، وإما منفصلاً عنه عند من لم يجوز قيام ذلك بذاته.
ومعلوم أن هذا القول أشبه بما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء وأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، فمن ظن أنه ليس للناس إلا هذان القولان وكان مؤمناً بأن الرسل لا يقولون إلا حقاً بظن أن هذا قول الرسل ومن اتبعهم. ثم إذا طولب بنقل هذا القول عن الرسل لم يمكنه ذلك ولم يمكن لأحد أن يأتي بآية ولا حديث يدل على ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً، بل ولا يمكنه أن ينقل ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان.
وقد جعلوا ذلك معنى حدوث العالم الذي هو أول مسائل أصول الدين عندهم. فيبقى أصل الدين الذي هو دين الرسل عندهم ليس عندهم ما يعلمون به أن الرسول قاله ولا في العقل ما يدل عليه. بل العقل والسمع يدل على خلافه. ومن كان أصل دينه الذي هو عنده دين الله ورسوله لا يعلم أن الرسول جاء به كان من أضل الناس في دينه.
الوجه الثاني عشر أنهم لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه، وكذلك رضاه وغضبه، والتزموا على ذلك أن الله لا يرى في الآخرة، وأنه ليس فوق العرش، إلى غير ذلك من اللوازم التي نفوا بها ما أثبته الله ورسوله، وكان حقيقة قولهم تكذيباً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلط أهل العقول على تلك الحجج التي لهم فبينوا فسادها.
وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده. ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل قالوا أن الرسول لم يبين الحقائق سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث عشر إن الغلط في معنى هذا الحديث هو من عدم المعرفة بنصوص الكتاب والسنة، بل المعقول الصريح، فإنه أوقع كثيراً من النظار وأتباعهم في الحيرة والضلال، فإنهم لم يعرفوا إلا قولين قول الدهرية القائلين بالقدم. وقول الجهمية القائلين بأنه لم يزل معطلاً عن أن يفعل أو يتكلم بقدرته ومشيئته، ورأوا لوازم كل قول تقتضي فساده وتناقضه، فبقوا حائرين مرتابين جاهلين، وهذه حال من لا يحصى منهم، ومنهم من صرح بذلك عن نفسه كما صرح به الرازي وغيره.(1/383)
ومن أعظم أسباب ذلك أنهم نظروا في حقيقة قول الفلاسفة فوجدوا أنه لم يزل المفعول الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل على فعله، وأن تقدير مفعول الفاعل مع تقدير أنه لم يزل مقارناً له لم يتقدم الفاعل عليه بل هو معه أزلاً وأبداً أمر يناقض صريح العقل. وقد استقر في الفطر أن كون الشيء المفعول مخلوقاً يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن. ولهذا كان ما أخبر الله به في كتابه من أنه خلق السموات والأرض بما يفهم جميع الخلائق أنهما حدثتا بعد أن لم يكونا، وأما تقدير كونهما لم يزالا معه مع كونهما مخلوقين له فهذا تنكره الفطر، ولم يقله إلا شرذمة قليلة من الدهرية كابن سينا وأمثاله.
وأما جمهور الفلاسفة الدهرية كأرسطو وأتباعه فلا يقولون أن الأفلاك معلولة لعلة فاعلة كما يقوله هؤلاء، بل قولهم وإن كان أشد فساداً من قول متأخريهم فلم يخالفوا صريح المعقول في هذا المقام الذي خالفه هؤلاء. وإن كانوا خالفوه من جهات أخرى ونظروا في حقيقة قول أهل الكلام الجهمية والقدرية ومن اتبعهم فوجدوا أن الفاعل صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً من غير حدوث شيء أوجب كونه فاعلاً، ورأوا صريح العقل يقضي بأنه إذا صار فاعلاً بعد أن لم يكن فاعلاً، فلا بد من حدوث شيء وأنه يمتنع في العقل أن يصير ممكناً بعد أن كان ممتنعاً بلا حدوث، وأنه لا سبب يوجب حصول وقت حدث وقت الحدوث وأن حدوث جنس الوقت ممتنع، فصاروا يظنون إذا جمعوا بين هؤلاء أنه يلزم الجمع بين النقيضين وهو أن يكون الفاعل قبل الفعل وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن فيكون الفعل معه فيكون الفعل مقارناً غير مقارن بأن كان بعد أن لم يكن حادثاً مسبوقاً بالعدم، فامتنع على هذا التقدير أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجب على التقدير الأول أن يكون فعل الفاعل مسبوقاً بالعدم، ووجدوا عقولهم تقصر بما يوجب هذا الإثبات وما يوجب هذا النفي، والجمع بين النقيض ممتنع، فأوقعهم ذلك في الحيرة والشك.
ومن أسباب ذلك أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل فلم يعرفوا ما دل عليه الكتاب والسنة ولم يميزوا في المعقولات بين المشتبهات، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلماً بشيء بعد شيء دائماً، وكون الفاعل يفعل شيئاً بعد شيء دائماً، وبين آحاد الفعل والكلام، فيقول كل واحد من أفعاله لا بد أن يكون مسبوقاً بالفاعل وأن يكون مسبوقاً بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلاً وأبداً، وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلاً بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حياً، وقيل أن الحياة مستلزمة الفعل والحركة كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك، كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة - كان كونه متكلماً أو فاعلاً من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلماً فعالاً مع العلم بأن الحي يتكلم يفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل، فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق، ولا نقول أنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول لم يزل الله عالماً قادراً مالكاً، لا شبه له ولا كيف.
وقال في موضع آخر: فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق، وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم. وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً فتعالى الله عن هذه الصفة بل أنه لم يزل متكلماً إذا شاء. ولا نقول أنه كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول أنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ثم ساق كلامه رضي الله عنه.(1/384)
فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه. لا بل هو خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق له وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وإن قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً. وإذا قيل أن الخلق صفة كمال لقوله تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق) أفلا أمكن أن تكون خالقيته دائمة وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم وليس مع الله شيء قديم. وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب. وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً مخالف لصريح المعقول.
فهؤلاء الفلاسفة الدهرية وإن ادعوا أنهم يثبتون دوام الفاعلية فهم في الحقيقة معطلون للفاعلية، وهي الصفة التي هي أظهر صفات الرب تعالى. ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فأطلق الخلق ثم خص الإنسان، وأطلق التعليم ثم خص التعليم بالقلم، والخلق يتضمن فعله والتعليم يتضمن قوله، فإنه يعلم بتكليمه، وتكليمه بالإيحاء وبالتكلم من وراء حجاب وبإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء، قال تعالى (وعلمك ما لم تكن تعلم) وقال تعالى (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) وقال تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علماً) وقال تعالى (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان).
وهؤلاء الفلاسفة يتضمن قولهم في الحقيقة أنه لم يخلق ولم يعلم، فإن ما يثبتونه من الخلق والتعليم إنما يتضمن التعطيل، فإنه على قولهم لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً، فامتنع حينئذ أن يكون مفعولاً له، فإن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله، وعندهم أنه لا يعلم شيئاً من جزئيات العلم، والتعليم فرع العلم، فمن لم يعلم الجزئيات يمتنع أن يعلمها غيره، وكل موجود فهو جزئي لا كلي، كذا الكليات إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان، فإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات، فامتنع أن يعلم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة.
ومن قال منهم لا يعلم لا كلياً ولا جزئياً فقوله أقبح. ومن قال يعلم الكليات الثابتة دون المتغيرة، فهو عندهم لا يعلم شيئاً من الحوادث ولا يعلمها لأحد من خلقه، كما يقتضي قولهم أنه لم يخلقها، فعلى قولهم لا خلق ولا علم، وهذا حقيقة قول مقدمهم أرسطو، فإنه لم يثبت أن الرب مبدع للعالم ولا جعله علة فاعلة، بل الذي أثبته أنه علة غائية يتحرك الفلك لتشبثه به كتحريك المعشوق للعاشق، وصرح بأنه لا يعلم الأشياء. فعنده لا خلق ولا علم. وأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).(1/385)
الوجه الرابع عشر إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لدعوة الخلق إلى عبادته وحده لا شريك، وذلك يتضمن معرفته لما أبدعه من مخلوقاته وهي المخلوقات المشهودة الموجودة، من السموات والأرض وما بينهما، فأخبر الكتاب الذي لم يأت من عنده كتاب أهدى منه بأنه خلق أصول هذه المخلوقات الموجودة المشهودة في ستة أيام ثم استوى على العرش. وشرع أهل الإيمان أن يجتمعوا كل أسبوع يوماً يعبدون الله فيه ويحتفلون بذلك ويكون ذلك آية على الأسبوع الأول الذي خلق فيه السموات والأرض. ولما لم يعرف الأسبوع إلا بخبر الأنبياء فقد جاء في لغتهم عليهم السلام أسماء أيام الأسبوع فإن النفس يتبع النصوص فالاسم يعبر عما تصوره، فلما كان تصور اليوم والشهر والحول معروفاً بالعقل تصورت ذلك الاسم وعبرت عن ذلك، وأما الأسبوع فلما لم يكن في مجرد العقل ما يوجب معرفته فإنما عرف بالسمع صارت معرفته عند أهل السمع المتلقين عن الأنبياء دون غيرهم، وحينئذ فأخبروا الناس بخلق هذا العالم الموجود المشهود وابتداء خلقه وأنه خلقه في ستة أيام، وأما ما خلقه قبل ذلك شيئاً بعد شيء فهذا بمنزلة ما سيخلقه بعد قيام القيامة ودخول أهل الجنة وأهل النار منازلهما. وهذا مما لا سبيل للعباد إلى معرفته تفصيلاً. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم " رواه البخاري. فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم ببدء الخلق إلى دخول أهل الجنة والنار منازلهما.
وقوله " بدأ الخلق " مثل قوله في الحديث الآخر " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " فإن الخلائق هنا المراد بها الخلائق المعروفة المخلوقة بعد خلق العرش وكونه على الماء. ولهذا كان التقدير للمخلوقات هو التقدير لخلق هذا العالم، كما في حديث القلم: إن الله لما خلقه قال اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وكذلك في الحديث الصحيح " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وقوله في الحديث الآخر الصحيح " كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " يراد به أنه كتب كل ما أراد خلقه من ذلك فإن لفظ كل شيء يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله (بكل شيء عليم - وعلى كل شيء قدير) وقوله (الله خالق كل شيء - وتدمر كل شيء - وأوتيت من كل شيء - وفتحنا عليهم أبواب كل شيء - ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين) وأخبرت الرسل بتقدم أسمائه وصفاته كما في قوله (وكان الله عزيزاً حكيماً. سميعاً بصيراً. غفوراً رحيماً.) وأمثال ذلك.
