8. خالف أمراً رسمياً صادراً من المحكمة .
9. أهان المحكمة .
وتجيز نفس المادة التاسعة للشخص الذي يحكم عليه بهذه العقوبة أن يستأنف قرار المحكمة التي أصدرته ضده أمام المحكمة الشرعية المختصة الأعلى منها درجة ، كما يجوز لها استئناف قرار المحكمة الأعلى درجة أمام محكمة الاستئناف الشرعية العليا التي يكون قرارها نهائياً .
2. نشير إلى أنه قد صدر في 1974 قانون للإجراءات المدنية ، وقد تضمن هذا القانون في ملحقه الجدول الثاني وهو يطبق علي قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين ، وقد نصت المادة 2/1 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 : يلغي من تاريخ العمل بهذا القانون :
أ . قانون الإجراءات المدنية لسنة 1974 :
وبما أن قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 قد حل محل هذا القانون ، ولا يوجد اختلاف بينهما خاصة الجدول الثاني الملحق بالقانونيين ، لذلك لم نشر لهذا القانون في هذا البحث .
الفصل الثاني
6. التنظيم القضائي بعد الاستقلال 1956م – 2005م :
سار التنظيم القضائي في السودان في السودان بعد الاستقلال كما هو ، حيث ظل القضاء الشرعي منفصلاً عن القضاء المدني ، وفي سبتمبر 1983/1405 هـ والذي نص علي أن ولاية القضاء في السودان لجهة قضائية واحدة تسمي الهيئة القضائية تكون مسؤولة مباشرة لدي رئيس الجمهورية عن أداء أعمالها ، كما اشتمل القانون علي تكوين المحكمة العليا والأجهزة القضائية .(18/13)
وبصدور هذا القانون اصبح القضاء موحداً ، ونشير إلى أن قضاة المحاكم الشرعية في السودان كانوا ينتدبون من مصر ، وفيما بعد تم تعيين قضاة شرعيين سودانيين وظل القضاة المصريون في منصب قاضي القضاة فحسب وذلك في الفترة من 1900 – 1940 ، وجاء قاضي القضاة السوداني في سنة 1947 واستمر حتى 1973 فترة ودمج القسمين ثم أعيد المنصب في سنة 1976 واستمر حتى عام 1982 [5]، ثم بعد ذلك توحيد القسمين تحت إشراف رئيس القضاء ، وصدر في عام 1983 قانون الإجراءات المدنية يوضح تشكيل واختصاصات المحاكم بنوعيها المدني والشرعي ، ثم خصص الجدول الثاني لقضايا الأحوال الشخصية حيث تنص المادة (1) :
تطبق أحكام هذا الجدول علي قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين علي أن تسري أيضاً علي إجراءات القضايا المذكورة أحكام قانون الإجراءات المدنية في المسائل التي لم ينص عليها في هذا الجدول .
وطبقاً لهذا النص فان تشكيل المحاكم وأنواعها واحده في القضائين المدني والشرعي ، وهي المحاكم الجزئية ، وقاضي المديرية ومحكمة الاستئناف ، والمحكمة العليا ، ولكن الاختلاف في الاختصاصات وبما أن البحث يتكلم عن القضاء الشرعي ، لذلك سنتكلم عن اختصاصات وسلطات هذه المحاكم من الناحية الشرعية وذلك علي النحو الآتي :
1/ المحكمة الجزئية :
تنص المادة (9) من الجدول الثاني: تختص المحكمة الجزئية بالفصل في المنازعات الآتية :
أ . النفقات بجميع أنواعها واسبابها سواء كانت للزوجة أو للصغير أو للأقارب .
ب . حق الحضانة والحفظ وانتقال الحاضنة أو الولي بالصغير إلى بلد آخر .
ج. الزواج والمسائل المتعلقة بالزوجية غير ما ذكر بالفقرتين السابقتين .
د. الطلاق والخلع والمبارأة .
هـ. الفرقة بين الزوجين بجميع أسبابها الشرعية .
و. النسب وما يتعلق به .
ز. الصلح بين الزوجين في شئ مما تقدم .(18/14)
ح. المسائل المتعلقة بالولاية والوصاية والقوامة وتعيين الأوصياء والقوام وعزلهم ومحاسبتهم والإذن لهم بالتصرفات .
ط. الحجز ورفعه واثبات الرشد .
د. إثبات الغيبة وما يتعلق بها .
ك. إثبات الوفاة وتصفية التركات وتعيين الحصص الوراثية وتوزيعها بين الورثة وتسوية الحصص الصغرى .
ل. قسمة الإفراز بين الورثة .
م. ضبط حجج الوصايا والهبات والوقف والإقرارات بالنسب وغيرها وتوثيق المستندات. [6]
هذه الاختصاصات تشمل كل المحاكم الجزئية ، أيا كانت درجتها فقاضي الدرجة الأولى أو الثانية يستطيع أن ينظر في كل هذه المنازعات المذكورة في المادة (9) أعلاه .
2/ محكمة القاضي الجزئي من الدرجة الأولى والثانية :
تنص المادة (10) من الجدول الثاني يختص القاضي الجزئي من الدرجة الأولى بالفصل في أي دعوي دون تحديد قيمتها ، ويختص القاضي الجزئي من الدرجة الثانية بالفصل في الدعاوى التي لا تتجاوز قيمتها خمسمائة دينار وذلك في المسائل الآتية :
أ . المهر والجهاز والأمتعة المنزلية بين الزوجين أو ورثتهم .
ب . دعاوى الإرث والوصية .
ج. النزاع حول الهبات والمسائل المتعلقة به .
وقد أضافت المادة (11) من الجدول الثاني اختصاصات أخري للقاضي الجزئي من الدرجة الأولي حيث تنص :
1. تختص محكمة القاضي الجزئي من الدرجة الأولى في النظر في قضايا الوقف .
2. كما يكون من اختصاصاتها الفصل في كل ما لا يدخل في اختصاصها المبين في القانون إذا طلب أطراف النزاع تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية علي الموضوع .
3. تخضع سلطات المحكمة في نظر النزاع في المسائل الموضحة في البندين (1) ، (2) لقواعد الاختصاص القيمي .
3/ اختصاص محكمة المديرية " المحكمة العامة " :
تنص المادة 13 من الجدول الثاني : تختص المحكمة المدنية العامة بالآتي :
أ . بالفصل ابتدائياً في كل ما يدخل في اختصاص دوائر الاحوال الشخصية مهما كانت قيمته .(18/15)
ب . بالفصل استئنافياً في الأحكام والأوامر الصادرة من محكمة القاضي الجزئي الدرجة الثانية .
4/ اختصاص محكمة الاستئناف :
تنص المادة (14) من الجدول الثاني :
تختص محكمة الاستئناف بالفصل استئنافياً في الأحكام الابتدائية الصادرة من المحكمة المدنية العامة " محكمة المديرية " ومحكمة القاضي الجزئي من الدرجة الأولى .
5/ اختصاص المحكمة العليا :
تنص المادة (15) من الجدول الثاني :
تختص المحكمة العليا " دائرة الاحوال الشخصية " إلى جانب اختصاصها المبين في القانون بأن تطلب من تلقاء نفسها ويغير طلب من الخصوم وفي أي وقت من الأوقات أوراق قضية أو مادة وأن تصدر قرارها بإلغاء الحكم الصادر فيها إذا كان مخالفاً للأصول الشرعية .
الفصل الثالث
7/ مقارنة بين التنظيم القضائي قبل وبعد الاستقلال :
عند إجراء هذه المقارنة سنلقي نظرة علي تشكيل واختصاصات المحاكم سواء كان ذلك قبل أو بعد الاستقلال والي يومنا هذا .
بالنسبة لتشكيل المحاكم في فترة الحكم الثنائي وقبل الاستقلال كانت تتكون من محكمة الاستئناف الشرعية العليا ولها اختصاصاتها التي ذكرت سابقاً ، وكانت تتكون في البداية من قاضي القضاة وستة قضاة كأعضاء ، ثم بعد ذلك نقص العدد الي أربعة برئاسة قاضي القضاة ، وهذه المحكمة لا مقابل لها في التشكيل القضائي بعد الاستقلال وخاصة في قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 ، حيث نص علي المحكمة العليا بدلاً من محكمة الاستئناف العليا ، وهذه المحكمة أي المحكمة العليا تتكون من دائرة تشمل ثلاثة قضاة ، وبالطبع لا يرأسها قاضي القضاة ، لان هذا المنصب قد الغي كما ذكرنا ، ومن ثم فإن هذه المحكمة يرأسها أقدم القضاة.(18/16)
وبعد محكمة الاستئناف العليا ، توجد المحاكم العليا التي تتكون من قاضي محكمة عليا منفرداً ، ثم قاضي الدرجة الأولى منفرداً وقاضي الدرجة الثانية منفرداً ، ثم محكمة الاختصاص مهمتها حل النزاع الذي يحدث بين المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية ، وبعد الاستقلال وبعد توحيد القضاء ، صدر قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 وأشار لمحكمة الاستئناف التي تتكون من ثلاث قضاة يرأسها أقدمهم ، ثم المحكمة العامة " محكمة المديرية منفردة ثم المحاكم الجزئية التي تتكون من القاضي الجزئي من الدرجة الأولى متفرداً ، والقاضي من الدرجة الثانية متفرداً ، ولم ينص علي محكمة الاختصاص .
هذا هو تشكيل المحاكم في العهدين قبل وبعد الاستقلال . وبالنسبة للاختصاصات ، فلا توجد اختلافات تذكر ، لان هذه المحاكم بأنواعها المختلفة تختص بمسائل الاحوال الشخصية للمسلمين ، وهي لا تختلف بتغير الزمان والمكان ، لأنها مستمدة من الشريعة الإسلامية .
والاختلاف الوحيد هو محكمة الاختصاص التي وجدت في عهد استقلال القضاء الشرعي عن المدني ، ومهمتها كما ذكرنا حل النزاع الذي يحدث بين المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية ، وبتوحيد هذه المحاكم انتفي هذا التنازع ومن ثم انتفت الحكمة من وجود هذه المحكمة ، ولذلك لم ينص عليها قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 في الجدول الثاني الملحق به .
ونود أن نشير إلى القاضي الشرعي الذي كان يحكم في محاكم الاحوال الشخصية قبل وبعد الدمج .
لقد أشارت لائحة ترتيب وإجراءات المحاكم الشرعية لسنة 1902 لمؤهلات القاضي الشرعي حيث تنص المادة الأولى :
يتم اختيار أعضاء الهيئة القضائية من بين الحاصلين علي شهادة العالمية من الجامعة الأزهرية ، أو من أي كلية دينية مشابهة في مصر ، أو من بين المؤهلين في الشريعة الإسلامية من القسم الشرعي في كلية غردون بالخرطوم ، الحاصلين علي شهادة بأنهم أتموا دراساتهم فيها .(18/17)
كما توجب المادة الثانية من اللائحة أن يكون هؤلاء من ذوي السيرة والشهرة الحسنة ، وألا يكون قد حكم عليهم بحكم مخل بالشرف ، كما يجب ألا تقل سنهم عن خمسة وعشرين عاماً .
هذه شروط تعيين القاضي الشرعي في ظل هذه اللائحة ، وفي وقت سابق تحولت كلية غردون إلى جامعة الخرطوم ، وكان هناك قسم للشريعة في كلية القانون ومن يتخرج من هذا القسم يعين في قسم القضاء الشرعي ، وهنالك جامعات أخرى كانت تدرس الشريعة الإسلامية ومن يتخرج منها يلتحق بالقضاء الشرعي ، وهي جامعة أم درمان الإسلامية ، وجامعة القرآن الكريم .
وأما بالنسبة لتعيين القاضي المدني فقد أشارت لائحة المستخدمين بالهيئة القضائية بأن يكون من بين الفئات الآتية :
1. الحاصلين علي درجة أو دبلوم في القانون من جامعة الخرطوم .
2. أعضاء نقابة المحامين في السودان .
3. الحاصلين علي درجة أو دبلوم في القانون من الجامعات الأخرى ، بشرط النجاح في امتحان يعقد في القانون السوداني ، يحدد من ناحية موضوعه بواسطة مجلس الخدمة القضائية أو لجنة الموظفين المختصة من وقت لآخر .
4. أي طوائف أخرى من الأشخاص يحددها من وقت لآخر مجلس الخدمة القضائية أو لجنة الموظفين المختصة علي حسب الاحوال .
وقد عدلت نصوص هذا الجزء بقانون تنظيم مهنة القانون لسنة 1962 حيث حددت المادة السادسة منه شروط التقدم للامتحان ومنها : أن يكون المتقدم للامتحان حاصلاً علي درجة القانون من جامعة معترف بها .
وطبقاً لهذا الشرط اصبح من يحصل علي درجة القانون من جامعة الخرطوم خاضعا لهذا الامتحان .(18/18)
هذه هي مؤهلات القاضي الشرعي قبل الدمج ، أما بعد توحيد القضاء في السودان فهناك القاضي الذي يحصل علي درجة في القانون من جامعة معترف بها أو يحصل علي مؤهل علمي في الشريعة والقانون خاصة وان الجامعات في السودان علي نوعين ، بعض الجامعات تمنح مؤهلاً في القانون فقط كجامعة الخرطوم وجامعة النيلين ، ، وبعضها يمنح مؤهلاً في الشريعة والقانون كجامعة أم درمان الإسلامية وجامعة القرآن الكريم ، وجامعة الزعيم الأزهري وبقية الجامعات الولائية في السودان .
بعد أن توحد القضاء في السودان لم يعد هناك قضاءً شرعياً وقضاءً مدنياً ، بل اصبح القضاء يحمل اسم السلطة القضائية ، وقسمت المحاكم إلى دوائر ، واصبح القاضي الذي يحمل مؤهلاً في القانون فقط أو في الشريعة والقانون ملزماً في العمل بكل الدوائر ، وهذه الدوائر هي الدائرة المدنية ، والدائرة الجنائية ، ودائرة الاحوال الشخصية للمسلمين ودائرة الاحوال الشخصية لغير المسلمين ، وغيرها من الدوائر ومن ثم لم يعد لكلمة القضاء الشرعي وجود في التنظيم القضائي السوداني ، بل اصبح مندمجاً ، وتحول إلى دائرة من الدوائر .
الفصل الرابع
8/ التنظيم القضائي السوداني والقانون الواجب التطبيق :
ذكرنا قبل ذلك أن هذا البحث سيقتصر علي التنظيم القضائي منذ الحكم الثنائي حتى الآن ، ولكننا نريد هنا أن نستعرض القانون الذي كان يطبق في المحاكم . قبل الحكم الثنائي ، وفي فترة الحكم الثنائي إلى يومنا هذا .
كان القضاء في السودان كله قضاء شرعياً ، وكان القاضي الشرعي يختص بالنظر في جميع المسائل والمنازعات ، سواء منها ما تعلق بالمعاملات أو الحدود أو الأحوال الشخصية آو المسائل العامة أو السياسية ، ومن ثم لم يكن هناك تمييز بين المعاملات المدنية ومسائل الأحوال الشخصية ومواد القصاص والتعزير .(18/19)
والقضاء الشرعي في الماضي البعيد كان يتعدد بتعدد المذاهب ومعتنقيها ، ففي مملكة الفونج سار القضاء علي مذهب المالكية وهو المذهب الذي انتشر في هذه البلاد واشتهر به السكان . وفي سلطنة دار فور كان القضاء يقوم به جماعة من علماء البلاد هم سنيون في مذهبهم واشعريون في عقائدهم ومالكيون في فقههم . ولذلك طبق القضاء المذهب المالكي .
وفى حكومة الفتح التركي المصري للسودان كان القضاء فى المحاكم الشرعية على مذهب الحنفية اتباعا لمذهب محاكم الحكومة المصرية أما في عهد المهدية فقد كان القضاء يتبع ما دون في المنشورات التي يصدرها المهدى أو الخليفة فإذا لم توجد المسألة في المنشورات فلا مانع من العمل بالمذهب المالكي .
والمنشورات المذكورة لم تضم بين دفتيها أشياء ثلاثة هي الفرائض والوصايا والعتق,أما باقي المسائل فمعظمها قد جاء ذكره بالمنشورات , وقد بنيت تلك المنشورات على روح الاجتهاد فى ذلك العصر ومنها هذا المنشور الذي جمع كثير من قواعد الأحكام التى كان يعمل بها حرفيا فى المحاكم.
وعندما جاء الحكم الثنائي للسودان تلاشى الاختصاص الواسع الشامل بحيث اصبح القضاء الشرعي من قبيل المحاكم الاستئنافية وانفصل عن القضاء المدنى الذى اصبح يختص بالنظر فى جميع المسائل باستثناء مسائل الاحوال الشخصية التى تركت للقضاء الشرعي
وقد صدرت لائحة ترتيب وإجراءات المحاكم الشرعية فى سنة 1916 ونصت المادة 53 منها على الآتي:
يكون العمل فى جميع المحاكم الشرعية على المرجح من آراء الفقهاء الحنفية,الإ فى المسائل التى يصدر فيها قاضى القضاة منشورات أو مذكرات قضائية فإنه يعمل بها بما ينص قاضى القضاة على العمل به من أراء فقهاء الحنفية او غيرهم من أئمة المسلمين فى التشريع.(18/20)
وجاء قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 ، واخذ بنفس الحكم المنصوص عليه في المادة (53) من لائحة ترتيب وإجراءات المحاكم الشرعية "م61" والفرق الوحيد بين النصين ان النص الجديد يجعل المنشورات القضائية تصدر عن محكمة الاستئناف الشرعية العليا ، بينما النص القديم يجعل هذه المنشورات تصدر عن قاضي القضاة ، وذلك تمشياً مع نقل سلطات واختصاصات قاضي القضاة إلى محكمة الاستئناف الشرعية العليا . وظل العمل بهذا النص إلى أن صدر قانون الإجراءات المدنية لسنة لسنة1983 حيث نصت المادة (16) من الجدول الثاني الملحق بهذا القانون علي ما يلي :
1. يكون العمل في مسائل الأحوال الشخصية التي تقضي تطبيق إحكام الشريعة الإسلامية علي المرجح من آراء فقهاء الحنفية ، إلا في المسائل التي تصدر فيها المحكمة العليا " دائرة الأحوال الشخصية " منشورات قضائية للعمل بموجبها من من آراء فقهاء الحنفية أو غيرهم من أئمة المسلمين .
والفرق بين هذا النص وما قبله انه جعل المنشورات القضائية تصدر من المحكمة العليا " دائرة الأحوال الشخصية " ، التي حلت محل قاضي القضاة ، ومحكمة الاستئناف الشرعية العليا ، كما أضافت أن يكون العمل بالراجح من المذهب الحنفي .
وفي سنة 1991 صدر قانون الأحوال الشخصية للمسلمين وميزة هذا القانون انه مستمد من جميع المذاهب ، ولم يقتصر علي مذهب دون غيره ولذلك فان هذا القانون يطبق علي جميع مسائل الأحوال الشخصية ، وأشارت المادة (5) من هذا القانون إلى تطبيق الراجح من المذهب الحنفي في حالة عدم وجود نص ، حيث تقول هذه المادة :
1. يعمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حكم فيه بهذا القانون ويصار في حالة المسائل التي يوجد لأصلها حكم أو تحتاج إلى تفسير أو تأويل إلى المصدر التاريخي الذي اخذ منه القانون .(18/21)
2. يجوز للمحكمة العليا – دائرة الأحوال الشخصية – إصدار قواعد لتفسير أحكام هذا القانون أو تأويلها وفقاً للضوابط المذكورة في البند (1) .
الواضح من هذا السرد أن القضاء الشرعي كان يتعدد بتعدد المذاهب ومعتنقيها ، وقد كان هذا النظام سائداً ، حتى صدر قانون الأحوال الشخصية لسنة 1991 ، وجعل القاضي ملزماً بتطبيق نصوصه المستمدة من عدد من المذاهب الإسلامية .
9/ دواعي إلغاء القضاء الشرعي بالسودان توحيداً للقضاء :
مما لاشك فيه أن القواعد العامة تقضي أن تكون سيادة الدولة تامة ومطلقة داخل بلادها كما تقضي بأن يخضع جميع السكان علي اختلاف جنسياتهم لقوانين البلاد ومحاكمها ولجهة قضائية واحدة بصرف النظر عن نوع المسائل التي تتناولها خصوما تهم أو القوانين التي تطبق عليها ، وقد كانت هذه القواعد تطبق علي التنظيم القضائي السوداني حسب ما ذكرنا سابقاً ، فالقضاء كان شرعياً ، والقاضي يحكم في جميع أنواع القضايا ، ولكن بمجيء المستعمر الإنجليزي تلاشت هذه القاعدة وتم فصل القضاء المدني عن القضاء الشرعي ، واصبح القاضي الشرعي يختص فقط بقضايا الأحوال الشخصية دون غيرها ، وقد عبرت المذكرة الإيضاحية لتعديل دستور 1966 علي ذلك بقولها :
" ولم يقتصر المشروع علي القسم المدني فقط ، فهناك القسم الشرعي الذي لا يقل أهمية عن القسم المدني ، وهو يعالج المواضيع التي تمس العائلات في أدق العلاقات وأكثرها حساسية ، ولما كان القاضي الشرعي في السودان ولا يزال رمزاً للإسلام وقدوة في الدين وراعياً لشئون المسلمين المتقاضين عنهم وغير المتقاضين ، فقد رأي الأجنبي في عهد الحكم الثنائي أن يبسط سلطانه علي هذا القسم وان يسيطر علي كل كبيرة وصغيرة فيه ، حتى يستطيع أن يتحكم في أهم مقومات قومية هذه البلاد وهي الدين واللغة ، وان يحد من هذه المقومات بالحد الذي يضمن به رعاية مصالحه وطول بقائه .(18/22)
كان السكرتير القضائي علي رأس الجهاز القضائي بما في ذلك المحاكم الشرعية بالرغم من انه لا يمت للإسلام بصلة ، وقد حاول فعلاً في وقت من الأوقات أن يمحوها وان يطمس كينونتها وذلك بدمج أعمالها في القسم المدني ولكنه لم يفلح .
وقد خرج المستعمر الأجنبي عن البلاد ، ومن ثم فان المصلحة تقضي بتوحيد القضاء بدلاً من أن يكون مزدوجاً أو متعدداً ، لأن القضاء كما ذكرنا كان موحداً في العالم الإسلامي منذ بدء الإسلام ، ولم يزدوج القضاء أو يتعدد في البلاد العربية والإسلامية إلا بعد أن غزاها الاستعمار الغربي ، والبلاد العربية التي لم تستعمر لا يزال القضاء فيها كما كان موحداً ، كما في السعودية واليمن .
والسودان يعتبر من البلاد الذي تساعده ظروفه التعليمية من توحيد القضاء وذلك عن طريق :
1. توحيد الثقافة القانونية في كليات القانون والشريعة المختلفة بالبلاد .
2. إزالة وصاية القضاء المدني عن المحاكم الشرعية .
3. توحيد ثقافة القاضي بحيث يصلح للفصل في جميع المنازعات المدني منها والجنائي وما يتعلق بالأحوال الشخصية كما هو في جميع بلاد العالم التي لم ترزأ بالغزو الاستعماري.
4. اتباع طريق تخصص القاضي الذي يقضي بأن يتخصص القضاة في فروع القانون المختلفة ، وإذا ما دمج القضاءان المدني والشرعي ، فإن جميع القضاة يكونون متخصصين في المسائل المدنية والجنائية ومسائل الأحوال الشخصية .
وقد صدر قانون السلطة القضائية رقم 43 لسنة 1965 وأشار لهذا التخصص علي سبيل الجواز حيث تنص المادة (11) منه :
يجوز تخصص القاضي بعد مضي أربع سنوات علي الأقل من تعيينه في وظيفته ، ويجب ان يتبع نظام التخصص بالنسبة إلى المستشارين وبالنسبة لمن يكون من القضاة قد مضي علي تعيينه ثماني سنوات .
ويصدر بالنظام الذي يتبع في التخصص قرار من وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى علي أن تراعي فيه القواعد الآتية :-(18/23)
أولاً : أن يكون تخصص القاضي في فرع أو أكثر من الفروع التالية : جنائي ، مدني ، تجاري ، أحوال شخصية ، مسائل اجتماعية " عمال " ، مسائل مالية " ضرائب " ويجوز ان تزاد هذه الفروع بقرار من مجلس القضاء الأعلى .
ثانياً : يقرر مجلس القضاء الأعلى الفرع الذي يتخصص فيه القاضي بعد استطلاع رغبته .
ويجوز عند الضرورة ندب القاضي المتخصص من فرع إلى آخر .
هذه بعض المقترحات الرامية لتوحيد جهتي القضاء ، وبدأت سياسة الدولة تسير في هذا الاتجاه ، وأول هذه الخطوات كانت المساواة بين قضاة القسمين الشرعي والمدني في المرتبات فبعد ان كان قانون مرتبات الهيئة القضائية ، وهو يتكون من جزئين ، الجزء الأول خاص بالقسم المدني ، والجزء الثاني خاص بالجزء الشرعي ، والمرتبات المحددة في هذا الجدول للقسم الشرعي أقل من المرتبات المحددة للقسم المدني ، وقد انتهت هذه التفرقة بعد ان زالت أسبابها .
وثاني هذه الخطوات بدأت بتوحيد ثقافة القاضي القانونية في جميع كليات القانون ، أو كليات الشريعة والقانون ، وبعد ذلك تم دمج هذه الأسماء تحت مسمي واحد هو السلطة القضائية وأصبحت المحاكم واحدة وتحت مسمي واحد ، و قسمت هذه المحاكم إلى دوائر هي الدائرة الجنائية ، والمدنية ودائرة الأحوال الشخصية للمسلمين ودائرة الأحوال الشخصية لغير المسلمين ، واصبح القاضي مؤهلاً للعمل في كل هذه الدوائر ، ينتقل من دائرة إلى أخرى حسب ظروف وحوجة العمل .
ومن ثم انتهت دواعي فصل القضاء الشرعي عن القضاء المدني ، وتم توحيده تحت مسمي واحد هو السلطة القضائية السودانية .
10.خاتمة البحث(18/24)
جاء عنوان هذا البحث عن القضاء الشرعي في السودان ودواعي إلغائه توحيد ، وقد بدأ البحث بفصل تمهيدي تناول أهمية القضاء الذي ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكذلك ضمانات القضاء التي تتمثل في خضوع جميع أفراد الدولة لسلطان القضاء ، وأن يكون النظام القضائي سهل المنال متمشياً مع عادات وتقاليد واخلاق البلاد ، وان يسمح بالطعن في الأحكام التي تصدر من القاضي ، ويجب كقاعدة عامة أن يكون التقاضي بدون أجر لان ذلك من واجبات الدولة ، وقد تعرض الفصل التمهيدي لذلك للضمانات التي تكفل له استقلال رأيه عند إصدار حكمه ، وان لا يتأثر بأي عامل خارجي حتى لا يكون آله في يد الحكومة .
ثم بعد ذلك تعرض البحث لتعريف القضاء وحكمته .
ثم قسم البحث إلى فصلين تناول الفصل الأول التنظيم القضائي في عهد الحكم الثنائي ، حيث تكلم عن إنشاء المحاكم الشرعية ودرجاتها المختلفة ، ثم السلطات والاختصاصات القضائية لهذه المحاكم وفي الفصل الثاني تناول البحث التنظيم القضائي بعد الاستقلال 1956- 2005م وقد كان القضاء في بداية هذا العهد منفصلاً كما هو في العهد السابق ، ولكن بصدور قانون الهيئة القضائية لسنة 1983 تم توحيد القضاء ، وأصبحت ولاية القضاء لجهة قضائية واحدة تسمي الهيئة القضائية ، وقد تعرض البحث لتشكيل المحاكم بعد توحيد القضاء ، وسلطات كل محكمة ، وتم عقد مقارنة بين التنظيم القضائي قبل وبعد الاستقلال .(18/25)
ثم بعد ذلك تناول البحث القانون الواجب التطبيق في العهود المختلفة التي مرت بالسودان ، وانتهي البحث إلى أن القاضي الشرعي كان يحكم في جميع المسائل ، وكان القضاء يتعدد بتعدد المذاهب تارة يحكم بالمذهب المالكي وتارة بالمذهب الحنفي ، واستمر هذا الوضع حتى صدر قانون الأحوال الشخصية السوداني لسنة 1991 ، حيث اصبح ملزماً بتطبيق نصوص هذا القانون ، وهو مستمد من عدد من المذاهب ، وفي حالة عدم وجود نص يطبق الراجح من المذهب الحنفي .
وأخيراً تعرض البحث إلى دواعي إلغاء القضاء الشرعي بالسودان ، وسبب ذلك كان وجود المستعمر الأجنبي بالبلاد واضطهاده للقضاء الشرعي ، وقد زالت هذه الأسباب برحيله عن البلاد ، ومن ثم سارت الدولة في اتجاه توحيد ودمج القضاء في السودان ، وقد توج هذا الجهد بأن أصدر رئيس الجمهورية في سنة 1983 قراراً يقضي بتوحيد قسمي القضاء الشرعي والمدني تحت مسمي السلطة القضائية ، واستمر هذا الوضع إلى يومنا هذا .
د / إبراهيم عبد الرحمن إبراهيم
عميد كلية الشريعة والقانون
جامعة الزعيم الأزهري
السودان
فاكس : 344510 / 00249185
محمول : 0912258770
منزل : 601762 / 00249183
ثبت المراجع
1. تطور نظام القضاء في السودان – احمد حسين المفتي .
2. التنظيم القضائي في السودان في عهد الحكم الثنائي وما بعد الاستقلال-محمد عبد الجواد.
3. تاريخ القضاء – محمد زكي يوسف .
4. النظام القضائي الإسلامي – احمد محمد مليحي .
5. أصول المرافعات الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية – أنور العمروس .
6. تاريخ النظام القضائي في السودان – محمد خليفة حامد .
7. القضاء في دولة المهدية – علي محمد علي .
8. النظام القضائي المصري الحديث – لطيفة محمد سالم .
9. الأصول القضائية في المرافعات الشرعية – علي مراغة .
10.المرافعات الشرعية – معوض محمد مصطفي سرحان .
11.تعليقات علي القضاء السوداني – محمد عبد الخالق عمر .(18/26)
12.قانون الإجراءات المدنية السودان - محمد الشيخ عمر .
13.القضاء في الإسلام بوجه عام – عطية مصطفي مشرفة .
---
[1] مختار الصحاح ، الرازي ص 54 ، المصباح المنير ، للرافعي ج ، ص 669 .
[2] القضاء في الاسلام ، د. عطية مشرفة ، ص 80 قضاء الاحوال الشخصية ، انور العمروس / ص 46 .
[3] رد المختار علي الدر المختار لابن عابدين /ج 4 / ص 411 .
[4] هنالك فترة ثالثة بدأت منذ 1983م حيث تم فيها توحيد القضاء واستمرت الي يومنا ، وهذه الفترة سنتكلم عنها لاحقاً .
[5] ترتيب من تولوا منصب قاضي القضاة من السودانيين كالآتي :-
1. الشيخ احمد الطاهر 1947-1951م 5. الشيخ محجوب عثمان اسحق 1960-1963م
2. الشيخ حسن المدثر 1951-1957م 6. الشيخ اسماعيل المفتي 1963- 1964م
3. الشيخ حمد ابو القاسم 1958-1959م 7. الشيخ حسن اليمني 1964- 1965م
4. الشيخ أبشر احمد حميدة 1959-1960م 8. الشيخ سراج الدين محمد الأمين 1965-
[6] صدر تعديل لاحق تشكيل المحاكم ، حيث قسمت المحكمة الجزئية الي محكمة القاضي الجزئي من الدرجة الاولي والثانية ، وقاضي المديرية سمي قاضي المحكمة العامة ، أما المحكمة العليا فلم يحدث فيها تعديل ، ولذلك سنتكلم عن هذه الاختصاصات حسب التعديلات المذكورة .
---
What are the most popular cars? Find out at Yahoo! Autos(18/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية
في الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة:
أ.د. ماجد أبو رخية
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين وبعد:-
فهذا بحث ((القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية في الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة)) قمت بإعداده للمشاركة في ندوة "القضاء الشرعي في العصر الحالي الواقع والطموح" التي تنظمها كليه الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الشارقة ما بين 11-13/4/2006م.
ولما كانت الأحكام الشرعية المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية في كل من الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة مقننة فقد رأيت أن يكون بحثي متضمناً مقدمة في تقنين الأحكام الشرعية بشكل عام بينت فيها وجهة نظر القائلين بجوازه والقائلين بمنعه وقد اخترت قول القائلين بجواز التقنين لما فيه من مصالح لا تخفى فيما يتعلق بالجانب العملي التطبيقي لأحكام الشرعية.
ومن ثم كان حديثي عن القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية في الأردن حيث بينت الأدوار التي مر بها منذ العمل بقانون حقوق العائلة العثماني حتى يومنا هذا إضافة إلى بيان ان القضاء الشرعي هو من اختصاص المحاكم الشرعية في الأردن دون غيرها من المحاكم.
وفي نهاية المطاف كان الحديث عن القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية في دولة الإمارات العربية المتحدة وبينت ما آل إليه الأمر هو صدور قانون الأحوال الشخصية الإماراتي رقم 28 سنة 2005م.
أسأل الله التوفيق والسداد
المقدمة
في
((تقنين الأحكام الشرعية بشكل عام))
معنى التقنين:(19/1)
التقنين بشكل عام هو ((عبارة عن جمع القواعد الخاصة بفرع من فروع القانون بعد تبويبها وترتيبها، وإزالة ما قد يكون بينها من تناقص وما فيها من غموض في مدونة واحدة، ثم إصدارها في شكل قانون تفرضه الدولة عن طريق الهيئة التي تملك سلطة التشريع فيها بصرف النظر عما إذا كان مصدر هذه القواعد التشريع أو العرف أو العادة أو القضاء أو غير ذلك من مصادر القانون)).
أما تقنين الأحكام الشرعية فإنه يعني صياغة الحكم الشرعي في عبارة موجزة واحدة وإلزام القاضي بالقضاء وفقاً لهذا الحكم(1).
مسألة التقنين قديمة حديثة:
إن مسألة تقنين الأحكام الشرعية مسألة قديمة حديثة بدأ التفكير فيها مبكراً، وقد كان الاختلاف في الأقضية الصادرة عن القضاة في الدولة العباسية سبباً داعياً للتفكير في التقنين حيث اقترح ابن المقفع على الخليفة المنصور طريقة لتوحيد الأقضية في الموضوع الواحد بدلاً من تعدد الأقضية فيه(2).
لكن هذه المسألة –مسألة تقنين الأحكام الشرعية- بقيت فكرة تراود الداعين لها حتى ظهرت مجلة الأحكام العدلية كأول قانون مدني في الدولة العثمانية عام 1293هـ، يستمد أحكامه من الفقه الإسلامي.
وقد كان صدور هذه المجلة حدثاً بارزاً في تاريخ الفقه الإسلامي وحركة التقنين والذي يلاحظ ان المجلة لم تتناول في تقنينها للأحكام الشرعية أحكام الفقه الإسلامي عامة بل استبعد منها ما يتعلق بالعبادات لأن المقصود من وضع المجلة خدمة القضاء والقضاة الجدد، وتذليل صعوبة المراجعة الفقهية عليهم في ما لا نص عليه في القوانين الاستثنائية ولا سيما قانون التجارة.
واستبعد منها ما يتعلق بالأحوال الشخصية من الزواج إلى الميراث ((لأن فيها كثيراً من اعتبارات الحل والحرمة إلى جانب الحقوق القضائية...)).
__________
(1) تقنين الفقه الإسلامي– عبد البر- محمد زكي ص 21.
(2) المدخل الفقهي العام، الزرقا- مصطفى أحمد- ص 1/235.(19/2)
كما استبعدت منها أحكام العقوبات ((لأنها تركت لقانون الجزاء الذي كان صادراً في سنة 1274هـ))(1).
تقنين الأحكام الشرعية بين المؤيدين والمعارضين:
على الرغم من ظهور مجلة الأحكام العدلية بصياغتها القانونية وما مثلته من نقلة نوعية في مجال تقنين الأحكام الشرعية إلا أن مسألة التقنين وصياغة الأحكام الشرعية على شكل مواد قانونية كما هو الحال في القوانين الوضعية قد ظلت تتراوح بين مؤيد لهذا العمل وبين معارض له.
لقد وجدت مسألة تقنين الأحكام الشرعية أنصاراً لها ومؤيدين ترجمت أقوال بعضهم إلى واقع عملي ملموس بإخراج كتب مقننة ومصاغة صياغة قانونية، ومن هؤلاء:
الشيخ محمد قدري باشا الذي أصدر في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة النعمان، وكتاب مرشد الحيران إلى معرفة حقوق الإنسان في المعاملات الشرعية، وكذلك كتاب قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف.
كما قام القاضي أحمد عبد الله القاري المتوفى سنة 1359هـ بتأليف كتاب تم نشره عام 1981م بعنوان "مجلة الأحكام الشرعية" وهو مشروع قام بصياغته وفقاً لمذهب الإمام أحمد بن حنبل على غرار مجلة الأحكام العدلية في الفقه الحنفي(2).
وأصدر الشيخ محمد زكي عبد البر كتابه "أحكام المعاملات المالية في المذهب الحنبلي" ومن ثم أصدر المحامي محمد محمد بن عامر كتابه "ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية".
__________
(1) المدخل الفقهي العام 1/240.
(2) تقنين الفقه الإسلامي –د. محمد زكي عبد البر ص61.(19/3)
ومن أبرز العلماء المعاصرين المؤيدين لتقنين الأحكام الشرعية الشيخ محمد أبو زهرة، الشيخ مصطفى الزرقا، الشيخ حسنين مخلوف، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ، الشيخ أبو الأعلى المودودي(1) وغيرهم.
والذين قالوا بجواز التقنين وتأييده وهم أكثر الفقهاء المعاصرين ذكروا أن من مزاياه وإيجابياته ما يلي:
أولاً: سهولة التعرف على الأحكام بعد جمعها وتدوينها، وفي هذا فائدة كبيرة لذوي الاختصاص من المشتغلين في سلك القضاء والمحاماة، ولغيرهم من عامة الناس؛ لأن البحث عن الحكم واستنباطه من بطون الكتب ليس بالأمر الهين، عداك عن الوقت الذي يستغرق في التوصل إليه خاصة في وقت قل فيه –إن لم ينعدم- وجود قضاة مجتهدين.
ثانياً: إن تقنين الأحكام الشرعية يعد عاملاً من عوامل توحيد القضاء في المسألة الواحدة في البلد الواحد. فالآراء الفقهية متعددة في المسألة الواحدة والمذاهب في بيان الحكم متغايرة بل إن الأقوال في المذهب الواحد في المسألة الواحدة تكون متغايرة أحياناً ومن شأن التقنين إن يوحد القضاء.
__________
(1) انظر فتاوى هؤلاء حول التقنين في كتاب ((حركة التقنين الوضعي والتنظيم القضائي في الدولة العثمانية)) السويركي- شحاده- رسالة ماجستير ص10.(19/4)
ولعل هذا السبب هو الذي جعل ابن المقفع يطلب من أبي جعفر المنصور أن يجمع الناس على قضاء واحد بقوله: ((ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال... فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يجمع به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً...)).
ولعل هذا السبب أيضاً هو الذي جعل الخليفة المنصور يطلب من الإمام مالك أن يضع كتاباً جامعاً يختار أحكامه من أدلة الشرع مع مراعاة التيسير بقوله ((يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتاباً وتجنب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم لتحمل الناس ان شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها ولا يقضوا بسواها..))(1).
ثالثاً: حماية القضاة:
القضاة بشر ليسوا معصومين ويخضعون كغيرهم لعوامل المؤثرات الشخصية والاجتماعية والضغوطات الخارجية من أرباب المال والسلطان لكي يسير الحكم في قضية ما في اتجاه معين.
وتقنين الأحكام الشرعية وعدم ترك أمر القضاء لاختيار القضاة وإرادتهم يخلصهم من هذه المؤثرات، ويرفع عنهم الحرج، ولا يدع مجالاً للتدخل في السلطة القضائية.
__________
(1) تقنين الفقه الإسلامي ص52.(19/5)
رابعاً: إن تقنين الأحكام الشرعية يسهل مهمة الدولة في الإشراف على تطبيق أحكام الشريعة واكتشاف أي محاولة من محاولات التلاعب بتطبيق هذه الأحكام(1).
إن مسألة تقنين الأحكام الشرعية وصياغتها صياغة قانونية وإن وجدت أنصاراً لها ومؤيدين كما ذكرت إلا أنها وجدت معارضين لها ورافضين وقد قام الشيخ بكر بن عبد الله بو زيد بكتابة بحث بعنوان "التقنين والإلزام" ضمنه كتاب فقه النوازل الذي صال فيه وجال بذكر أقوال المؤيدين للتقنين والمانعين له مرجحاً المنع بقوله:
((إن هذه النازلة بهذا الشكل مولود غريب ليس من أحشاء الأمة الإسلامية، غريب في لغتها غريب في سيرها وأصالة منهجها، غريب في دينها ومعتقدها، فهو أجنبي عنها، ومجلوب إليها، فغريب جداً أن تحتضنه الأمة الإسلامية مجرد فكرة الله أعلم بدوافعها، وأنه يتعين على أهل الإسلام أن يحذروا من الانهزام، ومعلوم أن من كان على الحق فهو أمة قوية لا تهزم وإن كان وحده))(2).
وما ذهب إليه الشيخ بكر أبو زيد هو ما ذهبت إليه هيئة كبار العلماء في السعودية بغالبية أعضائها بقرارها الثامن الذي نشر في مجلة البحوث الإسلامية في العدد 31 لسنة 1411هـ حيث جاء في البند الثالث من القرار ما يلي:
نظرت الهيئة في الموضوع فرأت أن دواعي الإصلاح قائمة، وانه لابد من إيجاد حل للمشكلة وإصلاح لما تخشى عواقبه، غير أن الهيئة بأكثريتها ترى أنه لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح، لإلزام القضاة الحكم به، لأنه ليس طريقاً للإصلاح ولا يحل المشكلة، ولا يقضي على الخلاف في الأحكام، أو على ظنون بعض الناس في القضاة مادام هناك محكوم عليه؛ لأن اتهام القاضي في حكمه لم يسلم منه احد حتى خير الخلق صلى الله عليه وسلم فقد قال له بعض الناس ((اعدل فإنك لم تعدل)) ((إنها لقسمة ما أريد به وجه الله)).
__________
(1) حركة التقنين الوضعي والتنظيم القضائي ص12.
(2) فقه النوازل- أبو زيد- بكر بن عبد الله ص99.(19/6)
ومع ذلك فإن التدوين المراد يفضي إلى مالا تحمد عقباه.
والذين يتخوفون من عملية تقنين الأحكام الشرعية ويرفضونها يعللون تخوفهم ورفضهم بما يلي:-
أولاً: الجمود:
فالحياة متطورة والأنظمة متطورة كذلك والمتغيرات كثيرة وعليه فإن تقنين الأحكام الشرعية يؤدي إلى جمودها وعدم تفاعلها مع المتغيرات والمستجدات في عالم الواقع الأمر الذي يشعر بعدم قدرة الأحكام الشرعية على إيجاد الحلول للقضايا والمسائل التي يفرزها الواقع الذي نعيش.
ثانياً: الإلزام برأي واحد:
تعد الأحكام بعد تقنينها ملزمة للقاضي في إصدار أحكامه، ولما كان التقنين معتمداً على اختيار رأي واحد من الآراء الفقهية فإن هذا في حد ذاته يعد تضييقاً لواسع.
وقد نقل عن عمر بن عبد العزيز قوله: "ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان في سعة"(1).
ثالثاً: تعطيل الاجتهاد:
إن القول بجواز التقنين فيه تعطيل للاجتهاد؛ لأن القاضي مع وجود الأحكام المقننة لا يملك إلا أن يتعامل مع النص القانوني وهذا يؤدي إلى قتل روح الإبداع وتعطيل الاجتهاد في المسائل المطروحة على بساط البحث.
رابعاً: إن التقنين يخلو من التعريف بالألفاظ التي ترد فيه مثل ألفاظ الغلط والتدليس والغرر وترك هذا الأمر للفقه والقضاء مع خطورة النتائج التي تترتب على الاختلاط في تعريفها(2).
هذا وقد ذكر الدكتور محمد زكي عبد البر مثل هذه العيوب وبين أنها عيوب موهومة(3).
وفي مجال الرد على من يتخوفون من تقنين الأحكام الشرعية يقول شيخنا الأستاذ مصطفى الزرقا –رحمه الله- :
__________
(1) المدخل الفقهي العام 1/270.
(2) حركة التقنين الوضعي والتنظيم القضائي ص7، تقنين الفقه الإسلامي ص28.
(3) تقنين الفقه الإسلامي، ص25،28.(19/7)
((وإلى الفريق الثاني المتخوف من التحديث وعرض التراث بالأسلوب الجديد كما تتطلبه حاجة العصر أقول:
انظروا في هذا النموذج الذي أعرضه اليوم عليكم في هذا الكتاب عن الفعل الضار هل تجدون فيه سوى مزيد من تسليط الضوء الكشاف على كنز من التراث حجبته العتمة وغشاه الغبار المتراكم، فبرز بهذه التهوية والإنارة كما يبرز حاجب الشمس مؤذناً بنهار ساطع حين يظهر قرصها ويرتفع؟!
لا تتخوفوا من تقنين فقه الشريعة، فإن هذا التقنين هو الذي ينفخ فيه الروح ويبعثه من مرقده، ويجعله قريباً من أيدي رجال العصر وأفهامهم، وهذا أول شرط لحسن التقدير))(1).
القضاء الشرعي في الأردن
في العصر الحاضر
أولاً: جهاز القضاء الشرعي(2):
يتم اختيار القضاة الشرعيون في الأردن عن طريق مجلس القضاء الشرعي الذي يتكون من خمسة أعضاء حسب ما ورد في المادة 14 من قانون تشكيل المحاكم الشرعية:
رئيس محكمة الاستئناف الشرعية.
مدير الشرعية.
أقدم قاضيين في محكمة الاستئناف الشرعية.
مفتش المحاكم الشرعية.
ويتمتع المجلس القضائي إضافة إلى قيامه بتعيين القضاة بصلاحيات أخرى منها:
النظر في طلبات الاستقالة المقدمة من القضاة.
إحالة القضاة الذين أكملوا مدة التقاعد على التقاعد.
النظر في ترشيح القضاة ونقلهم وندبهم من محكمة إلى أخرى.
النظر في الدعاوى التأديبية، والتحقيق مع القضاة وإصدار الحكم عليهم وفقاً للمنصوص في قانون تشكيل المحاكم.
ويرأس القضاء الشرعي في الأردن قاضي القضاة الذي يعادل منصبه منصب وزير العدل ويكون ارتباطه برئيس الوزراء مباشرة ومن أبرز صلاحياته ما يلي:
تولي الإشراف على جميع المحاكم الشرعية والقضاء في الأردن.
دعوة المجلس القضائي للانعقاد.
رفع قرارات المجلس القضائي لاستصدار الإرادة الملكية بشأنها.
__________
(1) الفعل الضار والضمان فيه ص10.
(2) أبو البصل (عبد الناصر) شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي ص36-38.(19/8)
منح إجازة المحاماة الشرعية للمحامين الشرعيين وتسجيلهم في سجل المحامين.
رفع طلبات الاستقالة المقدمة من القضاة إلى المجلس القضائي للبت فيها.
ثانياً: أقسام المحاكم في الأردن(1):
يوجد في الأردن ثلاثة أنواع من المحاكم حسب نص المادة 99 من الدستور:
المحاكم النظامية.
المحاكم الدينية.
المحاكم الخاصة.
والمحاكم الدينية تشمل المحاكم الشرعية الإسلامية، والمحاكم الخاصة بغير المسلمين (مجالس الطوائف الدينية).
وتنقسم المحاكم الشرعية الإسلامية من حيث درجات التقاضي إلى قسمين:
المحاكم الشرعية الابتدائية.
محاكم الاستئناف الشرعية.
أما المحاكم الشرعية الابتدائية فتقوم بالنظر في مسائل الأحوال الشخصية والوقف والديات وما يتعلق بها، وهذه المحاكم تتكون من قاض منفرد، وقد يكون في المحكمة أكثر من قاض، لكن كل واحد ينظر في القضايا المحالة إليه بشكل إنفرادي مستقل.
أما محاكم الاستئناف فلا يوجد في الأردن غير محكمتين أحدهما في العاصمة عمان والأخرى في مدينة إربد.
ومهمة محكمة الاستئناف النظر في القضايا التي ترفع إليه من المحاكم الشرعية الابتدائية.
وتتكون محكمة الاستئناف من رئيس وعدد من القضاة، وكل قضية من القضايا المحالة إليها ينظر فيها من خلال ثلاثة قضاة رئيس وعضوين وتصدر قراراتها بالأكثرية بحسب ما نصت عليه المادة 21 من قانون تشكيل المحاكم.
فإن حصل وأن صدر من محكمة الاستئناف أحكام يخالف بعضها بعضاً أو كان من رأيها العدول عن إتباع مبدأ تقرر في أحكام سابقة جاز لها أن تصدر قرارها في تلك القضية بما تراه صواباً. وفي هذه الحالة تنعقد المحكمة من خمسة أعضاء، ويكمل قاضي القضاة هذه المحكمة عندئذ بطريق الانتداب وهذا ما نصت عليه المادة (150) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم 31 لسنة 1959م.
ثالثاً: القوانين والأنظمة التي يخضع لها نظام القضاء الشرعي في الأردن:
__________
(1) المصدر السابق ص 183.(19/9)
يخضع القضاء الشرعي في الأردن لمجموعة من الأنظمة والقوانين التي يرجع إليها في اتخاذ القرارات وتحديد المهام والواجبات والفصل في المنازعات ومنا ما يلي:
قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم 36 لسنة 1959م وتعديلاته.
قانون تشكيل المحاكم الشرعية رقم 19 لسنة 1972م وتعديلاته.
