للقضاء الشرعي دور مهم في الحفاظ على الأسرة من خلال فض النزاعات وإزالة الخصومات المفضية لتحقيق المودة والرحمة والسكينة .
إن إقامة العدل والقسط توجب على القاضي الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة من الأطباء الحاذقين في إثبات العيب والتحقق من وجود العلة الموجبة لفسخ النكاح ، وهي منع المعاشرة أو الأعداء أو التنفير .
إن عبء إثبات الحق لا يقع على عاتق المدعي أو المدعى عليه فقط ، بل يقع على عاتق الخبير الذي أمر الشارع بسؤاله والرجوع إلى قوله عند عدم العلم .
إن أهل الذكر الذين أمر الله سبحانه وتعالى الذين لا يعلمون بسؤالهم هم الخبراء الحاذقون في كل فن وصنعه .
لما كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، لم يعد متصوراً أن يحكم القاضي بالعدل في المسائل الفنية الخاصة دون الرجوع فيها إلى شهادة أهل الخبرة والمعرفة ليبينوا للقاضي حقيقة الأمر ويجلوها له ليتمكن من الحكم بناء على ذلك .
إن كل عيب في احد الزوجين يمنع من المعاشرة وهي من أهم مقاصد الزواج أو يعدي الصحيح أو ينفره من زوجه موجب لفسخ العيب عند عدم الرضى .
إذا قرر الطبيب الخبير الحاذق أن زواج رجل بامرأة يغلب على الظن أن ينتج منه أطفال مصابون بإعاقات جسدية أو عقلية وجب على القاضي منع إجراء هذا العقد ابتداء ، منعاً للضرر الذي وجب في الشرع إزالته عند وجوده .
وجوب تشريع إيجاب فحص الزوجين قبل الزواج للتأكد من خلوهم من الأمراض المعدية والتي ينتج عنها أطفال مصابون بهذه الإمراض والإعاقات .
فهرس المراجع
القرآن الكريم والتفسير وعلوم
القرآن الكريم
ابن العربي ، أبو بكر محمد بن عبد الله 543هـ . أحكام القرآن تحقيق علي بن محمد البجاوي ، دار المعرفة ، بيروت .
ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن كثير 774هـ . تفسير القرآن العظيم ، دار الفكر ، بيروت .(41/32)
الالوسي ، أبو الفضل محمود الالوسي 1270 هـ . روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ط4 ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي 1985م .
الشوكاني : محمد علي 1250هـ . فتح القدير ، بيروت دار الفكر .
الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير 311 هـ . جامع البيان في تأويل القرآن .
عباس : د. فضل حسن عباس ، أعجاز القرآن .
القرطبي : أبو عبد الله محمد بن احمد 671 هـ الجامع لأحكام القرآن ، بيروت ، دار أحياء التراث 1965م .
النسفي : أبو البركات عبدا لله بن احمد 701هـ ، مدارك التنزيل وحقائق التأويل القاهرة ، دار إحياء الكتب العربية .
الحديث النبوي الشريف وعلومه
ابن حجر : أبو الفضل احمد بن حجر العسقلاني 854هـ . فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، تحقيق عبد العزيز بن باز ، بيروت دار الفكر .
البخاري : محمد بن إسماعيل 256هـ . صحيح البخاري مع فتح الباري ، بيروت ، دار الفكر .
الترمذي : أبو عيسى محمد بن عيسى 278هـ . صحيح الترمذي مع عارضة الاحوذي ، بيروت دار الكتب العلمية .
الخطابي : حمد بن محمد بن إبراهيم 388هـ . معالم السنن مع مختصر أبي داوود ، بيروت دار المعرفة .
الشوكاني : محمد بن علي 1250هـ . نيل الاوطار شرح منتقى الأخبار ، بيروت ، دار الجبل .
مسلم بن الحجاح النيسابوري 361هـ . صحيح مسلم مع شرح النووي ط3 ، بيروت ، دار إحياء التراث 1984.
المنذري : عبد العظيم بن عبد القوي ، مختصر سنن أبي داود ، تحقيق احمد شاكر ومحمد الفقي ، بيروت ، دار المعرفة .
النسائي : احمد بن شعيب 303هـ . سنن النسائي مع شرح السيوطي ، بيروت ، دار الكتب العلمية .
كتب الفقه الحنفي
ابن عابدين : محمد أمين 1306هـ . حاشية رد المحتار على الدر المختار ط2 ، بيروت ، دار الفكر 1966 .
ابن نجيم : زين الدين بن إبراهيم 970هـ . البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط2 ، القاهرة ، دار الكتاب الإسلامي .(41/33)
ابن الهمام : محمد بن عبد الواحد 861هـ . فتح القدير ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .
الزرقا : احمد بن محمد 1358 هـ . شرح القواعد الفقهية ط1 ، بيروت ، دار الغرب الإسلامي 1983 .
الزيلعي : فخر الدين عثمان بن علي 734هـ . تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ط1 ، بيروت ، دار المعرفة 1314هـ .
السرخي : شمس الدين محمد بن احمد 483 . المبسوط ، بيروت ، دار المعرفة 1989 .
شيخ زاده : عبد الرحمن بن محمد 1078هـ . مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ، بيروت ، دار إحياء التراث 1319هـ .
الكاساني : علاء الدين أبو بكر بن مسعود 287هـ . بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، بيروت ، دار الكتاب العربي.
كتب الفقه المالكي
ابن جزيء : محمد بن احمد الكلبي 741هـ . القوانين الفقهية ، بيروت ، دار القلم .
ابن رشد : محمد بن احمد الحفيد 595هـ ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، بيروت دار الفكر .
ابن عبد البر : يوسف بن عبد الله القرطبي 463هـ . الكافي في فقه أهل المدينة ، تحقيق د. محمد احمد المورتاني ط2 ، الرياض ، مكتبة الرياض 1980م .
ابن العربي : محمد بن عبد الله المعافري 543هـ . عارضة الاحوذي شرح الترمذي ، بيروت دار الكتب العلمية .
ابن فرحون : إبراهيم بن علي 799هـ . تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الحكام ، دار الكتب العلمية .
الأبي : صالح بن عبد السميع الأزهري ، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ، بيروت ، دار المعرفة .
الحطاب : محمد بن محمد بن عبد الرحمن 954 ، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ط2 ، بيروت ، دار الفكر 1978 .
الدردير : احمد بن محمد العدوي 1201هـ الشرح الكبير لمختصر خليل ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية 1996م .
القرافي : احمد بن إدريس 684هـ . الفروق ، بيروت ، عالم الكتب .
الكشناوي : ابو بكر بن حسن ، أسهل المدارك شرح إرشاد السالك ، بيروت ، التجارية المتحدة .(41/34)
المواق : محمد بن يوسف 897هـ . التاج والإكليل شرح مختصر خليل ط2 ، بيروت ، دار الفكر 1978م .
الونشريسي : احمد بن يحيى التلمساني 914هـ . المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي افريقية والأندلس والمغرب ، ط1 ، بيروت ، دار العربي الإسلامي 1983م .
كتب الظاهرية
ابن حزم : علي بن احمد 456هـ . المحلى : بيروت ، دار الفكر .
كتب الفقه الشافعي
الرافعي : عبد الكريم بن محمد 623هـ . الشرح الكبير ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية 1997م .
الرملي: محمد بن احمد بن حمزة المتوفى 1004هـ . نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، بيروت ، المكتبة الإسلامية ، دار احياء التراث العربي .
الشربيني : محمد بن احمد الخطيب 977هـ . مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ، بيروت ، دار الفكر 1978م .
الشيرازي : إبراهيم بن علي 476ه . المهذب ط2 ، بيروت 1959م .
العز بن عبد السلام 660هـ . قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، بيروت ، مؤسسة الريان 1990م .
المارودي : علي بن محمد 450هـ . الحاوي الكبير ، بيروت ، دار الفكر 1994م,
الهيتمي : احمد بن محمد بن علي المكي 974هـ . تحفة المحتاج بشرح المنهاج ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي .
الهيتمي : احمد بن محمد بن علي 974هـ . الفتاوى الكبرى الفقهية ، بيروت ، دار الكتب العلمية .
النووي : يحيى بن شرف 676هـ . روضة الطالبين ، بيروت .
كتب الفقه الحنبلي
ابن قدامة : الموفق عبد الله بن احمد المقدسي 620هـ . المغني شرح مختصر الخرفي ، القاهرة ، مكتبة الجمهورية العربية .
ابن القيم : محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية 751هـ . الطرق الحكمية في السياسة الشرعية تحقيق محمد حامد الفقي ، بيروت ، دار الكتب العلمية .
ابن مفلح : إبراهيم بن محمد 884هـ . المبدع في شرح المقنع ، بيروت ، المكتب الإسلامي .
كتب الفقه العام والأصول
ابن القيم : محمد بن أبي بكر 751هـ . أعلام الموقعين ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد .(41/35)
ابن القيم : محمد بن أبي بكر 751هـ . زاد المعاد في هدي خير العباد ط2 ، بيروت ، مؤسسة الرسالة 1985 .
أشقر : عمر سليمان الأشقر . الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني ط2 ، عمان ، دار النفائس2001م .
بهنسي : احمد فتحي ، نظرية الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي ط3 ، مصر ، مكتبة الوعي العربي 1971 .
كتب القانون
الجوخدار : د. حسن الجوخدار ، شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري ط1 ، عمان ، مكتبة دار الثقافة 1992م .
نجم : د. محمد صبحي نجم ، الوجيز في قانون المحاكمات الجزائية الأردني ط1 ، عمان ، مكتبة دار الثقافة 1991م .
هرجة: مصطفى مجدي، الاثبات في المواد الجنائية، الاسكندرية، دار المطبوعات الجامعية 1992م .
كتب اللغة
ابن فارس : احمد بن فارس الرازي 395هـ . معجم مقاييس اللغة ، تحقيق عبد السلام هارون ، بيروت ، دار الجيل .
ابن منظور : محمد بن مكرم الإفريقي 711هـ . لسان العرب ، بيروت ، دار الفكر .
الجرجاني : علي بن محمد 826هـ . التعريفات ، ط1 ، بيروت ، دار الكتب العلمية .
الراغب : الحسين بن محمد الاصفهاني 502هـ . المفردات في غريب القرآن ، تحقيق محمد خليل عيتاني ط1 ، بيروت ، دار المعرفة 1998م .(41/36)
مَدَى خُضُوعِ غَيْرِ المُسْلِمِيْنَ للقَضَاءِ الإسْلاميِّ
في العصر الحاضر
بحث مقدم إلى ندوة
القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال
المنعقدة بجامعة الشارقة من يوم4/4/2006 إلى 6/4/2006
بقلم
د.عثمان جمعة ضميرية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد ُللهِ الذي أرسلَ رُسُلََهُ بِالبيّناتِ، وأَنزلَ معهمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ النَّاسُ بالقسط، وأنزلَ الحديدَ فيهِ بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للنَّاسِ، وَلِيَعْلمَ اللهُ مَنْ يَنْصرُهُ ورُسُلََهُ بالغيبِ، إنَّ الله قويٌّ عزيزٌّ. والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، ومبلِّغًا عن رب العالمين، وقاضيًا بين الخصوم أجمعين، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة وأقام ميزان العدالة. وبعد:
فإن الإنسان اجتماعي بطبعه، ينزع إلى الحياة مع الآخرين والعيش معهم، وترتبط مصالحه بمصالحهم ووجودهم، وهذا قد يكون واحداً من الأسباب التي تفضي إلى الخصومة والنزاع، أو تحمل بعض الناس على الظلم والعدوان؛ فإنَّ الظلم من شِيَمِ النفوس ما لم يكن هناك وازعٌ من دين أو سلطان. ولذلك كان القضاءُ بين الناس لفصل الخصومات وإنهاء النزاع وإعادة الحقوق لأصحابها وإقامة العدل وإنفاذ أحكام الشرع = ضرورةً دينيةً فطرية، وضرورةً تنظيميَّةً اجتماعيةً.
أهمية الموضوع: القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية؛ أنَّ أحكامها تسري على كل من يقيمون في دار الإسلام من المسلمين وغير المسلمين. و هذا يتفق مع سيادة الدولة التي ينبغي أن تكون مفروضة على كل رعاياها، وعلى من يكون على أرضها أو إقليمها.(42/1)
و إذا كان غير المسلمين يتمتعون بمركز قانوني([1]) قد يختلف فيه الذمي عن المستأمن في بعض الجوانب والمسائل؛ فإنه من الأهمية بمكان أن يتحدد مدى خضوعهم جميعاً للقضاء الإسلامي. وبخاصة في هذا العصر الذي تنامت فيه العلاقات بين الأمم والشعوب، وتزايد اختلاط المسلمين بغيرهم، واتسعت المعاملات بينهم في دار الإسلام، بعد رفع كثير من الحواجز. وهو ما يدرسه القانونيون في علم القانون الدولي الخاص تحت عنوان:" تنازع القوانين" أو "الاختصاص الدولي".
خطة البحث: ولبيان القاعدة العامة في خضوع غير المسلمين للقضاء الإسلامي في دار الإسلام(الدولة الإسلامية)، وما قد يرد من استثناءات على هذه القاعدة، ولمعرفة ما عليه العمل في بعض التشريعات المعاصرة في البلاد العربية والإسلامية = نعقد بعد هذه المقدمة تمهيدًا، وثلاثة مباحث، وخاتمة:
التمهيد: طبيعة الدعوة وقواعد العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
المبحث الأول: مدى خضوع الذميين للقضاء الإسلامي.
المبحث الثاني: مدى خضوع المستأمنين للقضاء الإسلامي.
المبحث الثالث: ما عليه العمل في بعض التشريعات المعاصرة.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، ومنه نستمد العون والصواب.
التمهيد(42/2)
طبيعة الدعوة وموقف الناس منها: جعل الله - سبحانه وتعالى - رسالةَ نبيِّنا محمدٍٍ - صلى الله عليه وسلم - رسالةً خاتمة، تهدف إلى ردِّ البشرية كلِّها إلى الله تعالى والخضوع لدينه، ليكون ذلك سبيلاً إلى تحريرها حرية حقيقية كاملة، عندما تتحرر من كل عبودية لغير الله تعالى. فانقسم الناس عندئذ قسمين: فمنهم من فتح قلبه وعقله للهدى والنور، فآمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وصدَّق بما جاء به من عند الله تعالى، ومنهم من أغلق قلبه وعقله، وجعل على بصره غشاوة، فكفر وكذَّب؛ فكانوا بذلك فريقين اثنين: { فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقّ عَلَيْهِمُ الضّلاَلَةُ } ([2]). { ذَلِكَ بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ اتّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنّ الّذِينَ آمَنُواْ اتّبَعُواْ الْحَقّ مِن ربّهِمْ } ([3]).
وعندما كتب الله تعالى النصر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأظهر دينه على الدين كله([4])، أصبح للمسلمين دولة تضم جميع المؤمنين بالله تعالى الموحِّدين له، ترفرف عليها راية التوحيد، وتقيم الحقَّ والعدل بين الناس، وتدعو إلى الإنصاف والقسط. لم يكن من أهدافها العلوّ في الأرض ولا مجرد بسط السيطرة والنفوذ، ولا إكراه الناس على الدين، فتركتهم وما يختارون، عندما يخضعون لسلطان الإسلام وسيادة أحكامه، بعد أن أزاحت العقبات من طريق الدعوة الإسلامية، وخلَّت بينها وبين الناس ليختاروا ـ عندما يكون لهم الاختيار ـ عن طواعية وإرادة.
قواعد العلاقات بين الناس: وأقام الإسلام قواعد العلاقات بين الناس على افتراض أنهم إمَّا مؤمنون، وإما معاهَدون، وإما لا عهد لهم([5]). وفي هذا يقول عبد الله بن عباس ـرضي الله عنهماـ:((كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، كانوا مشركي أهل حربٍ يقاتلهم ويقاتلونه، و مشركي أهل عهدٍ لا يقاتلهم ولا يقاتلونه))([6]).(42/3)
ويقول ابن قيم الجوزية ـرحمه الله ـ:(( فاستقرَّ أمر الكفار معه - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول سورة((براءة)) على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهلِ عهد، وأهل ذمة. ثمَّ آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين له، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمنٌ به، ومُسالمٌ له آمن، وخائف محارب)) ([7]) .
أ ـ أما المسلمون المؤمنون: فهم المعترفون بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - والمصدِّقون بكل ما أخبر به. وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم، وحدَّد سماتهم فقال: { ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ، الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدى مّن ربّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ([8]).
والمسلمون أينما كانوا إخوة في العقيدة والجنسية، غير أن أحكام الإسلام الدنيوية لا نفاذ لها في غير دار الإسلام، ولهذا اختلفت أحكام الدارين، دار الإسلام ودار الحرب، من هذه الناحية كما هو موضَّح في أبواب متعددة من كتب الفقه كالنكاح والطلاق والوصية والإرث والسِّير([9])، وأما الأحكام الدينية من حيث أجزيتها الأخروية فالمسلم خاضع لها حيثما حلَّ، وهو مسؤول عنها أمام من لا تخفى عليه خافية ([10]).(42/4)
ب ـ أما المسالمون الآمنون، فهم غير المسلمين الذين يقيمون في دار الإسلام أو الدولة الإسلامية إقامة دائمة أو مؤقتة، على أساس عقد الذمّة أو عقد الأمان، ويدخل فيهم أهل الموادعة وهم من أهل الحرب والكفر([11]). وقد أفردت لهم الشريعة الإسلامية معاملة خاصة لا يمكن إدراك مستواها الأخلاقي السّامي إلا عند موازنتها بمعاملة الأجانب في مختلف النظم التي سبقت دعوة الإسلام التي بعث الله تعالى بها نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، أو النظم التي عاصرتها، أو تلك التي جاءت تالية لها([12]).
وغير المسلمين هؤلاء أصناف متنوعة من حيث علاقتهم بالمسلمين، ولذلك يقول ابن قيم الجوزية :((الكفار؛ إما أهل حرب وإما أهل عهد. و أهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان ولفظ ((الذمّة والعهد)) يتناول هؤلاء كلهم في الأصل. و كذلك لفظ (( الصلح)) ؛ فإن الذمّة من جنس لفظ العهد والعقد … وهكذا لفظ((الصلح)) عامٌّ في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض، وصلحهم مع الكفار.
ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء((أهلُ الذمّة)) عبارة عمَّن يؤدي الجزية. وهؤلاء لهم ذمة مؤبَّدة، قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله ؛ إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف((أهل الهدنة)) فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمّة، لكن عليهم الكفُّ عن محاربة المسلمين. وهؤلاء يسمَّون(( أهل العهد)) و((أهل الصلح)) و((أهل الذمّة)).(42/5)
وأما ((المستأمن)): فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها؛ وهؤلاء أربعة أقسام: رسُلٌ، وتجّار، ومستجيرون حتى يُعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاءوا دخلوا فيه وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم، وطَالِبُو حاجة من زيارة أو غيرها. و حكم هؤلاء ألا يهاجوا([13]) ولا يُقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يُعرض على المستجير منهم: الإسلامُ والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحبَّ اللحاق بمأمنه أُلحق به، ولم يعرض له قبل وصوله إليه. فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان)) ([14]).
جـ ـ أما الحربيون أوالمحاربون، فهم القسم الثاني من الكفار والمشركين الذين سبقت الإشارة إليهم بأنهم الخائفون المحاربون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ([15]). وهم أهل إحدى المنزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:((كان المشركون على منزلتين من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين؛ كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه)) ([16]). فالحربيون هم سكان دار الحرب أو بلاد الكفر الذين لا يدينون بالإسلام، ويحاربون المسلمين، أو ينتسبون إلى قوم محاربين لهم حقيقة وواقعاً أو حكماً وتوقعاً. و بعبارة أخرى: هم غير المسلمين الذين لم يدخلوا في عقد الذمّة، ولا يتمتعون بأمان المسلمين ولا عهدهم.(42/6)
وهم أصناف: الكفار الذين يقاتلون المسلمين بالفعل ويكيدون لهم، والكفار الذين أعلنوا الحرب على الإسلام وأهله، بأن ضيَّقوا على المسلمين وحاصروهم اقتصادياً، أو فتنوهم عن دينهم، أو ظاهروا أعداء الإسلام على المسلمين، والكفار الذين ليس لهم عهد مع المسلمين ولو لم يحاربوا المسلمين ولم يظاهروا عليهم، فهؤلاء كلهم يسمون في الاصطلاح الفقهي أهل الحرب أو الحربيين. ولا يشترط أن تكون الحرب قائمة فعلاً، وإن كانت دار الكفر- من الناحية التاريخية الواقعية- قد ناصبت الدولةَ المسلمةَ العداء والخصام و الحرب ([17]).
الخلاصة: ومما سبق نخلص إلى أنه أصبح يقيم على أرض الدولة الإسلامية: مسلمون، وغير مسلمين من الذميين والمستأمنين. والذمي يختلف عن المستأمن، فالأول من أهل دار الإسلام ويلتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات ([18]). و أما المستأمن فهو ليس من أهل دار الإسلام، ولم يلتزم شيئاً من أحكام الإسلام، وإنما دخل دار الإسلام ليقضي حاجة له ثمَّ يرجع إلى داره أو دولته.
و بعد هذه الإيماءة إلى أصناف الناس في العالم وأصل هذا التصنيف، نعقد المباحث الثلاثة التالية لبيان مدى خضوع غير المسلمين للقضاء الإسلامي، والقانون الذي يطبق عليهم، وما عليه العمل في بعض التشريعات العربية والإسلامية المعاصرة.
المبحث الأول
مدى خضوع الذميين للقضاء الإسلامي(42/7)
موضع الاتفاق: اتفق العلماء على أنه لا يكشف عن أحد من أهل الذمّة الذين أعطوا الجزية فيما يتديَّنون به على قدر ما صولحوا عليه، ما لم يحدث ضرر على غيرهم. وأجمعوا على أنَّ الذميَّ إن رافَعَهُ إلى القاضي مسلمٌ، أو رافَعَ هو مسلماً، وجب على القاضي الحكم بينهما، وبعبارة أخرى: إذا كان في الدعوى طرف مسلمٌ، سواء كان مدعيًا أو مدعىً عليه: فإن القاضي المسلم يختص بالحكم والفصل في القضية، ويحكم بما أوجبه دين الإسلام، فالقانون الواجب التطبيق في هذه الحال هو القانون الإسلامي، إذْ لا يجوز للمسلم أن يحكم بغير حكم الإسلام، سواء كانت القضية المتنازع فيها من دعاوى النكاح أو المعاملات المالية أو من غيرهما. فاختصاص المحاكم في الدولة الإسلامية بالقضايا التي يكون أحد الخصوم فيها مسلمًا هو اختصاص إلزامي([19]).
موضع الاختلاف: تلك جملة اتفق العلماء عليها، واختلفوا فيما وراءها مما يتعلق بخضوع أهل الذمّة للقضاء الإسلامي، وبعبارة أخرى: اختلف الفقهاء في مدى اختصاص القاضي المسلم فيما إذا كان طرفا الدعوى ذميين. وقد تناول العلماءُ – رحمهم الله تعالى- هذه المسألةَ بالبحث والبيان في مناسبات متعددة وأبواب متفرقة في كتبهم. وأوضحوا معالمها بالتفصيل، فلذلك نعرض أقوالهم وأدلتها بإيجاز.
أولاً- مذهب الحنفية:
فرَّق فقهاء الحنفية بين ما إذا كان موضوع الدعوى يتعلق بالنكاح، وما إذا كان يتعلق بغيره كالمعاملات والحدود والقصاص:(42/8)
أ ـ ففي المعاملات والمواريث وسائر العقود والتصرفات؛ يخضع أهل الذمّة للقضاء الإسلامي، وتطبق عليهم أحكام الإسلام كالمسلمين، سواء ترافعا كلاهما إلى القاضي المسلم أو أحدهما؛ لأنهم ملتزمون بأحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات المالية، إلا في بيع الخمر والخنزير، فإن ذلك جائز فيما بينهم، لأنهم يقرُّون على أن تكون مالاً لهم، ولو لم يجز مبايعتهم وتصرُّفُهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالاً لهم، ولَمَا وجب على مستهلكها عليهم ضمانٌ. وفيما عدا ذلك فإنهم يُحْمَلون على أحكام المسلمين؛ لقوله تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ([20]) . وفي هذه الآية الكريمة نسخ للتخيير في الآية السابقة لها، وهي قوله تعالى: { فإنْ جاءوكَ فَاحْكُمْ بينَهم أو أعْرِضْ عِنْهُمْ } . على رأي بعض العلماء، أو هي خاصة في غير أهل الذمة، والأولى في أهل الذمة، فلا نسخ فيهما.
وروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه كتب إلى أهل نجران :((إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله))([21]). فجعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حَظْر الربا ومنعهم منه كالمسلمين، قال الله تعالى: { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } ([22]). فأخبر أنهم منهيُّون عن الربا وأكل المال بالباطل، كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ([23]). فسوّى بينهم وبين المسلمين في المنع من الربا والعقود الفاسدة المحظورة، إذْ يقاس على الربا كلُّ ما يتعلق بحكم البيوع و الإجارات ونحوها من العقود والمعاملات.(42/9)
ب ـ وفي الحدود أيضاً : يجب على الإمام أن يحكم بينهم بأحكام المسلمين، فكلُّ ما وجب على الإمام أن يقيمه على المسلمين فيما أصابوا من الحدود، كالزنا أو القذف أو السرقة أو قطع الطريق= وجب عليه أن يقيمه على أهل الذمّة، غير ما استحلُّوا به في دينهم، كشربهم الخمر وما أشبهه، فإن ذلك يختلف حالهم فيه وحال المسلمين، فيعاقب المسلمون على ذلك، وأهل الذمّة لا يُعَاقَبون عليه، ما خلا الرجم في الزنا، فإنه لا يقام على أهل الذمّة، لأن الأسباب التي يجب بها الإحصان: أحدها الإسلام. فأما ما سوى ذلك من العقوبات الواجبات في انتهاك الحرمات، فإن أهل الذمّة كأهل الإسلام. و يجب على الإمام أن يقيمها عليهم، وإن لم يتحاكموا إليه، كما يجب عليه أن يقيمه على أهل الإسلام وإن لم يتحاكموا إليه.
والدليل على ذلك: حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم يهودياً و يهوديه حين تحاكموا إليه ([24]). ولم يجئ أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم عليهم إلا لأنهم تحاكموا إليه، فإن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إنما أخبر عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمه إذْ تحاكموا إليه، ولم يخبر عن حكمهم عنده قبل أن يتحاكموا إليه... وإنما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما بالرجم ، لأن ذلك كان الحكم في الزناة في شريعة موسى - عليه السلام - للمحصن وغير المحصن، ثمَّ نُسِخ ذلك في شريعتنا، فجعل الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، ولا يكون الرجل محصناً بامرأته، ولا المرأة محصنة بزوجها، حتى يكونا حُرَّيْن مسلمَيْن بالغَيْن، قد جامعها وهما بالغان. وممن قال بذلك كلِّه: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ ([25]).(42/10)
جـ ـ وكذلك يجب القصاص إذا ارتكب الذميُّ القتل عمدًا، إذا كان القتيل مسلمًا أو ذميًا. كما تجب الدية على الذميِّ في القتل الخطأ وشبه العمد، سواء كان القتيل مسلمًا أو من أهل الذمة. وحسبنا هنا هذه الإشارة دون التفصيل في مقدارها و نحو ذلك.
د ـ وأما في النكاح؛ فإن كلَّ نكاحٍ يجوز فيما بين المسلمين فهو جائز أيضًا فيما بين أهل الذمّة، لأنهم يعتقدون جوازه، ونحن نعتقد ذلك في حقِّهم أيضاً؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((بعثت إلى كل أحمر وأسود))([26])، وخطاب الواحد خطاب للجماعة.فما توافقنا في اعتقاده يكون ثابتاً في حقهم.
وأما ما لا يجوز من النكاح بين المسلمين، فإنَّه يتنوع إلى أنواع؛ كالنكاح بغير شهود، ونكاح المعتدة، ونكاح المحارم.. و فيه تفصيل وخلاف عند أئمة الحنفية: فقال أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إنه لا يحكم بين أهل الذمّة إلا أن يترافعا ويرضيا جميعاً، فعندئذٍ نحملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود، والنكاح في العدة من ذمي، وكذلك إذا أسلموا فإنهم يقرّون على أنكحتهم.
وقال الإمام محمد بن الحسن: إنهم يُخَلَّون وأحكامهم ما لم يترافعوا إلى قاضي المسلمين، فإذا ترافعا أو أحدهما، فإنه يحكم بينهما بحكم الإسلام إلا في النكاح بغير شهود، لأنه جائز عندهم وهم يتديَّنون به، وقد أُمِرْنا بتركهم وما يدينون إلا ما استثني من عقودهم ـ كالربا ـ وهذا غير مستثنى منها فيصح في حقهم، ولأن الشهادة ليست بشرط في بقاء النكاح على الصحة بدليل أنه لا يبطل بموت الشهود، فلا يجوز أن تكون شرط ابتداء العقد في حقِّ الكافر، لأن في الشهادة معنى العبادة. وما عداه من الأنكحة الفاسدة فإنه يفرّق بينهما فيه.(42/11)
وقال القاضي أبو يوسف: يحملون على أحكامنا وإن أبَوا إلا في النكاح بغير شهود، وذهب الإمام زُفَر إلى أن كل نكاح فَسَد بين المسلمين فسد في حقِّ أهل الذمّة، حتى لو أظهروه يعترض عليهم ويحملون على أحكامنا وإن لم يترافعوا إلينا، وكذا إذا أسلموا يفرَّق بينهما ([27]).
ثانيًا- مذهب الإمام مالك:
قال الإمام مالك: يخضع أهل الذمّة للقضاء الإسلامي، فيحملون في البيوع والمعاملات والحدود على حكم الإسلام إلا في الزنا، فإنه لا يحكم به فيما بينهم، فإن ترافعوا إلى القاضي المسلم كان مخيَّراً، إن شاء حكم وإن شاء ترك. فإن حكم بينهم حكم بحكم الإسلام، وإنما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرجم على اليهودي لأنه لم يكن له ذمة يومئذ.
و قال: الذمي إذا سَرَق قُطِع، وكذلك إذا قتل أو قطع يد ذمي، اقتصَّ منه، وإذا زنى لم يُحَدّ ويردّ إلى أهل دينه، فإن أعلن ذلك عزَّره الإمام.
وقال: إذا تظالم أهل الذمّة في مواريثهم: لم يُعْرَض لهم، ولا أحكم لهم فيما يحكم دينهم وإن تظالموا. لكن إن رضوا بحكمنا: حكمنا بينهم بحكمنا. وإذا طلَّق الذمي امرأته ثلاثاً فَرَفَعَتْهُ إلى الإمام: لم يَعْرِض لهما حتى يرضيا بحكمنا، فإن رضيا فالقاضي مخيَّر، وإن حكم بينهما حكم بحكم الإسلام ([28]).
ثالثًا- مذهب الشافعي:(42/12)
قال الإمام الشافعي: الذي أحفظ من قول أصحابنا وقياسه أنهم لا ينظرون فيما بين أهل الكتاب ولا يكشفونهم عن شيء من أحكامهم فيما بينهم، وأنهم لا يُلْزِمون أنفسهم الحكم بينهم إلا أن يتدارؤوا هم والمسلمون، فإن فعلوا فلا يجوز أن يحكم لمسلمٍ ولا عليه إلا مسلمٌ يحكم بحكم الإسلام، وكذلك لو ترافعوا إلى حكامنا هم ومستأمن لا يرضى حكمهم، أو أهل ملة وملة أخرى لا ترضى حكمهم، وإن تداعوا إلى حكامنا فجاء المتنازعون معاً متراضين ؛ فالحاكم بالخيار، إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم، وأَحبُّ إلينا أن لا يحكم، فإن أراد الحكم بينهم قال لهم قبل أن ينظر فيه: إني إنما أحكم بينكم بحكمي بين المسلمين، ولا أجيز بينكم إلا شهادة العدول المسلمين، وأُحرِّم بينكم ما يحرم في الإسلام من الربا وثمن الخمر والخنزير، وإذا حَكَمْتُ في الجنايات حكمتُ بها على عواقلكم برضا العاقلة([29]).
والحجة في ذلك: قوله تعالى: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } ([30]). فهي على المتنازعين لا على بعضهم دون بعض، مع قوله تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ([31]).
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: ((فسمعتُ من أرضى علمه يقول: وأن احكم بينهم إن حكمتَ...)) ([32]).
رابعًا- مذهب الحنابلة:
و قال الحنابلة: إذا تحاكم إلينا مسلم مع ذمي: وجب الحكم بينهم، لأن علينا حفظ الذمي من ظلم المسلم، وحفظ المسلم منه. وإن تحاكم بعضهم مع بعض، أو استعدى بعضهم على بعض: خُيِّر الحاكم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، فإن حكم بينهم لم يحكم إلا بالإسلام، وإذا استعدت المرأة على زوجها في طلاق أو ظهار أو إيلاء: فإن شاء حكم لها وإن شاء تركها، فإن حضر زوجها: حكم عليه بما يُحْكم على المسلم في مثل ذلك([33]).(42/13)
ويُقَرّ أهل الذمّة على الأنكحة الفاسدة بشرطين؛ أحدهما: ألا يتحاكموا إلينا، فإن تحاكموا إلينا لم نقرّهم على ما لا مساغ له في الإسلام، والثاني: أن يعتقدوا إباحة ذلك في دينهم، فإن كانوا يعتقدون تحريمه وبطلانه: لم نقرّهم عليه، كما لا نقرهم على الربا وقتل بعضهم بعضاً وسرقة أموال بعضهم. وقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين لما زنيا ([34]) .
المبحث لثاني
مدى خضوع المستأمنين للقضاء الإسلامي
تطبق القوانين الإسلامية على المستأمنين فيما يتعلق بالمعاملات المالية باتفاق العلماء، فإن المستأمن يمنع من التعامل بالربا لأن ذلك محرّم في القوانين الإسلامية، وكلُّ بيوعه ومعاملاته يطبق عليها النظام الإسلامي لأنه يتعامل مع المسلمين- كما تقدم قبل قليل - وحتى لو كان يتعامل مع الذميين والمستأمنين فإنه خاضع للأحكام الإسلامية لا يُحْكم بغيرها، لأن السيادة للدولة الإسلامية مفروضة على كل رعاياها.
وفي خضوع المستأمن للقضاء الإسلامي وتطبيق الأحكام عليه يفصِّل الفقهاء ويميزون بين ما إذا كان موضوع الدعوى أو الحكم يتعلق بالمعاملات المالية أو الدعاوى الجنائية من جهة، وبين ما كان من ذلك واقعاً في دار الحرب من جهة أخرى، وما إذا كانت تتعلق بواقعة في دار الإسلام. وهذه الحالات تتلخص في ثلاث.
أولاًـ مذهب الحنفية:
أوفى الإمام محمد بن الحسن الشيباني -رحمه الله- على الغاية في الإبانة عن ذلك؛ فاستحق أن نبدأ ببيان رأيه في الحالات الثلاث ومقارنته برأي الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف:(42/14)
(الحال الأولى): إن كان موضوع الدعوى من المعاملات المالية والجنايات قد جرت في دار الحرب، ثمَّ ترافع أصحابها إلى القاضي المسلم في دار الإسلام: فإنه لا ينظر فيها ولا يسمع الدعوى ولا يقضي بينهم، لأن القضاء فيها يستدعي الولاية، ولا ولاية له عليهم وهم في دار الحرب. لذلك قال: إذا خرج قوم من أهل الحرب مستأمنين لتجارة ـ ولرسالة من باب أولى ـ ودخلوا دار الإسلام، وقد كان لبعضهم على بعض دَيْنٌ في دار الحرب، فلا يعرض لما كان بينهم من هذه المداينات، ولا يؤخذ أحدٌ منهم بذلك الدَّين الذي كان في دار الحرب، لأنهم خرجوا مستأمنين، فلما دخلوا بالأمان لم يصيروا من أهل دار الإسلام، وقد كانت هذه المعاملة بينهم حين لم يكونوا تحت يد الإمام، فلذلك لا يسمع الخصومة في شيء من ذلك إلا أن يلتزموا حكم الإسلام، وذلك يكون بعقد الذمة، وهم ليسوا ذميين.
وكذلك لو كانت هذه المعاملات بينهم وبين مسلمٍ وهم في دار الحرب؛ فلو أن رجلاً مسلماً كان قد أدانهم في أرض الحرب أو أدانوه، أو غصبهم مالاً أو غصبوه، ثمَّ خرج الحربيُّ إلينا مستأمناً في دار الإسلام، فخاصم بعضهم بعضاً في ذلك إلى قاضٍ من قضاة المسلمين فلا ينظر في شيء من ذلك ولا يقضي به لأحدهما على الآخر، لانعدام الولاية.
و كذلك ما كان بينهم من قتل وجراحات في أرض الحرب، فإن ذلك كله باطل لا يقضي فيه، لأنهم فعلوا ذلك حيث لا تجري عليهم أحكام الإسلام.
أما إن كان بينهم شيء من ذلك وهم حربيون ثمَّ خرجوا إلينا مسلمين فيقضي بينهم بالدَّين، لأن تلك المداينة كانت صحيحة، ولا يقضي بالغصب، لأنه صادف ملكاً مباحاً فصار مِلْكاً له، وإنما يؤمر المسلم برد المغصوب بطريق الفتوى والديانة دون القضاء، فلا يجبر عليه في الحكم، لأن المِلْك الذي ثبت له مِلْك فاسد لما فيه من نقض العهد، فأشبه المشترى بشراء فاسد، وتجب التوبة منه ولا تتحقق التوبة إلا بردِّ المغصوب([35]).(42/15)
ونقل الإمام أبو جعفر الطبريُّ الإجماعَ على هذه المسألة فقال:((وأجمعوا أنَّ جناياتِ أهل الحرب بعضهم على بعض في دار الحرب، وغَصْبَ بعضهم بعضاً فيها قبل الإسلام موضوعةٌ، وأنْ ليس لحاكم المسلمين أن ينظر في ذلك إذا أسلموا أو دخلوا دار الإسلام بأمان؛ وكذلك حكم جناياتهم على المسلمين في الحروب وفي دار الإسلام وغصوبهم لهم إذا أسلموا أو دخلوا دار الإسلام))([36]).
(الحال الثانية): أن تكون تلك المعاملات المالية في دار الإسلام؛ فإن المستأمن إذا دخل دار الإسلام فإنه يخضع فيها للقضاء ويحكم عليه القاضي المسلم إذا ترافع إليه في ذلك. ولذلك قال الإمام محمد بن الحسن: وإن أدان بعضهم بعضاً في دار الإسلام، أو أدان لهم رجل من المسلمين، أو من أهل الذمة، أو أدانوه، فإنهم يؤخذون بذلك كله فيحكم لهم وعليهم، لأنهم كانوا تحت يد الإمام وولايته حين جرت هذه المعاملات بينهم، وما أمّنَّاهم ليظلم بعضهم بعضاً، بل التزمنا لهم أن نمنع الظلم عنهم، فلهذا تسمع الخصومة التي جرت بينهم في دار الإسلام كما لو جرت بين المسلمين ([37]).
وقال أيضاً ـ وهو قول الشيخين أبي حنيفة وأبي يوسف ـ : لو أن ناساً من أهل الحرب خرجوا إلينا بأمان فأدان بعضهم بعضاً ثمَّ اختصموا في ذلك إلى قاضٍ من قضاة المسلمين قضى لبعضهم على بعض بذلك وحبس بعضهم لبعض فيما يلزمهم من الدَّين. وكذلك لو اغتصب بعضهم بعضاً واستُهْلك الغصب أو كان قائماً ثمَّ خاصم المغصوب الغاصب في ذلك إلى قاضٍ من قضاة المسلمين قضى عليه بالغصب المستهلك والقائم وحبسه له به ([38]).
(الحال الثالثة): أن تكون القضايا الجنائية مما وقع في دار الإسلام؛ فإن المستأمن يخضع فيها لأحكام القضاء الإسلامي ويستوفى منه ما كان متعلقاً بحقوق العباد، ويدرأ عنه الحدُّ إذا كان من حقوق الله تعالى([39]). ولا يعني هذا أن يفلت من العقوبة، بل إنه يوجع عقوبةً إن درئ عنه الحد أو سقط عنه.(42/16)
وفي هذا يقول الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: لو أنَّ ناساً من أهل الحرب خرجوا إلينا بأمان فزنى بعضهم أو سرق: درئ عنه الحدّ وضمن السرقة؛ لأنهم لم يصالحوا ليكونوا ذمة تجري عليهم أحكام الإسلام.
و لو قتل رجل منهم رجلاً من المسلمين: قُتِل به، وإن قذف رجلاً من المسلمين رجلٌ منهم: ضُرِب الحدّ. وإن زنى رجل منهم بامرأة من المسلمين: درئ عنه الحد ([40]) وأُوْجِع عقوبةً ([41]). و لو أن بعضهم قطع يد رجل من المسلمين: قطعت يده …
ولو أنَّ مسلماً قتل بعضَهم: درئ عنه القتل وضمن الدية في ماله إن كان القتل عمداً، وإن كان خطأ: كان على عاقلته الديةُ وكانت عليه الكفارة، وهو في هذا ليس بمنزلة أهل الذمة الذين يُقْتَصّ لهم، لأنه محارب لا تجري عليه الأحكام والحدود، فما أصاب الذميُّ والمسلم من هذا المستأمن من قطع يدٍ أو قتل فلا قصاص. وكذلك لو أن مسلماً قطع يد بعضهم أو رجله أو فقأ عينه أو قتل ابنه متعمداً: درئ عنه القتل والقصاص وكان عليه الأَرْش([42]) في ماله، وإن فعل ذلك خطأ كان على عاقلته.
و لو أن مسلماً اغتصب من بعضهم غصباً أو مالاً أو عَرَضاً فاستهلكه أو كان قائماً: قضى على المسلم بردِّه وأجبر على دفع ذلك إليه. و كذلك لو استدان مسلم من بعضهم ديناً أُجبر على ردّه. ولو أن مسلماً زنى بامرأة منهم دخلت إلينا بأمان: أُقيم عليه الحدُّ ودرئ عن المرأة. ولو سرق مسلم من بعضهم سرقة: درئ عنه القطع وضمن السرقة. و كذلك لو أن رجلاً من هؤلاء الحربيين المستأمنين قتل رجلاً من أهل الذمة أو قطع يده متعمداً: اقتصّ منه. ولو أن الذميّ قتل الحربيّ أو قطع يده متعمداً: ضَمِنَ الأَرْش ولم يقتصَّ منه ([43]).(42/17)
و وقع خلاف في هذه المسألة بين أئمة الحنفية الثلاثة في القضايا الجنائية: وحاصل المسألة ـ كما يقول ابن الهمام ـ أنه إذا زنى الحربي المستأمن بالمسلمة أو الذمية فعليهما الحدُّ دون الحربيِّ في قول أبي حنيفة.وقال أبو يوسف أولاً: لا حدَّ على واحد منهما. ثمَّ رجع فقال : عليهما الحدُّ جميعاً. وقال محمد بقوله الأول، فصار فيها ثلاثة أقوال: قول أبي حنيفة: تحدُّ المَزْنِيُّ بها المسلمة والذمية، وقول محمد: لا يحد واحد منهم، وقول أبي يوسف: يحدُّون كلهم.
وتقييد المسألة بالمسلمة والذمية لأنه لو زنى بحربية مستأمنة لا يُحدُّ واحد منهما عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يحدَّان ـ ذكره في((المختلف)) ـ وإن زنى المسلم أو الذميُّ بالحربية المستأمنة حُدَّ الرجل في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف : يُحدَّان جميعاً.
و الأصل: عند أبي حنيفة ومحمد: أنه لا يجب على الحربيّ حدٌّ من الحدود سوى حدّ القذف؛ فلا يجب عليه حدّ زنا ولا سرقة ولا شرب خمر. وعند أبي يوسف: يجب الكلُّ إلا حدّ الشرب. فحدُّ الشرب لا يجب اتفاقا، لأنه يعتقد حلَّه. وحدُّ القذف يجب عليه اتفاقاً لأن فيه حق العبد.
واختلفوا في حدِّ الزنا والسرقة؛ فعند أبي يوسف يجب، وعندهما لا يجب. وجه قول أبي يوسف: أن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات والسياسات كما أن الذميّ التزمها مدة عمره، ولهذا يحدّ للقذف، ويقتل قصاصاً، ويمنع من الزنا وشراء العبد المسلم والمصحف، ويجبر على بيعهما، بخلاف حد الشرب لأنه معتقد إباحته ديناً.(42/18)
ووجه قول أبي حنيفة ومحمد: أنه لما لم يدخل للقرار بل لحاجةٍ يقضيها ويرجع وعلينا أن نمكّنه من الرجوع بشرطه، لم يكن بالاستئمان ملتزماً جميع أحكامنا في المعاملات، بل ما يرجع منها إلى تحصيل مقصده وهو حقوق العباد، غير أنه لابدّ من اعتباره ملتزماً الإنصاف وكفَّ الأذى، إذ قد التزمنا له بأمانه مثل ذلك، والقصاص وحدّ القذف من حقوقهم، فلزماه. أما حدّ الزنا فخالص حقِّ الله سبحانه، وكذا المغلَّب في السرقة حقّه، ولم يلتزمه، وصاحبه ـ تعالى ـ مَنَعَنا من استيفائه عند إعطاء أمانه، بخلاف المنع من شراء العبد المسلم والمصحف والإجبار على بيعهما فإنه من حقوق العباد، لأن في استخدامه قهراً وإذلالاً للمسلم وكذلك في استخفافه بالمصحف، والزنا مستثنى من كلِّ عهودهم.
ولمحمدٍ ـ وهو الفرق بين المسلم أو الذمي إذا زنى بمستأمنة حيث يجب الحد عنده على الفاعل، وبين المسلمة أو الذمية إذا زنت بمستأمن حيث لا يجب الحد عنده عليها ـ : أن الأصل في الزنا فعل الرجل، والمرأةُ تَبَعٌ، لكونها محلاً للفعل، فامتناع الحدِّ في حقّ الأصل يوجب امتناعه في التَّبَع، بخلاف امتناعه في التبع، لا يوجب امتناعه في حق الأصل …
ولأبي حنيفة: أن فعل المستأمن زنا، لكونه مخاطباً بالحرمات كحرمة الكفر والزنا في حقِّ أحكام الدنيا ـ على ما هو المختار، بخلاف قول العراقيين ـ إلا أنه امتنع حدّه، لأن إقامته بالولاية، والولاية مندفعة عنه بإعطاء الأمان إلا فيما التزمه من حقوق العباد، فقد مكّنت من فعلٍ هو زنا لا قصور فيه. وهو الموجب للحد عليها ([44]).
ثانيًاـ مذهب الإمام الشافعي:(42/19)
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ بمثل قول الإمام محمد في التفريق بين ما كان حقاً لله وما كان حقاً للعبد، فقال:(( إذا خرج أهل دار الحرب إلى بلاد الإسلام بأمانٍ فأصابوا حدوداً، فالحدود عليهم وجهان: فما كان منها لله لا حقَّ فيه للآدميين، فيكون لهم عَفْوُه وإكذابُ شهودٍ شهدوا لهم به، فهو معطَّل لأنه لا حقَّ فيه لمسلم، إنما هو لله. ولكن يقال لهم: لم تؤمَّنوا على هذا، فإن كففتم وإلا رددنا عليكم الأمان وألحقناكم بمأمنكم. فإن فعلوا ألحقوهم بمأمنهم ونقضوا الأمان بينهم و بينهم. وكان ينبغي للإمام إذا أمَّنهم ألاّ يؤمِّنهم حتى يعلمهم أنهم إن أصابوا حداً أقامه عليهم.
وما كان من حدٍّ للآدميين أقيم عليهم. ألا ترى أنهم لو قتلوا قتلناهم؟ فإذا كنا مجتمعين على أن نقيد منهم حدَّ القتل لأنه للآدميين، كان علينا أن نأخذ منهم كلَّ ما كان دونه من حقوق الآدميين، مثل القصاص في الشجَّة وأَرْشها، ومثل الحد في القذف.
و القول في السرقة قولان: أحدهما أن يقطعوا ويغرموا، مِن قِبَل أنّ الله عزَّ وجلَّ منع مال المسلم بالقطع، وأن المسلمين غرَّموا من استهلك مالاً غير السرقة. وهذا مال مستهلكٌ فغرّمناه قياساً عليه. والقول الثاني: أن يغرم المال ولا يقطع، لأن المال للآدميين والقطع لله)).
ثمَّ بيَّن سبب التفريق بين النوعين من الحدود فقال:(( فإن قال قائل: فما فرقٌ بين حدود الله وحدود الآدميين؟ قيل: أرأيت الله عزَّ وجلَّ ذكر المحارب وذكر حدَّه ثمَّ قال: { إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } ([45]). و لم يختلف أكثر المسلمين في أن رجلاً لو أصاب لرجلٍ دماً أو مالاً ثمَّ تاب أُقيم عليه ذلك. فقد فرَّقنا بين حدود الله -عزَّ وجلَّ- وحقوق الآدميين بهذا و بغيره)) ([46]).(42/20)
وكما أن أبا حنيفة لا يرى إقامةَ الحدِّ إذا كان فيه قتل للرسول (السفير أوالمبعوث السياسي)، فإن الشافعية أيضاً قالوا:(( لا يجوز قتل رسول الكفار)) ([47]) .
الخلاصة: والذي ننتهي إليه في خضوع المستأمن للقضاء الإسلامي والحكم عليه أن هناك مذاهب يمكن إجمالها في ثلاثة:
أحدها: أن تقام عليه الحدود كلها إذا رفعت إلى القاضي المسلم إلا حدّ الشرب. وهذا مذهب الأوزاعي وأبي يوسف في رأيه الثاني الذي ذكره في كتابه((الخراج)).
والثاني: لا تقام الحدود عليهم إلا حدّ القذف، وإن كانوا يضمنون السرقة ويعاقبون بما دون الحدّ، وهو مذهب أبي حنيفة وقال به أبو يوسف أولاً كما في((الرد على سير الأوزاعي)).
والثالث: مذهب الإمام محمد بن الحسن والشافعي في التفريق بين ما كان حقاً لله من الحدود فلا يقام عليهم، وبين ما كان حقاً للعبد فيقام عليهم. وهناك تفصيلات في كل مذهب من هذه المذاهب تطلب في مظانِّها التي أشرنا إليها في ثنايا البحث.
القانون الواجب التطبيق على غير المسلمين:
تقدم أن غير المسلمين يخضعون للقضاء في الدولة الإسلامية، ويجب على القاضي المسلم أن يحكم بينهم – بشكل عام- إذا ترافعوا إليه، أو ترافع أحدهما. و هنا لا بد من بيان القانون الذي يطبق عليهم. فهل يحكم القاضي عليهم بحكم الإسلام، أم يحكم بما هو في شريعتهم؟ و هل يجوز أن يتولى غير المسلمين القضاء في أمورهم الشخصية في الدولة الإسلامية؟(42/21)
ومما تقدم آنفًا في عرض مذاهب الفقهاء وأقوالهم، نخلص إلى اتفاقهم على أن القاضي المسلم لا يجوز أن يحكم بغير شريعة الإسلام، سواء كان الحكم بين المسلمين، أو بين المسلمين وغير المسلمين، أو كان بين غير المسلمين من أهل الذمة أو المستأمنين الذين يسمَّون في الأنظمة المعاصرة بالأجانب. أي سواء كان أطراف القضية من المسلمين، أو كان أحد طرفيها مسلمًا و الطرف الآخر غير مسلم، أو كان الطرفان غير مسلمين. و ذلك لأن غير المسلمين لما ترافع أحدهم إلى القاضي المسلم فقد رضي بحكم الإسلام، فيلزم إجراء حكم الإسلام في حقه. وأما بالنسبة للقاضي المسلم فإنه لا يجوز أن يحكم بغير أحكام الإسلام، لأنه مخاطب بذلك ابتداء، كما في قوله تعالى: { وأنزلنا إليك الكتابَ بالحقِّ مصدِّقًا لما بين يديهِ من الكتابِ ومُهَيمنًا عليه فَاحكمْ بينهم بما أنزلَ اللهُ ولا تَتَّبعْ أهواءَهم عمَّا جاءكَ من الحقِّ لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجًا([48] ) } . و النصوص في ذلك من الكتاب و السنة كثيرة متضافرة([49]).
هذا، وقد ذهب الحنفية إلى جواز أن يقلَّد غير المسلمين القضاء بينهم في قضاياهم؛ لأن لهم ولاية على بعضهم، وإذا جازت شهادة بعضهم على بعض فإنه يجوز قضاؤهم على بعض، وقد جرى العرف في الدولة الإسلامية على ذلك. أما جمهور الفقهاء فقد منعوا من تولية غير الملم للقضاء، حتى ولو كان بين غير المسلمين، لأنهم يشترطون في القاضي أن يكون مسلمًا على الإطلاق، ولأن القانون الواجب التطبيق في دار الإسلام هو أحكام الشريعة الإسلامية، ولا يقوم بتطبيقها وتنفيذها إلا المسلم.
ويمكن الجمع بين الرأيين بأن الأصل عدم تقليد غير المسلم القضاء باعتباره ولايةً عامة، ولكن لو كان ذلك نوعًا من التحكيم أو الرياسة والزعامة بين أهل دينه، في ظل الولاية الإسلامية العامة والخضوع لها: فإنه يجوز، على ما أشار إليه الماورديُّ في حكايته لقول الإمام أبي حنيفة([50]) والله أعلم.(42/22)
المبحث الثالث
مدى خضوع غير المسلمين للقضاء في العصر الحاضر
تلكم هي أقوال الفقهاء ومذاهبهم، أما ما عليه العمل في العصر الحاضر من حيث مدى خضوع غير المسلمين للقضاء الإسلامي، ومن حيث القانون الواجب التطبيق عليهم؛ فيمكن أن نعود فيه إلى أواخر عهد الدولة العثمانية، ثم نضرب بعض الأمثلة على ذلك من قوانين أو أنظمة بعض البلاد الأخرى من الدول العربية.
أ ـ أما الدولة العثمانية: فقد كان رعاياها مؤلفين من أقوام مختلفين في العنصر والدين والمذهب، كما هو الحال في الدولة الإسلامية منذ عصورها الأولى، فنشأت في الدولة الإسلامية مسألة الأقليات غير المسلمة ومسألة الأجانب. والأجانب بالتعبير المعاصر يعني من لا يحمل جنسية الدولة أو رعويتها، وهو يقابل المستأمن في الفقه الإسلامي.
فالأقليات غير المسلمة كانت تتمتع في مسائل الأحوال الشخصية بامتيازات قضائية، وفقًا للمبدأ الإسلامي في التسامح مع أهل الذمة وعدم الإكراه في الدين. وتأيدت هذه الامتيازات بعهود ومعاهدات لاحقة عديدة. وكذلك كان الأجانب يتمتعون بامتيازات خاصة منذ القديم، وكانت تتجدد في بدء كل خلافة بمعاهدات متتابعة متشابهة.(42/23)
و كانت هذه المعاهدات ـ بوجه عام ـ تحوي الإعفاء من الضرائب، والحصانة من سلطة المحاكم العثمانية ومن التشريع المحلي في مسائل الأحوال الشخصية وفي سائر القضايا التجارية والمختلطة. وكانت بعض هذه المعاهدات تعطي بعض الدول الأجنبية الحقَّ بحماية رعايا دول أخرى. وهكذا تحولت الامتيازات التي كانت تستند إلى أسباب تجارية، فأصبحت وسيلة للتدخل الأجنبي في أمور الدولة بزعم حماية الأقليات غير المسلمة. وهكذا تشابكت قضية الجانب بقضية هذه الأقليات، بسبب وحدة الدين بين الفئتين، وازداد هذا التدخل في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. واعتباراً من سنة 1914م ألغت الدولة العثمانية الامتيازات الأجنبية، واعترفت الدول الأجنبية بذلك في معاهدة لوزان المؤرخة في 24 تموز1923م، وفي السنة التالية أُلغيت الخلافة ومنصب شيخ الإسلام(المفتي العام) والمحاكم الشرعية،واستبدلت بالأحكام الشرعية الإسلامية قوانين مترجمة عن القوانين الأوربية بلا تعديل يذكر([51]).(42/24)
ب ـ و أما في مصر: فقد كان القضاءُ الشرعيُّ قديمًا القضاءَ العادي الوحيد في مصر، ولكن إبان العهد العثماني تألفت المحاكم النظامية، وضيق اختصاص المحاكم الشرعية تدريجيًا. وعلى أثر تأسيس المحاكم المختلطة والقنصلية، تنظمت المحاكم الأهلية بلائحة أولى في سنة 1883، وأعيد تنظيمها بلائحة ثانية، ولما أُلغيت المحاكم المختلطة سنة 1949، أصبحت المحاكم الأهلية المحاكمَ العادية الوحيدة في مصر. و بصدور القوانين الجديدة وتنظيم المحاكم الأهلية والمختلطة، انحصر اختصاص المحاكم الشرعية وأحكام الشريعة بقضايا الأحوال الشخصية، للملمين فقط، فأصبحت في صف واحد هي ومحاكم الأحوال الشخصية للطوائف المسيحية والإسرائيلية المصرية، وإن يكن اختصاصها فيما بقي لها أوسع قليلاً من اختصاص المحاكم المذكورة. وفي هذه المرحلة تبدل الحال تمامًا حيث لم يعد يشترط في القاضي في الدولة الإسلامية أن يكون مسلمًا.
وأما غير المسلمين من المصريين، فكل طائفة منهم تخضع في مسائل الأحوال الشخصية إلى قانونها الخاص وإلى مجلس ملَّتها. أما قضايا الأحوال الشخصية المتعلقة بالأجانب(غير المصريين)، فإنها أصبحت بعد إلغاء المحاكم المختلطة من اختصاص المحاكم الأهلية المدنية([52]).
ويتلخص مركز الأجانب (وهم المستأمنون بالتعبير الفقهي الإسلامي) في مصر ـ قبل التقنينات الحاليةـ في أنه كان في بداية الأمر يسري عليه ما يسري على غير المسلمين عامة، أي إنه كان يعامل معاملة أهل الذمة المصريين باعتباره غير مسلم، ثم في فترة لاحقة وفي ظل الامتيازات الأجنبية خضع للمحاكم القنصلية، ثم للمحاكم المختلطة كمرحلة أولى في سبيل إخضاع الأجنبي لولاية القانون الوطني المصري، ثم في مرحلة أخيرة وبإلغاء الامتيازات الأجنبية، أصبح في ولاية القضاء المصري.(42/25)
فالمستأمن، بعد أن دخلت التشريعات الوضعية وحلَّت محل أحكام الفقه الإسلامي، أصبح يعامل في مصر بصفته هذه – أجنبياً- وهو بهذه الصفة بالنسبة لمدى خضوعه لولاية القضاء المصري يتحدد مركزه بناء على قواعد القانون الدولي الخاص، و بالتحديد طبقًا لقواعد الاختصاص القضائي الدولي التي تحدِّد اختصاص المحاكم المصرية إزاء غيرها من محاكم الدول الأخرى بالنسبة للمنازعات لتي تتضمن عنصرًا أجنبيًا، وبالتالي يخضع لولاية القضاء المصري إذا توفر في حقه أحد الضوابط المنصوص عليها في هذه القواعد، والتي بموجبها يخضع لولاية القضاء المصري. هذا عن مدى جواز خضوع الأجانب لولاية القضاء المصري في الماضي و الحاضر. و ما هو معمول به حاليًا هو أن القانون المصري –كغيره من القوانين- يميز في هذا الصدد بين المصريين والأجانب، لا بين المسلمين وغير المسلمين ([53]).
أما القانون الواجب التطبيق في قضاياهم (الأجانب) في الوقت الحاضر؛ فيتم تحديده وفقًا لقواعد القانون الدولي الخاص، سواء من خلال قواعد الإسناد التي تعتبر الوسيلة الفنية التقليدية في حلِّ تنازع القوانين؛ إذ تشير إلى القانون الواجب التطبيق على العلاقة ذات الطابع الدولي، أو من خلال إحدى القواعد الموضوعية، إذا كانت العلاقة محل النزاع مما يخضع لهذه القواعد. أي: إن القانون الواجب التطبيق في قضايا الأجانب يتحدد وفقًا لقواعد القانون الدولي الخاص([54]).(42/26)
ج ـ وفي المملكة العربية السعودية: فإن مذهب الإمام أحمد بن حنبل هو المذهب السائد فيها والمعمول به في المحاكم الشرعية، ولما صدرت أخيرًا الأنظمة العدلية، ومنها: نظام المرافعات الشرعية، ونظام الإجراءات الجزائية= نصَّت المادة الخامسة والعشرون من نظام المرافعات على أنه " تختص محاكم المملكة بنظر الدعاوى التي ترفع على غير السعودي الذي له محل إقامة عام أو مختار، فيما عدا الدعاوى العينية المتعلقة بعقار خارج المملكة". وهذا بعمومه وإطلاقه يدخل فيه غير المسلم. و كذلك نصت المادة السادسة و العشرون على أنه " تختص محاكم المملكة بنظر الدعاوى التي ترفع على غير السعودي الذي ليس له محل إقامة عام أو مختار، في المملكة في الأحوال الآتية: أ – إذا كانت الدعوى متعلقة بمال موجود في المملكة أو بالتزام تعتبر المملكة محل نشوئه أو تنفيذه.ب ـ إذا كانت الدعوى متعلقة بإفلاس أُشْهِر في المملكة"([55]).
هذا من حيث مدى خضوع غير المسلمين للقضاء في المملكة، وأما من حيث القانون الواجب التطبيق؛ فقد جاء النص في المادة الأولى من نظام المرافعات الشرعية، والمادة الأولى أيضًا من نظام الإجراءات الجزائية على أنه "تطبِّق المحاكمُ على القضايا المعروضة أمامها أحكامَ الشريعة الإسلامية، وفقًا لما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وما يصدره وليُّ الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة"([56]).
هذا، و المعمول به في محاكم المملكة أن حكم الإسلام لازم لغير المسلمين في معظم القضايا، من غير تفريق بين أحوال شخصية وغيرها([57]).
د ـ وفي دولة الإمارات العربية المتحدة: جاء اختصاص المحاكم من الناحية الدولية منسجمًا ومتفقًا مع سيادة الدولة على أرضها، وولاية القضاء تتبع الإقليم في الأصل، وبالتالي فإن كل مقيم على أرض الدولة مشمول باختصاصها إلا ما استثني لسبب أو نص أو اتفاق، سواء كان المقيم مواطنًا أو أجنبيًا يطأ أرض الدولة.(42/27)
واستثنى قانون الإجراءات المدنية الدعاوى العينية المتعلقة بعقار خارج الدولة. وكذلك يخرج عن اختصاص القضاء في الدولة أيضًا: أمورٌ لا يجوز النظر فيها لاعتبارات خاصة، ومنها:
أ ـ أعمال السيادة، وهي الأعمال التي تصدر عن السلطة التنفيذية باعتبارها سلطة حكم، وذلك كالعلاقة بين الدولة والدول الأخرى في حالتي السلم والحرب، والتوقيع على المعاهدات، والتصديق عليها، وتفسيرها.
ب ـ المتمتعون بالحصانة القضائية، وهم رؤساء الدول، والبعثات الدبلوماسية والعاملون في المنظمات الدولية، فلا ترفع عليهم دعوى جنائية، وكذلك في المسائل الإدارية والمدنية إلا ما استثني في العقار غير المخصص للبعثة الرسمية ودعاوى الميراث، والدعاوى المتعلقة بنشاط مهني أو تجاري يقوم به لممثل الدبلوماسي في الدولة الموفد إليها خارج نطاق عمله الرسمي.
وفي الدعاوى الجزائية لا يثار موضوع الاختصاص الدولي للمحاكم الجزائية؛ لأن اختصاصها يتعين بالمكان الذي وقعت فيه الجريمة، مهما كانت جنسية المتهم، على ما نصت عليه المادة (142) من قانون الإجراءات الجزائية([58]).
مقارنة:
ولعله من المفيد هنا الإشارة سريعًا إلى ما عليه العمل في بعض القوانين الغربية في مجال تطبيق القوانين على الأجانب، لبيان ما فيها من المفارقات والموافقات، وأجتزئ بما نقله الشيخ سبد عبد الله حسين – رحمه الله- في كتابه النفيس الفريد (( المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي))، وهو مقارنة بين القانون الفرنسي والفقه المالكي بخاصة، قال فيه:
((القانون الفرنسي: القوانين الخاصة بالبوليس والأمن العام تطبق على جميع المقيمين على الأرض الفرنسية بلا فارق بين أجنبي أو فرنسي.
والقوانين المتعلقة بالنظام العام من الأحوال الشخصية، كزواج غير واحدة، تطبق على الجميع أيضًا.(42/28)
والقوانين المتعلقة بالأهلية أو الأحوال الشخصية: تطبق على الفرنسيين فقط دون الأجانب، والقوانين الخاصة بالأملاك الشخصية العقارية تسري عليها القوانين الفرنسية، والمنقول يطبق عليه القوانين الفرنسة أيضًا خصوصً القاعدة (وضع اليد دليل الملكية) إلا إذا كان لمنقول ضمن ميراث، فيطبق عليه قانون التركة، وهو محل وجودها.
و القوانين المتعلقة بأهلية الشخص: ينفذ القانون الفرنسيُّ على الفرنسيِّ فقط، ولو كان خارجًا عن أرض فرنسا، فيكون عمله قانونيًا في فرنسا.
و يرى علماء القانون تطبيق قانون الأجنبي في أحواله الشخصية بشرط عدم مخالفته للقانون الفرنسي فيما يعتبر من النظام العام، كزواج المسلم بغير واحدة على أرض فرنسا، فهو ممنوع.
والقوانين الخاصة بالشروط المطلوبة في الإشهادات القضائية يعمل بما هو مطلوب قانونًا بقانون محل سماع الإشهاد.
والقوانين الخاصة بتنفيذ العقود وبالاتفاق تسري أولاً شروط المتعاقدين فيما اتفقا عليه، وإلا فيسري قانون محل التعاقد))([59]).
الخاتمة
و الذي ننتهي إليه بعد هذا العرض: أن جملة من النتائج يمكن تسجيلها باختصار:
- القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية، وفي واقع الأمة الإسلامية في عصورها السابقة هي وحدة هذه الأمة التي تنشأ عن وحدة العقيدة والدين، ووحدة التشريعات والقانون؛ لأن الإسلام دين التوحيد ودين الوحدة، وهذا ما تنطق به النصوص الشرعية المتواترة، وكان الواقع العمليُّ شاهدًا على ذلك.(42/29)
- في العصور الأخيرة، ولأسباب داخلية وخارجية متضافرة، بدأ انحسار تطبيق الشريعة الإسلامية بمفهومها الواسع الشامل، فوقع التباين بين أحكام الشريعة وبين تشريعات بعض البلاد الإسلامية وأنظمتها؛ مما يوجب على كل من بيده شيء من الأمر، وفي كل موقع من مواقع العمل و المسؤولية، أن يعمل على إزالة هذا التناقض، لتعود الأمة سيرتها الأولى، وبذلك تأخذ النصوص الدستورية في تلك البلاد طريقها للنفاذ والإعمال، وتتفق معها سائر التشريعات و الأنظمة، ويزول التناقض.
- القضاء ولاية عامة في الدولة الإسلامية، ولا يجوز تقليده لغير المسلم فيها. وهذا الجانب أيضاً نجد فيه تباينًا بين الحكم الشرعي والواقع العملي في كثير من البلاد، حيث يتولى فيها غير المسلمين القضاء بين المسلمين أنفسهم.
- مركز الأجانب ، وهم المستأمنون بالمصطلح الفقهي، وتحديده في الإسلام ـ كما تقدم ـ يشير إلى المستوى الرفيع من العدل الذي قامت به السماوات و الأرض ومن أجله أنزل الله تعالى الشرائع وبعث الرسل و الأنبياء، والتوازن بين الحقوق و الواجبات في الدولة الإسلامية، وبين سلطة الدولة وحقوق من يقطنون فيها ويقيمون على أرضها.
- قيام الدولة العصرية على أسس غير دينية، أو استبعاد الدين من أن يكون له أثر في النظم والتشريعات بعامة ماعدا بض الجوانب كالأحوال الشخصية، كان له أثره في القضاء وفي الولاية عليه وفي القوانين و التشريعات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع
(مرتبة على حروف الهجاء دون اعتبار للألف واللام)
أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي المالكي، تحقيق البجاوي، مطبعة عيسى الحلبي، 1394 هـ.
أحكام القرآن، لإِلْكِيَا الهَرَّاسي الطبري الشافعي، دار الكتب الحديثة بالقاهرة ، 1974م.
أحكام القرآن، لأبي بكر الرازي الجصَّاص، عن طبعة مطبعة الأوقاف بالآستانة، 1325 هـ.(42/30)
أحكام القرآن، للإمام الشافعي، تحقيق أستاذي الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق، 1371 هـ.
أحكام أهل الذمة، لابن قيم الجوزية، تحقيق د. صبحي الصالح، دار العلم للملايين، 1401هـ
أحكام أهل الملل من الجامع لعلوم الإمام أحمد، للخلاّل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414هـ.
اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، لأبي يوسف القاضي، مطبعة الوفاء بمصر، 1358هـ.
اختلاف الفقهاء، للإمام الطبري، كتاب البيوع، تحقيق فردريك كرن، دار الكتب العلمية، بيروت.
اختلاف الفقهاء، للإمام الطبري، كتاب الجهاد والجزية، تحقيق يوسف شاخت، ليدن، 1933م.
أدب القاضي، لابن القاص الطبري الشافعي، تحقيق د. حسين الجبوري، الطائف، 1409هـ.
إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمة، للشيخ محمد بخيت، المطبعة السلفية،1349هـ.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، 1399هـ.
أصول السرخسي، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدرآباد، 1372م.
أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني، د.عثمان ضميرية، دار المعالي بالأردن،1419هـ.
أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات، أ.د.محمد الزحيلي، جامعة الشارقة، 1425هـ.
أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لابن الطلاَّع القرطبي المالكي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1402هـ.
الآثار للإمام محمد بن الحسن الشيباني، دار القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي، 1407 هـ.
الآثار، لأبي يوسف القاضي، تحقيق أبو الوفا الأفغاني، دار الكتاب العربي بمصر 1355 هـ.
الإجماع، لابن المنذر النيسابوري، تحقيق حنيف صغير، دار طيبة، الرياض، 1402 هـ.
الأحكام السلطانية، لأبي يعلي الفرَّاء الحنبلي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1393هـ.
الأحكام السلطانية، لأبي الحسن الماوردي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1393.(42/31)
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، للقراقي المالكي، نشره عزت العطار، القاهرة 1938م.
الأصل ( أو المبسوط )، للإمام محمد بن الحسن الشيباني، دار القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي.
الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، للحازمي، دار الوعي بحلب، 1403 هـ.
الأم، للإمام الشافعي، طبعة الشعب ، مصورة عن طبعة بولاق، 1321 هـ.
الأوضاع التشريعية في الدول العربية،د. صبحي محمصاني، دار العلم للملايين، بيروت1989م.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نُجَيم المصري الحنفي. دار المعرفة، بيروت ، 1311.
البناية شرح الهداية، لبدر الدين العيني.دار الفكر، بيروت، 1400 هـ.
البيان والتحصيل، لابن رشد الجد، بعناية الشيخ عبد الله الأنصاري، دولة قطر، 1404.
التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة. دار التراث العربي، القاهرة 1977م.
التعامل بالربا بين المسلمين وغير المسلمين، د. نزيه حمّاد. بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الكويت، عدد ربيع الآخر، 1987.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، وزارة الأوقاف بالمغرب، 1387 هـ.
الجامع لأحكام القرآن، الطبعة الثانية، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية.
الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد ابو زهرة. دار الفكر العربي، 1976.
الجوهر النقي في التعليق على سنن البيهقي، لابن التركماني مطبوع من السنن.
الحجة على أهل المدينة، للشيباني. طبعة إحياء المعارف النعمانية، 1385 هـ.
الخراج، لأبي يوسف القاضي، المطبعة السلفية بالقاهرة، 1392 هـ.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الفكر، بيروت، 1403 هـ.
الربا والمعاملات المصرفية، د. عمر المترك. دار العاصمة، الرياض، 1417.
الرد على سِيَر الأوزاعي، لأبي يوسف، لجنة إحياء المعارف النعمانية بالهند، 1357هـ.
السنن الكبرى، للبيهقي، بيروت، مصورة عن طبعة الهند، 1346 هـ.(42/32)
السياسة الشرعية، لابن تيمية، دار الكتب العربية، بيروت 1386 هـ.
الشرح الصغير على أقرب المسالك، للدِّردير، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، مطبعة المدني، 1381 هـ.
العزيز شرح الوجيز، المعروف بالشرح الكبير، للرافعي، بيروت، 1417 هـ.
الفتاوى الهندية في مذهب الإمام أبي حنيفة، لنظام الدين وجماعة من العلماء، بولاق، 1310.
الفواكه البدرية في الأقضية الحكمية، لابن الغرس الحنفي، مطبعة النيل، 1326 هـ.
القَبَس شرح الموطأ، لابن العربي، تحقيق د.محمد عبدالله ولد كريم، 1992 م.
القواعد الكبرى، لابن عبد السلام، تحقيق د. نزيه حماد،عثمان ضميرية، دار القلم بدمشق 1422هـ.
القوانين الفقهية، لابن جزئ الغرناطي، شركة الطباعة الفنية بالقاهرة، 1395هـ.
51. اللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية، بمجلة العدل، تصدر عن وزارة العدل بالسعودية،
العدد(15)السنة الرابعة1423هـ.
المبدع شرح المقنع، لابن مفلح المقدسي، المكتب الإسلامي، بيروت.
المبسوط، لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة، بيروت، مصور عن الطبعة الأولى بمصر.
المجموع شرح المهذب، للنووي، مع تكملته، مطبعة الإمام، ومطبعة العاصمة.
المحلّى، لابن حزم الظاهري، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث بالقاهرة.
المدونة، للإمام مالك بن أنس، دار صادر، بيروت، مصورة عن مطبعة السعادة.
المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، دار المعرفة، عن طبعة الهند، 1334 هـ.
المستصفى من علم الأصول، للغزالي، مكتبة المثنى بغداد، مصور عن طبعة بولاق.
المسند، للإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي،دمشق وبيروت، 1405 هـ.
المسند، للإمام الشافعي، بترتيب محمد عابد السندي، صححه عزت العطار سنة 1370هـ.
المصباح المنير للفيومي،تحقيق عبد العظيم الشناوي، دار المعارف بمصر،1977م.
المصنَّف في الحديث والآثار، لابن أبي شيبة، الدار السلفية بالهند، 1403 هـ.(42/33)
المصنَّف، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، نشر المجلس العلمي بالهند، 1403 هـ.
المعجم الأوسط، تحقيق د. محمود الطحان، مكتبة المعارف بالرياض، 1415 هـ.
المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، وزارة الأوقاف بالعراق، 1391 هـ.
المعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقيا والمغرب، للونشريسي، دار الغرب الإسلامي.
المُغْرِب في ترتيب المُعْرِب، للمطرزي، وزارة الثقافة، سورية، 1399هـ.
المغني شرح مختصر الخرقي، لابن قدامة ومعه الشرح الكبير، بيروت، 1404 هـ.
المقارنات التشريعية، سيد عبد الله حسين، دار السلام بالقاهرة، 1421هـ.
المقدمات الممهدات، لابن رشد، بعناية إبراهيم الأنصاري، دولة قط، 1408 هـ.
الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي تحقيق عبدالله دراز، دار المعرفة، بيروت.
الموطأ، رواية الليثي، للإمام مالك بن أنس،، دار إحياء الكتب العربية،1398هـ.
الموطأ، رواية محمد بن الحسن،مع التعليق الممجَّد، دار القلم بدمشق، 1412
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، للنحّاس، مكتبة عالم الفكر، 1407 هـ.
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق الطناحي، المكتبة الإسلامية، بيروت.
الوجيز في مذهب الإمام الشافعي، للغزالي، تصوير دار المعرفة، بيروت، 1399.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين الكاساني، مطبعة الإمام بمصر،1394.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد الحفيد، مصورة عن طبعة مصطفى الحلبي.
تاريخ القضاء في الإسلام، للشيخ محمود عرنوس، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة.
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لابن فرحون، الكليات الأزهرية،1406هـ.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي، مصورة عن طبعة بولاق 1313هـ.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري مؤسسة قرطبة، 1406 هـ.
تحفة المحتاج شرح المنهاج، للهيتمي مع حواشيها، تصوير دار صادر، بيروت.(42/34)
تخريج الفروع على الأصول، للزَّنجاني. تحقيق الدكتور محمد أديب صالح، 1399 هـ.
تلخيص الحبير، لابن حجر العسقلاني، شركة الطباعة الفنية، 1384 هـ.
تنقيح الأصول، لصدر الشريعة مع التلويح على التوضيح، مطبعة صبيح، 1377.
جامع البيان ، للطبري، دار المعارف بمصر + طبعة مصطفى الحلبي.
جامع الفصولَيْن، لابن قاضي سماونة، المطبعة الأزهرية، 1300 هـ.
حاشية البجيرمي على المنهج في الفقه الشافعي، بولاق، 1309هـ.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، مطبعة عيسى الحلبي.
رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين مطبعة مصطفى الحلبي، 1386 هـ.
روضة الطالبين وعمدة المفتين، للنووي، المكتب الإسلامي، دمشق، 1405 هـ.
زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم تحقيق الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة.
سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني. المكتب الإسلامي، بيروت، 1400هـ.
ـ سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى الحلبي 1972 م.
سنن أبي داود،مطبوع مع معالم السنن للخَطَّابي، مكتبة السنة المحمدية، 1369.
سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي، للمباركفوري، مؤسسة قرطبة، 1406 هـ.
سنن الدارقطني، تحقيق عبد الله هاشم اليماني، المطبعة المصرية بالفجالة.
سنن النسائي مع حاشية السندي والسيوطي، بعناية عبد الفتاح أبو غدة، 1406 هـ.
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، دار المعرفة في بيروت، 1398 هـ.
شرح السِّير الكبير، للسرخسي، مطبعة شركة الإعلانات الشرقية، 1971 م.
102. شرح الكوكب المنير، لابن النجار تحقيق د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد، مركز البحث العلمي
بجامعة أم القرى، 1408 هـ.
شرح صحيح مسلم، للنووي دار الكتاب العربي، عن طبعة المطبعة المصرية.
شرح مسند أبي حنيفة، للقاري دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ.
شرح مشكل الآثار، للطحاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415 هـ.
شرح معاني الآثار، للطحاوي، مطبعة الأنوار بالقاهرة ، 1387 هـ.(42/35)
شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، عالم الكتب، بيروت.
شرح منهاج الطالبين للمحلّي بحاشيتي قليوبي وعميرة مطبعة الحلبي، 1375.
صحيح البخاري، مع فتح الباري لابن حجر، الطبعة السلفية بالقاهرة،
صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى الحلبي 1374 هـ.
عقود الجواهر المنيفة في أدلة الإمام أبي حنيفة، للزَّبِيْدي، مطبعة الشبكشي بالأزهر.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني دار الفكر، بيروت.
فتح الباري، لابن حجر، تحقيق الشيغ عبد العزيز بن باز، المطبعة السلفية بالقاهرة.
فتح القدير شرح الهداية، لابن الهُمَام، الطبعة الأولى، مطبعة بولاق، 1315هـ.
فقه القضاء و الدعوى والإثبات، د. محمد الزحيلي، جامعة الشارقة،1422هـ.
فكرة تنازع القوانين في الفقه الإسلامي، د.رمزي دراز، دار الجامعة بالإسكندرية،2004م.
في ظلال القرآن، لسيد قطب، دار الشروق، بيروت، 1397 هـ.
كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي. مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، 1394 هـ.
كشف الأسرار عن أصول البزدوي، للعلاء البخاري،دار الكتاب العربي، بيروت.
مجلة البحوث الإسلامية، تصدر عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، لداماد أفندي الحنفي، استانبول 1328.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، قاسم، مكتبة المعارف بالمغرب، 1400 هـ.
مختصر اختلاف العلماء للطحاوي، للرازي الجصّاص، دار البشائر، 1416 هـ.
مراتب الإجماع، لابن حزم ومعه نقد مراتب الإجماع لابن تيمية، نشر مكتبة القدسي.
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري المكتبة الإمدادية، ملتان، 1386هـ.
مسائل الإمام أحمد. رواية ابنه عبد الله، مكتبة الدار، المدينة، 1406 هـ.
مسائل الإمام أحمد. رواية أبي داود السجستاني، طبعة القاهرة، 1353 هـ.
مسائل الإمام أحمد وإسحاق.للمروزي، مصور بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(42/36)
مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ النيسابوري، المكتب الإسلامي،1400 هـ.
مصنفة النظم الإسلامية، د. مصطفى كمال وصفي. مكتبة وهبة، 1397.
معالم التنزيل، للبغوي تحقيق عثمان ضميرية وآخرين، دار طيبة، الرياض، 1414 هـ.
معين الحكام، للطرابلسي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1393 هـ.
مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1381هـ.
منهاج الأصول، للبيضاوي مع شرحه نهاية السول للإسنوي، المطبعة السلفية،1354هـ.
ندوة النظم العدلية الثلاثة، رئاسة محاكم الطائف بالمملكة العربية السعودية،1424هـ.
نصب الراية لأحاديث الهداية، للزيلعي، المكتبة الإسلامية، بيروت،عن طبعة الهند.
نهاية المحتاج شرح المنهاج، للرَّملي، مطبعة مصطفى الحلبي، 1386 هـ.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، للشوكاني، مطبعة مصطفى الحلبي، 1391 هـ.
---
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref1#_ftnref1( 1) يقصد بالمركز القانوني للأجنبي: مجموعة القواعد القانونية التي تضع في دولة معينة نظاماً خاصًا بالأجنبي يختلف عن الوطني من حيث التمتع بالحقوق العامة أو الخاصة. أو هو بيان الحقوق التي يتمتع بها الأجنبي بموجب تشريع الدولة التي يوجد بها. انظر:((فكرة تنازع القوانين)) د. رمزي محمد علي دراز، ص(9).
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref2#_ftnref2([2]) سورة الأعراف، الآية ( 30 ).(42/37)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref3#_ftnref3([3]) سورة محمد، الآية ( 3 ).
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref4#_ftnref4([4]) انظر جملة أحاديث في إظهار الدين والبشارة بالمستقبل للإسلام في((سنن البيهقي)): 9/177 ـ 182.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref5#_ftnref5([5]) انظر: ((شرح السِّير الكبير)): 1/306 ، و((المبسوط)) للسرخسي: 10/84 ـ 86، ((الرسالة الخالدة)) للأستاذ عبد الرحمن عزام، ص ( 156 ) ، وراجع:((مبادئ القانون الدولي)) د. محمد حافظ غانم، ص(52) ، ((نظام الحكم الإسلامي)) د. محمود حلمي ، ص (11 ـ 12) ،((نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور)) للمودودي، ص ( 300 ).(42/38)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref6#_ftnref6([6]) أخرجه البخاري في الطلاق ، باب نكاح من أسلم من المشركات: 9/417 .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref7#_ftnref7([7]) انظر:((زاد المعاد في خير هدي العباد)) لابن قيم الجوزية: 3/160 بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref8#_ftnref8([8]) سورة البقرة ، الآيات ( 1 ـ 5 ) .(42/39)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref9#_ftnref9([9]) انظر:((شرح السِّير الكبير)): 4/1458 ـ 1466،((البدائع)): 9/4376 ـ4382،((فتح القدير)): 4/154 ـ 155،((تأسيس النظر)) لأبي زيد الدَّبُوْسِيّ، ص (79 ـ 80 ). وراجع رأي الشافعية في عدم اختلاف الأحكام باختلاف الدارين في((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني، تحقيق أستاذنا العلامة الدكتور محمد أديب صالح، ص(277 ـ 278)، ((أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني)) د.عثمان جمعة ضميرية:1/354 وما بعدها.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref10#_ftnref10([10]) ((اختلاف الدين)) مقال الشيخ أحمد إبراهيم في((مجلة القانون والاقتصاد)) السنة الأولى، عدد شعبان 1349 هـ، ص(11).
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref11#_ftnref11([11]) انظر:((السِّير الكبير)) مع شرح السَّرْخَسِيّ: 5/1699 وما بعدها .(42/40)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref12#_ftnref12([12]) ((أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية))، ص(217)، ((القانون الدولي العام وقت السلم))، ص (484 ـ 490) كلاهما للدكتور حامد سلطان، و((مبادئ القانون الدولي العام)) د. عبدالعزيز سرحان، ص(334 ـ 345).
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref13#_ftnref13([13]) يقال: هاجه وأهاجه وهايجه، أي أثاره وقاتَلَه. انظر:((المعجم الوسيط)): 2/1002.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref14#_ftnref14([14]) ((أحكام أهل الذمّة)) لابن القيم: 2/475 ـ 476 .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref15#_ftnref15([15]) انظر: زاد المعاد)) لابن القيم: 3/160 .(42/41)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref16#_ftnref16([16]) أخرجه البخاري في الطلاق ، باب نكاح من أسلم من المشركات: 9/417 .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref17#_ftnref17([17]) انظر:((بدائع الصنائع)):9/4375 ،((المصباح المنير)): 1/127،((الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي)) لابن عبد الهادي: 3/744 ،((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: 7/397.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref18#_ftnref18([18]) التزام أحكام الإسلام هو قبول ما يحكم به عليهم من أداء الحقوق وترك المحرمات وضمان المتلفات ونحو ذلك . انظر:((بدائع الصنائع)) للكاساني: 9/4330 ،((كشاف القناع)): 3/108 ،((مطالب أولي النهى)): 2/591 .(42/42)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref19#_ftnref19([19]) انظر:((أدب القاضي)) لابن القاص الطبري: 1/141 ،((مراتب الإجماع)) لابن حزم، ص (50)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون:1/96، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام:2/413، ((المجموع شرح المهذب)) : 18/199،((موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي)): 2/909، ((فكرة تنازع القوانين))، د. رمزي محمد دراز، ص(272).
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref20#_ftnref20([20]) المائدة ، الآية ( 49 ).(42/43)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref21#_ftnref21([21]) روي كتاب الصلح مع أهل نجران بألفاظ متقاربة. انظر: ((سنن أبي داود)): 4/250 ـ 251 ( مختصر المنذري ) ((سيرة ابن هشام)): 2/594 ـ 595، ((فتوح البلدان)) : 1/77 ـ 78، ((طبقات ابن سعد)) : 1/358، ((الأموال)) لأبي عبيد، ص ( 218 ـ 220 )، ولابن زنجويه: 2/499 ((الخراج)) لأبي يوسف، ص ( 77 ـ 78 )، ((تاريخ الطبري)): 3/128 ـ 129، ((زاد المعاد)) لابن القيم: 3/636،((إمتاع الأسماع)) للمقريزي:1/502 ،((مجموعة الوثائق السياسية)) د. محمد حميد الله ، ص ( 175 ـ 179 ). وأشار المنذري إلى أن الحديث مرسل. وقال ابن كثير: فيه غرابة. انظر: ((البداية والنهاية)): 5/77.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref22#_ftnref22([22]) النساء ، الآية ( 161 ) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref23#_ftnref23([23]) النساء ، الآية ( 29 ) .(42/44)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref24#_ftnref24([24]) عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ:((أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول - صلى الله عليه وسلم -: ما تجدون في التوراة ؟ قالوا: نفضحهم ويُجْلَدون . قال عبدالله بن سلام: كذبتم ، إن فيها آية الرجم ، فأَتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك ، فرفعها فإذا فيها آية الرجم . فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِما)) . أخرجه البخاري في الحدود: 12/136 ، ومسلم في الحدود أيضاً: 3/1326 .(42/45)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref25#_ftnref25([25]) انظر:((الأصل)) للإمام محمد: 5/221 وما بعدها ،((أحكام القرآن)) للجصَّاص: 2/436 ،((شرح معاني الآثار)) للطحاوي: 4/141 ـ 144،((شرح السِّير الكبير)) : 1/306،((المبسوط)) : 5/38 وما بعدها، ((بدائع الصنائع)): 3/1503، ((أدب القاضي)) للخصاف، ص ( 596 ـ 601 ) مع شرح الجصَّاص، ((مختصر اختلاف العلماء)): 3/390 وما بعدها، ((الفتاوى الخيرية لنفع البرية)) للرملي: 1/93، ((البحر الرائق)) لابن نجيم: 6/188 ،((فتح القدير)) : 2/483 ـ 485 و 7/399، ((إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمّة)) للشيخ محمد بخيت المطيعي، ص (18) وما بعدها. وقارن بـ ((معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام)) للطرابلسي، ص ( 36 ) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref26#_ftnref26([26]) قطعة من حديث((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ...)) أخرجه البخاري في التيمم: 1/436 وفي مواضع أخرى، ومسلم في المساجد: 1/370.(42/46)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref27#_ftnref27([27]) انظر بالتفصيل مع الأدلة:((الجامع الصغير)) للإمام محمد ، ص ( 150 ـ 151 ) مع شرحه ،((الأصل)) كتاب السِّير، ص ( 188 ـ 190) ،((المبسوط)): 5/38 ـ 43،((بدائع الصنائع)) : 3/1500 وما بعدها، ((فتح القدير)): 2/483 ـ 485 ومعه((العناية على الهداية)) نفسه ،((تبيين الحقائق)): 2/171 ـ 173، ((البحر الرائق)): 3/222 وما بعدها ،((حاشية ابن عابدين)): 3/184 وما بعدها، ((أدب القاضي)) للخصاف، ص (597 ـ 600) مع شرحه للجصَّاص، ((مختصر اختلاف العلماء)): 3/390 ـ 393، ((أحكام القرآن)): 2/434 ـ 438، ((إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمّة)) ص ( 6 ) وما بعدها.(42/47)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref28#_ftnref28([28]) ((مختصر اختلاف العلماء)) للجصَّاص: 3/391 . وانظر أيضا:((البيان والتحصيل)): 4/181 ـ 186 و 9/293 ،((المقدمات الممهدات)): 2/156 وما بعدها، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون: 1/96 ،((القوانين الفقهية)) لابن جزيء ، ص ( 307 ) ،((الكافي)): 1/418 ،((التمهيد)) كلاهما لابن عبد البر: 14/385 وما بعدها ،((أحكام القرآن)) لابن العربي: 2/620 ـ 623 ،((تفسير القرطبي)): 6/179 و 184 ـ 186 ،((شرح السِّير الكبير)): 1/306 وفيه يقول:((قال أهل المدينة: لا يقام عليهم ـ أهل الذمّة ـ الحدود، كالزنا والسرقة ، ولكن يرفعون إلى حاكمهم ليقيمها عليهم . وذلك مرويٌّ عن عليّ - رضي الله عنه -)) .
[29] ) العاقلة جمع عاقل، وهو الذي يدفع الدية، والعاقلة تجمع على عواقل. يقال: عقلتُ القتيل عقلاً: أدَّيت ديته.قال الأصمعي: سميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر؛ لأن الإبل كانت تعقل بفناء وليِّ القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أُطلق العقل على الدية، إبلاً كانت أو نقداً. انظر:((المصباح المنير)) للفيومي:2/422-423.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref30#_ftnref30([30]) سورة المائدة ، الآية ( 42 ) .(42/48)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref31#_ftnref31([31]) سورة المائدة ، الآية ( 49 ) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref32#_ftnref32([32]) ((الأم)) للشافعي: 7/38 ـ 39 . وانظر أيضاً: 4/183 و 6/124 وما بعدها، ((أدب القاضي)) لابن القاص الطبري: 1/142 ـ 144، ((المهذب مع تكملة المجموع)): 18/201، ((روضة الطالبين)) : 10/327،((مغني المحتاج)) : 4/127 ـ 128، ((حاشية البجيرمي على المنهج)) : 4/254 ،((مختصر اختلاف العلماء)) للجصَّاص: 3/392 .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref33#_ftnref33([33]) ((المغني)) لابن قدامة: 10/613 ـ 614 .(42/49)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref34#_ftnref34([34]) ((أحكام أهل الذمّة)) لابن القيم: 1/391. وانظر بالتفصيل مع الأدلة أيضاً: ((أحكام أهل الملل)) للخلال، ص ( 122 ) وما بعدها ، ((المبدع)) : 3/429 ـ 430، ((كشاف القناع)) : 3/117 و 130 ـ 131.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref35#_ftnref35([35]) ((الأصل)) كتاب السير ، ص ( 179 ) ،((الجامع الصغير)) مع شرحه((النافع الكبير)) ، ص ( 256 ـ 257 )،((السِّير الكبير)): 1/359 و 4/1276 و 1488 وما بعدها ، 5/1880 ـ 1890 ،((المبسوط)): 10/93 ،((بدائع الصنائع)): 9/4379 ،((اختلاف الفقهاء)) للطبري ، ص ( 56 و 57 ) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref36#_ftnref36([36]) ((اختلاف الفقهاء)) ص ( 59 ـ 60 ) .(42/50)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref37#_ftnref37([37]) المراجع السابقة . وفي مدى خضوع غير المسلمين للقضاء الإسلامي انظر بالتفصيل:((تفسير البغوي)): 3/59 ،((تفسير القرطبي)): 6/184 ـ 187 ،((أحكام القرآن)) للجصاص: 2/434 ـ 438 ، ولابن العربي: 2/632 ـ 633 ،((إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمة)) للشيخ محمد بخيت ـ رحمه الله ـ فقد أشبع هذه المسألة بحثاً .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref38#_ftnref38([38]) ((اختلاف الفقهاء)) للطبري ص ( 56 ) ،((الفروق)) للكرابيسي: 1/326 .(42/51)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref39#_ftnref39([39]) الحق عند الفقهاء والأصوليين هو اختصاص ثابت شرعاً لتحقيق مصلحة يقتضي سلطة أو تكليفاً . وقد عني العلماء ببحث الحق وأنواعه فباعتبار من يستحق الحقّ قسموه إلى قسمين: حق الله تعالى وحقوق العبد، فحقُّ الله تعالى هو ما فُهِم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف، وهو ما يتعلق به النفع العام، وينسب إلى الله تعالى تعظيماً لخطره وشمول نفعه. وحقّ العبد: ما كان متعلقاً بمصلحة خاصة. وهناك حقوق يجتمع فيها الحقَّان وأحدهما أغلب. وقد يقع الخلاف بينهم في تكييف بعض هذه الأنواع.
راجع:((الحقّ في الشريعة الإسلامية))،عثمان ضميرية، بمجلة البحوث الإسلامية، العدد ( 40) ص( 349) وما بعدها.
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref40#_ftnref40([40]) وقال الإمام مالك والحنابلة: إذا زنى المستأمن بمسلمة فيجب قتله لنقضه الأمان بما فعل . و عند الشافعي لا يقام عليه حد الزنا إلا إذا شرط عليه ذلك في عقد الأمان. وانظر:((رحمة الأمة في اختلاف الأئمة)) ص ( 399 ـ 401 ) ،((الإفصاح)): 2/299 ـ 300 .(42/52)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref41#_ftnref41([41]) علّل السَّرْخَسِيّ قول الإمام محمد((ويوجع عقوبةً)) بدلاً من قوله((ويعزَّر)) بأن لفظ التعزير فيه ما ينبئ عن معنى التطهير والتعظيم . قال الله تعالى: { وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } ( سورة الفتح ، الآية 9 ) ، والكافر ليس من أهله ، ولهذا قال: يوجع عقوبة . انظر:((شرح السِّير الكبير)): 1/307 .
[42] - الأرش: اسم للمال الواجب في الجناية على ما دون النفس .((التعريفات)) ص ( 31 ) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref43#_ftnref43([43]) انظر:((الأصل)) كتاب السِّير ، ص ( 180 ) ،((الخراج)) ص ( 204 ـ 205 ) ،((الرد على سير الأوزاعي)) ص ( 94 ) ،((اختلاف الفقهاء)) للطبري ، ص ( 56 ـ 57 ) ،((مختصر اختلاف العلماء)): 3/450 .(42/53)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref44#_ftnref44([44]) ((فتح القدير)) لابن الهمام: 4/154 ـ 156 ، ومعه((العناية على الهداية)) نفسه ،((شرح السِّير الكبير)): 5/1852 ، وانظر:((تبيين الحقائق)): 3/182 ـ 183 ،((البحر الرائق)): 5/19 ،((مختصر اختلاف العلماء)): 3/450 .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref45#_ftnref45([45]) سورة المائدة ، الآية ( 34 ) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref46#_ftnref46([46]) ((الأم)) للشافعي: 7/326 ،((اختلاف الفقهاء)) للطبري، ص ( 55 )، وانظر:((مختصر اختلاف العلماء)) للجصاص: 3/450 .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref47#_ftnref47([47]) ((روضة الطالبين)) للنووي: 10/244 ، وانظر:((حاشية الشرقاوي على التحرير)) : 2/454.(42/54)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref48#_ftnref48 ( [48] ) سورة المائدة، الآية48 .
[49] ) انظر: (( أحكام القرآن)) للجصاص:2/436، (( تفسير القرطبي)) :6/186، ((بدائع الصنائع)):3/1500، ((أدب القاضي)) لابن القاص الطبري: 1/141، ((مراتب الإجماع)) لابن حزم، ص (50)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون:1/96، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام:2/413، (( مجموع فتاوى ابن تيمية)): 28/197، (( المغني))لابن قدامة:10/613، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم:1/391وما بعدها، ((إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمة))، ص(26) وما بعدها.
[50] ) (( الأحكام السلطانية)) للماوردي، ص (62-65) وانظر:(( بدائع الصنائع)): 9/4079،(( حاشية ابن عابدين)) 5/395، ((الفتاوى الهندية)) 3/397، ((المجموع شرح المهذب)) : 18/199،((موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي)): 2/909، (( نظام القضاء في الشريعة الإسلامية)) د. عبد الكريم زيدان، ص(24-25)،(( فقه القضاء و الدعوى والإثبات)) أ.د. محمد الزحيلي، ص (82)، (( فكرة تنازع القوانين)) د. رمزي دراز، ص(284-288) .
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref51#_ftnref51انظر: ((الأوضاع التشريعية في البلاد العربية))، د. صبحي محمصاني، ص(185-191و219).(42/55)
https://mail.sharjah.ac.ae/exchange/mekki/Inbox/%D9%85%D8%AF%D9%89 %D8%AE%D8%B6%D9%88%D8%B9 %D8%BA%D9%8A%D8%B1 %D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86 %D9%84%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A.doc.EML/ - _ftnref52#_ftnref52([52] )[52] المرجع السابق، ص(245وما بعدها)، ((تاريخ القضاء في الإسلام))، للشيخ محمود عرنوس، ص(200-201)..
[53] ) انظر: (( فكرة تنازع القوانين في الفقه الإسلامي))، د. رمزي محمد دراز، ص(297-298).
[54] ) المرجع نفسه، ص(298-299).
[55] ) ((نظام المرافعات الشرعية))، ضمن الأنظمة العدلية الثلاثة، ص(11)، ((اللوائح التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية)) منشورة في مجلة العدل، العدد(15) السنة الرابعة،1423هـ ، ص(120) وما بعدها.
[56] - ((الأنظمة العدلية الثلاثة)) المصدر السابق، ص (11و52).
[57] ) انظر: (( مجلة العدل)) العدد السابق نفسه، ص(237-240).
[58] ) انظر: ((أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة))، لأستاذي الدكتور محمد الزحيلي، ص(43-47).
[59] ) (( المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي)):1/91-92.(42/56)
مشكلات القضاء الشرعي المعاصر بالجزائر
(الواقع - الجهود - الآمال)
إعداد: الدكتورة عقيلة حسين
محاور البحث
المبحث الأول: مفهوم القضاء
المطلب الأول: تعريف القضاء لغة:
المطلب الثاني:تعريف القضاء اصطلاحا:
المبحث الثاني: القضاء الشرعي في الجزائر قبل الاستعمار
المبحث الثالث: مشكلات في طريق القضاء الشرعي في الجزائرأوعوائق
المطلب الأول: الاستعمار الفرنسي
الفرع الأول: القضاء الشرعي في عهد الاستعمار الفرنسي
الفرع الثاني: نظام القضائي الخاص بالأحوال الشخصية في الفترة الاستعمارية
المطلب الثاني: التبعية للغرب
الفرع الأول: تبني النظام الاشتراكي
الفرع الثاني: العولمة
المطلب الثالث: الحركات التحررية النسوية والمؤتمرات العالمية
الفرع الأول: المرأة المسلمة وحملات التبشير والتنصير:
الفرع الثاني: المرأة المسلمة والاستعمار.