قال ابن عباس " كان ولا يزال " ولم يقيد كون بوقت دون وقت، ويمتنع أن يحدث له غيره صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره سبحانه، فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك. فلا يتوقف شيء من كمال ولوازم كماله على غيره، بل نفسه المقدسة، وهو المحمود على ذلك أزلاً وأبداً، وهو الذي يحمد نفسه ويثني عليها بما يستحقه. وأما غيره فلا يحصي ثناء عليه بل هو نفسه كما أثنى على نفسه، كما قال سيد ولد آدم في الحديث الصحيح " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " .
وإذا قيل لم يكن متكلماً ثم تكلم، أو قيل كان الكلام ممتنعاً ثم صار ممكناً له، كان هذا - مع وصفه له بالنقص في الأزل وأنه تجدد له الكمال ومع تشبيهه له بالمخلوق الذي ينتقل من النقص إلى الكمال - ممتنعاً من جهة أن الممتنع لا يصير ممكناً بلا سبب، والعدم المحض لا شيء فيه فامتنع أن يكون الممتنع فيه يصير ممكناً بلا سبب حادث. وكذلك إذا قيل كلامه كله معنى واحد لازم لذاته ليس له فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا في الحقيقة تعطيلاً للكلام وجمعاً بين المتناقضين إذ هو إثبات لموجود لا حقيقة له، بل يمتنع أن يكون موجوداً مع أنه لا مدح فيه ولا كمال، وكذلك إذا قيل كلامه كله قديم العين وهو حروف وأصوات قديمة لازمة لذاته ليس فيه قدرة ولا مشيئة، كان هذا مع ما يظهر من تناقضه وفساده في المعقول لا كمال فيه إذ لا يتكلم بمشيئته ولا قدرته ولا إذا شاءه.(1/386)
أما قول من يقول ليس كلامه إلا ما يخلقه في غيره فهذا تعطيل للكلام من كل وجه وحقيقته أنه لا يتكلم كما قال ذلك قدماء الجهمية، وهو سلب للصفات إذ فيه من التناقض والفساد حيث أثبتوا الكلام المعروف ونفوا لوازمه ما يظهر به أنه من أفسد أقوال العالمين، بأنهم أثبتوا أنه يأمر وينهى ويخبر ويبشر وينذر وينادي من غير أن يقوم به شيء من ذلك، كما قالوا أنه يريد ويحب ويبغض ويغضب من غير أن يقوم به شيء من ذلك، وفي هذا من مخافة صريح المعقول وصحيح المنقول ما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وأما القائلون بقدم هذا العالم فهم أبعد عن المعقول والمنقول من جميع الطوائف ولهذا أنكروا الكلام القائم بذاته والذي يخلقه في غيره، ولم يكن كلامه عندهم إلا ما يحدث في النفوس من المعقولات والمتخيلات، وهذا (معنى) تكليمه لموسى عليه السلام وعندهم، فعاد التكليم إلى مجرد علم المكلم. ثم إذا قالوا مع ذلك أنه لا يعلم الجزئيات، فلا علم ولا أعلام، وهذا غاية التعطيل والنقص، وهم ليس لهم دليل قط على قدم شيء من العالم، بل حججهم إنما تدل على قدم نوع الفعل وأنه لم يزل الفاعل فاعلاً أو لم يزل لفعله مدة أو أنه لم يزل للمادة مادة، وليس في شيء من أدلتهم ما يدل على قدم الفلك ولا قدم شيء من حركاته ولا قدم الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك. والرسل أخبرت بخلق الأفلاك وخلق الزمان الذي هو مقدار حركتها، مع إخبارها بأنها خلقت من مادة قبل ذلك، وفي زمان قبل هذا الزمان فإنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وسواء قيل أن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المقدرة بطلوع الشمس وغروبها أو قيل أنها أكبر منها كما قال بعضهم: أن كل يوم قدره ألف سنة، فلا ريب أن تلك الأيام التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك. وتلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السموات والأرض.
وقد أخبر سبحانه أنه (استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين) فخلقت من الدخان. وقد جاءت الآثار عن السلف أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، المذكور في قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في مدة ومن مادة ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئاً كما قال (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) مع إخباره أنه خلقه من نطفة.
وقوله (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فيها قولان، فالأكثرون على أن المراد أم خلقوا من غير خالق بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) كما قال تعالى (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) وقال تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) وقيل: أم خلقوا من غير مادة، وهذا ضعيف لقوله بعد ذلك (أم هم الخالقون) فدل ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق أم هم الخالقون؟ ولو كان المراد من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء أم من ماء معين؟ فدل على أن المراد أنا خالقهم لا مادتهم، ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دل على جهلهم، ولأنهم لم يظنوا ذلك ولا يوسوس الشيطان لابن آدم بذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم، ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم. والاستفهام استفهام إنكار مقصوده تقريرهم أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقاً خلقهم نفعهم ذلك، وأما إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغن ذلك عنهم من الله شيئاً.(1/387)
الوجه الخامس عشر أن الإقرار بأن الله لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء هو وصف الكمال الذي يليق به وما سوى ذلك نقص يجب نفيه عنه، فإن كونه لم يكن قادراً ثم صار قادرة على الكلام أو الفعل مع أنه وصف له فإنه يقتضي أنه كان ناقصاً عن صفة القدرة التي هي من لوازم ذاته والتي هي من أظهر صفات الكمال، فهو ممتنع في العقل بالبرهان اليقيني، فإنه إذا لم يكن قادراً ثم صار قادراً فلا بد من أمر جعله قادراً بعد أن لم يكن، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض امتنع أن يصير قادراً بعد أن لم يكن، وكذلك يمتنع أن يصير عالماً بعد أن لم يكن قبل هذا، بخلاف الإنسان فإنه كان غير عالم ولا قادر ثم جعله غيره عالماً قادراً وكذلك إذا قالوا كان غير متكلم ثم صار متكلماً.
وهذا مما أورده الإمام أحمد على الجهمية إذ جعلوه كان غير متكلم ثم صار متكلماً. قال: كالإنسان، قال: فقد جمعتم بين تشبيه وكفر. وقد حكيت ألفاظه في غير هذا الموضع.
وإذا قال القائل: كان في الأزل قادراً على أن يخلق فيما لا يزال، كان هذا كلاماً متناقضاً لأنه في الأزل عندهم لم يكن يمكنه أن يفعل، ومن لم يمكنه الفعل في الأزل امتنع أن يكون قادراً في الأزل، فإن الجمع بين كونه قادراً وبين كون المقدور ممتنعاً جمع بين الضدين، فإنه في حال امتناع الفعل لم يكن قادراً.
وأيضاً يكون الفعل ينتقل من كونه ممتنعاً إلى كونه ممكناً بغير سبب موجب يحدد ذلك ممتنع.
وأيضاً فما من حال يقدرها العقل إلا والفعل فيها ممكن وهو قادر. وإذا قدر قبل ذلك شيئاً شاءه الله فالأمر كذلك، فلم يزل قادراً والفعل ممكن وليس لقدرته وتمكينه من الفعل أول، فلم يزل قادراً يمكنه أن يفعل فلم يكن الفعل ممتنعاً عليه قط.
وأيضاً فإنهم يزعمون أنه يمتنع في الأزل والأزل ليس شيئاً محدوداً يقف عنده العقل بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة - فني الخردل كله والأزل لم ينته، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافاً لا ينتهي. فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك. وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكناً. وإذا كان ممكناً فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟ وأيضاً فالأزل معناه عدم الأولية، ليس الأزل شيئاً محدوداً، فقولنا لم يزل قادراً بمنزلة قولنا هو قادر دائماً، وكونه قادراً وصف دائم لا ابتداء له، فكذلك إذا قيل لم يزل متكلماً إذا شاء ولم يزل يفعل ما شاء، يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظان أن هذا يقتضي دوام كونه متكلماً وفاعلاً بمشيئته وقدرته، وإذا ظن الظان أن هذا يقتضي قدم شيء معه كان من فساد تصوره، فإنه إذا كان خالق كل شيء فكل ما سواه مخلوق مسبوق بالعدم، فليس معه شيء قديم بقدمه. وإذا قيل لم يزل يخلق كان معناه لم يزل يخلق مخلوقاً بعد مخلوق، كما لا يزال في الأبد يخلق مخلوقاً بعد مخلوق، ننفي ما ننفيه من الحوادث والحركات شيئاً بعد شيء. وليس في ذلك إلا وصفه بدوام الفعل لا بأن معه مفعولاً من المفعولات بعينه.
وإن قدر أنه نوعها لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله، قال تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) والخلق لا يزالون معه، وليس في كونهم لا يزالون معه في المستقبل ما ينافي كماله، وبين الأزل في المستقبل مع أنه في الماضي حدث بعد أن لم يكن إذ كان كل مخلوق فله ابتداء، ولا نجزم أن يكون له انتهاء. وهذا فرق في أعيان المخلوقات، وهو فرق صحيح لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين، كما اشتبه ذلك على كثير من الناس في الكلام فلم يفرقوا بين كون كلامه قديماً بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء وبين كون الكلام المعين قديماً، وكذلك لم يفرقوا بين كون الفعل المعين المعين قديماً كالفلك محدث مخلوق مسبوق بالعدم، وكذلك كل ما سواه. وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة والآثار وهو الذي تدل عليه المعقولات الصريحة الخالصة من الشبه كما قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبينا مطابقة العقل الصريح للنقل الصحيح.(1/388)
وإن من غلط أهل الفلسفة والكلام أو غيرهم فإنما هو لغلط فيهما أو في أحدهما، وإلا فالقول الصدق المعلوم بعقل أو سمع يصدق بعضه بعضاً لا يكذب بعضه بعضاً قال تعالى (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) بعد قوله: (ومن أظلم ممن افترى على اله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه) وإنما مدح من جاء بالصدق وصدق بالحق الذي جاءه. وهذه حال من لم يقبل إلا الصدق ولم يرد ما يجيئه به غيره من الصدق، بل قبله ولم يعارض بينهما ولم يدفع أحدهما بالآخر، وحال من كذب على الله ونسب إليه بالسمع أو العقل ما لا يصح نسبته إليه أو كذب بالحق لما جاءه، فكذب من جاء بحق معلوم من سمع أو عقل، وقال تعالى عن أهل النار (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) فأخبر أنه لو حصل لهم سمع أو عقل ما دخلوا النار، وقال تعالى (أولم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذن يسمعون بها إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وقال تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) أي أن القرآن حق، فأخبر أنه سيري عباده الآيات المشهودة المخلوقة حتى يتبين أن الآيات المتلوة المسموعة حق.