قانون المحامين الشرعيين وتعديلاته.
قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم 61 لسنة 1976م وتعديلاته.
نظام رسوم المحاكم الشرعية لسنة 1983م.
نظام محكمة الاستئناف الشرعية لسنة 1951م.
نظام صلاحيات قاضي القضاة.
تطور القضاء الشرعي
في مجال الأحوال الشخصية في الأردن في العصر الحاضر
تم تشكيل أول حكومة في شرق الأردن عام 1921م، وبقي الأردن إمارة تسمى إمارة شرق الأردن يرأسها الأمير عبد الله بن الحسين لغاية سنة 1946م حيث أصبحت الإمارة مملكة مستقلة يطلق عليها اسم المملكة الأردنية الهاشمية وكان الأمير عبد الله بن الحسين أول ملوكها.
ولما كان الأردن تابعاً للدولة العثمانية فقد بقيت قوانين الدولة العثمانية مطبقة فيه إلى أن صدرت قوانين معدلة، وقد أكد هذا المبدأ الدستور الأردني سنة 1946م حيث نصت المادة (271) على أن القوانين المعمول بها هي القوانين العثمانية المنشورة في أول تشرين الثاني سنة 1914م أو قبل ذلك.
وقد بقي العمل بما ورد في مجلة الأحكام العدلية(1) إلى أن أصدر قرار مجلس النواب الأردني عام 1962م بإلغائها، لكن هذا القرار تم إيقافه في مجلس الأعيان الأردني، ثم صدر قرار 1964م بتوجيه من جلالة الملك حسين لتشكيل لجنة لوضع قانون مدني مأخوذ من الشريعة الإسلامية يتفق مع عقيدة الأمة وأعرافها وتقاليدها ، وفي عام 1976م صدر القانون المدني الأردني وبدأ العمل به وتطبيقه عام 1977م بعد نشره في الجريدة الرسمية.
وخلال فترة إعداد القانون المدني بقي العمل مستمراً بمجلة الأحكام العدلية.
__________
(1) المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني ص 13.(19/10)
أما فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية فقد كان العمل في الأردن بموجب قانون حقوق العائلة العثماني الذي أصدرته الدولة العثمانية عام 1917م والذي كانت الحاجة ماسة لصدوره؛ لأن مجلة الأحكام العدلية –كما ذكرنا من قبل- لم تتناول مسائل الأحوال الشخصية. وقد كان هذا القانون يمثل أول تقنين لأحكام الأحوال الشخصية مستمد من الفقه الإسلامي. كما أنه لم يتوقف عند المذهب الحنفي –مذهب الدولة الرسمي- بل تعداه وأخذ أحكام بعض المسائل من المذاهب الأخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر:
أخذ بعدم وقوع طلاق المكره وهو رأي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة خلاف للحنفية.
أخذ بمذهب المالكية في حق زوجة المفقود في طلب التفريق بعد مرور أربع سنوات اعتباراً من تاريخ اليأس من الوقوف على خبر حياته أو موته خلافا لمذهب الحنفية الذي لا يحكم بموت المفقود إلا بعد انقراض أقرانه.
أخذ بالرأي القائل بعدم وقوع طلاق السكران الذي تعمد السكر خلافاً لما عليه جمهور الفقهاء ومذهب الحنفية.
ذهب القانون إلى عدم جواز تزويج الصغار أخذاً برأي ابن شبرمة خلافاً لما يقول به جمهور العلماء(1).
بقي العمل بقانون حقوق العائلة العثماني في إمارة شرق الأردن إلى أن صدر قانون حقوق العائلة –النكاح والافتراق- عام 1927م، الذي تم نشره في العدد 154 من الجريدة الرسمية.
وفي عام 1947م صدر قانون رقم 26 سمي بـ(قانون حقوق العائلة الأردني) واستمر العمل به إلى عام 1951م حيث صدر القانون رقم 92 ((قانون حقوق العائلة)) وقد تم نشره في العدد (1081) من الجريدة الرسمية(2).
__________
(1) المحمصاني –صبحي- الأوضاع التشريعية في الدول العربية ص183، السويركي حركة التقنين الوضعي والتنظيم القضائي في الدولة العثمانية ص 62.
(2) الأشقر –عمر- الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني ص16، المحمصاني –الأوضاع التشريعية ص183.(19/11)
بقي العمل جارياً في المحاكم الشرعية على ما جاء في قانون حقوق العائلة رقم 92 لسنة 1951، إلى أن صدر قانون الأحوال الشخصية الأردني المؤقت رقم 61 لسنة 1976م حيث بدأ تنفيذه بعد نشره في العدد (2668) من الجريدة الرسمية بتاريخ 1/12/1976م.
-ويلاحظ أنه لأول مرة يستعمل مصطلح الأحوال الشخصية في القوانين الأردنية-
وقد جرى أول تعديل لهذا القانون بالقانون رقم 25 الذي نشر في العدد (2701) من الجريدة الرسمية بتاريخ 1/6/1977م.
بقي العمل جارياً بموجب الأحوال الشخصية رقم 61 لسنة 1976م والقانون المعدل رقم 25 لسنة 1977 كقانونين مؤقتين إلى عام 1996م حيث تم إقرار القانون وما جرى عليه من تعديل من قبل السلطة التشريعية وأصبح قانوناً دائماً.
وقد نصت المادة (186) من قانون الأحوال الشخصية الأردنية على إلغاء قانون حقوق العائلة رقم 92 لسنة 1951م وأي تشريع أردني أو عثماني أو فلسطيني صدر قبله إلى المدى الذي يتعارض فيه مع أحكام هذا القانون.
وبتاريخ 31/12/2001 عدلت بعض مواد قانون الأحوال الشخصية بموجب القانون المؤقت رقم 82 لسنة 2001م وقد تم نشر التعديل في العدد (4524) من الجريدة الرسمية الأردنية.
ميزات قانون الأحوال الشخصية الأردني:
أولاً: تضمن قانون الأحوال الشخصية الأردني 187 مادة وقد اشتمل على تسعة عشرة فصلاً خصصت الفصول التسعة الأولى لبيان الخطبة وأحكامها، والزواج شروطه، وأركانه، وأنواعه، والآثار المترتبة عليه، وخصصت الفصول العاشر حتى السادس عشر لبيان أحكام الطلاق والخلع وأسباب التفريق بين الزوجين، ومن ثم بيان الآثار المترتبة على التفريق بين الزوجين، العدة والنسب والرضاعة والحضانة وأحكام النفقة.
وأما الفصل السابع عشر فقد تناولت مواده الأحكام المتعلقة بنفقة الأقارب في حين تضمن الفصل الثامن عشر أحكاماً عامة تتعلق بالعقود وبعض مسائل الميراث والوصية الواجبة.(19/12)
أما الفصل الأخير فقد نص في مواده على إلغاء القوانين السابقة على هذا القانون.
ثانياً: نص هذا القانون في المادة (183) منه على الرجوع إلى الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة في المسائل التي لم يرد له ذكر في القانون.
ثالثاً: الشأن في هذا القانون هو شأن قانون حقوق العائلة العثماني من حيث عدم حصر مسائله في مذهب الإمام أبي حنيفة وإنما أخذ بغيره من المذاهب الأربعة بل إنه تجاوز هذه المذاهب إلى الأخذ برأي غيرهم من علماء وفقهاء الأمة، كما انه قنّن بعض الأحكام عملاً بالسياسة الشرعية وترجيحاً للمصلحة العامة وإليك نماذج من هذه المسائل:
جاء في المادة السابعة ما يلي:
"يمنع إجراء العقد على امرأة لم تكمل ثماني عشرة سنة إذا كان خاطبها يكبرها بأكثر من عشرين عاماً إلا بعد أن يتحقق القاضي رضاها واختيارها وأن مصلحتها متوفرة في ذلك".
إن الفقهاء من قبل لم يمنعوا الزواج في مثل هذه الحالة، ولم يجعلوا عدم التفاوت في السن من شروط الزواج.
والمنع الذي ورد في المادة المذكورة إنما هو من السياسة الشرعية "ويبقى حكم الجواز الشرعي قائماً، فلو عقد الزواج مع وجود المانع القانوني لا الشرعي يكون العقد صحيحاً شرعاً وقانوناً.... وإنما يعاقب من أجراه أو كان طرفاً فيه بالعقوبة المنصوص عليها في القانون، وهذا أولى بالتطبيق من إبطال الأحكام الشرعية؛ لأن أحكام السياسة الشرعية لا تقوى على إبطال الأحكام الشرعية إنما تحدد وسائلها"(1).
جاء في المادة الخامسة المعدلة بالقانون المعدل رقم 82 لسنة 2001م على أن يشترط في أهلية الزواج ان يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يُتم كل من الخاطب والمخطوبة سن الثامنة عشرة من العمر ويجوز للقاضي أن يأذن بالزواج قبل هذا السن إن رأى مصلحة في ذلك.
__________
(1) عمرو –عبد الفتاح- السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية ص 58.(19/13)
وهذه المادة تدل بوضوح على أن القانون لم يأخذ برأي أصحاب المذاهب الأربعة القائل بجواز تزويج الصغير والصغيرة وإنما أخذ برأي ابن شبرمة المانع من تزويج الصغار.
نصت المادة (88) على أنه لا يقع طلاق السكران، والملاحظ أن القانون لم يوقع طلاق السكران دون أن يميز بين من كان سكره متعمداً ومن كان سكره بغير تعمد.
وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا على عدم وقوع طلاق السكران الذي لم يتعمد سكره. فإن الجمهور ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية في المشهور قد أوقعوا طلاق من سكر متعمداً زيادة في الزجر.
جاء في المادة (90) أن الطلاق المقترن بالعدد لفظاً أو إشارة والطلاق المكرر في مجلس واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة.
وما ذهب إليه القانون هو أخذ برأي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من متأخري الحنابلة والإمام الشوكاني، خلافاً لما ذهب إليه أصحاب المذاهب الأربعة من أن الطلاق بلفظ الثلاث يقع ثلاثاً.
بين القانون المعدل لقانون الأحوال الشخصية رقم 82 لسنة 2001 في المادة السادسة أحكام الخلع حيث جاء في الفقرة ج للزوجين بعد الدخول أو الخلوة الصحيحة أن يتراضيا فيما بينهما على الخلع، فإن لم يتراضيا عليه وأقامت الزوجة دعواها بطلب الخلع مبينة بإقرار صريح منها أنها تبغض الحياة مع زوجها، وأنه لا سبيل لاستمرار الحياة الزوجية بينهما، وتخشى ان لا تقيم حدود الله بسبب هذا البغض، وافتدت نفسها بالتنازل عن جميع حقوقها الزوجية أو خالقت زوجها وردت عليه الصداق الذي استلمته منه، حاولت المحكمة الصلح بين الزوجين فإن لم تستطع أرسلت حكمين لموالاة مساعي الصلح بينهما خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوماً فإن لم يتم الصلح حكمت المحكمة بتطليقها عليه بائناً.(19/14)
والقانون في عدم اشترط التراضي لإيقاع الخلع لم يأخذ برأي المتقدمين من فقهاء الأمة وعلمائها وأصحاب المذاهب منها القائلين باشتراط الرضا في الخلع وأن القاضي لا يملك إيقاعه جبراً، وإنما أخذ برأي بعض المحدثين ممن كتبوا في هذا الموضوع وهو قول الإمام الصنعاني وهو الذي يفهم من كلام ابن رشد(1).
جاء في المادة (19) من قانون الأحوال الشخصية الأردني ما يلي:
إذا اشترطت الزوجة على زوجها شرطاً تتحقق لها به مصلحة غير محظورة شرعاً، ولا يمس حق الغير، كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من بلدها، وان لا يتزوج عليها أو أن يجعل أمرها بيدها تطلق نفسها إذا شاءت، أو أن يسكنا في بلد معين كان الشرط صحيحاً وملزماً، فإذا لم يف به الزوج فسخ العقد بطلب الزوجة ولها مطالبته بسائر حقوقها الزوجية.
إذا اشترط الزوج على زوجته شرطاً تتحق له به مصلحة غير محظورة شرعاً ولا يمس حق الغير، كأن يشترط عليها أن لا تعمل خارج البيت، أو أن تسكن معه في البلد الذي يعمل هو فيه كان الشرط صحيحاً وملزماً، فإن لم تف به الزوجة فسخ النكاح بطلب من الزوج، وأعفي من مهرها المؤجل ومن نفقة عدتها.
يلاحظ أن القانون في هذه المادة لم يأخذ برأي جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية الذين لا يجيزون مثل هذه الشروط ويقولون ببطلانها، وإنما أخذ برأي الحنابلة الذين يعد مذهبهم أوسع المذاهب الفقهية فيما يتعلق بالشروط العقدية.
__________
(1) بحث (مدى سلطة القاضي في ايقاع الخلع إذا لم يوافق الزوج عليه) أبو رخية- ماجد، مجلة الحق العدد العاشر 2005.(19/15)
وبعد فإن ما ذكر من عدم اعتماد المشرع في قانون الأحوال الشخصية على مذهب واحد في الأخذ بأحكام مسائل الأحوال الشخصية، وإن كان قد نص على ان الحالات التي لم يرد فيها نص أو التي سكت عنها يرجع فيها إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة، يعد سمة بارزة من سمات القضاء الشرعي في هذا العصر، ويعد توجهاً سديداً من واضعي قانون الأحوال لأن في هذا من التيسير وتوخي المصلحة العامة والأخذ بالسياسة الشرعية ما لا يخفى على أحد من المهتمين بهذه المسائل.
ثم إن اللجوء إلى أكثر من مذهب أو الخروج على أقوال المذاهب إلى أقوال بعض العلماء المشهورين وإصدار الأحكام القضائية بناء عليها فيه مواكبة لتطور الحياة، وفيه توسعة على العباد وفيه إثبات لقدرة التشريع الإسلامي بمجموعة مذاهبه وآراء علمائه على استيعاب القضايا المستجدة وإصدار الأحكام المناسبة لها لأمر الذي يخرجه من دائرة الجمود على رأي فقهي أو مذهب معين.
القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية
في دولة الإمارات العربية المتحدة
تمهيد:
للقضاء الشرعي في دولة الإمارات العربية المتحدة مكانة خاصة ومجال رحب مقارنة مع ما عليه الحال في أكثر الدول العربية الإسلامية حيث ورد النص على تحكيم الشريعة الإسلامية في كثير من القوانين الاتحادية الصادرة في الدولة.
فقد جاء في قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة قانون اتحادي رقم 5 لسنة 1982م المعدل بالقانون الاتحادي رقم 5 لسنة 1987م في المادة الأولى ما يلي:(19/16)
((تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها وفحواها، ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص القطعي الدلالة فإذا لم يجد القاضي نصاً في القانون حكم بمقتضى الشريعة الإسلامية، على أن يراعي تخير انسب الحلول من مذهبي الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل، فإذا لم يجد فمن مذهبي الإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة حسبما تقتضيه المصلحة فإذا لم يجد حكم القاضي بمقتضى العرف على ان لا يكون متعارضاً مع النظام العام أو الآداب....)).
ونص في المادة (2) على ما يلي: ((يرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله إلى قواعد وأصول الفقه الإسلامي)).
كما نص في المادة الثالثة على ما يلي: ((يعتبر النظام العام الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية كالزواج والميراث والنسب، والأحكام المتعلقة بنظام الحكم، وحرية التجارة، وتداول الثروات، وقواعد الملكية الفردية، وغيرها، من القواعد والأسس التي يقوم عليه المجتمع وذلك بما لا يخالف الأحكام القطعية والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية)).
وأما بالنسبة لقانون العقوبات الإماراتي قانون اتحادي رقم 2 لسنة 1987م فد نص في مادته الأولى على ما يلي: ((تسري في شأن جرائم الحدود والقصاص والدية أحكام الشريعة الإسلامية وتحدد الجرائم والعقوبات التعزيرية ومن أحكام هذا القانون والقوانين العقابية الأخرى)).(19/17)
وقد كان كل ما يتعلق بقانون العقوبات يرفع إلى المحاكم النظامية للنظر فيه وإصدار الحكم المناسب، ثم أحيل أمر البت فيما يتعلق بجرائم الحدود والقصاص والديات إلى المحاكم الشرعية وذلك بتوجيه من سمو الشيخ زايد رحمه الله، وقد صدر بهذا التوجيه قانون اتحادي رقم 3 لسنة 1996م بشان اختصاص المحاكم الشرعية بنظر بعض الجرائم حيث نصت المادة الأولى منه على ما يلي: ((فيما عدا ما تختص به المحكمة الاتحادية العليا من الجرائم، تختص المحاكم الشرعية دون غيرها بالإضافة إلى اختصاصاتها الأخرى بنظر الجرائم الآتية، وكل ما يتصل بها أو يتفرع عنها أو يكون مقدمة لها 1- جرائم الحدود، 2- جرائم القصاص، 3- جرائم المخدرات وما في حكمها، 4- الجرائم التي يرتكبها الأحداث)).
كما نصت المادة الثانية من هذا القانون على ما يلي: ((تطبق على جميع الجرائم المنصوص عليها في المادة (1) من هذا القانون أحكام الشريعة الإسلامية حداً أو تعزيراً على ألا تقل العقوبة التعزيرية عن الحدود الدنيا المقررة قانوناً)). وبذلك اتسعت دائرة القضاء الشرعي.
وأما قانون الإجراءات المدنية الإماراتي قانون اتحادي رقم 11 لسنة 1992م فقد نص في المادة السادسة منه على ما يلي: ((إذا لم يجد القاضي نصاً في هذا القانون حكم بمقتضى الشريعة الإسلامية على أن يراعي تخير أنسب الحلول من مذهبي الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل فإن لم يجد فمن المذاهب الأخرى حسبما تقتضيه المصلحة)).
وكذا الحال بالنسبة لقانون الإجراءات الجزائية الإماراتي قانون اتحادي رقم 35 لسنة 1992م فقد نص في المادة الأولى منه على ما يلي: ((تطبق أحكام هذا القانون في شأن الإجراءات المتعلقة بالجرائم التعزيرية كما تطبق في شأن الإجراءات المتعلقة بجرائم الحدود والقصاص والدية فيما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية)).(19/18)
وإلى أن صدر قانون الأحوال الشخصية الإماراتي قانون اتحادي رقم 28 لسنة 2005م. كان القضاء الشرعي في دولة الإمارات يتعامل مع المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية على أنها من النظام العام، ويحكم فيها بموجب أحكام الشرعية الإسلامية حيث كان العمل في المحاكم الشرعية جارياً وفقاً للأحكام الواردة في مذهبي الإمام مالك والأمام احمد بن حنبل وفي حالة عدم وجود حكم للمسألة المطروحة في هذين المذهبين كان يصار إلى مذهب الإمام الشافعي ومن ثم إلى مذهب الإمام أبي حنيفة وبهذا ورد النص في معظم قوانين دولة الإمارات العربية –كما ذكرت من قبل-.
أقسام المحاكم في دولة الإمارات العربية المتحدة
ويلاحظ اتساع دائرة المحكمة الشرعية الابتدائية من خلال تعدد الدوائر التي تخضع لها.
كما يلاحظ أن القضايا المرفوعة من المحكمة الشرعية إلى محكمة الاستئناف ينظر فيها من خلال الدائرة الشرعية (الأحوال الشخصية) في هذه المحكمة.
ويلاحظ أيضاً ان القضايا المرفوعة إلى المحكمة الاتحادية من قبل الدائرة الشرعية في محكمة الاستئناف الاتحادي ينظر فيها من خلال الدائرة الشرعية في المحكمة الاتحادية.
صدور قانون الأحوال الشخصية الإماراتي:
مر قانون الأحوال الشخصية لدولة الإمارات العربية المتحدة بعدة مراحل في طور إعداده، فكانت أول نسخة لمشروع القانون في سنة 1978م، حيث أعدتها اللجنة العليا للتشريعات الإسلامية التي شكلت بموجب توجيهات صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان –رحمه الله واسكنه فسيح جناته- حيث صدر بناءً على هذه التوجيهات قرار من مجلس الوزراء رقم (50) لسنة 1978م بتشكيل لجنة عليا لمراجعة التشريعات وتقنينها، وكان من بين نتائج هذه اللجنة مشروع قانون الأحوال الشخصية.(19/19)
وظل الأمر على ما هو عليه إلى أن أعدت اللجنة الفنية المختصة بمجلس وزراء العدل العرب مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية، والذي اكتمل بناؤه في عام 1985م، غير أنه لم ير النور كما حدث للمشروع السابق الذي اعدته اللجنة العليا للتشريعات الإسلامية.
ثم بدأ الأمر يأخذ منحنى جديداً بتشكيل مجلس التعاون الخليجي، حيث انبثق منه مجلس وزراء العدل بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وكان من بين ما قام به هذا المجلس تشكيل لجنة فنية لمراجعة وإعداد مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية لدول مجلس التعاون، وفعلاً استكملت اللجنة إعداد ومراجعة مشروع القانون استناداً إلى مشروع القانون العربي الموحد وما صدر من تقنينات للأحوال الشخصية في دول مجلس التعاون وبعض الدول العربية، حيث صدر المشروع في صيغة قانون موحد لدول مجلس التعاون وسمي وثيقة مسقط للأحوال الشخصية واعتمد من المجلس الأعلى لحكام دول المجلس كقانون موحد لمدة خمس سنوات، ثم جددت قبل عام هذه المدة خمس سنوات أخرى بهدف إدخال ما يطرأ لدى المجلس من تعديلات في ضوء ما يستجد.
وفي عام 1997م شكلت في دولة الإمارات العربية المتحدة لجنة ضمت العديد من أهل العلم والمستشارين لإعادة مشروع قانون الأحوال الشخصية بدولة الإمارات العربية المتحدة، استناداً إلى وثيقة مسقط للأحوال الشخصية، وتم بالفعل إعداد مشروع القانون غير أنه لم ير النور كسابقة من المشاريع.
وبتاريخ 6 رمضان 1423 الموافق 11/11/2002م صدر قرار معالي وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف رقم (669) لسنة 2002م بتشكيل لجنة فنية لمراجعة مشروع قانون الأحوال الشخصية، وقد باشرت اللجنة أعمالها مستندة إلى:
وثيقة مسقط للأحوال الشخصية.
مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي أعدته اللجنة العليا لمراجعة التشريعات وتقنينها.
مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي أعدته اللجنة المشكلة عام 1997م.(19/20)
ما صدر من قوانين للأحوال الشخصية في الدول العربية.
التوجيهات العليا الصادرة بشأن إعداد مشروع قانون يجمع بين مذاهب الفقهاء الأربعة مع اختيار الأيسر والأصلح من هذه الأقوال.
هذا وقد انتهت اللجنة من وضع مشروع قانون للأحوال الشخصية وقامت في الوقت نفسه بوضع مذكرة إيضاحية للقانون لبيان وتوضيح مرجعية الأحكام الواردة فيه.
وقد تم اعتماد هذا المشروع من السلطات المختصة في دولة الإمارات، وصدر قانون الأحوال الشخصية الإماراتي بموجب قانون اتحادي رقم 28 لسنة 2005م بتاريخ 17/شوال/1416هـ 19/نوفمبر/2005م متضمناً 363 مادة على النحو التالي:
المواد من 1-16……تناولت المسائل المتعلقة بالإجراءات
المواد من17-97……تناولها الكتاب الأول ((الزواج والمسائل المتعلقة به))
المواد من 98-158…تناولها الكتاب الثاني ((فرق الزواج))
المواد من 159-273…تناولها من الكتاب الثالث ((الأهلية والولاية))
المواد من 274-361…تناولها الكتاب الرابع ((الزكاة والمواريث))
المادتان 362-363…أحكام ختامية
وقد نصت المادة 362 على ما يلي:-
((يلغى كل حكم يخالف أو يتعارض مع أحكام هذا القانون)).
كما نص البند الثالث من المادة الثانية على ما يلي:-
((وإذا لم يوجد نص في القانون يحكم بمقتضى المشهور من مذهب مالك، ثم مذهب أحمد، ثم مذهب الشافعي ثم مذهب أب حنيفة)).
مزايا قانون الأحوال الإماراتي:
يعد هذا القانون من أكمل وأفضل قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية لأنه استفاد منها، وتدارك ما وجد فيها أو في بعضها من خلل أو نقص، وهو القانون الوحيد الذي جاء متضمناً لإجراءات التقاضي..
ومن الجديد الذي جاء به هذا القانون ولم تنص عليه قوانين الأحوال الشخصية الأخرى كما جاء في المذكرة الإيضاحية ما يلي:-
سريان القانون بأثر رجعي في بعض المسائل حيث ورد في المادة الأولى منه ما يلي: ((ويسري بأثر رجعي على شهادات الطلاق ودعاوى الطلاق التي لم يصدر بها حكم)).(19/21)
النص على إنشاء لجنة التوجيه الأسري وبيان المهام الموكلة إليها حيث ورد في البند الثالث من المادة 16 ما يلي: (( يصدر وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف اللائحة التنفيذية المنظمة لعمل لجنة التوجيه الأسري)).
جعل مال الأوقاف بعد الوفاة وقفاً باسم صاحبه برعاية إدارة الأوقاف جاء في المادة(360) ما يلي: ((تركة من لا وارث له تكون وقفاً خيرياً باسمه للفقراء والمساكين وطلبة العلم بنظارة الهيئة العامة للأوقاف)).
إخضاع ما يتعلق بأكثر المهر لقانون تحديد المهور حيث حدد هذا القانون معجل المهر بعشرين ألف درهم والمهر المؤجل بثلاثين ألف درهم(1).
هذا وقد ذكرت المذكرة الإيضاحية لقانون الأحوال الإماراتي (25) مسألة من المسائل التي أخذت منها بأحكام لم ترد في غيرها من قوانين الأحوال الشخصية الأخرى(2).
بعض المسائل التي اخذ بها القانون الإماراتي بغير أراء المذاهب الفقهية الأربعة:
أخذ قانون الأحوال الإماراتي بآراء بعض العلماء من غير أصحاب المذاهب في بعض المسائل الفقهية منها ما يلي:
الشروط في عقد الزواج:
وسع قانون الأحوال الشخصية الإماراتي دائرة الشروط في عقد الزواج حيث نص في البند الأول من المادة (20) على ما يلي:
((الأزواج عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)).
والمعروف أن فقهاء الحنفية والشافعية وجمهور المالكية قد وقفوا من الشروط في العقد موقف التضييق، لكن القانون أخذ بما ذهب إليه الحنابلة وهم أكثر الفقهاء توسعاً فيما يتعلق بالشروط، جاء في المذكرة الإيضاحية ما يلي:
__________
(1) قانون اتحادي رقم 21 لسنة 1997م.
(2) قانون الأحوال الشخصية والمذكرة الإيضاحية ص 124.(19/22)
((وقد ازدادت في هذا العصر حاجة الناس إلى المشارطة في عقد الزواج نتيجة اتساع مجال الحرية الفردية، ورغبة كل إنسان في حماية نفسه ومصالحه وتأمين حياته وفقاً لظروفه الخاصة.... وقد لوحظ في صياغة هذه المادة ما في مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي لله عنه من رحابة صدر بقبول المشارطات في عقد الزواج ضمن قواعد توائم بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، ولا تنافي نظام العقد ولا مقتضاه، ولم يجمع على تحريمها ولا على فسادها في المذاهب الفقهية الأخرى فأخذ عنها القانون أحكام الشروط تيسيراً للحياة الزوجية الهادئة)).
تحديد سن الزواج:
جاء في الفقرة الأولى من المادة (30) من القانون الإماراتي على ما يلي:-
((تكتمل أهلية الزواج بالعقل والبلوغ وسن البلوغ تمام الثامنة عشرة من العمر لمن يبلغ شرعاً قبل ذلك)).
وجاء في الفقرة الثانية من المادة نفسها:-
((لا يتزوج من بلغ ولم يكمل الثامنة عشرة من عمره إلا بإذن القاضي وبعد التحقق من المصلحة)).
وبهذا يكون القانون قد أخذ بمذهب ابن شبرمة الذي لا يجيز زواج الصغيرة والصغير، ولم يأخذ بما عليه جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب وغيرهم وهم الذين قالوا بجواز مثل هذا الزواج (أي زواج الصغيرة والصغير).
الطلاق المتكرر أو المقترن بالعدد:
نص القانون في المادة (103) على ما يلي:-
((لا يقع طلاق المتكرر أو المقترن بعدد لفظاً أو كتابة أو إشارة إلا طلقة واحدة)).
والقانون في هذه المسألة قد أخذ بما ذهب إليه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو مذهب طاووس وعطاء وابن عباس وغيرهم ولم يأخذ برأي أصحاب المذاهب الأربعة، جاء في المذكرة الإيضاحية ما يلي:-(19/23)
((والمذاهب الأربعة توقع الطلاق الثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ في مجلس واحدة ، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم ينقضان ذلك نقضاً قوياً ويقضيان بأن الثلاث لم تشرع إلا متفرقة، وأن جمعها باطل خلاف المشروع، وينافي حكمة الشارع في فتحه باب التروي والرجعة، وقد استقر القانون على أن الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع به إلا طلقة واحدة))(1).
الوصية الواجبة:
نص القانون على الأخذ بالوصية الواجبة وبيان بعض الاحكام والشروط المتعلقة بها في المادة (272).
والفقهاء الثلاثة والإمام أحمد في المشهور عنه لم يأخذوا بالوصية الواجبة ولم يقولوا بها. وقد بينت المذكرة الإيضاحية أن القول بالوصية الواجبة هو مذهب الإمام ابن حزم وهو قول بعض التابعين ورواية في مذهب الإمام أحمد.
لكن الذي يلاحظ على القانون انه جعل الوصية الواجبة لأولاد الابن وأولاد البنت وأرى أن واضعي القانون قد جانبهم الصواب فيما يتعلق بأولاد البنت لأن أولاد البنت من ذوي الأرحام فهم ليسوا عصبات وليسوا من أصحاب الفروض، ومعروف ان القول بالوصية الواجبة هو خلاف لما عليه جمهور الفقهاء وإن كان ثمة مبرر للأخذ بها فينبغي أن يكون بقدر دون توسع أو استطراد – والله أعلم-.
الخاتمة
من خلال كتابة البحث ومن خلال النظر في كل من قانون الأحوال الشخصية الأردني والأحوال الشخصية الإماراتي تبين ما يلي:
أن القضاء الشرعي في كل من الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة قد اعتمد مبدأ التقنين للأحكام المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية وهو ما أقره وأجازه أكثر العلماء المعاصرين.
أن القضاء الشرعي في هذا المجال لم يلتزم بأخذ الأحكام الشرعية من مذهب واحد بل إنه لم يلتزم أحياناً بما عليه أصحاب المذاهب الأربعة وإنما أخذ برأي غيرهم من فقهاء الأمة وعلمائها.
__________
(1) قانون الأحوال الإماراتي والمذكرة الإيضاحية ص 221.(19/24)
إن القضاء الشرعي اعتمد في بعض ما قنن من الأحكام على مبدأ السياسة الشرعية والمصالح والعرف وأخذ بالقول المشهور وهو أن حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف.
وأخيراً أقول:-
إن توجه القضاء الشرعي نحو الاستفادة من آراء علماء الأمة وفقهائها دون الوقوف على رأي معين والانغلاق في دائرته الضيقة وقيامه بصياغة كثير من الأحكام الشرعية على شكل مواد قانونية توجه سديد ((لأن ما يضيق عنه المذهب الواحد ونظرياته ففي مذهب آخر سَعَة منه وعلاج، ولم يوجد تشريع كثرت فيه الاجتهادات واتسعت الآراء كالتشريع الإسلامي))(1).
وإليك ما يقول شيخنا المرحوم –بإذن الله- مصطفى الزرقا بشأن التقنين
"لا تتخوفوا من تقنين فقه الشريعة، فإن هذا التقنين هو الذي ينفخ فيه الروح ويبعثه من مرقده، ويجعله قريباً من أيدي رجال العصر وأفهامهم، وهذا أول شرط لحسن التقدير"(2).
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) الزرقا- المدخل الفقهي 1/259.
(2) الزرقا- الفعل الضار والضمان فيه ص 11.(19/25)
… القضاء بالبصمة الوراثية في النسب
إعداد : د . بندر بن فهد السويلم - كلية الشريعة بالرياض
……… بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين ،، أما بعد :
فإن الله تعالى بعث رسوله الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وجعل رسالته عالمية ً صالحة لكل زمان ومكان ، وبها أكمل الله تعالى الدين وأتم بها النعمة ، قال الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) – سورة المائدة آية 3-
لقد جاءت الشريعة الإسلامية كاملة ، شاملة ، مع مقومات تكفل لها البقاء والصمود ، وتوفر في أحكامها علاجا لجميع القضايا والمشكلات ، في أي مكان وأي زمان ، على أسس سليمة متوازنة تراعي متطلبات الحياة وحاجات البشر ،ولهذا كانت مليئة بكل ما يغني المسلمين عن غيرها ويكفيهم عما سواها .
وقد أخبر المولى عز وجل أن أمورا يظهر استكشافها في أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغيرها ن وفي أنفس الناس من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، في أكل الإنسان وشربه وفي عينيه وفي أذنيه ، وانتقال أحوال الإنسان من نطفة إلى غير ذلك (1) .
قال الله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) – سورة فصلت 53 -
وفي هذا دلالة واضحة على أن الحقائق العلمية التي يكتشفها الإنسان ما هي إلا علامات وبينات على وحدانية الله عز وجل وقدرته العظيمة وأنه بكل شيء محيط .
__________
(1) 1 ) تفسير القرطبي 25/ 374-375 .(20/1)
إن ما توصل إليه العلم في العصر الحاضر مؤخرا من اكتشاف البصمة الوراثية لا يخرج عن كونه أمرا يزيد به الإيمان ويقوى إضافة إلى فوائد هذا الاكتشاف وأهميته البالغة .
ويعد اكتشاف البصمة الوراثية مكتسبا علميا جديراً بالاهتمام لدى العلماء والباحثين في التخصصات الفقهية والطبية على حد سواء .
وقد دفع هذا الحدث العلمي الجديد كلا من بل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا للاشتراك في الإعلان عنه ، ووصف الاكتشاف الجديد بأنه من أهم الاكتشافات العلمية في التاريخ ، ويقارن باختراع العجلة واكتشاف الطاقة الذرية ، ووصف الدكتور ما يكل ديكستير مدير مؤسسة ويلكوم البريطانية ، التي تساهم في تمويل الجزء البريطاني من المشروع في مؤتمر صحفي عقد في لندن النتئج بأنها إنجاز مهم في تاريخ البشرية يضاهي هبوط الإنسان على سطح القمر ، وقال : إن المعلومات الجديدة سوف تغير من طريقة تفكيرنا بأنفسنا وستؤدي في النهاية إلى التوصل إلى أساليب جديدة لتشخيص وعلاج الأمراض .
ومن المنتظر أن يسهم فك الشفرة الوراثية " الجينيوم البشري " ومعرفة التتابع الجيني في علاج العديد من الأمراض مثل السرطان والسكر وأمراض القلب والزهامير – مرض يصيب المخ ..الخ (1) .
المراد بالبصمة الوراثية :
اعتمد المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة تعريف البصمة الوراثية بأنها : البُنية الجينية ، ( نسبة إلى الجينات ، أي المورثات ) ، التي تدل على هوية كل إنسان بعينة .
__________
(1) الموقع العربي الالكتروني لهيئة الإذاعة البريطانية ، خريطة الجينات هل هي بداية النهاية د . حسام عرفة ؛ الموقع الالكتروني لإسلام أون لاين .(20/2)
وأفادت البحوث والدراسات العلمية أنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة ، لتسهيل مهمة الطب الشرعي . ويمكن أخذها من أي خلية بشرية " (1) .
وعرفتها ندوة الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني ، رؤية إسلامية بأنها : " البُنية الجينية التفصيلية التي تدل على هوية كل فرد بعينه " (2) .
ويطلق على البصمة الوراثية : الحمض النووي (DNA) وهو اختصار للاسم العلمي (Deoxyribo Nucleic Acid ) وقد سمي بالحامض النووي ، نظرا لوجوده وتركزه بشكل أساسي في أنوية خلايا جميع الكائنات الحية ، بدءاً من البكتريا والفطريات والنباتات والحيوانات إلى الإنسان ، ويوجد الحامض النووي (DNA) في كل خلية من خلايا جسم الإنسان في موضعين : الأول في نواة الخلية والتي تحتوي بشكل أساسي على الحامض النووي المشتق من كل من الأب والأم – وبذلك فإن خلايا كريات الدم الحمراء للإنسان لا تحتوي عليه لأنه لا يوجد بها نواة – أما الموضع الثاني فهو جسيمات الطاقة الموجودة خارج النواة - في السيتوبلازم - (3) .
واكتشاف الجين أدى إلى اكتشاف الجينيوم ، وهو أصغر من الجين
تحليل البصمة الوراثية :
__________
(1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي : القرار السابع بشأن البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ، الدورة السادسة عشرة 21-26/10م1422هـ – مكة المكرمة ، ص343 .
(2) الموقع الالكتروني للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية islamset.com
(3) 1 ) البصمة الوراثية كدليل فني أمام المحاكم – مجلة البحوث الأمنية المجلد 10 العدد 19 ص21-22 .(20/3)
يظهر تحليل البصمة الوراثية في صورة شريط من سلسلتين ، كل سلسلة بها تدريج على شكل خطوط عرضية مسلسلة وفقا لتسلسل القواعد الأمينية على حمض الدنا ،وهي خاصة لكل إنسان تميزه عن الآخر في الترتيب ، وفي المسافة ما بين الخطوط العرضية . تمثل إحدى السلسلتين الصفات الوراثية من الأب ( صاحب الماء ) وتمثل السلسلة الأخرى الصفات الوراثية من الأم ( صاحبة البويضة ) .
ووسيلة هذا التحليل أجهزة ذات تقنية عالية ، يسهل على المتدرب عليها قراءتها وحفظها، وتخزينها في الكومبيوتر إلى حين الحاجة إليها(1).
خصائص البصمة الوراثية :
إن أهم الخصائص التي تتميز بها البصمة الوراثية ما يلي :
لكل شخص بصمة وراثية لا تتفق ولا تتشابه مع البصمة الوراثية لأي شخص آخر ، ويستحيل وجود هذا التوافق أوالتشابه إلا في حالة واحدة هي حالة التوأم المتماثلة الواحدة ، وهذا يعطي اطمئنانا كبيرا عن دقة النتيجة التي يتوصل إليها بالبصمة الوراثية .
نتيجة البصمة الوراثية شبه قطعية أو قطعية ، على خلاف في تحديد نسبة صحتها في تحديد هوية صاحبها ، ما بين 98%-100% .
يختص الحمض النووي بقوة كبيرة على التحمل ضد التعفن والتغيرات والتلوثات البيئية ، ومقاومة عوامل التحلل ، وهذا يعني أنه يحتفظ بخصائصه لمدة طويلة جدا ، وفي أقسى الظروف البيئية ( حرارة – رطوبة – جفاف ) .
تتمتع البصمة الوراثية وجزيء الحمض النووي بمقدرته على الاستنساخ ، وبذلك يعمل على نقل صفات النوع من جيل إلى جيل .
يتكون (DNA) الخاص بكل إنسان من أبيه وأمه بنسبة 50% من كل منهما . (2)
__________
(1) البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية ص 36 .
(2) البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية ص48 ، والتحليل البيولوجي للجينات البشرية وحجيته في الإثبات ، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب ، المجلد 19 العدد 37 ، ص 73-74 .
والبصمة الوراثية مبنية على أساس أن العوامل الوراثية في الطفل الابن لابد أن يكون أصلها مأخوذ من الأب والأم ، فالطفل يأخذ دوما نصف العوامل الوراثية من الأب ( عن طريق الحيوان المنوي ) والنصف الآخر من الأم عن (طريق البويضة ) ينظر : البصمة الوراثية كدليل فني أمام المحاكم ص31 .(20/4)
البصمة الوراثية في جميع خلايا الجسم للشخص الواحد متطابقة ، فالبصمة الوراثية من خلايا كريات الدم البيضاء – مثلا – متطابقة مع بصمة وراثية من أي خلية في أي جزء آخر من الجسم ، مثل الشعر والجلد والعظام ،ومتطابقة أيضا مع بصمة من أي سائل من سوائل الجسم مثل اللعاب والسائل المنوي والمخاط .
يمكن تخزين الحامض النووي – بعد استخلاصه من العينات – ولمدة طويلة جدا (1) .
الوسائل الشرعية لإثبات النسب
أولاً : الفراش
يعد ثبوت النسب بالفراش أهم الطرق الشرعية لإثبات النسب ، وقد أجمعت الأمة على أن النسب يثبت بالفراش (2), وهو فراش الزوجية ، ومعناه أن تكون هناك علاقة زوجية شرعية قائمة بين رجل وامرأة ينتج عنها حمل وولادة فيكون المولود ابنا لهذا الرجل بالفراش ، والفراش قد ثبت بالزواج .
والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" الولد للفراش وللعاهر الحجر " متفق عليه (3) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "فهذا الحكم النبوي أصل في ثبوت النسب بالفراش " (4) .
وقال الشوكاني : " مهما كان الفراش ثابتا شرعا كان الولد لاحقا قطعا "(5) .
__________
(1) البصمة الوراثية كدليل فني أمام المحاكم 26 ، 47 .
(2) زاد المعاد لابن القيم 5/410 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الحدود باب للعاهر الحجر ص1174 رقم 6818 . وصحيح مسلم كتاب الرضاع باب الولد للفراش وتوقي الشبهات ص620 رقم 3615 .
(4) زاد المعاد 5/410 .
(5) السيل الجرار2/402 .(20/5)
وذكر الفقهاء أن الوطء بالشبهة : هو الوطء في نكاح فاسد أو شراء فاسد أو وطء امرأة ظنها امرأته أو أمته ،أو وطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره ، وأشباه هذا ، فهذا يتعلق به التحريم كتعلقه بالوطء المباح إجماعا . قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطيء امرأة بنكاح فاسد أو شراء فاسد ن أنها تحرم على أبيه وابنه وأجداده وولد ولده . وهذا مذهب مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي . ولأنه وطء يَلحقُ به النسب ، فأثبت التحريم ، كالوطء المباح . ولا يصير به الرجل محرما لمن حُرمت عليه ، ولا يباح له به النظر إليها (1) .
قال الإمام أحمد : كل من درات عنه الحد ألحقتَ به الولد (2) .
ثانيا : الاستلحاق
وهو أن يقر من يمكن كون الولد منه بأن مجهول النسب هذا ابنه ولا ينازعه في ذلك غيره .
ويشترط للإقرار بالنسب ما يلي :
أن يكون المقر به مجهول النسب ، فإن كان معروف النسب لم يصح ، لأنه يقطع نسبه الثابتَ من غيره ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام " متفق عليه (3) .
أن لا ينازعه فيه منازع ، لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا ، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر .
أن يمكن صدقه ، بأن يكون المقرُّبه يحتمل أن يولد لمثله .
أن يكون ممن لا قول له ، كالصغير والمجنون ، أو يصدقَ المقرَ إن كان ذا قول ، وهو المكلف (4).
أن يكون الإقرار باختياره ، فإن كان مكرها لم يعتد بهذا الإقرار.
ثالثا : الشهادة
وهي أن يشهد الشهود المعتبرين شرعا بأنه ابنه .
__________
(1) المغني 9 / 528 .
(2) المغني 11/171 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب الفرائض باب من ادعى على غير أبيه ص1167 رقم 6766 . وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان باب بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم ص47 رقم 219-220 .
(4) المغني 7/ 317 .(20/6)
قال ابن القيم رحمه الله : " الثالث : البينة ، بأن يشهد شاهدان أنه ابنه ، أو أنه ولد على فراشه من زوجته ، أو أمته ، وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم ، وثبت نسبه ، ولا يعرف في ذلك نزاع" (1).
وقد سبق أن ذكر أن جهات ثبوت النسب أربعة : الفراش ، والاستلحاق ، والبينة ، والقافة ، وأن الثلاثة الأول متفق عليها(2) .
رابعا : القافة
القافة : قوم يعرفون الأنساب بالشبه ، ولا يختص ذلك بقبيلة معينة ، بل من عرفت منه معرفة ذلك وتكررت منه الإصابة فهو قائف (3) .
وقد اختلف العلماء في ثبوت النسب بها .
فالحنفية لا يرون مشروعية العمل بالقيافة
والمالكية يضيقون العمل بالقيافة ، ويرونها حجة شرعية في ولد الأمة يطؤها رجلان في طهر واحد فتأتي بولد يشبه أن يكون منهما ، دون ولد الحرة على المشهور .
أما الشافعية والحنابلة فقد ذهبوا إلى القول بها ورأوا مشروعية العمل بها(4) . لأن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي لما رأى أسامة وزيد وقال : عن هذه القدام بعضها من بعض . وهو عليه الصلاة والسلام لا يسر بباطل ، ولا يرده أن نسب أسامة ثابت بالفراش ن لن الناس كانوا يقدحون في نسبه بسبب اختلاف اللون بينه وبين أبيه (5).
قال ابن القيم :" والقياس وأصول الشريعة تشهد للقافة ، لأن القول بها حكم يستند إلى درك أمور خفية وظاهرة توجب للنفس سكونا ، كنقد الناقد ،وتقويم المقوم " (6) .
وقال ابن حزم : ( ما حكم القافة بظن ، بل بعلم صحيح يتعلمه من طلبه وعني به وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بالظن ) (7) .
__________
(1) زاد المعاد 5 / 417 .
(2) زاد المعاد 5 /410 .
(3) المغني 8/375 ، وشرح منتهى الإرادات 2/487 .
(4) بدائع الصنائع 6/244 ، والفروق 4/99 ، ومغني المحتاج 4/488 ، والمغني 8/371 ، وشرح منتهى الإرادات 2/487 .
(5) الطرق الحكمية 216-217 .
(6) الطرق الحكمية 219 .
(7) المحلى 10 / 150 .(20/7)
قال القرافي : " اعلم أن مالكا والشافعي رضي الله عنهما قالا بالقافة في لحوق الأنساب ، وخصصه مالك في مشهور مذهبه بالإماء دون الحرائر . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجوز الاعتماد على القافة أصلا في صورة من الصور لأنه حرز وتخمين ، فلا يجوز كالاعتماد على النجوم وعلى علم الرمل والفال والزجر وغير ذلك من أنواع الحرز والتخمين ، فإن الاستدلال بالخلق على الأنساب من باب الحرز البعيد ، ومع طول الأيام يولد للشخص من لا يشبههما في خلق ولا في خلق " (1)(2) .
خامسا : الشهادة بالسماع
أو الشهادة بالتسامع أو بالشهرة أو بالاشتهار ، أي الشهادة بسماع ما شاع واشتهر بين الناس .
قال ابن عرفة في تعريفها : " لقب لما يصرح الشاهد فيه باستناد شهادته لسماع من غير معين "
فقوله من غير معين : يخرج شهادة البت والنقل (3) .
وعند محمد بن الحسن أن التسامع : هو أن يشتهر ذلك ويستفيض وتتواتر به الأخبار عنده من غير تواطؤ ، لأن الثابت بالتواتر والمحسوس بحس البصر والسمع سواء فكانت الشهادة بالتسامع شهادة عن معاينة (4) .
وتعتبر هذه الشهادة إذا توافرت فيها شروط ، وتكون في الأمور التي مبناها على الاشتهار ، كالموت ، والنكاح ، والنسب . لأنه يتعذر العلم غالبا بدون الاستفاضة ، ولأنه يختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس ، فلو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامع لأدى إلى الحرج ، وتعطيل الأحكام المترتبة عليها ، كالإرث وحرمة الزواج (5).
ولأن مبنى النسب على الاشتهار فقامت الشهرة فيه مقام السماع بنفسه(6).
__________
(1) الفروق 3/125-126 .
(2) الفروق 3/ 125- 126 .
(3) شرح حدود ابن عرفة للرصاع 2/593-594 .
(4) بدائع الصنائع 6/266 .
(5) شرح الزرقاني 7/198 ، ومغني المحتاج 4/448 ، والمغني 14/141، والقه الإسلامي وأدلته 7/696 ، والموسوعة الفقهية الكويتية 4/45 .
(6) بدائع الصنائع 6/267 .(20/8)
جاء في المغني:"وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة.قال ابن المنذر: أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه " (1) .
سادسا : القرعة
واختلف أهل العلم في ثبوت النسب بها على قولين :
القول الأول : يقرع بين المتنازعين في نسب مجهول النسب ، ويلحق نسب المتنازع فيه بالقرعة ، وهو أحد الوجهين عند الشافعية ، ورواية عن الإمام أحمد ، وابن حزم .
وقال ابن القيم : إنها أقوى من كثير من الطرق التي حكم بها من أبطلها ... وأقوى من الحكم بكون الزوجة فراشا بمجرد العقد وإن علم قطعا عدم اجتماعهما ، وأقوى من الحكم بالنكول المجرد .
وأوضح ابن القيم الرواية عن أحمد ، فقال : قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد : القرعة جائزة
وقال الأثرم إن أبا عبدالله ذكر القرعة واحتج بها ن وبينها . وقال : إن قوما يقولون : القرعة قمار ، ثم قال أبوعبدالله : هؤلاء قوم جهلوا .فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنن .
القول الثاني : أن القرعة لا يثبت بها النسب . وهو قول الحنفية والمالكية والوجه الثاني عند الشافعية ، ورواية عن أحمد (2) .
__________
(1) ابن قدامة 14/141 .
