بسم الله الرحمن الرحيم
من الجوانب الفقهية في علاقة الإسلام بالغرب
كلمة مقدمة إلى مؤتمر( نحن والآخر ) المنعقد بدولة الكويت تحت رعاية وزارة الأوقاف
إعداد الدكتور صلاح الصاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أيها السادة الحضور
سلام الله عليكم ورحمنه وبركاته، وحياكم الله جميعا، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلا بإذن الله.
أستهل هذه الكلمة بتوجيه كلمة شكر وعرفان للسادة وأصحاب الفضيلة القائمين على تنظيم هذا المؤتمر المبارك، أسأل الله أن يجعل من عملهم هذا نورا يسعى بين أيديهم يوم القيامة، وأن يقر أعينهم برؤية ثماره خيرا عميما يمتد نفعه إلى الأمة كلها بإذن الله ، اللهم آمين.
موضوع هذه الكلمة من الجوانب الفقهية في علاقة الإسلام بالغرب ، وترجع بي الذاكرة إلى الوراء، إلى فجر الإسلام وأيامه الأولى، عندما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم يقول له : أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن أبيت فعليك إثم الأريسيين ، ثم ما كان بعد ذلك من علاقات تراوحت بين الحرب والسلم، في مؤته، واليرموك، وإجنادين، ثم الحروب الصليبية، والحملات الاستعمارية الحديثة، وأخيرا هذه الهجمات الظالمة التي تتوالى على الأمة على نحو غير مسبوق في تاريخنا المعاصر، وتثير هذه العلاقة جملة من القضايا نوجز أهمها في النقاط التالية:
- الغرب جزء من أمة الدعوة وخصوصية العلاقة مع أهل الكتاب
- ليسوا سواء
- البر والقسط هو أساس العلاقة في التعامل مع المسالم من غير المسلمين
- تعظيم عقود الأمان والوفاء بمقتضياته
- المحافظة على الحرمات خارج ديار الإسلام
- إعلان النكير على المعتدين
- المقاطعة الاقتصادية للمعتدين
- التظاهر وسيلة من وسائل الإنكار التي ألفتها المجتمعات الغربية
- القتال في الإسلام إنما يكون لدفع الحرابة وكف العدوان
- تعظيم أمر الدماء ، وتغليظ العقوبة عليها(1/1)
- وحدة الأمة سلما وحربا
- حرمة المظاهرة على المسلمين
الغرب جزء من أمة الدعوة
- الغرب جزء من أمة الدعوة، ، فقد علم من دين الإسلام بالضرورة عموم بعثته صلى الله عليه وسلم، فهو رحمة الله إلى العالمين، ورسوله إلى الناس أجمعين، الغرب والشرق في ذلك سواء، ولهذا شاع في المصطلحات الإسلامية تعابير: أمة الدعوة وأمة الإجابة، أمة الدعوة هي العالم بأسره، وأمة الإجابة هم من آمن به صلى الله عليه وسلم، واتبع النور الذي أنزل معه، وللغرب في هذه المنظومة من الخصوصية ما ليس لغيرهم من بقية هذه الأمة، فجذورهم ترجع في الجملة إلى أهل الكتاب، ولأهل الكتاب من الخصوصية ما ليس لغيرهم، فقد أباحت الشريعة طعامهم، وأحلت نكاح نسائهم، بما لم تجزه مع فئة أخرى من غير المسلمين، وعقدت لأهل الكتاب الأمان في مجتمعاتها، وأعطتهم على ذلك ذمة الله ورسوله، وللنصارى منهم اعتبار أخص ورد ذكره في كتاب الله عز وجل عندما قال تعالى: ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون)، وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم صك تحرير للبشرية كل البشرية، ووثيقة إعلان لحقوق الإنسان جنس الإنسان، تخرجه من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وكانت الرسالة الأولى المنوطة بهذه الأمة هي حمل هذا النور النبوي إلى مختلف أرجاء الأرض ، وفتح مغاليق القلوب لهذا الحق، فالأمر إذن ليس خصوصية عداء للغرب، ولا خصوصية موالاة للشرق، فإن كلا من الغرب والشرق يتضمن البر والفاجر، وينتظم في سلكه المسلم والكافر، ولا يعقد ولاء ولا براء في الإسلام على غرب ولا شرق ، وإنما يعقد على أساس الإيمان بالله ورسله ، فقد حرر الإسلام بني البشر من التعصب للأعراق والألوان والألسنة، ومحض ولاءهم للحق الذي نزل من عند الله ، وأمرهم أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء(1/2)
لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين ، وهو بهذا لا يفرق بين من يقيم في دار الإسلام أو يقيم خارجها، فهذه شريعة عامة تخاطب المسلم أينما كان، فوق كل أرض وتحت كل سماء، فالمسلم لا ينصر أحدا على باطل، مسلما كان أو غير مسلم، فردا كان أو كيانا سياسيا ، غربيا كان أو شرقيا ، قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) المجادلة : 21 ) أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، وقال تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ( التوبة : 24 ) فأمر تعالى بمباينة من حاد عن الحق فطغى ، واستحب العمى على الهدى ، ولو كان من أقرب الأقربين ، فالقضية إذن ليست موقفا يقفه المسلم ضد الغرب عامة، ولا ضد دولة بعينها منه بصفة خاصة، وإنما هو منهج عام، الشرق والغرب فيه سواء ، فلو أن أحدا من بني قومه تعدى وجار، فإن نصرته له أن يضرب على يده، وأن يمنعه من الظلم، لا أن يشاركه فيه، أو يعينه عليه، فإن من نصر قومه على الباطل، فهو كالبعير الذي تردى ، فهو ينزع بذنبه ! كما قال صلى الله عليه وسلم ، وليس لنا مثل السوء ! وقد رأينا في تاريخ الإسلام من ذلك العجب ، لقد رأينا كيف حرر الإسلام أتباعه من وصمة التعصب الأعمى للقبيلة أو العشيرة ، بل ولأواصر النسب والرحم والقربى ، عندما لا تكون على الحق ، ولقد كانت غزوة بدر امتحانا لهذا المعنى في نفوس المؤمنين ، فانتصر الولاء للإيمان على الولاء لكل ما سواه ، ولن تنسى ذاكرة التاريخ ما وقع في فتح سمرقند عندما استعدى أهلها عمر بن عبد العزيز على القائد الفاتح، لأنه دخل عليهم(1/3)
ديارهم قبل دعوتهم إلى الإسلام ، فأمر قاضيه أن ينصفهم ، فقضى ببطلان الفتح ، وإخراج الجيوش الفاتحة المنتصرة خارج سمرقند، حتى تستوفى إجراءات الفتح كافة، كما جاءت في النصوص الشرعية ، وانسحبت القوات فعلا ، وكان ذلك سببا في إسلام أغلب أهل سمرقند !
ليسوا سواء
هذا وإن أهل الملل الأخرى في الغرب أو غيره ليسوا سواء، فكما أن أهل البدع الموافقين لهذه الأمة في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في بعض الأصول الكلية القطعية ليسوا سواء: فمنهم الرؤوس والأئمة ومنهم العامة وأشباه العامة وبين هؤلاء وأولئك مراتب، ولكل فريق من المعاملة والأحكام ما يستحقه، ومن الظلم البين أن نسلك الجميع في نسق واحد
قال ابن القيم –رحمه الله – في الطرق الحكمية : ( فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:
أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا .
القسم الثاني : المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته .
القسم الثالث : أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل ) الطرق الحكمية ص254(1/4)
نقول: إذا كان هذا التفصيل في أهل البدع على النحو الذي أحكمه يراع ابن القيم رحمه الله، فإن هذا المبدأ يرد في أهل الملل الأخرى، فإن أهل الملل الأخرى المخالفين لهذه الأمة في أصل الملة ليسوا سواء: فمنهم المسالمون ومنهم المعتدون، ومنهم الجهلاء ومنهم المعاندون، ولكل فريق حكمه، وما يناسبه من ألوان التعامل، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، ولم تأت شريعة الله عز وجل بالتسوية بين المختلفين ولا بالتفريق بين المتماثلين، وبالعدل قامت السماوات والأرض، وقد تفاوت هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة أهل الملل الأخرى من القتال إلى الموادعة المطلقة أو المؤقتة حسب ما يستحقه كل فريق وحسبما تقتضيه المصلحة العامة لجماعة المسلمين، وهكذا ينبغي أن يكون مسلك من يرثونه ويقومون في الناس مقامه من بعده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الممتحنة تأصيل لهذا الحكم الكلي حيث فرقت بين المسالمين والمعتدين، وجعلت ذلك قرآنا يتلى على مدى الزمان وعلى مدى المكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وينطفئ سراج الحياة! ولهذا فإن من الخطأ البين هذا التعميم الذي نلمسه من بعض المشتغلين بالعمل الإسلامي في بعض المواضع عندما يصنف أمة بأكملها أو قارة بأكملها في موقف المحارب بإطلاق أو المسالم بإطلاق، فلم يزل في كل أمة المسالمون والمعتدون والجهلاء والمعاندون، فالتسوية بين القادة والمقودين والتسوية بين الرؤساء والمرؤوسين، وإطلاق القول بأن الجميع محارب والجميع في مقام التهييج على هذه الأمة من الإطلاقات الفاحشة التي تحتاج إلى مراجعة، وقد رأينا مظاهرات حاشدة في مجتمعات كثيرة تعلن رفضها لسياسات قادة بلادها وتأييدها لحق الشعوب المعتدى عليها في الانتصار والمقاومة، ومن هؤلاء من حوكم، وتعرض لعقوبات جائرة بسبب هذه المواقف، والذي يقتضيه العدل وتقتضيه المصلحة العامة للإسلام والمسلمين تثمين مواقف هؤلاء، والتمييز بينهم وبين المعتدين من بني(1/5)
جلدتهم، بل واستثمار مواقفهم في نصرة الحق الإسلامي، وإقامة الحجة على الذين ظلموا منهم!
البر والقسط هو أساس العلاقة في التعامل مع المسالم من غير المسلمين
وقد جعل الله برهان ذلك قرنا يتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) والبر هو أعلى درجات حسن الخلق، ومنه برّ الإنسان لأمّه وأبيه، وقد ندبت إليه الآية الكريمة في التعامل مع المسالمين من غير المسلمين.، وقال تعالى: ( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) ومن ذلك كفالة حقوقهم، وحفظ عهودهم، ومواساتهم في مصابهم، وتهنئتهم فيما لم يكن من خصوصيات دينهم من مناسبات اجتماعية، وإقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وتبادل الخبرات في مختلف مناحي الحياة، وغيره.
ومن صور البر والقسط وقوع التعاون المثمر والعادل معهم في كل ما يمثل مصلحة مشتركة للفريقين، وقد رأينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول وكان ذلك في الجاهلية، حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على: مساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، ولقد حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وقال في الإسلام بعد ذلك: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمر النِّعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت" .(1/6)
وقد تنشأ بعض الوشائج النفسية مع فريق من غير المسلمين لاعتبارات اجتماعية كقرابة أو مصاهرة أو مصلحية كتجارة وتبادل منافع ونحوها وهي لا تزال في إطار العفو، ما لم تحمل على إبطال حق أو إحقاق باطل أو إسقاط واجب أو فعل محرم أو تزين مظاهرتهم على المسلمين، وكل ما جاء في القرآن من النهي عن موادة القوم إنما ينصرف إلى المحاربين منهم ، وقد أجاز الإسلام الزواج بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، والمصاهرة تنشئ من الوشائج النفسية ما لا يجحد، ولكن هذه الوشائج ليست من جنس الحب في الله الذي جعله الله تعالى وقفا على جماعة المسلمين، فالمسلم أخ المسلم، ولو لم يلقه في حياته، ولو لم يدخل معه في معاملة قط، ومحبته لله في الله لا تزيلها الخلافات الطارئة ولا الاختناقات العابرة، فهي رابطة وثق الله عراها بيده فلا يحل لأحد أن يفصمها كائنا من كان، أما محبة غير المسلم فهو التي تنشئها مثل هذه الاعتبارات ، توجد بوجودها وتنهي بانتهائها.
تعظيم عقود الأمان والوفاء بمقتضياته
ومن معالم العلاقة مع الغرب خاصة أو مع غير المسلمين بصفة عامة تعظيم ما يعقد معهم من عقود الأمان والتي تمثلها المعاهدات والاتفاقات الدولية المعاصرة على مستوى الدول، أو تأشيرات الدخول والاستقدام على مستوى الأفراد
والأمان عهد بالسلامة من الأذى، ويعرفه الفقهاء بأنه عقد بين المسلم وغير المسلم على الحصانة من لحوق الضرر من كل منهما إلى الآخر، سواء منه أو ممن وراءه ، إلا بحقه، ومثله الجوار، وقد عنون البخاري في صحيحه فقال : ( باب أمان النساء وجوارهن ) فإذا أعطي الأمان أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم .
والعقود التي تفيد الأمان ثلاثة : الأمان ، والهدنة ، والذمة.
- فإن تعلق الأمان بعدد محصور فذلك الأمان.
- وإن كان إلى غاية فتلك هدنة .
- وإن كان مؤبدا فهذه هي الذمة .(1/7)
والهدنة والذمة من أعمال السيادة التي تفوض إلى السلطة العامة ، بخلاف الأمان فإنه حق لهذه السلطة ولكل مسلم بالغ عاقل.
دليل مشروعية الأمان
- قوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) ( التوبة : 6 )
- قوله صلى الله عليه وسلم : ذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ( متفق عليه ) يقول الحافظ بن حجر : ( ذمة المسلمين واحدة ) أي أمانهم صحيح ، فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له .
- حديث أم هانئ قالت : ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره ، قالت : فسلمت عليه ، فقال : من هذه ؟ فقلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، فقال : ( مرحبا بأم هانئ ) ، فلما فرغ من غسله ، قام فصلى ثمان ركعات ملتحفا في ثوب واحد ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته ، فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) وقيل هما رجلان : جهدة بن هبيرة ورجل من بني مخزوم كانا فيمن قاتلا خالد بن الوليد ولم يقبلا الأمان ، فأجارتهما أم هانئ وكانا من أحمائها
من يمنح الأمان
الأمان يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ذكرا كان أو أنثى ، حرا كان أو عبدا ، وفي أمان الصبي والعبد خلاف بين أهل العلم .
وقد جاء في المغني عن فضيل بن يزيد الرقاشي أن عمر بن الخطاب جهز جيشا فكنت فيه فحاصرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم ، وجعلنا نقبل ونروح ، فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه ، فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم !
بم ينعقد الأمان؟(1/8)
ينعقد الأمان بكل ما يدل عليه من لفظ سواء أكان صريحا أم كان كناية ، كما ينعقد بالكتابة أو الرسالة أو الإشارة المفهمة.