ومما يعرف به منشأ غلط هاتين الطائفتين غلطهم في الحركة والحدوث ومسمى ذلك، فطائفة كأرسطو وأتباعه قالت: لا يعقل أن يكون جنس الحركة والزمان والحوادث حادثاً وأن يكون مبدأ كل حركة وحادث صار فاعلاً لذلك بعد أن لم يكن، وأن يكون الزمان حادثاً بعد أن لم يكن حادثاً، مع أن قبل وبعد لا يكون إلا في الزمان، وهذه القضايا كلها إنما تصدق كلية لا تصدق معينة، ثم ظنوا أن الحركة المعينة وهي حركة الفلك هي القديمة الأزلية وزمانها قديم، فضلوا ضلالاً مبيناً مخالفاً لصحيح المنقول المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم مع مخالفته لصريح المعقول الذي عليه جمهور العقلاء من الأولين والآخرين.
وطائفة ظنوا أنه لا يمكن أن يكون جنس الحركة والحوادث والفعل إلا بعد أن لم يكن شيء من ذلك، أو أنه يجب أن يكون فاعل الجميع لم يزل معطلاً ثم حدثت الحوادث بلا سبب أصلاً وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب، وصار قادراً بعد أن لم يكن بلا سبب، وكان الشيء بعد ما لم يكن في غير زمان، وأمثال ذلك مما يخلف صريح العقل، وهم يظنون مع ذلك أن هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، وليس هذا القول منقولاً عن موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله عليهم وسلامه ولا عن أحد من أصحابهم، إنما هو مما أحدثه بعض أهل البدع وانتشر عند الجهال بحقيقة أقوال الرسل وأصحابهم، فظنوا أن هذا قول الرسل صلى الله عليهم وسلم، وصار نسبة هذا القول إلى الرسل وأتباعهم يوجب القدح فيهم إما بعدم المعرفة بالحق في هذه المطالب العالية، وإما بعدم بيان الحق، وكل منهما يوجب عند هؤلاء أن يعزلوا الكتاب والسنة وآثار السلف عن الاهتداء.
وإنما ضلوا لعدم علمهم بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان. فإن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً.
انتهى
قاعدة أهل السنة والجماعة
في رحمة أهل البدع والمعاصي
ومشاركتهم في صلاة الجماعة
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى وتقدس (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).(1/389)
وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج " أنهم كلاب أهل النار " وقرأ هذه الآية (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم. وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم. يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية - وفي رواية - يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " .
والخوارج هم أول من كفر المسلمين بالذنوب. ويكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله. وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق.
وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر. وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه.
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات، لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهله العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل الإسلام بلا خلاف عندهم.
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله. ولم يقل أحد أنه لا تصح إلى خلف من عرف حاله.
ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال أن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال.
فصل
ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.(1/390)
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " وقال صلى الله عليه وسلم " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه " وقال صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله " وقال " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال " أنه أراد قتل صاحبه " وقال " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " وقال " إذا قال المسلم لأخيه لا كافر فقد باء بها أحدهما " وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ " وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضاً: من حديث الأفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: أنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم أنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال " يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض أخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل. ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه " أن لا يهلك أمته بسنة عامة أعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك " وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي بعضاً.
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال " أعوذ بوجهك " (أو من تحت أرجلكم) قال " أعوذ بوجهك " (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال " هاتان أهون " .(1/391)
هذا ما أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة " وقال " الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد " وقال " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم " .
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه. وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح " يؤم القوم أقرأم لكتاب الله. فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة. فإن كان في الهجرة سواء فأقدمهم سناً " وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً وكان قد رد بدعة ببدعة.
حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان صح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد، ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفكر) هو الحبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هو سواد الليل وبياض النهار " ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصلوا إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. قيل يثبت وقيل لا يثبت، وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وفي الصحيحين " ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين " .
فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدراً.
فصل(1/392)
أجمع المسلمون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن ذلك حق يجزم به المسلمون يقطعون به ولا يرتابون، وكل ما علمه المسلم وجزم به فهو يقطع به وإن كان الله قادراً على تغييره، فالمسلم يقطع بما يراه ويسمعه، ويقطع بأن الله قادر على ما يشاء، وإذا قال المسلم أن أقطع بذلك فليس مراده أن الله لا يقدر على تغييره، بل من قال أن الله لا يقدر على مقل إماتة الخلق وإحيائهم من قبورهم وعلى تسيير الجبال وتبديل الأرض غير الأرض فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
والذين يكرهون لفظ القطع من أصحاب أبي عمرو بن مرزوق هم قوم أحدثوا ذلك من عندهم ولم يكن هذا الشيخ ينكر هذا، ولكن أصل هذا أنهم كانوا يستثنون في الإيمان كما نقل ذلك عن السلف فيقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويستثنون في أعمال البر، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله. ومراد السلف من ذلك الاستثناء كونه لا يقطع بأنه فعل الواجب كما أمر الله ورسوله، فيشك في قبول الله لذلك فاستثنى ذلك، أو للشك في العاقبة، أو يستثني لأن الأمور جميعها إنما تكون بمشيئة الله كقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله) مع أن الله علم بأنهم يدخلون لا شك في ذلك، أو لئلا يزكي أحدهم نفسه.
وكان أولئك يمتنعون عن القطع في مثل هذه الأمور، ثم جاء بعدهم قوم جهال فكرهوا لفظ القطع في كل شيء، ورووا في ذلك أحاديث مكذوبة، وكل من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه أو واحد من علماء المسلمين أنه كره لفظ القطع في الأمور المجزوم بها فقد كذب عليه. وصار الواحد من هؤلاء يظن أنه إذا أقر بهذه الكلمة فقد أقر بأمر عظيم في الدين، وهذا جهل وضلال من هؤلاء الجهال لم يسبقهم إلى هذا أحد من طوائف المسلمين، ولا كان شيخهم أبو عمرو بن مرزوق ولا أصحابه في حياته ولا خيار أصحابه بعد موته يمتنعون من هذا اللفظ مطلقاً، بل إنما فعل هذا طائفة من جهالهم.
كما أن طائفة أخرى زعموا أن من سب الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سب أصحاب ذنب لا يغفر " وهذا الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن لأن الله تعالى قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هذا في حق من لم يتب. وقال في حق التائبين (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله لا يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) فثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل من تاب تاب الله عليه.
ومعلوم أن من سب الرسول من الكفار المحاربين وقال: هو ساحر أو شاعر أو مجنون أو معلم أو مفتر وتاب تاب الله عليه. وقد كان طائفة يسبون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الحرب ثم أسلموا وحسن إسلامهم وقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم: منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعد بن أبي صرح، وكان قد ارتد وكان يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا كنت أعلمه القرآن، ثم تاب وأسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.(1/393)
وإذا قيل: سب الصحابة حق لآدمي: قيل: المستحل لسبهم كالرافضي يعتقد ذلك ديناً، كما يعتقد الكافر سب النبي صلى الله عليه وسلم ديناً. فإذا تاب وصار يحبهم ويثني عليهم ويدعو لهم محا الله سيئاته بالحسنات. ومن ظلم إنساناً فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبل الله توبته. لكن إن عرف المظلوم مكنه من أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أصحهما أنه لا يعلمه أني اغتبتك. وقد قيل بل يحسن غليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته. كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. فإذا كان الرجل قد سب الصحابة أو غير الصحابة وتاب فإنه يحسن إليهم بالدعاء لهم والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم والحسنات يذهبن السيئات. كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول أنه كاذب إذا تاب وشهد أن محمداً رسول الله الصادق المصدوق وصار يحبه ويثني عليه ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته والله تعالى (يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) وقد قال تعالى (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير).
آخر كلام شيخ الإسلام بن تيمية، قدس الله روحه الزكية، وأسكننا وإياه بمنه الغرف العلية. وصلى الله على محمد وصحبة وسلم.
المذهب الصحيح الواضح فيما جاء من النصوص
في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات
من تحقيقات شيخ الإسلام ابن تيميةقدس الله سر منقول من الجزء الحادي والثلاثين من كتاب الكواكب الدراري الموجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق المحروسة بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى ورضي عنه: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسله صلى الله عليه وسلم تسليماً.
فصل
في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة إليه، وذلك داخل في قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه.
قال الله في كتابه (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) وقال تعالى، فيما ذم به بني إسرائيل (فيما نقضهم ميثاقهم - إلى قوله - وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) ومن أكل أموال الناس بالباطل أخذ أحد العوضين بدون تسليم العوض الآخر، لأن المقصود بالعهود والعقود المالية هو التقابض، فكل من العاقدين يطلب من الآخر تسليم ما عقد عليه ولهذا قال تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به) أي تتعاهدون وتتعاقدون، وهذا هو موجب العقود ومقتضاها، لأن كلاً من المتعاقدين أوجب على نفسه بالعقد ما طلبه الآخر وسأله منه، فالعقود موجبة للقبوض، والقبوض هي المسؤولة المقصودة المطلوبة، ولهذا تتم العقود بالتقابض من الطرفين، حتى لو أسلم الكافران بعد التقابض في العقود التي يعتقدون صحتها أو تحاكما إلينا لم نتعرض لذلك لانقضاء العقود بموجباتها، ولهذا نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، لأنه عقد وإيجاب على النفوس بلا حصول مقصود لأحد الطرفين ولا لهما. ولهذا حرم الله الميسر الذي منع بيع الغرر، ومن الغرر ما يمكنه قبضه وعدم قبضه كالدواب الشاردة، لأن مقصود العقد وهو القبض غير مقدور عليه.(1/394)
ولهذا تنازع العلماء في بيع الدين على الغير، وفيه عن أحمد روايتان، وإن كان المشهور عند أصحابه منعه، وبهذا وقع التعليل في بيع الثمار قبل بدو صلاحها، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع الثمار حتى تزهى " قيل: وما تزهى؟ قال حتى " تحمر " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " وفي لفظ أنه " نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وعن النخل حتى يزهو؟ قيل: وما يزهو قال يحمار ويصفار " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمر حتى تزهو " فقلت لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر، أرأيت أن منع الله الثمر، بم تستحل مال أخيك؟ وهذه ألفاظ البخاري. وعند مسلم " نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو " وعند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟ " قال أبو مسعود الدمشقي: جعل مالك والدراوردي قول أنس: أرأيت إن منع الله الثمرة - من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. أدرجاه يه، ويرون أنه غلط. وفيما قاله أبو مسعود نظر.
وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين ليس فيه نزاع، وهو من الأحكام التي يجب اتفاق الأمم والملل فيها في الجملة، فإن مبنى ذلك على العدل والقسط الذي تقوم به السماء والأرض، وبه أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، كما قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
وذلك أن المعاوضة كالمبايعة والمؤاجرة مبناها على المعادلة والمساواة من الجانبين، لم يبذل أحدهما ما بذله، إلا ليحصل له ما طلبه. فكل منهما آخذ معط طالب مطلوب. فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه - مثل تلف العين المؤجرة قبل التمكن من قبضها وتلف ما بيع بكيل أو وزن قبل تمييزه بذلك وإقباضه ونحو ذلك - لم يجب على المؤخر أو المشتري أداء الأجرة أو الثمن.
ثم إن كان التلف على وجه لا يمكن ضمانه وهو التلف بأمر سماوي بطل العقد ووجب رد الثمن إلى المشتري إن كان قبض منه، وبرئ منه إن لم يكن قبض، وإن كان على وجه يمكن فيه الضمان وهو أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه فللمشتري الفسخ لأجل تلفه قبل التمكن من قبضه وله الإمضاء لإمكان مطالبة المتلف، فإن فسخ كانت مطالبة المتلف للبائع وكان للمشتري مطالبة البائع بالثمن إن كان قبضه، وإن لم يفسخ كان عليه الثمن وله مطالبة المتلف، لكن المتلف لا يطالب إلا بالبدل الواجب بالإتلاف، والمشتري لا يطالب إلا بالمسمى الواجب بالعقد، ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن المتلف إما أن يكون هو البائع أو المشتري أو ثالثاً أو يكون بأمر سماوي، فإن كان هو المشتري فإتلافه كقبضه يستقر به العوض، وإن كان بأمر سماوي انفسخ العقد، وإن كان ثالثاً فالمشتري بالخيار، وإن كان المتلف هو البائع فأشهر الوجهين أنه كإتلاف الأجنبي، والثاني أنه كالتلف السمائي.
وهذا الأصل مستقر في جميع المعاوضات إذا تلف المعقود عليه قبل التمكن من القبض تلفاً لا ضمان فيه انفسخ العقد، وإن كان فيه الضمان كان في العقد الخيار. وكذلك سائر الوجوه التي يتعذر فيها حصول المقصود بالعقد من غير إياس، مثل أن يغصب المبيع أو المستأجر غاصب، أو يفلس البائع بالثمن، أو يتعذر فياه ما تستحقه الزوجة من النفقة والمتعة والقسم، أو ما يستحقه الزوج من المتعة ونحوها، ولا ينتقض هذا بموت أحد الزوجين، لأن ذلك تمام العقد ونهايته، ولا بالطلاق قبل الدخول لأن نفس حصول الصلة بين الزوجين أحد مقصودي العقد. ولهذا ثبتت به حرمة المصاهرة في غير الربيبة.
فصل
والأصل في أن تلف المبيع والمستأجر قبل التمكن من قبضه ينفسخ به العقد من السنة ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو بعث من أخيك تمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " وفي رواية " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح " .(1/395)
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً، ثم بين سبب ذلك وعلته فقال " بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " وهذا دلالة على ما ذكره الله في كتابه من تحريم أكل المال بالباطل وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ ماله بغير حق بل بالباطل، وقد حرم الله أكل المال بالباطل لأنه من الظلم المخالف للقسط الذي تقوم به السماء والأرض. وهذا الحديث أصل في هذا الباب.
والعلماء وإن تنازعوا في حكم هذا الحديث كما سنذكره واتفقوا على أن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد ويحرم أخذ الثمن فلست أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً صريحاً في هذه القاعدة وهي (إن تلف المبيع قبل التمكن من القبض يبطل العقد) غير هذا الحديث.
وهذا له نظائر متعددة قد ينص النبي صلى الله عليه وسلم نصاً يوجب قاعدة ويخفي النص على بعض العلماء حتى يوافقوا غيرهم على بعض أحكام تلك القاعدة ويتنازعوا فيما لم يبلغهم فيه النص. مثل اتفاقهم على المضاربة ومنازعتهم في المساقاة والمزارعة وهما ثابتان بالنص، والمضارية ليس فيها نص، وإنما فيها عمل الصحابة رضي الله عنهم.
ولهذا كان فقهاء الحديث يؤصلون أصلاً بالنص ويفرعون عليه لا ينازعون في الأصل المنصوص ويوافقون فيما لا نص فيه، ويتولد من ذلك ظهور الحكم المجمع عليه لهيبة الاتفاق في القلوب وأنه ليس لأحد خلافه.
وتوقف بعض الناس في الحكم المنصوص. وقد يكون حكمه أقوى من المتفق عليه. وإن خفي مدركه على بعض العلماء فليس ذلك بمانع من قوته في نفس الأمر حتى يقطع به من ظهر له مدركه.
ووضع الجوائح من هذا الباب، فإنها ثابتة بالنص، وبالعمل القديم الذي لم يعلم فيه مخالف من الصحابة والتابعين، وبالقياس الجلي والقواعد المقررة، بل عند التأمل الصحيح ليس في العلماء من يخالف هذا الحديث على التحقيق.
وذلك أن القول به هو مذهب أهل المدينة قديماً وحديثاً، وعليه العمل عندهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمن مالك وغيره، وهو مشهور عن علمائهم كالقاسم ابن محمد ويحيى بن سعيد القاضي ومالك وأصحابه، وهو مذهب فقهاء الحديث كالإمام أحمد وأصحابه وأبي عبيد والشافعي في قوله القديم. وأما في القول الجديد فإنه علق القول به على ثبوته لأنه لم يعلم صحته، فقال رضي الله عنه: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلاً بوضعها لوضعتها في القليل والكثير.
فقد أخبر أنه إنما لم يجزم به لأنه لم يعلم صحته. وعلق القول به على ثبوته، فقال: لو ثبت لم أعده. والحديث ثابت عند أهل الحديث لم يقدح فيه أحد من علماء الحديث بل صححوه ورووه في الصحاح والسنن رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد. فظهر وجوب القول به على أصل الشافعي أصلاً.
وأما أبو حنيفة فإنه لا يتصور الخلاف معه في هذا الأصل على الحقيقة لأن من أصله: أنه لا يفرق بين ما قبل بدو الصلاح وبعده، ومطلق العقد عنده وجوب القطع في الحال ولو شرط التبقية بعد بدو الصلاح لم يصح عنده بناء على ما رآه من أن العقد موجب التقابض في الحال، فلا يجوز تأخيره لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، فإذا تلف الثمر عنده بعد البيع والتخلية فقد تلف بعد وجوب قطعه كما لو تلف عند غيره بعد كمال إصلاحه، وطرد أصله في الإجارة فعنده لا يملك المنافع فيها إلا بالقبض شيئاً فشيئاً لا تملك بمجرد العقد وقبض العين ولهذا يفسخها بالموت وغيره.
ومعلوم أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متواترة في التفريق بين ما بعد بدو الصلاح وقبل بدوها كما عليه جماهير العلماء حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وذلك ثابت في الصحاح من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وأبي هريرة فلو كان أبو حنيفة ممن يقول ببيع الثمار بعد بدو صلاحها مبقاة إلى كمال الصلاح ظهر النزاع معه.(1/396)
والذين ينازعون في وضع الجوائح لا ينازعون في أن المبيع إذا تلف قبل التمكن من القبض يكون من ضمان البائع، بل الشافعي أشد الناس في ذلك قولاً فإنه يقول: إذا تلف قبل القبض كان من ضمان البائع في كل مبيع ويطرد ذلك في غير البيع، وأبو حنيفة يقول به في كل منقول. ومالك وأحمد القائلان بوضع الجوائج يفرقان بين ما أمكن قبضه كالعين الحاضرة وما لم يمكن قبضه لما روى البخاري من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: مضت السنة إن ما أدركته الصقعة حباً مجموعاً فهو من مال المشتري.
وإما النزاع في أن تلف الثمر قبل كمال صلاحه تلف قبل التمكن من القبض أم لا؟ فإنهم يقولون هذا تلف بعد قبضه لأن قبضه حصل بالتخلية بين المشتري وبينه، فإن هذا قبض العقار وما يتصل به بالاتفاق، ولأن المشتري يجوز تصرفه فيه بالبيع وغيره، وجواز التصرف يدل على حصول القبض لأن التصرف في المبيع قبل القبض لا يجوز، فهذا سر قولهم.
وقد احتجوا بظاهر من أحاديث معتضدين بها، مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ومثل ما روي في الصحيحين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسأله أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تألى أن لا يفعل خيراً " .
ولا دلالة في واحد من الحديثين، أما الأول فكلام مجمل فإنه حكى أن رجلاً اشترى ثماراً فكثرت ديونه فيمكن أن السعر كان رخيصاً فكثر دينه لذلك، ويحتمل أنها تلفت أو بعضها بعد كمال الصلاح أو حوزها إلى الجرين أو إلى البيت أو السوق، ويحتمل أن يكون هذا قبل نهيه أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها. ولو فرض أن هذا كان مخالفاً لكان منسوخاً، لأنه باق على حكم الأصل وذاك ناقل عنه، وفيه سنة جديدة فلو خولفت لوقع التغيير مرتين، وأما الحديث الثاني فليس فيه إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم " تألى أن لا يفعل خيراً " والخير قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً، ولم يحكم عليه لعدم مطالبة الخصم وحضور البينة أو الإقرار، ولعل التلف كان بعد كمال الصلاح.