الفرع الثالث: المرأة المسلمة وحركات التحرر.
الفرع الرابع: المرأة المسلمة والدراسات الغربية:
الفرع الخامس: المرأة المسلمة والمؤتمرات العالمية الدولية
الفرع السادس: أثر الحركات النسوية التحررية على القضاء الشرعي
المبحث الرابع: الجهود المبذولة للحفاظ على القضاء الشرعي
المطلب الأول: جهود الشعب الجزائري في فترة الاستعمار
الفرع الأول: جهود الشعب الجزائري عامة
الفرع الثاني: جهود العلماء
المطلب الثاني: الجهود بعد الاستقلال
الفرع الأول: المحافظة على قانون الأحوال الشخصية
الفرع الثاني: فتح فروع الشريعة والقانون بالكليات الشرعية
الفرع الثالث: تدريس الشريعة في الكليات الحقوق الأسرة المواريث
الفرع الرابع: عقد مؤتمرات و ندوات في هذا المجال و الخروج بتوصيات
المطلب الثالث : الآمال وآفاق القضاء الشرعي
الخاتمة الفهارس
المقدمة(43/1)
أعالج في هذه المداخلة, إشكالية القضاء الشرعي أو الإسلامي في عصرنا الحاضر, وفي الجزائر بصفة خاصة, ومعوقات وجوده في البلاد الإسلامية, أو انعدامه في بلدان أخرى؛ كالمغرب العربي, أواقتصاره على مجالات واختصاصات معينّة؛ كالأحوال الشخصية في الكثير من الدول الإسلامية. ولا يخفى على أحد كم هو-القضاء الشرعي-محط أنظار القوى العالمية الكبرى؛ ابتداء من الاستعمار, إلى الغزو الثقافي, إلى العولمة.
إن القضاء الشرعي لم يعد في عصرنا الحاضر؛ كالقضاء الإسلامي الذي عرف منذ عصر الصحابة إلى الخلافة العثمانية - أي قبل تواجد الاستعمار في البلاد الإسلامية - فبعدما كان القضاء يحكم بمقتضى الشريعة في كلّ المنازعات, والقضايا بلا استثناء, أصبح الآن قضاء مزدوجا: قضاء وضعي, وقضاء شرعي, وحظي القضاء الوضعي بنصيب الأسد, وترك للقضاء الشرعي بعض المسائل, والتي تختص بدائرة الأحوال الشخصية, والسبب المباشر هو الاستعمار.ولم يتمكن القضاء الشرعي من احتلال مكانته اللائقة به, بعد خروج الاستعمار, واستقلال معظم الدول الإسلامية, والسبب يعود إلى عدة عوامل منها التبعية للغرب, تقليد المغلوب للغالب, الجهل والأمية المنتشرة بين الشعوب الإسلامية, وخاصة النساء, المطالب النسوية التحررية وتحرير المرأة؛ وخاصة ما يتعلق بالقضاء الشرعي, ويختص بالأسرة؛ من حيث تكوينها وحل الخصومات التي قد تحصل لها؛ كانعقاد العقد, والطلاق, والنفقة, والحضانة, ووضع المرأة داخل الأسرة و غيرها.
والأسرة جزءها الأساسي هو المرأة؛ فعليه كانت الخطة محكمة من القوى العالمية الكبرى في النداء
بتحرير المرأة, وإخراجها عن طبيعتها الإسلامية, وضرب المقدسات, وعقد المؤتمرات, وتشجيع(43/2)
النساء المسلمات والعربيات من داخل بلدانهن على الثورة على المبادئ, والقيم بعدما فشلت الحملات من خارج البلاد الإسلامية, وأصبحت مطالبهن في إطار المؤسسات الدولية والعالمية؛ كالأمم المتحدة وغيرها, وبالتالي أصبحت هذه المطالب شرعية, وتأخذ صفة الإلزامية, ووسيلة ضغط على الحكومات لقبول هذا التغيير, وتطبيقه وفق ما يريد الغرب.
وإذا كانت هناك جهود جبارة من طرف الشعوب, و العلماء, وحتى الحكومات, لاسترجاع هذا الجانب المهم في حياة الأمة, أثناء الاستعمار وبعده, فإنّها تقابل بحملات شرسة من طرف القوى العالمية الكبرى والباحثين العلمانيين, والمستشرقين, وأذناب الاستعمار, المعادين للإسلام؛ كعدم صلاحية الشريعة لهذا الزمان, أو أنّ الحدود تمس بحقوق الإنسان, و هي عقوبات وحشية, أو حقوق المرأة, و غيرها.
ولكن رغم العوائق والمشكلات, ورغم الجهود التي تقابل بالرفض والعداء، فما زال في هذه الأمة أمل.
المبحث الأول: مفهوم القضاء
يتضمن هذا المبحث تحديد مفهوم القضاء لغة واصطلاحا.
المطلب الأول:تعريف القضاء لغة:
هو الحكم والفصل والقطع, و يقال قضى يقضي قضاء قاض؛ إذا حكم وفصل والقاضي القاطع في الأمور المحكم لها الذي يقضي بين الناس بحكم الشرع, و يرد على وجوه كثيرة منها, الوجوب, والوقوع, والإتمام, والإكمال, والعهد, والإيصاء, والأمر, والخلق, والتقدير, و الفصل, و الأداء.(1)
المطلب الثاني: تعريف القضاء اصطلاحا
عرّف القضاء شرعا بعدة تعاريف, و اختلف الفقهاء في تعريف القضاء, و يرجع اختلافهم؛ إلى اختلاف نظر كلّ منهم إلى الوجه المراد تعريفه, فبعضهم نظر إلى ولاية القضاء, باعتبار أنّها السلطة التي تفرض على من يتولاها الفصل في الخصومات فعرّفها, وبعضهم نظر إلى الحكم؛ الذي يصدره القاضي على أنّه بواسطته يحصل الفصل في الخصومة, فعرّفه, والفريق الثالث نظر إلى أثر الحكم؛ فعرفه, ولكل فريق وجهة فيما ذهب إليه.(43/3)
وجاء عند الحنفية تعريف القضاء بأنه (فصل الخصومات و قطع المنازعات على وجه خاص(2)
وجاء في الفتاوى الهندية أنه (قول ملزم يصدر عن ولاية عامة ) (3)
قال صاحب معين الحكام (القضاء هو الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام ) (4)
وكذلك عرفه ابن فرحون في التبصرة (5)، وقال القرافي ( القضاء هو إنشاء إطلاق, أو إلزام في مسائل الاجتهاد المتقارب فيما يقع فيه نزاع لمصالح الدنيا ) (6)
وقال صاحب المغني المحتاج (القضاء هو الحكم بين خصمين فأكثر بحم الله) (7)
ومهمة القضاء هي الإنشاء, أو الإخبار بالأحكام الشرعية عند غموضها, أو التنازع الناس حولها في المسائل التي ترفع إليه, و ذلك بإصدار حكم شرعي, يبين فيه القاضي الحق, ومن هو صاحبه, و كيفية الاستفادة منه.
أما حكمه فهو فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب. (8)
المبحث الثاني: القضاء الشرعي في الجزائر قبل الاستعمار
كانت الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي, و خلال عقود طويلة دولة تابعة للخلافة الإسلامية, و يخضع حكامها, ومحكومها لتعاليم الشريعة الإسلامية في كلّ المجالات, وكان القضاء الشرعي أحد معالم الدولة. وكان القضاة والمفتون يصدرون أحكاما وفق المذهب المالكي. وفي الحقبة العثمانية بقي القضاء على صبغته الإسلامية, وكان بالجزائر نوعان من المحاكم محاكم الدولة الخاصة بالخلافة, وهي حنفية المذهب, ومحاكم الأهالي وهي مالكية المذهب. وكان القضاء الشرعي يفصل في كل المنازعات, و في شتى الميادين؛ الأحوال الشخصية, الشؤون المالية, القصاص, الحدود, و غيرها... (9)(43/4)
ويلاحظ أن النظام القضائي الموجود قبل الاحتلال, لم يكن عاما, و شاملا, وواحدا لكلّ مناطق القطر الجزائري. ففي حين كان نظام القاضي الفرد مطبقا في عواصم البلاد, أي المدن الكبرى؛ نجد أنّ المناطق الريفية كانت تخضع لنظام آخر في التقاضي, كما هو الحال بالنسبة لبلاد القبائل؛ حيث كانت الدعاوى ترفع أمام الجماعة من الشيوخ له علم بالشريعة وأحكام الفقه المالكي. و كذلك بالنسبة لوادي ميزاب كان القاضي هو شيخ المسجد , يصدر أحكامه طبقا للمذهب الإباظي .(10)
وكان نظام التقاضي بسيطا في كلّ العقود, و المنازعات, و كان الناس يقبلون بالحكم الصادر لثقتهم بجماعة الشيوخ أو الإمام الذي كانت صلاحيته تشمل القضاء بين الناس كذلك.
المبحث الثالث: مشكلات القضاء الشرعي في الجزائر
هناك عدة عوامل ساهمت في عدم وجود القضاء الشرعي, و تطوره, وهيمنته على الجوانب القانونية, والقضائية إذ بقي محصورا في مجال الأحوال الشخصية, منذ الاحتلال إلى الآن, ودون تواجد قضاة شرعيين, أو محاكم إسلامية خاصة بالأحوال الشخصية؛ بل ما يوجد هو غرفة في كلّ محكمة سواء أكانت من المحاكم الابتدائية, أو المحاكم الاستئنافية, أو المجلس القضائي الأعلى, أو المحكمة العليا؛ تختص بالأحوال الشخصية فقط, وتسمى غرفة الأحوال الشخصية, ومن هذه العوائق, والمشكلات ما يلي:
المطلب الأول: الاستعمار الفرنسي(43/5)
إن المجالس القضائية الإسلامية كانت تتصدر المؤسسات الدينية الجزائرية منذ الفتوحات إلى الخلافة العثمانية, وعند دخول الاستعمار, اشتد حول ماهيتها الصراع بين الجزائريين, والدولة الاستعمارية الفرنسية.( منذ غزا الفرنسيون الجزائر؛ أخذوا يطمسون معالمها العربية ,و الإسلامية الشرقية ,ويحلون المعالم الفرنسية بدلها ,وقد شمل ذلك كل المدن بدون استثناء, ولكن بدرجات متفاوتة, وقد شرعوا في ذلك منذ الوهلة الأولى؛ مما يدل على عزمهم على البقاء ,و الاحتلال الدائم ؛خلافا لمن يزعم أنّهم كانوا مترددين في البقاء , وعدمه . وشمل الطمس تغيير الشوارع, وأسمائها, وتهديم المنازل و والأسواق القديمة, وإحداث الساحات مكانها, وتحويل الدور والفيلات والقصور إلى مؤسسات عمومية للجيش, و المستشفيات, ونحو ذلك. وقد بيعت دكاكين, وأضرحة, وغيرها للأوربيين؛ ليتاجروا فيها. كما جرى تحويل المساجد إلى كنائس ومخازن ومستشفيات, وتهديم بعضها نهائيا, دون استبدالها بأخرى, ونفس الموقف كان بالنسبة للمدارس, والكتاتيب, والزوايا, وقد ساعد نفي المواطنين وهجرتهم على ذلك, حدث ذلك للأحياء العربية قبل الأحياء الأوربية في المدن الجزائرية...ومن أبرز المدن التي تأثرت بذلك منذ الوهلة الأولى هي العاصمة طبعا, وقد امتاز الطمس الذي عرفته بالعنف ,والعنجهية ,والتعصب لأنها كانت في نظر الفرنسيين رمزا للقرصنة ,والقوة, والدين الإسلامي, و الجهاد. ) (11)
الفرع الأول: القضاء الشرعي في عهد الاستعمار الفرنسي(43/6)
كان غزو فرنسا للجزائر في 5 جويلية سنة 1830م؛ حيث حطت الجيوش الفرنسية في العاصمة من ميناء سيدي فرج غرب العاصمة (..بمجرد ما دخل الفرنسيون مدينة الجزائر واستقروا فيها بدأوا يفكرون في إنشاء محاكم بالطريقة , والكيفية التي كانوا يرونها في تلك الفترة التاريخية...ففي سبتمبر 1830م أنشأت محكمة فرنسية خاصة.وبعدها بدأ الفرنسيون يفكرون في توحيد القضاء في الجزائر المستعمرة حديثا... وأدخل النظام القضائي الفرنسي في الجزائر بأمر صادر في 10 أوت 1830م, وعلى الأخص نظام الاختصاص بجميع أنواعه, ونظام التبعية التدريجية, وفكرة الاختصاص الشخصي للمحاكم, وهي فكرة سائدة في النظام الفرنسي في الجزائر منذ ذلك التاريخ إلى استقلال الجزائر , وهي فكرة إنشاء محاكم خاصة بالفرنسيين, وأخرى خاصة بالأهالي -أي الجزائريين أو السكان الأصليين- و نشأت محاكم فرنسية ذات درجة أولى مختصة بالفصل في قضايا المدنية والجزائية والتجارية ومحكمة عليا أو ممتازة بمدينة الجزائر , ولها دور محكمة الجنايات, و دور محكمة الاستئناف. و محاكم الأهالي وهي محاكم شرعية بالنسبة للمسلمين, و محاكم الأحبار بالنسبة لليهود و يعينون من طرف ملك فرنسا...) (12)
يلاحظ أن الاستعمار كان عارفا بأهمية القضاء الشرعي ودوره في توحيد الجزائريين, وكون القضاء يمثل السيادة, والخلافة الإسلامية؛ قال الحاكم العام دو فيدون في 20 مارس 1874م (إن العدالة تدخل في إطار السيادة, وعلى القاضي المسلم الانحناء أمام القاضي الفرنسي , وعلى كل واحد أن يفهم أننا الغالبون...) (13)
فهذا الكلام يفسر لماذا كان أول شيء بادر إلى إلغائه بعد شهر من دخوله الجزائر هو القضاء الشرعي. ( وإذا كانت السياسة الاستعمارية لم تخص الجزائر وحدها, وإنما امتدت من المغرب الأقصى إلى أندونسيا شرقا, لكن مع ذلك تبقى الجزائر حالة خاصة, حيث أثر عليها الحكم الفرنسي الاستعماري المباشر أكثر من غيرها...)(14)(43/7)
ولم يبقِ الاستعمار الفرنسي للجزائريين؛ سوى المحاكم المختصة بالأحوال الشخصية, والأوقاف والمعاملات المالية. (خضعت الأسرة الجزائرية قبل الاحتلال لأحكام وقواعد الفقه الإسلامي, والمعاملات الأعراف المحلية وبعد الاحتلال عمدت السلطات الاستعمارية إلى محاولة يائسة هدفها؛ دمج نظريات الفقه الإسلامي في النظام القانوني الفرنسي, و في تضييق مجال تطبيق أحكام الشريعة, و تفكيك وحدة التشريع الجزائري...) (15)
وإذا كانت فرنسا قد شرعت في محاولة إلغاء القضاء الشرعي بعد شهر من غزوها للجزائر, فإن التغيير لم يكن سهلا, بل وجد مقاومة عنيفة من الشعب, و القضاة المسلمين, و عليه فقد مر التغيير بمراحل هي:
1- في سبتمبر 1830م أنشأت أول محكمة فرنسية على الأراضي الجزائرية, وبدأ التفكير, و التخطيط لإلغاء القضاء الشرعي و الإسلامي.
2- في 22-8- 1841م أصدرت السلطات الفرنسية الاستعمارية أمرا تضمن انتزاع المسائل الجزائية عن
اختصاص القاضي المسلم. (16)
3- انتزعت المسائل المدنية من اختصاص القاضي المسلم, بمقتضى عدة نصوص قانونية؛ أبرزها مرسوم
11 أفريل 1889م, و المعدل بمرسوم 25 يوليو 1892م, ثم جاء مرسوم 25 نوفمبر 1944م, الذي قصر دور القاضي المسلم على القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية فقط, مع مراعاة الحرية الممنوحة للأهالي في اللجوء إليه, أو إلى المحاكم الفرنسية.(17)
4- في 25 نوفمبر 1944م قصر نظر القاضي المسلم في النظر في الأحوال الشخصية فقط.
وكانت هذه المراحل تتضمن إصدار مراسيم و نصوص قانونية؛ تتضمن إلغاء المحاكم الشرعية, وعزل القضاة,
وإجبارهم على استعمال اللغة الفرنسية...وفي (سنة 1880م تم إلغاء 13 محكمة, و بقيت في الجزائر كلّها 61 محكمة صغيرة للنظر في بعض القضايا الشكلية...وفي بلاد القبائل قررت السلطات الفرنسية في 1906 م منع القضاة, و الموثقين من كتابة العقود باللغة العربية, و لكنهم أصروا على كتابتها باللغة العربية .(18)(43/8)
كما استغلت السلطات الفرنسية الأعراف المتوارثة في بعض المناطق من أجل التفريق بين الجزائريين
وفي سنة 1890 صدر مرسوم في 29 ديسمبر الذي نظم الأحكام الواجبة التطبيق حسب المذهب الإباظي في جنوب البلاد وما تضمنه مرسوم 12-8-1922م بشان تطبيق التقاليد القبائلية وإنشاء ما يسمى بالنظام القضائي في منطقة القبائل )(19)
الفرع الثاني: نظام القضائي الخاص بالأحوال الشخصية في الفترة الاستعمارية
ألغت السلطات الاستعمارية النظام القضاء الشرعي تدريجيا؛ حيث بدأت بالجنايات, ثم الشؤون المدنية والمالية, ولم تتمكن من إلغاء القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية, نظرا لتمسك الأهالي بدينهم, وعدم ثقتهم في القضاء الفرنسي, وأصبحت عقودهم, وقضاياهم تتم خارج المحاكم الفرنسية, وكان عقد الزواج يتم على مستوى الإمام أحد المساجد على يد الإمام, وكذلك الصلح والطلاق, فكانت العقود عرفية شرعية غير رسمية, وكذلك الطلاق, فقد كان عقد الزواج يتم بالطريقة الشرعية بحضور إمام المسجد دون سجلات, ولا وثائق, و بقي هذا(43/9)
الحال إلا ما بعد الاستقلال إلا في حالات نادرة كان البعض يلجئون إلى المحاكم الفرنسية. (أما فيما يتعلق بالقضاء الجزائي, والتجاري, والإداري, وقواعد الإجراءات, فقد كانت القوانين الفرنسية هي المطبقة وحدها في جميع البلاد, وعلى جميع الناس, دون أي تمييز, و نتيجة لذلك نشأت في الجزائر حالة ثنائية, أو ازدواجية في التنظيم القضائي, واستمرت طيلة مدة الاحتلال, وأصبحت الجزائر تضم محاكم إسلامية تختص بقضايا المواطنين الجزائريين المدنية مثل مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بالزواج والطلاق والقضايا التركات والوصايا, وكان يتولى القضاء في هذه المحاكم قضاة جزائريون يحملون شهادات متواضعة في الفقه وأحكام الشريعة إلى جانب معرفتهم باللغة الفرنسية, وأحكامهم تقبل الطعن أمام غرفة موجودة بجهة القضاء الفرنسي وتسمى غرفة الطعون الإسلامية...و كان قضاة المحاكم الشرعية يطبقون أحكام الشريعة الإسلامية في مجال الزواج والطلاق والوصايا والميراث مع الميل أكثر إلى المذهب المالكي لأنه لم يكن لديهم أي قانون مكتوب مكون من مواد يستندون إليها في أحكامهم...)(20)
ولم تتمكن السلطات الفرنسية من إخضاع الأهالي للقانون الفرنسي مع تطبيق سياسة فرق تسد, وسياسة عزل المناطق عن بعضها ,وإصدار مراسيم خاصة بمناطق معينة , إلا أنّ هذه المناطق ظلت على الإسلام.
المطلب الثاني: التبعية للغرب
لم تتبنى الجزائر بعد استقلالها ما أقره المجاهدون في مؤتمر الصومام, و في مؤتمرات عديدة بأنّ الجزائر بعد استقلالها ستكون دولة جزائرية مستقلة في إطار المبادئ الإسلامية, بل تبنى النظام آنذاك ما كان متداولا من فلسفات وإيديولوجيات.
الفرع الأول: تبني النظام الاشتراكي(43/10)
بعد خروج المستعمر الفرنسي من الجزائر في 5- جويلية - 1962م تبنت الدولة المستقلة النظام الاشتراكي الشيوعي؛ كمنهج في السياسة و الاقتصاد, وانعكس على النظام الاجتماعي, والقضاء الشرعي خاصة, ولا يخف على أحد ما لهذا المنهج من عداوة للأديان ونبذها, و التمسك بالمادة و تقديسها, ولما كان القضاء الشرعي مصدره الدين الإسلامي الحنيف, وفي ظل هذه الفلسفة المادية الإلحادية, بقي النظام القضائي الفرنسي مهيمنا على المحاكم ( ولما استردت الجزائر استقلالها و تحررت من الهيمنة الاستعمارية بدأ الجزائريون يفكرون في كيفية التخلص من الازدواجية, والتبعية القضائية, وفي إنشاء جهاز قضائي يتلاءم مع تطلعاتهم, وأوضاعهم الجديدة, فكان أن صدر القانون رقم 218-63 في 18-5-1963م ليلغي ولاية محكمة النقض الفرنسية على القرارات الصادرة عن محاكم الاستئناف الجزائرية و لينشئ مكانه المجلس القضائي الأعلى. وصدر المرسوم رقم 261- 63 في 22 جويلية 1963م, فألغى المحاكم الشرعية أو الإسلامية ونقل اختصاصاتها إلى المحاكم المدنية العادية...) (21)(43/11)
يعتبر هذا المرسوم أول مرسوم يلغي المحاكم الشرعية الإسلامية نهائيا, بعدما كانت في العهد الفرنسي موجودة يلجأ إليها الأهالي لفك نزاعاتهم (وأنشأ بعد الاستقلال المجلس الأعلى للقضاء, و يعتبر الركيزة الأساسية لنظام وحدة القضاء في الجزائر, وأعطى أهمية للمنازعات الإدارية, و يتكون من الغرفة المدنية, أو غرفة القانون الخاص, و الغرفة الاجتماعية, و الغرفة الجنائية, و الغرفة الإدارية, و كان ذلك في 1963م, و ظل كذلك لمدة عشر سنوات, و جاء الأمر المؤرخ في- 12 يوليو 1974م- رقم 74-75, و أصبح المجلس القضاء الأعلى يتكون من الغرفة المدنية, وغرفة الأحوال الشخصية, و الغرفة التجارية و البحرية, و الغرفة الاجتماعية, والغرفة الإدارية, والغرفة الجنائية الأولى التي تبت في أحكام المحاكم الجنائية, و المحاكم العسكرية, وغرف الاتهام, وقضايا تسليم المجرمين, والغرفة الجنائية الثانية, وتبت في الأحكام الصادرة, فيما يخص الجنح والمخالفات.)(22) ورغم إنشاء غرفة خاصة بالأحوال الشخصية التي بقيت مستمدة من الشريعة الإسلامية فإنّ الغرف الأخرى بقيت تستمد موادها القانونية من القانون الإداري الفرنسي, والقانون الجنائي الفرنسي, مع بعض التعديلات البعيدة غير مستمدة من أحكام الإسلام.وأصبح النظام القضائي يتمثل في محاكم متعددة الاختصاص منتشرة على مستوى الوطن, ومجالس قضائية, والمجلس القضائي الأعلى, والمحكمة العليا. وتمثل تطبيق الاشتراكية آنذاك في عدم جعل الدين الإسلامي المصدر الأساسي لكل التشريعات المدنية والجنائية في البلاد.
الفرع الثاني: العولمة
لقد اختلف علماء الغرب والشرق والباحثين في تحديد مفهوم العولمة.(43/12)
قال (روبرت شتراوس) في كتابه (توازن الغد): [إن المهمة الأساسية لأمريكا تتمثل في توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية، وهذه المهمة لابد من إنجازها بسرعة في مواجهة آسيا وأي قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية، إن مهمة الشعب الأمريكي القضاء على الدول القومية].(23)
ويقول (أنتوني غيدنز) (Anthony Giddens) في كتابه (عالم منفلت) (Runaway World) ط1 – 2000م بروفليل بوكس، ص104. : [العولمة هي تغيير غير مسبوق في جدته, وفي كونه فريد الحدوث. إن من ناحية عمق التأثير, أو اتساعه الأفقي، والعولمة تعمل بقوة على إعادة تشكيل حياتنا، والعولمة حقيقة واقعة يدل عليها حجم الحديث الهائل عنها، وعدم خلو الخطاب السياسي منها أيا كان مصدره، وحيثما كانت جغرافيته، وشيوع مفردة العولمة ذاتها في كل لغات العالم يشكل كبير ملفت للنظر…].
وقال د/عماد الدين خليل: [العولمة هي الإفراز الطبيعي للتقدم التقني المدهش، والنظام الجديد خلفياته التنظيرية، سواء في صراع الحضارات أو نهاية التاريخ، والمصطلح المذكور –يعني- في ظاهره ازدياد العلاقات لمتبادلة بين الأمم، سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات أو انتقال رؤوس الأموال، أوانتشار المعلومات والأفكار، أما في حقيقة الأمر فإن معناه تفكيك الأمم، والدول والجيوش والمجتمع والأسرة، وتجريد الفرد من القيم والأخلاق والمبادئ الدينية المقدسة، ورفع الحواجز والحدود أمام المؤسسات والشركات المتعددة الجنسيات. )(24)
وقال الباحث يوسف الأشقر [العولمة عولمتان: الأولى واقع حكمي والثانية مشروع محتمل.الأولى: تتمثل في ضغط الزمان والمكان بفضل التقدم التكنولوجي والعلمي ووسائل السرعة، ولا يمكن إنكارها أو إيقاف تقدمها. الثانية: هي مشروع نظام عالمي سياسي عسكري اقتصادي ثقافي من الممكن والواجب إيقافها وإسقاطها)(25)(43/13)
وقال باحث آخر [العولمة لغة من التعولم والعالمية والعالم، وهي اصطلاحا اصطباغ الأرضية بصبغة واحدة شاملة لجميع أقوامها وكل من يعيش فيها وتوحيد أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاط الأديان والثقافات والجنسيات والأعراق… والعولمة ليست مصطلح لغوي قاموسي جامد يسهل تفسيرها بشرح المدلولات المتصلة به. ومفهوم العولمة بداية له علاقة وطيدة بالاقتصاد والرأسمالية، وهذا ما جعل عدد كبير من الكتاب يذهبون إلى أن العولمة تعني تعميم نموذج الحضارة الغربية وخاصة الأمريكية وأنماطها الفكرية والسياسية، والاقتصادية والثقافية على العالم كله] (26)
سمى عبد الله إسماعيل صبري، العولمة بالكوكبة حيث كتب مقالا في مجلة الكرمل -رام الله- العدد53 –خريف 1998م ص85، بعنوان (الكوكبة الرأسمالية في مرحلة ما بعد الإمبريالية وأورد الباحث خالد الحروب مفاهيم مختلفة وهذه الكلمات كمرادفات لكلمة العولمة في مقالة له في جريدة الأيام يوم 12-02-1998م ص17. عنوان المقالة (مفهوم العولمة، محاولة لرسم حدود التعريف. ) وسمّاها علي أحمد عتبة الإمبراطورية الجديدة في مجلة المنتدى -العدد 154- تشرين 1997م…
يتفق المفكرون الغرب والمسلمون على أن العولمة تشكل مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني، والبعض يراها مرحلة في إطار التطور الرأسمالي، وآخرون يجدون أن العولمة مرحلة انتقالية مفتوحة على أكثر من خيار، استعمال القوّة بكل أشكالها، أو عولمة اجتماعية تحمل سماتها من كل ما هو مشترك في الثقافات والحضارات. ويراها آخرون محو للهوية الإسلامية وتنميط الهوّيات وإلغاء الخصوصيات، وإحكام السيطرة على مراكز القرارات والثروات.(43/14)
وإذا كانت العولمة تشمل كل هذه الأمور فإنها تمس الأسرة التي هي حصن الأمة و المرأة المسلمة التي ما زالت محط أنظار القوى العالمية. قالت المدير العام للجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل >كاميليا حلمي< موضحة أن موضوع العولمة وتطبيق الوثائق الدولية الخاصة بالمرأة والطفل الصادرة عن الأسرة المتحدة إذا تم تطبيقها فهي كفيلة بتدمير الأسرة لأن هذه الوثائق تركز على المساواة التامة وعلى دعم المصطلح الذي ينادي بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة وبينت إنه لا يمكن أن تتم المساواة التامة بين الرجل والمرأة؛ لأن لكل منهما خصائصه, ولكل منهما دوره الاجتماعي المكمل للآخر, وذكرت أنّ هذه الوثائق تلغي جميع الفوارق بين الرجل والمرأة حتى الفوارق البيولوجية , وهذا شيء مناف للفطرة , ومن شأنه تعكير صفو العلاقة بين الزوجين، ومن شأنه أيضا أن يؤدي إلى خلط في الأدوار, وإلى التنازع على الأدوار ,وخلق روح الصراع بين الزوجين)
ولهذا جعلت النساء هدفهن القضاء على القضاء الشرعي, لتتحقق لهن المساواة التي تهدف إليها العولمة.
المطلب الثالث: الحركات التحررية النسوية والمؤتمرات العالمية(43/15)
نشأت الحركات التحررية النسوية في الوطن العربي للمطالبة بالكثير من الحقوق الخاصة بالمرأة, و فيها ماهو منصف في دفاعه, وتلمس الأمور المهمة, كالجهل, والأمية في أوساط النساء, والتعسف الحاصل من طرف الأولياء, أو الزوج, والظلم المسلط على المرأة في الكثير من الميادين, ولكن الإشكال الذي وقعت فيه هذه الجمعيات هو اعتبار الإسلام, والدين هو السبب, وليس أمور أخرى كثيرة, وعليه ركزت جهودها في تشويه صورة الإسلام في أوساط النساء خاصة, ومنه تبنتها القوى العالمية, و انقادت الكثير من الحركات النسوية للعمل ضمن لواء الدولية, للوصول إلى مآربها, فخرجت من إطار الولاء للأوطان إلى الولاء للقوى العالمية التي استطاعت أن نستخدم المرأة للوصول إلى مآربها في الوطن العربي, فمن حملات التنصير إلى التحرر, وأساسها القضاء على القيم والأسرة, والدين والثوابت وغيرها, فتبنت نساء كثيرات طروحات المؤتمرات العالمية؛ كالمساواة المطلقة, وأنّ الدين سبب التخلف, والحرية الجنسية, والجندر, وغيرها... وهي تحاول ترسيخها في بلدانها -ومنها الجزائر - فكانت الهدف والوسيلة لهذه القوى, وهذا توضيح لذلك.
الفرع الأول: المرأة المسلمة وحملات التبشير والتنصير:(43/16)
كانت جهود المبشرين والمبشرات أثناء الاستعمار الأوربي للوطن العربي، -وخاصة الجزائر-جهود كبيرة ومنصبة بصفة خاصة على تنصير المرأة عبر حملات التبشير، وإنشاء مراكز التعليم وعيادات التمريض والعلاج ومراكز الخياطة، وتجند لهذا العمل عدد كبير من النساء المبشرات، وقد انعقد مؤتمر سنة 1906م، وكان أحد محاوره الهامة (الأعمال النسائية في التبشير) وحضرته مجموعات كبيرة من مندوبي الإرساليات التبشيرية من مختلف الدول الأوربية والأمريكية, وقد أولى المؤتمر لهذا المحور اهتماما كبيرا؛ لأنه يتعلق بنصف مسلمي العالم, ألا وهو النساء المسلمات. وقد تناوبت على المؤتمر سيدات مبشرات من مختلف المناطق للخطابة في أخبار نجاحهن، وأشرن إلى أنّ المدارس, والعيادات الطبية, وزيارة قرى الفلاحين وسائل ناجحة في نشر النصرانية بين طبقات المجتمع المسلم. قال شاتليه [لا سبيل إلا بجلب النساء المسلمات للمسيح، إن عدد النساء المسلمات عظيم جدا، فكل نشاط مجد للوصول إليهن يجب أن يكون أوسع مما يبذل الآن…نطلب من كل هيئة تبشيرية أن تحمل فرعها النسائي على العمل واضعة نصب عينيها هدفا جديدا هو الوصول إلى قلب نساء العالم المسلمات كلهن في هذا الجيل] وقد ذكر الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه تاريخ الجزائر الثقافي (ان ماري بوجيجة زوجة أحد أعيان الاستعمار الفرنسي عقدت مؤتمرا حضره عدد كبير من النساء للحديث عن حرية المرأة و التبشير و حضرته جزائريات وكان ذلك سنه 1932م.)
الفرع الثاني: المرأة المسلمة والاستعمار.
لقد عانت المرأة المسلمة من ويلات الاستعمار عناء كبيرا، وتحملت الإهانات, والسجن, والتعذيب, والتجهيل(43/17)
وفقدان الأب والزوج والأخ، وكانت نساء كثيرات يحملن لواء الجهاد والدفاع عن المقدسات, والوطن بكلّ ما يملكن من مال وولد, وضحين بأنفسهن، إلى أن حصل الوطن الإسلامي بكلّ دولة على الاستقلال، إلا أن المرأة المسلمة خرجت من هذا الاستعمار -خاصة المغرب العربي- أمية لا تعرف القراءة والكتابة، إلا القليل، وهذه القلّة من النساء يعرفن اللغة الفرنسية, والثقافة الفرنسية لا العربية والإسلامية، لأن المدارس في عهد الاستعمار منعت المسلمين والعرب من الدراسة الحرّة, أو المنظمة تبعا للمناهج العربية، وسمحت بالدراسة في المدارس الفرنسية أو الإنجليزية فقط. كما رفض الأهالي تعليم أبناءهم في المدارس الفرنسية و خاصة بالجزائر, فخرج المرأة المسلمة من الاستقلال فاقدة للكثير، إما الزوج والأبناء أو الولد أو المال أو العلم والثقافة، إلا أنها محافظة على هويتها الإسلامية, وخرجت فئة أخرى من النساء تعلمت في المدارس الفرنسية, والثقافة الأجنبية وتبنت الهوية الغربية والمطالب النسوية الغربية في الدفاع عن حقوقها و تمكنت من احتلال مناصب مهمة تختص بصنع القرار.و ساهمت بشكل كبير في عرقلة المشروع الإسلامي بما فيه القضاء الشرعي.
الفرع الثالث: المرأة المسلمة وحركات التحرر.
إنّ حركات التحرر قادها الغرب وتلامذته من أهل الشرق, وكانت المرأة المسلمة هي الهدف، والتحرر وإن كان يأخذ مناحي كثيرة، إلا أن المقصود هنا التحرر من القيم والضوابط الإسلامية, والحياة الأسرية.(43/18)
وقد أسس لهذا التيار، النساء الغربيات اللواتي حملن عدة شعارات, وتيارات فكرية خاصة بمجتمعهن، فكان التيار الإصلاحي (27) الذي حاول التغيير من داخل الفكر المسيحي، وأثار مشكلة كون الرّب: رجلا، وتم التركيز على الرموز النسائية، في العقيدة، خاصة مريم العذراء، وظهرت دعوة لإدخال النساء في سلك الكنيسة، وغيرها. ثم جاء التيار النسوي الذي يتميز بالعلمانية ويرى أن الدين هو السبب الرئيسي لتردي أوضاع المرأة، وهو سبب قهر المرأة وتسلط الرجل، وبدأ التيار النسوي التحرري تاريخيا في المجتمع الليبرالي الرأسمالي كحركة لتحرير المرأة في القرن التاسع عشر نتيجة تردي أوضاع النساء في ظل الثورة الصناعية، وتهميش دور المرأة الاجتماعي والسياسي ويعتبر القرن التاسع عصر التنظيم لمطالب نسائية محددة تدعمها حركة اجتماعية قوية. وفي القرن العشرين تبلورت الحركة النسائية في الغرب واتخذت آليات ومطالب مختلفة، وانتقلت هذه الحركة من المطالب المهمة والحقوق القانونية إلى طرح الأفكار الراديكالية بشأن المرأة ودورها وعلاقتها بالرجل وأصبحت المرأة الغربية تعمل في مجال إيديولوجي يسمى النسوية "Feminism" وكلّ هذه التحولات والطروحات التي انتشرت في المجتمعات الغربية أريد لها أن تكون من نصيب المرأة الشرقية، وظهرت تيارات نسائية في الشرق تحمل نفس المنهج الغربي في التغيير، الثورة على الدين الإسلامي كما ثارت المرأة الغربية على الكنيسة، الثورة على القيم والرجل كما فعلت المرأة الغربية التي انطلقت من واقعها وظروفها الخاصة، وهذا لا يعني أنه ليس للمرأة الشرقية ظروف ومشاكل ومشاغل ، بل الآليات ومناهج التغيير والمطالبة بالحقوق تختلف من مجتمع إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى.(43/19)
إلا أن بعض أهل الشرق مدعومين من الغرب أرادوا أن ينقلوا هذه الحركات التحررية إلى الوطن العربي، وليس الهدف من ذلك رعاية مصالح النساء المسلمات, وتحقيق عدالة اجتماعية يكون للمرأة فيها نصيب، بل إحداث ثورة على القيم, ونبذ الدين, وإخراج المرأة من تعاليم الإسلام، وإدخالها في دوامة النسوية العالمية والتحرر من الأسرة والزوج والأب، فقد قدمت إحدى الباحثات العربيات محاضرة في ملتقى انعقد باليمن تحت عنوان (تحديات الدراسات النسوية في القرن الحادي والعشرين) سنة 1999م (28) قدمت مداخلة عنوانها (تأنيث اللغة والأدب) وتحدثت على أن الله –سبحانه وتعالى- ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم….واحتجت بشدة على ذلك، واحتج باحث آخر على نظام الأسرة في الإسلام وحرية المرأة المقيدة بضوابط الشرع والعرف في مداخلة تحت عنوان (نحو قوانين جديدة للاجتهاد ونحو اجتهاد نسائي).
قال : [قرأت كتاب الثورة الجنسية لرايشين، الذي يدعو فيه إلى الخلاص من قيد الأسرة ويصفها بالسجن البرجوازي ويشجع على ممارسة الحرية الجنسية بعيدا عن هذا الرباط الممل، فتشبعت بتلك الآراء التي ملأت كياني، فطلبت من زوجتي الانفصال، فتم ذلك بالفعل وفي هدوء وسرت إلى باريس ألاحظ وأنجزت رسالة دكتوراه حول مدى ملائمة نظرية رايشين للمجتمع المغربي] وقال أيضا : [لكي نضع الاجتهاد في خدمة النضال الأنثوي يجب أن نثور على قاعدة لا اجتهاد مع النص].(29)(43/20)
وقد انعقد في القاهرة من 23-28 أكتوبر سنة 1999م مؤتمرا بعنوان (مرور مائة عام على تحرير المرأة العربية) وشارك في هذا المؤتمر عدد كبير من الباحثين العرب وباحثين من الغرب، وكانت الجلسات عديدة، والبحوث مختلفة أعادت قراءة قاسم آمين وكذا بعض رواد التحرير خاصة في مصر ومن محاور هذا المؤتمر: المرأة والإعلام، تهميش المرأة في التاريخ، الجسد الأنثوي وحيويته، المرأة والتيارات الدينية في المجتمع، المرأة واللغة، المرأة والسلطة، وقد قال أحد الباحثين معلقا عما ساد في هذا المؤتمر: [إن تحليل الخطاب الذي ساد المؤتمر يدل على أن قاسم أمين يبقى متواضعا بشأن رويته التحررية للمرأة إذا ما قورن بخطاب تحرير المرأة الذي ساد المؤتمر]. (30)
هكذا أصبحت نداءات التحرر في الوطن العربي تطبق ما يملى عليها مما هو سائد في الغرب من أفكار, أو مبادئ، دون تمحيص, أو نظر. وهكذا تحولت المطالب من التحرر, والمساواة, والاعتراض على أوضاع كنا ومازلنا نراها ظالمة؛ كالجهل, والتخلف, والتعسف في الطلاق, والحبس والإضرار الزوجة، ومنع البنت من التعليم، إلى مطالب نسوية لا تقبل التفاوض، جادة لا تقبل التحاور مدعومة حكوميا, ودوليا, لا ترضى التنازل.
الفرع الرابع: المرأة المسلمة والدراسات الغربية:
لقد نالت المرأة المسلمة قسطا كبيرا من الدراسات الغربية، منذ نشوء الإستشراق، وكتب عنها الكثير من طرف علماء الغرب رجالا ونساء، وموضوعات المرأة في الكتابات الاستشراقية تنحصر في:
زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- وعلاقته بهن.
علاقة المرأة بالرجل في الإسلام وعلاقة المرأة بالمجتمع.
الزواج في الإسلام وتقاليده ووضعية المرأة داخل الأسرة.
تعدد الزوجات.
حجاب ولباس المرأة المسلمة.
عمل المرأة وخروجها من البيت وغيرها.(43/21)
أما الهدف من كثرة هذه الكتابات والدراسات فيقول الأستاذ أنور الجندي -رحمه الله- [من الخلفيات الملموسة والجهود الملموسة للحركات الاستشراقية تحرير المرأة والرمي إلى تحقيق مجموعة أهداف خطيرة ترمي إلى هدم الأسرة وتدمير المجتمع، ودفع المرأة إلى أن تكون أداة للأهواء والرغبات، وإخراج المرأة من مكانتها ورسالتها وتحطيم القيم الأخلاقية والاجتماعية و النفسية في شأن العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الأجيال المتتابعة من الرجال والنساء] (31)
الفرع الخامس : المرأة المسلمة والمؤتمرات العالمية الدولية :
لقد انعقدت عدة مؤتمرات دولية، تعالج موضوع المرأة عموما وتهتم بترسيخ عالمي لحقوق المرأة، بما فيها المرأة المسلمة، وقد انعقدت ست (6) مؤتمرات لهذه القضية تحت غطاء الأمم المتحدة وهي :
مؤتمر حمل شعار (تنظيم الأسرة) حول المرأة والأسرة سنة 1950م.
مؤتمر في المكسيك سنة 1975م.
مؤتمر في نيروبي سنة 1985م يحمل شعار (استراتيجيات التطلع إلى الأمام من أجل تقدم المرأة).
المؤتمر الدولي للسكان والتنمية - بالقاهرة سنة 1994م.
مؤتمر بكين (المساواة والتنمية والسلم) سنة 1995م.
مؤتمر نيويورك في سنة 2000م (النوع والتنمية والمساواة والسلام في القرن الحادي والعشرين).
هذه المؤتمرات خرجت بقرارات وتوصيات واتفاقيات، تأخذ صفة الدولية، ومن ثم الإلزامية في التنفيذ والتطبيق، وقد وافقت عليها الكثير من الدول الإسلامية و منها الجزائر, وإن عارضها الكثير كرابطة العالم الإسلامي والفاتيكان، لأن النتائج تنم عن قرارات معارضة للشريعة الإسلامية والديانة المسيحية.(43/22)
قال الدكتور محمد عمارة في هذا الصدد (إن الحركات النسوية الغربية بعد أن نجحت في صياغة لاهوتها النسوي الجديد، تقدمت فصاغت هذا اللاهوت اللاديني في وثيقة دولية سعي الغرب إلى عولمتها تحت غطاء علم الأمم المتحدة من خلال المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة سنة 1994م. ومنذ ذلك التاريخ بدأت هذه الحركات النسوية في بلادنا ومعها مراكز الأبحاث التي تمولها الحكومات والمؤسسات الغربية، بدأت في التبشير بهذا "اللاهوت اللاديني" الجديد فبدأت الدعوات إلى "تغيير هياكل الأسرة" من الأسرة الشرعية القائمة على الاقتران بين الذكر والأنثى" وفق الضوابط الشرعية إلى الأسرة القائمة على مجرد الالتقاء الاختياري بين الأفراد، رجل وامرأة، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة ناضجين كانوا أم من المراهقين والمراهقات… وبدأ الحديث عن ضرورة تحطيم الطابوهات، أي المقدسات، مثل العفة والبكارة والإخلاص والاختصاص بين الزوجين… وبدأ الحديث عن حقوق النشاط الجنسي وحقوق النشطين جنسيا دون قيود الشرع وضوابطه… واعتباره حقا من حقوق الجسد كالغذاء والماء… بصرف النظر عن الحلال والحرام الديني...)(32)
وتقول الدكتورة صفيناز كاظم عن هذه المؤتمرات [لقد أصبحت المنظمة الدولية منبرا أمريكيا ينفذ سياسات أمريكية في الأساس، وما يتفق عليه الغرب بعد ذلك، وطبعا النظام الاجتماعي الإسلامي الذي نواته الأسرة له خصوصيته، ويختلف جذريا عما هو سائد في أمريكا والغرب من أوضاع اجتماعية شاذة، فمؤتمرات الأمم المتحدة عن المرأة الذي عقد في بكين ومؤتمر السكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة، ومؤتمر الطفل ببكين، كلها تنويعات على فلسفة واحدة لتسويق النموذج الغربي في مجال العلاقات الاجتماعية من وجهة نظر أمريكا والغرب لا فرق بينهما وبين المنتجات الاستهلاكية] (33)(43/23)
وقالت الأستاذة حبيبة البرقاوي (أستاذة وباحثة اجتماعية وتعمل مسؤولة بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية) معلقة على هذه المؤتمرات وموضوعاتها ونتائجها: [شاركت وحضرت كل المؤتمرات من المؤتمر العالمي الأول للمرأة في مكسيكو، وتأكدت أنهم يريدون من أن نطبق ما ينقلونه إلينا… كل المؤتمرات التي تعقد عن المرأة فيها تهجم على المسلمين، لكن مؤتمر بكين بصفة خاصة كان متجها إلى المسلمين، وكأن مشكلة المرأة في العالم هي مشكلة المرأة المسلمة… ولم تشارك في هذه المؤتمرات أي امرأة من العالم الإسلامي متخصصة في الشريعة والفكر الإسلامي]. (34)
إن الفكر الغربي يدرك جيّدا أن حجر الزاوية, وعنصر القوة الوحيدة الباقي في العالم الإسلامي، والحبل المتين الذي يشد هذه الأمة إلى دينها, ورسالتها إنما هو الأسرة ونظامها؛ الذي تتنامى فيه روابط, وعلاقات بين الزوجين, وبين الآباء, والأبناء, وبين أفراد المجتمع. والمرأة المسلمة حجر الزاوية في هذه الأسرة، ومن هنا تصير عملية تفكيك الأسرة, وتحرير المرأة المسلمة من قيمها, ودينها هدفا مقصودا لذاته مقصودا, للذين يريدون إذابة خصوصيات المسلمين, وتفكيك سائر بنائهم، وتحرير نسائهم, وتطبيق ما يريدونه، وتعميم نماذجهم في كلّ شيء الأكل واللباس والكلام والتفكير…
ونتائج هذه المؤتمرات, وإن ردّ عليها الكثير من الباحثين المسلمين, والتنظيمات العلمية, والدّعوية, والإسلامية إلى أنّها تلقى من يرّوج لها في مجتمعاتنا بعيدا عن القيم والتقاليد والأخلاق والضوابط.
الفرع السادس : أثر الحركات النسوية التحررية على القضاء الشرعي(43/24)
لقد ظهرت حركات تحررية تقودها نساء من المحيط إلى الخليج تهتم بقضايا المرأة, إلا أنها تستمد برنامجها النضالي من المرأة الغربية تقليدا. و كان انعكاس هذا الأمر خطيرا جدا على الوطن العربي, فإضافة إلى الحملة الشعواء ضد القضاء الشرعي الجنائي, هناك حملة شعواء, ضد القضاء الشرعي في الأحوال الشخصية, وقادها نساء في مجال البحث ,و الحركات التحرر, و المناصب الرسمية و غيرها. قال أحد الباحثين ( ما سر العلاقة الودية الوثيقة التي تربط بين دعاة تحرير المرأة و بين القوى الاستعمارية و المعادية للإسلام وعلمائه و دعاته وأهله في كل مكان من العالم حولنا ؟ انه بالرغم من افتراض حسن النية أو الجهل عند من كان يظهر الإسلام من دعاة تحرير المرأة لكن هذا الافتراض لم يمنع بعض الباحثين المحللين والباحثين حق الاجتهاد و البحث عن علاقة ما محتملة سرية أو علنية بين مخططات البهائية و الصهيونية و الماسونية و مسيرتها السرطانية الدؤوبة التي لا تشعر بها إلا بعد ظهور أورام وتفشي الموت في الدم واللحم والعظم و بين قيادات و دعاة السفور على مساحة ديار المسلمين الواسعة...) (35)
فمن بكين إلى المكسيك إلى أمريكا إلى اليمن إلى مصر إلى الجزائر؛ كلّها محطات لمؤتمرات, وملتقيات للدعوة إلى تحرير المرأة لا من الجهل, والتخلف والظروف المزرية, التي تعيشها الكثيرات, بل تحريرها من القيم, والمبادئ السامية, والالتزام بالشرع, وينصب النضال حول مبدأ المساواة المطلقة بين الرجال والنساء والجندر. وهذا يؤدي إلى الهدف البعيد؛ إلغاء القضاء الشرعي الذي ما زال يخص موضوع الأحوال الشخصية فقط في الكثير من البلاد الإسلامية. وقد طالبت في الجزائر أحزاب, وجمعيات نسوية بإلحاق قانون الأسرة بالقانون المدني, واحتجوا بالتناقض الموجود بين الدستور الذي يسوى بين المواطنين رجالا و نساء, و بين قانون الأسرة الذي لا يسوي بين المرأة و الرجل على حد تعبيرهم.(43/25)
وقد أصدرت هذه الجمعيات و الأحزاب بيانا في 25 فيفري 1997م شعاره ( مليون توقيع من أجل حق المرأة في العائلة... و كانت المطالب هي: حتى نضع حدا لهذا الظلم من أجل حقوقنا و الحقوق نفسها داخل الأسرة لنعمل معا رجالا, و نساء كي نلغي المواد الأكثر تمييزا في قانون الأسرة, ونقترح قوانين أخرى, قوانين لا ترمي النساء, وأطفالهن في الشارع, قوانين لا تحرم النساء من حقوقهن في الوصاية على أطفالهن, لنعمل من اجل قوانين أكثر إنصافا و أكثر عدلا...) (36) فإلغاء القوانين الإسلامية إلغاء للقضاء الشرعي
المبحث الثالث: الجهود المبذولة للحفاظ على القضاء الشرعي
لم تمر المشكلات التي واجهها القضاء الشرعي, ومحاولات إلغاءه, واستبداله بقضاء وضعي على الشعب الجزائري بصمت, ويسر بل حصلت مقاومة شرسة من طرف الشعب, و العلماء, والقضاة والجمعيات أثناء الاستعمار وبعد الاستقلال؛ وخاصة تلك القوانين التي تتعلق بالأسرة والأحوال الشخصية والأوقاف والوصايا...
المطلب الأول: الجهود أثناء الاستعمار
لم يصمت الشعب الجزائري, بمختلف فئاته أمام اغتصاب أرضه, ومقوماته من طرف المستعمر؛ الذي حاول بكلّ ما يملك أن يذل هذا الشعب, و قيمه, و يحل محلها الصليب, و التمسيح مثلما سبق ذكره, وقال ألان كريستلو صاحب كتاب مجالس القضاء الإسلامي والدولة الفرنسية في الجزائر (إني عندما بدأت دراساتي العليا أصبح واضحا لدي أن القضاء الإسلامي كان الحجرة الأساسية لفهم أثر التجربة الاستعمارية الفرنسية على القيم الثقافية الجزائرية و أثناء البحث تبنت حقيقة هذه الآثار والتي كانت فعلا معقدة ).
الفرع الأول: جهود الشعب الجزائري(43/26)
لا يخف على أي باحث, ما حصل في تاريخ الجزائر, أثناء الفترة الاستعمارية, فمنذ دخول المستعمر إلى هذه البلاد, والمقاومة لم تنته, وكان الغرض منها تحرير البلاد, و الأرض, والقيم, والإنسان, وكلّها كانت تحت لواء الجهاد, و الحفاظ على الدين الإسلامي. ومن مظاهر رفض الشعب الجزائري للقضاء الشرعي الفرنسي رفضه للمثول أمام المحاكم الفرنسية, واعتماده على الأعراف, وإمام المسجد, والعلماء الدين.( إنّ القضاء الإسلامي ظل جزءا أساسيا من الشريعة الإسلامية, وأن أي تهديد له رأى المسلمون؛ بأنه مرحلة خطيرة, وإن المحاولات العديدة لتطبيق القوانين الفرنسية عليهم جاءت لإرغامهم على ترك معتقدهم...) (37)
وكتب ألفريد لو شاتليه سنة 1910م حول الإسلام الجزائري ( وفي مدة ثمانين سنة اصطنعنا -يقصد الفرنسيين - إسلاما فذا في العالم؛ إسلام بدون أوقاف, وله مساجد إدارية, وأئمة تغربلهم الإدارة أحسن غربلة, وقضاة موظفون, وحج لا يكون إلا برخصة؛ ثم ها نحن نصوغ الآن أحكاما موحدة لقيطة من نتاج الفقه الفرنسي والقانون الفرنسي, إنّ نصف الحملات, والجيوش التي قامت بين أربعين وخمسين سنة ترجع إلى اضطهاد المؤسسات الإسلامية.)(38) وكانت الحملة ضد الاستعمار شملت الأعيان والقادة (أما التحدي لهذه السياسة الاستعمارية التعسفية, فقد جاء من قبل المسلمين الجزائريين, لاسيما من قبل أعيان المدن الذين, زاد غضبهم واحتجاجهم لفترة طويلة من الزمن ضد الهيمنة الاستعمارية الفرنسية )(39) وهذا ما فهمه وتلمسه الشعب آنذاك.
الفرع الثاني: جهود القضاة والكتاب أثناء الاستعمار(43/27)
كان موقف القضاة والعلماء في بداية الفترة الاستعمارية, ومرحلة محاولة القضاء على القضاء الشرعي واحد وهو الرفض للقضاء الفرنسي إلا القلة القليلة جدا ( معظم المستعمرين رأوا بأن أغلبية رجال الدين أو العلماء الجزائريين ظلوا محافظين وقلة قليلة منهم من حاول عصرنة الشريعة الإسلامية أو أحباب الترقي كما سموا أنفسهم amis du progrès) )(40) و( منذ بدأ الفرنسيون يتدخلون في شؤون العدالة الإسلامية, ويوجهونها وجهة تخدم مصالحهم, وتحد من نشاطها في المجتمع أخذت بعض الكتابات تظهر حول الشريعة وأحكامها تارة في شكل ترجمات وتارة مؤلفات عربية أو فرنسية تصب في نفس الاتجاه.و كانت هذه المؤلفات بأقلام جزائرية يرد أصحابها أن يبينوا صلاحية الشريعة الإسلامية للمجتمع المسلم وكانوا يحاولون التوفيق بين القانون الفرنسي والشريعة و يدافعون عن القضاء الإسلامي )(41) ومن المؤلفات التي تدافع عن القضاء الإسلامي ما يلي:
كتاب (بيان القوانين الردعية المطبقة على النصوص في الأرياف الجزائرية) لمكي بن باديس ترجم إلى الفرنسية و نشر سنة 1875م. (رسالة عن وضع القضاء و القضاة) لمكي بن باديس سنة 1889م وتضمنت الدفاع عن القضاء الإسلامي والدعوة إلى استرجاع صلاحية القضاة المسلمين وقال ( إن القضاء الفرنسي طويل الإجراءات ومتعدد الجلسات ويحتاج إلى محامين وهو باهظ الثمن بينما القضاء الإسلامي عكس ذلك...)(42)(43/28)
(مجموع النصوص الفقهية والوثائق) لمحمد طيار, (مجموع القوانين القضائية)سعيد محمد والسيد زيس الفرنسي سنة 1886م.ومشروع محمد بن الحاج حمو ومحمد رحال, لإصلاح القضاء الإسلامي, وهو المشروع الذي تقدما به إلى لجنة جول فيري في 1892م.(القضاء المدني الإسلامي ) لأحمد بوضرية, وهو محامي, و مختص في القانون الفرنسي والشريعة 1904م.(النهج السوي في الفقه الفرنسوي) ترجمة وتقديم عمر بن حسن بن بريهمات 1908م.(المحاكم كتاب مقرر على القضاة وأضربهم) لعلي حسن 1923م.(العدالة الإسلامية) الشريف بن حبيلس. منظومة ( 200 بيت) في أحكام الفتوى أحمد الطيب بن محمد الصالح الزواوي وسماها (مفتاح الأحكام )والشرح له وسماه تذكرة الأحكام والأرجوزة في نصرة الإخوان في احتجاج الفقهاء بالبرهان.
هذه مجموعة من المصنفات تدل على أن العلماء لم يرضوا بالقضاء الفرنسي, وحاولوا بيان أهمية القضاء الإسلامي ودافعوا عنه بهذه المؤلفات.
الفرع الثالث: جهود العلماء المسلمين أثناء الاستعمار(43/29)
بقي نضال الشعب الجزائري وعلماءه من أجل استرداد القضاء الشرعي وفي كل مرة يريد القضاء الفرنسي أن يلغي القضاء الشرعي يتصدى له, و قد حملت جمعية العلماء هذا اللواء, و كتب رئيسها الشيخ عبد الحميد ابن باديس للسلطات الفرنسية عبر جرائد ومجلات الجمعية يطالب بتنظيم القضاء الشرعي, وإصلاحه ومما كتب تحت عنوان (حقوق الأمة الجزائرية التي تطلبها من الأمة الفرنسوية) (ينظم القضاء بوضع مجلة أحكام شرعية على يد هيئة إسلامية تكون تحت إشراف الجمعيات الدينية المشار إليها في الفصل السابق وإدخال إصلاحات على المدارس التي يتخرج منها رجال القضاء منها تدريس تلك المجلة والتحقق بالعلوم الشرعية الإسلامية و طبع التعليم بطابعها لتكوين رجال يكونون من أصدق الممثلين لها )(44) وفي سنة 1944م /1363هـ تقدم الشيخ البشير الإبراهيمي بمجموعة مطالب واقتراحات إلى لجنة الإصلاحات الإسلامية بالجزائر التابعة للحكومة الفرنسية و قد استدعي الإمام للاستماع إليه وقدم هذا التقرير في 3جانفي 1944م ( ...إن الأمة الجزائرية أمة مسلمة عربية...وأنا اعتقد أن هناك أنواعا من الإصلاحات تجب المبادرة بتنفيذها بصورة حازمة حاسمة لأنها زيادة عن كونها معقولة في نفسها لا يكثر حولها الجدل, والاعتراض وهي القضاء الإسلامي والمساجد وأوقافها وموظفوها والتعليم العربي...إصلاح القضاء الإسلامي: نرى مما يجب المبادرة به من إصلاحات خاصة إصلاح القضاء الإسلامي, لأنه على غاية من الاختلال لا من الجهة العملية ولا من الجهة العلمية وأن الأحوال الشخصية الإسلامية التي أعلن تصريح الجنرال ديغول المحافظة عليها, و جعلها أساسا لها الإصلاحات هي في الحقيقة و الواقع لا وجود لها...القضاء بين المسلمين في أحوالهم الشخصية, والمالية, والجنائية جزء لا يتجزأ من دينهم لان الحكم بينهم حكم من الله, و لأن أصول تلك الأحكام منصوصة في الكتاب, والسنة, وكل ما فيهما فهو دين, ولأنهم ما خضعوا(43/30)
لتلك الأحكام, إلا بصفة كونهم مسلمين...و الدولة الفرنسية نفسها تعترف بهذه الحقيقة اعترافا صريحا, فقد كانت إلى العهد القريب تعارض مطالبة الجزائريين بحقوقهم السياسية لتمسكهم بالقانون الإسلامي في الأحوال الشخصية, والحقيقة أن الحكومة الفرنسية منذ الاحتلال بترت القضاء الإسلامي؛ فانتزعت منه أحكام الجنايات, والأحكام المالية, ولم تبق له إلا أحكام النكاح, والطلاق, والمواريث, ويا ليتها أبقتها له حقيقة, ولكنه مع المحاولة احتكرت تعليمه, واحتكرت وظائفه لمن يتخرجون على يدها, وبتعاليمها وجعلت نقض أحكامهم, و تعقبها بيد القضاة الفرنسيين, وأصبح القضاء الإسلامي حتى في هذا القدر الضئيل خاصة للقضاء الفرنسي, وأصبح القضاة بحكم الضرورة لا يرجعون في أحكامهم إلى النصوص الفقهية وإنما يرجعون إلى اللوائح التي يضعها وكلاء الحق العام الفرنسيون وفي هذا إجحاف وظلم للقضاء الإسلامي , وما لا يرضى به المسلمون ...ولا ننسى أنه وقعت محاولات واستفتاءات في بعض الأحيان يراد منها إلغاء القضاء الشرعي, بالتدريج وإرجاع مشمولاته إلى القضاء الفرنسي أن المسلمين يشكون هذه الحال, و يشكون نتائجها السيئة من الاضطراب, والفوضى في المحاكمات والضعف, والجهل في القضاء, و يعلمون إن ذلك كله ناشئ عن سوء التعليم القضائي, والأمة الجزائرية, وجمعية العلماء معها تطالب التعليم القضائي: يجب توسيع برامج التعليم القضائي في مادة العربية, والفقه, والأصول, ودراسة التفسير, والحديث, و تاريخ القضاء في الإسلام, وفلسفة التشريع وعلم النفس...يجب تكوين مجلس قضائي أعلى يتكون من قضاة مسلمين, و تكون سلطة هذا المجلس مستقلة عن القضاء الفرنسي...ويجب إدخال عناصر من المتخرجين من جامع الزيتونة أو غيره من المعاهد الأخرى في الخطط القضائية...و يجب تكوين محاكم استئناف إسلامية و تكون سلطتها إسلامية محضة و هذه النقطة من أهم نقاط الإصلاح من حيث اعتبار لأن حكم القاضي(43/31)
المسلم لا ينقضه إلا قاض مسلم وفي الختام نلفت نظر الحكومة إلى مسألتين أخريتين عاملتهما إلى الآن بالتشديد وكان ينبغي لها أن تساهل فيهما لصلتهما القوية بخدمة الدين وهما تحول العلماء للوعظ...)(44)
المطلب الثاني: الجهود بعد الاستقلال
رغم العوائق والمشكلات التي واجهت القضاء الشرعي بعد الاستقلال, ولم تكن سهلة أو ميسرة أمام أنصار الإصلاح, واعتماد الشريعة مصدرا للتشريعات بعد خروج المستعمر, إلا أنه كانت هناك جهود معتبرة.
الفرع الأول: المحافظة على قانون الأحوال الشخصية الإسلامي
في سنة 1963م أنشأ أول المجلس القضائي الأعلى في الدولة الجزائرية المستقلة, و نفس السنة ألغيت المحاكم الشرعية, وأصبحت كلّ المحاكم مدنية وعادية, خصصت الأحوال الشخصية غرفة في المحاكم الابتدائية وغرفة في المجلس القضائي الأعلى, وغرفة غي المحكمة العليا, وأبقي على نظام الأسرة, والوقف, والميراث, والوصايا وفق الشريعة الإسلامية, و المذهب المالكي, و أول قانون للأحوال الشخصية منظم, و مبوب في مواد واضحة هو قانون الأسرة الصادر في 1984م, والذي نص في أول مواده العامة ( من المقرر قضاء بان مسائل الأحوال الشخصية تخضع لأحكام الشرع الإسلامي الذي له الأسبقية على الأعراف ) و في المادة الرابعة (حيث لا يصح تطبيق الأعراف المحلية في مادة الأحوال الشخصية بين المسلمين إذا كانت هذه الأعراف مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية )(45) و جاء مواده كلّها مستمدة من الشريعة الإسلامية, والمذهب المالكي, وقد تظاهرت نساء يوم المصادقة عليه أمام البرلمان كلّهن نشطات في الحركات النسوية.
الفرع الثاني: التصدي للتيارات المشبوهة والمعادية للإسلام(43/32)
لقد اتفقت القوى العلمانية, والجمعيات النسوية منذ صدور قانون الأسرة في جوان 1984م على النضال لإلغائه والتصدي له, ووصفه بقانون العار, وعدّو المرأة, و يمس بحقوقها, وحريتها وعندما اشتد الأمر خاصة في 1988م, وقد أصدرت رابطة الدعوة الإسلامية بقيادة الشيخ سحنون بيانا إلى السلطات تضمن احترام الدين الإسلامي و أمور كثيرة منها قانون الأسرة و جاء فيه ( إننا نشهد هذه الأيام حربا معلنة على قانون الأسرة, ونظامها المنبثق في مجمله من الشريعة الإسلامية, هذه الحرب تعلنها حفنة من الرجال, و النساء يعيشون في عزلة ثقافية وإيديولوجية, ونذروا أنفسهم أن يواصلوا المعركة التي هزم فيها الاستعمار أمام الشعب الجزائري المسلم المسلح بالإيمان...نعم إنّ الجانب المتعلق بدائرة الاجتهاد يجب أن يحسن باستمرار..أما ما نص عليه الشرع بنصوص قطعية الثبوت, والدلالة فالمساس به يعني شيئا واحد, وهو إعلان الحرب على الإسلام, و القرآن ومساس بثوابت...)(46)(43/33)
وتلت هذا البيان مسيرة نسائية حاشدة في سنة 1989م قادتها الرابطة ووجهت النساء المتظاهرات عريضة إلى رئيس المجلس الشعبي الوطني جاء فيها ( نحن مسلمات جزائريات بنات عقبة و طارق و المجتمعات هذا اليوم لا نعتقد إننا في حاجة إلى تذكيركم سيادة رئيس المجلس و السادة المسئولين في هذا البلد بأن القانون إنما يوضع لخدمة المصلحة العامة ولهذا نتقدم إلى سيادتكم بجملة مطالب تعتقد أن تطبيقها سيحقق بعض العدل وما تنشده الأمة من خير وصلاح في ظل الإسلام و عدله ومنها التطبيق العملي للمادة الثانية والتاسعة من أحكام الدستور -(الإسلام دين الدولة )- وإعادة النظر في كل القوانين الدولة على ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية, ومقاصدها مع إلغاء كل ما يتعارض مع النصوص القطعية والإجماع...وضع حد للهجوم على مقومات الأمة, وثوابتها ...وضع حد للمساس بكرامة المرأة المسلمة والمؤامرة المبيتة على الأسرة...التنديد باللهجة الوقحة التي تستعملها بعض الأحزاب في خطابها السياسي ضد ثوابت الأمة...التنديد بالأحزاب, والجمعيات الداعية إلى اللائكية التي تحركها أيد خفية و التي نعتبر دعوتها مخالفة للدين و متنكرة للتاريخ و خارقة للدستور...) (47)
الفرع الثاني: فتح فروع الشريعة و القانون بالكليات الشرعية
لقد كانت جهود معتبرة للدولة الجزائرية في فتح كليات الشريعة وجامعة إسلامية, وتضم هذه كليات, تخصصات كثيرة, ومنها أقسام للشريعة والقانون يدرس بها الطلبة مقاييس في العلوم الشرعية وأخرى في القانون الوضعي في مرحلة الليسانس, و يعّدون بحوثا مقارنة في هذا المجال في الدراسات العليا؛ بغية تأهيلهم لممارسة القضاء والمحاماة, والتوثيق, وغيرها من المهن المتعلقة بالقضاء الشرعي وخاصة في الأحوال الشخصية. (48)(43/34)
كما فتح التخصص في الدراسات العليا في مجال الدراسات المقارنة بين الشريعة والقانون, وقد أنجز الطلبة, والباحثون عدة رسائل جامعية في هذا المجال؛ الذي يشمل المقارنة بين الشريعة الإسلامية, والقوانين الوضعية في ميادين شتى. وإبراز دور الشريعة, وسماحة هذا الدين, وصلاحيته لكل زمان ومكان, و قصور جهد الإنسان مهما اجتهد في إصدار قوانين و كمال الشريعة, وهذه الأبحاث (ماجستير و دكتوراه) تنجز على مستوى كليات الشريعة, و كذلك كليات القانون.
الفرع الثالث: تدريس الشريعة في الكليات الحقوق والدراسات القانونية
تدرس الشريعة الإسلامية بكليات القانون والحقوق, ومعاهد القضاء العليا, وخاصة مصادر التشريع, والمدخل إلى الشريعة الإسلامية, وقانون الأسرة المستنبط من الشريعة, والمواريث. بغية أن يكون لطلبة الدراسات القانونية-الوضعية- إلمام بأحكام الشريعة, وخاصة إن تخصصوا في القضاء والمحاماة في غرفة الأحوال الشخصية.
إلا أنّ هذه المواد المدرسة بهذه الكليات, قليلة جدا مقارنة بالمقاييس القانونية, و لا يعط لها إلا سداسي, أو سنة جامعية فيبق نقص كبير والإلمام قليل, وبالتالي تحدث مشاكل وأخطاء في الحكم لما تصدر من طرف القاضي, في المجالات؛ التي تكون موادها مستنبطة من الشريعة كقانون الأحوال الشخصية, و الخطأ في التطبيق وعدم الإلمام بالأحكام الشرعية من بعضهم, أدى إلى اتهام الشريعة بالقصور.
الفرع الرابع: عقد مؤتمرات و ندوات في هذا المجال و الخروج بتوصيات
لقد عقدت كليات الشريعة, والجمعيات الثقافية والطلابية, و المجلس الإسلامي الأعلى عدة ندوات و مؤتمرات حول و قانون الأسرة المستنبط من الشريعة.(43/35)
فعلى سبيل المثال في سنة 1998م انعقدت ندوة لجمعية طلابية فرع كلية العلوم الإسلامية تحت عنوان ( قانون الأسرة و مشروع مجتمع ) ألقيت فيه عدة مداخلات من طرف باحثين في القانون و الشريعة؛ لمعالجة صلاحية القضاء الشرعي لهذا الزمان, والخروج بتوصيات منها: إنشاء محاكم خاصة بالأحوال الشخصية, فتح المجال أكمام طلبة الشريعة لمختلف المسابقات التي تخص القضاء, و المحاماة, و التوثيق, و غيرها.
وفي شهر جوان 2000 م عقد المجلس الإسلامي الأعلى مؤتمر علميا بعنوان ( قضايا المرأة و الأسرة بين المبادئ الإسلامية ومعالجات القوانين الوضعية ) وقد ألقيت في هذه المؤتمر الذي دام ثلاثة أيام عشرات المداخلات منها ما يصب في الطرح الموضوعي لهذه القضية, ومنها ما تحامل على الإسلام باسم حقوق المرأة و خاصة مداخلات بعض الباحثات. (49)
وفي شهر جوان 2003م نظمت كلية الحقوق مع مخبر البحث في الأسرة و الطفل, ندوة موضوعها (قانون الأسرة الجزائري.. الإلغاء-الإبقاء- الإثراء) وخرج بتوصيات منها: إثراء قانون الأسرة من حيث المصطلحات والصياغة, وتوضيح الغامض, وتفصيل المجمل, عدم تصادم القانون مع النصوص الثابتة, ومقومات الأمة و الثوابت...
كما عقدت الجامعة الإسلامية شهر مارس 2004م مؤتمرا ضخما حول هذه القضية شارك فيه عدد كبير من الباحثين, و القضاة, و المحامين لمعالجة قضية قانون الأسرة و مواده, و كيفية إثراءها.
إضافة إلى عشرات المحاضرات, و اللقاءات, و النشاطات العلمية التي كانت تصب في هذا الموضوع.(43/36)
هذه كلها جهود لإبقاء قانون الأسرة الجزائري مستمدا من الشريعة الإسلامية, لأنه القانون الوحيد الذي مواده كلها من الشريعة الإسلامية والفقه المالكي, ويتم التقاضي في أمور الزواج والطلاق على ضوء الشريعة والقضاء الشرعي, وهي جهود جبارة مقارنة بحجم الضغوط, و الإمكانيات التي تملكها التيارات المعادية للإسلام, و الرافضة لتطبيق هذا المشروع حضاري في كل المجالات.
المطلب الثالث: الآمال وآفاق القضاء الشرعي
من خلال ما سبق نجد أن القضاء الشرعي أمل عزيز تهفو إليه نفوس الملايين من المسلمين, لأن القضاء وفق الشرع؛ يعني القضاء بالعدل, و نصرة المظلوم, و ردع الظالم, ونشر الأمن و الأمان في المجتمع, وإذا كانت النقائص موجودة من خلال تطبيق قانون الأسرة -وهو القانون الوحيد-المستمد من الشريعة, والنقص ليس في الشرع, و إنما في البشر؛ قد يكون من القاضي, أو المحامي, أو الزوج, أو الزوجة.
والذين لا يرون في القضاء الشرعي ضرورة في عصرنا يتحججون بهذه الأمور, و الواقع يدل أن القوانين الوضعية ما زالت لم تصل إلى الغاية المنشودة, فلا قانون العقوبات رادع بدليل انتشار الجرائم المختلفة والمتعددة, ولا القوانين المدنية والإدارية استطاعت أن تنظم الحياة؛ كما هو منشود, وقد يكون سبب هذا عوامل متعددة, سبق ذكرها, إلا أن الصحوة في بلاد المسلمين, وعودة الناس إلى الدين تجعل هذا الأمل المنشود ليس مستحيلا, بل بتكاتف الجهود, والإخلاص, والاستمرارية قد تصل الأمة الإسلامية إلى استرجاع سيادتها كاملة غير منقوصة, و يصبح الشرع الله مطبقا في كل المجالات, وهذا ليس على الله بعزيز.
الخاتمة(43/37)
إن القضاء الشرعي بالجزائر لم ينعدم أو يغب عن المحاكم, منذ دخول الإسلام إلى هذه البلاد, واستمر كذلك حتى العهد العثماني, وكان القضاء مالكيا في المغرب العربي, والعثمانيين أحدثوا محاكم للقضاء على المذهب المالكي والمذهب العثماني, وكان السبب المباشر في تعثر القضاء والحد منه هو الاستعمار الفرنسي, الذي سعى إلى محو الهوية عبر إلغاء القضاء الشرعي في هذه البلاد.ورغم أنّه وجد مقاومة شرسة من الجزائريين بمختلف فئاتهم, فإنّه تمكن من إلغاء قانون العقويات والمدني, وأبقى على قانون الأسرة فقط؛ لصعوبة القضاء عليه, وزهد الشعب الجزائري في المحاكم الفرنسية, ولجوءه إلى أئمة المساجد, أو جماعة الشيوخ أو الأعراف لحل خصوماتهم, وإبرام عقودهم. وبعد الاستقلال ترك المستعمر أذنابه و أتباعه. ورغم أن مؤتمر الصومام المنعقد في الثورة أقر الدولة الجزائرية المستقلة وفق المبادئ الإسلامية, فإنّ النظام تبنى النهج الاشتراكي الذي ينبذ الأديان ويؤمن بالمادة.وبعدها نشطت الحركات النسوية المدعومة دوليا في الثورة على الأعراف والدين, وخاضت حملات كبيرة ضد قانون الأسرة القانون الوحيد الذي يخضع للقضاء الشرعي الإسلامي, وتمكنت في الكثير من الأوقات من فرض رأيها.وأهم مطالبهن جعل قانون الأسرة قانونا مدنيا, وفي 2004م تمت مراجعته؛ عبر لجنة وطنية ضمت مختلف التيارات,ورغم تعليمات رئيس الجمهورية بأن تتم المراجعة وفق مبادئ الشريعة الإسلامية, فإن هذه الفئة من النساء- ومعهن بعض التيارات العلمانية- استطاعت أن تثبت ما أردته دون الرجوع إلى كل الأعضاء , وألغت ولى المرأة في عقد الزواج, وأن المرأة تزوج نفسها متى بلغت 19 سنة من عمرها, ونشر الخبر في وسائل الإعلام, وتحرك المجتمع المدني كله, والشعب الجزائري مطالبا بإبقاء الثوابت, وعدم التعدي عليها, وناشد الجميع رئيس الجمهورية بالتدخل لإلغاء هذه المادة خاصة, وفعلا تدخل و ألغيت هذه المواد.وتبقى(43/38)
الجهود متواصلة من طرف الجميع لاستعادة أحد رموز الهوية وهو القضاء الشرعي.
الهوامش
أنظر لسان العرب جـ3ص 47-48 مادة قضى - المعجم الوسيط جـ2ص 749- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز - الفيروزآبادي جـ3 ص375-379)
رد المحتار شرح المختار المعروف بحاشية ابن عابدين جـ5 ص353
الفتاوى الهندية جـ3 ص307
4-معين الحكام - علاء الدين علي بن خليل الطرابلسي الحنفي - جـ1 ص 253
5- التبصرة جـ1- ص12- مواهب الجليل - جـ2 - ص86
6- الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام و تصرفات القاضي والإمام - للقرافي ص 20
7- المغني المحتاج جـ4 ص372
8-أنظر الفقه الإسلامي وأدلته- الزحيلي-جـ6- ص739 - القوانين الفقهية ابن جزي - ص 252- بدائع الصنائع - جـ7-ص 5
9-أنظر شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية عبد الناصر أبو البصل -ص 15- طبيعة النظام القضائي الجزائري ومدى فعاليته في مراقبة أعمال الإدارة -ماحي هاني موسى - ص 9- تاريخ السياسي الجزائري - عمار بوحوش ص 175
10- طبيعة النظام القضائي الجزائري و مدى فعاليته ص 2- 6
11- الحركة الوطنية الجزائرية أبو القاسم سعد الله - جـ1- ص 66
12- المحاماة في الجزائر نشأتها و تطورها مولاي ملياني بغدادي - ص 50
13-muslim law courts and the French colonial starte in Algeria by Allan christelow
princetien university press 1985
14- التاريخ السياسي الجزائري عمار بوحوش ص 174
14- المحاماة في الجزائر ص 53
15-طبيعة النظام القضائي ص 5
16- نفس المرجع ص 23
18- نفس المرجع عمار بوحوش ص 175
19- الزواج و الطلاق في قانون الأسرة الجزائري -عبد العزيز سعد ص 10
20- أنظر الزواج والطلاق في قانون الأسرة الجزائري ص 10.
21-نفس المرجع
22- طبيعة النظام القضائي ص 55-56
23- أنظر كتاب: العولمة والعالم الإسلامي -أرقام وحقائق- عبد سعيد عبد إسماعيل - ص7-8.(43/39)
24- ظاهرة العولمة -رؤية نقدية - د/بركات محمد مراد، كتاب الأمة - قطر- العدد 86 - ص5.
25- كتاب عولمة الرعب - يوسف الأشقر- ص236.
26- أنظر كتاب: العولمة والعالم الإسلامي -أرقام وحقائق- عبد سعيد عبد إسماعيل - ص7-8.
27 -أنظر كتاب المرأة والعمل السياسي، الباحثة هبة رؤوف عزت ص50.
28- هذا المؤتمر أنفقت عليه هولندا وراعته أمريكا وبريطانيا تحت إشراف مركز الدراسات النسوي الذي ترأسه رؤوف حسن باليمن. وقد كتبت عن المؤتمر وما جرى فيه في جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأسبوعية، مقالة بعنوان عولمة الأسرة والنسائية الغربية -العدد9- جويلية 2000م.
29- نفس المرجع و العدد .
نفس المرجع –جريدة البصائر- العدد8-جويلية –2000م
معلمة الإسلام –أنور الجندي- 2 –ص235.
التحرير الإسلامي للمرأة – ص8-9.
33-موقع إسلام أون لاين-آدم وحواء- www.islam-online.net.
34- نفس الموقع
35- عودة الحجاب جـ1ص102
36- جريدة الخبر اليومية سنة 1997م وكل الجرائد اليومية والأسبوعية في البلاد نشرت هذه البيان
37- ألان كريستلو -مجالس القضاء الإسلامي ص56
38- تاريخ الجزائر الثقافي ج 8ص104.
39- ألان كريستلو - مجالس القضاء الإسلامي - ص 169
40- نفس المرجع ص 264
41- تاريخ الجزائر الثقافي جـ 7ص 89
42- نفس المرجع جـ 7 ص 90
43- البصائر 19ربيع الأول 1355هـ /جوان 1936م - مجلة الشهاب جـ4 مج12 ربيع الثاني 1355هـ/ جويلية 1936م ص 210-212
44-التقرير نشر في 26صفحة بحجم صغير و طبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية أوت 1944م
45-قانون الأسرة الجزائري -ص 52
46- مسجد أسامة في 19 جمادي الأول 1410هـ الموافق 17-12-1988 م- و مجلة التذكير العدد 5-ديسمبر 1989م ص 21-26
47- مجلة التذكير ص 21 -26(43/40)
48- هناك عدد كبير من الرسائل نوقشت في هذا المجال في مختلف الكليات و أخرى لم تناقش بعد, وبالنسبة للوظائف في مجال القضاء لم تتحقق بعد بسبب انعدام قوانين ومراسيم في ذلك, رغم مطالبة الكليات, وأعضاء من النواب في مجلس الشعب.
49- لقد طبعت هذه الأعمال في عدد خاص من مجلة المجلس الإسلامي الأعلى.
المصادر والمراجع
1- الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام و تصرفات القاضي والإمام - القرافي - دار البشائر- بيروت
2- بدائع الصنائع - تحقيق محمد خير طعمة حلبي - دار المعرفة- بيروت- ط1 - 2000م
3- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز- الفيروزآبادي- تحقيق محمد علي النجار - وزارة الأوقاف القاهرة - 1986م.
4- تاريخ الجزائر الثقافي 1830م-1954م - أبو القاسم سعد الله - دار الغرب الإسلامي- ط1- 1998م.
5- تاريخ السياسي الجزائري - عمار بوحوش -دار الغرب -لبنان -ط1 -1997م.
6- تبصرة الحكام في أصول الأقضية و مناهج الأحكام -ابن فرحون -مطبعة البابي الحلبي -القاهرة -1958م
7- التحرير الإسلامي للمرأة - د/ محمد عمارة - دار الشروق -القاهرة - ط1- 2002م.
8- جريدة البصائر - 19ربيع الأول 1355هـ / جوان 1936م
9- جريدة البصائر- العدد8- جويلية –2000م
10- جريدة الخبر اليومية 18 شوال 1417هـ الموافق ل 25 فيفري 1997م
11- الحركة الوطنية الجزائرية -1830م- 1900م - أبو القاسم سعد الله - دار الغرب الإسلامي- بيروت
12- رد المحتار شرح المختار حاشية ابن عابدين -ابن عابدين -دار إحياء التراث - بيروت -1987
13-الزواج و الطلاق في قانون الأسرة الجزائري -عبد العزيز سعد -دار هومه-الجزائر-ط3-1996م
14-شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية عبد الناص أبو البصل -دار الثقافة رسالة ماجستير ط1 1999م
15- طبيعة النظام القضائي الجزائري ومدى فعاليته في مراقبة أعمال الإدارة - ماحي هاني موسى -ماجستير إشراف حماد محمد شطا - 1985م - كلية الحقوق - جامعة الجزائر(43/41)
15- ظاهرة العولمة -رؤية نقدية- د/بركات محمد مراد، كتاب الأمة - قطر- العدد 86- ذو القعدة
16- عودة الحجاب - محمد احمد إسماعيل مقدم -دار طيبة - الرياض .
17- الفتاوى الهندية في مذهب الإمام الأعظم -للشيخ نظام و جماعة من علماء الهند - دار إحياء التراث العربي - بيروت
18- الفقه الإسلامي وأدلته- الزحيلي- دار الفكر- ط3- بيروت
19- قانون الأسرة الجزائري - وزارة العدل - الديوان الوطني للأشغال التربوية - ط3- 1999م.
20- القوانين الفقهية -ابن جزي - دار الفكر
21- كتاب: العولمة والعالم الإسلامي -أرقام وحقائق- عبد سعيد عبد إسماعيل -دار الأندلس
22- كتاب المرأة والعمل السياسي- الباحثة هبة رؤوف عزت - دار المعرفة - الجزائر.
23 - كتاب عولمة الرعب -يوسف الأشقر- إصدار خاص -بيروت 2002م.
24- كتاب : العولمة والعالم الإسلامي - أرقام وحقائق - عبد سعيد عبد إسماعيل - دار الأندلس
الخضراء- ط1- 2001م
25- لسان العرب -ابن منظور -دار صادر - لبنان.
26- مجلة التذكير- مسجد جامعة الجزائر- العدد 5- جمادى الأولى 1410هـ ديسمبر 1989م.
27- مجلة الشهاب -جمعية العلماء المسلمين الجزائريين - ربيع الثاني 1355هـ/ جويلية 1936م.
28- مجلة المجلس الإسلامي الأعلى ( قضايا المرأة و الأسرة بين المبادئ الإسلامية ومعالجات
القوانين الوضعية ) عدد خاص - 1420هـ- 2000م
29- المحاماة في الجزائر نشأتها و تطورها من 1830م حتى قانون 4.91 المؤرخ في 8-1-1-
1991 م-مولاي ملياني بغدادي - المطبعة الجزائرية للسجلات- الجزائر.
30- المعجم الوسيط -مجمع اللغة العربية - القاهرة -1972م
31- معلمة الإسلام –أنور الجندي -دار الصحوة - القاهرة -1991م.
32- معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام - علاء الدين علي بن خليل الطرابلسي
الحنفي -مطبعة مصطفى البابي الحلبي -القاهرة - 1973م
33- مواهب الجليل شرح مختصر خليل - الحطاب - دار الفكر -بيروت.(43/42)
34- موقع إسلام أولاين- آدم وحواء www.islam-online-net
35- الوجيز في شرح قانون الأسرة الجزائري - بلحاج العربي - ديوان المطبوعات الجامعية -
الجزائر- 2002م
-Muslim law courts and the French colonial starte in Algeria- by Allan christelow- 36
princetien university press - 1985(43/43)
ملامح وآفاق تطور
القضاء الشرعي في فلسطين
بحث مقدم من
سماحة الشيخ تيسير التميمي
قاضي قضاة فلسطين
رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي
إلى ندوة
{ القضاء الشرعي في العصر الحاضر ... الواقع والآمال }
التي تنظمها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الشارقة
في الفترة من 11-14/4/2006
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل الحلال وحرم الحرام ؛ وسكت عن أشياء رحمة بالأنام . والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ؛ سيد الأولين والآخرين ؛ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وعلى آله الطيبين الطاهرين ؛ وصحبه ومن تبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين .
وبعد ؛
فهذا بحث ارتأيت أن أشارك به في الندوة العلمية التي تنظمها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الشارقة لهذا العام بعنوان { القضاء الشرعي في العصر الحاضر ... الواقع والآمال } ؛ أتناول فيه بعض المستجدات في القضاء الشرعي في فلسطين والتطور الذي أُحْدِثَ فيه ، فقد مرَّت هذه الأرض المباركة وأهلها - ولا زالت تمر - بأوضاع صعبة وظروف قاسية ؛ وتحديات فاقت ما مر بغيرها من المجتمعات والشعوب العربية والإسلامية ؛ حتى تلك التي رزحت تحت نير الاستعمار لعقود طويلة .
وسأتناول في البحث أيضاً الآمال والتطلعات التي يمكن أن تسهم في المزيد من تطوير القضاء الشرعي ؛ للارتقاء بسوية الخدمات التي يقدمها لأبناء الشعب الفلسطيني الصامد المصابر ؛ الثابت على أرض الرباط .
خطة البحث
يتكون البحث من تمهيد وفصلين على النحو التالي :
التمهيد : ويتناول مكانة القضاء في الإسلام وأبرز التطورات التي طرأت عليه .
الفصل الأول : القضاء الشرعي في فلسطين في العصر الحاضر .
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : اختصاصات القضاء الشرعي في فلسطين .
المبحث الثاني : المستجدات الإدارية في القضاء الشرعي .
المبحث الثالث : المستجدات القانونية في القضاء الشرعي .(44/1)
الفصل الثاني : تطور القضاء الشرعي في فلسطين .
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : التطور الإداري .
المبحث الثاني : التطور القانوني .
المبحث الثالث : الطموحات والآمال .
فهرس الموضوعات
الموضوع ... رقم الصفحة
التمهيد : ... مكانة القضاء في الإسلام والتطورات التي طرأت عليه ... 4
الفصل الأول : ... القضاء الشرعي في فلسطين في العصر الحاضر
المبحث الأول : ... اختصاصات القضاء الشرعي في فلسطين ... 9
المبحث الثاني : ... المستجدات الإدارية في القضاء الشرعي ... 11
المبحث الثالث : ... المستجدات القانونية في القضاء الشرعي ... 12
الفصل الثاني : ... تطور القضاء الشرعي في فلسطين
المبحث الأول : ... التطور الإداري ... 16
المبحث الثاني : ... التطور القانوني ... 23
المبحث الثالث : ... الطموحات والآمال ... 30
ثَبَتُ المصادر ... 32
التمهيد
…
مكانة القضاء في الإسلام وأبرز التطورات التي طرأت عليه .
القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، ركن من أهم أركان الدولة ومن أبرز مقوماتها ؛ به تصان الدماء والأموال والأعراض وكافة الحقوق ؛ وبه يفصل بين الناس فيما يقع بينهم من خصومات .
يعرَّف القضاء بأنه إخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام(1) ، وقد يسمى حكماً لكونه يكفّ الظالم عن ظلمه(2) ، فالحكم والقضاء هما يد العدالة وأداتها الفعالة في تحصيل الحقوق واستيفائها ؛ لأن أحكام القاضي موصلة إلى الحق مصرّحة به ، وهما القوة التي يلجأ إليها الضعيف ليؤخَذَ الحق له ؛ والسيف الذي يُشهر في وجه الباطل ليؤخَذَ الحق منه ، به تصان الدماء والأموال والأعراض ، ويُفْصَلُ في خصومات الناس ، لذا كان من أفضل القُرُبات إلى الله عز وجل .
__________
(1) . تبصرة الحكام لابن فرحون 1/11 ؛ معين الحكام للطرابلسي ص 7 .
(2) . مغني المحتاج للشربيني الخطيب 6/ 257 .(44/2)
فلا شرف في الدنيا يعدل شرف القضاء فإنه مقامٌ عليّ ومنصبٌ نبويٌّ تقلّده رسل الله ليقيموا حكم الله وشرعه بين الناس ؛ قال تعالى " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ "(1) ، وقال تعالى مخاطباً سيدنا داود عليه السلام " يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ "(2) ، وبه أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً " إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ً"(3) .
تولى صلى الله عليه وسلم بنفسه منصب القضاء والحكم بين الناس ؛ فكانت أحكامه إلزامية واجبة النفاذ ، قال تعالى " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا "(4) فقضى بالحق بينهم ، وأسس دستور القضاء ؛ ورسم معالمه حتى غدا نظامه محكماً متكاملاً ؛ فصار النظام الأمثل على وجه الأرض ، ولا غرو في ذلك وهو ربانيّ المصدر في قواعده ومبادئه وتفاصيله .
كثرت الأقضية والأحكام التي صدرت عنه صلى الله عليه وسلم ؛ منها مثلاً :
1- قضاؤه على ماعز والغامدية المحصَنَيْن بالرجم لثبوت جريمة الزنا عليهما بالإقرار .
2- وقضاؤه بقطع اليد على المخزومية التي سرقت رغم شفاعة حبيبه أسامة فيها .
3- وقضاؤه بتطليق المختلعة من زوجها الذي كرهته ؛ فخافت ألا تقيم حقه أو تقصر في أداء واجباتها تجاهه ؛ مقابل رد حديقته ؛ وهي ما بذله لها من مهر .
__________
(1) . سورة الحديد الآية 25 .
(2) . سورة ص الآية 26 .
(3) . سورة النساء الآية 105 .
(4) . سورة النساء الآية 65 .(44/3)
4- وقضاؤه في خصومة بين الزبير ورجل من الأنصار بمرور الماء من أرض الأنصاري إلى أرض الزبير
وعَهِدَ صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه بالقضاء ؛ ووضح لهم المنهج الذي يجب أن ينتهجوه لئلا يحكموا بما شاءوا ، فقد ولّى علي بن أبي طالب على اليمن وأوصاه قائلاً " ... فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ... "(1) ، وبعث معاذ بن جبل قاضياً على جزء من اليمن بعدما تأكد من معرفته مصادر الأحكام ومرجعية القضاء ، وأرسل أبا موسى الأشعري والياً وقاضياً على الجزء الآخر من اليمن ، وأرسل عتّاب بن أسيد والياً وقاضياً على مكة.
من الأمثلة على أقضية الصحابة رضي الله عنهم حكم علي رضي الله عنه في قصة الأسد الذي وقع في الزبية(2) ؛ فأتى الناس ينظرون إليه ؛ فسقط رجل فيها فتعلق بآخر وتعلق هذا بالذي يليه ؛ فتعلق به رابع فخرّوا جميعاً في الزُّبْيَة فقتلوا ، فاختلفت قبائلهم على الدية ؛ فحكم عليّ رضي الله عنه على من شهد الحادثة من الناس بدية كاملة للرابع ؛ وبنصف الدية للثالث وبثلثها للثاني وبربعها للأول ؛ فلما رفض البعض هذا الحكم طلب منهم التمسك به حتى يُعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأجاز صلى الله عليه وسلم قضاء علي "(3) ، وتدل هذه الرواية على جواز الطعن في قضاء القاضي واستئناف حكمه في المحاكم العليا .
__________
(1) . رواه أبو داود في كتاب الأقضية برقم 3111 .
(2) . الزبية هي الحفرة التي تحفر للأسد ، ولا تحفر إلا في مكان عال من الأرض لئلا يبلغها السيل ، انظر لسان العرب لابن
منظور 14/353.
(3) . رواه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة برقم 541 .(44/4)
ومن أقضية معاذ بن جبل رضي الله عنه أن ناساً اختصموا إليه في يهودي مات وترك أخاً مسلماً ، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الإسلام يزيد ولا ينقص " فوَرَّث المسلم(1) ، ومنها أيضاً حكمه على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل مات وترك أخته وابنته ؛ فأعطى البنت النصف وأعطى الأخت النصف(2) .
مضى الخلفاء الراشدون على نفس المنهج القضائي النبوي ؛ الذي اختطه الرسول صلى الله عليه وسلم للأجيال من بعده ؛ يردّون المظالم ويقيمون الشرع ؛ مهتدين بهديه في استحداث المبادئ القضائية :
1- فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ما يقضي به ، فإن لم يجد نظر في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن أعياه ذلك جمع رؤوس الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به .
2- وأسس عمر رضي الله عنه لاستقلال القضاء وفصله عن عمل الوالي ، بسبب اتساع البلاد وكثرة الأعمال الإدارية والسياسية التي يقوم بها ؛ وجعل السلطة القضائية تابعة له مباشرة ، واستحدث فكرة الاختصاص في القضاء فجعل نظر القضايا البسيطة من مهمة السائب بن يزيد ؛ أما القضايا المعضلة فقد جعلها بيد علي بن أبي طالب و زيد بن ثابت .
3- أما عثمان رضي الله عنه فقد جعل السلطة القضائية بيده في المدينة ؛ فينظر هو في الخصومات ؛ وجعل الصحابة المختصين بالقضاء مستشارين له في ذلك ، وأما خارج المدينة فقد جعل أمر تعيين القضاة للولاة .
4- وجمع علي رضي الله عنه بين منهج عمر ومنهج عثمان رضي الله عنهما .
__________
(1) . رواه أبو داود في كتاب الفرائض برقم 2524.
(2) . رواه الدارمي في كتاب الفرائض برقم 2752 .(44/5)
وفي عهد الأمويين لم تتغير ملامح القضاء عنها في العهد النبوي أو عهد الراشدين ؛ لكن مقتضيات التطور أظهرت الحاجة إلى التدوين ؛ إذ إن التناكر بين الناس لم يقتصر على الحقوق فيما بينهم ؛ بل تعداها إلى الأحكام التي يصدرها القضاة ، فوجدت السجلات القضائية التي تدوّن فيها الأحكام ؛ وأول ذلك ما كان من سليم بن عنز قاضي مصر زمن معاوية بن أبي سفيان(1) .
ثم شهد القضاء في العصور التالية مزيداً من التطور ؛ حتى أصبح علماً مستقلاً صنفت فيه الكثير من المصنفات والمؤلفات العلمية ؛ وبرز فيه العلماء المتخصصون ؛ وأفردت له في كتب الفقه الجامعة أبواب مستقلة بعنوان " أدب القاضي " أو " كتاب القضاء " .
ومن أبرز مظاهر هذا التطور الاستقلال القضائي ؛ فالقضاء أرفع من المناصب الوزارية ؛ لأن مرجعيته شريعة الله تعالى وعليه مدار الأحكام ؛ وهو ملاذ المظلومين فلا بد أن يكون حراً في إيقاف الباغين عن بغيهم .
فالقاضي لا يتلقى الأوامر من الهيئات الحاكمة ؛ ولا توجد أية سلطة في الدولة تملك نقض أحكامه – ما دامت قطعية غير مخالفة للحق - فالسلطة القضائية مستقلة لا تدخل لأحد فيها ؛ والحاكم لا يملي على القاضي شيئاً من الأحكام ؛ كما قال عمر رضي الله عنه في كتابه إلى القاضي شريح " وإن شئت أن تؤامرني , ولا أرى مؤامرتك(2) إياي إلا أسلم لك "(3) .
__________
(1) . بلغة السالك للصاوي 4/197 .
(2) . أي مشاورتك لي ، انظر لسان العرب لابن منظور 4/30 .
(3) . إعلام الموقعين لابن القيم 1/67 .(44/6)
ومن مظاهر تطور القضاء كذلك استحداث منصب مهيب رفيع هو منصب قاضي القضاة ؛ بهدف توزيع الأعمال وفصل السلطات وإبعاد غير القضاة من السياسيين عن التحكم في أمور القضاء ؛ فهو نائب عن الحاكم ووكيل عنه ؛ لا بل هو أعلى سلطة قضائية فلا يتقدم عليه أحد ؛ وهو المهيمن على شؤون القضاء ، ومن اختصاصاته اختيار القضاة ثم تعيينهم ؛ والإشراف على أعمالهم ومراجعة أحكامهم ؛ ونظر شؤونهم وتولي أمرهم ؛ والتحقيق معهم وعزلهم(1) ، وأول من تقلد هذا المنصب هو الإمام أبو يوسف – تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان- في ولاية موسى الهادي ؛ ثم أقره الخليفة هارون الرشيد حيث خصص له ديواناً خاصاً أي وزارة مستقلة تسمى " ديوان قاضي القضاة " ، وعين لها من يلزم من الموظفين ذوي الاختصاص ؛ الذين أسندت إليهم وظائف محددة وخصصت لهم الرواتب كغيرهم من موظفي الدولة .
ومن مظاهر التطور القضائي أيضاً تنوع القضاء إلى ثلاثة أنواع هي الحسبة والخصومات والمظالم :
تقوم ولاية الحسبة على فكرة الرقابة ؛ إلا أنها لا تنشىء كل الأحكام الملزمة ، وتختلف عن القضاء بأن القاضي فيها لا ينتظر المخاصمة من الأفراد ؛ بل هو الذي يبادر إلى النظر في المخالفات والمنازعات دون ادّعاء أو مطالبة من أحد . وتقابل الحسبة في النظم الحديثة النيابة العامة ، فالنائب العام يقوم بدور قاضي الحسبة ؛ ووكلاؤه يقومون بالمخاصمة نيابة عن الحق العام للمجتمع ؛ حفاظاً على الأموال والأنفس والأعراض ؛ وتطبيقاً لأحكام النظام العام ؛ ومواجهة للخارجين على القوانين المرعية ، ودور أعوان النائب العام كدور رجال المباحث والرقابة العامة ، ويشمل هذا النوع من القضاء جميع مؤسسات المجتمع المدني ودوائر الدولة وأجهزتها .
__________
(1) . العناية شرح الهداية للبابرتي 7/300 .(44/7)
أما قضاء الخصومات فيختص بالفصل في نزاعات الناس بعد ادّعائهم بالخصومة ، فلا يحكم القاضي إلا فيما يرفع إليه من الدعاوى ؛ ويكون حكمه بناء على أسس الدستور القضائي التي أرستها الشريعة ، وباتباع إجراءات التقاضي التي تعرف اليوم بأصول المحاكمات .