وشبهة الأمان في هذا الباب كالأمان ، فكل إشارة يفهم منها العدو أنه قد أمن فهي أمان ولو قصد المسلون بها إلى نقيض ذلك ، وقد جاء في فقه المالكية : ( ثم الأمان يكون بلفظ أو إشارة مفهمة ، أي شأنها فهم العدو الأمان منها ، وإن قصد المسلمون بها ضره كفتحنا المصحف وحلفنا أن نقتلهم فظنوه تأمينا فهو تأمين )
بل إذا أمن أحد من عامة المسلمين حربيا ، ولم تمض السلطة العامة أمانه فلا يحل الإضرار بهذا المؤمن بل يجب أن يرد إلى مأمنه ، لأن له شبهة أمان وهي قائمة مقام الأمان في عصمة دمه وماله ووجوب رده إلى مأمنه ) جاء في شرح الزرقاني على مختصر خليل : ( إذا نهى الإمام الناس عن التأمين فأمنوا ، فإنه لا ينفذ إلا إذا أمضاه الإمام فإن لم يمضه رده إلى مأمنه ) شرح الزرقاني على مختصر خليل : 3 / 122 ويقول الأوزاعي : ( إن غزا الذمي مع المسلمين فأمن أحدا ، فإن شاء الإمام أمضاه ، وإلا فليرده إلى مأمنه ) فتح الباري 6 / 316
وعلى هذا فيدخل في صور الأمان في واقعنا المعاصر تأشيرات الدخول المتداولة بين الدول ، ودعوات الزيارة سواء من الأفراد أو من المؤسسات أو من قبل الدولة ، وعقود العمل واستقدام الفنيين والخبراء ونحوه.
الآثار المترتبة على الأمان
إذا انعقد الأمان ترتب عليه التزام المسلمين بعدم إلحاق الضرر بالمؤمن سواء أكان المؤمن هو الحربي في دار الإسلام ، أم كان المؤمن هو المسلم في دار الحرب .
يقول ابن قدامة في المغني ( الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ( ( المغني : 10 / 432 )
ويقول الشافعي في الأم : ( إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم ، أو يبلغوا مدة أمانهم ، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم ) ( الأم للشافعي : 4 / 248 )(1/9)
ولا يحل لمسلم أن يخيس في عهده ، فالغدر قبيح عند الأمم كلها ، فضلا عن هذه الأمة التي تتبوأ مقام الشهادة على الأمم قاطبة ، ولكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من خصال المنافق : إذا عاهد غدر ، و في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ) رواه البخاري
، فمن كان بينه وبين قوم ميثاق وجب عليه أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم ، ولا يحل له أن ينكث فيه بحال ، وإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم على سواء ، وأعلمهم بالمنابذة والمصارمة ، والنصوص في ذلك صريحة وقاطعة ! قال تعالى : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) ( الأنفال : 58 ) ومعنى قوله تعالى : فانبذ إليهم على سواء : أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم ، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي تستوي أنت وهم في ذلك ) ( تفسير ابن كثير : 578 ) وأخرج الإمام أحمد وغيره عن سليم بن عامر قال : كان معاوبة يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنوا منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر ! وفاء لا غدرا ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ومن كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يحلن عقدة ، ولا يشدها ، حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء ، قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة .
ويقول النووي رحمه الله : ( واتفق العلماء على جواز خداع الكفار كيف أمكن الخداع ، إلا أن يكون فيه نقض لعهد أو أمان فلا يحل ) صحيح مسلم بشرح النووي : 7 / 320(1/10)
والذي نخلص إليه أن دخول المسلم إلى إحدى دول الغرب دخولا رسميا بموجب التأشيرة التي تمنح له يعتبر بمثابة عقد أمان موقت، يوجب عليه أن يأمنه هؤلاء على دمائهم و أموالهم و أعراضهم ، و ألا يخالف أنظمة بلادهم ما أقام بين أظهرهم ، إلا ما تعارض منها مع دينه ، لأنه عقده مع ربه أسبق و أوجب و أولى بالوفاء ، لا سيما و أن دساتير هذه البلاد تكفل الحرية الدينية لكل من يقيم على أرضها، و تعتبر ذلك من المهام الأولية للدولة.
وقد رأينا شؤم الغدر في تاريخنا وكيف جر على الأمة ما جر من الويلات والنكبات، ولا تنسى ذاكرة التاريخ ما جرى للأمة من شنائع ومجازر على أيدي التتار وقد كان أول ذلك حماقة ارتكبها أحد ملوك المسلمين وغدرا ببعض رسل التتار وقد دفعت الأمة ثمن ذلك فادحا فيما توالى بعد ذلك من أهوال جسام تقشعر لهولها الأبدان!
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقد قتل جنكيز خان من الخلائق ما لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البداءة من خوارزم شاه) (فإنه لما أرسل جنكيز خان تجاراً من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران ، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه وأخذ جميع ما كان معهم) فأرسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه يستعلمه: هل وقع هذا الأمر عن رضىً منه، أم أنه لم يعلم به فأنكره؟) (وقال فيما أرسل إليه: من المعهود من الملوك أن التجار لا يُقتلون، لأنهم عمارة الأقاليم، وهم الذي يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك) كانوا مسلمين (فقتلهم نائبك، فإن كان أمراً أمرتَ به طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تنكره وتقتصُّ من نائبك.(1/11)
فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيز خان، لم يكن له جواب سوى أنه أمر بضرب عنقه) فأساء التدبير، وقد كان خرَّف، وكبرت سنه، وقد ورد في الحديث: اتركوا الترك ما تركوكم، فلما بلغ ذلك جنكيز خان تجهز لقتاله وأخذ بلاده، فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع).
المحافظة على الحرمات خارج ديار الإسلام(1/12)
ومن معالم العلاقة مع الغرب أن تبذل لهم حقوقهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وتألف قلوبهم على الإسلام خاصة ممن يقيم بين أظهرهم من المسلمين، فإن على المسلم المغترب خارج ديار الإسلام رسالة سامية تتمثل في حفظ الإسلام على أهله ودعوة غير المسلمين على الإسلام، وأول ذلك وآكده أن يحافظ المسلمون على هويتهم في هذه المجتمعات باجتماعهم على الإسلام وتحاكمهم إلى الشريعة، وإقامة ما يتسنى لهم إقامته من معالم الدين وأن لا يستيحوا شيئا من المحرمات بحجة الإقامة خارج ديار الإسلام، فإن المسلم مطالب بتقوى الله حيثما كان، والدعوة بلسان الحال أبلغ من الدعوة بلسان المقال، فإن حال واحد في ألف واحد أبلغ من مقالة ألف واحد في واحد، ونحن نؤكد على هذا المعلم نظرا لما شاع في بعض أوساط بعض الجاليات الإسلامية المقيمة في المجتمعات الغربية من الترخص في بعض المحرمات القطعية في الشريعة بدعوى أن المسلم ليس ملتزما بإقامة أحكام الإسلام الاقتصادية والمالية خارج ديار الإسلام، وانه يباح في دار الحرب من العقود الفاسدة ما لا يباح مثله داخل ديار الإسلام، وقد ترتب على ذلك استباحة كثير من هذه الحرمات مما يوشك أن تنتقض معه عرى الإسلام عروة عروة في هذه الأوساط وفي ذلك من الخطورة على حاضر الدعوة ومستقبلها في هذه المواقع مافيه الأمر الذي يقتضي ضرورة التنبيه والنكير، إذ لا شيء يحمل الناس على الإصغاء لدعوة الحق في هذه المجتمعات مثل أن يكون الدعاة إليه والمتبعون له ممن يقيمونه في حياتهم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولقد مضى على إقامتنا في هذه المجتمعات أكثر من خمسة عشر عاما وكل يوم ينقضي يزيدنا إيمانا بهذه الحقيقة، فلم نمل من تكرارها على مسامع الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب: أقيموا الإسلام في نفوسكم تفتح له أسماع الآخرين وأفئدتهم، وإن من آكد وسائل البلاغ في هذا المجتمع إقامة جالية مسلمة قوية تحل الحلال وتحرم الحرام وتقف حيث(1/13)
أوقفها الله ورسوله، وتقدم للناس في هذه المجتمعات شهادة الواقع بعد شهادة النصوص والأدلة أن الحياة في رحاب الإسلام نعمة لا تعدلها نعمة، وأنها ممكنة وليست ضربا من الخيال أو ضغثا من الأحلام! ولا يخفى أن انتشار الإسلام في كثير من بقاع العالم كان من خلال التجار الدعاة الذين حملوا أخلاق الإسلام إلى هذه المجتمعات ففتحوا بها قلوبهم واستنارت بها بصائرهم واستجابت لدعوة الحق.