وقد اعترض بعضهم على حديث الجوائح بأنه مجمول على بيع الثمر قبل بدو صلاحه كما في حديث أنس. وهذا باطل لعدة أوجه.
أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة " والبيع المطلق لا ينصرف إلا إلى البيع الصحيح.
والثاني أنه أطلع بيع الثمرة ولم يقل قبل بدو صلاحها فأما تقييده ببيعها قبل بدوصلاحها فلا وجه له.
الثالث أنه قيد ذلك بحال الجائحة، وبيع الثمر قبل بدو صلاحها لا يجب فيه ثمن بحال.
الرابع أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون، فلو كان الثمر على الشجر مقبوضاً لوجب أن يكون مضموناً على المشتري في العقد الفاسد. وهذا الوجه يوجب أن يحتج بحديث أنس على وضع الجوائح في البيع الصحيح. كما توضع في البيع الفاسد، لأن ما ضمن في الصحيح ضمن في الفاسد، وما لا يضمن في الصحيح لا يضمن في الفاسد.
وأما قولهم: إنه تلف بعض القبض فممنوع، بل نقول ذلك تلف قبل تمام القبض وكماله، بل وقبل التمكن من القبض، لأن البائع عليه تمام التربية من سقي الثمر، حتى لو ترك ذلك لكان مفرطاً، ولو فرض أن البائع فعل ما يقدر عليه من التخلية فالمشتري إنما عليه أن يقبضه على الوجه المعروف المعتاد. فقد وجد التسليم دون تمام التسلم. وذلك أحد طرفي القبض. ولم يقدر المشتري إلا على ذلك. وإنما على المشتري أن يقبض المبيع على الوجه المعروف المعتاد الذي اقتضاه العقد، سواء كان القبض مستعقباً للعقد أو مستأخراً وسواء كان جملة أو شيئاً فشيئاً.
ونحن نطرد هذا الأصل في جميع العقود، فليس من شرط القبض أن يستعقب العقد، بل القبض يجب وقوعه على حسب ما اقتضاه العقد لفظاً وعرفاً، ولهذا يجوز استثناء بعض منفعة المبيع مدة معينة وإن تأخر بها القبض على الصحيح، كما يجوز بيع العين المؤجرة، ويجوز بيع الشجر واستثناء ثمره للبائع، وإن تأخر معه كمال القبض. ويجوز عقد الإجارة لمدة لا تلي العقد.(1/397)
وسر ذلك أن القبض هو موجب العقد فيجب في ذلك ما أوجبه العاقدان يحسب قصدهما الذي يظهر بلفظهما وعرفهما. ولهذا قلنا أن شرطا تعجيل القطع جاز إذا لم يكن فيه فساد يحظره الشرع، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً وحرم حلالاً، وإن أطلقا فالعرف تأخير الجداد والحصاد إلى كمال الصلاح.
وأما استدلالهم بأن القبض هو التخلية فالقبض مرجعه إلى عرف الناس، حيث لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع. وقبض ثمر الشجر لا بد فيه من الخدمة والتخلية المستمرة إلى كمال الصلاح، بخلاف قبض مجرد الأصول، وتخلية كل شيء بحسبه، ودليل ذلك المنافع في العين المؤجرة.
وأما استدلالهم بجواز التصرف فيه بالبيع، فعن أحمد في هذه المسألة روايتان: (أحدهما) لا يجوز بيعه ما دام مضموناً على البائع لأن بيع ما لم يقبض فلا يجوز وعلى هذا يمنع الحكم في الأصل (والرواية الثانية) يجوز التصرف، وعلى هذه الرواية فذلك بمنزلة منافع الإجارة بأنها لو تلفت قبل الاستيفاء كانت من ضمان المؤجر بالاتفاق، ومع هذا فيجوز التصرف فيها قبل القبض، وذلك لأنه في الموضعين حصل الإقباض الممكن فجاز التصرف باعتبار التمكن، ولم يدخل في الضمان لانتفاء كماله وتمامه الذي به يقدر المشتري والمستأجر على الاستيفاء، وعلى هذا فعندنا لا ملازمة بين جواز التصرف والضمان، بل يجوز التصرف بلا ضمان كما هنا، وقد يحصل الضمان بلا جواز تصرف كما في المقبوض قبضاً فاسداً، كما لو اشترى قفيزاً من صبرة فقبض الصبرة كلها، وكما في الصبرة قبل نقلها على إحدى الروايتين. اختارها الخرقي. وقد يحصلان جميعاً وقد لا يحصلان جميعاً.
ولنا في جواز إيجار العين المؤجرة بأكثر من أجرتها روايتان، لما في ذلك من ربح ما لم يضمن، ورواية ثالثة: إن زاد فيها عمارة جازت زيادة الأجرة فتكون الزيادة في مقابلة الزيادة. فالروايتان في بيع الثمار المشتراة نظير الروايتين في إيجار العين المؤجرة، ولو قيل في الثمار إنما يمنع من الزيادة على الثمن كرواية المنع في الإجارة لتوجه ذلك.
وبهذا الكلام يظهر المعنى في المسئلة وإن ذلك تلف قبل التمكن من القبض المقصود بالعقد، فيكون مضموناً على البائع كتلف المنافع قبل التمكن من قبضها. وذلك لأن التخلية ليست مقصودة لذاتها وإنما مقصودها تمكن المشتري من قبض المبيع، والثمر على الشجر ليس بمحرز ولا مقبوض، ولهذا لا قطع فيه، ولا المقصود بالعقد كونه على الشجر. وإنما المقصود حصاده وجداده، ولهذا وجب على البائع ما به يتمكن من جداده وسقيه، والأجزاء الحادثة بعد البيع داخلة فيه وإن كانت معدومة كما تدخل المنافع في الإجارة وإن كانت معدومة، فكيف يكون المعدوم مقبوضاً قبضاً مستقراً موجباً لانتقال الضمان؟
فصل(1/398)
وعلى هذا الأصل تتفرع المسائل، فالجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد، مثل الريح والبرد والحر والمطر والجليد والصاعقة ونحو ذلك، كما لو تلف بها غير هذا المبيع. فإن أتلفها آدمي يمكن تضمينه، أو غصبها غاصب، فقال أصحابنا كالقاضي وغيره: هي بمنزل إتلاف المبيع قبل التمكن من قبضه، يخير المشتري بين الإمضاء والفسخ كما تقدم، وإن أتلفها من الآدميين من لا يمكن ضمانه كالجيوش التي تنهبها واللصوص الذين يخربونها، فخرجوا فيه وجهين (أحدهما) ليست جائحة لأنها من فعل آدمي (والثاني) وهو قياس أصول المذهب أنها جائحة وهو مذهب مالك كما قلنا مثل ذلك في منافع الإجارة، لأن المأخذ إنما هو إمكان الضمان، ولهذا لو كان المتلف جيوش الكفار أو أهل الحرب كان ذلك كالآفة السماوية، والجيوش واللصوص وإن فعلوا ذلك ظلماً ولم يكن تضمينهم فهم بمنزلة البرد في المعنى، ولو كانت الجائحة قد عيبته ولم تتلفه فهو كالعيب الحادث قبل التمكن من القبض، وهو كالعيب القديم يملك به الفسخ أو الأرض حيث يقول به، وإذا كان ذلك بمنزلة تلف المبيع قبل التمكن من قبضه فلا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها في أشهر الروايتين، وهي قول الشافعي وأبي عبيدة وغيرهما من فقهاء الحديث لعموم الحديث والمعنى (والثانية) أن الجائحة الثلث فما زاد كقول مالك، لأنه لا بد من تلف بعض الثمر في العادة، فيحتاج إلى تقدير الجائحة فتقدر بالثلث، كما قدر به الوصية والنذر ومواضع في الجراح وغير ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الثلث، والثلث كثير " وعلى الرواية الأولى يقال، الفرق مرجعه إلى العادة، فما جرت العادة بسقوطه أو أكل الطير أو غيره له فهو مشروط في العقد، والجائحة ما زاد على ذلك، وإذا زادت على العادة وضعت جميعهاً، وكذلك إذا زادت على الثلث وقلنا بتقديره بأنها توضع جميعها، وهل الثلث مقدر بثلث القيمة أو ثلث المقدار؟ على وجهين، وهما قولان في مذهب مالك.
فصل
والجوائح موضوعة في جميع الشجر عند أصحابنا، وهو مذهب مالك. وقد نقل عن أحمد أنه قال: إنما الجوائح في النخل، وقد تأوله القاضي على أنه أراد إخراج الزرع والخضر من ذلك، ويمكن أنه أراد أن لفظ الجوائح الذي جاء به الحديث هو في الخل وباقي الشجر ثابتة بالقياس لا بالنص، فإن شجر المدينة كان النخل. وأما الجوائح فيما يبتاع من الزرع ففيه وجهان ذكرهما القاضي وغيره (أحدهما) لا جائحة فيها، قال القاضي: وهذا أشبه، لأنها لا تباع إلا بعد تكامل صلاحها وأوان جدادها، بخلاف الثمرة فإن بيعها جائز بمجرد بدو الصلاح ومدته تطول. وعلى هذا الوجه حمل القاضي كلام أحمد: إنما الجوائح في النخل - يعني لما كان ببغداد - وقد سئل عن جوائح الزرع فقال: إنما الجوائح في النخل. وكذلك مذهب مالك أنه لا جائحة في الثمرة إذا يبست، والزرع لا جائحة فيه كذلك، لأنه إنما يباع يابساً، وهذا قول من لا يضع الجوائح في الثمر كأبي حنيفة والشافعي في القول الجديد المعلق.
والوجه الثاني فيها الجائحة كالثمرة. وهذا هو الذي قطع به غير واحد من أصحابنا كأبي محمد لم يذكروا فيه خلافاً ولم يفرقوا بين ذلك وبين الثمرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وبيع الحب حتى يشتد، فبيع هذا بعد اسوداده كبيع هذا بعد اشتداده. ومن حين يشتد إلى حين يستحصد مدة قد تصيبه فيها جائحة. ومن أصحابنا من قال: ما تكرر حمله كالقثاء والخيار ونحوهما من الخضر والبقول وغيرهما فهو كالشجر وثمره كثمره في ذلك لصحة بيع أصوله صغاراً كانت أو كباراً مثمرة أو غير مثمرة.