(2) المهذب 1/445 ، والإنصاف 6/ 458 ، الطرق الحكمية 216، 289 . والمحلى 10/150، والموسوعة الفقهية 33/148(20/9)
وأساس الخلاف ما ورد عن زيد بن أرقم قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من اليمن فقال : إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد ، وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد ، فقال لاثنين : طيبا بالولد لهذا فَغَلَيَا ، ثم قال لاثنين : طيبا بالولد لهذا فغليا ، فقال : أنت شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية ، فأقرع بينهم ، فجعله لمن قرع . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه (1)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي من حديث عبدالله بن الخليل . مسند الإمام أحمد 4/374 ، وسنن أبي داود برقم 2269 ص 329 ، وسنن النسائي برقم 3519 ص490 . والسنن الكبرى للبيهقي 10/ 267 . قال ابن القيم في زاد المعاد 5/429-430 ( وفي إسناده يحيى بن عبدالله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه ، لكن رواه أبوداود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير ، عن زيد بن أرقم ) فذكره ثم قال : (وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلا. قال النسائي : وهذا أصوب . وهذا أعجب ، فإن إسقاط زيد بن أرقم من هذا الحديث لا يجعله مرسلا ، فإن عبد خير أدرك عليا وسمع منه ، وعلي صاحب القصة ، فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في السند فمن أين جاء الإرسال ، إلا أن يقال : عبد خير لم يشاهد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ،وعلي إذ ذاك كان باليمن ،وإنما شاهد ضحكه صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم أو غيره من الصحابة ،وعبد خير لم يذكر من شاهد ضحكه ، فصار الحديث به مرسلا . فيقال : إذاً : قد صح السند عن عبد خير ، عن زيد بن أرقم ، متصلا ، فمن رجح الاتصال ، لكونه زيادة من الثقة فظاهر ،ومن رجح رواية الأحفظ والأضبط وكان الترجيح من جانبه ولم يكن علي قد أخبره بالقصة ، فغايتها أن تكون مرسلة ،وقد يقوى الحديث بروايته من طريق أخرى متصلا ) وقال في الطرق الحكمية 234 : ( وأما حديث زيد بن أرقم ... فهو حديث مضطرب جدا ) وقال ابن حزم 9/ 345 : ( والعجب كله في مخالفتهم حكم علي بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ثابت صحيح وأخذهم في المسالة نفسها برواية فاسدة لا تصح نسبت إلى عمر رضي الله عنه من إلحاقه الولد بأبوين والقرآن والسنة والمعقول يبطل ذلك ) وقال في 10/150 : ( وهذا خبر مستقيم السند نقلته كلهم ثقات والحجة به قائمة ولا يصح خلافه البتة )وينظر : سنن أبي داود برقم2270 ص 329 ، وسنن النسائي برقم 3518 ص490 .(20/10)
.
قال ابن حزم في بيان الاستدلال به لقوله ( لا يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن ينكر ما يرى أو يسمع مالايجوز البتة إلا أن يكون سرورا به ،وهو عليه الصلاة والسلام لا يسر إلا بالحق ولا يجوز أن يسمع باطلا فيقره )(1) .
القضاء بالبصمة الوراثية في إثبات النسب
اتضح مما سبق أن الشريعة الإسلامية أوضحت الطرق التي يعول عليها في إثبات النسب ، ولكنها لم تمنع أن تكتشف طرق أخرى لإثبات النسب إذا لم تتعارض مع الأسس الشرعية والنصوص التي وردت في هذا الشأن ، ومن هنا أعمل الفقهاء المعاصرون جهدهم لبيان مدى إمكان اعتبار البصمة الوراثية وسيلة حديثة من وسائل الإثبات التي يستند إليها القاضي في حكمه لتحديد النسب .
وقد حفلت المؤتمرات والندوات التي عقدت لهذا الغرض بكثير من النقاشات العلمية ، التي يمكن حصرها في الخلاف الفقهي على النحو الآتي (2) :
القول الأول :
قال جمهور الفقهاء المعاصرين : إن البصمة الوراثية وسيلة شرعية جديدة لإثبات النسب ، وتأتي في منزلة متأخرة من الوسائل التي اتفق عليها الفقهاء ، فلا تقدم على الفراش ، ولا على الإقرار ، ولا على الشهادة ، وإذا توافر للقاضي شيء من هذه الوسائل المتفق عليها فلا يعتد بها القاضي لأنها دون هذه الوسائل التي اتفق عليها الفقهاء .
وقد أخذ المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بهذا القول
فجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة :
…" خامسا : يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :
أ-حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .
__________
(1) المحلى 10 / 150 .
(2) التحليل البيلوجي للجينات البشرية وحجيته في الإثبات 81، 83 ، والبصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الشرعية 372 .(20/11)
ب- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أوالحروب وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحرب والمفقودين " (1) .
القول الثاني :
ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى أن البصمة الوراثية تحقق ما حققه ما عرفه الفقه الإسلامي من طرق لإثبات النسب وزيادة مما يجعلها دليلا مقدما على الأدلة التقليدية (2) وأن البصمة الوراثية تكون بينة مستقلة يجب العمل بمقتضاها إذا توافرت الشروط اللازمة ، وأنها لا تقاس على القيافة ، فهي باب آخر ، وأن عامة المعاصرين يرون صحة الاعتماد عليها في حالات التنازع وحالات الاشتباه وحالات الاختلاط سواء أكان في الأطفال أم في الجثث أو الحروب والكوارث " (3) .
واستُدل للقولين بما يلي :
الدليل الأول :
أن البصمة الوراثية تختص بدقة عالية جدا يستحيل أو يندر جدا أن تكون نتيجة فحص البصمة الوراثية خطأً ، وبناء على ذلك فهي تحتل مرتبة قوية في الإثبات إذا ما قورنت ببعض الوسائل الأخرى التي تحتمل الخطأ ، وأقرها كثير من الفقهاء ، مثل العمل بالقيافة ، إذ هي مبنية على تخمين وظن .
جاء في توصيات الحلقة النقاشية لندوة مدى حجية استخدام البصمة الوراثية لإثبات البنوة التي توصل إليها المجتمعون :
__________
(1) القرار السابع بشأن البصمة الوراثية الدورة السادسة عشرة ص 344 ، واستخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب : نظرة شرعية 19 ، 26.
(2) التحليل البيلوجي للجينات البشرية ص 83 ، البصمة الوراثية وحجيتها ص 66 .
(3) البصمة الوراثية وحجيتها ص66 .(20/12)
" 1- أن كل إنسان يتفرد بنمط خاص في التركيب الوراثي ضمن كل خلية من خلايا جسده ، لا يشاركه فيه أي شخص في العالم ويطلق على هذا النمط اسم " البصمة الوراثية " ، البصمة الوراثية من الناحية العملية وسيلة لا تكاد تخطيء في التحقق من الوالديه البيولوجيه والتحقق من الشخصية ، ولا سيما في مجال الطب الشرعي ، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية ، وتمثل تطورا عصريا عظيما في مجال القيافة التي يذهب إليها جمهور الفقهاء في إثبات النسب المتنازع فيه ، ولذلك ترى الندوة أن يؤخذ بها في كل ما يؤخذ فيه بالقيافة من باب أولى " (1) .
الدليل الثاني :
أن الشريعة الإسلامية جاءت بمنهج يحقق مصالح الناس ويكفل لهم حياة مستقرة ، وقد تضمنت الشريعة التشوف للحاق النسب ، لأن النسب أقوى الدعائم التي تقوم عليها الأسرة ، ويرتبط به أفرادها ، قال تعالى : ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ) - الفرقان 54 - . ولاعتناء الشريعة بحفظ النسب وتشوفها لإثباته تكرر فيها الأمر بحفظه عن تطرق الشك إليه والتحذير من ذرائع التهاون به .
ولمراعاة هذا المقصد اتفق الفقهاء على اعتبار الأحوال النادرة في إلحاق النسب ، لتشوف الشارع لإثباته (2).
قال ابن قدامة : " لحوق النسب مبني على التغليب ، وهو يثبت بمجرد الإمكان وإن لم يثبت الوطء ، ولا ينتفي لإمكان النفي " (3).
وقال ابن القيم :" وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب . والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها . ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب " (4) .
__________
(1) ندوة مدى حجية استخدام البصمة الوراثية لإثبات البنوة ، موقع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية islamset.com .
(2) الفروق 3/203 ، 4/104 ، الموسوعة الفقهية الكويتية 12/48 .
(3) المغني 11 / 155 .
(4) الطرق الحكمية 222 .(20/13)
وإذا كان الشرع يتطلع إلى إثبات النسب ، والبصمة الوراثية قرينة دقيقة على إثبات النسب، ونسبة الخطأ فيها منتفية أو شبه منتفيه ، فإنها حجة قوية معتبرة على إثبات النسب الذي أقر الفقهاء ثبوته بالشهاة أو بالتسامع والشهرة أو القيافة عند بعضهم ، وهذه كلها مبنية على غلبة الظن وحصول الخطأ فيها أمر محتمل ، وهو أعلى من احتمال ورود الخطأ في البصمة الوراثية .
الدليل الثالث :
أن البينة هي كل ما يبين الحق ويظهره ، ولا تختص بشهادة الشهود ، وقد تصدى ابن القيم لهذا فقال : " وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره . ومن خصها بالشاهدين أوالأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه . ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان ، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان ، مفردة ومجموعة . وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " البينة على المدعي " المراد به : أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له ، والشاهدان من البينة . ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي ، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد . والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة : متقاربة في المعنى . وقد روى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبدالله قال : أردت السفر إلى خيبر ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : غني أريد الخروج إلى خيبر . فقال : " إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا ، فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته " (1) فهذا اعتماد في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة ، وإقامة لها مقام الشاهد .
فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال ، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا لها بالاعتبار ن مرتبا عليها الأحكام " (2) .
الدليل الرابع :
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه ، كتاب القضاء ، باب في الوكالة ص521 رقم الحديث 3632 .
(2) الطرق الحكمية لابن القيم ص 12 .(20/14)
أن الشريعة الإسلامية أجازت العمل بغلبة الظن في الأحكام ومنها الإثبات ، لأن الحاجة وتحقيق مصالح الناس وإقامة الحق والعدل والحفاظ على الأنفس والأموال والأعراض يقتضي قبول الأدلة الظنية في الإثبات مع مراعاة الاحتياط والحذر وتوفر الشروط التي ترجح جانب الصدق في الدليل الظني على جانب الكذب (1) .
قال العز بن عبدالسلام :" وإنما عمل بالظنون في موارد الشرع ومصادره لأن كذب الظنون نادر وصدقها غالب ، فلو ترك العمل بها خوفا من وقوع نادر كذبها لتعطلت مصالح كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة نادرة ، وذلك على خلاف حكمة الإله الذي شرع الشرائع لأجلها " (2) .
وقال الشاطبي :" فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غَلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة ، فهي المصلحة المفهومة عرفا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفا . ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه . ويقال : إنه مفسدة " (3) .
__________
(1) طرق الإثبات الشرعية ص27 ، ووسائل الإثبات 742 .
(2) قواعد الأحكام 2/ 50 .
(3) الموافقات 2/26 .(20/15)
وقال القرافي : " تنبيه : اعلم أن قول العلماء لا تجوز الشهاد إلا بالعلم ليس على ظاهره ، فإن ظاهره يقتضي أنه لا يجوز أن يؤدي إلا ماهو قاطع به ، وليس كذلك . بل يجوز له الأداء بما عنده من الظن الضعيف في كثير من الصور . بل المراد بذلك أن يكون أصل المدرك علما فقط ، فلو شهد بقبض الدين جاز أن يكون الذي عليه الدين قد دفعه فتجوز الشهادة عليه بالاستصحاب الذي لا يفيد إلا الظن الضعيف ، وكذلك الثمن في البيع مع احتمال دفعه ويشهد بالملك الموروث لوارثه مع جواز بيعه بعد أن ورثه ، ويشهد بالإجارة ولزوم الأجرة مع جواز الإقالة بعد ذلك ، بناء على الاستصحاب . والحاصل في هذه الصور كلها إنما هو الظن الضعيف ، ولا يكاد يوجد ما يبقى فيه العلم إلا القليل من الصور ، من ذلك النسب والولاء فإنه لا يقبل النقل فيبقى العلم على حاله ، ومن ذلك الشهادة بالإقرار فإنه إخبار عن وقوع النطق في الزمن الماضي وذلك لا يرتفع ، ومن ذلك الوقف إذا حكم به حاكم ، أما إذا لم يحكم به حاكم فإن الشهادة إنما يحصل فيها الظن فقط إذا شهد بان هذه الدار وقف ، لاحتمال أن يكون حاكم حنفي حكم بنقضه . فتأمل هذه المواطن فأكثرها إنما فيها الظن فقط وإنما العلم في أصل المدرك لا في دوامه ’ فقد تخلص الفرق بين ماهو مدرك للتحمل وماليس بمدرك مع مسبباته ، والتنبيه على عدده وأنه لا يقتصر فيه على الحواس فقط كما يعتقده كثير من الفقهاء . بل لو أفادت القرائن القطع جازت الشهادة بها في جميع الصور " (1) .
الدليل الخامس :
__________
(1) الفروق 4 / 56-57 .(20/16)
إن الأمة قبلت في إثبات الهوية الشخصية وسائل مستحدثة أثبتت جدواها علميا وعمليا ، مثل : الأخذ بنتيجة فحص بصمات الأصابع والتوقيع الخطي ، وكذلك الصورة الشخصية تكتفي بها الجهات الرسمية لإثبات الشخصية ، ولم ينكر أحد من أهل العلم والفقه شيئا من هذه الوسائل ، بل استخدموها في أنفسهم كما استخدمها غيرهم ، وهذا نوع من الإجماع العملي له أثره في إثبات الأحكام ، وكذلك هذه الوسيلة الجديدة – أي البصمة الوراثية – ينبغي أن تستخدم في إثبات الأبوة بالنسبة لمجهولي النسب(1) .
الترجيح :
يلحظ أن أصحاب القول الأول يرون أن هناك ما يدل على جواز الاعتماد عليها ، لكن الوسائل الشرعية التي اتفق عليها أهل العلم مقدمة على البصمة الوراثية .
أما القول الثاني فيتفق أصحابه مع أصحاب القول الأول بأن تلك الأدلة واضحة في جواز الاعتماد على البصمة الوراثية في إثبات النسب ، غير أن قوتها ودقتها في بيان المطلوب وتحديد النسب تسوغ تقديمها على الوسائل التي تقوم على الظن .
وبعد التأمل في أقوال العلماء والأدلة التي استدلوا بها على جواز العمل بالبصمة الوراثية في إثبات النسب ، وانحصار الخلاف في تقديم البصمة الوراثية على غيرها من الوسائل الشرعية لإثبات النسب يظهر لي والله أعلم أن الأرجح هو القول بأن البصمة الوراثية تقدم على الوسائل السابقة في إثبات النسب أما نفي النسب فموضوعه والكلام فيه آخر :
لأنها محل اتفاق أما القيافة والقرعة والشهادة بالسماع فمحل خلاف ، أما بالنسبة للفراش والإقرار والشهادة فتقدم عليها لأمرين :
__________
(1) أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي ص 268 ، والتحليل البيلوجي للجينات البشرية وحجيته في الإثبات ص 82 .(20/17)
الأول : أن تقديم البصمة الوراثية لا يفضي إلى خرق الإجماع بثبوت النسب بالفراش أو الإقرار أو الشهادة . غاية ما في الأمر أننا توصلنا إلى وسيلة جديدة يثبت بها النسب ، والأخذ بهذا القول لا يقتضي إلغاء الوسائل الشرعية الأخرى .
الثاني : أن نتائج البصمة الوراثية تترواح ما بين 98%-100% إذا أردنا قياسها بلغة الأرقام ، ولم أقف على قول لأحد بأن نسبة الدقة تقل عن 98% ، وهذا يعني أنها تتميز بنتيجة عالية جدا من الدقة ، وأن الشهادة والإقرار والفراش أدلة ظنية ، لكن الشرع اعتبرها تحوطا للأنساب التي يتشوف إلى ثبوتها .
قال ابن القيم : " الشارع يتشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن ، ولا يحكم بانقطاع النسب إلا حيث تعذر إثباته ، ولهذا ثبت بالفراش وبالدعوة وبالأسباب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان " (1) .
ضوابط العمل بالبصمة الوراثية لإثبات النسب
اتفق العلماء القائلون بالعمل بالبصمة الوراثية على ضرورة وضع التنظيمات والضوابط المناسبة التي تكفل دقة نتائج البصمة ويحقق نتائجها الإيجابية ، ودرءا عن استغلالها في غير ما شرعت فيه ، وحرصوا على أن تكون هذه الضوابط أيضا متفقة مع مقاصد الدين الحنيف وتتماشى مع أصول الشريعة وقواعدها ، وأدى ذلك إلى كثرة الاجتهاد في تنظيم هذه الضوابط ، ولهذا سأكتفي بذكر أهم هذه الضوابط ، بعد تقسيمها إلى قسمين :
الأول : الضوابط الشرعية
الثاني : الضوابط الفنية .
القسم الأول : الضوابط الشرعية
أن يكون استعمالها عند الحاجة إليها في إثبات نسب غير مستقر وألا تستعمل في التأكد من نسب ثابت ، رعاية لجلب المصلحة منها ودرءا للمفاسد . وبناء على هذا لا يجوز استخدامها في التأكد من صحة الأنساب المستقرة الثابتة ، لما في ذلك من هز الثقة بين الزوجين وإثارة الشكوك بينهما وتقوية الريبة بين أفراد المجتمع.
__________
(1) الطرق الحكمية 227 .(20/18)
أن تنفك النتيجة عما يكذبها ، فإذا كانت نتيجتها مستحيلة عقلا أو حسا فهذا يوضح ما اعتراها من خطأ يسوغ رفضها وعدم الاعتماد عليها ، كأن تثبت البصمة الوراثية نسب ابن ستين لابن عشرين .
أن تكون أوامر التحاليل البيلوجية للبصمة الوراثية بناء على أوامر من القضاء أو من له سلطة نيابية عن ولي الأمر ، حتى يقفل باب التلاعب واتباع الأهواء عند أصحاب النفوس الضعيفة . وأي نتيجة للبصمة الوراثية تتم دون صدور هذا الأمر تعتبر باطلة (1).
وقد أوصى المجمع الفقهي الإسلامي في هذا الشأن بما يأتي :
أ- ان تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية غلا بطلب من القضاء ، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة ، وأن تمنع القطاع الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص ، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى .
ب- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة ، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون والأطباء ،والإداريون ، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية واعتماد نتائجها .
ج - أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش ، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية ، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع ، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات ، وأن يكون عدد المورثات ( الجينات المستعملة للفحص ) بالقدر الذي يراه المختصون ضروريا دفعا للشك (2) .
يجب أن يتوافر بالعاملين في فحص البصمة الوراثية وتقرير نتيجتها الخبرة التامة ، وممن يشهد لهم بالتميز العلمي والمقدرة والضبط التقني حتى لا يؤدي الأمر إلى تدهور النتائج العلمية ، ومن ثم ضياع الحقوق من أصحابها (3).
__________
(1) استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب : نظرة شرعية 32 ، والبصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية 49- 50 .
(2) القرار السابع - الدورة السادسة عشرة ، ص 345 .
(3) البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية 51 .(20/19)
يجب أن تتوافر شروط الشاهد في كل من يعمل على فحص البصمة الوراثية ويقرر نتيجتها أو يعتمدها ، كالعقل ، والبلوغ ، والعدالة ، والأمانة ، والضبط ، وانتفاء التهمة ، فإن اختل شرط أو أكثر لم تعتمد النتيجة ، وهذا بناء على أن ما يتوصل إليه العاملون في مجالها يدلون بشهادتهم ، ولهذا فالأولى أن تعتمد شهادتهم من اثنين ولا يكتفى بواحد ترجيحا لهذا القول واحتياطا للصواب فيها .
أن تكون النتيجة متيقنة ، فإن دارت بين الشك واليقين فهي باطلة . ولا يعتمد عليها .
القسم الثاني : الضوابط الفنية
أن تكون المختبرات الخاصة بفحص البصمة الوراثية تابعة للدولة وتحت رقابتها .
أن تكون المعامل والمختبرات مزودة بأفضل ما توصلت إليه التقنية الحديثة وبأعلى مواصفات التصنيع لها .
توثيق كافة خطوات تحليل البصمة الوراثية ، بدءاً من نقل العينات اللازمة إلى ظهور النتائج ، حرصا على سلامة تلك العينات ، وضمانا لصحة نتائجها ، مع حفظ هذه الوثائق للرجوع إليها عند الحاجة (1) .
أن يجري التحليل في مختبرين معترف بهما على الأقل ، وأن تؤخذ الاحتياطات اللازمة لضمان عدم معرفة أحد المختبرين اللذين يقومان بإجراء الاختبار بنتيجة المختبر الآخر(2).
أن تحاط الإجراءات الفنية والنتائج التحليلية بسرية تامة ، سواء في المختبرات الفنية ، أوفي الدوائر ذات العلاقة . لما يحيط بهذا الموضوع من خصوصية تامة .
الخلاصة :
__________
(1) البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية ص50 ، والبصمة الوراثية وحجيتها ص65 ، وتوصيات الحلقة النقاشية لندوة مدى حجية استخدام البصمة الوراثية لإثبات البنوة .
(2) توصيات الحلقة النقاشية لندوة مدى حجية استخدام البصمة الوراثية لإثبات البنوة .(20/20)
لاشك أن كمال دين الإسلام وشموله كافة مجالات الحياة مكن المسلمين من عرض المستجدات على دينهم ، فوجدوا فيه حل مشكلاتهم ، وعلاج ما يعتريهم من نوازل جديدة ، وكلما تأملوا بإمعان دين الله وسارعوا بالرجوع إليه والوقوف عند نصوصه وتأمل مقاصده وتتبع مراميه ظهر لهم ما يبرهن عظمة هذا الدين وحفظ الله له وتوفيقه سبحانه لعباده الذين حرصوا على التفقه في الدين .
وموضوع البصمة الوراثية كما سبقت الإشارة إليه في هذا البحث حيث ظهر مؤخرا اكتشافه بشكل مذهل ، استدعى أن ينظر في حكم البصمة الوراثية من حيث القضاء بها في مجالات عديدة ، ومنها مجال إثبات النسب ، فتطرق البحث إلى إمكانية اعتبار التحليل البيلوجي ( البصمةالوراثية ) دليلا جديدا يثبت به النسب ، وانتهى كلام أهل العلم إلى ضرورة الإفادة من البصمة الوراثية ، واتفقت كلمة الفقهاء وكلمة الأطباء المختصين في الاكتشاف الجديد جدير بالعناية والاهتمام ، وسار فقهاؤنا المعاصرون إلى وضع هذا الاكتشاف في موضعه المناسب ، مما يوحي بثراء علمي واسع تزخر به المجتمعات الإسلامية من علماء أجلاء كانت لهم جهود كبيرة ، بل إن لها السبق إلى ميدان التأسيس في هذا الجانب .
والواقع أن الأحكام الفقهية التي لها علاقة بالبصمة الوراثية كثيرة جدا مما حدا بالباحث أن يقصر الحديث في القضاء بها في النسب ، تمشيا مع محور مهم من محاور المؤتمر الذي يتطرق إلى المسائل المستجدة ومدى الاعتماد عليها في القضاء .
لقد أثبت العلم الحديث هذا الاكتشاف الهائل ، واستطاع المختصون في الفقه الإسلامي أن يجعلوا لهذا الاكتشاف حظه الوافر ، فجاءت كلمتهم متفقة على تسويغ الاستناد إلى البصمة الوراثية في إثبات النسب – موضوع البحث تحديدا – على خلاف في تفصيلات فرعية ، ولكن وفق ضوابط شرعية وضوابط فنية لتأمين مسار العمل بهذا التحليل من أن يأخذ منحنى آخر فيكون الضرر وتنتفي المصلحة .(20/21)
إن النسب الذي يتشوف الشرع إلى إثباته ، باعتباره مقصدا وضرورة يثبت في الإسلام بوسائل مخففة فيثبت بأدلة ضعيفة بل يثبت بمجرد الدعوى ( الاستلحاق ) وقول القافة ، ويختلف إثبات النسب عن إثبات بعض الأمور التي قصد الشارع فيها إلى تشديد الإثبات فيها بأقوى البينات وأكثرها عددا وأقوى الإقرارات مثل إثبات الزنا ، ومن هنا فإن التحليل البيلوجي – البصمة الوراثية – يجب أن يحتل مكانة مهمة في باب إثبات النسب مع بقية الوسائل التي ورد النص فيها .
…والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
…………………وكتبه / د . بندر بن فهد السويلم
……………………كلية الشريعة - الرياض
المراجع :
القرآن الكريم .
أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي ، د . محمد سليمان الأشقر ، دار النفائس – الأردن – ط1 عام 1426-2006م.
الاختيار لتعليل المختار لعبدالله بن محمود الموصلي الحنفي (ت683هـ ) دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ـ ط3 1395هـ تعليق الشيخ محمود أبو دقيقة .
استخدام البصمة الوراثية في إثبات النسب : نظرة شرعية ، د . الهادي الحسين الشبيلي – المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب المجلد 18 – العدد 35 – محرم 1424هـ .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبي بكر بنمسعود الكاساني ( ت587هـ) دار الكتاب العربي ، بيروت لبنان ط2 1402هـ 1982م .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (ت 595 هـ ) – تنفيذ مكتبة المعارف للنشر والتوزيع ، الرباط 1419هـ والمكتب الثقافي السعودي بالمغرب . طبع على نفقة فاعل خير .
البصمة الوراثية وأثرها على الأحكام الفقهية : دراسة فقهية مقارنة تأليف : خليفة علي الكعبي – دار النفائس ،الأردن
البصمة الوراثية وحجيتها د . عبدالرشيد محمد أمين قاسم ، مجلة العدل ـ العدد الثالث والعشرون – رجب 1425هـ تصدر عن وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية .(20/22)
البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية دراسية فقهية مقارنة – د. سعد الدين مسعد هلالي 0جامعة الكويت – مجلس النشر العلمي 1421-2001
البصمة الوراثية كدليل فني أمام المحاكم ، د. إبراهيم بن صادق الجندي ومقدم حسين بن حسن الحصيني ، مجلة البحوث الأمنية –العدد 19 المجلد 10 – شعبان 1422هـ ، تصدر عن مركز البحوث والدراسات بكلية الملك فهد الأمنية ، الرياض – المملكة العربية السعودية .
التحليل البيلوجي للجينات البشرية وحجيته ، د . محمد بن يحيى النجيمي ، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب - العدد37 المجلد 19 محرم 1425هـ، تصدرها جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ، الرياض ، المملكة العربية السعودية .
تفسير القرطبي (ت 671هـ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت 1967م .
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن عرفة الدسوقي (ت 1230هـ ) دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاه – توزيع مكتبة زهران – القاهرة .
زاد المعاد في هدي خير العباد لأبي عبدالله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (ت751هـ ) - مؤسسة الرسالة ببيروت ومكتبة المنار الإسلامية بالكويت ، ط6 – عام1404هـ 1984م ، حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرنؤوط وعبدالقادر الأرنؤوط .
سنن أبي داود (ت 275هـ) - دار السلام للنشر والتوزيع ، الرياض ، المملكة العربية السعودية – ط 2 – عام 1421هـ 2000م ، طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز .
سنن النسائي ( ت 303هـ) دار السلام للنشر والتوزيع ، الرياض ، المملكة العربية السعودية – ط 2 – عام 1421هـ 2000م ، طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز .(20/23)
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار لمحمد بن علي الشوكاني (ت1250هـ ) دار الكتب العلمية ، بيروت ط1 1405هـ ، تحقيق : محمود إبراهيم زايد .
شرح حدود ابن عرفه للرصاع (ت 894هـ ) دارالغرب الإسلامي ط1 1993م ـ تحقيق : محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري .
شرح الزرقاني على مختصر خليل – دار الفكر ، بيروت .
شرح منتهى الإردات لمنصور بن يونس البهوتي – دار الفكر.
صحيح البخاري (ت256) – دار السلام للنشر والتوزيع ، الرياض ، المملكة العربية السعودية – ط 2 – عام 1421هـ 2000م ، طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز .
صحيح مسلم ( ت261هـ ) – دار السلام للنشر والتوزيع ، الرياض ، المملكة العربية السعودية – ط 2 – عام 1421هـ 2000م ، طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالعزيز .
طرق الإثبات الشرعية لأحمد إبراهيم بك (ت 1364هـ) ، إعداد المستشار واصل علاء الدين أحمد إبراهيم ط3 ـ 1405هـ 1985 م .
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لأبي عبدالله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (ت751هـ ) – دار الكتب العلمية – تحقيق محمد حامد الفقي .
الفروق لشهاب الدين القرافي ( ت684هـ) مطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر1347هـ - دار المعرفة ، بيروت .
الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي - ط2 1405هـ - دار الفكر ، دمشق .
قواعد الأحكام في مصالح الأنام لأبي عبدالله محمد عزالدين بن عبدالسلام (ت660هـ) دار الكتب العلمية ، بيروت .
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي – رابطة العالم الإسلامي – الدورات من الأولى إلى السادسة عشرة (1398-1422هـ )
المحلى لابن حزم (ت 456هـ) دار الفكر ، بيروت ، لبنان .
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الخطيب الشربيني (ت 977هـ) دار الفكر ، بيروت ، لبنان .(20/24)
المغني لابن قدامة ( ت620هـ ) - هجر للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة – ط2 1413هـ 1992م تحقيق : د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي و د. عبدالفتاح محمد الحلو . توزيع الكتاب على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن عبدالعزيز .
الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790هـ ) المكتبة التجارية الكبرى بمصر، تحقيق الشيخ عبدالله دراز .
الموسوعة الفقهية – إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ، ط3 1419هـ 1998م – دار إحياء التراث العربي بيروت ، لبنان .
وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية : المعاملات المدنية والأحوال الشخصية ، د . محمد مصطفى الزحيلي – مكتبة دار البيان ، دمشق -ط1 1402هـ 1982م .
ندوة مدى حجية البصمة الوراثية لإثبات البنوة – الموقع الالكتروني للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية .
موقع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية islamset.com .(20/25)
القضاء على الغائب
دراسة مقارنة مع القوانين السورية
ADJUDICATION ON THE ABSENT
إعداد
د.محمد الحسن مصطفى البغا
prepared by
Dr. Mhd. AlHassan Al Bugha .
ملخص البحث:
القضاء على الغائب
إن الغيبة أمر لا ينفك عنه واقع القضاء والخصومات ويتعلق بذلك إثبات الكثير من الحقوق ولا يمكن أن تمنع الغيبة القضاء بالحق لمستحقه كما لا يمكن أن يكون القضاء مع الغيبة مثبتاً لأمر غير ثابت أو مبيحاً لحق الآخرين دون وجه مشروع، مما يعني لزوم القضاء مع الغيبة دون إبرام مع إمكانية إعادة المحاكمة عند الحضور وبذا تحفظ الحقوق من طرفي المدعي والمدعى عليه.
ADJUDICATION ON THE ABSENT
The absence is in relevant relation with the practice of judgment and litigation, this is in relation with the confirmation of many rights, the absence can not prevent judgement to grant the right to it,s deserved, also the judgement with the absence can not confirm a non confirmed mater,or illegal other,s right.this means the necessity of the adjudication with the absence without ratification,with possibility of repeating the judgement at the presence, in such way the rights of the two parties, the plaintiff and the defendant are conserved.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:(21/1)
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:فإن هذه مسألة هامة من مسائل الفقه الإسلامي وهي القضاء على الغائب وذلك للمحافظة على الحق وصونه وحمايته من الاعتداء، وخاصة في ظروف قد لا تتضح فيها الرؤية وتغيب فيها الحقيقة بغياب طرف من أطراف الخصومة، وكما قيل في المثل: لا تنظر لمن يشكو فقء عينه من آخر فربما الآخر قد فقئت عيناه، على كلٍّ لابد من الحكم بالحق دون إهمال لثبوته ومهما كانت الظروف، ولكن لا مانع من أن نراعي جانب الغائب في ظهور حجته، مما يعني إجراءات وقواعد تسلك للمحاولة الجادة والقويمة للوصول إلى الحق.
ولهذا اخترت هذا البحث نظراً لأهميته في الواقع الحالي لمعرفة حقيقة الغياب عند الفقهاء، وأحكامه الفقهية، وتحديده من أدلة الفقهاء، فشروط القضاء على الغائب، فإجراءات الدعوى، فمآل الحكم على الغائب…
وقد استعرضت مذاهب الفقهاء فوجدتهم على رأيين رأي الجمهور في الجواز والرأي المعتمد عند الحنفية بعدم الجواز ثم ذكرت أدلتهم وبينت الراجح عندي.
فاسأل الله السداد وهو السميع العليم.
وتقوم الدراسة وفق الخطة التالية:
خطة البحث:
- مقدمة
الطلب الأول : تعريف القضاء و الغائب.
المطلب الثاني : آراء الفقهاء في الحكم على الغائب.
المطلب الثالث :الأدلة:
أ-أدلة الجمهور.
ب-أدلة الحنفية.
المطلب الرابع : شروط القضاء على الغائب.
المطلب الخامس : ما يقضى به على الغائب.
المطلب السادس : إجراءات دعوى القضاء على الغائب.
المطلب السابع : مآل القضاء على الغائب.
المطلب الثامن : القضاء على الغائب في القوانين السورية .
خاتمة
ثبت المصادر
الفهرس
1- تعريف القضاء:
لغة:قضى:القضاء،ويقصر،قضى عليه يقضي قضياً وقضاء وقضِيَّة،وهو الحكم والصنع والحتم
والبيان(1).
وفي المفردات: فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً وهو قسمان: إلهي وبشري(2).
__________
(1) القاموس المحيط1708.
(2) المفردات406.(21/2)
اصطلاحاً: صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه شرعاً ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين(1).
2-تعريف الغائب أو من هو الغائب:
اختلف الفقهاء في ضابط الغائب اختلافاً كثيراً واتخذ كلٌّ منهم معياراً خاصاً به لذلك.
فعند الحنفية: الغائب هو الغائب عن المجلس أو عن البلد بحيث لم يدر موضعهما (2)
وعند المالكية: الغائب على ثلاثة أقسام:
1.غائب قريب الغيبة على مسيرة اليوم واليومين والثلاثة فهذا يكتب إليه ويعذر في كل حق فإما أن يوكل وإما أن يقدم، فإن لم يفعل حكم عليه.
2.غائب بعيد الغيبة على مسيرة عشرة أيام وشبهها، وهذا متوسط الغيبة.
3. غائب منقطع الغيبة وبعيدها كمسافة أربعة أشهر، مثل مكة من إفريقية، والمدينة من الأندلس وهكذا، ويحكم على الأخيرين على تفصيل سيأتي.
والقريب الغيبة والمتوسط الغيبة كالبعيد المنقطع الغيبة إذا كانت الطريق مخوفة يتعذر حضوره(3).
وقال الشافعية:الغائب هو الذي يكون على مسافة بعيدة بحيث إذا خرج منها مبكراً أي قبيل طلوع الشمس لم يرجع إليها ليلاً بعد فراغ المحاكمة وزمن المخاصمة المعتدلة، والعبرة: في تحديد الزمن بزمن سير هذا الغائب هي سير الأثقال، أي سير الدواب محمَّلة.
وإنما اعتبر غائباً لأن في إيجاب الحضور عليه مشقة كبيرة بمفارقة الأهل والوطن في الليل(4)
__________
(1) مواهب الجليل6/86-نظرية الدعوى1/42.
(2) تبيين الحقائق 3/310- البحر الرائق 7/18- ابن عابدين 5/410 ط19662-نظرية الدعوى 2/96.
(3) تبصرة الحكام1/86-فتح العلي2/300-حاشية الدسوقي على الشرح الكبير4/162-شرح منح الجليل4/205-التاج والإكليل6/143.
(4) مغني المحتاج4/407- تحفة المحتاج10/186- التجريد لنفع العبيد4/364.(21/3)
وقال الحنابلة:الغائب هو الذي يكون على مسافة القصر أو أكثر لاعتبار الشارع لها في عدة مواضع فإن كان على مسافة دون مسافة القصر وكان غير ممتنع عن الحضور لم تسمع الدعوى عليه لإمكان حضوره حتى يحضر(1).
ومثل هذا في قول لدى الشافعية بتحديده بمن هو على مسافة القصر، ورد هذا القول بالفرق بين القصر ومشقة الحضور(2).
ويلحق بالغائب عند الحنفية: المتواري، والمتعزز والميت. وعند المالكية: الميت، والصبي واليتيم بمعنى واحد. وعند الشافعية والحنابلة: المتواري والمتعزز الذي يعجز عن إحضاره والميت والصبي والمجنون.
وعند الشافعية والمالكية: السفيه والمستعدى عليه.
وعند المالكية: الهارب الذي استوفى حججه يلحق بالمنقطع الغيبة(3).
والذي أرجحه اعتبار تعريف الحنفية في الغائب لشموله ووضوحه وتبيان حقيقة الغياب من عدم العلم بوضع الغائب.كما أرى بُعد اعتبار الميت المعلوم الموت من الغائب وكذلك الصبي والمجنون لدخول ذلك في الولاية والوصاية... وما عدا ذلك يدخل في الغائب
3-آراء الفقهاء في الحكم على الغائب:
قال المالكية في البعيد الغيبة والشافعية في المشهور والحنابلة بجواز القضاء على الغائب ولو دون وكيل على تفصيل سيأتي.
واختلف المالكية في القضاء على الغائب القريب:
فقال سحنون: لا يحكم عليه، وقال ابن عرفة:يحكم عليه في الدين، وقال ابن رشد: يعذر وإلا حكم عليه.
__________
(1) الشرح الكبير11/457-كشاف القناع6/353-الروض المربع شرح زاد المستقنع7/555.
(2) تحفة المحتاج10/186.
(3) السابقةو:أسنى المطالب4/325-المنهاج151-فتح الوهاب2/216-الروضة11/193-الشرح الكبير11/456ابن عابدين5/414.(21/4)
ومقابل المشهور عند الشافعية: ذكر النووي نقلاً عن صاحب التقريب: ((لا يجوز القضاء على الغائب إلا إذا كان للدعوى اتصال بحاضر))وهذا ضعيف(1).
وقد اختلف الحنفية فيما بينهم في القضاء على الغائب حتى يكاد أن يكون لكلٍّ من فقهائهم رأي خاص به كما قال ابن عابدين.
والحكم الأصلي عندهم عدم جواز الحكم على الغائب، ويجوز إذا كان له نائب حقيقي كوصيه، أو شرعي: كوصي القاضي، أو نائب حكمي، وذلك في حالتين:
1.أن يكون ما يدعى على الغائب سبباً لازماً لما يدعى على الحاضر وذلك بأن تحتاج الدعوى على الحاضر إثبات المدعى به على الغائب ليثبت على الحاضر كأن يكون الحاضر غاصباً عقاراً و اشترى المدعي العقار من الغائب فيثبت المدعي ذلك على الغائب ويدعي على الحاضر الغاصب ملكية ما في يده.
2.أن يكون ما يدعى على الغائب شرطاً لثبوت الحق للحاضر، وهذا يقبل إذا لم يكن فيه ضرر على الغائب كإبطال حق له كما إذا علق طلاق امرأته على حضور الغائب قُبِل وإلا لم يقبل(2).
ويجوز القضاء على الغائب إذا التمس المدعي كتاباً حكمياً فيه الدعوى والشهادة لينقله المدعي إلى حيث مكان الغائب(3).
وعلى كل حال قال الحنفية في الأصح عندهم:إذا قضي على الغائب نفذ، وقيل: لاينفذ، وقال ابن الهمام: إذا أمضاه قاض آخر نفذ(4) .
__________
(1) روضة الطالبين 11/175 – مغني المحتاج 4/406- تحفة 10/163 – نهاية المحتاج 8/268 أسنى المطالب 4/315 – التجريد 4/360 –فتح الوهاب 2/214- كشاف القناع 6/353 – الروض المربع 7/556 –المغني 11/488 – بداية المجتهد 2/472 – الخرشي 7/172 – شرح منح الجليل 4/205 – الفقه الإسلامي 6/496و511 – نظرية الدعوى 2/98.
(2) بدائع الصنائع6/222-فتح القدير5/493-العناية شرح الهداية5/494-ابن عابدين5/409-البحر7/18.
(3) بدائع الصنائع6/222-المبسوط17/40.(3).
(4) ابن عابدين5/414-تبيين الحقائق3/310-فتح القدير5/495.(21/5)
ويجوز القضاء عندهم على المتواري والمتعزز(1).
وذكر الحنفية هنا مسألة ما إذا كان المدعى عليه حاضراً ثم أنكر المدعى به فأقام المدعي البينة وعندئذ غاب المدعى عليه،فما الحكم؟.
قال أبو يوسف: قضى عليه لأن إنكاره قد سمع نصاً، وقال محمد: لايقضى عليه لأن إصراره على الإنكار إلى وقت القضاء شرط،وإنكاره ثابت باستصحاب الحال.
ونقل ابن سماعة عن محمد: جواز القضاء عليه فيما إذا أقر فغاب (2).
وأختم آراء الحنفية بكلام ابن عابدين في رد المحتار وفي حاشيته على البحر فقال في رد المحتار(3):
((ويحتاط ويلاحظ الحرج والضرورات فيفتى بحسبها جوازاً أو فساداً )) وضرب مثلاً لذلك فيما إذا طلق امرأته عند عدل وغاب عن البلد ولم يعرف مكانه أو عرف وعجز عن إحضاره جاز القضاء عليه..
وقال في حاشيته على البحر(4): ((لو برهن على الغائب بحيث اطمأن قلب القاضي وغلب ظنه أنه حق لاتزوير ولا حيلة فيه فينبغي أن يحكم على الغائب وللمفتي أن يفتي بجوازه تبعاً للحرج وللضرورات)).
وهذا من أجود ما قيل مع أن قائله حنفي ولا يقول الحنفية بالأصل بالقضاء على الغائب، مما يرجح القضاء على الغائب مع الاحتياط له في عدم إبرام الحكم وتسليم المدعي موضوع الدعوى والحق إلا بعد فترة كافية، فإذا حضر الغائب تعاد المحاكمة بعد ذلك، وهو ما تؤكده الأدلة.
4- الأدلة:
أ-أدلة الجمهور: استدل الجمهور على جواز القضاء على الغائب بعموم الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة المشرفة وآثار الصحابة والإجماع والمعقول.
1.القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه}[المائدة: من الآية49]وقوله تعالى:
__________
(1) البحر7/20-فتح 5/495.
(2) بدائع الصنائع 6/222- فتح القدير بهامشه العناية كلاهما على الهداية5/494-495-ابن عابدين4/335دار إحياء التراث.المبسوط7/40.
(3) 5/414ط2.
(4) 7/17.(21/6)
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ }[صّ: من الآية26]وغيرهما كثير.
ووجه الدلالة: أن الآية لم تفرق في الحكم بين غائب وحاضر(1).
2.السنةالمشرفة:
1-حكمه - صلى الله عليه وسلم -على العرنيين الذين قتلوا الرعاة(2).
2-حكمه - صلى الله عليه وسلم -على أهل خيبر بأن يقسم أولياء عبد الله(3).
3-قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهند: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف))(4).
وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى على العرنيين وعلى أهل خيبر وعلى أبي سفيان وهم غائبون.
وفي حديث هند قضى على أبي سفيان وهو غائب فكان قضاء لا فتوى، وإلا لقال لها: لك أن تأخذي، أو لابأس عليك ولم يأمرها بقوله- صلى الله عليه وسلم - : خذي،لأن المفتي لا يقطع بفتواه فلما قطع كان حكماً لا فتوى.
واعترض على الاستدلال بحديث هند بأن أبا سفيان كان حاضراً بمكة عندما أتت هندلمبايعته- صلى الله عليه وسلم -، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقدر المحكوم به لها، وقال النووي: فيه وجهان الأصح منهما أنه إفتاء ويجري في كل امرأة أشبهتها فيجوز، والثاني: كان قضاء فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي.
وعلى كلٍّ لم يستدل الجمهور بهذا الحديث فقط، ودلالة أقوال الصحابة وآثارهم أشد وضوحاً(5).
__________
(1) مغني المحتاج 4/406-تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج 2/431-المنهاج شرح مسلم 12/7.
(2) سنن البيهقي 8/282 عن أنس
(3) سنن البيهقي 8/117 عن سهل بن أبي حثمة.
(4) أخرجه البخاري في البيوع ب95 ومسلم في الأقضية ب7.
(5) مغني المحتاج:4/406- تحفة المحتاج:10/163- نهاية المحتاج: 8/268- التجريد:4/360-تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج:2/431و575- المنهاج شرح صحيح مسلم:12/7،أسنى المطالب: 4/315.(21/7)
3-أقوال الصحابة وآثارهم: ومنها قول عمر رضي الله عنه: ((من كان له على الأسيفع مال فليأتنا غداً فإنا بايعوا ماله وقاسموه بين غرمائه(1))وقد كان الأسيفع غائباً(2).
4-الإجماع:صح عن عمر وعثمان رضي الله عنهما القضاء على الغائب ولا مخالف لهما من الصحابة فكان إجماعاً.وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ما يشبه ذلك من حكم حاكم ونقله إلى حاكم آخر وليس هذا إلا قضاء على الغائب(3).
5-المعقول: لو منع القضاء على الغائب لضاعت كثير من الحقوق التي حث الشارع على حفظها ولأدى عدم القضاء على الغائب إلى الهروب والاستتار من القضاء وجعل ذلك وسيلة وحيلة لتضييع الحقوق(4).
وقد اتفق الفقهاء على سماع البينة على الغائب فكذلك يجوز الحكم عليه بالبينة، كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت مع أنه لم ينكرها(5).
وجاز الحكم على الصغير والميت لأنهما أعجز من الغائب على الدفع، وكذلك كل واحد لا يعبر عن نفسه كالميت ، وهو أولى بالحكم عليه من الميت، لأن الغائب قد يحضر بخلاف الميت، وكذلك الهارب والممتنع لتذرعهما بالغياب للهرب من حكم القاضي(6).
__________
(1) سنن البيهقي:10/141.
(2) المراجع السابقة.
(3) أسنى المطالب: 4/315، الإجماع لابن المنذر:62.
(4) مغني المحتاج:4/406- تحفة المحتاج:10/163- نهاية المحتاج: 8/268- التجريد:4/360-تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج:2/431و575- المنهاج شرح صحيح مسلم:12/7،أسنى المطالب: 4/315.
(5) الشرح الكبير ابن قدامة11/457-كشاف القناع6/453-حاشية الروض المربع7/557.
(6) مغني المحتاج4/406-تحفة المحتاج10/163-الشرح الكبير11/457-حاشية الروض7/556-كشاف القناع6/354.(21/8)
ولأن للمدعي بينة مسموعة وعادلة فجاز الحكم بها كما لو كان المدعى عليه حاضراً ،ويقبل كلامه لو كان المدعى عليه حاضراً، ولو كان كلا الخصمين حاضرين لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما، والبينة لاتسمع على المدعى عليه إلا بوجوده إذا كان حاضراً والغائب بخلاف ذلك(1).
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر(2))لا يعني حضور الخصم فاشتراط حضوره لإقامة البينة ليس عليه دليل، ولأن بينة المدعي عادلة فسمعت لذا وجب القضاء بها كما لو كان الخصم حاضراً، وعند الحنفية تسمع هذه البينة للكتاب بها، وتأثير غيبة الخصم بسبب فوات إنكاره، وإنكاره غير مؤثر في إيصال المدعي إلى حقه،ولأن الأصل هو الإنكار فيجب التمسك به، وإذا ثبت إنكاره بهذا الطريق قبلت البينة عليه، ولو كان مقراً كان القضاء متوجهاً عليه لإجماعنا أن القضاء على الغائب بالإقرارجائز فعليه نقيس القضاء على الغائب دون إقراره(3).
وأيضاً إن بالبينة يظهر صدق المدعي وإن كان خبراً يحتمل لكن رجح الصدق فيه للبينة ويحققه أن المدعى عليه لا يخلو إما أن يكون مقراً أو منكراً، فإن كان مقراً كان المدعي صادقاً في دعواه فلا حاجة إلى القضاء، وإن كان منكراً فظهر صدقه بالبينة، والقضاء بالبينة قضاء بحجة مظهرة للحق فجاز.
ورغم أن هذا الكلام الأخير من كلام الحنفية معارضي الجمهور ولكنه يستأنس به كحجة للجمهور وكأن من قال هذا الكلام يميل لرأي الجمهور لذلك اضطرب الحنفية(4).
ب- أدلة الحنفية(5):
استدل الحنفية على عدم جواز القضاء على الغائب بالقرآن الكريم وبالسنة المشرفة والمعقول.
__________
(1) الشرح الكبير11/457المغني11/486.
(2) أخرجه البخاري في الرهن ب30 ومسلم في الأقضية ب1.
(3) فتح القدير 5/493-المبسوط 17/39.
(4) بدائع الصنائع 6/223-نظرية الدعوى2/115.
(5) نظرية الدعوى2/105.(21/9)
القرآن الكريم: قوله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق}[صّ: من الآية26].
وجه الدلالة: أن الحق اسم للكائن الثابت، ولا ثبوت مع احتمال العدم، واحتمال العدم ثابت في البينة لاحتمال الكذب، فلم يكن الحكم بالبينة حكماً بالحق، فكان ينبغي أن لا يجوز الحكم بها أصلا إلا أنها جعلت حجة لضرورة فصل الخصومات، ولم يظهر ذلك حالة الغيبة.
وإنما عمل بالبينة لقطع المنازعة، ولا منازعة هنا لعدم الإنكار فلا يصح، وهي خبر محتمل ولا يجوز بناء الحكم على الخبر المحتمل(1).
السنة المشرفة: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسيدنا علي رضي الله عنه: ((لا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء(2)).وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن القضاء لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر لأن الجهالة تمنعه من القضاء ولأنها لا ترتفع-الجهالة-إلا بسماع كلامهما.
والقضاء للمدعي حال غيبة المدعى عليه قضاء لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر فكان
منهياً عنه(3).