وقضاء المظالم يقابل في النظم الحديثة القضاء الإداري ومجلس أمن الدولة أو محكمة العدل العليا ؛ ويختص بالقوانين الإدارية التي تتولى النظر في الخصومات المتكونة بين أي مواطن وبين أحد أجهزة الدولة ، والقاضي فيها أوسع مجالاً وسلطة من القضاة العاديين ، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة عديدة على مخاصمة العامة من الناس للولاة والخلفاء ؛ فما امتنع القضاة من الحكم على الخلفاء والانتصاف للمتظلمين من الناس ورد الحقوق إليهم .
تميز القضاء في التاريخ الإسلامي بعموم ولايته على جميع الاختصاصات القضائية ؛ فتعرض على القاضي جميع القضايا والمنازعات للنظر فيها ، ويطلب منه الفصل فيها سواء في ذلك دعاوى الأحوال الشخصية التي تمس حياة الإنسان الخاصة ؛ ودعاوى الأحوال المدنية كالعلاقات التجارية والمعاملات المالية ، وكذلك الدعاوى الجزائية والجنائية والإدارية وغير ذلك مما يمكن أن يعرض عليه ، واستمر هذا الحال حتى سقوط الدولة العثمانية .(44/8)
أما فلسطين فلها وضع خاص ؛ حيث كان يوم الأربعاء 5/6/67 تاريخاً مؤلماً لكل عربي ومسلم ، تجددت فيه النكبة للشعب الفلسطيني ؛ وخضع الجزء المتبقي من أرضه لسيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشم ؛ ووجد أهل الضفة الغربية وقطاع غزة أنفسهم تحت الاحتلال ، وما هو إلا زمان يسير حتى منح الحكم العسكري نفسه صلاحيات إصدار الأوامر العسكرية على أنها قوانين وتشريعات واجبة النفاذ ؛ لتكون بديلاً للقوانين التي كانت سارية قبل الحرب ؛ مما يشكل مخالفة صريحة لمبادىء القانون الدولي الذي يقرر استمرار المؤسسات والمحاكم الوطنية على ما كانت عليه قبل الاحتلال ، لكن إسرائيل لا تحتكم إلى قانون دولي ولا إلى عرف عالمي ولا تحترم أية اتفاقية حتى انطبق عليها قول الله تعالى " أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ "(1) .
في قطاع غزة تولى ضابط ركن الأديان الإشراف على الشؤون والسلطات الدينية للمسلمين والتي تضم جهاز القضاء الشرعي وإدارة الأوقاف الإسلامية والمعهد الديني-الأزهر- ، ومع أن الحكم العسكري أبقى النظم والقوانين والتشريعات التي كانت نافذة أثناء الحكم المصري إلا أنه احتفظ لنفسه بتعيين القضاة الشرعيين ؛ وبالتنسيق معه يتم التفتيش على إدارة صندوق الأيتام محاسبياً .
__________
(1) . سورة البقرة الآية 100 .(44/9)
في الضفة الغربية أيضاً حاول الحكم العسكري التدخل في عمل القضاء الشرعي ؛ لكن وقوف القضاة صفاً واحداً حال دون ذلك ، حيث تداعى أهل الحل والعقد في الضفة الغربية لبحث أوضاع المسجد الأقصى المبارك وغيره من مصالح وقضايا المسلمين تحت الاحتلال ؛ تنفيذاً للحكم الشرعي الذي يقضي أنه في حالة احتلال بلد من بلاد المسلمين ؛ فقد وجب على أهل الحل والعقد فيها تشكيل هيئة منهم لإدارة جميع شؤونهم ، وبالفعل فقد تم تشكيل الهيئة الإسلامية العليا ؛ بعضوية قضاة المحاكم الشرعية والمفتين والنواب والوزراء السابقين في القدس والضفة الغربية ؛ لإدارة شؤون المسجد الأقصى المبارك والمقدسات والأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية في الضفة الغربية ، وأسند منصب القائم بأعمال قاضي القضاة إلى رئيسها .
اتخذت الهيئة الإسلامية العليا في حينه قراراً بتبعية المحاكم الشرعية لقاضي القضاة في الأردن ؛ وبتطبيق جميع القوانين والأنظمة والتعليمات المعمول بها في جهاز القضاء الشرعي هناك .
استمرت محاولات سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضم المحاكم الشرعية إلى إدارتها ، وتعرضت في فترة الاحتلال لمزيد من الممارسات القمعية والإجراءات التعسفية ؛ فقد أصدر ضابط الشؤون العدلية أمراً يحظر فيه على دوائر الإجراء تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية ، وهنا يسجل التاريخ لرؤساء دوائر الإجراء موقفهم الوطني المشرف بالتصدي لهذا القرار ورفض تطبيقه ؛ فأعلنوا استمرار تعاونهم مع المحاكم الشرعية وتنفيذ قراراتها حسب الأصول . لذا أقدمت قوات الاحتلال على إبعاد رئيس الهيئة الإسلامية العليا القائم بأعمال قاضي القضاة .(44/10)
واقتداء بالسلف الصالح من قضاة هذه الأمة فقد كان كل قاض من القضاة الشرعيين يمثل أعلى مرجعية لأهل منطقته في كل أمر ، فقد كان لهم دور ريادي فعال في تحسس مشاكل المواطنين وحلها ؛ لما يتمتعون به من قدرات ومكانة اجتماعية مرموقة بين أبناء وطنهم ؛ حيث كانت قراراتهم غالباً ما تنفذ دون وجود سلطة تنفيذية ؛ وكذلك كان لهم دورهم في رعاية مصالح المواطنين وتصديق معاملاتهم ووثائقهم ؛ وبالأخص ما كان متعلقاً بالدول الأخرى حيث اعتمد تصديق المحاكم الشرعية في الدول العربية ؛ على عكس الدوائر التي تبعت الحاكم العسكري .
ويسجل التاريخ للقضاة الشرعيين كذلك دورهم القيادي والطلائعي في مشاركة أبناء شعبهم محنة الاحتلال وواجب المقاومة حيث كانوا صفاً واحداً في التصدي لمخططاته فتعرضوا للاعتقال والإبعاد عن أرض الرباط .
ويسجل لهم التاريخ أيضاً دورهم في التصدي لمخططات الاحتلال الغاشم ومصادرة الأراضي والاستيلاء عليها ؛ من خلال تثبيت الأراضي الوقفية واستصدار الحجج الإرثية ؛ التي يستند عليها في تثبيت ملكية الأراضي لأصحابها .
الفصل الأول
القضاء الشرعي في فلسطين في العصر الحاضر
وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول : اختصاصات القضاء الشرعي في فلسطين .
المبحث الثاني : المستجدات الإدارية في القضاء الشرعي .
المبحث الثالث : المستجدات القانونية في القضاء الشرعي .المبحث الأول :
المبحث الأول
اختصاصات القضاء الشرعي في فلسطين
بما أن القضاء إخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام ؛ وبما أن الحكم الشرعي يشمل جميع أفعال المكلفين ؛ فكان لا بد من تحديد ولاية القاضي على المكلفين ؛ وتحديد اختصاصه في أعمالهم ؛ حتى تكون أحكامه نافذة فيهم.
والاختصاص يعني توزيع العمل بين قضاة المحاكم على أسس معينة ؛ تحدد الخصومات والدعاوى التي تدخل ضمن ولاية القاضي .(44/11)
يعتبر الاختصاص من مزايا القضاء الإسلامي ؛ بدأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بعث معاذ بن جبل قاضياً على جزء من اليمن وأرسل أبا موسى الأشعري والياً وقاضياً على الجزء الآخر(1) ، وهذا هو الاختصاص المكاني الذي يوزع العمل بين القضاة على أساس جغرافي ، والاختصاص المكاني له قواعده المستمدة من الشريعة والتي منها مثلاً مكان إقامة المدَّعى عليه ؛ والمكان الذي يوجد فيه العقار محل النزاع ؛ والمكان الذي جرى فيه إبرام العقد .
أما الاختصاص النوعي - الوظيفي - فيقوم على أساس قصر ولاية القاضي على نظر نوع معين من الدعاوى دون غيرها ؛ كالنظر في العقود مثل البيوع وبيان صحتها أو فسادها ؛ وكالنظر في دعاوى الجنايات دون غيرها ؛ ويكون ذلك متضمناً في عقد التولية - التكليف - الذي يوجهه الحاكم إلى القاضي . وعُرف الاختصاص النوعي في تاريخ القضاء الإسلامي وتم تطبيقه ؛ حيث كان عدد من القضاة يعيَّن للنظر في بعض الدعاوى دون بعض ؛ مثال ذلك ما روى الطبراني عن السائب بن يزيد أن عمر رضي الله عنهما قال له رُدَّ عني الناس في الدرهم والدرهمين(2) .
وهناك نوع ثالث من الاختصاص هو الزماني ، ومعناه قصر ولاية القاضي على الفترة الزمنية التي يحددها عقد التولية ؛ بحيث لا تكون أحكام القاضي نافذة قبل تكليفه أو بعد عزله .
__________
(1) . رواه أبو داود في كتاب الحدود برقم 3790 .
(2) . مجمع الزوائد للهيثمي باب استنابة الحاكم 4/196 .(44/12)
كان القضاء في الدولة الإسلامية يحكم في كل المنازعات والدعاوى بلا استثناء ؛ حيث كانت الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد لجميع الأحكام والقوانين والتشريعات التي يلتزم بها القاضي – مع مراعاة أحكام الاختصاص المكاني والنوعي والزماني - واستمر القضاء على هذا الحال حتى الانفصال عن الدولة العثمانية وظهور القضاء النظامي ؛ الذي كان نتيجة فصل الدين عن حياة الناس ؛ والاقتباس من القوانين الأوربية فأصبح القضاء مزدوجاً ، فهناك قضاء مستمد من الشريعة ويطبق في المحاكم الشرعية ، وقضاء مدني مستمد من الأنظمة الوضعية ويطبق في المحاكم النظامية .
نصت المادة 101 من القانون الأساس الفلسطيني – الدستور - على أن الأمور الشرعية تتولاها المحاكم الشرعية على اختلاف درجاتها ، وبناء على ذلك تختص المحاكم الشرعية الفلسطينية بالنظر في مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين ؛ وفي قضايا الديات ؛ وفي الأمور المختصة بالأوقاف ، ووضح قانون أصول المحاكمات النافذ حالياً في محافظات الضفة الغربية - بموجب المرسوم الرئاسي رقم 1/94 - هذه المسائل في التفصيلات التالية :
1- إنشاء الوقف حسب الشروط الشرعية وتعيين المتولين عليه والاستحقاق فيه واستبداله وكل ما له علاقة بإدارته الداخلية ، ونظر الدعاوى المتعلقة بصحته أو بالتنازع في ملكيته وكذلك نظر الدعاوى المتعلقة بالأوقاف المسجلة لدى المحاكم الشرعية وإن كان أحد أطرافها غير مسلم .
2- طلبات الدية إذا كان الفريقان مسلمين ؛ وكذلك إذا كان أحدهما غير مسلم ورضيا أن يكون حق القضاء في ذلك للمحاكم الشرعية ؛ سواء أكان الطلب في جناية وقعت على النفس أو على ما دونها ؛ كتعطيل العضو أو حكومة العدل .
3- مداينات أموال الأيتام والأوقاف المربوطة بالحجج الشرعية التي نظمت من قبل المحاكم الشرعية وصدرت عنها وكذلك تنمية وإدارة أموال الأيتام والقاصرين بالوسائل المشروعة .
4- تعيين الأولياء والأوصياء على القاصرين .(44/13)
5- نصب القيّم على أموال المفقود والغائب ليتولى الإشراف عليها لحين رجوع الغائب وظهور حياة المفقود من موته ؛ وعزل القيم بعد محاسبته إذا أخل بواجبه ، وتنظر المحكمة الشرعية أيضاً في القضايا المتعلقة بالمفقود كالحكم بموته وتقسيم تركته والحكم فيما لو ظهر حياً ، والمفقود هو الذي غاب ولا يعرف أحي هو أم ميت .
6- الإذن للولي والوصي ومتولي الوقف والقيّم ومحاسبتهم والحكم بنتائج هذه المحاسبة .
7- تقسيم الوراثات وإصدار حجج حصر الإرث التي تتضمن الورثة وحصصهم الشرعية والانتقالية ، والحصص الشرعية هي التي قسمت وفق أحكام الشريعة ؛ أما الحصص الانتقالية فهي التي قسمت وفق قانون الانتقال العثماني المتعلق بحق الانتفاع بالأراضي الأميرية والوقفية .
8- تحرير التركات الواجب تحريرها والفصل في الادعاء بملكية أعيانها – أجزاء منها - والحكم في دعاوى الديون التي عليها وتصفيتها وتقسيمها بين الورثة وتعيين حصص الوارثين الشرعية والانتقالية .
9- التخارج من التركة كلها أو بعضها في الأموال المتقولة وغير المنقولة ، وتختص المحاكم الشرعية بتوثيقه وتنظيمه وفض المنازعات فيه وتعيين حصص الورثة الشرعية والانتقالية بعد التّخارج ، والتّخارج هو اتفاق الورثة على إخراج بعضهم من التركة مقابل قدر معلوم يأخذه منها أو من غيرها .
10- الحجر على فاقدي الأهلية للجنون أو العته أو السفه ؛ وفك الحجر وإثبات الرشد ، والحجر هو منع القاصر من التصرفات القولية وإلغاؤها وعدم الاعتداد بها ، وأما فك الحجر فيعني إسقاط حق المنع مما يعني الإذن بالتصرف لمن كان محجوراً عليه .
11- الهبة في مرض الموت والوصية – وهو اختصاص مطلق سواء تعلقتا بالمال المنقول أو غير المنقول .(44/14)
12- توثيق عقود الزواج والتصادق عليها واستحقاق المهر والنظر في كل ما يحدث وينشأ بين الزوجين من الدعاوى والخصومات فيما يكون مصدره عقد الزواج الذي تم تسجيله لدى المحاكم الشرعية أو مأذونيها ، مثل قضايا النفقة والنسب والحضانة وحالة الشخص وأهليته .
13- قضايا التفريق بين الزوجين للهجر والضرر أو السجن أو النزاع والشقاق أو مقابل الإبراء العام أو لعدم الإنفاق ، وكذلك توثيق الطلاق الذي يقع خارج مجلس القضاء .
14- وبالإجمال كل ما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية بين المسلمين وهي القواعد التي تحكم علاقة الشخص بأسرته وكل ما يتعلق بالأسرة بشكل عام .
15- الفصل في قضايا الادعاء العام ( الحسبة ) وهي القضايا التي تتعلق بحق الله تعالى مثل فسخ عقد زواج امرأة وهي في عصمة رجل آخر ؛ أو فسخه لحرمة الرضاع أو لانتفاء شروط الأهلية ، ومثل الاعتداء على أموال القاصرين .
16- ومن الأمور الشرعية التي تتولاها المحاكم الشرعية مراقبة أهلة الشهور القمرية ؛ والإعلان عنها بحكم قضائي ملزم ضمن دعوى استحقاق مال ؛ بعد ثبوتها بشهادة الشهود أمام القاضي الشرعي في مجلس القضاء .
وتأتي أهمية الحكم بثبوت الأهلة أنها مناط أداء بعض فرائض وأركان الإسلام كالصيام والزكاة والحج .
تفتح المحاكم الشرعية في فلسطين أبوابها بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من الشهر لتلقي شهادات الشهود أو المعلومات التي تتعلق برؤية الأهلة مصداقاً لقوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ "(1) .
المبحث الثاني
المستجدات الإدارية في القضاء الشرعي
__________
(1) . سورة البقرة الآية 189 .(44/15)
يعاني القضاء الشرعي كغيره من الأجهزة الحكومية في معظم الدول ؛ من مشاكل إدارية استجدت بسبب تغير الزمان وتطور الحياة واختلاف نظام الحكم ؛ وتستدعي التفكير في وضع الحلول المناسبة لها ؛ والتخطيط المتكامل للتغلب عليها ، ويمكن تلخيص هذه المستجدات فيما يلي :
1- الاكتظاظ في المحاكم الشرعية الابتدائية ؛ وكثرة المراجعين ، وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى التزايد السكاني في فلسطين ؛ وقلة المحاكم الشرعية بالقياس إلى عدد السكان .
وهذا يقتضي زيادة عدد المحاكم الشرعية الابتدائية ؛ تلبية لاحتياجات المواطنين ؛ ولتخفيف المعاناة .
3- تراكم القضايا المستأنفة ؛ نتيجة الممارسات القمعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي الغاشم ضد الفلسطينيين ؛ من حظر للتجول وحصار وإغلاق للمدن والقرى والمخيمات ؛ وإعاقة وصولهم إلى محاكم الاستئناف ؛ فتعطلت مصالح المواطنين وتأخَّر الفصل في قضاياهم .
فلا بد والحالة هذه من زيادة محاكم الاستئناف أو زيادة عدد هيئاتها القانونية .
2- تعذر تنفيذ معظم الأحكام القضائية القطعية الصادرة من المحاكم الشرعية ؛ بسبب إثارة الطعون والإشكالات في دوائر الإجراء التابعة للقضاء النظامي ؛ وبالتالي تعطيل تنفيذها وبالأخص أحكام النفقة الصادرة لصالح الفئات الضعيفة والمعوزة من الصغار والزوجات والمسنين ؛ وتعرض هذه الفئات لذل الحاجة وقسوة الجوع ، وعجز قانون الإجراء المعمول به عن تنفيذ الأحكام المستعجلة التي يحملونها .
وهذه الحالة الاقتصادية صعبة للغاية ؛ وتستدعي إنشاء دائرة تتولى بجدية تنفيذ القرارات القضائية على المحكوم عليهم ، أو إنشاء مؤسسة مالية تؤمن النفقة للمحتاجين لحين تنفيذ الأحكام لصالحهم .(44/16)
4- احتفاظ مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام في المملكة الأردنية الهاشمية بأرصدة أموال الأيتام الفلسطينين ؛ رغم قرار فك الارتباط الثاني بين المملكة الأردنية الهاشمية والضفة الغربية ؛ ويقدر هذا المبلغ بأربعة ملايين دينار أردني ؛ مما أدى إلى تعذر دفع أرصدة من يبلغ سن الرشد منهم . ومن جانب آخر ظهرت مخاوف من انخفاض قيمة العملة بسبب حروب المقاومة والجهاد التي تشتعل في منطقتنا بين الحين والآخر .
ولتفادي مثل هذه المخاوف ؛ ينبغي التفكير بحل اقتصادي مجدٍ ؛ يحفظ أموال الأيتام وينميها حتى لا تأكلها فريضة الزكاة ؛
5- التخوّف من تعرض الوثائق التاريخية والسجلات القديمة للتلف والضياع ؛ حيث إن المحاكم الشرعية تضم سجلات مهمة تعود لمئات السنين ؛ تسجل تاريخ الوطن السياسي والاجتماعي والاقتصادي .
وهنا ينبغي بذل الجهد بالتخطيط للاستفادة من الإنجازات العلمية ؛ واتباع أحدث الطرق لإنشاء أرشيف محوسب خاص بالمحاكم الشرعية .
6- انتشار بعض الأمراض التي تنتقل بالزواج إلى النسل ؛ وإهدار قدر كبير من المال والجهد في مكافحتها ؛ وصعوبة تفادي نتائجها التي قد تصل إلى الوفاة أو الإعاقة .
ومن باب السياسة الشرعية وتحقيقاً لمصلحة المجتمع ؛ لا بد من التخطيط لتفادي هذه الأمراض .
7- التطور العلمي والتقدم الحضاري في جميع مناحي الحياة ؛ وجهاز القضاء الشرعي كغيره من المؤسسات يحتاج إلى مواكبة العصر والاستفادة من وسائل العلم ومعطياته ؛ لخدمة المواطنين وتسهيل مصالحهم كإدخال الحاسوب في عمل المحاكم الشرعية ؛ وإنشاء شبكة مركزية تربط بينها وبين ديوان قاضي القضاة ؛ وإنشاء موقع للديوان على شبكة المعلومات العالمية – الإنترنت – .
المبحث الثالث
المستجدات القانونية في القضاء الشرعي(44/17)
للشعب الفلسطيني خصوصية تميزه عن الشعوب العربية والإسلامية الشقيقة ؛ بسبب ما يعانيه من ظروف وأوضاع استثنائية منذ مطلع القرن الماضي ، حيث خضع للاحتلال البريطاني في فترة الانتداب التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ؛ ثم عانى من آثار النكبة الكبرى بتهجير جزء كبير من أبنائه وطردهم من ديارهم ؛ وقيام الدولة الصهيونية على أراضيه وممتلكاته ؛ ثم خضع سكان الضفة الغربية بعد ذلك للسيادة الأردنية وخضع سكان قطاع غزو للسيادة المصرية ؛ ثم خضع الجميع للاحتلال الإسرائيلي الغاشم عام 67
ثم قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 94 ، كل ذلك كان من أكبر المسوغات لإعادة صياغة القوانين النافذة في فلسطين ؛ ومنها ما ارتبط بعمل جهاز القضاء الشرعي .
ويمكن إجمال المستجدات القانونية في فلسطين بما يلي :
1- قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 94 على الأرض الفلسطينية ؛ تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل التراب الفلسطيني ؛ بضم الضفة الغربية وقطاع غزة وتوحيدهما ؛ مما يقتضي تعزيز سيادة الدولة وتأسيس سلطاتها ؛ وسن القوانين والنظم عبر القنوات التشريعية التي قررها الدستور .
2- التعدد القانوني في الوطن الواحد ، ففي محافظات الضفة الغربية تطبق قوانين القضاء الشرعي الأردنية ، أما في محافظات قطاع غزة فتطبق القوانين المصرية . ومن أبجديات الفقه القانوني عدم جواز تطبيق قانونين مختلفين في المسألة الواحدة في نفس الدولة ، لما يسببه ذلك من تنازع في المرجعية القضائية والاختصاص المكاني . ومع أن لها مرجعية تشريعية واحدة هي الشريعة الإسلامية ؛ إلا أن اختلافها مهما كان بسيطاً فإنه يشكل حجر عثرة أمام توحيد الاجتهاد القانوني والعمل القضائي في كامل فلسطين .(44/18)
3- التقادم القانوني بمرور زمن طويل على تطبيق القوانين في فلسطين ، فقد مضى أكثر من نصف قرن على تطبيق القوانين الأردنية والمصرية المعمول بها ، رغم عدم توقف التطور الاجتماعي وزيادة احتياجات المواطنين وتنوع مشكلاتهم ، ومعلوم فقهاً أنه لا ينكر تغير الأحكام – الاجتهادية - بتغير الزمان والمكان والإنسان .
4- ومن جانب آخر أُجريت في مصر والأردن تعديلات عديدة على القوانين القضائية المنظمة للعمل في محاكمها الشرعية ؛ بل صدرت في البلدين الشقيقين قوانين جديدة ، ولا يجوز أن يبقى المجتمع الفلسطيني أسيراً لهذا التعدد والتقادم القانوني وما ينتج عنه من جمود قانوني يشلُّ الحياة القضائية .
5- كثرة الشكاوى من الثغرات القانونية والاجتماعية جرّاء تطبيق تلك القوانين في محاكمنا الشرعية الفلسطينية ؛ سواء في محافظات غزة وفي محافظات الضفة الغربية ، مما تسبب في إثارة الإشكالات الاجتماعية المعقدة . فهذه القوانين وإن كانت مستمدة من الشرع الحنيف وأدلته الأساسية ؛ فإنها من إعداد البشر المتصفين بالنقص والخطأ ؛ وبالأخص عند الانتقاء من أقوال الفقهاء التي قد تستند إلى الأدلة الظنية ؛ أو تتأثر بالعرف السائد في زمانهم .
6- الظروف الاستثنائية والوضع غير العادي الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني ؛ نتيجة الاحتلال وممارساته القمعية وحرب الإبادة التي يشنها عليهم مستهدفاً وجودَهم على أرضهم ، التي أثرت سلباً على المجتمع الفلسطيني وأوضاعه القانونية وبالأخص في العقد السابق .
كل ذلك يقتضي استحداث تشريعات جديدة تحافظ على تماسك الأسرة ؛ وسلامة بنيان المجتمع في فلسطين ، ويقتضي كذلك إقرار قوانين تنظم العلاقات فيه وتستجيب لمتطلبات الحياة الجديدة .(44/19)
ولحين صدور منظومة مشاريع القوانين التي تم إعدادها في ديوان قاضي القضاة سواء منها الموضوعية والإجرائية بعد إقرارها من المجلس التشريعي الفلسطيني ؛ فلا بد من تضييق الخلاف بين القوانين المعمول بها حالياً في جناحي الوطن ؛ بإصدار الكثير من التعميمات والبلاغات لقضاة المحاكم الشرعية ، منها على سبيل المثال :
** صدر تعميم يلزم الخاطب الرجل قبل إجراء عقد زواجه إجراء الفحص المخبري CBC ؛ للتأكد من عدم حمله الصفة الوراثية لمرض الثلاسيميا(1) ؛ فإذا تأكد حمله لها تلزم المخطوبة إجراء فحص مماثل ؛ فإن تأكد أنها لا تحمل المرض فلا حرج من إجراء عقد الزواج ؛ لأنه لا ينتقل إلى النسل إلا إذا كان الأبوان معاً يحملان صفته الوراثية .
__________
(1) . هو مرض فقر الدم المتوسطي ؛ سمي بذلك لكثرة انتشاره في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط مثل إيطاليا واليونان وبعض الدول العربية ، وهو مرض وراثي يؤدي إلى عدم تمكّن المصاب من تكوين الهيموغلوبين السويّ للبالغين والذي يرمز له بالرمز A ؛ مع استمراره في تكوين الهيموغلوبين الخاص بالمرحلة الجنينية والذي يرمز له بالرمز F ، وينتج عن ذلك سرعة انحلال الكريات الحمراء بعد الولادة ؛ وقصور حاد في نقل الأكسجين إلى الأنسجة الحية ؛ مما يؤدي إلى ضخامة العظام وهشاشتها ؛ ويؤدي كذلك إلى اليرقان الدائم وضخامة الطحال ، وفي الحالات الشديدة يموت الطفل قبل سن العاشرة . لم يتمكن الطب حتى الآن من إيجاد العلاج الشافي لهذا المرض ؛ غير نقل الدم الذي بدوره يتسبب في زيادة ترسب الحديد ؛ لدرجة يحتاج معها المريض إلى علاج هذه الحالة المرضية الجديدة . انظر الموسوعة الطبية ، 9/1690 .(44/20)
ولوقاية مجتمعنا الفلسطيني من وباء الإيدز(1) ؛ صدر تعميم آخر يلزم القادم من البلاد والمجتمعات التي ينتشر فيها هذا الوباء إجراء فحص في مختبرات وزارة الصحة الفلسطينية قبل عقد زواجه ؛ للتأكد من عدم إصابته ؛ فإذا تبين أن أحد الخاطبين مصاب به يمنع إجراء عقد زواجهما .
ولا يتم إجراء أي عقد زواج دون إجراء هذين الفحصين. ويقبل المواطنون عليها عن طواعية وقناعة
** صدر تعميم في محافظات غزة برفع سن حضانة الأم لأولادها ؛ إذا حبست نفسها على تربيتهم ورعايتهم ؛ حيث إن قانون حقوق العائلة هناك ينص على انتهاء حضانة الصغار ببلوغ الذكور تسع سنوات والإناث إحدى عشرة سنة . فالمحضون بحاجة ماسة في هذا السن إلى رعاية أمه وملاحظتها وتوجيهها ومتابعتها ، وبحاجة كذلك إلى حمايتها العاطفية والنفسية ، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه المؤثرات في شخصية الطفل .
__________
(1) . ويرمز له بالرمز AIDS ؛ وهو عجز جهاز المناعة المكتسب ، وغالبية من يصابون به ممن يمارسون العلاقات الجنسية الشاذة أوغير المشروعة ، فإذا تكررت هذه الممارسات أخفق جهاز المناعة في إنتاج الأجسام المضادة - التي ينتجها الجسم للدفاع ضد الأجسام الغريبة التي تدخل إليه - نتيجة الإجهاد . ومن أهم العوامل المؤهِّبة للإصابة بهذا المرض : الشذوذ الجنسي ، ولكنه ينتقل أيضاً عن طريق تعاطي المخدِّرات وبالأخص عن طريق الحقن الملوَّثة ؛ وعن طريق نقل الدم الملوَّث أو بأدوات ملوثة ؛ وينتقل إلى الأطفال بالولادة من أمهاتهم المصابات . ويتلخص المرض بهبوط وانخفاض شديد في المناعة الخلوية في الجسم ناتج عن نقص في عدد الخلايا اللمفية التّائيّة المساعدة ؛ يرافقه ارتفاع في عدد الخلايا اللمفية التّائيّة الكابتة ؛ وهذا يعني تدهور شديد في قدرات الجسم الدفاعية والمناعية يجعله عرضة للإصابة بعوامل مرضية كثيرة ؛ قد تكون صاعقة أو مميتة في أغلب الأحيان . انظر الموسوعة الطبية ، 2/304-320 .(44/21)
** صدر تعميم بتخفيض الرسوم التي تستوفى على المعاملات والوثائق الرسمية ؛ وتوحيدها في جناحي الوطن الفلسطيني ؛ حيث إنها كانت مفروضة من ضابط ركن الأديان الإسرائيلي . ويأتي هذا التعميم بهدف تخفيف الأعباء المالية عن المواطنين الذين يعانون الفقر وقلة الموارد المالية .
** صدر تعميم يعالج وضعاً استثنائياً ؛ بمنع تزويج من لم تتم سن الثامنة عشرة ؛ إذا كان خاطبها من مسلمي الأرض المحتلة عام 48 ؛ وبعد توفر الضمانات التي تحمي الفتاة من الإيقاع أو التغرير بها ؛ فإن صغرها غالباً لا يمكنها من الدفاع عن نفسها حال تعرضها للفتنة ؛ حيث إنها ستعيش في بيئة تأثر بعض أفرادها بالاحتلال وأفكاره وقيمه السلبية ؛ وتختلف عما ألفته في بيئتها من التزام الأخلاق القويمة .
الفصل الثاني
تطور القضاء الشرعي في فلسطين
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : التطور الإداري .
المبحث الثاني : التطور القانوني .
المبحث الثالث : الطموحات والآمال .
المبحث الأول
التطور الإداري
سعياً إلى النهوض بالقضاء الشرعي لمواكبة التطور العلمي والاجتماعي ؛ وارتقاء بسوية الخدمات اللازمة للمواطنين ؛ وتلبية لاحتياجاتهم في الجانبين الإداري والفني ؛ استحدثت الدوائر والمؤسسات التالية في جهاز القضاء الشرعي :
المجلس الأعلى للقضاء الشرعي
تم تشكيل هذا المجلس عام 2003 ترسيخاً لدعائم السلطة القضائية ؛ وتأكيداً لسيادة القانون واستقلال القضاء ؛ وتجسيداً لمبدأ الشورى في اتخاذ القرارات ؛ واستكمالاً لأجهزة القضاء الشرعي ؛ ولضمان النزاهة والشفافية فيه ؛ ولتحقيق أقصى درجات العدالة بين المتخاصمين .
يكون مقر المجلس في مدينة القدس ، ويتشكل حسب القانون على النحو التالي :
1- رئيس المحكمة العليا الشرعية رئيساً .
2- أقدم نواب رئيس المحكمة العليا نائباً للرئيس .
3- أعضاء المحكمة العليا الشرعية أعضاء .
4- أمين سر المجلس عضواً .(44/22)
يتولى المجلس صلاحيات تعيين القضاة الشرعيين وتنقلاتهم وترقياتهم ؛ ونقلهم خارج سلك القضاء واستقالاتهم وإحالتهم على التقاعد ، ويتولى كذلك محاسبتهم ومحاكمتهم وعزلهم ، ومن صلاحياته كذلك إعداد الموازنة العامة لجهاز القضاء الشرعي .
المحكمة العليا الشرعية
كان القضاء الشرعي في فلسطين يتكون من درجتين : المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف ، واستمر الوضع كذلك حتى عام 2003 حيث شكلت المحكمة العليا الشرعية ؛ فصار التقاضي في فلسطين على ثلاث درجات . وأصبحت المحكمة العليا الشرعية تمثل رأس القضاء الشرعي في فلسطين ، وهي تقابل محكمة النقض في القضاء النظامي . وهي بالتالي محكمة قانون بخلاف محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية التي تعتبر محاكم موضوع فقط ، لذا كانت أحكامها نهائية قطعية واجبة النفاذ .
تتشكل المحكمة حسب القانون على النحو التالي :
1- قاضي القضاة رئيساً .
2- نائب قاضي القضاة نائباً للرئيس .
3- قضاة المحكمة أعضاء .
يكون مقر المحكمة الدائم في مدينة القدس عاصمة دولة فلسطين ؛ ولها أن تعقد جلساتها بقرار من رئيسها في أية مدينة أخرى .
نيابة الأحوال الشخصية(44/23)
ينظر القضاء الشرعي نوعين من القضايا : نوعاً يتعلق بحقوق العباد كقضايا النفقات والحضانة ؛ ويكون المدعي فيها صاحب الحق المدّعى به ، ونوعاً يتعلق بحق الله تعالى- الحق العام الشرعي/قضايا الحسبة – كقضايا الأوقاف والقضايا الخاصة بالقاصرين وأموالهم التي تقام على أوصيائهم وأوليائهم ، وقد جرت العادة في المحاكم الشرعية أن يختار القاضي في هذا النوع من القضايا أحد موظفي المحكمة أو غيرهم من المواطنين ليدعي باسم الحق العام الشرعي ، وهذا يتنافى مع مبدأ حياد القضاء ، وربما لا يكون المدعي على علم أو دراية بالأحكام الشرعية والقانونية المتعلقة بموضوع الدعوى ولا بأصول التقاضي والمخاصمة ، لذا كان لا بد من إنشاء نيابة الأحوال الشخصية ليقوم وكلاؤها بهذه الوظيفة المهمة ؛ فاستحدثت هذه الدائرة وعين عدد من وكلاء النيابة المتخصصين ؛ الذين يقومون حالياً برفع مثل هذه القضايا أمام المحاكم الشرعية حسب الأصول .
فأصبحت نيابة الأحوال الشخصية وحدة واحدة وجزءاً لا يتجزأ من القضاء الشرعي ؛ وتتولى سلطة التحقيق والادعاء باسم الحق العام الشرعي في قضايا الأحوال الشخصية المتعلقة بحق الله تعالى .
تتكون نيابة الأحوال الشخصية من رئيس ومساعد للرئيس ووكلاء ومعاوني نيابة ، وتسري على أعضائها شروط تعيين القضاة وواجباتهم ومساءلتهم وفقا لأحكام القانون .
تختص نيابة الأحوال الشخصية دون غيرها بالتحقيق ومباشرة وتحريك دعاوى الحق العام في المسائل الشرعية وقضايا الأحوال الشخصية ؛ كقضايا الطلاق وحقوق القاصرين وغيرها .
ويتولى الإشراف على هذه الدائرة وأدائها المجلس الأعلى للقضاء الشرعي .
دائرة الإرشاد والإصلاح الأسري(44/24)
حرصاً على قيام الأسرة وديمومتها ؛ شرع الله سبحانه كل ما يحفظ للإنسان كرامته وسعادته وقدرته على المشاركة في البناء الاجتماعي ، وتعددت نصوصه التي ترسم معالم الحياة الأسرية ؛ فسبق بذلك كل النظم في تعميق القيم والمفاهيم التي تكفل استقرار الأسرة ؛ فنظم العلاقات بين أفرادها قال تعالى " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "(1) ؛ وحدد الأدوار المتكاملة لأفرادها وبيّن مسؤولية كلٍّ منهم فقال صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ... "(2) ، ووضع أسساً للتعامل فيما بينهم ؛ قال تعالى " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا "(3) ؛ وقال صلى الله عليه وسلم " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(4) .
يأتي الاهتمام بالأسرة على هذه الدرجة لأنها محور وجود المجتمع وأساس بنائه وإحدى دعائمه الصلبة ؛ فإذا نشأت قوية أثمرت مجتمعاً متماسكاً يسعى إلى التطور والازدهار ؛ مما يجعله صخرة تتحطم عليها كل المؤامرات التي تحاك ضد وجوده ؛ وهذا بلا شك يضيف عنصراً قوياً في الصراع القائم في فلسطين بين الحق والباطل ؛ ويؤدي إلى قلب المعادلة بل إلى تغيير ملامح الواقع المنظور .
__________
(1) . سورة الروم الآية 21 .
(2) . رواه البخاري في كتاب الجمعة برقم 844 .
(3) . سورة النساء الآية 19 .
(4) . رواه الترمذي في كتاب المناقب برقم 3830 .(44/25)
ونظراً للمتغيرات التي نتجت عن التطور في جميع مجالات الحياة ؛ وبسبب الظروف التي يعيشها أبناء شعبنا ؛ من قتل وتدمير وحصار ؛ ومحاربة في لقمة العيش من الاحتلال الغاشم ؛ فقد ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً مما أثر سلباً على المودة والاستقرار في الأسرة ، وأظهرت الإحصائيات تزايداً في حالات الطلاق والتفريق بين الزوجين ، فاقتضت الضرورة التفكير في علاج فعال لهذه الظاهرة الخطيرة ؛ يسهم في حماية الأواصر العائلية من تفاقم النزاعات ؛ بالسعي في حلها صلحاً قبل اللجوء إلى ساحات القضاء ؛ الأمر الذي يعمّقها ويعقدها بسبب الاندفاع وراء الحميّة فتستعصي على الحل .
فجاء قرار إنشاء دائرة الإرشاد والإصلاح الأسري عام 2003 في جميع المحاكم الشرعية الفلسطينية لتتولى هذه المهمة العظيمة ، بعد الاستفادة من تجربة محاكم دبي الشرعية في هذا المجال ؛ والتي حققت نجاحاً ملموساً في تحقيق أهدافها بالتوجيه والإصلاح وتخفيض نسبة الطلاق ؛ مما يعود على المجتمع بقوة الأواصر العائلية وتأمين الحماية العاطفية .
باشرت معظم أقسام الدائرة عملها مطلع العام 2004 في بعض المحاكم الشرعية حسب الإمكانيات المتوفرة حالياً ؛ من حيث الأماكن المناسبة والموظفين المؤهلين .
تختص الدائرة بالمشاكل العائلية الخاضعة في ولايتها للقضاء الشرعي حسب القوانين والأنظمة المعمول بها ، وتتلخص آلية العمل في قسم الإصلاح والإرشاد الأسري على النحو التالي :(44/26)
1- يستقبل قسم الإرشاد والإصلاح الأسري صاحبَ المشكلة في المكتب المخصص بمبادرة شخصية منه أو بتحويل من القاضي الشرعي ؛ وتكون الجلسة سرية ليتمكن من عرض مشكلته في جو من الثقة والمصداقية الكاملة ؛ مع تجنب تدخل أيّ طرف غير ذوي العلاقة لئلا يؤثر في استفحال الخلافات . ويجب تدوينها وكتمانها عن الآخرين ، وبعد ذلك يحاول القسم إرشاده وتوجيهه ، وإذا كانت المشكلة تستوجب استدعاء الطرف الثاني فيقتضي إحضاره بطريقة ودّية بالهاتف أو بأية وسيلة أخرى ؛ فيبذل القسم جهده للإصلاح بين الطرفين ؛ ويمكن إذا اقتضى الأمر طلب المساعدة ممن له تأثير عليهما أو على أحدهما .
2- إذا عجز القسم عن الإصلاح بين الطرفين حاول إيصالهما إلى اتفاق لحل المشكلة موضوع النزاع ، فإذا تم الاتفاق يدوّن حسب النموذج المخصص ؛ ويوقّع عليه الطرفان وشاهدان ورئيس القسم والقاضي الشرعي في منطقة الاختصاص حسب أحكام قانون أصول المحاكمات المعمول به ، ويقتضي أن يكون الاتفاق غير مخالف للأحكام الشرعية أو القوانين والأنظمة المعمول بها في المحاكم الشرعية .
3- يُرفع سند الاتفاق والمحاضر المتعلقة به إلى ديوان قاضي القضاة لتدقيقه وتصديقه حسب الأصول فيصبح بذلك سنداً قضائياً قابلاً للتنفيذ غير قابل للطعن أو الاعتراض عليه أمام أية جهة قضائية .
4- إذا لم يتم الصلح أو الاتفاق بين طرفي النزاع يحوّل إلى المحكمة المختصة لرفع الدعوى المناسبة لديها حسب الأصول .
تعمل الدائرة على اتّباع كل السبل لتحقيق أهدافها ؛ من إصدار النشرات والملصقات وعقد الندوات والمحاضرات والاستفادة من وسائل الاتصال ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية .
كانت النتائج مبهرة ؛ دلّت على نجاح الدائرة في تحقيق أهم أهدافها ؛ فقد انخفضت نسبة الطلاق بشكل ملموس خلال فترة قياسية ؛ كما تشير الإحصائيات .(44/27)
تعتبر الدائرة فكرة رائدة ؛ وأصبح لها بصمة ملموسة في الأسرة الفلسطينية ؛ لأن عملها سيحفظ حق أفراد الأسرة - وبالأخص الزوجين – في الحصول على التوجيهات المناسبة لما ينبغي أن يكون عليه سلوكهم وعلاقاتهم فيما بينهم ؛ مما يعمل على تضييق الخلافات وتهدئة القلوب وإصلاح ذات البين ؛ إعمالاً لنصوص التحكيم الواردة في القرآن الكريم ؛ قال تعالى " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا "(1) ؛ وقال أيضاً " وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا "(2) ولكن دون الجمود عند الحرفية ودلالة العبارة فقط ؛ بل بالاسترشاد بروحها ودلالة الإشارة فيها .
صندوق النفقة
أقر المجلس التشريعي مؤخراً قانون صندوق النفقة رقم 6 لسنة 2005 وصادق عليه الرئيس محمود عباس فأصبح نافذاً بعد مضيِّ ثلاثين يوماً على نشره في الجريدة الرسمية ، والعمل جار على إعداد التعليمات واللوائح التنفيذية التي تنظم العمل بأحكامه .
يعتبر القانون إنجازاً قانونياًً متميزاً على مستوى العالم العربي والدول المجاورة ، وثمرة طيبةً للجهود المباركة التي تهدف إلى تحديث وتطوير نوعية الخدمات التي يقدمها القضاء الشرعي في فلسطين للمواطنين .
كثيرة هي الأسباب التي توجب إنشاء الصندوق – الذي سيتولى تنفيذ أحكام النفقات – منها :
__________
(1) . سورة النساء الآية 35 .
(2) . سورة النساء الآية 128 .(44/28)
1- صعوبة تنفيذ أحكام النفقات التي تصدر بعد طول عناء لصالح الفئات الضعيفة المعوزة من الزوجات والمطلقات والأرامل والقصر والأيتام وفاقدي الأهلية والآباء والأمهات المستحقين للنفقة على أبنائهم في كثير من الحالات ، بسبب الإجراءات المعقدة في قانون التنفيذ ، والإشكالات التي تثار في دوائر الإجراء وتعيق تنفيذ الأحكام لفترات طويلة .
2- تعرض الفئات المحرومة للتشرد ومعاناتها قسوة الجوع وذل الحاجة ومخاطر الضياع ، وبالأخص أن العناد والكيد يدفع بعض المحكوم عليهم إلى تفضيل عقوبة السجن على دفع النفقة ، وهذا ظلم يجب دفعه ورفعه عن الناس بعدالة القانون عند غياب الضمير ؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا "(1) .
3- اتّصاف أحكام النفقات بالاستعجال في التنفيذ ، ولا يجوز أن تخضع لإجراءات تنفيذ الأحكام الأخرى ؛ سواء المدنية منها والجنائية .
يتكون القانون من (19) مادة تتناول الجانب الإداري والمالي والقضائي والقانوني لنظام الصندوق ، وتحدد آلية العمل فيه وكيفية سير عملية الصرف والفئات المستفيدة من الصندوق .
__________
(1) . رواه مسلم في كتاب البر والصلة برقم 4674 .(44/29)
يأتي إنشاء هذا الصندوق استناداً إلى المبادئ والأصول الشرعية في ديننا الحنيف ، فمن جهة هو تطبيق كامل لروح التكافل والتراحم التي يجب أن تسود المجتمع الإسلامي قال صلى الله عليه وسلم " ... من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرَّج عن مسلم كُرْبَة فرج الله عنه كربة من كُرُبات يوم القيامة ... "(1) ، وهو من جهة ثانية مشارَكة من الدولة في سد احتياجات مواطنيها والإنفاق عليهم من خزينتها العامة التي هي بيت المال ، قال صلى الله عليه وسلم " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته "(2) ، فالحديث يبين دور الرسول صلى الله عليه وسلم كحاكم مسؤول وليس كنبي مرسل ، ومن جهة ثالثة هو نصرة للضعفاء وإخضاع الأقوياء لسيادة القانون قال صلى الله عليه وسلم " مطل الغني ظلم ... "(3) ، وقوله كذلك " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً قال " تأخذ فوق يَدَيْه "(4) ، وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الناس لما تولى الخلافة فقال : القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له .
__________
(1) . رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب برقم 2262.
(2) . رواه البخاري في كتاب الحوالة برقم 2133 .
(3) . رواه البخاري في كتاب الحوالة برقم 2125 .
(4) . رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب برقم 2264 .(44/30)
من أهم المسوّغات التي دعت إلى إنشاء صندوق النفقة الحفاظ على استقرار الأسرة الفلسطينية وعلى الهدوء النفسي لأفرادها ، والحفاظ على قوة وتماسك النسيج الاجتماعي من خلال تحقيق هدفه المباشر ، فقد نص القانون في المادة (4) على أن الصندوق يهدف إلى ضمان تنفيذ حكم النفقة الذي يتعذر تنفيذه بسبب تغيب المحكوم عليه أو جهل محل إقامته أو عدم وجود مال ينفذ فيه الحكم أو لأي سبب آخر . وحدد القانون مفهوم حكم النفقة في المادة (1) بأنه كل حكم نهائي صادر عن المحكمة المختصة يقضي بدفع النفقة للزوجة أو المعتدة أو الولد أو الوالدين أو القريب المعال . ونصت المادة (8) على أن الصندوق يصرف للمحكوم له وفقاً للقانون ما ورد في حكم النفقة حسب الأصول المحاسبية المعمول بها في فلسطين ، في مدة أقصاها خمسة عشر يوماً من استكمال المستندات المطلوبة ، ويتم الصرف طالما كان تنفيذ حكم النفقة متعذراً لكنه يتوقف إذا لم يعد هناك موجب له .
وقد يطرأ تغيير على حكم النفقة الصادر عن المحكمة المختصة زيادة أو نقصاً أو إلغاءاً ، وهنا يأتي دورها في إبلاغ إدارة الصندوق بهذا التغيير بموجب المادة (9) التي جاء فيها أن المحكمة المختصة إذا قررت إلغاء أو تغيير حكم النفقة فعليها إبلاغ الصندوق بذلك فوراً ليقوم بتنفيذ ما ورد في قرار المحكمة الجديد ويبلغ المحكوم له بذلك .(44/31)
وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا القانون سيحرم الزوجة من حقها في طلب التفريق بينها وبين زوجها ما دامت قد وجدت النفقة ، وأنها ستظل مرتبطة بهذا الزوج الفقير أو الغائب أو الهارب من النفقة إلى الأبد ، وأنها ستظل طوال عمرها تعيش على نفقة الصندوق . والحقيقة غير ذلك تماماً ، فالصندوق يتيح للمرأة الاختيار بين اللجوء إلى صندوق النفقة أو اللجوء إلى طلب التفريق لعدم الإنفاق ، لكنها لا تملك الاختيارين معاً ؛ فلا يحرمها الصندوق من تقرير المصير بالخلاص من الزوج المضارِّ لها ، جاء في المادة (170) من مشروع قانون الأحوال الشخصية الفلسطيني أن الزوج إذا امتنع عن الإنفاق على زوجته بعد الحكم عليه بنفقتها ، فان كان له مال يمكن تنفيذ حكم النفقة فيه نفذ الحكم عليه بالنفقة في ماله فإذا لم ينفق عليها أو لم تستوف النفقة من صندوق النفقة طلقها القاضي في الحال ... .
وقد يقول قائل إن الزوجين سيلجآن إلى التحايل بافتعال الخلاف ، فترفع الزوجة دعوى نفقة على الزوج ثم يقر الزوج بالنفقة فيحكم لها القاضي ، ويمتنع الزوج عن الدفع في دوائر الإجراء فيدفع لها الصندوق ، وهذا يعني أن أموال الصندوق ستتسرب شيئاً فشيئاً إلى العاطلين عن العمل ، مما يضيّع المال العام وينشر البطالة في المجتمع .
وهذا ليس سهلاً ، فإجراءات الصرف دقيقة والوثائق المطلوبة تنفي أي احتمال للتلاعب ، وفي حالة وقوع أي تحايل فالعقوبات مشددة ، جاء في المادة (7) أن على المحكوم له عند التقدم بطلب للاستفادة من خدمات الصندوق أن يرفقه بنسخة مصدقة من حكم النفقة النهائي ، وبمشروحات من دائرة التنفيذ تفيد بأن حكم النفقة قد تعذر تنفيذه بعد استنفاد جميع الإجراءات القانونية اللازمة ، وبأي مستندات أخرى يطلبها مجلس إدارة الصندوق .(44/32)
هذا إضافة إلى أن الزوج لن يفلت أصلاً من الملاحقة القضائية لاستيفاء المبالغ المستحقة عليه حسب المادة (14) التي تنص على أن الصندوق يقوم بالرجوع على المحكوم عليه بقيمة المبالغ التي تم صرفها ، ويستوفى منه أيضاً غرامة مالية بنسبة 5% من قيمة المبلغ الذي تم صرفه وكذلك مصاريف الدعوى وأتعاب المحاماة ، باعتبار هذه المبالغ من الديون الممتازة لأنها من أموال الخزينة العامة للدولة ، والمستند الشرعي لمعاقبة الممتنع عن دفع النفقة بالغرامة المالية قياسها على تغريم الممتنع عن دفع الزكاة قال صلى الله عليه وسلم " ... من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل ليس لآل محمد منها شيء "(1) . والزوجة تلاحق كذلك جاء في المادة (15) أن على المحكوم له إعادة أموال الصندوق التي استلمها بدون وجه حق بدون تأخير ، ومن لم يعد تلك الأموال يعاقب بالحبس مدة أقصاها شهر أو بغرامة مالية قدرها مائة دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانوناً أو بكلتا العقوبتين مع إعادة الأموال التي تسلمها . فالمادة (13) نصت على أن للصندوق الحق في اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بما فيها رفع القضايا لدى المحاكم المختصة لاستيفاء الأموال التي دفعها عن المحكوم عليهم . كما أن النصب والاحتيال بهدف الاستيلاء على المال جريمة بنص مشروع قانون العقوبات الفلسطيني ، وكل من يثبت عليه التورط بها تحت طائلة العقوبة المنصوص عليها في نفس مشروع القانون .
مؤسسة تنمية وإدارة أموال اليتامى
__________
(1) . رواه أبو داود في كتاب الزكاة برقم 1344 .(44/33)
قال تعالى " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً "(1) . يتحمّل المجتمع بمقتضى هذه الآية الكريمة مسؤولية عظمى تجاه اليتيم ، فقد خصه الله تعالى باستحقاق الإحسان والبر ، وجعل كفالته من القُرُبات المأجورة وسبب الرفقة النبوية في الآخرة ، قال صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً "(2) .
تقتضي كفالة اليتيم تربيته ورعاية مصالحه وعدم تضييع حقوقه ؛ وتجب على الأقرب فالأقرب من أوليائه ، ويختار القاضي الأصلح له عند عدم وجودهم بتعيين وصي عليه حسب الوجه الشرعي .
في الوقت ذاته حذر الله عز وجل من أكل مال اليتيم باعتباره من المعاصي الموبقة ومن الكبائر المهلكة ، ومنع كل صور التصرف فيه إلاَّ بما يعود على اليتيم بالنفع المحض ، قال تعالى " وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ "(3) ، وأوجب على الأوصياء تسليم اليتامى أموالهم حال رشدهم ، قال تعالى " وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً "(4) .
__________
(1) . سورة النساء الآية 9 .
(2) . رواه البخاري في كتاب الطلاق برقم 4892 .
(3) . سورة الأنعام الآية 152 .
(4) . سورة النساء الآية 6 .(44/34)
واليتيم الذي تعمل المؤسسة على تنمية أمواله وإدارتها هو كل وارث مسلم قاصر ناقص الأهلية أو فاقدها ، أو الغائب الذي ليس له ممثل شرعي ، ممن أودعت أموالهم النقدية في المؤسسة والتي تحوَّل من صناديق الأيتام في المحاكم الشرعية ، من حصصهم الإرثية من التركات التي يتم ضبطها وتحريرها بموجب قانون الأيتام رقم 69 لسنة 53 وما طرأ عليه من تعديلات ، أو من التبرعات أو المكافآت أو التعويضات وغيرها من الأموال التي تخص الأيتام ومن في حكمهم .
كانت أموال الأيتام منذ العهد العثماني تودع في صندوق المحكمة الشرعية ، ويتولى القاضي الشرعي الإشراف عليها حفظاً وتنمية ، إما مباشرة وإما عن طريق الأولياء أو الأوصياء ، والصورة الوحيدة لتنميتها كانت بالإقراض الربوي عن طريق البنوك التجارية ، وهذا مما يتعارض مع أحكام الشريعة وينافي سمة القضاء الشرعي الذي يطبق الشرع الحنيف في أحكامه القضائية .
استمر الأمر على هذا الحال حتى إنشاء مؤسسة تنمية وإدارة أموال الأيتام في الأردن وصدور القانون رقم 20 لسنة 72 الذي ينظم العمل في المؤسسة ؛ حيث كانت تحول إليها أموال الأيتام من المحاكم الشرعية لاستثمارها بالوسائل المشروعة .
وبعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية تم إيداع إيرادات أموال الأيتام في البنوك التجارية وبقيت دون تنمية ، حيث تصرف منها نفقات الأيتام الشهرية والاستثنائية ، ويدفع رصيد من ثبت رشده منهم . فاقتضى الأمر تصويب هذا الوضع المنافي لدور القضاء الشرعي في الحفاظ على أموال الأيتام وتنميتها ؛ وتطبيق الأحكام الشرعية الخاصة بذلك بعيداً عن الفوائد الربوية وشبهة التعامل بها على النحو التالي :
1- تحويل جميع أرصدة الأيتام في الضفة الغربية من البنوك التجارية إلى البنوك الإسلامية لتنميتها ضمن مشاريعها الاستثمارية .
2- استعادة رصيد صناديق الأيتام المودعة في مؤسسة تنمية وإدارة أموال الأيتام في الأردن .(44/35)
3- إعادة تشكيل مجلس الأيتام الفلسطيني برئاسة قاضي القضاة وعضوية كل من رئيس محكمة الاستئناف الشرعية وقضاتها ، ليقوم بصلاحيات مجلس إدارة مؤسسة الأيتام بموجب القانون رقم 20 لسنة 1972 .
كانت هذه خطوة احترازية خوفاً على قيمة العملة بانخفاضها أو فقدها نتيجة حرب احتلال العراق ؛ كما حصل للدينار الكويتي والدينار العراقي في حرب الخليج عام 1991 ، وجاءت كذلك بسبب انخفاض نسبة الأرباح من البنوك الإسلامية على أرصدة الأيتام ؛ التي ترتب على الظروف الاقتصادية الصعبة والحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال الغاشم وإجراءاته الظالمة .
استطاع المجلس على مدى ثلاث سنوات استرجاع جميع أموال أيتام فلسطين المودعة في الأردن لتنميتها في فلسطين ؛ والتي يبلغ مجموعها أربعة ملايين دينار أردني . وقام المجلس بشراء عدد من الأراضي في مراكز بعض المدن في الضفة الغربية بمواقع تجارية ممتازة ؛ مستعيناً بالخبراء الثقات المختصين في الاستثمار وتجارة الأراضي.
ثم قرر المجلس التعامل مع الجمهور مباشرة بتاريخ 1/3/2004 بوسائل الاستثمار المتفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ، كالمرابحة والمضاربة والاستصناع والشراكة المتناقصة والإجارة المنتهية بالتمليك .
وفي عام 2005 تم تشكيل مجلس جديد للأيتام يرأسه قاضي القضاة ، ويضم في عضويته كلاً من نائب قاضي القضاة ورئيس سلطة الأراضي ورئيس سلطة النقد ومدير عام هيئة التأمين والمعاشات ومدير عام وزارة المالية ومدير عام وزارة الأوقاف والشؤون الدينية .
تهدف المؤسسة إلى حفظ أموال الأيتام وإدارتها وتنميتها واستثمارها بما يعود عليهم بالنفع ، وبما يحقق التنمية للاقتصاد الوطني وازدهاره للنهوض بالمجتمع الفلسطيني من خلال :
1- وسائل الاستثمار الشرعية كالمرابحة والمضاربة والمشاركة المتناقصة والإجارة المنتهية بالتمليك والاستصناع والمزارعة ؛ بما يثبت مرونة الاقتصاد الإسلامي وقدرته على التطور .(44/36)
2- المساهمة في الشركات التي تكون فيها مسؤولية المساهم المالية محددة بمقدار مساهمته .
3- إقامة مشاريع التنمية أو المشاركة فيها بالتعاون مع القطاعين العام والخاص .
4- إنشاء الأبنية وشراء وبيع وتطوير الأراضي لغايات التملك أو المشاركة أو الاستثمار أو المتاجرة .
5- الإيداع في الحسابات الاستثمارية لدى البنوك الإسلامية .
ويمكن تكييف علاقة المؤسسة بالقاصرين وأموالهم بأنها وصي عام لهم ، فعلاقتها بهم تماثل علاقة الوصي الخاص الذي يعينه القاضي ؛ حيث يلزم بتقديم الرعاية التربوية والصحية والاجتماعية للقاصر ؛ إضافة إلى قيامه باستثمار أمواله بإذن القاضي .
زاد عدد أيتام المؤسسة عن (4600) يتيم في نهاية عام 2004 ، ومن المعلوم أن هذا العدد متحرك زيادة ونقصاً ، لدخول أيتام جدد وخروج من يبلغ سن الرشد .
بلغ مجموع الأرصدة المودعة في المؤسسة (10) عشرة ملايين دينار أردني .
ومع أن الاستثمار هدف المؤسسة الأول ؛ إلاَّ أنها تؤدي دوراً اجتماعياً واقتصادياً فاعلاً يتفق وأحكام الشرع الحنيف بقيمه الإنسانية المتعددة ، من ذلك أنها عملت على إيجاد فرص لتشغيل كثير من المواطنين مما يحد من ظاهرة البطالة ، ومنها أيضاً مساعدة الراغبين بالزواج .
بلغ مجموع عقود الاستثمارات والمرابحات التي أبرمتها المؤسسة 611 عقداً منذ بدء عملها حتى 31/5/2005 ؛ وبلغت قيمة الاستثمارات أربعة عشر مليون دولاراً تقريباً ، مما يسهم بوضوح في تنشيط الاقتصاد الوطني والنهوض به ؛ وبالتالي تحقيق الازدهار والتنمية في المجتمع الفلسطيني .
أما قبل إنشاء المؤسسة فقد كانت عوائد استثمار أموال الأيتام على النحو التالي :
1- في الأردن : كانت الأرباح السنوية من مؤسسة تنمية وإدارة أموال الأيتام تتراوح بين 5-6% .
2- وفي البنوك الإسلامية الفلسطينية تدنت الأرباح إلى أقل من 1% نظراً للأوضاع الاقتصادية السيئة .(44/37)
وهذا له دلالته اللافتة للنظر ، حيث إن أموال الأيتام تشكل نسبة عالية من رأس المال الذي يستثمره البنك ، إلاَّ أن الأرباح التي يدفعها للقاصرين ضئيلة جداً ولا تمثل الأرباح الحقيقية لأموالهم ، في حين أن أرباح المؤسسة خلال عام 2004 بلغت 30% من رأس المال ، وهي تفوق أرباح أية مؤسس تجارية أو استثمارية على مستوى الوطن .
من أهم إنجازات المؤسسة في الجانب الإداري توحيد صناديق الأيتام في المحافظات الشمالية والجنوبية في وعاء واحد هو هذه المؤسسة ؛ بعد أن كانت أرصدة صندوق أيتام غزة في عدة بنوك تجارية وبعملات مختلفة كالجنيه والدينار والدولار والشيكل لكن دون أية تنمية أو استثمار .
والجدير بالذكر أن قانون المؤسسة قد أقر مؤخراً في المجلس التشريعي حسب الأصول الدستورية ؛ وأصبح نافذاً بعد تصديق سيادة رئيس دولة فلسطين عليه وبعد نشره في الجريدة الرسمية .
دائرة البحوث الفقهية والقانونية
يأتي استحداث هذه الدائرة لضرورة البحث العلمي ؛ ولرفد المحاكم الشرعية بالبحوث والدراسات الفقهية والقانونية . وتتولى الدائرة المهام التالية :
1- إعداد البحوث العلمية والدراسات وأوراق العمل في المواضيع التي تكلف بها الدائرة .
2- إعداد القوانين والإسهام في وضع النظام العام واللوائح التنفيذية والداخلية التي تنظم العمل في جهاز القضاء الشرعي .
3- دراسة مشاريع القوانين المحولة من ديوان الفتوى والتشريع إلى ديوان قاضي القضاة لإبداء الرأي فيها ورفع التوصيات .
4- تمثيل ديوان قاضي القضاة في المؤتمرات والندوات وورشات العمل التي يدعى الديوان إليها .
5- الإشراف العلمي على المؤتمرات والندوات واللقاءات وورشات العمل التي يعقدها الديوان في المجالات التي يحددها سماحة قاضي القضاة .
6- إعداد المواد التدريبية اللازمة للدورات وورشات العمل التي يعقدها ديوان قاضي القضاة لموظفيه أو يسهم فيها بالتعاون مع جهات أخرى .(44/38)
7- المشاركة في لجنة مقابلات المرشحين للتوظيف في الدائرة .
8- الإشراف على مكتبة ديوان قاضي القضاة ومكتبات المحاكم الشرعية ؛ وتنظيم العمل فيها من حيث الارتياد والاستعارة والتزويد بالكتب .
9- الإشراف على إعداد وتحرير المجلة العلمية الصادرة عن الدائرة .
10- الإشراف العلمي على الموقع الإلكتروني الخاص بديوان قاضي القضاة على شبكة المعلومات العالمية
11- الإشراف العلمي على كل ما يصدر عن ديوان قاضي القضاة من نشرات أو مطبوعات أو مواد إعلامية أو بيانات لوسائل الإعلام .
المبحث الثاني
التطور القانوني
القوانين التي تنظم العمل في جهاز القضاء الشرعي في فلسطين قسمان : القوانين الإدارية ؛ والقوانين الفنية .
القوانين الإدارية تنظم العمل الإداري في جهاز القضاء الشرعي ، وتستمد من النظم التي تقررها الدولة وتعتمدها في وزاراتها ودوائرها ومؤسساتها ؛ لكن مع ملاحظة اختلاف جهاز القضاء عنها في بعض التفصيلات والأحكام ؛ كقانون تشكيل القضاء الشرعي .
أما القوانين الفنية فتتناول الجانب الذي يختص به القضاء الشرعي ؛ وطبيعة العمل والخدمات التي يقدمها للمواطنين . يشمل هذا القسم نوعين من القوانين هما : الموضوعية كقانون الأحوال الشخصية ، والإجرائية كقانون أصول المحاكمات الشرعية .
مشروع قانون تشكيل القضاء الشرعي
يأتي إعداد مشروع هذا القانون في إطار تأسيس السلطة القضائية ؛ وتحديد موقع القضاء الشرعي وتبعيته في دولة فلسطين ؛ ولإضفاء الصفة القانونية - دستورياً - على دوائره ومؤسساته وبالأخص المستحدثة منها ، مع العلم أنها أنشئت بمقتضى مراسيم صادرة عن رئيس الدولة ؛ وتباشر عملها منذ اللحظة الأولى للتوقيع على تشكيلها ، فهي قانونية من هذا الجانب .(44/39)
نص مشروع القانون على إنشاء المجلس الأعلى للقضاء الشرعي وعلى النظام الخاص به ، ونص أيضاً على تشكيل المحكمة العليا الشرعية ؛ وعلى إنشاء نيابة الأحوال الشخصية ؛ ونص كذلك على استحداث دائرة الإرشاد والإصلاح الأسري .
مشروع قانون أصول المحاكمات
تكمن أهمية صياغة قانون فلسطيني لأصول المحاكمات في قيام مؤسسات قضائية جديدة في جهاز القضاء الشرعي ؛ حيث سيحدد القانون النظم التي تسير عليها تلك المؤسسات ، هذا بالإضافة إلى دوره في تطوير وتعديل آلية العمل وإجراءات المحاكمة أمام المحاكم الشرعية على تعدد درجاتها ؛ بما يخفف معاناة المواطنين ويقصر أمد التقاضي .
فعلى سبيل المثال حدد المشروع نظام المحكمة العليا الشرعية ؛ فنص على أنها تنعقد برئاسة رئيسها وبحضور أغلبية أعضائها ، وللرئيس أن يشكل أكثر من هيئة من أعضاء المحكمة برئاسته إذا اقتضت الضرورة ذلك . وتصدر قرارات المحكمة بالأغلبية المطلقة ويسجل الرأي المخالف إن وجد .
وحدد كذلك اختصاصها المكاني فنص على أن ولايتها تشمل كامل الأراضي الفلسطينية ، أما اختصاصها النوعي فيشمل القضايا التالية :
1- العدول عن مبدأ سابق قررته المحاكم الاستئنافية أو رفع تنافض بين مبادىء سابقة .
2- تنازع الاختصاص السلبي والايجابي بين المحاكم الشرعية بأنواعها .
3- أية طلبات أو طعون ترفع إليها ذات علاقة بعمل المحاكم الشرعية .
4- توحيد الاجتهاد القضائي وإرساء مبادئ قضائية .
5- النظر تدقيقاً في جميع معاملات إنشاء الأوقاف الخيرية والذرية ومعاملات الإذن للأوصياء والأولياء والمتولين والقوام .
6- الرقابة الشرعية على أعمال مؤسسة تنمية وإدارة أموال الأيتام .
وحدد مشروع القانون آلية عمل نيابة الأحوال الشخصية ؛ واختصاصها برفع الدعاوى في الحالات التي ينص عليها القانون ؛ حيث يكون لها ما للخصوم من حقوق ؛ وأوجب تدخلها فيما يلي :(44/40)
1- دعاوى الحسبة وهي التي يتعلق بها حق الله تعالى كالطلاق و النسب و الوقف و الردة و بإباء احد الزوجين الإسلام و بيت المال والهبة و الوصية إلى جهة الخيرات و في المال الذي يرد إلى وزارة الأوقاف و على فاقدي الأهلية وناقصيها و المفقودين .
2- الدعاوى الخاصة بفسخ عقد الزواج لفساده أو بطلانه .
ونص مشروع القانون على تبعية دائرة الإرشاد والإصلاح الأسري لقاضي القضاة ؛ وعلى اختصاصاتها الوظيفية ؛ وحدد كيفية سير العمل فيها .
وتضمن مشروع قانون أصول المحاكمات الشرعية النص على إجراءات سير العمل في نيابة الأحوال الشخصية .
مشروع قانون الأحوال الشخصية
الأحوال الشخصية من أهم المواضيع التي تهم الإنسان في كل عصر وزمان ؛ لالتصاق أحكامها بجوانب حياته ومساسها بأخص خصوصياته ؛ من قبل مولده إلى ما بعد مماته ، ولتنظيمها شؤون الأسرة التي ينشأ فيها ؛ هذه اللبنة التي لا يقوم المجتمع إلاَّ بها ؛ يقوى بتماسكها ويضعف بانفصام عُراها ، فعنيت الشريعة الغرَّاء بها ؛ وعززت العلاقات بين أفرادها بإقامتها على المودة والرحمة ؛ وبجعل السكينة مقصودها .
وبما أن القضاء الشرعي في فلسطين منذ العهد العثماني مقيد بالراجح من المذهب الحنفي ؛ الذي يمتاز بكثرة مسائله وفروعها وتعدد الأقوال فيها ، ولصعوبة الوقوف على الراجح منها في كل قضية ، ولأن القاعدة الفقهية تنص على أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ، ولتسارع التطور في الحياة المعاصرة ؛ فقد أصبحت بعض أحكام المذهب الحنفي لا تلبي احتياجات الناس الحقيقية ولا تناسب أحوالهم الواقعية ، فدعت الحاجة إلى صياغة قانون جديد يرفع الحرج ويزيل الإشكال ؛ ويعتمد في نصوصه مبدأ الانتقاء من أقوال الفقهاء ؛ والاجتهاد في المسائل الحادثة بما يتفق مع ثوابت الشرع وقواعده .
وضعت اللجنة المشرفة على إعداد مشروع القانون نصب أعينها الأسس التالية :(44/41)
1- الشريعة الإسلامية بمذاهبها العديدة هي المصدر الوحيد الذي استُمِدَّتْ منه مواد المشروع التزاماً بأمر الله تعالى الذي قال " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُون "(1) ، وراعت اللجنة عند الانتقاء من المذاهب الفقهية الأصلح لمجتمعنا والأنفع له من أقوال العلماء ؛ الذين اجتهدوا لزمانهم وراعَوْا العرف السائد فيها .
2- مع أن هذا القانون موضوعي ؛ إلاَّ أنه تضمن بعض المسائل الإجرائية بهدف تيسير التقاضي في المحاكم الشرعية بما يتفق مع أصول المحاكمات الشرعية .
3- العمل في بناء وصياغة مشروع القانون بالإضافة إلى اعتماده على النظرية العلمية ؛ وعلى التوصيات الإيجابية لبعض الأكاديميين الذين درَّسوا قانون الأحوال الشخصية وشرحوه ، فقد كان ثمرة سنواتٍ طويلةٍ من الخبرة الميدانية ، ونتاجاً للتجربة العملية في القضاء الشرعي للوصول إلى قانون متكامل للأحوال الشخصية نفاخر به العالم ، ونحرص فيه على التطوّر والمعاصرة بما لا يتعارض مع ثوابت الدين ومحكمات الشرع .
تضمن مشروع القانون أبرز التعديلات التالية :
1- سن أهلية الزواج
__________
(1) . سورة الجاثية الآية 18 .(44/42)
لا خلاف في إباحة تزويج الصغار شرعاً ؛ بدليل قوله تعالى " وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ "(1)، مع التأكيد على عبثيته كما قرر كثير من العلماء ، لأنه يحملهم مسؤوليات هم في غنى عنها مع عدم حاجتهم إليه ، فالصغر ينافي معظم مقاصد الزواج ، واستناداً إلى أن الشخص لا يستطيع التصرف في أمواله قبل سن الرشد لاحتمال إتلافها ؛ فالزواج بلا رشد هو أعظم ضرراً لاحتمال فشله وعدم نجاحه ؛ ولصدوره غالباً عن غير رضا ؛ ولوقوفه حجر عثرة على طريق مواصلة الدراسة والتحصيل العلمي وبالأخص الإلزامي ، فقد رفع مشروع القانون سن أهلية الزواج للخاطب إلى ثمانية عشر عاماً وللمخطوبة إلى سبعة عشر عاماً ، لكنه أجاز للقاضي استثناء في حالات طارئة أن يأذن بزواج من لم يتم سن الأهلية إذا كانت الهيئة محتملة وبموافقة قاضي القضاة بشرط ألاًّ يقل عمره عن ستة عشر عاماً .
2- الفحص الطبي
ألزم مشروع القانون كلاً من الخاطبين إجراء فحص طبي بقصد الزواج ، ومنع إجراء العقد لخاطبين يحمل أحدهما أو كلاهما مرضاً وراثياً أو معدياً أو سارياً .
ذلك أن الإسلام جعل المحافظة على النسل من أهم مقاصده ، فالذرية الطيِّبة الخالية من الضعف مأمولُ كل إنسان ؛ وعنوانُ القوة التي يجب إعدادها قال صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ... "(2) . فكثير من الأمراض والإعاقات التي تنتقل إلى النسل تحتاج إلى تكاليف باهظة وأموال طائلة لعلاجها ، وتتحمل الأسرة والمجتمع والدولة جانباً كبيراً منها .
__________
(1) . سورة الطلاق الآية 4 .
(2) . رواه مسلم في كتاب 4816.(44/43)
يمثل الفحص الطبي قبل الزواج خطوة أساسية على طريق إنشاء أسرة قوية ؛ بتأمين الوسائل الوقائية للتأكُّد من سلامة البِنْية التناسلية للخاطبَيْن ؛ لتكون احتياطات لمعاشرة زوجية سليمة تمدُّ المجتمع بالنسل القوي ، وتقلل من احتمالات تغرير أحد الزوجين بالآخر أو التدليس عليه بإخفاء عيوبه .
3- تحديد الولي في الزواج
حصر مشروع القانون ولاية التزويج في العصبات حتى الدرجة الثانية فقط من القرابة النسبية .
يأتي هذا التحديد نتيجة ما نشهده من نقص شفقة الولي على المرأة في الدرجات البعيدة ؛ لقلة التقوى والتأثُّر بالأهواء والمصالح ؛ أو الخوف على الثروات والمكانة الاجتماعية ؛ أو لمحض التحكُّم في المرأة وفرض القول عليها ؛ أو رغبة بمضاررتها والكيد بها ، مما يدعوه إلى إكراهها على الزواج أو عضلها دون اعتبار رضاها ؛ وبالأخص أن الصغر والحياء والعرف يحرمها إبداء الرأي وحرية التعبير .
4- تبليغ الزوجة بزواج زوجها
لم تمنع الشريعة الإسلامية تعدد الزوجات ولم توجبه ، بل أباحته ونظمت أحكامه ؛ فقيدت العدد فيه واشترطت له شروطاً منها العدل بين الزوجات . ولم تتدخل قوانين الأحوال الشخصية في فلسطين فيه .
أظهرت تجربتنا العملية في القضاء الشرعي حالات ليست قليلة ؛ تسبب فيها التعدد غير العلني بإثارة كثير من الإشكالات القانونية والقضائية والاجتماعية وبالأخص بعد الوفاة ، منها على سبيل المثال : الحقوق الإرثية ؛ حقوق النسب ؛ حرمة النكاح ؛ وغيرها كثير .
وحرصاً على تفادي ذلك أوجب مشروع القانون على القاضي التحقق من إعلام الزوجة الأولى والثانية بهذا الزواج بعد العقد .(44/44)
ليس في هذا النص منعاً أو تحديداً أو تقييداً للتعدد ، ولا اشتراط موافقة الزوجة عليه فهذا ليس لها ، لكن فيه حفظ حقوق الزوجات ؛ وضمان تحقيق العدل المطلوب في القَسْمِ بينهن ، ومحاولة للتغلب على بعض آثاره السلبية من ضياع حقوق الزوجة الأولى أو حقوق أولادها . ومن جانب آخر فإن في هذا النص حماية للزوجة الثانية من التدليس والتغرير الذي يوقع الضرر بها .
5- الحقوق المشتركة بين الزوجين
تمتاز العلاقة التي تنظمها الشريعة الإسلامية بين الزوجين بأنها إنسانية تقوم على المشاعر الدافئة والعاطفة الحميمة ؛ وتتصف بالحساسية والخصوصية والسرية ، ولا يمكن للنصوص القانونية المجردة أن تحيط بها أو تضبطها ؛ إنما هي تقوى الله تعالى وقوة الوازع الديني واحترام الآخر ، ولتحقيق التوازن والتكامل بين الجانب القانوني والقضائي والديني في تلك العلاقة ؛ نص مشروع القانون على الحقوق المشتركة للزوجين وعلى الحقوق الخاصة لكل منهما .
6- نفقة الزوجة العاملة(44/45)
الأصل عدم خروج الزوجة من البيت إلاَّ بإذن الزوج ، فإن خرجت فهي ناشز لا نفقة لها عند الجمهور(1) . لكن بسبب التغير في حياة الناس ؛ ومشاركة المرأة على نطاق واسع في مجالات العمل والوظائف العديدة ؛ فإنَّ ربطَ عملها بإذن الزوج سيوقع بها ضرراً بالغاً بفوات مصلحتها ؛ أو بضياع حقوقها المالية والإدارية والوظيفية حال تركها العمل ؛ وبالأخص إذا انتهى زواجها بالطلاق ، هذا بالإضافة إلى أن الزوج قد يكون مقصراً في الإنفاق عليها أو على أولادها ؛ فتحتاج الخروج إلى العمل لتحصيل قوت الأسرة ومتطلباتها ، وفوق ذلك فإن المرأة العاملة غالباً ما تنفق كسبها على احتياجات الأسرة وبيت الزوجية ؛ ونادراً ما تدَّخره لنفسها ، لذا أوجب مشروع القانون النفقة للزوجة العاملة ولم يعتبرها ناشزاً غير مستحقة للنفقة أخذاً بقول الجمهور الذين يجيزون للمرأة الخروج دون إذن الزوج لقضاء حوائجها إذا لم يقضها لها ؛ أو للوفاء بالتزاماتها المالية أو الوظيفية كالديون ؛ وكالقابلة أو المرضعة التي أجَّرَتْ نفسها قبل الزواج ؛ وبقول الظاهرية الذين يرون أن نفقة الزوجة تجب بإزاء العقد ولا يسقطون نفقة الناشز أصلاً(2) .
7- الطلاق المنجز
معلوم أن مسألة وقوع الطلاق غير المنجز اجتهادية اختلف فيها العلماء ، وأخذاً بالقول المنسوب إلى ابن تيمية من الحنبلية وتلميذه ابن القيم(3) ، وحرصاً على المصلحة العامة في استقرار الأسرة الفلسطينية ؛ وحيث أن الزواج لا ينعقد إذا كان غير منجز ؛ فالطلاق الذي تنحلُّ به رابطة الزواج أولى ألاَّ يقع إذا كان غير منجز ، فقد نص مشروع القانون على عدم وقوع هذا النوع من الطلاق .
__________
(1) . المغني لابن قدامة 8/189 .
(2) . المحلى لابن حزم 9/114 .
(3) . إعلام الموقعين لابن القيم 3/54 .(44/46)
ولنفس الهدف أخذ المشروع بعدم وقوع الطلاق بدعي الوقت ؛ الذي يوقعه الزوج على زوجته في الحيض أو في طهر مسها فيه ؛ أخذاً بقول ابن تيمية وتلميذه ، الموافق لظاهر القرآن الكريم في قوله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ "(1) . هذا بالإضافة إلى أن القانون النافذ حالياً لا يوقع الطلاق بدعي العدد في المادة (90 ) التي نصت على أن الطلاق المقترن بالعدد لفظاً أو إشارة والطلاق المكرر في مجلس واحد لا يقع بهما إلاَّ طلقة واحدة أخذاً بقول ابن تيمية وتلميذه(2) .
8- التعويض عن الطلاق
اختلفت مواقف العلماء المعاصرين من مسألة التعويض عن الطلاق التعسفي بين مؤيد ومعارض ؛ ولكل فريق وجهة نظره دليله . وللحد من تعسف الزوج في الطلاق فقد أوجب مشروع القانون المتعة لكل مطلقة بعد الدخول ؛ وترك أمر تقدير قيمتها إلى القاضي مع مراعاة حالة الزوج ، وأجاز للمطلقة طلب التعويض عن الطلاق التعسفي الذي يقدره القاضي ؛ مراعياً مقدار الضرر الذي وقع عليها من غير أن يؤثر ذلك على حقوقها الأخرى ؛ شريطة ألا يقل عن نفقة سنة ولا يزيد عن نفقة ثلاث سنوات . وأجاز المشروع للقاضي أن يحكم لها بأجرة مسكن إذا لم يكن لها مأوى أو معيل ما لم تتزوج إذا كان حجم الضرر الواقع عليها يبرر ذلك على ألاَّ تزيد المدة عن سنة .
__________
(1) . سورة الطلاق الآية 1 .
(2) . المغني لابن قدامة 7/281-282 ، 313(44/47)
أخذ المشروع في هذا النص بقول الظاهرية(1) والشافعي في مذهبه الجديد(2) ، حيث أوجب كل منهما المتعة لكل مطلقة ؛ استناداً إلى قوله تعالى " وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ "(3) وإلى قوله سبحانه في تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين بين الطلاق والإمساك " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً "(4) ، وأخذ المشروع في تقدير قيمة المتعة بقول الشافعية(5) وإحدى الروايتين عن أحمد(6) أنها تترك إلى ولي الأمر لأنها من المسائل الاجتهادية .
9- التفريق للمرض النفسي
تمتاز الشريعة الإسلامية بصلاحيتها للتطبيق في كل المجتمعات ، وتتسع أحكامها الشرعية لتشمل كل الأحوال الحادثة نتيجة تطور العصور والأزمان .
ولئن عرف سلفنا الصالح مدى تأثير العيوب الجسمية والعقلية والأمراض المنفرة في استقرار الحياة الزوجية ؛ فقد عرف العالم اليوم تأثير الأمراض النفسية وخطورتها على أفراد الأسرة وعلاقاتهم فيها .
لذا نص مشروع القانون على أن أحكام التطليق للعيوب الجنسية أو الجنون الواردة فيه تسري على التطليق بسبب المرض النفسي العضال ، أخذاً بقول ابن تيمية الذي يجيز التفريق لأي عيب منفر في أحد الزوجين(7) .
10- التفريق لعقم الزوج
__________
(1) . المحلى لابن حزم 10/3
(2) . مغني المحتاج للشربيني 3/241
(3) . سورة البقرة الآية 241 .
(4) . سورة الأحزاب الآية 28 .
(5) . مغني المحتاج للشربيني 3/242 .
(6) . المغني لابن قدامة 7/171
(7) . زاد المعاد لابن القيم 5/182-183 .(44/48)
البنون زينة الحياة الدنيا وامتداد ذكر الإنسان فيها ، فالذرية من مقاصد الزواج التي حث الشرع على حفظها ، وحق لكل من الرجل والمرأة ، فإذا ظهر عقم الزوجة فللزوج أن يطلقها أو يتزوج عليها أو يصبر ، أما إذا تأكد عقم الزوج فلا تملك الزوجة إلاَّ المخالعة ؛ وهنا قد يلجأ الزوج إلى ابتزازها ، ومن الظلم أن تدفع المرأة الثمن على أمر ليس من كسبها ولا ذنب لها فيه ، لذا أجاز لها مشروع القانون طلب التفريق من زوجها إذا أثبتت عقمه بتقارير طبية قطعية ؛ قياساً على التفريق للعيوب الجنسية المانعة من الوطء ؛ واستدلالاً بما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً في مهمة فتزوج امرأة وكان عقيماً ؛ فقال له أعلمتها أنك عقيم لا يولد لك ؟ قال لا ، قال فانطلق فأخبرها وخيِّرْها(1) ؛ وهو قول ابن تيمية والإمام أحمد الذي قال عن الزوجة عساها تريد الولد(2) ، هذا بالإضافة إلى ما نص عليه الفقهاء أن الزوج له أن يعزل عن زوجته الحرة بإذنها(3) .
11- التفريق للهجر
من حق الزوجة أن يكون زوجها مقيماً عندها وفي بيتها ؛ لذا لا يصح له أن يهجرها خارجه ولو بهدف التأديب المنصوص عليه في قوله تعالى " وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ "(4) ؛ فالآية الكريمة حددت مكان الهجر وهو المضجع أي مكان النوم ، وقال صلى الله عليه وسلم " ... لا تضرب الوجه ولا تقبِّح ولا تهجر إلاَّ في البيت "(5) .
فالخلاصة أنه لا بد من علمها وإذنها إذا غاب عنها .
__________
(1) . رواه عبد الرزاق في المصنف في كتاب النكاح برقم 10346 .
(2) . المغني لابن قدامة 7/142 .
(3) . كشاف القناع للبهوتي 5/189 .
(4) . سورة النساء الآية 34 .
(5) . رواه أبو داود في كتاب 1830.(44/49)
ولأن الهجر مختلف عن الغياب والفقدان ويشبه الإيلاء في مآله ؛ فقد أفرده مشروع القانون في مادة مستقلة عن مادة الفقدان والغياب ، فإذا أثبتت الزوجة هجر زوجها لها مدة لا تقل عن أربعة أشهر بلا عذر مقبول جاز لها أن تطلب من القاضي تطليقها بائناً إذا تضررت من هجره لها .
12- الحكم بالخلع
لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الطلاق بيد الرجل ؛ ومنح المرأة الحق في افتداء نفسها بالخلع ، لكن لا معنى للخلع إذا ارتبط بإرادة الزوج المنفردة ؛ فإذا أصرت الزوجة على الخلع وأصر الزوج على الرفض أجاز مشروع القانون تدخَّل القاضي ؛ لما يتمتع به من سلطة تقديرية في إصدار الأحكام القضائية ، فهو مخوَّل بإصدار الحكم بالتفريق في هذه الحالة إذا اقتنع باستحالة الحياة بين الزوجين بعد التحكيم ، ففي قصة المختلعة ألزم صلى الله عليه وسلم ثابتاً بالعوض والطلاق بقوله " ... اقبل الحديقة وطلقها تطليقة "(1)
13- الحضانة
هي حق للمحضون بمقتضى الشفقة الفطريّة وصلة القربى ؛ لأن إهماله يعرضه للتشرد والغواية .
وهي ولاية ثابتة بالشرع تُقَدَّم فيها النساء على الرجال لأنهن أشفق وأرفق بالصغير . وقد يظن ظان أن الحضانة خدمة للصغير ليس غير ؛ وتنتهي عند قيامه بشؤونه بنفسه ، وهذا غير صحيح وإلاَّ فإن أي خادم يمكنه القيام بها ، لذا نص مشروع القانون على أن الحضانة حفظ الولد وتربيته وتعليمه ورعايته . وهي حق للمحضون يراعى عند الحكم بها مصلحته ويلزم بها من تقررت عليه .
فالنص صريح في اعتبارها واجباً ومسؤولية فصَّل مفرداتها بحيث يحاسب الحاضن المقصر فيها ؛ في دعوى الحق العام الشرعي التي يحركها وكيل نيابة الأحوال الشخصية .
ومثلها الولاية ؛ حيث نص المشروع على محاسبة الولي أمام القاضي حال تقصيره ؛ فقد نص على أنه يجب على الولي النظر في شؤون المحضون وتأديبه وتوجيهه ، مع مراعاة ألا يبيت إلا عند حاضنته .
__________
(1) . رواه البخاري في كتاب الطلاق برقم4867 .(44/50)
أما سن الحضانة فهو من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء تبعاً للعرف ، وقد استرشد مشروع القانون في تحديده بقول المالكية ؛ الذين يرون أن حضانة البنت تنتهي بالزواج(1) ؛ وبرأي الشافعية(2) الذين قالوا أن الحضانة تنتهي بالتمييز ثم يخير الصغير بعدها ، فإن اختار الأبوين معاً أُقْرِعَ بينهما ، وإن امتنع عن اختيار أحدهما فالأم أولى استصحاباً للأصل وهو أحقِّيِّتها بالحضانة ، فنص على أن للقاضي بناء على الطلب والدعوى الحكم باستمرار حضانة الأم التي حبست نفسها على تربية وحضانة أولادها إلى سن الرشد إذا تحقق أن في ذلك مصلحة محققة لهم .
جاء هذا النص حرصاً على الصغير ، فهو بأمس الحاجة إلى رعاية الأم وتوجيهها ومتابعتها ، وإلى حمايتها العاطفية والنفسية ؛ وبالأخص في هذا الزمان الذي كثرت فيه المؤثرات المتناقضة في شخصية الطفل ، إضافة إلى أن نزع الصغار من حضانة الأم في سن مبكرة يؤدي إلى مشكلات نفسية واجتماعية معقدة ، منها مثلاً أن الصغير سيكون عند زوجة الأب أو الأخ أو العم حقيقة ؛ ولا يمكن أن تكون هذه أولى بالصغير من أمه ، ومنها أن الصغير أحياناً يُنزع من حضن أمه ويلقَى به في مؤسسات رعاية الأيتام ؛ ولا يمكن أن تكون هذه المؤسسات أحرص على مصلحة الصغير وعلى تربيته من أمه ، وفوق ذلك فإن الآباء اليوم منشغلون بأعمالهم عن دورهم التربوي تجاه الصغار وتتولاه الأم وحدها .
14- ضم الأنثى
__________
(1) . حاشية الدسوقي 2/526
(2) . المهذب للشيرازي 2/171(44/51)
حماية للمرأة من تحكّم الولي البعيد أو كيده بها ، وبسبب تفاوت شفقة الأولياء على المرأة في هذا الزمان حسب الجهات والدرجات ، ولتقصيرهم تبعاً لذلك في رعايتها وتأمين حقوقها ، فقد نص مشروع القانون على حصر ولاية ضم البكر غير المأمونة على نفسها في الدرجتين الأولى والثانية فقط من القرابة النسبية ، وفي المقابل جعل لها الحق في طلب الانضمام إليه إذا كان هو المقصر في مسؤولياته تجاهها .
وليس في ضم المرأة إلى وليها أي مساس بمكانتها الاجتماعية أو انتقاص لشخصيتها واعتبارها الإنساني ؛ وإنما فيه حرص بالغ على كرامتها وتأمين حقوقها .
15- الطفل مجهول النسب
نظراً لرغبة كثير من الأسر بحضانة الأطفال مجهولي النسب تبرعاً من خلال نظام الأسر الحاضنة ، وحفاظاً على نفسية هذه الفئة من الأطفال وعلى مشاعرهم وكرامتهم ، ولتأمين الحماية الاجتماعية لهم أثناء وجودهم في تلك الأسر ، وتطبيقاً لقوله تعالى " ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ "(1) ، ولما ورد في السنة النبوية أن " رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى زيداً بن حارثة " ... حتى أنزل الله تعالى " ادعوهم لآبائهم ... " فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخاً في الدين ... "(2) ، فقد أجاز المشروع أن يكون الاسم الثاني من اسم الطفل مجهول الأبوين اسم كل من الحاضن والحاضنة مع قطع النسب فيما يلي ذلك على ان يكون الاسم الثالث والرابع وهميين ، ويصدر قاضي القضاة التعليمات بحجة الحضانة في هذه الحالة وإجراءاتها
يهدف هذا النص إلى تفادي ما يمكن أن يترتب على اختلاط الأنساب من أحكام مخالفة للشرع مثل الإرث وحرمة المصاهرة وأحكام الولاية وغيرها من الأحكام .
__________
(1) . سورة الأحزاب الآية 5 .
(2) . رواه البخاري في كتاب النكاح برقم 4698 .(44/52)
ولأن حضانة الطفل ورعايته التربوية عامل أساسي في بناء شخصيته وصياغة فكره وعقيدته ، خاصة إذا كانت في سني عمره الأولى ، لذا كان لا بد من النظر إلى اختلاف الدين بعين الاعتبار عند تحديد من يتعين عليه حضانة الطفل وبالأخص مجهول النسب ، ونظراً للظروف الاستثنائية التي يمر بها شعبنا الفلسطيني من كثرة الشهداء والأيتام ، وتفادياً لأي تأثير سلبي في دين الطفل فقد نص المشروع على منع حضانة الطفل مجهول النسب أو السفر به خارج فلسطين سفراً دائماً أو مؤقتاً في حالة اختلاف الدين سواء كان الحاضن شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً إلا بعد موافقة القاضي الشرعي وإذن قاضي القضاة .
16- الوقف الذري
نظراً لما تتعرض له المرأة في مجتمعنا الفلسطيني من حرمانها حقوقها الإرثية ، وبسبب ما يقوم به بعض الناس من تحايل على النصوص الشرعية للتهرب من إعطائها إرثها ؛ لئلاَّ يؤول إلى زوجها وأبنائها ؛ فيوقفون أموالهم على الذكور من ذرياتهم دون الإناث ، واستناداً إلى بطلان الشروط إذا عارضت أحكام الشرع وخالفت فرائض الله تعالى ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم " ... ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ... "(1) ، وبناء على الفهم الدقيق والعميق للقاعدة الفقهية المعروفة " شرط الواقف كنص الشارع " الذي بينه العلاَّمة ابن القيم(2) ومفاده أن شرط الواقف إذا كان مخالفاً لحكم الله ورسوله فهو حري بالإبطال ، لأن مثل هذا الوقف سيترتب عليه قطع ما أمر الله به أن يوصل ، بسبب الشرط الفاسد الذي يشترطه الواقف مما يجعله باطلاً من أصله غير منعقد ، لكل ذلك نص مشروع القانون على منع تسجيل أية حجة وقف ذري تخالف أحكام الفريضة الشرعية
17- الوصية الواجبة
__________
(1) . رواه البخاري في كتاب الشروط برقم 2527 .
(2) . إعلام الموقعين لابن القيم 1/237 .(44/53)
أخذت قوانين الأحوال الشخصية في بعض الدول العربية بمبدأ الوصية الواجبة ؛ وهو قول الظاهرية(1) الذين يوجبون الوصية للأقارب إن لم يكونوا من الورثة كما في حالة الحجب ؛ استناداً إلى قوله تعالى " كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ "(2) ؛ وقد رأى فريق من العلماء والفقهاء المحدثين أن أبناء المتوفى في حياة أبيه أحق الأقارب في هذه الوصية من ميراث جدهم أو جدتهم ؛ حيث اجتمع لهم اليتم والحجب من الميراث ؛ بالإضافة إلى ما يسود في هذا الزمان من تقصير أقاربهم في صلتهم وبرهم وإحاطتهم بالحنان والرعاية والكفالة .
في نفس الوقت اشترطت القوانين لهذه الوصية شروطاً محددة ومنصوص عليها في موادها .
بدأ العمل بالوصية الواجبة في فلسطين عام 1976 في المحافظات الشمالية ( الضفة الغربية ) ، أما مشروع القانون فقد أخذ بهذا المبدأ أيضاً ؛ إلاَّ أنه ساوى بين أبناء البنت وأبناء الابن في هذه الوصية ؛ وحصرها في الطبقة الأولى منهم فقط ؛ كل ذلك على اعتبار أنها ليست من الإرث . وعليه فقد نص المشروع على أنه إذا توفي شخص وله أولاد ابن أو بنت مات قبله أو معه وجب لهم في ثلث تركته الشرعية وصية بمقدار وشروط محددة .
المبحث الثالث
الطموحات والآمال
لا تتوقف عجلة التطور في المجتمعات المعاصرة ، وفي المقابل لا تتوقف احتياجات الناس ومتطلبات حياتهم ؛ فالواجب أن لا تتوقف طموحات ذوي العيون الساهرة ؛ والآمال التي يسعى العاملون
** دائرة الإجراء الشرعية
__________
(1) . المحلى لابن حزم 8/353 .
(2) . سورة البقرة الآية 180 .(44/54)
رغم أن السلطة القضائية مستقلة لا تدخل لأحد فيها ؛ إلا أن أحكامها تفتقر إلى قانون إجراء حديث بعيد عن التعقيد والثغرات التي تعرقل تنفيذ الأحكام وتطيل أمده ؛ مما يعرض حقوق الناس للضياع ؛ فتصبح الأحكام القطعية التي بأيدي أصحابها بلا قيمة .
إن الطموح الذي نسعى إليه الآن هو إنشاء دائرة إجراء شرعية ؛ تتولى تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية لصفتها الاستعجالية ؛ ولمساسها بالحياة الشخصية للفرد والأسرة التي يجب أن تكون الأحكام الصادرة بخصوصها معجلة التنفيذ ؛ وغير خاضعة للإشكالات التي يمكن أن تثار حول الأحكام في القضايا المدنية والعينية ؛ ولا يتاح المجال فيها لطعون قانونية غير مبررة ؛ مما يساعد القضاء الشرعي في القيام بخدماته الجليلة ؛ بإيصال الحقوق إلى أصحابها وتوفير الاستقرار والطمأنينة في العلاقات الأسرية والحياة الشخصية لأبناء شعبنا .
وقد نص مشروع قانون أصول المحاكمات الشرعية على تشكيل هذه الدائرة ونظامها وتبعيتها ؛ وعلى إجراءاتها وآلية العمل فيها .
** المعهد العالي للقضاء الشرعي
تتزايد الحاجة إلى فتح محاكم شرعية جديدة ولا تتوقف ؛ ويوازي ذلك حاجة ملحة إلى تأهيل عدد من طلبة العلم ليكونوا قضاة على درجة عالية من العلم والكفاية ؛ فلا بد والحالة هذه من إقامة مؤسسة علمية لتحقيق هذا الهدف ؛ فتقرر إنشاء المعهد العالي للقضاء الشرعي ؛ لتخريج الكوادر المدرّبة على أعمال المحاكم الشرعية التي من أهمها القضاء ، وسيمنح المعهد درجة الماجستير والدكتوراه ؛ إضافة إلى عقد دورات تدريبية لموظفي المحاكم الشرعية في مختلف المجالات .
وشكلت بتاريخ 15/9/2003 لجنة لمتابعة إعداد المخططات اللازمة ؛ والإشراف على بناء هذا المعهد على قطعة الأرض المخصصة لذلك والبالغة مساحتها ثلاثة دونمات .
** تدريب القضاة(44/55)
يعتبر القضاء اليوم من الوظائف الفنية التي تتطلب الخبرة والممارسة ؛ بالإضافة إلى العلم والتخصص . وعلى ذلك فإن أحوج القضاة إلى ذلك من تم تعيينه حديثاً منهم ؛ وبالأخص من لم يمارسوا العمل في المحاكم الشرعية ؛ لبعدهم عن الميدان والممارسة العملية ، لذلك فلا بد من إعداد برنامج لتأهيلهم وإكسابهم المهارات اللازمة أثناء في فترة التدريب التي قد تستمر عاماً كاملاً .
ومن برامج التدريب التي أعدت مؤخراً ما يلي :
1- دورة تدريبية عام 2003 م ؛ عقدها المركز القومي للدراسات القضائية " التابع لوزارة العدل المصرية ، واستمرت أربعة أسابيع ؛ وبإشراف عدد من كبار القضاة والمستشارين في محاكم النقض .
أما الفئة المستهدفة فكانت من القضاة الجدد وحديثي العهد بالعمل القضائي .
واشتملت الدورة على عدة مواضيع إدارية وفنّية ؛ وتطبيقية في المحاكم والأجهزة التابعة لها مثل نيابة الأحوال الشخصية .
2- دورة تدريبية عام 2004 م ؛ وعنوانها " إدارة العدالة في القضاء " في مدينة رام الله ؛ بواقع 30 ساعة تدريبية على مدى ستة أيام ؛ بالتعاون مع المعهد الوطني للإدارة التابعة للمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار – بكدار- . وتناولت عدة مواضيع إدارية وفنية مثل : إدارة الأزمات ؛ التفريق بين الزوجين بحكم القاضي ، الرشد والسفه وفك الحجر ؛ المرابحة وطرق الاستثمار المشروعة ؛ والشركات المساهمة ، وحاضر فيها عدد من كبار القضاة الشرعيين والخبراء في الإدارة والمحامين .
** زيادة عدد المحاكم
ازداد عدد المحاكم الشرعية التي تم افتتاحها ؛ سواء في محافظات غزة والضفة الغربية ، وشكلت هيئة جديدة لمحكمة الاستئناف الشرعية في كل من القدس وغزة ؛ فأصبح للمحكمة أربع هيئات : القدس ؛ نابلس ؛ غزة ؛ خانيونس .
وبعد تشكيل المحكمة العليا الشرعية اقتضت الأوضاع والظروف تشكيل هيئتين لها ؛ الأولى في القدس والثانية في غزة .(44/56)
لكن الحلم الذي يراودنا هو زيادة عدد المحاكم الابتدائية ليصبح لكل مائة ألف مواطن محكمة ، وزيادة عدد محاكم الاستئناف ليصبح في كل محافظة محكمة استئناف .
** مجلة البحوث الفقهية والقانونية
من الطموحات التي نسعى إلى تحقيقها على المستوى الفكري إصدار مجلة علمية عن دائرة البحوث الفقهية والقانونية ؛ تنشر فيها البحوث الفقهية والقانونية المحكّمة ؛ والمواضيع الفكرية والقرارات والأحكام ذات المبادىء الصادرة عن المحاكم الشرعية بدرجاتها المتعددة .
** توفير الدعم المادي
لمواجهة هذا التطور المتسارع ؛ ولضمان تحقيق هذه الآمال والطموحات ؛ يحتاج جهاز القضاء الشرعي إلى طواقم وموظفين متخصصين ، لإمكان تقديم أعلى مستوى من الخدمات للمواطنين ، ويحتاج كذلك إلى الدعم المادي لتغطية نفقات وتكاليف التطوير .
من هنا تبرز الحاجة الماسة إلى توفير الميزانية الكافية لجهاز القضاء الشرعي ؛ وتوفير الدعم المالي اللازم لتوفير جميع أدوات التطور ومتطلباته .