هذا وإذا كانت المحافظة على الهوية الإسلامية في هذه المجتمعات تتمثل في الاجتماع على الإسلام بإقامة الشعائر واجتناب المحرمات، مع اعتبار الضرورات على أن تقدر بقدرها ويسعى في إزالتها. فكيف يتأتى دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو حتى تعريفهم به في ظل جالية يتملك المسلمون فيها محلات لبيع الخمور والخنزير ويسهمون في إشاعتها في هذه المجتمعات، ثم يقولون للناس إننا أتباع دين يحل لأتباعه الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وإنه يحرم عليهم الاتجار في الميتة والخمر ولحم الخنزير، وينهى عن الزنى والربا وأكل أموال الناس بالباطل؟ أيا كانت المرتكزات الفقهية لهذا الترخص وأيا كان حظ القائمين عليه من النظر؟(1/14)
وإن ما نسب إلى السادة الأحناف أو من غيرهم عن دار الحرب وعن جواز التعامل فيها بالعقود الفاسدة يجب أن يؤخذ في سياقاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم يكن أهل الإسلام فيما مضى يتوطنون خارج ديار الإسلام بصورة دائمة، وينشئون في مهجرهم مراكزهم ومؤسساتهم الإسلامية، ويتاح لهم فيها من حرية الدعوة وحرية العمل وحرية الكلمة ما هو متاح لجالياتنا المسلمة المقيمة في الغرب، والتي يفوق تعداد بعضها عدد السكان الأصليين من بعض دول عالمنا الإسلامي! ويتحدثون فيها عن قضية توطين الدعوة وتحويلها من دعوة مهاجرة يحملها طلاب وافدون يقيمون فيها بصورة عارضة إلى متوطنين أصليين يحملون جنسية هذه المجتمعات ويوطنون لإقامتهم فيها بصورة نهائية أو شبه نهائية؟!! وفي إطار هذه النظرة تغير موقف فقهائنا من قضية التجنس فلم تعد تحمل ما كانت تحمله من دلالات أدت ببعض أهل الفتوى إلى القول بردة المتجنس عن الإسلام في وقت من الأوقات !
إن الإصرار على تسمية هذه المجتمعات دار حرب سوف يحمل من اللوازم ما لا يقول به ولا يلتزمه أشد الناس تحمسا لهذا الإطلاق من حرمة الإقامة فيها وعدم الاعتداد بدماء المقيمين فيها ولو كانوا من المسلمين وانفساخ عقود الزواج بين الزوجين إذا هاجر أحدهم إلى هذه الديار وغير ذلك مما هو مسطور في بعض كتب السادة الأحناف ولا يقول به من يتحمس لهذه التسميات!
لقد كان فقهاؤنا فيما مضى يتحدثون عن حرمة السفر بالمصحف إلى ديار الكفار وكانوا مصيبين في ذلك غاية الإصابة في ظل السياقات التاريخية والسياسية السائدة يومئذ، واليوم نفس هؤلاء الفقهاء يتنافسون في حث الأمة على طباعة المصاحف وترجمة معانيها ونقلها إلى هذه البلاد، ويعتبرونها قربة من أجل القربات، وهم اليوم مصيبون في ذلك أيضا غاية الإصابة، لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال.
كيف يتأتى المحافظة على الهوية الإسلامية مع تبني هذا المذهب؟(1/15)
أن فتح هذا الباب سيفتح بابا عريضا واسعا إلى خلع الربقة والتفلت من التكاليف، فسوف يمتد الأمر إلى الربا والميسر، وفي الولايات المتحدة ولاية يقوم اقتصادها كله على الميسر، ويؤمها المترفون والذين في قلوبهم مرض من بني جلدتنا وفضائحهم في هذا الشأن باتت تزكم الأنوف! وقد يتدرج الناس من استباحة العقود الفاسدة في باب الأموال إلى استباحتها في باب الأبضاع! ألم تر إلى ما يشيع في هذه المجتمعات من المراقص والأندية الليلية،وهي مشروعة من الناحية القانونية وتتم تحت سمع وبصر المسئولين في هذه المجتمعات، فهل على المسلم من حرج إن هو عمل في هذه البارات والمراقص باعتبارها من العقود الفاسدة التي أجازها السادة الأحناف ليتذرع بها إلى اخذ أموالهم التي هي بناء على تخريجهم على أصل الحل؟ وهل يجرؤ على القول بذلك عالم أو غير عالم؟
وإذا أبيح الأمر أبيحت الوسائل المفضية إليه فإذا جاز بيع الخمر ولحم الخنزير جاز السعي إلى تملكها لبيعها فلا حرج على المسلم أن يتملك مزرعة لتربية الخنزير أو مصنعا لإنتاج الخمور فإنه إن فعل كان هذا أحظى له في باب المال، فمن مزارعه أو من مصانعه إلى المستهلك مباشرة! وذلك أحظ له وأكثر استجلابا لأموالهم التي هي على أصل الحل! بل لا حرج في فتح بعض المؤسسات التعليمية لتعليم أصول الميسر رجاء أن يتخرج فيها مقامرون محترفون يجيدون فنون هذه اللعبة ويتمكنون معها من استجلاب أموال القوم، ما دامت على اصل الحل، وما دامت الذريعة إلى الحلال حلالا؟ لأن الأصول التي أجازت بيع الخمر والخنزير لغير المسلمين قد يعول عليها نفسها في إجازة السعي إلى امتلاك مشروعات اقتصادية تستثمر في هذا المجال بجامع استجلاب أموال القوم التي هي ابتداء على أصل الحل!
ومن ثم فلا أحسب عالما منصفا يقر مثل هذا المسلك الفقهي في ظل كل هذه المتغيرات في واقعنا المعاصر مهما كان حظ هذا المذهب من النظر؟
إعلان النكير على المعتدين(1/16)
وإذا كان هذا هو أساس المعاملة مع المسالم لأهل الإسلام من غير المسلمين فإن للذين ظلموا منهم منهجا آخر في التعامل يبدأ من إعلان النكير والاحتجاج بالكلمة والتظاهر والمقاطعة ونحوه، وينتهي بالمجالدة بالسيوف بحسب مدى تحقق القدرة وتوقع الظفر وغلبة المصلحة، ونظرا لمسيس الحاجة إلى شيء من البسط فيما يتعلق بالتظاهر والمقاطعة فقد رأيت أن أفردهما بكلمة مستقلة نظرا لشيوعها في واقعنا المعاصر .