المعقول:إن البينة اسم لما يحصل به البيان، وليس المراد أنها بينة في حق المدعي فقط لأنه حاصل بقوله، ولا في حق القاضي لأنه حاصل بقول المدعي إذا لم يكن له منازع، وإنما الحاجة إلى البيان في حق الخصم الجاحد وذلك لا يكون إلا بحضوره.
وكمال البينة بحضور الخصم لأن البينة اسم للحجة، ولا تكون حجة عليه مالم يظهر عجزه عن الدفع والطعن، وظهور عجزه لا يكون إلا بحضوره(4).
__________
(1) بدائع الصنائع6/222-شرح العناية للهداية5/493.
(2) أخرجه أبو داود في الأقضية باب كيف القضاء، وأحمد في المسند 1/111.
(3) فتح القدير5/494.
(4) بدائع الصنائع6/222-المبسوط 17/39.(6) المبسوط 17/39-فتح القدير 5/494.(21/10)
وبغيبة المدعى عليه فات شرط من شروط الحكم في الدعوى وهو الإنكار، وفوات شرط الشيء ، كفوات ركنه في امتناع العمل به،وإنكاره وإن كان ثابتاً بطريق الظاهر لايثبت عندنامالم يتيقن به(1).
وقد يحضر المدعى عليه ويبطل الحكم، كأن يطعن بالبينة أو يقر ويدعي الأداء ويبينه، وصونُ الحكم عن البطلان أولى(2).
ووجه قول محمد فيما نقله ابن سماعة عنه:أن للمدعى عليه حق الطعن بالبينة، والقضاء عليه حال غيبته يبطل هذا الحق، ولكن ليس له حق الطعن بإقراره، فالقضاء عليه حال غيبته لا يبطل حقاً له لإقراره، والقضاء عليه قضاء إعانة، وإذا أنفذ القاضي إقراره سلم إلى المدعي حقه.
ووجه قول أبي يوسف في الذي أنكر وغاب أنه استحسنه حفظاً لأموال الناس(3).
والناظر في أدلة الفريقين يرى قوة أدلة الجمهور ولما ذكروه في المعقول خاصة، لئلا يتخذ ذلك ذريعة للهرب من القضاء ولضاعت الحقوق،وهو الراجح في رأيي،وليس في ذلك ظلم، طالما يمكن عند حضوره إعادة المحاكمة.
ولأدلة الحنفية وجه وذلك فيما إذا كان للغائب حجة أو أن المدعي أبرأه أو وهبه ولذلك اشترط بعض الفقهاء أخذ الكفيل، وبعضهم اشترط يمين الاستظهار كما سيأتي وهو توفيق بين الاتجاهين، والأولى من ذلك كله إحضار الغائب وإلا حكم عليه فإن حضر أعيدت المحاكمة من جديد، وهو رأي الجمهور.
5-شروط القضاء على الغائب:
1-إقامة الدعوى: ويشترط فيها في القضاء على الغائب ما يشترط في الدعوى على الحاضر من بيان المدعى به وقدره ونوعه ووصفه وقوله: إني مطالب بالمال…إلى آخر ما يشترط ما فيها(4).
وهذا الشرط ذكره الشافعية ولايخالف فيه بقية الفقهاء على ما ظهر.
__________
(1) المبسوط17/39-فتح القدير5/494.
(2) فتح القدير5/493.
(3) ابن عابدين 4/335ط.دار إحياء التراث.
(4) روضة الطالبين11/175-أسنى المطالب4/316.(21/11)
2-أن يكون للمدعي بينة معدلة مقبولة يستقر بها عند القاضي علم بصدقها بحيث لايبقي القاضي أي احتمال بعدم ثبوت الحق، وإلا لم تسمع البينة لأنه لافائدة في الدعوى عندئذ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأموالهم..(1).))وهذا الشرط عند المالكية والشافعية والحنابلة(2).
وقال البلقيني من الشافعية:تسمع دعواه ولو لم تكن له بينة إذ قد تحدث البينة بعد الدعوى، وقد يقر الغائب بالمدعى به إذا حضر.
واشترط الشافعية أن يدعي المدعي جحود الغائب وعدم إقراره وإلا لم تسمع بينته إذا كان الغائب المدعى عليه مقراً.
وإذا لم يذكر المدعي إقرار المدعى عليه الغائب أو جحوده سمعت البينة في الأصح لأنه لا يعلم جحوده في غيبته ويحتاج للإثبات فجعلت الغيبة كالسكوت، وهذا عند الشافعية(3)والحنابلة، وعند الحنابلة لا يشترط إنكار الغائب(4).
والبينة تسمع عند الشافعية ولو كانت شاهداً ويميناً، ولا يخالف في ذلك بقية الفقهاء،وكذلك ولو كانت البينة علم القاضي، وهذا عند الشافعية.
لأن الدعوى لثبوت الحق وطريقها الإقرار أو اليمين المردودة أو البينة فتعذر الأوليان بغيبة المدعى عليه وبقي الثالث وهو البينة.
ولا تسمع البينة استظهاراً للحق إذا كان مقراً لكي يكتب له إلى حاكم بلد الغائب، وهذا عند الشافعية والحنابلة.
وقال الحنفية: إذا التمس المدعي كتاباً حكمياً فيه الدعوى والشهادة لينقله المدعي إلى مكان آخر ليقضى له به جاز ذلك.
وقال البلقيني من الشافعية: تسمع البينة استظهاراً للحق ولو كان مقراً.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير3-3ومسلم في الأقضية ب1 .
(2) مغني المحتاج: 4/406-روضة :11/175،كشاف القناع:6/354،الشرح الكبير:11/456،تبصرة:1/304،الدسوقي:4/162.
(3) روضة الطالبين11/175-تحفة المحتاج:10/164.
(4) كشاف القناع:6/354.(21/12)
وأضاف الشافعية أنه إذا أقام البينة ليستوفي حقه من مال الغائب الموجود فلا يشترط إقراره، وكذلك من لايقبل إقراره لسفه ونحوه، فتسمع البينة، وكذلك تسمع على الممتنع المقر(1).
وفي حكم المقر الوديع فلا تسمع الدعوى على الغائب بوديعة لتمكن الوديع من دعوى الرد أو التلف.
وقال أبو زرعة: تسمع الدعوى بأن له تحت يده وديعة وتسمع بينته بها لكن لايحكم له بها ولا يوفيه من ماله إذ ليس له في ذمته شيء، أما لو كان له بينة بإتلافه لها أو تلفها عنده بتقصير سمعت بينته وحكم له بها ووفاه من ماله لأنها اعتبرت حينئذ من جملة الديون وجاز ذلك لاحتمال جحود الوديع أو تعذر البينة فيقيم البينة عند القاضي بثبوت ذلك، فيستغني عن إقامتها إذا حضر الوديع وجحد، لأنه قد يتعذر عندئذ إقامة البينة(2).
3-إقامة وكيل عن الغائب أو مُسَخّر ينكر عنه وهذا الشرط عند ابن الماجشون وأصبغ من المالكية وهو وجه عند الشافعية حتى تكون البينة على إنكار منكر وهو الصحيح الذي مقابله الأصح وهذا الوجه عند الشافعية هو عند الأردبيلي استحباباً وخروجاً من خلاف من أوجبه عند ابن حجر، ولأن كذبه غير محقق، والكذب قد يغتفر في بعض المواضع.
وقال النووي في المنهاج: لا يلزمه.
ووجه الأصح عند الشافعية لأن الغائب قد يكون مقراً فيكون إنكار المسخر كذباً وهذا ما ذكره البغوي وهذا عند الحنابلة والراجح عند المالكية والحنفية رغم اختلاف الروايات عندهم لأنه أنفع للغائب لبقاء حجته على حالها.
وقال أبو الحسن العبادي:إن القاضي مخير إن شاء نصب مسخراً أو لا وهذا ما رجحه النووي.
__________
(1) روضة الطالبين11/175-مغني المحتاج4/406-تحفة المحتاج10/164-أسنى المطالب4/316-التجريد4/361-كشاف القناع6/354-المبسوط17/40-بدائع الصنائع6/222.
(2) المصادر السابقة وفتح الوهاب2/214-المهذب2/303.(21/13)
ورد ابن حجر قول الأردبيلي بالاستحباب لضعف دليله لأن إنكار المسخر قد يكون كذباً ولا يعلم إقراره أو جحوده ولكن لما احتيج إليه أبيح وترك ذلك للقاضي كما رجحه النووي(1).
وأجاز الحنفية نصب المسخر لكن الراجح عندهم كما قال ابن الهمام: عدم جوازه، وفي البحر جوزه للضرورة إذا كان الغائب في ولاية القاضي(2).
وأجاز الحنفية أيضاً-كالشافعية فيما رجحه النووي-للقاضي أن ينصب وكيلاً عن الخصم المستتر في بيته الذي لا يحضر مجلس الحكم بعد أن يدعى بواسطة أمنائه وحكم عليه(3).
والذي أراه راجحاً لزوم ذلك فيما يظهر، ثم إن ثبت أن إنكاره لم يكن صحيحاً فلا يكون كذباً، لأن المسخر يستند إلى أصل البراءة...
4-تحليف المدعي على ثبوت الحق له في ذمته:
وتسمى هذه اليمين يمين الاستبراء فيحلف المدعي أنه ما أبرأ الغائب من الدين وما أحاله وما وكل له فيه أو في بعضه ولا اعتاض عنه ولا استوفاه منه بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه أداؤه.
وهذا عند الشافعية في الأصح والمالكية في دعوى الدين في ذمة الغائب ورواية عند الحنابلة احتياطاً لأن بينته تامة ولحديث: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر))فكان اللازم أن لا تشرط،ولكنها شرطت احتياطاً وسداً لذريعة الإفساد بجواز القضاء على الغائب.
وهذا التحليف عند المالكية في البعيد المنقطع الغيبة ومع خوف الطريق وما أشبهه للقريب والمتوسط الغيبة إلا في استحقاق العقار وفي بيع العقار مع اليمين.
__________
(1) روضة الطالبين: 11/175-المنهاج:150-مغني المحتاج:4/407-تحفة المحتاج:10/165- أسنى المطالب:4/316-التجريد:4/361-نهاية المحتاج:8/269-فتح القدير:5/495-كشاف القناع:6/354-تبصرة الحكام:1/88.شرح منح الجليل:4/206-مواهب الجليل:6/146-حاشية العدوي:7/172.
(2) ابن عابدين:5/415-البحر:7/19-فتح القدير:5/495.
(3) ابن عابدين والبحر السابق.(21/14)
وللمالكية قولان في تكييف اليمين: أولهما بالوجوب وهو الظاهر، والآخر بأنها للاستظهار احتياطاً.
وبإقرار الغائب لاتطلب اليمين عند المالكية.
وأضاف الشافعية قيوداً أخرى منها: أن يقول مع الحلف يلزمه تسليمي الحق إلي لأنه قد يكون الحق ثابتاً ولكن لا يلزمه أداؤه لتأجيل ونحوه، وأن يقول: إنه لا يعلم في شهوده قادحاً مطلقاً في الشهادة أو بالنسبة للغائب كالعداوة والتهمة.
ويجوز اقتصار القاضي على تحليفه على ثبوت المال في ذمته ووجوب تسليمه احتياطاً، وهذا عند الشافعية.
وقال الشافعية: لا يحلف المدعي مع بينته في دعواه على المتواري أو المتعزز لتقصيرهما تغليظاً عليهما وهو الراجح، وقال البلقيني والرملي: ويحلف احتياطاً للقضاء(1).
وفي التحليف عند الشافعية قولان: أصحهما الوجوب وقد مر، والآخر بالاستحباب لأن تدارك التحليف باق بعد الحكم.
والوجوب في الحلف في الدعوى على الميت والصبي والمجنون، من باب أولى لعجزهم عن التدارك ولكن جرى فيه الخلاف نفسه عند الشافعية(2).
ولا يجب الحلف عند الشافعية إذا كان الحق حسبة في حقوق الله المتعلقة بشخص معين كالطلاق والوصية والنفقة، وأوجبه ابن السبكي في الطلاق استظهاراً.
وقال ابن حجر: والأوجه إطلاق وجوبها لأنه الأنسب بالاحتياط المبني عليه أمر الغائب.
__________
(1) روضة الطالبين11/176-تحفة المحتاج10/170و188-نهاية المحتاج8/280-أسنى المطالب4/325-حاشية الروض المربع7/556-كشاف القناع6/354-المغني11/487-فتح العلي2/301-الدسوقي4/162-الخرشي على مختصر خليل7/172-التاج والإكليل6/144-شرح منح الجليل4/206.
(2) مغني المحتاج4/408-أسنى المطالب4/316-تحفة المحتاج10/166و169-نهاية المحتاج8/270-التجريد4/361.(21/15)
ولو وكل الحاضر في الدعوى على الغائب لينفي عنه يمين الاستظهار حلف الموكل ولا بد من حضوره وحلفه، وكذلك الموكل الغائب في محل قريب بولاية القاضي تلزمه اليمين ويتوقف حتى يحضر ويحلف لأنه لا مشقة عليه في حضوره.
وهنا قول آخر للروياني بأن الموكل الحاضر والغائب لا يحلف.ولكن الراجح أنهما يحلفان كما قال ابن الرفعة(1).
وألحق الشافعية بشرط التحليف مسألتين:
1-لو ادعى قيم طفل على قيم طفل وأقام البينة فعند الشيخين-النووي والرافعي-يجب انتظار كمال المدعى له ليحلف ثم يُحكم له ويأخذ القاضي كفيلاً بذلك، وقال السبكي: يحكم له ولا ينتظر بلوغه لأنه قد يترتب على الانتظار ضياع الحق وهو المعتمد لأن اليمين هنا تابعة للبينة.
وقال النووي في الروضة: إن أوجبنا التحليف انتظر بلوغه، وإن قلنا بالاستحباب قضي بالبينة.
وقال ابن حجر:خوف ضياع الحق يذهب بأخذ الكفيل بالحق المدعى به من قبل القاضي وبه
يقرب-أي يترجح-انتظار كمال المدعى له، والظاهر-والله أعلم-أن المعتمد ما قاله السبكي(2).
2-لو ادعى وكيل غائب على غائب لم يحلف لأن الوكيل لا يحلف يمين الاستظهار بل يحكم بالبينة لأن الوكيل لا يتصور حلفه على استحقاقه ولا على أن موكله يستحقه، ولو وقف الأمر إلى حضور الموكل لتعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء، ولكن للقاضي تحليف الوكيل بأنه لم يعلم بإسقاط الحق(3).
__________
(1) روضة الطالبين11/176-تحفة المحتاج10/168و171-نهاية المحتاج8/269و271-أسنى المطالب4/325.
(2) روضة الطالبين11/176-تحفة المحتاج10/171-اسنى المطالب4/318-فتح الوهاب2/214.
(3) روضة الطالبين11/176-تحفة المحتاج10/170- نهاية المحتاج8/271 مغني المحتاج4/408-أسنى المطالب4/317-التجريد4/362.(21/16)
5-إعذار الغائب وذلك بأن يعلن ثلاثة أيام أنه سمع على الغائب فلان بينة، فإما أن يوكل أو يحضر وإلا حكم عليه، وهذا شرط عند الحنابلة في الممتنع والمالكية في الغائب القريب والحنفية في المتواري والبلقيني من الشافعية(1).
ومحل وجوب الإعذار عند المالكية إن ظن القاضي جهل من يريد الحكم عليه حتى يطعن بالبينة إن كان له حجة، وأما إن ظن علمه فلا يعذره وله الحكم دونه.
ويتم الإعذار عندهم بواحد وهو الواجب، ويندب بأكثر من واحد.
والغائب غيبة بعيدة أو متوسطة يقضى عليه عند المالكية ويعذر بعد قدومه وإلا نقض الحكم(2).
ويمكن أن يتم الإعذار اليوم بالوسائل المعاصرة في الإعلام من صحف ومجلات...
6-أن لا يكون للغائب وكيل حاضر لأن الدعوى إن سمعت على الوكيل توجه الحكم إليه دون موكله فإن لم تسمع عليه توجه الحكم على الغائب.
وهذا عند جمهور الشافعية، وخالف في ذلك الحنفية والمالكية والبُلقيني من الشافعية.
فقال المالكية: يجب أن يكون للغائب مال أو وكيل أو كفيل-وهنا اشترط الشافعية الكفيل كما مر في المسألتين الملحقتين بشرط التحليف حيث يؤخذ الكفيل وينتظر بلوغ الطفل-أو متوطن بعمل القاضي الذي رفع أمره إليه، وإلا فليس له سماع الدعوى ولا الحكم عليه بل تنقل الشهادة للقاضي الذي هو في عمله لأن القاضي لم يول على جميع الناس وهذا في المنقطع الغيبة.
__________
(1) تحفة المحتاج10/188-الشرح الكبير11/459-المغني11/488-كشاف القناع6/356-تبصرة الحكام1/166 فتح العلي2/300-شرح منح الجليل4/206- البحر7/20-فتح القدير5/495.
(2) الدسوقي4/148.(21/17)
وعلى ما يبدو أن المالكية لا يشترطون وجود الوكيل بقدر ما يشترطون محلاً يقع عليه حكم القاضي لصيانته عن اللغو، وفي هذا يتوسطون بين الشافعية الذين يجيزون القضاء على الغائب من كل وجه والحنفية على اضطرابهم-الذين لا يعتدون بالقضاء على الغائب إلا بوجود وكيل له بتوكيله هو نفسه أو بوصاية القاضي أو حكماً لازماً كما مر مفصلاً.
والواقع أن رأي الحنفية يبتعد تماماً عن حقيقة القضاء على الغائب إلا في المتواري والمتعزز وما يقع سبباً لازماً أو شرطاً كما مر.
وقال البُلقيني من الشافعية بعدم اشتراط هذا الشرط وقال: وإن حضر الوكيل عن الغائب فهو قضاء على غائب لوجود الغيبة المسوغة للحكم عليه، والقضاء إنما يقع عليه حقيقة، والقاضي مخير بين سماع الدعوى على الوكيل أو على الغائب إذا توفرت شروط القضاء على الغائب وإلا تعين عليه سماعها على الوكيل لئلا يضيع حق المدعي.
وإذا كان للغائب وكيل فهل تجب اليمين على المدعي؟ هناك وجهان: الأول بطلبها، والآخر بعدم طلبها.وقال ابن الرِّفعة:إذا كان له وكيل لم تجب يمين قولاً واحداً.ورد ابن حجر ذلك: بأن فيه نظراً لأنه قضاء على غائب بالنسبة لليمين، والدعوى وإن سمعت على الوكيل وتوجه الحكم عليه فاليمين لا يتوجه حكمها عليه احتياطاً لحق الموكل.فإن لم يكن وكيل فحكم الحلف كما مر في مكانه(1).
7-إقامة كفيل يكفل المدعي بحيث إذا تبين بطلان دعواه ضمن للغائب ما أخذه لئلا يضيع مال الغائب وهذا عند الحنابلة.
وظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه عدم اشتراط ذلك.وما مر في الكفيل إنما لكفيل الغائب المدعى عليه وهنا كفيل المدعي(2).
والذي أراه عدم إبرام الحكم، فلا حاجة لتسليم المدعي موضوع الحق إلا بعد فترة كافية.
6-ما يقضى به على الغائب:
__________
(1) تحفة المحتاج10/166-فتح الوهاب2/214-فتح العلي2/301-تبيين الحقائق3/310-بدائع الصنائع6/222.
(2) المغني11/488.الشرح الكبير11/459.(21/18)
يحكم على الغائب عند الشافعية والحنابلة في حقوق الآدميين، ولا يخالف في ذلك المالكية إلا أنهم قيدوا ذلك بضابط الغيبة فيحكم على القريب الغيبة والمتوسط والبعيد في كل الحقوق من عقار وعروض ومال واستحقاق وطلاق ويستثنى المتوسط الغيبة والقريب الغيبة مع خوفهما الطريق في استحقاق العقار فلا يحكم عليهم به، وقولهم: كل الحقوق أي كل ما يشمل حقوق الآدميين، والله أعلم.
والمتوسط الغيبة يحكم عليه في استحقاق الرباع والأصول.
وعند الحنفية يحكم على المتواري بالعين والدين والعقار، ويسلم المدعي جنس حقه إن وجد، ولا تباع العروض ولا العقارات، وكذلك قول محمد في الذي أقر وغاب مثل المتواري في الحكم هنا.
وإنما قضي على الغائب في حقوق الآدميين لأن مبناها على المشاححة ولم يقض على الغائب في حقوق الله لأن مبناها المسامحة والستر إلا في السرقة لوجود الجانب المالي فيقضى على الغائب بالمال فقط وهذا عند الشافعية والحنابلة.
وعند الشافعية لا يحكم على الغائب في إسقاط حق له كأن يدعي مدعٍ أن للغائب ألفاً عليه وقضاه إياها وأن عنده بينة بذلك ولا يأمن أنه إذا خرج أن يطالبه الغائب فلا تسمع الدعوى لأن البينة لا تسمع إلا بعد المطالبة بالحق.
وفي حقوق الله قولان عند الشافعية: الأول: المنع مطلقاً، لأن ذلك يُسعى في دفعه ولا يوسع بابه.والثاني: الجواز مطلقاً.والراجح عندهم الأول.
ولا خلاف عندهم في جواز القضاء على الغائب في حقوق الله تعالى المالية(1).
__________
(1) روضة الطالبين 11/196-مغني المحتاج4/415-أسنى المطالب4/316-تحفة المحتاج10/163-المغني11/487-الشرح الكبير11/458-كشاف القناع6/355-حاشية الروض7/555-تبصرة الحكام1/86فتح العلي2/300 الخرشي7/172-شرح منح الجليل4/207-التاج والإكليل6/143-البحر الرائق7/17-ابن عابدين4/335دار إحياء.(21/19)
والذي أراه هنا التمييز بين حقوق الآدميين وحقوق الله فيقضى بالأولى دون إبرام مباشر للحكم، وينظر في الأخرى بحسب الحال المقتضي تبعاً لأهمية المدعى به فيحكم له أو لا.
7-إجراءات دعوى القضاء على الغائب:
إذا حكم على الغائب فإما أن يكون له مال أو لا، فإن كان له مال حاضراً كان أم غائباً، قضى القاضي الحق منه للمدعي، لأنه حق وجب عليه وتعذر وفاؤه من جهة من عليه القضاء، فقام الحاكم مقامه كما لو كان حاضراً فامتنع من أداء الحق الواجب عليه.وهذا عند الشافعية والحنابلة.
أما إذا لم يكن مال، وسأل المدعي إنهاء الحال-أي بأن ينقل حكم القاضي إلى قاضي بلد الغائب-أجابه القاضي بذلك، إن علم مكان الغائب مسارعة في قضاء الحقوق، فيكتب القاضي:قامت عندي بينة عادلة على فلان لفلان بكذا، وحكمت له به.وذلك للحاجة إلى ذلك لئلا تضيع الحقوق،ولأنه قد لا يمكن نقل البينة إذا كان خصمه ليس في مكان البينة، وهذا عند الشافعية والمالكية.وعند الحنفية لو سأل المدعي كتاباً حكمياً بالدعوى والشهادة أُجيب لطلبه.
والإنهاء أن يشهد القاضي عدلين بسماع البينة خاصة أو بالحكم باستيفاء الحق ليؤديه عند القاضي الآخر، ويستحب مع الشهادة أن يكتب كتاباً مختوما احتياطاً من النسيان يذكر فيه صفة المحكوم عليه والمحكوم له وأسماء شهود الكتاب وتاريخه ويستحب ترك نسخة أخرى من الكتاب مع العدلين غير مختومة يطالعانها عند الحاجة.
ويجوز أن يكتب القاضي بحكمه إلى قاضٍ معين أو إلى كل من يصل إليه من القضاة.
ولا بد من حضور الغائب عند قاضي المكان الذي غاب فيه، وإثبات غيبته الغيبة المعتبرة بعد وصول الكتاب للتنفيذ، قال ذلك الماوردي.(21/20)
ولو سمع القاضي بينة فقط كتبها وبينها ليبحث عنها قاضي بلد الغائب إن لم يعدلها فإن عدلها لم يبينها أو يسمها، ولو حكم القاضي بالبينة وكتب كتاباً بالحكم نفذ الكتاب قربت المسافة أم بعدت، أما لو كتب كتاباً بالبينة فلا يقبل إلا في مسافة العدوى وهي التي تقدر بالذي يخرج من بيته مبكراً ثم يرجع بعد المخاصمة إليها مبكراً قبل دنو الليل، وهذا عند الشافعية(1).
أما المالكية فبما أنهم قسموا الغيبة ثلاثة أقسام ، فإجراءات الدعوى تختلف تبعاً لذلك فيما عدا الإنهاء فهو عندهم مثل الشافعية.
ففي الغائب القريب والمتوسط تسمع الدعوى والبينة عليهما في كل شيء ثم يكتب إليهما بالبينة ويعذر إليهما فإما قدما أو وكلا وإلا حكم عليهما في كل الحقوق ولا يرجى لهم حجة في ذلك.
وقال سحنون: الصواب لمتوسط الغيبة إرجاء الحجة له إذ قد لا يعرف الوكيل حجته احتياطاً ولو تعذر مجيئهما لخوف طريق حكم عليهما مع اليمين إلا في استحقاق العقار.
أما الغائب البعيد الغيبة أو منقطعها فلا يكتب إليه ولا يعذره ولكن ترجى له الحجة(2).
وقال المالكية في الهارب إن استوفى حججه ثم هرب ثم رجع لم يكن له أن يستعيد حجته إلا إذا كان له حجة، لها فائدة فتسمع، وأما إذا هرب قبل استيفاء حججه فإنه يحكم عليه، وإذا رجع فمقتضى كلامهم أنه يمكن من إبداء حججه(3).
وإذا لم يكن للغائب المنقطع الغيبة على ما مر في ولاية القاضي مال أو كفيل أو وكيل لم تسمع الدعوى عليه بل تنقل الدعوى والشهادة دون حكم(4).
__________
(1) روضة الطالبين 11/178و181-تحفة المحتاج10/172-نهاية المحتاج8/283-مغني المحتاج4/409-أسنى المطالب4/319-المغني11/487-كشاف القناع6/355-التاج والإكليل6/141-المبسوط17/40-بدائع الصنائع6/222.
(2) تبصرة الحكام1/87-فتح العلي المالك2/300-حاشية الخرشي7/173.
(3) تبصرة الحكام1/87.
(4) فتح العلي المالك2/301.(21/21)
وذكر الحنفية إجراءات في القضاء على الغائب المتواري وذلك بأن يكتب القاضي إلى الوالي ليحضره فإن ظفر به وإلا بأن لم يظفر به وسأل المدعي الختم على بابه وأتى بشاهدين على وجوده في منزله ختم على منزله إن شهدا أنهما رأياه منذ ثلاثة أيام ، فإن زاد على ثلاثة أيام لم يختم على بابه، والصحيح عندهم أن الختم مفوض للحاكم ثم ينصب وكيلاً عنه ويحكم عليه(1).
8-مآل القضاء على الغائب:
بعد أن يقضى على الغائب فيما يقضى عليه وقضي عليه ثم حضر فماذا يفعل أو يصنع؟.
فإذا حضر الغائب وبلغ الصبي ورشد وأفاق المجنون وظهر المستتر قبلت حججهم لأنهم صاروا كالحاضرين وزال المانع من حضورهم فتقبل حججهم وجرحهم بالبينة، والعبرة بالجرح يوم الشهادة لاحتمال حدوثه بعد الحكم بالبينة فلا يقبل الجرح حينئذ.
وإذا قدم الغائب قبل الحكم أوقف الحكم وكذلك إذا سمع البينة على الغائب ثم حضر قبل أن يحكم القاضي فلا يجب على القاضي استعادة البينة وإنما يخبر الغائب بالبينة ويمكنه من جرحها ويمهله ثلاثة أيام ليتمكن من جرحها وتقدم بينته بالتجريح على بينة التعديل.
وهذا عند المالكية والشافعية والظاهر عند الحنابلة.
وقال ابن قدامة: لا يدفع للمدعي شيء حتى يقيم كفيلاً يضمن ما أخذه إن أبطل الغائب دعواه حين حضوره حتى لا يضيع حقه.والظاهر عدم اشتراط الكفيل عند الحنابلة والله أعلم، ويشبه هذا ما قاله ابن الماجشون وأصبغ من المالكية من أنه لا ترجى حجة لغائب، وذلك أن من أصلهما أن يقدم القاضي وكيلاً يقوم بحجته ويعذر إليه كالحاضر.
وإذا حكم القاضي ولم يسم الشهود لم ينفذ حكمه، وفي رواية: أنه ينفذ، فإن لم يكن مشهوراً بالعدل تعقبَ حكمَه من يخلفه من بعده لأن هذا لا يمضي حكمه إلا من العدل.
__________
(1) ابن عابدين 5/415ط1966.2.(21/22)
والحجة ترجى عند المالكية للغائب المتوسط والبعيد فقط لا القريب الغيبة(1).
وإذا باع القاضي شيئاً للمصلحة أو أجره بأجرة مثله ثم قدم الغائب فليس له الفسخ،لأن ما فعله القاضي كان بنيابة شرعية، ومال من لا ترجى معرفته للقاضي بيعه وصرف ثمنه في المصالح، وله حفظه.
وقال ابن حجر: يبطل البيع على الأوجه، وقال الروياني:لا يبطل.ويقدم قول ابن حجر إذ على رأيه الفتوى(2)، وهو الذي أراه راجحاً طالما بان يقين خطئه.
ولو حكم على الغائب على أنه ميت ثم تبينت حياته بعد بيع الحاكم ماله في دينه بان بطلان التصرف إن كان الدين مؤجلاً لتبين بقائه، وكذلك لو بان أنه لا دين،بان بطلان البيع أيضاً(3).
ومن خلال ما ذكر يتبين أهمية إعادة محاكمة الغائب عند حضوره، ثم ينظر فيما ادعي به عليه، ويبطل كل ما ألزم به مما يستبين بطلانه، فإذا وجدت ضرورة بالغة ملجئة التجىء للكفيل الضامن للحق المُسَلَّم للمدعي وإلا فلا.
القضاء على الغائب في القوانين السورية
الحضور أمام المحاكم و الغياب :
إن مبدأ علنية المحاكمة من النظام العام ، و يستثنى من ذلك ما ترى المحكمة سريته ، أو ضرورة إجرائها خارج قاعة المحكمة (م128 أصول المحاكمات ) .
و لذلك يعد إصدار الحكم في جلسة علنية من النظام العام .
و عليه أبين حكم القضاء و أصول المحاكمة مع الغياب :
المقصود بالغياب :
هو عدم حضور أحد الخصوم جلسة المحاكمة .
فإذا حضر المدعى عليه جلسة ما كانت الخصومة وجاهية .
__________
(1) روضة الطالبين11/196-مغني المحتاج4/408و415-أسنى المطالب4/317-327-التجريد4/367-فتح الوهاب2/216-الشرح الكبير11/458-حاشية الروض7/556-كشاف القناع6/354-تبصرة الحكام1/86-فتح العلي2/297-الخرشي7/172-شرح منح الجليل4/206-التاج والإكليل6/144.
(2) مغني المحتاج4/418-تحفة المحتاج10/173.
(3) تحفة المحتاج10/186.(21/23)
و يعد الغياب قائماً بانقضاء ساعة على ميعاد المحاكمة المعين دون حضور المدعى عليه ، فتسري عليه آثار التخلف عن الحضور .
و عليه فإذا تقدم بعذر مشروع قبل ميعاد الجلسة لم يعد غائباً ، لتحدد المحكمة جلسة مجدداً ( م121 أصول المحاكمات ) .
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار كون التبليغ الحاصل صحيحاً غير باطل ، كعدم وجود اسم المحكمة ، أو اختلاف تاريخ الحضور عن تاريخ الجلسة ، أو بُلغ في الموطن دون بيان جواز تبلغ المُبلغ .. فلا يعد التبليغ قانونياً .
و ذهب قانون الأحوال الشخصية السوري إلى تعريف الغياب بأنه (م202 ) :
(( المفقود هو كل شخص لا تعرف حياته أو مماته أو تكون حياته محققة و لكن لا يعرف له مكان )) .
و في المادة (203) : (( يعتبر كالمفقود الذي منعته ظروف قاهرة من الرجوع إلى مقامه أو إدارة شؤونه بنفسه أو بوكيل عنه مدة أكثر من سنة و تعطلت بذلك مصالحه أو مصالح غيره )) و في المادة (109) : (( 1 ـ إذا غاب الزوج بلا عذر مقبول أو حكم تعقوبة الجن أكثر من ثلاثة سنوات جاز لزوجته بعد سنة من الغياب أو السجن أن تطلب إلى القاضي التفريق ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه . 2ـ هذا التفريف طلاق رجعي ... )) .
و يلحظ أن القانون هنا عمم المفقود ليشمل معلوم الحياة و المكان أو الحياة فقط و لكنهما غائبان عن محل الالتزام .
و هو ما تكلم عنه قانون أصول المحاكمات و قصده ممن يكون معلوم الحياة و المكان أو معلوم الحياة فقط ، ولابد من شموله لمضمون المادة (203) .
و أما قانون الأحوال الشخصية فتكلم عن المفقود غير المعلوم حاله مطلقاً و بين في المادة (205) حكمه إذ يعد المفقود ميتاً ببلوغه الثمانين إذا فقد حال السلم ، و في حال الحرب و ما أشبهه فيحكم بموته بمرور أربع سنوات من تاريخ فقده(1) .
__________
(1) المرشد في قانون الأحوال الشخصية السوري : 1/753 ـ775 ، الأحوال الشخصية للدكتور الكردي : 123ـ127 .(21/24)
و بهذا يكون الغائب عرضة للتفريق بينه و بين زوجته بعد مرور سنة على غيابه ( م 109 أحوال ) .
و أما أمواله فقد سكت قانون الأحوال الشخصية السوري عن ذلك فهل يؤخذ بالراجح من مذهب الحنفية بمقتضى المادة ( 305 أحوال ) فيعد حياً من حين فقده إلى حين الحكم بموته في حق تركته و ورثته ، و يعد ميتاً في حق تركة مورثيه احتياطا(1)ً .
و لكن ذهبت محكمة النقض إلى أنه : (( يعتبر المفقود ميتاً بالنسبة لمال غيره و حياٍ بالنسبة لمال نفسه حتى صدور الحكم ببلوغه الثمانين من عمره أو باعتباره ميتاً بعد مرور أربع سنوات على فقدانه في حالة يغلب فيها الهلاك كالحرب ، و لا عبرة لتأخر صدور الحكم إلى ما بعد هذين الأجلين ( الغرفة الشرعية ـ أساس 215 ـ قرار 217 ـ تاريخ 28/3/1977 ) (2) .
و بهذا يتبين قصر المادة (305 ) على ماعدا المفقود في العمليات العسكرية و ما يشبهها و هو نص المادة ( 205 ) ، و هذا وفق التعديل عام 1975 .
أحكام الغياب في قانون أصول المحاكمات السوري :
تقرر المحكمة شطب الدعوى لعدم حضور المتداعيين جلسة المحكمة بعد انقضاء ساعة على ميعاد المحكمة (م118 أصول المحاكمات ) و تنعدم الدعوى كلية و دون حكم بذلك بعد مضي ستة أشهر دون طلب السير فيها من أحد الخصوم ، و كأن الاستدعاء لم يكن أصلاً ، و معنى الإبطال : اعتبار الدعوى لم ترفع أصلاً (م119 أصول المحاكمات ) و أما غياب المدعى عليه فبيانه : أن لا يحضر المدعى عليه الجلسة الأولى للمحكمة فتؤجل المحكمة الدعوى إلى جلسة ثانية يبلغ بميعادها (م116 أصول المحاكمات ) .
و من ثم توجه إلى الغائب مذكرة بالحضور متضمنة إخطاراً بعدِّ الحكم وجاهياً
__________
(1) الأحوال الشخصية : 128 .
(2) المرشد في قانون الأحوال الشخصية السوري : 1/768 .(21/25)
(م117أصول المحاكمات ) إذ تعد الأحكام الصادرة عن المحاكم وجاهية أو بمثابة الوجاهية ، و في هذا إنكار لمبدأ الغيبة بالنسبة للخصوم و عد الأحكام وجاهية بالنسبة للمتخاصمين .
و قد نصت المادة (34 ) من القانون المدني السوري : (( يسري في شأن المفقود والغائب الأحكام المقررة في قوانين خاصة فإن لم توجد فأحكام الشريعة الإسلامية )).
و نصت محكمة النقض : (( المفقود يعتبر ميتاً في الأحكام التي تنفعه و تضر غيره ))
( الغرفة الشرعية أساس 417 ـ قرار 420 تاريخ 30/11/1964 ) .
و بهذا يستفاد أن الأحكام الضارة به يرجع فيها فيما يتعلق بزوجته و أمواله إلى قانون الأحوال الشخصية ، و فيما عاد ذلك يعده القانون المدني السوري وفق ما سبق من عد الأحكام وجاهية(1) .
و أما غياب المدعي : فإذا غاب المدعي عن الجلسة الأولى فالمدعى عليه بالخيار بين طلب شطب استدعاء الدعوى أو الاستمرار للحكم في القضية .
فإذا أراد الاستمرار أجلت القضية إلى جلسة أخرى و أبلغ المدعي بذلك(2) .
إجراءات التبليغ و الغياب :
إن غياب الشخص المطلوب تبليغه عن موطنه يجيز تبليغه بمقتضى المادة (22 أصول المحاكمات ) : ((بتسليم الورقة إلى وكيله أو مستخدمه أو لمن يكون ساكناً معه من الأصول أو الفروع أو الزوج أو الإخوة أو الأخوات ممن يدل ظاهرهم على أنهم أتموا الثامنة عشر من عمرهم على أن لاتكون مصلحة المطلوب تبليغه متعارضة مع مصلحتهم )) .
و نصت محكمة النقض السورية على ضرورة تضمن محضر التبليغ ما يفيد جريان التبليغ لأحد المذكورين لعدم وجود المخاطب .
__________
(1) المرشد في قانون الأحوال الشخصية السوري : 1/772 ـ 773 .
(2) أصول المحاكمات 407 ـ413 .(21/26)
و إذا لم يجد المحضر من يبلغه أو امتنع من يمكن تبليغه سلم المحضر ورقة التبليغ للمختار و الذي يتبعه موقع الموطن المراد تبليغه ، و يلصق المحضر بياناً على باب المطلوب تبليغه بأن التبليغ سلم إلى المختار ، و ذلك بحضور المختار أو اثنين من الجوار أو أفراد القوى العامة مذيلاً ذلك بتوقيع المختار أو الشاهدين مبيناً كل ذلك بالتفصيل . (م23 أصول محاكمات )
وإذا جهل موطن المراد تبليغه ، فتلصق خلاصة أوراق الدعوى في لوحة إعلانات المحكمة ، و يقوم بذلك المحضر ، كما يعلن ذلك في صحيفة يومية (م26 أصول المحاكمات ) و هذا بعد التأكد من أن الشخص مجهول الموطن بعد استنفاد جهد المحضر في معرفة موطن هذا الشخص .
وأجاز قانون أصول المحاكمات تبليغ المقيم في بلد أجنبي بواسطة البريد (م28 أصول المحاكمات ) و ذلك برسالة مسجلة أو وفق إجراءات القانون المحلي مالم يرد نص في اتفاقية دولية بخلاف ذلك (م32 أصول المحاكمات )(1) .
و إذا كان الغائب مفقوداً لم تعرف حياته من موته و لم يترك وكيلاً عاماً أو لم توجد فيه شروط الوصي فيعين القاضي الشرعي وكيلاً قضائياً عن المفقود لإدارة شؤونه (م204 قانون الأحوال الشخصية السوري )
و يعد الوكيل القضائي كالولي و الوصي إلا ما استثني بنص صريح (م206 أحوال ) .
و قصر العلامة قدري باشا عمل الوكيل القضائي على الحفظ و الإدارة دون التثمير و الاتجار ( م573 الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية ) و نصها :
(( إذا لم يكن المفقود ترك وكيلاً ينصب القاضي له وكيلاً يحصي أمواله المنقولة و غير المنقولة و يحفظها و يقوم عليها و يحصل غلاته و ريع عقاراته و يقبض ديونه التي أقرت بها غرماؤه ))(2) .
ج-خاتمة:
__________
(1) أصول المحاكمات 369 ـ 378 .
(2) انظر الأحوال الشخصية للدكتور الكردي : 123 .(21/27)
وهكذا تم بفضل الله وعونه هذا البحث وقد حددت فيه آراء الفقهاء في الغيبة وآراءهم في جواز القضاء على الغائب وكيف تجري الدعوى وبما يحكم به على الغائب وما مآل الحكم على الغائب وشروط الحكم عليه..
فكان طابع البحث الأصول الفقهية لدى المذاهب في مسألة الغياب وما يتعلق بها.
هذا وقد سهلت بدراستي هذه-كما ذكرت- أصول الفقهاء في الغيبة إذ محور بحث الغيبة إنما يدور حول القضاء على الغائب ثم بعد ذلك يتوسع في حقيقة الغياب بشكل عام وما يتعلق بها.
فالحمد لله الذي وفقني لهذا وأرجو أن يوفقنا لخدمة دينه والإخلاص لوجهه وأن يهيىء لنا أسباب ذلك،والله الموفق وهو خير مسؤول وبالإجابة جدير.
وتتمثل نتائج البحث فيما يلي:
الغائب هو الغائب عن مجلس المحاكمة وعن البلد بحيث لم يدر موضعه.
جواز القضاء على الغائب بشروط.
إن شروط القضاء على الغائب تحفظ حق الغائب المدعى عليه كما تحفظ حق المدعي.
لا تقبل الدعوى على الغائب دون بينة ظاهرة.
يستند المسخر الوكيل عن الغائب في إنكار ثبوت الحق على موكله إلى أصل البراءة الأصلية، ولو مع وجود بينة بالحق المدعى، إذ ربما وفاه دينه بعد ثبوته.
تأكد ثبوت الحق للمدعي بتحليفه.
إن وجود وكيل للغائب يجعل الدعوى على حاضر لا غائب.
نشر وإعلان دعوى المدعي في وسائل الإعلام المتاحة ليعلم الغائب أهمية حضوره.
إن من تمام مفهوم الغيبة عدم وجود وكيل للغائب وإلا لم يكن غائباً.
يقضى على الغائب في حقوق العباد دون إبرام إلى أجل، ويحفظ وجود الكفيل للمدعي حق المدعى عليه في حال تسليم المدعي ما ادعاه ،وينظر في حقوق الله تعالى فإن قامت ضرورة حكم كذلك وإلا فلا.
إذا حضر الغائب أعيد النظر في المحاكمة والبينات..
د-ثبت المصادر
أ-1-القرآن الكريم
ب-الحديث:
ج-1-الفقه الحنفي:
2- الفقه المالكي:
الفقه:3-الفقه الشافعي:
4-الفقه الحنبلي:
د- الكتب الفقهية الحديثة
الأحوال الشخصية ... الدكتور أحمد الحجي الكردي ... جامعة دمشق(21/28)
26 ... الفقه الإسلامي وأدلته ... الدكتور وهبة الزحيلي ... دار الفكر
27 ... نظرية الدعوى ... الدكتور محمد نعيم ياسين ... وزارة الأوقاف بمصر
28 ... وسائل الاثبات في الشريعة الإسلامية ... الدكتور محمد الزحيلي ... دار البيان
29 ... الإجماع ... ابن المنذر ... دار الثقافة-الدوحة- قطر
هـ- الكتب اللغوية:
و – الكتب القانونية : أصول المحاكمات في المواد المدنية و التجارية رزق الله الأنطاكي – جامعة دمشق .
المرشد في قانون الأحوال الشخصية تنسيق أديب استنبولي – المكتبة القانونية .
الفهرس
المطالب ... رقم الصفحة
ملخص البحث ... 1
المقدمة ... 2
خطة البحث ... 3
تعريف القضاء وتعريف الغائب ومن هو الغائب ... 4
آراء الفقهاء في الحكم على الغائب ... 5
الأدلة ... 7
القرآن الكريم ... 7
السنة المشرفة ... 7
أقوال الصحابة وآثارهم ... 7
الإجماع ... 8
المعقول ... 8
أدلة الحنفية ... 9
شروط القضاء على الغائب ... 10
اقامة الدعوى ... 10
أن يكون للمدعي بينة ... 10
إقامة وكيل عن الغائب ... 12
تحليف المدعي على ثبوت الحق له في ذمته ... 12
إعذار الغائب ... 14
إقامة الوكيل ... 15
مايقضى به على الغائب ... 15
إجراءات دعوى القضاء على الغائب ... 16
مآل القضاء على الغائب ... 17
القضاء على الغائب في القوانين السورية ... 19
خاتمة ... 22
ثبت المصادر ... 23
الفهرس ... 27(21/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقاصد المرعية من تقنين الأحكام القضائية
في القضاء الشرعي
…………………
تقديم: د. عمر بن صالح بن عمر
…………………كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
…………………… جامعة الشارقة
مقدمة:
حرصت الشريعة الإسلامية في كل نظمها وتشريعاتها على إقامة العدل وتوطيد الأمن، واستئصال كل ما من شأنه يؤدي إلى الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين. فشرعت الأحكام القضائية لما في القضاء من مصالح العباد ومنع التظالم والعناد. ولكن الاجتهاد في القضاء اليوم يعجز عنه...(1)، وذلك لكثرة مشاغل القضاة، وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل ما استجد من قضايا، خاصة مع تطور الحياة وتعقدها، مع حاجة الناس إلى معرفة أحكام هذه المستجدات، مما يجعل من التقنين أمرا ضروريا، فهو ييسر على القضاة الرجوع إلى الأحكام الشرعية، وأمثل الأقوال فيها، ويوفر لهم الوقت فلا يحتاجون إلى إضاعته في البحث والتنقيب بين صفحات الكتب، وقد يعثر عليها وقد لا يعثر، خاصة مع عدم وجود كتاب سهل العبارة، ميسر الأسلوب. ولعل ما يحقق ذلك: تقنين الأحكام القضائية في القضاء الشرعي.
والتقنين: من "قنن" بمعنى: وضع القوانين، وقانون كل شيء: طريقه ومقاسه، وهي كلمة من أصل غير عربي. قال ابن سيده: "أراها دخيلة"(2). ونعني بالتقنين في هذه الدراسة: إلزام القاضي بالقضاء بأحكام معينة لا يتجاوزها مهما خالفها اجتهاده لو كان مجتهدا. (يراجع أوراق التقنين/2)
__________
(1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: مجلة البحوث الإسلامية، العدد32 ص30.
(2) ابن منظور: لسان العرب 13/349.(22/1)
ومسألة التقنين ليست وليدة العصر الحاضر، وإنما هي ضاربة في جذور التاريخ الإسلامي، نادى بها الخليفة العباسي المنصور حين دعا الإمام مالك إلى جعل كتاب: "الموطأ" قانونا للدولة يسير القضاة والمفتون، فيأبى مالك معللا بأن فقهاء الصحابة قد تفرقوا في الأمصار، ولكل منهم علمه وفقهه، قال مالك: "لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم". فقال المنصور: "لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرت"(1). وقد جرى تطبيق التقنين عمليا عبر: "مجلة الأحكام العدلية" في أواخر عهد الدولة العثمانية سنة (1293هـ/1876م)(2).
ومن هنا تتمثل إشكالية الدراسة في ظل تباين أقوال العلماء بين مجيز للتقنين ومانع منه في السؤال الآتي: ما هي المقاصد المعتبرة التي يمكن أن يحققها التقنين عند من يقول بإجازته؟
وتبدو أهمية الدراسة في جملة من الأمور منها:
بواعث التقنين ودواعيه، والتي منها:
تشعب القضايا وتنوعها مع قلة العلم وضعف الملكة القضائية لدى بعض القضاة خاصة حديثي العهد بالقضاء.
قلة الوازع الديني لدى بعض القضاة.
اختلاف أحوال القضاة علما وأمانة وعدلا، والاختلاف في الثقة بهم قوة وضعفا.
تداخل المصالح بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وتشابك العلاقات بينهما.
إن موضوع التقنين موضوع قديم جديد، تعارضت فيه أقوال العلماء بين مجيز ومانع، لا يزال محتاجا إلى مزيد بحث وبيان.
__________
(1) القاضي عياض: ترتيب المدارك 1/101.
(2) د.عمر بن صالخ بن عمر: المدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي/117.(22/2)
التقنين نوع من أنواع الاجتهاد الجماعي، حيث تلتقي مجموعة من العلماء للنظر في الأحكام المتعلقة بفرع من فروع الفقه، مثل: "الأحوال الشخصية" أو "المعاملات المالية"... ولا يخفى ما للاجتهاد الجماعي من أهمية تتمثل في كونه:
سبيلا لتوحيد كلمة الأمة.
محققا لمبدأ الشورى في استنباط الأحكام الشرعية.
أكثر دقة وإصابة من الاجتهاد الفردي، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : {... وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد...}(1).
فهذه الأمور مجتمعة تدعو إلى القول بالحاجة إلى التقنين. وتأتي هذه الدراسة: "المقاصد المرعية من تقنين الأحكام القضائية في القضاء الشرعي" لتؤكد على هذا، وذلك بإبراز المقاصد المعتبرة للتقنين من: إقامة شرع الله وإحقاق الحق، وتحقيق العدالة، وتوحيد الكلمة، ومراعاة المصالح. وقد اقتصرت على هذه المقاصد دون التعرض للحديث عن منشأ التقنين، وأقوال العلماء فيه إجازة ومنعا، وأدلة كل فريق، توخيا للاختصار، والتزاما بموضوع الدراسة، وهو: مقاصد التقنين.
ولتحقيق ما تصبو إليه هذه الدراسة من أهداف جاءت في مقدمة وأربعة مطالب وخاتمة.
المقدمة: في أهمية الموضوع وأسباب اختياره ومنهج البحث وخطته.
المطلب الأول: يتناول إقامة شرع الله وإحقاق الحق، بما ييسره التقنين من معرفة الأحكام الشرعية وسهولة الرجوع إليها، مع ضمانة الأحكام من التلاعب في زمن قل فيه الوازع الديني، وضعف التحصيل العلمي، مما يجعل لهوى النفس نصيب في استصدار الأحكام القضائية.