فصل
هذا إذا تلفت قبل كمال صلاحها ووقت جدادها، فإن تركها إلى حين الجداد فتلفت حينئذ فكذلك عند أصحابنا. ونقل عن مالك أنها تكون من ضمان المشتري. وللشافعي قولان، وذلك لأنه لم يبق على البائع شيء من التسليم، والمشتري لم يحصل منه تفريط لا خاص ولا عام فإن تأخيرها إلى هذا الحين من موجب العقد. فأصحابنا راعوا عدم تمكن المشتري وعدم تفريطه، والمنازع راعى تسليم البائع وتمكينه.(1/399)
وأما إن تركها حتى يجاوز نقلها وتكامل بلوغها ثم تلفت ففياه لأصحابنا ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكون من ضمان البائع أيضاً لعدم كمال قبض المشتري وهو الذي قطع به القاضي في المجرد وابن عقيل وأكثر الأصحاب وهو مذهب مالك والشافعي، لكن القاضي في المجرد علله بما إذا لم يكن له عذر دون ما إذا عاقه مرضه أو مانع، وأما غيره فذهبوا إلى الوجه الثالث وهو عدم اعتبار إمكان الرفع والجد. قال ابن عقيل: هذا هو الذي يقتضيه مذهبنا وهو كما قال، فإن هذه الثمرة بمنزلة المنفعة في الإجارة. ولو حال بين المستأجر الحائل وبينها حائل يخصه مثل مرضه ونحوه لم تسقط عنه الأجرة بخلاف الحائل العالم فإنه يسقط أجرة ما ذهب به من المنفعة.
فصل
هذا إذا اشترى الثمرة والزرع، فإن اشترى الأصل بعد ظهور الثمر أو قبل التأبير واشترط الثمر فلا جائحة في ذلك عند أصحابنا ومالك وغيرهما. ولذلك احترز الخرقي من هذه الصورة فقال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فتلفت بجائحة من السماء رجع بها على البائع، وذلك لأنه هنا حصل القبض الكامل بقبض الأصل، ولهذا لا يجب على البائع سقي ولا مؤونة أصلاً، فإن المبيع عقار والعقار قبض بالتخلية، والثمر دخل ضمناً وتبعاً، فإذا جاز بيعه قبل صلاحه جاز هنا تبعاً، ولو بيع مقصوداً لم يجز بيعه قبل صلاحه.
فصل
هذا الكلام في البيع المحض للثمر والزرع، وأما الضمان والقبالة وهو أن يضمن الأرض والشجر جميعاً بعوض واحد لمن يقوم على الشجر والأرض ويكون الثمر والزرع له، فهذا العقد فيه ثلاثة أقوال.
أحدها أنه باطل وهذا القول منصوص عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، بناء على أن في ذلك تبعاً للثمر قبل بدو صلاحه (والثاني) يجوز إذا كانت الأرض هي المقصودة والشجر تابع لها بأن يكون شجراً قليلاً، وهذا قول مالك (والثالث) حواز ذلك مطلقاً، قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، منهم ابن عقيل، وهذا هو الصواب لأن إجارة الأرض جائزة ولا يمكن ذلك إلا بإدخال الشجر في العقد فجاز للحاجة تبعاً، وإن كان في ذلك بيع ثمر قبل بدو صلاحه إذا بيع مع الأصل، ولأن ذلك ليس ببيع للثمر. لأن الضامن هنا هو الذي يسقي الشجر ويزرع الأرض، فهو في الشجر بمنزلة المستأجر في الأرض، والمبتاع للثمر بمنزلة المشتري للزرع، فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين بعد موته وأخذ القبالة فوفى بها دينه. رواه حرب الكرماني في مسائله وأبو زرعة لدمشقي في تاريخه بإسناد صحيح، ولأن عمر بن الخطاب ضرب الخراج باتفاق الصحابة على الأرض التي فيها شجر نخل وعنب وجعل للأرض قسطاً وللشجر قسطاً، وذلك إجارة عند أكثر من ينازعنا في هذه المسئلة، وهو ضمان لأرض وشجر. وقد بسطت الكلام في هذه المسئلة في القواعد الفقهية.
والغرض هنا مسئلة وضع الجوائح، فإذا قلنا لا يصح هذا العقد فكيف الطريق في المعاملة؟ قيل أنه يؤجر الأرض ويساقي على الشجر (والزرع) منها، وهذا قول طائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم، وهو قول القاضي أبي يعلى في كتاب إبطال الحيل، والمنصوص عن أحمد إبطال هذه الحيلة وهو الصواب، كما قررنا في كتاب إبطال الحيل فساد ذلك من وجوه كثيرة (منها) أنه إن جعل أحد العقدين شرطاً في الآخر لم يصح، وإن عقدهما عقدين مفردين لم تجز له هذه المحاباة في مال موليه كالوقف ومال اليتيم ونحوهما، ولا مال موكله الغائب ونحوه.
ومنها أنه قد علم أن إعطاء العوض العظيم من الضامن لم يكن لأجل منفعة الأرض التي قد لا تساوي عشر العوض وإنما هو لأجل الثمرة، وكذلك المالك قد علم أنه لم يشترط لنفسه من الثمرة شيئاً، وهو لا يطالب بذلك القدر النذر الذي لا قيمة له، وإنما جعل الثمرة جميعها للضامن.
وفي الجملة فهذا العقد إما أن يصح على الوجه المعروف بين الناس وإما أن لا يصح بحال، لكن الثاني فيه فساد عظيم لا تحتمله الشريعة فتعين الأول. وأما هذه الحيلة فيعرف بطلانها بأدنى نظر.(1/400)
فعلى هذا إذا حصلت جائحة في هذا الضمان، فإن قلنا: العقد فاسد فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها وقد خلي بينه وبينها وتلفت قبل كمال الصلاح أو لم تطلع. وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه لقوله " أرأيت أن منع الله الثمرة " أو قال " أرأيت إن لم يثمرها الله، فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " وإذا أصابتها جائحة منعت كمال صلاحها وأفسدتها فقد منع الله الثمرة فيجب أن لا يأخذ مال أخيه بغير حق. ومن قال أن الثمرة تضمن بالقبض في العقد الصحيح فيلزمه أن يقول أنها تضمن بالقبض في العقد الفاسد، فإذا تلفت هنا يكون من ضمانه لأن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على المشتري، لكن يجب أن يضمنوا قيمتها حين تلفت، وقد يكون تلفها في أوائل ظهورها وقيمتها قليلة، وقد يكون بعد بدو صلاحها وهذا مما يلزمهم فيه إلزاماً قوياً، وهو أنه إذا اشتراها بعد بدو صلاحها مستحقة التبقية فكثير من أجزائها وصفاتها لم يخلق بعد، فإذا تلفت بجائحة ولم نضع عنه الجائحة، فيجب أن لا يضمن إلا ما قبضه دون ما لم يخلق بعد ولم يقبضه، فيجب أن ينظر قيمتها حين أصابتها الجائحة فينسب ذلك إلى قيمتها وقت بدو الصلاح، فيضمن من الثمن بقدر ذلك، بمنزلة من قبض بعض المبيع وبعض منفعة الإجارة دون بعض فإنه يضمن ما قبضه دون ما لم يقبضه بعد. فأما أن يجعل الأجزاء والصفات المعدومة التي لم تخلق بعد من ضمانه وهي لم توجد فهذا خلاف أصول الإسلام، وهو ظلم بين لا وجه له، ومن قاله فعليه أن يقول أنه إذا اشترى الثمرة قبل بدو صلاحها وقبض أصلها ولم يخلق منها شيء لآفة منعت الطلع أن يضمن الثمن جميعه للبائع، وهذا خلاف النص والإجماع، ويلزمه أن يقول أنه لو بدا صلاحها في العقد الفاسد وتلفت بآفة سماوية أن يضمن جميع الثمرة كما يضمنها عنده بالعقد الصحيح، فإن ما ضمن بالقبض في أحدهما ضمن بالقبض في الآخر، إلا أنه يضمن هنا بالمسمى وهناك بالبدل. وهذه حجة قوية لا محيص عنها، فإنه إن جعل ما لم يخلق من الأجزاء مقبوضاً لزمه أن يضمن في العقد الفاسد، وإن جعله غير مقبوض لزمه أن لا يضمن في العقد الصحيح. والأول باطل قطعاً مخالف للنص والإجماع.
ومن قال من الكوفيين أن المعقود عليه هو ما وجد فقط وهو المقبوض فقد سلم من هذا التناقض، لكن لزمه مخالفة النصوص المستفيضة، ومخالفة عمل المسلمين قديماً وحديثاً، ومخالفة الأصول المستقرة، ومخالفة العدل الذي به تقوم السماء والأرض، كما هو مقرر في موضعه.
وهذا كالحجج القاطعة على وجوب وضع الجوائح في العقود الصحيحة والفاسدة، ووضعها في العقد الفاسد أقوى، وأما إذا جعلنا الضمان صحيحاً فإنا نقول بوضع الجوائح فيه، كما نقوله في الشراء وأولى أيضاً، وأما من يصحح هذه الحيلة ويرى العقد صحيحاً فقد نقول أنت مساق والمساقاة ليس فيها جائحة فيبني هذا على وضع الجوائح في المساقاة.
فصل
وأما الجوائح في الإجارة فنقول: لا نزاع بين الأئمة أن منافع الإجارة إذا تعطلت قبل التمكن من استيفائها سقطت الأجرة، لم يتنازعوا في ذلك كما تنازعوا في تلف الثمرة المبيعة، لأن الثمرة هناك قد يقولون قبضت بالتخلية، وأما المنفعة التي لم توجد فلم تقبض بحال. ولهذا نقل الإجماع على أن العين المؤجرة إذا تلفت قبل قبضها بطلت الإجارة، وكذلك إذا تلفت عقب قبضها وقبل التمكن من الانتفاع، إلا خلافاً شاذاً حكوه عن أبي ثور. لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه فأشبه تلف المبيع بعد القبض جعلا لقبض العين قبضاً للمنفعة.
وقد يقال: هو قياس قول من يقول بعدم وضع الجوائح، لكن يقولون: المعقود عليه هنا المنافع وهي معدومة لم تقبض، وإنما قبضها باستيفائها أو التمكن من استيفائها، وإنما جعل قبض العين قبضاً لها في انتقال الملك والاستحقاق، وجواز التصرف. فإذا تلفت العين فقد تلفت قبل التمكن من استيفاء المنفعة فتبطل الإجارة.