التظاهر وسيلة من وسائل الإنكار التي ألفتها المجتمعات الغربية
التظاهر كما عرفه المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة هو إعلان رأي أو إظهار عاطفة في صورة مسيرة جماعية، وهو وسيلة معاصرة من وسائل التعبير عن الرأي، وتوجيه القرار السياسي في المجتمعات الديموقراطية، ويعد من الحقوق الدستورية المكفولة في معظم هذه الدول، وتنظم القوانين في العادة حدود ممارسة هذه الحق حيث تشترط له إذنا مسبقا وميقاتا محددا، وتحظر بطبيعة الحال المساس بالممتلكات والمرافق العامة.
والتظاهر كما لا يخفى مما تختلط فيه المصالح والمفاسد، وتتزاحم فيه المنافع والمضار، فهو يشتمل على جملة من المصالح كما يشتمل كذلك على جملة من المفاسد، وهذا هو الشأن في كثير الأمور في أزمنة الفتن وغربة الدين، حيث تختلط المصالح والمفاسد، فلا تكاد تجد مصلحة محضة، ولا تكاد تجد مفسدة محضة، ويكون ذلك من أسباب الاختلاف والتفرق ، فمن الناس من ينظر إلى جانب المصلحة وحدها ويغفل النظر إلى المفاسد وقد تكون راجحة، ومن الناس من ينظر إلى جانب المفسدة وحدها ويضرب الذكر صفحا عن المصالح وقد لا تكون مرجوحة، ومنهم من يحاول الموازنة بينهما، وقد تنضبط الموازين في يده وقد تضطرب ، والمسدد من سدده الله عز وجل!
ولا يخفى أن الجهاد بالكلمة، وإنكار المنكر بالقول مما أحكم وجوبه في الشريعة، ويبقى النظر بعد ذلك في وسائله وأساليبه، وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال.(1/17)
هذا. ويتمتع التظاهر في المجتمعات الغربية بالشرعية والحماية القانونية، وتنظم القوانين ممارسته كما تنظم ممارسة أي حق آخر من الحقوق المشروعة، وهو وسيلة من وسائل الضغط المشروعة للتعبير عن الرأي، وتشكيل الوعي السياسي لدى صناع القرار في هذه المجتمعات، وللناس في هذه المجتمعات دربة بممارسته، تحول دون أن يتحول إلى وسيلة من وسائل الفوضى أو التخريب للممتلكات والمرافق العامة.
وللمسلمين المقيمين في هذه المجتمعات رسالة لابد أن تبلغ، وفي أعناقهم أمانة يجب أن تؤدى، إن عليهم حماية عرض الإسلام وعرض الأمة المسلمة من سهام الشانئين والمبطلين، كما أن عليهم دعم القضايا الإسلامية في المعترك الدولي، بتصحيح الصورة المغلوطة التي تقدمها وسائل الإعلام في هذه المجتمعات، ثم بمحاولة الوصول إلى صناع القرار لعرض هذه القضايا وبسط بيناتها، ودحض أباطيل خصومها، وحملهم على شيء من العدل والإنصاف في التعامل معها، ولا يخفى أن القرارات التي تحاك في هذه المجتمعات ذات أثر بالغ ومباشر على المجتمعات الإسلامية، وكل ذلك إنما يتم من خلال الوسائل التي اعتمدتها هذه المجتمعات للتعبير عن الرأي، ولقياس توجهات الرأي العام، ولكل مجتمع آليته وأساليبه في ممارسة حقوقه وفرض إرادة مواطنيه.
وإذا أردنا أن نكيف هذا العمل بموازين الشريعة فنستطيع القول بأن التظاهر في الإطار الذي تقرره له المجتمعات الغربية يمكن أن يكون وسيلة من وسائل الصدع بالحق، وأسلوبا من أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبابا من أبواب الجهاد بالكلمة، ولا سيما إذا تعين في بعض المواقع وسيلة إلى تحقيق هذه المقاصد السابقة.(1/18)
ولا يرد على هذا التكييف القول بأن بيننا وبين القوم بمقتضى الإقامة بين أظهرهم عهودا وعقودا تحتم عدم منابذتهم ومبادرتهم بالعصيان وإعلان التمرد، لأن التظاهر حق دستوري، تقرره دساتير هذه البلاد، وتنظمه قوانينها، وتكفل حرية التمتع به، وتحرس الممارسين له، ولا تحمل لهم هذه الحساسية التي تحملها الكيانات السياسية المتنفذة في المجتمعات الشرقية.
ولا يخفى من الناحية المقابلة أن التظاهر تكتنفه بعض المفاسد، منها:
- إضعاف مفهوم الولاء والبراء، عندما يلتقي البر والفاجر، والمسلم وغير المسلم في فسطاط واحد، وفي خندق واحد، وعندما ترتبط مصلحة كل طرف بالآخر، فيحرص على استرضائه واستمالته، وعدم إثارة ما يسوؤه من الأقوال أو الأفعال أو المواقف.
- ما يكتنف هذه التظاهرات من الاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء ، وتقديم الكاسيات العاريات في صورة الممثل للإسلام، والمتحدث عن الأمة، والمعبر عن همومها ومواقفها.
- ما يؤدي إليه الاستغراق في هذا العمل من تراجع الجهود الدعوية والتربوية.
- إضعاف مفهوم الجهاد والاستعلاء بالحق ومفاصلة أهل الباطل ، ولفت القلوب عن التعلق بالله عز وجل، والتعويل في طلب النصرة واستعادة حقوق الأمة على هذه الكيانات السياسية التي ما قامت ابتداء إلا لحربها، والتي أمعنت في النكاية في الإسلام والمسلمين.
ولا شك أن هذه المفاسد متفاوتة سواء في تحققها أو في جسامتها، ولكن أصلها موجود على كل حال، ومنها ما يمكن تطويقه وتقليل مفاسده، ومنها ما قد يعسر فيه ذلك، ولكن يبقى مقابلة ذلك بما يمكن أن يتحقق من المصالح، ومدى ما يبذل من الجهود للتقليل من هذه المفاسد.
محذور إضعاف مفهوم الولاء والبراء(1/19)
إن محذور إضعاف مفهوم الولاء والبراء وارد، والذريعة إليه قريبة، ولكن تعاظم هذا المحذور في بعض المواقع إنما يعكس هشاشة الجهود التربية التي يبذلها القائمون على العمل الإسلامي، والتي يفترض أنها تحصن السواد الأعظم من رجالهم من هذا المحذور، إن الولاء والبراء من حقائق التوحيد أو من مقتضياته، والتوحيد هو القضية التي يجب أن يعنى بها العاملون للإسلام في كل موقع، فوق كل أرض وتحت كل سماء، فإذا أحسن الدعاة القيام بهذا الواجب تراجع هذا المحذور، وفهمت هذه الأعمال في إطارها الصحيح، وأدرك الناس أن التعاون على عمل من أعمال البر العام لا يعني بالضرورة ولاء ولا قربى، وأن التقاء المصالح في لحظة من اللحظات مع فريق من غير المسلمين، والسعي المشترك من أجل تحقيقها إنما هي تدابير مرحلية تمليها المصالح والحاجات أو الضرورات، ولا يعني بحال من الأحوال اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أو أن أولياء الشيطان قد صاروا أولياء للرحمن!