المطلب الثاني: تحقيق العدالة، فكلما كانت الأحكام القضائية مقننة، كلما كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة، والتيسير على الناس، وأضمن لتحقيق المساواة.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الجامع، وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أحمد في المسند.(22/3)
المطلب الثالث: مراعاة مصالح الناس وتحقيق ضرورياتهم: فالتقنين يحقق جملة من المصالح تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفظ بما ذلك:
من فصل للخصومات، وردع للظالم، ونصرة المظلوم.
ومن تيسير الرجوع إلى الأحكام القضائية، وأمثل الأقوال فيها، وتوفير الوقت للقضاة فلا يحتاجون إلى إضاعته في البحث والتنقيب بين صفحات الكتب وقد يعثرون عليها وقد لا يعثرون.
ومن ثقة الناس بالمحاكم الشرعية، ونفي للتهمة عن القضاة، إذ أن اختلاف القضاة في المسألة الواحدة يؤدي إلى إحدث بلبلة واضطراب بين الناس مما يفقد الثقة بالمحاكم الشرعية والزهد فيها، ويدفعهم إلى اللجوء إلى غير المحاكم الشرعية.
ومن حث على البحث والاجتهاد، وتحري أرجح أقوال العلماء التي تحقق مصالح الناس في عصرهم.
المطلب الرابع: توحيد الكلمة وتحقيق الوحدة، إذ عدم التقنين يفسح المجال لاجتهاد كل قاض بما يراه مما ينتج عنه اختلاف القضاة في المسألة الواحدة كما هو مشاهد ومعلوم– وستعرض الدراسة- بإذن الله نماذج من ذلك. وهذا قد يؤدي إلى التنازع والاختلاف. ومهما قيل بأن التقنين لا يرفع الخلاف- كما يراه المانعون من التقنين- فإنه ولا شك يحد من الاختلاف، ويقرب بين وجهات النظر.
وأما الخاتمة فأبرزت أهم النتائج المتوصل إليها، وبعض التوصيات.
واتبعت في هذه الدراسة المنهج العلمي الاستنباطي القائم على تحليل النصوص واستخلاص المقاصد اعتمادا على الأدلة الواضحة. فما كان فيه من صواب فمن الله والحمد لله، وما كان من خطإ أو تقصير فمن نفسي، وأستغفر الله، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
المطلب الأول:
إقامة شرع الله وإحقاق الحق(22/4)
من المقاصد التي يهدف التقنين إلى تحقيقها: إقامة شرع الله وإحقاق الحق، ومما ييسر ذلك: الالتزام بالقضاء بأرجح الأقوال، وقد امتدح الله عباده الذين يأخذون بالأرجح في قوله تعالى: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } ( من الآية 18: سورة الزمر)، ففي التقنين حث على الاجتهاد بالنظر في أقوال العلماء لاختيار أرجحها، وقد أجاز المالكية أن يحكم القاضي بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه لا بمذهب غيره، ولا بالضعيف من مذهبه(1). ونسب ابن قدامة إلى بعض العلماء جواز الحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين(2).
وإذا قلنا بجواز الحكم بالتقليد أو الأخذ بالراجح من مذهب الإمام فما المانع من القول بجواز الأخذ بالراجح من أقوال الأئمة إذا أدت إلى إقامة شرع الله وإحقاق الحق دون تعصب لرأي أو جمود على مذهب، وقد أمرنا الله بذلك في قوله: { فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } ( من الآية 26 سورة ص) والالتزام بقول دون غيره له من الأدلة ما يبرره ما دام لا يخرج عن إقامة شرع الله وإحقاق الحق. ولعل ما يبرر ذلك:
قلة الوازع الديني عند بعض القضاة مقرونا بقلة العلم، مما يجعل لهوى النفس نصيب في الأحكام القضائية ما لم تقنن.
صعوبة الرجوع إلى المصادر الأصلية والمراجع الأساسية لصعوبة العبارة أحيانا، وغموض الأسلوب، مما يدفع بالقضاة والمحامين من غير المختصين بالشريعة غير قادرين على الاستفادة من هذه المصادر والمراجع.
إحجام بعض الناس عن رفع قضاياهم إلى المحاكم الشرعية، ورفعها إلى المحاكم الوضعية لما يلحظونه من اختلافات في أحكام القضايا المتشابهة، ولا يخفى ما فيه ذا من احتكام للطاغوت، وهروب من إقامة شرع الله.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل 4/130.
(2) ابن قدامة: المغني 9/41.(22/5)
إلا أن من العلماء المانعين للتقنين يرون خلاف ذلك؛ فهو في نظرهم(1):
طريق للحكم بغير ما أنزل الله، وقد أمرنا الله بذلك في قوله - عز وجل -: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } (من الآية 105 سورة النساء) فالله أوجب الرجوع إلى ما تبين للقاضي أنه الحق، لا إلى ما قنن من أحكام. وهذا ما أكده الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِه،ِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ}(2)، ومن عرف الحق حسب اجتهاده واقتنع به، أو اقتنع به واعتقده ثقة لمقلده وتحسينا للظن به، ثم حكم بغير ما ظهر له أنه الحق فقد جار وأثم، وكان من أهل النار. ومن حكم بما قنن من أحكام وهو يرى خلافه فقد حكم بغير ما ظهر له أنه الحق. قال ابن قدامة: "إنه لا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي، ولا أعلم فيه خلافا لأن الله تعالى قال: { فاحكم بين الناس بالحق } ( من الآية 26 سورة ص) والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب"(3). وقال في حديثه عن شروط القاضي:
__________
(1) يراجع ما ذكره: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في: مجلة البحوث الإسلامية العدد 32 ص52. وبكر أبو زيد في: فقه النوازل 1/83. وعبد الرحمن الجرعي في : تقنين الأحكام بين المانعين والمجيزين، في موقع:
(2) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ. والترمذي في جامعه: كتاب الأحكام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي. وابن ماجه في سننه: كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق.
(3) ابن قدامة: المغني 9/106.(22/6)
"يشترط في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، مستدلا لذلك بقوله - عز وجل -: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } (من الآية 49 سورة المائدة) ولم يقل بالتقليد"(1).
والحكم بما أنزل الله أمر مسلم به لتظافر الأدلة على ذلك، إلا أنه لا يسلم لكم بأن مَنْ حكم بما قنن من أحكام ليس حاكما بما أنزل الله، فما التقنين إلا فَهْم واجتهاد من طائفة مختارة من العلماء، ولِوَليّ الأمر أن يلزم القضاة بقول من أقوال الفقهاء لما يحققه هذا القول من مصالح خاصة أو عامة، إذ التقنين لا يتولاه إلا نخبة من العلماء الثقاة العدول، هدفهم إقامة الشرع وإحقاق الحق دون تحيز سياسي أو تعصب مذهبي، وتحقيق المصالح للناس وتكميلها، ودرء المفاسد عنهم وتقليلها.
وقانون يحد من صلاحيات القاضي في تحقيق المصلحة، إذ الحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب"(2)، والأصل إذا ظهر له الحق وجب العمل به.
ويجاب عنه: بأن الحد من صلاحيات القاضي أولى من تفويت الحق من قضاة حديثي عهدٍ بالقضاء وقليلي علمٍ بالأحكام الشرعية، وقد تتنازعهم الأهواء والمصالح الشخصية. ولا يخفى أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأن ارتكاب أخف المفسدتين بتفويت أعلاهما أمر معتبر شرعا.
وطريق إلى هجر فقه الكتاب والسنة، وعدم الرجوع إليهما في هذا المجال اكتفاء بما قنن.
ويجاب عنه: بأن هذا مسلم لمن ضعفت همته بدليل انصرافهم عن مطولات فقه الكتاب والسنة إلى المختصرات الفقهية لمعرفة الأقوال دون تجشم لمتاعب البحث والاستدلال. فضلا عن كون الأحكام المقننة لا تخرج عن دائرة فقه الكتاب والسنة.
وطريق إلى القضاء على التراث الفقهي اكتفاءً بما قنن من أحكام، مما يدفع الناس إلى الاقتصار على قول واحد وإهمال بقية الأقوال.
__________
(1) المرجع السابق 9/40 -41.
(2) ابن قدامة: المغني 9/106.(22/7)
ويجاب عنه: بنحو من الإجابة السابقة بأن أصحاب الهمم العالية لا يمنعهم وجود الأحكام المقننة من الاستفادة من التراث الفقهي في تطوير ما قنن من أحكام وفي غيره من المجالات.
أما الاقتصار على قول واحد وإهمال بقية الأقوال، فإن هذه الأقوال ليست من الشريعة حتى يجب العمل بها كلها، ولا مجال للعمل بها كلها في آن واحد، وبأيهما أخذ فقد أصاب الحق على القول بأن كل مجتهد مصيب، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قوله: "ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة"(1). ومع ذلك فإن ما قنن من أحكام يظل محل دراسة ونظر من المختصين للتحسين والتطوير، ولا يلزم منه إغلاق باب الاجتهاد في وجوه الأقوياء من القضاة.
وقد يكون طريقا للزيادة في الشريعة أو الإنقاص منها، وإحلال القوانين الوضعية محلها.
ويجاب عنه: بعدم التسليم، وأنه أمر بعيد لأن المراد بالتقنين هو تدوين الراجح من أقوال الفقهاء مع أخذ مصالح الناس بعين الاعتبار. وقصر القضاة على ما قنن لا يؤدي إلى الزيادة في الشريعة أو الإنقاص منها. ومهما كثر التعديل فلن يبلغ إلى درجة تبديل الشريعة أو تحريفها، فإنه لن يكون إلا من مجتهدين ثقاة مخلصين. بل عدم التقنين قد يؤدي إلى ترك الشريعة وإهمالها لما يلحظونه من تعقيد العبارة وجزالتها، وصعوبة الأسلوب وغموضه، وعدم المنهجية العلمية المتعارف عليها اليوم في عرض المسائل في أمهات الكتب الفقهية.
المطلب الثاني:
تحقيق العدالة
إن العدالة في الإسلام تنبع من رؤيته للعدل في كل حركة وسكون وقصد وعمل. ولا يخفى أن إقامة العدل من المقاصد المعتبرة شرعا، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
قول الله - عز وجل -: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } (الآية58 سورة النساء).
__________
(1) الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه 2/59.(22/8)
وقوله - عز وجل -: { ...وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } (من الآية 42 سورة المائدة). وقال: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } (الآية 135 سورة النساء)، فالله لم يدع المؤمنين إلى إقامة العدل، بل دعاهم إلى أن يكونوا { قوامين بالقسط } أي: مواظبين على العدل في جميع الأمور، مداومين عليه، مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد(1).
وقوله - عز وجل -: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } (من الآية 90 سورة النحل) قال الطبري: "إن الله يأمركم يا معشر ولاة أمور المسلمين أن تؤدوا ما ائتمنتكم عليه رعيتكم من فيئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها، ولا تستأثروا بشيء منها، ولا تضعوا شيئا في غير موضعه... ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكم الله الذي أنزله في كتابه، وبينه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لا تعدوا ذلك فتجوروا عليهم"(2).
فكثرة الآيات والأحاديث الحاثة على العدل والآمرة به تغرس في نفوس المؤمنين "حاسة العدالة"، وينطبعوا بحب العدل، والنفور من الظلم.
__________
(1) الألوسي: تفسير روح المعاني 5/167.
(2) الطبري: تفسير الطبري 8/498.(22/9)
ومن وسائل تحقيق هذا المقصد تشريع القضاء، ولا خلاف بين العلماء في اشتراط العدالة فيمن تولى القضاء، فقد حكى ابن تيمية اتفاق الأئمة على ذلك، وقال: "سئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلى عالم فاسق أو جاهل، فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات، قدم العالم. وأكثر العلماء يقدمون الدين، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولى أن يكون عدلا، أهلا للشهادة..."(1).
وما اشتراط العدالة في القضاة إلا ليكفل القضاء لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدةً ثابتةً للتعامل لا تميل مع الهوى، ولا تتأثر بالبغض والعداوة، ولا تتبدل بتبدل أحوال الناس فقرا وغنى، وقوة وضعفا ووجاهة، قال الله - عز وجل - : { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا... } (من الآية 2 سورة المائدة). وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت}.
__________
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 28/259.(22/10)
وكلما كانت الأحكام القضائية محددة ومبينة، ومعروفة للقاضي والمتقاضي كلما كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس، وأكفل لتحقيق المساواة بينهم، وطمأنة نفوسهم(1)، خاصة وأن تلك الأحكام المقننة مأخوذة من كتاب الله - عز وجل - وما صح من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومراعية لقواعد المعادلة والترجيح والضرورات، وحريصة على تحقيق العدل بين الناس، و"بما أن الأحكام القضائية في أصلها سماوية ربانية، فهي أحكام عادلة مطلقة زمانا ومكانا وأشخاصا"(2). ومثل هذه الأحكام المقننة تحد من تمايز المتقاضين أمام القانون، فالكل سواء، حتى ولو وقعت تجاوزات فستكون مفضوحة معلومة للجميع للقاضي والمتقاضي وللناس عموما.
وأما إذا كانت الأحكام المقننة جائرة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها، لم تجب الطاعة فيها للإجماع على أنه: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
واعترض القائلون بمنع التقنين - فيما أورده الزرقا- "بأن إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر يؤدي إلى إمكان أن يتصرف الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها، وقد لا يهمه موافقتها لقواعد الشريعة، وقد يكون هو جاهلا أو فاسقا لا يبالي تهديم الشريعة، فكيف تجب طاعته شرعا في هذه الأوامر؟
وأجاب على ذلك بأن هذه النصوص الفقهية مرفوضة في إحدى حالتين:
إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل التقوى والاجتهاد في الشريعة كما كان في الصدر الأول من العهد الإسلامي.
وإما ألا يكون عالما مجتهدا وعندئذ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم في الشريعة وموافقتهم"(3).
__________
(1) محمد سلام مدكور: المدخل إلى الفقه الإسلامي/380.
(2) أ. د. محمد الزحيلي: فقه القضاء والدعوى والإثبات/27.
(3) الزرقا: المدخل الفقهي العام 1/195.(22/11)
ولا خلاف بين العلماء أن من مقاصد القضاء: إقامة العدل، و"تحقيق مصالح العباد، ومنع التظالم والعناد، وفصل الخصومات ورد الظلمات، وإقامة الحدود، وردع الظالم ونصرة المظلوم"(1). إلا أن كثرة اختلاف القضاة اليوم في القضايا المماثلة، مع ضعف القريحة وقصر النظر وتسلط الهوى على ضعاف النفوس من القضاة أوجدت الريبة في الأحكام والشك في القضاة، حتى صرنا نسمع أيهم الصحيح؟
ومن هذا المنطلق يكون التقنين كفيلا إلى حد ما بتحقيق العدالة على جميع الناس دون تمييز بين كبير وصغير، غني وفقير، ومسلم وذمي(2). وهو أدعى كذلك لتحقيق المساواة بين الناس، وطمأنة نفوسهم تجاه القضاة.
المطلب الثالث:
مراعاة مصالح الناس
إن تقنين الأحكام في عصر ما، بناء على اجتهاد فئة من العلماء مع مراعاة ظروف الناس وأحوالهم يحقق للناس مصالح عامة وخاصة، تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفظ كما لا يخفى. ومن هذه المصالح:
إبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية وحفظ حقوق الناس، وفصل الخصومات، وردع الظالم، ونصرة المظلوم، وإيصال الحقوق لأصحابها، مع ما قد ينشأ عن عدم التقنين من اضطراب في الأحكام الشرعية، وحيرة بين المتقاضين.
__________
(1) القرافي: الذخيرة 10/6.
(2) أ. د. محمد الزحيلي: فقه القضاء والدعوى وطرق الإثبات/23.(22/12)
التقنين يكرس روح الاستقلال في قضائنا، وينشر ثقافة القوانين الإسلامية في العالم؛ قال الدكتور محمد عبد الجواد محمد: " قال السنهوري تحت عنوان "الشريعة الإسلامية لا تزال شريعة حية صالحة للتطبيق": هذه هي الشريعة الإسلامية، لو وطئت أكنافها، وعبدت سبلها، لكان لنا من هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا، وفي قضائنا، وفي تشريعنا، ثم لأشرفنا نطالع العالم بهذا النور الجديد، فنضيء به جانبا من جوانب الثقافة العالمية في القانون"(1).
التقنين يحث المقننين على البحث والاجتهاد وتحري أرجح أقوال العلماء وما يحقق للناس مصالحهم، وبذا يكون التفنين أقرب لتحقيق المصلحة.
إلا إن المانعين من التفنين اعتبروه حاثا على التقليد، مستلزما للجمود على ما قننوه، والله قد ندد بالتقليد وأهله في قوله: { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } (الآية 22 سورة الزخرف).
وهذا غير مسلم؛ لإن الأحكام المقننة قابلة للتعديل إذا دعت الضرورة إلى ذلك، إذ "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان"، و"القول بعدم تعديل القوانين إذا ظهرت المصلحة في تعديلها يناقض بناء الإسلام على رعاية مصالح الناس، وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان"(2).
تفنين الأحكام القضائية يبرز قدرة الشريعة على مواكبة الأحداث، فهو أمر يتماشى وفقا لقاعدة:" تبدل الأحكام بتبدل الزمان".
وفي تقنين الأحكام رعاية للمصلحة بارتكاب أخف المفسدتين تفاديا لأشدهما، وهذا على قول القائلين بان في التفنين مضرة الجمود على ما قنن من أحكام، إلا أن مضرة عدم إلزام القاضي بأن يقضى بقول معين قد تكون أشد من مضرة إلزامه بذلك.
وفيه تحصيل لأعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما.
__________
(1) د. محمد عبد الجواد محمد: بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون، تقنين الشريعة الإسلامية/26.
(2) مسيرة الفقه الإسلامي/464.(22/13)
كما أن عدم التفنين قد يؤدي إلى إحداث بلبلة، وينشأ عنه اضطراب في الأحكام، وريبة في القضاة، واتهامهم باتباع الهوى، مما يفقد الثقة بالمحاكم الشرعية، والزهد فيها، مما يدفعهم إلى اللجوء إلى المحاكم غير الشرعية. قال القرافي: ”القضاء محنة عظيمة، فمن دخل فيه فقد ابتلي بعظيم لأنه عرّض نفسه لهذه الأنواع، والخلاص أحسن... فإنه لا يصل إلى الخلاص إلا بشدائد عظيمة جدا من مراقبة الهوى ومخالفته، وسياسات الناس مع الاحتراز منهم خصوصا ولاة الأمور، مع إقامة الحق عليهم، إلى غير ذلك..."(1). فهو أنفى للتهمة لعظم خطر القضاء، ولضعف الناس وغلبة الهوى، فإذا ألزم القاضي بألا يقضي إلا بما هو مقنن أمامه، وثابت في قوانينه، فلا مجال له للتلاعب والتجاوز. ومن شأن ذلك أن يحد من اختلاف القضاة في المسألة الواحدة.
المطلب الرابع:
توحيد الكلمة وتحقيق الوحدة
__________
(1) القرافي: الذخيرة 10/6-7.(22/14)
وقوع أحكام اجتهادية قضائية في قضايا مماثلة مع انعدام أحكام مقننة يفسح المجال لاجتهادات قد تكون متناقضة في مسألة واحدة ينتج عنه اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون، مما يؤدي إلى تشتت الكلمة وذهاب الريح؛ قال تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } (من الآية 46 سورة الأنفال). وإن كان لا ينكر اختلاف الحكم باختلاف الظروف والأحوال أو لتغير اجتهاد القاضي، وهذا سائغ شرعا، فقد حدث مثل هذا في قضاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قضية ميراث؛ فحرم الإخوة الأشقاء مرة من الميراث، وأشركهم مرة أخرى مع الإخوة لأم في الثلث. وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي"(1). ولم يكن ذلك مدعاة للريبة في قضائه، للثقة بعلمه وعدله وأمانته. ولم يحملهم ذلك على التفكير في اختيار رأي واحد يلتزمون القضاء به(2). ولكن أين قضاتنا اليوم من عمر - رضي الله عنه -؛ علما وتقوى وورعا وعدلا ؟! وستعرض الدراسة – بإذن الله – نماذج من اختلاف الأحكام في القضايا المماثلة في نهاية هذا المطلب.
__________
(1) ابن قدامة: المغني 9/57. والبيهقي في سننه الكبرى 10/120.
(2) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: مجلة البحوث الإسلامية العدد32 ص40.(22/15)
ومن المقرر عند الفقهاء أن رأي الإمام يكون مرجحا لقول من الأقوال عند اختلاف العلماء(1)، فقد أمر الله - عز وجل - بالامتثال لقول ولي الأمر في قوله: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (من الآية 59 النساء). وقد قعد العلماء قاعدة: " أمر الإمام يرفع الخلاف"، وقاعدة: "حكم الحاكم يرفع الخلاف"، وإن كان هناك فارق كبير بين القاعدتين: فحكم الحاكم يرفع الخلاف في القضية المعينة فقط، ولا يرفعه فيما شابهها من القضايا، بينما أمر الإمام يرفع الخلاف في كل القضايا المتشابهة، مهما اختلف الزمان والمكان في دار الإسلام. فمثلاً إذا قتل مسلم ذمياً في دار الإسلام، وقضى قاض بالدية لا بالقود؛ لأنه يرى أن المسلم لا يقتل بالكافر، فإن حكمه هذا يرفع الخلاف في هذه القضية بالذات، وليس لأي قاض آخر، بعد النطق بالحكم، أن يقول هذا حكم باطل، بخلاف ما لو تكررت نفس الحادثة في زمان أو مكان مختلف، فله أن يحكم بالقود إذا كان يرى قتل المسلم بالكافر. فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، هذا معنى حكم الحاكم يرفع الخلاف. أما قاعدة أمر الإمام يرفع الخلاف ففي المسألة السابقة إذا أمر الإمام أن يقتل المسلم بالكافر فليس لحاكم أن يخالف هذا الأمر، وعليه أن ينفذه ولو خالف رأيه، ومهما تعددت الحوادث المتشابهة فإن ما أمر به الإمام واجب التنفيذ على الموافق والمخالف، وأن أمره يرفع الخلاف مطلقاً. أما حكم الحاكم أي قضاء القاضي، فيرفع الخلاف في القضية المعينة، ذلك بأن القضاة نواب للإمام ووكلاء له، فهم قضاة بإذنه، مقيدون بالتزام أوامره، فإذا رأى رأيا مرجحا عملوا به؛ والتقنين لا يخرج عن كونه أمرا من أوامر الإمام لمَّا أذن لمجموعة من العلماء أن يتخيروا من أقوال العلماء ما يتماشى وقواعد الشرع، ويناسب العصر، ويحقق للناس مصالحهم. وفي هذا يقول
__________
(1) ابن عابدين: رد المحتار 1/55. والزرقا: المدخل الفقهي العام 1/191.(22/16)
الزرقا: "وهذا من سماحة الفقه الإسلامي ومرونته التي أكسبته قابلية للوفاء بمصالح الأزمان والأجيال"(1).
ومهما قيل بأن التقنين لا يرفع الخلاف كما يراه المانعون من التقنين، فإنه ولا شك يحد من الاختلاف، ويقلل من خطره، ويقرب بين وجهات النظر، وتتلافى كثرة الأخطاء، والتناقض في الأحكام، ذلك بأن التقنين يعد بمثابة اجتهاد جماعي، حيث تلتقي مجموعة من العلماء للنظر في الأحكام الأحكام المتعلقة بفرع من فروع الفقه مثل: الأحوال الشخصية، والمعاملات المالية... ولا يخفى ما في ذلك من ضبط للأحكام القضائية، وحرص على توحيد الكلمة.
نماذج من القضايا المختلف فيها بين القضاة:
المتتبع للقضايا التي اختلف في أحكامها القضاة يجد جملة من القضايا، نقتصر في هذه الدراسة على نموذجين منها:
__________
(1) الزرقا: المدخل الفقهي العام 1/192.(22/17)
أولا: الطلاق الثلاث قد يقضي به القاضي طلقة واحدة، وقد يعده ثلاث ، ففي المملكة العربية السعودية، يقول د. محمد النجيمي في حديثه لجريدة "الرياض" عن: تحويل الأحكام الفقهية إلى مواد قانونية بما يناسب العصر وإغلاق باب الاجتهاد بحجة سد الذرائع غير جائز شرعاً": "أضرب مثلاً فيما لو حصل تقنين أراح ذلك القضاة. فالكثير من القضاة يرون أن الإنسان إذا طلق زوجته ثلاثاً بلفظ واحد فهي تعتبر بائناً، أي تحتسب الثلاث بينما المفتى به عندنا في المملكة أن الثلاث دفعة واحدة تعتبر طلقة واحدة فقط ويحصل أن بعض القضاة يحكم على أنها مرة وأحياناً أنها ثلاث فيحصل في هذا اختلاف. ولو كان قد قنن الأمر لأخذنا بالقول الراجح والمدعوم بالأدلة وهو أن الذي يطلق زوجته دفعة واحدة بالقول أنت طالق بالثلاث تعتبر طلقة واحدة لحسم الخلاف في هذه المسألة على قول واحد. وكثرة الآراء في المسائل الفقهية التي لم تقنن بعد في الجنايات والمعاملات والأحوال الشخصية تجعل القاضي أحياناً يحكم بحكم يختلف عن القاضي الآخر فيحصل تفاوت في الأحكام"(1).
__________
(1) جريدة الرياض اليومية، العدد: 13465، 27 ربيع الأول 1426هـ، 6/5/2005م. الموقع:
http://www.alriyadh.com/2005/05/06/article62484_s.html(22/18)
ثانيا: الطلاق في حال طهر جامعها فيه؛ أفادني في هذه المسألة فضيلة القاضي: محمد بن عبد الله البشر القاضي في محكمة عجمان الشرعية - بخطه - بما يأتي: "إن القضية رقم: 433/2005 أحوال عجمان، تتلخص في أن الزوج تقدم يوم: 26/9/2005 بطلب إثبات وقوع طلاق حصل منه على زوجته، وهي في حال طهر جامعها فيه من عدمه. فتمت الكتابة لسماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية، فوردت فتواه بعدم الوقوع لكونه طلاقا منكرا لاغيا، وقد في حديث ابن عمر ما يدل على ذلك(1).
وأثناء انتظار فتوى سماحته رفعت الزوجة قضية بذات الموضوع لدى محكمة دبي الشرعية سجلت تحت رقم: 4/ م /2006، وأثبت القاضي الطلاق على هذه الحال، وأمضاه على الزوجين. وبهذا تعارض الحكمان حكم القضاء في محكمتي: عجمان الشرعية ودبي الشرعية. إلا أن القاضي بمحكمة عجمان الشرعية توقف عن نظر القضية في هذا الطلاق لكون حكم قاضي محكمة دبي أسبق من تاريخ فتوى سماحة المفتي، حتى يعود قاضي دبي عن حكمه، أو يعتبر ماضيا في حقها، وتكون الفتوى هي بيان الحكم الشرعي فقط. ويكون الحكم هو: بيان الحكم الشرعي مع الإلزام به.
وحتى الآن أي يوم الأحد: 12 صفر 1427هـ الموافق: 12/3/2006 لم يتم الفصل لكون الزوجة قد استأنفت حكم قاضي دبي، ولم يبت فيه حتى الآن. هذا ما لزم بيانه مع الدعاء لكم بالتوفيق والنفع لعامة المسلمين".
__________
(1) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ، بسنده : {أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمره أن يراجعها حتى يطلقها طاهرا من غير جماع...}.(22/19)
ثالثا: ما حصل من اختلاف وجهات النظر لدى محكمتي التمييز في الرياض ومكة المكرمة، ونذكر لذلك مثالا، فقد سبق أن قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر من محكمة الرياض، لأنه كان مبنيا على قول مرجوح في المذهب الحنبلي. بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه(1). وذلك لا شك يحدث بلبلة واضطرابا بين الناس مما يفقد الثقة بالمحاكم الشرعية والزهد فيها.
ثبت المصادر والمراجع:
القرآن الكريم.
أبو داود: سنن أبي داود، تحقيق محمد عوامة، الطبعة الأولى، جدة، وبيروت، دار القبلة للثقافة الإسلامية، ومؤسسة الريان (1419هـ1998م).
أحمد بن إدريس القرافي: الذخيرة، تحقيق محمد بوخبزة، بيروت، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، (1994م).
أحمد بن تيمية: مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن النجدي وابنه محمد، القاهرة، طبع إدارة المساحة العسكرية، تنفيذ مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، (1404هـ).
بكر بن عبد الله أبو زيد: فقه النوازل، بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، (1422هـ/2001م).
الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت: الفقيه والمتفقه، الرياض، مطابع القصيم، الطبعة الأولى، سنة (1389هـ).
شويش المحاميد: مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر، عمان، دار عمار، الأردن.
عبد الله بن أحمد ابن قدامة: المغني، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة.
عبد الرحمن الجرعي: تقنين الأحكام بين المانعين والمجيزين، موقع: الإسلام اليوم (http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_content.cfm?id=71&catid=73&artid=5987)
__________
(1) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: مجلة البحوث الإسلامية ، العدد33، ص48.(22/20)
علاء الدين خروفة: فلسفة التشريع الإسلامي ومدى مساهمتها تجاه علم القانون المعاصر، جدة، البنك الإسلامي للتنمية، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، الطبعة الثانية، 1420هـ/2000م).
عمر بن صالح بن عمر: المدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي، الشارقة، النشر العلمي بجامعة الشارقة، سنة (1425هـ/2004م).
القاضي عياض بن موسى اليحصبي: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، ضيط وتصحيح محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة (1418هـ/1998م).
محمد أمين ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، (1415/1994).
محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأحمد بن محمد العدوي، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، (1417هـ1996م).
محمد بن جرير الطبري: جامع البيان عن تأويل آيي القرآن، بيروت، دار الفكر، (1415هـ1995م).
محمد الزحيلي: فقه القضاء والدعوى والإثبات، الشارقة، النشر العلمي بجامعة الشارقة، (1422هـ/2002م).
محمد بن عيسى الترمذي: جامع الترمذي، المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذي، بيروت، دار الكتاب العربي، بدون تاريخ وبدون طبعة.
محمد بن مكرم ابن منظور: لسان العرب، بيروت، دار صادر، دون ذكر الطبعة والتاريخ.
محمد النجيمي: حوار مع جريدة الرياض اليومية، حول: " الأحكام الفقهية إلى مواد قانونية" في عددها : 13465، الصادر بتاريخ: 27 ربيع الأول 1426هـ، 6/5/2005م. الموقع: http://www.alriyadh.com/2005/05/06/article62484_s.html
محمد بن يزيد القزويني، ابن ماجه: سنن ابن ماجه، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، الطبعة الثانية، الرياض، شركة الطباعة العربية السعودية، سنة (1404هـ/1984م).
محمد سلام مدكور: المدخل إلى الفقه الإسلامي،(22/21)
محمد عبد الجواد محمد: بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون. تقنين الشريعة الإسلامية، القاهرة، مطبعة أطلس، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية، بدون طبعة، سنة (1411هـ/1991م).
محمود بن عبد الله الألوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المعاني، بيروت، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ وبدون طبعة.
مصطفى أحمد الزرقا: المدخل الفقهي العام، الطبعة التاسعة، دمشق، مطبعة ألف باء الأديب، (1967/1968م).
اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء: تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات، وإلزام القضاة بالحكم به، (القسم الأول)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 31، رجب – شوال 1411هـ، تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.
اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء: تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات، وإلزام القضاة بالحكم به، (القسم الثاني)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 32، ذو الحجة 1411هـ - صفر1412هـ، تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.
اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء: تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات، وإلزام القضاة بالحكم به، (القسم الثالث)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 33، جمادى الأولى - جمادى الثانية 1412هـ، تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض.(22/22)
الوسائل الحديثة
ومدى إمكانية استفادة القضاء الشرعي منها
في النفي والإثبات
أحكام ونماذج
أ. د. هاشم جميل
بحث مقدم إلى ندوة
القضاء الشرعي في العصر الحاضر - الواقع والآمال
التي تعقدها جامعة الشارقة
المحور الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن الله تعالى قد شرّع شرائع, وحدّ حدوداً, وأنزل أحكاماً. وقد أمر الخلق باتباع شرائعه, والوقوف عند حدوده, والعمل بأحكامه. وقد شرع لحمل الناس على ذلك وسائل عدة, ومن جملة هذه الوسائل القضاء العادل الذي يميز بين الحقوق ويحمل الناس عليها.
وقد بيّن الشارع الوسائل التي تعين القاضي على الوصول إلى معرفة الحق ليحكم فيه بحكم الله تعالى ويوصله إلى مستحقه. ومن جملة هذه الوسائل وأقواها البينات: كالإقرار والشهادة وغير ذلك مما اتفق الفقهاء على اعتباره بينة أو اختلفوا فيه.
وفي العصور المتأخرة ظهرت وسائل حديثة يمكن للقاضي أن يستعين بها على معرفة الحق وبناء الحكم عليه, فهل للقاضي من وجهة النظر الشرعية أن يعتمد هذه الوسائل ويتخذها طريقاً يهديه إلى الحق الموصول بالعدل؟.
يمكن الإجابة على ذلك من خلال بعض الوسائل التي أعرضها, والنماذج الشرعية التي يمكن بناؤها على هذه الوسائل.
وسوف أعرض هنا ثلاث وسائل هي:
تحليل الدم.
فحص جثة المتوفي لمعرفة سبب أو وقت الوفاة.
فحص الحمض النووي (د. ن. أ).
ولأن هذا البحث لا يحتمل الإطالة, فإن عرضي لهذه الوسائل سيكون موجزاً جداً, وبالقدر الذي يتبين منه الوجه الذي يمكن معه بناء النموذج الشرعي عليه(1). وسأفرد لكل وسيلة من هذه الوسائل مبحثاً مستقلاً, لذلك فإن هذا البحث سيتضمن ثلاثة مباحث هي:
__________
(1) وإني بهذا الصدد أشكر الأخ الدكتور/ سند, طبيب العيادة الطبية بكليات البنين بجامعة الشارقة, والذي أفادني كثيراً بالمعلومات الطبية وتوثيقها.(23/1)
المبحث الأول: …تحليل الدم, وعدة المستحاضة نموذجاً.
المبحث الثاني:…فحص جثة المتوفي, وحكم الميراث عند انبهام وقت وفاة المتوارثين نموذجاً.…
المبحث الثالث: …فحص الحمض النووي (د. ن. أ) والاستفادة منه في دعوى النسب, نموذجاً.
والله تعالى أسأل الهداية والسداد
المبحث الأول
تحليل الدم, وعدة المستحاضة
والمعتدة بالإقراء إذا ارتفع حيضها
الذي يعنينا هنا:
إمكانية التفريق بين دم الحيض ودم الاستحاضة بواسطة تحليل الدم, وأثر الاستحاضة على اكتشاف وجود حمل من عدمه بواسطة تحليل الدم, لذلك فإن الحديث هنا سيتركز على هذين الأمرين, وعلى النحو الآتي:
الحيض (الدورة الشهرية):
تحدث غالباً وفي المعدل كل 28 يوماً (أغلب النساء بين 24 – 34 يوماً) وتستمر غالباً وفي المعدل 5 أيام ( 2 يوم), ومع ذلك فإنها لا تتشابه عند جميع النساء, ويمكن أن نلاحظ اختلافاً كبيراً بين الوقت والمدة عند نفس المرأة ولا تزال تعتبر طبيعية من الناحية الطبية.
اضطراب الحيض:
اختلاف في وقت الدورة, المدة أو كمية الدم.
مثل تكرار الدورة كل 21 يوماً أو كل 35 يوماً, وهذا يعتبر حيضاً, ومثل بقاء الدورة أكثر من 7 أيام أو أقل من 3 أيام وهذا يعتبر حيضاً, ومثل زيادة كمية الدم بحيث تستخدم الحفاضة النسائية أكثر من 4 – 6 مرات يومياً أو قلة كمية الدم وهذا يعتبر حيضاً.
النزف الرحمي (الاستحاضة):
خروج الدم في غير الوقت المعتاد للحيض أو الدورة الشهرية بالنسبة للمرأة التي يحدث عندها النزف.
دم الحيض: هو دم غليظ داكن منتن ذو رائحة كريهة مميزة, ويتكون من دم (بكافة مكوناته من: كريات دم حمراء, كريات دم بيضاء, صفائح دموية) + خلايا منسلخة من بطانة الرحم.(23/2)
وغير هذا الدم وحسب وقت حدوثه لا يعتبر دم حيض بل نزف رحمي, ويمكن أن يحدث لأسباب عديدة تركيبية (تشريحية) أو وظيفية فسلجية ومنها: الزوائد في بطانة الرحم, التكاثر النسيجي لبطانة الرحم, ورم ليفي للرحم, أورام الرحم, سرطان عنق الرحم, الاضطرابات الهرمونية, اضطراب وظيفة الغدة النخامية أو الغدة الدرقية, استخدام الأدوية المسيلة للدم, التوتر والقلق والاضطرابات النفسية .. وغيرها.
ونظراً لأن الاهتمام الطبي منصرف إلى معرفة أسباب النزف الرحمي (الاستحاضة) وليس إلى التفريق بين كون هذا الدم دم حيض أو دم استحاضة, فإنه في الوقت الحاضر لا يمكن التفريق بين دم الحيض والنزف الرحمي من نوع الدم الخارج لتشابه مكونات الدم في أكثر الحالات, ولكن يتم الاستفادة من الأعراض المصاحبة للحالة والعلامات الموجودة أثناء الفحص الطبي السريري وكذلك بعض الفحوصات الطبية المختبرية التي تؤكد وجود العوامل التي تؤدي إلى النزف الرحمي أو اضطراب الحيض, وربما أمكن في المستقبل – بعد إجراء الفحوص والاختبارات اللازمة – الوصول إلى ضوابط يمكن من خلالها التفريق بين دمي الحيض والاستحاضة بواسطة تحليل الدم.
أثر النزف الرحمي على اكتشاف وجود الحمل من عدمه:
اكتشاف وجود حمل من عدمه يكون بواسطة تحليل الدم أو تحليل الإدرار. وتحليل الدم في هذا المجال هو الوسيلة الأهم والأدق, وتحليل دم المرأة من اجل معرفة وجود الحمل أو عدمه لا تؤثر فيه الاستحاضة على النتيجة سلباً أو إيجاباً, لأن المؤشر الدال على وجود الحمل أو عدمه(وهو: هرمون الحمل) موجود في الدم كله, ومعلوم أن دقة التحليل يؤدي إلى نتائج حاسمة من الناحية الطبية في هذا المجال(1).
فالحاصل مما سبق:
أن التحليل الدقيق للدم يمكن أن يكشف لنا بشكل حاسم عن وجود حمل من عدمه, وأن الاستحاضة لا أثر لها في هذا المجال.
نموذج فقهي:
__________
(1) كيث أدموند, كتاب ديوهارتس لأمراض التوليد والنسائي, الصفحات: 28, 41, 67.(23/3)
عدة المستحاضة, وعدة المعتدة بالإقراء إذا ارتفع حيضها(1).
العدة في الأصل تكون بسبب الفرقة بين الزوجين بوفاة أو طلاق, وهي تلزم الزوجة لمعرفة براءة الرحم واحتراماً للزوجية السابقة.
والعدة تكون بوضع الحمل بالنسبة للحامل, أما غير الحامل فإن كانت معتدة من وفاة فعدتها أربعة أشهر وعشراً, وإن كانت معتدة من طلاق فعدتها بالإقراء إن كانت من ذوات الحيض, وإن كانت من غير ذوات الحيض فعدتها ثلاثة أشهر.
وفي الحالات الاعتيادية لا توجد لدينا مشكلة, وإنما الإشكال يحصل عندنا في حالات أهمها ما ذكر في هذا النموذج:
أولاً: …عدة المستحاضة:
المستحاضة هي: من جاوز دمها أكثر مدة الحيض واختلط حيضها وطهرها. وهذه إما أن تكون مميزة أو غير مميزة.
فالمميزة: هي التي تميز دم الحيض من غيره, وتذكر مقدار عادتها ووقتها.
وغير المميزة: من فقدت شيئاً من ذلك.
وقد اختلف العلماء في احتساب أيام الطهر وأيام الحيض بالنسبة للمستحاضة المميزة:
فقال بعضهم: أيام حيضها هي أيام عادتها مقداراً ووقتاً, وغيرها تعد أيام طهر, سواء ميزت بين الدماء أم لم تميز.
وهو مذهب أبي حنيفة, وأحد قولي الشافعي, وأشهر الروايات عن أحمد.
وذهب بعضهم: إلى أن المرأة ترد إلى أيام عادتها إذا كانت لا تميز بين الدماء(2), أما إذا كانت تميز بينها فإنها ترد إلى تمييزها سواء وافق العادة أو خالفها.
__________
(1) العدة هي المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها, أو للتعبد, أو لتفجعها على زوجها.
والمرأة التي تكون عدتها بالإقراء هي: المطلقة إذا كانت من ذوات القرء, أي غير صغيرة ولا آبسة (انظر: الخطيب الشربيني, مغني المحتاج: 3/504).
…
(2) يمتاز دم الحيض عن غيره بأنه: غليظ, داكن اللون, كريه الرائحة.(23/4)
وإلى ذلك ذهب مالك, والشافعي في أظهر قوليه, وأحمد في رواية(1).
إذا عرفنا هذا: فإن العلماء قد اختلفوا في عدة المستحاضة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول:
تعتد المميزة بالإقراء, أما غير المميزة فعدتها ثلاثة أشهر.
وهذا مروي عن زيد بن ثابت, وابن عباس, وعكرمة .. وغيرهم, وإليه ذهب أبو حنيفة, والشافعي, وأحمد في رواية(2).
المذهب الثاني:
تعتد المميزة بسنة: تسعة أشهر لمعرفة براءة الرحم, وثلاثة أشهر عدة. لا فرق في ذلك بين مميزة وغيرها.
روي ذلك عن عمر رضي الله عنه, وإليه ذهب مالك في رواية عنه.
المذهب الثالث:
تعتد المميزة بالإقراء, أما غير المميزة فإنها تعتد بسنة.
وهو رواية عن كل من مالك وأحمد(3).
والذي يبدو لي – والله تعالى أعلم -:
أننا إذا استبعدنا الاعتماد على نتائج تحاليل الدم فإن الأدلة تدعم المذهب الثالث, وبيان ذلك:
أن المستحاضة التي تميز بين الدماء لا مشكلة عندها, فإذا رأت الدم الذي فيه مواصفات دم الحيض فهذا يعني أنها حائض, وهذا جاء بنص حديث فاطمة بنت أبي حبيش؛ فقد ذكرت:
"أنها كانت تستحاض, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف؛ فإن كان فأمسكي عن الصلاة, فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". (رواه أبو داود)(4).
__________
(1) ابن نجيم, البحر الرائق: 1/223, ابن قدامة في المغني: 1/332, الخطيب الشربيني, مغني المحتاج: 1/115, الزرقاني, شرحه على الموطأ: 1/123.
(2) ابن قدامة, المغني: 9/102, ابن نجيم, البحر الرائق: 4/141, ابن حزم, المحلي: 10/270, الخطيب الشربيني: مغني المحتاج: 3/385.
(3) ابن قدامة, المغني: الصفحة السابقة, ابن رشد, بداية المجتهد: 2/80, المدونة: 5/110, شرح الدردير: 1/365.
(4) أبو داود, سنن أبي داود: 1/75.(23/5)
إذن فإذا أتى المستحاضة الدم الذي فيه مواصفات دم الحيض فهذا يعني أنها حائض, والحيض دليل على عدم الحمل, والمطلقة غير الحامل عدتها بالاقراء, وهذه تميز اقراءها فتعد بثلاثة أقراء.
أما التي لا تميز فهذه تواجه احتمال كونها حاملاً؛ لأن ما عندها يحتمل أن يكون مجرد نزف, وهذا لا يدل على عدم الحمل؛ لأن الحامل قد تنزف, وهذا واقع مشاهد. إذن فلابد هنا من استبعاد احتمال الحمل بمضي مدة الحمل تسعة أشهر, فإذا استبعد وجود الحمل اعتدت بثلاثة أشهر؛ لأننا لا نستطيع اعتماد الإقراء هنا, لاحتمال أن يكون الخارج مجرد نزف رحمي, وتحليل الدم لا يسعفنا في التفريق بينه وبين دم الحيض, فلم يبق أمامنا إلا التحول إلى الأشهر, وعدة المطلقة – إذا لم تكن حاملاً ولا من ذوات الحيض – ثلاثة أشهر.
فإن قيل: فلِمَ الثلاثة أشهر وقد عرفت براءة رحمها بمضي التسعة أشهر؟
أجيب: بأن الاعتداد بالاقراء أو الأشهر لا يكون إلا عند عدم الحمل, فلما ظهرت براءة الرحم بمضي الأشهر التسعة أُمرت بالاعتداد بثلاثة أشهر, فهذه الثلاثة حق الشرع؛ لأن العدة قد تجب مع التيقن من براءة الرحم, وذلك كمن علق طلاقها على وضع الحمل فإنها تطلق بوضع حملها وتلزمها العدة(1).
إذن فالتسعة أشهر كانت احتياطاً لابد منه لمعرفة براءة الرحم, والاحتياط في مثل هذه الأمور واجب, ومن أجل هذا الاحتياط تسوغ إطالة العدة مع ما في ذلك من أضرار قد تلحق هذا الطرف أو ذاك فمادامت المرأة طوال هذه المدة تعتبر معتدة فهي ممنوعة من التزوج, وإذا كانت العدة رجعية فإن لها السكنى والنفقة, ويحق لزوجها مراجعتها, وإذا توفي أحدهما ورثه الآخر. فهذه الأمور وغيرها تحتمل ويسوغ معها إطالة العدة احتياطاً لمعرفة براءة الرحم.
وهنا يتوجه السؤال الآتي:
__________
(1) القاضي عبد الزهاب, الاشراف: 2/122.(23/6)
إذا أمكننا معرفة براءة الرحم بوسيلة متيسرة ألا ينبغي للقاضي الشرعي أن يعتمد هذه الوسيلة ويتحاشى إطالة المدة مع ما قد يترتب عليها من أضرار؟
والجواب على ذلك:
يبدو لي: أنه ينبغي للقاضي تحاشي إطالة المدة ودفع الضرر مادام هناك وسيلة تعينه على ذلك, والوسيلة هنا قد يسّرها الله تعالى بواسطة التقدم العلمي والتقني في العصر الحديث؛ فقد ذكرت فيما سبق أن الاستحاضة ليس لها أثر – لدى تحليل الدم – على معرفة وجود الحمل أو عدم وجوده, ذلك لأن المؤشر الدال على وجود الحمل – وهو الهرمون الخاص بالحمل – يكون موجوداً في جميع دم المرأة إذا كانت حاملاً.
وعليه فإنه ينبغي للقاضي – في مثل هذه الحالة – أن يأمر بتحليل الدم الخاص بمعرفة وجود الحمل أو عدمه, فإن ثبت من ذلك وجود الحمل فإن العدة هنا تكون بوضع الحمل, وإذا ثبت عدم وجود الحمل أُمر بالاعتداد بثلاثة أشهر ولا داعي لإطالة العدة أكثر من ذلك, لأن براءة الرحم قد أثبتها تحليل الدم.
وغني عن البيان: أن القاضي لكي يعتمد هذه الوسيلة وغيرها من الوسائل الحديثة للنفي أو الإثبات لابد أن يكون متأكداً من دقتها ومصداقيتها, فله أن يأمر بإجراء أكثر من تحليل لدى عدة جهات مختصة, أو أي شيء غير ذلك يجعله على يقين من النتائج التي يعتمدها.
ويلاحظ: أن ما يجري على المستحاضة المطلقة يجري بذاته على المستحاضة المتوفى عنها زوجها, فهذه وإن كانت عدتها بالأشهر وليس بالإقراء إلا إنها إنما تعتد بالأشهر إذا لم تكن حاملاً, وبما أن الاستحاضة لا تنفي وجود الحمل كما ذكرت, فإن القاضي ينبغي أن يأمر المستحاضة هنا أيضاً بإجراء تحليل الدم الخاص بالحمل, فإذا أثبت التحليل وجود حمل كانت العدة بوضع الحمل, وإذا ثبت عدم وجود الحمل كانت عدتها بالأشهر أربعة أشهر وعشراً.
ثانياً: …المعتدة بالإقراء إذا ارتفع حيضها:(23/7)
اختلف الفقهاء – في حكم المعتدة بالإقراء إذا ارتفع حيضها قبل انتهاء العدة, لغير عارض من مرض ونحوه – على مذهبين:
المذهب الأول:…
تظل هذه في عدة حتى تحيض وتعتد بالإقراء, أو تبلغ سن اليأس فتعتد بثلاثة أشهر.
وهذا مروي عن ابن مسعود, وعطاء, وطاوس, والنخعي.
وإليه ذهب أبو حنيفة, والشافعي في الجديد, والظاهرية(1).
حجة هذا المذهب:
احتج أصحاب هذا المذهب بقوله تعالى:
"واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهنّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ..."(2).
أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً.
وجه الدلالة:
أن الاعتداد بالأشهر إنما شُرع للمطلقة الآبسة أو الصغيرة التي لم تبلغ سن الحيض, والتي ارتفع حيضها ليست واحدة منهما, فلا تنقضي عدتها إلا بالاقراء, أو تبلغ سن اليأس فتعتد عدة الآبسات.
ويرد على هذا الاستدلال:
ان الآية إنما تتحدث عمن يمكن احتساب عدتها بالاقراء, والتي ارتفع حيضها لم يعد بالإمكان احتساب عدتها بذلك؛ فينبغي لذلك العدول عنها إلى البديل الشرعي وهو الأشهر, وتأخير عدتها إلى أن تبلغ سن اليأس ثم تتحول إلى الأشهر فيه حرج يأباه الشرع, على أن هذا يتعارض مع قول أبي حنيفة والشافعي – الذي سبق ذكره قريباً – في المستحاضة إذا كانت غير مميزة: أنها تعتد بثلاثة أشهر, مع أنها غير آبسة ولا صغيرة, فهذه مثلها.