وهذا يلزمهم مثله في الثمرة باعتبار ما لم يوجد من أجزائها. والأصول في الثمرة كالعين في المنفعة وعدم التمكن من استيفاء المقصود بالعقد موجود في الموضعين. فأبو ثور طرد القياس الفاسد كما كرد الجمهور القياس الصحيح في وضع الجوائح وإبطال الإجارة.(1/401)
وإن تلفت العين في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقى من المدة دون ما مضى. وفي انفساخها في الماضي خلاف شاذ، وتعطل بعض الأعيان المستأجرة يسقط نصيبه من الأجرة كتلف بعض الأعيان المبيعة، مثل موت بعض الدواب المستأجرة وانهدام بعض الدور.
وتعطل المنفعة يكون بوجهين (أحدهما) تلف العين كموت العبد والدابة المستأجرة (والثاني) زوال نفعها بأن يحدث عليها ما يمنع كدار انهدمت وأرض للزرع غرقت أو انقطع ماؤها، فهذه إذا لم يبق فيها نفع فهي كالتالفة سواء لا فرق بينهما عند أحد من العلماء، وإن زال بعض نفعها المقصود وبقي بعضه مثل أن يمكنه زرع الأرض بغير ماء ويكون زرعاً ناقصاً وكان الماء ينحسر عن الأرض التي غرقت على وجه يمنع بعض الزراعة أو نشوء الزرع، ملك فسخ الإجارة فإن ذلك كالعيب في البيع - ولم تبطل به الإجارة. وفي إمساكه بالأرش قولان في المذهب. وإن تعطل نفعها بعض المدة لزمه من الأجرة بقدر ما انتفع به كما قال الخرقي.
فإن جاء أمر غالب يحجر المستأجر عن منفعة ما وقع عليه العقد لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه. وإذا بقي من المنفعة ما ليس هو المقصود بالعقد، مثل أن ينقطع الماء عن الأرض المستأجرة للزرع ويمكن الانتفاع بها بوضع حطب ونصب خيمة، وكذلك الدار المتهدمة يمكن نصب خيمة فيها، والأرض التي غرقت يمكن صيد السمك منها، فهل تبطل الإجارة هنا أو يكون هذا كالنقص الذي يملك به الفسخ؟ على وجهين (أحدهما) تبطل، وهو قول أكثر العلماء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي في صورة الهدم، لأن هذه المنفعة لما لم تكن هي المقصودة بالعقد كان وجودها وعدمها سواء (والثاني) يملك الفسخ، وهو نص الشافعي في صورة انقطاع الماء. وقد اختاره القاضي وابن عقيل في بعض المواضع. والأول اختاره غيرهما من الأصحاب.
فصل
إذا تبين هذا فإذا استأجر أرضاً للزرع فقد ينقطع الماء عنها أو تغرق قبل الزرع، وقد ينقطع الماء عنها أو تغرق أو يصيب الزرع آفة بعد زرعها وقبل وقت الحصاد، فما الحكم في هذه المسائل؟ المنصوص عن أحمد والأصحاب وغيرهم في انقطاع الماء - أن انقطاعه بعد الزرع كانقطاعه قبله، إن حصل معه بعض المنفعة وجب من الأجرة بقسط ذلك وإن تعطلت المنفعة كلها فلا أجرة قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله: عن رجل اكترى أرضاً يزرعها وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت؟ قال: يحط عنه من الأجرة بقدر ما لم ينتفع بها أو بقدر انقطاع الماء عنها.
فصرح بأن انقطاع الماء بعد الزرع يوجب أن يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، وعلى هذا أصحابنا من غير خلاف أعلمه.
وذكر القاضي وغيره أنه إذا اكترى أرضاً للزرع فزرعها ثم أصابها غرق أو آفة غير الشرب فلم ينبت لزمه الكراء وذكر أن أحمد نص على ذلك وأنها لو غرقت في وقت زرعها فلم يمكنه الزراعة لم تلزمه الأجرة لتعذر التسليم وكذلك ذكر صاحب التفريع مذهب مالك في الصورتين، فالقاضي يفرق بين الصورتين كالنصين المفترقين: يفرق بين انقطاع الماء وبين حدوث الغرق وغيره من الآفات، بأن انقطاع الماء المعتاد بمنزلة عدم التسليم المستحق كموت الدابة والأجرة إنما تستحق بدوام التسليم المستحق، وأما الغرق وغيره من الآفات التي تفسد الزرع فهو إتلاف لعين ملك المستأجر فهو كما لو تلف بعد الحصاد.
وسوى طائفة من أصحابنا - كالشيخ أبي محمد - في الإجارة بين انقطاع الماء وحدوث الغرق الذي يمنع الزرع أو يضر الزرع، إن ذلك إن عطل المنفعة أسقط الأجرة وإن أمكن الانتفاع معه على تعب من القصور، مثل أن يكون الغرق يمنع بعض الزراعة أو يسوء الزرع ثبت به الفسخ، وإن كان ذلك لا يضر كغرق بماء ينحسر في قرب من الزمان لا يمنع الزرع ولا يضره وانقطاع الماء عنها إذا ساق المؤجر إليها الماء من مكان آخر أو كان انقطاعه في زمن لا يحتاج إليه فيه لم يكن له الفسخ.(1/402)
وعلى هذه الطريقة ينقل جواب أحمد من مسئلة انقطاع الماء إلى مسألة غرق الزرع، ومن مسئلة غرق الزرع إلى مسئلة انقطاع الماء، لأن المعنى في الجميع واحد، وذلك أن غرق الزرع الحادث قبل الزرع إذا منع من الزرع فالحادث بعده يمنع من نبات الزرع، كما أن انقطاع الماء يمنع من نبات الزرع، والمعقود عليه المقصود بالعقد هو التمكن من الانتفاع إلى حين الحصاد ليس إلقاء البذر هو جميع المعقود عليه ولو كان ذلك وحده هو المعقود عليه لوجب إذا انقطع الماء بعد ذلك أن لا يملك الفسخ ولا يسقط شيء من الأجرة ولم يقولوا به ولا يجوز أن يقال به، لأنا نعلم يقيناً أن مقصود المستأجر الذي عقد عليه العقد هو تمكنه من الانتفاع بتربة الأرض وهوائها ومائها وشمسها إلى أن يكمل صلاح زرعه، فمتى زالت منفعة التراب أو الماء أو الهواء أو الشمس لم ينبت الزرع ولم يستوف المنفعة المقصودة بالعقدة، كما لو استأجر داراً للسكنى فتعذرت السكنى بها لبعض الأسباب، مثل خراب حائط أو انقطاع ماء أو انهدام سقف ونحو ذلك.
ولا خلاف بين الأمة إن تعطل المنفعة بأمر سماوي يوجب سقوط الأجرة أو نقصها أو الفسخ وإن لم يكن للمستأجر فيه صنع كموت الدابة وانهدام الدار وانقطاع ماء السماء، فكذلك حدوث الغرق وغيره من الآفات المانعة من كمال الانتفاع بالزرع.
يوضح ذلك أن المقصود المعقود عليه ليس هو مجرد فعل المستأجر الذي هو شق الأرض وإلقاء البذر حتى يقال إذا تمكن من ذلك فقد تمكن من المنفعة جميعها وإن حصل بعده ما يفسد الزرع ويمنع الانتفاع به، لأن ذلك منتقض بانقطاع الماء بعد ذلك، ولأن المعقود عليه نفس منفعة الأرض، وانتفاعه بها ليس هو فعله فإن فعله ليس هو منفعة له ولا فيه انتفاع له بل هو كلفة عليه وتعب ونصب يذهب فيه نفعه وماله، وهذا بخلاف سكنى الدار وركوب الدابة، فإن نفس السكنى والركوب انتفاع وبذلك قد نفعته العين المؤجرة.
وأما شق الأرض فتعب ونصب وإلقاء البذر وإخراج مال، وإنما يفعل ذلك لما يرجوه من انتفاعه بالنفع الذي يخلقه الله في الأرض من الإنبات، كما قال تعالى (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) وقال (ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) وقال (فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقصباً وزيتوناً ونخلاً).
وليس لقائل أن يقول: أن إنبات الأرض ليس مقدوراً للمستأجر ولا للمؤجر والمعقود عليه يجب أن يكون مقدوراً عليه، لأن هذا خلاف إجماع المسلمين بل وسائر العقلاء فإن المعقود عليه المقصود بالإجارة لا يجب أن يكون من فعل أحد المتآجرين، بل يجوز أن يجعل غيرهما من حيوان أو جماد وإن كانا عاجزين عن تلك المنفعة مثل أن يؤجره عبداً أو دابة ونفعها هو باختيارها، ومثل أن يؤجره داراً للسكنى ونفس الانتفاع بها هو بما خلق الله فيها من البقاء على تلك الصورة ليس ذلك من فعل المؤجر، وكذلك جريان الماء من السماء ونبعه من الأرض هو داخل في المعقود عليه وليس هو من مقدور أحدهما.
وكذلك إذا آجره منقولاً من سلاح أو كتب أو ثياب أو آلة صناعة أو غير ذلك فإن المنفعة التي فيه ليست من فعل المؤجر ونظائر ذلك كثيرة، فكذلك نفع الأرض الذي يخلقه الله فيها حتى ينبت الزرع بترابها ومائها وهوائها وشمسها، وإن كان أكثره لا يدخل في مقدور البشر - هو المعقود عليه المقصود بالعقد فإذا تلف هذا المعقود عليه بطل العقد وإن بطل بعضه كان كما لو تعطل منفعة غيره من الأعيان المؤجرة بل بطلان الإجارة أو نقص الأجرة هنا أولى منه في جوائح الثمر.