ثبت المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم .
2- إبراهيم بن علي ( ابن فرحون اليعمري ) : تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ، دار
الكتب العلمية ، بيروت .
3- إبراهيم بن علي بن يوسف ( أبو إسحق الشيرازي ) : المهذب ، دار الفكر ، بيروت .
4- أحمد بن محمد بن حنبل ( الشيباني ) : المسند .
5- أحمد بن محمد ( أبو العباس الصاوي ) : بلغة السالك إلى أقرب المسالك ، دار المعارف .
6- سليمان بن الأشعث بن شداد بن بشر ( أبو داود ) : السنن .
7- عبد الله بن أحمد ( موفق الدين بن قدامة المقدسي ) : المغني ، دار إحياء التراث العربي .
8- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل ( الدارمي ) : السنن .
9- عبد الرزاق بن همام ( أبو بكر الصنعاني ) : المصنف .
10- عدد من الاختصاصيين وأساتذة الطب : الموسوعة الطبية ، إشراف وتنسيق رئيف بستاني ؛ إنتاج
وتوزيع الشركة الشرقية للمطبوعات .(44/57)
11- علي بن أبي بكر ( الهيثمي ) : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، دار الكتاب العربي ، بيروت .
12- علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ( الظاهري ) : المحلى بالآثار ، دار الفكر ، بيروت .
13- علي بن خليل ( علاء الدين الطرابلسي ) : معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام ، دار
الفكر ، بيروت .
14- محمد بن أحمد الشربيني الخطيب : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ، دار الكتب العلمية ،
بيروت .
15- محمد بن أحمد بن عرفة ( الدسوقي ) : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير ، دار إحياء
الكتب العربية .
16- محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ( البخاري ) : الجامع الصحيح .
17- محمد بن بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ( ابن قيم الجوزية ) : إعلام الموقعين عن رب العالمين ،
دار الكتب العلمية ، بيروت .
18- محمد بن بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ( ابن قيم الجوزية ) : زاد المعاد في هدى خير العباد محمد
خاتم النبيين وإمام المرسلين ، دار الفكر ، بيروت .
19- محمد بن سورة بن موسى ( الترمذي ) : السنن .
20- محمد بن محمد بن محمود ( البابرتي ) : العناية شرح الهداية ، دار الفكر ، بيروت .
21- محمد بن مكرم بن منظور : لسان العرب ، دار صادر ، بيروت .
22- محمد بن يزيد ( ابن ماجة القزويني ) : السنن .
23- مسلم بن الحجاج بن مسلم ( القشيري ) : الجامع الصحيح .
24- منصور بن يونس البهوتي : كشاف القناع عن متن الإقناع ، دار الكتب العلمية ، بيروت .(44/58)
من مدونة الأحوال الشخصية المغربية
إلى مدونة الأسرة
بقلم: الأستاذ الدكتور المكي اقلاينة
أستاذ بجامعة الشارقة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
إن العناية بموضوع الأسرة، وضبط أحوالها من آكد الواجبات، وقد اعتنى الشرع الإسلامي بهذا الأمر وأولاه مكانة خاصة محافظة منه على استقرار الخلية الأولى للمجتمع، فكان القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة واجتهاد العلماء الرصيد الذي يبنى عليه كل تصور يهدف إلى المحافظة على تطبيق شرع الله عز وجل في المجتمع الإسلامي، فهو إذن لا يخص دولة دون دولة، ولكنه يرتبط بالأمة الإسلامية، لأن مرجعها هو الدين الإسلامي، ولا يجوز الاتفاق على إسقاطه كيفما كان الحال. وهذا لا يلغي خصوصية كل مجتمع، والأعراف السائدة فيه ما لم تكن مخالفة للشرع، فالعادة محكمة كما هو منصوص عليه في القواعد الفقهية، وعمل العلماء بمقتضاها، واختلفت الأحكام من جهة إلى جهة بناء عليها، لكن تبقى الأصول متفقا عليها، لا يمكن الخروج عليها.
وقد دأبت المجتمعات الإسلامية في العهود المتأخرة على تقنين الأحكام الشرعية على شكل مدونات، قد تلتزم بمذهب وقد تجمع بين جملة من المذاهب، وقد تبحث عن أيسر الأحكام في الاجتهاد الفقهي للعمل بمقتضاه حسب طبيعة المجتمع والظرفية التي يمر بها.
والمغرب كان من الدول التي عملت على وضع مدونة منذ وقت مبكر، وطرأت عليها تعديلات، وهو أمر يجعلنا ندرس المسألة من جهة نشأة الفكرة وتطورها، والتعديلات الواردة عليها، والسبل التي اتخذتها في سبيل تطبيقها.
لكل ما سبق، سأجعل البحث في مقدمة، وأربعة مباحث، وخلاصة.
المبحث الأول بعنوان: الصيرورة التاريخية للمدونة.
والمبحث الثاني بعنوان: مرتكزات مدونة الأسرة.
والمبحث الثالث بعنوان: التعديلات الواردة على مدونة الأحوال الشخصية.
والمبحث الرابع: الإجراءات العملية لتنفيذ مدونة الأسرة.
المبحث الأول: الصيرورة التاريخية للمدونة:(45/1)
في إطار تقنين الأحكام الشرعية في المغرب غداة استقلاله من الاستعمار، أحدث المغفور له الملك محمد الخامس لجنة لوضع مدونة لأحكام الفقه الإسلامي على شكل كتب تصدر تباعا، عددها ستة، بموجب ظهير شريف رقم 190-57-1 المؤرخ ب 22 محرم 1377 موافق 19 غشت 1957، كان على رأسها الأستاذ علال الفاسي.
وبناء على أعمال اللجنة، أصدر الملك محمد الخامس أمره بنشر سلسلة كتب في موضوع أحكام الأحوال الشخصية، يتألف من مجموعها مدونة تسمى "مدونة الأحوال الشخصية"، فصدر بذلك الكتاب الأول – وهو الزواج –، والثاني – وهو الطلاق – ليعمل بهما ابتداء من فاتح يناير سنة 1958 بموجب ظهير شريف رقم 343-57-1 كعح، حرر بالرباط في 28 ربيع الثاني عام 1377 موافق 22 نونبر سنة 1957(1).
والكتاب الثالث المتعلق بالولادة ونتائجها، بظهير شريف برقم 379-57-1 حرر بالرباط في 25 جمادى الأولى عام 1377 موافق 18 دجنبر سنة 1957(2).
والكتاب الرابع المتعلق بالأهلية والنيابة الشرعية، بظهير شريف برقم 019-58-1 حرر بالرباط في 4 رجب 1377 موافق 25 يناير 1958(3).
والكتاب الخامس المتعلق بالوصية، بظهير شريف برقم 073-58-1 حرر بالرباط في 30 رجب عام 1377 موافق 20 فبراير سنة 1958(4).
__________
(1) - نشر هذا الظهير بالجريدة الرسمية عدد 2354 بتاريخ 13 جمادى الأولى عام 1377 موافق 6 دجنبر سنة 1957.
(2) - نشر هذا الظهير بالجريدة الرسمية عدد 2358، الصادرة بتاريخ 11 جمادى الثانية 1377 موافق 3 يناير 1958.
(3) - نشر هذا الظهير بالجريدة الرسمية عدد 2363، الصادرة بتاريخ 17 رجب عام 1377 موافق 7 يناير سنة 1958.
(4) - نشر هذا الظهير بالجريدة الرسمية عدد 2367، الصادرة بتاريخ 16 شعبان عام 1377 موافق 7 مارس سنة 1958.(45/2)
والكتاب السادس المتعلق بالميراث، بظهير شريف برقم 112-58-1 حرر بالرباط في 13 رمضان 1377 موافق 3 أبريل 1958(1).
وذيل كل من الكتاب الثاني والرابع والخامس والسادس بفصل ينص على أن "كل ما لم يشمله هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح أو المرجوح أو ما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك".
واستمر العمل بها على الوجه الذي خرجت عليه أول مرة مدة 36 سنة، وخضعت لبعض التعديلات على عهد الملك الحسن الثاني بتاريخ 10 سبتمبر 1993 بعد تحركات نسائية من أجل إدخال تعديلات على المدونة، كان من نتائج ذلك اشتراط تقديم شهادة طبية تثبت سلامة الخطيبين من الأمراض المعدية عند كتابة عقد الزواج، وعدم الترخيص بالتعدد إلا بعد إعلام الزوجة لتكون بالخيار مع يسار الزوج نسبيا حتى يستطيع إنشاء بيت زوجية آخر، وإنشاء مجلس للصلح، يسهر عليه القاضي، ويثبت في محضر رسمي، ويتم مرتين للتوفيق بين الزوجين عند طلب الطلاق(2).
__________
(1) - نشر هذا الظهير بالجريدة الرسمية عدد 2371، الصادرة بتاريخ 14 رمضان عام 1377 موافق 4 أبريل سنة 1958.
(2) - سابقا كان يتولى العدول مهمة الإصلاح بين الزوجين، فيحصل التوفيق بين الطرفين في كثير من الحالات، أما عندما أصبح الأمر بيد القاضي، فإن نسبة عدد مراجعة الأزواج لزوجاتهم تقلص بشكل كبير حسب الجواب الذي حصلت عليه من عدد ليس بالقليل من العدول، ويرجعون ذلك إلى سوء فهم المرأة للوضع، إذ تعتقد أنها إذا تعنتت وتطاولت على زوجها أمام القاضي ونشر أسراره سيردعه ذلك عن الطلاق، أو أن القاضي سيرفض دعوى الطلاق وهو أمر غير صحيح، فيستحيل على الزوج مراجعتها أو الصلح بناء على ما صدر منها.(45/3)
لكن الظروف الدولية، وما قامت به المنظمات النسائية على مستوى دولي من تحركات في سبيل إلغاء أي نوع من أشكال التمييز بين الرجل والمرأة، جعلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تتنبه لهذا الأمر، وكان الوزير آنذاك عبدالكبير العلوي المدغري، فنظم ندوة وطنية بالرباط حضرها العلماء والمنظمات النسائية، موافقة ومعارضة(1)، من أجل مناقشة ما يحصل من انتهاكات للتصور الإسلامي في المؤتمرات الدولية، وما يراد للمرأة القيام به.
وطبيعة الانتماءات السياسية في المغرب لحكومة التناوب في 1999، جعلت رئيس الحكومة عبدالرحمن اليوسفي المنتمي لحزب الاتحاد الاشتراكي، يقدم للبنك الدولي مشروع إصلاح هو "مشروع إلحاق المرأة بعملية التنمية"، وهو ما أثار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، واحتد الحوار، وأعد سعيد السعدي - كاتب الدولة في الرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، المنتمي لحزب التقدم والاشتراكية - بعد ذلك ما أسماه (الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية)، وكان الأمر سريا أول الأمر إلى أن افتضح وخرج الملف إلى الناس في مارس 1999، فتتالت الندوات على الصعيد الوطني من الطرفين بين مؤيد ومعارض(2)
__________
(1) - وقد حضرت أشغال هذه الندوة المتعلقة ب "حقوق المرأة وواجباتها في الإسلام"، بالرباط يومي 8-9 رجب 1419 هـ، موافق 29-30 اكتوبر 1998.
(2) - يراجع في ذلك الموقف المعارض لحركة التجديد والإصلاح (تيار إسلامي) في: (موقفنا مما سمي "مشروع خطة العمل لإدماج المرأة في التنمية)- منشورات الفرقان- الدار البيضاء – 2000، وحزب العدالة والتنمية في: (المرأة بين التنمية، والتنمية بين الأصالة والتغريب)- مطبعة طوب بريس – 1999.
في المقابل، يراجع:
- مقال : خديجة رياضي (من المغرب): مدونة الأحوال الشخصية: السلطة الذكورية والهيمنة الطبقية – الحوار المتمدن (صحيفة إلكترونية يومية مستقلة يسارية علمانية ...)- عدد: 838 – بتاريخ 18 / 5 / 2004.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=7301#
- Maroc: l injustice faite aux femmes en terre d Islam; Hicham Raji; 2 janvier 2005
http://www.mediterraneas.org/article.php3?id_article=172
وكان الأمر موجعا للمعارضين لما طلعت عليهم الهيئة الوطنية لحماية الأسرة، استقطبت بعض رموز جيل مقاومة الاستعمار، واليمينيين و بعض اليساريين مثل محمد الفقيه البصري –أحد مؤسسي جيش التحرير- والدكتور عبدالكريم الخطيب – أحد مؤسسي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، صار اسمه لاحقا: الاتحاد الاشتراكي -، والمحجوبي أحرضان رئيس الحركة الوطنية الشعبية، وغيرهم من القيادات السياسية المغربية، مما أحدث شرخاً كبيراً في التصور الذي ظلت أحزاب اليسار تدافع عنه، والذي يقوم على اعتبار الصراع السياسي في المغرب صراعاً طبقياً فقط. فجاءت هذه الهيئة باستقطاباتها الدالة لتؤكد أن الصراع الحقيقي ذو بعد عمودي بين تيارين ديني ولا ديني. يراجع مقال: مواجهة خطة إدماج المرأة على طريقة بكين.
http://www.islammemo.cc/somet/one_News13.asp?IdNews=92(45/4)
، وكنت نظمت ندوتين في هذا الصدد: الأولى على مستوى وطني بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبدالمالك السعدي بتطوان بعنوان: (المرأة بين التكريم الإلهي والمقاربات الوضعية)، بتاريخ 8-9 مارس 2000، والثانية بعنوان: (مناقشة ما يسمى بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية) بدار الثقافة بتطوان بتاريخ فاتح أبريل 2000(1).
ونظرا للخلاف الوارد في المسألة في المجتمع المغربي، وحدّة الخلاف بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه الحداثي المؤيد للخطة، نظم كل من الطرفين مظاهرة في 12 مارس 2000، إحداهما في الرباط مساندة لها، وثانيتهما وأعظمهما في الدار البيضاء تستنكرها، نتج عن ذلك أن تبرأت الحكومة منها. لكن الحركات النسائية بقيت تحاول جمع التوقيعات مطالبة بتعديل مدونة الأحوال الشخصية التي تعتبرها تنقص من قدر المرأة، ورفعت مطالبها إلى جهات عليا، ونددت بوضعية المرأة المغربية في الأوساط الدولية، ورفعت التقارير في هذا الشأن، كما هو الحال بالنسبة لكل الحركات النسائية في العالم ممن لهم صلة بالاتجاه الحداثي.
__________
(1) - اتضح في النهاية أنها ليست بوطنية، لأنه لم يشارك فيها إلا تيار معين، وهو الذي ارتضى النهج الحداثي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، هي مخالفة لمقتضيات الشرع الإسلامي في غير ما موطن حسب ما خرج به العلماء المشاركون، و هي رجع صدى لمؤتمر بيكين وغيره، والندوتان مسجلتان عندي على أشرطة فيديو.(45/5)
في هذا الإطار، ومعالجة لهذا الوضع، قام جلالة الملك محمد السادس بتنصيب لجنة استشارية لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية برئاسة الأستاذ إدريس الضحاك، وألقى خطابا ملكيا بهذه المناسبة بتاريخ 27 أبريل 2001، موجها أنظارها إلى الحفاظ على مقاصد الشريعة الإسلامية ومحكم نصوصها، وأن تلتزم الموضوعية والفهم العميق لواقع المجتمع المغربي، وأن تنزل الأحكام منازلها من حيث مراعاة الضرورة والمصلحة العامة، دون تقيد باجتهاد سابق كان له ما يبرره في زمانه وبيئته. وأنه عليها الإصغاء لكل الأطراف المعنية، وفتح الأبواب أمامها للإدلاء بآرائها، والوقوف على مطالبها بإمعان وتبصر ورحابة صدر.
ثم تم لاحقا تجديد اللجنة برئاسة الأستاذ امحمد بوستة -الأمين العام لحزب الاستقلال سابقا-(1)
__________
(1) - تتكون اللجنة من ممثلين للجانب الشرعي، وقضاة، وعنصر نسوي.
فأما الممثلون للجانب الشرعي، فهم ثمانية: 1- الأستاذ محمد التاويل (أستاذ كرسي بجامع القرويين). 2- الأستاذ مصطفى بن حمزة (رئيس المجلس العلمي بوجدة). 3- الأستاذ محمد بن معجوز المزغراني (أستاذ بكلية الشريعة وبكلية الحقوق). 4- الأستاذ أحمد الخمليشي (مدير دار الحديث الحسنية). 5- الأستاذ إبراهيم بن الصديق (رئيس المجلس العلمي بطنجة – توفي رحمه الله). 6- الأستاذ شبيهنا حمداتي ماء العينين (رئيس المجلس العلمي بالقنيطرة). 7- الأستاذ محمد الأزرق (أستاذ بجامع القرويين). 8- الأستاذ حسن العبادي (أستاذ بكلية الشريعة بآيت ملول).
وأما ممثلو سلك القضاء، فإنهم أربعة: 1- الأستاذ محمد الدردابي (رئيس غرفة الأحوال الشخصية بالمجلس الأعلى). 2- الأستاذ محمد الصقلي ( مختص في الأحوال الشخصية، رئيس غرفة بالمجلس الأعلى سابقا). 3- الأستاذ محمد الأجراوي (رئيس غرفة بالمجلس الأعلى). 4- الأستاذ عبدالعالي العبودي (رئيس الغرفة الأولى بالمجلس الأعلى).
وأما ممثلات العنصر النسوي، فهن ثلاثة: 1- الأستاذة زهور الحر (مستشارة بالمجلس الأعلى، رئيسة المحكمة الابتدائية بعين الشق بالدار البيضاء). 2- الأستاذة نزهة جسوس: (طبيبة، أستاذة بكلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء، وعضو مؤسس في المنظمة المغربية لحقوق الإنسان). 3- الأستاذة رحمة بورقية (أستاذة، رئيسة بجامعة الحسن الثاني بالمحمدية).(45/6)
. واستمرت اللجنة في عملها إلى شهر أكتوبر 2003، أي مدة سنتين وأربعة أشهر، رفعت إثرها نتائج مباحثاتها لجلالة الملك محمد السادس. وكان مما عمل على السرعة في اتخاذ القرار: ما حصل بالدار البيضاء بتاريخ 16 ماي 2003 من أعمال تخريبية، نتج عن ذلك وضع خاص، حتى إن حدة الانتقادات توقفت لما رمي به الاتجاه الإسلامي من صلته بذلك ولو من بعيد!!!
وفي 10 أكتوبر 2003 أعلن جلالة الملك في خطابه للدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان عن مشروع المدونة الجديدة(1)، وعرضه على البرلمان للبت فيه لأول مرة في تاريخ المغرب الذي صادق عليه، وصدر بقانون رقم 03-70 بتاريخ 5 فبراير 2004(2).
المبحث الثاني: مرتكزات مدونة الأسرة:
__________
(1) - يراجع نص خطاب جلالة الملك في موقع:
http://www.isic.ac.ma/SM_dis.htm
(2) - وقد رحبت به جهات عبرت عن ذلك في الصحف، كما هو الشأن بالنسبة لحركة التوحيد والإصلاح (وهو تيار إسلامي) بجريدة التجديد 13 أكتوبر 2003، وحزب الاتحاد الاشتراكي في جريدة Libération 13 / 10 / 2003، والمكتب التنفيذي لجبهة القوى الديموقراطية في المنعطف، 13 / 10 / 2003، وحزب التقدم والاشتراكية في جريدة بيان اليوم 13 / 10 / 2003، وحزب الاستقلال في جريدة العلم 14 / 10 / 2003، وحزب اليسار الاشتراكي الموحد في اليسار الموحد، عدد 15-29 أكتوبر 2003، والحزب الاشتراكي الديمقراطي في السياسة الجديدة 17 / 10 / 2003، وحزب الاتحاد الدستوري في رسالة الأمة 16 / 10 / 2003، ولجنة التنسيق الوطنية لنساء الأحزاب السياسية في العلم 19 / 10 / 2003، والجمعية المغربية للدفاع عن حقوق النساء في جريدة الصباح 16 / 10 / 2003، والمجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان في الصحراء 4 / 11 / 2003...(45/7)
بناء على اجتماعات عدة للجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية، وتلقيها للمقترحات التي تقدمت بها الأطراف المختلفة، ودراسة حيثيات ذلك، تم إدخال جملة من التعديلات عليها بحيث تستجيب لهذه المطالب حسب الإمكان في الظروف الراهنة.
وغني عن الذكر القول إن مدونة الأحوال الشخصية كانت تستند للمذاهب الفقهية، سواء كانت مالكية أو غيرها، ولم تتقيد بمذهب إلا فيما يتعلق بما لم يرد نص في شأنه فيها، فيرجع إلى الراجح أو المرجوح أو ما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك، ذكر ذلك عند نهاية غالبية كتبها، لكن كيف هو الحال بالنسبة لمدونة الأسرة؟
انبنت مدونة الأسرة على الشريعة الإسلامية، وعدم التقيد بالاجتهادات السابقة، والأخذ بمقاصد الشريعة وما تشمله من تكريم الإنسان، والعدل، والمساواة، والمعاشرة بالمعروف حتى تكون مدونة عصرية للأسرة، وعدم اعتبار المدونة قانونا للمرأة، بل للأسرة، بحيث تحفظ الحق والكرامة لكل من الزوج والزوجة والأبناء. وذيلت بنص فريد في خاتمتها، المادة 400، جاء فيها: "كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة يرجع فيه إلى المذهب المالكي، والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف".
ومفهوم العدالة والمساواة والمعاشرة بالمعروف لا يمكن الرجوع فيه إلى ما تعارف عليه العلماء، لأن ما رأوه عدلا قد لا ينظر إليه كذلك في نظر غيرهم في هذا العصر، خصوصا من الجهات العلمانية والمجتمع الدولي، والمغرب وقع على جملة من الاتفاقيات الدولية مثله مثل غالبية الدول الإسلامية والعربية مع تحفظ على بعض بنودها. وهذه الاتفاقيات تلزم الأطراف الموقعة بمقتضى ذلك، وترفع التقارير عن مدى التزامها بذلك.(45/8)
من بين هذه الاتفاقيات التي صادق المغرب عليها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(1)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية(2) عام 1977، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية(3) عام 1977، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري(4)
__________
(1) - يشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ثلاثين مادة، صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشرتها للملأ بموجب قرار 217 ألف (د- 3)، المؤرخ في 10 كانون الأول / ديسمبر 1948. يراجع موقعها في:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/undhr.shtml
(2) - يشتمل هذا العهد على 53 مادة، صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشرتها للملأ بموجب قرار 2200 ألف (د- 21)، المؤرخ في 16 كانون الأول / 16 ديسمبر 1966، تاريخ بدء النفاذ: 23 آذار / مارس 1976، وفقا لأحكام المادة 49. يراجع موقعه في:
http://www1.umn.edu/humanrts/arab/b003.html
(3) - يشتمل هذا العهد على 31 مادة، صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشرتها للملأ بموجب قرار 2200 ألف (د-21)، المؤرخ في 16 كانون الأول / 16 ديسمبر 1966، تاريخ بدء النفاذ: 3 كانون الثاني / يناير 1976، وفقا للمادة 27. يراجع موقعه في:
http://www.arabhumanrights.org/cbased/ga/covenant-escr66a.html
(4) - تشتمل هذه الاتفاقية على 11 مادة، صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشرتها للملأ بموجب قرار 1904 (د- 18)، المؤرخ في 20 تشرين الثاني / نوفمبر 1963. يراجع موقعها في:
http://www.hrcap.org/ARabic/HRcon/discrimination.htm(45/9)
عام 1970، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة(1) عام 1993 التي تعد بمثابة الشرعية الدولية لحقوق المرأة، واتفاقية مناهضة التعذيب(2)
__________
(1) - تشتمل هذه الاتفاقية على ثلاثين مادة، جاء في أولها تعريف التمييز ضد المرأة، إذ نصت على أن المقصود بذلك "أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر ، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها ، بصرف النظر عن حالتها الزوجية، وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل". اعتمدتها الجمعية العامة وصادقت عليها بقرار 34 / 180، المؤرخ في 18 كانون الأول / ديسمبر 1979، تاريخ بدء النفاذ 3 أيلول / سبتمبر 1981، طبقا لأحكام المادة 27. يراجع موقعها في:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/cedaw.shtml
(2) - يقصد بالتعذيب حسب ما جاء في المادة الأولى من الاتفاقية: "1- لأغراض هذه الاتفاقية،يقصد (بالتعذيب) أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها.
2- لا تخل هذه المادة بأي صك دولي أو تشريع وطني يتضمن أو يمكن أن يتضمن أحكاما ذات تطبيق أشمل".(45/10)
وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة(1) عام 1993، واتفاقية حقوق الطفل(2) عام 1993، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن اشتراك الأطفال في المنازعات المسلحة(3) عام 2002، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال واستغلال الأطفال في البغاء وفي المواد الإباحية(4) عام 2001. وكذلك الوثائق الصادرة عن المؤتمرات الدولية الخاصة بالمرأة، وهي: المؤتمر العالمي الأول للمرأة بالمكسيك عام 1975، والمؤتمر العالمي الثاني للمرأة بكوبنهاغن عام 1980، والمؤتمر العالمي الثالث للمرأة بنيروبي عام 1985، والمؤتمر العالمي الرابع للمرأة ببكين عام 1995.
__________
(1) - تشتمل هذه الاتفاقية على 33 مادة، اعتمدتها الجمعية العامة بموجب قرار 39 / 46، المؤرخ في 10 كانون الأول / ديسمبر 1984، تاريخ بدء النفاذ: 26 حزيران / يونيو 1987 (1). يراجع موقعها في:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/cat.shtml
(2) - تشتمل هذه الاتفاقية على 54 مادة، اعتمدتها الجمعية العامة وصادقت عليها بقرار 44 / 25، المؤرخ في 20 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، تاريخ بدء التنفيذ 2 أيلول / سبتمبر 1990، وفقا للمادة 49. يراجع موقعها في:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/crc.shtml
(3) - يشتمل هذا البروتوكول على 14 مادة، اعتمدته الجمعية العامة بموجب قرار 263، الدورة الرابعة والخمسون، المؤرخ في 25 أيار / مايو 2000، دخل حيز التنفيذ في 18 يناير 2002. يراجع موقعه في:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/pcrc3.shtml
(4) - تشتمل هذه الاتفاقية على 14 مادة، اعتمدتها الجمعية العامة بموجب قرار 263، الدورة الرابعة والخمسون، المؤرخ في 25 أيار / ماي 2000، دخل حيز النفاذ في 18 يناير 2002. يراجع موقعها في:
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/pcrc3.shtml(45/11)
وتدعو كافة الاتفاقيات الدولية السابقة جميع الدول التي وقعت وصادقت عليها بشكل عام للعمل على تحقيق مجموعة من المطالب تتمثل في القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتعهد باتخاذ كل التدابير المناسبة لتجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها وتشريعاتها الوطنية، وتبني تدابير خاصة مؤقتة للتعجيل بالمساواة بين الرجل والمرأة. وأشارت وثائق المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر القاهرة للسكان على أنه لكل بلد الحق السيادي في أن ينفذ التوصيات الواردة في برنامج العمل مع ما يتمشى مع القوانين الوطنية وأولويات التنمية ومع الاحترام الكامل لمختلف القيم الدينية والأخلاقية.
وهذه الالتزامات تجعل الدولة تقوم بعملية المقاربة بين واقع دولي، ووضع خاص حسب الإمكان. وقد صرحت السيدة زهور الحر(1) أنه قد تم اعتماد نصوص الاتفاقيات الدولية مادامت لا تتعارض مع مبادئ الإسلام(2).
المبحث الثالث: التعديلات الواردة على مدونة الأحوال الشخصية:
في إطار إعادة بناء المدونة، لجأت اللجنة المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية، بعد المشاورات، إلى اعتماد تصور يلغي هيمنة الرجل على المرأة، ويحافظ على حقوق الطفل. ونظرا لهذه التعديلات الجوهرية التي حصلت في مدونة الأحوال الشخصية، تم تغيير اسمها إلى مدونة الأسرة حسب التسمية التي ذكرت بها في المادة الأولى.
__________
(1) - مستشارة بالمجلس الأعلى، ورئيسة المحكمة الابتدائية بعين الشق بالدار البيضاء، وعضو باللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية.
(2) - Interview de Madame Zhour EL HORR, Présidente du tribunal de première instance de Casablanca, conseillère à la Cour Suprême et membre de la commission royale de réforme de la Modawana (Code de la famille); par: Wafin.be
http://www.wafin.be/interview/archives/elhorr.phtml(45/12)
وقد مست التعديلات إحدى عشر مسألة كما سيتضح في العرض الآتي:
1- اعتماد صياغة حديثة تحافظ على كرامة المرأة، وجعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين.
2- إلغاء الولاية على الرشيدة.
3- المساواة بين الرجل والمرأة في سن الزواج.
4- تقييد التعدد واعتباره استثناء.
5- تبسيط مسطرة الزواج بالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج.
6- جعل الطلاق يمارس من قبل الزوج والزوجة، كل على حسب شروطه الشرعية، تحت مراقبة القضاء، وتمتين وسائل التوفيق، وضمان حق المرأة المطلقة قبل الإذن بالطلاق.
7- توسيع حق المرأة في طلب التطليق.
8- الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادق المغرب عليها.
9- حماية حق الطفل في النسب.
10- تخويل الحفيدة والحفيد من جهة الأم الإرث على غرار أبناء الابن.
11- جواز اتفاق الزوجين على تدبير الأموال المكتسبة أثناء فترة الزواج.
وفيما يأتي سنقوم بإبراز هذه التعديلات بشكل أوضح:
1- من أهم التعديلات الواردة في كتاب الزواج:
تعريف الزواج: جاء في الفصل الأول من مدونة الأحوال الشخصية تعريفه بأنه "ميثاق ترابط وتماسك شرعي بين رجل وامرأة على وجه البقاء، غايته الإحصان والعفاف، مع تكثير سواد الأمة، بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج على أسس مستقرة تكفل للمتعاقدين تحمل أعبائها في طمأنينة وسلام وود واحترام"، بينما في مدونة الأسرة في المادة 4: "الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة".(45/13)
وهذا لا يقوم على الاختلاف في الألفاظ، بل المقصود منه التنصيص على ضرورة التراضي في الزواج وعدم الإكراه عليه، وهذا الأمر يلغي ما جاء في الفصل الثاني عشر من إجبار المرأة على الزواج إذا خيف عليها الفساد. ولذلك نصت مدونة الأسرة في المادة 18 أنه "ليس للقاضي أن يتولى بنفسه تزويج من له الولاية عليه من نفسه ولا من أصوله ولا من فروعه".
كما تم إلغاء "مع تكثير سواد الأمة" بناء على التوجهات القائمة على تنظيم النسل، فلم يعد يعتبر ذلك هدفا في ذاته من الزواج(1).
__________
(1) - هذا مع قوله عليه السلام فيما رواه عنه معقل بن يسار: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم"، رواه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء 2/220 ح 2049، وصححه الحاكم في المستدرك، كتاب النكاح 2/176 ح 2685، ويروى أيضا عن غير معقل من طرق أخرى.
والغريب أنه جاء في المادة 393 من قانون الأحوال الشخصية لليهود: "النكاح بنية التناسل ودوام حفظ النوع الإنساني فرض على كل يهودي، ومن تأخر عن هذا الفرض وعاش عزبا بدون زواج كان سببا في غضب الله على بني إسرائيل". نقلا عن عادل أحمد عبدالموجود: تعدد الزوجات في التاريخ والشرائع السماوية، ص: 42، إلا أن المشرع المغربي مال إلى خلاف كل ذلك.(45/14)
كما ألغت وصاية الزوج على الأسرة للقضاء على كل أشكال التمييز، واعتبار المشاركة في المسؤولية، بينما كان المشرع في مدونة الأحوال الشخصية يراعي مسألة القوامة التي بها يتكلف بها الزوج مسؤولية الأسرة كما جاء في محكم التنزيل: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضكم على بعض وبما أنفقوا)(1)، فربط أمر القوامة بأمرين اثنين: 1- التفضيل الإلهي. 2- الإنفاق. لكن هذا الأمر يصطدم على ما يبدو مع اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، خلافا لما ذهبت إليه الجهات التي كانت تطالب بإلغاء القوامة على أساس أن المرأة في العصر الحاضر تعمل بدورها وتنفق، فلا مجال للمفاضلة بناء على ذلك! إلا أن الآية لم تربط المسألة بالإنفاق فقط كما مر، ثم إن المرأة غير ملزمة إطلاقا بذلك في الشريعة الإسلامية! ثم إن الزوج يقوم بمهمة التسيير للأسرة من هذا المنطلق، أما تعدد المسيرون فإن الخلاف لابد قائم، شأنه في ذلك شأن ربان الباخرة، أو حاكم البلد، لا يتصور أن يكون أكثر من واحد، مع المشاورة طبعا.
__________
(1) - من سورة النساء، الآية: 34.(45/15)
تعريف الخطبة: بناء على هذه المساواة المذكورة آنفا، تم تعديل الفصل الثاني من المدونة الذي ينص على أن "الخطبة وعد بالزواج وليس بزواج ..." بجعل الأمر متبادلا بين الطرفين، إذ جاء في مدونة الأسرة: " الخطبة تواعد رجل وامرأة على الزواج ..."، وهي تشير بذلك إلى أن المرأة بدورها يمكن أن تقوم بالخطبة، فيصبح الأمر مشتركا، كلاهما خاطب ومخطوب، وإن كان العرف المغربي لا يعمل بذلك، لكن مقتضى المساواة تفرض ذلك! وفي نفس الوقت ألغى المشرع عبارة: "وليس بزواج" حفاظا على حقوق الطفل الذي قد ينشأ من علاقة أثناء الخطبة، وحصل الإيجاب والقبول، حسب المادة 156، فينسب للخاطب للشبهة في الحالات الآتية: أ- إذا اشتهرت الخطبة بين الأسرتين، ووافق ولي الزوجة عند الاقتضاء. ب- إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة. ج- إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما. وإذا أنكر الخاطب أن يكون الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب.(45/16)
عدم اشتراط الولي بالنسبة للرشيدة: إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية قبل التعديل تنص على ضرورة الولي لكل من الرشيدة وغيرها في الفصل الثاني عشر، وبعد تعديل 1993 نصت على أن "1- الولاية حق للمرأة، فلا يعقد عليها الولي إلا بتفويض من المرأة على ذلك"، وأنه "4- للرشيدة التي لا أب لها أن تعقد على نفسها أو توكل من تشاء من الأولياء"، وبذلك تكون تساهلت مع الرشيدة المهملة دون غيرها، فإن مدونة الأسرة في المادة 13 ألغت دوره بالنسبة للرشيدة، ولا يلزم إلا في حال القاصر، وفي المادة 24 جعلت الأمر حقا لها تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها، وفي المادة 25 نصت صراحة على أن "للرشيدة أن تعقد زواجها بنفسها، أو تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها"، فأطلقت الأمر بالنسبة للرشيدة، ولم تقيده بكونها مهملة، وإنما اشترطت في المرأة أن تكون رشيدة فقط، وذلك بناء على المطالب النسائية، وفي نفس الوقت العمل على إلغاء الوصاية على المرأة، لأنها تعتبر تنقيصا لها حسب الاتفاقيات الدولية. وهناك من أراد أن يجعل ذلك مرتبطا بالمذهب الحنفي(1)
__________
(1) - راجع موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب: الأساس الفقهي لإصلاح مدونة الأسرة، فقد جاء فيه: "وأخذا بالمذهب الحنفي في ذلك أيضا، حيث أعطى الحق للمرأة العاقلة البالغة في مباشرة العقد لنفسها، بكرا كانت أو ثيبا. قال ابن رشد: (وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي، وكان كفؤا جاز).
http://www.habous.gov.ma/ar/detail.aspx?id=1464&z=9&s=9
فمما نقلوه يتبين أن الإجازة مرتبطة بالكفاءة، وإلا فللولي فسخ العقد!! فكيف نسبوا ما جاء في مدونة الأسرة مما يسقط أي دور للولي في الزواج بالنسبة للراشدة إلى المذهب الحنفي؟!(45/17)
، وهو أمر مستبعد، لأن الحنفية إذ لا يشترطون الولي ابتداء، إلا أنهم يشترطون موافقته انتهاء، فإن لم يكن الزوج ذا كفاءة، جاز له فسخ العقد، وفي ذلك قال السرخسي من الحنفية: "وإذا زوجت نفسها من غير كفء فقد ألحقت الضرر بالأولياء فيثبت لهم حق الاعتراض لدفع الضرر ... ولأن طلب الكفاءة لحق الأولياء، فلا تقدر على إسقاط حقهم ... وعلى رواية الحسن - رحمه الله تعالى – قال: إذا زوجت نفسها من غير كفء لم يجز النكاح أصلا ... وهو أقرب إلى الاحتياط، فليس كل ولي يحتسب في المرافعة إلى القاضي، ولا كل قاض يعدل، فكان الأحوط سد باب التزويج من غير كفء عليها. وبهذا الطريق قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى -: الأحوط أن يجعل عقدها موقوفا على إجازة الولي ليندفع الضرر عن الولي. إلا أن الولي إذا قصد بالفسخ دفع الضرر عن نفسه بأن لم يكن كفؤا لها صح فسخه، وإن قصد الإضرار بها بأن كان الزوج كفؤا لها لم يصح فسخه، ولكن القاضي يقوم مقامه في الإجازة كما يقوم مقامه في العقد إذا عضلها. ومحمد - رحمه الله تعالى – يقول: لما توقف العقد على إجازة الولي لتمام الاحتياط، فكما ينعقد بإجازته ينفسخ بفسخه، وبعد ما يفسخ فليس للقاضي أن يجيزه، ولكن يستقبل العقد إذا تحقق العضل"(1). وعند الكاساني: "الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من رَجُلٍ أو وَكَّلَتْ رَجُلًا بِالتَّزْوِيجِ فَتَزَوَّجَهَا أو زَوَّجَهَا فُضُولِيٌّ فَأَجَازَتْ جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ أو غَيْرِ كُفْءٍ، بِمَهْرٍ وَافِرٍ أو قَاصِرٍ. غير أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ، وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِمَهْرٍ قَاصِرٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لَهُمَا ... وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا يَجُوزُ حتى
__________
(1) - السرخسي: المبسوط 5/13.(45/18)
يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ وَالْحَاكِمُ، فَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا قبل الْإِجَازَةِ، وَلَوْ وَطِئَهَا يَكُونُ وطأ حَرَامًا، وَلَا يَقَعُ عليها طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لم يَرِثْهُ الْآخَرُ، سَوَاءً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ أو غَيْرِ كُفْءٍ، وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرُ، رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عنه. وروي عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا من كُفْءٍ يَنْفُذُ وَتَثْبُتُ سَائِرُ الْأَحْكَام.ِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كان لِلْمَرْأَةِ وَلِيٌّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لم يَكُنْ لها وَلِيٌّ جَازَ إنكاحها على نَفْسِهَا. وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِدُونِ الْوَلِيِّ، إلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا، فقال مُحَمَّدٌ: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَتِهَا، وَيَنْفُذُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَإِجَازَتِهِ، وَيَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ الْوَلِيِّ وَيَنْفُذُ بإذنه وَإِجَازَتِهَا. فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا عِبَارَةَ لِلنِّسَاءِ في بَابِ النِّكَاحِ أَصْلًا حتى لو تَوَكَّلَتْ امْرَأَةٌ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ من وَلِيِّهَا فَتَزَوَّجَتْ لم يَجُزْ عِنْدَهُ، وَكَذَا إذَا زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي لم يَجُزْ"(1)
__________
(1) - الكاساني: بدائع الصنائع 2/247. هذا مع ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها بما أصابها، وإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"، أخرجه أحمد في مسنده 6/66 ح 24417، و 6/165 ح 25365، والترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، وقال فيه: "هذا حديث حسن" 3/407-408، وابن حبان في الصحيح، كتاب النكاح، باب ذكر بطلان النكاح الذي نكح بغير ولي 9/384 ح 4074، والحاكم في المستدرك، كتاب النكاح 2/182 ح 2706، و ح 2707، و ح 2708، و 2/ 183 ح 2709، وصححه.(45/19)
. وبهذا، يظهر أن من نسب صنيع المدونة إلى الأخذ بالمذهب الحنفي تسرع في الحكم!
رضا الطرفين في الزواج، بحيث لا يجوز إجبار أحدهما على ذلك خلافا لما في مدونة الأحوال الشخصية في البند الرابع من الفصل الثاني عشر، إذ جاء فيه: "4- لا يسوغ للولي ولو أبا أن يجبر ابنته البالغ ولو بكرا على النكاح إلا بإذنها ورضاها إلا إذا خيف على المرأة الفساد، فللقاضي الحق في إجبارها حتى تكون في عصمة زوج كفء يقوم عليها"، أما مدونة الأسرة، فقد ذهبت في البند الرابع من المادة 13 إلى ضرورة "4- سماع العدلين التصريح بالإيجاب والقبول من الزوجين وتوثيقه"، وذلك من غير ما استثناء تمشيا مع الاتفاقيات الدولية، فقد جاء في البند الثاني من المادة 16 من الإعلان العامي لحقوق الإنسان: "2. لا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملا لا إكراه فيه". وفي العهد الدولي لحقوق الإنسان، جاء في البند الثالث من المادة 23: "3- لا ينعقد أي زواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملا لا إكراه فيه"، فلم تتم مراعاة المصلحة الشرعية في هذا الجانب بقدر مراعاتها للحرية الفردية. وفي البندين الأولين من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة من الفصل 16: "1- تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية، وبوجه خاص تضمن، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة: أ- نفس الحق في عقد الزواج. ب- نفس الحق في حرية اختيار الزوج، وفي عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل".(45/20)
توحيد سن الزواج: إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية في الفصل 8 حددت أهلية الزواج بالنسبة للبنت في 15 سنة، وللولد في 18 سنة، فإن مدونة الأسرة قامت بالتسوية بينهما، فجعلت ذلك لهما إذا بلغا 18 سنة حسب المادة 19. وهذا من باب إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة، فقد جاء في البندين الأولين من المادة 15 من هذه الاتفاقية: "1- تعترف الدول الأطراف للمرأة بالمساواة مع الرجل أمام القانون. 2- تمنح الدول الأطراف المرأة، في الشؤون المدنية، أهلية قانونية مماثلة لأهلية الرجل، وتساوي بينها وبينه في فرص ممارسة تلك الأهلية، وتكفل للمرأة، بوجه خاص، حقوقا مساوية لحقوق الرجل في إبرام العقود وإدارة الممتلكات، وتعاملهما على قدم المساواة في جميع مراحل الإجراءات القضائية".
وسبب اعتبار سن 18 أدنى سن يتزوج فيها الإنسان، هو أن ما عدا ذلك يدخل في مرحلة الطفولة، وقد نصت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في البند الثاني من المادة 16 إلى أنه "2- لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أى أثر قانونى، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية بما في ذلك التشريعى منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمى امراً إلزامياً".(45/21)
اشتراط تقديم شهادة طبية للخطيبين للتأكد من خلوهما من الأمراض المعدية، وهو أمر تم اشتراطه في ملف عقد الزوجية في تعديل مدونة الأحوال الشخصية بظهير شريف في 10/9/1993، في الفصل 41 منها، وفي مدونة الأسرة مفصل بشكل أوسع في الفصل 65، بحيث يسند تحديد مضمون الشهادة إلى كل من وزيري العدل والصحة، ويحفظ الملف بكتابة الضبط لدى قسم قضاء الأسرة لمحل إبرام العقد يشتمل على: 1- مطبوع خاص بطلب الإذن بتوثيق الزواج يحدد شكله ومضمونه بقرار من وزير العدل. 2- نسخة من رسم الولادة يشير ضابط الحالة المدنية في هامش العقد بسجل الحالة المدنية إلى تاريخ منح هذه النسخة ومن أجل الزواج. 3- شهادة إدارية لكل من الخطيبين تحدد بياناتها بقرار مشترك لوزيري العدل والداخلية. 4- شهادة طبية لكل واحد من الخطيبين يحدد مضمونها وطريقة إصدارها بقرار مشترك لوزيري العدل والصحة. 5- الإذن بالزواج في حالة من كان دون سن الأهلية، أو التعدد، أو زواج المصاب بإعاقة ذهنية، أو زواج معتنقي الإسلام والأجانب. 6- شهادة الكفاءة أو ما يقوم مقامها بالنسبة للأجانب. ويؤشر قاضي الأسرة المكلف بالزواج قبل الإذن على ملف المستندات المذكورة، ويحفظ برقمه الترتيبي في كتابة الضبط. ثم يأذن للعدلين بتوثيق عقد الزواج. ويضمّن العدلان في العقد تصريح كل من الخطيبين هل سبق أن تزوج أم لا؟ وفي حالة وجود زواج سابق، يرفق التصريح بما يثبت الوضعية القانونية إزاء العقد المزمع إبرامه(45/22)
التيسير في الصداق: إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية في الفصل 17 نصت على أنه "2- لا حدّ لأقل المهر ولا لأكثره"، فإن مدونة الأسرة نصت في المادة 26 على أن "أساس الصداق قيمته المعنوية والرمزية، وليس قيمته المعنوية"، وفي المادة 28 على أن "المطلوب شرعا تخفيف الصداق"، وهذا يحسب لصالح المدونة لما فيه من تخفيف عبء الزواج، علما أن السائد في المجتمع المغربي عدم المغالاة في المهور خلافا لما هو منتشر في جملة من الدول الإسلامية.
تحديد فترة انتقالية لسماع دعوى الزوجية لمن لم يتمكن من توثيق عقد الزواج لا تتعدى خمس سنوات ابتداء من دخول هذا القانون حيز التنفيذ، وتأخذ المحكمة بعين الاعتبار في هذه الدعوى وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية وما إذا رفعت في حياة الزوجين، مع اتباع سائر وسائل الإثبات والخبرة كما جاء في المادة 16.
تقييد التعدد: إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية ربطت جواز التعدد بالعدل بين الزوجات، وأنه للزوجة أن تشترط على زوجها ألا يتزوج عليها وإلا فأمرها بيدها في الفصل 30، وتم تعديله بموجب ظهير 10/9/1993 بإضافة بندين، جاء فيه: "- يجب إشعار الزوجة برغبة الزوج في التزوج عليها، والثانية بأنه متزوج بغيرها. – للزوجة أن تشترط على زوجها ألا يتزوج عليها، وإذا تزوج فأمرها بيدها. – للمتزوج عليها إذا لم تكن اشترطت الخيار أن ترفع أمرها للقاضي لينظر في الضرر الحاصل لها. – في جميع الحالات، إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، لا يأذن القاضي بالتعدد"، فإن مدونة الأسرة في المادة 41 جعلته استثناء مقيدا بقيود يتعذر توافرها في غالب الأحوال، إذ نصت على أنه "لا تأذن المحكمة بالتعدد: 1- إذا لم يثبت لها المبرر الموضوعي الاستثنائي. 2- إذا لم تكن لطالبه الموارد الكافية لإعالة الأسرتين وضمان جميع الحقوق من نفقة وإسكان ومساواة في جميع أوجه الحياة".(45/23)
وجدير بالذكر أنه من المطالب النسائية إلغاء التعدد أصلا، وهو ما تدعو له الاتفاقيات الدولية، علما أن التعدد لا يمثل ظاهرة في المغرب وفي غيره من الدول، والمشكل القائم حاليا هو العزوف عن الزواج وليس التعدد. والسبب في هذا التشدد في التقييد إلى حد جعله قريبا من المستحيل، ما احتجوا به من عدم إمكانية العدل بين النساء لقوله عز وجل: ( وإنّ خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)(1)، ففهموا من ذلك أن الأصل عدم التعدد لاستحالة العدل بين النساء، لكن هذا من باب الوقوف على جزء من الكلام وإسقاط باقيه، وفهم معاني القرآن له ضوابطه، ويفسر بعضه بعضا، ولنا في قوله عز وجل خير دليل على مغالطة من غالط: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتُم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلّقة وان تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً)(2). ففي هذه الآية تنصيص على أن العدل المطلق أمر مستحيل، لكن هذا لا يمنع التعدد، ولو كان الله يريد ذلك لما فتح المجال لذلك، ولكنه نص على عدم الميل الكلي إلى واحدة وإهمال الثانية فتبقى معلقة، والواجب إعطاء جميع النسوة حقهن، أما الميل القلبي فإنه يصعب التحكم فيه حتى بين الأبناء!! لأجل هذا، نرى أن هذه التقييدات التي فرضت على التعدد لا معنى لها من ثلاث جهات: أولاها أن التعدد لا يعتبر ظاهرة في المغرب، فهو لا يتجاوز 5% من عدد السكان، وأغلب من يلجأ إلى ذلك يكون لظروف، وهب أنه لا يعاني من ظروف خاصة، فإنه لم يأت بأمر محرم! وللزوجة أن تشترط عليه ابتداء عدم الزواج عليها، ولا مانع من ذلك. وثانيتهما: الواقع الاجتماعي يشير إلى العزوف عن الزواج، لا إلى التعدد، وقد كان من الأولى التشجيع عليه خصوصا في ظل وجود العنوسة، ومن حق
__________
(1) - من سورة النساء، الآية: 3.
(2) - من سورة النساء، الآية: 129.(45/24)
البنات الزواج، والتمسك بواحدة إلغاء لعدد من النساء من الزواج. وثالثتهما أن القرآن الكريم لم يمنع التعدد، وإنما حث على العدل، ولما تبين أن العدل في الميل القلبي لا يتحقق، كما جاء في القرآن الكريم، علمنا أن المقصود من العدل إنما هو العدل المرتبط بالجانب المادي، والقسم بين النسوة بالسوية. والنسوة حاليا بعد ظهور مدونة الأسرة يقمن بالاحتجاج لترخيص المحكمة بالتعدد لما يقرب من 1300 شخص تقدم بذلك، ورفضت ذلك لما يقرب من 1600 طلب، ويعتبرن هذه الموافقة كثيرة من حيث العدد، بمعنى أنهن لا يهمهن ظروف من تقدم بالطلب، وإنما يهمهن تقليص حجم التعدد إلى أن يبلغ درجة الصفر!!!
إمكانية إبرام اتفاق بين الزوجين حول تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية: وهو أمر مستحدث في مدونة الأسرة، لأن المرأة قد تطلق بعد انقضاء شبابها فلا تجد ما تنفق به على نفسها، وقد يكون الزوج تعسف في استعمال هذا الحق، بينما تكون شاركت في تكوين الثروة التي جمعها مطلقها. وقد جرت العادة في المغرب أن لا يشترط مؤخر الصداق، ويكتفى بمهر يسير. وأمام ما حصل من نوازل، ارتأى المشرع أن تضمن المرأة جانبا من حقوقها بالاتفاق منذ البداية على هذا الأمر وإن كان لحد الساعة نادر الوقوع في المنطقة الشمالية بالمغرب الآن حسب تتبعي لهذا الأمر مع العدول، إن لم أقل لا يعمل به لحد الساعة. أما إذا لم يبرما هذا الاتفاق، فإن الأمر يعود إلى تقدير القاضي عند الحاجة لتقدير ما تحملته الزوجة من أعمال لتنمية أموال الأسرة حسب ما صرحت به المادة 49.(45/25)
تفصيل مدونة الأسرة في حقوق الزوجين وواجباتهما على أساس أنهما يمثلان وحدة، وعدم جعل حقوق المرأة على الرجل في فصل(1)، وحقوق الرجل على المرأة في فصل، بل جعلت كل ذلك في فصل واحد، واعتبار إخلال الزوج بذلك سببا لقيام الزوجة باللجوء إلى مسطرة الشقاق للحصول على الطلاق عند تعذر الصلح، ففي المادة 51 جاء: "الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين: 1- المساكنة الشرعية بما تستوجبه من معاشرة زوجية وعدل وتسوية عند التعدد وإحصان كل منهما وإخلاصه للآخر بلزوم العفة وصيانة العرض والنسل. 2- المعاشرة بالمعروف، وتبادل الاحترام والمودة والرحمة والحفاظ على مصلحة الأسرة. 3- تحمل الزوجة مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال. 4- التشاور في اتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير شؤون الأسرة والأطفال وتنظيم النسل. 5- حسن معاملة كل منهما لأبوي الآخر ومحارمه واحترامهم وزيارتهم واستزارتهم بالمعروف. 6- حق التوارث". والمادة 52 تفيد إمكانية مطالبة المصرّ على الإخلال بذلك بتنفيذ ما هو ملزم به، أو اللجوء إلى مسطرة الشقاق حسب المواد من 94 إلى 97، ففي المادة 94 على أنه على المحكمة أن تقوم بكل المحاولات للإصلاح، وبينت المادة 82 أن ذلك يكون بإجراء مناقشات في الموضوع عند حضور
__________
(1) - نصت مدونة الأحوال الشخصية في الفصل 35 على أن: " حقوق المرأة على الزوج: 1- النفقة الشرعية من طعام وكسوة وتمريض وإسكان. 2- العدل والتسوية إذا كان الرجل متزوجا بأكثر من واحدة. 3- السماح للزوجة بزيارة أهلها واستزارتهم بالمعروف. 4- للمرأة حريتها الكاملة في التصرف في مالها دون رقابة الزوج، إذ لا ولاية للزوج على مال زوجته". و في الفصل 36 نصت على أن: " حقوق الرجل على المرأة: 1- صيانة الزوجة نفسها وإحصانها. 2- طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف. 3- إرضاع أولادها عند الاستطاعة. 4- الإشراف على البيت وتنظيم شؤونه. 5- إكرام والدي الزوج وأقاربه بالمعروف".(45/26)
الطرفين بغرفة المشورة، بما في ذلك الاستماع إلى الشهود ولمن ترى المحكمة فائدة في الاستماع إليهم. و في المادة 95 أنه إذا توصل الحكمان أو من يقوم مقامهما إلى الإصلاح بين الزوجين، حررا محضرا في هذا الأمر في ثلاث نسخ يوقع عليها الحكمان والزوجان، ويتم الإشهاد على ذلك، وتسلم لكل من الزوجين نسخة منه، ويحتفظ بالثالثة بالملف. أما إذا اختلف الحكمان في مضمون التقرير أو تحديد المسؤولية، أو لم يقدماه في الأجل المحدد، فإنه يمكن للمحكمة أن تجري بحثا إضافيا بالوسيلة التي تراها مناسبة كما نصت عليه المادة 96. أما في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق، فإن المحكمة تثبت ذلك في محضر وتحكم بالتطليق وبالمستحقات(1)
__________
(1) - نصت المادة 83 على أنه "إذا تعذر الإصلاح بين الزوجين، حددت المحكمة مبلغا يودعه الزوج بكتابة الضبط بالمحكمة داخل أجل أقصاه ثلاثون يوما لأداء مستحقات الزوجة والأطفال الملزم بالإنفاق عليهم المنصوص عليها في المادتين المواليتين". ويدخل في مستحقات الزوجية، كما حددته المدونة: الصداق المؤخر إن وجد – وهو أمر غير معمول به في المغرب، لذا نصت المدونة عليه بأداة شرط، لاحتمال وقوعه – ونفقة العدة والمتعة التي يراعى في تقديرها فترة الزواج، والوضعية المالية للزوج، وأسباب الطلاق، ومدى تعسف الزوج في توقيعه. وتسكن الزوجة ببيت الزوجية خلال العدة، أو في مسكن مناسب عند الضرورة، وإلا قدرت المحكمة تكاليف السكن في مبلغ يودع ضمن المستحقات بكتابة الضبط.
وأما مستحقات الأطفال، فإنها تحدد بناء على الوضعية المعيشية والتعليمية التي كانوا عليها قبل الطلاق، كما نبهت على ذلك في المادة 85. وتعتبر تكاليف سكنى المحضون مستقلة عن النفقة وأجرة الحضانة وغيرها. ولا يفرغ من بيت الزوجية إلا بعد تنفيذ الأب الحكم بسكنى المحضون. والمحكمة مطالبة بضمان استمرار التنفيذ من قبل المحكوم عليه، كما في المادة 168. وهذا الضمان يكون إما بالاقتطاع من منبع الريع الذي يحصل عليه الأب، أو الأجر الذي يتقاضاه. ويبقى الحكم ساري المفعول إلى أن يصدر حكم آخر يحل محله، أو يسقط حكم المحكوم له في النفقة، حسب ما نبهت إليه المادة 191.(45/27)
، مراعية مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر حسب المادة 97.
ولعل من أخطر مواد المدونة، ما جاء في المادة 53 أنه "إذا قام أحد الزوجين بإخراج الآخر من بيت الزوجية دون مبرر، تدخلت النيابة العامة من أجل إرجاع المطرود إلى بيت الزوجية حالا، مع اتخاذ الإجراءات الكفيلة بأمنه وحمايته"، فهو يدل على أنه يمكن للزوج أو الزوجة أن يطرد الطرف الثاني من بيت الزوجية إذا كان هناك "مبرر"، ففتحت المدونة الباب على مصراعيه لطرد الأزواج بعضهم بعضا بناء على "مبرر"، وهو يفتح مجالا كبيرا لتأويل مدى صحة المبررات، بناء عليها يجد الزوج نفسه مطرودا من بيته، أو الزوجة، وكان الأولى عدم فتح هذا الباب بذكر المبررات مادامت علاقة الزوجية قائمة، وهذا سيؤدي إلى خلق مشاكل لا حد لها ولا حصر!! ولم تحدد المدونة هذه الوسائل الكفيلة بأمن الطرف الثاني حين عودته، وهو أمر سيثير مشاكل كثيرة، ففي حال الخلاف يمكن لأي طرف أن يدعي ما شاء، ويتهم الطرف الثاني بما يريد عند ضعف الوازع الديني!! ويدخل في هذا الباب العنف ضد النساء، وهو المقصود بذلك، فيمكن للزوجة أن تضرب نفسها وتنسب ذلك للزوج فيجد نفسه مرميا به في السجن. وهناك جانب سلبي في مدونة الأسرة، ألا وهو تنصيصها على التدابير المتخذة لعدم تكرار هذا الفعل، إذ قد يحصل مرات، وتكون النيابة العامة لا عمل لها إلا إرجاع المطرود إلى بيت الزوجية!!
ويلاحظ في التعديل أن المشرع ألغى الطاعة المفترضة في العلاقة التي تجمع بين الرجل والمرأة، وأثبت عوضا عنها المشاورة، وبمعنى آخر، لم تعد للزوج سلطة على زوجته، ولها أن تخالفه، وهذا مما من شأنه أن يفتح باب النزاع بين الطرفين يكون فتيلا لما هو أعظم مع مرور الوقت.(45/28)
تفصيل مدونة الأسرة في حقوق الأطفال، ورعاية حقوقهم، وتخصيص فصول عدة لهم، وهو أمر كان مهملا في مدونة الأحوال الشخصية، جعلتها في المادة 54 من مدونة الأسرة في ست نقاط: 1- حماية حياتهم وصحتهم منذ الحمل إلى حين بلوغ سن الرشد. 2- العمل على تثبيت هويتهم والحفاظ عليها خاصة بالنسبة للاسم والجنسية والتسجيل في الحالة المدنية. 3- النسب والحضانة والنفقة طبقا لأحكام الكتاب الثالث من المدونة (أي: الولادة ونتائجها). 4- إرضاع الأم لأولادها عند الاستطاعة. 5- اتخاذ كل التدابير الممكنة للنمو الطبيعي بالحفاظ على سلامتهم الجسدية والنفسية والعناية بصحتهم وقاية وعلاجا. 6- التوجيه الديني والتربية على السلوك القويم وقيم النبل المؤدية إلى الصدق في القول والعمل، واجتناب العنف المفضي إلى الإضرار الجسدي والمعنوي، والحرص على الوقاية من كل استغلال يضر بمصالح الطفل. 7- التعليم والتكوين الذي يؤهلهم للحياة العملية وللعضوية النافعة في المجتمع، وعلى الآباء أن يهيئوا لأولادهم، قدر المستطاع، الظروف الملائمة لمتابعة دراستهم حسب استعدادهم الفكري والبدني. ويتمتع الطفل المعاق بالحق في الرعاية الخاصة بحالته قصد تسهيل إدماجه في المجتمع. وتعتبر الدولة مسؤولة عن اتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأطفال وضمان حقوقهم طبقا للقانون. وتسهر النيابة العامة على مراقبة تنفيذ الأحكام السالفة الذكر.
ويفهم من هذه المادة، أن الأمر ليس مجرد التزام أخلاقي، بل أصبح واجبا تحاسب النيابة العامة على ذلك حال التفريط في أي مما ذكر، والأحكام المتعلقة بالنفقة يتم فيها البت بقوة القانون كما نبهت إليها المادة 190 من مدونة الأسرة، ولها شكل استعجالي، وتنفذ الأوامر فيها رغم كل طعن كما جاء في الفصل 179 من مسطرة القانون المدني.(45/29)
ولعل أهم ما ينصب عليه عملها في واقع الأمر: ما يتعلق بالعنف ضد الأطفال مما جاءت الاتفاقيات بشأنه، علما أن الإسلام ينهى عن ممارسة ذلك في حق أي شخص، ولدا كان أو زوجا. وكذا إهمال الأسرة بعدم الإنفاق مما من شأنه أن يتأذى الأطفال بذلك. والناظر في مدونة الأحوال الشخصية يجد في الفصل 129 أنه "إذا عجز الأب عن الإنفاق على ولده وكانت الأم غنية وجبت عليها النفقة"، أما في مدونة الأسرة في المادة 199، فإنها قيدت التزام الزوجة بالإنفاق بمقدار ما عجز عنه الأب. لكنها رتبت على ذلك في المادة 202 أن "كل توقف ممن تجب عليه نفقة الأولاد عن الأداء لمدة أقصاها شهر دون عذر مقبول، تطبق عليه أحكام إهمال الأسرة"، وقد نص القانون الجنائي في الفصل 479 على عقوبة المهمل، إذ جاء فيه: "يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة، وبالغرامة من مائتين إلى ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط: 1- الأب أو الأم إذا ما ترك أحدهما بيت الأسرة دون موجب قاهر لمدة تزيد على شهرين وتملص من كل أو بعض واجباته المعنوية والمادية الناشئة عن الولاية الأبوية أو الوصاية أو الحضانة. ولا ينقطع أجل الشهرين إلا بالرجوع إلى بيت الأسرة رجوعا ينم عن إرادة استئناف الحياة العائلية بصورة نهائية. 2- الزوج الذي يترك عمدا لأكثر من شهرين ودون موجب قاهر زوجته وهو يعلم أنها حامل"، وبذلك تصبح المرأة ملزمة بالإنفاق تحت طائلة العقوبة السجنية أو الغرامة أو هما معا! ويكون الأمر أشد فيمن وجبت عليه النفقة بموجب حكم قضائي إلا أنه أمسك عمدا عن دفعها في الوقت المحدد، فقد جاء في الفصل 480 من القانون الجنائي: " يعاقب بنفس العقوبة من صدر عليه حكم نهائي أو قابل للتنفيذ المؤقت بدفعه نفقة إلى زوجه أو أحد أصوله أو فروعه وأمسك عمدا عن دفعها في موعدها المحدد. وفي حالة العود يكون الحكم بعقوبة الحبس حتميا. والنفقة التي يحددها القاضي تكون واجبة الأداء في محل المستحق لها ما لم ينص(45/30)
الحكم على خلاف ذلك".
من فوائد المدونة تنصيصها على حكم عقد الزواج الذي يحصل فيه تدليس أو إكراه، فإن كان التدليس هو الدافع إلى الزواج، كان من حق المدلس عليه أن يطلب فسخ العقد قبل البناء وبعده خلال أجل لا يتعدى شهرين من يوم زوال الإكراه، ومن تاريخ العلم بالتدليس، مع حقه في طلب التعويض حسب المادة 63.
وخولت المدونة لمن حصل له تدليس أن يرفع أمره إلى القضاء بسبب الضرر الذي أصابه، وذلك في حال التدليس للحصول على إذن الزواج دون سن الأهلية، والتعدد في حالة توافر شروطه المنصوص عليها في المدونة، وزواج الشخص المصاب بإعاقة ذهنية، وزواج معتنقي الإسلام والأجانب، وكذا التدليس في شهادة الكفاءة أو ما يقوم مقامها بالنسبة للأجانب، وتطبق على من فعل ذلك أو شارك فيه أحكام الفصل 366 من القانون الجنائي(1)، حسب ما جاء في المادة 66.
__________
(1) - ينص الفصل 366 من القانون الجنائي المغربي على أنه: "يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، وغرامة من مائة وعشرين إلى ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، ما لم يكن الفعل جريمة أشد من: 1- صنع عن علم إقرارا أو شهادة تتضمن وقائع غير صحيحة. 2- زور أو عدّل بأية وسيلة كانت، إقرارا أو شهادة صحية الأصل. 3- استعمل عن علم إقرارا أو شهادة غير صحيحة أو مزورة".(45/31)
توثيق نص عقد الزواج في السجل المعد لذلك لدى قسم قضاء الأسرة حسب ما جاء في المادة 68 وإضافات لم تكن واردة في مدونة الأحوال الشخصية(1)، وتوجيه ملخصه إلى ضابط الحالة المدنية لمحل ولادة الزوجين بما اشتمل عليه من معلومات خاصة بالزوجين، وشروطهما، فإن لم يكن للزوجين أو لأحدهما محل ولادة بالمغرب، يوجه الملخص إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط بهدف تضمينها بهامش رسم ولادة الزوجين. وهذا يفهم منه أن المشرع فكر في إمكانية قيام أحد الزوجين بالزوجين، فتكون المعلومات معروفة لدى الطرف الثاني لأن ملف عقد الزواج يتضمن نسخة من رسم الولادة، يشير ضابط الحالة المدنية بهامشه إلى تاريخ منح هذه النسخة من أجل الزواج حسب المادة 65. و في المادة 67: "يتضمن عقد الزواج ما يلي:1- الإشارة إلى إذن القاضي ورقمه وتاريخ صدوره ورقم ملف مستندات الزواج والمحكمة المودع بها. 2- اسم الزوجين ونسبهما، وموطن أو محل إقامة كل واحد منهما، ومكان ميلاده وسنه، ورقم بطاقته الوطنية أو ما يقوم مقامها، وجنسيته. 3- اسم الولي عند الاقتضاء. 4- صدور الإيجاب والقبول من المتعاقدين وهما متمتعان بالأهلية والتمييز والاختيار. 5- في حالة التوكيل على العقد، اسم
__________
(1) - ما في مدونة الأحوال الشخصية في الفصل 42: "يتضمن رسم الزواج ما يلي: 1- اسم الزوجين ونسبهما وموطن كل واحد منهما وتعريفهما وأتميتهما مثلا، واسم الولي. 2- وقوع العقد وتاريخه ومكانه ومعرفة قدره من طرف الزوجين والولي. 3- بيان شامل عن حالة الزوجة من حيث كونها بكرا أم ثيبا، يتيمة أم ذات أب، واليتيمة مهملة أم عليها وصي أو مقدم من قاض، والثيب مطلقة أو متوفى عنها وانقضت عدتها. 4- الإشارة إلى شهادة ممثل السلطة الإدارية مع النص على الرقم الذي تحمله. 5- مقدار المهر مع التنصيص فيه على المعجل منه والمؤجل، وهل قبض عيانا أو اعترافا. 6- توقيع العدلين بشكلهما، وأداء القاضي مع طابعه".(45/32)
الوكيل ورقم بطاقته الوطنية، وتاريخ ومكان صدور الوكالة في الزواج. 6- الإشارة إلى الوضعية القانونية لمن سبق زواجه من الزوجين. 7- مقدار الصداق في حال تسميته مع بيان المعجل منه والمؤجل، وهل قبض عيانا أو اعترافا. 8- الشروط المتفق عليها بين الطرفين. 9- توقيع الزوجين والولي عند الاقتضاء. 10- اسم العدلين وتوقيع كل واحد منهما بعلامته وتاريخ الإشهاد على العقد. 11- خطاب القاضي على رسم الزواج مع طابعه.
يمكن بقرار لوزير العدل تغيير وتتميم لائحة المستندات التي يتكون منها ملف عقد الزواج وكذا محتوياته".
فيكون ذلك بمثابة عقبة أمام من يريد إخفاء الحقيقة، ومن جهة ثانية، يتعذر على المرأة الزواج برجل آخر وهي على ذمة رجل، ولعله استفاد من بعض النوازل التي حصلت وحكم فيها على امرأة تزوجت على زوجها بخمس سنوات سجنا.
ونلاحظ على مدونة الأسرة إغفالها التنصيص على كون الزوجة بكرا أو لا؟ وهو داخل في اعتبار كرامة المرأة وحذف كل ما يمكن أن يمس بها، لكنها تناست كرامة الرجل، وكأن هذا الأمر لا يعتبر ضررا بالزوج إذا تزوج امرأة على أساس أنها بكر فإذا بها ليست كذلك، ولا يكفي التنصيص على عدم زواجها سابقا، إذ قد تفقد عذريتها لأسباب عدة، ولا يجب أن يسقط حق الزوج في هذا الأمر، ولا يمكن اعتبار المادة 63 المتعلقة بالإكراه والتدليس نصا في المسألة، لأنها قيدت التدليس بكونه دافعا فيكون من حق المدلس عليه الحق في طلب التعويض والقيام بذلك من وقت العلم به، وهذا يفتح بابا للتأويلات هل كان فعلا دافعا أم لا؟ والأولى الحسم في هذه النقطة بدل جعل الزوج ضحية تغرير أحد، وقد يدفع بكونه لم يسأل في الموضوع، أو يرمى بكونه من جعل الزوجة ثيبا، إلى غير ذلك من أنواع الدفوع!!!
2- من أهم التعديلات الواردة على انحلال ميثاق الزوجية وآثاره:(45/33)
إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية نصت في الفصل 41 على أن "الطلاق هو حل عقدة النكاح بإيقاع الزوج أو وكيله أو من فوض له في ذلك، أو الزوجة إن ملكت هذا الحق، أو القاضي"، فإن مدونة الأسرة في المادة 78 نصت على أن "الطلاق حل ميثاق الزوجية، يمارسه الزوج والزوجة، كل بحسب شروطه، تحت مراقبة القضاء، وطبقا لأحكام هذه المدونة"، وبذلك جعلت الزوجين على قدم وساق في إمكانية طلاق الطرف الثاني من باب التسوية بينهما في هذا المجال! وفي المادة 70 نحت إلى اعتبار الطلاق أو التطليق استثناء محافظة على الأسرة والأطفال، وأتت بعبارة أخرى بديلا عن "عقدة النكاح" هي "ميثاق الزوجية"، ولست أدري أين وجه المساس بكرامة المرأة في ذلك، واللفظة قرآنية مائة بالمائة في مثل قوله تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله)(1)... إلا أنها تساهلت جدا في إيقاع الطلاق من الزوجة، إذ ذهبت إلى توسيع دائرة الضرر الذي كان يصعب إثباته. ويدخل في مفهومه كما في المادة 99 "كل تصرف من الزوج أو سلوك مشين أو مخل بالأخلاق الحميدة يلحق بالزوجة إساءة مادية أو معنوية تجعلها غير قادرة على الاستمرار في العلاقة الزوجية"، وهو ما عدته من باب التطليق بسبب الشقاق. وبذلك أرادت المدونة تيسير رفع الضرر الواقع على المرأة أكثر من تيسيره على الرجل الذي تم التشديد عليه في واقع الأمر بجعل الطلاق استثناء. وفعلا كثير من النسوة يعانين من المشاكل مع الأزواج
__________
(1) - من سورة البقرة، الآية: 235. والذي يظهر لي – والله أعلم – أن الجهة التي كانت خلف تغيير العبارة تهدف إلى إثبات نفقة الزوج على الزوجة اعتبارا من يوم إبرام العقد، لا اعتبارا من يوم البناء أو دعوة الزوجة زوجها للبناء فتكون الزوجية قائمة على العقد وليس على الدخول. والمشرع، وإن لم يأخذ بهذا المبدإ في مدونة الأسرة، إلا أني أعتقد أنه سيأخذ به مستقبلا تحت الضغوط التي تمارس، والأيام كفيلة بإثبات ذلك.(45/34)
ورفعن قضايا أمام المحاكم من أجل التطليق، وبقيت سنوات عدة من غير حل لها لصعوبة إثبات الضرر، وحال صدور مدونة الأسرة حولن قضاياهن إلى الطلاق بسبب الشقاق، ولا يتطلب البت فيها أكثر من ستة أشهر حسب المادة 97. وهذه المسألة تحل مشكلة واقعة للمرأة المهضومة الحقوق، لكن يقع ضحية ذلك الزوج الذي لا يؤاخذ عليه شيء إلا نزوة من المرأة، فيصبح بين عشية وضحاها مطلقا، وقد تكون السن تقدمت به، وله أولاد منها! بموجب ذلك، أصبح كل من الرجل والمرأة في إحساس بعدم الاطمئنان، إذ قد يفاجأ أي منهما في أي وقت بدعوى الشقاق أو الطلاق، لأن الإساءة المعنوية الوارد ذكرها في المدونة لا يمكن تحديدها، وليست بموضوعية!!! فصار اعتبار الطلاق استثناء لا معنى له مع هذا التوسع في الشقاق.
إذا كانت مراجعة الزوج لزوجته في الطلاق الرجعي في مدونة الأحوال الشخصية، الفصل 68، لا تحتاج إلى موافقة الزوجة، فإن الأمر في مدونة الأسرة على خلاف ذلك، إذ يشترط قبولها حسب ما جاء في المادة 124، فإن رفضت لجأت إلى مسطرة الشقاق.
قيام المحكمة بتوجيه ملخص وثيقة الطلاق أو الرجعة أو الحكم بالتطليق أو بفسخ عقد الزواج أو ببطلانه إلى ضابط الحالة المدنية لمحل ولادة الزوجين، مرفقا بشهادة التسليم وعلى ضابط الحالة المدنية تضمين بيانات الملخص بهامش رسم ولادة الزوجين، فإن لم يكن لهما أو لأحدهما محل ولادة بالمغرب، يوجه الملخص إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط حسب ما جاء في المادة 141.(45/35)
النفقة: إذا كانت مدونة الأحوال الشخصية في الفصل 53 نصت على أن "التطليق لعدم الإنفاق: 1- يجوز للزوجة أن تطلب من القاضي تطليقها من زوجها الحاضر إذا امتنع من الإنفاق عليها، فإن كان له مال ظاهر ولم يقل إنه موسر أو معسر، ولكن أصر على عدم الإنفاق، طلق عليه القاضي في الحال، وإن ادعى العجز وأثبته، أمهله القاضي مدة مناسبة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، فإن لم ينفق طلقها عليه، فإن لم يثبته، بأمره بالإنفاق أو الطلاق، فإن لم يفعل طلق عليه. 2- التطليق من أجل الإنفاق يقع رجعيا، وللزوج أن يراجع زوجته في العدة بشرط أن يثبت يساره ويظهر استعداده للإنفاق"، فإن مدونة الأسرة في المادة 102 نصت على أن " للزوجة طلب التطليق بسبب إخلال الزوج بالنفقة الحالة الواجبة عليه وفق الحالات والأحكام الآتية: 1- إذا كان للزوج مال يمكن أخذ النفقة منه، قررت المحكمة طريقة تنفيذ نفقة الزوجة عليه، ولا تستجيب لطلب التطليق. 2- في حالة ثبوت العجز، تحدد المحكمة، حسب الظروف، أجلا للزوج لا يتعدى ثلاثين يوما لينفق خلاله، وإلا طلقت عليه إلا في حالة ظرف قاهر أو استثنائي. 3- تطلق المحكمة الزوجة حالا إذا امتنع الزوج عن الإنفاق ولم يثبت العجز".(45/36)
وبهذا، يظهر أن مدونة الأحوال الشخصية راعت أحوال الزوج أكثر من مدونة الأسرة، إذ أعطته فرصة ثلاثة أشهر لتعديل وضعه المادي، أما مدونة الأسرة، فإنها حبست عليه أنفاسه بتقييدها له بشهر واحد تحت طائلة التطليق. ومعلوم أن الوضع الحالي يعاني من قلة مناصب الشغل، وانتشار البطالة، وهزالة الدخل عند شريحة لا بأس بها من أفراد المجتمع يقل عن الحد الأدنى للأجور، فكيف يعدل الزوج من وضعه المادي في هذه الظروف مع هذا الوقت الضيق الذي خول له؟! وكان الأولى أن يبحث المشرع عن وسائل للتخفيف من هذه المشاكل التي يعاني منها المجتمع بالرفع من مستوى الأجور، وتوفير مناصب الشغل، بدل جعل المشكل على كاهل الزوج، وحل مشاكل الزوجة على حسابه!
وقد نحت المدونة في ترتيب من يقدمون في الإنفاق عليهم عند كون الملزم بها معسرا إلى تقديم الزوجة أولا، ثم الأولاد الصغار ذكورا أو إناثا، ثم البنات، ثم الذكور من أولاده، ثم الأب، ثم الأم حسب المادة 193. وهذا أمر لا يبدو مستساغا من باب البر بالأم من جهة، والعطف على الصغار، فقد تم تقديم الزوجة على الأم، ومن الممكن أن تكون قادرة على الإنفاق على نفسها، بينما الأم لا معيل مع كبر السن، ونفس الأمر بالنسبة للأب!! والملاحظ أنها أعطت للزوجة حقوقا مبالغا فيها، ولو أنها قالت بالمقاسمة بين الأطراف بالمعروف لكان أولى، ويؤخذ بعين الاعتبار مدى يسار كل طرف منهم حتى لا يتأذى أحد. والله أعلم.
3- أهم التعديلات الواردة على الكتاب الثالث: الولادة ونتائجها:
اعتماد كل الوسائل الشرعية في إثبات النسب عند حصول حمل بالمخطوبة ولم يكن تم تسجيل عقد الزواج لظروف قاهرة، مع حصول الإيجاب والقبول، واشتهرت الخطبة بين أسرتي الخطيبين، وكان الحمل أثناء فترة الخطوبة، وأنكر الخاطب أن يكون منه حسب ما جاء في المادة 156. والمقصود "بكل الوسائل" اعتماد التحاليل الطبية بما في ذلك دراسة البصمة الوراثية.(45/37)
التسوية في مدة الحضانة بالنسبة للذكر والأنثى في بلوغهما سن الرشد حسب المادة 166، خلافا لما جاء في مدونة الأحوال الشخصية في الفصل 102 أن الحضانة تمتد حتى تدخل الأنثى ويبلغ الذكر.
إمكانية اتفاق الأبوين على تنظيم فترات زيارة المحضون حسب المادة 181، وفي حالة عدم الاتفاق، تحدد المحكمة ذلك بالزمان والمكان مما من شأنه أن يمنع إمكان التحايل في التنفيذ قدر الإمكان كما في المادة 182، ولم يرد أي شيء في هذا الشأن في مدونة الأحوال الشخصية.
4- من أهم التعديلات الواردة على الكتاب الرابع: الأهلية والنيابة الشرعية:
تحديد مدونة الأسرة سن الترشيد في 16 عاما في المادة 218 وذلك عن طريق الاختبار حسب ما بينته المادة 226، خلافا لمدونة الأحوال الشخصية التي حددت ذلك في 15 عاما.
5- أهم تعديل ورد على الكتاب السادس: الميراث:
جعل أولاد البنات يستفيدون من الوصية الواجبة، مثلهم في ذلك مثل أولاد الأبناء كما جاء في المادة 369: " من توفي وله أولاد ابن أو أولاد بنت، ومات الابن أو البنت قبله أو معه، وجب لأحفاده هؤلاء قي ثلث تركته وصية بالمقدار والشروط الآتية". بينما كان الأمر محصورا في مدونة الأحوال الشخصية في أولاد الأبناء.
المبحث الرابع: الإجراءات العملية لتنفيذ مدونة الأسرة:(45/38)
لتنفيذ مدونة الأسرة، نجد المشرع يربطها بالنيابة العامة عند حصول أي خلاف، لأجل ذلك جاء في المادة 3: "تعتبر النيابة العامة طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام هذه المدونة"، لأجل ذلك تم تأسيس ما يسمى بقضاء الأسرة يتكفل بقضاياها، منها: 1- قضايا الأحوال الشخصية. 2- شؤون القاصرين. 3- قضايا التوثيق. 4- قضايا الحالة المدنية. 5- كفالة الأطفال. وقد تم تخصيص 700 قاض من المحكمة الابتدائية لهذا الشأن، يعين لمدة ثلاث سنوات بقرار لوزير العدل حسب ما جاء في الفصل 179 من قانون المسطرة المدنية(1)، وهو أمر غير كاف لمعالجة القضايا الكثيرة المعروضة أمام القضاء مما يستدعي بذل المزيد من أجل لتوفير قضاة متخصصين في الموضوع من جهة، ومن جهة ثانية، إن عدم استقرار القاضي في هذه المهمة يفوت على القضاء الاستفادة من الخبرات المتراكمة التي حصل عليها القاضي أثناء قيامه بعمله في قضاء الأسرة.
تكوين مجلس الأسرة وتحديد مهامه الرامية إلى إصلاح ذات البين وإبداء الرأي في كل ما له علاقة بشؤون الأسرة وذلك في عشر مواد(2)، وهو يتكون من قاض بصفته رئيسا، والأب والأم أو الوصي أو المقدم، وأربعة أعضاء يعينهم رئيس مجلس العائلة من بين الأقارب أو الأصهار بالتساوي بين جهة الأب وجهة الأم أو جهة الزوج حسب الأحوال، وإذا تعذر توفرهم من الجهتين أمكن تكوينه من جهة واحدة.
__________
(1) - ذلك حسب التعديل الذي تم بموجب قانون رقم 03-72.
(2) - وذلك بموجب مرسوم برقم 88-04-2 صادر في 25 من ربيع الآخر 1425 هـ / 14 يونيو 2004.(45/39)
التعجيل في البت في قضايا النفقة وتنفيذ الأوامر والأحكام فيها رغم كل طعن. وللقاضي أن يحكم في دعوى انفقة بنفقة مؤقتة لمستحقيها في ظرف شهر من تاريخ طلبها مع اعتبار صحة الطلب والحجج التي يمكن الاعتماد عليها، وينفذ الحكم بمجرد الإدلاء بنسخة منه(1).
تحديد مضمون وطريقة إصدار الشهادة الطبية الخاصة بإبرام عقد الزواج(2).
إعداد لائحة المستندات التي يتكون منها ملف عقد الزواج ومحتوياته، فبالنسبة لطلب الإذن بتوثيق الزواج، فإنه على الشكل الآتي:
1- طلب الإذن بتوثيق الزواج(3):
إلى السيد قاضي الأسرة المكلف بالزواج بالمحكمة الابتدائية ب...
معلومات عن الخطيب:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- تاريخ الازدياد. 3- الجنسية. 4- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 5- الحالة العائلية. 6- الحالة الصحية. 7- المهنة. 8- محل السكنى أو الإقامة.
معلومات عن الخطيبة:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- تاريخ الازدياد. 3- الجنسية. 4- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 5- الحالة العائلية. 6- الحالة الصحية. 7- المهنة. 8- محل السكنى أو الإقامة. ج- معلومات عن الزواج المرغوب فيه: هل هذا الزواج زواج أول؟ أو عقد جديد بين نفس الطرفين؟ أو زواج التعدد؟ وحرر ب... في ... الإمضاء.
2- المعلومات الواجب تضمينها في ملخص عقد الزواج(4):
__________
(1) - وذلك بموجب الفصل 179 مكرر من قانون المسطرة المدنية الذي تم تعديله وتتميمه بالقانون رقم 03-72.
(2) - وذلك بموجب قرار مشترك لوزير العدل ووزير الصحة رقم 04-347 صادر في 10 محرم 1425 هـ موافق 2 مارس 2004.
(3) - بناء على قرار لوزير العدل رقم 04-269 صادر في 12 ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004، وهو مبني على المادة 65 من مدونة الأسرة. ويجب أن يكون طول المستند 29.7 سنتيمترا، وعرضه 21 سنتيمترا.
(4) - وذلك بناء على قرار لوزير العدل رقم 04-271 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.(45/40)
ملخص عقد الزواج:
قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ب ... رقم ملف عقد الزواج ...
معلومات عن الزوج:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- العنوان. 3- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 4- الوضعية العائلية إن سبق زواجه (أرمل، مطلق، متزوج). 5- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له .
معلومات عن الزوجة:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- العنوان. 3- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 4- الوضعية العائلية إن سبق زواجها (أرملة، مطلقة). 5- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
تاريخ الزواج ...
مراجع تضمين عقد الزواج:
ضمن بعدد ... صفحة ... بتاريخ ... رقم السجل ... بقسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ب ...
وحرر ب ... الإمضاء.
3- تحديد شكل ومضمون السجل الخاص بتضمين نصوص عقود الزواج(1):
تشتمل كل صفحة من السجل على الأضلاع التالية:
الرقم المتتابع المخصص للعقد. 2- نوعه (زواج، ثبوت زوجية، رجعة، تجديد العقد بين نفس الطرفين). 3- تاريخ التلقي. 4- تاريخ التحرير. 5- تاريخ التضمين. 6- نص العقد. 7- مراجع توجيه ملخص العقد إلى ضابط الحالة المدنية أو إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالرباط حسب الحالات. 8- ملاحظات.
4- تحديد المعلومات الواجب تضمينها في ملخص وثيقة الطلاق
__________
(1) - وذلك بناء على قرار لوزير العدل رقم 04-272 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004. يحدد مضمون هذا السجل وشكله الخاص بتضمين نصوص عقود الزواج لدى قسم قضاء الأسرة المنصوص عليه في المادة 68. ويجب أن يكون طوله 36 سنتيمترا، وعرضه 30 سنتيمترا، وأن يبلغ عدد صفحاته 500، تحمل كل صفحاته أرقاما متتابعة يؤشر عليها رئيس المحكمة الابتدائية أو من ينوب عنه بعد ترقيمها ووضع طابعه على كل صفحة منها قبل الشروع في استعمالها.(45/41)
أو ملخص الحكم بالتطليق أو بفسخ عقد الزواج أو ببطلانه(1):
ملخص وثيقة الطلاق:
رقم الإذن بالطلاق... التاريخ ... المحكمة ...
معلومات عن المفارق:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- الجنسية. 3- العنوان. 4- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 5- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
معلومات عن المفارقة:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- الجنسية. 3- العنوان. 4- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 5- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
معلومات عن الطلاق:
تاريخ الطلاق. 2- نوع الطلقة. 3- العدد الذي بلغت إليه.
مراجع تضمين وثيقة الطلاق:
ضمنت بعدد ... صفحة ... بتاريخ ... رقم السجل ... بقسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ب ...
وحرر ب ...في ... الإمضاء.
- ملخص الحكم بالتطليق أو بفسخ عقد الزواج أو ببطلانه:
المحكمة ... رقم الملف ... رقم الحكم وتاريخه ...
معلومات عن المفارق:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- الجنسية. 3- العنوان. 4- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 5- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
معلومات عن المفارقة:
1- الاسم الشخصي والعائلي. 2- الجنسية. 3- العنوان. 4- رقم البطاقة الوطنية أو ما يقوم مقامها. 5- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
منطوق الحكم ...
وحرر ب ... في ... الإمضاء.
5- تحديد المعلومات الواجب تضمينها في ملخص وثيقة الرجعة(2):
ملخص وثيقة الرجعة:
معلومات عن المرتجع:
الاسم الشخصي ... 2- العنوان. 3- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
معلومات عن المرتجعة:
__________
(1) - وذلك بناء على قرار لوزير العدل رقم 04-273 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004. ينبني على المادة 141 من القانون 03-70.
(2) - وذلك بناء على قرار لوزير العدل رقم 04-274 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004. ينبني على المادة 141 من القانون 03-70.(45/42)
الاسم الشخصي ... 2- العنوان. 3- رقم رسم الولادة والجهة المصدرة له.
مراجع تضمين وثيقة الرجعة:
ضمنت بعدد ... صفحة ... بتاريخ ... رقم السجل ... بقسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ب ...
وحرر بتاريخ ... الإمضاء.
6- تحديد شكل ومضمون كناش التصرف (بشأن أموال القاصر)(1):
الكناش المنصوص عليه في المادة 250 يجب أن يكون طوله 29.7 سنتيمترا، وعرضه 21 سنتيمترا، ويبلغ عدد صفحاته 200، تحمل كل صفحة أرقاما متتابعة. يؤشر القاضي المكلف بشؤون القاصرين على كل صفحة من صفحات الكناش، ويضع طابعه عليها قبل الشروع في استعمال الكناش. ويجب أن تكون كل صفحة مسطرة، وتشتمل على الأضلاع الآتية:
1- الرقم المتتابع. 2- نوع التصرف. 3- مضمون التصرف. 4- تاريخ التصرف. 5- مراجع الوثائق المثبتة للتصرف. 6- ملاحظات.
إصدار قوانين تتعلق بكفالة الأطفال المهملين من أجل المحافظة على مصالحهم في اثنين وثلاثين مادة في ستة أبواب(2).
__________
(1) - وذلك بناء على قرار لوزير العدل رقم 04-274 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.
(2) - صدر ذلك في ظهير شريف رقم 172-02-1 صادر في فاتح ربيع الآخر 1423 هـ موافق 13 يونيو 2002، بتنفيذ القانون رقم 01-15 المتعلق بكفالة الأطفال المهملين. وهذا الظهير وإن كان صدوره قبل صدور مدونة الأسرة، إلا أنه يفيد في تنفيذها. وقد صدر مرسوم رقم 600-03-2 في 18 ربيع الآخر 1425 هـ موافق 7 يونيو 2004 خاص بتطبيق المادة 16 من القانون رقم 01-15، ينص على اللجنة المكلفة بالبحث في مسألة دعوى الزوجية.(45/43)
إصدار قوانين تتعلق بالجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة، أو تعديلها وتتميمها في القانون الجنائي، منها ما يتعلق بالإجهاض(1)، ومنها ما يتعلق بترك الأطفال أو العاجزين وتعريضهم للخطر وبيع وشراء الأطفال(2)، ومنها ما يتعلق بالجنايات والجنح التي تحول دون التعرف على هوية الطفل(3)، أو خطف القاصرين وعدم تقديمهم(4)، أو إهمال الأسرة(5)، أو انتهاك الآداب(6)، أو إفساد الشباب والبغاء(7)، وقوانين تتعلق بالحالة المدنية الخاصة بتسجيل وترسيم الوقائع المدنية الأساسية للأفراد من ولادة ووفاة وزواج وطلاق وضبط جميع البيانات المتعلقة بها من حيث نوعها وتاريخ حدوثها ومكانها في سجلات الحالة المدنية(8).
__________
(1) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 449 إلى 458.
(2) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 459 إلى 467.
(3) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 468 إلى 470.
(4) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 471 إلى 478.
(5) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 479 إلى 482.
(6) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 483 إلى 496.
(7) - راجع القانون الجنائي، الفصول من 497 إلى 504.
(8) - راجع الظهير الشريف رقم 239-02-1 الصادر في 25 رجب 1423 هـ موافق 3 أكتوبر 2002، لتنفيذ القانون رقم 99-37 المتعلق بالحالة المدنية، يشتمل على 48 مادة، ومرسوم رقم 665-99-2 صادر في 2 شعبان 1423 هـ موافق 9 أكتوبر 2002 لتطبيق القانون رقم 99-37، يشتمل على 42 مادة، يتعلق بتطبيق المادة 29 من القانون رقم 99-37 وقرار لوزير الداخلية رقم 03-897 صادر في 21 صفر 1424 هـ موافق 24 أبريل 2003، يشتمل على مادتين، يتعلق بتطبيق المادة 29 من القانون رقم 99-37، وقرار لوزير الداخلية رقم 03-836 صادر في 21 صفر 1424 هـ موافق 24 أبريل 2003، يتعلق بتحديد نموذج الدفتر العائلي، يشتمل على مادتين.(45/44)
إدخال تعديلات على مناهج التربية والتعليم، بحيث يتم فيها التأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة، والتربية على حقوق الإنسان.
استكمال التكوين لقضاة الأسرة بالتنسيق مع المعهد العالي للقضاء(1).
التعاون والانفتاح على المحيط الجامعي والحقوقي وعلى فعاليات المجتمع المدني وكافة الفاعلين والمؤسسات والجهات المهتمة بقضاء الأسرة.
تجهيز أقسام قضاء الأسرة بالآليات والحواسيب ووسائل الحفظ.
تمت ترجمة لمدونة الأسرة إلى اللغة الفرنسية.
إعداد ترجمة لمدونة الأسرة باللغتين الإسبانية والإنجليزية.
اعتناء وزارة العدل بدراسة قضايا الجالية المغربية بالخارج قصد البحث عن الحلول لمشاكلها فيما يخص مدونة الأسرة.
مع كل ذلك، فإن هذه الإجراءات التي تم اتخاذها، وإن كانت ضرورية لتطبيق مدونة الأسرة، إلا أن العمل الميداني أفرز جملة من الملاحظات أثناء التطبيق، ربت عن 150 حالة، ستقوم وزارة العدل بدراستها لأجل إيجاد حل لها. وطبيعي أن كل جديد يعتوره النقص، وينمو وينصلح أمره بالدراسة والاقتراح، ونرجو أن تكون هذه التعليقات قد لابست الموضوع، وقدمت صورة لبعض الإشكالات التي جاءت في مدونة الأسرة، وقد تفيد في معالجة بعض قضاياها، واستدراك ما يمكن استدراكه، والعمل البشري معرض للنقص، وتظافر الجهود مع حسن النوايا تفيد الأمة.
الخلاصة:
__________
(1) - هذه النقاط الست التالية أشار إليها معالي وزير العدل السيد محمد بوزوبع في خطاب له ألقاه بالمعهد العالي للقضاء بالمغرب، بتاريخ 3/2/2006، لخص فيها أهم النتائج التي حققتها تجربة سنتين من تطبيق مدونة الأسرة. راجع نص مقاله في:
http://www.justice.gov.ma/ar/Actualites/Actualite.aspx?actualite=109&_=0(45/45)
عبر هذه المباحث التي تعرضنا فيها للسيرورة التاريخية للمدونة، ومرتكزاتها، والتعديلات الواردة على مدونة الأحوال الشخصية، والإجراءات العملية لتنفيذ مدونة الأسرة، حاولنا قدر الإمكان تقديم صورة عن جهد المغرب في مجال تقنين الأحكام الشرعية التي وصلت في مدونة الأسرة إلى 440 مادة موزعة على كل من كتاب الزواج، وكتاب انحلال ميثاق الزوجية وآثاره، وكتاب الولادة ونتائجها، وكتاب الأهلية والنيابة الشرعية، وكتاب الوصية، وكتاب الميراث. وفي نفس الوقت الجهود المبذولة في سبيل مواكبة المدونة لواقع الناس في هذا العصر مما أدى إلى إدخال تعديلات على جملة من المواد بناء على الشريعة الإسلامية، والاجتهاد الفقهي، والالتزامات الدولية طالما لا تخالف الشريعة.
كل ذلك جعل المشرع المغربي في المدونة يبحث عن السبل القمينة بتطبيق أحكامها، وفي معالجتنا لجملة من موادها، ارتأينا أن بعضا منها يحتاج إلى إعادة النظر إما لكونه تم تقديم جهة على جهة، والأولى القيام بعكس ذلك، أو التشدد الذي حصل في التعدد إلى حد اعتباره استثناء والأصل عدم التعدد، وهو فهم لا نذهب إليه، ولكنه يخفف من حدة الخلاف بين المدونة والاتفاقيات الدولية، ونرى أن عواقب ذلك ستكون وخيمة، لأنها ستؤدي إلى التشجيع على العلاقات غير الشرعية، وهو أمر قد يكون له ما يسوغه في المجتمع الغربي، أما في المجتمع الإسلامي الذي نرغب في أن يكون مجتمع الفضيلة، فإن هذا التضييق لا يخدمه، علما أنه في المغرب لا يشكل ظاهرة، والمشكل القائم حاليا هو العزوف عن الزواج.(45/46)
ثم إن هذا التوسع الذي حصل في حقوق المرأة كان على حساب الرجل وإن كانت مدونة الأسرة تنشد أن تكون خادمة للأسرة بمعناها الواسع. صحيح أن هناك فئة من النساء كانت متضررة في إطار العلاقة الزوجية، واستفادت من الوضع الجديد لحل مشاكلها المزمنة، لكن هذه الحلول استفادت منها فئة طغت على الزوج، وكان ضحية لها. والمشكل أنه يتصور دوما أن تكون المرأة الضحية التي تعاني في المجتمع، ولا يتصور عكس ذلك، علما بأن حوادث كثيرة حصلت في المجتمعات الدولية تبرز فيها المرأة في دور المعتدي، وعادة ما يتم الكلام عن هذا الجانب لعدم رضا الزوج بالكلام في الموضوع ... فيتكلم عن العنف ضد النساء، ولا يتكلم عن العنف ضد الرجال!!!
إن رغبتنا شديدة في خدمة كل من الرجل والمرأة والأبناء والآباء، وذلك بالمحافظة على حقوق الجميع، عمدتنا في ذلك كله شرع الله، فلا يجوز إباحة ما حرمه، ولا تحريم ما أحله. وإن استفدتنا من الاجتهادات المعاصرة، أو الاتفاقيات الدولية، فيجب أن نلحظ الأمور الآتية:
أولها: عدم الخروج عن مقتضيات الشرع.
وثانيهما: مراعاة المصلحة التي أقرها الشرع.
وثالثها: عدم التعسف في تأويل النصوص حتى نجعلها موافقة للاتفاقيات الدولية.
ورابعها: عدم نسبة رأي إلى مذهب والواقع على خلاف ذلك، فقط لكي يعتقد المطلع على ذلك أن لهذا الكلام أصلا في التشريع!!!(45/47)
لأجل كل ما مر، أوصي بعرض المدونات التي تأخذ بها الدول في مجال الأسرة على جماعات من الباحثين الجادين المتخصصين في الشريعة الإسلامية، من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث، ويكون عددهم مناسبا للاستفادة من آرائهم، وباحثين من رجال القانون للاستفادة منهم في مجال التقنين، ورجال القضاء لأنهم يمارسون تطبيق الأحكام، ولهم خبرة في ذلك، وبعض المتخصصين في الجانب الاجتماعي حتى يؤخذ برأيهم في هذا المجال، وبعض أهل الخبرة في مجال الطب لاستشارتهم عند اللزوم، علما بأن دورهم استشاري، لا يتدخل في تحديد الأحكام الشرعية، ولكن معرفتهم في إطار تخصصهم قد تفيد القائمين على مراجعة الأحكام المقننة.
ويمكن القيام بتفسير النصوص من أجل تنزيلها على واقع المجتمع، بحيث تؤخذ بعين الاعتبار أعراف أهل البلد ما لم تكن مخالفة للشرع.
كما أقترح تنظيم ندوة يشترك في إعدادها كل من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية وكلية القانون بجامعة الشارقة، يكون محورها مدونات الأحوال الشخصية في العالم الإسلامي حتى نقوم بخطوة عملية في هذا المجال، ولا نقف عند حدود التنظير.
قصدنا بهذا توضيح رأي في مسألة يقض لها المضجع، والأمر لا يتعلق بدولة ما، ولكنه يتعلق بمصير أمة ... لسنا دولا علمانية، ولا نريد أن نكون كذلك، ومن واجب العلماء التبيين، فإن سكتوا كان ذلك منهم إخلالا بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(1).
المصادر والمراجع:
أولا: الكتب:
القرآن الكريم.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: علاء الدين الكاساني - دار الكتاب العربي - بيروت – ط2 – 1982.
تعدد الزوجات في التاريخ والشرائع السماوية: عادل أحمد عبدالموجود – دار الكتاب العربي – دمشق – القاهرة – ط 2 – أكتوبر 2004.
__________
(1) - سورة الرعد، الآية: 11.(45/48)
موقفنا مما سمي "مشروع خطة العمل لإدماج المرأة في التنمية: حركة التجديد والإصلاح - منشورات الفرقان- الدار البيضاء – 2000.
المرأة بين التنمية، والتنمية بين الأصالة والتغريب: حزب العدالة والتنمية - مطبعة طوب بريس – 1999.
سنن الترمذي، أبوعيسى محمد بن عيسى بن سورة – ت. محمود محمد نصّار – دار الكتب العلمية – لبنان – ط1 – 1421 / 2000.
سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي – دار الجيل – لبنان.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان الفارسي: محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي - ت.شعيب الأرنؤوط - دار النشر: مؤسسة الرسالة – بيروت – ط2 - 1414 / 1993.
القانون الجنائي المغربي.
قانون المسطرة المدنية.