المذهب الثاني:
تنتظر هذه تسعة أشهر, فإن بان بها حمل فعدتها بوضع الحمل, وإن لم يظهر بها حمل اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر.
روي ذلك عن ابن عباس, والحسن.
وإليه ذهب مالك, وأحمد, وهو قول للشافعي في القديم(3).
وجه هذا المذهب:
__________
(1) الشافعي, الأم: 5/195, الطحاوي, مختصر الطحاوي/218, البحر الرائق: 4/142, ابن حزم, المحلي: 10/270, ابن قدامة, المغني: 9/97.
(2) سورة الطلاق: آية 4.
(3) البيهقي, السنن الكبرى: 7/420, القاضي عبد الوهاب, الاشراف: 2/166, الياجي, المنتقى: 4/108, ابن قدامة, المغني: 9/97.(23/8)
إن المقصود الأصلي من العدة معرفة براءة الرحم ظاهراً, وذلك يحصل بهذه المدة, فاكتفى بها, دفعاً للضرر عن المرأة, كما اكتفى بثلاثة قروء بالنسبة لذوات الحيض, وبثلاثة أشهر بالنسبة لغيرهنّ, مع أن التيقن من براءة الرحم لا يحصل إلا إذا انتظرنّ أكثر مدة الحمل.
فإن قيل:
فلِمَ أُمرت بالاعتداد بثلاثة أشهر, بعد مضي تسعة أشهر, مع أن معرفة براءة الرحم ظاهراً تحصل بمضي التسعة أشهر؟.
أجيب:
بما سبقت الإجابة عنه قريباً في مسألة المستحاضة من أن التسعة أشهر للاحتياط, والثلاثة حق الشرع.
وقد أيّد أصحاب هذا المذهب حجتهم: بأن هذا قضاء عمر رضي الله عنه قضى به بين الصحابة, ولا يعلم أن أحداً منهم أنكر عليه ذلك(1).
وهذا احتجاج وجيه, لكن يلاحظ عليه أن ابن مسعود ذهب إلى ما قال به أصحاب المذهب الأول, فيكون احتجاج أصحاب المذهب الثاني به على أنه مذهب جمهور الصحابة, وليس باعتباره إجماعاً سكوتياً.
وهكذا نرى كيف سلك جمهور الصحابة والفقهاء في هذه المسألة مسلك المذهب الذي أشرت إلى ترجيحه في المستحاضة, وهو مسلك صحيح لابد منه, مبني على المصلحة ودفع الحرج, وقد فعلوا هنا من الاحتياط ما فعلوه في المستحاضة, فاحتاطوا بتسعة أشهر لمعرفة براءة الرحم, والثلاثة بعدها حق الشارع.
لكن ما ذكرته هناك ينبغي جريانه هنا:
وهو أن التسعة أشهر إنما أُمر بها احتياطاً لمعرفة براءة الرحم, ومادام لدينا من الوسائل المشروعة ما يمكننا من معرفة ذلك فلا داعي إلى إطالة مدة العدة أكثر مما قرره الشارع لها, وعليه: فإنه ينبغي في هذه الحالة أن يأمر القاضي بإجراء تحليل خاص بالحمل, فإذا ثبت وجود حمل كانت العدة بوضع الحمل, وإذا ثبت عدم وجوده كانت العدة التي قررها الشارع بالأشهر للمطلقة, وهي ثلاثة أشهر. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
فحص جثة المتوفى
__________
(1) انظر القاضي عبد الوهاب البغدادي في الاشراف, وابن قدامة في المغني: الصفحات السابقة.(23/9)
حكم الميراث عند إبهام وقت وفاة المتوارثين نموذجاً
فحص جثة المتوفي يمكن أن يعرف منه تقدير وقت الوفاة, وتحديد السبب الذي أدى إليها؛ فالوفاة تنتج عنها علامات في الجثة لا تظهر كلها دفعة واحدة, كما أن سبب الوفاة يترك آثاراً في الجثة تشير إليه.
وفيما يأتي أذكر موجزاً لذلك, ثم أذكر بعد ذلك النموذج الفقهي, وذلك على النحو الآتي:
علامات الوفاة:
برودة جثة الميت:
أكثر المؤشرات فائدة في تقدير وقت الوفاة خلال الـ24 ساعة الأولى بعد حدوث الوفاة. وتتأثر سرعة برودة الجثة بعدة عوامل بيئية وجسدية منها:
الجو المحيط بالجثة.
حجم الجثة.
الألبسة والأغطية فوق الجثة.
حركة الهواء ورطوبة الجو حول الجثة.
الانغمار في الماء.
وهناك صيغة لحساب أو تقدير وقت الوفاة من برودة الجثة, حيث أن الجثة في الحالات الطبيعية تبرد بمقدار 1.5 درجة مئوية في كل ساعة من الساعات الست الأولى, أو بمعدل درجة مئوية واحدة للساعات الـ12 الأولى.
الصمل الرمّي (تيبس الجثة):
حيث يحدث بعد الوفاة مباشرة استرخاء كافة العضلات يتبعها تصلب أو تيبس عام في الجثة, وذلك بسبب تغيرات فيزيائية وكيميائية قي بروتين العضلات نتيجة انعدام وصول الأكسجين لأنسجة العضلات وتجمع حمض اللبنيك.
يكتمل الصمل الرمي خلال الساعات الـ12 الأولى من الوفاة, وهذا معرض للاختلاف حسب الجو المحيط بالجثة وحرارة الجثة حيث يتسارع الصمل الرمي في الأجواء الحارة ويختفي بصورة أسرع أيضاً بسبب تفسخ الجثة السريع, فالقاعدة أنه كلما ظهر الصمل الرمي سريعاً كان زمن بقائه قصيراً والعكس صحيح.
ويتأثر زمن حصول الصمل الرمي بـ:
الجو المحيط بالجثة.
النشاط العضلي قبل الوفاة.
عوامل متعلقة بالجثة مثل العمر, الأمراض, الاختناق.
الازرقاق الرّمي:
تلون أزرق – قرمزي يشبه الكدمات في المناطق الأقرب إلى الأرض, وبالتأكيد يختلف عن ازرقاق الجلسة والأطراف والشفتين المصاحب للاختناق.(23/10)
تكمن أهمية الازرقاق الرّمي في كمية التلون والتوزيع, والتي تعطي انطباعاً عن حادثة الوفاة, وتطور هذا الازرقاق وحدوثه لا يساعد كثيراً كمؤشر لمعرفة وقت وزمن حدوث الوفاة, حيث تبدأ بالظهور على شكل بقع حمراء داكنة خلال 20 – 30 دقيقة من الوفاة وبعد 10 – 12 ساعة تصبح هذه البقع أكثر استقراراً في المناطق القريبة من الأرض (بفعل الجاذبية).
تفسخ (تعفن) الجثة:
تحدث نتيجة تحطم وتهشم خلايا أنسجة الجسم بفعل البكتيريا والإنزيمات الداخلية (الذي يسمى إنحلالا أو تحللا ذاتيا أو تلقائيا) وتظهر على الجثة بشكل تغيرات في اللون, انبعاث الغازات, والتميّع.
وتتأثر بدرجة كبيرة بالجو المحيط بالجثة فيمكن أن يبدأ التعفن أو التفسخ خلال 24 ساعة في الأجواء الحارة ويمتد إلى 10 – 14 يوماً في الأجواء الباردة جداً أو المتجمدة, كما يساعد على سرعة التعفن زيادة رطوبة الجو.
التصبن أو التشمع الشحمي:
تحول الأنسجة الدهنية والشحوم إلى مواد شمعية دهنية بيضاء مائلة للصفرة مع رائحة زنخة. تظهر هذه الحالة في الأجواء الاعتيادية المعتدلة خلال 3 – 4 أسابيع ويحتاج إلى أشهر للاكتمال والتي تتراوح بين 5 – 6 أشهر بعد الوفاة.
التحنط أو الموميائية:
جفاف وانكماش (ذبول) الجثة وتحولها إلى كتلة جلدية من المطاط الناشف. لا يوجد وقت محدد بدقة لزمن حصول هذه العملية, ولكنها تبدأ في الأجواء الاعتيادية بعد نهاية الأسابيع الأولى القليلة بعد الوفاة.(23/11)
هذا وإن سبب حدوث الوفاة يترك آثاراً في الجسم تشير إليه, ففحص الجثة أو أخذ عينات منها وفحصها مختبرياً يمكن أن يشير إلى سبب الوفاة: طبيعية, أو جنائية, بآلة قاتلة, أو خنق, أو تناول مادة قاتلة من سم أو دواء أو نحوه. (1)’(2)
ومن هنا:
فإنه لا ينبغي للقاضي الشرعي إهمال الاستفادة من هذه الوسيلة في المواضع التي يكون لها دور فيها, ومدى اعتمادها لديه يتبع قدرتها على إثبات المدعى به أو نفيه كبيّنة أو قرينة؛ فمن ادعي عليه قتل شخص بسلاح معين, ثم يثبت في فحص الجثة أن سبب وفاة هذا الشخص تناول السم مثلاً, فإن هذا يعد وسيلة صالحة لنفي تهمة القتل بالسلاح عنه. ومن شوهد يطلق النار على شخص مسجى ساعة كذا, ثم يتبين من فحص الجثة أن هذا الشخص لابد أن يكون قد فارق الحياة قبل هذه الساعة بكثير, فإن هذا يعني أن إطلاق النار هذا لا يمكن أن يشكل جريمة قتل.
والحاصل:
أن فحص الجثة من الوسائل الحديثة التي يمكن أن ترشد القاضي الشرعي إلى الحكم الصحيح في الوقائع التي يكون لتقدير الوقت أو تحديد سبب الوفاة أثر حاسم فيها.
ومن الوقائع التي يكون لتقدير الوقت أثر بالغ في حكمها الوافقة الآتية:
"حكم الميراث عند إبهام وقت وفاة المتوارثين"
إن من شرائط الإرث: تحقق حياة الوارث بعد موت المورث(3).
فالحي يرث الميت دون العكس.
__________
(1) المستشار معوض عبد التواب – الدكتور سينون حليم دوس, الطب الشرعي والتحقيق الجنائي والأدلة الجنائية: الباب الثاني – الفصل الثاني: التغيرات التي تحدث بالجثة عقب الوفاة: الصفحات 413-428.
(2) الموقع الإلكتروني لجامعة دندي / الطب العدلي, صفحة تغيرات ما بعد الوفاة، وزمن الوفاة.
(3) الخطيب الشربيني, مغني المحتاج: 3/32.(23/12)
لكن قد يحدث إشكال عند إبهام موت المتوارثين, وذلك يقع في الحوادث التي يترتب عليها موت جماعي كما يحدث في موت ركاب سفينة تغرق, أو طائرة تسقط, أو حافلة تصدم بغيرها, أو عمارة تنهدم فيموت جمع من الناس تحت أنقاضها .. وما أشبه ذلك.
وفي مثل هذه الحالات إذا كان من بين الأموات من يرث بعضهم بعضاً: كأب وابنه مثلاً, ففي هذه الحالة إذا علم من تقدمت وفاته ومن تأخرت فهنا لا توجد مشكلة؛ فمن تأخرت وفاته يرث المتقدم عليه في الوفاة دون العكس. لكن قد يجهل المتقدم منهما والمتأخر, أو يعلم أن أحدهما لا بعينه قد تأخرت وفاته, أو يعلم المتأخر بعينه لكن ينسى الشهود ذلك؛ فهنا تحدث المشكلة, لأننا في هذه الحالة لا تعلم من هو الوارث ومن هو المورث, وفي حالة مثل هذه قد اختلف أهل العلم في حكمها على مذهبين:
المذهب الأول:
لا يرث أحدهما من الاخر, وإنما تذهب تركة كل واحد منهما لباقي ورثته.
هذا مذهب أكثر الفقهاء, وهو مروي عن: أبي بكر الصديق, وزيد بن ثابت, وابن عباس.
وإليه ذهب أبو حنيفة, ومالك, والشافعي, وهو رواية عن أحمد.
وحجتهم في ذلك:
أن شرط التوارث - وهو: معرفة حياة الوارث عند موت المورث – غير موجود.
المذهب الثاني:
يرث كل واحد منهما من تالد مال الآخر دون طارفه. ومعنى ذلك: أن كل واحد منهما إنما يرث من تركة الآخر التي كان يملكها مورثه عندما مات, ولا يضاف إليها المقدار الذي يرثه من صاحبه.
وهذا مروي عن علي, وشريح, والنخعي, والشعبي, وهو المشهور من مذهب أحمد(1).
ومن الواضح:
__________
(1) الخطيب الشربيني, مغني المحتاج: 3/36, ابن جزي, القوانين الفقهية: 338, محمد عبد الرحمن الدمشقي, رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: 202, ابن قدامة, المعني: 7/186 وما بعدها.(23/13)
أن المذهب الثاني قد احتاط وراعى كل الاحتمالات ووزع الضرر الذي يمكن أن يحصل من منع التوارث بينهما, وهذا يحتاج إلى إجراء أكثر من عملية قسمة للتركة لا تهمنا هنا, ويضيق المجال الآن عن بسطها.
ولو تدبرنا السبب في هذا الإشكال لوجدناه عدم وجود من يشهد بأن هذا مات أولاً وهذا مات آخراً, وذلك ربما يكون لعدم وجود من شاهد الواقعة عند حدوثها, أو وجد لكنه هو الآخر قد فقد قبل أن يشهد – كما يحصل في بعض الأحيان من هلاك رجال الإنقاذ أثناء قيامهم بواجبهم – أو أخبر من شاهد الواقعة أن بعضهم كان حياً من غير أن يشخص من هو, أو شخصه ثم نسي واختلط عليه الأمر بعد ذلك.
والحاصل:
أن الحكم بعدم التوارث في هذه الحالة, أو الحكم بالتوارث بطريقة غير مألوفة في الأحوال الاعتيادية إنما سببه عدم التيقن من حياة الوارث عند موت المورث, وهذا ناشئ عن عدم وجود من يشهد بتقدم موت هذا وتأخر موت ذاك, ولربما كانت الشهادة في العصور المتقدمة هي الوسيلة الوحيدة للتحقق من ذلك.
لكن ظهرت لنا في العصر الحديث وسيلة اخرى يمكن بواسطتها للمختصين تقدير وقت الوفاة عن طريق فحص الجثة إذا أجري هذا الفحص في الوقت المناسب وتوفرت له الظروف المناسبة؛ وذلك لما ذكرناه من أن للوفاة علامات يمكن للمختص بواسطتها تقدير وقت الوفاة.(23/14)
وبناءً على ذلك فإن القضاء الشرعي إذا واجه حالة مثل هذه – انبهم فيها وقت وفاة المتوارثين – الأمر الذي أدى إلى التباس فلم نعد نعرف من الوارث منهم ومن المورث, ولم تقم بينة عادلة تشهد بما يزيل الإبهام, فإنه ينبغي للقاضي الشرعي حينئذ أن يأمر بفحص جثث المتوفين من قبل المختصين بذلك, فإذا تمكنوا بواسطة الفحص من تشخيص متأخر الوفاة عن المتقدم فإنه ينبغي على القاضي في هذه الحالة أن يأخذ بذلك, ويحكم بإرث متأخر الوفاة من المتقدم دون العكس, لأن هذا هو الحكم المقرر شرعاً, وقد كان يمنع منه عدم تفريقنا بين من تقدمت وفاته لتجعله مورثاً, وبين من تأخرت وفاته لتجعله وارثاً, وحيث قد فرق بينهما فحص المختص للجثث فقد انحل الإشكال وزال المانع من التوريث. والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث
فحص الحمض النووي (د. ن. أ)
وأثر القيافة في إثبات النسب نموذجاً
فحص الحمض النووي يمكن الاستدلال به على ثبوتية الشخص, ويمكن الاستدلال به في إثبات الأبوة أو البنوة. وفيما يأتي أذكر موجزاً عنه, ثم أذكر بعد ذلك النموذج الفقهي.
الحمض النووي:
يتألف جسم الإنسان من أنسجة مختلفة من الناحية التشريحية والوظيفية والنسيجية, ولكنها تشترك جميعها بأنها مكونة من خلايا متشابهة من ناحية المكونات, فكل خلية تحتوي على نواة ويوجد داخل هذه النواة ما يسمى بـ DNA (د. ن. أ) وهو الحامض أو الحمض النووي منقوص الأكسجين.(23/15)
يتكون الحمض النووي (د. ن. أ) من مجموعة من الأحماض الأمينية والتي تكون في مجموعها ما يسمى بالكروموسومات, وهي المسئولة عن نقل الصفات الوراثية .. هذه الأحماض توجد في تسلسل وترتيب معين يختلف من إنسان لآخر ولا يمكن تكراره, لذلك يمكن الاستدلال من خريطة الحمض النووي على ثبوتية الشخص, وهذا لا يحتاج سوى إلى عينة من خلية حية أو ميتة من أي مكان من الجسم مثل الدم, الشعر, مسحة الفم, السائل المنوي, أو أي من الإفرازات أو أحد أعضاء الجسم, وفحص الخريطة المتمثلة بترتيب وتسلسل الأحماض الأمينية للحمض النووي ومطابقتها مع ما هو معروف عن هذا الشخص.
كما يمكن الاستفادة من هذه الخريطة في إثبات الأبوة أو البنوة خصوصاً إذا علمنا بأن خريطة الحمض النووي لأي كائن تتكون من نصف الحمض النووي للأب والنصف الآخر من الأم؛ لذلك يمكن الاستدلال وبنفس الطريقة السابقة بأخذ خلية من كل من الأب, والأم, ونتاج الحمل (جنين, مولود, طفل, ولد, بنت, رجل, إمرأة, وحتى بقايا إجهاض) وعمل فحص الحمض النووي ومعرفة الخريطة الجينية التي تمثل تسلسل وترتيب الأحماض الأمينية في كل حمض نووي ومطابقتها بين الثلاثة(1)’(2).
من هذا العرض الموجز المتعلق بالحمض النووي أذكر النموذج المشار إليه لنتعرف من خلاله على مدى إمكانية استفادة القضاء الشرعي في النفي أو الإثبات.
أثر القيافة في إثبات النسب:
القيافة: معرفة شبه الشخص بأبيه وأخيه, ويقال للخبير بذلك: قائف والجمع قافة(3).
ويلاحظ هنا:
__________
(1) فريدمان وبقية المؤلفين, كتاب الوراثة, الفصل الأول, طبيعة المادة الوراثية, الصفحات 1 – 20.
(2) الموقع الإلكتروني لقسم الهجرة /وزارة الخارجية الأمريكية, صفحة (د. ن. أ) وفحص الدم لإثبات الأبوة.
(3) ابن الأثير الجزري, النهاية في غريب الأثر: 3/284.(23/16)
أن القيافة – وما أشبهها كما سيأتي – إنما تستعمل ويكون لها اعتبار في قضايا النسب غير الثابت بطريق شرعي, ذلك لأن النسب إذا ثبت بطريق شرعي – فراش, أو إقرار أو بينة – فإنه لا يجوز التعرض له بعد ذلك أو الإخلال به. ومن هنا يشترط للعمل بها: أن لا يعارضها دليل أقوى منها, كالفراش أو البينة.
إذا تقرر ذلك أقول:
إذا ادعى أكثر من شخص نسب طفل غير ثابت النسب لأحد, وليس لأحدهما فراش, ولا بينة, أو تعارضت البينات فتساقطت فهل يحتكم إلى القائف؟ وهل يكون لحكمه أثر في إلحاق الطفل بنسب واحد من المدعين؟.
هنا اختلف الفقهاء على مذهبين:
المذهب الأول:
يرى هذا المذهب عدم الاعتماد على القيافة وعدم الحكم بها في النسب.
وبذلك قال التوري, وهو مذهب أبي حنيفة.
وحجتهم في ذلك:
أن القيافة ظن وتخمين, فالحكم بها باطل غير جائز في الشريعة(1).
قال تعالى: "وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"(2).
ويجاب عن ذلك:
بأن القيافة علم لا يتحصل إلا لمن عنده استعداد معين, ويحصل لمن لديه موهبة دقة الملاحظة وتصقله الخبرة وطول المران, ولذلك لا يبرع فيه إلا قلة من الناس, وأحكام القائف الخبير يكثر فيها الصواب فحاله يشبه حال من يقص الأثر ويتبعه. وقد ورد ما يدل على إقرار الشارع للقيافة – كما سيأتي – إذن فما هو المانع من اعتمادها والحكم بموجبها عندما لا يتيسر غيرها لفض النزاع؟ فهو قرينة يصار إليها عند الحاجة ويعمل بها بشرط أن لا يعارضها ما هو أقوى منها.
أما القول بأنها ظن وتخمين, فهنا نقول:
__________
(1) العيني, عمدة القاري: 23/264, الطحاوي, مختصر الطحاوي: 358.
(2) سورة النجم: آية: 28.(23/17)
إن أُريد بذلك الظن الفاسد الذي هو إثم فهذا غير صحيح؛ لأن الشارع قد أقر القيافة كما سيأتي. وإن أُريد بذلك أنها دليل غير قاطع يحتمل الخطأ كما هو الحال بالنسبة للتخمين فهذا صحيح, لكن ما هو المانع من الأخذ بها مادامت الأحكام التي يصدرها القائف صادرة عن خبرة مما يجعلها صالحة للترجيح بين الاحتمالات المتساوية حسماً للنزاع؟ ولذلك نظائر في الشرع يعمل بها في تقدير الحقوق والفصل بين المتنازعين. من ذلك:
خرص الثمار وهي رطبة على رؤوس الأشجار لتقدير ما يجب فيها من زكاة, فيخمن الخبراء مقدار ما على الأشجار من رطب أو عنب, ويقدرون كم سيكون مقدارها إذا جفت وصارت تمراً أو زبيباً, ليعلم مقدار ما يلزمه من زكاة يطالب بها بعد القطاف والجفاف؛ فهذا تخمين مقبول شرعاً, لأنه صادر عن أهل الخبرة وأقره جمهور العلماء, ومنهم مالك, والشافعي, وأحمد(1).
ومن ذلك حسم النزاع بالقرعة بين المتخاصمين على شيء تعارضت فيه بيناتهم فتساقطت. فقد جاء في حديث مروي من عدة طرق عند البيهقي وغيره:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم بينهم وقال: "اللهم أنت تقضي بينهم, فقضى للذي خرج له السهم"(2).
وقد روي هذا القول عن علي, وابن عمر, وابن الزبير.
وهو قول للشافعي, ورواية عن أحمد(3).
بعد هذا فالقيافة ليست بأضعف من الخرص, وهي حتماً أقوى من القرعة.
إذن فلا يوجد مانع من اعتبارها في النسب عندما لا يوجد غيرها, ولا يعارضها ما هو أقوى منها, لاسيما والشارع يميل إلى التيسير في إثبات النسب, رعاية للأطفال ووقاية لتماسك الأسر.
المذهب الثاني:
__________
(1) القاضي عبد الوهاب, الاشراف: 1/172, ابن قدامة, المغني: 2/567.
(2) البيهقي, السنن الكبرى: 10/259.
(3) المصدر السابق, والشافعي, الأم: 6/261, ابن قدامة, المغني: 12/183.(23/18)
يقول أصحاب هذا المذهب: إذا ادعى أكثر من شخص نسب طفل, وليس لأحدهم فراش ولا بينة, أو تعارضت البينات فتساقطت, دعي القائف, فإذا ألحقه بواحد منهم لحق به.
وهذا مذهب جمهور أهل العلم, وهو مروي عن عمر, وأبي موسى الأشعري, وأنس بن مالك, وابن عباس, وغيرهم.
وإليه ذهب مالك, والشافعي, وأحمد, والظاهرية(1).
وحجة هذا المذهب أدلة منها:
حديث أنس: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ... فلاعنها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبصروها, فإن جاءت به أبيض سبطاً قضيء العينين(2), فهو لهلال بن أمية, وإن جاءت به أكحل جعداً حمش الساقين, فهو لشريك بن سحماء. قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعداً حمش الساقين". (رواه مسلم)(3).
وجه الدلالة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر: بأن الولد الذي تأتي به هذه المرأة الملاعنة هو لهلال إذا جاء شبيها به, وهو لشريك إذا جاء شبيها به, فدل هذا بوضوح على أن القيافة يثبت بها النسب لمن ادعاه, إذا لم يكن هناك دليل أقوى منها: كالفراش أو البينة.
حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
"دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم سروراً فقال: يا عائشة, ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل عليّ, فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما, وبدت أقدامهما, فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". (متفق عليه)(4).
وجه الدلالة:
__________
(1) ابن حزم, المحلي: 10/149, العيني, عمدة القاري: 23/264, القاضي عبد الوهاب, الاشراف: 2/103, نابن قدامة, المغني: 6/395, الخطيب الشربينس, مغني المحتاج: 4/489.
(2) قضيء العينين, أي: فاسدهما, بكثرة دمع أو حمرة أو غير ذلك.
(3) مسلم, صحيح مسلم بشرح النووي: 10/128.
(4) البخاري, صحيح البخاري بشرح فتح الباري: 12/44, مسلم, صحيح مسلم بشرح النووي: 10/41.(23/19)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سره قول مجزز, وسروره بذلك دليل على أن القيافة علم صحيح, وإلا لما سرّ عليه الصلاة والسلام بذلك؛ فالرسول لا يسر إلا بما هو حق(1).
ويلاحظ أن هذه الحادثة دليل واقعي على أن القائفة علم, وأن ما يصدره القائف الخبير من أحكام بالشبه أو عدمه يمكن اعتمادها والاطمئنان إليها؛ وذلك لأن هذا القائف قد حكم بوجود رابطة نسب تجمع بين هذين الشخصين النائمين – زيد وأسامة – بمجرد النظر إلى أقدامهما, لأن رؤوسهما كانت مغطاة, هذا علاوة على اختلاف ألوانهما, فإن زيداً كان أبيض اللون بينما كان لون أسامة يميل إلى السمرة.
واحتجوا أيضاً:
بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قضى بذلك بين الصحابة, ولم ينكر عليه ذلك أحد منهم؛ فكان إجماعاً(2).
إذن فالراجح ما ذهب إليه الجمهور في قولهم بأن القيافة معتبرة في إثبات النسب ونفيه, فإذا حصل التنازع في طفل على الوصف الذي ذكرناه وعرض الأمر على القائف, فإذا ألحقه باحدهم ثبت نسبه له وردت دعوى الآخرين.
إذا عرفنا هذا:
فإنه قد تبين مما ذكرته سابقاً: أن كل خلية في جسم الإنسان تحتوي على نواة, وفي داخل هذه النواة يوجد الحمض النووي المكون من مجموعة من الأحماض الأمينية, تكوّن في مجموعها ما يسمى بالكروموسومات, وهي المسئولة عن نقل الصفات الوراثية. هذه الأحماض الأمينية توجد في تسلسل وترتيب معين – وهذا هو ما يعرف بالخريطة الجينية – هذه الخريطة توجد في الحمض النووي لكل خلية من خلايا جسم الإنسان, وتمتاز بأن لكل فرد من أفراد الناس الخريطة الجينية الخاصة به, وهي تختلف من فرد لآخر, ولا يمكن تكرارها حتى في التوائم؛ ومن هنا يمكن الاستدلال من خريطة الحمض النووي على ثبوتية الشخص.
وإذا علمنا:
__________
(1) ابن حزم, المحلى: 10/149, النووي, شرح مسلم: 10/41.
(2) ابن قدامة, المغني: 6/396.(23/20)
أن خريطة الحمض النووي لأي كائن حي تتكون من نصف الحمض النووي للأب, والنصف الاخر من الأم, فإن عمل فحص للحمض النووي للولد وأبويه ومعرفة الخريطة الجينية لكل واحد منهم والمطابقة بين الثلاثة يمكن الاستفادة منها في إثبات النبوة أو الأبوة.
من هذا العرض يتبين:
أن الفقهاء إذا كانوا قد اختلفوا في اعتبار القيافة دليلاً لإثبات النسب فإنه لا ينبغي الاختلاف في صلاحية هذه الوسيلة الحديثة لإثباته؛ ذلك لأن فحص الحمض النووي أقوى من القيافة بمراحل. وأبسط دليل على ذلك:
أن القيافة شبه ظاهري يعتمد أساساً على قوة الملاحظة, ويمكن لهذا الشبه أن يتكرر, أما فحص الحمض النووي فإنه يخضع لفحص مختبري دقيق يكشف عن شبه حقيقي لا يمكن تكراره.
لذلك فإنه ينبغي للقاضي عند الحاجة إلى إثبات الأبوة أو البنوة أن يأمر بإجراء هذا الفحص؛ لأنه يمكّنه من بناء الحكم الصحيح عليه.
وهذا يمكن أن تكون له صور عدة منها:
أن تحصل ولادات عدة في صالات الولادة في المستشفى, فإذا حصل خلط بين المواليد نتج عنه توزيعهم على غير أمهاتهم, ولم نعد نعرف ابن من أعطي لمن, أو مات بعضهم وبقي بعضهم ولم نعد نعرف ابن من الذي مات وابن من بقي, فإننا بواسطة الفحص للحمض النووي للمواليد وآبائهم وأمهاتهم, وبمطايقة الخرائط الجينية للمواليد مع الخرائط الجينية للآباء والأمهات نستطيع إعادة كل مولود إلى ذويه.
ومن ذلك:
ما لو طهرت امرأة من حيضها فوطأها زوجها, وبعد ذلك وفي نفس الطهر وطأها رجل أجنبي بشبهة أو نحو ذلك, ففي هذه الحالة على زوجها أن يعتز لها حتى يستبريء رحمها بثلاث حيضات, فلو لم تحض وتبين أنها حامل, فالحمل في هذه الحالة يحتمل أن يكون من زوجها, ويحتمل أن يكون من الذي وطأها بشبهة. في هذه الحالة يمكن عن طريق فحص الأحماض النووية معرفة هذا الحمل لمن, والفقهاء في مثل هذه الحالة ينتظرون ولادة الطفل, وعن طريق القائف يلحق نسبه بمن يلحقه القائف به.
ومن ذلك:(23/21)
ما لو حصلت كارثة من زلزال ونحوه نتج عنها هلاك الكبار ونجاة صغار لا نعرف لمن ينتسبون, ففي هذه الحالة أيضاً يمكن أخذ عينات من جثث الضحايا, وعينات من الأطفال, وعن طريق فحص الأحماض النووية لهذه العينات ومطابقتها يمكن أن نعرف انتماء هؤلاء الأطفال وإلى من ينتسبون.
هذا والحمد لله رب العالمين
قائمة بأهم المصادر والمراجع
هي: بعد القرآن الكريم
أولاً:…كتب الحديث وشروحه:ـ
الباجي, المنتقى شرح الموطأ, لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي. المتوفى سنة 494هـ, مطبعة السعادة بمصر, الطبعة الأولى, 1332هـ.
البخاري, صحيح البخاري, للإمام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256هـ. مطبوع مع فتح الباري, المطبعة الخيرية بمصر. الطبعة الأولى, 1319هـ.
ابن الأثير, النهاية في غريب الحديث والأثر. المبارك بن محمد الجزري. المتوفى سنة 606هـ, المطبعة العثمانية بمصر, 1311هـ.
أبو داود السجستاني, سنن أبي داود, سليمان بن الأشعث. المتوفي سنة 275هـ, مطبعة مصطفى محمد بمصر.
البيهقي, السنن الكبرى, الإمام أحمد بن الحسين المتوفي سنة 358هـ, مطبعة دار المعارف العثمانية -الهند حيدر آباد الدكن- الطبعة الأولى, 1353هـ.
العيني, عمدة القاري شرح صحيح البخاري, بدر الدين محمود بن أحمد. المتوفى سنة 855هـ, المطبعة المنيرية بمصر, 1348هـ.
مسلم, صحيح مسلم, للإمام مسلم بن الحجاج القشيري. المتوفى سنة 261هـ. مطبوع مع شرح مسلم الآتي.
النووي, شرح صحيح مسلم, للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف المتوفى سنة 676هـ, المطبعة المصرية, الطبعة الأولى, 1929م.
ثانياً:…كتب الفقه:
ابن جزي, القوانين الفقهية, محمد بن أحمد الكلبي المتوفى سنة 741هـ, طبع لبنان.
ابن حزم, المحلى, لأبي محمد علي بن أحمد. المتوفى سنة 456هـ, المطبعة المنيرية, الطبعة الأولى, 1349هـ.(23/22)
ابن رشد, بداية المجتهد, لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد. المتوفى سنة 595هـ, مطبعة مصطفى الحلبي بمصر, 1339هـ.
ابن قدامة, المغني, موفق الدين عبد الله بن أحمد. المتوفى سنة 630هـ, مطبعة المنار بمصر, الطبعة الثانية, 1348هـ.
ابن نجيم, البحر الرائق, زين الدين بن نجيم. المتوفى سنة 970هـ, المطبعة العلمية بمصر, الطبعة الأولى 1311هـ.
الإمام مالك, المدونة, الإمام مالك بن أنس. المتوفى سنة 179هـ, رواية سحنون عن أبي القاسم, مطبعة السعادة بمصر, الطبعة الأولى, 1323هـ.
الخطيب الشربيني, مغني المحتاج, محمد الشربيني الخطيب. المتوفى سنة 977هـ, مطبعة مصطفى محمد بمصر.
الدردير, شرح الدردير على مختصر خليل, أحمد بن الدردير. المتوفى سنة 1201هـ, المطبعة الأميرية بمصر, 1292هـ.
الشافعي, الأم, الإمام محمد بن إدريس الشافعي. المتوفى سنة 204هـ, طبعة الشعب بمصر.
الطحاوي, مختصر الطحاوي, أحمد بن محمد بن سلامة. المتوفى سنة 321هـ, مطبعة دار الكتاب العربي بمصر, 1370هـ.
القاضي عبد الوهاب, الاشراف على مسائل الخلاف, عبد الوهاب بن علي البغدادي. المتوفى سنة 433هـ, مطبعة الإرادة, المغرب.
محمد الدمشقي, رحمة الأمة في اختلاف الأئمة, محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني. نشر مكتبة أسعد، بغداد، الطبعة الأولى 1990م
ثالثاً: …الكتب والمراجع الطبية:
المستشار معوض عبد التواب – الدكتور سينوت حليم دوس, الطب الشرعي، والتحقيق الجنائي، والأدلة الجنائية. منشأة المعارف بالإسكندرية, الطبعة الثانية, 1999م.
كيث إدموند. كتاب ديوهارتس، لأمراض التوليد والنسائية. بلاك ويل ساينس, الطبعة السادسة, 1999م.
فريدمان وآخرين: كتاب الوراثة – السلسلة الطبية الوطنية, وليام و ولكنز, 1992م.
الموقع الإلكتروني لجامعة دندي/ الطب العدلي, صفحة تغيرات ما بعد الوفاة، وزمن الوفاة.(23/23)
الموقع الإلكتروني لقسم الهجرة/ وزارة الخارجية الأمريكية, صفحة (د. ن. أ) وفحص الدم لإثبات الأبوة.(23/24)
القضاء الشرعي في العصر الحاضر
الواقع والآمال
المحور الرابع: آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر
آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن
أنصاف أيوب مومني
المحور الرابع / آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر
ملخص مشاركة : آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن لمواكبة العصر
تهدف هذه الدراسة إلى بيان ابرز معالم آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن لمواكبة العصر, وقد تناولت الدراسة عدد من آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن, وانتهت بعدة توصيات
وقد خلصت الدراسة إلى النتائج التالية:
1. لابد من النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر لاستيعاب مستجداته.
2. الاستفادة من (الآخر) ضمن الضوابط الشرعية.
3. وظيفة المناهج في التأهيل التربوي والمعرفي للقضاة.
4. إشراك المؤسسات الاجتماعية والتربوية؛ للوقوف على عوامل انحسار القضاء الشرعي لمعالجة الخلل وتصويب المسار, وبيان علاقته بواقع حياة الناس.
5. إجراء دراسات تربوية ميدانية لمشكلات القضاة ومقترحاتهم, وكيفية معالجتهم لها بالرؤى النيرة, لإيجاد المناخات الصحية للخروج من قوقعة الانتظار إلى آفاق الفعل والبناء.
6. صدق الاستعانة بالله تعالى, حيث يعد القضاء الشرعي مجال لتطبيق الشريعة الإسلامية.
وقد انتهت الدراسة بعدة توصيات
فهرس المحتويات
الملخص
المقدمة
آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن
1- وظيفة المناهج في التأهيل التربوي والمعرفي للقضاة الشرعيين.
2- الانفتاح على الآخر ضمن ضوابط الشرع.
3- صدق الاستعانة بالله
4- النهوض بالاجتهاد والقضائي.
5- إشراك المؤسسات الاجتماعية
6- إجراء دراسات ميدانية تربوية موضوعية لمشكلات القضاة ومقترحاتهم.
الخاتمة
التوصيات
قائمة المصادر والمراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وعلى آله وصحبه...(24/1)
إن العدل هو الأمل المنشود الذي تتضافر لأجله جهود المخلصين والمصلحين ليجري في شريان الحياة المعاصرة بعد ان غلّق روافده ومنافذه الضغط المادي الأثيم.
ويعد القضاء الشرعي حلا رشيدا ناجعا للخروج من هذه المناخات المحمومة الى المناخات الصحية الآمنة بعد أن اكتوت البشرية بلظى القوانين الوضعية
وباعتبار الأردن يستقي الكثير من تشريعاته من منابع الإسلام ومصادره الأصلية سيما في (الأحوال الشخصية) فسيكون موضوع هذه الدراسة آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن لمواكبة العصر بما يتناغم مع روحه ويطفئ ظمأ مطالبه ويحافظ على ثوابت الدّّّّّّّّّّّّّّين.
إن الحديث عن هذه الآليات يستلزم جهدا جاداً, ووقتا واسعاً؛ فالموضوع متعدد المصادر, ثري الأفكار المخزونة في الذهن, متشعب الجوانب, فلن يكون جهدنا عبر هذه العجالة إلا إلقاء الضوء على خطة ذهنية مقترحة وموجزة ومختزلة عسى أن تشق طريقها من الدائرة النظرية إلى حيز العمل والتنفيذ بإذن الله.
واسأل الله العفو والمغفرة عن أي قصور أو تقصير, وان يشملنا الله تعالى بواسع رحمته, وان يعلمنا وينفعنا بما علمنا انه بعباده رءوف رحيم
أولاً: وظيفة المناهج في التأهيل التربوي والمعرفي للقضاة الشرعيين:(24/2)
إن من أبرز آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن وأهمها – والله أعلم- إصلاح مناهج التدريس في الجامعات والمعاهد الأردنية المعنية بتدريس العلوم القانونية الشرعية؛ للانفتاح على المعارف الإنسانية، ولكسر الحاجز المفتعل بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية أي بمعنى آخر: "على هذه المعاهد والجامعات والأقسام أن تدرّس طلابها الجوانب الأكثر أهمية من المعارف الإنسانية المعاصرة مثل: القانون، علم الاجتماع، علم النفس، السياسة، الإدارة التاريخ والحضارة... لنقل الخريج إلى قلب العصر وتحدياته ومعطياته"(1). مراعية فقه الأولويات في تقديم هذه المعارف حسب الجوانب الأكثر أهمية.
فعلم النفس على سبيل المثال لا الحصر له أهمية خاصة في القضاء الشرعي لما يعين القاضي على فهم نفسية الخصم ويمنحه مهارة التواصل مع الطرف المقابل وكشف الستار عن كثير من المعاني النفسية التي تعينه على تحقيق العدالة في الحكم فيتجاوز الأحكام السطحية المبتسرة إلى أحكام عادلة منصفة وصولاً إلى الأصوب فهناك مثلاً نظرية يأخذ بها التربويون تقول: إذا خالفت حركاتك وقسمات وجهك وانفعالاتك أقوالك فإننا نصدقها أكثر من أقوالك.
وهذه وغيرها ربما تعين القاضي على فهم غور النفوس لتضييق فجوة الخلاف بين المتخاصمين وفتح قنوات الإصلاح بينهما أيضاً.
ويؤكد حافظ سابق على أن هناك صفات نفسية يجب أن تتوفر في القاضي فيقول: "يجب أن يتمتع القاضي بالمواهب النفسية كالقدرة على الإصغاء إلى المرافعات الشفوية والقدرة على التحكم في العواطف، وأن لا يكون عابس الوجه قلق الرأي... وأن يكون واسع الصدر.
__________
(1) بحث مقدم إلى المؤتمر (علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والطموح، المعهد العالمي للفكر الإسلامي والجامعات الأردنية، عمان 23-25 آب 1994م. …(24/3)
وكذلك على المناهج أن تمنح القاضي مساحة واسعة للاطلاع على معطيات الفكر الإسلامي المعاصر في آفاقه كافة من أجل توسيع فضائه المعرفي وجعله أكثر حيوية وإبداعاً وقدرة على بناء الذهنية الناقدة.
ومما يجدر الإشارة إليه أنه لا بد من استضافة أساتذة من الكليات والجامعات لتخصصات مختلفة لها علاقة حميمة بالقضاء الشرعي من داخل الأردن وخارجه لما تمنح الدارس من سعة أفق، وتوهج عقلي؛ للخروج من زنزانة التخصص وقوقعة الانتظار إلى آفاق الفعل والبناء، وحتى لا يقع تحت سطوة أحادية التفكير أو ما يمكن تسميته بالعور الفكري.
أما الأخيرة: وكما هو معلوم تعد التربية بالنموذج الإنساني "التربية بالقدوة" من أنجع الأساليب التربوية لذا؛ ينبغي أن تولي هذه المؤسسات لهذه النماذج المضيئة في عمق الحضارة الإسلامية عناية خاصة لتكون نبراساً يضيء ظلام الواقع المعيش فيمكن مثلاً أن يخصص "مادة" تحت عنوان مُثل عليا من قضاء الإسلام. (1)
ثانياً: الانفتاح على الآخر ضمن ضوابط الشرع:
…بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة بات من العسير علينا أمام هذا الانفجار المعرفي أن نتقوقع على أنفسنا لنحيا تياراً انسحابياً، سلبياً، انكسارياً فلا بد من معرفة أن الحضارة الأوروبية الحديثة لها جانبان:
"جانب شخصيتها والعلوم المتصلة بها، وبدينها المسيحي ونظمها الليبرالية ولغاتها وعاداتها وتقاليدها وموروثاتها الثقافية والاجتماعية وألعابها الرياضية..." (2).
__________
(1) ينظر: محمود الباجي، مثل عليا من قضاء الإسلام، ليبيا- تونس- الدار العربية للكتاب، 1980م.
(2) عماد الدين خليل، عبد الحليم عويس، كتابات على بوابة المستقبل، دمشق- بيروت- دار ابن كثير، 2005م، ص80. …(24/4)
جانب عطائها العلمي (أسلوب، طرائق، وتطبيق) وهذا جانب إنساني وعلمي عام، وكما أن استيراد الأول (الجانب الشخصي) تدمير للأمة، كذلك إغفال الجانب الثاني العلمي، البحت تدمير للأمة بالمستوى نفسه!! والمعادلة الصحيحة أن نتجه لأخذ من العلوم الأوربية التفنية، على أن لا يكون استيراد منتوجاتها وإنما فهمها وتطويرها وتصنيفها كما فعلت اليابان(1).
إن الأخذ من الجانب الأول السالف ذكره تدمير للأمة حيث قدمه لنا الإسلام على طبق من نور لنستيقه من منابعه الأصيلة لننطلق عدائين في السباق الحضاري، كذلك فإن الرفض للآخير سيشل أحد حناجي الأمة ويسحق روح الإبداع ويجعل بيننا وبين الآخر بون شاسع، فهناك من الأجهزة والتقنيات الحديثة لا يمكن الاستغناء عنها ولا بد لرجال القضاء الشرعي من التحصن بالوضوح العقدي والنصاعة الفكرية للوقوف على كل جيد ومفيد وللقدرة على حسن الانتقاء والآخذ والرد للداخل إلينا من الآخر.
بيد أن هناك إشارة مضيئة للتعامل مع الآخر حيث نجد فيها مساحة واسعة لفريضة إصلاح المجتمعات، وحمل الدعوة إلى الإنسانية كافة، والتي تشغل الصدارة في سلم أولوياتنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويطوي السماء كطي السجل للكتب تتجسد في نقل الصورة المشرفة لعظمة التشريع وسماحته وقدرته على كسر طوق الزمان والمكان، واستيعاب مستجداته، وذلك من خلال الخطاب الإسلامي التربوي الإسلامي الذي له قدرة على التواصل مع الآخر واستقطاب القلوب بعيداً عن ثقافة اليأس والشعور بالهزيمة الداخلية والانكسار النفسي أمام هذا التفوق الغربي والسبق الحضاري له علينا، والذي يخفف من لظى هذه النار الكاوية- حسب ظني- الإحاطة "بفقة التمكين" واليقين القاطع بقدرة لا إله إلا الله الباهرة على صناعة الإنسان بأرقى صورة.
__________
(1) … المرجع السابق، ص80.(24/5)
فإذا كان من الغرب مَن تأبى قلوبهم الانصياع للحق والاعتراف به، ففي الوجة المقابل هناك من أصحاب الإرادات الجادة والموضوعية والمنطقية من يكتشف نقاط التألق في ديننا بل ويعترف بها وسيما بعد أن اكتوى بغوائل الانحطاط للقوانين الوضعية, ونسوق غير هذه العجالة بعض من الاعتراف الدولي نسمو التشريع الإسلامي.
ففي المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي عقد في لاهاي بهولندا في صيف 1932م، يجد الكثيرون من كبار فقهاء الغرب أعضاء ذلك المؤتمر كالعميد الإيطالي (ديفكيو) والأستاذ الكبير للقانون الروماني (أبفار ستوكا روزي) والعميد الأمريكي (ويجمور) قد أعربوا عن بالغ تقديرهم لمبادئ الشريعة الإسلامية، وشهدوا لمرونة أحكامها ودقتها(1) .
كما اعترف المؤتمر الدولي للقانون المقارن عام 1950م بمرونة الشريعة وقابليتها للتطور، واستقلالها عن غيرها من الشرائع وصلاحيتها لأن تكون دعامة من دعائم القانون المقارن.
وفي سنة 1951م عقد أسبوع للفقه الإسلامي بباريس، فكان مما كتبته المجلة الدولية للقانون المقارن: "أنه قد تبين بجلاء أن مبادئ الشريعة الإسلامية ذات قيمة لا يمكن أن تكون موضعاً للجدل، وأن اختلاف المذاهب الفقهية داخل هذا النظام الفقهي العظيم إنما ينطوي على ثروة فقهية وعلى أساليب فنية عظيمة.
وفي عام 1966م كتب الأستاذ (دافيد) كبير أستاذ القانون في الوقت الحاضر بقول" ومن ضروب الخطأ الاعتقاد- كما يظن البعض- أن الشريعة الإسلامية في حالة سُبات، فالشريعة لا تزال تعد من الأنظمة الفقهية العظيمة في العالم الحديث (2).
ثالثاً: صدق الاستعانة بالله:
__________
(1) …محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي، القاهرة – مطبعة الزهراء للإعلام العربي، 1988، ص158
(2) … المرجع السابق، ص159.(24/6)
…تحقيق لمبدأ الوحدة بين الدنيا والآخرة، ولعظمة المسؤولية المنوطة على القاضي الشرعي فإن ذلك يحتم عليه أن يكون لديه طاقة إيمانية عالية؛ لتجاوز ظغوط الواقع المادي الأثيم الذي يستسلم لسطوة الهوى، وتعبيد الناس لبعضهم بعضا، وتفشي سرطان الانا، وسيادة الفردية المطلقة الملتصقة بالوحل والهبوط الأرضي فإن هذه الطاقة بلا ريب تمنحه نور الصدر، وسعة الأفق، وسرعة البديهة، والفراسة عالية، والرؤية ثاقبة، والصفاء في العقل، وحس إيماني يعينه على تفريق الحق من الباطل: " واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم" (البقرة 282).
…فالدفعة المعرفية لا بد أن يصاحبها دفعة روحية تتأزر وتتناغم معها بتوازن محكم دقيق، فلا نريد أقزام في الجوانب الروحية وعمالقة في الجوانب المعرفية، فلا بد من اجتماع العلم والإيمان، وإن النهوض بأحدهما يكون رافداً للرفعة والرقي برتبة الآخر.
…ويقول ابن تيمية: "يقدم الأورع من القضاة على الأعلم قيماً يظهر فيه الحكم ويخاف منه الهوى، وتقديم هذا الأخير قيماً يدق فيه الحكم ويخاف فيه الاشتباه"(1) .
…ومن المعينات والبواعث على تحقيق ذلك:
جاء في أدب القاضي للماوردي عند بحثه آداب القاضي: "ويصلي عند التأهب للجلوس ركعتين ... ويدعو الله بعدها... وكان رسول الله إذ خرج من بيته قال: اللهم أني أعوذ بك أن أزل أو أزل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ، أو اعتدى أو يعتدى علي، اللهم أعني بالعلم، وزيني بالحكم، وأكرمني بالتقوى، حتى لا أنطق إلا بالحق، ولا أقضي إلا بالعدل ويستحب أن يقول هذا إذا جلس للحكم..." (2) .
__________
(1) … ابن تيمية، السياسة الشرعية، بيروت – دار المعرفة – د. ت. ص180.
(2) …الإمام أبو الحسن الماوردي ، أدب القاضي، تحقيق مجيء سرحان، بغداد – مطبعة الإرشاد، 1971. ج1، ص218. .(24/7)
وجاء في كتاب تاريخ قضاة الأندلس عن القاضي محمد بن محمد اللخمي أنه: (كان من شأنه – إذا أتى المسجد للحكم بين الناس – يتركع، ويتضرع إلى الله، ويلح في الدعاء ويسأله أن يحمله على الحق، ويعينه عليه ويرشده للصواب. وإذا فرغ من الحكم يتركع، ويسأل الله العفو والمغفرة عما صدر عنه، مما تلحقه تبعه في الآخرة(1) .