قضية الاختلاط بين الرجال والنساء
أما قضية الاختلاط بين الرجال والنساء فهو مما عمت به البلوى في هذه المجتمعات، وليس هذا خاصا بالتظاهرات وحدها ، إن من ينكر هذه العمل بسبب الاختلاط يذهب في اليوم التالي إلى الجامعة، ويقضي السواد الأعظم من ليله ونهاره في مثل هذا الاختلاط أو أشد، وحيثما شرق أو غرب فالاختلاط يطارده، في الحافلة، وفي الطائرة، وفي المطعم، وفي السوق، وفي الشارع، وفي كل مكان، ومع هذا لم يقل أحد بتوقف الحياة بسبب هذا الاختلاط، وعلى الناس أن يلزموا بيوتهم، ويوقفوا مسيرة حياتهم بسبب هذا الاختلاط، وإنما يقال للناس: اتقوا الله ما استطعتم، واجتهدوا في تقليل هذه المفاسد ما استطعتم، وما يعجزكم فالتمسوا العفو عنه من الله عز وجل، والأصل إقامة المصالح الشرعية الكلية، وإن اعترض في طريقها بعض المناكر الجزئية.(1/20)
ومن ناحية أخرى فإنه يتوسع في مقام الدفع العام بما لا يتوسع به في مقام التربية والبناء، أرأيت لو اشتعل حريق في بلد من البلاد ، وتمثلت فريضة الوقت في تكاتف الجهود لإطفائه، هل يتسنى أن يصد عن المشاركة في ذلك أحد مهما كان له من القصور أو التقصير في بعض الجوانب ؟ إن الجواب البدهي على ذلك هو النفي، وعندما تقيم المراكز الإسلامية عشاء خيريا لجمع التبرعات، يغشى هذه الاجتماعات البر والفاجر، وهي تفتح أبوابها للجميع، وتستقبل التبرعات من الجميع، بل لو جاءها تبرع غير مشروط من كافر قبلت به، ولا توقف قبول التبرع على تحقيق مستوى معين من التقوى لا تقبل الصدقة إلا به!
إن الأصل في خنادق الجهاد أنها تفتح لأهل الملة قاطبة برهم وفاجرهم ، بل إن الاستعانة بغير المسلم وإن كانت موضع نظر، فإن الراجح أن ما ورد من النهي عن ذلك منسوخ، وأن المسألة من مسائل السياسة الشرعية التي تفوض إلى نظر الإمام أو أهل الحل والعقد في جماعة المسلمين .
تراجع الجهود الدعوية(1/21)
أما تراجع الجهود الدعوية بسبب الاستغراق في هذا العمل، فلا يخفى أن هذه التظاهرات موسمية، وأنها ليست من الأعمال التي يستغرق فيها الناس ليل نهار، واشتغال الناس بها في إبان الإعداد لها لا يعني بالضرورة أنها تستغرق جل حياتهم بالكلية، أو أنها تصرفهم عن الجهود الدعوية والتربوية، اللهم إلا في فترات الإعداد وهي يسيرة ومحدودة. كما أنها ليست بديلا من الأعمال الدعوية أو التربوية بحيث يتعين على المسلم أن يختار إما أن يكون من المتظاهرين، أو مع الدعاة والمربين (!) وإنما هي محور آخر من محاور العمل الإسلامي يقف على التوازي مع بقية المجالات ليس بديلا منها ولا متعارضا معها، ومع هذا تبقى أهمية التذكير بهذه المحاذير وتنبيه الناس إليها ضرورة دعوية لا ينبغي أن يمل الناصحون من قولها، ولا أن يمل المشتغلون بهذه الأعمال من الاستماع إليها، فإنها تنبههم من غفلة، وتوقظهم من سنة، وتحول بينهم وبين أن تقتطعهم هذه الأعمال عن المسار الأصيل للحركة الإسلامية.
إضعاف مفهوم الجهاد
أما ما ذكر من إضعاف مفهوم الجهاد والمفاصلة فهو موضع نظر:بل قد يكون عكسه هو الصحيح، لأن هذه الدعوة لا تدعو إلى الانسحاب من ميادين القتال إلى ميادين التظاهر، وإنما تدعو المقيمين في هذه المجتمعات إلى أن يرفعوا أصواتهم بالإنكار على المظالم، وتعريف العالم بما يرتكب ضد إخوانهم من المجازر، وأنهم إن فاتهم شرف جهاد السيف لتقطع أسبابه فلا أقل من جهاد الكلمة، والتظاهر وفقا لآليات هذه المجتمعات من أقوى وأمضى صوره ، وعلى هذا فلعل عكس ما ذكر في هذه المسألة هو الصحيح، إذ توقد هذه الأعمال جذوة الجهاد في النفس وتحرك فيها لواعج الشوق إليه!
صرف القلوب عن التعلق بالله عز وجل(1/22)
أما ما ذكر من لفت القلوب عن الله عز وجل والتعلق بغيره في طلب النصرة فهو محذور قائم في جميع الوسائل البشرية التي يسلكها المجاهدون، حتى في جهاد السيف نفسه، فإنه إذا وكل المجاهدون إلى أنفسهم، وأعجبتهم كثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، فقد حبط العمل، وامتهد طريق إلى البوار والخيبة! نعم قد تكون الذريعة إلى هذا المحذور في باب التظاهر أبين وأقوى، ولكن المخرج لا يكون بإلغاء هذه الوسائل، وإنما بحسن التربية وحسن الإعداد، وإشاعة الربانية وتصحيح المفاهيم المغلوطة، ومرابطة الحراس للدين على هذه الثغور فلا تؤتى الامة من قبلهم!
كون هذا العمل محدثا لم ترد الإشارة إليه في كتاب من كتب التراث
- أما ما ذكر من كون هذا العمل محدثا لم ترد الإشارة إليه في كتاب من كتب التراث، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، فلا يخفى أن الوسائل والأساليب الدعوية والجهادية لا تنحصر في صور معينة ، بل هي من مسائل الساسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، إن إنشاء الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية واتخاذها منابر لاستفاضة البلاغ وإقامة الحجة لم يكن معروفا في عهد السلف ، فلا يحتج أحد بأن الصحف والمجلات لم تكن من هدي السلف، فهي رجس من عمل الشيطان، فيصادرها ويسعى في خرابها(!) وقل مثل ذلك في كل ما استحدث من آليات وأساليب، ولم يكن موضع نكير من أحد من علماء المسلمين، هذا بالإضافة إلى ما جاء في السيرة من اصطفاف المسلمين غداة الجهر بالدعوة في مسيرتهم التي خرجوا بها من دار الأرقم ليعلنوا على الملأ في مكة إسلامهم وبراءتهم مما يعبدون من دون الله ، وخروج الناس يوم مؤتة للنكير على الجيش القادم لما قام به من مناورة وانسحاب يقولون لهم يافرار! فررتم في سبيل الله؟! فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل هم الكرار إن شاء الله
المقاطعة درءا للصيال وكفا للعدوان(1/23)
المقاطعة هي الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصاديا أو اجتماعيا وفق نظام جماعي مدروس، وهي من وسائل المقاومة المشروعة في واقعنا المعاصر، وقد قننتها المواثيق الدولية، وتتسع لها قواعد السياسة الشرعية.
وإذا كان الأصل هو حرية التعامل في الطيبات بيعا وشراء، أيا كان المتعامل معه برا أو فاجرا، مسلما أو كافرا، فإن المقاطعة عندما تتعين سبيلا لدفع صيال أو كف عدوان فإنها تصبح من الوسائل المشروعة للمقاومة بل لا يبعد القول بأن تكون من الواجبات المحتومة، طبقا لما تمهد في الشريعة من أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد حلا وحرمة.
وتطبيقا لهذه القاعدة فإذا كان التعامل مع المعتدي يتضمن تقوية له وإعانة له على بغيه وعدوانه بما يصيبه من الربح، ووجد بديل من السلع التي تشترى من المعتدي سواء أكان من خلال استجلابها من مسلم أو من مسالم، فإن الأدلة الشرعية تتظاهر على حرمة هذا التعامل وتشدد النكير على فاعله.