المبسوط: شمس الدين السرخسي – دار الكتب العلمية – لبنان – ط1 – 1414 / 1993.
مدونة الأحوال الشخصية- بمقتضى ظهير 1957.
مدونة الأحوال الشخصية- بمقتضى ظهير 1993.
مدونة الأسرة – بمقتضى القانون رقم 03-70.
المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري، أبو عبدالله محمد بن عبدالله – دار المعرفة – لبنان – ط1 – 1418 / 1998.
مسند الإمام أحمد بن حنبل – مؤسسة قرطبة – مصر.
ثانيا: الظهائر:
ظهير شريف بشأن تطبيق مقتضيات الكتابين الأول والثاني المتعلق أولهما بالزواج، والثاني بانحلال ميثاقه - الجريدة الرسمية، عدد 2354 بتاريخ 13 جمادى الأولى عام 1377 موافق 6 دجنبر سنة 1957.
ظهير شريف بشأن تطبيق الكتاب الثالث الخاص بالولادة ونتائجها - الجريدة الرسمية عدد 2358، الصادرة بتاريخ 11 جمادى الثانية 1377 موافق 3 يناير 1958.
ظهير شريف بشأن تطبيق مقتضيات الكتاب الرابع المتعلق بالأهلية والنيابة الشرعية - الجريدة الرسمية عدد 2363، الصادرة بتاريخ 17 رجب عام 1377 موافق 7 فبراير سنة 1958.(45/49)
ظهير شريف بشأن تطبيق مقتضيات الكتاب الخامس الخاص بالوصية - الجريدة الرسمية عدد 2367، الصادرة بتاريخ 16 شعبان عام 1377 موافق 7 مارس سنة 1958.
ظهير شريف بشأن تطبيق مقتضيات الكتاب السادس الخاص بالميراث - الجريدة الرسمية عدد 2371، الصادرة بتاريخ 14 رمضان عام 1377 موافق 4 أبريل سنة 1958.
ظهير شريف رقم 172-02-1 صادر في فاتح ربيع الآخر 1423 هـ موافق 13 يونيو 2002، بتنفيذ القانون رقم 01-15 المتعلق بكفالة الأطفال المهملين.
ظهير شريف رقم 239-02-1 صادر في 25 رجب 1423 هـ موافق 3 أكتوبر 2002، لتنفيذ القانون رقم 99-37 المتعلق بالحالة المدنية.
…ثالثا: المراسيم:…
مرسوم رقم 665-99-2 صادر في 2 شعبان 1423 هـ موافق 9 أكتوبر 2002 لتطبيق القانون رقم 99-37، يشتمل على 42 مادة، يتعلق بتطبيق المادة 29 من القانون رقم 99-37.
مرسوم رقم 600-03-2 في 18 ربيع الآخر 1425 هـ موافق 7 يونيو 2004 خاص بتطبيق المادة 16 من القانون رقم 01-15، ينص على اللجنة المكلفة بالبحث في مسألة دعوى الزوجية.
مرسوم برقم 88-04-2 صادر في 25 من ربيع الآخر 1425 هـ / 14 يونيو 2004.
رابعا: القرارات الوزارية:
قرار لوزير الداخلية رقم 03-897 صادر في 21 صفر 1424 هـ موافق 24 أبريل 2003، يتعلق بتطبيق المادة 29 من القانون رقم 99-37.
قرار لوزير العدل رقم 04-269 صادر في 12 ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.
قرار لوزير العدل رقم 04-271 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.
قرار لوزير العدل رقم 04-272 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.
قرار لوزير العدل رقم 04-273 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.
قرار لوزير العدل رقم 04-274 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 هـ موافق 3 فبراير 2004.
قرار مشترك لوزير العدل ووزير الصحة رقم 04-347 صادر في 10 محرم 1425 هـ موافق 2 مارس 2004.(45/50)
قرار لوزير الداخلية رقم 03-836 صادر في 21 صفر 1424 هـ موافق 24 أبريل 2003، يتعلق بتحديد نموذج الدفتر العائلي.
خامسا: المواقع الإلكترونية:
الأساس الفقهي لإصلاح مدونة الأسرة.
http://www.habous.gov.ma/ar/detail.aspx?id=1464&z=9&s=9
مدونة الأحوال الشخصية: السلطة الذكورية والهيمنة الطبقية: خديجة رياضي (من المغرب) – الحوار المتمدن (صحيفة إلكترونية يومية مستقلة يسارية علمانية ...)- عدد: 838 – بتاريخ 18 / 5 / 2004.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=7301#
مواجهة خطة إدماج المرأة على طريقة بكين.
http://www.islammemo.cc/somet/one_News13.asp?IdNews=92
نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/undhr.shtm
نص البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن بيع الأطفال واستغلال الأطفال في البغاء وفي المواد الإباحية
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/pcrc3.shtml
نص البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل بشأن اشتراك الأطفال في المنازعات المسلحة
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/pcrc3.shtml
نص اتفاقية حقوق الطفل
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/crc.shtml
نص اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة .
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/cedaw.shtm
نص اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري
http://www.hrcap.org/ARabic/HRcon/discrimination.htm
نص اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة.
http://www.hrinfo.org/docs/undocs/cat.shtml
نص خطاب جلالة الملك في موقع:
http://www.isic.ac.ma/SM_dis.htm
نص خطاب معالي وزير العدل السيد محمد بوزوبع ألقاه بالمعهد العالي للقضاء بالمغرب، بتاريخ 3/2/2006.
http://www.justice.gov.ma/ar/Actualites/Actualite.aspx?actualite=109&_=0(45/51)
نص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
http://www.arabhumanrights.org/cbased/ga/covenant-escr66a.html
نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
http://www1.umn.edu/humanrts/arab/b003html
Maroc: l injustice faite aux femmes en terre d Islam; Hicham Raji; 2 janvier 2005
http://www.mediterraneas.org/article.php3?id_article=172
Interview de Madame Zhour EL HORR, Présidente du tribunal de première instance de Casablanca, conseillère à la Cour Suprême et membre de la commission royale de réforme de la Modawana (Code de la famille); par: Wafin.be
http://www.wafin.be/interview/archives/elhorr.phtml
سادسا: الجرائد:
بيان اليوم 13 / 10 / 2003.
التجديد 13 أكتوبر 2003.
رسالة الأمة 16 / 10 / 2003.
السياسة الجديدة 17 / 10 / 2003.
الصباح 16 / 10 / 2003.
الصحراء 4 / 11 / 2003.
العلم 14 / 10 / 2003، و 19/10/2003.
المنعطف 13 / 10 / 2003.
اليسار الموحد، عدد 15-29 أكتوبر 2003.
Libération 13 / 10 / 2003.(45/52)
…بسم الله الرحمن الرحيم
وسائل الإثبات المعاصرة في القضاء
أ.د/ محمد بن أحمد الصالح
أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة وعضو المجلس العلمي
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ورقة عمل مقدمة إلى ندوة (القضاء الشرعي في العصر الحاضر الواقع والآمال) الذي تنظمه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة.
في المدة من
…تمهيد:
إن مركز القضاء من الأهمية بمكان في شريعتنا الغراء حيث كان القاضي يفصل في الخصومات ويقضي في الدعاوى بين الناس لا فرق بين ملك وأمير، وصغير وكبير، وغنى وفقير، وشريف ووضيع، والذي هذا شأنه وهذه مهمته يجب عليه أن يتخلق بخلق القرآن ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتولى القضاء بنفسه فكان إذا جلس له يتمثل العدل في أسمى وأجمل المظاهر وكان خلفاؤه من بعده يتولون هذا المنصب بأنفسهم قام به أبو بكر رضي الله عنه جامعا بين السلطة الدينية والسياسية فكان يحكم بكتاب الله فان لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوقف في بعض القضايا فيجمع لها المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فيستشيرهم في حكمها وجرى على هذا بعده الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما اتسعت الفتوحات الإسلامية واشتغل بالأعمال السياسية ولى أبا الدرداء قضاء المدينة وكان الصحابة وحفاظ القرآن يقومون بهذا المنصب.
…فالشريعة الإسلامية عنيت بالعدل في القضاء عنايتها بكل ما من شأنه دعامة لسعادة الحياة فاتت فيه بالعظات البالغات تبشر من إقامة وعدل فيه بعلو المنزلة وحسن العاقبة وتنذر من قصر أو جار بسوء المنقلب وعذاب الهون.(46/1)
ولا ريب أن العدالة تعد من أسمى الطرق لنشر الإسلام بين الناس، وتمكينه في القلوب، كما أن القضاء هو الوسيلة الأولى لهذه العدالة في الفصل بين المتخاصمين، وأن البحث عن الحقيقة وإقرارها هو رسالة هذا القضاء في طرقه وفي غاياته، فتلك أمور اجتمعت عليها البشرية قاطبة، والعدل قام عليه أمر السماء والأرض
معنى القضاء في اللغة وتعريفه في الاصطلاح.
…القضاء لغة: هو إتمام الشيء والفراغ منه قولا أو فعلاً، ومن ذلك استعماله بمعنى الأداء كما في قول كثير قضى كل ذي دين فوفى غريمه، وبمعنى التبليغ كما في قوله تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَن دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } (1) وبمعنى الموت والإماتة كما في قضى فلان، وقضي عليه أي مات أو قتل، وبمعنى الحكم والإلزام كما في قوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } (2)
……معنى القضاء في الاصطلاح:
هو فصل الخصومات، وذلك أنه يفضي إلى وضع حد للنزاع الناشب ويعنى فصل الخصومات على وجه مخصوص ليخرج الصلح والتحكيم(3).
والغرض من القضاء هو الأخذ على أيدي أهل الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه، ليستتب الأمن وتصان مصالح المجتمع، ويتفرغ الناس لما يصلحهم دينا ودنيا.
شروط القاضي: 1- البلوغ فلا تصح ولاية الصبي.
…2- العقل: المراد بالعقل فضل عقل ووفور فطنة، حتى يكون صحيح التمييز بعيداً عن الغفلة قادراً على حل ما أشكل وفصل ما أعضل.…
…3- الحرية.
4- الإسلام.…
…5- القدرة على السمع والكلام، وسلامة باقي الأعضاء مستحب؛ لأن السلامة من الآفات أهيب لذوي الولايات، وادعى للوقار والاحترام.
__________
(1) الحجر 66
(2) الإسراء 23
(3) نيل المارب(2/174)(46/2)
…6- العدالة: والعدل هو الذي لم يرتكب الكبيرة ولم يصر على صغيرة واجتنب ما يخل بالمروة، ولا ريب إن الفاسق مرذول، مردود الشهادة، مسلوب الولاية، ناقص عند الله وعند الناس، سيء الحض في الدنيا والآخرة.
…7- بلوغ مرتبة الاجتهاد: وهو الأهلية لاستنباط الحكم من مصادر التشريع.
سلطة القاضي: تشمل ما يدخل في اختصاصه، ويندرج تحت ولايته، من الدعاوى والخصومات والحقوق، نوعاً ومكاناً وزماناً.
…والقضايا التي تدخل في اختصاص القاضي هي ما يوجه ولي الأمر بالنظر فيها، وقد تكون ولاية القاضي عامة تتناول جميع أنواع القضايا من معاملات مالية أو أحوال شخصية أو جنائية أو غيرها، وإما تكون الولاية خاصة تتناول نوع معين فقط مثل الجنايات أو الأحوال الشخصية أو التجارية أو قضايا المخدرات أو تزييف النقد، وكمسائل المواريث والوصايا، أو الزواج والفرق.
…وقد قرر بعض العلماء اختصاصات القاضي فيما يأتي:
1-فصل المنازعات أما بحكم قضائي يصدره على سبيل الإلزام بطبيعة الحال، وإما يحصل الخصوم على الصلح إن رأى ذلك وتراضوا عليه.
2-استيفاء الحقوق من المماطلين وإيصالها إلى من ثبت استحقاقهم لها.
3-الولاية على عديم الأهلية أو ناقصها.
4-النظر في الأوقاف ومال الغيب: بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وصرف الغلة في مصارفها أو حفظها لأهلها.
5-تزويج الايامي من الأكفاء إذا عد من الأولياء.
6-إقامة الحدود على مستحقيها بطلب المستحق أن كانت من حقوق الأفراد أو الاكتفاء بالثبوت عند القاضي إن كانت من حق الله.
7-النظر في المصالح العامة الداخلة في حدود ولايته.
8-تنفيذ الوصايا طبقا للشروط المعتبرة التي اشترطها الموصي.
9-التسوية بين القوي والضعيف، و الشريف والوضيع.(1)
النظم الخاصة بنزاهة القضاء،
__________
(1) الأحكام السلطانية ص75(46/3)
فصل الخصومات وإيصال الحقوق إلى أربابها، وردع الخارجين على النظام يتطلب نزاهة الحكم وتميزه بالصدق، والأمانة، وتطبيق العدل، وهذا من أهم ما عنى به الإسلام حتى صار مضرب الأمثال.
والتنظيم الإسلامي يتألف من:
منهج تلتزم به الدولة:
1-عدالة القضاة.
2-عدم قابليتهم للعزل.
3-صيانة القضاء من التدخل فيه.
4-تقرير الأرزاق والمرتبات للقضاة.
5-علانية الجلسات.
منهج يلتزم به القضاة.
1-عدم قبول الرشوة أو الهدية.
2-عدم إجابة الدعوة الخاصة.
3-عدم ممارسة التجارة.
4-عدم القضاء للأقارب ومن إليهم.
5-مسئولية القاضي عند عدم النزاهة.
6-عدم إبداء الرأي في مواطن الخصومات.
…أصول الإثبات في الشريعة:
1-دور القاضي في الخصومة وطبيعة وظيفته وواجباتها.
2- أن يقوم الحكم على ظواهر البينات ما لم يجحد أو يدفع بينة مثلها.
3-الأصل في إثبات الحق قضاء أن يبنى على دليل يحصل خبره بطريق التواتر المفيد للعلم القطعي.
4-أقسام الحق أمام القضاء مدع مثبت، ومطالب منكر.
5-الإثبات لا يرد عليه قيد إلا ما يوصل إلى الإقناع بالصدق.
6-إن الأصول العامة للبينات في الشريعة تقوم على اعتبار أدلة الكتاب والسنة والإجماع.
طرق الإثبات:
ليس للبينات عدد يحصرها وإنما المدار فيها على ثبوت الحق وإظهاره، فكل ما يؤدي إلى معرفة الحق، وإقامة العدل، وإشاعة الأمن، فهو بينة متى كان متفق مع روح الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة وقواعدها الكلية، ويحقق مقاصدها، ولا شك أن القول بهذا يفتح ميادين واسعة للاستفادة من كل ما توصل إليه الفكر البشري من تجربة ومخترعات، ومكتشفات، الأمر الذي يوجب على رجال القضاء وأجهزة الأمن وسلطات التحقيق التوجه نحو الاستفادة من الوسائل العلمية الحديثة في سبيل مكافحة الجريمة وكشفها وإثباتها، طالما أن المجرمين بدورهم قد طوعوا هذه الوسائل لخدمة مخططاتهم الإجرامية فليس من العدالة حرمان الأجهزة المسئولة عن أمن المجتمع وطمأنينته الأخذ بها.(46/4)
وقد انتهى الرأي عند فريق من العلماء فيما يصلح أن يكون طريقا من طرق الإثبات في سبعة عشر وسيله وبين ما فيها من اختلاف أو وفاق واثبت حججهم(1).
على إن طرق القضاء في الشريعة الإسلامية لا تدخل تحت حصر، فكل أمر يترجح عند القاضي أنه دليل على إثبات الحق هو طريق من طرق الحكم وعلى القاضي أن يحكم به.
ومن طرق الإثبات ما يلي:
1-الإقرار، وهو سيد الأدلة إذا كان صادراً عن طواعية واختيار واعتراف بالمسئولية وارتكاب المخالفة.
2-الشهادة، وتتفاوت مراتبها على أحوال عده فيكتفي أحيانا بشاهد واحد لإثبات هلال رمضان، أو امرأة واحده فيما لا يطلع عليه إلا النساء كالإرضاع واثبات النسب والبكارة أو الثيوبه، أو شاهد ويمين في إثبات الحق في الأموال، أو شهادة رجلين في إثبات الأهلة عدا رمضان، أو رجل وامرأتان في إثبات الحقوق في الذمم، أو شهادة ثلاثة رجال في إثبات الإعسار أو حصول الجوائح، أو شهادة أربعة رجال في إثبات جريمة الزنا، أو أداء أربعة إيمان، والدعاء على نفسه باللعنه إن كان من الكاذبين، والدعاء على نفسها بغضب الله إن كان من الصادقين في قضية اللعان.
3-اليمين فيما إذا عجز المدعي عن البينة، فيكتفى بيمين المدعى عليه، لقوله عليه السلام(البينة على من ادعى واليمن على من أنكر)(2)
4-النكول عن اليمين ويعد حجة في إثبات الحق في ذمة المدعى عليه
__________
(1) وهي: الشاهدان، الشاهدان واليمين، والأربعة في الزنا، والشاهد واليمين، والمرأتان واليمين، والشاهد والنكول، والمرأتان والنكول، واليمين والنكول، وأربعة إيمان في اللعان، وخمسون يمينا في القسامة، والمراتان فقط في العيوب المتعلقة بالنساء، واليمين وحدها بان يتخالفا ويقسم بينهما فيقضى لكل واحد منهما بيمينه، والإقرار وشهادة الصبيان والقافة وقمط الحيطان وشواهدها واليد، ينظر: الفروق للقرافي (4/83)
(2) أخرجه الطبراني في مسنده بسند حسن.(46/5)
5-القسامة: تعد القسامة بينة في إثبات الدعوى على الجاني، والقسامة خمسين يميناً يؤديها أولياء الدم.
6-العرف فللعرف تأثير في تعيين الشيء الذي تنازع عليه المتخاصمان ولو تغيرت العادة وزال هذا العرف مع الزمن، يزول معه هذا الأثر، ومن أمثله ذلك: يجوز تغير الأحكام بتغير الأعراف، ومنه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق فيقدم قول الزوج حسب مقتضى العرف وان كان العرف يقضي بالتنصيف حكم بالنصف وهكذا..
ومن الأمثلة كذلك إذا تداعى الزوجان متاع البيت فما يقضي به العرف انه مما تأتي به المراة حكم لها به، وان كان مما يأتي به الرجل حكم به له، ولعل التفصيل بين البلدان والأقاليم والعمل في كل بلد بموجب ما جرت عليه أعرافهم، فقد يكون أثاث البيت مما تأتي به المراة وقد يكون مما يأتي به الرجل.
وليس للقاضي أن يحكم بعلمه لان منعه هو الأوفق بمقاييس الحق والعدل، وذلك نظراً لضعف الوازع الديني وفساد الضمير في كثير من الناس وطغيان حب المادة على النفوس، حتى أصبح علم القاضي الشخصي مكتنفا بالظنون والريب، حتى قال الفقيه الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه، قال تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } (1) وقال عليه السلام إنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم يكون الحن بحجته من الأخر فاقضي له على نحو مما اسمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعه من نار)(2)
وإذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام لا يحكم إلا بالحجة والبرهان، ولا يحكم بعلمه الذي يكون معتمداً على الوحي الإلهي فان غيره من البشر من باب أولى وأحرى.
القرائن:
__________
(1) النساء 058
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصوم، باب موعظة الإمام للخصوم، ح(6634)(46/6)
تحتل القرائن في العصر الحاضر منزلة متميزة عما كان لها في الماضي، يوم أن كان ينظر إليها على أنها لا تصلح للاستدلال: لا بسبب تطرق الاحتمال إلى دلالتها، فحسب، ولكن لأنها كذلك ليست من الأدلة الجديرة بالاعتبار، والتي يحق أن تبنى عليها الأحكام.
غير أن هذه النظرة الظالمة تبدلت، فاعترف القضاء بأن القرائن لا تومئ إلى الأمر المستهدف من الإثبات، فحسب، وإنما إذا توافرت لها مقوماتها، فإنها تصلح لأن تكون دليلا قائما بذاته، يغني عن سواها من الأدلة الأخرى.
ثم تطور الأمر لصالح القرائن، فاشتد التمسك بها، وكان من دوافع ذلك ما ران على الذمم من فساد، وما ابتليت به الشعوب من ضعف في الوازع الديني، مما أصاب الأدلة التقليدية المباشرة في مقتل، فأفقدها الكثير من صدق الواقع، وألبس الإقرارات وأقوال الشهود ثوب الكذب والخديعة في حالات عديدة، ونزع عن الحلف هيبته، فأصبح الحالفون لا يبالون بجرم اليمين الغموس في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد واكب ذلك ما تحقق من طفرات علمية، كانت سلاحا ذا حدين: منحت بأحد الحدين للجناة الوسيلة التي تتيح لهم الهروب من العدالة، ومنحت بالحد الثاني للحاكم المكنة في التعرف على العصاة وتتبعهم وإنزال القصاص العادل بهم.
ومن ثم فقد أصبحت دراسة القرائن أمرا تستوجبه التطورات الاجتماعية والنفسية والأمنية، كما أصبحت ضرورة لمجابهة متطلبات العصر ومستحدثاته، فالقرائن لا يمكن الاستغناء عنها في إثبات الوقائع المادية التي تمثل جانباً هاماً ومؤثرا في الدعاوى القضائية، سواء أكانت وقائع طبيعية مجردة، كمرور الزمن والحريق، أم كانت من فعل الجماد أو النبات أو الحيوان كالجوار ونضوج الثمر وإنتاج الماشية، أم كانت وقائع مادية تتداخل فيها الإدارة البشرية على نحو أخر كالأعمال غير المشروعة والجرائم الجنائية.(46/7)
…ولا ريب أن هذه الوقائع المادية مما يتعذر إعداد الدليل بشأنها مسبقاً، وقد يتعذر الدليل المباشر عليها، أو يتعسر لاسيما حين يعمد مرتكبو الوقائع الجنائية إلى الإمعان في التخفي فلا يشهد جرمهم احد، أو الإمعان في الجرأة على الحق فلا يعترف الجاني الحقيقي بما اقترفته يداه، مما لا يكون معه أمام القاضي للوصل إلى الحقيقة التي يبتغيها إلا إن يعمد إلى الوقائع المرتبطة في محاولة لاستنطاقها، والاستدلال بها على ما قد يكون لازماً أو مرتبطا بها، مما قد يغفل عنه الجاني أو لا يدرك ما تدل عليه, وفضلا عن ذلك فان التقدم العلمي في العصر الحاضر قد زاد القرائن أهمية بالنسبة للوقائع المادية ذلك لان الإجرام اسبق دائما إلى الاستفادة بالتطورات العلمية لاسيما مع اتجاه الجريمة إلى العالمية والدولية، والانتظام في عصابات دقيقة التنظيم جيدة التدريب حريصة كل الحرص على أن تفوز بالغنيمة دون أن تترك ما ينم عنها أو يكشف عن أفرادها، ومن ثم فقد أصبح من الضروري مجابهة العلم بالعلم واستخدام وسائل الكشف المعدة سلفاً أو المصاحبة للجريمة أو اللاحقة عليها ليتسنى بهذا دحض الأساليب الإجرامية المبتكرة ولن يكون ذلك إلا عن طريق الاستعانة بالقرائن في الإثبات.
تعريف القرينة، وأقسامها، وحكم العمل بها،
مفهوم القرينة:
القرينة مشتقة من الاقتران والمصاحبة. اقترن الشيء بغيره، صاحبه، ويقصد بها: كل أمر يدل على المطلوب، قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } (1)
وفي الاصطلاح: استنباط واقعة مجهولة من واقعة معلومة لعلاقة تربط بينهما.
__________
(1) الزخرف 36(46/8)
وتكون القرينة وسيلة من وسائل الإثبات إذا كانت قاطعة فتكون القرينة- حينئذ- الأمارة البالغة حد اليقين، أو هي البينة الواضحة التي يصبح بها الأمر المدلول في حيز المقطوع به، أو هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه، أو هي الحال التي تظهر على الشخص.
أما إذا كانت القرينة ضعيفة أو غير قاطعة فإنه يستأنس بها فقط وتكون مجرد احتمال.
فالمتصور أن هناك واقعة يراد إثباتها كتلك التي تشكل أركان الجريمة الجنائية أو تشهد بنسبتها إلى فاعلها أو التي هي مصدر الحق المدعى به في الإثبات
…أ الأدلة على مشروعيتها:
1-…قال تعالى: { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } (1) لما أراد إخوة يوسف- عليه السلام- أن يجعلوا الدم علامة صدقهم قرن الله سبحانه وتعالى بهذه العلامة علامة أخرى تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يعقل أن يفترس الذئب يوسف- عليه السلام- وهو لابس قميصه ويبقى القميص سليما دون تخريق أو تمزيق؟!. فإن يعقوب- عليه السلام- استدل على كذب أولاده بسلامة القميص وعدم تمزيقه.
واستدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه.
2-…قال تعالى: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (2) ففي هاتين الآيتين دليل واضح على العمل بالأمارات فإن الملك العزيز حينما رأى قميص يوسف- عليه السلام- مقدودا (مشقوقا) من الخلف استدل على أن زوجته هي التي راودت يوسف وأنه امتنع منها وفر من وجهها فمسكت بطرف قميصه لتمنعه من الفرار مما أدى إلى قده، واعتبر قد القميص قائما مقام الشهود.
3-…قال تعالى: { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } (3) ، والسيما العلامة، وقد ورد لفظ (سيماهم) ست مرات في القرآن الكريم.
__________
(1) يوسف 18
(2) يوسف 026-27
(3) البقرة 273.(46/9)
4-…قال عليه الصلاة والسلام: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها صمتها )(1) فجعل الرسول صلي الله عليه وسلم صمت البنات (أي سكوتها) قرينة على الرضا، ويعتبر هذا الحديث الشريف من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن.
5-…روى الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من حديث مطول بأن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر. فقال لهما رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله ))(2) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح .
فإن نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى السيفين إنما ليرجح من القاتل، بما يراه من أثر الطعان وصبغ الدم فأعطى السلب لابن عمرو لوجود علامات تشير إلى أن سيفه أنفذ مقاتل أبي جهل فكان هو المؤثر في قتله.
وعليه فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (( كلاكما قتله )) تطييبا لنفس معاذ ابن عفراء لأن له بعض المشاركة في قتل أبي جهل.
6- روى الصحابي زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: (( عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإذا جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه. وإلا فهي لك )(3)
ففي هذا الحديث الشريف دليل على أنه يجوز للملتقط أن يرد اللقطة إلى من وصفها بالعلامات المذكورة من غير أن يحتاج إلى الإتيان بالبينة على أنها له.
…ويعقب ابن قيم الجوزية بقوله: (الصحيح الذي دلت عليه السنة: أنه لا معارض لها، إن اللقطة إذا وصفها واصف بصفة تدل على صدقه دفعت إليه بمجرد الوصف فقام وصفه لها مقام الشاهدين بل وصفه لها بينة تبين صدقه وصحة دعواه).
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاكراه، باب لا يجوز نكاح المكره،ح6433.
(2) أخرجه البخاري كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ح2908
(3) أخرجه البخاري كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب،ح2199.(46/10)
ويقول: (....بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة)
…أمثلة تطبيقية على القرينة القاطعة:
هناك عشرات الأمثلة تفيد الحكم بالقرينة القاطعة مبثوثة في كتب الفقه ونكتفي بإيراد ثلاثة منها:
1-…إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس- وليس ذلك عادته- وآخر هاربا أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة. حكمنا لمكشوف الرأس بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف.
2-…إذا خرج شخص من دار خالية خائفا مدهوشا وفي يده سكين متلوث بالدم وكان في الدار رجل مذبوح في ذلك الوقت فلا يشتبه في كونه قاتل ذلك الرجل، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الأخرى كأن يكون الشخص المقتول ربما قتل نفسه أو ربما قتله آخر ثم تسور الحائط.
3-…إذا رأيت رجلا فقيرا يحمل صرة فيها بعض الأموال- وسبق له أن دخل دار أحد الأغنياء- ثم رأيته بعد ذلك يتنازع مع صاحب الدار في المال المذكور فالقول لصاحب الدار لا للذي يحمل الصرة.
ولكن إذا ظهرت بينة تدفع القرينة القاطعة فيحكم بموجبها.
……أقسام القرائن:
…إن من يتتبع الفقه الإسلامي في تطبيقاته المتناثرة للقرائن يكشف عن منهج واضح جلي ظاهر المعالم، يستطيع القاضي أن يسترشد به حين يعز الدليل المباشر أو يقصر عن حد الكفاية.
فقد أفسح الفقه في هذه الحالة للقاضي أن يكتفي في التدليل على وجود الواقعة المراد إثباتها بالتحقق من ثبوت واقعة أخرى تقترن بها أو ترتبط معها بحكم الغالب الراجح من الأمور، دون التفات بالحالات النادرة التي يتخلف فيها هذا الغالب طالما أن من حق من يضيره هذا الاستنتاج أن يثبت عدم مطابقته للواقع في الحالة المعروضة على القضاء بوصفها من الحالات النادرة.
والقرائن قسمان: قرائن قانونية، يقررها القانون بنص فيه، وقرائن قضائية يستنبطها القاضي من وقائع الدعوى وظروفها، وله حرية واسعة في تقديرها.(46/11)
عناصر القرينة القضائية:
تقوم القرينة القضائية على عنصرين أساسيين:
الأول: عنصر مادي، وهو الواقعة الثابتة التي يختارها القاضي بحرية واسعة.
الثاني: عنصر معنوي، وهو عملية استنباط يقوم بها القاضي ليتوصل عن طريق هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة الأخرى المجهولة المراد إثباتها.
ويختلف استنباط القضاة باختلاف مداركهم وسلامة تقديرهم للوقائع. فمنهم من كان استنباطه سليما، فيستقيم الدليل معه، ومنهم من يتجافى في استنباطه عن منطق الواقع.
…ولا ريب أن الأمر قبل ذلك وبعده مرجعه إلى إعمال الفكر على هدي الاستعداد الفطري والخبرات العملية مما تتفاوت فيها الأفهام وتختلف عليه العقول.
حجية القرائن، ومجال العمل بها
يرى فريق من الفقهاء أن القرينة من وسائل الإثبات، بل يرى البعض أن القرينة أقوى من البينة والإقرار فالقرينة القاطعة تعتبر من طرق الحكم
وقد لا يكون من المناسب- في مثل هذا البحث المحدود- أن نقف طويلا أمام حجية القرائن في الفقه الإسلامي، فالأمر مفصل فيما كتب من رسائل ومؤلفات والقول باعتبارها وسيلة صالحة للإثبات هو رأي الجمهور، وقد ترسموا فيما قالوه ما أقره النبي صلي الله عليه وسلم من استدلال بالقرائن في المسائل المدنية كاللقطة والقافة، أو في المسائل الجنائية كالقسامة، كما استوحوا فيما انتهى إليه ما ورد في القرآن الكريم من لوث في دعوى العرض، كما في قصة يوسف عليه السلام،
قال تعالى: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (1)
__________
(1) يوسف 026-027)(46/12)
أو لوث في دعوى المال كما في شهادة أهل الذمة على المسلمين بالوصية في السفر، كما في سورة المائدة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (1)
…إن الفقه عندنا يعطي للقرائن حقها في الإثبات لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، فهو يهمل دلالتها إذا كانت موهومة ويعتبرها إذا كانت متفقه مع الغالب الراجح ولم يقم دليل على ضدها، فإذا اتصلت بإثبات الجرائم فانه يتطلب أن تبرأ من الشبهات وعلى الأخص إن كانت دليل إدانة في الحدود والقصاص.
__________
(1) المائدة 106-108)(46/13)
…فالفقه إذن رائد في شان القرائن الذي يجعل للقاضي التقاط الوقائع التي تعتبر إمارة عليها واستنباط الدليل المستفاد منها لا يحدد مصادر معينة وإنما يترك التقدير للقاضي مما يسمح له بان يستفيد من خبرت البشرية، ومنجزات العلم، وتطور المعرفة، وهي أمور أعانت القضاء كثيراً في الوصول إلى الحقيقة، وعلى الأخص عندما يعز لدية الدليل المباشر بحكم طبيعة الأمر المعروض في الدعوة، كما في بعض المسائل المتصلة بالنسب، أو بحكم ما يعمد إليه الجناة من طمس للحقائق أو تضليل وتعمية في الطرق الموصلة لها.
الإثبات بالوسائل المستحدثة
نظراً للتطور الهائل والثورة العلمية التي وصلت إليها المعرفة تفنن المجرمون في طرق مختلفة في اقتراف جرائمهم. وكذلك رجال الأمن تفننوا في طريقة معرفة الجناة بوسائل حديثة تتناسب مع تطور الجريمة والمجرمين.
ولقد أدخل العلم الحديث- في سبيل مكافحته للجريمة صورا من الوسائل خاصة في مجال الإثبات في المواد العقابية، ولقد علق القضاء عليها أهمية كبيرة في حصر التهمة والتوصل إلى الجاني، و من هذه الوسائل:
1-…الكتابة
2- الفحص الطبي الشرعي.
3-…الآثار.
4- البصمات.
4-…الكلاب البوليسية.
5-…تحليل الدم والبول.
6-…التصوير الفوتوغرافي.
7-…تسجيل الصوت.
أولا- الكتابة:
…احتلت الكتابة مكانة فريدة بين طرق الإثبات، بعد شيوعها وتيسر وسائلها؛ بسبب مزايا الكتابة، ومن أهم ما تتميز به:
1-إمكانية بقائها، واستمرارها دون أن ترتبط بكاتبها، أو موقعها.
2-فساد الذمم الذي قد يغري بشهادة الزور، فضلاً عن أن ذاكرة الشهود مع تقادم العهد على الواقعة تقصر عن استيعاب تفاصيل الوقائع.
المستندات الرسمية: هي المحررات الكتابية التي تصدر من الدوائر الرسمية الحكومية وما في حكمها من المؤسسات العامة التي تخضع لسلطان الدولة وأنظمتها.
……ولفظ المستندات يرادف لفظ الحجج، أو الأدلة الكتابية أو المحررات، فكل هذه الألفاظ أسما لمسمى واحد.(46/14)
……أنواع المستندات: تتنوع المستندات الرسمية إلى أنواع كثيرة من أهمها:
1-الأوراق الرسمية الصادرة من الدوائر الشرعية ويقصد بها المحاكم، ومن أبرزها الصكوك سواءً كانت متضمنة حكما أو صلحاً أو إثبات ولاية على من كان ممنوعاً من التصرف بجنون أو صغر أو سفه أو إثبات حصر ورثة.
…كذلك المكاتبات والخطابات الشرعية الصادرة من الدوائر الشرعية كعرائض الدعوى، وأوراق المحضرين والإعلانات القضائية.
2-الأوراق الرسمية الصادرة من مكاتب التوثيق وهي ما تسمى في المملكة بكتاب العدل، وهذه التسمية مستمدة من قوله تعالى(وليكتب بينكم كاتب بالعدل)البقرة:282.
3-الأوراق الرسمية التي تصدر عن الدوائر غير القضائية مثل: أوراق قيد المواليد والوفيات، وشهادات الميلاد، والوفاة، والشهادات الدراسية، وحفائظ النفوس، وجوازات السفر. وجميع الأوراق التي تصدر من جهات حكومية.
4-الصور الفوتوغرافية للأوراق الرسمية والمختوم عليها طبق الأصل فمتى كانت مصدقة ومعتمدة من جهة رسمية وبختم الدائرة المحررة للورقة الأصلية وتوقيع موظف مسؤل فيها الشرح بما يفيد مطابقتها للأصل، ولا يوجد في شكلها الخارجي ما يدعو للشك فيها فهي ورقة رسمية.
……شروط العمل بالأوراق الرسمية:
1-أن يقوم بكتابة الورقة موظف عام:وهو الشخص الذي تعينه الدولة للقيام بعمل من أعمالها سواء كان بأجر كالموثق والمحضر، وسائر الموظفين في الوزارات والمصالح الحكومية، أو كان بغير أجر كالمأذون، أو كان شخصاً مكلفاً بخدمة عامة، كالخبير فيما يتعلق بالمهمة التي تنتدبه المحكمة من أجلها.(46/15)
2-سلطة الموظف العام في كتابة الورقة، واختصاصه بها والمقصود بتحرير الموظف العام الورقة الرسمية في حدود سلطته، أن يقوم بتحريره الورقة في أثناء بقاءه على رأس العمل، فإذا كان تحرير الموظف بعد صدور قرار عزله أو نقله أو وقفه أو إحالته للتقاعد وإبلاغه هذا القرار، فما يحرره يعتبر باطلاً، وليس له صفة الورقة الرسمية. ويقصد باختصاصه بكتابة الورقة الرسمية؛ أن يكون مختصاً بتحرير الورقة من حيث نوعها ومكانها وزمانها.
3-أن يكون تحرير الورقة طبقاً للقواعد المقررة: فلكل نوع من الأوراق الرسمية قواعد يلتزم بها الموظف المختص في كتابة الورقة الرسمية حتى تعد رسمية، ومن أهم هذه القواعد:
أ )التأكد من شخصية أصحاب الشأن وأسماء آبائهم وأجدادهم لآبائهم وصناعتهم ومحال ميلادهم وإقامتهم وأسماء وكلائهم وحدود سلطاتهم ويتم التحقق من شخصية الأطراف إما بشهادة شاهدين مكلفين، معروفين للموثق أو بالبطاقات الرسمية.
ب )أن يكتب المحرر بلغة معتبرة بالبلد وبخط واضح لا يشتمل على إضافات أو تحرير أو كشط.
ت )أن يشتمل بالإضافة إلى ما سبق على ذكر السنة والشهر واليوم والساعة التي تم فيها التوثيق واسم الموثق ولقبه ومسمى وظيفته.
ث )يقوم الموثق بتلاوة المحرر ومرفقاته على أصحاب الشأن قبل توقيعهم عليه وأن يبين الأثر المترتب عليه دون أن يؤثر عليهم.
ج )أن يتم التوقيع من جانب أصحاب الشأن والشهود والموظف المختص وأن يتم التوقيع على كل صحيفة إن تعددت الصحائف.
ح )أن يحفظ في الدائرة التي خرج منها المحرر أصل المحرر الذي توثق ونسخ صور منه؛ لتسليمها لذوي الشأن ويؤشر الموثق بالتسليم على المحرر .(46/16)
وقد تعرضت أنظمة المملكة لبعض هذه الشروط؛ ومن ذلك(المادة 184 من نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي الصادر بالمرسوم الملكي رقم 109في 24/1/1372هـ) من أنه يجب على كاتب العدل أن يرصد الإقرارات والعقود وما عطف على ذلك بخط وقد صدر المزيد من البيان والتفصيل وتوزيع المسئوليات في اللائحة الصادرة في 17/5/ 1425هـ وقد جاء فيها ما يلي: يختص كاتب العدل بتوثيق العقود والإقرارات الشرعية، وإصدار الصكوك المتعلقة بها وفق ما تقضي به الأصول الشرعية والأنظمة المرعية، وما تسنده الوزارة إليه مستقبلاً ما لم ينص نظام أو تعليمات على استنثاء شيء منها ومن بين هذه العقود والإقرارات التي يختص كاتب العدل بتوثيقها ما يلي:
1-انتقال ملكية العقارات.
2-الرهون وفكها.
3-عقود الشركات.
4-تسلم المبلغ والتعويضات.
5-قبول المنح السكنية والزراعية.
6-الوكالات المبنية على الإقرار.
7-فسخ الوكالة أو العدول عنها سواء من قبل الوكيل أو الموكل.
8-الوصايا أو الرجوع عنها.
9-التنازل عن مبالغ أو أعيان أو جنسية .
10-الكفالة وفكها.
11-قسمة التراضي بين البالغين.
وهذا الإعلام يلخصه كاتب الضبط ويبيضه ثم يوقع من القاضي ويتولى المسجل تسجيله وهو ما يسمى بالصك الشرعي الذي يحال لهيئة التمييز عند الاقتضاء أو يعتمد لتنفيذه.
إذن فالمحرر الرسمي إذا اجتمعت فيه الشروط السابقة، وكان مظهر المحرر ينبيء بسلامته المادية، فليس فيه كشط، ولا تزوير، وصدر من الأشخاص الذي وقعوا عليه،(46/17)
كان المحرر حجة، يتعين الأخذ بها وبناء الحكم عليها، دون الحاجة إلى الإقرار، فلا يطلب ممن يتمسك به أن يقيم الدليل على صحته، لأنا إذا كنا نقبل الشهادة، لأنها إخبار بحق على الغير، ولأنها لا تفيد الشاهد في شيء وإنما يعتبر بعيداً عن موضع النزاع، فلا أقل من أن تقبل الكتابة التي يدونها شخص ثالث لا علاقة له في موضوع النزاع، وإنما يعمل في وظيفة عامه، ويتلقى الوقائع، والإقرار بالحقوق ويدونها،
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } (1) .
……والورقة الرسمية حجة على الناس كافة، ومن ثم لا تقتصر حجة الورقة الرسمية على أطرافها فحسب فهي حجة على الغير، وهذا هو المعمول به في المملكة إذ تنص المادة 96 من نظام القضاء السعودي، والمادة 93 من نظام تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية أن الأوراق الرسمية لها قوة الإثبات، ويجب العمل بمضمونها أمام المحاكم دون حاجة إلى بينة إضافية، ولا يجوز الطعن فيها إلا تأسيساً على مخالفتها لمقتضى الأحوال الشرعية أو تزويرها.
…ومن المستندات الخطية أيضا: الرسائل، والبرقيات، واللاقط(الفاكس).
…الرسائل: من المستندات غير الموثقة وهي محرر يوجهه شخص هو المرسل إلى آخر هو المرسل إليه وفي الغالب تذييل بتوقيع المرسل، وقد تتضمن ما يفيد إثبات حق أو استيفاءه.
…ومتى كانت الرسالة بخط المرسل وتوقيعه فتكون من المستندات العرفية وتكون حجة، يتقدم بها الشخص إلى القضاء.
__________
(1) البقرة 282)(46/18)
…البرقيات: البرقية رسالة مختصرة بين نقطتين موصلتين معا بخط تلبرنتر ولها برمجة خاصة، وهي موجهة من شخص إلى آخر بواسطة دائرة البريد التي تحفظ بأصلها، وترسل صورة عنها إلى المرسل إليه.
…والبرقية تعد من وسائل إثبات الدعوى متى كان أصلها بخط المرسل وتم التوقيع عليها أمام الموظف المختص فتكون قوة الحجية في الإثبات كقوة حجية الرسالة الموقعة
…وهناك إجراءات متبعة في تلقي البرقيات في المملكة تتمثل فيما يلي:
1-كتابته من قبل المرسل على نموذج رسمي في مكاتب القبول.
2-استيفاء عنوان المرسل إليه كامل إلا إذا وقع المرسل على النموذج أنها مرسلة على مسؤوليته.
3-التوقيع من قبل المرسل.
4-تقبل البرقية من مرسلها شخصياً أو من ينوب عنه.
5-يتعين على مأمور مكتب القبول إثبات بطاقة المرسل الشخصية، أو بطاقة من ينوب عنه، وأن لا يتم قبول البرقيات أو تحصيل الرسوم عليها إلا بعد مطابقة عناوين البرقيات المرسلة إلى المورد خارج المملكة، وذلك على قائمة عناوين التوزيع المتداولة لدى مكاتب البرق الصادرة عن الاتحاد الدولي.
اللاقط(الفاكس) : وهو إرسال صورة طبق الأصل من المستند بما في ذلك توقيع من صدر منه، ولهذه الصورة من القوة في الإثبات، مثلما للصورة المقدمة من الخصم للقاضي مباشرة؛ لان هذه الصورة أصلها لدى المرسل فبإمكان القاضي الإطلاع على الأصل للمطابقة ومن ثم الحكم بموجبها.
من وسائل الإثبات محضر الشرطة: هو الأوراق التي يحررها الموظفون المختصون بما يقفون عليه من أمر الجريمة، وظروفها، وأدلتها وفاعليها.
…الأسس الواجب توافرها في المحضر:(46/19)
1-يتم التحقيق في محاضر التحقيق الرسمية وأن يؤرخ باليوم والشهر والسنة بالتقويم الهجري القمري، أو التقويم الشمسي(الميلادي) إن كان الاتهام يتناول أشخاصا أجانب، ويبين عدد الأوراق التي شملها المحضر، ومشفوعاته، مثل: الإجراءات المتخذة في القضية كمحاضر التفتيش، والمعاينة إذا قام بها شخص أو أكثر مثل التقارير الطبية والفنية والصور الخاصة بالحادث.
2-تعريف باسم المحقق ورتبته ووظيفته، وإذا كان التحقيق يجري بمعرفة لجنة فيرفق صورة من قرار تشكيل اللجنة.
3-يذكر في المحضر اسم المقر واسم أبيه، وجده ولقبه، وقبيلته وصناعته، بموجب حفيظة النفوس، وتدوين الرقم والتاريخ والمصدر إن كان مواطناً، وإذا كان أجنبيا فتثبت المعلومات الموجودة في جواز السفر.
4-أن تكون الكتابة في أوراق مسلسلة الأرقام.
5-أن تكون الكتابة بخط واضح، مع تجنب الكشط و الإزالة، وان تكون العبارات واضحة ذات معنى واحد.
6-إذا تبين بعد إملاء صاحب الإفادة بأن جملة، أو كلمة قد سقطت سهواً: توضع إشارة بنفس المكان، ومثلها على الهامش المقابل وتكتب بازائها الكلمة، أو الجملة الناقصة ويكتب تحتها عدد كلماتها بالتحديد ويوقع صاحب الإفادة والمحققون تحتها.
7-يثبت المحقق حالة المتهم والمضبوطات الموجودة معه.
8-إن يباشر العمل مع المحقق كاتب يحرر المحضر وشهادة الشهود، على أن يثبت في المحضر حقيقة وجود الجناية وكيفية وقوعها، وحالة المحل الذي وقعت فيه.
9-بعد استكمال إفادة المتهم والشهود يجب اخذ توقيعهم على أقوالهم بخط أيديهم، ولا بد أن يتم التوقيع على كل صفحة من صفحات التحقيق؛ وذلك إبعادا لأي شبهة في مظنة التزوير.
…ويعتبر محضر التحقيق ورقة رسمية مادام انه محرر بمعرفة موظف رسمي في حدود السلطة المخولة له بمقتضي الأنظمة، أما صحة مادون به من معلومات فهو أمر يرجع إلى ما ينتهي إليه الرأي في المحكمة الشرعية.
ثانياً:من وسائل الإثبات الفحص الطبي الشرعي:(46/20)
…الطب الشرعي فرع من العلوم الطبية وهو يختص بإبداء الرأي في النواحي الطبية التي تهم القاضي والمحقق في بعض الدعاوى والتي يمكن إثباتها بالفحوصات الطبية وتشريح الجثة.
…وللطب الشرعي دور بارز في مجال الإثبات سواء كان في مجال الجنايات أم الأحوال الشخصية وغيرها، والطب الشرعي تطبيق لجميع العلوم الطبية، والعلوم ذات الصلة في حل المسائل والمشكلات التي تعرض للقضاء ومنها:
1-قضايا أخطاء مهنة الطب والصيدلة، فالطب الشرعي هو الحكم بين الطبيب، والمريض في مثل هذه القضايا؛ حيث يرفع المريض أو أهله دعوى قضائية ضد الطبيب، وذلك بسبب إهمال في التشخيص أو خطا في العلاج، أو عدم دراية علمية بأحدث ما وصل إليه الطب.
2-فحص المسجونين في حالة ادعاء مسجون بأنه مريض بمرض يتعارض مع سجنه.
3-فحص بعض حالات الجنون وأصحابها متهمون في قضايا قتل جنائية(يدعي المجرم الجنون حتى لا يعاقب).
4-التعرف على المجهولين من الأحياء الذين يهربون من العدالة ويغيرون ملامحهم، والتعرف على المجهولين من الأموات فتفحص جثثهم لمعرفة سبب وفاتهم ويتم التعرف عليهم عن طريق بصمات الأصابع، وتحليل DNA.
5-فحص المتهم والمجني عليه في جرائم الزنا واللواط.
6-فحص من اتهم بتناول مادة مسكرة أو مخدره بتحليل دمه.
7-إثبات العيوب بين الزوجين والتي لا يمكن معرفتها إلا بالفحص الطبي.
8-فحص الشخص المشتبه في نسبه بمقارنة فصيلة دمه بدم المدعين له.
ونظراً لما للطب الشرعي من أهمية فقد أنشئت في أغلب مستشفيات مدن ومناطق المملكة مراكز للطب الشرعي، يتولى الأشراف علي كل مركز طبيب شرعي بمثابة الساعد الأيمن للقضاء بمده بالمعلومات الدقيقة التي لها دلالتها في تحديد مقدار الجريمة ومرتكبها بالمساعدة والتعاون مع رجال الأمن.(46/21)
…ويقوم الطبيب بإبداء رأيه في تقرير مفصل مراعياً وضوح الأسلوب، وأحياناً تناقش التقارير الطبية أمام المحاكم: إما شفهياً أو كتابياً لتوضيح ما بها حتى يمكن للقاضي إصدار حكم صحيح بناءً على حقائق طبية علمية ثابتة.
………
……ثالثاً: القضاء بقرينة الآثار:
…لقد ساعد التقدم العلمي على التوصل إلى معرفة المجرمين وذلك بفحص آثار الجرائم، ومتعلقات المجرمين، والاستدلال من هذه وتلك على نوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها، رغم ما يسلكه مرتكبو الجرائم من أساليب متعددة لطمس معالم الجريمة مما يخلفونه من آثار تدل على فعلهم الإجرامي.
…إن وجود الآثار المادية في مكان الجريمة يرجع إلى قاعدة علمية أساسها أن كل جسم يترك جزءا من مادته، أو شكله على أي جسم آخر عند ملامسته له، ويتوقف ذلك على حالة الجسمين وطريقة تلامسهما، وتختلف كمية هذا الجسم المنقول وحجمه حسب الدرجة التي هو عليه من حيث: الليونة أو الصلابة، أو الغازية، ولكل مادة صفات خاصة مميزة لها فلا توجد مادة تشابه مادة أخرى في صفاتها وخصائصها.
…ومهما بلغت درجة حرص المجرم على إخفاء الحقيقة فلابد أن يترك ما يدل على شخصيته بوضوح أو يتخلف منه أثر ضئيل، لا يرى بالعين المجردة يستفاد منه بواسطة التقدم العلمي في تحديد شخصيته، لذا اتجهت البحوث والدراسات الجنائية نحو الاستفادة من معطيات العصر الحديث في مجال الجريمة فاتجهت إلى البحث عن وسائل علمية حديثة لإثبات الجريمة وكشف مرتكبيها باستخلاص ما قد يوجد من آثار.
…والآثار المادية منها الظاهرة التي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة أو الإحساس بها بإحدى الحواس دون الاستعانة بأي من وسائل الكشف، ومن تلك الآثار:
……أ) آثار الشعر: نظراً لتقدم العلوم الجنائية أمكن معرفة صاحب الشعر وذلك بطرائق عده من أهمها: 1- عمل فصيلة الدم من الشعر لمعرفة فصيلة دم الشخص صاحب الشعر والمقارنة.(46/22)
2-معرفة نوع البروتين الموجود بالشعر، ومقارنته مع نوع بروتين المتهمين والربط بين المتهم والجريمة، وهاتان الطريقتان ليست جازمة؛ لوجود التشابه بين الناس في فصائل الدم وفي نوع البروتين.
3-التحليل الإشعاعي للشعر، وهي وسيلة حديثة لمعرفة صاحب الشعر، ولو لشعرة واحدة تركها المجرم في مكان الجريمة.
4-لمعرفة صاحب الشعر فإن ذلك يتم بعمل بصمة الحمض النووي لكل من الشعر المعثور عليه والمتهم ومطابقة النتيجة.لان فرصة التشابه في بصمة الحمض النووي غير واردة، لان لكل إنسان الصفات الوراثية الخاصة به منذ نشأته وتبقى معه حتى مماته ولا تتشابه مع شخص آخر مهما بلغت درجة القرابة من القوه.
……ب) آثار المقذوفات النارية(الأسلحة): بشيوع استخدام الأسلحة النارية وسهولة تداولها ونقلها وإخفائها وتأثيرها الشديد على الجسم، فإنها أصبحت أداة مهمة من أدوات الإجرام ووسائله، ويعد السلاح الناري في مقدمة الوسائل المستخدمة في ارتكاب جرائم القتل والتهديد وحوادث الانتحار.
…وتعد آثار المقذوفات والظروف الفارغة تفيد في التعرف على نوعية السلاح المستخدم في تنفيذ الجريمة، والتعرف على شخصية مرتكب الجريمة لان شكل جروح الإصابات النارية يختلف باختلاف نوع الآلة التي أحدثتها والمسافة التي أطلق منها العيار الناري، وكمية البارود المستعملة ونوعه.
…وتبدو أهمية آثار الأسلحة النارية بمكان الجريمة في الوضع الذي يوجد عليه السلاح مما يفيد في التمييز بين جريمة القتل والانتحار، وقد يعلق بالسلاح آثار من المجني عليه أو الجاني أو المكان الذي عثر عليه فيه، ولا تقتصر آثار الأسلحة على السلاح نفسه ولكن تشمل أيضا نواتج الإطلاق من المقذوف والبارود المحترق، والغازات التي يمكن من وضعها استنتاج اتجاه الإطلاق وخط سير الطلقة ومسافة الإطلاق والمدة التي مضت على الإطلاق.(46/23)
…ويمكن استخدام اله الكشف عن المعادن وهي عبارة عن جهاز يعمل على مبدأ الساحة الكهرطيسيه معطياً ذبذبات معينة بواسطة مؤشر على الجهاز يستدل على وجود جسم معدني في المنطقة المبحوث فيها.
…فعند تحريز السلاح ترفع الآثار العالقة به: كالشعر والدم الجاف والألياف، والبصمات، ويرسل للمعمل للفحص.
…ج) آثار الإقدام: هو الشكل الذي يتركه القدم عند ملامسته لجسم قابل للتأثر مثل الرمال والطين والتراب الناعم أو الذي يطبعه القدم على سطح جسم آخر بمادة تكون عالقة به مثل الدم والماء والتراب.
…ولهذا على المحقق أن يتحرى عن آثار الأقدام في الطرق المؤدية إلى مكان الجريمة، والأمر يتوقف على قوة ملاحظة المحقق ومدى إدراكه وانتباهه فقد توجد آثار لا يعيرها أي انتباه، وقد يدرك أهمية هذه الآثار، فيعمل على المحافظة عليها، ويأمر برفعها وإجراء المضاهاة عليها.
…وقد تختلط آثار الجاني بآثار أقدام آخرين مما لا صلة لهم بالجريمة فيتعذر على المحقق تمييزها، لذا كان لزاماً الاستعانة بقصاصي الأثر، وهم جماعة من الناس يعرفون بالقافه(1)،
…القيافة: اسم لاقتفاء الأثر، ومتتبع الآثار يقال له: قائف، وجمعه: قافة، كبائع وباعة، وقاف أثره: تبعه.
__________
(1) القافة: جمع قائف وهو مشهور بقوة الفراسه ومعرفة الأثر والشبه كما جاء في قصه مجزز المدلجي عندما رأى كل من زيد بن حارث وابنه اسامه ملتحفان بقطيفه وقد بدت اقدامهما : فقال إن هذه الإقدام بعضهما من بعض وكان زيد ابيض اللون واسامة ابنه اسود اللون رضي الله عنهم، فسر المصطفى عليه الصلاة والسلام ودخل بيته تبرق اسرير وجهه .. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب سرية عبد الله بن حذيفة.(46/24)
…والقائف هو الذي ينظر بفراسته في وجوه الشبه بين شخصين ليعرف بينهما النسب في الأبوة والبنوة والأخوة، لان الفراسة تقوم على الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية على سبيل الظن والتخمين، وتستند إلى ما يفيض الله به على عباده من نور البصيرة، وقد تعتمد على وحي الضمير والإلهام النفسي وقوة الحدس أكثر مما تعتمد على الماديات.
كما تشمل القيافة: ملاحظة أقدام المارة من الناس، وأخفاف الإبل، وحوافر الدواب والتمييز بينها.
حتى أن القائف يميز بين آثار قدم الشاب و العجوز، وبين آثار قدم المرأة المتزوجة من غير المتزوجة.
وتعتبر القيافة علما مستقلا قائما على الحدس والتخمين والممارسة، ولا يؤخذ هذا العلم بالمدراسة والتعلم.
…والقافة لهم خبرة واسعة، وقوة فرأسه بتتبع آثار الإقدام والتمييز بينها ومعرفة أصحابها معتمدين على دقة الملاحظة وطول الخبرة والمثابرة منذ الصغر على هذا العمل.
…ولقص الأثر اصل في الشريعة الإسلامية يدل لذلك ما رواه انس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله)(1)
وجمهور الفقهاء يرون الأخذ بالقيافة وأنها وسيلة من وسائل الإثبات.
…ويستفيد المحقق الجنائي من رفع الآثار في معرفة الكثير من المعلومات أهمها:
1-معرفة عدد الأشخاص الذين كانوا متواجدين في محل الحادث عن طريق ملاحظة اختلاف أحجام آثار الإقدام.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الوضوء، باب ابوال الإبل والغنم،ح226(46/25)
2-يتضح من اثر القدم معرفة حال المجرم هل كان منتعل أم حافي.
3-يدل الأثر على الحالة والوضع الذي كان عليه الجاني .
4-تحديد زمن وقوع الحادث.
5-يدل اثر القدم على تحديد العلامات العامة والخاصة والمميزة الفردية لنوعية الأحذية.
6-معرفة سن صاحب الأثر بالتقريب فاثر صغير السن يختلف عن الكبير.
وقد أصدرت وزارة العدل تعميم بتوقيع رئيس القضاة رقم 387 وتاريخ 11/5/1380هـ وفيه إذا قرر قصاص الأثر وجود اثر المتهم في مكان السرقة فإن ذلك لا يصلح أن يكون حجة تثبت بها السرقة وإنما يعتبر قرينة، ثم إن كان المتهم معروفاً بالصلاح حلف على نفي ما نسب إليه، وخلى سبيله و إلا عزر إن كانت له سوابق سيئة.
…ثانياً: الآثار الخفية:
أ) آثار البصمات:
البصمه: هي عبارة عن خطوط بارزة دقيقة يتخللها فراغ، وتوجد في باطن اليد، وأطراف الأكف والأصابع.
ولقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن لكل إنسان بصمة خاصة به. وهذه البصمات لا يمكن أن تتطابق مع شخصين حتى ولو كانا توأمين. ومن الحقائق الثابتة أن شكل بصمة أي أصبع من أصابع الإنسان لا يتغير رسمها على الإطلاق ومدى الحياة، فقد يتغير حجم البصمة بنمو الجسم، ولكن شكل خطوطها ورسمها وما بها من مميزات يبقى ثابتا، كما ثبت أنه لا يوجد بين ملايين البشر شخصان تتماثل بصمات أصابعهما، وهذه هي الحقيقة التي تضفي على البصمات أهميتها فإذا ما وضع الإنسان يداه أو أصبعه على جسم آخر فإن أثره ما بالخطوط من إفرازات يبقى على سطح هذا الجسم متخذا شكل الخطوط بالتحديد فيقوم المعمل الجنائي برفع هذه البصمات ومضاهاتها مع بصمات أصابع المتهم.
وهذه معجزة إلهية تدل على قدرته عز وجل وأنه الخالق فقد قال الله عز وجل { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } (1) …
قيمة البصمات في الإثبات من الناحية الشرعية:
__________
(1) القيامة 003-004)(46/26)
…لم يتعرض الفقهاء للبصمة في مؤلفاتهم كوسيلة من وسائل الإثبات ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن البصمات لم تكتشف على أسس علمية في تحقيق الشخصية إلا في عام 1278هـ-1858م
وقد عمل القضاء على اعتبار أثر البصمة في مكان الجريمة قرينة على اسهام الشخص في الجريمة، فلا تثريب على القاضي إن هو اعتبر البصمة دليلا لإدانة المتهم وذلك إذا لم يستطع تفسير وجود بصمته في المكان تفسيرا معقولا يقتنع القاضي باستبعاده كدليل.
وكما كشف العلم عن امكانية تحديد شخصية الفرد عن طريق مضاهاة بصمات راحة اليد، أو آثار الإقدام أو بصمة الأسنان والاذن أو بصمات فتحات العرق أو بصمة الركبة أو الشفتين أو شبكية العين.
ب) آثار بقع الدم والبول:
…تعتبر البقع الدموية من أهم أنواع البقع التي يجدها المحقق في محل الحادث، والتي ينبغي عليه الاهتمام بالبحث عنها وفحصها نظراً لما تقدمه له من معلومات هامة مفيدة في نواحي تحقيقه، لأنها تكشف عن أمور تتعلق بالجريمة، والجاني على حد سواء وكثيراً ما تعبر هذه الآثار عن الحقيقة تعبيراً أمينا صادقاً.
…وتؤدي معرفة أماكن وجودها وهل هي من دم الجاني أو المجني عليه إلى تحديد ما إذا كان الشخص له علاقة بالجريمة أو لا، لذا يتعين الاهتمام بالبحث عن اثر الدم أو البول في الأماكن التي يحتمل وجودها فيها كجسم المتهم أو المجني عليه.
…وللبقع مدلولات كثيرة من أهمها:
1-معرفة مكان الجريمة.
2-الوضع الذي كان عليه المصاب وقت إصابته.
3-تحديد اتجاه سير المصاب.
4-وضع الجاني والمسافة بينه وبين المجني عليه.
إذا وجد على ملابس المتهم أو في محل الجريمة بقعة دم أو بول في مكان الجريمة، فيمكن تحليلها وتعتبر قرينة على إدانة المتهم، ومن ثم يمكن التحقيق معه، والقبض عليه.(46/27)
ولكن بالرغم من ذلك لا يجوز التعويل عليها وحدها لتوقيع العقاب على المتهم وإن كان الفقه الإسلامي لا يمانع في التعويل على التحاليل الطبية في الدلالة على شخصية الجاني...
ج)آثار الروائح والإثبات تتم عن طريق:
الكلاب البوليسية:
من القرائن الحديثة ما توصل إليه رجال الأمن أنه بالمستطاع التعرف على المجرمين بواسطة الكلاب البوليسية عن طريق حاسة الشم القوية التي تمتاز بها الكلاب المدربة تدريبا قويا..
فلقد دلت التجارب على أن الكلب يمكن أن يتعرف على الجاني وذلك بما لديه من حاسة شم قوية، وقد تزداد مهارة الكلب وخبرته بتدريبه والعناية به، ولقد درجت الشرطة على أخذ الكلب البوليسي إلى محل الجريمة ويدعوه يشم أثر من آثارها، كقميص المتهم أو أثره على الأرض، ثم يؤخذ إلى طابور يضم المتهم وغيره من الناس الذين لا صلة لهم بالجريمة فيتعرف على المتهم من بينهم.
والثابت أن الكلب ذو قدرة فائقة في الشم تفوق الإنسان بملايين المرات، كما انه على جانب من الذكاء والفطنة، فمتى تم تدريبه تدريبا حسنا،وإطعامه، وتهيئة الجو المناسب له مع عدم إرهاقه، أو تكليفه بما هو فوق الطاقة كانت نتائجه باهرة ، وتكون النتيجة أفضل أيضا إذا كانت القطعة التي أعطيت أكثر التصاقا بجسم صاحب الأثر.
ومن المعروف أن الشريعة الإسلامية شددت في الإثبات في مجالي الحدود والقصاص، وعلى ذلك فإنها لا تعتبر دليلا للإثبات ولكنها قرينة تسوغ لرجل الأمن القبض على الجاني والتحقيق معه.
التحليل المعملي:(46/28)
يكاد يجمع رجال القانون على مشروعية الاعتماد على نتائج التحاليل المعمليه مثل نتائج تحليل الدم والبول والمني والشعر والأتربة والسموم، وكذلك الكشف على جسم الإنسان وما به من حروق وما عليه من آثار أو تورم أو جروح، وكذلك فحص الأسلحة النارية والمقذوفات والملابس وفحص المعادن الثمينة وغيرها، وكذلك فحص لوحات السيارات وأرقامها و الأعداد المطموسة والأجهزة والعملات المزورة وغيرها.
وترجع أهمية هذه التحاليل إلى أن نتائجها صحيحة ومؤكدة طبقا للأساليب العلمية الحديثة، وقد أظهرت فوائد عظيمة وقدمت خدمات جليلة في مجال الإثبات الجنائي.
رابعاً: التصوير(الفوتوغرافي):
والمقصود التقاط الصورة أثناء ارتكاب الجريمة، ونظرا لما للصور من أهمية في مجال الإثبات فان الشريعة لا تمنع من استخدامها لهذا الغرض .
ولا ينكر احد كثرة الجرائم في كل بلد من بلدان العالم ونشاط اللصوصية وسطو العصابات واقتحام المحلات ثم انحلال الأخلاق وانتشار الفوضى وتفشي المحرمات الأمر الذي يحتم تقوية الأمن بالكفاءات العلمية والخبرات الفنية واستخدام الأجهزة الالكترونية.
فرجال الأمن هم وسيلة للقضاة في ملاحقة الجناة وتتبع الجريمة والقضاء على الفساد.
على إن يتم التقاط الصور بواسطة من عرفوا بالعدالة والصدق والأمانة والبعد عن التلفيق والتزوير، ومتى ورد على الصورة ما يريب منها لاحتمال أن تكون الصورة التقطت بقصد الضرر أو الكيد ووجود العداوة والمضارة وبدافع الغل والحقد فلا يلتفت حين إذن لمثل هذا التصوير لإمكانية إن تكون الصورة مدبلجة بان يكون المدعي قد التقط صورة لتقي أو لتقيه وركبها على صورة خليع أو خليعة قد فقد الحياء فمثل هذه الصورة لا يلتفت إليها لوجود التمويه والخداع بل يتعين معاقبة المصور المعتدي الأثم.(46/29)
إلا أن هذا ليس على إطلاقه في كل قضية، فقد يرى القاضي صدق ما تنبيء عنه الصور مما يستبعد فيه دبلجه الصور ويحتمل وقوع التصوير من المجرمين كما في قضايا الاغتصاب ونحوه، ولهذا فالصورة قد تعد قرينة قوية على ارتكاب المتهم الجريمة ولكن لا ينبغي الاعتماد عليها وحدها في إقامة الحدود بل لا بد من تعزيزها بغيرها من قرائن أخرى بعد النظر والتمحيص ومراعاة الظروف والأحوال والملابسات، وتقدير مدى قوة القرينة وهذا راجع إلى ما يتمتع به القاضي من فطنة وذكاء ودقة ملاحظة ومعرفة أحوال الناس والطرق الملتوية التي يسلكها المتخاصمون في التحايل.
سادسا- تسجيل الصوت:
والمقصود به استخدام الأجهزة في تسجيل الصوت على شرائط تحفظ ثم يبرزها المدعي كقرينة لإدانة المدعى عليه.
إن الدليل المستمد من التسجيل الصوتي يعد قرينة ضعيفة لا يدان المتهم بموجبها، ولكن يمكن الاستعانة بها لتقوية التهمة ولا سيما إذا انضمت مع قرائن أخرى، للأسباب التالية:
1-أن الأصوات تتشابه، والمقصود التشابه الظاهر للناس، والا فالأصوات تختلف من شخص لآخر قال تعالى { وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } (1) أن الأصوات يمكن تقليدها مما يصعب تمييز الصوت المقلد من الصوت المقلد.
2-إضافة إلى ما فيه من استراق السمع وجريمة التجسس وهو ما نهى عنه الشارع الحكيم.
3-أنه من الممكن فنياً إدخال تبديل وإحداث تغيير وإجراء عمليات حذف ونقل لعبارات من موضع إلى أخر على شريط التسجيل، وبذلك يصبح من السهل تغيير مضمون التسجيل.
__________
(1) الروم 022)(46/30)
4-إن عملية التشخيص الصوتي مازالت تدور في حيز الظنون والدراسات والتجارب التي لم تسفر عن أمر، ولم تثبت على حال فلا يعتبرها الشرع حجة في تعيين شخصية الفاعل؛ لان أحكام الشرع تناط بأمور ثابتة، ولا تناط بأمور مازالت لم تتبلور بشكل نهائي؛ حفاظاً على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وتحقيقاً للضروريات الخمس(1) التي جاء الشرع مقرراً لها ومحافظاً عليها,
ولا يعني هذا عدم استفادة القاضي من تلك القرينة بل على العكس، فإن التسجيل الصوتي قد يكون سبباً في انتزاع الاعتراف من المتهم، وقد تنضم إلى التسجيل ا قرائن أخرى تقوي وترجح جانب التهمة مما يجعل الاستئناس بتلك القرينة له وجاهته.
ولاستخدام التسجيل كوسيلة إثبات فلابد إن يكون من قبل سلطة التحقيق
سابعاً: الإثبات بالوسائل الالكترونية
…لقد أمكن استغلال وسائل تقنية المعلومات في أبرام العقود المختلفة وتبادل البيانات التي تتصل بالذمة المالية، واتيح بفضل ربط الحواسيب وشبكة الانترنت، التعاقد الفوري بين شخصين غائبين مكانا وإجراء مختلف التصرفات القانونية.
__________
(1) الدين، حفظ النفس، حفظ النسل، حفظ العقل، حفظ المال، ويمكن أن تكون ستاً بإضافة حفظ العرض.(46/31)
…وفي خضم البحث في قانونية التعاقد بالطرق الالكترونية وحجية مستخرجات الوسائل التقنية في الإثبات، ظهرت التجارة الالكترونية كنمط جديد من أنماط التعامل التجاري، لا في ميدان البيع والشراء وإنما في ميادين التعاقد كافة كعقود التامين والخدمات وغيرها، وأثارت وتثير التقنية العالية وتحديدا محتواها الفني والمعرفي تحديات كبيرة في ميدان نقل التكنولوجيا والتبادل الفني والمعرفي والتزام مورد التكنولوجيا ومتلقيها، وأظهرت التقنية تحديات قانونية تستلزم التنظيم بالنسبة لعقود تقنية المعلومات، التوريد والبيع والصيانة والتطير ورخص الاستخدام، وبالنسبة لعقود الوكالات التجارية والتوزيع وعقود اشتراكات المعلوماتية وخدمات الاتصال، وكان أوسع اثر لها في حقل التجارة الالكترونية و التعاقد الالكتروني.
…ولم يتوقف تأثير تقنية المعلومات على قواعد التعاقد والإثبات، بل امتد إلى كل ما يتصل باليات الوفاء بالالتزامات العقدية وفي مقدمتها آليات الدفع النقدي وأداء الالتزامات المالية محل التعاقد، وفي هذا الإطار أفرزت تقنية المعلومات وسائل حديثة لتقديم الخدمات المصرفية وإدارة العمل البنكي، أبرزها ظهر في حقل أنظمة الدفع الالكتروني والدفع على الخط وإدارة مفهوم المحفظة والبطاقة الماهرة التي تمهد إلى انتهاء مفهوم النقد الورقي والمعدني وتفتح الباب أمام مفهوم النقد الالكتروني أو الرقمي أو القيدي، إلى جانب ذلك تطورت وسائل تداول جانب الاعتماد شبه الكلي في أسواق المال على تقنيات الحوسبة والاتصال في إدارة التداول وقيده واثبات علاقاته القانونية ويشيع الآن مصطلح البنوك الالكترونية التي تنفذ خدماتها المصرفية بل وخدمات ذات محتوى غير مصرفي ضمن توجه نحو الشمولية.(46/32)
…لقد اتجهت النظم الفقهية والقانونية والقضائية بوجه عام إلى قبول وسائل الإثبات التي توفر من حيث طبيعتها موثوقية في إثبات الواقعة وصلاحية للدليل محل الاحتجاج، وتحقق فوق ذلك وظيفتين:
1- حفظ المعلومات لغايات المراجعة عند التنازع.
2- التوسط في الإثبات عن طريق جهات الموثوقية الوسوسيطه أو سلطات الشهادات التعاقدية.
…من هنا أثارت وتثير الرسائل الالكترونية عبر شبكات المعلومات كالانترنت والرسائل المتبادلة عبر الشبكات الخاصة، والبريد الالكتروني مشكلة عدم تحقيق هذه الوظائف في ظل غياب المعايير والمواصفات والتنظيم القانوني الذي يتيح توفير الطبيعة المقبولة للبينات وتحقيق الوظائف التي تجيز قبولها في الإثبات.
…وقد خضعت القواعد القانونية للتعاقد والإثبات في النظم المقارنة إلى عملية تقييم في ضوء مفرزات تقنية المعلومات وتحدياتها وذلك من اجل تبين مدى توائم النصوص القائمة مع ما أفرزته وسائل الاتصال الحديثة وتحديداً شبكات المعلومات بأنواعها.
…إن التوثق من شخص المتعاقد مرتكز تقنيات العمل المصرفي كافة إذ لا أداء لأية عملية ولا مقبولية لانفاذ أي طلب دون تحقيق ذلك، وسواء اختير الرقم السري أو التوقيع الرقمي أو التشفير، أو اختيرت وسائل إثبات الشخصية الفيزيائية أو البيولوجية أو الرقمية أو نحوها، ودون الخوض في أي من هذه الوسائل أكثر نجاعة أو كفاءة أو موثوقية، فان الأهم تخير وسيلة تقنية تفي بالغرض تحقق الارتياح في الاستخدام من طرف المتعامل ومن طرف القائمين بالعمل وتتلاءم مع البناء القانوني السائد.(46/33)
…اتجاه دولي عريض نحو الاعتراف بحجية المراسلات الالكترونية بمختلف أنواعها والاعتراف بحجية الملفات المخزنة في النظم ومستخرجات ذات المدلول التقني البحت، والإقرار بصحة التوقيع الالكتروني وتساويه في الحجة مع التوقيع الفيزيائي والتخلي شيئا فشيئا عن آية قيود تحد من الإثبات في البيئة التقنية والسنوات القليلة القادمة ستشهد تطوراً أيضا في الاتجاه نحو قبول الملفات الصوتية والتناظرية والملفات ذات المحتوى المرئي وغيرها.
…الخلاصة: يتعين حصر الواقع التشريعي المتصل بالتجارة الالكترونية والبنوك الالكترونية والحكومة الالكترونية بإسناد المهمة لفريق عمل يحقق إنجازا طيباً وإنتاج تشريعات توافق احتياجاتنا تعكس تعاملا موضوعيا ومعمقا مع أفرازات عصر التقنية.
خاتمة
لا جدال في أن منهج الشريعة الإسلامية في الإثبات القضائي هو التيسير على الناس بتنويع الدليل، وتوفير البديل لما يتعذر الحصول عليه عند الضرورة أو الحاجة فإذا تعذرت الشهادة المبنية على المعاينة والمشاهده أمكن في نطاق ما تسمح به العدالة أن يكتفى بالشهادة بالتسامع أو الشهاده على الشهادة وان تعذر نصاب الشهادة أمكن الاكتفاء باقل منه كشهادة المراة الواحدة في الحالات التي لا يطلع عليها غير النساء، وان تعذر الدليل المباشر كله، أمكن الالتجاء إلى القرائن ليستعان بثبوت واقعة يمكن الوصول إليها في إثبات الواقعة المنتجة في الدعوى اعتماداً على الرابطه الوثيقة التي تربط بين الواقعتين والتي تجعل من الواقعة الأولى امارة على وجود الواقعة الثانية.
…وعلى هذا فان الشريعة الغراء وفقا للراي الراجح لا تحصر الأدلة في نطاق محدود لا يجوز للقاضي تجاوزه، فالبينة المطلوبة من المدعي تشمل كل ما يبين الحق ويظهره.(46/34)
…وبهذا تبقى القرائن ملاذا يتجاوب مع ما تفرزه المجتمعات من تطورات، وما يستحدثه العلم من حقائق تصلح أساسا لوقائع الأمارات، أو هاديا لاستنباط القرائن، أو كاشفا عن قوة الدليل المستفاد من بعض الأمور، على أن يراعى في شأنها تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا وتجنب توظيفها بما يناقض أحكام الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف استجابة
لقول الله تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (1)
…إن الفقهاء مجمعون على الأخذ بالقرائن في الجملة، وإن اختلفوا في التفصيل..فمنهم من اخذ بها في الجملة واعتبرها وسيلة من وسائل الإثبات ومنهم من خصها في بعض المسائل.. وفي هذا يقول الشيخ محمود شلتوت: (ومما ينبغي المسارعة إليه أن الناظر في كتب الأئمة يجد أنهم مجمعون على مبدأ الأخذ بالقرائن في الحكم والقضاء وأن أوسع المذاهب في الأخذ بها هو مذهب المالكية ثم الحنابلة ثم الشافعية ثم الحنفية، ولا يكاد مذهب من المذاهب الإسلامية يخلو من العمل بالقرائن حتى بالنسبة لمن أنكرها)(2)
إن القرائن في النظام القضائي الإسلامي ليست مقصورة على القرائن الشرعية بل تشمل كل أمارة يمكن استنباطها.
…إن القرائن أصل مستقل جاء الدليل الشرعي بتقريرها و إثباتها.
4-…إن العمل بالقرائن له أهمية عظمى لا يستطيع أحد إنكاره، خصوصا عندما لا يثير دليل آخر فنكون في أمس الحاجة إليها، لأنها توصلنا إلى الحقيقة و إنصاف المظلوم.
__________
(1) النساء 083)
(2) الإسلام شريعة وعقديه،ص211(46/35)
5-…إن القرائن منها ما نص الشارع عليها، وفي تلك الحالة يجب على القاضي العمل بمقتضاها كقرينة للفراش في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش.
6-…إن العمل بالقرائن يحتاج إلى رجحان العقل وصفاء الذهن، والتثبت فيها وعدم التعجل في الحكم بها.
7-…إن القرائن دليل من أدلة الإثبات التي لا يجوز إهمالها، بل اعتبرها الشارع الحكيم، وعمل بها الرسول وصحابته.
8-…إن العمل بالقرائن فيه إثراء للفقه الإسلامي، وإعطاء الدليل العملي على صلاحية الفقه الإسلامي لأن تستنبط منه الأدلة.
9- إن القرائن القضائية التي يستنبطها القاضي من ظروف الدعوى حجة في الإثبات إذا كانت مفيدة للعلم والاطمئنان، وإن لم يفد إلا الظن بالواقع فلا تصلح للإثبات، إلا أنها صالحة لدعم الدليل أو نقضه.
10- أما الطرق والوسائل الحديثة للإثبات، فهي حجة بشرط إفادتها العلم الحسي، وأما غير المفيدة للعلم فليست حجة وإن جازت الاستعانة بها في دعم الدليل أو تضعيفه.
التوصيات:
أولا: إن الفقه الإسلامي لا يمنع المدعي أن يقدم أي دليل يثبت الحق أو يظهره، دون أن يحصره في دليل بذاته أو في طريق بعينه، إلا في حدود ما أوجبه الشارع الحكيم بالنسبة لبعض الواقعات.
ثانيا: إن الأحكام القضائية يجب أن تبنى على القطع، وأن تكون في نطاق ما أثبته الفقه الإسلامي من قواعد تتصل بالمشروعية وترعى حقوق المتقاضين، وتوفر لهم ضماناتهم.
ثالثا: إن على القاضي حين يستند إلى قرينة قضائية أن يتحقق من ثبوت الأمارة التي ترشد إليها، وصحتها، وقوة دلالتها، وله الاستعانة في هذا الشأن- بالغالب الراجح من الأمور بشرط أن يكون من حق من تشهد ضده القرينة أن يثبت عكسها في الواقعة المعروضة.
فإذا كان الإثبات جنائيا بالإدانة، فيجب أن يبرأ من أي شك، وأن يدرأ بالشبه، ولو أدى ذلك إلى إفلات المجرم الذي لا يقوم على جريمته دليل قاطع، إذ الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.(46/36)
رابعا: إن القرائن الشرعية التي ينص عليها الشارع الحكيم أو يستخلصها الفقه الإسلامي، تعفي من تشهد لمصلحته من إثبات الواقعة المراد إثباتها، غير أنه مع ذلك يجوز دحضها بالإقرار أو اليمين، كما يجوز إثبات العكس بأي طريق، إلا إذا منع المشرع من ذلك منعا مطلقا، أو حدد طريقا معينا لإثباته.
خامسا: إن الاستفادة من القرائن في الإثبات القضائي تتطلب مواكبة لتطورات العلم ومنجزاته المتلاحقة، على أن يراعى تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، وتجنيب توظيفها بما يناقض أحكام الإسلام.
سادساً: ضرورة تدريس مقرر في مجال تكنولوجيا المعلومات والانترنت كمدخل لقانون الانترنت لطلبة كليات الشريعة والقانون في العالم العربي.
سابعاً: التعاون مع المؤسسات العربية الحكومية والأكاديمية في إعداد تصور واضح لقانون تنظيم التعامل عبر الانترنت في العالم العربي.
ثامناً: أهمية الدعوة المكثفة لدى مؤسسات الإعلام العربي عن قانون الانترنت لدى المواطن العربي.
تاسعاً: أهمية عقد ندوة حول الشريعة الإسلامية والانترنت على أن ينظم مع مؤسسات دولية ويدعى له كبار علماء الإسلام والغرب كواحدة من أساليب الحوار الحضاري مع الغرب.
وليس تنفيذ هذه الوصايا بعسير على جامعة عتيدة يراسها رجل رشيد الدكتور الشيخ/ سلطان حفظه الله، ومديرها المتميز أ.د/ إسماعيل البشري، وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية التي يقوم على الأمر فيها صفوة من الرجال الأخيار وفي مقدمتهم أ.د/ محمد مصطفى الزحيلي.
…بارك الله فيهم جميعاً وكلل مساعيهم بالنجاح والتوفيق وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبة أجمعين.
المصادر والمراجع
1-الإثبات بالقرائن أو الأمارات الشيخ محمد على التسخيري
2-الإثبات بالقرائن والأمارات الدكتور عكرمة سعيد صبري
3-الإثبات والتوثيق، للقاسم.
4-أحكام الجناية على النفس عند ابن قيم الجوزية، د. بكر أبو زيد، مؤسسة الرسالة.(46/37)
5-الإسلام عقيدة وشريعة، لمحمود شلتوت.
6-الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت.
7- أصول القانون الإجراءات القانونية للدكتور أحمد فتحي سرور.
8-إغاثة اللهفان.
9- تبصرة الحكام.
10-تبصرة الحكام.
11-التحقيق الجنائي العلمي و العملي للأستاذ محمد شعير.
12-التحقيق والبحث الجنائي، عبد الكريم درويش.
13- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
14-حجية القرائن في الشريعة الإسلامية، دار عمار.
15- سبل السلام.
16-طرق الإثبات لاحمد إبراهيم.
17-الطرق الحكمية.
18-الطرق الحكمية.
19-علم القضاء للحصري.
20-عمدة القاري.
21- فتح الباري.
22-القرائن في الفقه الإسلامي على ضوء الدراسات القانونية المعاصرة المستشار محمد بدر المنياوي
23-القضاء بالقرائن المعاصرة، عبد الله العجلان.
24-القواعد العامة للتحقيق الجنائي كمال سراج الدين.
25-كشف الجريمة بالوسائل العلمية عبد العزيز حمدي
26-مبادئ الإجراءات الجنائية، رؤوف عبيد.
27-المبادئ الأساسية للإجراءات الجنائية لعلي زكي العرابي.
28-المحقق الجنائي للمرصفاوي.
29- نظام إثبات الدعوى و أدلته في الفقه الإسلامي، علي رسلان، دار الدعوة، الإسكندرية، 1417هـ.
30-نظرية الإثبات حسين المؤمن.
31-وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية، د/ محمد مصطفى الزحيلي.(46/38)
وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر
دراسة نظرية تطبيقية مقارنة بالقانون الأردني
إعداد
الدكتور محمد خالد منصور
أستاذ مشارك – قسم الفقه وأصوله –
كلية الشريعة – الجامعة الأردنية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،، وبعد،،،
فإن من أهم المجالات التي تحتاج مراجعة دائمة ومستمرة مجال القضاء عموما ، والقضاء الشرعي خصوصا لما ينطوي عليه من خطورة في التصدي لحل النزاعات التي تقع بين الناس ، والحكم بينهم بالعدل.
وإن القضاء الشرعي ومنذ اللحظة الأولى ، كان يعتمد على التميز في الاجتهاد ، والسلامة في التطبيق وذلك حين كان يمارسه النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة الكرام – رضي الله عنهم – والتابعون والعلماء الأجلاء والقضاة المجتهدون في تاريخ القضاء الإسلامي العريق .(47/1)
وقد مرت أمة الإسلام في أزمنتها المتأخرة بظروف صعبة نيل منها عقيدة وفكرا وعلما ، حتى أقصيت الشريعة الإسلامية عن الحكم ، وبالتالي غياب القضاء الشرعي عن حياة الناس ، واضطر المسلمون وقتها إلى اللجوء إلى التقنين للأحكام الشرعية – إلا في بعض البلدان الإسلامية - للضعف العلمي للقضاة ، ولضعف ملكة الاجتهاد عندهم ، وحسما للتلاعب في القضاء ، وضبطا للأحكام بين الناس ، وقد توافر العلماء المخلصون على وضع التقنين المتعلق ببعض الجوانب في حياة الناس لا في كلها ، وواجه هذا التقنين سلبيات مع وجود الإيجابيات السابقة ومواءمته للواقع الذي يعيشه ، ومن أبرز هذه السلبيات التي على الفقهاء والباحثين معالجتها ضعف الاجتهاد الشرعي الذي كان يعتبر شرطا لصحة القضاء عند جمهور الفقهاء ، ومن هنا كان لابد من البحث في الواقع الذي يعيشه الاجتهاد الشرعي المعاصر ، بتشخيصه ، وبتعريفه ، وبيان مجالاته ، واقتراح الوسائل العلمية العملية للنهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، اتجاها نحو التقليل من التقليد والجمود في القضاء إلى تحويله وبالتدريج إلى آلة فاعلة تجيب عن كل المستجدات ، وتلزم الناس بأحكام شرعية واقعية تنتج عن اجتهاد حر متجدد وفق مقتضيات الزمان والمكان بعيدا عن الاعتماد الكلي على التقنين الذي يتقاصر عن الوصول لما يأمله القاضي المسلم ، ويحتاجه المسلم عند تخاصمه ومثوله أمام القضاء للنظر في خصومته ، ومن هنا نشأت فكرة هذا البحث .
مشكلة البحث :(47/2)
تتحدد مشكلة البحث في تحديد مفهوم القضاء الشرعي المعاصر ، وتحديد مجالاته في الواقع ، واقتراح الحلول العملية التي تسهم في الرفع من سوية الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، مع تعزيز هذه المفاهيم والوسائل المقترحة بتطبيقات عملية من القانون الأردني لبيان مدى إمكانية التعامل مع التقنين الموجود ، ومحاولة وضع الآليات التي من خلالها الوصول إلى النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر بوسائل عملية قابلة للتطبيق ، وذلك من خلال استعراض بعض التطبيقات القضائية في القانون المدني الأردني ، وقانون الأحوال الشخصية الأردني .
الدراسات السابقة :
لم يجد الباحث من أفرد وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وتطبيقاته في القانون الأردني، ولكني وجدت بعض الدراسات التي ساعدت الباحث في عملية الاستقراء والاستقصاء المتعلقة بالقانون الأردني ، وقد أفاد منها إفادة جيدة في بناء البحث ، ومنها :
قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، للدكتور عبد المهدي العجلوني ، وهي رسالة دكتوراه ، تعرض فيها الباحث لقواعد التفسير الأصولية ، ومثل لها بتطبيقات من الاجتهاد القضائي الأردني .
اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، للباحث كمال الصمادي ، وقد عرض الباحث لمفهوم الاجتهاد القضائي ، وأنواع الاجتهاد القضائي من وجهة نظره ، والتطبيقات المتعلقة بنص المادة 183 من قانون الأحوال الشخصية في مسائل التفريق .
وتتحدد إضافة الباحث الجوانب التالية :
تحديد مفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وتحديد مجالاته .
بيان مجال الاجتهاد في القانون المدني الأردني ، وقانون الأحوال الشخصية الأردنية .
اقتراح الوسائل العلمية العملية للنهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، والتعامل معه على حسب الواقع الموجود ، ومحاولة النهوض به من خلال هذه الوسائل .(47/3)
التطبيق العملي من القانون المدني الأردني ، وقانون الأحوال الشخصية الأردني ، للتدليل على إمكانية هذا النهوض بهذه الوسائل عن إثبات هذه الإمكانية وحصولها في الاجتهاد القضائي الأردني كأنموذج .
منهجية البحث :
قام البحث على المنهج العلمي القائم على :
الاستقراء لمن كتب في الاجتهاد القضائي الشرعي – على قلتهم – لتحديد هذا المفهوم .
الاستقراء للتطبيقات القضائية الشرعية الأردنية لاختيار التطبيقات المناسبة لموضوع البحث .
التحليل لهذه المادة العلمية للتوصل لاستنتاج تعريف للاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، ثم التأصيل لأنواعه .
التطبيق لمفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر تطبيقا متزامنا مع كل مفهوم من مفاهيم البحث ، وانتهاء بالتطبيق لوسائل النهوض بالقضاء الشرعي المعاصر .
عزو الآيات القرآنية على مواضعها من السور ، وتخريج الأحاديث النبوية الشريفة .
خطة البحث :
قسمت البحث إلى مقدمة ومبحثين وخاتمة :
المبحث الأول : مفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، ومجالاته
المبحث الثاني : وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي
وختاما ، أسأل الله العلي العظيم أن يجعل أن أعمالنا صوابا ، خالصة لوجهه الكريم ، وأن تكون ذخرا لنا يوم يقوم الناس لرب العالمين . والحمد لله رب العالمين .
المبحث الأول : مفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، ومجالاته*
سيكون البحث ضمن المطالب الآتية :
المطلب الأول : مفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر(47/4)
…يتطلب البحث في مفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر البحث في اتجاهين للتعريف ، الاتجاه الأول: تعريف المصطلح الوصفي ، والمتضمن للمصطلحات : الاجتهاد ، القضائي ، الشرعي ، المعاصر ، والاتجاه الثاني : تعريفه باعتباره علما يطلق على مصطلح خاص ، وهو المفهوم بعمومه جمعا لمعانى المصطلحات المتكونة منه ؛ مع الأخذ بالاعتبار المعطيات المتعلقة بأسس الاجتهاد القضائي المعاصر ، وذلك بوصف حال الاجتهاد وحالته الراهنة .
الاتجاه الأول : تعريف المصطلح الوصفي ، وهو يتكون من المصطلحات الآتية :
أ – الاجتهاد :
الكلام في مفهوم الاجتهاد يكون في معناه لغة ، واصطلاحا ، وذلك ضمن النقاط الآتية :
أولا : الاجتهاد لغة : مصدر مأخوذ من الجَهْد ، والجُهْد : وهو بالفتح المشقة ، وقيل : المبالغة والغاية ، وبالضم ، الوسع والطاقة ، وقيل : هما لغتان في الوسع والطاقة (1) ، وهو كما قال الزركشي : " افتعال من الجهد ، وهو المشقة أو الجهد ، وهو الطاقة .. " (2) .
وغاية الأمر : أن معنى الاجتهاد لغة يدور حول بذل الوسع والطاقة في طلب أمر من الأمور ؛ ليبلغ مجهوده ، ويصل إلى غايته ونهايته ومقصوده .
__________
(1) * ذكر الباحث المعلومات الكاملة عن المصدر في أول مرة يرد اكتفاء عن قائمة المصادر في آخر البحث .
ابن منظور ، جمال الدين محمد بن مكرم ، لسان العرب ، دار الفكر ، بيروت ، مادة : " جهد " ، 3/133 .
(2) بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي، المعروف بالزركشي ، البحر المحيط ، حرره : الدكتور عبد الستار أبو غدة ، وراجعه : الشيخ عبد القادر عبد الله العاني ، دار الصفوة ، القاهرة ، ط2 ، 1992م ، 6/197 .(47/5)
…وهذا المعنى هو المقصود في تعريفنا الاصطلاحي له حيث يستفرغ المجتهد (1) ، وسعه وطاقته العقلية ضمن قواعد معينة للوصول إلى حكم شرعي باستثماره الأدلة النقلية (2)
__________
(1) يذكر الأصوليون للمجتهد شروطا لابد من توافرها حتى يكون أهلا للاجتهاد ، وهي أن يكون مسلما بالغا عاقلا ، فقيه النفس ، صحيح الفهم عالما بمصادر الأحكام من كتاب وسنة وإجماع وقياس ، وبالناسخ والمنسوح ، عالما بآيات الأحكام ، وعالما بالحديث متنا وسندا عالما باللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها ، عالما بأصول الفقه هذا ما يتعلق بالمجتهد المطلق ، أما مجتهد المسألة ، فيشترط فيه أن يكون عارفا بما تتطلبه المسألة والحكم الشرعي الخاص ، وانظر هذه الشروط : علي بن محمد الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام ، تعليق : عبد الرزاق عفيفي ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، ط2 ، 19882 ، 4/162-164 ، والزركشي ، البحر المحيط ، 6/199-206 ، والشوكاني ، إرشاد الفحول ، بيروت ، دار المعرفة ، ص : 251 –252 ، والشنقيطي ، مذكرة أصول الفقه ، المكتبة السلفية ، المدينة المنورة ، ص : 311-312 ، وانظر : أنواع المجتهدين ، والتفصيل في تعريفهم ، وشروط الاجتهاد ، الدكتور محمد حسن هيتو ، الاجتهاد وأنواع المجتهدين ، بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية ، الكويت ، السنة الثانية ، العدد الرابع ديسمبر 1985 م ، ص : 226 ، والدكتور السيد عبد اللطيف كساب ، أضواء حول قضية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، مصر ، دار التوفيق لطباعة ، ط1 ، 1984م ، ص : 38 ، وما بعدها ، وانظر الاجتهاد بتفصيلات دقيقة مع ارتباطه بالواقع : الدكتور مسفر بن علي بن محمد القحطاني ، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ( دراسة تأصيلية تطبيقية ، بيروت ، دار ابن حزم ، وجدة ، دار الأندلس الخضراء ، ط1 ، 2003 م ، 140 ، وما بعدها .
(2) يذكر الأصوليون أن معرفة الحكم الشرعي من دليله القطعي لا يسمى اجتهادا ، وانظر : الأنصاري ، مسلم الثبوت ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 2/362 .(47/6)
ثانيا : الاجتهاد اصطلاحا (1) :
… عرف الأصوليون الاجتهاد اصطلاحا (2) ، بتعاريف عدة ، أعرض فيما يلي لأهمها :
1- عرفه الإمام الغزالي بقوله : " بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة " (3) .
__________
(1) وقد ذكرت الدكتورة نادية شريف العمري ، في كتابها الاجتهاد في الإسلام ، مسلكين من مسالك الأصوليين في تعريف الاجتهاد ، وقد فصلت القول فيهما ، نادية العمري ، الاجتهاد في الإسلام ، مؤسسة الرسالة ، ط3 ، 1985م ، ص : 18-28 ، وانظر تعريف الاجتهاد : عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب ، منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1985م ، ص : 209 .
(2) وانظر تعريفات أخرى للاجتهاد ، الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص : 250-251 ، ويذكر الفقهاء نوعا آخر من الاجتهاد سوى الاجتهاد في الأدلة الشرعية ، وذلك ما يحتاجه المسلم عند قيامه ببعض العبادات عند حصول الاشتباه ؛ كأن يجتهد في تحديد القبلة ؛ لأجل استقبالها في صلاته ، والاجتهاد عند اشتباه الثياب الطاهرة بالنجسة إذا لم يجد غيرها ، أو ماء طهور بماء نجس لم يجد غيرهما ، وانظر : وزارة الأوقاف الكويتية ، الموسوعة الفقهية ، طباعة ذات السلاسل ، الكويت ، ط2 ، 1983م ، 1/318 .
(3) محمد بن محمد الغزالي ، المستصفى من علم الأصول ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 2/101 .(47/7)
2- وعرفه الآمدي بقوله : " استفراغ الوسع في طلب الظن لشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه " (1) (2) .
هذا ، وإن مجال الاجتهاد عند الأصوليين هو كل حكم شرعي ظني ليس فيه دليل قطعي (3) ، ذلك أن الناظر في الشريعة الإسلامية يلاحظ أنها جاءت بنوعين من الأحكام ، وأحكامها تدور حولها ، النوع الأول الأحكام القطعية الثبوت والدلالة ، والتي لا تقبل التفسير أو التأويل أو المعارضة ، أو المخالفة ، لكون دلالتها على الأحكام قطعية ، وهذه الأحكام تكون مبنية على مصالح ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة ولا الأمكنة ، وهو ما يعبر عنه " بالفقه الثابت " ؛ كقطعية تحريم الأمهات في قوله تعالى : " حرمت عليكم أمهاتكم " (4) ، ولذلك لم تكن محلا للاجتهاد ، وهي محل اتفاق الأمة سابقها ولاحقها ، متقدمها ومتأخرها .
__________
(1) وانظر قريبا منه تعريف أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي حيث قال : " استفراغ الوسع ، وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعي " اللمع في أصول الفقه ، تحقيق : محي الدين مستو ، ويوسف علي بديوي ، دار الكلم الطيب ، دمشق ، بيروت ، دار ابن كثير ، دمشق ، بيروت ، ط1 ، 1995م ، ص : 259 .
(2) وانظر تعريف الإمام الجصاص حيث قال : " هو بذل المجهود فيما يقصده المجتهد ويتحراه …. " ، الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص ، أصول الفقه المسمى بالفصول في الأصول ، دراسة وتحقيق الدكتور عجيل جاسم النشمي ، طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية ، كتب التراث رقم ( 14) ، ط2 ، 1994م ، 4/11 .
(3) الرازي ، المحصول ، تحقيق : الدكتور طه جابر علوان ، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض ، 2/39 .
(4) سورة النساء ، الآية : 23 .(47/8)
ومن أمثلة الأحكام التي لا يدخلها الاجتهاد المسائل العقائدية الأصلية والأخلاق المتعلقة بأصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ وأن القرآن حق ، ومنزل من عند الله عز وجل ، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أرسل للناس كافة ، وهي الأحكام الاعتقادية الكلية التي لم يخالف فيها أحد من المسلمين ، وهي مما علم ضرورة (1) ، والمسائل المعلومة من الدين بالضرورة ؛ كوجوب الصلوات الخمس ، ووجوب الزكاة ، ووجوب صوم رمضان ، وحرمة الربا ، وحرمة السرقة ، والقتل ، فإنه يستوي في معرفتها المجتهد والمقلد (2) ، والمقدرات الشرعية : كأعداد الصلوات ، ونصاب الزكاة ، والحدود والكفارات ، وغيرها ، وما ورد فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة (3) ، ومثاله : قوله تعالى : " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (4)
__________
(1) وانظر : هيتو ، محمد حسن ، الوجيز في أصول التشريع الإسلامي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط1 ، 1983م ، ص : 506 ، ومحمد سعيد البابي ، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1981م ، ص : 49 .
(2) الشيرازي ، اللمع في أصول الفقه ، ص : 259 ، والشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص : 252 ، وانظر : محمد سعيد البابي ، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ، ص : 49 .
(3) الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص : 222 .
(4) سورة النور ، الآية : 4 .(47/9)
…… وهناك نوع آخر من الأحكام الشرعية يمكن أن يدخلها التأويل والمعارضة أو المخالفة لكونها ظنية الثبوت والدلالة ، أو قد تكون ظنية الثبوت قطعية الدلالة ، أو قطعية الثبوت ظنية الدلالة (1) ، وهذه الأحكام يكون فيها مجال للاجتهاد للوصول إلى الرأي الصائب ، أو القريب من الصواب ، وهذا النوع من الأحكام يتجاذبه جملة من القواعد والمبادئ المتصلة بمقاصد الشريعة العامة وكلياتها ، وهو ما عبر عنه بعضهم بقوله : " الفقه المتغير " لكونه يستند إلى مصالح متغيرة ، تتغير بتغير الظروف التي تحكم بروز هذه المصلحة ، وأوليات تكوينها ، والجدوى التي تحققه للفرد أو الجماعة في إطار فترة زمانية ما (2) .