2- على المناهج التعلمية في المؤسسات الأكاديمية المعينة بالقضاء الشرعي أن تشغل وظيفتها المرتقية في الإعداد الروحي المحكم، وليس ذلك فحسب بل أن يجد الدارس في أساتذته ومدرسيه المثل الأعلى والقدوة الحسنة التي يتأسى بها.
3- العطلة القضائية: لقد جاء في سيرة محمد بن يبقي بن ندب، أنه قيل عنه: " كان لا يحكم في شهر رمضان، ويفرّغ نفسه فيه للعمل والعبادة، ولم يزل مواظباً على ذلك إلى أن مات"(2) .فقوله "للعمل" كأنه يفيد أنه كان يعكف على الدراسة والمطالعة وتثقيف نفسه، وقوله للعبادة. فكأن هذا الشهر بمثابة العطلة القضائية في زماننا الحاضر(3) .
ولا يفوتنا أن هذه الإجازة لها مدلولاتها التربوية حيث يكسر القاضي طوق الروتين والألف فيعود إلى عمله بصفاء ذهني ونقاء روحي.
رابعاً: النهوض بالاجتهاد القضائي لمواكبة العصر:
__________
(1) الناهي المالقي، تاريخ قضاة الأندلس، بيروت، منشورات المكتب التجاري، د-ت، ص804.
(2) الإمام أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت- دار الكتاب العربي، 1985م، ج2، ص 244-245.
(3) …ظافر القاسمي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، بيروت-دار النفائس، 1978م، ص97. .(24/8)
إن إغلاق باب الاجتهاد القضائي أو انحساره يكون من نتيجته إصابته بالشلل الذي يحول بينه وبين تلبية روح العصر بمستجداته المتراكمة وتعقيداته اللامنتهية يقول عماد الدين خليل: " إن الفعل الاجتهادي له القدرة على تنفيذ مهمة مزدوجة: الحفاظ على الإسلام نفسه، وتحقيق انطباقه على الواقع من جهة أخرى فيحقق التوافق والتناغم والتوحد بين المعطيات الإسلامية وبين العالم"(1) .
وبغية حث القاضي على البحث والاجتهاد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد له أجران، وإذا حكم فأخطأ له أجر" وجاء في شرح هذا الحديث: إذا حكم القاضي فاجتهد أي بذل جهده في الوصول إلى الصواب وأصابه فله أجران أجر على اجتهاده واجر على وصوله إلى الحق وإذا أخطأ فله أجر على اجتهاده فقط.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: " كيف تقضي؟ قال: اقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فسنة رسول الله، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد برأيي. قال الحمد لله الذي وفق رسولَ الله رسولِ الله"(2) . فقول القاضي معاذ اجتهد برأيي أي ابذل طاقتي وجهدي في الوصول إلى الحق بالقياس على القرآن أو السنة إذا اتفقا أو تقاربا في العلة(3)
وذهب الشافعي إلى : "أن القاضي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد"(4) .
__________
(1) …عماد الدين خليل، بحث مقدم إلى مؤتمر علوم الشريعة في الجامعات: الواقع والطموح، ص16، مرجع سابق. .
(2) منصور، علي ناصف، التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، القاهرة – المكتبة الإسلامية، 1962م، ص 66.
(3) …المرجع السابق، ص 66.
(4) أنور العمروسي، التشريع والقضاء في الإسلام، الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة، 1984، ص51. .(24/9)
ومذهب الجمهور: " إن الاجتهاد شرط أساسي في تولية القضاء"(1) . ويقول هنري دي وايل كان الخليفة يختار القاضي من بين العلماء ليحكم بين الناس"(2) ويضيف قائلاً:" لكن الاجتهاد توقف واستبَعد...." (3)
فلا بد من النهوض بالاجتهاد القضائي وحيث أن هناك العديد من القضايا المتجددة على الساحة المعاصرة تنتظر الإجابة ومنها: حكم الزواج العرفي بأنواعه، قضية تحديد جنس المولود....الخ.
وقد أكدت الدارسة التي أجراها عقل مقابلة تحت عنوان المسؤولية الجزائية للطبيب على قلة الأحكام القضائية الجزائية المتعلقة بهذا الموضوع وخاصة في الأردن حيث تعد مسألة جديدة ونادرة" (4) وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
فإنني اقترح أن تقوم الأردن بإنشاء مجلس علمي لفقه القضاء الشرعي للعالم الإسلامي كافة تكون نواته الأردن تتولى زمامة طلائع من الفئة المبدعة الجادة الغيورة، يكون أحدى مرتكزاته رفع شعار العقل الجماعي، حتى لا تقع تحت سطوة الفردية في التطبيق والاجتهاد وتدخل في نفق عشق الجدل فتستزف طاقاتها القضايا الفرعة متجاهلة التركيز على المبادئ الأساسية والخطوط العريضة
خامساً: إشراك المؤسسات الاجتماعية:
__________
(1) …محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي، القاهرة-الزهراء للإعلام العربي، 1988م، ص443. .
(2) …هنري ديل وايل، القانون الإسلامي، ترجمة: عبد الهادي عباس، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1995، ص70.
(3) …المرج السابق، ص21.
(4) …عقل مقابلة، المسؤولية الجزائية للطبيب أبحاث اليرموك، اربد- جامعة اليرموك، مجلد 21 عدد 4، 2005 ص1106.(24/10)
يجب علينا أن لا نغفل الوظيفة الإيجابية التي يمكن أن تشغلها الوسائط الاجتماعية والتربوية من مثل: "الأسرة المساجد، والمؤسسات التربوية، ووسائل الإعلام، والجمعيات الخيرية التطوعية" في مناصرة القضاء الشرعي والوقوف على عوامل انحساره وبيان علاقته بواقع الناس لمعالجة الخلل وتصويب المسار؛ فالعلاقة بين القضاء الشرعي وهذه المؤسسات علاقة حميمة من العسير فصلها.
…فالأصل أن يرفع القضاء الشرعي شعاراً ليكسر الفاصل بينهما تحت مسمى "القضاء الشرعي والمجتمع" لأن من الأهداف المباشرة والقريبة المدى للقضاء المحافظة على أمن المجتمع واستقراره.
ومن الصور المقترحة التي يمكن أن يتم التواصل والتناغم والانسجام بينهما:
العلاج الوقائي الذي تقوم به هذه الوسائط من ترسيخ أبجديات السلوك الإيماني وأخلاق الإسلام بين الفئات المجتمعية المختلفة، فالمؤسسة التربوية الأولى (الأسرة) تتولى نواة التربية، والمدرسة والمسجد... يكملا المسار، علماً بأن تخلف أو تنحي أي وسيط عن الآخر سيفرز لنا أجيالاً مبتورة الصلة بالعقيدة قاصرة عن العطاء في الأجل والعاجل ولربما من السهل أن تكون عجينة لينة سهلة قابلة للجنوح عن الحق، وقابلة لأن تكون معول هدم وتدمير في المجتمع بدل أن تكون أداة نماء وأمن.
نشر الثقافة القانونية الشرعية في المجتمع، بحيث لا يعم أفراد المجتمع الجهل بهذه المسألة فيقعوا تحت سطوة حسن النوايا ويكونوا أداة استغلال بيد ذوي الإرادات المشوهة في المجتمع بل عليهم أيضاً أن يعينوا رجل القضاء بما يتوفر لديهم من معلومات صادقة وموضوعية في القضايا التي يعرفونها.(24/11)
أن يكون لنقابة المحامين دوراً فاعلاً في إعداد رجال للحق وليس رجال على الحق مع (المصلحة والمنفعة الفردية) ويكون هذا الإعداد من المراحل التعليمية إعداداً قبلي وذلك يربط مهنة القضاء بمخافة الله وربط العاجل بالآجل، وإعدادهم أيضاً أثناء ممارسة العمل بالمتابعة والتذكير.. إلخ وأنني اقترح ان تقوم نقابة المحامين بعمل الأتي لضمان سيرة العدالة:
أن تدفع رسوم محددة سواء أكسب القضية المحامي أم لم يكسبها.
أن تقوم النقابة بتوزيع القضايا.
أن تعطي حوافز لكل محامي يتعاون مع القضاء .
أن تسن عقوبات مشددة على من يستغل القانون لأهدافه الشخصية .
دور المصلحين والمربين والدعاة في دفع عجلة الأمن في الحياة العامة، وهذا الدور لا ينفك عنهم وهو واجب من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء لعامة الناس أو لخاصتهم، ومما لا ريب فيه أن هناك طلائع من الناس تجد نفسها أنها تكايد من أجل أنّات المستضعفين والحيارى، وسيما من أصحاب السوابق الذين يجدون بأنفسهم الغربة وعدم قدرة المجتمع على هضمهم ومنهم (أهل السجن: " فالسجن بحد ذاته يورث التعقيد والأذلال وإلى جانب ذلك فإن السجون تتيح فرص اللقاء بين السجناء القدامى والسجناء الجدد، أي بين سجناء تمرّست وترسّخت في نفوسهم روح الإجرام مما قد يؤدي إلى ارتكاب مزيد من الجرائم وزيادة خطورتهم في المجتمع (1)
ويمكن تفادي هذا الأمر عن طريق إنشاء مؤسسات عقابية متخصصة لكل فئة منهما، أو الفصل بينهما داخل المؤسسات الموجودة (2) ، ومما لا جدل فيه أن الخطورة تمتد ما بعد السجن لذا، وجب أن يكون السجن أداة تربية وإصلاح وبناء إلى جانب كونه أداة عقاب وترهيب، فهنا لا بد أن يكون للمربين والمصلحين حضوراً خاصاً وطرحاً مميزاً لإعانة هذه الفئة.
__________
(1) …على محمد جعفر، فلسفة العقوبات في القانون والشرع الإسلامي، بيروت- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ص140.
(2) …المرجع السابق ص141(24/12)
وظيفة المرأة في الإصلاح الاجتماعي وإعانة القضاء الشرعي لتأدية رسالته العادلة وللمرأة في هذا النطاق حضوراً بارزاً ومميزاً أن أحسنت استغلاله وفق ضوابط الشرع، ولا أعني أن تتولى المرأة القضاء فليس هذا موضوع دراستي، ولكن هناك العديد من الثغرات الأسرية والمشاكل النسائية المتراكمة ... لا يمكن أن تحس فهمها إلا امرأة
سادسا: إجراء دراسات ميدانية تربوية موضوعية لمشكلات القضاة ومقترحاتهم
إن إجراء الدراسات الميدانية التربوية لمشكلات القضاة والسماع لمقترحاتهم, يسهم في وضع خطة لمعالجة المشكلات وتنفيذ المقترحات بالرؤى النيرة وحسن الاختيار بين البدائل الرشيدة وإيجاد مناخات صحية للخروج من قوقعة الانتظار إلى آفاق الفعل والبناء
وإذا أردنا لهذا الاقتراح أن نقطف ثماره فعلينا أن نستبعد الارتجالية في التخطيط والفردية في التطبيق والليونة في التنفيذ.
وبعد استطلاع سريع لا يعد علميا كان من المقترحات الأولية للقضاة: أن يكون برنامجا إعلاميا دوريا على الشاشة المتلفزة يعرّف عامة الناس بالقضاة ومهامهم وينشر الوعي بينهم.
وكذلك أن يكون للسلطة التنفيذية دور صارم سيما في قضايا الأحوال الشخصية لتنفيذ القرارات .
وختاماً: أن القضاء الشرعي يعد مظهرا من مظاهر تطبيق الشريعة الإسلامية للنهوض بهذه الأمة من الانكسار إلى الإبداع والفعل الحضاري, ولا اعد ما قدمته إلا رؤية فردية باجتهاد العبد المقل فان لم تعطِ تصورا شاملا فحسبي أن تكون مدخلا لدارسات أخرى أوسع مساحة وأعمق فهما, فان وفقت فذلك من فضل ربي وان أخطأت فمني ومن الشيطان.
التوصيات:
فإنني أعد ما كتبته في هذه الدراسة توصيات ومقترحات وأضيف مؤكدا التوصيات التالية:
توسيع الفضاء باتجاه فقه قضاء إسلامي لإعداد القاضي شرعيا وتربويا وقانونيا... الخ ضمن جهد مؤسسي لنقله إلى قلب العصر وتحدياته ومعطياته(24/13)
العمل الجاد لإنشاء مجمع علمي يختص بفقه القضاء الشرعي ومستحدثاته يعمل بجهد جماعي (عقل جماعي).
إشراك الوسائط الاجتماعية والمؤسسات التربوية في مآزره القضاء الشرعي
إجراء دراسات تربوية وميدانية للتعرف على مشكلات القضاة ومقترحاتهم.
الاستفادة من مستحدثات العصر ومعطياته للتربية الإيمانية المستمرة للقضاة.
انصاف ايوب مومني
بريد الكتروني: ensaf73@yahoo.com
ت: 962777794711
فاكس:96227211121 بواسطة صبري المومني(24/14)
أهمية القضاء الشرعي في حياة الأمة الإسلامية
في العصر الحاضر
أ.د/ عيادة بن أيوب الكبيسي
أستاذ التفسير وعلوم القرآن
جامعة الشارقة ـ قسم أصول الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يترك الإنسان سدى، وإنما سدده سبحانه بشرعه وهدى، فمن تمسك بهديه نجا وسلم من الردى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير من حكم وقضى، وأقام العدل وإليه دعا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، وأنصاره وأحبابه، دياجير الظلم ومصابيح الهدى، ومن سار على نهجهم واقتفى إلى يوم الدين.
وبعد:
فلا يخفى أن الغاية من إنزال القرآن الكريم إنما هي هداية الناس وتحقيق العدل بينهم، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(1) .
كما لاتخفى الحكمة من بعثة النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهي دعوة الناس إلى هذا القرآن، وتطبيق أحكامه بينهم، قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}(2) .
ولقد حرص النبي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، على تنفيذ ما كلفه الله تعالى به، منذ الأيام الأولى لتنزل الوحي الكريم، يوم خاطبه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(3) ، ثم بقوله تعالى: {يا أيها المدثر. قم فأنذر. وربك فكبر}(4) ، فما ترك سبيلا ممكنة إلى هداية قومه إلا سلكها، وسيرته العطرة خير شاهد على هذا.
لقد عرض نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القبائل العربية، ودعاهم إلى الله سرا وجهرا، وتحمل في سبيل ذلك من الأذى الحسي والمعنوي الشئ الكثير.
__________
(1) سورة البقرة، آية: 185.
(2) سورة المائدة، آية: 49.
(3) سورة العلق، آية: 1.
(4) سورة المدثر، الآيات: 1-3.(25/1)
وبعد أن هدى الله تعالى به من شاء له الهداية من الناس، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرجع الأول لحل كل ما يطرأ ويحدث بينهم، كما كان يجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم من كل ما يحتاجونه في شؤون دينهم ومعاملاتهم.
غير أنه لم يتسنّ له ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يباشر مهمة القضاء المنظم كما هو شأن الدول، حتى هاجر إلى المدينة المنورة، وأقيمت دولة الإسلام، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينئذ هو القاضي الأول في تاريخ الدولة الإسلامية.
فقد كانت القضايا والخصومات تعرض عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيفصل فيها بالحق ويحكم بالعدل، واضعا بذلك الأسس السلمية، ومرسيا المبادئ القويمة للقضاء الشرعي النزيه، الذي عبق أريجه في ذلك العصر النبوي الزاهر.
ومن خلال الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة التي وردت بشأن القضاء، وضرورة تطبيقها في العصر الحاضر كما طبقت في عصور الإسلام الزاهرة، أحببت أن أشارك في هذا المؤتمر المبارك، مستعينا بالله تعالى سائله الفتح والتوفيق.
وقسمت البحث إلى مقدمة ومبحثين وخاتمة.
أما المقدمة : فهذه.
وأما المبحث الأول: ففي تعريف القضاء الشرعي، وأهميته، وأهدافه.
وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: تعريف القضاء الشرعي لغة واصطلاحا.
الثاني: أهمية القضاء الشرعي عبر العصور.
الثالث: أبرز ثوابت أهداف القضاء الشرعي.
وأما المبحث الثاني: ففي بعض الآيات والأحاديث الواردة بشأن القضاء الشرعي، وضرورة تطبيقها في العصر الحاضر.
وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: بعض الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وهداياتها.
وتم فيه تقسيم الآيات الواردة في ذلك إلى ثلاث مجموعات:
ما ورد بصيغة الجزم "افعل".
ما ورد بصيغة الخبر.
ما كان حديثا عمن قبلنا.
وكلها تؤكد وجوب الحكم بما أنزل الله ـ وهو القضاء بشرعه ـ، الذي لا يصح العدول
عنه، أوالجنوح إلى غيره.
الثاني: بيان مدى الحاجة إلى العمل بها في كل عصر.(25/2)
وفيه الإشارة إلى أن من الفقه الإسلامي ما هو ثابت غير قابل للتغيير، وأن العمل به لا
لا يقتصر على عصر بعينه، فما لزم تطبيقه في عصر النبوة فما بعده، يلزم تطبيقه في
كل عصر، لاسيما في عصرنا الحاضر.
الثالث: واقع القضاء في العالم الإسلامي المعاصر.
وفيه بيان التراجع الكبير عن النهج الصحيح الذي كان عليه سلف الأمة إبان عصور
الإسلام الزاهرة، مما أدى إلى تفكك ومعاناة دفعت أبناء الأمة إلى المناداة بضرورة
العودة إلى تطبيق شرع الله والوقوف عند حدوده، ليسود الأمن والأمان، وينعم الناس
في ظل شريعة الله كما نعموا من قبل.
وأما الخاتمة: فأذكر فيها أهم ما توصل إليه البحث من نتائج، مع بعض المقترحات.
والله تعالى هو الموفق والمستعان.(25/3)
جامعة الشارقة
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بالتعاون مع مصرف أبو ظبي الإسلامي
والأمانة العامة للأوقاف بالشارقة ومركز التراث
برنامج
ندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر :
الواقع والآمال
12-13-14 ربيع الأول 1427هـ
الموافق 11-12-13/4/2006 م
برعاية
صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
عضو المجلس الأعلى للاتحاد- حاكم الشارقة
الرئيس الأعلى لجامعة الشارقة
تنظيم
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة
بالتعاون مع مصرف أبوظبى الإسلامي والأمانة العامة للأوقاف بالشارقة
ومركز التراث
ندوة: القضاء الشرعي في العصر الحاضر:
الواقع والآمال
بسم الله الرحمن الرحيم
اليوم الأول : الثلاثاء 12 ربيع الأول 1427هـ الموافق 11 /4/2006 م .
الجلسة الافتتاحية : 9:30-10:30
المكان : مسرح الزهري M 2
تلاوة آيات من القرآن الكريم .
كلمة سعادة مدير الجامعة .
كلمة اللجنة التنظيمية : فضيلة عميد كلية الشريعة
والدراسات الإسلامية .
كلمة السادة الضيوف المشاركين في الندوة .
استراحة 10:30-11
محاور الندوة :
اليوم الأول : الثلاثاء 12 ربيع الأول 1427هـ الموافق 11 /4/2006 م .
الجلسة الأولى : الوقت : 11-13:30
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الأول : ملامح القضاء الشرعي في المجتمع الإسلامي المعاصر :
رئيس الجلسة : أ . د ماجد أبو رخية .
مقرر الجلسة : د . أحمد شليبك .
المشاركون ... عنوان البحث
1- أ.د. محمد الزحيلي ... قضاة الشرع في العصر الحاضر
2- د. العربي البوهالي ... وضعية القضاء الشرعي في المغرب في العصر الحاضر
3- د. إبراهيم عبدالرحمن إبراهيم ... القضاء الشرعي في السودان ودواعي إلغائه – توحيدا للقضاء
4- أ.د. عيادة بن أيوب الكبيسي ... أهمية القضاء الشرعي في حياة الأمة الإسلامية
5- د. أسامة عثمان خليل ... دور القضاء الشرعي في حماية كيان الدولة المالي – دراسة في قضايا الزكاة والضرائب والجمارك كأمر مستحدث(26/1)
6- د. سعيد بو هراوة ... تأهيل القضاة الشرعيين في ماليزيا: الواقع والآفاق – أنموذج الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا-
استراحة 13:30-15 لأداء الصلاة وتناول طعام الغداء
اليوم الأول : الثلاثاء 12 ربيع الأول 1427هـ الموافق 11 /4/2006 م .
الجلسة الثانية : الوقت : 15:00-17:30
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الأول : ملامح القضاء الشرعي في المجتمع الإسلامي المعاصر :
رئيس الجلسة : أ . د . عبد الله الجبوري
مقرر الجلسة : د . عبد المجيد السوسوة
المشاركون ... عنوان البحث
1- د. خالد إبراهيم أحمد حسب الله ... القضاء الشرعي المعاصر: خلفيته العقدية، وموقف العلمانية منه
2- د. عبد الحق حميش ... عوامل انحسار القضاء الشرعي في المجتمعات العربية والإسلامية في العصر الحاضر
3- د. محمد عبدالرحيم البيومي ... الإشكاليات الاجتماعية للعولمة ودور القضاء الشرعي في مواجهتها
4- د. عقيلة حسين ... مشكلات القضاء الشرعي المعاصر بالجزائر: الواقع – الجهود – الآمال
5- د. عبد الغني الغريب طه راجح ... عوامل انحسار القضاء الشرعي في جمهورية مصر العربية
6- أ. كلثم الشيخ عمر عبيد الماجد ... شخصية القاضي : سبل بنائها وتنميتها وحمايتها
7- أ. إنصاف أيوب مومني ... آليات تطوير القضاء الشرعي في الأردن
اليوم الثاني : الأربعاء 13 ربيع الأول 1427 هـ الموافق 12/4/2006 م
الجلسة الثالثة : الوقت : 8:30-11
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الثاني : تنظيم القضاء الشرعي واختصاصاته في العصر الحاضر
رئيس الجلسة : أ . د هاشم جميل
مقرر الجلسة : د . سعيد القزقي
المشاركون ... عنوان البحث
1- أ.د. ماجد أبو رخية ... القضاء الشرعي في مجال الأحوال الشخصية في الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة
2- د. آدم نوح القضاة ... الاستئناف في نظام القضاء الشرعي الأردني
3- د. عبدالله بن إبراهيم الموسى ... الاختصاص المذهبي في القضاء الشرعي وتطبيقاته المعاصرة(26/2)
4- د. عبدالله محمد نوري الديرشوي ... الجهات القضائية واختصاصاتها في المملكة العربية السعودية
5- د. نزار محمود قاسم الشيخ ... الاختصاص القضائي الشرعي المكاني في المحاكم الشرعية لدولة الإمارات العربية المتحدة – دراسة فقهية مقارنة -
6- د. عثمان جمعة ضميرية ... مدى خضوع غير المسلمين للقضاء الإسلامي في العصر الحاضر
7- د. محمد الحسن مصطفى البغا ... القضاء على الغائب
استراحة 10:30-11
اليوم الثاني : الأربعاء 13 ربيع الأول 1427 هـ الموافق 12/4/2006 م
الجلسة الرابعة : الوقت : 11-13:30
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الثالث : إجراءات التقاضي أمام المحاكم الشرعية في العصر الحاضر :
رئيس الجلسة : أ . د . المكي اقلاينة
مقرر الجلسة : د . محمد عصام القضاة
المشاركون ... عنوان البحث
1- د. محمد بن منصور ربيع المدخلي ... إجراءات الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه وأنظمة المملكة العربية السعودية
2- الشيخ ماهر عليان خضير ... الإجراءات القضائية في أصول رفع الدعوى الشرعية أمام القضاء الشرعي الفلسطيني
3- د. أسماء أحمد العويس ... التسوية بين الخصوم في مجلس القضاء (دراسة مقارنة بين المذاهب الفقهية وما عليه العمل في قانون دولة الإمارات العربية المتحدة)
4- د. محمد سليمان النور ... الإثبات بالإقرار أمام القضاء الشرعي المعاصر في السودان
5- د. عدنان عزايزة ... قول الخبير وحجيته في إثبات العيب الموجب لفسخ عقد الزواج
6- د. عبدالرحيم العلمي ... إجراءات الدعوى أمام المحاكم المغربية
7- د. وداد العيدوني ... وسائل الإثبات في القضاء الشرعي المغربي
8- د. السيد محمود عبد الرحيم مهران ... تطور العلوم الطبية في تقدير مدة الحمل وأثره القضاء الشرعي
استراحة 13:30-15 لأداء الصلاة وتناول طعام الغداء
اليوم الثاني : الأربعاء 13 ربيع الأول 1427 هـ الموافق 12/4/2006 م
الجلسة الخامسة : الوقت : 15-17:30(26/3)
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الرابع : آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر :
رئيس الجلسة : أ . د . محمد شلال العاني
مقرر الجلسة : د . أحمد معاذ
المشاركون ... عنوان البحث
1- أ. المحجوب بنطالب ... آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر
2- د. عبدالرحمن بن أحمد الجرعي ... تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين
3- أ.د. عبدالله محمد الجبوري ... تقنين الشريعة الإسلامية وصلته بتطبيقاتها في القضاء الشرعي
4- د. محمد عبداللطيف رجب عبدالعاطي ... تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية
5- أ.د. المكي اقلاينة ... من مدونة الأحوال الشخصية المغربية إلى مدونة الأسرة
6- د. إسماعيل كاظم العيساوي ... الاتجاهات الجديدة لقانون الأحوال الشخصية الإماراتي وأثرها في تطور القضاء الشرعي
7- د. محمود محمد ناصر بركات ... التأثيرات القضائية والواقعية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية السوري – أنموذج: تعدد الزوجات – الحضانة – المهر – الطلاق -
اليوم الثالث : الخميس 14 ربيع الأول 1427 هـ الموافق 13/4/2006 م
الجلسة السادسة : الوقت : 9-11:30
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الرابع : آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر :
رئيس الجلسة : د . صالح رضا
مقرر الجلسة : د . البشير الترابي
المشاركون ... عنوان البحث
1- د. عبدالرحمن الكيلاني ... تقنين الفقه الإسلامي في الأردن – الواقع والطموح
2- د قطب الريسوني ... الاجتهاد القضائي المعاصر : ضرورته ووسائل النهوض به
3- الشيخ تيسير التميمي ... ملامح وآفاق تطور القضاء الشرعي في فلسطين
4- د. محمد خالد منصور ... وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي – دراسة نظرية تطبيقية مقارنة بالقانون الأردني
5- د. عمر بن صالح بن عمر ... المقاصد المرعية في تقنين الأحكام القضائية في القضاء الشرعي
6- د. أحمد قاسم كسار الجنابي ... تهذيب مصطلحات القضاء الشرعي المعاصر(26/4)
7- د. عبدالمجيد بوكركب ... تقنين الأحكام الشرعية ودورها في إثراء المنظومة القانونية الجزائرية
استراحة 11-11:30
اليوم الثالث : الخميس 14 ربيع الأول 1427 هـ الموافق 13/4/2006 م
الجلسة السابعة : الوقت : 11:30-13
المكان : القاعة : M1-o8
المحور الرابع : آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر :
رئيس الجلسة : أ . د . القرشي عبد الرحيم
مقرر الجلسة : د . قاسم علي
المشاركون ... عنوان البحث
1- أ.د. هاشم جميل ... الوسائل الحديثة ومدى إمكانية استفادة القضاء الشرعي منها في النفي والإثبات – أحكام ونماذج -
2- د. الحاج الدوش ... التحكيم والتوفيق كمطور للقضاء الشرعي في العصر الحاضر
3- د. فريدة زوزو ... الإجراءات الميدانية للقضاء بالقرائن في مسائل إثبات النسب
4- د. بندر بن فهد السويلم ... القضاء بالبصمة الوراثية في النسب
5- أ. وليد شاويش ... حجية التوقيع الإلكتروني في القضاء الشرعي
6- د. عبد العزيز شاكر الكبيسي ... أثر التقنيات الحديثة في الأقضية الشرعية – الطلاق الإلكتروني أنموذجا -
7- أ. د. محمد بن أحمد الصالح ... وسائل الإثبات المعاصرة في القضاء
8- د. محمد فتحي راشد الحريري ... مستجدات علمية في إثبات النسب في القضاء الشرعي
استراحة 13-13:30 صلاة الظهر - استراحة
اليوم الثالث : الخميس 14 ربيع الأول 1427 هـ الموافق 13/4/2006 م
الجلسة الختامية : الوقت : 13:30-14
المكان : القاعة : M1-o8
رئيس الجلسة : أ.د. محمد الزحيلي، عميد كلية الشريعة.
وعضوية كل من:
أ.د. ماجد أبو رخية (رئيس لجنة التوصيات).
2- ممثل عن المشاركين.
أ.د. المكي اقلاينة (أمين سر الندوة).
- تلاوة التوصيات
- صلاة الظهر
- غداء .
- بعد الظهر فترة استراحة للضيوف (الانطلاق في جولة).(26/5)
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
كلية أحمد إبراهيم للحقوق
قسم الشريعة الإسلامية
تأهيل القضاة الشرعيين في ماليزيا
الواقع والآفاق
أنموذج الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
د. سعيد محمد بوهراوة
بحث مقدم لمؤتمر القضاء الشرعي في العصر الحاضر الواقع والآمال
الذي تنظمه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة
من 10 إلى 13 إبريل سنة 2006م
ملخص البحث
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد؛
تهدف هذه الورقة إلى التعريف بواقع مؤسسات تأهيل القضاة في العالم الإسلامي، وقد اتخذت من ماليزيا عموما والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا على وجه الخصوص نموذجا لها لما يكتسبه هذا البلد أولا من سمعة طيبة في تطوير المؤسسات العلمية والأكاديمية والتأهيلية، ولما تستكسبه كذلك الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا من سمعة طيبة في الجمع في تكوين الإطارات الشرعية بين الجانب الشرعي والجانب الواقعي المتمثل في تعريف الطلاب بمستجدات الساحة القضائية، والإجراءات الجديدة التي طرأت عليه، وكذا إعمال آخر ما توصلت إليه المناهج التدريسية الحديثة. والهدف الرئيس من هذه الورقة هو رفد المؤسسات التأهلية بتجارب حية تكون معينا للمؤسسات الإسلامية الأخرى في عملها النبيل، وللاستفادة من الملاحظات النقدية التقويمية الموجهة لهذه المؤسسة وغيرها مما يساعدها على الارتقاء وتطوير الأداء التكويني للوصول به إلى المستوى المرجو من هذه المؤسسات.
الدكتور سعيد محمد بوهراوة
كلية القانون قسم الشريعة الإسلامية
الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا
البريد الإلكتروني: saidbouh@hotmail.com/ / bsaid@iiu.edu.my
الجوال: (601) 92086470
المكتب: (603) 61964371
مدخل(27/1)
لقد ارتبط موضوع القضاء بسياسة المجتمعات والحفاظ على نظامه العام، فعد القضاء حجر الزاوية في صلاح المجتمع إذا كان عادلا، كما عدّ من أعظم أسباب خرابه إن كان جائرا. وارتبط مصطلح القضاء بالحوادث التي تطرأ على المجتمع والتي تحتاج إلى حل شرعي يجمع بين الاحتكام إلى شرع الله تعالى والتفاعل الحسن مع الواقائع المتغيرة، وهو ما عبر عنه علماؤنا، بفقه الفهم وفقه التنزيل. وارتبط بمصطلح الاجتهاد والحركة الحيوية للفقه الإسلامي. ومن جهة أخرى ارتبط مصطلح القاضي بمصطلح المجتهد فسوى جل الأصوليين بين شروط القاضي وشروط المجتهد، وهو ما يجعله أقدر من غيره على القيام بهذه المهمة، وارتبط اسم القاضي في التاريخ الإسلامي بشخصيات فذة كانت لها بصمات واضحة على صفحة هذا التاريخ المشرق، فارتبط القضاء بالإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي قال عنه عمر بن الخطاب رضي عنه، "أقضانا علي"، وارتبط بمعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وشريح وأبي يوسف وغيرهم ممن مثلوا نموذجا يقتدى به في جمع القاضي لكل مؤهلات التصدر لهذه المهمة النبيلة والخطيرة في آن واحد، لأن النبي T قال: «القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة. رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار»(1)، ولأهمية تأهيل القاضي الشرعي تأهيلا يجعل منه حارسا للدين مقيما للعدل واعيا بمقتضيات عمله ومتطلبات المرحلة التي يعيشها، كان حتما على الجهات المسؤولة عن مهمة تأهيل القضاة الشرعيين أن تضطلع بجهد نوعي، لا يوازي فقط المؤسسات التأهيلية الغربية أو العلمانية، وإنما يفوق هذه المؤسسات ويمثل منارة لها. وعليه فإن هذه الورقة
__________
(1) انظر الترمذي: سنن الترمذي، حديث رقم1322، وأبو داود: سنن أبي داود، حديث رقم3573، والبيهقي: السنن الكبرى، حديث رقم20141، والهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج4، ص196، وقال رجاله رجال الصحيح.(27/2)
ستبحث مؤسسات تأهيل القضاة الشرعيين في ماليزيا، وتحديدا في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لتكون نموذجا تطبيقيا لطبيعة ونوعية التأهيل الذي تقوم به هذه المؤسسة وهذه الجامعة، وهو ما يسمح بالإفادة منها، كما يسمح بتلاقح الأفكار وتطوير الأداء، وسيتم تقسيم هذه الورقة إلى المحاور الآتية.
المحور الأول: تعريف مختصر بماليزيا
المحور الثاني: تعريف مختصر بالنظام القضائي الماليزي وموقع المحاكم الشرعية منه
المحور الثالي: مؤسسات تأهيل القضاة الشرعيين بماليزيا
المحور الرابع: تأهيل القضاة الشرعيين بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
المحور الخامس: تقويم عام لعمل تأهيل القضاة الشرعيين بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
المحور الأول: تعريف مختصر بماليزيا
تقع شبه جزيرة ماليزيا في قلب منطقة جنوب شرق آسيا ، وتتكون البلاد من منطقتين يفصل بينهما بحر الصين بمسافة 750 كيلومترا. المنطقة الأولى تتكون من شبه جزيرة ماليزيا، وجزر صغير محادية لها وترتبط هذه المنطقة بحدود مشتركة مع تايلاندا في الشمال، وبحدود بحرية مع سنغافورة في الجنوب، أما المنطقة الثانية فتوجد في الشرق، وتتكون من صباح وسرواك وهي تمتد على الساحل الشمالي والشمالي الشرقي لجزيرة بورنيو، وترتبط كل من صباح وسرواك بحدود برية مع كاليمانتان في إندونيسيا وفي الشمال الشرقي من البلاد، ترتبط صباح بحدود بحرية مع الفلبين، وتقع سلطنة بروناي على الساحل الشمالي الغربي لسرواك. تبلغ المساحة الإجمالية لماليزيا 733،329 كيلومترا مربعا ، منها 573ر131 كيلومترا مربعا هي مساحة شبه الجزيرة الماليزية ، و711ر73 كيلومترا مساحة إقليم صباح، 449ر124 كيلومترا مربعا مساحة إقليم سرواك ويبلغ الطول الإجمالي لسواحل ماليزيا نحو 675،4 كيلومترا تمتد من المحيط الهندي إلى بحر جنوب الصين وتفصل مضائق ملكّا شبه الجزيرة الماليزية عن جزيرة سومطرة الإندونيسية.(27/3)
أما الكثافة السكانية لماليزيا فقد قدرت الوكالة الوطنية الماليزية للإحصاء لسنة 2006م عدد سكان ماليزيا ب: 25,404,061مليون نسمة بمعدل نمو يقدر، 1،91%، ويشكل المالويين 58% من هذه النسبة، مقابل 27% صينيين، و8% هنود والبقية سكان أصليون وأجناس أخرى(1).
أما بالنسبة لديانة السكان الماليزيين، فإن إحصاءات 2002 قدرت نسبة المسلمين ب52% بينما قدرتها إحصاءات أخرى ب60%، مقابل 17% بوذيين، و12% تاويين، و6% نصارى، ونسبة من الهندوس والسيخيين، ونسبة أخرى من اللادينيين، وهم السكان الأصليّون ل"صباح" و"سراواك"(2).
أما نظامها الإداري، فإن ماليزيا دولة ملكية، ولكن نظامها الدستوري نظامي فدرالي.
فهي تضم 9 سلطنات هي: سلانغورـ بهانج ـ كلانتان ـ قدح ـ ألوستار ـ نجري سنبيلان ـ برليس ـ جوهور. يترأس السلطنات بالتداول كل خمس سنوات أحد السلاطين، ويسمى بالماليزية (Yang di-Pertuan Agong ) وتضم ماليزيا أربع فدراليات هي : (كوالا لمبور ـ ملاكة ـ صباح ـ سرواك) يشرف على كل فدرالية حاكم يعينه السلطان المنتخب للإشراف على السلطنات بالتشاور مع رئيس الوزراء.
النظام القضائي:
القانون السائد في ماليزيا هو القانون العام البريطاني الذي خلّفه الإستعمار البريطاني بعد رحيله سنة 1957م ويسمى بالإنجليزية Common law، ويوجد بجانب هذا القانون قوانين الشريعة الإسلامية، التي تنحصر في الأحوال الشخصية، وقانون السكان الأصليين الموجود في صباح وسرواك، وإن كان هذا الأخير يكاد لا يطبق، لأن معظم السكان الأصليين اندمجوا في الحياة الإجتماعية؟
__________
(1) انظر،http://www.statistics.gov.my/ وhttp://www.malaysiainformation.com/countryinfo/population.htm…
(2) انظر، Farid Sufian Shuaib: Power and Jurisdiction of Shariah Court in Malaysia p27، و http://www.malaysiainformation.com/countryinfo/population.htm(27/4)
والدستور الماليزي ينص في مادته الثالثة فيما يتعلق بدين الدولة على أن "الإسلام دين الدولة الفيدرالية"، وينص في نفس البند أن الديانات الأخرى يمكن أن تطبق في أمان وتناغم في أي مكان من أماكن الفدرالية"(1) وبالرغم من أن الإسلام دين الدولة غير أن الدستور يعتبر الشريعة الإسلامية شأن محلي يعود إلى الولايات (States)، والدستور يحصر تطبيق الشريعة الإسلامية في حدود معينة، فالمحكمة الشرعية تدير أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بأحكام الزواج والولاية والمخالفات الشرعية، والأحكام المتعلقة بالوقف، وأحكام أخرى متعلقة بالإجراءات المدنية والجنائية. والعقوبات الجنائية محددة في المحاكم الشرعية بسقف أعلى من العقوبات لا يتجاوز (ثلاث سنوات سجن، وغرامة مالية قدرها 5000 رنجت ماليزي أي ما يعادل 1300دولار أمريكي، وست جلدات) وهي تسمى مخالفات، لأن قانون العقوبات من اختصاص المحاكم النظامية (الوضعية) فإذا تجاوزت العقوبة هذا الحد ترفع إلى محكمة الجنايات المدنية. وأما الأحكام القانونية المتعلقة بالمعاملات البنكية والمصرفية الإسلامية، وكذا المتعلقة بتنظيم بيت التكافل (الإسلامي) الوطني الماليزي، فهي تخضع لقرارات برلمانية، وتقع تحت عاتق القانون المدني، ودور المؤسسات الشرعية، هو الرقابة الشرعية في نوافذ، وفروع البنوك وصناديق الإستثمار الإسلامية.(27/5)
أما التقسيم الإداري للمحاكم الشرعية وبما أن كل ولاية مستقلة عن الولاية الثانية في إدارة قضائها بل حتى في بعض تشريعاتها القضائية، فهي تبدأ بالمحكمة الإبتدائية الولائية، ثم المحكمة العليا، ثم محكمة الإستئناف. ويسبق المحاكم الإبتدائية مجالس الصلح فيما يتعلق بالخصومات الواقعة بين الأفراد لتجنب رفع القضية إلى المحكمة. وقد كانت هذه المحاكم الشرعية قبل 1990م تابعة لوزارة الشؤون الإسلامية، غير أنه بعد سنة 1998م أسست هيئة مستقلة عن وزارة الشؤون الإسلامية للإشراف على هذه المحاكم سميت (Department of Islamic Judiciary)"قسم القضاء الشرعي" كان الغرض من إنشائها التنسيق بين المحاكم الشرعية فيما يتعلق بالأمور الإدارية، وكذلك محاولة توحيد القوانين على مستوى الولايات التي شهدت اختلافات كثيرة بين الولايات.
أما السلطة التشريعية فهي للمجالس الولائية. وللبرلمان الحق في أن يصدر قوانين إضافية، أو قوانين تحد من سلطة هذه المحاكم الشرعية، وجل النصوص القوانية الشرعية تنهج أسلوب مجلة الأحكام العدلية، غير أنها تعتمد التلفيق بين المذاهب في قوانينها.
ويقابل هذا التنظيم الإداري للمحاكم الشرعية، تنظيم المحاكم النظامية أو العادية وهو تنظيم مستقل عن المحاكم الشرعية. وهي تبدأ على مستوى المحكمة الإبتدائية، ثم المحكمة العليا، ثم محكمة الإستئناف، ثم المحكمة الفدرالية التي تشرف على هذه المحاكم النظامية(1).
…
مؤسسات تأهيل القضاة الشرعيين بماليزيا
يوجد في ماليزيا أربعة مراكز لتأهيل القضاة الشرعيين، وهي:
__________
(1) انظر، Ahmad Muhamad Ibrahim: The Administration Of Islamic Law In Malaysia, p61، وFarid Sufian Shuaib: Power and Jurisdiction of Shariah Court in Malaysia p36-37.(27/6)
أولا:الجامعة الوطنية الماليزية (UKM): وقد تأسست الجامعة سنة1970م وقد بدأت تقديم دبلومة تأهيل القضاة الشرعيين سنة، والجامعة تشترط في المترشح أن يكون متخرجا من الجامعة نفسها، ونظام تأهيلها للقضاة الشرعيين يتمثل في طريقتين، الأولى أن يباشر طالب البكلريوس برنامج تأهيل القضاة الشرعيين من الشنة الثانية جامعي، بحيث يبدأ في دراسة مواد دبلومة تأهيل القضاة الشرعيين، أو يختار مباشرةة الدبلومة بعد إنهاء مرحلة البكالريوس. ومدة دبلومة القضاة الشرعي سنتين.
ثانيا: الجامعة التكنولوجية بماليزيا (UITM): وقد تأسست الجامعة سنة1956م كمعهد عالي، ثم تحولت بقرار من الحكومة، وبسبب موقعها الأكاديمي إلى جامعة، وقد بدأ تقديم الدبلومة فيها سنة 2004م. والجامعة تقدم دبلومة عليا في القضاء الشرعي بعد مرحلة البكالوريوس، ومدته سنة بدوام كامل(Full Time)، وسنتان بدوام جزئي (Part Time).
ثالثا: جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا (KUIM): وقد تأسست الجامعة سنة 1999م، وبدأت تدريس أول دفعة سنة 2000م، وقد بدأت تقديم الدبلومة تأهيل القضاة الشرعيين سنة 2005م. ومدته سنة بدوام كامل.
رابعا: الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا(IIUM): وقد تأسست الجامعة سنة 1983م، وبدأت تقدم دبلومة في القضاء الشرعي سنة 1985م، وتعد الجامعة الإسلامية العالمية أقدم مؤسسة تأهيلية للقضاة الشرعيين، وهي أشهر الجامعات الثلاث من حيث الصيت في الوسط الوظيفي الماليزي والمؤطرين وهو البرنامج و، وهو ما جعل كثير من خريجي الجامعات الثلاثة التي تقدم البرنامج يفضلون أخذ الدبلومة العليا في هذه الجامعة، وهو ما يسوغ اعتمادها كنموذج لتأهيل القضاة الشرعيين بماليزيا.
تعريف مختصر بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وكلية أحمد إبراهيم للحقوق(27/7)
تأسست الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا عام 1983م من قبل الحكومة الماليزية مع تعاون عدد من الدول الإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكان الهدف من إنشائها استعادة ريادة الأمة وقيادتها في مجال العلم والمعرفة، وقد سعت الجامعة ولا تزال تسعى جاهدة إلى تحقيق هذا الهدف النبيل الذي تعتبره ركيزة من ركائز رؤيتها المستقبلية.
يشرف على الجامعة الإسلامية العالمية مجلس المحافظين الذي يتكون من ثمانية أعضاء ممثلين لحكومات الدول الإسلامية التي وقعت على اتفاقية تأسيس الجامعة وهي: ماليزيا ـ المملكة العربية السعودية ـ مصر ـ ليبيا ـ تركيا ـ باكستان ـ بنغلاداش ـ مالديف. بالإضافة إلى ممثل لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
وتتمتع الجامعة بعلاقات متميزة مع عدد من الحكومات والمؤسسات عبر العالم، فهي عضو في الاتحاد الدولي للجامعات، واتحاد جامعات الكومونولث، واتحاد جامعات العالم الإسلامي، ورابطة الجامعات الإسلامية. وفضلا عن ذلك، فإن للجامعة صلات وثيقة وروابط خاصة بالهيئات العلمية والمهنية والمؤسسات والمنظمات المختلفة العاملة في ماليزيا
يبلغ إجمالي طلاب الجامعة الإسلامية العالمية طبقا لإحصاء سنة 2005م 14661 طالب، 13206 طالب بكالوريوس، و1455 طالب ماجستير ودكتوراه،ويبلغ عدد موظفي الجامعة الإسلامية العالمية 1604 محاضر، بمعدل محاضر لكل 15،3 طالب، وعدد العمال الإداريين، 1445،بمعدل 0،8 موظف إداري لكل محاضر، وقد تخرج من الجامعة منذ تأسيسها سنة 1983م، إلى سنة 2005م 24921 طالب (16759 طالب بشهادة بكالوريوس، و8162 بشهادة ماجستير ودكتوراه)(1)
رؤية الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
__________
(1) انظر http://www.iiu.edu.my/aboutuniversity/fact_figures.shtml تاريخ الإطلاع، 22/02/06.(27/8)
تنبثق رؤية الجامعة من النظرة التوحيدية الكلية، والنظرة الإسلامية السامية عن وحدة المعرفة وشمولية التربية ولهذا، فإن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا تسعى إلى أن تصبح مركزا تعليميا عالميا للتفوق العلمي الشامل الذي سيعمل على:
إحياء جودة ثقافة الإسلام وعبقرية الأمة.
تكامل معارف الوحي والقيم مع جميع فروع العلوم والأنشطة التربوية.
إعادة الدور القيادي والريادي للأمة الإسلامية في جميع فروع العلم والمعرفة
الإسهام في تحسين ورفع مستوى نوعية الحياة الإنسانية والحضارة.(1)
رسالة الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
تحاول الجامعة تحقيق رؤيتها من خلال الوسائل التالية:
القيام بالمهمة الأساسية الملحة المتمثلة في إعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر وإيجاد تكامل بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية بشكل إيجابي.
إنتاج وإعداد نوعية متفوقة من المفكرين، والمهنيين، والعلماء من خلال إيجاد تكامل نوعي بين الإيمان والعلم والأخلاق الحميدة، أملا في أن يعملوا علة تحقيق التقدم الشامل والمتكامل والتنمية الدائمة في ماليزيا وفي أنحاء العالم الإسلامي.
تعزيز فكرة أسلمة العلوم الإنسانية على مستوى التعليم والبحث والاستشارة، فضلا عن نشر العلم وتنمية أخلاقيات التفوق الشامل في الجامعة.
تكوين نوعية التفوق الكلي الشامل المصبوغ بالقيم الأخلاقية والروحية على مستوى التعلم والتعليم والبحث، والاستشارة والنشر والإدارة وحياة الطلبة.
تزويد الأسرة الدولية بنموذج فذ من المفكرين الجادين، والعلماء والمهنيين، والإداريين، والموظفين، والعاملين الذين يلتزمون بالنظرة الإسلامية الكلية والقيم الأخلاقية كجزء أساسي لأخلاقيات العمل لديهم.
تعميق التكامل الثقافي والتحاور الحضاري في ماليزيا وبين المجتمعات والشعوب.
__________
(1) انظر: http://www.iiu.edu.my/arabic/ .(27/9)
تطوير الجو الذي سيعنى بغرس روح التعلم المستمر، ويعمق الشعور بالمسؤولية الاجتماعية بين الطلبة والأساتذة بالجامعة.(1)
وتتلخص رسالة الجامعة في الآتي: 1)التكامل 2) الأسلمة 3) العالمية 4) التفوق الشامل
شعار الجامعة: شعار الجامعة الذي يرافق اسمها في كل محفل هو Garden of Virtue on Knowledge ( حديقة العلم والفضيلة)
كلية أحمد إبراهيم للحقوق
بدأت كلية أحمد إبراهيم الحقوق للجامعة الإسلامية العالمية برنامجها التدريسي سنة 1983 بثلاثة موظفين، وقد ضمت أول دفعة تخرُّجٍ 59 طالبا، وكان أول برنامج مقدم: "بكالوريوس في الحقوق"، وفي سنة 1986 بدأت الكلية برنامج الماجستير والدكتوراه، وفي سنة 1989 بدأت بتقديم شهادة مزدوجة تضم بكالوريوس شريعة وحقوق، وفي سنة 2000م حملت الكلية اسم أحد أعمدتها تان سري أحمد إبراهيم (1916م ـ 1999م) تكريما له وتقديرا لمجهوداته العظيمة التي قدمها لماليزيا، وللجامعة الإسلامية العالمية في مجال القانون عموما والشريعة الإسلامية على وجه الخصوص. ويبلغ إجمالي طلاب الكلية 1949 طالبا، 148 منهم طلبة دراسات عليا.
والكلية تضم ثلاثة أقسام وهي قسم الشريعة الإسلامية، وقسم القانون العام وقسم القانون الخاص. وقد بدأ تقديم دبلومة في تأهيل القضاة سنة 1989م، وكان تحت إشراف قسم الشريعة الإسلامية، بالتنسيق مع الأقسام الأخرى، وكلية معارف الوحي والعلوم الإسلامية. وفي سنة 1999م أوكل إلى مركز القانون (Law Center) (2)
تأهيل القضاة الشرعيين في الكلية (المرتكزات والمراحل):
__________
(1) المرجع نفسه.