ولقد كانت المقاطعة من أفعل الأسلحة في الحروب قديمًا وحديثًا، وقد استخدمه المشركون في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فآذاهم إيذاءً بليغًا..واستخدمه المحاربون لهذه الأمة من المعاصرين فأحدث في المواضع التي استخدم فيها أضرارا فادحة، وما خبر العراق ببعيد!
والمقاطعة سلاح في أيدي الأمة دائما فلا ينبغي أن تغلب عليه، لا سيما إذا أعوزتها الأسلحة الأخرى، وإذا ثبت مضاء هذه السلاح وشدة تأثيره! فلا تستطيع الحكومات مهما كانت مستبدة ومتسلطة أن تفرض على الناس أن يشتروا بضاعة من مصدر معين أو من دولة بعينها.(1/24)
وعلى سبيل المثال لقد رأينا ما جرى في بعض الدول الغربية من اعتداء سافر على مقام خاتم الأنبياء، ومن صلف واستكبار من بعض القائمين على الأمر في حكومات هذه البلاد، ولما كانت هذه الدول تعتمد في جل اقتصادياتها على ما تصدره للعالم الإسلامي من منتجاتها الزراعية وغيرها فإن أدنى ما يمكن القيام به تعبيرا عن الاستياء والاستنكار لهذه الجريمة النكراء وصيانة لمقام النبوة من تطاول المعتدين هو الامتناع عن التعامل مع منتجات هذه الدول المعتدية وإشاعة هذا الأمر على مستوى الشعوب في مختلف أرجاء العالم الإسلامي باعتبار ذلك هو الصوت الوحيد الذي يتسنى الاستماع إليه في مثل هذه الأجواء والذي يمكن مع استمراره أن يضع حدا لهذه الجريمة التاريخية النكراء، وأن يمنع من امتدادها إلى ما جاورها من الدول.
ومن ناحية أخرى فإن في المقاطعة أبعادا تربوية ودعوية لا تقل في أهميتها عن الأبعاد الاقتصادية التي تتضمنها ، فهي تتضمن فيما تتضمن ما يلي:
? تربية الأمة على التحرر من العبودية والتبعية الاقتصادية لهذه السلع والمنتجات التي تستنزف بها مقدرات البلاد لصالح هؤلاء المعتدين.
? إحياء مفهوم الولاء والبراء، وتجديد معاني الأخوة الإسلامية في صور واقعية ومحسوسة، وتأكيد معنى البراءة من المعتدين، وحمل حكوماتهم على القيام بدورها في الضرب على أيدي سفهائهم وكفهم عن عدوانهم .(1/25)
وينبغي أن يصدر بهذه المقاطعة قرار من أولي الأمر، لتكون المقاطعة جماعية ولتكون آثارها فعالة وموجعة، فإذا تردد بعض الولاة في القيام بواجبهم لأي سبب من الأسباب انتقلت المسؤولية إلى العلماء، الذين يتعين عليهم أن يخاطبوا الأمة بذلك، فإن أولي الأمر في الأمة فريقان: أهل العلم وأهل القدرة: العلماء والأمراء، فإذا تباطأ الأمراء عن دورهم في حمل الأمة على ما يقتضيه النظر الشرعي فإن الأمور موكولة إلى العلماء، وقد أخذ الله عليهم الميثاق بالبيان، وتوعدهم أبلغ وعيد على الكتمان.
هذا وإن وجوب المقاطعة يشمل المستهلكين كما يشمل التجار المستوردين لهذه السلع حتى تتكامل الأدوار في تفعيل هذا السلاح ليكون منتجا لآثاره ومفضيا إلى مقصوده.
القتال في الإسلام إنما يكون لدرء الحرابة وكف العدوان، وليس للإكراه على الدين
سواء أكانت الحرابة واقعة بالفعل، وهو ما يسمى بجهاد الدفع، أو متوقعة ولاحت نذرها بدلائل قوية وبينات يقينية وهذا هو جهاد الطلب، ولم تخرج حروبه كلها صلى الله عليه وسلم عن ذلك لمن تدبر السيرة وأمعن النظر في حروبه وغزواته صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء في هذه المسألة، ؛ والأدلة على ذلك كثيرة:
منها: قوله تعالى:"لا إكراه في الدين" [البقرة:256].
ومنها: ما شرع من تخيير الكفار بين الإسلام وبذل الجزية والقتال.
ومنها: النهي عن قتل من لا شأن له بالقتال، كالنساء والصبيان وكبار السن والمنقطعين للعبادة الذين لا يشاركون المقاتلين بالفعل أو الرأي.(1/26)
وفي تقرير هذا الأصل يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:"وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَّمِن (الضعيف) ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان –والأول هو الصواب- وذلك أن الله أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى:"والفتنة أشد من القتل" [البقرة:191] أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر" [السياسة الشرعية صـ (132) وما بعدها].
وصفوة القول في ذلك أن هذه الأمة أمة هداية، وليست أمة بغي وحرابة، وحيثما أمكن استحياء النفوس بالإيمان أو بالأمان فلا ينبغي العدول عن ذلك فإن الله تعالى لم يبح من قتل النفوس إلا ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، ولعل الله أن يخرج من أصلابها من يعبد الله تعالى ويوحده.
تعظيم أمر الدماء ، وتغليظ العقوبة عليها(1/27)
أيها السادة: إن تعظيم أمر الدماء ، وتغليظ العقوبة عليها ، واشتداد غضب الله على المجترئين عليها بغير حق ، مما استفاض تقريره في الشريعة المطهرة ، وأكدت عليه نصوص الوحيين قرآنا وسنة ، فلا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما ، وكل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو مؤمنا يقتل مؤمنا متعمدا ، ومن هنا كانت عقوبة القصاص في الشريعة ، صيانة لدماء البشر، وحماية لها من المفسدين في الأرض ! وكانت عقوبة الحرابة - وهي أشد وأغلظ - حماية للمجتمع من غوائل المارقين عليه ، وتأكيد لحرمة الأمن العام في الشريعة المطهرة ، قال تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( النساء : 93) وقال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون ) ( البقرة : 179 )(1/28)
- وهذا التعظيم للدماء في الإسلام شريعة عامة، لا يفرق فيها في الأصل بين مسلم وغيره ، فلا تستباح الدماء في دار الإسلام إلا بإحدى ثلاث : القتل العمد العدوان ، أو الزنا بعد الإحصان ، أو الردة بعد الإيمان ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ولا تستباح خارج دار الإسلام إلا في الحرب المشروعة التي تكون لدفع العدوان : العدوان على بلاد الإسلام ، أو العدوان على الإسلام نفسه ، بفتنة الناس عنه ، أو صدهم عن سبيله ، ووضع المعوقات في طريقه ، ومصادرة حق البشر في اختياره ، قال تعالى : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ( البقرة : 190 ) وقال تعالى : ( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) ( النساء : 75 ) وفرق بين الحرب المشروعة كما عرفتها مواريثنا الفقهية والتاريخية ، والحرب المقدسة كما شاعت في الأوساط الغربية، والتي يراد بها إكراه أهل ملة على الدخول في ملة أخرى عنوة وتحت بارقة السيوف ! فإن هذا ما لا يعرف له نظير في ملة الإسلام، انطلاقا من هذا المبدأ القرآني الخالد ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( البقرة : 256 )(1/29)
- ولهذه الحرب المشروعة شرائط وآداب لا تتحقق المشروعية إلا باستيفائها ، منها على سبيل المثال : تجنب الغدر ، فمن كان بينه وبين قوم ميثاق وجب عليه أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم ، ولا يحل له أن ينكث فيه بحال ، وإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم على سواء ، وأعلمهم بالمنابذة والمصارمة، والنصوص في ذلك صريحة وقاطعة ! قال تعالى : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) ( الأنفال : 58 ) ومعنى قوله تعالى : فانبذ إليهم على سواء : أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم ، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي تستوي أنت وهم في ذلك ) ( تفسير ابن كثير : 578 ) وأخرج الإمام أحمد وغيره عن سليم بن عامر قال : كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنوا منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر ! وفاء لا غدرا ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ومن كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يحلن عقدة ، ولا يشدها ، حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء ، قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة .(1/30)
- ومنها تحريم القصد بالعدوان إلى غير المقاتلين ، فإن من شريعته صلى الله عليه وسلم أن لا يقصد بالعدوان إلى غير المقاتلين ، سواء أكانوا من النساء أو الأطفال أو الشيوخ أو الأجراء أو المنقطعين للعبادة في الصوامع والأديرة ونحوه. والنصوص في ذلك صحيحة وصريحة ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ( متفق عليه ) وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن رباح بن الربيع رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال : انظر علام اجتمع هؤلاء ؟ فجاء فقال : على امرأة قتيل ! فقال: ما كانت هذه لتقاتل! قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد قال: فبعث رجلا فقال : ( قل لخالد : لا يقتلن امرأة ولا عسيفا ) ، وفي رواية عند ابن ماجه : انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأمرك يقول : ( لا تقتلن ذرية ولا عسيفا )، لا يستثنى من ذلك إلا حالة الاختلاط وانعدام القدرة على التمييز، كما لو تترس المقاتلون ببعض هؤلاء وجعلوا منهم دروعا بشرية ونحوه.