__________
(1) إذا كان النص قرآنا ، فهو قطعي الثبوت ، فيكون قطعي الثبوت والدلالة ، وقد يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة ، وإذا كان النص سنة فقد يكون متواترا ، وحينئذ يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، وقد يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة ، وإذا النص خبر آحاد فإنه يكون ظني الدلالة قطعي الدلالة ، وقد يكون ظني الثبوت ظني ، فمجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل ، وانظر ما سبق بتصرف ، زكي الدين شعبان ، أصول الفقه الإسلامي دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 1971م ، من منشورات الجامعة الليبية ، ص : 416 ، والأيوبي ، محمد هشام ، الاجتهاد ومقتضيات العصر ، دار الفكر ، عمان ، ص : 45-46 .
(2) وانظر المعنى السابق بتصرف ، الدكتور ، محمد الدسوقي ، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ، دار الثقافة ، قطر ، ط1 ، 1987م ، ص : 78-80 .(47/10)
ومن أمثلة الأحكام التي يدخلها الاجتهاد بعض المسائل الاعتقادية الفروعية ، وبعض النظريات الكلامية التي اختلف فيها العلماء ، وجرت بينهم فيها مناظرات ومناقشات عائدة لظنية الأدلة الدالة على هذا الحكم (1) ، والحوادث والوقائع التي لم يرد فيها نص أو إجماع (2) ، وذلك لكون البحث عن الحكم يكون بطريق القياس ، أو المصلحة المرسلة ، أو العرف ، أو الاستصحاب ، أو غيرها من الأدلة (3) ، والوقائع التي ورد بحكمها نص قطعي الثبوت ، أو ظنيه ، قطعي الدلالة ، أو ظنيها أو ما يطلق عليه " الاجتهاد في الشرعيات الظنية " (4) : وهي بعض الأحكام العملية الفرعية والتي أصل تشريعها قطعي كوجوب الصلاة (5)
__________
(1) محمد الدسوقي ، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ، ص : 82 .
(2) الأيوبي ، الاجتهاد ومقتضيات العصر ، ص : 47 ، وزكي الدين شعبان ، أصول الفقه الإسلامي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 1971م ، من منشورات الجامعة الليبية ، ص : 417 ، والدكتور وهبة الزحيلي ، ومجموعة أساتذة ، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، رقم ( 20 ) ، ص : 186 ، وبدران أبو العينين ، أصول الفقه الإسلامي ، مطبعة الإسكندرية ، مصر ، ص : 472 ، محمد الطاهر النيفر ، أصول الفقه ، دار بو سلامة للطباعة والنشر ، تونس ، ص : 152
(3) زكي الدين شعبان ، أصول الفقه الإسلامي ، ص : 416-417 ، والأيوبي ، محمد هشام ، الاجتهاد ومقتضيات العصر ، دار الفكر ، عمان ، ص : 45 .
(4) الشيرازي ، اللمع في أصول الفقه ، ص : 259 ، وانظر : هيتو ، الوجيز في أصول التشريع الإسلامي ، ص : 507 ، وزكي الدين شعبان ، أصول الفقه الإسلامي ، ص : 416-417 ، والدكتور وهبة الزحيلي ، ومجموعة أساتذة ، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، ص : 186 ، وبدران أبو العينين ، أصول الفقه الإسلامي ، ص : 473 ، ، وعبد الوهاب خلاف ، علم أصول الفقه ، ص : 216-217 ،
(5) محمد الدسوقي ، الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ، ص : 83 ، والأيوبي ، الاجتهاد ومقتضيات العصر ، ص : 45-46 ، محمد سعيد البابي ، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ، ص : 49 –50 .(47/11)
، ولكن البحث في فروع الصلاة فإنه محل للاجتهاد ، ومن أمثلة هذا النوع ما وقع بين الفقهاء في بيان مقدار الرضاع الذي يؤدي إلى التحريم بسبب الرضاع ، ولكل فريق من الفقهاء أدلته وتعليله للحكم ، وذلك بعد الاتفاق على قطعية التحريم المؤبد في أنواع ورد ذكرها في قوله تعالى : " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم .. الآية " (1) .
وعليه : فإن الأحكام القضائية التي يدخلها الاجتهاد هي الأحكام الظنية التي هي محل البحث ، وليست الأحكام القطعية التي لا يجوز فيها الاجتهاد ، فمحل الاجتهاد في القضاء الشرعي : كل حكم شرعي ظني يحتاج فيه القاضي إلى بذل الجهد للوصول لحكم الشرع لإلزام الناس به عند التنازع والتخاصم لديه ، أو الاجتهاد في القانون المقنِن للأحكام الشرعية ، وذلك في جميع مراحلها وأركانها ، من النظر في لائحة الدعوى ، ومدى التزامها بالشروط الشكلية والموضوعية التي اشترطها القانون حيث ينظر القاضي في اختصاص المحكمة إلى صدور الحكم ، وحتى الاجتهاد بعد صدور الحكم ، الذي قد يطاله الاستئناف والتمييز تمحيصا له ، وتصحيحا له .
ب- القضائي نسبة إلى القضاء ، والقضاء لغة : يدور حول معاني الحكم ، الإمضاء والفراغ من الشيء ، والإلزام ، وأصله القطع والفصل ، يقال : قضى يقضي قضاءً فهو قاض إذا حكم وفصل ، وهو يأتي في اللّغة على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه (2) ، وهذه المعاني اللغوية واضحة في المعنى الاصطلاحي حيث إن القضاء فيه حكم وإمضاء ، وإلزام بما يراه القاضي حكما للمسائل محل النزاع بين المتخاصمين .
__________
(1) سورة النساء ، الآية : 23 .
(2) ابن منظور ، لسان العرب ، 15/186 .(47/12)
وأما القضاء اصطلاحا : فهو " الحكم بين الناس بالحق " (1) ، وقيل : " هو الإخبار بحكم شرعي على سبيل الإلزام " (2) ، وعرفه الخطيب الشربيني بقوله : " الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى " (3) ، وعرفه الدكتور الحميضي بأنه : " النظر في القضايا وإثباتها أو نفيها لإظهار أحكامها على مقتضياتها "(4)
__________
(1) الكاساني ، علاء الدين أبو بكر بن مسعود ( ت : 587 هـ ) ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، ط2 1982 م م ، 7/2 ، وعرفه من الحنفية الأشفورقاني بقوله : " فصل الخصومات ، وقطع المنازعات " وانظر : القاضي عماد الدين محمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد الخطيب الأشفورقاني (ت : 646 هـ ) ، صنوان القضاء وعنوان الإفتاء ، تحقيق ودراسة : القاضي مجاهد الإسلام القاسمي ، الكويت ، مطبعة الصباحية ، ط1 ، 2001 ، من مطبوعات وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ، قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية ، 1/69 .
(2) الحطاب ، محمد بن عبد الرحمن المغربي أبو عبد الله (ت : 954 هـ ) ، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، بيروت ، دار الفكر، ط2 ، 1398 هـ ، 6/86 ، والقاضي إبراهيم بن علي بن بي القاسم بن محمد بن فرحون المالكي المدني ( ـ : 799 هـ ) ، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد ، مصر ، مكتبة الكليات الأزهرية ، ط1 ، 1986م ، 1/11 .
(3) محمد الخطيب الشربيني ، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر ، 1958 م ، 4/372 ، وانظر : الحصيني الشافعي ، تقي الدين أبي بكر بن محمد ، كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار ، تحقيق : علي عبد الحميد أبو الخير ، ومحمد وهبي سليمان ، دمشق ، دار الخير ، ط2 ، 1998م ، 2/655 .
(4) الدكتور عبد الرحمن إبراهيم عبد العزيز الحميضي ، القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، طبع معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي ، بجامعة أم القرى ، ص : 40 .(47/13)
، وعرفه الدكتور عبد الكريم زيدان بقوله : " هو الحكم بين الخصوم بالقانون الإسلامي بكيفية مخصوصة " (1) .
هذا ، وإن التعاريف السابقة متقاربة ، والمقصود الوقوف على المعنى العام للقضاء ، وليس الدخول في تفصيلات لا يسمح البحث بها .
ج- الشرعي : نسبة للشرع ، والشرع : هو نصوص الكتاب والسنة والتي تشكل الدين عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاقا ، ونسبة القضاء للشرع تعني : أن القضاء موضوع البحث هو القضاء الذي يستند إلى حكم الشرع ابتداء وانتهاء موافقا للكتاب والسنة ، جاريا على سننهما .
د- المعاصر : المعاصر مأخوذ من العصر ، وهو الدهر ، ويقال أعصار وعصور (2) ، والمقصود به الزمان في وقت من الأوقات ، كعصر الصحابة ، وعصر التابعين ، وهكذا .
… والمراد هنا في البحث الاجتهاد القضائي الشرعي المنسوب لعصرنا الحاضر ، من حيث تعريفه ، وواقعه ، وأنواعه ، وطبيعته ، ووسائله ، وطرق النهوض به .
الاتجاه الثاني : تعريف الاجتهاد الشرعي المعاصر باعتباره مصطلحا خاصا يطلق على مفهوم خاص :
لابد في البداية من تعريف الاجتهاد القضائي الشرعي ، ثم تعريف الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وذلك كما يأتي :
__________
(1) الدكتور عبد الكريم زيدان ، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، ط3 ، 2000م ، ص : 13 .
(2) الفيروزآبادي ، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت : 817 هـ ) ، القاموس المحيط ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، ط2 ، 1987م ، مادة : " عصر " ، ص : 566 .(47/14)
أولا : الاجتهاد القضائي الشرعي : أما الاجتهاد القضائي الشرعي ، فقد عرفه الدكتور عبد المهدي العجلوني بقوله : " استفراغ القاضي وسعه وطاقته لتحصيل ظن بحكم شرعي فاصل في الخصومة في واقعة متنازع عليها ؛ وملزم لأطرافها " (1) .
فالاجتهاد القضائي اجتهاد مخصوص من حيث إنه صادر من قاض منفرد أو من هيئة قضائية ، كما أنه يكون في واقعة متنازع عليها (2) .
ويظهر أن الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، ليس اجتهادا مطلقا ، وإنما هو اجتهاد متجزىء وهو أن يكون المجتهد قادرا على الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ، وقد يكون باب من الأبواب ، أو في مجموعة من الأبواب الفقهية ، يقوم بها طائفة من الفقهاء عن طريق الاجتهاد الجماعي(3).
فمن توفرت فيه شروط الاجتهاد يجوز له أن يجتهد فيها توسيعا لباب الاجتهاد ؛ خاصة في الزمن الذي قل فيه المجتهدون (4) .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، دراسة أصولية مقارنة ، رسالة دكتوراة بقسم القضاء الشرعي بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية ، مخطوطة ، كانون الثاني ، 2005 م ، ص : 16 .
(2) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 16 .
(3) وانظر : جواز تجزؤ الاجتهاد ، وأنه على إنما يكون أقله في باب من الأبواب الفقهية الذي عرف أدلته ، وأتقنها ، وتمكن من النظر فيها ؛ لأن مسائل الباب الواحد مترابط بعضها ببعض ، ولا يمكنه أن يقرر في مسألة وحدة عن نظائرها وأشباهها في الباب نفسه ، الغزالي ، المستصفى ، 2/353 ، والآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام ، الآمدي ، 4/221 ، ولا يمنع ذلك أن يتم الاجتهاد في مسألة وانظر من المعاصرين من بحث المسألة : الدكتور محمد حسن هيتو ، الاجتهاد وأنواع المجتهدين ، ص: 244 ،
(4) الدكتور السيد عبد اللطيف كساب ، أضواء حول قضية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، ص : 97 .(47/15)
وتجزؤ الاجتهاد بالنسبة للعصر الحاضر ينبغي أن يقصد به ما يعرف بالتخصص ، فالمجتهد مع توفره على شروط الاجتهاد بكون متخصصا في جانب فقهي ، ولذلك يمكن أن يقسم المجتهدون إلى مجموعات متخصصة ، كل واحدة منها تنظر في باب من أبواب الفقه أو في قضية من القضايا المعاصرة المطروحة (1) ، والقضاء الشرعي المعاصر يمكن أن يكون تخصصا مستقلا يتجزؤ الاجتهاد فيه تقنينا ، وتطبيقا .
………… وههنا يلزم التفريق بين حكم الاجتهاد القضائي من حيث هو اجتهاد ، وبين الاجتهاد كشرط من شروط القاضي ، أما بالنسبة للاجتهاد القضائي من حيث هو اجتهاد ، فهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض ، سقطت المساءلة عن بقية المكلفين (2) ، بمعنى أن القضاء يكون عن طريق الاجتهاد في النظر في الوقائع ، واستنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بها ، هذا هو الأصل في الاجتهاد القضائي .
ومعلوم بداهة أن تطبيق الشريعة واجب على الأمة الإسلامية حكاما ومحكومين وفي كافة مجالات الحياة ؛ لأنه من المقررات أن الشرع واجب التطبيق لوجوب الحكم بما أنزل الله ، وبطلان الحكم بما عداه ، فالحكم بما عداه جور وظلم .
… ولكن هذا الجانب يتصل بقضية أخرى مرتبطة بها ، وهي مسألة التقنين للأحكام الشرعية ووضعها على هيئة قانون ملزم ، وما حكمه ، وما صلته بالاجتهاد القضائي من حيث هو اجتهاد .
__________
(1) إسماعيل الخطيب ، الاجتهاد بين الفرد والمؤسسة ، ص : 99 ، وانظر تجزؤ الاجتهاد والدعوة إلى التخصص في الاجتهاد ، الدكتور مسفر القحطاني ، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ، ص : 215 .
(2) الدكتور عبد الرحمن عدوي ، الفقه الاجتهادي وأئمته الأعلام ، القاهرة ، دار الطباعة المحمدية ، ط1 ، 1996م ، ص : 67 .(47/16)
أما التقنين للإحكام الشرعية القضائية فيعني : اختيار القول الراجح في المذهب ، أو اختيار أحد أقوال المذهب ، أو اختيار أحد أقوال المذاهب الأخرى الذي يعتمد على الدليل الأقوى ، أو اختيار القول الذي يحقق مقاصد الشريعة ، في تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، ورفع الحرج والمشقة عن الناس ، تخفيف العبىء عنهم ، وتسهيل أعمالهم ومصالحهم ، وجمع هذه الاختيارات ووضعها في قانون مدون مسطور مرتب (1).
والتقنين للأحكام القضائية الشرعية هو وضع قواعد متعلقة بقانون الأحوال الشخصية أو القانون المدني أو الجنائي أو غيره في مجموعة على شكل مواد فقهية مرتبة ومبوبة يرجع إليها القاضي عند التطبيق (2) .
وقد ظهر التقنين في أواخر عهد الدولة العثمانية (1839-1255هـ ) حيث بدأ صدور القوانين الوضعية إلى جانب الشريعة الإسلامية ، ثم صدور مجلة الأحكام العدلية (1876م–1292هـ ) ، وهي تقنين المعاملات مأخوذ من المذهب الحنفي .
وبعد انقضاء عهد الدولة العثمانية ، واستقلال الدول العربية من الاستعمار ، ظهرت القوانين في الدول العربية والمستمدة من القوانين الغربية بإقصاء الشريعة عن الحكم ، وإحلال القوانين الغربية محلها ؛ إلا في قوانين الأحوال الشخصية ، وبعض القوانين المدنية ، إلا في بعض الدول العربية منها السعودية والسودان ، ومحاولة تطبيق الشريعة في الكويت .
__________
(1) الدكتور عبد الرحمن الحميضي ، القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، ص : 304 ، وانظر : الشيخ مصطفى الزرقا ، الفقه الإسلامي ومدارسه ، ص: 86 .
(2) الدكتور عبد الناصر موسى أبو البصل ، نظرية الحكم القضائي في الشريعة والقانون ، عمان ، الأردن ، دار النفائس ، ط1 ، 2000م ، ص: 281 ، وانظر : الدكتور عمر سليمان الأشقر ، الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني ، الأردن ، عمان ، دار النفائس ، ط2 ، 2001 م ، ص : 14 .(47/17)
وقد ظهرت مسألة التقنين لقوانين الأحوال الشخصية إلى حيز الوجود ، وانقسم الفقهاء المعاصرون إلى قسمين تجاه هذا التقنين ، فذهب الجمهور العام من الفقهاء المعاصرين إلى جواز العمل به ، ومن أبرزهم : الأستاذ محمد عبده ، والشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ محمد عبد العزيز جعيط ، والشيخ أحمد محمد شاكر ، والشيخ أبو الأعلى المودودي ، والشيخ أبو زهرة ، والشيخ علي الخفيف ، والشيخ حسنين محمد مخلوف ، الشيخ مصطفى الزرقا ، والدكتور فتحي الدريني ، وغيرهم ، وهؤلاء يرون إلزام القاضي بهذه الأحكام المقننة إلزاما يستند إلى وجوب طاعة ولي الأمر(1) .
وذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى منع التقنين ومنع العمل به ، ومنهم : كثير من علماء السعودية ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والشيخ البسام ، والشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ، وغيرهم (2) .
__________
(1) وانظر : عبد الحميد السائح ، مقدمة كتاب : المبادىء القضائية لمحكمة الاستئناف الشرعية ، محمد حمزة العربي ، عمان ، الأردن ، مكتبة الأقصى ، ص : 2 .
(2) وانظر مسألة التقنين والكلام فيها مفصلا : الدكتور عبد الناصر موسى أبو البصل ، نظرية الحكم القضائي في الشريعة والقانون ، ص :282-291 ، هذا ، ولم يرد البحث الخوض في تفصيلات مسالة التقنين لأنها ليست موضوع البحث ، وإنما ذكرت نتيجة البحث فيها لبيان موقع الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر من التقنين ، وانظر : الدكتور وهبة الزحيلي ، جهود تقنين الفقه الإسلامي ، بيروت ، مؤسسة الرسالة ، ط1 ، 1987م ، ص : 26 ، وما بعدها ، وانظر كلام الشيخ بكر أبو زيد مفصلا : فقه النوازل ، الرياض ، مكتبة الرشد ، ط1 ، 1987م ، ص : 14 ، وما بعدها .(47/18)
هذا ، وإن للتقنين محاسن منها : التسهيل على طالب العلم المسلم أن يعرف الحكم الذي تسير عليه الدولة والمجتمع ، ويعين القاضي على الرجوع إلى هذا القانون المختار المرتب ، ويسهل على ولاة الأمر مراقبة أعمال القضاة ، وتمييز الأحكام الصحيحة من الأحكام الباطلة ، كما يساعد على تحقيق المساواة والعدل بين الناس ، للحكم بينهم بحكم واحد في القضايا المتشابهة ، بحيث يسير الجميع فيها حسب منهج واحد وإجراءات واحدة ، ويؤكد هذا الأمر الحرص على الدقة والنظام ، وتحديد الأحكام والإجراءات مسبقا للقضاة والخصوم .
كما أن للتقنين سلبيات ومحاذير ، من أهمها : إضعاف روح الاجتهاد لدى القضاة ، ومنها : عدم اعتبار الفوارق الدقيقة بين القضايا ، وهذا أمر خطير خاصة في مجال العدل والقضاء ، واقتصار أحكامه على الحوادث الواقعة دون المتجددة التي لم يسبق لها مثال ما يستدعي الحال على وجود دور الإفتاء لسد هذه الثغرة لتقنين أحكامها من جديد – وهذا سيأتي تفصيله بعد - .
والذي يظهر أن التقنين للأحكام الشرعية يكون في الحالات الاضطرارية ، عند ضعف الاجتهاد عند القضاة ، وعدم قدرتهم على الاجتهاد المباشر للوقائع المعروضة عليهم ؛ أو قلة الورع وضعف الوازع الديني عند القاضي والمتقاضي ، فيحد من جور القضاة ، ويحد من اتهام القضاة بالميل .
وعليه : فإن اللجوء إلى التقنين حالة استثنائية ، والأصل قيام القاضي بعملية الاجتهاد وفق الدعوى المعروضة ، ويظهر أيضا أن طبيعة الزمان والحاجة للتقنين وعدمه هي التي تحكم على صحة التقنين وجوازه وعدم جوازه (1) .
__________
(1) وانظر محاسن التقنين ومساوئه : الدكتور عبد الرحمن الحميضي ، القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، ص : 304 -305 ، وانظر : الدكتور محمد مصطفى الزحيلي ، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية ، دمشق ، دار الفكر ، ط1 ، 1980م ، ص : 110-112 .(47/19)
وحاصل ما ذكره المحققون في زماننا : أن التقنين أمر مهم شريطة أن يكون هذا التقنين يستند إلى النظر فيه في عموم المذاهب الفقهية المعتبرة ، والبحث عن القول الأقوى دليلا من غير تعصب أو تحيز أو هوى .
وقد أصبح التقنين أمرا حاصلا ، وواقعا ماثلا ، فالدول العربية والإسلامية تأخذ به ، ولكن التحدي الكبير الذي يواجهه التقنين الآن ، هو كيفية النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، سيما في مجال المراجعة المستمرة لهذه القوانين استنباطا وتأصيلا ، والعناية بجوانب الاجتهاد في التطبيق على ما سيأتي في مفردات البحث – إن شاء الله تعالى - .
بل قد دعا الشيخ مصطفى الزرقا – رحمه الله تعالى – إلى توحيد الحكم القضائي عن طريق التقنين ، ويرى أنه ضرورة بخلاف توحيد الفقه والاجتهادات الفقهية فإنها أمر مستحيل ، ويبين أن اختيار بعض الآراء الفقهية في وقت ما لتقنينه وتوحيد الحكم القضائي عليه لا يمنع تغيير هذا الاحتيار ، واستبدال غيره به من الآراء الفقهية الأخرى كلما تبدلت الظروف والحاجة ، أو رؤي أن غيره أصلح ، وبه تتحقق مصلحتان للأمة توحيد الحكم القضائي ، والاستفادة من جميع المذاهب الفقهية (1) .
__________
(1) وانظر تفصيل هذه الفكرة ، وكيفية التقنين : الشيخ مصطفى أحمد الزرقا ، الفقه الإسلامي ومدارسه ، دمشق ، دار القلم ، والدار الشامية ، ط1 ، 1995م ، ص : 85-88 ، والشيخ مصطفى أحمد الزرقا ، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد ، المدخل الفقهي العام ، دمشق ، مطبعة الإنشاء ط9 ، 1/202-204 .(47/20)
كما أن أمر التقنين موكول أمه لولي الأمر بوصفه المطاع شرعا ، فإذا رأى أن التقنين كتنظيم يحقق مصلحة الأمة ، فطاعته واجبة (1) ، ولأن الفقهاء قد ذهبوا إلى جواز تخصيص القضاء زمانا ومكانا وموضوعا ، وأن لولي الأمر تخصيص ذلك وإلزام القا…ضي به (2) .
بخلاف النظام القضائي السعودي فإنه أخذ بمبدأ التقنين للأحكام التنطيمية العامة لتقسيم المحاكم دون التقنين التفصيلي للأحكام الشرعية الجزئية تاركا ذلك لنظر القاضي ، وتدقيق مجلس القضاء الأعلى .
…وأما بالنسبة للاجتهاد كشرط من شروط القاضي ، فهو يتعلق بشخص القاضي ، ومؤهلاته في النظر في الدعاوى القضائية ، ومعلوم بأن الفقهاء متفقون على أن العلم بالأحكام الشرعية شرط من شروط القاضي ، والذي يعني علمه بأصول الأحكام الشرعية ، وأن يكون قادرا على فهم نصوص الكتاب والسنة ، واستنباط الحكم الشرعي منها (3) .
__________
(1) الشيخ مصطفى أحمد الزرقا ، الفقه الإسلامي ومدارسه ، ص : 108 .
(2) الدكتور محمد الزحيلي ، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية ، ص : 112 .
(3) الماوردي ، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الشافعي (ت : 450 هـ ) ، أدب القاضي ، تحقيق : محيي هلال السرحان ، بغداد ، مطبعة الإرشاد ، 1971م ، 1/638 .(47/21)
ولكنهم اختلفوا في اعتبار الاجتهاد شرطا من شروط القاضي ، والفرق بين شرط العلم ، وشرط الاجتهاد ، بالنسبة للقاضي - وإن كان العلم لا يحصل إلا بالاجتهاد - ، أن شرط العلم معرفته بأصول الأحكام ، ومواطن الإجماع ، والمشهور من المذاهب (1) ، وأما شرط الاجتهاد : فهو معرفة الأصول ، والارتياض بالفروع ، والقدرة على الترجيح (2)، مما يعني أن يكون عالما بالكتاب ، والسّنة ، والإجماع ، والقياس ، وأقوال العلماء ولسان العرب ، قادرا على الاستنباط منها وفق طرائق الاجتهاد (3) .
وقد ذهب جمهور الفقهاء من المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة (6) إلى أن الاجتهاد شرط لصحة تقليد القضاء ؛ في حال غير الضرورة ، وفي حال الضرورة يلي الأمثل فالأمثل ، وذهب الحنفية إلى أن الاجتهاد شرط أفضلية لا شرط صحة (7) .
وللجمهور أدلة كثيرة متعاضدة ، منها :
__________
(1) ابن قدامة ، أبو محمد موفق الدين عبد الله المقدسي ، الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق : زهير الشاويش ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، ط5 ، 1988م ، 4/434 . …
(2) الماوردي ، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الشافعي (ت : 450 هـ ) ، الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ص : 53 .
(3) الخطيب الشربيني ، مغني المحتاج ، 4/376 -377 ، الحصيني الشافعي ، كفاية الأخيار ، 2/657 .
(4) الحطاب ، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي ، (ت: 954 هـ ) ، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، 6/88 ، وابن فرحون ، تبصرة الحكام ، 1/26 .
(5) الخطيب الشربيني ، مغني المحتاج ، 4/375 ، والحصيني الشافعي ، كفاية الأخيار ، 2/657 .
(6) ابن قدامة ، الكافي ، 4/434 .
(7) الكاساني ، بدائع الصنائع ، 7/3 ، والأشفورقاني ، صنوان القضاء وعنوان الإفتاء ، 1/86-87 .(47/22)
- قوله تعالى : " لتحكم بين الناس بما أراك الله " (105 : النساء ) ، وقوله تعالى : " وإن احكم بينهم بما أنزل الله "(49: المائدة ) .
وجه الدلالة في الآيتين الكريمتين : أن الله تعالى يأمر بالحكم بما أنزل الله ، وهذا الأمر يقتضي الإيجاب ،وهذا الإيجاب لا يتحقق إلا ببذل الناظر طاقته ووسعه لإصابة حكم الله تعالى ، حتى يكون ممتثلا للأمر الشرعي ، وهذا النظر هو عينه الاجتهاد ، فكان الاجتهاد حينئذ شرطا لصحة الحكم بما أنزل الله .
ما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب ، فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ، ثم أخطأ ، فله أجر "(1) .
وجه الدلالة في الحديث النبوي الشريف : أن قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ..... نص في اشتراط الاجتهاد في الحكم ، وهو القضاء بين الناس بالعدل .
إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة والدالة على اشتراط الاجتهاد عند القدرة عليه بمرتبة من مراتب الاجتهاد ، فإن رتبة الاجتهاد قد تندر في بعض الأزمنة أو تعدم ، ونصب القضاء ضرورة ؛ فإذا لم تعين مقلدا تعطلت الأحكام ، وحلت النزاعات وشاعت الخصومات ، وهذا لا سبيل له في الشرع .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري ، وانظر : البخاري ، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ، الجامع الصحيح المختصر ، حديث رقم : (4795 ) ، دار ابن كثير ، اليمامة ، بيروت ، ط3 ، 1987 م ، تحقيق : د. مصطفى ديب البغا ، 6/2676 ، ومسلم ، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري ، صحيح مسلم ، حديث رقم : " 1716 " ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، 3/1342 .(47/23)
كما أن شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ، ويحب تولية الأمثل فالأمثل ، فيولى أعدل المقلدين وأعرفهم ؛ وإلا لتعطلت الأحكام ، واختل النظام (1) .
هذا ، وإن رأي الجمهور هو الراجح ، وأن تحصيل الاجتهاد النسبي الذي يستطيعه المجتهد ، وبحسب الزمان والمكان ، ولا يشترط حينئذ الشروط التي نص الفقهاء بكمالها ، وإنما يكون بدراسة آيات الأحكام ، وأحاديث الأحكام مع دراسة مسائل الفقه من كتب المذاهب ، وأصول الفقه ، بالإضافة إلى التدرب على الأعمال القضائية ، والتخصصات ذات الصلة ، فالذي يتولى القضاء الشرعي عليه التمرس والبحث والدراسة في مسال الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة وإرث وهبة ووصية وما إلى ذلك (2) .
وقد اشترط قانون تشكيل المحاكم الشرعية الأردني أن يكون القاضي في المحاكم الشرعية أن يكون حاصلا إجازة القضاء الشرعي ، كما يشترط التدرب على العمل القضائي ، واجتياز اختبار لاختيار أفضل المتقدمين للوظيفة القضائية (3) .
ثانيا : الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر :
__________
(1) الخطيب الشربيني ، مغني المحتاج ، 4/377 ، والبهوتي ، منصور بن يونس بن إدريس ، كشاف القناع عن متن الإقناع ، تحقيق : هلال مصيلحي مصطفى هلال ، بيروت ، دار الفكر ، 1402هـ ، 6/296 ، وانظر : الدكتور عبد الكريم زيدان ، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية ، ص : 26 ، وقد عنون الدكتور بالعنوان التالي : ضرورة الاجتهاد للقاضي ، ومتى يقضي القاضي باجتهاده ، ص : 209-210 .
(2) الدكتور عبد الناصر موسى أبو البصل ، نظرية الحكم القضائي في الشريعة والقانون ، ص : 149 .
(3) المادة (3) ، قانون تشكيل المحاكم الشرعية الأردني .(47/24)
تقتضي المعاصرة نوعين من الاجتهاد : الاجتهاد الانتقائي أو الترجيحي ، والاجتهاد التجديدي أو الإنشائي ، أما الأول : فعناه اختيار أحد الآراء المنقولة في تراثنا الفقهي ؛ دون تعصب لمذهب أو رأي معين ، وأما الثاني : فهو استنباط أحكام جديدة لبعض المسائل ؛ وفي دائرة الانتقاء يؤخذ بأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم (1) .
والمعاصرة في الاجتهاد تتطلب مراعاة الظروف الاضطرارية أو الحاجية عملا بالقواعد الشرعية ، ووسائل المعاصرة تتطلب بلوغ العالم رتبة الاجتهاد ، واحترام النص القطعي ، وتقدير ملاءمة المصلحة لمصالح الشريعة والاعتماد على مبدأ التوسع في فهم النص القرآني أو النبوي ، والعناية بالحديث متنا ودراية وفهما (2) .
ثم إنه يمكن القول بأن الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ليس أمرا مستحيلا ، ولا متعذر الوقوع ، بل إن الاجتهاد التخصصي يجعل من القضاة متخصصين في الأحكام القضائية تأصيلا وتطبيقا ، وهو ممكن مع مزيد من إعادة النظر في قضائنا الشرعي ، والبحث عن مواطن الضعف والخلل فيه ، ومحاولة تسديدها ؛ لأن استكمال شروط الاجتهاد ليس شيئا صعبا (3) .
__________
(1) الدكتور وهبة الزحيلي ، الاجتهاد الفقهي الحديث منطلقاته واتجاهاته ، ضمن الندوة التي بعنوان : " الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد ، تنسيق محمد الروكي ، ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ، ندوة رقم : " 53 " ، الدار البيضاء ، المغرب ، دار النجاح الجديدة ، ط1 ، 1996م ، ص : 28-29 .
(2) الدكتور وهبة الزحيلي ، الاجتهاد الفقهي الحديث منطلقاته واتجاهاته ، ص: 29 .
(3) إسماعيل الخطيب ، الاجتهاد بين الفرد والمؤسسة ، ضمن ندوة : " الاجتهاد الفقهي ، أي دور وأي جديد " ، ص : 96 .(47/25)
مما سبق يمكن القول بأن الاجتهاد القضائي الشرعي في زماننا أصبح يعتمد على التقنين للأحكام الشرعية ، مما ضيق مجال الاجتهاد المطلق والاجتهاد المباشر ، وكاد الاجتهاد القضائي الشرعي في زماننا ينحصر في مجال تطبيق نصوص القوانين المقننة أو في مجال استنباط الحكم الواجب تطبيقه عند عدم النص ، وقد أشار إلى ذلك الدكتور محمد سلام مدكور بقوله : " والاجتهاد الآن بالنسبة للقضاء ، يطلق على المسلك الذي يتبعه القضاة في أحكامهم سواء منها ما يتعلق بتطبيق نصوص القانون أم باستنباط الحكم الواجب تطبيقه عند عدم النص " (1) .
إلا الاجتهاد القضائي الشرعي في قانون المملكة العربية السعودية فإنه يعتمد على الاجتهاد القائم على الاعتماد على المذهب الحنبلي واجتهاد القضاة .
وقد ذكر الأستاذ كمال الصمادي أن الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر هو : " المسلك الذي يتبعه القضاة في استنباط الأحكام الشرع ية في النوازل المعروضة عليهم ، وتطبيق النصوص الشرعية والقانونية على الوقائع والحوادث ، وتفسير نصوص القانون والوقائع وتفريعها على أصولها ، والسير بإجراءات التقاضي حتى صدور الحكم " (2) .
ويؤخذ من الكلام السابق أمران :
الأول : أن الاجتهاد القضائي محصور في محل واحد هو الدعاوى والوقائع والنوازل التي تعرض على القضاة في المحاكم فقط .
الثاني : أن الاجتهاد القضائي المعاصر يتنوع إلى أربعة أقسام سيأتي البحث فيها في مجالات الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر .
__________
(1) الدكتور محمد سلام مدكور ، مناهج الاجتهاد في الإسلام ، جامعة الكويت ، 1973م ، 2/338 .
(2) كمال علي صالح الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، رسالة ماجستير ، كلية الشريعة ، جامعة اليرموك ، رسالة مخطوطة ، 2003 م ، ص : 8 .(47/26)
لذا ، فإن الاجتهاد القضائي الشرعي في العصر الحاضر يقتصر على الاجتهاد في الجانب التطبيقي لحدود النص (1) ، أو النظر عند عدم وجود النص ضمن قواعد محددة ، وما هو إلا نتيجة طبعية للعمل بالتقنين كما سبقت الإشارة إليه ؛ إذ لا يتوفر في كثير من القضاة التأسيس العلمي الشرعي المتين الذي يؤهلهم للنظر في القضايا الشرعية ، فضلا عن توفر شروط الاجتهاد التي بحثها الفقهاء قديما .
والاجتهاد في التطبيق في القضاء من باب تحقيق المناط الخاص ، وهو إثبات مضمون القاعدة العامة أو الأصلي أو العلة في الجزئيات والفروع أثناء التطبيق بشرط أن يكون كل من المضمون والعلة متفقا عليه ، فهو ضرب من الاجتهاد بالرأي في التطبيق (2) ، وهو ذاته الذي يفعله القاضي أثناء تطبيق النصوص القانونية على الوقائع ، فلا بد من الاجتهاد في تحقيق المناط الخاص ، بتطبيق الحكم المناسب لكل شخص على حدة ؛ في ضوء ظروفه الخاصة ، التي تنهض بدليل تكليفي معين ، يستدعي حكما خاصا في حقه (3) وعليه : يرى الباحث أن الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر : " استفراغ القاضي وسعه في استنباط الحكم الشرعي من دليله ، إذا كان غير داخل ضمن التقنين التفصيلي للأحكام الشرعية ، ويكون في حدود تطبيق النصوص القانونية الشرعية ، أو استنباط الأحكام التي لم ينص عليها القانون بقواعد مرجعية محددة وفق معطيات الزمان والمكان المتجددين إذا كان ضمن التقنين التفصيلي للأحكام الشرعية " .
المطلب الثاني : مجالات الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر
__________
(1) وانظر الاجتهاد في تطبيق النصوص : زيد بوشعراء ، كلية الآداب ، القنيطرة ، ضمن ندوة : " الاجتهاد الفقهي ، أي دور وأي جديد ، ص : 101 ، وما بعدها .
(2) الدكتور محمد فتحي الدريني ، الفقه الإسلامي المقارن مع المذاهب ، دمشق ، منشورات جامعة دمشق ، ط5 ، 1995م ، ص : 27-28.
(3) الدكتور محمد فتحي الدريني ، الفقه الإسلامي المقارن مع المذاهب ، ص : 39 .(47/27)
لابد بداية من تحديد محل الاجتهاد في الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، ثم أخذ القانون الأردني أنموذجا لهذا المحل ، وذلك قبل بيان مجالات الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، فمجال الاجتهاد بالنسبة لسائر الدول العربية والإسلامية هو قانون الأحوال الشخصية ، والقانون المدني في بعضها ، وفي السعودية فإن الحكم في جميع الأحكام يكون على وفق الشريعة ، وأن النظام القضائي في السعودية هو النظام الوحيد في البلاد العربية المستمد من الشريعة الإسلامية ، ولكنهم لم يأخذوا بجانب التقنين التفصيلي للأحكام الشرعية ؛ لأن معظم فقهاء السعودية يرون عدم جواز التقنين ، وقد عرض ذلك الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، فاجتمع رأيهم على ردها ، ويبدو أنه من الناحية العملية هم يأخذون بتقنين الأحكام ، ولو على مستوى المذهب الحنبلي ، ومعلوم أن المذهب المعمول به هو مذهب الحنابلة ، وقد صدر قرار الهيئة القضائية رقم (3) في 7/1/1347هـ ، ونصه : " أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل نظرا لسهولة مراجعة كتبه ، وإلزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله "(47/28)
ونص القرار المذكور على الكتب المعتمدة في المذهب ، وهي : شرح منتهى الإرادات للبهوتي ، وشرح الإقناع المسمى بكشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي ، فنا اتفق عليه الشيخان فهو المتبع ، وما اختلفا فيه فالعمل بما في المنتهى ، ثم تطور الأمر إلى تشكيل لجنة تنظر فيما لم ينص عليه في كتب المذهب ، وكما هو ظاهر فهو إلزام بمذهب واحد ، مع الاجتهاد فيم لم ينص عليه فيه (1) .
وعليه : فالاجتهاد في المحاكم السعودية على اختلافها أعطى القاضي الشرعي حرية الاجتهاد بدون أن يلتزم بتقنين محدد ، وبإشراف مجلس القضاء الأعلى لمراجعة أحكام القضاة وتسديدها ، وتصويبها .
أما بالنسبة للأردن فإن الدستور الأردني في المادة (99) قسم المحاكم إلى ثلاثة أنواع ، فقد نصت هذه المادة على أن : "المحاكم ثلاثة أنواع : 1- المحاكم النظامية 2- المحاكم الدينية 3- المحاكم الخاصة " (2) ، ونصت المادة (106) على أن المحاكم الشرعية تطبق في أحكامها أحكام الشريعة الإسلامية ، حيث ورد فيها : " تطبق المحاكم الشرعية في قضائها أحكام الشرع الحنيف " ، ثم إن المعمول به عن طريق التقنين قانونان :
__________
(1) وقيل : إن المراجع المعتمدة ستة هي : الإقناع لموسى الحجاوي ، وكشاف القناع على متن الإقناع لمنصور البهوتي ، ومنتهى الإرادات للفتوحي ، وشرحه لمنصور البهوتي ، والمغني لابن قدامة ، والشرح الكبير لعبد الرحمن بن قدامة ، وقيل : إن المذهب المعتمد عموما هو المذهب الحنبلي عموما بدون تقييد بمرجع محدد ، وانظر : الدكتور محمد الزحيلي ، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية ، ص : 170-171 .
(2) نشر في الجريدة الرسمية في العدد (1093 ) ، تاريخ 8/1/1952م .(47/29)
القانون الأول : القانون المدني الأردني والذي غالبيته من المذهب الحنفي ؛ لأنه وريث مجلة الأحكام العدلية ، وفيه مسائل من المذهب المالكي والشافعي والحنبلي اقتضتها مصالح الناس ، وهي أرجح دليلا من المذهب الحنفي ، وقد اعتبر هذا القانون أصلا للقانون المدني لدولة الإمارات العربية المتحدة ، مع معالجة لبعض المسائل بناء على اعتبار المذهب المالكي فيها (1).
والقانون المدني واجب التطبيق إلا فيما يتعارض مع القوانين الخاصة ، وهي مجموعة القوانين التي تنظم العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض أو بينهم وبين الدولة باعتبارها شخصا عاديا كباقي الأشخاص لا باعتبارها صلاحية وسلطة وسيادة ، ويعد القانون المدني الشريعة العامة في تنظيم علاقات القانون الخاص ، أي أنه يعد المرجع العام الذي يرجع إليه عند عدم وجود قواعد خاصة في فروع القانون الخاص الأخرى كقانون الأحوال الشخصية والعمل والتجارة مثلا (2) .
وقد نص القانون المدني الأردني في المادة الثانية منه على أنه : " 1- تسرى نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها من هذه النصوص بألفاظها ومعانيها ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص .
2- فإذا لم تجد المحكمة نصا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون ؛ فإن لم توجد فبمقتضى مبادىء الشريعة الإسلامية .
3- فإن لم توجد حكمت بمقتضى العرف ؛ فإن لم توجد حكمت بمقتضى قواعد العدالة ، ويشترط في العرف أن يكون عاما وقديما ثابتا مضطردا ، ولا يتعارض مع أحكام القانون أو النظام العام أو الآداب ، أما إذا كان العرف خاصا ببلد معين فيسري حكمه على تلك البلد .
__________
(1) الدكتور عبد الناصر موسى أبو البصل ، نظرية الحكم القضائي في الشريعة والقانون ، ص : 299 .
(2) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 9 .(47/30)
4- ويسترشد في ذلك كله بما أقره القضاء والفقه على أن لا يتعارض مع ما ذكر " (1) .
يقول الشيخ الزرقا : " وقد تحققت الفكرة – أي التقنين – في بعض البلاد العربية ، حيث ولد أول قانون مدني حديث في أسلوبه وترتيبه وتبويبه مستمدا من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه ، وذلك في المملكة الأردنية على يد لجنة من رجال الفقه والقانون مع مذكرة إيضاحية تواكب مواده مادة فمادة ، وتصلها بمصادرها من فقه المذاهب ، أو تدعمها بقياس اجتهادي ، أو بالتخريج على قاعدة الاستصلاح والمصالح المرسلة ، وصدر القانون رسميا في عام 1976م ، وحل محل مجلة الأحكام ..... " (2) .
__________
(1) القانون المدني الأردني رقم : (43 ) لسنة 1976م ، نشر في ص : 2 من العدد 2645 من الجريدة الرسمية الصادر في 1/8/1976م ، ط 1992 م ، موسوعة الجيب للتشريع والقضاء والفقه ، يرأس تحريرها المحامي سعدي عابدين ، ص : 24-25.
(2) وانظر التفصيل : الشيخ مصطفى أحمد الزرقا ، الفقه الإسلامي ومدارسه ، ص : 124 ، وما بعدها .(47/31)
القانون الثاني : وهو قانون الأحوال الشخصية ، وقد تم تقنين بعض الأحكام الشرعية بموجبه لتطبيقها في المحاكم على سبيل الإلزام ؛ لضبط الأمور ، وتحديد المرجعية في الأحكام ، وقد استمد كثيرا من أحكامه من المذهب الحنفي ، واستمد البعض الآخر من المذاهب الإسلامية الأخرى(1) ، كما أغفل كثيرا من المسائل ، ولم يتعرض لها ، ولم يعالجها بنص قانوني ، فقد نصت المادة : 183 بأن :" ما لا ذكر له في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة " (2) ، مثل أحكام الوصية ، ومرض الموت ، والهبة والوقف والإكراه وغير ذلك ، والأصل أن يرجع القاضي في أحكام هذه المسائل إلى القانون المدني طالما لم يتعرض لها قانون الأحوال الشخصية ، فإذا لم تجد المحكمة نصا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون ؛ فإن لم توجد فبمقتضى مبادىء الشريعة الإسلامية (3) .
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : م .
(2) موسوعة التشريعات والاجتهادات القضائية ، قانون الأحوال الشخصية رقم (61) لسنة 1976م ، والمعدل بقانون رقم : (82 ) لسنة 2001 ، والمنشور بالجريدة الرسمية ص : 5998 ، رقم (4524 ) ، 21 كانون أول 2001 ، إعداد المحامي : محمد أبو بكر ، عمان ، الأردن ، الدار العلمية الدولية ، ط1 ، 2003 ، ص : 60 .
(3) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 10 .(47/32)
وهذا النص في القانون لا يعني أنه اجتهاد من قبل القاضي بالنظر في الأدلة والحجاج ، بل هو إحالة من قبل القانون للقضاة إلى الرجوع إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة ، لأنه ليس أكثر من مجرد بحث عن الراجح من الأقوال في هذا المذهب ، وفق قواعد في تعيين الراجح فيه ، وليس هو اجتهادا في الترجيح بين تلك الأقوال ولا من وجه .
غير أنه لا ينكر أن الرجوع إلى مصادر المذهب الحنفي ، يتطلب من القاضي الدراية بأصول المذهب ، ومعرفة دقيقة بمصطلحاته ؛ ومن يعتمد قوله ، ومن لا يعتمد ، والموازنة والترجيح بين النقول في المذهب ؛ لكي يستطيع التوصل للرأي الراجح من مذهب الحنفية ، وهذا يتطلب من القاضي قدرا من الجهد .
ذلك أنه قد يكون القول متفقا عليه في المذهب الحنفي كمقدار الرضاع المحرم (1) .
وقد تكون هذه المسائل فيها خلاف في المذهب الحنفي فتحتاج إلى دراية ودربة ونوع اجتهاد وتتبع لمعرفة الرأي الراجح في المذهب ، كما في نوع الفرقة الواقعة بين الزوجين بسبب إباء الزوج الدخول في الإسلام بعد إسلام زوجته ، فهل هي فرقة طلاق كما هو عليه جمهور الحنفية ، أم فرقة فسخ كما قال أبو يوسف(2). ، وكالوقت الذي ينتهي فيه سن الرضاع المحرم ، فهل يحكم القاضي برأي الإمام الذي جعله ثلاثين شهرا أم برأي الصاحبين اللذين جعلاه حولين ، أم برأي زفر الذي اعتبره ثلاث سنوات (3) .
وعليه : فإنه يمكن إعمال وتطبيق نص المادة : " 183 " من القانون في حالتين هما :
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 204 .
(2) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 137 .
(3) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 205 .(47/33)
الحالة الأولى : في المسائل التي أخذ القانون أخذ القانون أصلها الفقهي من المذهب الحنفي .
الحالة الثانية : في المسائل التي أغفلها القانون ، ولم يتطرق لها ابتداء ، مثل التفريق للردة ، وفسخ عقد الزواج للرضاع المحرم ، كما أنه لا يمكن تطبيق نص المادة فيما استجد من حوادث في الحالات التالية :
الحالة الأولى : ما استجد من حوادث مما استمده القانون من المذاهب الأخرى .
الحالة الثانية : فيما أقره القانون ، وليس له أصل فقهي .
الحالة الثالثة : مما له أصل فقهي إلا أن القانون قيده بقيود وضوابط من غير المذهب الحنفي (1) .
مما سبق يتبين أن مجال الاجتهاد وفق القانون المدني الأردني ، يفتح أفقا واسعا في الاجتهاد فيما لم ينص عليه أولا باجتهاد غير مقيد بمذهب بل بقواعد الشريعة الإسلامية ، ومبادئها ، والاستفادة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه ، مما يفتح مجالا رحبا للاجتهاد فيما لم ينص عليه في القانون .
وفي كلا القانونين نجد أن الاجتهاد ينصب ابتداء على تطبيق نصوص هذين القانونين ، ثم الاجتهاد الجزئي فيما لم ينص عليه سواء ضمن مذهب محدد كما هو في قانون الأحوال الشخصية ، أو اجتهادا عاما ضمن المذاهب الفقهية المعتبرة كما هو في القانون المدني الأردني ، ولا شك أن دائرة الاجتهاد التطبيقي هي الأربى والأوسع مجالا والأرجب إعمالا ، بينما يقل دور الاجتهاد الاستنباطي لحد كبير ؛ لقلة وقوعه ، وندرة من يستطيع القيام به من القضاة المعاصرين .
هذا ، وإن المحاكم الشرعية في الأردن على مستويين (2) :
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 9 .
(2) وانظر : محمد العربي ، المبادىء القضائية لمحكمة الاستئناف الشرعية ، ص : 2 ، وما بعدها .(47/34)
المستوى الأول : المحاكم الابتدائية : وهي التي تتولى الفصل في الدعاوى التي تدخل ضمن اختصاص ووظيفة المحاكم الشرعية ، كالزواج والتفريق والنفقة وغيرها .
المستوى الثاني : محاكم الاستئناف ، وهي محاكم عليا : تدقق مدى التزام المحاكم الابتدائية بنص القانون في القضايا التي تعرض عليها ، ولمحكمة الاستئناف صلاحية فسخ وتصديق وتعديل الأحكام الصادرة عن المحاكم الابتدائية ، وإصدار الأحكام في الموضوع ، متى وجدت المسوغ لذلك ؛ وما يصدر عنها من أحكام يشكل جزءا من الاجتهاد القضائي المعاصر ، وقد أوجب قانون أصول المحاكمات الشرعية على محكمة الاستئناف التدقيق في جميع الأحكام الصادرة عن المحاكم الابتدائية فيه ؛ لضمان سلامة التطبيق القانوني (1).
وأما مجالات الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر وفق التقنين ، ووفق العرض السابق فهي (2) :
المجال الأول : الاجتهاد في استنباط الحكم الشرعي للقضايا والوقائع التي تعرض على القضاة ، مما ليس في القانون نص مقنن فيها ، وهذا المجال ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الاجتهاد الاستنباطي ، وهو على ثلاثة أنواع :
__________
(1) محمد حمزة العربي ، المبادىء القضائية لمحكمة الاستئناف الشرعية ، ص : 2-3 ، وكمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : ن .
(2) انظر هذه المجالات تفصيلا : كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 11-18 .(47/35)
النوع الأول : الاجتهاد في استنباط حكم واقعة ليس في القانون نص على حكمها ، ولا سبق لفقهاء المذاهب الفقهية اجتهاد فيها ، ولكن لها أصلا فقهيا يمكن استنباط حكمها منه ، نقول : أصلا فقهيا ، وليس استنباطا من النصوص الشرعية مباشرة ، أو من الأصول الشرعية ، أو من أصول المذاهب أو نصوصه ، كما لو طلبت الزوجة التفريق لهجر زوجها إياها ، وقد تركت بيت الزوجية لكونه غير شرعي ، فهل يجوز لها طلب التفريق للهجر حينئذ ؟ علما بأن الأصل الفقهي لهذه الواقعة هو إجازة المالكية والحنابلة التفريق بين الزوجين للهجر والضرر .
فقد اجتهدت محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في هذه المسألة فرأت في قرارها رقم :( 24701 ) ، تاريخ 16/5/1984م وقرارها رقم : ( 24933 ) تاريخ 1/9/1984م : " إن ترك الزوجة بيت الزوجية ، لا يحرمها الحق في طلب التفريق للهجر ، إلا إن كان تركا بدون عذر شرعي ، وأن من الأعذار الشرعية التي لا تفوت حق الزوجة في طلب التفريق للهجر مع خروجها من بيت الزوجية – أن يكون ذلك البيت غير شرعي ، أو أن يطردها الزوج منه " (1)
النوع الثاني : الاجتهاد في استنباط حكم واقعة ليس في القانون نص على حكمها ، ولا سبق لفقهاء المذاهب اجتهاد فيها ، ولا أصل فقهي لها يمكن استنباط حكمها منه ، إلا أن القانون أقر موضوعها في الجملة ، وذلك كإقرار القانون حق الزوج في رفع دعوى التفريق للشقاق والنزاع ، في حين أن الفقهاء لم يقولوا بهذا الحق للزوج ؛ فإذا عرضت واقعة في هذا الموضوع استجد فيها جزئية لم ينص عليها القانون على حكمها ، وليس للفقهاء كلام فيها ، فيكون على القاضي الاجتهاد لاستنباط حكمها .
__________
(1) الدكتور أحمد محمد علي داود ، القرارات الاستئنافية في الأحوال الشخصية ، عمان ، الأردن ، مكتبة دار الثقافة ، ط1 ، 1999م ، 1/236 .(47/36)
النوع الثالث : الاجتهاد في استنباط حكم واقعة لها أصل فقهي ، إلا أن القانون قيدها بقيود لم يذكرها القانون ، وقد استجد بالنسبة إلى تلك القيود أمور لم ينص عليها القانون ، ولا تكلم عليها الفقهاء ، نظرا لسكوتهم عن تلك القيود جملة : وذلك كاشتراط القانون صدور حكم نهائي بالحبس على الزوج لمدة ثلاثة سنوات فأكثر ، وقضاؤه في السجن سنة – لجواز طلب الزوجة التفريق للحبس – وحينئذ قد تستجد أمور بالنسبة إلى هذه القيود لم ينص عليها القانون ، ولا ذكرها الفقهاء ، كما لو صدر قانون عفو عام يخفض حكم عقوبة السجين لمدة أقل من ثلاث سنوات ، وطلب الزوج لذلك رد دعوى التفريق المقامة ضده ، فيجتهد القاضي في قبول طلبه أو عدم الالتفات إليه
فقد اجتهدت محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في هذه المسألة ، فرأت في قرارها رقم (12439 ) تاريخ 8/12/1962م ، ونصت على : " أن العقوبة إن نزلت بالعفو العام حتى أصبحت أقل من ثلاث سنوات قبل أن تقيم المدعية عليه دعوى التفريق للسجن ، فلا تقبل دعواها حينئذ ، وأما إن نزلت بالعفو العام بعد إقامة المدعية الدعوى ، فتقبل دعواها ، ولا يقبل دفع المدعى عليه للدعوى بهذا التخفيض الحادث بعد رفعها (1) .
__________
(1) داود ، القرارات الاستئنافية ، 1/326 ، والدكتور عبد الفتاح عايش عمرو ، القرارات القضائية في الأحوال الشخصية ، عمان ، الأردن ، دار يمان ، ط1 ، 1999م ، ص : 67 .(47/37)
القسم الثاني : الاجتهاد التنزيلي التطبيقي بإنزال الحكم الفقهي الواجب التطبيق على الوقائع المعروضة على القاضي ، وهذه الوقائع قد بين الفقهاء أحكامها ، وإن كان القانون لم ينص عليها ، ولم يتعرض لها ، فيكون على القاضي أن يجتهد في معرفة الآراء الفقهية الواردة في تلك الواقعة ، ليتبين منها الرأي الأكثر موافقة للقانون ، ثم يصير على تنزيله وتطبيقه على الواقعة ، فيكون اجتهاده هذا استنباطيا باعتباره اجتهادا عند عدم النص القانوني ، ويكون تنزيليا تطبيقيا ، باعتباره اجتهادا في تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة .
ويتضمن الاجتهاد التطبيقي للنصوص القانونية ، جملة من المراحل : أولها النظر في الواقع ، وهو فهم النص والفقه فيه ، وهو تحقيق المناط الذي قال عنه الإمام الشاطبي :" معناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكت يبقى النظر في تعيين محله " (1) ، ولذلك فإن المجتهد لا يعمد على النصوص فيطبقها بشكل آلي ، وينظر إلى الواقع بصورة دقيقة ، بالنظر في الحال والزمان والمكان والأشخاص ، والثانية : النظر في مآل التطبيق ، وأن يحقق مقصد الشارع من شرع الحكم (2) .
__________
(1) أبو إسحاق الشاطبي ، الموافقات في أصول الشريعة ، تحقيق : عبد الله دراز ، بيروت ، دار المعرفة ، 3/43-44 .
(2) زيد بوشعراء ، كلية الآداب ، القنيطرة ، ضمن ندوة : " الاجتهاد الفقهي ، أي دور وأي جديد " ، ص : 101 ، وما بعدها .(47/38)
وذلك أن كثيرا من المسائل لم يقل بها الحنفية ابتداء ، وذلك كالتفريق للغيبة والهجر والعجز عن دفع النفقة والمهر والتفريق للسجن والعيوب المانعة من الدخول بالمرأة والتفريق للشرط ، وغير ذلك من المسائل ، فحينما تستجد مسائل وحوادث ونوازل أمام المحاكم لم يعالجها القانون ، ولا حكم لها في المذهب الحنفي ، يكون لزاما على القاضي الرجوع فيها إلى المذهب الفقهي الذي استمد منه القانون أصل المادة لمعرفة الآراء الفقهية في الواقعة المعروضة ، وتحديد الأقرب للتشريع ؛ ثم إنزال الحكم الشرعي على الواقعة المعروضة ، ومثال ذلك : إذا طلبت الزوجة التفريق لغياب زوجها عنها ؛ فادعى الزوج أن غيابه كان لسبب مشروع كالعمل مثلا ، فهل يقبل قول الزوج على إطلاقه ، أم لا بد من شروط وضوابط يجب أن تتحقق حتى يعد عمل الزوج سببا مشروعا لغيابه .
المجال الثاني : الاجتهاد في تفسير نصوص القانون ، وتطبيقها على القضايا والوقائع التي تعرض على القضاة وذلك أن تطبيق النص القانوني على الواقعة مرتب على فهمه وتفسيره أولا ، وأن النص القانوني قد يكتنفه خطأ مادي ، أو خفاء في العبارة ، أو إجمال في اللفظ أو نقص في التركيب ، وهنا لابد للقاضي من الاجتهاد في تفسير النص لإزالة الإبهام الذي يكتنفه ، لتصحيح الخطأ المادي ، أو إزالة الخفاء أو بيان المجمل ، أو تكميل النقص .
وعند وجود نص قانوني بحاجة إلى تفسير يرجع القاضي في تفسيره إلى أحكام المذهب الفقهي الذي استمد ذلك النص القانوني منه ، كما أنه يستفاد من قواعد علم أصول الفقه في تفسير النصوص التي بحاجة لبيان عن طريق مبحث دلالات الألفاظ ، والتعمق في المصطلحات اللغوية ، والمصطلحات الفقهية ، والمذكرات الإيضاحية عند وجودها .(47/39)
المجال الثالث: الاجتهاد في تطبيق النصوص القانونية على الوقائع التي تعرض على القضاة ، حين توجد أمور تقديرية وأوصاف عامة لم ينص عليها القانون على حكم كل جزئية منها على حدتها ؛ مع أن لكل جزئية منها خصوصية ليست في غيرها ، وذلك نحو أن ينص القانون على عدم قبول شهادة من بينه وبين المشهود عليه عداوة دنيوية ، ثم تعرض واقعة يطعن المشهود عليه فيها في الشاهد بوجود عداوة دنيوية بينهما حملته على الشهادة ضده ، فههنا لابد أن يدعي الطاعن سببا لهذه العداوة وحوادث تدل عليها ، مع أن للعداوة طرفا يدل على وجودها – كما لو قتل أحدهما ابن الآخر – وطرفا أدنى خارج عن أن يكون سببا للعداوة قطعا – كأن يكون أحدهما طلب حقه من الآخر ، ولو برفع دعوى عليه وفيما بين هذين لطرفين أسباب كثيرة يمكن الادعاء بأنها سبب للعداوة ، تحتاج أن يجتهد القاضي في تقدير كونها سببا للعداوة أو لا ، بحيث إن أداه اجتهاده إلى أنها سبب للعداوة طبق النص القانوني على هذه الواقعة ، وإلا لم يطبقه ؛ لعدم العداوة التي هي مناط الحكم أصلا .
وكالاجتهاد في مقدار النفقة التي نص عليها قانون الأحوال الشخصية الأردني بحسب حال الزوج يسرا وعسرا ، كما هو في المواد (73، 74 ، 76 ) ، وجاءت قرارات محكمة الاستئناف الشرعية تأكد هذا التقدير بيسر حال الزوج أو عسره (1) .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص ، وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 37 ، وانظر : حدود الاجتهاد في القانون المدني الأردني وقانون الأحوال الشخصية الأردني ، الدكتور حسن تيسير شموط ، ضمانات تحقيق العدالة القضائية ووسائل تطبيقها في الشريعة الإسلامية ، رسالة دكتوراة مخطوطة برنامج القضاء الشرعي ، بقسم الفقه واصوله بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية ، 2005 م ، ص: 112-113 .(47/40)
المجال الرابع : الاجتهاد في إجراءات السير في الدعوى ، منذ رفعها ، وحتى إصدار الحكم فيها (1) : وذلك أن القانون في نصه على إجراءات التقاضي وكيفية السير بالدعوى قد يجيء بكليات وعمومات تنطبق على الدعاوى كلها ، مع أن لكل دعوى خصوصيتها وعناصرها ، وأن كثيرا من الأمور تركها القانون لاجتهاد القاضي ، فيجتهد القاضي في إجراءات السير في الدعوى لذلك ، مراعيا في كل دعوى خصوصيتها ، وعناصرها ، وغير ذلك مثله ، وذلك مثل أن القانون نص على أن القاضي لا يسأل الخصم عن الدعوى إلا بعد أن يقرر أنها واضحة ، وهو لا يقرر أنها واضحة أو غامضة أو متناقضة أو ناقصة - إلا باجتهاد ونظر وتقدير ، وكذلك إجابة الخصم على الدعوى ؛ فإنها قد تكون إقرارا بها ، أو إنكارا لها ، أو دفعا ، وتصنيف إجابته بأنها إقرار أو إنكار أو دفع – يعد اجتهادا من القاضي .
وقد نظم قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني رقم (31) لسنة 1959م كيفية السير بالدعوى وإجراءات التقاضي .
مما سبق يتضح بأن الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر يكاد ينحصر في جانب تطبيق النصوص القانونية والفقهية وتفسيرها ، واستخراج حكم الواقعة من كتب الفقه عند عدم وجود النص القانوني ، والاجتهاد في إجراءات التقاضي ، وأما الاجتهاد باستنباط حكم الواقعة من النصوص الشرعية مباشرة عند عدم وجود النص القانوني والفقهي عليه ، فوجوده قليل في هذا الاجتهاد .
__________
(1) وانظر تفصيل السبر في دعوى التفريق للشقاق والنزاع أمام المحاكم الشرعية الأردنية : محمد أمين كامل محمد الهندي ، دعوى التفريق للشقاق والنزاع أمام المحاكم الشرعية الأردنية ، عمان ، الأردن ، ط1 ، 1995م ، ص : 55-76 .(47/41)
وأما التفصيل في طبيعة مجالات الاجتهاد السابقة فإنه يمكن القول بأن عامة هذه المجالات تعتمد – إلا في صورتين سيأتي الكلام عليهما – على الاجتهاد التطبيقي التنزيلي سوء كان المطبق فيه هو النص القانوني – أي الحكم الفقهي المقنن – أم الحكم الفقهي غير المقنن ، وتسميته اجتهادا هو تجوز وتسامح في الإطلاق ؛ ولقد سمي استنباطا باعتبار أنه استخراج حكم الواقعة من نصوص الفقهاء ، عند عدم النص القانوني عليه ؛ فأشبه استخراج حكم الواقعة من نصوص الفقهاء استخراجه من نصوص الشرع
ويدخل في هذا النطاق أيضا نظام القضاء السعودي حينما أحال إلى الراجح من مذهب الإمام أحمد ، وأحال إلى مصدرين من مصادر الفقه الحنبلي هما شرح منتهى الإرادات ، وكشاف القناع ، كلاهما للبهوتي ، وفيم لم يوجد فيهما ، فإنه يجتهد فيهما الاجتهاد الاستنباطي وفق مراقبة وإشراف مجلس القضاء الأعلى ، مع أنه من الناحية التنظيمية قد نضج التنطيم القضائي الشرعي وقطعت شوطا ممتازا في مجال المرافعات والتنظيم القضائي ، ولكنه كما تقدم أحال النظر الجزئي الاجتهادي للقضاة أنفسهم ، وعلى مذهب الإمام أحمد ، وبقيت خطوة تقنين الأحكام الشرعية (1) .
وتقسم المؤسسات القضائية في المملكة العربية السعودية إلى ثلاث درجات :
1- المحاكم المستعجلة : وهي التي تنظر في بعض الأمور المدنية والجنائية ، فتختص بالجانب الجمائي بالنظر في الجنح والقصاص والتعزيرات الشرعية والحدود التي لا قطع فيها ولا قتل ، وتنظر في الجانب المدني في الدعاوى التي لا تزيد قسمتها ع (300) ريال ، وأحكامها لا تقبل النقض إلا إذا خالفت النص أو الإجماع .
__________
(1) الدكتور محمد الزحيلي ، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ، وتطبيقه في المملكة العربية السعودية، ص : 113 .(47/42)
2- المحاكم الشرعية : والتي تنظر فيما عدا ذلك ، وتوزع القضايا على القضاة ، لينظر فيها كل قاض على حدة ، وتصدر الأحكام بالإجماع أو بالأغلبية بعد اجتماع أعضاء المحكمة ، وفي القضايا التي قطع أو قتل فإن الدعوى تنظر بحضور هيئة المحكمة مجتمعة .
3- هيئة المراقبة القضائية : وهي التي تسمى بالمحكمة الشرعية الكبرى ، وتتألف من ثلاث قضاة ، وتختص بنقض أو إبرام الأحكام الصادرة عن المحاكم الدنيا مع الإشراف الإداري ، والتفتيش عليها ، كما تقوم بإصدار الفتاوى فيما يرجع إليها ، ثم أضيف إليها الإشراف على المعارف ومراقبة التدريس والمناهج ، وصلاحية الإشراف على المعارف ومراقبة التدريس ، وصلاحية الإشراف على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) .
ثم نشأ نظام القضاء عام 1372 هـ ، والذي يتكون فيه الجهاز القضائي من :
أولا : المؤسسات القضائية المستقلة : وهي هيئات قضائية وإدارية ، وتقوم بأعمال قضائية ، واختصاصات قضائية ، ولكنها منفصلة عن وزارة العدل ، ومستقلة عن المحاكم القضائية ، ومن أهمها : ديوان المظالم ، وهيئة محاكمة الوزراء ، والهيئات المختصة بتأديب الموظفين ، ولجنة قضايا التزوير ، وهيئة حسم المنازعات التجارية ، واللجان المركزية لقضايا الغش التجاري ، والغرف التجارية والصناعية ، ولجنة تسوية قضايا العمال ، والمجالس التأديبية للعسكريين ، والمجالس التأديبية لقوات الأمن الداخلي .
__________
(1) محمد حمزة العربي ، المبادىء القضائية لمحكمة الاستئناف الشرعية ، ص : 114-115 .(47/43)
ثانيا : المحاكم الشرعية في القضاء الشرعي ، وهي المقصودة بنظام القضاء ، وتشرف عليها وزارة العدل ، ثم إن الأحكام المطبقة في المحاكم الشرعية مأخوذة من الفقه الإسلامي وفق المذهب الحنبلي ، ومقننة تقنينا شكليا تنظيميا لا تقنينا تفصيليا في مواد وقانون اسمه : " نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي وتحديد اختصاصه ، والذي يتكون من (258 ) مادة ، ويحتوي النظام على ثمانية أبواب ، وهي : رئاسة القضاء التي صار اسمها المجلس الأعلى للقضاء ، وتفتيش المحاكم الشرعية ، وقضاة المحاكم الشرعية ، وكتاب المحاكم الشرعية المواد ، والمحاضرة المواد ، وكتاب العدل، ودوائر بيت المال ، ومواد عمومية انتقالية ومواد متعلقة بالنظام العام المواد (1) .
ثم أقر النظام القضاء الجديد عام 1395هـ ، ويعتبر هذا النظام تطورا عظيما في التنظيم لقضائي في المملكة ، تغييرا جذريا في الصياغة ، وترتيب المحاكم ، وشروط تعيين القضاة ، وتضمن مائة مادة ومادتين ، وينقسم على سبعة أبواب هي : استقلال القضاء وضماناته ، والمحاكم ، والقضاة ، وزارة العدل ، كتاب العدل ، موظفو المحاكم ، أحكام عامة انتقالية .
وأما ترتيب المحاكم في نظام القضاء الجديد ، فهو على أربعة أنواع ، هي :
مجلس القضاء الأعلى ، ويختص بالإشراف على المحاكم ، وتقرير المبادىء العامة الشرعة في المسائل التي يراها وزير العدل ، مع إبداء النظر في مسائل القضاء ، بناء على طلب الوزير ، ومراجعة الأحكام الصادرة بالقتل أو القطعأو الرجم .
محكمة التمييز ، وفيها دوائر ثلاث : النظر في القضايا الجزائية ، والنظر في قضايا الأحوال الشخصية ، والنظر في الدوائر الأخرى .
المحاكم العامة .
المحاكم الجزئية .
__________
(1) الدكتور محمد الزحيلي ، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية ، ص : 141 -142 .(47/44)
والملاحظ في نظام القضاء الجديد عدم النص على اختصاص كل نوع من أنواع المحاكم ، , وأحال تحديد الاختصاص على صدور قرار من وزير العدل بناء على اقتراح من مجلس القضاء الأعلى (1) .
مما سبق : يظهر أن التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية قد خطى خطوات متقدمة من الناحية الشكلية والتنطيمية ، وأنه من الناحية العملية لإصدار الأحكام القضائية فإنها ما زالت تنتهج منهج الاجتهاد المتعلق بالقاضي مع تسديد مجلس القضاء الأعلى ، وهذا ولا ريب نهوض بالقضاء الشرعي المعاصر إلى درجة معقولة من اجتهاد القاضي حسب طاقته مع إمكانية إجراء البحوث الشرعية المتعلقة بالدعاوى المقدمة للنظر فيها .
وعليه : فسيتركز الكلام في وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر على جانب الارتقاء بالتقنين الذي تأخذ به معظم الدول العربية والإسلامية ، ولكون مجال البحث مقارنا بالقانون الأردني .
المبحث الثاني : وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر
تقدم في المبحث السابق مفهوم الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، ومجالاته ، وتبين أن حدود الاجتهاد القضائي المعاصر ضيقة ، وتكاد تكون منحصرة في الجانب التطبيقي لنص القانون ، مع وجود مجال للاجتهاد الاستنباطي على نحو ضيق أيضا .
__________
(1) الدكتور محمد الزحيلي ، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية ، ص : 152-157 .(47/45)
ومن هنا فإنه من المتعين على الباحثين في مجال الفقه الإسلامي وأصوله البحث عن وسائل عملية وحقيقية للنهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر أولا من حيث هو اجتهاد ، ومن حيث محله ، وهو القوانين ، والعناية الدقيقة بالقضاة وتأهيلهم تأهيلا شرعيا متعمقا لكي يكونوا على درجة من الوعي عند تطبيق القوانين ، ولكي يسهموا في تعديل وتصحيح هذا التقنين على نحو يحقق قدرا من الاجتهاد القضائي المنشود ، وعليه : فسيقترح الباحث جملة من الوسائل ، يمكن تقسيمها في الجملة إلى قسمين ، وسيكون منهج الباحث في عرض هذه الأقسام ، هو التعريف بكل قسم منها ، ثم عرض الوسائل مع تعزيزها ببعض التطبيقات القضائية المستمدة من التقنين الشرعي الأردني ، والاجتهادات الشرعية القضائية في القوانين الأردنية ؛ لأن البحث قائم على أساس المقارنة بين الناحية النظرية ، والجانب التطبيقي في القانون الشرعي الأردني ، وذلك على النحو الآتي :
القسم الأول : وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر على مستوى التقنين :(47/46)
بادىء بدء ينبغي أن يقال بأن الأمة حكاما ومحكومين عليهم جميعا الرجوع إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في واقع الحياة ، وأن إقصاء الشريعة الذي منيت به أمة الإسلام كان من أشد الضربات التي وجهت لإضعاف المسلمين في واقعهم ومستقبلهم ، مما جر على العالم الإسلامي ويلات من التخلف والتراجع في كافة الصعد (1) ، وأن الحديث عن وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ليس هو الأمل المنتظر ، بل هو خطوة نحو تصحيح الواقع الاجتهادي القضائي الذي يعيشه المسلمون ، وأن الاتجاه نحو تطبيق الشريعة في كافة المجالات ليس شيئا مستحيلا ولا صعبا ، فالأمة تملك في كل زمان ومكان مقومات تطبيق الشريعة علما وعملا ، ومن هنا فإن البحث عن وسائل النهوض هو بحث لتدارك الخلل الموجود في مؤسسات الاجتهاد القضائي .
__________
(1) وقد عقدت عدة ندوات لخطوات تطبيق الشريعة الإسلامية ، ومنها ما عقد في ليبيا وبنغازي الأعوام ، 1970م ، 1976 م ، وفي الرياض عام 1978م ، وفي الكويت في 11/5/1992 م ، وانظر : الدكتور وهبة الزحيلي ، الاجتهاد الفقهي الحديث منطلقاته واتجاهاته ، ص : 35 .(47/47)
والذي يبدو أن الدعوات الأولى التي نادت بالتقنين كانت تنطلق من ضرورة هذا الاتجاه ؛ لكونه يشكل الحل الأمثل لتشعب مسالك الحياة ، وصعوبة قيام القضاة الشرعيين بتلبية حاجات الأمة في الاجتهاد القضائي المطلق القائم على الرجوع إلى مصادر الشرع مباشرة ، وإعطاء الأحكام الشرعية للوقائع التي تقع للناس في حياتهم ، ولكن هذه الدعوات كانت تنادي بضرورة أن يتوافر على عملية التقنين خيرة فقهاء الأمة علما واجتهادا وإخلاصا ؛ لوضع قانون شرعي في مجال التقنين يحقق أكبر قدر من الصواب ، واتباع الرأي الأقرب للدليل الصحيح ثبوتا ودلالة ، وملخص هذه الدعوات ترتكز على ضرورة قيام خيرة العلماء من الفقهاء وأهل القانون لوضع التقنين الموافق للقول الراجح في المسائل الفقهية على وفق الأقوى دليلا من الكتاب والسنة .
وينبغي التبيه إلى أن الاجتهاد الجماعي هو سمة عصرنا ، وأن النهوض بالاجتهاد الجماعي إنما يكون عن طريق المجامع الفقهية ، وعقد المؤتمرات والندوات العلمية (1) ، وكذلك الحال بالنسبة للاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر يتطلب الاتجاه نحو الاجتهاد الجماعي .
__________
(1) وانظر التفصيل في المجامع الفقهية : مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ، والمجلس العلمي بالهند والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر ، والمركز العالمي لأبحاث الاقتصاد بمكة ، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة ، والمنظمة الإسلامية الطبية بالكويت ، والهيئة الشرعية العالمية للزكاة ، والمؤتمرات والندوات الفقهية ، الدكتور عمر سليمان الأشقر ، المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي ، عمان ، الأردن ، دار النفائس ، ط1 ، 2005 م ، ص : 364 – 371 ، وانظر أهمية الاجتهاد الجماعي ، وصلته بالقضاء الشرعي ، الشيخ مصطفى أحمد الزرقا ، الفقه الإسلامي ومدارسه ، ص : 113 ، وما بعدها .(47/48)
ويمكن الإشارة إلى أن هذه الاجتهادات الفقهية يستفاد منها في الفتوى والبحث والتقنين المستمد من الفقه الإسلامي ، وأصبح الاجتهاد الانتقائي أو الترجيحي ، من مجموع المذاهب الإسلامية والاجتهادات الفقهية هو الظاهرة الشائعة في القوانين المستمدة من الشريعة أو الفقه سواء في القانون المدني أو الجنائي أو الأحوال الشخصية (1) .
وتستند هذه الوسيلة المتعلقة بسلامة التقنين ، إلى دعوة من طائفة من العلماء إلى أساس هذا التقنين ، والناحية العملية الواجب اتباعها فيه ، وسأختار بعض هذه النصوص التي ستكون مستندا للاقتراحات الآتية :
__________
(1) الدكتور وهبة الزحيلي ، الاجتهاد الفقهي الحديث منطلقاته واتجاهاته ، ص : 43 .(47/49)
1- يقول العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر : " ولم يكن الفقهاء والحكام والقضاة في العصور الأولى مقلدين ، ولا جامدين ؛ بل كانوا سادة مجتهدين ، ثم فشا التقليد بين أكثر العلماء إلا أفرادا كانوا مصابيح هدى في كل جيل ، ومع ذلك فقد كان المقلدون من العلماء يحسنون التطبيق والاستنباط في تقليدهم .... إلى أن جاء عصر ضعف المسلمين ؛ بضعف العلماء واستبداد الأمراء الجاهلين ، فتتابع الناس على التقليد ؛ ةاشتد تعصبهم لأقوال الفقهاء المتأخرين ؛ في فروع ليست منصوصة في الكتاب والسنة .... حتى لقد عرض بعض الأمراء في الجيل الماضي على العلماء أن يضعوا قانونا شرعيا ؛ يقتبسونه من المذاهب الأربعة ؛ حرصا على ما ألفوا من التقليد ، وهو طلب متواضع ؛ قد يكون علاجا وقتيا ، فأبوا واستنكروا ؛ فأعرض عنهم .... ثم جاءت النهضة الإسلامية الحاضرة ، وقد نفخ في روحها رجال كانوا نبراس عصرهم ، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، ومحمد رشيد رضا ، ووضع أصولها عمليا ، وأرسى قواعدها والدي محمد شاكر فاستيقظت العقول وثارت النفوس على التقليد ، ونبغ في العلماء من يذهب على وجوب الاجتهاد ، وقد يكون اجتهادا مبتسرا ، وقد يكون اجتهادا فيه خطأ كثير ، ولكنه خير من الجمود " (1) .
وقال :" فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه ، سواء أكان تقليدا للمتقدمين أم للمتأخرين ؛ ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين بل يكاد يكون محالا أن يقوم به فرد أو أفراد ، والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الجماعي ؛ فإذا تبودلت الأفكار ، وتداولت الآراء ، ظهر وجه الصواب إن شاء الله .
__________
(1) الشيخ أحمد محمد شاكر ، حكم الجاهلية ، ترجم للمؤلف وعرف به محمود محمد شاكر ، القاهرة ، مكتبة السنة ، ط1 ، 1992 م ، ص : 106-107 .(47/50)
فالخطة العملية فيما أرى : أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة ؛ لتضع قواعيد التشريع غير مقيدة برأي ، أو مقلدة لمذهب ؛ إلا نصوص الكتاب والسنة ، وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء ، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم ، ثم تستنبط من الفروع ما تراه صوابا ؛ مناسبا لحال الناس وظروفهم ؛ مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة ، ولا يصادم نصا ؛ ولا يخالف شيئا معلوما من الدين بالضرورة " (1) .
ويفصل الشيخ أحمد شاكر عمل هذه اللجنة فيقول : " فهذه اللجنة يجب أن تكون موفورة العدد ، يكون منها لجان عليا ، تضع الأسس ، وترسم المناهج ، وتقسم العمل إلى لجان فرعية ، ثم تعيد النظر فيما صنعوا ووضعوا عى الأمة " ويقترح بعد ذلك الآلية الاستنباطية التي تقوم بها (2) .
2- قال الدكتور عبد الكريم زيدان حينما طرح السؤال التالي : " فهل يجوز لولي الأمر بتقنين الأحكام الفقهية التي احتواها المذهب الفقهي الذي ألزم القضاة بالأخذ به ؟ والجواب : نعم يجوز ذلك عن طريق اختيار نخبة من أهل الفقه والصلاح والدين لتقنين هذه الأحكام الفقهية ؛ وأرى أن لا تقتصر على تقنين أقوال مذهب معين ؛ وإنما تأخذ بالراجح من أقوال الفقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية المعتبرة على أن يكون مستند الرجحان ، كتاب الله وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – وفقه السلف الصالح ، وعلى رأسهم الصحابة الكرام ، وعلى رأس الصحابة الخلفاء الراشدون " (3) .
وعليه : فإن الباحث يقترح اقتراحين في هذا الصدد :
__________
(1) الشيخ أحمد محمد شاكر ، حكم الجاهلية ، ص : 124 .
(2) الشيخ أحمد محمد شاكر ، حكم الجاهلية ، ص : 128-129 .
(3) الدكتور عبد الكريم زيدان ، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية ، ص : 212 .(47/51)
الاقتراح الأول : المناداة بتشكيل لجنة للنظر في القوانين المقننة ، وذلك في كل بلد إسلامي ، والبحث في مدى سلامة النصوص المقننة ، ومدى قوة هذه الأقوال واستنادها للأدلة الشرعية الصحيحة ، وأن عمل هذه اللجنة يكون في الأمور التالية (1) :
إعادة النظر في القانون المقنن ، والتأكد من صحة أحكامه استنباطا وتطبيقا ومآلا .
العمل الدائم والمستمر للنظر فيما يجد من قضايا ونوازل لم يشملها القانون ، وهذا يتطلب أن تكون لجنة دائمة تسمى بلجنة التقنين يكون على عاتقها العمل الدائم والمستمر لتجديد النظر في هذه الأحكام ، وهذه اللجنة تستعين بما تستطيعه أيضا من الباحثين وأهل الخبرة في الفقه والقانون .
تعتبر هذه اللجنة المرجع العلمي والشرعي للمحاكم الشرعية وللقضاة ؛ فيرجع إليها هؤلاء القضاة فيما يشكل عليهم استنباطا أو تطبيقا .
قيام هذه اللجان ، بعمل الدورات الشرعية والعلمية للقضاة الشرعيين ، وشرح القانون لهم ، وبيان مداخل هذه النصوص ، وتعزيز فهم القضاة الفهم الدقيق لمفردات التقنين ، مع بيان أساسه ومستنده ، مما ينقل القضاة من مرحلة التقليد ، إلى مرحلة الوعي بالقانون الذي يطبق والاجتهاد في التعامل معه .
__________
(1) هناك محاولة لتوحيد تقنينات الأزهر للشريعة الإسلامية ، وقد أنجز مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر تقنينات الشريعة الإسلامية في المذاهب الأربعة ، وكان من خطته وضع تقنين مختار من بين ذلك كله ، ولكنه لم يحث ، وحاول الدكتور عبد الناصر توفيق العطار ، وضع هذه التقينات المختارة من البيوع والربا والمعاملات المصرفية ، بناء على الدليل الشرعي الأقوى ، وهذه محاولة يستفاد منها في النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وانظر : الدكتور عبد الناصر توفيق العطار ، توحيد تقينات الأزهر للشريعة الإسلامية ، البيوع ، والربا والمعاملات المصرفية ، مصر ، النسر الذهبي للطباعة ط1 ، 2002م ، ص : 1 ، وما بعدها .(47/52)
يقوم عمل هذه اللجنة مرتبطا بالاقتراح الثاني الآتي ، وهو التواصل مع المجمع الاجتهادي القضائي الإسلامي عن طريق الاجتهاد الجماعي (1) ، في قضايا القوانين المقننة .
الاقتراح الثاني : إنشاء مجمع اجتهادي قضائي إسلامي على مستوى الأمة الإسلامية ، بل وعلى مستوى العالم ، يتكون هذا المجمع من خيرة علماء الأمة في الفقه والقانون ، وهو مجمع دائم ، تكون مهمته النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، بوضع أسسه ، ومناهجه ، ويكون عمل هذا المجمع ضمن النقاط الآتية :
التواصل مع اللجان العلمية المشكلة في كل بلد ، لمراجعة القوانين المقننة وفق المنهج الاجتهادي الجماعي ، وتصويب التقنينات التي تحتاج إلى تعديل ، فعمل اللجنة بمثابة اللجنة المشرفة على عملها والمسددة لها ، سواء أكان ضبطا للتقنينات في الدول الإسلامية ، أو التنظيم القضائي للأقليات المسلمة التي تعيش في البلاد غير الإسلامية .
البحث المستمر في المسائل التي تحتاج إلي اجتهاد سيما القضايا النازلة والحادثة ، وهذا الاجتهاد ينبغي أن ينبني كما قلت على الاجتهاد الجماعي الذي أصبح هذا العصر يتطلبه تطلبا ضروريا ؛ لكونه يقرب إلى الصواب ، ويختصر الأوقات ، ويضبط العملية الاجتهادية .
__________
(1) والاجتهاد الجماعي هو :" استفراغ جمهور أهل العلم وسعهم في درك الحكم الشرعي واتفاقهم عليه بعد التشاور فيه " ، وانظر هذا التعريف وأهمية الاجتهاد الجماعي في عصرنا ، ومجالاته ومنها القضاء الشرعي ، ومشروعيته ، وحجيته ، والاجتهاد الجماعي في النوازل ، مما يمهد لإنشاء مجمع اجتهادي قضائي إسلامي ، الدكتور مسفر بن علي بن محمد القحطاني ، منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة ، 228 – 258 .(47/53)
الدعوة إلى التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية في البلدان الإسلامية وفق خطوات مدروسة ومتدرجة ؛ لأن هذا المجمع من أعظم مهماته الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإيجاد الوعي لدى الأمة نحو ضرورته ، ووضع الدراسات التي تقرب هذا المطلب الشرعي .
ومن هنا فإن النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر يكون أساسا بالتأكد من سلامة التقنينات التي وضعها المقننون ، وسلامة استنباطها ، تمهيدا لسلامة تطبيقها ، وهذا تعود فيه المهمة الأساسية على الفقهاء الذين يسهمون في التقنين المنبنى على العلم والحيدة وسلامة المقصد ، والرغبة في إيصال الحكم الشرعي الصحيح من خلال المادة القانونية .
ويظهر من خلال الدعوات التي تحدث بين الفينة والأخرى لتعديل قوانين الأحوال الشخصية ؛ إضافة للجدل الذي يدور في المجتمعات الإسلامية حول بعض القوانين كالجدل الذي دار في الأردن حول موضوع الخلع ، وكما حدث في الإمارات من إشكال في تحديد سن الحضانة ، والتي قدرها القانون للأم بسن الحادية عشرة للصبي ، والثالثة عشرة بالنسبة للأنثى ، كل هذه الإشكالات تحتم مزيدا من المراجعة للأحكام المقننة .
القسم الثاني : وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر على مستوى التطبيق من قبل القضاة الشرعيين :(47/54)
وهذا القسم يتعلق بالجانب التطبيقي للتقنين ؛ ذلك أن وظيفة واضع القانون وظيفة اجتهادية محضة ، تحاول الوصول إلى الأحكام الشرعية الراجحة عن طريق الاستنباط ، وأما هذا القسم فوظيفته البحث في الآليات التي يمكن أن تدفع بالقضاة إلى مزيد من التبصر بالقانون ، والوقوف على غوامضه ومداخله ، والطرائق التي من خلالها يتم التعامل الكفء معه تطبيقا فيما يحتاج لتطبيق ، أو اجتهادا جزئيا ضمن القانون ، أو اجتهادا جزئيا ضمن المصادر التشريعية التي نص عليها القانون ، وعلى كل حال فإن الاجتهاد المباشر من قبل القضاة لا يعتبر اجتهادا مباشرا من المصادر التشريعية المعروفة ، ولكنه محاولة للتفهم والتمرن على تطبيق القانون .
وعليه : فيرى الباحث أن جملة من الوسائل يمكن أن تسهم في تنمية هذا الجانب من جوانب الاجتهاد القضائي ، ومنها :
أولا : إيجاد لجان اجتهاد فرعية لدراسة القضايا المستجدة :
هذه الوسيلة تعتمد في الدرجة الأولى على وجود القناعة بأن القوانين ثابتة ، لأنها وضعت لمعالجة قضايا جزئية محددة ، وأن الوقائع التي تستجد في واقع الناس لا تنتهي ، ومن هنا فلابد من إيجاد لجان اجتهاد فرعية للمحاكم الشرعية وظيفتها مد المقنن بكل ما يتبدى لها من نظر جديد في المسائل المستجدة ، وهذه اللجان يقوم على إنشائها مجلس القضاء في الدولة من خيرة العلماء والفقهاء فيها ؛ للأخذ برأيهم فيما يستجد من حوادث ، أو في القضايا التي تعرض للقضاة مما هم بحاجة لحكم شرعي فيها .
وهذه اللجان هي أرفع درجة من محاكم الاستئناف التي سيأتي الحديث عنها ؛ لأن وظيفتها استشارية لمجلس القضاء ، وتسهم في مد القضاة بالاستشارة الشرعية المناسبة فيما يعرض للقضاة من إشكالات في الاجتهاد القضائي .(47/55)
أن إيجاد مثل هذه اللجان الفرعية ينبغي أن يكون مرتبطا بالمعاهد العلمية وكليات الشريعة المتخصصة والمراكز الفقهية والقانونية ارتباطا وثيقا لتحقيق غرض الاجتهاد الجزئي فيما يعرض للقضاة ، ولا يمنع من استعانة المحاكم الابتدائية والاستئنافية بهذه اللجان ، بالطبع سيكون رأي هذه اللجان رأيا استشاريا غير ملزم ابتداء إلا بعد اقتناع دائرة التشريع بهذه الاجتهادات ، والأخذ بها .
ثانيا : تفعيل دور محاكم الاستئناف
المقصود بتفعيل دور محاكم الاستئناف ، هو قيام هذه المحاكم بدور المراقب والمصحح والمعدل والناقض للأحكام القضائية ، وهذا الدور يتطلب فيه قدرا من الاجتهاد في جانب التأكد من التطبيق القانوني للنصوص القانونية والتعامل مع القرارات القضائية بالإجازة أو النقض أو التعديل كما أسلفت ، وذلك عن طريق القرارات الاستئنافية ، أو جانب سد النقص والخلل في مواد القانون في القضايا التي تستجد ، ولا يوجد فيها نص قانوني مباشر ، وهذا الثاني ليس اجتهادا مطلقا ، بل هو اجتهاد ضمن توجيه القانون لمراجع المسائل المستجدة .
وتفعيل دور محاكم الاستئناف يعزز في القضاء الشرعي ضرورة المراقبة ومحاولة الاجتهاد ولو في التطبيق ، لأن سلامة التطبيق للنص القانوني لا يقل أهمية عن الاجتهاد الأصلي .
ومن خلال التعريف بمحكمة الاستئناف الشرعية في الأردن والتي عرفت بأنها : " المحكمة العليا الشرعية والجهة الوحيدة للتدقيق والنظر بالطعن بالأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم الشرعية الابتدائية ، لغير المحكمة التي أصدرت هذه القرارات " (1) .
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 19 ، وانظر تعريف محكمة الاستئناف : الدكتور عبد الناصر أبو البصل ، شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ، مكتبة دار الثقافة ، ط1 ، ص : 110 .(47/56)
إن عمل هذه المحكمة هو التأكد من سلامة التطبيق للقانون وسلامة الإجراءات الشكلية المتعلقة بالدعوى القضائية .
وقد قامت محكمة الاستئناف الشرعية في الأردن بمجهود كبير في حيز المراقبة والتدقيق للأحكام القضائية ، وسد الخلل في بعض مواد القانون فيما لم ينص القانون على حكمه ، وليس المجال للتفصيل في هذه التطبيقات فهي كثيرة ومتنوعة ، ولكني سأختار تطبيقا واحدا أبين فيه مجهود محكمة الاستئناف تدليلا على أهمية تفعيل هذا النوع من المحاكم في تنمية الاجتهاد القضائي التطبيقي ، فقد جاء في دعوى التفريق بين الزوجين للغياب والهجر والضرر ، وذلك في المواد (123، 124، 125 ) ، وقد جاء في دعوى مقامة في هذا السبب من أسباب التفريق ، وأن الدعوى المقامة بلا سبب ، وعللت محكمة الاستئناف ذلك بأن قانون الأحوال الشخصي جعل الضرر الناتج عن غياب الزوج وهجره لها سببا للدعوى وموجبا لها ، حيث ذكر ذلك في نص المادة (123 ) بعد أن اشترط إثبات الغياب والهجر التي جاء فيها : " إذا تضررت من بعده عنها وهجره لها " ، فقد جاء لفظ الضرر مجملا دون تفسير ؛ فإذا أقامت الزوجة دعوى التفريق للغياب أو الهجر ، وادعت أنها قد تضررت من غياب زوجها عنها ، قبل ادعاؤها ولا تكلف بتفسير الضرر .(47/57)
أما محكمة الاستئناف كمفسرة لألفاظ القانون فقد فسرت الضرر في قرارها رقم (19512) تاريخ 30/6/77 م ، وقراراها رقم (21040 ) بأنه : " فوات حق الزوجة بالمعاشرة الزوجية " ، حيث جاء في القرار رقم (19512) : " على المحكمة أن تعذر الزوج بما يتحقق به المعاشرة ، ويزول معه سبب الدعوى " ، وجاء في القرار رقم (21040 ) : " إن استعداد الزوج لتأمين المعاشرة الزوجية ، وإذا تمت المعاشرة بينهما على الوجه المذكور فقد زال الضرر عنها ، وبالتالي زال سبب الدعوى " ، واجتهاد محكمة الاستئناف هذا متفق مع ما ذهبت إليه المالكية والحنابلة حيث اشترط المالكية لجواز التفريق لغياب الزوج عن زوجته أن تخشى على نفسها الوقوع في الزنا ، وقد جاء في المذهبين أيضا أنه يقال للهاجر : إما طلقت وإما وطئت ، وهو متفق مع ما جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون المصري رقم (25 ) ، لسنة 1929 م (1) .
فأنت ترى أن اجتهاد محكمة الاستئناف هنا يتمثل في تفسير لفظ الضرر ، والتوصل إلى معناه المجمل عن طريق البحث في معناه عند الفقهاء .
وهناك اجتهادات متنوعة ومختلفة لهذه المحكمة ، ولها رصيد كبير من الأحكام الاستئنافية التي تسهم إلى حد ما في تنمية مفهوم الاجتهاد القضائي المعاصر (2) .
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 48 -51 .
(2) وانظر : تطبيقات كثيرة ومتوافرة : كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 52- 231 .(47/58)
وإن التوسع في عمل محاكم الاستئناف يجعلنا ننادي بإنشاء محكمة تمييز شرعية ، بحيث يفسح المجال أمام الخصوم الوصول إلى حقوقهم كما أنه يعتبرا إثراء جيدا للاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، كما أن الباحث كمال الصمادي أوصى بتعديل نص المادة (183 ) بناء على دراسة القرارات الاستئنافية الصادرة عن محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية تنمية للاجتهاد القضائي الشرعي الحر القائم على تتبع الدليل والصواب في الدعوى القضائية المقامة فقال : " تعديل نص المادة (183 ) من قانون الأحوال الشخصية بحيث تصبح على النحو التالي :
تسري نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بألفاظها ومعانيها ، ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص .
فإذا لم تجد المحكمة نصا حكمت بأحكام القانون المدني الأردني .
فإذا لم تجد نصا حكمت بأحكام المذهب الفقهي الذي استمد منه أصل المسألة ، والأقرب إلى التشريع القانوني .
ما لا نص عليه مطلقا في هذا القانون أو القانون المدني الأردني يرجع فيه إلى الراجح من المذهب الحنفي .
فإذا لم تجد في جميع ما ذكر يرجع فيه إلى القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة الإسلامية " (1) .
والناظر في هذه التوصية من الباحث يلحظ توسيعا لدائرة الاجتهاد في حيز القانون المنصوص عليه ، وهو القانون المدني ، ثم الحكم بأحكام المذهب الذي استمد منه النص القانوني ، وفي هذا توسيع لدائرة الاجتهاد في مأخذ النص القانوني ، لكنه مازال مقيدا بالمذهب الذي استمد منه النص ، فبدلا من تقييده بالراجح من المذهب الحنفي قيد بأحكام المذهب الذي أخذ منه النص القانوني ، ثم إحالته إلى بعد ذلك إلى الراجح من المذهب الحنفي فإن لم يوجد فإلى القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة .
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 232 .(47/59)
لقد حاول الباحث أن يوسع من دائرة الاجتهاد في حدود هذه المادة ، ولكنه عاد فيما أرى إلى التقييد بمقيد لا يقوم على أساس الاجتهاد القائم على قوة الدليل والاستدلال ، فالترتيب الذي اقترحه يشوبه ما كان يشوب نص المادة 183 ، فلو أنه اقترح الرجوع إلى أمهات المصادر الفقهية والبحث في الأدلة الشرعية للتوصل للرأي الأصوب لكان أدعى لتنمية الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وتفعيله على نحو يحقق غرض المادة ، وهو إعطاء الحكم الشرعي في الواقعة القضائية .
ثم قام الباحث بعد ذلك بعرض جملة من التوصيات المتعلقة بتقييد بعض القرارات الاستئنافية ومثاله : التوصية بتقييد قرار المحكمة باعتبار غياب الزوج من أجل العمل عذرا له يمنع به سماع دعوى زوجته بأن يكون الزوج محتاجا إلى عمله الذي غاب من أجل رزقه ، وأن يتعذر عليه اصطحاب زوجته معه في مكان عمله ، وأن لا يتمكن من الحضور إلى زوجته خلال سنة من غيابه عنها .
وأوصى بتعديل بعضها ، ونقض بعضها ، والدعوة إلى الرجوع عن بعضها ، كمطالبته المحكمة بالرجوع عن اجتهادها القاضي بقياس حكم الأسير على السجين لعدم انطباق أحكام السجن عليه ؛ ولمخالفة هذا الحكم لإجماع الأمة ، كما طالب بتعديل بعض مواد قانون الأحوال الشخصية ومنها المادة (19 ) ، بحيث يقرر حكم تفويض الطلاق بمادة مستقلة تستند في أحكامها إلى المذهب الحنبلي (1) .
__________
(1) كمال الصمادي ، اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية في مسائل التفريق التي لم يرد فيها نص في قانون الأحوال الشخصية ، ص : 232-3-233 .(47/60)
إن هذه النتائج والتوصيات من الباحث الكريم تعزز الذي قلته في تفعيل دور محاكم الاستئناف ، ومراجعة قراراتها ، وقيام الباحثين بدراسة قرارات محكمة الاستئناف الشرعية دراسة علمية هادفة ممحصة ، وتزويد القضاة بالتغذية الراجعة على مستوى التطبيق ، وعلى مستوى الاستنباط أيضا ، كما أننا رأينا أنه قد يكون لقرارات هذه المحاكم الدور في إعادة النظر في بعض مواد القوانين مما يعد نوعا من الاجتهاد القضائي المعاصر الذي ننشد الوصول إليه .
ثالثا : تنمية قدرة القضاة على تفسير النصوص القانونية وضوابطها ، وأثر ذلك على الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر :
يعتبر تفسير النصوص القانونية من أهم ما يواجه القاضي ، وهو يقوم بمهمته في النظر في الواقعة المعروضة عليه ، وإن تفسير النصوص له قواعده العلمية الشرعية في تنمية الاجتهاد القضائي بل يعتبر الأداة الحقيقية لتفهم النص القانوني ؛ وهو يعادل الاجتهاد في فهم النص ، ومراميه دلالته على الحكم الشرعي والقانوني ؛ فإن تفسير النصوص في الفقه الإسلامي يعتبر العملية الأصولية التي عن طريقها يستطيع الفقيه تفهم معاني النصوص بالطرائق المعروفة في علم أصول الفقه الإسلامي .
ولما كنا نبحث في أثر تفسير النصوص وتنميتها لقدرة القاضي على التعامل مع النصوص القانونية مما سيكون له الدور الجيد في تمكين القاضي من الاجتهاد عن طريق تفسير النص القانوني ، فإني سأعرض مناهج الأصوليين إجمالا في تعاملهم مع كيفية تفسير النصوص ، ثم سآتي للقانون الأردني الذي هو محل البحث ، مع التمثيل ببعض التطبيقات في القضاء الشرعي الأردني .(47/61)
هذا ، وإن للأصوليين منهجين قديمين معروفين في البحث في دلالات الألفاظ من حيث وضوحها في الدلالة على المعنى بنفس الصيغة من غير توقف على أمر خارجي ، هما : منهج الحنفية ، ومنهج المتكلمين ( الجمهور ) ، وهناك منهج ثالث لبعض الكاتبين المتأخرين في علم أصول الفقه الإسلامي ، وسأعرض باختصار شديد منهج كل ؛ لتوظيفه في فهم معنى تفسير النصوص ، وفهم التطبيقات القضائية الشرعية لتفسير النصوص ، وذلك على النحو الآتي
أولا : منهج الحنفية :
تنقسم دلالة الألفاظ على الأحكام من حيث الوضوح (1) إلى أربعة أقسام (2) :
القسم الأول : الظاهر : وهو المتردد بين أمرين ، وهو في أحدهما أظهر ، وهو اللفظ الدال بنفس صيغته على معنى متبادر منه غير مقصود أصالة بسوق الكلام مع احتمال التفسير والتأويل ، وقبوله للنسخ في عهد الرسالة .