فإن الذين تنازعوا هناك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي حجتهم أن الثمرة تلفت بعد القبض فهو كما لو تلفت بعد الجذاذ أو بعد وقته، وأما هنا فقد اتفق الأئمة على أن المنفعة إنما تقبض - القبض المضمون على المستأجر - شيئاً فشيئاً. ولهذا اتفقوا على أنه إذا تلفت العين أو تعطلت المنفعة أو بعضها في أثناء المدة سقطت الأجرة أو بعضها أو ملك الفسخ، وإنما دخلت الشبهة على من دخلت عليه حيث ظن أن المنفعة المقصودة بالعقد إثارة الأرض والبذر فيها وظن أن تلف الزرع بعد ذلك بغرق أو غيره بمنزلة تلف زرع الزارع بعد الحصاد وبمنزلة تلف ثوب له في الدار المستأجرة. وهذه غفلة بينة لمن تدبر.(1/403)
ولهذا ينكر كل ذي فطرة سليمة ذلك حتى من لم يمارس علم الفقه من الفلاحين وشذاذ المتفقهة ونحوهم فإنهم يعلمون أن المعقود عليه هو انتفاع المستأجر منفعة العين المؤجرة لا مجرد تعبه ونفقته الذي هو طريق إلى الانتفاع فإن ذلك بمنزلة إسراجه وإلجامه واقتياده للفرس المستأجرة وذلك طريق إلى الانتفاع بالركوب لا أنه المعقود عليه وإن كان داخلاً فيه، وكذلك شد الأحمال وعقد الحبال ونحو ذلك هو طريق إلى الانتفاع بالحمل على الدابة وهو داخل في المعقود عليه بطريق التبع، وإلا فالمعقود عليه المقصود هو نفس حمل الدابة للحمل والركوب وإن كان الحمل نفع الدابة والإسراج والشد فعل المستأجر فكذلك هنا الشق والبذر، وإن كان فعله فهو داخل في الإجارة بطريق التبع لأنه طريق إلى النفع المعقود عليه المقصود بالعقد وهو نفع الأرض بما يخلقه فيها من ماء وهواء وشمس.
فمن ظن أن مجرد فعله هو المعقود عليه فقد غلط غلطاً بيناً باليقين الذي لا شبهة فيه وسبب غلطه كون فعله أمراً محسوساً لحركته وكون نفع الأرض أمراً معقولاً لعدم حركتها فالذهن لما أدرك الحركة المحسوسة توهم أنها هي المعقود عليه وهذا غلط منقوض بسائر صور الإجارة فإن المعقود عليه هو نفع الأعيان المؤجرة سواء كانت جامدة كالأرض والدار والثياب أو متحركة كالأتاسي والدواب، لا عمل الشخص المستأجر وإنما عمل الشخص المستأجر طريق إلى استيفاء المنفعة، فتارة يقترن به الاستيفاء كالركوب واللبس وتارة يتأخر عنه الاستيفاء كالبناء والغراس والزرع. فإن المعقود عليه حصول منفعة الأرض للبناء والغراس والزرع لا مجرد عمل الباني الغارس الزارع الذي هو حق نفسه، كيف يكون حق نفسه هو الذي بذل الأجرة في مقابلته؟ وإنما يبذل الأجرة فيما يصل إليه من منفعة العين المؤجرة لا فيما هو له من عمل نفسه فإن شراء حقه بحقه محال ومن تصور هذه قطع بما ذكرناه ولم يبق عنده فيه شبهة إن شاء الله.
وإذا كان المعقود عليه نفس منفعة العين من أول المدة إلى آخرها فأي وقت نقصت فيه هذه المنفعة بنقص ما وانقطاعه أو بزيادته وتغريقه أو حدوث جراد أو برد أو حر أو ثلج ونحو ذلك مما يكون خارجاً عن العادة ومانعاً من المنفعة المعتادة فإن ذلك يمنع المنفعة المستحقة المعقود عليها، فيجب أن يملك الفسخ أو يسقط من الأجرة بقدر ما فات من المنفعة كانقطاع الماء وليس بين انقطاع الماء وزيادته وسائر الموانع فرق يصلح لافتراق الحكم.
فصل
إذا تبين ذلك فقد تقدم نص أحمد والخرقي وغيرهما على أنه عليه من الأجرة بقدر ما حصل له من المنفعة وهذا نوعان.
أحدهما حصول المنفعة في بعض زمن الإجارة أو بعض أجزاء العين المستأجرة فهذا تسقط فيه الأجرة على قدر ذلك ويجب بقسط ما حصل من المنفعة وتكون الأجرة مقسومة على قدر قيمة الأمكنة والأزمنة فإن كلاً منهما قد يكون متماثلاً وقد يكون مختلفاً بأن يكون بعض الأرض خيراً من بعض وكرى بعض فصول السنة أغلى من بعض. وقد صرح بذلك أصحابنا وغيرهم.
والثاني نقص المنفعة في نفس المكان الواحد والزمان الواحد مثل أن يقل ماء السماء عن الوجه المعتاد أو يحصل غرق ينقص الزرع ونحو ذلك، فهنا لأصحابنا وجهان (أحدهما) أنه لا يملك إلا الفسخ (والثاني) وهو مقتضى المنصوص وقياس المذهب أنه يخير بين الفسخ وبين الأرش كالبيع، بل هو في الإجارة أوكد، لأنه في البيع يمكنه الرد والمطالبة بالثمن وهنا لا يمكنه رد جميع المنفعة، فإنه لا يردها إلا متغيرة.(1/404)
فلو قيل هنا: أنه ليس له إلا المطالبة بالأرش كما نقول على إحدى الروايتين: أن تعيب المبيع عند المشتري يمنع الرد بالعيب القديم ويوجب الأرش - لكان ذلك أوجه وأقيس من قول من يقول ليس له إذا تعقب المنفعة إلا الرد دون المطالبة بالأرش. فهذا قول ضعيف جداً بعيد عن أصول الشريعة وقواعد المذهب وخلاف ما نص عليه أحمد وأئمة أصحابه، وإن كان القاضي قد يقوله في المجرد ويتبعه عليه ابن عقيل أو غيره، فالقاضي رضي الله عنه صنف (المجرد) قديماً بعد أن صنف (شرح المذهب) وقبل أن يحكم (التعليق والجامع الكبير) وهو يأخذ المسائل التي وضعها الناس وأجابوا فيها على أصولهم فيجيب فيها بما نص عليه أحمد وأصحابه وبما تقتضيه أصوله عنده. فربما حصل في بعض المسائل التي تتفرع وتتشعب ذهول للمفرع في بعض فروعها عن رعاية الأصول والنصوص في نحو ذلك.
وعلى هذا فإذا حصل من الضرر - كالبرد الشديد والغرق والهواء المؤذي والجراد والجليد والفأر ونحو ذلك - ما نقص المنفعة المقصودة المعتادة المستحقة بالعقد، فيصنع في ذلك كما يصنع في أرش المبيع المعيب: تنظر قيمة الأرض بدون تلك الآفة وقيمتها مع تلك الآفة، وينسب النقص إلى القيمة الكاملة ويحط من الأجرة المسماة بقدر النقص، كأن تكون أجرتها مع السلامة تساوي ألفاً ومع الآفة تساوى ثمانمائة، فالآفة قد نقصت خمس القيمة فيحط خمس الأجرة المسماة، وكذلك في جائحة الثمر ينظر كم نقصته الجائحة، هل نقصته ثلث قيمته، أو ربعها، أو خمسها؟ يحط عنه من الثمن بقدره. وكذلك لو تغير الثمر وعاب نظر كم نقصه ذلك العيب من قيمته؟ وحط من الثمن بنسبته.
وأما ما قد يتوهمه بعض الناس أن جائحة الزرع في الأرض المستأجرة توضع من رب الأرض أو يوضع من رب الأرض بعض الزرع قياساً على جائحة المبيع في الثمر والزرع - فهذا غلط. فإن المشتري للثمر والزرع ملك بالعقد نفس الثمر والزرع. فإذا تلفت قبل التمكن من القبض تلفت من ملك البائع. وأما المستأجر فإنما استحق بالعقد الانتفاع بالأرض. وأما الزرع نفسه فهو ملكه الحادث على ملكه لم يملكه بعقد الإجارة، وإنما ملك بعقد الإجارة المنفعة التي تنبته إلى حين كمال صلاحه.
فيجب الفرق بين جائحة الزرع والثمر المشترى وبين الجائحة في منفعة الأرض المستأجرة المزروعة. فإن هذا مزلة أقدام ومضلة أفهام، غلط فيها خلائق من الحكام والمقومين والمجيحين والملاك والمستأجرين، حتى أن بعضهم يظنون أن جائحة الإجارة للأرض المزروعة بمنزلة جائحة الزرع المشترى. وبعض المتفقهة يظن أن الأرض المزروعة إذا حصل بها آفة منعت من كمال الزرع لم تنقص المنفعة ولم يتلف شيء منها، وكلا الأمرين غلط لمن تدبر.
ونظير الأرض المستأجرة للازدراع الأرض المستأجرة للغراس والبناء فإن المؤجر لا يضمن قيمة الغراس والبناء إذا تلف، ولكن لو حصلت آفة منعت كمال المنفعة المستحقة بالعقد، مثل أن يستولي عدو بمنع الانتفاع بالغراس والبناء أو تحصل آفة من جراد أو آفة تفسد الشجر المغروس، أو حصل ريح يهدم الأبنية ونحو ذلك، فهنا نقصت المنفعة المستحقة بالعقد نظير نقص المنفعة في الأرض المزروعة.
ولما كان كثير من الناس يتوهم أن المستأجر توضع عنه الجائحة في نفس الزرع والبناء والغراس كالمشترى - نفى ذلك العلماء، ويشبه أن يكون هذا معنى ما نص عليه أحمد ونقله أصحابنا كالقاضي وأبي محمد حيث قالوا - واللفظ لأبي محمد - إذا استأجر أرضاً فزرعها فتلق الزرع فلا شيء على المؤجر، نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافاً. لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم يتلف إنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثياباً فتلفت الثياب فيها.
فهذا الكلام يقتضي أن المؤجر لا يضمن شيئاً من زرع المستأجر كما يضمن البائع بزرع المشتري ولذلك ذكر ذلك في باب جوائح الأعيان وعلل ذلك بأن التالف إنما هو عين ملك المستأجر لا المنفعة وهذا حسن في نفي ضمان نفس الزرع، ويظهر ذلك فيما إذا تلف الزرع بعد كماله. وقد بينا فيما تقدم أن نفس المنفعة المعقود عليها تنقص وتتعطل بما يصيب الزرع من الآفة فيحط من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.(1/405)
فما نفى فيه الشيخ الخلاف ضمان نفس العين ولم يذكر ضمان نقص المنفعة هنا، لكن ذكره في كتاب الإجارة والموضع موضع اشتباه وفي كلام أكثر العلماء فيها إجمال وربما حققناه يتضح الصواب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
انتهت رسالة الجوائح(1/406)