- ومن معالم العلاقة مع غير المسلمين إقامة العدل والقسط، وتحريم الانتقام بالظنة والتوزيع الجزافي للتهم، فالعدل في الإسلام شريعة عامة، لا تتفاوت بتفاوت الأديان أو الأوطان، وقد قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) وقال تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )
- ونحن بهذا لا ننكر حق البشر في دفع الصائل ورد العدوان، وملاحقة مرتكبي الجرائم والضرب على أيديهم ، لكن هذا لابد أن يتم في إطار ضوابط الحق والعدل، التي اتفقت عليها الشرائع السماوية ، والقوانين الوضعية على حد سواء.
تحريم مظاهرة المشركين على المسلمين(1/31)
ومن معالم العلاقة مع غير المسلمين عامة تحريم مظاهرتهم على المسلمين، فالمسلم أخ المسلم، مهما اختلفت الألسنة والألوان والبلدان ، فلا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، ولا يظاهر عليه أحدا من المشركين، ومثل هذه البدهيات لا تحتاج إلى حشد أدلة وسوق براهين ، وحسبنا قول الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) ( الممتحنة : 1 ) وقد نزلت هذه الآية وما بعدها في كتاب كتبه حاطب بن أبي بلتعة في لحظة من لحظات الضعف البشري إلى أهل مكة يخبرهم فيه بما اعتزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتالهم ، فكيف بمن يظاهر على فريق من أمته بالسلاح ، ويشارك مشاركة فعلية فيما يشن عليه من حروب إبادة شاملة ؟!(1/32)
- ولقد نعى الله على اليهود في كتابه اقتتالهم تحت رايتي الأوس والخزرج ، فقد والى فريق منهم الأوس ، ووالى فريق منهم الخزرج ، فكان يقع القتال بين المعسكرين ، فيقاتل اليهودي المحالف للأوس اليهودي المحالف للخزرج، فإذا انتهى القتال كانون يفادون الأسارى من الفريقين ، فنعى الله عليهم ذلك وجعله إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض ، لأنهم يقتلونهم على خلاف حكم التوراة، ففي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا، ثم ويفتكون أساراهم ويدون قتلاهم نزولا على حكمها وذلك في قوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ، ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ( البقرة :84 ) فقد نعى الله على اليهود اقتتالهم تحت رايتي الأوس والخزرج ، ولم يجعل من وجودهم تحت هذه الرايات عذرا لهم ، ومانعا يمنع من لحوق الإثم لهم ، واستحقاقهم العقوبة في الدنيا والآخرة ! ولقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( أنبهم الله بذلك من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع حلفاء الخزرج ، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنوا قينقاع مع الخزرج ، وخرج النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى تسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم ولهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا(1/33)
يعرفون حنة ، ولا نارا ، ولا بعثا ، ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ، ولا حراما ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم - تصديقا لما في التوراة ، وأخذا به - بعضهم من بعض : يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم ، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم ، ، يقول الله تعالى ذكره حيث أنبهم على ذلك : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) أي تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم ، وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره ، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا ، ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة ) تفسير ابن كثير : 85
وحدة الأمة سلما وحربا
- والمسلمون أمة واحدة، حربهم واحدة، وسلمهم واحدة، وليس لأحد أن ينحاز عن الأمة وأن يعقد دونها حربا أو سلما منفردا بمعزل عن بقية المسلمين، فلا حرب ولا سلم من فريق من المسلمين إلا برضى وتشاور مع بقية المسلمين، فإن آثار هذه المواقف المصيرية لا يختص بها القائمون بها أو المباشرون لها وحدهم بل تمتد لتطال بقية المسلمين، وقد رأينا كيف أن عملا غير مسؤول وقع منذ عام جر الأمة كلها إلى سلسلة من الكوارث والفجائع ، ولهذا يفرق أهل العلم بين جهاد الدفع وجهاد الطلب، ويجعلون الثاني وهو الذي تحدد الأمة ميقاته زمانا ومكانا إلى القيادة العامة في جماعة المسلمين ، ولا يستقل به أصحاب الولايات الإقليمية أو القطرية، أما جهاد الدفع فهو الذي يفوض إلى القيادات القطرية في إطار النظر العام لإمام المسلمين(1/34)
- بقي شيء لابد من ذكره في نهاية التعقيب على هذه النقطة : أنه قد يسع المسلم في بعض الأحوال أن لا ينصر أخاه المسلم ، إذا لم يهاجر إلى جماعة المسلمين ، وكانت خصومته مع قوم بينه وبينهم ميثاق ، كما قال تعالى : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ( الأنفال : 72 ) فهؤلاء الذين لم يهاجروا إلى جماعة المسلمين ، يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم من الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، بيد أن لهم حق النصرة إذا استنصرونا في الدين على قتال عدو لهم ليس بيننا وبينه ميثاق ، أما إذا استنصرونا على قوم من الكفار، بيننا وبينهم ميثاق ، فلا نصرة لهم في هذه الحالة ، لقوله تعالى : (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ، يقول ابن كثير ( أي مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ، ولا تنقضوا أيمانكم ، مع الذين عاهدتم ). لكن الذي لا يسعه بحال من الأحوال أن يظاهر عليه المشركين ، وأن ينحاز مع الكفار المحاربين لقتاله معهم ، فإننا لا نعرف أحد من علماء الأمة أباحه ، ولا سطر قط في ديوان من دواوين الإسلام !
هذا ما تيسر جمعه في هذه العجالة على ضيق من الوقت وشح في المصادر، والله أسأل أن يوفقنا لمزيد من التحرير لهذه المسائل في المستقبل بإذن الله، وأن يجعل ما نقوله أو نكتبه حجة لنا لا علينا، وأن ينفع به كاتبه وقارئه ومستمعه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم اللهم آمين.(1/35)