__________
(1) أما تقسيمها من حيث الخفاء فأذكرها إجمالا وتعدادا عند الحنفية ، وهي : الخفي ، والمشكل ، والمجمل ، والمتشابه ، وانظر تعريفها والتفصيل : التفتازاني ، التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ، وبالهامش شرح التوضيح للتنقيح ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1/124 ، وانظر : محمد سلام مدكور ، أصول الفقه الإسلامي ، ص : 282 ، وما بعدها ، ، والدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي ، أصول الفقه الإسلامي في نسيجه الجديد ، كلية صدام للحقوق ، بغداد ، 1991م ، 2/253 ، والدكتور حسنين محمود حسين ، تفسير النصوص ، دار الإمارات ، دبي ، ط1 ، 1986م ، ص : 17 ، والدكتور وهبة الزحيلي ، أصول الفقه الإسلامي ، دمشق ، ط1 ، 1986م ، 1/312، وما بعدها .
(2) وانظر تقسيمات دلالة الألفاظ من حيث الوضوح عند الحنفية : التفتازاني ، التلويح على التوضيح ، 1/124-126 ، وانظر : محمد سلام مدكور ، أصول الفقه الإسلامي ، ص : 273-282 251-252 ، والزلمي ، أصول الفقه الإسلامي ، 2/251-253.(47/62)
القسم الثاني : النص : وهو اللفظ الدال بنفس الصيغة على المعنى المقصود بالسوق أصالة مع احتمال التأويل وقبول النسخ في عهد الرسالة ، ويزداد وضوحه بمعنى من المتكلم ، بأن يكون المعنى الزائد غرض المتكلم والكلام مسوقا له .
القسم الثالث : المفسر : وهو ما دل بصيغته على المعنى المقصود أصالة الذي سيق لأجله الكلام مع عدم احتماله التأويل أو التفسير ، وإن كان يقبل النسخ في عهد الرسالة ، وهو أقوى من الظاهر والنص ؛ لعدم احتماله للتفسير والتأويل ، واحتمال ذلك فيهما .
…والمفسر نوعان : الأول : المفسر لذاته : وهو ما كانت الصيغة دالة بنفسها بوضوح على المعنى تفصيلا .
والثاني : المفسر بغيره : وهو ما كانت الصيغة مجملة وورد من الشارع بيان قطعي فصلها ، وأزال ما فيها من إجمال حتى أصبحت مفسرة لا تحتمل التأويل ، وهو ما يسمى بالتفسير التشريعي ؛ حيث إن التفسير قد ورد من الشارع نفسه .
القسم الرابع : المحكم : وهو اللفظ الدال بصيغته على معناه المقصود أصالة والمسوق له الكلام دون احتمال لتأويل أو نسخ مطلقا في زمن الرسالة ، وهو أكثر الصيغ وضوحا ؛ لأنه لا يحتمل التأويل ، ولا يقبل النسخ .
وهو أقوى من المفسر ، وهو يكون في الأحكام الكلية الأساسية المتعلقة بأصول العقيدة ، أو الأخلاق العامة التي لا تتغير ولا تتبدل كالأمر بالصدق ، والأمر باجتناب الكذب ، أو الأحكام الجزئية التكليفية التي اقترن بها ما يدل على التأبيد والدوام ، وهو نوعان :
النوع الأول : المحكم لذاته أو لعينه : وهو ما انقطع احتمال نسخة بما يدل على الدوام والتأبيد ، والنوع الثاني : المحكم لغيره : وذلك إذا انقطع احتماله للنسخ بمضي زمن الوحي ، وعليه : فإن كلا من الظاهر والنص والمفسر يكون بعد زمان الوحي من قبيل المحكم لعدم قبوله النسخ ؛ وإن كان محتملا للتأويل .(47/63)
هذا ، وقد يتعارض النص والظاهر ، فيرجح النص ، وقد يتعارض النص والمفسر ، فيرجح المفسر ، وقد يتعارض المفسر مع المحكم ، فيرجح المحكم ، ولست في هذا البحث معنيا بضرب الأمثلة والتفصيل ، ولكني أشير إلى أقسام هذه الدلالات ، واحتمال وقوع التعارض بين أقسام الدلالات ، لبيان صلتها بالقاعدة على ما سيأتي .
ثانيا منهج الجمهور :
تنقسم دلالة الألفاظ من حيث الوضوح (1) ، على مذهب جمهور الأصوليين إلى قسمين :
القسم الأول : النص : وهو ما لا يحتمل أكثر من معنى واحد .
القسم الثاني : الظاهر : وهو لفظ يدل على معنى راجح مع احتماله لمعنى آخر مرجوح ، فهو باعتبار المعنى الراجح ظاهر ، وباعتبار المعنى المرجوح مؤول .
ثالثا : منهج بعض المتأخرين من الكاتبين في علم أصول الفقه الإسلامي :
…اختار بعض الباحثين المعاصرين (2) منهجا ثالثا في دراسة وضوح وخفاء دلالات الألفاظ على الحكم الشرعي ، وهو تقسيم ثلاثي باعتبار الوضوح والخفاء ، مستنتج من تقسيمات الحنفية والجمهور لدلالة اللفظ على الحكم الشرعي ، وذلك على النحو التالي :
__________
(1) وانظر : صفي الدين عبد المؤمن بن كمال الدين عبد الحق البغدادي الحنبلي ، قواعد الأصول ومعاقد الفصول مختصر تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل ، تحقيق وتعليق : الدكتور علي عباس الحكمي ، مطابع جامعة أم القرى ، مكة المكرمة ، ط1 ، 1988م ، ص : 51-52 ، والشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص : 172 ، والشنقيطي ، مذكرة أصول الفقه ، المكتبة السلفية ، باب الرحمة ، المدينة النبوية ، ، ص : 176 ، هذا ، وتنقسم دلالات الألفاظ من حيث الخفاء إلى : مجمل ، ومتشابه ، وانظر : الزلمي ، أصول الفقه الإسلامي ، ص : 254 ، والدكتور حسنين محمود حسين ، تفسير النصوص ، ص : 21 ، والدكتور وهبة الزحيلي ، أصول الفقه الإسلامي ، 1/326 ، وما بعدها .
(2) وهو الدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي ، في كتابه أصول الفقه الإسلامي ، ص : 255-وما بعدها .(47/64)
أولا : الدلالة القطعية (1) : وهو أن لا يحتمل النص أكثر من معنى واحد ، أي : هو اللفظ أو الكلام أو النص يدل على المعنى أو الحكم المراد به دلالة يقينية بحيث لا يحتمل غيره ما لم يقم دليل على خلاف ذلك .
وتنقسم الدلالة القطعية إلى قسمين :
القسم الأول : دلالة قطعية ذاتية : وهي الدلالة الذاتية النابعة من ذات الصيغة الدالة .
القسم الثاني : دلالة قطعية عرضية : وهي الدلالة الناتجة من تفسير الصيغة تفسيرا غير اجتهادي مصدره المشرع نفسه ؛ لأن التفسير الاجتهادي لا يفيد إلا الظن ، وهو عرضة للخطأ والصواب ، ومنها بعض المصطلحات الشرعية التي نقلت من معانيها اللغوية إلى المعاني الاصطلاحية في الشرع ؛ فأصبحت غامضة ، ففسرها الشارع ، فصارت دلالتها ة قطعية عرضا بسبب التفسير التشريعي ، كتفسير معنى الصلاة والصوم والحج ، وغيرها من المصطلحات الشرعية التي نقلت من المعنى اللغوي .
ثانيا : الدلالة الظنية : وهو أن يحتمل النص أكثر من معنى واحد ، أي : هو اللفظ أو الكلام أو النص يدل على المعنى أو الحكم المراد به دلالة ظنية بحيث يحتمل غيره ما لم يقم دليل على المعنى المراد .
ثالثا : الدلالة الغامضة : وهو أن يكون النص غامضا لا يدل بذاته على المعنى المراد ، ولا يسمح المجال بالتفصيل للقسمين الأخيرين ، لبعد صلتهما عن موضوع البحث .
مما ينبغي التبيه إليه بادىء بدء : أن منهج القانونيين في تفسير النصوص هو منهج مستقى من مناهج الأصوليين (2) .
__________
(1) وقد سبق لنا أن الأقسام المتصورة للنصوص الشرعية من حيث الثبوت والدلالة هي : قطعي الثبوت والدلالة ، قطعي الثبوت ظني الدلالة ، ظني الثبوت قطعي الدلالة ، ظني الثبوت ظني الدلالة .
(2) الدكتور مصطفى الجمال ، والدكتور عبد الحميد الجمال ، النظرية العامة للقانون ، الدار الجامعية ، بيروت ، ص : 224 .(47/65)
… ويقسم القانونيون الدلالات – وهي ما تؤديه الألفاظ من معانٍ – إلى أقسام ، ومن أهمها بما له تعلق بموضوع القاعدة : دلالة عبارة النص : أي لفظه : وهي الصيغة المكونة من ألفاظه ، أي : مفرداته ، وجملة دلالة عبارة النص : هي دلالة النص على المعنى الذي يتبادر فهمه من صيغته ، ويكون هو المقصود من سياقه ، ويطلق عليه : المعنى الحرفي ، أو المعنى الصريح ، أو منطوق النص .
ومثاله : نص مادة : " 105 " مدني مصري : " إذا أبرم النائب في حدود نيابته عقدا باسم الأصيل ، فإن ما ينشأ عن هذا العقد من حقوق والتزامات يضاف إلى الأصيل " .
…فهذا النص يعتبر واضحا في دلالته على الحكم (1) .
والنص الواضح الدلالة : ما يدل على المراد منه بذات الصيغة من غير توقف على نص خارجي (2) .
…هذا ، وإن النص الذي لا يحتمل التأويل : هو ما دل بذاته على معناه المفصل تفصيلا لا يبقى معه احتمال .
ومثاله : المادة رقم (215) : " كل شخص أتم الثامنة عشرة من عمره هو أهل للالتزام " ، والثامنة عشرة عدد لا يقبل الزيادة ، ولا النقصان (3) .
وأما النص الذي يحتمل التأويل : فهو ما دل بذاته على معنى معين ، وليس فيه ما يبقي احتمال التأويل (4) .وأما النص الغامض : فهو غير واضح الدلالة (5) .
……… مما سبق يتبين أن مجال القاعدة عند القانونيين : هو النصوص القانونية ذات الدلالة الصريحة الواضحة على الحكم والتي لا تحتمل تأويلا ، كما تقدم في الأمثلة السابقة .
__________
(1) الدكتور عبد المنعم فرج الصدة ، أصول القانون ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1979م ، ص : 298 .
(2) الدكتور عبد المنعم فرج ، أصول القانون ، ص : 289 ،
(3) الدكتور عبد المنعم فرج ، أصول القانون ، ص : 290-291 .
(4) الدكتور عبد المنعم فرج ، أصول القانون ، ص : 292 .
(5) الدكتور عبد المنعم فرج ، أصول القانون ، ص : 294، وما بعدها .(47/66)
أما بالنسبة للقانون الأردني ، فقد نص القانون المدني الأردني في المادة (3) على اعتماد قواعد علم أصول الفقه في تفسير نصوص القانون فنص على أنه : " يرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله ودلالته إلى قواعد أصول الفقه الإسلامي " ، وجاء في المذكرة الإيضاحية للقانون المدني : " رئي وضع هذه المادة لتثبيت ما يتميز به هذا المشروع من ارتباطه بالفقه الإسلامي وأصوله ، خصوصا أن أصول الفقه الإسلامي هو عبارة عن مبادىء التفسير وقواعده حسب ما ارتضاه أئمة هذا العلم ، وقواعد اللغة العربية .... خصوصا أن حكومة الانتداب البريطاني كان لها قانون يسمى قانون تفسير القوانين ، يعتمد في نصوصه على قواعد أصول الفقه الإسلامي ، وقد صدر ذلك القانون سنة 1939 م ، ثم عدل تعديلات أبعدته عن ذلك المقصود ، وأن هذا المشروع بين المرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله ودلالته على الأحكام ، فأحال على علم أصول الفقه ، أخذا بيد القضاة ، وجمعا لهم على مرجع واحد " (1) .
__________
(1) المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني ، إعداد المكتب الفني بإدارة المحامي إبراهيم أبو رحمة ، نقابة المحامين ، عمان ، مطبعة التوفيق ، عمان ، ط2 ، 1985م ، ص : 37 ، وانظر : الدكتور خالد الزعبي ، والدكتور منذر الفضل ، المدخل إلى علوم القانون ، كلية الحقوق ، جامعة الزيتونة ، طبع سنة 1995م ، ص : 114 .(47/67)
فالتفسير في القانون هو الاجتهاد في فهم النص ؛ فإذا كان النص غير واضح المحكمة تعطي الحق للقاضي لتفسير النص ، وبيان معناه ، وأخذه بالمعنى الراجح وترك المرجوح ؛ تحريا لمقصد المقنن أو تحريا لمقصد المتعاقدين ، فقد جاء في المادة (232 ) من القانون المدني الأردني : " إذا كان هناك محل لتفسير العقد ، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل ، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقا للعرف الجاري في المعاملات " (1) .
وإذا كان النص واضحا فلا يحتاج إلى تفسير ، جاء في القانون المدني الأردني نصا من الفقرة الأولى من المادة : 239 :" إذا كانت عبارة العقد واضحة فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين " ، ومن تطبيقاتها في القرارات القضائية ما ورد في محكمة التمييز الأردنية : " إذا كانت عبارة العقد واضحة بأن التأجير للسكن ، وليس للإسكان فلا موجب لتفسيره بما يغاير عبارته الواضحة " (2) .
__________
(1) وانظر التفصيل : الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 58-59.
(2) تمييز حقوق ، 839/84 ، مجلة نقاية المحامين ، 1984 م ، العدد1 ، 5/1556 .(47/68)
ويذكر الدكتور الدريني حقيقة تفسير النصوص الشرعية فيقول : " ولهذا نرى أن الاجتهاد بالرأي ينبغي أن يحدد على أساس من طبيعة الاجتهاد في التشريع ؛ بما هو نصوص ذات دلالات ومفاهيم ومقاصد ؛ لا يكفي منطق اللغة وحده في تبين إرادة الشارع منها ، فهو بذل للجهد العقلي في النصوص استثمارا لطاقات النص في كافة دلالاته على معانيه وأحكامه ، وتحديدا لمراد الشارع منه ؛ ولا سيما إذا كان النص خفيا ؛ بالاعتماد على الأدلة والقرائن ثم الترجيح بما يغلب على الظن أنه المراد من النص " (1) .
وكنا قد قدمنا نصوصا من القانون المدني الأردني تدل على القواعد التي وضعها للاجتهاد عند ورود النص ، وهو الإحالة إلى قواعد التفسير في علم أصول الفقه الإسلامي ، كما أنه أحال إلى الفقه الإسلامي وبقية المصادر الأخرى فيما لا نص فيه ، فقد جمع القانون المدني الأردني بين الاجتهاد فيما فيه نص ، وفيما لا نص فيه ، وفي هذا إتاحة الفرصة أمام القاضي للاجتهاد والاستنباط سواء الاستنباط الأصلي ، أم الاجتهاد التفسيري للنصوص أم الاجتهاد التطبيقي التنزيلي .
فهذه القواعد التفسيرية تضع أمام القاضي ثروة علمية هائلة في التعامل مع النص القانوني مما يمكنه من الاجتهاد في تفسير النص القانوني على نحو يحقق الغرض منه في حل القضايا المعروضة عليه ، وذلك باستثمار النص القانوني اشتثمارا حقيقيا من دلالة النص على اختلافها ، مما يؤدي إلى سلامة فهم النص وتطبيقه على نحو يحقق ترشيد الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر .
ومعرفة هذه القواعد مهمة جدا لبيان ما يسوغ فيه الاجتهاد من نصوص القانون مما لا يسوغ فيه الاجتهاد ، فالنصوص القطعية لا اجتهاد فيها ، بخلاف النصوص الظنية فتحتمل التفسير وفق هذه القواعد الأصولية .
__________
(1) الدكتور محمد فتحي الدريني ، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي ، دمشق ، الشركة المتحدة للتوزيع ، ط2 ، ص : 16 .(47/69)
وهناك قواعد يعتمد عليها القاضي في تفسير النص القانوني ، ومنها :
الرجوع إلى النصوص القانونية فقد اشتملت النصوص القانونية على الكثير من قواعد التفسير ، ففي القانون المدني الأردني جملة من هذه القواعد مثل ما جاء في الفقرة الثانية من المادة 214 : " الأصل في الكلام الحقيقة فلا يجوز حمل اللفظ على المجاز إلا إذا تعذر حمله على معناه الحقيقي " ، ومنها القاعدة الواردة في المادة 215 : " لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح " والقاعدة الواردة في المادة 216 : " إعمال الكلام أولى من إهماله لكن إذا تعذر إعمال الكلام يهمل " ، والقاعدة الواردة في المادة 218 : " المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصا أو دلالة " .
الرجوع إلى قواعد أصول الفقه الإسلامي في مباحث تفسير النصوص .
المذكرات الإيضاحية .
قصد المشرع وغايته .
الوحدة التشريعية بأن لا يفسر النص بمعزل عن النصوص الأخرى ، والرجوع إلى كتب القانون الأخرى ، والرجوع إلى القرارات القضائية (1) .
وههنا لابد من القول بأن القاضي يواجه مشكلة تفسير النصوص لنقص التشريع القانوني أو غموضه أو التعارض بين النصوص القانونية ، وحينئذ فالقاضي ملزم بالاجتهاد التفسيري للنصوص عن طريق إزالة التعارض بينها بوجه من وجوه التفسير الصحيح .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 133-137 .(47/70)
يقول الدكتور عبد المهدي العجلوني : " فإن كان النص قطعيا في دلالته ، بحيث يكون دالا على معناه دلالة قطعية ، لا تحتمل معنى آخر ، فلا مجال للاجتهاد فيه ، .... ويبقى مجال الاجتهاد في هذا النص في تطبيقه على الوقائع بأن يبين القاضي أو المفتي انطباق النص على الواقعة محل النزاع ، .... وأما إن كان النص ظنيا في دلالته ، بحيث لا يكون دالا على معناه دلالة قطعية ، حيث يحتمل أكثر من معنى ، فيكون هناك مجال للبحث في معناه ، حيث يجتهد القاضي أو المفتي في استنباط المعنى المراد ....ويشار هنا إلى أن النص إذا كان يحتمل عدة معان فللمجتهد أن يختار أحد المعاني التي يحتملها اللفظ ، وليس له ان يقول بمعنى آخر غير المعاني التي يحتملها النص ، كما ويبقى مجال الاجتهاد في تطبيق هذا النص .... وهذا كما يرد في النص الشرعي يرد في النص القانوني ، أما عند عدم ورود نص في الواقعة فليس أمام القاضي أو المفتي إلا الاجتهاد في استنباط الحكم لهذه الواقعة إما من خلال القياس أو من خلال الرجوع إلى الأدلة الشرعية الأخرى "(1) .
ومن التطبيقات في القانون المدني الأردني للنص الذي لا يحتمل التأويل ما ورد في المادة (43 ) منه : 1- كل شخص يبلغ سن الرشد متمتعا بقواه العقلية ، ولم يحجز عليه يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية .2- وسن الرشد هي ثماني عشرة سنة شمسية كاملة " .
فقد نص القانون على أن سن الرشد ثماني عشرة سنة شمسية كاملة ، فلا مجال للاجتهاد في نص القانون ؛ لأن النص قطعي الدلالة في مقدار السن ، ونوعها ، وكونها كاملة غير ناقصة ، فقطعت كل نوع احتمال .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 19-20 .(47/71)
ولكن هذا النص يبقى مجالا للاجتهاد في تطبيقه ، فقد جاء في قرار محكمة التمييز : " لكل شخص بلغ سن الرشد متمتعا بقواه العقلية ، ولم يحجز عليه يكون كامل الأهلية لمباشرة حقوقه المدنية ، وسن الرشد هي ثماني عشرة سنة شمسية كاملة ، وعليه ، وطالما لم يرد من البينات ما يثبت أن المدعي كان بتاريخ رفع الدعوى ناقص الأهلية أو محجورا عليه ، كما لم يرد ما يثبت أن الإصابات التي أصيب بها نتيجة الحادث قد أثرت على قواه العقلية فتكون دعواه وفقا للقانون "(1) .
يظهر جليا أن مجال تطبيق النص اجتهادي بالتحقق من الأوصاف المذكورة في المادة عند رفع الدعوى القضائية ، وهل هو متمتع بكامل قواه العقلية أم لا ، عند رفع الدعوى ، هذا مجال اجتهاد ونظر من قبل القاضي .
__________
(1) تمييز حقوق ، 1260/1997م ، مجلة نقابة المحامين ، 1998م ، 1/1147 .(47/72)
وقد توسع الدكتور عبد المهدي العجلوني في استقصاء حالات تفسير النصوص عند الأصوليين عارضا النظرية الأصولية بصورة مفصلة دقيقة ، وعلى منهج الحنفية ، ثم الجمهور ، ومن حيث وضوح الدلالة وخفائها ، ومن حيث شمول الألفاظ في دلالتها على الأحكام أو عدم شمولها ، وقام بعرض تطبيقات في الاجتهاد القضائي الأردني لكل جوانب هذه النظرية الأصولية ، مما فسح أمام القضاة الشرعيين وغيرهم المجل واسعا للتدرب على تفسير النصوص بقواعد علمية أصولية واضحة ، مما يؤدي إلى النهوض والارتقاء بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وقد قام باستعراض جملة كبيرة من التطبيقات على ممارسة التفسير للنصوص القانونية في القانون الأردني مما يشكل عمله قاعدة مهمة للاجتهاد في مجال القضاء الشرعي خصوصا ، والقضاء عموما ، وليس المجال يسمح بذكر تفصيلات التطبيقات ، ولكن المقصود هو الإشارة إليها تلبية لغرض بحثنا ، وهو اعتبار قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها وسيلة من وسائل النهوض بالقضاء الشرعي المعاصر ، وأعتقد أننا بحاجة لمجهودات متواصلة في هذا السياق ، وتطبيقات في قوانين أخرى غير القانون الأردني .
ولكون البحث قد اختار القانون الأردني محلا للتطبيق فسيختار بعض التطبيقات القضائية الشرعية في المحاكم الأردنية ، في النصوص القانونية الظنية التي تقبل التفسير للتمثيل فحسب ؛ وإلا فإن رسالة الدكتور العجلوني مجهود ظاهر وواضح ودقيق في موضوع التطبيقات في الاجتهاد القضائي في مجال تفسير النصوص ، ومنها :(47/73)
قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (643/86 ) ، والذي ينص على : " أن المادة 155 من قانون الأحوال الشخصية ، تشترط في الحاضنة ، أن تكون عاقلة وأمينة ، لا يضيع الولد عندها ؛ لانشغالها عنه ، قادرة على تربيته وصيانته ؛ وأن لا تكون مرتدة ، ولا متزوجة بغير محرم للصغير ، وأن لا تمسكه في بيت مبغضه . إن مساكنة الزوجة ( الحاضنة ) لرجل غير محرم لابنتيها الصغيرتين ، يفقدها حقها في حضانتهما ؛ لأن المادة 155 من فانون الأحوال الشخصية ، تحرمها من حضانة بنتيها إذا كانت متزوجة من غير محرم لهما ، فمن باب أولى مساكنتها لرجل غير محرم للصغيرتين .
فقد استدلت المحكمة هنا بمفهوم الموافقة ، ولم يصرح القانون بسقوط حق الحضانة عند مساكنة هذه الزوجة لرجل لا يعد محرما للصغير ، ولما كان زواج الحاضنة يسقط حق حضانتها ، فمساكنتها له بلا زواج يسقط حضانتها من باب أولى (1) .
2- أن قرار محكمة التمييز الأردنية ينص على أن :" على المحكمة لدى تفسيرها العقود والالتزامات أن تزن نصوصها وأحكامها بمعيار مدلولها القانوني رغم ما استعمل فيه من عبارات من شأنها أن تضفي على المسميات أسماء زائفة تخرج بها عن نطاق مدلولها الحقيقي " (2) .
وهذه المصطلحات القانونية تعتبر من قبيل الظاهر فلها معنى راجح اصطلاحي ، ولها معنى لغوي مرجوح ؛ فإذا وردت فإننا نحملها على معناها الاصطلاحي لا المعنى اللغوي ، ومن أمثلة هذه المصطلحات : الهبة ، الوصية ، الميراث ، العقد ، الملكية ، الأهلية وغيرها (3) .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 73 .
(2) تمييز حقوق 45/52 ، مجلة نقابة المحامين ، 1953 م ، العدد3 ، 1/75 .
(3) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 168-169 .(47/74)
3- جاءت ألفاظ مجملة في القوانين ولا مجال لتفسيرها إلا من قبل القانون نفسه ، ومن أمثلتها لفظ الزواج في قانون الأحوال الشخصية الأردني حيث جاء تفسيره في المادة الثانية منه :" الزواج عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعا لتكوين أسرة وإيجاد نسل بينهما " ، وتوضيح مفهوم النشور المجمل الذي يترتب عليه عند طلب الزوج منع النفقة في المادة 69 من قانون الأحوال الشخصية الأردني : " إذا نشزت الزوجة فلا نفقة لها ، والناشز هي التي تترك بيت الزوجية بلا مسوغ شرعي ، أو تمنع الزوج من الدخول إلى بيتها قبل طلبها النقلة إلى بيت آخر ، ويعتبر من المسوغات المشروعة لخروجها من المسكن إيذاء الزوج لها بالضرب أو سوء المعاشرة " .
4- ما جاء من تطبيقات في دلالة الاقتضاء في القانون المدني الأردني ، - ودلالة الاقتضاء هي أن يكون المسكوت عنه يتوقف صدق الكلام وصحته واستقامته على ذلك المسكوت ، أي تقديره في الكلام – في المادة 26 من قانون الأحوال الشخصية الأردني ، وتنص على أنه : يحرم على التأبيد من الرضاع ما يحرم من النسب إلا ما استثني مما هو مبين في مذهب الإمام أبي حنيفة " وهذه المادة على تقدير محذوف مقدر ، ذلك أن التحريم متعلق بفعل ، والفعل المحرم في هذه المادة هو الزواج ، حيث إن الرضاع سبب من أسباب التحريم كالنسب فيحرم على التأبيد من الرضاع ما يحرم من النسب ، وكذلك ما ورد في المادة 31 من قانون الأحوال الشخصية الأردني ، وتنص على أنه : " يحرم الجمع بين امرأتين بينهما حرمة نسب أو رضاع بحيث لو فرضت إحداهما منهما ذكرا لم يجز نكاحها من الأخرى ، وفي هذه المادة تقدير محذوف مقدر يقتضيه النص وهو الجمع بالزواج (1) .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 233-234 .(47/75)
5- هناك تطبيقات متعددة لمفهوم المخالفة بأنواعه المختلفة سواء أكان مفهوم الصفة أم العلة أم الشرط أم العدد أم الحصر أم غيرها ، ومنها : التمثيل لمفهوم الشرط ، وهو أن يدل تقييد حكم المنطوق بالشرط على ثبوت نقيضه عند انتفاء ذلك الشرط ، ومنه الشرط الوارد في المادة 8 من قانون الأحوال الشخصية الأردني والتي تنص على أن :" للقاضي أن يأذن بزواج من به جنون أو عته إذا ثبت بتقرير طبي أن في زواجه مصلحة له " حيث تم تقييد سماح القاضي بشرط وهو" إذا ثبت بتقرير طبي أن في زواجه مصلحة له " ، ومفهوم المخالفة أنه ليس للقاضي أن يأذن بزواج من به جنون أو عته إذا لم يثبت بتقرير طبي أن في زواجه مصلحة له (1) .
6- ومن أمثلة التخصيص بالوصف في القانون ما جاء في المادة 262 من القانون المدني الأردني : " من أحدث ضررا وهو في حالة دفاع شرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس الغير أو ماله كان غير مسؤول على ألا يتجاوز قدر الضرورة ؛ وإلا أصبح ملزما بالضمان بقدر ما جاوزه " ، فقد قيد القانون الضرر ووصفه بكونه في حالة دفاع شرعي .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 235 .(47/76)
7- ومن أمثلة التطبيقات للاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر في تفسير اللفظ المشترك ما ورد في تفسير لفظ القرء في نص المادة 135 من قانون الأحوال الشخصية الأردني :" مدة عدة المتزوجة بعقد صحيح ، والمفترقة عن زوجها بعد الخلوة بطلاق أو فسخ ثلاثة قروء كاملة إذا كانت غير حامل ، وغير بالغة سن الإياس ، وإذا ادعت قبل مرور ثلاثة أشهر انقضاء عدتها فلا يقبل منها ذلك " ، وقد أزال القانون هذا الإشكال بنص المادة 183 والتي نص على أن :" ما لا ذكر له في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة " ، والراجح من مذهب أبي حنيفة أن المراد بالقرء الحيض لا الطهر (1) .
8- ومن أمثلة بقاء المطلق على إطلاقه ما ورد في المادة 260 من القانون المدني الأردني : " ليس لمن أتلف ماله شخص أن يتلف مال ذلك الشخص ، وإلا ضمن كل منهما ما أتلفه " ، فلفظ مال خاص جنسي ، وهو لفظ مطلق غير مقيد (2) .
9- ومن أمثلة تقييد المطلق ما ورد في المادة 2 من قانون الأحوال الشخصية :" الزواج عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعا لتكوين أسرة وإيجاد نسل بينهما " فلفظ رجل وامرأة مطلق ، وقد قيدتهما المادة 5 من القانون نفسه ، والتي تنص على أنه : " يشترط أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين ، وأن يكون كل منهما قد أتم الثامنة عشرة سنة شمسية .. " ، وهنا يجب حمل المطلق في المادة 2 على المقيد في المادة 5 ؛ لأن النصين متحدان في الحكم والسبب ، والحكم هنا وضعي ، وهو صحة عقد الزواج (3) .
__________
(1) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 262 .
(2) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 286 .
(3) الدكتور عبد المهدي العجلوني ، قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني ، ص : 289 .(47/77)
10- ومن أمثلة التطبيقات لتفسير النصوص ما ورد في تفسير معنى الضرر الوارد في نص المادة 132 من قانون الأحوال الشخصية ، والتي تنص على أنه : " إذا ظهر نزاع وشقاق بين الزوجين ، فلكل واحد منهما أن يطلب التفريق إذا ادعى إضرار الآخر به ، قولا أو فعلا ، بحيث لا يمكن مع هذا الضرر استمرار الحياة الزوجية ، وقد وقع اجتهاد في بيان الإجمال الوارد في لفظ الضرر قولا أو فعلا ، وأن القاضي يجتهد في بيان معناه ، وتقدير تطبيقه في الواقعة المعروضة عليه .
وقد ذكرت اللجنة المشكلة من كبار العلماء في الأسباب الموجبة لوضع المادة 132 من قانون الأحوال الشخصية ، والمتعلق بالتفريق للشقاق والنزاع ، للاهتداء بها عند التطبيق .
كما أن بعض الباحثين القضاة يحاول وضع مفهوم ضابط لهذا الضرر ، وتوصل إلى أنه : " الإيذاء الذي يوجهه أحد الزوجين للآخر بالقول أو الفعل ، بما لا يليق بمقامهما أو بأمثالهما ، يتعذر معه استمرار الحياة الزوجية بينهما " (1) .
إن التعمق في دراسة قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في القوانين الشرعية ، يؤدي إلى النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ؛ بما قد تبين بأن تفسير النصوص داخل ضمن دائرة الاجتهاد في دائرة النصوص ، وهذا يلزم منه عقد دورات علمية للقضاة في مجال علم أصول الفقه الإسلامي ، ومجال تفسير النصوص خاصة لما له أهمية من رفع سوية الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر بشقيه المقنن وغير المقنن.
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ،وبعد،،
فقد توصل الباحث إلى جملة من النتائج ، من أهمها :
__________
(1) وانظر إلى تفصيل ذلك : محمد أمين كامل محمد الهندي ، دعوى التفريق للشقاق والنزاع أمام المحاكم الشرعية الأردنية ، ص : 51 – 54 .(47/78)
أن الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر هو : " استفراغ القاضي وسعه في استنباط الحكم الشرعي من دليله ، إذا كان غير داخل ضمن التقنين التفصيلي للأحكام الشرعية ، ويكون في حدود تطبيق النصوص القانونية الشرعية ، أو استنباط الأحكام التي لم ينص عليها القانون بقواعد مرجعية محددة وفق معطيات الزمان والمكان المتجددين إذا كان ضمن التقنين التفصيلي للأحكام الشرعية " .
أن الاجتهاد القضائي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين ، والاجتهاد شرط من شروط القاضي على مذهب الجمهور .
التقنين للأحكام الشرعية جائز في رأي جمهور الفقهاء المعاصرين ؛ كحل للضعف العلمي للقضاة ، وضبطا للأحكام الشرعية .
مجال الاجتهاد في المملكة العربية السعودية هو استنباط الأحكام القضائية من المذهب الحنبلي ، ونظر مجلس القضاء الأعلى للتأكد من سلامة الأحكام القضائية ، وموافقتها للراي الأقوى دليلا .
مجالات الاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ضمن التقنين المعمول به في البلاد الإسلامية يتضمن الآتي :
المجال الأول : الاجتهاد في استنباط الحكم الشرعي للقضايا والوقائع التي تعرض على القضاة ، مما ليس في القانون نص مقنن فيها .
المجال الثاني : الاجتهاد في تفسير نصوص القانون ، وتطبيقها على القضايا والوقائع التي تعرض على القضاة وذلك أن تطبيق النص القانوني على الواقعة مرتب على فهمه وتفسيره أولا ، وأن النص القانوني قد يكتنفه خطأ مادي ، أو خفاء في العبارة ، أو إجمال في اللفظ أو نقص في التركيب ، وهنا لابد للقاضي من الاجتهاد في تفسير النص لإزالة الإبهام الذي يكتنفه ، لتصحيح الخطأ المادي ، أو إزالة الخفاء أو بيان المجمل ، أو تكميل النقص .(47/79)
المجال الثالث: الاجتهاد في تطبيق النصوص القانونية على الوقائع التي تعرض على القضاة ، حين توجد أمور تقديرية وأوصاف عامة لم ينص عليها القانون على حكم كل جزئية منها على حدتها ؛ مع أن لكل جزئية منها خصوصية ليست في غيرها .
المجال الرابع : الاجتهاد في إجراءات السير في الدعوى ، منذ رفعها ، وحتى إصدار الحكم فيها .
5- القضاء الشرعي في التقنين الأردني يتضمن قانونان ، هما :
أ- القانون المدني الأردني ، والمستمد من الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه ، ونص فيه القانون على أنه ما يوجد في القانون نص لحكم واقعة فيرجع فيها بالاجتهاد إلى الفقه الإسلامي ، وإلى تفسير نصوص القانون بقواعد أصول الفقه المتعلق بدلالات الألفاظ .
ب- قانون الأحوال الشخصية الأردني ، والمستمد من الفقه الحنفي ، وبقية المذاهب الفقهية ، وأن لم ينص عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة .
6- يكون الاجتهاد في القانون الأردني في مجال تطبيق النص أولا ، وفي الاجتهاد فيما لا نص فيه ثانيا فيما أشارت إليه .
7- أن مجال الاجتهاد القضائي القائم على النظر في الأدلة وترجيح الرأي الأقرب للدليل في ظل تطبيق القوانين المقننة للأحكام الشرعية ضيق ومحدود ، ولا يسمح للقاضي بالاجتهاد إلا فيما حدده القانون .
8- يقترح البحث جملة من الوسائل للنهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وهي :
أ- المناداة بتشكيل لجنة للنظر في القوانين المقننة ، وذلك في كل بلد إسلامي ، والبحث في مدى سلامة النصوص المقننة ، ومدى قوة هذه الأقوال واستنادها للأدلة الشرعية الصحيحة .
ب- إنشاء مجمع اجتهادي قضائي إسلامي على مستوى الأمة الإسلامية ، يتكون هذا المجمع من خيرة علماء الأمة في الفقه والقانون ، وهو مجمع دائم ، تكون مهمته النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، بوضع أسسه ، ومناهجه ، ويكون عمل هذا المجمع ضمن النقاط الآتية :(47/80)
- التواصل مع اللجان العلمية المشكلة في كل بلد ، لمراجعة القوانين المقننة وفق المنهج الاجتهادي الجماعي ، وتصويب التقنينات التي تحتاج إلى تعديل ، فعمل اللجنة بمثابة اللجنة المشرفة على عملها والمسددة لها .
- البحث المستمر في المسائل التي تحتاج إلي اجتهاد سيما القضايا النازلة والحادثة ، وهذا الاجتهاد ينبغي أن ينبني كما قلت على الاجتهاد الجماعي الذي أصبح هذا العصر يتطلبه تطلبا ضروريا ؛ لكونه يقرب إلى الصواب ، ويختصر الأوقات ، ويضبط العملية الاجتهادية .
- الدعوة إلى التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية في البلدان الإسلامية وفق خطوات مدروسة ومتدرجة ؛ لأن هذا المجمع من أعظم مهماته الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإيجاد الوعي لدى الأمة نحو ضرورته ، ووضع الدراسات التي تقرب هذا المطلب الشرعي .
ج- وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر على مستوى التطبيق من قبل القضاة الشرعيين ، وذلك ضمن النقاط الآتية :
أولا : إيجاد لجان اجتهاد فرعية لدراسة القضايا المستجدة
ثانيا : تفعيل دور محاكم الاستئناف عن طريق التأكد من سلامة التطبيق للقانون وسلامة الإجراءات الشكلية المتعلقة بالدعوى القضائية .
ثالثا : دراسة قرارات محاكم الاستئناف يؤدي إلى تنمية الاجتهاد في تطبيق النصوص القانونية ، والاجتهاد فيما لا نص فيه من الأحكام في القوانين ، وتصحيح بعض المواد المقننة مما يعين لجان التقنين على المراجعة الشاملة والدائمة للتقنينات القضائية .
رابعا : تنمية قدرة القضاة على تفسير النصوص القانونية مما له أثر بالغ في رفع سوية القضاة في التعامل مع النصوص القضائية في مجال التطبيق .(47/81)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
وضعية القضاء الشرعي في المغرب المعاصر
إعداد :الدكتور العربي البوهالي(1)
المغرب
إن القضاء الشرعي في المغرب المعاصر تعرض لتغييرات وتطورات مختلفة، نتيجة للظروف التي عاشتها معظم الدول العربية والإسلامية في التاريخ الحديث ، شأنه في ذلك شأن النظم الأخرى التشريعية والإدارية والاقتصادية .
وقد كانت ندوة " القضاء الشرعي في العصر الحاضر :الواقع والآفاق " التي أعلنت عنها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالشارقة ، مناسبة موفقة دفعتني - وإن كنت خارج سلك العدالة -للبحث في هذا النوع من القضاء ، مقتصرا على البلد الذي أنتمي إليه .
غير أنني لم أظفر بمؤلف أفرد في الموضوع ، مما جعلني أتعقبه وأجمع شتاته في مظانه ، خاصة الكتب التي تناولت التنظيم القضائي المغربي بصفة عامة ،وبعض الدوريات التي تعنى بالتشريع والقضاء ، قاصدا بذلك الوقوف على الوضعية الحالية التي آل إليها القضاء الشرعي في المغرب المعاصر ، لاسيما بعد التعديلات الأخيرة في مدونة الأحوال الشخصية والمسطرة المدنية والتنظيم القضائي.
ولن يتحقق هذا المقصد الا باستحضار المراحل الكبرى التي مر منها تطور القضاء المغربي منذ أوائل القرن العشرين ، ورصد العوامل الني أسهمت في التغييرات التي حصلت فيه.
ويقتضي المنهج المرتضى في التناول حصر الموضوع في مقدمة ومبحثين ، يحاول أولهما تتبع مسيرة القضاء الشرعي بالمغرب في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين ، ويرصد ثانيهما الوضع الذي آل إليه في الوقت الحاضر ، منتهيا بخلاصات ونتائج بها يختم الموضوع .
المبحث الأول : رصد التغييرات الحاصلة في القضاء الشرعي بالمغرب المعاصر.
__________
(1) 1- أستاذ التعليم العالي مساعد ، تخصص أصول الفقه ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة القاضي عياض - مراكش - المغرب(48/1)
يعد القضاء الشرعي منذ عهد الحماية جزءا من النظام القضائي المتبع في المغرب ، ويجمع الدارسون على التمييز فيه بين ثلاثة عهود بارزة ، وهي نفسها التي مر منها تاريخ المغرب المعاصر : قبل الحماية ، وعهد الاستعمار الأجنبي ، ثم عهد الاستقلال.
المطلب الأول : القضاء الشرعي قبل الحماية
لم يختلف نهج الدول المتعاقبة على حكم المغرب عما كان عليه القضاء في بلاد المشرق
والأندلس ، بل إن بعض الباحثين المعاصرين استنتج أن المغرب عرف « في مختلف أطوار حياته السياسية العدالة الإسلامية في أجمل صورها ، وعرف قضاة ذوي كفاءة ونزاهة وعلم غزير، بفضل دراسة الفقه الإسلامي في المغرب ، وبالأخص مذهب الإمام مالك المتبع في المحاكم »(1).
وقد سجل التاريخ عناية ملوك المغرب بتنظيم القضاء و الإشراف على مجالسه العليا مثل : يوسف بن تاشفين ، ويعقوب المنصور الموحدي ، وأحمد المنصور الذهبي ، ومحمد بن عبد الله العلوي الذي أصدر ظهائر لإصلاح القضاء وتوجيه القضاة إلى كيفية التعامل مع الأقوال المختلفة في المذهب المالكي ،ختمها بتذكير القضاة بوجوب تنفيذ هذه التوجيهات ، وإلا تعرضوا للعقوبات التأديبية ، قال :« وأما أنا فكل قضية وصلت إلينا فإننا ننظر في الحكم الذي حكم به القاضي ، فإن وجدناه حكم بما تقدم فعلى بركة الله ، وإن وجدناه حكم بغير ذلك فلا يلومن الا نفسه، ويجب على السلطان نزعه وعقوبته »(2) ، وكان منصب القضاء لا يسند الا للعلماء المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة (3).
__________
(1) - الملك المصلح سيدي محمد بن عبد الله العلوي الحسن العبادي ص : 197
(2) 2 - المرجع نفسه ص : 204
3 - انظر : القضاء المغربي بين الأمس واليوم لحماد العراقي ، ص : 13-14 للوقوف على نماذج من ظهائر سلطانية في الموضوع .(48/2)
ومن شأن هذه التنظيمات القضائية التي شهدها المغرب في فترات مختلفة أن تأسس لقضاء مغربي منظم ومستمر، لولا ظهور عوامل تحول دون ذلك ، كالفتن والتقلبات السياسية .
غير أن بعض المناطق عرفت القضاء العرفي إلى جانب القضاء الشرعي المطبق في الأحوال الشخصية والنزاعات العقارية والإرث ، وكثيرا من هذه الأعراف حصلت على موافقة السلاطين كالمنصور السعدي والحسن الأول (1).
ويظهر التعلق بهذه الأعراف في البوادي المغربية إلا أن قوتها تتجلى بشكل واضح بمنطقة سوس في الجنوب المغربي، حيث يتولى أعيان الجماعة « الفصل في الجنايات وبعض المسائل المدنية وما يحدث في الأسواق من الغش والنقص في الكيل والوزن(2)» بمقتضى الأعراف المحلية، ويطلق على هؤلاء بلسان أهل المنطقة : " إنفلاس "على صيغة جمع التكسير في اللسان العربي ، وهذه القوانين العرفية تدون في رسوم(3) أو ألواح يحتفظ بها عند الأعيان ، وهي قديمة في هذه المنطقة ، ويرجع تاريخ أقدم لوح عثر عليه إلى سنة 904هـ الموافق 1498م(4) قال الإكراري في " روضة الأفنان " :« ومن عادة سوس الأقصى من وادي ألغس إلى الساقية الحمراء - لخلوه من أحكام السلطان - أن عينوا لمن يباشر أمورهم والفصل بينهم عوارف يسمونهم " النفاليس " وهم في الحقيقة مفاليس إن لم تقل أباليس ، يكتبون عقدا يسمى "عرفا " ، وليته يسمى" نكرا " ، يقولون فيه : من فعل كذا يعطي كذا ، وتركوا أحكام الشريعة وراء »(5)
__________
(1) - انظر : العرف والعمل في المذهب المالكي لعمر الجيدي : 237 ، 238
(2) - ألواح جزولة لمحمد العثماني ، ص : 87
(3) - انظر : تطور النظام القضائي بأيت باعمران للمختار لبيب ، رسالة دبلوم الدراسات العليا مرقونة بخزانة كلية الشريعة بأكادير ، المغرب
(4) - انظر ألواح جزولة : 105 .
(5) - روضة الأفنان في وفيات الأعيان لمحمد أحمد الأكراري ص : 107(48/3)
غير أن العلماء أنكروا الحكم بالأعراف المخالفة للشريعة الإسلامية (1)
أما قبيل الحماية فإن المغرب عرف أربعة أنواع من المحاكم وهي :
1 -…محكمة القاضي الشرعي .
2 -…محكمة الباشا أو القائد : وتسمى بالقضاء المخزني ، ويتولى النظر في القضايا الجنائية والتجارية بناء ما يقتضيه نظر الحاكم .
3 -…المحاكم العبرية : وينحصر اختصاصها في الأحول الشخصية والإرث لليهود المغاربة في أمورهم الدينية والاجتماعية .
4 -…المحاكم القنصلية : وتنظر في قضايا بعض الأجانب والمغاربة الحاصلين على الحماية بناء على معاهدات بين المغرب وهذه الدول « وأول معاهدة من هذا القبيل أبرمت بين فرنسا والمغرب بتاريخ 17 شتنبر 1831 م وهي تنص على تعيين قناصل فرنسيين في المغرب تسند إليهم بالإضافة إلى مهامهم الأخرى مهمة الفصل في المنازعات التي تنشأ بين الفرنسيين»(2)، ويمارس هذا القضاء في بلد غير بلده الأصلي مهمة « السهر على مصالح الرعايا الأجانب والمنضويين تحت حمايتها »(3)
وإذا كان القضاء المخزني والعبري والقنصلي محاكم استثنائية ، فإن القضاء الشرعي يتميز في هذه المرحلة بكونه محكمة ذات الاختصاص العام بمعنى أن له « اختصاص النظر في جميع القضايا المعروضة عليه ، وخاصة في قضايا الأحوال الشخصية والميراث وقضايا العقارات ، اعتبارا على أن نظام التحفيظ المعمول به اليوم لم يعرفه المغرب إلا مع بداية عهد الحماية »(4)
وكان له وجود بكل الدوائر الإدارية بالمغرب .
__________
(1) - من ذلك فتوى لعبد الله بن الحاج أحمد التسكاني المتوفى 1285هـ ، ومما ورد فيها : « فمن دعا إلى عرف قبيلة أو لوحها وفيها ما يخالف الشرع فهو باغ ظالم متعد حاد لله ورسوله » أنظر " المجموعة الفقهية " للمختار السوسي ص 193
(2) - القانون القضائي الخاص للدكتور إدريس العلوي العبدلاوي : 1 / 159
(3) - القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 22
(4) - المختصر في التنظيم القضائي المغربي لحسن الرميلي 1 / 4(48/4)
ويمكن إجمال الخصائص الأخرى التي يتميز بها القضاء الشرعي في هذه الفترة في الآتي :
1 -…يفصل في النزاعات بالشريعة الإسلامية مع الالتزام بالمذهب المالكي(1).
2 -…اقتصاره على درجة واحدة بحيث لا يمكن الطعن في أحكامه .
3 -…لا يكتسب الحكم الذي يصدر في هذه المحاكم قوة الشيء المقضي به، إذ يمكن عرض النازلة المحكوم فيها على قاض آخر .
4 -…يحق لمن أراد أن يقدم شكاية ضد القضاء أو الموظفين الإداريين أن يلجأ إلى وزارة الشكايات.
5 - وجود قاضي الجماعة بالمدن الكبرى من مهامه تعيين أو عزل القضاة المرتبطين جهويا بالعاصمة . وكان للمغرب آنئذ ثلاث عواصم هي فاس و مكناس و مراكش ، لكل منها قاضي الجماعة (2).
6 -…تعيين القاضي الشرعي بظهير سلطاني .
7 -…يتسلم القاضي الشرعي راتبه من بيت المال .
8 -…ينظر القاضي الشرعي في قضايا العقار وإن كانت أطرافه من الأجانب أو المحميين(3).
وهكذا نرى أن القضاء الشرعي في هذه الفترة مزاحم بمحاكم أخرى استثنائية ، وسيزداد انحسارا عندما حل المستعمر بالمغرب .
المطلب الثاني : القضاء الشرعي في عهد الحماية( 1912- 1956م)
__________
(1) - انظر التنظيم القضائي في المغرب : 33
(2) - التنظيم القضائي في المغرب : 34 نقلا عن مقال : الأوضاع القضائية قبل الحماية لإبراهيم حركات نشرته مجلة " رابطة القضاة " عدد 6 و7 ص 35
(3) - أنظر التنظيم القضائي الخاص : 1 / 159 والتنظيم القضائي المغربي الجديد للدكتور إدريس العلوي العبدلاوي : 151(48/5)
تعرض القضاء الشرعي في عهد الحماية لمضايقات من سلطات الاحتلال ، وتقلص دوره عما كان عليه سابقا ، ذلك أن المعاهدة التي أبرمت بين المغرب وفرنسا سنة 1912 م نصت على القيام بإصلاحات قضائية مع الحفاظ على الحالة الدينية للبلد ،(1) لكن الغرض الحقيقي للمحتل كان يرمي إلى تقوية النفوذ الاستعماري و سياسته العامة ، ولقد عزز ذلك باستصدار نصوص تشريعية في الميدان القضائي .
ولئن كانت فرنسا ذات النفوذ الواسع في المغرب في هذه الفترة ، فإنها لم تكن وحدها التي تحتل البلد ، فهناك أجزاء من الشمال وأقصى الجنوب خاضعة لإسبانيا ، بينما بقيت طنجة تحت الحكم الدولي ، وهكذا أصبح القضاء الأجنبي موزعا في المغرب على ثلاث مناطق :
أ - منطقة إسبانيا : وتخضع للقضاء الإسباني الذي تأسس بمقتضى الظهير الخليفي 1914 م وعرفت فيما بعد بالمحاكم الخليفية(2).
ب - منطقة طنجة : وأحدثت فيها المحكمة المختلطة سنة 1923 م التي عرفت سنة 1953 م بالمحكمة الدولية .
ج - منطقة فرنسا : وتأسست فيها محاكم فرنسية منذ 1913 م وتنظر في الشؤون المدنية والتجارية والنوازل الإدارية والعقارات المحفظة ، وقد نظمت هذه المحاكم على ثلاث درجات: صلحية وابتدائية ومجالس استئنافية .
والجامع بين هذه المحاكم الاستعمارية كون قضاتها من الأجانب ، والأحكام الصادرة عنها ترفع للنقص إلى باريس أو مدريد (3).
وإلى جانب ذلك احتفظ الاحتلال بالقضاء المخزني ، وأكسبه صبغة قانونية يصدر أحكامه باجتهاد الباشا أو القائد وبأمر من المراقب المدني الفرنسي و موافقته (4)، واتسعت نفوذه شيئا فشيئا حتى شملت جميع القضايا المدنية والتجارية إلا ما استثناه ظهير 28 نونبر 1944 م.
__________
(1) - انظر القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 12
(2) - انظر المختصر في التنظيم القضائي المغربي : 1 / 7
(3) - انظر التنظيم القضائي في المغرب : 41
(4) - انظر القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 27(48/6)
وسعيا لإيجاد عوامل التفرقة العنصرية قوى المستعمر القضاء العرفي في القبائل الأمازيغية انسجاما مع سياسته التي تجريد هذه القبائل من مظاهر الانتماء إلى الإسلام ، وذلك باستصدار ظهائر كان أبرزها الظهير البربري المشهور سنة 1930 م ،قال الأستاذ عمرالجيدي رحمه الله : « وعندما وقع المغرب تحت الإحتلال الأجنبي ، عمدت القوات الأجنبية إلى إعطاء العرف البربري صفة شرعية ، مخرجة بذلك حوالي نصف سكان المغرب عن دائرة القضاء الشرعي ، مطبقة عليهم أعرافا بائدة ومخجلة .ينافي الكثير منها مبادئ الشرع الإسلامي ، وهي بمحاولتها الإبقاء على هذه الأعراف في بلاد المغرب وتفضيلها على الشرع الإسلامي الذي أقام حضارة تعتبر من أرقى الحضارات التي عرفها العالم إنما مقصودها القضاء على الإسلام نفسه في هذه الديار وتنصير سكانها »(1) .
وتشتمل محاكم القضاء العرفي على درجتين « تنظر في جميع الدعاوى التجارية والمدنية وكذا في مسائل الأحوال الشخصية والمواريث والعقارات ، غير أنه يتعين عليها أن تحكم بمقتضى العرف المحلي »(2)
وأعاد ظهير ماي 1918 م تنظيم المحاكم الإسرائيلية وأضاف إليها درجة تستأنف إليها الأحكام الصادرة في المحاكم الابتدائية المنتشرة في كل الدوائر الإدارية بالمغرب .
وسط هذا الوضع المتسم بتعدد الأنماط القضائية وجد القضاء الشرعي نفسه محاصرا بالنظم والتشريعات الجديدة ، بعد ما نالته « أيادي الاستعمار بالحد من سلطانه ، والتدخل في شؤونه بالخلط والإدماج ، وقصت جوانحه بالظهير البربري ، وعرضته للانحلال والتدهور بما أحدثته فيه من تشريعات وتنظيمات ضمنت بها ما كانت تقصد إليه من استغلال واستبداد واستعباد للمواطنين في ممتلكاتهم وحقوقهم وحرياتهم »(3)
__________
(1) - العرف والعمل للجيدي :238 ، 239
(2) - القانون القاضي الخاص : 1 / 163
(3) - القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 24(48/7)
وإجمالا ، فإن أهم التغييرات الحاصلة في القضاء الشرعي أثناء فترة الحماية هي :
1 - إضفاء الطابع الاستثنائي عليه بعد ما كان قضاء أصليا منذ اعتناق المغاربة الدين الإسلامي ، فقد حدد له القانون القضايا التي يحق له أن يبت فيها ، وحول كثيرا مما كان من اختصاصه إلى المحاكم التي تقدم ذكرها . ولم يبق له إلا الأحوال الشخصية للمسلمين وميراثهم وقضايا المحاجر والقاصرين والعقار الغير المحفظ .
2 - تقسيم القضاة الشرعيين إلى قضاة البادية وقضاة المدن .
3 - ينظر قضاة المدن في أحكام قضاة البادية المستأنفة لديها .
4 - اختصاص وزارة العدل في الأحكام المستأنفة من محاكم قضاة المدن بعد استشارة المجلس الأعلى للعلماء.
5 - إحداث مجلس أعلى للعلماء سنة 1914 م « ليكون بمثابة هيئة استشارية لوزير العدل غير أن الحكومة الفرنسية ما لبثت أن ألغت هذا المجلس سنة 1921م » (1)
6 - أدخل تعديل على نظام القضاة الشرعيين فألغي التمييز بينهم ، ولم تعد أحكام قضاة البادية تستأنف لدى قضاة المدن ، وإنما تستأنف أحكامهم جميعا لدى مجلس للاستئناف الشرعي المحدث سنة 1921م.
7 - احتفظ القضاء الشرعي بنظام القاضي الفرد في الدرجة الأولى ،والقضاء الجماعي في مجلس الاستئناف (2).
8 - تعريضه للانحلال والفساد عندما ربط الاحتلال القضاة الشرعيين بالخصوم يتقاضون منهم أجور البت في الدعاوى ، فيأخذ القاضي 30 في المائة مما يجب أداؤه للشهادات ، و الباقي يترك للعدلين. ولم يلتحق هؤلاء القضاة بسلك الوظيفة إلا سنة 1951م .
9 - إخضاع المحاكم الشرعية لمراقبة المندوب الفرنسي أو حاكم الدائرة .
أما القضاء الشرعي في منطقة إفني وأيت باعمران التي تخضع للنفوذ الإسباني فقد نظم كالآتي :
ا - القضاة الشرعيون في البوادي
ب -محكمة الاستئناف بمدينة إفني
__________
(1) - القانون القضائي الخاص : 1 / 161 والتنظيم القضائي المغربي الجديد : 154
(2) - التنظيم القضائي في المغرب : 37(48/8)
ج - المجلس الاستشاري الأعلى المؤسس 1945م يتألف من فقهاء وقضاة ينظرون في أحكام قضاة القبائل وأحكام قاضي الاستئناف(1)
وهكذا ضيق مجال القضاء الشرعي في عهد الحماية ، وانتزعت منه الكثير من الاختصاصات، وحول إلي قضاء استثنائي ، بينما استصدرت قوانين لتنظيم المحاكم الأخرى وتوسيع نفوذها.
المطلب الثالث : القضاء الشرعي في عهد الاستقلال
ترك المستعمربعد رحيله من المغرب أنواعا من المحاكم تتباين في التنظيم والأهداف والإجراءات والاختصاصات مما يشبه فسيفساء غير متجانس في بلد كان قضاؤه الأصلي منبعثا من الشريعة الإسلامية منذ قرون خلت، قال الأستاذ حماد العراقي بعد ذكرهذه المحاكم: « وإلى جانب هذا القضاء الموزع بين المحاكم الخاصة بالسكان الأصليين نرى محاكم أجنبية :
ففي الجنوب محاكم فرنسية ، وفي الشمال محاكم إسبانية ، وفي منطقة طنجة محاكم مختلطة تحولت إلى قضاء دولي .
وفضلا عن هذه المحاكم المتنوعة نجد أيضا محاكم عسكرية فرنسية ومحاكم عسكرية إسبانية ، وقضاء خاصا بالبنك المخزي المغربي .
وقضاء قنصليا حيث كانت من الولايات المتحدة في المغرب كله وإنكلترا في الشمال، وطنجة محتفظة بامتيازاتها القضائية .
وكل قضاء من هذه الأنواع يحكم بموجب تشريعات أو قوانين أو أعراف خاصة به تختلف فيما بينها شكلا ونظاما وجوهرا... »(2)
وأمام هذا الوضع حاول المغرب إصلاح القضاء وفق مصالحه الوطنية فأصدر لهذا الغرض تشريعات مختلفة، وفي فترات متباعدة ، وانسجاما مع شرط هذا البحث ، فإن الذي نسعى إلى استجلائه هو موقع القضاء الشرعي من كل ذلك، ولن يتم ذلك الا باستعراض أهم مراحل التنظيم القضائي في عهد الاستقلال ، وتتبع موقع القضاء الشرعي فيها .
المرحلة الأولى : الإصلاح القضائي إثر رحيل المستعمر
__________
(1) - انظر : تطور النظام القضائي بأيت باعمران : 180
(2) - القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 38 - 39(48/9)
بمجرد حصول المغرب على الاستقلال ، أسندت لوزارة العدل مهمة إصلاح الجهاز القضائي، ولعل أهم سمات هذا الإصلاح هي :
1 - إلغاء الاختصاصات القضائية التي كانت للجهاز الإداري ، وإقرار مبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور في الفصل 82(1) وإن كان تطبيقه متعثرا(2).
2 - الإبقاء على تعدد أنماط القضاء بعد إدخال تعديلات عليه ، وعرف المغرب في هذه الفترة أربعة أنواع من المحاكم :
أ - محاكم القضاء الشرعيين .
ب - المحاكم العادية : وهي أساس الجهاز القضائي وقاعدة وحدته (3) « وذلك بجعلها
المختصة بالنظر في جميع القضايا المدنية والتجارية والجنائية »(4)
ج - المحاكم العصرية : وهي التسمية الجديدة التي أطلقت على المحاكم الفرنسية والإسبانية والدولية التي خلفها المستعمر ، غير أنها احتفظت بالتنظيم والاختصاص نفسيهما الذين كانا لها أيام الحماية ما عدا أن أحكامها أصبحت تصدر باسم جلالة الملك .
د - المحاكم العبرية : وقد أدخلت عليها إصلاحات من حيث التنظيم ودرجة التقاضي .
إن القضاء الشرعي المتمثل في النوع الأول من المحاكم ( محاكم القضاة الشرعيين ) لم يستفد من التعديلات المذكورة إلا بقدر يسير ، وكان من المنتظر التعجيل بعد رحيل المستعمر برد الاعتبار له ، لأنه كان « متداعيا أيام الاستعمار في تنظيمه ، ومسطرته ، والقضاة الذين عهد به إليهم »(5)، وجعله القضاء المهيمن على المحاكم المغربية ، غير أن ذلك لم يتحقق بالكيفية المأمولة.
ومع ذلك فقد استفاد من الإصلاحات التشريعية التي تقدمت الإشارة إليها ، وأهم ما ناله في ذلك :
__________
(1) - انظر : المختصر في التنظيم القضائي المغربي : 1 / 15
(2) - ينظر : القضاء المغربي بين الأمس واليوم للعراقي: 42 - 49
(3) - القانون القضائي الخاص 1 / 167
(4) 1 - التنظيم القضائي في المغرب : 41 ، القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 56
(5) 2 - التنظيم القضائي الخاص : 1/ 168(48/10)
أ - إعادة تنظيمه على شكل مماثل للمحاكم العادية .
ب - توسيع نفوذه ليشمل جميع التراب الوطني .
ج - إحداث أقسام إقليمية للنظر في الأحكام المستأنفة لديها والتي أصدرتها محاكم القضاة .
د - توسيع اختصاصاته ، خاصة بعد إلغاء المحاكم العرفية(1)
هـ - اختصاص المجلس الأعلى للقضاء في النظر في الأحكام التي ترفع إليه بعد صدورها من محاكم الاستئناف.
و - الشروع في تقنين الفقه الإسلامي وتدوينه ليكون مرجع القضاء الشرعي في المغرب « إذ ليس من المعقول - ولا من المتصور مطلقا - ألا يكون قانونا ونحن أمة مسلمة مستقلة قانونا إسلاميا في روحه وصلبه »(2)
وقد أنجز من هذا القانون ما يتعلق منه بالأحوال الشخصية ، وأنهت اللجنة الكتاب الأول في الأموال، وقدمت نه لوزارة العدل لكنه لم ير النور ، وتوقف عمل اللجنة « فتوقف بذلك الأمل العظيم في تدوين الفقه الإسلامي كما كان يطمح إليه محمد الخامس رضوان الله عليه واللمخلصون من ورائه »(3)
وهكذا نرى أن التعديلات التي باشرها المغرب إثر حصوله على الاستقلال لم تمس جوهر القضاء عموما والقضاء الشرعي بشكل خاص .
المرحلة الثانية : توحيد المحاكم المغرية .
كانت الحاجة قوية لإصلاح عميق للقضاء المغربي من أجل أن يواكب الوضع الجديد للبلاد ، ويقطع الصلة بمرحلة الحماية ، فجاء ظهير 1965م بثلاثة مبادئ جوهرية في التنظيم القضائي المغربي وهي :
1- مبدأ التوحيد :
ويعنى أن جميع المحاكم التي كانت في المغرب أصبحت موحدة باستثناء المحكمة العسكرية والمحكمة العليا للعدل .
__________
(1) 3 - القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 56 ، المختصر في التنظيم القضائي المغربي : 1/ 8
(2) 4 - من حديث إذاعي لوزير العدل المغربي يوم 12/09 / 1957م ، راجع : القضاء المغربي بين الأمس واليوم : 62-63
(3) - المرجع نفسه : 66 ، وذكر المؤلف أن مجلة " رابطة القضاة " نشرت هذا المشروع في العدد الرابع في سنتها الأولى ، أبريل 1964 م.(48/11)
2 - مبدأ التعريب :
وينص عليها الفصل الخامس من القانون المذكور بقوله :« إن اللغة العربية هي وحدها لغة المداولات والمرافعات والأحكام في المحاكم المغربية » .
3 - مبدأ المغربة :
وتقتضي منع ممارسة القضاء في المحاكم المغربية على الأجانب .
وفي هذه الفترة أعيد ترتيب درجات المحاكم الموحدة في المغرب كالآتي :
- محاكم السدد.
- المحاكم الإقليمية.
- المحاكم الاستثنائية .
ثم المجلس الأعلى.
ولم يعد للقضاء الشرعي وجود متميز عن المحاكم الأخرى ، وإنما هو داخل في اختصاص المحاكم المذكورة ، وهذا ما يدل عليه النص الثالث من الظهير المذكور : « إن النصوص الشرعية والعبرية وكذا القوانين المدنية والجنائية الجاري بها العمل حاليا ، تصبح إلى أن تتم مراجعتها مطبقة لدى المحاكم المذكورة في الفصل الأول ، كما أن القضايا الشرعية والعبرية تصبح في الدرجة الأولى من اختصاص محاكم السدد ، وفي الدرجة الثانية من اختصاص المحاكم الإقليمية »
المرحلة الثالثة : التنظيم القضائي الجديد
بحلول سنة 1974م أصبح للمغرب تنظيم قضائي جديد يطبق في المحاكم المغربية إلى الآن مع تعديلات أدخلت عليه في فترات لاحقة .
ويشمل هذا القانون في فصله الأول ترتيب المحاكم العادية في المغرب كالآتي :
- محاكم الجماعات والمقاطعات
- المحاكم الابتدائية
- محاكم الاستئناف
- ثم المجلس الأعلى
واحتفظ بالمحكمة العسكرية ومحكمة العدل العليا ومحكمة العدل الخاصة على أنها محاكم استثنائية، وأضيفت إليها فيما بعد المحكمة الإدارية والمحكمة التجارية .(1)
ويندرج القضاء الشرعي ضمن اختصاصات المحاكم العادية :
__________
(1) - المختصر في التنظيم القضائي المغربي : 1 / 13 ، 14(48/12)
ففي المحاكم الابتدائية أقسام للأحوال الشخصية والميراث والعقار ( الفصل الثاني من ظهير 1965 ) ، والفصل الخامس من القانون المذكور يدل على أن هذه المحاكم تختص في القضايا الشرعية عندما صرح بأنها تنظر في جميع الدعاوى ، ما عدا تلك التي ترجع إلى محاكم خاصة .
وتشمل المحاكم الاستئنافية والمجلس الأعلى على غرف للأحوال الشخصية والميراث والعقار ( الفصلان 6 و 10 ) وهي التي يطبق فيها القضاء الشرعي .
أما محاكم الجماعات والمقاطعات ففقد نص الفصل 23 من ظهير 15 يوليو 1974 م الخاص بتنظيم هذه المحاكم وتحديد اختصاصاتها على ما يلي : « لا يختص حكام الجماعات وحكام المقاطعات بالنظر في النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية ، والعقار، والقضايا العقارية، غير أنه يمكن لهم وضمن اختصاصاتهم الترابية أن يأمروا بكل التدابير التي تضع حدا لاحتلال الحال والمانع من الانتفاع بحق الملكية ».
المبحث الثاني : مآل القضاء الشرعي بالمغرب في الوقت الحاضر .
يجدر بنا أن نتساءل عن موقع القضاء الشرعي في التنظيم القضائي المعمول به اليوم في المغرب ، لاسيما بعد صدور التعديلات الأخيرة لمدونة الأسرة والمسطرة المدنية والتنظيم القضائي ،(1)وما تلا ذلك من قرارات ومناشير أصدرتها وزارة العدل .
__________
(1) - مدونة الآسرة هي الاسم الجديد لمدونة الأحوال الشخصية ، وقد نشرت بالجريدة الرسمية مع التعديلات الواقعة في المسطرة المدنية والتنظيم القضائي للمملكة يوم : 14 ذي الحجة 1424هـ الموافق 5 فبراير 2004م ومعلوم أن مشروع التعديلات الواردة في المدونة قد مر بمراحل قبل عرضه على البرلمان المغربي الذي وافق عليها بغرفتيه ، وتتضمن المدونة أربعمائة مادة في الزواج والطلاق والولادة والأهلية والنيابة الشرعية والوصية والميراث .
انظر مدونة الأسرة ، منشورات وزارة العدل المغربية ، مطبعة فضالة ، الطبعة الخامسة 1426 هـ 2005م ، ص : 19 - 116(48/13)
وهذه التعديلات والتشريعات التي كان العمل بها ساريا ولا يزال هي التي تحكم القضاء الشرعي المغربي في الوقت الراهن .
ولرصد المعالم الرئيسة لهذا النوع من القضاء نتناول القضاء الشرعي في المحاكم المغربية وكيفية تعيين القضاة ، ثم نستعرض اختصاصات القضاء الشرعي بصفة عامة .
المطلب الأول : تنظيم القضاء الشرعي وكيفية تعيين القضاة
الفرع الأول : التنظيم .
من المعلوم أن المغرب أخذ بقاعدة التقاضي على درجتين : المحاكم الابتدائية والمحاكم الاستئنافية ، أما المجلس الأعلى فقد أنشئ سنة 1957 م لمراقبة أحكام هذه المحاكم من حيث مطابقتها للقانون.
وقد كانت المحاكم الابتدائية تبت في القضايا الشرعية ضمن الأقسام التابعة لها وفق التنظيم الوارد الثاني من التنظيم القضائي : « يمكن تقسيم هذه لمحاكم إلى عدة أقسام حسب نوعية القضايا: مدنية ، وأحوال شخصية ، وميراث ، وتجارية ، وإدارية ، وعقارية ، واجتماعية، وجنائية .
غير أنه يمكن لكل قسم أن يبحث ويحكم في كل القضايا المعروضة على المحكمة أيا كان نوعها ».
فكان هذا التعدد سببا لكثرة القضايا وتراكم الملفات وبطء البت والتنفيذ ، مما استدعى إجراء تعديل للفصل المذكور وإعادة صياغته كالآتي :
« يمكن تقسيم هذه المحاكم بحسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى أقسام قضاء الأسرة ، وغرف مدنية ، وتجارية ، وعقارية ، واجتماعية ، وزجرية.
تنظر أقسام قضاء الأسرة في قضايا الأحوال الشخصية والميراث والحالة المدنية وشؤون التوثيق والقاصرين والكفالة وكل ماله علاقة برعاية وحماية الأسرة
يمكن لكل غرفة أن تبحث وتحكم في كل القضايا المعروضة على المحكمة كيفما كان نوعها باستثناء ما يتعلق بأقسام قضاء الأسرة »(48/14)
فأنشئت بذلك أقسام لقضاء الأسرة وهيئت لها مقرات خاصة استجابة لرسالة ملكية إلى وزير العدل جاء فيها : « وقد تأكد من خلال تطبيق المدونة الحالية أن جوانب القصور والخلل لا ترجع فقط إلى بعض بنودها ، ولكن بالأحرى إلى انعدام قضاء أسري مؤهل ماديا وبشريا ومسطريا لتوفير كل شروط العدل والإنصاف ، مع السرعة في البت في القضايا التي هي من اختصاصه والتعجيل في تنفيذها »(1)
وتنظر أقسام قضاء الأسرة المحدثة في التوثيق وشؤون القاصرين والزواج والطلاق والتطليق والنفقة والعقارات غير المحفظة والحالة المدنية كما هو مبين في الفصل المذكور.
أما تنظيم المحاكم الاستئنافية فلم يحصل فيه تغيير ، وبقي الفصل السادس من التنظيم القضائي معمولا به في تنظيم هذه المحاكم ، إذ ينص على إمكانية تقسيمها إلى عدد من الغرف المختصة من بينها غرفة استئنافية للأحوال الشخصية والعقار ، غير أنه يمكن لكل غرفة أن تبحث وتحكم في كل القضايا المعروضة على المحكمة أيا كان نوعها .
وانسجاما مع ما ذكر نجد المجلس الأعلى يشتمل على غرفة شرعية خاصة بالأحوال الشخصية والميراث . ( الفصل العاشر من التنظيم القضائي )
الفرع الثاني : التأليف
يخضع تأليف المحاكم المغربية والمجلس الأعلى لنصوص التنظيم القضائي الصادر 1974م، فالمحاكم الابتدائية تتشكل حسب الفصل الثاني من التنظيم القضائي كالآتي :
1 - رئيس وقضاة و قضاة نواب .
2 - نيابة عامة تتكون من وكيل الملك و نائب او عدة نواب .
3 - كتابة الضبط
4 - كتابة للنيابة العامة
__________
(1) - الرسالة الملكية الموجهة إلى وزير العدل حول توفير الشروط الكفيلة بحسن تطبيق مدونة الأسرة ، انظر: مدونة الأسرة ، نشرة وزير العدل : 139(48/15)
وبصدور المدونة والتعديلات المرفقة بها أصبح القضاء الشرعي منظما في قسم قضاء الأسرة يضم قاضيا للأسرة مكلفا بالزواج يعين لمدة ثلاث سنوات بقرار من وزير العدل ( الفصل 179 من المسطرة المدنية ) وقاضيا لشؤون القاصرين ، وآخر للتوثيق يؤشر على العقود العدلية ...
وباستثناء النفقة التي تخضع التي تخضع للقضاء الفردي فإن بقية النزاعات الأسرية التي تستوجب نظر المحكمة ينظر فيها القضاء الجماعي المتكون من ثلاثة قضاة ، إضافة إلى النيابة العامة ومساعدة كتابة الضبط ، فالطلاق مثلا الذي أصبح في ظل مدونة الأسرة تحت مراقبة القضاء ( الفصل 78 من المدونة ) تعقد له المحكمة بحضور الطرفين و تجري المناقشات بغرفة المشورة ، بما في ذلك الاستماع إلى الشهود ولمن ترى المحكمة فائدة في الاستماع إليه ( الفصل 82 ) ، وبعد القيام بالإجرآت القانونية المطلوبة تأذن المحكمة بتوثيق الطلاق لدى العدلين داخل دائرة نفذ نفس المحكمة ، ويوجه القاضي نسخة من وثيقة الطلاق بعد إمضائها إلى المحكمة التي أصدرت الإذن بالطلاق لتتخذ قرارا معللا في الموضوع ، ويكون قابلا للطعن ( الفصول : 86، 87 ، 88 ) .
وإذا كان دور النيابة العامة هو الميدان الجنائي ، فإنها تعد طرفا في قضايا الأسرة بمقتضى المادة التاسعة من قانون المسطرة المدنية المعدل ، إذ نصت على وجوب تبليغ النيابة العامة الدعاوى المتعلقة بالأسرة بجانب الدعاوى التي تبلغ إليها بحكم القانون ، وحرصت المادة الثالثة من مدونة الأسرة على اعتبارها طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام هذه المدونة .(48/16)
والظاهر أن النيابة العامة عندما تتدخل في القضاء الشرعي تكون طرفا أصليا إذا تعلق الأمر بتطبيق المدونة ، وطرفا منظما في بقية قضايا الأسرة ما لم تكن مدعية أو مدعى عنها بنصوص خاصة ، ويرى أحد قضاة النيابة العامة الممارسين أن « هذه الازدواجية تبقى ممكنة مادامت القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام المدونة هي جزء من قضايا الأسرة بصفة عامة »(1).
وتتألف المحاكم الاستئنافية من الرؤساء الأولين ، ونيابة عامة المتكونة من وكيل الملك ، ونوابه العامين ، وعلى قاض أو عدة قضاة مكلفين بالتحقيق ، وقاض أو عدة قضاة للأحداث ، وكتابة للنيابة العامة .
وتصدر قراراتها من قبل ثلاثة قضاة يساعدهم كاتب الضبط ، تحت طائلة البطلان ما لم ينص القانون على خلاف ذلك . ( الفصل السابع من التنظيم القضائي )
أما المجلس الأعلى - الذي يتميز بمراقبة تطبيق المحاكم للقانون كما سلف الذكر - فيشتمل على رؤساء غرف ومستشارين ، وكتابة الضبط ، وكتابة عامة يمثلها فيه الوكيل العام للملك ويساعده كاتب الضبط ، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ، ويعتبر حضور النيابة العامة إلزاميا في سائر الجلسات ( الفصلان 10 ، 11 من التنظيم القضائي ).
الفرع الثالث : كيفية تعيين القضاة
استفاد القضاة بصفة عامة من دروس تكوينية في التعليم الجامعي شملت مواد شرعية وقانونية وإن بدرجات مختلفة ، ويخضع اختيارهم للشروط العامة التي تعتبر في ولوج الوظيفة العمومية في المغرب ، منها :
1 - الجنسية المغربية .
2- الأهلية القانونية .
3 - القدرة البدنية .
4 - الحصول على الشواهد الجامعية ، وهي شهادة العالمية في التعليم الإسلامي أو شهادة الإجازة في الحقوق أو الشريعة أو ما يعادلهما.
__________
(1) - دور النيابة العامة في مدونة الأسرة ، مقال لسفيان أدريوش ، نائب وكيل الملك بمركز القاضي المقيم بزايو، نشرته مجلة القضاء والقانون ، السنة 32 ، العدد 150 ص : 137(48/17)
وليس في القانون المغربي ما يمنع المرأة من ولاية منصب القضاء ، لأنه سكت عن شرط الذكورة(1).
5 - النجاح في مباراة الملحقين القضائيين ، ويعفى منها أساتذة الحقوق الذين قاموا بتلقين مادة أساسية عشر سنوات ، والمحامون الذين زاولوا مهمتهم خمس عشرة سنة .
ويعين الناجحون في المباراة بقرار من وزير العدل ملحقين قضائيين يقضون بهذه الصفة سنتين تشمل الدراسة والأعمال التطبيقية في المعهد الوطني للدراسات القضائية ، وتدريب بمحاكم الابتدائية والاستئنافية ، وينتهي بامتحان يعينون بعدها قضاة باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء في الرتبة الأولى في الدرجة الثالثة .
وفي خطوة فريدة تم اختيار فوج من خريجي دار الحديث الحسنية ، تخصص أصول الفقه، من غير إلزامهم بالمشاركة في المباراة ، وقضوا ثمانية أشهر - بدل سنتين - في التدريب انتهى بإنجاز بحث ، ثم عينوا إثره قضاة في القضايا الشرعية ، وكان ذلك سنة 1998 م .
والحاصل أن القضاء الشرعي يستفيد من القضاء الجماعي في المحاكم المغربية والمجلس الأعلى، ويباشره قضاة ذووا تكوين شرعي أو قانوني أوهما معا بحضور النيابة العامة ومساعدة كتاب الضبط.
المطلب الثاني : اختصاصات القضاء الشرعي
إن الحديث عن اختصاصات القضاء الشرعي يقتضي الفصل بين الاختصاص النوعي والاختصاص المحلي .
الفرع الأول : الاختصاص النوعي
__________
(1) - إسناد القضاء إلى المرأة من الأمور الخلافية بين ففقهاء الشريعة الإسلامية ما بين مجيز ومانع ومجيز بشروط ، انظر: التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي للدكتور محمد مصطفى الزحيلي : 56 ، 57(48/18)
تعتبر المحاكم الابتدائية في المغرب ذات ولاية عامة تنظر في جميع الدعوى إلا ما استثني منها بنص خاص ، ولم يكتف قانون المسطرة المدنية بالاقتصار على الصيغة العامة التي صدر بها الفصل الثامن عشر، وهي تستوعب القضايا الشرعية وغيرها ، وإنما حرص على ذكر بعضها بالاسم عندما قال : « تختص المحاكم الابتدائية مع مراعاة الاختصاصات الخاصة المخولة إلى حكام الجماعات وحكام المقاطعات ، بالنظر في جميع القضايا المدنية وقضايا الأسرة والميراث والتجارة ... ».
فالمحاكم الابتدائية هي المختصة في قضايا الأسرة كالزواج والطلاق والنفقة والأهلية والوصية والإرث وفق المنصوص عليه في المدونة ، وتخضع في مسطرتها لمقتضيات القسم الثالث والبابين الأول والثاني من القسم الرابع، إذا لم تكن مخالفة لمقتضيات هذا الباب ،
( الفصل 179 من قانون المسطرة المدنية المتعلق بالأحوال الشخصية ).
وفضلا عن ذلك تنظر المحاكم الابتدائية في العقارات وما يطرأ عليها من عقود كالوقف والهبة والشفعة، وهي مجال تطبيق قواعد الفقه الإسلامي خاصة ما يتعلق منها بالمذهب المالكي ، ولا يقتصر هذا التطبيق على العقارات غير المحفظة إذ يمتد إلى العقارات المحفظة إذا تعلق الأمر بالتبرعات والشفعة ، ففي الفصل 75 من ظهير يونيو 1915 « تبقى الأحباس خاضعة للقوانين والضوابط الخاصة والعوائد الإسلامية التي تجري عليها» .
وغير خاف ما للفقه الإسلامي من أثر في فصول الشفعة التي يتضمنها ظهير 13 غشت 1913 فقد نص فصله الثلاثون على «أن حقوق الأولية في ممارسة الشفعة يبقى العمل جاريا بها بين المسلمين وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية ».(48/19)
وإلى جانب ذلك يختص رئيس المحكمة الابتدائية في القضايا ذات الطبيعة الاستعجالية خشية زوال معالم الواقعة ، أو خشية فوات المصلحة وضياع الحق ، وأضفى الفصل 179 مكرر صبغة الاستعجال على النفقة عندما قال : « يبت في طلبات النفقة باستعجال وتنفذ الأوامر والأحكام في هذه القضايا رغم كل طعن _» .
أما محاكم الاستئناف فتختص في الأحكام الصادرة ابتدائيا عن المحاكم الابتدائية والقضايا التي أسندت إليها بنص تشرعي ، وعليه فالدعاوى الشرعية التي عرضت على أقسام قضاء الأسرة بالمحاكم الابتدائية يمكن أن تنظر فيها محكمة الاستئناف طبقا للفصل 24 من المسطرة المدنية : « تختص محاكم الاستئناف عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة بالنظر في استئناف أحكام المحاكم الابتدائية وكذا في استئناف الأوامر الصادرة عن رؤسائها »(1)
ويختص المجلس الأعلى بالبت في الطعن بالنقض ضد الأحكام النهائية التي تصدرها جميع المحاكم المغربية ( الفصل 353 من المسطرة المدنية ) ، وهو بذلك يمارس الرقابة القانونية على الأحكام ، وليست له صفة الدرجة الثالثة من درجات التقاضي (2)
وقد أصدر قرارات وظف في تعليلها أصول الفقه الإسلامي كالسنة الاستصحاب ، والقواعد الأصولية مثل : " المثبت مقدم على النافي " ، واعتمد أقوال الفقهاء المالكية مثل : مختصر خليل ونوازل المهدي الوزاني ، والعلمي ، وعبد القادر الفاسي ، والتحفة لابن عاصم(3) .
__________
(1) - قارن بالفصل التاسع من ظهير التنظيم القضائي المغربي
(2) - انظر : التنظيم القضائي في المغرب : 186
(3) - انظر مقال الحيازة في الفقه الإسلامي وموقف المجلس الأعلى من التبرع بالعقارات المحفظة خاصة ، لعلال العبودي رئيس غرفة بالمجلس الأعلى ، مجلة القضاء والقانون ، العدد 149 السنة 31 ص : 107 إلى 147(48/20)
من ذلك ما جاء في تعليل القرار رقم 94 الصادر سنة 1968م القاضي برفض طلب نقض هبة : « وإن قضاة الاستئناف لما نصوا في حكمهم على وجوب الإشهاد بصحة الهبة طبقوا كما يجب النصوص الفقهية الواردة على شروط صحة الهبة ولم يخرقوها »(1)
الفرع الثاني : الاختصاص المحلي :
أقر التشريع المغربي قاعدة : « المدعي يسعى وراء المدعى عليه »(2) ، ذلك أن المحكمة المختصة في النزاع المعروض عليها هي محكمة موطن المدعى عليه الذي يقطن فيه عادة ، وهذا ما يصرح به الفصل 27 من المسطرة المدنية :
« يكون الاختصاص المحلي لمحكمة الموطن الحقيقي أو المختار للمدعي عليه إذا لم يكن لهذا الأخير موطن في المغرب ، ولكن يتوفر على محل إقامة كان الاختصاص لمحكمة هذا المحل ، إذ لم يكن للمدعي عليه لا موطن ولا محل إقامة بالمغرب فيمكن تقديم الدعوى ضده أمام محكمة موطن أو إقامة المدعي أو واحد منهم عند تعددهم ...»
وهذا المبدأ العام الوارد في هذا النص يطبق على جميع الدعاوى بما فيها القضايا الشرعية إلا ما استثني بنص القانون، ومنها :
أ - الدعاوى العقارية إذ تعلق الأمر بالاستحقاق أو الحيازة ، فالاختصاص يعود لمحكمة موقع العقار المتنازع فيه .
ب - دعاوى النفقة ترفع إلى محكمة موطن المدعى عليه أو المدعي إذا كان ذلك باختياره .
ج - دعاوى التركات تختص فيها محكمة محل افتتاح التركة .
د - دعاوى انعدام الأهلية والترشيد والتحجير وعزل الوصي أو المقدم ، تختص فيها محكمة محل افتتاح التركة أو محكمة موطن أولئك الذين تقرر انعدام أهليتهم باختيار هؤلاء أو ممثلهم القانوني ، وإذا لم يكن لهم موطن في المغرب ، فأمام محكمة موطن المدعى عليه(3) .
__________
(1) - المصدر السابق ص: 138
(2) - التنظيم القضائي في المغرب : 191
(3) - انظر الفصل : 28 من المسطرة المدنية ، تقديم و تهيئ عبد العزيز توفيق .ص 22(48/21)
هـ - طلب الإذن بالطلاق يقدم للمحكمة التي يوجد بها بيت الزوجية أو موطن الزوجة أو محل إقامتها أو التي أبرم فيها عقد الزواج حسب الترتيب .
وهكذا نرى أن المغرب اعتمد في تحديد الاختصاص المحلي إما موطن الخصوم وغلب في كثير من الدعاوى موطن المدعى عليه ، أو موطن الذي يوجد فيه موضوع النزاع كالعقار أو مكان إنشاء العقد .
هذا وإن النصوص التي تنظم الاختصاص المحلي اقتصرت على المحكمة الابتدائية ذات الدرجة الأولى ، أما محكمة الاستئناف « فاختصاصها ينحصر في الدعاوى التي تنظر فيها محاكم
الدرجة الأولى الموجودة ضمن دائرتها القضائية »(1)
خاتمة :
إن دراسة القضاء الشرعي بالمغرب المعاصر وتتبع مسيرته ومقارنته بغيره من المحاكم التي عرفها البلد في هذه الحقبة ، ينتهي بالباحث إلى تسجيل خلا صات ونتائج منها :
أولا : كانت الغلبة والولاية العامة للقضاء الشرعي في المغرب منذ قرون خلت ، من غير تمييز في القضايا المعروضة عليه بين الأحوال الشخصية وغيرها من القضايا التجارية والجنائية ، غير أنه لم يحافظ في مسيرته على الاستقرار والتماسك .
ثانيا : بدأ نفوذ القضاء الشرعي في التقلص والانحسار بداية القرن العشرين بسبب العوامل الآتية :
1 - التجاء القبائل إلى تحكيم أعرافها المحلية .
2 - اختصاص القضاء لمخزني للنظر في النزاعات الجنائية والإدارية والتجارية.
3 - ظهور القضاء الأجنبي في شكل المحاكم القنصلية .
ثالثا : تعتبر فترة الاحتلال أسوأ مرحلة مر بها القضاء الشرعي في المغرب ، فقد أصيب فيها بضمور وتخلف في التنظيم و تضييق في الاختصاصات ، ووجد نفسه محاصرا بمختلف المحاكم :
1 - المحاكم الأجنبية التي قوى المستعمر نفوذها الترابي ، وخصها بالتنظيم وتعيين القضاة الأجانب ، وربط أحكامها من حيث النقض بباريس أو مدريد .
2 - القضاء المخزني الذي أكسبه المستعمر صبغة قانونية وأخضعه لمراقبته المباشرة.
__________
(1) - القانون القضائي الخاص : 1 / 354(48/22)
3 - القضاء العرفي الذي عزز المحتل مكانته واعتمد عليه في التفرقة العنصرية بين السكان .
أما القضاء العبري فلم يؤثر في القضاء الشرعي المغربي ، لأن اختصاصاته لا تتجاوز قضايا الأحوال الشخصية لليهود وميراثهم وأمور ديانتهم ، وهو حق يصونه الإسلام لأهل الذمة ، ومظهر من مظاهر التعايش بين المسلمين والأقليات الدينية .
رابعا : استفاد القضاء الشرعي من مجمل الإصلاحات التي أدخلها المغرب بعد
الاستقلال على التنظيم القضائي خاصة :
1 - إلغاء المحاكم الأجنبية والعرفية والمخزنية .
2 - إدراج القضاء الشرعي ضمن المحاكم التي أعيد تنظيمها وهيكلتها بعد إقرار المبادئ الثلاثة الجريئة : التوحيد والتعريب والمغربة .
3 - توسيع نفوذ القضاء الشرعي ليشمل التراب المغربي .
4 - الاستفادة من تقنين الأحوال الشخصية وإصدارها في مدونة توحد المرجعية التشريعية للقضاء.
5 - إحداث أقسام لقضاء الأسرة في المحاكم الابتدائية وإفرادها بمقرات خاصة
ومع ذلك فإن القضاء الشرعي بالمغرب بحاجة إلى توسيع اختصاصاته النوعية ، وإمداده بأطر شرعية ، وتقوية حصص الفقه الإسلامي بكليات الحقوق ، ومواصلة تدوين فقه الأموال.
والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين .
ملاحق :
أصدرت وزارة العدل المغربية قرارات في شأن تحديد شكل ومضمون المطبوعات التي تعتمد في قضاء الأسرة توحيدا لعمل القضاة في تطبيق أحكام مدونة الأسرة ،ونشرت هذه القرارات في الجريدة الرسمية شهر فبراير 2004م (1)
وبناء على هذه القرارات والمناشير الوزارية ، فإن أقسام الأسرة في المحاكم الابتدائية تستعمل مطبوعات لهذا الغرض ، أرى من المفيد إدراج بعضها في آخر هذا البحث .
ويتعلق الأمر ب :
1 - مقرر برفض زواج من لم يبلغ سن الزواج .
2 - محضر جلسة رفض طلب الإذن بالزواج
__________
(1) - انظر : مدونة الأسرة بعناية عبد السلام بهوش وعبد الجيد الشفيق ، ص : 249 - 254(48/23)
3 - محضر جلسة الإذن بتزويج القاصرة
4 - إذن بالطلاق قبل الدخول
5 - إذن بالطلاق الخلعي
6 - إذن بإيداع
المملكة المغربية.... مقرر برفض زواج من لم يبلغ سن الزواج
وزارة العد ل .... باسم جلالة الملك
محكمة الاستئناف بتاريخ ..............نحن ............قاضي الأسرة المكلف بالزواج
بقسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية ..... وبمساعدة كاتب الضبط
المحكمة الابتدائية السيد .......... وبحضور ممثل نيابة العامة السيد :.................
قسم قضاء الأسرة أصدرنا المقرر الآتي :
مقرر رقم :.... بناء على الطلب المقدم من طرف القاصر( ة)......المزدادة
ملف رقم :...... بتاريخ .............والموقع من طرفه (ها) وكذا من طرف نائبه(ها)
بتاريخ .. .... الشرعي( او غير الموقع من طرف النائب الشرعي بسبب امتناعه )
والذي يلتمس فيه الإذن له بالزواج بالمسمى (ة)....... مؤكدا (ة)أنه (ها) بالغ البلوغ الشرعي وقادر على تحمل مسؤولية الزواج .
وبناء على تصريح أبوي القاصر (ة) المذكور (ة) .......... أو نائبه (ها) الشرعي الذي أفاد من خلاله أن ابنته بالغ وترغب في الزواج بخاطبها عن طيب خاطرها .
وبناءا على مستنتجات النيابة العامة الرامية إلى قبول الطلب - رفض الطلب - تطبيق القانون
وحيث تبين لهذه المحكمة أن المعني بالأمر هو من مواليد ............ حسب موجز رسم ولادته المدلى به في الملف ، وهو ما يجعله غير متوفر على النضج الكافي والوعي اللازم لمعرفة الحقوق والواجبات التي يرتبها عقد الزواج . ويجعل زواجه معرضا في أية لحظة للفشل بسبب حمله لمقومات الفشل في طياته .
وحيث فضلا عن ذلك فإن مصلحة القاصر في هذا الزواج غير متوافرة بحكم عدم استنفاده لباقي مناحي الحياة من دراسة وتعلم مختلفة الأشياء بالشكل المطلوب وهو ما يقلل من إمكانية تحقيق شروط الحياة المستقرة .
وبناء على البحث والمعاينة الذين أجرتهما هذه المحكمة مع المعني بالأمر أعلاه(48/24)
وحيث تبين أثناء البحث والاستماع إلى القاصرة أنها ليست لديها رغبة أكيدة حاليا في الزواج وأنها تود إرجاء هذا الأمر إلى وقت لاحق .
وحيث تأسيا على ما ذكر أعلاه فقد وجب رفض طلب الإذن بالزواج .
وبناء على أحكام المادتين 20و 21 من مدونة الأسرة
لهذه الأسباب تقرر رفض الطلب
إمضاء القاضي.......... إمضاء كاتب الضبط.......
المملكة المغربية محضر الجلسة
وزارة العدل
ـــــ الهيئة :
محكمة الاستئناف السيد:........... قاضي الأسرة المكلف بالزواج
............... السيد.............. ممثلا للنيابة العامة
السيد: ............ كاتبا للضبط
المحكمة الابتدائية:
ـــــــ
قسم قضاء الأسرة
ـــــــ حضرت أمامنا القاصرة .......طالبة منحها الإذن بالزواج مصرحة ملف رقم... على أنها مواليد.............................................
جلسة يوم... مدلية بنسخة موجزة لرسم ولادتها وشهادة طبية وشهادة للسكنى إضافة
إلى الشهادة الإدارية ، كما حضر معها والداها وعبرا معا عن رغبتهما في تزويجها وبعد البحث مع طالبة الإذن بالزواج تبين أنها لا تتوفر على النضج الكافي و
الوعي اللازم لمعرفة الحقوق و الواجبات التي يرتبها عقد الزواج وهو ما
يعرض هذا الأخير للفشل في كل لحظة كما أن مصلحتها في هذا الزواج غير متوافرة لعدم استنفادها لباقي مناحي الحياة من دراسة وتعلم لمختلف الأشياء .
باسم جلالة الملك
لهذه الأسباب نقرر: رفض الطلب .
القاضي كاتب الضبط
محضر جلسة الإذن بزواج القاصرة
ملف عدد : ..........
بتاريخ : ...........
الهيئة :
السيد:.......................قاضي الأسرة المكلف بالزواج
السيد:........................ممثلا للنيابة العامة
السيد:.......................كاتبا للضبط
حضرت القاصرة طالبة الإذن بالزواج رفقة والديها وصرحت على أنها من مواليد.......(48/25)
مدلية بنسخة كاملة لرسم الولادة - موجز رسم الولادة - وشهادة طبية تثبت قدرتها على الزواج، وشهادة إدارية ، إضافة إلى شهادة السكنى .
وبعد البحث معها صرحت على كونها قادرة على الزواج ، وتتمتع بصحة جيدة ، وأن علامة بلوغها هو حصول الحيض بها في وقته العادي دون اضطراب ، مؤكدة رغبتها في الزواج ، كما صرح نائبها الشرعي برغبته في تزويجها لما فيه من مصلحة لها ولكفاءة الزوج .
وحيث تأسيسا على ما راج بجلسة النظر في طلبات الإذن بزواج القاصرين المنعقدة بتاريخ يومه ، فقد قررت هذه المحكمة منح الإذن للقاصرة أعلاه لما فيه من مصلحة لها.
باسم جلالة الملك
لهذه الأسباب نأذن في تزويج القاصرة ..........................لما فيه من مصلحة لها.
القاضي كاتب الضبط
المملكة المغربية إذن بالطلاق قيل البناء
وزارة العدل
محكمة الاستئناف .... بتاريخ .... أذنت غرفة المشورة بالمحكمة الابتدائية ب ...............وهي
المحكمة الابتدائية ..... تبت في قضايا الإذن بالطلاق بما يلي :
قسم قضاء الأسرة بناء على الفصول 32 ، 78،79 ،80 ،81 ، 82، 83 ،88 من
ملف رقم ..... مدونة الأسرة ، وبناء على الطلب المقدم من طرف السيد ..........
الساكن .......والذي يعرض فيه أنه متزوج بالسيدة .........الساكنة......... حسب عقد الزواج ( أو المراجعة ) المضمن تحت عدد ... صحيفة ... بتاريخ ....كناش ...قسم التوثيق ب .....
ونظرا ل ..............فإنه يطلب الإذن له بطلاقها قبل البناء .
وبعد إجراء محاولة الصلح بين الزوجين بواسطة ........والتي انتهت بالفشل ، أو نظرا لتعذر إجراء محاولة الصلح بين الزوجين ل ......................................
وفيما يتعلق بنصف الصداق المستحق ......................................................
وبناء على ملتمس النيابة العامة التالي الرامي ..............................................(48/26)
وتبعا لإعلام الزوجة في جلسة ....... أو توصلها بالاستدعاء بصفة قانونية يوم ....حسب شهادة التسليم الموقعة من طرف العون السيد ........للحضور لدى العدلين يوم .......على الساعة .....أو كونها مجهولة العنوان وأكد القيم المنصب في حقها ذلك .
لأجله
نأذن للسيد .......بطلاق زوجته السيدة ......على يد عدلين طلاق قبل البناء
بهذا صدر الإذن في اليوم والشهر والسنة أعلاه .
وكانت الهيئة تتركب من السادة :
السيد ................................رئيسا
السيد ...............................عضوا
السيد ..............................عضوا
بمساعدة ...........................كاتب الضبط
الرئيس ..........................المقرر .............................الكاتب ...............
المملكة المغربية إذن بالطلاق الخلعي
وزارة العدل
محكمة الاستئناف بتاريخ ...... أصدرت غرفة المشورة بالمحكمة الابتدائية وهي تبت
المحكمة الابتدائية في قضايا الإذن بالطلاق ما يلي :
ـــــــ بناء على الفصول 114- 115-116-117-118-119-120
م قضاء الآسرة من مدونة الأسرة .
ــــــ بناء على الطلب المقدم من طرف السيد............................ ..
ملف رقم: الساكن .........والسيدة....................الساكنة ب ........ الذي
يعرضان فيه أنهما متزوجان حسب عقد الزواج ( أوالرجعة أوالمراجعة )
المضمن بعدد..... صحيفة ..... بتاريخ........كناش......بقسم التوثيق ب ..
وأن لهما أولادا هم (الأسماء وتواريخ الازدياد)....... وأن الزوجة (حامل أو غير حامل ) ، ويسكنان معا ببيت الزوجية الكائن ب.................................
ونظرا .......................
فإنهما يرغبان في إنهاء العلاقة الزوجية بينهما بالطلاق الخلعي ويلتمسان الإذن لهما بذلك.
وبعد إجراء محاولة الصلح بين الزوجين بواسطة ............ والتي انتهت بالفشل .(48/27)
وبناء على اتفاق الزوجين على أن تختلع الزوجة من زوجها مقابل طلاقها منه ب......
وتبعا لحضورهما بجلسة .....................
وبعد الاطلاع على ملتمس النيابة العامة ........
لأجله
نأذن للسيد ............بطلاق زوجته السيدة................. على يد عدلين طلاقا خلعيا .
بهذا صدر الإذن في اليوم والشهر والسنة أعلاه
وكانت الهيئة تتركب من السادة :
السيد:............................................ رئيسا
السيد : .......................................... عضوا
السيد: ...........................................عضوا
بمساعدة : ...................................... كاتب الضبط
الرئيس كاتب الضبط
المملكة المغربية إذن بإيداع
وزارة العدل باسم جلالة الملك
محكمة الاستئناف بتاريخ.......أذنت غرفة المشورة بالمحكمة الابتدائية بما يلي:
ب........ بناء على الطلب المقدم من طرف السيد .........................
المحكمة الابتدائية الساكن ........................................................
ب........ الذي يعرض فيه بأنه تزوج بالسيدة ............................
قسم قضاء الأسرة الساكنة ........................................................
ــــــ حسب عقد الزواج المضمن بعدد.....صحيفة ......وله معها أولاد
ملف رقم : وهم ..........................................................
ويسكن معها ببيت الزوجية الكائن ب.........................
ونظرا.......................................................
فانه يطلب الإذن له بطلاقها .
وبعد فشل محاولة الصلح بين الزوجين .
وبناءا على مقتضيات الفصل 83 من مدونة الأسرة
أذنت الغرفة للسيد......... بإيداع مبلغ ...........................
بصندوق المحكمة ضمانا لتنفيذ الالتزامات التي تترتب على الطلاق .
وكانت الهيئة تتركب من السادة .
السيد:.................................. رئيسا(48/28)
السيد:..................................عضوا
السيد:................................عضوا
بمساعدة:..........................كاتب الضبط
الرئيس الكاتب
لائحة المصادر و المراجع :
1 - القضاء المغربي بين الأمس واليوم تأليف حماد العراقي نشر وتوزيع مكتبة الرشاد الدار البيضاء الطبعة الأولى 1395هـ ، 1975م
2 - القانون القضائي الخاص تأليف الدكتور إدريس العلوي العبدلاوي ، مطبعة النجاح الدار البيضاء الطبعة الأولى 1406هـ 1985م
3 - التنظيم القضائي المغربي الجديد للدكتور إدريس العلوي العبدلاوي مطبعة فضالة المغرب الطبعة الأولى 1395هـ ، 1975م
4 - قانون المسطرة المدنية مع آخر التعديلات ، تقديم وتهيئ عبد العزيز توفيق طبعة 1409هـ 1988م ، دار الثقافة الدار البيضاء
5 - التنظيم القضائي في المغرب ، الدكتور الطيب الفصايلي ، مطبعة النجاح الدار البيضاء الطبعة الثالثة ، 1423 هـ -2002م
6 - مجلة القضاء و القانون تصدرها وزارة العدل بالمغرب ، مطبعة الأمنية ، الرباط ، العدد 149 والعدد 150
7 - مجلة محكمة ، تصدرها المحكمة الابتدائية بالرماني ، مطبعة دار السلام ، الرباط ، العدد الخامس ، ماي 2005م
8 - مدونة الأسرة ، وزارة العدل المغربية ، مطبعة فضالة ،الطبعة الخامسة 1426هـ 2005م
9 - التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ، تأليف الدكتور محمد مصطفى الزحيلي ، مطبعة دار الفكر
10 - المختصر في التنظيم القضائي المغربي ، حسن الرميلي ، الطبعة الأولى 1999م
11 - الملك المصلح سيدي محمد بن عبد الله العلوي ، الدكتور الحسن العبادي ، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء
12 - روضة الأفنان في وفيات الأعيان ، محمد بن أحمد الإكراري ، تحقيق أحمد أُنوش، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، الطبعة الأولى ، 1998م ، مطبعة النجاح الدار البيضاء.(48/29)
13 - المجموعة الفقهية في الفتاوى السوسية ، جمع وترتيب محمد المختار السوسي ، منشورات كلية الشريعة بأكادير، الطبعة الأولى ، 1416 هـ ، 1995م ، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء.
14 - مدونة الأسرة ، نشر عبد السلام بهوش وعبد المجيد الشفيق ، الطبعة الأولى 1424هـ 2003م، مطبعة الكرامة ، الرباط
15 - القانون العقاري ، تقديم وتهيئ عبد العزيز توفيق ططبعة 1990 م ، دارالثقافة ، الدار البيضاء
16 - العرف والعمل في المذهب المالكي ، عمر الجيدي ، مطبوعات وزالرة الأوقاف المغربية ، 1404 هـ 1984م
17 - تطور النظام القضائي بأيت باعمران ، المختار لبيب ، رسالة ليل دبلوم الدراسات العليا في الشريعة ، مرقونة بخزانة كلية الشريعة - أكادير
18 - ألواح جزولة والتشريع الإسلامي ، محمد العثماني ، منشورات وزارة الأوقاف المغربية 1425هـ ، 2004م(48/30)
أثر التقنيات الحديثة في الأقضية الشرعية
الطلاق الالكتروني أنموذجا -
بحث مقدم لندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر المنعقدة في رحاب كلية الشريعة والدراسات الاسلامية بجامعة الشارقة
للفترة 4 – 6 ابريل 2006 م
إعداد
الدكتور عبدالعزيز شاكر حمدان الكبيسي
الاستاذ المشارك بكلية الشريعة والقانون
جامعة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى اله صحبه أجمعين
أما بعد :
فان العالم اليوم يشهد تغيرات سريعة وتطورات ضخمة في عالم الاتصالات ودنيا التقنيات ، ويعيش انفجارا معرفيا هائلا ، وثورة نوعية كبرى في مجال المعلومات .
وقد استطاعت التقنية الحديثة من فرض حضورها المادي والمعنوي بقوة في الحياة المعاصرة وعلى كافة الأصعدة السياسية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية ، وذلك للتطور الهائل الذي وصل إليه الإبداع التقني في هذه المرحلة .
ودخلت هذه التقنيات ووسائل الاتصالات الحديثة مفردات الحياة اليومية ، وتعاملات الأفراد فيما بينهم ، سواء أكان ذلك في البيت او الشارع او السوق او مكان العمل .
لقد أسهمت تلك الوسائل في تقريب البعيد، واختصار المسافات ، وساعدت في تطوير عمليات إجراء العقود التي كانت تعقد في مجلس واحد عن طريق التلاقي والاجتماع بين المتعاقدين ، فتغيرت إلى عقود تجري عبر المراسلة الخطية التي ينقلها البريد العادي ، والفاكس ، والتلكس ، والتلغراف ،والانترنت ، أو المراسلة الكلامية التي ينقلها الهاتف الأرضي او الهاتف النقال ، أو الإنترنت في غرف دردشته المعروفة بـ " الشات " او عبر ما يعرف بالمسنجر ، فأدى ذلك الى شيوع ما يعرف بـ "العقود التجارية الالكترونية" و " الزواج الالكتروني"، وغيرها.(49/1)
ولم يتوقف الأمر عند هذا الأمر فقط بل تعداه إلى إجراء فسخ العقود عبر الوسائل نفسها، فأضحت العقود تفسخ عبر مكالمة هاتفية او رسالة الكترونية ترسل عبر شبكة المعلومات الدولية " الانترنت " .
وهكذا نجد ان هذه الوسائل الحديثة قد ألقت بظلالها على تعاملات الناس المختلفة من إجراء العقود وفسخها ، وغير ذلك .
ومن هنا فقد أحببت ان يكون موضوع بحثي لندوة " القضاء الشرعي في العصر الحاضر الواقع والآمال " التي تعقد في رحاب كليتكم الموقرة بعنوان :
" أثر التقنيات الحديثة في الأقضية الشرعية – الطلاق الالكتروني أنموذجا – "
وقد اشتمل هذا البحث على فصلين :
الفصل الأول : تعريف الطلاق والوسائل التي تقوم مقام التلفظ به .
وقد قسمته الى مبحثين :
المبحث الأول : تعريف الطلاق في اللغة والاصطلاح .
المبحث الثاني : الوسائل التي تقوم مقام اللفظ في الطلاق .
وأما الفصل الثاني فقد تحدثت فيه عن : صور الطلاق الالكترونية وموقف القضاء منها ، وقد اشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : الطلاق بواسطة الرسائل النصية عبر الهاتف المحمول ، وموقف المحاكم الشرعية منه .
المبحث الثاني : موقف القضاء الشرعي من الطلاق عن طريق المحادثة عبر الهاتف
المبحث الثالث : الطلاق بواسطة رسائل البريد الالكتروني، وموقف المحاكم الشرعية منه .
المبحث الرابع : الطلاق عن طريق المحادثة الكتابية عبر الانترنت " الشات أو الدردشة " ، والمحادثة الشفهية المباشرة من خلال شبكة الانترنت .
داعيا المولى عز وجل ان يوفقنا جميعا لما فيه خدمة شريعته الغراء
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
الباحث
الدكتور عبدالعزيز شاكر حمدان الكبيسي
كلية الشريعة والقانون
جامعة الإمارات العربية المتحدة – العين
28 محرم 1427هـ
28فبراير 2006 م
الفصل الأول
تعريف الطلاق والوسائل التي تقوم مقام اللفظ في التطليق
ويتضمن مبحثين :
المبحث الأول : تعريف الطلاق(49/2)
الطلاق لغة مأخوذ من الإطلاق، وهو الإرسال والترك تقول: أطلقت السير إذا حللت قيده وأرسلته يقال:
طلقت المرأة - بفتح اللام - وطَلُقتَ – بضمها - ، والفتح أفصح قال الأخفش: لا يقال طلُقت بالضم، ويقال في وجع الأولاد، طلُقت طلقاً فهي طالق بغيرها، أي ذات طلق، كما يقال: حائض، أي ذات حيض ( (1) )
وفي الاصطلاح: هو حل قيد النكاح بلفظ الطلاق ( (2) )
أو بتعبير آخر: حل رابطة الزواج، وإنهاء العلاقة الزوجية ( (3) )
المبحث الثاني : ما يقوم مقام اللفظ في الطلاق
ذكر الفقهاء في كتبهم عددا من الوسائل التي يعبر بها عن الطلاق بدلا من التلفظ به ، وبينوا مدى إمكانية قيام تلك الوسائل مقام اللفظ في الطلاق ، وحكم وقوعه بواسطتها وهذه الوسائل هي :
اولا : الطلاق بالإشارة:
وقد ذهب جمهور الفقهاء الى عدم صحّة الطّلاق بالإشارة من القادر على الكلام ، وخالف المالكيّة ، فقالوا : يقع الطّلاق بإشارة القادر على الكلام ، كالأخرس إن كانت إشارته مفهمةً، وإن لم تكن مفهمةً لم يقع بها الطّلاق عند الأكثر ، وفي قول لبعض المالكيّة يقع بها الطّلاق بالنّيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ إشارة النّاطق بالطّلاق كناية لحصول الإفهام بها في الجملة .
واما الاخرس فالجمهور على وقوع الطلاق بإشارته ، وخص الحنفية ذلك بعجزه عن الكتابة في ظاهر الرواية ، فان قدر على الكتابة لم يصح طلاقه بالاشارة ، وهو قول لدى الشافعية ايضا ، الا انه مرجوح عندهم .
ثمّ إن كانت إشارته مفهومةً لدى كلّ النّاس ، وقع بها الطّلاق بغير نيّة كالصّريح ، وإن كانت مفهومةً لدى بعضهم فقط ، وقع الطّلاق بها مع النّيّة فقط كما في الكتابة ، صرّح بذلك الشّافعيّة .
__________
(1) 1- لسان العرب : مادة طلق 10/ 227 ، المصباح المنير : 2/ 376 . .
(2) - مغني المحتاج 3: 279، وأنظر: طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية: 111، أنيس الفقهاء : 155 .
(3) 3 - فقه السنة: 2/ 206.(49/3)
كما اشترط الحنفيّة لوقوع الطّلاق بالإشارة من الأخرس أن يكون خرسه منذ الولادة أو طرأ عليه واستمرّ إلى الموت في القول المفتى به ، ولذا كان طلاقه موقوفاً على موته ، وفي قول اخر : اذا دام سنة كان كمن ولد أخرس .( (1) )
ثانيا : الطلاق بالفعل:
الأصل أن الفعل لا يقع به طلاق، فمن يغضب من زوجته ويأخذها إلى بيت أهلها، ويبعث لها مؤخر صداقها مثلا دون أن يتلفظ بالطلاق، لا يعدّ مطلقا .( (2)
ويرى المالكية ان الطلاق لا يقع بالفعل المجرد ، ولكن اذا جرى عرف ، او كان عادة قوم ان من فعل منهم فعلا معينا فهو طلاق ، كان طلاقا ، كما اذا تعارفوا انه اذا رمى لها متاعها خارج البيت انه طلاقها ، فيلزمه ما تعارفوا عليه . ( (3) )
ثالثا : الطلاق بالكتابة :
اشترط الفقهاء لوقوع الطّلاق بالكتابة شرطين :
الشّرط الأوّل : أن تكون مستبينةً :
والمقصود أن تكون مكتوبةً بشكل ظاهر يبقى له أثر يثبت به ، كالكتابة على الورق ، أو الأرض ، بخلاف الكتابة في الهواء أو الماء ، فإنّها غير مستبينة ولا يقع بها الطّلاق ، وهذا لدى الجمهور ، وفي رواية لأحمد يقع بها الطّلاق ولو لم تكن متبيّنةً .
الشّرط الثّاني : أن تكون مرسومةً :
قال الحنفيّة : الكتابة إذا كانت مستبينةً ومرسومةً يقع الطّلاق بها ، نوى أو لم ينو ، وإذا كانت غير مستبينة لا يقع مطلقاً وإن نوى .
أمّا إذا كانت مستبينةً غير مرسومة ، فإن نوى يقع ، وإلاّ لا يقع .
وقيل : يقع مطلقاً .
__________
(1) 4 - انظر الدر المختار ورد المحتار : 2/ 589 ، القوانين الفقهية : 230 ، الشرح الصغير : 2/ 568 ، المهذب : 2/ 83 ، منهاج الطالبين : 2/528 – 529 ، مغني المحتاج : 3/ 284 وما بعدها .
(2) 1- انظر الفقه المقارن للأحوال الشخصية : 323 ،
(3) 2 – انظر الشرح الصغير 2/ 567 وما بعدها ، العدوي على الخرشي : 4 / 24 ، الفقه المالكي في ثوبه الجديد : 4 / 240 .(49/4)
والكتابة المرسومة عندهم هي : ما كان معتاداً ويكون مصدراً ومعنوناً ، مثل ما يكتب إلى الغائب .
والكتابة المستبينة هي : ما يكتب على الصّحيفة والحائط والأرض ، على وجه يمكن فهمه وقراءته .
وقال المالكيّة : إن كتب الطّلاق مجمعاً عليه ، - ناويًا له - ، أو كتبه ولم يكن له نيّة وقع ، وإن كتبه ليستخير فيه ، كان الأمر بيده ، إلاّ أن يخرج الكتاب من يده . وقال الشّافعيّة : لو كتب ناطق طلاقاً ولم ينوه فلغو ، وإن نواه فالأظهر وقوعه .
وقال الحنابلة : إن كتب صريح طلاق امرأته بما يتبيّن وقع وإن لم ينوه ، وإن نوى تجويد خطّه أو غمّ أهله أو تجربة قلمه لم يقع ، ويقبل منه ذلك حكماً . وإن كتب صريح طلاق امرأته بشيء لا يتبيّن لم يقع .
والخلاصة : لن الجمهور يقولون بوقوع الطلاق كتابة مع النية ، ويقع عند الحنفية في الكتابة المرسومة الصريحة ، وفي غير المرسومة كالكناية تحتاج الى نية ، ولا يقع الطلاق بالكتابة على الماء او الهواء ونحوه بالاتفاق (1) )
رابعا : الطلاق بإرسال رسول : وذلك بأن يبعث الزوج طلاق زوجته الغائبة على يد انسان ، فيذهب الرسول اليها ، ويبلغها الرسالة على النحو المكلف به .
وحكم الطلاق في هذه الحالة حكم الطلاق الصريح باللفظ ، لان الرسول ينقل كلام المرسل فكان كلامه ككلام المرسل كما قال الحنفية . (2) )
وقال المالكية : يقع الطلاق بمجرد قوله للرسول بلغ زوجتي اني طلقتها ، أو اخبرها بطلاقها ، ولو لم يصل إليها ، ولم يبلغها . ( (3) )
__________
(1) 3- الفقه الإسلامي وأدلته : 7 / 385 .
(2) 1- الدر المختار ورد المحتار : 2 / 589 .
(3) 2– انظر الدسوقي مع الشرح الكبير : 2 / 384 ، الشرح الصغير : 2 / 568 .(49/5)
وقال الشافعية : إن كتب شخص في كتاب طلاق زوجته صريحا او كناية ، ونوى الطلاق ، لكنه علق الطلاق ببلوغ الكتاب ، كقوله : إذا بلغك كتابي فأنت طالق ، فإنما تطلق ببلوغه لها ، مكتوبا كله ، رعاية للشرط ، فإن انمحى كله قبل وصوله ، لم تطلق ، كما لو ضاع ، وبذلك قال الحنابلة أيضا ( (1) )
خامسا : الإقرار بالطلاق: وهو واقع، فإذا قال الزوج لشخص اكتب طلاق امرأتي وابعث به إليها. فإن ذلك يكون إقرارا بالطلاق فسواء كتب أو لم يكتب يقع
الطلاق ).(2) (
الفصل الثاني
صور الطلاق الالكترونية وموقف القضاء الشرعي منها
ان من اهم افرازات التطور التقني الحديث في مجال الحوسبة والاتصالات دخول الاجهزة الالكترونية في كل مجال من مجالات الحياة اليومية للافراد والشركات والمؤسسات على حد سواء
وما شهدته السنوات القليلة لماضية من تطور سريع للتقنيات كان له تاثير على الطريقة التي تتم بها معاملات الناس وعقودهم ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الأمر فقط بل تعداه إلى إجراء فسخ العقود عبر الوسائل نفسها، فأضحت العقود تفسخ عبر مكالمة هاتفية أو رسالة نصية او الكترونية أو رسالة بريدية يحملها ساعي البريد وكان مما ظهر في السنوات الأخيرة ما يعرف بالطلاق الالكتروني ، وهي مسألة جديدة تواجه القضاء الشرعي ومحاكمه ، وتستدعي النظر في بيان احكامه ، ولذلك سأحاول في هذا البحث المتواضع تناول هذا النوع من الطلاق من خلال وسائله المتنوعة في عالم اليوم ، وبيان بعض الصور والقضايا المرفوعة الى المحاكم الشرعية في بقاع مختلفة من عالمنا الإسلامي ، وذلك في المباحث الآتية :
المبحث الأول
الطلاق بواسطة الرسائل النصية عبر الهاتف المحمول
وموقف المحاكم الشرعية منه .
__________
(1) 3 – انظر منهاج الطالبين : 2 / 529 ، الفقه الإسلامي وأدلته : 7 / 383- 385.
(2) 4- انظر الفقه المقارن للأحوال الشخصية : 324 .(49/6)
من التقنيات المعاصرة اليوم انه يمكن من خلال الهاتف النقال Celluar استقبال او إرسال البيانات على شكل رسالة قصيرة message ، كما يمكن إرسال بيانات أو رسائل منه إلى أي بريد الكتروني .
ولم يعد الهاتف المحمول مجرد وسيلة اتصال حديثة يصعب الاستغناء عنها،
بل صار جزءا من أسلوب الحياة ونمطها ، حيث استطاع في سنوات قليلة جدا أن يفرض ثقافته على مجتمعاتنا؛ وذلك بالغزو الجديد الذي تحمله لنا شاشته الصغيرة المضيئة عبر الكلمات والرموز والأرقام؛ والذي فرض على المجتمعات ثقافة الرسائل النصية SMS، وهي الثقافة التي أصبحت أمرا واقعيًّا يسيطر على عقول الكثيرين وقلوبهم ، وبخاصة الشباب بمستوياته المختلفة؛ حتى وصل إلى أن يطلق عليها البعض "الإدمان الجديد".
وفي عالم اليوم يتم إرسال مليارَي رسالة نصية يوميا عبر أجهزة المحمول عالميًّا، وتشير الإحصائيات أنها ستتضاعف خلال شهور قليلة وبخاصة إذا علمنا أنها وصلت قبل عام واحد إلى مليار رسالة يوميا على مستوى العالم .(1) )
وغزو الرسائل النصية لحياتنا ومجتمعاتنا تؤكده الكثير من الإحصائيات والأرقام.. تشير البيانات الصادرة من جمعية معلومات الهاتف المحمول البريطانية إلى أنه في مارس 2004 وصلت الرسائل المتبادلة على مستوى العالم إلى 21 مليار رسالة بزيادة 25% عن مارس 2003، وأنه في بريطانيا وحدها يتم إرسال 69 مليون رسالة خلال اليوم بمعدل 2,3 مليون رسالة كل ساعة!!
وأما الأرقام في عالمنا العربي فلا تختلف كثيرا عما ذكرنا في الغرب، وإن كانت هناك ندرة في الإحصاءات والبيانات التي تتحدث عن رسائل المحمول النصية..
__________
(1) - انظر رسائل المحمول.. اتصال وبيزنس وبينهما ثقافة لفاروق محمد عجم ، موقع اسلام
أون لاين(49/7)
فقد حطمت ليلة عيد الفطر المبارك الماضي في المملكة العربية السعودية كل التوقعات في حجم الرسائل النصية؛ حيث أشارت تقارير شركة الاتصالات السعودية أنه تم إرسال أكثر من 100 مليون رسالة في هذه الليلة.
وكذلك شهدت دولة الإمارات العربية ملايين الرسائل النصية في الأسبوع الأخير من عام 2003، وتكرر الشيء نفسه مع حلول شهر رمضان وعيدي الفطر المبارك والأضحى، ويقدر عدد الرسائل النصية القصيرة التي يتم تبادلها في دولة الإمارات وحدها بنحو مليوني رسالة يوميا يرسلها ثلاثة ملايين مستخدم.
كما ذكرت الشركة العمانية للاتصالات أن عدد الرسائل التي تم تبادلها خلال أيام عيد الأضحى الماضي داخل السلطنة وصل إلى 800 ألف رسالة في اليوم، وهي نسبة فوق المعدل المعتاد.
أما في مصر فالأمر لا يختلف عن مثيله في الدول العربية الأخرى، وبخاصة إذا علمنا أنه يوجد في مصر أكثر من 4 ملايين مشترك في خدمة التليفون المحمول.
وطبقا لدراسة حديثة أجرتها شركة "أنفوتوسيل دوت كوم" العاملة في مجال توفير خدمات التطبيقات اللاسلكية في منطقة الشرق الأوسط؛ فإن عدد المشتركين في خدمات الهاتف المحمول في العالم العربي وصل إلى أكثر من 24 مليون مشترك في نهاية العام الماضي بمعدل زيادة سنوي يقدر بنحو 69%؛ مما يؤكد أن هذه الرسائل النصية آخذة في الانتشار السريع يوما بعد وبخاصة بعد أن أتيح الآن استخدامها في أغلب الدول بعد أن كانت ممنوعة في بعضها؛ لذا فإن المتوقع أن تصل هذه الأرقام إلى أضعاف ذلك، وبخاصة مع سعي شركات الاتصال العالمية الى إحداث المزيد من التقنيات والتطبيقات لخدمة الرسائل النصية.
وقد توغلت الرسائل النصية في جميع ميادين الحياة ؛ وهو ما جعلها شكلا مختلفا من أشكال الاتصال..(49/8)
وأول أشكال الاتصال وأهمها الترفيه أو النكتة، وهي إحدى العلامات المميزة لكافة الهواتف المحمولة في العالم، والهدف منها بالطبع واضح، وهو إضفاء روح الفكاهة والترفيه بين الناس، كما أصبحت الرسائل أداة تنبيه تذكر بالمواعيد والمناسبات التي يغفل عنها الناس بسبب مشاغل الحياة المختلفة، مثل الاجتماعات، والمناسبات الاجتماعية المتعددة.
واستغلت شركات الإعلان الرسائل كوسيلة محببة لدى الشباب والمراهقين لتقدم من خلالها إعلانات عن منتجات أو سلع أو خدمات أخرى كالدعاية للحفلات او المهرجانات، ولا يمكن أن نغفل عن الرسائل التي تتحدث عن أحوال الطقس، وآخر نتائج المباريات الرياضية والتعاملات البنكية ، وغير ذلك .
كما تم تطويع هذه الرسائل أيضا كجزء من عملية المشاركة والتأثير في الأمور السياسية، وكانت في أقوى صورها حين تم التصويت إلكترونيا "E-voting" على الانتخابات المحلية في بريطانيا عن طريق رسائل SMS لأول مرة في 23 مايو 2002؛ حيث تم استخدام الرسائل الجوالة لتسجيل الأصوات الانتخابية بدلا من البطاقات الورقية والصناديق الانتخابية؛ وهو ما جعلها تلعب دورا مهما في دعم العملية الانتخابية ومساندتها من خلال ما وفرته من الحث على المشاركة لكافة الفئات الانتخابية، وبخاصة كبار السن والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة.
وتطور الأمر إلى العلاقات الزوجية ، وخلافات الأزواج ، وهكذا . ( (1) )
لقد فرضت الرسائل النصية نفسها على المجتمعات كافة ، وصار الحديث عن تجاوزها مستبعدا
والسؤال الذي يواجه المحاكم الشرعية في عالم اليوم هو :
هل الطلاق بواسطة الرسالة النصية عبر الهاتف المحمول يكون طلاقا واقعا ونافذا ؟ أو يعد طلاقا لاغيا لا يعتد به ولا يلتفت إليه ؟
وللإجابة على هذا التساؤل أقول :
__________
(1) - انظر المرجع السابق .(49/9)
إن إرسال الطلاق عبر رسالة نصية بواسطة الهاتف المحمول هو نوع من أنواع الطلاق عن طريق الكتابة ، وتجري عليه احكام كتابة الطلاق صريحا او كناية .
وقد بينت في المبحث الثاني من الفصل الأول مذاهب الفقهاء في حكم الطلاق بالكتابة الى الغائب .
اذ ان عملية الطلاق عن طريق ارسال رسالة عبر الهاتف النقال لا تتم بتلفظ الزوج بالطلاق ، وإنما يكتبه ، ثم يقوم بارساله إلى زوجته ، وهذه العملية لا يمكن أن تتم والزوج غير قاصد أو غافل عما يفعل؛ إذن الطلاق صر يح مقصود والباعث فيه واضح.
وقد استعمل فيه وسيلتين من وسائل إيقاع الطلاق وهما: وسيلة الكتابة، ووسيلة الإرسال.
ولإثبات الطلاق وإيقاعه لا بد من الرجوع إلى البيانات الخاصة بمنشئ الرسالة من خلال رقم الهاتف .
ومن وقائع الطلاق التي حدثت عن طريق إرسال رسالة نصية بواسطة الهاتف المحمول ما عرض على محكمة قومباك بولاية سلانجور في ماليزيا :
اذ قضت قضت محكمة الشريعة الابتدائية في شرق جومباك بمدينة (سلانجور)، بماليزيا في يوم الخميس الموافق 31-7-2003 بأن "الطلاق عبر رسائل المحمول يعتبر نافذا بشرط تحقق المحكمة من حدوثه".
وحكم القاضي بالمحكمة ذاتها "محمد فاؤزي إسماعيل" بأن زواج السيدة "أزيدة فاظلينا عبد اللطيف" من السيد "شمس لطيف" قد بطل عندما أرسل هذا الأخير إليها رسالة عبر الهاتف النقال يقول فيها: "إذا لم تغادري منزل والديك فأنت طالق".
وهنا نتساءل :
ما الداعي أصالة لهذه الوسيلة إذا ما اقتضى الأمر استدعاء الزوج لدى القاضي وتأكيد هذه الواقعة- كما هو الحال في الواقعة السابقة ؟
وكما يقرر ذلك ايضا الدكتور محمد عقلة اذ يقول:(49/10)
" إيقاع الطلاق من خلال الوسائل الحديثة كالهاتف والبرقية والتلكس والكاسيت يعتمد على اللفظ أو الكتابة، وما يقع بها الطلاق إذا سمعت المرأة صوت زوجها، وتيقنت من أنه هو المتحدث، أو قرأت برقيته وتأكدت أنه هو المرسل. ولكن في مثل هذه الحالات على الرجل أن يشهد على طلاقه، ويسجله في المحكمة، ويبلغه رسميا للمطلقة بالبريد المسجل، أو عن طريق السفارة ليتخذ صفة القطع وعدم تطرق الاحتمال إليه" . ( (1) )
فهل المثول بين يدي القاضي واعتراف الزوج بأنه أرسل الرسالة يعتبر هو الطلاق الصحيح ، وليس الأول الذي أرسل عبر رسالة نصية بواسطة الهاتف المحمول ؟
وقد كانت محكمة الشريعة لمنطقة قومباك الماليزية قد أكدت مؤخرا على صحة الطلاق عن طريق رسائل النقال؛ ففي يوم الخميس 31-7-2003 قضت محكمة الشريعة الابتدائية في شرق جومباك بماليزيا بأن "الطلاق عبر رسائل المحمول يعتبر نافذا بشرط تحقق المحكمة من حدوثه".
وحكم القاضي بالمحكمة ذاتها "محمد فاؤزي إسماعيل" بمقتضى ذلك كما سبق.
غير أن القاضي داتو زهدي طه- رئيس محكمة الشريعة الإقليمية - دعا القضاة الشرعيين إلى عدم قبول أي دعوى بهذا الشأن، فقد ذكر أنه من عام 1999م ظهرت عشرون حالة ، وقال إنه لابد من الاستماع إلى طرفي النزاع - الزوج والزوجة -قبل إعطاء أي قرار نهائي .
وفي فتوى مفتي العاصمة الفيدرالية كوالالمبور الشيخ هاشم يحيى قال فيها: إن خدمات الرسائل القصيرة عبر الهاتف وسيلة شرعية لإعلام الطرف الآخر بالطلاق، ويجب أن تقبل من قبل المحاكم الشرعية الماليزية، لكنه اشترط حضور الزوجين إلى المحكمة الشرعية لتأكيد حدوث الطلاق ( (2)
__________
(1) 1 - نظام الأسرة في الإسلام للدكتور محمد عقلة : 3/117 .
(2) 2- انظر اثر التكنولوجيا الحديثة في النظر الفقهي للدكتورة فريدة صادق زوزو ص 4 وما
بعدها .(49/11)
وكان موقف القانونيين في ماليزيا عدم تشجيعهم لهذا الاسلوب في تطليق الزوجات على الرغم من شرعيته في نظرهم .
وقد لاقى الحكم الصادر عن تلك المحكمة الماليزية بقبول طلاق الهاتف النقال انتقادات من الأوساط الرسمية والنسائية في ماليزيا إذ رأوا أنها إهانة للمرأة ؛ فقد قالت أزلينة باروني رئيسة جمعية عزام النسائية: "عندما أراد الرجل الزواج من تلك الفتاة جرى وراءها وخطبها ودعا كل الأهل والأقارب لحفل الزواج.. ولكن عندما يكرهها يرسل رسالة قصيرة عبر الهاتف.. ولا يريد حتى لقاءها وحدها دون الآخرين".
وطالبت أزلينا عثمان رئيسة جناح الفتيات في حزب أمنو الماليزي الحاكم الحكومة الماليزية بعدم إقرار الطلاق المعلن عبر رسائل قصيرة بالهاتف النقال، مشددة على أهمية اتباع الأسلوب المعروف في الطلاق بوجود شهود، وتأكيد ذلك في المحكمة.
أما البروفيسور حمدان عدنان رئيس اتحاد جمعيات المستهلكين الماليزيين فقال: "إن السماح بقبول الطلاق عبر الهاتف النقال قد يفتح المجال أمام أطراف أخرى تتدخل وترسل رسائل الطلاق للزوجة.. يجب علينا أن لا نستخدم التقنية لتكون عاملا مسهلا ومشجعا على الطلاق".
وأيدت الأوساط الشعبية في رأيها وزيرة تنمية الأسرة والمرأة شهريزات عبد الجليل التي طالبت بدراسة الظاهرة بجدية قائلة:"إن الزواج مؤسسة مقدسة يجب تكريمها واحترامها، وعندما يفشل الزواج فإننا يجب أن لا نسمح للزوج بأخذ الأمر بهذه البساطة، وإرسال رسالة قصيرة عن بعد ليطلق زوجته"، بل إنها طالبت بمراجعة قبول شرعية الطلاق المفاجئ حتى عبر الهاتف.
وقالت الدكتورة شريفة لؤلؤة غزالي عضوة اللجنة التنفيذية للحزب الإسلامي الماليزي بأن قبول الطلاق عبر الرسائل القصيرة من خلال المحمول سيكون سببا في فقدان المرأة لكرامتها، وتابعت قائلة :(49/12)
"إن الزواج جمع مكرم بين اثنين قائم على نظام دقيق، ويجب أن لا ننسى المسؤولية التي يتحملها الزوج أو الزوجة أمام الله تعالى.. وإذا أخذت زوجتك من أهلها في زفة تضرب لك الدفوف فيها، فعليك أن تردها مكرمة كما أخذتها.. يجب أن يكون التسريح بإحسان "،
وقد قرر البرلمان الماليزي يوم 30 يونيو من عام 2003 أنه ليس من حق الماليزين المسلمين أن يطلقوا زوجاتهم بهذه الطريقة المخالفة لعاداتهم ولروح الشريعة الإسلامية، وشدد على ضرورة سن قوانين تمنع أو تحد من إطلاق لفظ الطلاق بوسيلة الهاتف النقال أو أي وسيلة اتصال أخرى مثل الفاكس والبريد الإلكتروني.
كما قال الوزير برئاسة الوزراء الماليزية "سري عبد الحميد زين العابدين:
"إن القوانين التي تحكم مسألة الطلاق في قانون الأسرة المسلمة ينبغي أن يتم تعديلها بحيث تمنع الرجال من استخدام رسائل المحمول في إيقاع الطلاق".
وشدد الوزير على "عدم صحة" الطلاق بهذه الوسيلة في "قانون الأسرة المسلمة" الذي وضع في عام 1984 إلا إذا تم التصديق عليه –الطلاق- من قبل محكمة الشريعة، وهي المحكمة التي أصدرت الحكم السابق في قضية أزيدة وشمس الدين.
وأكد الوزير على أن الطلاق عبر رسائل المحمول "مخالف لقانون البلاد"، مثل جميع أنواع الطلاق الأخرى التي تتم خارج المحكمة.
وأعلن الدكتور عبد الحميد عثمان المستشار الشرعي لرئيس الوزراء الماليزي بأن إرسال إعلان الطلاق باستخدام الهاتف المحمول عبر "خدمة الرسائل القصيرة" المعروفة باسمها المختصر ( SMS) غير مقبول في ماليزيا على الرغم من إمكانية قبوله شرعا.(49/13)
ووصف الدكتور عبد الحميد سلوك الشخص المطلق لزوجته عبر رسالة قصيرة يبعثها عبر الهاتف المحمول بأنه "عمل غير مسؤول وخطير، ويجب ألا نتساهل معه". ودعا الزوجات اللاتي يتلقين رسالة طلاق عبر رسائل الهاتف القصيرة أن يرفعن بذلك تقريرا إلى السلطات الدينية للتحقق من هذه الحالات والوقوف عن قرب على هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة.
وقال المستشار الماليزي: "لدينا قوانين كافية لكبح سلوكيات الطلاق المتعجل من قبل الأزواج المسلمين الذين يريدون التخلي عن زوجاتهم بدون مبررات كافية، متوعدا المطلقين عبر الهاتف النقال بملاحقة السلطات لهم".(1)
وفي سنغافورة أكدت المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين هناك قبولها للطلاق عبر رسائل الهاتف النقال أيضا، وذلك على لسان تصريح مسؤول مسجل المحاكم فيها سيف الدين ثروان، لكنه كرر هو الآخر مطالبته الزوجين بالحضور للمحكمة وتأكيد ذلك .
ويقول عبد السلام درويش المختص في القضايا الأسرية في محاكم دبي بأن قبول الطلاق عبر الرسائل القصيرة مرهون بأربعة شروط وهي:
1-أن يكون الزوج هو المرسل.
2- وأن يكون لديه العزم والرغبة على تطليق زوجته.
3- وأن لا تعني صياغة الرسالة أكثر من معنى غير الطلاق.
4- وأن تستقبلها الزوجة .
أما مسعود صبري المحرر بقسم الفتوى بإسلام أون لاين فيقول: إن الأوفق شرعًا أن تمنع هذه الوسيلة، وإن كان الشرع يأمر برفع الضرر، فإن الوسيلة التي قد تؤدي إليه تمنع، كما أن في استخدام هذه الوسيلة إضعافاً لعلاقة الزواج والطلاق، وهو ما يتعارض مع حكمة الشرع من هذه العلاقات، من كونها ميثاقًا غليظًا.
__________
(1) ا – موقع إسلام أون لاين بتاريخ : 12 / 7 / 2001 ، 3 / 8 / 2003 .(49/14)
ويتابع مسعود صبري: للحاكم المسلم أو الجهات المختصة أن تصدر قرارًا بمنع هذه الوسيلة، فتكون ملزمة للجميع، صونًا للبيوت والأسر، وحفاظًا على الحياة الاجتماعية، فلا يأمن أن يقوم إنسان بكتابة طلاق لامرأة غير زوجته، والشرع ينفي كل ما فيه الغش والضرر.( (1) )
المبحث الثاني
الطلاق عن طريق المحادثة عبر الهاتف
يعد الهاتف من أكثر وسائل الاتصال الفوري فاعلية وانتشارا ، ويتميز بسرعة الاتصال وسهولة الاستخدام ، ويكون التخاطب عن طريقه فوريا ومباشرا .
ولمعرفة الحكم الشرعي في مثل هذا النوع من الطلاق اقول :
لقد ورد على الموقع الالكتروني لدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي السؤال الآتي :
توجد مشاكل بيني وبين زوجتي منذ أشهر وهي مقيمة في بلدها وأخيراً دار نقاش ساخن جداً بيننا عبر الهاتف وقامت بسبّي وأغلقت الهاتف، فقمت بالاتصال مرة أخرى في نفس الوقت وقامت والدتها بالرد فقلت لها: ابنتك (طالق) فقالت: ماذا تقول؟ فقلت: ابنتك (طالق) مع العلم أن زوجتي حامل في الشهر الثامن وبخصوص نيتي وقتها لا أستطيع تفسيرها بشكل سليم.وجزاكم الله خيراً.
وقد كان جواب قسم الافتاء بالدائرة :
__________
(1) 1 – المصدر السابق .(49/15)
" قولك لأم زوجتك: ابنتك (طالق)، هو طلاق صريح يقع طلقة واحدة، أما تكرار هذا القول ثانيةً، فالظاهر من حالك وسؤالك أنه تأكيد للكلام السابق، فلا يتكرر وقوع الطلاق به ثانية؛ لأن التأكيد في حكم المؤُكَّد، إلا أن تنوي به الإستئناف فيقع ثانية وأنت أعلم بإرادتك في ذلك. وأما كونها حاملاً فإن الحمل لا يمنع وقوع الطلاق، بل إن طلاق الحامل من قسم طلاق السنة؛ لأن المرأة في الحمل لا تزداد ضرراً بتطويل العدة، فعدتها واضحة لها، والرجل لا يقدم على طلاق الحامل إلا وهو يعلم حاله، وهو مستعد لتحمل النتائج، فأمرها في غاية الوضوح. وقد قال النبي # لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في قصة تطليقه امرأته وهي حائض: "ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً" كما في رواية الترمذي رحمه الله تعالى. والله تعالى أعلم " .( (1) )
كما رفع السؤال التالي الى قسم الافتاء باوقاف دبي ايضا ، ونصه :
لقد تشاجرت مع زوجتي، ثم اتصلت تلفونياً ببيت أهلها فرفعت هي السماعة وطلبت مني الطلاق فطلقتها ست طلقات قاصداً بذلك طلاقها بالمرة. ثم رفعت السماعة أمها فطلقتها ست طلقات أخرى متتاليه فهل وقع طلاقي؟.
وكان الجواب :
" نعم لقد وقع الطلاق في المرة الأولى حيث خاطبت زوجتك بالطلاق بعد سؤالها إياه، فطلقتها ستاً تقصد إبانتهابالمرة فإنها تكون قد طلقت بالثلاث، والثلاث الأخرى كنت متعدياً فيها آثماً بها تستغفر الله من ذلك، ومخاطبة أمها بذلك بعده، هو تأكيد وإخبار بما جرى لك مع زوجتك التي بانت منك بالطلاق الأول. والحاصل أن طلاقك واقع ولازم عليك كما أردت وتلفظت فلا تحل لك من بعد حتى تنكح زوجاً غيرك. والله تعالى أعلم " ( (2) ).
المبحث الثالث
الطلاق بواسطة رسائل البريد الالكتروني E –Mail contracts
وموقف المحاكم الشرعية منه
__________
(1) 2 – موقع دائرة الشوؤن الاسلامية بدبي http://www.dicd.ae/vArabic/default.jsp
(2) 3- المصدر السابق .(49/16)
ولمعرفة حكم الطلاق بواسطة البريد الالكتروني لا بد لنا من التعريف به أولا ، وذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
فما هو البريد الالكتروني؟
البريد الالكتروني : هو عبارة عن طريقة لإرسال الرسائل واستقبالها الكترونيا بين الحواسيب باستخدام شبكة الانترنت .
وهو شبيه بالبريد العادي من حيث المبدأ ، إلا انه يختلف عنه في كون الإرسال يتم الكترونيا ، وان الرسالة من خلاله تصل الى المرسل اليه بلمح البصر اذا لم يتم اعتراضها ، وكانت مرسلة الى العنوان الصحيح . ( (1) )
وقد شاع استعمال البريد الالكتروني ، وانتشر استخدامه بصورة كبيرة نتيجة تطور شبكة الانترنت ، وتطور استخداماتها .
ويعد البريد الالكتروني من أكثر استخدامات الشبكة العنكبوتية شيوعا في عالم اليوم .
ومن الوقائع التي شهدتها المحاكم تلك الواقعة التي اقدمت فيها امرأة تعمل مترجمة
في إحدى شركات السياحة على رفع دعوى تطالب بثبوت طلاقها من زوجها
المصرى المقيم بألمانيا بعد أن تزوجها عرفيا بالخارج ، وأقامت معه ثلاثة أشهر ، وبعد عودتهما لمصر أهملها ولم يرد على مراسلاتها ثم بعد عام أرسل لها رسالة قصيرة عبر البريد الإلكتروني يقول لها "أنت حرة وفى حل من الارتباط بى" ..
وقد أكدت السيدة أنها لجأت للحصول على التطليق من المحكمة حفاظاً على سمعتها حتى يعلم الأقارب والزملاء أنها كانت متزوجة.. وقد قدمت السيدة الرسالة المرسلة
من زوجها عبر الإنترنت مسجلا عليها عنوانه الإلكتروني وقدمت عقد زواجها العرفى.
وقد قضت المحكمة بتطليق الزوجة.. وجاء فى حيثيات الحكم أنه طبقاً للقانون الصادر
لسنة 2000 أنه يحق للسيدة المتزوجة عرفيا أن تطلب التطليق من المحكمة إذا تمكنت
من إثبات ذلك عن طريق الشهود ، وعقد الزواج ، والرسالة الإلكترونية .
__________
(1) 1- انظر التوقيع الالكتروني وقانون التجارة الالكترونية لعمر حسن المومني : 31 .(49/17)
وقد أصدر هذا الحكم القاضي محمد حرب رئيس المحكمة بعضوية القاضيين رفعت هيبة وإبراهيم أبو زهرة . ( (1) )
كما عقدت المحكمة الشرعية في دبي جلسة يوم الرابع عشر من مايو من عام 2000
للنظر في طلب تسجيل أول طلاق من نوعه تم عبر الانترنت.
وطلب تسجيل الطلاق هذا تقدم به الزوج بعد ما يقرب من ستة شهور من ارسال
رسالة عبر البريد الالكتروني الى زوجته فحواها " انت طالق" باللغة الانجليزية.
و قد اخطرت المحكمة محامية الزوجة للحضور امامها للنظر في طلب التسجيل المقدم.
و أكد مصدر مقرب من الزوجين انهما تزوجا منذ خمس سنوات في احد المراكز
الاسلامية في مدينة نيويورك بعدما أشهر الزوج اسلامه حيث انه امريكي من اصل
عربي ، وأما الزوجة فهي من التابعية السعودية وقد رزقا بطفل يبلغ من العمر عاما
واحدا ، ويعمل الزوجان في مجال الصحافة والاعلام بدبي .
ويؤكد المصدر ان الزوجين قاما بتسجيل زواجهما مدنيا في ولاية نيويورك أيضا
وبقيت العلاقة الزوجية بينهما حتى شهر اكتوبر الماضي اذ ارسل الزوج لزوجته رسالة
عبر البريد الالكتروني تقول" انت طالق" . ( (2) )
ولم أقف على الحكم الشرعي الصادر في هذه القضية .
وقد رفع الى قسم الافتاء في موقع اسلام اون لاين السؤال الآتي :
" هل يجوز للرجل أن يرسل لزوجته الطلاق عبر الرسائل الالكترونية ،المكتوبة ، كالبريد الالتروني أو عبر وسائل المحمول ؟ حيث أثير هذا الموضوع في بعض البلدان ،مما أثار جدلا واسعا حول الموافقة والرفض "
وكان جواب هذا السؤال:
" بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
__________
(1) 2– موقع النيلين الالكتروني www.alnilin.com
(2) 1 – موقع سوالف الالكتروني www.swalif.net/softs/showthread.php?t=6185(49/18)
فالطلاق بالكتابة يقع إن نوى الإنسان الطلاق مع الكتابة والتوثيق ، والطلاق عبر رسائل المحمول فيه من المفاسد التي تمنع منه ، ولا يقع به الطلاق، وإنما يمكن اعتباره وسيلة إبلاغ فحسب ".
ويقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر السابق:
"إن الطلاق يختلف عن توثيق عقود الزواج؛ لأن الطلاق يصدر عن الفرد نفسه، فمن الممكن أن يتم عن طريق الإنترنت أو المحمول، ولكنه يحتاج هو الآخر إلى توثيق؛ لتتحقق الزوجة من طلاقها، حتى إذا أرادت أن تتزوج من آخر يكون معها دليل طلاقها، فإذا أنكر الزوج عملية الطلاق التي تمَّت عبر الإنترنت أو المحمول تكون الورقة الموثقة والمشهود عليها والمرسلة هي إثبات عملية الطلاق " ( (1) )
ويقول الدكتور محمود عكام أستاذ الشريعة بالجامعة الأردنية :
إن الطلاق عبر رسائل المحمول أو البريد الإلكتروني قد يدخله كثير من الغش والخداع؛ ولذا فإن ترك هذه الوسيلة غير المضمونة أولى "
ويقول الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق :
" يجوز الطلاق بالكتابة ولكن أخشى ما أخشاه أن تكون هذه الوسيلة غير آمنة، وتوظف البريد الإلكترونية والإنترنت أو المحمول أو غيرها توظيفا سيئًا، ولذلك أنصح أن لا يكون ذلك بالطريقة المعهودة وإذا كان متعسرًا يمكن أن يوكل أحدًا يقوم بذلك " .
و يقول الدكتور محمد سيد أحمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر :
" الطلاق مرتبط بلفظ يقع من القادر على النطق به، وألفاظه الصريحة هي الطلاق والفراق والسراح فمن استعمل لفظًا من هذه الألفاظ في قطع العلاقة الزوجية فقد وجب ولا يقبل منه ادعاء أنه لم يقصد الطلاق فجدهن جد وهزلهن جد.. ونية الطلاق ليست طلاقًا ما لم تقترن بلفظ وفي الحديث الشريف : "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به" ( (2) ) .
__________
(1) 2 - موقع إسلام أون لاين بتاريخ 12/ 7 / 2001 .
(2) 3- أخرجه البخاري في صحيحه برقم 6287 .(49/19)
ولا يشترط في الطلاق المواجهة مع الزوجة ، فيمكن للرجل أن يطلق زوجته في غيبتها ومن غير حضورها ، ومن هنا فإن الطلاق بالمراسلة إذا كان مقصودًا به أنه طلق زوجته غيابيًا ثم أعلمها بهذا الطلاق عن طريق رسالة بعثها إليها فهو طلاق واقع لا شك، حتى قبل المراسلة، وكل ما أضافته المراسلة إنها أعلمت الزوجة بما حدث من الفراق بينها وبين زوجها، أما إذا كتب الرجل لفظ الطلاق في الرسالة إلى زوجته دون أن ينطق بهذا اللفظ فلا يقع الطلاق بمجرد الكتابة ما دام الرجل قادرًا على النطق، وفي حال العاجز عن النطق فيقع طلاقه بالإشارة المفهمة أو الكتابة المعبرة عما في صدره " .
ويقول مسعود صبري الباحث الشرعي بكلية دار العلوم بالقاهرة :
" تعددت وسائل الطلاق ، فمن ذلك : الطلاق باللفظ ،والطلاق بالكتابة ، والطلاق بالإشارة ، ولا يلجأ للطلاق بالكتابة إلا عند العجز عن النطق ، ولا إلى الطلاق بالإشارة إلا عند العجز عن النطق والكتابة ، أو تكون إحدى هذه الوسائل هي الأنسب لحال المطلق.
والنطق بالطلاق في زماننا لا يمنع منه إلا العجز عن استخدامه، وهذا بخلاف القديم فربما يكون الرجل في بلد وزوجته في بلد آخر ، فيعجز أن يسمع الطلاق لزوجته ، فتكون الكتابة قائمة مقامها، أما في عصر ثورة الاتصالات ، فما أيسر أن يسمع الرجل زوجته الطلاق ، ولذا ،فيعتمد النطق بالطلاق دون غيره إلا في حالة العجز.
كما أن كثيرا من الفقهاء كالحنابلة ومن وافقهم يجعلون الطلاق بالكتابة من كنايات الطلاق التي تفتقر إلى النية .(49/20)
وإن كان جمهور الفقهاء يبيح الطلاق بالكتابة إن نوى الإنسان الطلاق عند الكتابة، وبشرط أن تكون كتابة مستبينة مفهومة المعنى ، واضحة لا يفهم منها إلا الطلاق، غير أن الناظر إلى الكتابة الالكترونية يجد اختلافا كبيرا بينها وبين الكتابة بالقلم على الورق ، فالإنسان الذي يكتب بخطه الحقيقي ، يستطاع عند إنكاره إثبات أن المكتوب بخطه ، ويتدخل المختص بمعرفة بصمات الإنسان في توضيح هذا الأمر ، أما الكتابة الالكترونية ، والتي تكون بالضغط على الأزرة سواء أكانت على المحمول أو الحاسوب لا يمكن التأكد من صحتها ، والتلاعب فيها سهل يسير، وخاصة عند من له دراية وخبرة بالحاسوب أو المحمول.
كما أن الكتابة الالكترونية قد لا تبقى ، فيسهل مسحها من خلال حذف الرسالة من البريد الالكتروني ، أو حذفها من خلال حذف الرسائل من المحمول ، ويترتب على هذا التشكيك في وقوع الطلاق ، سواء أكان من الزوج أو الزوجة ، ولا تعد وسيلة إثبات.
ومن هنا نستطيع القول : إن الطلاق بالكتابة الالكترونية لا يعتد به ، ولا يقع به الطلاق، إلا إذا كان من باب الإعلام بعد النطق بالطلاق، أما كونه وسيلة تعتمد في الطلاق وحده ، فلا.
ثم إن الأوفق شرعًا أن تمنع هذه الوسيلة، وإن كان الشرع يأمر برفع الضرر، فإن الوسيلة التي قد تؤدي إليه تمنع، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا
ضرار"( (1) ) كما أن في استخدام هذه الوسيلة إضعافا لعلاقة الزواج والطلاق، وهو ما يتعارض مع حكمة الشرع من هذه العلاقات، من كونها ميثاقًا غليظًا.
و للحاكم المسلم أو الجهات المختصة أن تصدر قرارًا بمنع هذه الوسيلة، فتكون ملزمة للجميع، صونًا للبيوت والأسر، وحفاظًا على الحياة الاجتماعية، فلا يأمن أن يقوم إنسان بكتابة طلاق لامرأة غير زوجته، والشرع ينفي كل ما فيه الغش
__________
(1) 1- أخرجه ابن ماجه في سننه برقم 2340 ، والدارقطني في سننه برقم 228 .(49/21)
والضرر" (1) )
المبحث الرابع
الطلاق عن طريق المحادثة الكتابية عبر الانترنت " الشات أو الدردشة " والمحادثة الشفهية المباشرة
المطلب الأول
الطلاق عن طريق المحادثة الكتابية عبر الانترنت " الشات أو الدردشة "
غرف المحادثة هي عبارة عن ساحات معروفة معروفة في الفضاء الالكتروني cyber space تتيح لمستخدميها الاشتراك في محادثات بعضهم مع البعض الاخر عن طريق ارسال البريد الالكتروني الذي يمكن قراءته من الشخص المشترك في غرفة المحادثة مباشرة وبشكل
فوري . ( (2) )
والسؤال الذي يطرح نفسه هو :
هل يقع الطلاق الذي يحصل بواسطة تلك الوسيلة ؟
وللجواب على ذلك اقول :
ان الحكم الشرعي في ايقاع الطلاق بواسطة هذه الوسيلة يطابق الحكم الشرعي في مدى وقوع الطلاق عن طريق البريد الالكتروني ، الا انه ها هنا يكون اكثر تعقيدا في اثباته بسبب طبيعة غرف المحادثة الكتابية والله تعالى أعلم ، ولم اقف على قضية طلاق قد رفعت الى المحاكم الشرعية قد وقعت بهذه الصورة .
المطلب الثاني
الطلاق عن طريق المحادثة الشفهية المباشرة
يوجد على شبكة المعلومات الدولية " الانترنت " بعض البرامج التي تتيح للشخص تبادل الحديث مع الاخرين بالصوت او بالصوت والصورة بشكل فوري كما هو الحال في مسنجر الهوتميل او مسنجر ياهو المشهورين وغيرهما او غرف المحادثة الصوتية او المرئية الاخرى .
فما هو الحكم الشرعي في ايقاع الطلاق بواسطة هذه الوسيلة ؟
وللجواب على ذلك اقول :
ان الطلاق الذي يكون بالصوت او بالصوت والصورة فهذا لا شك في وقوعه – فيما يظهر لي - لان الكمبيوتر ها هنا يتحول الى هاتف مسموع او هاتف مرئي ، وقد مر معنا حكم الطلاق عن طريق الهاتف ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) 2- وردت هذه الأقوال على موقع إسلام أون لاين تحت عنوان " آراء العلماء في طلاق رسائل المحمول " بتاريخ 12/ 7 / 2001 .
(2) 1 - انظر جرائم الحاسوب والانترنت لمحمد امين الشوابكة 45 .(49/22)
وفي نهاية المطاف نشير الى آخر بدعة تقنية في مجال القانون والقضاء انتشرت مؤخرًا في البرازيل من خلال برنامج حاسوبي يعتمد على الذكاء الاصطناعي أطلق عليه اسم "القاضي الإلكتروني". ويهدف هذا البرنامج الذي يوجد على جهاز حاسوب محمول إلى مساعدة القضاة المتجوِّلين في تقويم شهادات الشهود والأدلة الجنائية بطريقة علمية في مكان وقوع الجريمة، ثم يقوم بعد ذلك في المكان نفسه بإصدار الحكم بالغرامات إن اقتضت الجريمة ذلك، وقد يوصي بالسجن أيضًا.
وقد خضع البرنامج قبل تسويقه لاختبار ثلاثة قضاة في ولاية إسبيريتو سانتو كجزء من خطة أطلق عليها "العدالة على عجلات"، التي تهدف إلى تسريع البتّ في القضايا المتراكمة في البرازيل، وذلك بالحكم الفوري في الحالات غير المعقَّدة.
وأوضح القاضي فالس فيو روزا -عضو محكمة الاستئناف العليا في الولاية، ومصمم البرنامج- أن معظم المواطنين يشعرون بالسعادة عند البت في القضايا في الحال، مشيرًا إلى أن الفكرة لا تعني أن يحلّ البرنامج محلّ القضاة الحقيقيين، ولكن ليجعل أداءهم أكثر كفاءة.
وقال: إن معظم حالات الحوادث الصغيرة التي يُطلب فيها البتّ بسرعة تتطلّب بعض الأسئلة البسيطة فقط دون الحاجة إلى تفسير القانون، ذلك أن عملية تحديد الحكم تعتمد على المنطق المحض حال وصول فريق العدالة المحمولة إلى موقع الحادث خلال 10 دقائق.
وأشار القاضي فيو روزا في مجلة نيوساينتست البريطانية إلى أن البرنامج الجديد يقدِّم للقاضي عدة أسئلة بأكثر من خيار للجواب عنها؛ مثل: "هل توقف السائق عند ظهور الضوء الأحمر"، وهل كان السائق قد تعاطى المشروبات الكحولية فوق المعدَّل الذي حدّده القانون؟" وغيرها من الأسئلة التي لا تحتاج إلا الإجابة بنعم أو لا ثم يصدر الحكم بعد ذلك.
ونوّه إلى أن البرنامج يطبع مبررات الحكم إلى جانب الأحكام البسيطة مؤكدًا إمكانية تجاوز الحكم الذي يصدره البرنامج إن اختلف مع رأي القاضي البشري.(49/23)
وقد أكد متحدث باسم مكتب وزير العدل البريطاني في تعليق له على هذا البرنامج أن على السلطات القضائية أن تقتنع أولاً بخلوّه من أي خطأ قبل أن يستخدم في المحاكم البريطانية، ويبحث القاضي فيو روزا مع شركات التأمين الأمريكية فكرة وضع نظام محمول لحل الخلافات التي تنشأ على الطرق بسبب حوادث المرور .(1)
فهل يمكن قبول هذا القاضي عند التحاكم في فض الخلافات والنزاعات الزوجية ما دام الزوج قد رضي لنفسه أن يستعمل آلة تقنية لتطليق زوجته ؟
تساؤل أختم به بحثي ، ولا ادري ماذا ستخرج به علينا التقنيات الحديثة من وسائل جديدة في مستقبل الأيام .
المصادر والمراجع
1- بدائع الصنائع للكاساني ، القاهرة ، الطبعة الأولى
2- التوقيع الالكتروني وقانون التجارة الالكتروني ، لعمر حسن المومني ، دار وائل ، عمان ، الأردن ، الطبعة الأولى 2003 م .
3- جرائم الحاسوب والانترنت ( الجريمة المعلوماتية ) لمحمد امين الشوابكة ، مكتبة دار الثقافة ، عمان ، الأردن ، الطبعة الأولى 2004 م .
4- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، للشيخ محمد عرفة الدسوقي ، دار الفكر ، بيروت .
5- حاشية رد المحتار لابن عابدين على الدر المختار للحصفكي ، مطبعة البابي الحلبي ، القاهرة
6- سنن الداراقطني ، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني دار المعرفة بيروت –
1386 هـ – 1966 م.
7- سنن ابن ماجه ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر ، بيروت .
8- الشرح الصغير على أقرب المسالك للدردير ، دار المعارف ، مصر .
9- صحيح البخاري ، تحقيق د. مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير , اليمامة - الطبعة: الثالثة،
بيروت – 1407هـ – 1987 م.
10- طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية ، لنجم الدين النسفي ، تحقيق خليل الميس ، دار القلم
، بيروت ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
__________
(1) 1- أوردت الخبر وكالة قدس برس الإخبارية ، وإذاعة بي بي سي البريطانية على موقعها
الالكتروني .(49/24)
11-غاية المنتهى للشيخ مرعي بن يوسف ، دمشق ، الطبعة الأولى .
12- فتح القدير لابن الهمام ، القاهرة مصر .
13- الفقه الإسلامي وادلته للدكتور وهبة الزحيلي ، دار الفكر ، دمشق ، 1404 هـ - 1984 م
14- فقه السنة لسيد سابق ، دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الرابعة 1403 هـ - 1983م .
15- الفقه المالكي في ثوبه الجديد ، للدكتور محمد بشير الشفقة ، دار القلم ، دمشق ، الطبعة
الأولى 1424هـ - 2003 م .
16- الفقه المقارن للأحوال الشخصية ، لبدران ابو العينين بدران ، دار النهضة العربية ، بيروت
17- القوانين الفقهية لابن جزي ، مطبعة النهضة ، فاس ، المغرب .
18- لسان العرب لابن منظور ، دار صادر ، بيروت ، الطبعة الأولى .
19- المصباح المنير للفيومي ، المكتبة العلمية ، بيروت .
20 - المغني لابن قدامة ، دار المنار ، القاهرة ، الطبعة الثالثة .
21- مغني المحتاج شرح المنهاج للخطيب الشربيني ، البابي الحلبي ، مصر .
22- منهاج الطالبين للإمام النووي ، تحقيق الدكتور احمد بن عبدالعزيز الحداد ، دار البشائر
الإسلامية ، بيروت ، الطبعة الأولى 1421هـ - 2000م .
23- المهذب لأبي إسحاق الشيرازي ، مطبعة البابي الحلبي ، القاهرة .
24- نظام الأسرة في الإسلام للدكتور محمد عقلة ، مكتبة الرسالة الحديثة ، عمان ، الأردن ،
الطبعة الأولى 1411هـ - 1990 م .
البحوث والمقالات :
1-اثر التكنولوجيا الحديثة في النظر الفقهي بحث للدكتورة فريدة صادق زوزو ، منشور بتاريخ 5 / 12 / 2005 على النسخة الكفية لموقع الإسلام اليوم .
2 - رسائل المحمول.. اتصال وبيزنس وبينهما ثقافة ،لفاروق محمد عجم ، مقال منشور على موقع إسلام أون لاين
المواقع الالكترونية :
1- موقع إسلام أون لاين .
2- موقع دائرة الشوؤن الإسلامية العمل الخيري بدبي .
3- موقع سوالف .
4- موقع النيلين .
5- موقع وكالة قدس برس الإخبارية .
6- موقع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي .(49/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
وسائل الإثبات في القضاء الشرعي المغربي المعاصر
الدكتورة وداد العيدوني
أستاذة الأحوال الشخصية بكلية الحقوق بطنجة
عضو مجلس العلماء بطنجة
المغرب
بدءا لا بد من الإشارة إلى أن تحديد ماهية الإثبات في مجال القانون لا تتأتى إلا من خلال الوقوف على الجذور اللغوية للكلمة .…
فالإثبات في اللغة هو تأكيد الحق بالبينة ، أي إقامة الحجة وإعطاء الدليل و البرهان على وجود الحق (1) .
وشرعا هو الحكم بثبوت شيء لآخر بالبينة التي أباحها الشارع (2). و البينة هي الدليل و البرهان الحاسم الذي يدعم دعوى المدعي .
وفي اصطلاح فقهاء القانون يراد بالإثبات : إقامةُ الدليل أمام القضاء - بالطرق التي حددها القانون - على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها (3) . وتدور جل التعريفات القانونية حول هذا المعنى(4) .
هذا التعريف – بطبيعة الحال - يختص فقط بالإثبات القضائي . ذلكم أن الإثبات قد يكون قضائيا وقد يكون غير قضائي ، والذي يهمنا في هذا المقام هو الإثبات القضائي باعتباره واحدا من أهم و أدق الأمور التي تواجه القاضي أثناء أدائه لوظيفة فض النزاعات وفصل الخصومات بين الناس وتحقيق العدالة .
ومن ثم يمكن التأكيد على أن الإثبات هو الوسيلة الوحيدة التي يعتد بها القانون لتأكيد وجود الواقعة محل النزاع أو عدم وجودها ، وبالتالي إمضاء الآثار القانونية الموضوعية المترتبة عن تلك الواقعة (5) .
__________
(1) -ابن منظور - لسان العرب : 1/346-347.
(2) - تعريفات الجرجاني - ص: 4 .
(3) - السنهوري - الوسيط : 2/13-14 .
(4) -انظر مثلا : إدريس العلوي العبدلاوي : وسائل الإثبات في التشريع المغربي 1 / 12 - محمد جمال الدين زكي - الوجيز في النظرية العامة للالتزامات – ص : 1019- وسليمان مرقص - أصول الإثبات وإجراءاته :1 / 11 .
(5) المعطي الجبوجي - القواعد الموضوعية والشكلية للإثبات - الطبعة الأولى 2002 - لام – لات – ص : 7 .(50/1)
ومما تجدر الإشارة إليه في معرض حديثنا عن موضوع الإثبات ، أن الفقهاء استعملوا مصطلح ( البينة ) بدلاً عن الإثبات . إلا أنهم اختلفوا في تحديد طرقه ، وكذا في حصر البينة بالشهادة فقط وإطلاقها على كل حجة أو دليل من الأدلة التي ورد ذكرها في النصوص الشرعية ، مثل : الشهادة ، و الإقرار ، و اليمين ، و النكول عنها و القرائن القاطعة .
فأطلق معظم الفقهاء لفظ البينة اصطلاحا على شهادة الشهود وحدهم دون أن يذكروا تعليلا لذلك . و ذهب ابن حزم إلى أن البينة تطلق على شهادة الشهود وعلى علم القاضي ، وذهب ابن تيمية وابن القيم وابن فرحون إلى أنها اسم لكل ما يبين الحق ويظهره (1) .
وقد تبعت مدونة الأحوال الشخصية المغربية الملغاة رأي الجمهور فقصرت لفظ البينة على شهادة الشهود دون غيرها من وسائل الإثبات إذ نصت في الفصل 89 الملغى على أنه : يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب ، أو بشهادة عدلين ، أو ببينة سماع بأنه ولد على فراشه من زوجته. فالمراد ببينة السماع في هذا النص هو شهادة السماع .
وقد استقر اجتهاد المجلس الأعلى على استعمال لفظ البينة إذ ورد في إحدى قراراته الشرعية أن الوسائل التي يثبت بها نسب الولد ثلاثة :
- الفراش
- والإقرار
- و البينة (2) .
__________
(1) أحمد عبد المنعم البهي - طرق الإثبات في الشريعة والقانون - الطبعة الأولى - 1975- دار الفكر العربي – ص : 8 .
(2) - قرار شرعي عدد 23 / صادر ب 31/10/1967 – منشور بكتاب مجموعة قرارات االمجلس الأعلى – مادة الأحوال الشخصية – 1965- 1989 .(50/2)
…و للإثبات عدة طرق يحددها القانون . والمستقرئ لقضاء الأحوال الشرعية ، يجد أن القضاء الشرعي المغربي قد وضع القواعد الموضوعية للإثبات في القانون الموضوعي كقانون الالتزامات و العقود ( الفصول من : 399- إلى 460 ) . بينما وضع القواعد الشكلية في قانون المسطرة المدنية ، متوخيا في ذلك المحافظة على الطبيعة المميزة لكل من نوعي قواعد الإثبات ؛ عكس بعض التشريعات الوضعية التي اعتبرت قانون الإثبات فرعا مستقلا من فروع القانون (1) ، ويضم الجانب الموضوعي ، والجانب الشكلي كالقانون المصري والإنجليزي والأمريكي .
فبالنسبة إلى القانون المغربي نلاحظ أنه سلك مسلك القانون الفرنسي ، إذ " تناول القواعد الموضوعية للإثبات في قانون الالتزامات والعقود ( الفصول من 399 إلى 460 ) . وهذه القواعد تهتم ببيان طرق الإثبات المختلفة ومعالجة المسائل المتعلقة بعبء الإثبات ، وبمشروعية الأدلة ومحل الإثبات .... و نص الفصل 404 من قانون الالتزامات والعقود المغربي على ما يلي : ْ وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي :
- إقرارالخصم
- الحجة الكتابية .
- شهادة الشهود .
- القرينة .
- اليمين و النكول عنها .
وأضاف إليها المشرع في قانون المسطرة المدنية ( الفصل 55 ) وسائل أخرى هي :
الخبرة .
معاينة الأماكن .
تحقيق الخطوط أو الزور الفرعي .
كما أشارت مدونة الأحوال الشخصية الملغاة في الفصل الخامس إلى هذه الوسائل ، وخاصة الإثبات بالبينة الشرعية .
وفضلا عن القواعد الموضوعية المشار إليها آنفا ، أشار المشرع إلى القواعد الشكلية التي تجب مراعاتها عند سلوك كل طريق من طرق الإثبات أمام القضاء .
__________
(1) - مثل القانون الإنجليزي والقانون السوداني .(50/3)
…وتهتم هذه القواعد الشكلية ببيان الإجراءات الواجب اتباعها في تقديم وسائل الإثبات التي حددتها القواعد الموضوعية أمام الجهاز القضائي ، كالإجراءات المتعلقة بتقديم المستندات أمام المحكمة ، والاعتراض عليها ، والطعن فيها ، وكيفية سير الإجراءات المنظمة لكل وسيلة من وسائل الإثبات المقررة . …
ولما كان الحق مرتبطا بالقدرة على إثباته بناء على أن الدليل هو قوة الحق ، كان الإثبات – في مجال قضايا الأسرة أو في غيرها من المجالات - ينصب على وجود قاعدة قانونية ترتب آثارها . فهو لا ينصب على الحق المدعى به في ذاته ، وإنما في إثبات الواقعة القانونية التي هي أصلا مصدر لهذا الحق (1) .
ومن ثم يمكن القول إن الدليل هو غير الحق ، ولا يعدو أن يكون وسيلة لإثبات وجوده . أي أن الإثبات يرد على مصدر الحق ، لا على الحق ذاته ، و الحق بدوره لا يكون محلا للإثبات بل هو الهدف الذي يتوخاه صاحب الحق من الإثبات .
…وعلى هذا الأساس ، ففي دعوى ثبوت الزوجية مثلا ، ينصب الإثبات أساسا على إثبات واقعة الزواج التي تعرضت للإنكار، والتي سوف تترتب عنها فيما بعد الحقوق الناتجة عنها ، كالنفقة والنسب وغير ذلك من الحقوق ، وهذا الإثبات مرتبط بوجود وسيلة لإثبات الزوجية ( ومنها الشهود الذين حضروا ، أو الذين علموا بحفل الزفاف واشتهر بين الناس ) ، فلو تعذر الإثبات في هذه الحالة ، تعذر معه إثبات واقعة الزواج ، فيكون ضياع الحقوق الناتجة عنها ، لأن الحق الذي يطالب به بلا دليل كالعدم .
__________
(1) المعطي الجيوجي - مرجع سابق – ص : 10 .(50/4)
…من هنا ، فإن الإثبات لا يرد على القاعدة القانونية ، لأنه يشترط في القاضي العلم بالقواعد القانونية والإحاطة بها حتى يتمكن من تطبيقها تطبيقا سليما . وهذا ما أكده المجلس الأعلى في إحدى قراراته بما نصه : " القاعدة أن المحكمة إنما تلزم بوقائع الدعوى وطلبات الخصوم ... وكذا تكييف الدعوى للبحث عن النص القانوني الواجب التطبيق ، الذي هو من صميم اختصاص المحكمة التي عليها أن تكيف الدعوى التكييف السليم ، وتخضعها للقاعدة القانونية الواجبة التطبيق ، ولو لم يطلبها الأطراف أو طلبوا غيرها " (1) .
كما يبدو ذلك جليا في واقعة إثبات الزوجية ، إذ يمكن الاعتماد فيها على الأعراف والعادات ، صيانة للحقوق .
في ذلك ينص الفصل 476 من قانون الالتزامات والعقود على أنه : " يجب على من يتمسك بالعادة أن يثبت وجودها . ولا يصح التمسك بالعادة إلا إذا كانت عامة أو غالبة ولم تكن فيها مخالفة للنظام العام ولا للأخلاق الحميدة " .
…نخلص مما سبق إلى أن وسائل الإثبات و الدعوى عنصران متلازمان متكاملان ، فلا يمكن إقامة دعوى المطالبة بالحقوق في غياب وسائل لإثبات الوقائع المترتبة عنها تلك الحقوق ، سواء في مادة الأحوال الشخصية أو في المواد القانونية الأخرى .
وفي مجال القضاء الشرعي يمكن التمييز بين المراحل التالية :
- المرحلة الأولى : مدونة الأحوال الشخصية من تاريخ : 1956 إلى 1993 .
- المرحلة الثانية : مدونة الأحوال الشخصية بعد تعديل 1993 إلى 2004 .
- المرحلة الثالثة : مرحلة مدونة الأسرة من 2004 إلى الآن .
فبالنسبة إلى المرحلة الأولى ، لم يخرج القضاء عن وسائل الإثبات الشرعية المتعارف عليها ( الكتابة والإقرار ، الشهود ، القرائن ، اليمين ، بينة السماع ) .
__________
(1) - قرار رقم 68 بتاريخ : 6 يناير 1988 - مجموعة قرارات المجلس الأعلى - المادة المدنية .(50/5)
ونفس الأمر يلاحظ بالنسبة للمرحلة الثانية . فمدونة الأحوال الشخصية لم تحتو على كل طرق الإثبات . بل يلاحظ أنها في جل المقتضيات سكتت وتركت للمتتبع من قاض ومحام تلمس الدليل في مجال الفقه الرحب (1)ْ .
ومواكبة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب ، صدرت مدونة الأسرة بعد مخاض وأخذ ورد ، ودخلت حيز التنفيذ في 5/2/2004 . هذه المدونة تضمنت تعديلات جوهرية فيما يخص القواعد الموضوعية و الشكلية المنظمة للعلاقات الأسرية ، بشكل ينسجم مع روح العصر ومع متطلبات المجتمع المغربي المسلم الوفي لقيمه وأصالته .
ولعل من أبرز المستجدات التي أتت بها مدونة الأسرة أنها عززت وسائل الإثبات التقليدية بوسائل علمية حديثة تتمثل في الخبرة الطبية ، مسايرة للتطور الحاصل في العلوم البيولوجية ، ومستجيبة لروح العصر .
كما أنها وسعت وسائل الإثبات واستعانت بالبحث الاجتماعي في بعض قضايا الأحوال الشخصية .
…وبناء عليه ، يمكن القول بأن وسائل الإثبات في قضايا الأحوال الشخصية أمام القضاء الشرعي المغربي تتمثل في ما يلي :…
1- الإثبات بالكتابة : نظمها قانون الالتزامات و العقود المغربي في الفصول : من416إلى 442 ، وهي تعد من أهم وسائل الإثبات وأقواها .
يستفاد الدليل المكتوب عادة من ورقة محررة ، بغية إثبات عمل قانوني أو واقعة مادية تنشأ عنها حقوق والتزامات (2) .
وتنقسم الأوراق التي تصلح دليلا للكتابة طبقا لمقتضيات الفصل 417 من ق . ل . ع إلى :
__________
(1) - عبد العزيز فتحاوي - طرق الإثبات في ميدان الأحوال الشخصية والميراث - ص : 49 .
(2) - عبد الكريم شهبون - الشافي في شرح قانون الالتزامات والعقود – ص : 295 .(50/6)
ورقة رسمية وهي التي يتلقاها الموظفون العموميون الذين لهم صلاحية التوثيق في مكان تحرير العقد ، وذلك في الشكل الذي يحدده القانون . وتعتبر حجة على الطرفين وعلى الكافة ، متى استوفت جميع شرائط صحتها في كل ما تضمنته ، وبالكيفية التي حددها المشرع (1) .
وورقة عرفية يتولى تحريرها أصحاب مصلحة فيها ، أو من ينوب عنهم ، شرط أن تكون موقعة من المعنيين بالأمر مباشرة . وتصلح حجة ما لم ينكرها الذي نسبت إليه ( الفصل 431 من قانون الالتزامات والعقود) . ومرجع ذلك بالأساس لعدم تدخل شخص ذي صفة رسمية في تحريرها (2) .
ومثال الإثبات بالكتابة في القضايا الشرعية : مستند الزوجية ، والحجج المثبتة لوضعية الزوج المادية والتزاماته المالية طبقا لمقتضيات المادة 80 التي تنص على أنه : " يتضمن طلب الإذن بالإشهاد على الطلاق ، هوية الزوجين ومهنتهما ، وعنوانهما وعدد الأطفال إن وجدوا ، وسنهم ، ووضعهم الصحي والدراسي " .
ويرفق الطلب بمستند الزوجية والحجج المثبتة لوضعية الزوج المادية والتزاماته المالية .
2 – شهادة الشهود :خصص لها المشرع المغربي الفصول من : 443 إلى 448 وهي تعتبر في الفقه الإسلامي أهم وسيلة إثبات . إذ أجمع الفقهاء على مشروعيتها في إثبات الحقوق واعتمادها أمام القضاء وغيره (3) .
عرفت الشهادة بعدة تعريفات تدور كلها في نفس المعنى . فهي عند الجرجاني: " إخبار صادق في مجلس القضاء بلفظ الشهادة لإثبات حق للغير على آخر ، سواء كان حقا لله تعالى أم حقا لغيره ناشئا عن علم و يقين لا حسبان ولا تخمين (4) .
__________
(1) - محمد الكشبور - عقد بيع العقار بين الرضائية والشكل - ص : 75 .
(2) - إدريس العلوى العبدلاوي - وسائل الإثبات في التشريع المغربي - ص : 86 .
(3) - وهبة الزحيلي - العقوبات الشرعية والأقضية والشهادات : 4 / 274 .
(4) - التعريفات - للجرجاني - ص : 141- 142 .(50/7)
اعتمادا على هذه الوسيلة الإثباتية أمام القضاء الشرعي ، نصت مدونة الأسرة في المادة 100 على أن وقائع الضرر تثبت بكل وسائل الإثبات ، بما فيها شهادة الشهود الذين تستمع إليهم المحكمة في غرفة المشورة .
كما أن النسب يثبت بالشهادة تطبيقا لمقتضيات المادة 158 من مدونة الأسرة .
ويشترط في طلب الشهادة أو إجرائها عناصر ثلاثة :
أولا: أن تهم الشهادة إثبات واقعة في دعوى أصلية . فإذا كانت القضية تتعلق بنفي النسب ، فالشهادة في هذه الحالة ينبغي أن تنصرف إلى نفي أو إثبات النسب لا غير .
ثانيا : جواز إثبات الوقائع بطريق الشهادة إذا تجاوز المبلغ 250 درهم استثناء ، تطبيقا لمقتضيات الفصل 443 من قانون الالتزامات والعقود الذي يقضي بما يلي : : الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق ، والتي تتجاوز قيمتها 25000فرنك ، لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود , و يلزم أن تحرر بها حجة أمام الموثقين أو حجة عرفية .
و بناء على ما سبق بيانه ، يجوز للزوجة التي تطالب زوجها بحال صداقها الذي لا يتجاوز المبلغ المذكور أن تستعين بالشهود لإثبات ادعائها (1) .
ثالثا : للمحكمة السلطة التقديرية في رفض أو قبول ملتمس الإثبات بالشهادة . فإذا تم قبول هذا الملتمس ، فإنه يصدر حكما تمهيديا يبين فيه كل ما يتعلق بكيفية إجراء هذه الشهادة وأدائها ، والشكليات المتعلقة بها وفق ما ورد بيانه في قانون المسطرة المدنية ( الفصول من74 إلى84 ) .
ويتعين أن تكون الشهادة محررة ومتضمنة لمختلف المعلومات المتعلقة بأطراف الدعوى وبياناتهم الشخصية والمهنية ، وسكنى الشهود وأدائهم اليمين وغير ذلك مما تضمنه الفصل 83 من قانون المسطرة المدنية .
__________
(1) - عبد الرحيم زروق - قواعد المسطرة في مادة الأحوال الشخصية – ص : 34 - 36 .(50/8)
كما يحق للزوجة في مجال الأحوال الشخصية أن تستعين بالشهود لإثبات ما يلحقه الزوج بها من ضرر تطبيقا لمنطوق المادة 100 من قانون الأسرة .
3- الإقرار : تناول قانون الالتزامات و العقود المغربي قواعده في الفصول من : 405 إلى415 . وهو نوعان :
- إقرار قضائي .
- وإقرار غير قضائي .
وذلك وفقاً لما جاء في الفصل 405 من قانون الالتزامات والعقود بقوله : " الإقرار القضائي هو الاعتراف الذي يقوم به أمام المحكمة الخصم أو نائبه . فهو يحصل أمام ناظر الدعوى ، أثناء السير فيها ، متعلقا بالواقعة المقر بها .
والإقرار غير القضائي هو الذي لا يقوم به الخصم أمام القضاء . ويمكن أن ينتج من كل فعل يحصل منه وهو مناف لما يدعيه (1) .
كما أنه قد يكون شفويا ، وقد يكتب .
ويعد حجة قاطعة على من صدر منه ، وعلى ورثته ، وخلفائه . ففي مجال إثبات الزوجية مثلا ، إذا ادعى رجل وامرأة أنهما متزوجان ، وأقرا بذلك أمام القاضي الشرعي أو أمام الموظف المختص ، أصبحت المصادقة على الإقرار توثيقا تسمع به الدعوى، في كل ما يترتب على الزوجية من آثار معنوية ومادية ، ومن ثبوت نسب وغيره .
ويعتبر الإقرار وسيلة من وسائل الإثبات المعتمدة ، ويعد السبب الثاني للحوق النسب . ولذلك تناولته المدونة في المادة 160 فاشترطت لصحته أن يكون الأب المقر عاقلا ، وألا يكون الولد المقر به معلوم النسب ، و أن لا يكذب المستلحق – بكسر الحاء – عقل أو عادة .
ورد في إحدى القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى ما يلي : "إقرار الأب بالبنوة يعمل به في لحوق النسب . وهذه القاعدة مؤسسة على القواعد العامة في مذهب الإمام مالك ومعتمدة بالخصوص في الفصل 89 من مدونة الأحوال الشخصية " (2) .
__________
(1) - الفصل 407 من قانون الالتزامات والعقود .
(2) - حكم شرعي - عدد 12 - بتاريخ 29/10 /1968 – مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد10 – ص : 43 .(50/9)
ومما تجدر الإشارة إليه أن الإقرار يجب أن يكون مكتوبا سواء بإشهاد رسمي أو بخط يد المقر الذي لا يشك فيه ، وفقا لما تقضي به المادة 162 من مدونة الأسرة .
4- بينة السماع : عرفها ابن عرفة بقوله : " شهادة السماع لقب لما يصرح الشاهد فيه باستناد شهادته لسماع من غير معين فتخرج شهادة البت و النقل (1) .
وأجاز المشرع المغربي شهادة السماع لإثبات النسب في المادة : 158 من قانون الأسرة .
5- اليمين : بدءا تجدر الإشارة إلى أن اليمين تعد وسيلة من وسائل الإثبات تطبيقا لمقتضيات الفصل 460 من قانون الالتزامات والعقود ، وإجراء تحقيقيا في قانون المسطرة المدنية ( الفصول من 85 إلى 88 ) . وهي نوعان :
- حاسمة (2)
- و مكملة (3) .
فالأولى يوجهها الخصم إلى خصمه ، ولا يملك القاضي توجيهها . ويلتزم القاضي بأثرها ، ويجب العمل بمؤداها ، ويفصل في النزاع بناء عليها (4) .
والثانية ، أي : اليمين المكملة أو المتممة فتوجهها المحكمة إلى أحد أطراف النزاع من تلقاء نفسها وهي مشروطة بوجود دليل ناقص لاستكماله .
__________
(1) - الحطاب - مواهب الجليل : 6 / 192 .
(2) - أشار لليمين الحاسمة الفصل 85 من قانون المسطرة المدنية إذ نص على ما يلي : " إذا وجه أحد الأطراف اليمين إلى خصمه لإثبات ادعاء أوردها هذا الأخير لحسم النزاع نهائيا ، فإن الخصم يؤدي اليمين في الجلسة بحضور الطرف الآخر أو بعد استدعائه بصفة قانونية ....
(3) - نظم الفصل 87 من قانون المسطرة المدنية اليمين المكملة بما نصه : " إذا اعتبرت المحكمة أن أحد الأطراف لم يعزز ادعاءاته بالحجة الكافية أمكن لها تلقائيا أن توجه اليمين إلى هذا الطرف بحكم يبين الوقائع التي ستتلقى اليمين بشأنها " .
(4) - عبد العزيز فتحاوي - طرق الإثبات في ميدان الأحوال الشخصية والميراث - ص : 17 .(50/10)
واليمين في مجال الأحوال الشخصية لها ميزتها . فهي ليست يمينا حاسمة ولا مكملة . وهذا ما تبناه المجلس الأعلى في إحدى قراراته (1) .
كما يلجأ إليها القاضي تلقائيا إذا كانت يمين إنكار ، إعمالا لقاعدة : " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " . وقد يلجأ إليها مع شاهد تكملة للنصاب (2) .
كما يمكن للمحكمة توجيه اليمين للخصمين معا في بعض دعاوى الأحوال الشخصية مثل : " دعوى النزاع حول متاع البيت وفقا لما ورد في الفقرة الثانية من المادة 43 من مدونة الأسرة التي نصت على ما يلي : " إذا وقع نزاع في باقي الأمتعة ، فالفصل فيه للقواعد العامة للإثبات . غير أنه إذا لم يكن لدى أي منهما بينة ، فالقول للزوج بيمينه في المعتاد للرجال . وللزوجة بيمينها في المعتاد للنساء . أما المعتاد للرجال والنساء معا ، فيحلف كل منهما ويقتسمانه ما لم يرفض أحدهما اليمين ويحلف الآخر ، فيحكم له " .
وقد أثير جدل كبير حول المسطرة في توجيه اليمين أمام القضاء الشرعي ، فاعتبر فريق أن اليمين إجراء من إجراءات التحقيق ، وبالتالي يجب أن يتم قبل البت في جوهر الدعوى ، تطبيقا لمقتضيات الفصل 55 من قانون المسطرة المدنية ، بينما ذهب فريق آخر إلى اعتبارها يمينا شرعية لا توجه في مجال دعاوى الأحوال الشخصية إلا إذا كان الطرف الذي ستوجه إليه يقف إلى جانبه شاهد عرفي (3) .
__________
(1) - نفسه – ص : 23 .
(2) - نفسه - ص : 21 .
(3) - مرجع سابق - ص : 25 . المعطي الجبوجي - القواعد الموضوعية والشكلية للإثبات وأسباب الترجيح بين الحجج – ص : 134 .(50/11)
والمجلس الأعلى قرر في كثير من قراراته أن الشاهد العرفي يعتبر المنفذ الأخير لفض النزاعات بعد تعذر الإتيان بالبينة ، حين اعتبر أن الزوج الحاضر يصدق بيمينه في دعوى النفقة مادام قائما ببيت الزوجية ومعه زوجته . وهذا ما يقوم شاهدا عرفيا على إنفاقه عليها (1) .
لكن في حالة تعارض الأصل مع العرف أي : أن يشهد الأصل لأحد الطرفين ، ويشهد العرف للطرف الآخر( ومثال ذلك : الزوجة التي تطالب بنفقتها وهي تقيم ببيت والدها - يشهد لها العرف بذلك . أما الزوج فيشهد له الأصل – وهو براءة الذمة – ومن ثم إذا وقع تعارض بين الأصل الذي يشهد للزوج , والفرع الذي يشهد للزوجة ، ففي هذه الحالة يعتمد قولها بيمينها وهذا ما أكده المجلس الأعلى في قراراته ) (2) .
6 – القرائن : وهي دلائل يستخلص منها القانون أو القاضي وجود وقائع مجهولة (3) .…
من خلال هذا التعريف يتبين أن القرائن صنفان : قرائن قانونية ، وأخرى قضائية .
فأما القرائن القضائية ، فهي موكولة لحكمة القاضي ، يستنبطها من حيثيات الدعوى وظروفها , وتعتبر قرائن غير قطعية ، إذ يمكن للخصم دحضها ، كما يمكن إثبات عكسها حسب منطوق الفصل 454 من قانون الالتزامات والعقود المغربي .
وأما القرائن القانونية ، فهي التي يربطها القانون بأفعال ووقائع معينة وفق ما يقضي به الفصل 450 من قانون الالتزامات والعقود المغربي . وتعد طريقا للإعفاء من الإثبات,كما لا يقبل أي إثبات يخالفها(4).
__________
(1) - قرار 226 بتاريخ 18 /12/ 1975 . وانظر عبد العزيز الفتحاوي - طرق الإثبات في ميدان الأحوال الشخصية - ص : 37 .
(2) - قرار عدد 117 بتاريخ 14 /2 / 1978 .
(3) - الفصل 449 من قانون الالتزامات والعقود المغربي .
(4) - انظر الفصل 453 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.(50/12)
…من ضمن الحالات التي تطرح أمام القضاء الشرعي : أن تتقدم الزوجة بدعوى النفقة وهي مقيمة ببيت والدها . ففي هذه الحالة يجب اعتماد قول الزوجة بيمينها . فتواجد الزوجة خارج بيت الزوجية يعد قرينة على عدم إنفاق الزوج عليها يتم تعضيدها بتوجيه اليمين للزوجة استنادا لما ذهب إليه المجلس الأعلى في إحدى قراراته بما نصه : " ما دام قد ثبت أن الزوجة التي تطالب بالنفقة كانت بمنزل والديها مع أبنائها ، ولم يثبت الزوج ادعاءه الإنفاق ، فإن القول قولها مع يمينها ، وأن المحكمة لما اعتبرت قول الزوج مع يمينه ورفضت دعوى النفقة ، تكون قد تجنبت الصواب مما يعرض قرارها للنقض (1) .
وقياسا على نفس الحالة يمكن القول بأن تواجد الزوجة ببيت الزوجية يعد قرينة على أنه ينفق على زوجته التي تدعي العكس ، ويتم تعضيد هذه القرينة بيمين الزوج .
7- البحث الاجتماعي : سعيا لتحقيق العدالة وحرصا على ضمان حقوق المتقاضين ، سعت مدونة الأسرة إلى توسيع طرق الإثبات أمام القضاء الشرعي ، وذلك بإضافة وسائل جديدة مثل البحث الاجتماعي كوسيلة إثبات يستعين بها القاضي الشرعي في حكمه تطبيقا لمقتضيات المادة 172 من قانون الأسرة التي تقضي بما يلي : " للمحكمة الاستعانة بمساعدة اجتماعية في إنجاز تقرير عن سكن الحاضن ، وما يوفره للمحضون من الحاجات الضرورية المادية و المعنوية " .
فمنطوق المادة يشير إلى إمكانية استعانة المحكمة بالأخصائيين الاجتماعيين لتقديم تقرير عن السكن اللائق بالحاضن ، وحاجياته الضرورية .
__________
(1) - عبد العزيز الفتحاوي - نفسه - ص : 57 .(50/13)
كما يمكن أن يقوم بالبحث الاجتماعي قائد المقاطعة الذي تعتمد عليه المحكمة في قضايا ثبوت الزوجية . فالقاضي الشرعي قد يذهب إلى إصدار حكم الاعتراف بالزوجية أو إنكارها على أساس البحث الاجتماعي الذي ينجزه عن طريق السلطة المحلية . وهذا ما ورد في إحدى الأحكام الصادرة عن المحكمة الابتدائية – القسم الشرعي بطنجة – بقولها : " ... وحيث ثبت من خلال البحث الاجتماعي الذي أنجزته المحكمة عن طريق السلطة المحلية أن الطرفين يعيشان مع بعضهما لمدة سبع سنوات في بيت واحد ، وقد أثمرت هذه العلاقة عن إنجاب طفلة عمرها سبع سنوات ... " (1) .
8 – تقرير الحكمين : إنصافا للخصمين معا ، وتحقيقا للعدل ، نص المشرع على أن يكون التحكيم من طرف شخصين اثنين : أحدهما من أسرة الزوج ، وثانيهما من أسرة الزوجة مصداقا لقوله تعالى في سورة النساء { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليما خبيرا } صدق الله العظيم .
فيمكن للقاضي الشرعي المعروض أمامه النزاع أن يبعث حكمين لإصلاح ذات البين بين الزوجين . استنادا إلى ما جاء في المادة 95 من قانون الأسرة التي جاء فيها : يقوم الحكمان ومن في حكمهما باستقصاء أسباب الخلاف بين الزوجين ببذل جهدهما لإنهاء النزاع . إذا توصل الحكمان إلى الإصلاح بين الزوجين ، حررا مضمونه في تقرير من ثلاث نسخ يوقعها الحكمان والزوجان ويرفعانها إلى المحكمة التي تسلم لكل واحد من الزوجين نسخة منه , و تحفظ الثالثة بالملف . ويتم الإشهاد على ذلك من طرف المحكمة " .
وبناء عليه تتحدد مهام الحكمين في المرحلة الأولى في :
1- استقصاء أسبا ب الشقاق .
2 - محاولة إصلاح ذات البين .
3 - تحرير مضمون الصلح في تقرير خاص من نسخ ثلاث وتقديمها للقاضي الشرعي كوسيلة وحجة من حجج الإثبات .
__________
(1) - حكم صادر عن ابتدائية طنجة - رقم 896 ملف عدد 4/480- بتاريخ 7/ 10 / 2004 .(50/14)
9 – الخبرة : تعتبر الخبرة وسيلة من وسائل الإثبات الحديثة التي أولاها القضاء الشرعي اهتماما خاصا ، وبشكل فعال ومنظم .
ومن حيث قوة إثباتها لا يمكن الطعن في تقرير الخبرة إلا من طرف الزوج كما هو الشأن في الورقة الرسمية . أما استنتاجات الخبير ، فيمكن الطعن فيها بمختلف الطرق .
وفي مجال القضاء الشرعي يتم الاعتماد على الخبرة بشكل موسع في قضايا عدة منها :
* قضايا إثبات أو نفي النسب وفقا للمواد 153 – 156 – 158 – من مدونة الأسرة .
* حالة ادعاء المعتدة من وفاة أو طلاق الريبة في الحمل ، وخاصة بعد حصول نزاع في ذلك . إذ للقضاء الشرعي أن يستعين بالخبرة الطبية للتأكد من وجود الحمل وفترة نشوئه ليقرر استمرار العدة أو انقضائها حسب ما تنص عليه المادة 134 من مدونة الأسرة .
* دعاوى التطليق للعيب حيث يستعين القاضي الشرعي بأهل الخبرة للوقوف على العيب الداعي للتطليق (1) . …
* دعاوى النفقة . حيث أشارت المادة 190 من مدونة الأسرة عند حديثها عن تقدير النفقة إلى إمكانية اعتماد القاضي في تقديره للنفقة على رأي الخبراء بقولها : " تعتمد المحكمة في تقدير النفقة على تصريحات الطرفين وحججهما ، مراعية أحكام المادتين 85 و 189 أعلاه . ولها أن تستعين بالخبراء في ذلك " . ولعل الهدف من تقرير الخبرة في دعاوى تقدير النفقة يكمن في معرفة الوضعية المادية للزوج ، ومراعاة حالة الزوجة الاجتماعية .
* دعاوى الوطء بشبهة إذ أشارت المادة 155 من قانون الأسرة إلى أن النسب الناتج عن الشبهة يثبت بجميع الوسائل المقررة شرعا . وتدخل الخبرة – بطبيعة الحال – ضمنها . ومن ثم تترتب عنه نتائج القرابة ، فيمنع الزواج بالمصاهرة والرضاع ، وتستحق نفقة القرابة والإرث (2) .
__________
(1) - المادة 111 من قانون الأسرة .
(2) - ابن معجوز - أحكام الاسرة في الشريعة الإسلامية وفق مدونة الأحوال الشخصية - ص : 22 .(50/15)
واعتبر المشرع إثبات النسب في فترة الخطوبة حالة من حالات الشبهة . فإذا حصل الإيجاب و القبول وحالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج ، وظهر حمل بالمخطوبة ، ينسب للخاطب ، للشبهة ، بشروط ، طبقا لما ورد في المادة 156 من قانون الأسرة . هذه الشروط هي :
- إذا اشتهرت الخطبة بين أسرة الخطيبين ، ووافق ولي الزوجة عليها عند الاقتضاء .
- إذا تبين أن المخطوبة حملت أثناء الخطبة .
- إذا أقر الخطيبان أن الحمل منهما... وفي حالة إنكار الخاطب أن يكون الحمل منه ، يمكن اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب .
* دعاوى إثبات النسب أو نفيه : فقد عزز المشرع المغربي وسائل إثبات النسب بوسيلة علمية حديثة تتمثل في الخبرة الطبية ، دون الخروج عن مقاصد الشريعة الإسلامية السمحاء ، مسايرا في ذلك التطور الذي يشهده العالم في مجال العلوم البيولوجية ، ومستفيدا من البحوث العلمية في مجال الخبرة . فهي كما يقول إدريس الفاخوري : ْ نتائج أبحاث علمية لفكر إنساني ، وعلوم لا تتنافى مطلقا مع أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية ، لأن من القواعد المقررة شرعا وجوب معرفة الوقائع على وجهها الصحيح بالرجوع إلى أهل العلم و المعرفة " (1) .
من أنواع الخبرة الطبية التي يمكن الاستعانة بها في مجال النسب ما يلي :…
__________
(1) - إدريس الفاخوري - المركز القانوني للمرأة المغربية أبحاث ودراسات ص: 115 .(50/16)
فحص الفصيلة الدموية : وهي لا تفيد في الحصول على دليل إثبات مؤكد ، بل تعطي مجرد قرينة يعوزها البرهان وتقبل إثبات العكس . ولكنها تفيد في التحقق من انتفاء النسب عند المنازعة فيه (1) .
البصمة الوراثية : وهي وسيلة من وسائل التعرف على النسب وتتم عن طريق فحص الحمض النووي لأحد أنسجة الجسم كاللحم ، أو الجلد ، أو مواد أخرى كالشعر والعظام سواء كان الإنسان حيا أو ميتا (2).
وللبصمة الوراثية أهمية كبرى في تحديد النسب ولاسيما إثبات نسب المجهول ، لكونها تمثل دليلاً حسياً علمياً قطعياً مبنياً على التحليل والمشاهدة . كما أنها تساهم مساهمة كبيرة في إظهار الحقيقة .
فبدراسة توافق الصفات المميزة الموجودة في الحمض النووي للأم ، وتلك الموجودة في الحمض النووي للطفل يتم اكتشاف تركيبة لا يمكن أن توجد إلا في خلية شخص واحد فقط هو الأب الحقيقي للطفل (3) .
__________
(1) عبد الكريم بوسكسو - إثبات النسب بالخبرة الطبية في مدونة الأسرة الجديدة – مجلة المنتدى - عدد 5 – يونيو 2005 – ص : 186 . وراجع بتفصيل هذا الأمر في دراسة محمد محمد أبو زيد : دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب - مجلة الحقوق الكويتية - السنة 20 – العدد1 – مارس 1996- ص : 223 وما بعدها . وانظر أيضا : إدريس فاخوري - نفي و إثبات النسب بالتحاليل الطبية ، مقاربة تشريعية وقضائية وفقهية - المجلة المغربية للاقتصاد والقانون المقارن – العدد 40 – السنة 2003 – ص : 57 .
(2) - عبد الكريم بوسكسو : المرجع السابق ،ص: 187 – 188 – و إدريس فاخوري : المرجع السابق ،ص: 59 .
(3) - نفسه ص:187(50/17)
ونظرا لخطورة البصمة الوراثية على الحياة الأسرية واستقرارها ، وخطورة استخدامها للتأكد من صحة نسب الأطفال لآبائهم ، فإن استخدامها يتطلب حذرا شديدا ، وعناية خاصة ، وضرورة وجود ضمانات حتى لا يكون هناك تلاعب في النتائج أو خطأ غير مقصود . كما يجوز العمل بالبصمة الوراثية لإثبات نسب المجهول بالضوابط الشرعية المقررة لقرينة القيافة . ويجب أن يكون
العمل بها مقصورا على حالة التنازع في الإثبات ، وعدم وجود الدليل الأقوى أو عند تعارض الأدلة .
…مراجع البحث
- ابن منظور- لسان العرب . دار بيروت , 1955/1374.
- الجرجاني - التعريفات .
- السنهوري - الوسيط في شرح القانون المدني . دار النهضة ،ط القاهرة – 1967 .
- إدريس العلوي العبدلاوي - وسائل الإثبات في التشريع المغربي – ط 1990 .
- سليمان مرقص - أصول الإثبات و إجراءاته -
- المعطي الجبوجي - القواعد الموضوعية والشكلية للإثبات . الطبعة الأولى 2002.- مكتبة الرشاد – البيضاء .- أحمد أبو الوفا – التعليق على نصوص الإثبات – ط الإسكندرية – 1978 .
- أحمد عبد المنعم البهي - طرق الإثبات في الشريعة والقانون - الطبعة الأولى- 1975 - دار الفكر العربي – بيروت .
- محمد الشافعي - أحكام الأسرة في ضوء مدونة الأحوال الشخصية – منشورات الجامعة المغربية – ط2 – 1995 .
-محمد ابن معجوز : أحكام الأسرة وفق مدونة الأحوال الشخصية – مطبعة النجاح – 1983
- موسى عبود و محمد السماحي : المختصر في المسطرة المدنية و التنظيم القضائي – ط 2 - قرار شرعي عدد 23 / الصادر ب 31/10/1967 – منشور بكتاب :مجموعة قرارات االمجلس الأعلى – مادة الأحوال الشخصية – 1965- 1989 .
- قرار رقم 68 بتاريخ: 6 يناير 1988. مجموعة قرارات المجلس الأعلى. المادة المدنية .
- عبد العزيز فتحاوي - طرق الإثبات في ميدان الأحوال الشخصية و الميراث – مطبعة فضالة – 1996 .(50/18)
- عبد الرحيم زروق : قواعد المسطرة في مادة الأحوال الشخصية - بحث نهاية التمرين – مرقون - وجدة - 1992 – 1993 .
- حكم شرعي عدد 12 بتاريخ 29/10 /1968 – مجلة قضاء المجلس الأعلى -
- الحطاب - مواهب الجليل- ط 3 -1992 .
- إدريس الفاخوري : المركز القانوني للمرأة المغربية أبحاث ودراسات –مطبعة الجسور – 2002 .
- عبد الكريم بوسكسو - إثبات النسب بالخبرة الطبية في مدونة الأسرة الجديدة – مجلة المنتدى - عدد 5 – يونيو 2005 .
- محمد محمد أبو زيد - دور التقدم البيولوجي في إثبات النسب - مجلة الحقوق الكويتية سنة 20 – عدد1 – مارس 1996 .
- إدريس فاخوري - نفي وإثبات النسب بالتحاليل الطبية ، مقاربة تشريعية وقضائية وفقهية - المجلة المغربية للاقتصاد والقانون المقارن – عدد 40 – سنة 2003 .(50/19)