(2) لقد تم الحصول على المعلومات من مركز القانون التابع لكلية أحمد إبراهيم للحقوق.(27/10)
إن التأهيل الفاعل والنوعي للإطارات في جميع التخصصات يستلزم توفر عوامل ضروروية تضمن نجاحه، والأمر يزداد أهمية عندما يتعلق بتأهيل الإطارات في المواقع الحساسة كموقع القضاء الشرعي الذي يمثل حصانة المجتمع من المماداة في الظلم والجور، وبناء على هذه الأهمية التزمت كلية أحمد إبراهيم للحقوق بفلسفة الجامعة الإسلامية العالمية الملخص في رباعية: 1)التكامل 2) الأسلمة 3) العالمية 4) التفوق الشامل من خلال المراعاة الدقيقة للعوامل التي تضمن نجاح هذه التأهيل، وتتلخص عوامل نجاح هذا التأهيل في أربعة وهي: أولا: الأستاذ. ثانيا: الطالب. ثالثا: المنهج التدريسي. رابعا: التسهيلات والوسائل.
الأساتذة: بالنسية للإطارات القائمة على تأهيل القضاة الشرعيين فإن كلية أحمد إبراهيم للحقوق التي تضم 129 محاضرا ما بين أستاذ دكتور، وأستاذ مشارك، وأستاذ مساعد، ومحاضر تخرجوا من جامعات عالمية لها قيمتها، وقد جعلت الجامعة والكلية من بين سياستها أن تصل إلى جعل الحد أدنى لمستوى المؤطرين درجة الدكتوراه، وقد اشترطت في المتقدمين الأجانب للتوظيف ألا يقل مستواهم العلمي عن هذه الدرجة، وألزمت الأساتذة الماليزيين على الحصول على الدكتوراه، وجعلته شرطا في الترسيم، والترقية الوظيفية. والأمر ينسحب على القائمين على تأهيل القضاة الشرعيين، فأقل مستوى يجب أن يتوفر لديهم هو مستوى الماجستير، إضافة إلى شروط إضافية كأن يكون قد اشتغل في سلك القضاء الشرعي لمدة لا بأس بها، أو أن يكون ذا خبرة مهنية معتبرة.
الطلاب: وقد اعتمدت الجامعة سياسة صارمة في قبول الطلاب لهذا البرنامج، فجعلت من شروط القبول في هذه المرحلة معدل لا يقل عن جيد جدا في المرحلة الثانوية، وأخضعت الطالب لمقابلة قبل القبول، كما اشترطت أن ينجح المتقدم في امتحان تحديد المستوى في اللغة الإنجليزية والعربية، وإلا توجَّب عليه أن يدرس اللغتين حتى يجتاز الإمتحان.(27/11)
المنهج: وقد اشترطت فيه الشمول والواقعية، والاستفادة من المناهج الحديثة بما يخدم البرامج المسطرة، وقد استفادت الجامعة من المناهج الحديثة بما يوافق الدين الإسلامي الحنيف فقد استفادت مثلا من منهج (Problem Based Learning)، الذي ينقل الدرس القانوني الشرعي من مستوى التلقين البحت، إلى إثارة إشكالية محدد، وتحليلها تحليلا نقديا فاحصا، تفيد الطلاب من جانبين: جانب توصيل المعلومة، وجانب آخر وهو إكساب المؤهل للقضاء عقلية تحليلية نقدية مبدعة. كما استفادت من آخر ما وصلت إليه المناهج القانونية من دراسات ونظريات.
التسهيلات والوسائل: تعتبر الجامعة الإسلامية العالمية قرية صغيرة تتوفر فيها كل وسائل الراحة والرفاهية، فهي تتوفر على التسهيلات الحياتية من بنوك ومحلات، وعيادة، ومرافق رياضية فاخرة، أما التسهيلات الدراسية فالجامعة توفر قاعات دراسية مكيفة، ومجهزة بوسائل إيضاح إلكترونية، بحيث تقدم كثير من المحاضرات بنظام البور بوينت. والأمر ينسحب على كلية القانون، فهي مجهزة بقاعات للشبكة الإلكترونية للطلبة، ومحكمة صورية لتدريب الطلبة على الإجراءات القضائية.
مراحل تأهيل القضاة الشرعيين في الكلية
إن كلية أحمد إبراهيم للحقوق، وإن لم تشترط في المقدم لدبلومة عليا في القضاء الشرعي أن يكون من خريجي كليتها كما فعلت الجامعة الوطنية الماليزية التي اشترطت أن يكون المترشح من طلابها، غير أنها تعتبر دبلومة تأهيل القضاة الشرعيين استمرارا طبيعيا لبكالوريوس الشريعة والقانون، وحلقة تدريبية متقدمة تلي الحلقة النظرية لمرحلة البكالوريوس، وعليه فإن دبلومة تأهيل القضاة الشرعيين تعد بالنسبة للكلية بناء تراكميا على ما تم توصيله للطالب في المرحلة التي تسبقه، وهو ما يجعل تأهيل القضاة بالنسبة إليها يمر بمرحلتين:(27/12)
المرحلة الأولى: وهي مرحلة تأهيلية الهدف منها تأسيس قاعدة قانونية شرعية للذي يريد أن يتصدر للعمل في القضاء الشرعي، وتتمثل في تأهيل الطالب ليحصل على شهادة بكالوريوس في الشريعة والقانون، من خلال دراسة مقررات برنامج متكامل تقدمه الكلية للطلاب بهدف إكسابهم مقدمات منهجية ضرورية في التخصصات المتعلقة بالقانون الوضعي والشريعة الإسلامية، بحيث تمكن الطالب بعد اجتياز هذا المستوى من كسب قاعدة متينة تؤهله ابتداء للعمل في النظامين القضائيين الشرعي والوضعي، وتكسبه مفاتيح ولغات العلوم القانونية.
أما المواد التي يتوجب على الطالب أن يجتازها ليحصل على البكالوريوس في الشريعة والقانون فهي مقسمة إلى خمسة مستويات يأخذ الطالب في كل مستوى مواد إجبارية من كلية القانون، ومواد إجبارية من كلية معارف الوحي (العلوم الإسلامية)، ومواد اختيارية بحسب المستوى، ويستلزم على الطالب أن يأخذ مواد التخصص وهي المواد الشرعية باللغة العربية ،وخصصت المستوى الخامس لمن يريد الحصول على بكالوريوس مزدوجة وهي بكالوريوس في الشريعة والقانون، وجدول المواد التي يدرسها الطالب في مرحلة البكالوريوس هي(1):
LEVEL 1 المستوى الأول: ... No.
I & II
I & II
I & II
I & II
I & II
I & II ... LAW OF CONTRACT قانون العقود
LAW OF TORTS قانون التعدي
MALAYSIAN LEGAL SYSTEM النظام التشريعي الماليزي
ISLAMIC LEGAL SYSTEM (ARABIC) النظام التشريعي الإسلامي
TRANSACTIONS IN ISLAMIC LAW (ARABIC) فقه المعاملات المالية الإسلامية
QUR'ANIC ?Y?T & H??AD?TH ON LAW (ARABIC) آيات وأحاديث الأحكام
UNIVERSITY GENERAL STUDY COURSE (ARABIC) مواد من كلية معارف الوحي والعلوم الإسلامية
LANGUAGE (LE 4000 AND LM) اللغة العربية ... 1
2
3
4
5
6
7
8
LEVEL II
I & II
I & II
I & II
I & II
I & II
__________
(1) انظر تفاصيل البرنامج في: http://www.iiu.edu.my/laws/ . تاريخ الإطلاع 22/02/06.(27/13)
III & IV ... CONSTITUTIONAL LAW القانون الدستوري
CRIMINAL LAW التشريع الجنائي
FAMILY LAW قانون الأسرة
PROBATE AND THE LAW OF SUCCESSION الوصية وفقه المواريث
ISLAMIC CRIMINAL LAW (ARABIC) التشريع الجنائي الإسلامي
QUR'ANIC ?YAT & H??AD?TH ON LAW (ARABIC) أيات وأحاديث الأحكام
UNIVERSITY GENERAL STUDY COURSE (ARABIC)مواد كلية معارف الوحي والعلوم الإسلامية
LANGUAGE (LM) اللغة ... 1
2
3
4
5
6
7
8
LEVEL III
I & II
I & II
I & II
I & II
I & II ... LAND LAW فانون الأراضي
COMPANY LAW قانون الشركات
US??L AL-FIQH (ARABIC) أصول الفقه (عربي)
EVIDENCE AND PROCEDURE OF SHARIAH COURT طرق الإثبات
ELECTIVE LAW COURSES المواد الإختيارية
(choose one from the following in each semester)
على الطالب أن يختار في كل فصل دراسي مادة واحدة من هذه المواد
I. Administrative Law القانون الإداري
II. Alternative Disputes Resolution بدائل فض الخصومات
III. Banking and Negotiable Instruments المصارف ووسائل التعاملات
IV. Building Contracts بناء (تكوين العقود )
V. Commercial Law القانون التجاري
VI. Consumer Law قانون المستهلك
VII. Corporate Finance Law قانون المؤسسات المالية
VIII. Environmental Law قانون البيئة
IX. Industrial Relations Law قانون العلاقات الصناعية
X. Introduction To Copyright & Designs Rights مدخل إلى حقوق التأليف والتصميم
XI. Introduction To Industrial Property Law مدخل إلى قانون الملكية الصناعية
XII. Islamic Law of Banking & Takaful القانون المصارف الإسلامي والتكافل
XIII. Islamic Legal Maxims (Arabic) القواعد الفقهية الإسلامية
XIV. Islamic Law of Property القانون الإسلامي للملكية
XV. Islamic Family Law (Arabic) القانون الإسلامي للأحوال الشخصية(27/14)
XVI. Mooting (also offered to Level II students who are in the Mooting Team) تدريبات المحكمة الصورية يبدأ تقديمها لأصحاب المستوى الثاني
XVII. Planning Law & Procedure قانون التخطيط و الإجراءات
XVIII. Introduction to Medical Law & Ethics مدخل لقانون الطب وأخلاق المهنة ... 1
2
3
4
5
6
Bachelor of Law (Shari’ah) (LL.B(S)) Course Structure
LEVEL IV
I & II
I & II
I & II
I & II
III & IV
I & II ... EVIDENCE الإثبات
CIVIL PROCEDURE الإجراءات المدنية
CRIMINAL PROCEDURE الإجراءات الجزائية
PROFESSIONAL PRACTICE التطبيقات المهنية
US??L AL-FIQH (ARABIC) 1أصول الفقه
PUBLIC INTERNATIONAL LAW القانون الدولي العام ... 1
2
3
4
5
6
LEVEL V
V & VI
V & VI
1 & II
1 & II
1 & II
1 & II ... QUR'ANIC ?Y?T & H??AD?TH ON LAW (ARABIC)آيات وأحاديث الأحكام
US??L AL-FIQH (ARABIC) أصول الفقه2
LEGAL TEXTS (ARABIC) النصوص الشرعية
ASB?B AL-IKHTIL?F (ARABIC) أسباب الاختلاف
FIQH AL-MUQ?RAN F? AL-AH?W?L AL SHAKHS?IYYAH (ARABIC) الفقه المقارن في الأحوال الشخصية
ISLAMIC LAW OF EVIDENCE AND PROCEDURE (ARABIC) القانون الإسلامي للإثبات والإجراءات ... 1
2
3
4
5
6
البرنامج الإضافي (Co-Curriculum)
تقدم كلية أحمد إبراهيم للحقوق زيادة على البرنامج المتعلق بالمواد المقررة، برامج إضافية بعضها إلزامي وبعضها اختياري، وهي تجمع بين الجانت التطبيقي والجانب النظري الغرض منه تنمية مهارات الطلاب لمواجهة المستقبل الوظيفي بكفاءة عالية. وتتلخص البرامج الإضافية في:
برامج تنشيطية لجمعية طبلة الحقوق التي ترعاها الكلية، وتقوم بدعم والإشراف على نشاطاتها.(27/15)
استدعاء سخصيات حقوقية فاعلة لتقديم تجربة ميدانية حية، وقد استدعت الكلية في أكثر من مناسبة المدعي العام للمحكمة النظامية والمحكمة الشرعية، ودعت كبار المفتين والقانونيين من دول إسلامية كسلطنة عمان، وباكستان، وكبار القانونيين من دول غربية كأمريكا وأستراليا، وبريطانيا، وغيرها من الدول.
المشاركة في المسابقات العالمية التي تقيمها جامعات عالمية، وقد شارك طلاب كلية أحمد إبراهيم للحقوق في المسابقة التي جرت في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، وفازت الكلية بأحسن متحدث في المحكمة في المسابقة، وحصلت على الرتبة الثانية في إجمالي المسابقة، كما شاركت في مسابقة عقدت بأستراليا لمنافسي طلبة القانون، وحصلت على المرتبة الثالثة في الترتيب الإجمالي، كما شاركت الكلية في مسابقات وطنية، وأقامت مسابقات داخل الجامعة.
عقد محاضرات وندوات شهرية في القضايا الشرعية والقانونية الطارئة، وقد جعلت حضور بعضها إجباريا لاسيما للسنوات الأخيرة.
عقد برامج تدريبية داخل الجامعة وخارجها، منها تدريب الطلاب على إجراءات المحاكمة من خلال عقد لقاءات تدريبية في المحكمة الصورية الموجودة في الكلية بحضور شخصيات قانونية مهمة، وكذلك عقد مسابقات أحسن مناظر، وأحسن مقدم للقضية في المحكمة.
المرحلة الثانية: شهادة (دبلومة) لتأهيل القضاة والإدرايين في القضاء الشرعي: Diplomat in Law & Administration of Islamic Judiciary (DAIJ)
تعد كلية أحمد إبراهيم للحقوق برنامج تأهيل القضاة الشرعيين، امتداد لبرنامج البكالوريووس في الشريعة والقانون، ولهذا يشترط في قبول المشاركين لهذا البرنامج أن يكون المترشح حائزا على شهادة بكالوريوس في الشريعة الإسلامية ، غير أنها لا تشترط أن يكون المترشح من نفس الجامعة، ولكنها تحبِّذه.
وبرنامج تأهيل القضاة الشرعيين يختلف عن برنامج البكالوريوس في الشريعة والقانون، من جانبين:(27/16)
الجانب النظري، حيث أنه في هذه المرحلة يتم التركيز على القضايا النظرية التي ينبني عليها عمل في المحاكم الشرعية، ولهذا اعتمد البرنامج التفصيلي لهذا المقرر الدراسة النظرية لحالات واقعة في المحاكم الشرعية الماليزية، أضف إلى ذلك أن هذه المرحلة يتم فيها تناول هذه القضايا النظرية بمعق أكثر، ودراسة تحليلية نقدية أشمل.
الجانب التطبيقي: حيث يرفق البرنامج النظري ببزنامج تطبيقي يتم فيه أولا عرض الإجراءات المدنية والإجراءات الجزائية، ثم يلزم المترشحون للبرنامج بحضور جلسات المحاكم الشرعية للوقوف على التطبيقات العملية لهذه البرامج، والحكومة الماليزية لا تسهل فقط المشاركة في البرامج التطبيقية، وإنما تجعلها إجبارية للمتربصين، وتحث المدعي العام والمسؤوليين في المحاكم النظامية والشرعية على الحضور لعرض تجاربهم العملية، وبالمقابل تذكر القائمين على البرنامج التأهيلية بضرورة مقابلة المسؤوليين وحضور الجلسات(1).
تفاصيل البرنامج النظري
ينقسم البرنامج النظري بالنسبة لبرنامج تأهيل القضاة الشرعيين إلى فصلين دراسيين يقدم باللغة الماليزية والعربية، يدرس المترشح في كل فصل ست مواد دراسة، في كل مادة 3 وحدات دراسية وجدول المواد كالآتي:
الفصل الدراسي الأول
المواد ... الوحدات ... الموضوعات
النظام القانوني الإسلامي (1) ... 3 ... يتم فيه تعريف أعمق للقضاء:( أركانه، المؤسسات القضائية في عهد النبوة والخلافة الراشدة، وشروط تعيين والقاضي وشروط تنحيته، وسلطة المحكمة الشرعية في النظام الإسلامي، والفرق بين القضاء والحسبة، ومعرفة قضاء المظالم، والمؤسسات الإسلامية الأخرى كمجالس الفتوى وغيرها
__________
(1) لقد طلبت من أحد القضاة أن يرتب لي لقاء مع بالمدعي العام في المحكة الشرعية لغرض بحثي، وحصلت على جواب في ظرف يومين، وقد حدد لي المدعي العام موعدا في يوم لم يناسبني، فطلبت تغيير اليوم، فتم الأمر بسلاسة.(27/17)
النظام القانوني الماليزي (1) ... 3 ... يُدرس فيه تطور النظام القانوني في ماليزيا، وتاريخ استقدم القانون البريطاني وآثاره، ومعرفة موقع القانون الإسلامي من القانون الوضعي وحدود تطبيقه، وكيف تصاغ القوانين في ماليزيا، والهيكل القضائي في ماليزيا، والتشريعات، وإشكالية تفسيرها في ظل استقلالية الأنظمة القضائية على مستوى الولايات.
مناهج البحث في الشريعة الإسلامية ... 3 ... يدرس فيه المترشح المقدمات المنهجية في العملية البحثية عند بحث المسألة القانونية الشرعية، ويتم فيها التركيزي على القضايا الشرعية المرتبطة بعمل القاضي، وكيفية استخراج الحكم القضائي منها وصياغته صياغة قانونية.
قراءات نصية (1) ... 3 ... وهو قراءة نصية لنصوص شرعية من كتب معتمدة في الفقه الإسلامي، الهدف منه إكساب المشاركين مهارة فهم النصوص الشرعية، وتحليليها تحليلا نقديا، ويتم التركيز في الجزء الأول من القراءة النصية على النصوص المتعلقة بالوقف والهبة، والوصية وغيرها.
قانون الأحوال الشخصية ... 3 ... يتم فيها شرح أعمق للقوانين المتعلقة بالخطبة وأركان الزواج وشروطه، والطلاق والخلع و الفسخ وغيرها من الموضوعات المتعلقة بالأسرة
إدارة المال في الإسلام ... 3 ... يتم فيه تعريف المشاركين، بالقضايا المتعلقة بالميراث في ماليزيا، وقضية الشراكة في الملكية بعقد النكاح، والوصية والهبة وغيرها من القضايا المالية التي تحتاج إلى شرح كيفية إدراتها في الشريعة الإسلامية
الفصل الدراسي الثاني:
المواد ... الوحدات ... الموضوعات(27/18)
النظام القانوني الإسلامي (1) ... 3 ... يتم في القسم الثاني التركيز على طريقة المحكمة الشرعية في إدراة قضايا التشريع الجنائي، وكيفية إدراة قضاء المحاكم الشرعية في ماليزيا، ووظيفة إدراة مجلس القضاء في ماليزيا، وكذلك وظيفة مجلس الفتوى، ويتم فيها كذلك دراسة حالات معينة تم البحث فيها من قبل المحكمة الشرعية وملاحظة مدى انضباطها بالنصوص القانونية المسطرة.
قراءات نصية (1) ... 3 ... يتم التركيز في القسم الثاني على النصوص المتعلقة بطريقة إدراة المحاكم الشرعية، وكذا الإشكالات المحورية التي تواجهها هذه المحاكم.
الإجراءات الجزائية ... 3 ... ويتم فيه دراسة الإجراءات التي تعتمدها المحاكم الشرعية الماليزية للتثبت من اكتمال اركان الجريمة وتقدير العقوبة الملائمة للجاني أو مقترف الفعل الضار ويتم في هذه المادة التركيز على قانون العقوبات المعتمد في سلانغور، وتشريع سنة 1991م، وتشريعيات ولايات أخرى، وتتم فيه المقارنة بين نظام العقوبات الإسلامي، ونظام العقوبات في القانون الماليزي
الإجراءات المدنية ... 3 ... يتم فيه طرق رفع الدعوى المدنية في المحكمة الشرعية، وبيان حدودها، ويتم في المادة بيان بعض تحفظات المحكمة الشرعية على إجراءات المحكمة النظامية الوضعية في ماليزيا، كما يتم بيان سلطة القاضي الشرعي للوصول إلى الحقيقة، والدفاع عن المظلومين
قانون الإثبات ... 3 ... يتم في هذه المادة دراسة طرق الإثبات من منظور شريعي، والتطورات التي شهدها موضوع الإثبات في الشريعة الإسلامية، ثم يتم بحث طرق الإثبات المعمول بها في المحكمة الشرعية في ماليزيا، وسيتم فيها التركيز على موضوعات الإثبات مثل البينة والإقرار والشهادة والقرائن وغيرها، وبيحث فيها أخر ما توصل إلى نظام القضاء العالمي من الجمع والترتيب الإلكتروني للملفات، أو ما يسمة E. Filing الذي صار شرطا من شروط عمل المحاكم الشرعية والنظامية(27/19)
مذكرة التخرج ... 3 ... يكلف المترشح بكتابة مذكرة لا تقل عن ستين صفحة باللغة الماليزية أو العربية، يتناول فيها قضية من القضايا المتعقلة بالمحكمة الشرعية بحيث تكون المذكرة متطلب ضروري للحصول على الشهادة
البرامج الإضافية
يقوم برنامج تأهيل القضاة الشرعيين زيادة على المحاضرات التي تلقى عليهم من قبل المركز بما يلي:
يلزم المترشحون لهذا البرنامج بحضور بعض جلسات المحاكم الشرعية ومتابعة إجراءت المحاكمة، بهدف نقل المادة الملقاة عليهم من إطارها النظري، إلى تطبيقاتها الميدانية، وهو ما يسمح بترسيخ المادة أولا في الأذهان، ويسمح كذلك بإعطاء روح للمادة المتلقاة.
القيام بجولات إطلاعية على بعض المؤسسات والدوائر التي لها علاقة بالقضاء والوقوف على أساليب العمل المتبعة لديها، وهو وإن كان برنامج اختياريا، غير أن المركز يؤكد عليه، ويجعله جزء من البرنامج التأهيلي.
عقد دورات تدريبية لمعرفة آخر تطورات الإجراءات المدنية والجنائية لاسيما المتعلقة بنظام تجميع ملفات القضايا بالاستعانية بالتسهيلات الإلكترونية (E. Filing) التي تسمح للقاضي أن يدير جلسات المحاكمة من خلال جهاز الكمبيوتر المحمول (Lap Top)، أو من خلال عرض القضية بوسائل إيضاح إلكترونية.
عقد أيام دراسية للقضايا المتعلقة بالمحكمة الشرعية وإحضار مختصين في هذا الشأن، وهو برنامج يعني بالدرجة الأولى المتكونين في هذا المعهد.(1)
تنيظم لقاءات عمل مع الإطارات العاملة في سلك القضاء مثل اللقاءات التي تعقد مع ممثلين من وزارة العدل، ولقاءات مع المدعي العام للمحكمة الشرعية كل فصل دراسي، وتثار في هذه اللقاءات موضوعات المستجدة على الساحة القانونية أو القضائية، وتثار استفسارات متعلقة بأمور تتنازع فيها الشريعة الإسلامية، والقضاء المدني.
__________
(1) لقد نظمت كلية أحمد إبراهيم للحقوق يوما دراسيافي شهر جانفي من سنة 2006: كان عنوانه: قضايا مستجدة في المحكمة الشرعية .(27/20)
تقويم عام لبرنامج تأهيل القضاة الشرعيين في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
لابد من التنبيه ابتداء أن الغرض من التقويم ليس الإنتقاص من مجرد النقد أو الإنتقاص من قيمة العمل، أو البحث عن مواضع العِوَر وتضخيمها، وإنما الغرض من التقويم ملاحظة جوانب النجاح فيه وإبرازها وتثمينها، وملاحظة جوانت القصور ومحاولة المساهمة في تصويبها وتكميلها ولو بتوصية أو نصيحة.
والبرنامج بصفة عامة برنامج ناجح بدليل أن جل من يشتغلون في المحاكم الشرعية من خريجي هذه الجامعة، وأن الطلب على هذا البرنامج فاق في السنوات الأخير العدد المستهدف من قبل الجامعة، وأن الحكومة السنغافورية طلبت من الجامعة تقديم هذا البرنامج في بلدها وهو يتم فعلا، أضف إلي ذلك رسائل الشكر والتقدير، وإظهار الإستعداد الدائم لدعم البرنامج من قبل الجهات الحكومية المسؤولة، فكل هذه دلائل إيجابية على نجاح البرنامج بصفة عامة، وبالرغم من نجاح البرنامج فلا مانع من تقديم ما يراه الباحث جوانب نقص أو قصور في البرنامج تحتاج إلى تكميل، أو على أقل أمور ينبغي إدراجها في البرنامج حتى تكون نسبة نجاحه أكثر، ومن الملاحظات التي يمكن تقديمها على البرنامج ما يلي.(27/21)
أولا: عدم وجود اختبار مستوى للمنخرطين في هذا البرنامج، سواء عند الإنضمام للبرنامج وهو ما يسمى بالإنجليزية (Pre Test)، أو بعد الإنتهاء من البرنامج وهو ما يسمى (Post Test) وأهمية هذا البرنامج أنه يمكن القائمين على البرنامج من معرفة بمستوى المشاركين في البرنامج معرفة علمية عند البدء فيه، ويعرفهم بالمقابل بمنحنى مستوى الطلاب بعد إنهاء المقررات، ومثل هذا العمل يمكِّن المحاضر من تحديد مستوى الإلقاء، وملاحظة الجوانب التي يتم التركيز عليها. والجامعة وإن نجحت في وضع استمارة تقييم الأستاذ من قبل الطلبة (Teaching Efficiency Rating (TER) )، وقد ساعدت هذه الإستمارة الأستاذ على مراجعة النقاظ الملاحظة عليه. غير أنها لم تقيّم الطالب تقييما كافيا يسمح بتحديد مستواه، كما يسمح بتقييم أداء الطلاب، وفاعلية البرنامج بعد الإنتهاء منه.
ثانيا: عدم إدراج تدريس مقاصد الشريعة فيما يتعلق بعمل القاضي والقضايا التي يحكم فيها في البرنامج المقدم رغم أن جل المناهج الشرعية تؤكد على أهمية دراسة المقاصد، وبالرغم من أن الجامعة تلزم بتدريس المقاصد في مستوى البكالوريوس، وقد ساهم طلابها وأساتذتها بكتابات مهمة في هذا الموضوع، غير أن التركيز عليه في برنامج تأهيل القضاة ضعيف. وأهمية دراسة المقاصد في هذه المرحلة هو التعمق في بحث مقاصد القضاء بين الناس وعمل القاضي، وهو ما تمس الحاجة إليه في الحكم بين الناس. والشيخ الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه قد ساهم مساهمة فعالة في بيان أهمية مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد خصص بابا في كتابه سماه باب مقاصد الشريعة في أحكام القضاء والشهادة، وناقش مقصد العقوبة، ودراسته وغيرها من الدراسات تمثل بحق مادة مهمة لتكوين القضاة تكوينا شاملا يجمع بين روح القضاء وشكله.(27/22)
ثالثا: عدم إدراج مادة تبحث آخر ما توصلت إليه الأبحاث العلمية فيما يخص وسائل الإثبات، وكذا عدم الإستفاد من مناهج العلوم الإجتماعية بما لا يعارض شريعتنا الغراء لاسيما المرتبطة بالجانب النفسي والإجتماعي للقاضي، كأخذه موضوعات في علم الإجتماع الوظيفي، وما يعينه على أداء مهمته بأعلى درجة من الحرفية، وعلم النفس الجنائي وكذلك علم النفس التطبيقي الذي يساعد القاضي على التحكم في تصرفاته، حتى ولو تجاوز المتهم حدوده. وقد أسهم الغرب في بيان وجه العلاقة بين هذ العلوم والقضاء، وكما بحثوا سبل تطوير التفكير الإبداعي لدى القاضي، ولاحظوا أن التطوير أمر في المتناول، وهو يحتاج تكوين وتربية وهو ما يسمونه بالإنجليزية (Educating the thinking Lawyer).
خلاصة القول
هذه بعض المعلومات التي ارتأيت تقديمها رجاء التعريف ببرنامج تكوين القضاة الشرعيين في ماليزيا الذي سامهم مسامهة فعالة في تطعيم مؤسسات القضاء الشرعي، بإطارات مكونة تكوينا متكاملا جمع بين الجانب النظري، والجانب التطبيقي، وهو لا يعفيها من ملاحظات كان الهدف منها تطوير هذا البرنامج المهم التي يمثل عاصما للمحكمة الشرعية من تصدر مناصبها من ليس يستأهلها، وهي ملاحظات لا تنقص من قيمة الجهد المبذول لارتقاء الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا الدائم بمستوى الأداء.
والله الهادي إلى سواء السبيل
الدكتور سعيد محمد بوهراوة
الأستاذ المساعد بكلية أحمد إبراهيم للحقوق
قسم الشريعة الإسلامية(27/23)
تطور العلوم الطبية في تقدير مدة الحمل
وأثره في القضاء الشرعي
د. السيد محمود عبدالرحيم مهران
كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
…المقدمة :
…الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد.
…فإن لتقدير مدة الحمل من حيث أقل وأكثر ما يحتمل تصوره فيها، أهمية بالغة في الفقه الإسلامي، وانعكاسات واسعة على القضاء الشرعي بشأن ما يتقرر من أحكام في الموضوعات ذات الصلة بهذه المسألة، ولا شك أن رعاية هذه الأهمية وتقديرها كانت وراء اختياري هذه المسألة موضوعاً لهذا البحث، الذي يشرفني أن أسهم به في إثراء ندوة " القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال " والتي تعقدها مشكورة ومأجورة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة، تقديراً لهذا الركن البالغ الأثر في حياة الأمة وهو القضاء الشرعي.
…ولما كانت هذه المسألة تتبع في أصل تقديرها العلم الحسي، الذي لا يستدل عليه بنص شرعي، ولكن رعاية لعلائقها الشرعية، واعتمادها مرتكزاً رئيساً في تقرير النسب وإثباته، وما يترتب على النسب من تأثير في الأحكام والحقوق المالية كالميراث والوصية والوقف، وغير المالية كالعدة، والحدود أحياناً، رعاية لكل ذلك، فقد تناول الفقهاء هذه المسألة بالاجتهاد في تقديرها مبدأ ونهاية، وارتكزت هذه الاجتهادات إلى توظيف بعض النصوص الشرعية، والروايات الواقعية، وأحياناً المقررات الطبية.(28/1)
…وتقديراً لهذا التشعب الذي يلابس المسألة فقد أفردت لأقوال الفقهاء فيها مبحثاً مستقلاً، وفي مبحث آخر تناولت بالتفصيل الشق الفني للمسألة وعرضت من خلاله لتقريرات الأطباء قديماً وحديثاً بشأنها مبرزاً نقاط الالتقاء والافتراق بينها وبين أقوال الفقهاء، وفي مبحث آخر استخلصت الحاصل الفقهي للموضوع في ضوء أقوال الفقهاء والأطباء، وجعلته مدخلاً ومعياراً في نفس الوقت لتحليل موقف قانون الأحوال الشخصية الإماراتي الجديد رقم 28 لسنة 2005م ورصد توجهاته، ومن ثم جاء تخطيط البحث على الوجه التالي:
…تكون البحث من ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول : ... مدة الحمل في تقدير الفقهاء, واشتمل على مطلبين :
المطلب الأول : ... الحد الأدنى لمدة الحمل عند الفقهاء.
المطلب الثاني : ... الحد الأقصى لمدة الحمل عند الفقهاء.
المبحث الثاني : ... مدة الحمل في تقدير الأطباء. واشتمل على مطلبين :
المطلب الأول : ... المدة المعتادة للحمل وكيفية حسابها.
المطلب الثاني : ... تجاوز الحمل لمدته بالنقص وبالزيادة.
المبحث الثالث : ... موقف قانون الأحوال الشخصية الإماراتي الجديد رقم 28 لسنة 2005م, واشتمل على مطلبين.
المطلب الأول : ... حاصل فقه الموضوع في ضوء الحقائق العلمية.
المطلب الثاني : ... توجه قانون الأحوال الشخصية الجديد ومرتكزاته في تقدير مدة الحمل.
…وفيما يلي عرض تفاصيل ما ذكر، والله المستعان وعليه التكلان.
المبحث الأول
مدة الحمل في تقدير الفقهاء
تكلم الفقهاء في الفترة الزمنية التي يمكثها الحمل في بطن الحامل وجاء كلامهم على ذلك في اتجاهين :
الأول : ... الحد الأدنى للمدة الزمنية التي يمكثها الحمل لينزل بعدها الجنين مكتملا وقابلاً للحياة.
الثاني : ... الحد الأقصى للمدة الزمنية التي يمكن أن يظل فيها الحمل في الرحم دون أن تتأثر حياته بذلك.
ومن ثم سأتناول فيما يلي تفصيل الفقهاء لهذه المسألة على أساس هذا التقسيم في مطلبين:(28/2)
المطلب الأول
الحد الأدنى لمدة الحمل عند الفقهاء
اتفق الفقهاء على أن أقل مدة الحمل الذي يمكن أن يولد قادراً على الحياة هي ستة أشهر(1)
__________
(1) ملتقى الأبحر للعلامة الفقيه إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي ، ومعه التعليق الميسر على ملتقى الأبحر تحقيق ودراسة وهبي سليمان غاوجي الألباني ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى 1409 هـ 1989م جـ 1 ص 295 . شرح فتح القدير مع شرح العناية على الهداية للبابرتي لمحمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام ، دار الفكر، بيروت ، الطبعة الثانية 1977م ، جـ 4 ص 313. الفقه الحنفي وأدلته للشيخ أسعد محمد سعيد الصاغرجي ، دار الكلم الطيب ، بيروت ، الطبعة الأولى 1420 هـ - 2000 م ، جـ 2 ص 249 . بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي . دار المعرفة، بيروت، الطبعة السادسة ، 1403 هـ - 1983م ، جـ 2 ص 118 ، ص 358، بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ أحمد الصاوي وبهامشه الشرح الصغير للشيخ أحمد الدردير ، دار الفكر ، د.ت ، جـ 1 ص 457 . المهذب في فقه الإمام الشافعي لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق د. محمد الزحيلي ، دار القلم ، دمشق ، الطبعة الأولى 1417 هـ - 1996م جـ 4 ص 532، مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: شمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشربيني ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1415 هـ - 1994م جـ5 ص 84 ، كشاف القناع على متن الإقناع ، منصور بن يونس البهوتي، عالم الكتب، بيروت، 1983م، جـ5 ص 414 ، المغني لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامه ، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ، الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو ، هجر للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1413 هـ 1992م جـ11 ص 231 . المحلي لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة ، منشورات ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت، جـ 10 ص 316.(28/3)
.
وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك(1)، والسند في هذا الإجماع ما روي أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له على ليس لك ذلك،
قال الله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (2)، وقال تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } (3) فحولان وستة أشهر ثلاثون شهراً ، لا رجم عليها ، فخلى عمر سبيلها ، وولدت مرة أخرى لذلك الحد(4). وروي أن ابن عباس هو الذي قال ذلك لعمر، وروي أن مثل هذه الواقعة رفعت لعثمان ابن عفان وأن الذي قال له ذلك علي ، وروي أن الذي قال ذلك لعثمان هو ابن عباس(5). وقد صحح عكرمة القصتين لعمر وعثمان أيضاً(6).
__________
(1) … الاستذكار للحافظ أبي عمر يوسف ابن عبد البر ، مؤسسة النداء ، أبو ظبي ، الطبعة الأولى 2002م، جـ9،
ص 122، المغني لابن قدامه جـ11 ص 167 ، 168 .
(2) …من الآية 233 سورة البقرة.
(3) …من الآية 15 سورة الأحقاف.
(4) …السنن الكبرى للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م ، جـ7 ص 727. مصنف عبد الرزاق للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، المكتب الإسلامي ، بيروت، 1972م، جـ7 ص349، ص 351.
(5) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين السيوطي ، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ، مركز هجر للدراسات والبحوث الإسلامية، جـ13، ص 323، ص325.
(6) الاستذكار لابن عبد البر ، المرجع السابق.(28/4)
وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً ، وإذا وضعت لستة أشهر فحولين كاملين لأن الله تعالى يقول { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } (1) فقد جعل الثلاثين شهراً مدة للحمل ولفصال الرضاع ، ولا تخلو هذه المدة من أربعة أحوال :
إما أن تكون جامعة لأقلهما أو أكثرهما، أو لأكثر الحمل وأقل الرضاع، أو لأقل الحمل وأكثر الرضاع ، فلم يجز أن تكون جامعة لأقليهما لأن أقل الرضاع غير محدد، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثرهما لزيادتها على هذه المدة، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثر الحمل وأقل الرضاع لأن أقله غير محدد، فلم يبق إلا أن تكون جامعة لأقل الحمل وأكثر الرضاع . ثم ثبت أن أكثر الرضاع حولان لقوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (2)، علم أن الباقي وهو ستة أشهر مدة أقل الحمل(3).
قال الشوكاني في فتح القدير عند قوله تعالى " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " أي مدتهما هذه المدة من عند ابتداء حمله حتى يفصل من الرضاعِ ، أي يفطم عنه ، وقد استدل بهذه الآية على أن أقل الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع سنتان ، أي مدة الرضاع الكامل كما في قوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة "(4).
__________
(1) …من الآية 15 سورة الأحقاف. وانظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي جـ13 ص 325
(2) …من الآية 233 سورة البقرة.
(3) …الحاوي الكبير : علي بن محمد الماوردي ، دار الكتب العلمية، بيروت ، الطبعة الأولى، 1994م ، جـ11، ص 204.
(4) …فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، راجعه وعلق عليه هشام البخاري والشيخ خضر عكاري، مكتبة العبيكان جـ5 ص 22 .(28/5)
وإن كان الغالب في الحمل من حيث الوقوع تسعة أشهر فلعله لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به وهو معنى قوله تعالى : "فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما(1)".
ولم يثبت خلاف بين العلماء في أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ولذا قال ابن القيم : " وأما أقل مدة الحمل فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنها ستة أشهر " أ.هـ. (2).
وعند المالكية تعتبر الأشهر ناقصة ولو كانت كاملة في الواقع ، أي فتعتبر ستة أشهر إلا خمسة أيام وإن كانت كاملة في الواقع، لأنه لا يتوالى النقص في الستة أشهر المتتابعة ، بل ولا يتوالى النقص في أربعة أشهر وغاية ما يتوالى في النقص ثلاثة أشهر، ويحسب الرابع كاملاً، ويحسب شهران ناقصان بعد الرابع ، فيكون أقل أمد الحمل ستة أشهر إلا خمسة أيام(3).
الخلاف في مبدأ العد لأقل أمد الحمل :
ثار خلاف بين جمهور الفقهاء والإمام أبي حنيفة بشأن مبدأ العد عند احتساب الحد الأدنى لمدة الحمل وهي الستة أشهر ، وقد كان محل الخلاف في مبدأ العد بين الفريقين هو : هل العد يبدأ بمجرد العقد ؟ وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ، أو يبدأ العد من الدخول وإمكان الوطء ؟ وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء(4).
__________
(1) من الآية 189 سورة الأعراف ، وانظر الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد الأنصاري القرطبي، جـ16، ص 193.
(2) التبيان في أقسام القرآن ، شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ص213.
(3) بلغة السالك والشرح الصغير، جـ1 ص 457.
(4) بداية المجتهد لابن رشد جـ2 ص 358 ، المغنى لابن قدامه جـ11 ص 168.(28/6)
وأثر هذا الخلاف يظهر فيمن أتت بولد لستة أشهر من العقد ولدونها من الدخول فالجمهور لا يلحقون هذا الولد بالعاقد بمجرد العقد ، وإنما يشترطون إمكان الوطء الذي لا يتصور إلا بالدخول ، بينما يلحقه الإمام أبو حنيفة بالعاقد لمجرد العقد وإن لم يدخل ، بل وإن علم ان دخوله غير ممكن فيلحقه أيضاً الولد إلا أن ينفيه عنه بلعان(1).
يقول ابن رشد : وهو - أي الإمام أبو حنيفة – في هذه المسألة ظاهري محض ، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام " الولد للفراش "(2). وهذه المرأة قد صارت فراشاً له بالعقد ، فكأنه رأي أن هذه عبادة غير معللة ، وهذا شيء ضعيف أ. هـ.(3).
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد جـ2، ص118.
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري في كتاب الفرائض برقم "6765"، والفراش لغة بكسر الفاء مصدر فرش ، ما يفرش وينام عليه ، واصطلاحاً المرأة الموطؤة بحق شرعي (Wife) معجم لغة الفقهاء د. محمد رواس قلعجي ود. حامد صادق قنيبي ص 341 .
(3) بداية المجتهد المرجع السابق.(28/7)
ولعل الأقرب إلى الحقيقة أن الإمام أبا حنيفة لم يكن بهذا الرأي ظاهرياً بل كان والحنفية من بعده افتراضيين فوق العادة ، ويبدو هذا جلياً من خلال ما دار من مناقشات بينهم وبين مخالفيهم من جمهور الفقهاء حول بعض المسائل المتفرعة افتراضاً عن هذا الخلاف ، عرض بعضاً منها ابن قدامة في المغني فقال(1) : " لو تزوج رجل امرأة في مجلس ، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد(2)، أو تزوج مشرقي بمغربية(3)، ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد ، لم يلحقه.
وبذلك قال مالك ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلحقه نسبه ، لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ، ألا ترى أنكم إذا قلتم : إذا مضى زمان الإمكان، لحق الولد ، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء(4).
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ11، ص168 وما بعدها.
(2) ولا شك أن تصور الوطء أو العلوق في هذه الصورة ممتنع بشكل مؤكد.
(3) رغم أن تصور الوطء والعلوق يبدو ممتنعاً في هذه الصورة أيضاً إلا أن الحنفية افترضوه بما إذا كان أحد الزوجين مستخدماً للجن أو الطيران أو غير ذلك مما لا يقبله آنذاك إلا الخيال، ورغم ما يبدو في ذلك من غلو في الخيالية إلا أن هذه الصورة قد أضحت في ظل المستجدات الحديثة في مجال التلقيح الصناعي صورة واقعية ملموسة وقع العمل بها.
(4) الكلام لابن قدامه في المغني الموضع السابق ، ومعنى ما ذكره عنهم تفيض به مصادرهم انظر مثلاً : حاشية ابن عابدين المسمى رد المحتار على الدر المختار ، مصطفى البابي الحلبي جـ3 ص 512 ، وشرح فتح القدير جـ4 ص 350 .(28/8)
قال ابن قدامة(1): ولنا انه لم يحصل إمكان الوطء في هذا العقد ، فلم يلحق به الولد ، كزوجة ابن سنة ، أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر وفارق ما قاسوا عليه ، لأن الإمكان إذا وجد لم يعلم منه انه ليس منه قطعاً ، لجواز أن يكون وطئها من حيث لا يعلم ، ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطء ، فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح ، ولم يجز حذف الإمكان عن الاعتبار ، لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه ، فلم يجز إلحاقه به مع يقين كونه ليس منه .
ويعرض لصور أخرى فيقول(2):
وإن ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحق نسبه به في قول عامة أهل العلم لأنه يستحيل منه الإنزال والإيلاج(3).
وإن قطعت انثياه دون ذكره ، فكذلك(4)، لأنه لا ينزل ما يخلق منه الولد ، وقال أصحابنا : يلحقه النسب، لأنه يتصور منه الإيلاج، وينزل ماءً رقيقاً، ولنا أن هذا لا يخلق منه ولد عادة، ولا وجد ذلك، فأشبه ما لو قطع ذكره معهما(5)، ولا اعتبار بإيلاج لا يخلق منه الولد كما لو أولج أصبعه(6).
__________
(1) الموضع السابق .
(2) ابن قدامه في المغني جـ11 ص 169.
(3) …أما استحالة الإيلاج فظاهرة وأما استحالة الإنزال فغير صادقة في ضوء معطيات العلم الحديث لأن السائل المنوي لا ينشأ عن الخصي ، وإنما ينشأ عن غدة البروستاتا وهي موجودة داخل الجسم لا خارجه كالخصي ، وهذا السائل يمكن أن يسيل من المجبوب عند التذاذه ، ولكن الإنجاب يكون من الحيوانات المنوية التي تنشأ عن الخصي ويحملها هذا السائل عند الإنزال ، ومن ثم إذا قطعت الخصي نزل هذا السائل بدون حيوانات منوية ولا يكون منه إنجاب بذاته ، والعجيب أن ابن قدامة سيؤكد هذا المعنى في كلامه التالي .
(4) أي في عدم لحوق النسب.
(5) أي في حكم النسب.
(6) العجيب أن ما أكده ابن قدامة في هذه المسألة وحاج به من أسماهم بأصحابه يتسق تماماً مع أحدث المستجدات في علم الخصوبة والإنجاب .(28/9)
وأما قطع ذكره وحده ، فإنه يلحقه الولد، لأنه يمكن أن يساحق فينزل ما يخلق منه الولد(1)، ولأصحاب الشافعي اختلاف في ذلك ، على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا(2).
والخلاف الذي يشير إليه ابن قدامة هنا يأتي في مسألة مقطوع الذكر إذا استدخلت المرأة منيه الذي يسيل عند المساحقة ، فوقع الخلاف عند الشافعية ، وعند الحنابلة أيضاً في إلحاق النسب بهذا الاستدخال .
ورغم أن ابن قدامة تبنى في مسألة النسب إلى من قطعت خصيتاه عند الاختلاف فيها موقفاً توافق مع ما أبانه العلم الحديث من صواب في هذه المسألة – على الرغم من ذلك – لكنه في مسألة النسب إلى مقطوع الذكر والخلاف الذي وقع فيها انحاز إلى الرأي الذي أبان العلم قديما وحديثاً عدم صواب نظرته ، علماً بأن الصواب في هذه مرتب ضرورة على الصواب في تلك ، بمعنى ان تأسيسه الحكم في المسألة السابقة على أن من نزعت خصيتاه لا يخلق مما ينزله الولد – هذا المعنى – مفضي بالضرورة إلى أن بقاء الخصي مؤدي لعكس النتيجة الحاصلة حال نزعهما فيخلق مما ينزله الولد.
فيقول ابن قدامه مستنكراً إمكانية العلوق بالاستدخال بعد ما ذكر من الخلاف بشأنها : " ولا معنى لقول من قال : يجوز أن تستدخل المرأة مني الرجل ، فتحمل ، لأن الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعاً ، لذلك يأخذ الشبه منهما ، وإذا استدخلت المني بغير جماع لم تحدث لها لذة تمنى بها ، فلا يختلط نسبهما(3)" .
__________
(1) وهي حقيقة طبية كشف عنها الطب قديماً وتأكدت في الطب الحديث خصوصاً عندما يتعضد الأمر بتقنيات التلقيح الصناعي .
(2) الكلام لابن قدامه ويقصد ( بعندنا ) الحنابلة ، أنظر المغني جـ11 ص 169.
(3) المرجع السابق نفس المرجع .(28/10)
ولعله من المناسب في هذا المقام أن أشير إلى أن الحقيقة الفنية في هذه المسألة والتي تخالف ما ذهب إليه ابن قدامه وتوافق ما ذهب إليه مخالفوه من الفقهاء ، لا يرجع الفضل في كشفها إلى العلم الحديث فحسب بل ذلك مؤكد في الطب القديم ، فابن رشد وهو فقيه وطبيب أكد من قبل الطب الحديث حقيقة ان الماء الذي تنزله المرأة عند الجماع لا مدخل له في تخلق الولد أي الإنجاب، مثبتاً ذلك في كتابه الكليات في الطب بالنقل والتجربة والاستقراء ، وأستحسن هنا عرض كلامه نصاً لما فيه من بيان كافي ، يقول ابن رشد : " فأما من أين يظهر انه ليس لمني المرأة مدخل في الولادة ، فمن الحس والقياس ، أما من الحس فإن أرسطو طاليس يرى أن المرأة قد تحمل دون المني، فمذ سمعت كلام أرسطو لم أزل أتعمد حس ذلك فوجدت التجربة صحيحة ...... وسألت النساء عن ذلك فاخبرنني أنهن كثيراً ما يحملن دون أن تكون منهن لذة ، فمم يشهد على ان مني المرأة ليس هو هيولي للمولود أن نساء كثيرة يحملن دون أن ينزلن بالمني .... وأيضاً فإنا نجد الرحم تقذف بالمني إلى خارج وتجذب مني الرجل إلى داخل، وهذا كله مما يدل على أن مني المرأة رطوبة فضلية تسيل عند اللذة، كما يسيل اللعاب من فم الجائع المبصر للطعام " أ.هـ. (1).
__________
(1) الكليات في الطب لابن رشد ، تحقيق وتعليق د. سعيد شيبان ، د. عمار الطالبي ، المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع الاتحاد الدولي للأكاديميات 1989م ، ص 68 ما بعدها(28/11)
وقد ذكر بعض المالكية صورة أكثر تفصيلاً مما سبق حيث تكلموا عمن قطعت إحدى خصيتاه فقط ، والغريب أنهم فرقوا بينهما بقولهم إن قطعت اليمنى لحقه الولد ، وأما إن قطعت اليسرى فلا يلحقه ولا يحتاج في نفيه إلى لعان لأنه منتف بالطبع ، ولا تعتد زوجته عند الفراق بموت أو طلاق(1).
__________
(1) كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني لعلي بن خلف المنوفي المصري وبهامشه حاشية العدوي للشيخ على الصعيدي العدوي ، مطبعة المدني ، الطبعة الأولى 1409 هـ - 1989م ، جـ3 ص 225(28/12)
وقد تأسست هذه الأحكام عند المالكية على مفهوم طبي ساد آنذاك(1)، مفاده أن الخصية اليسرى هي المسئولة أو المختصة بإنتاج الحيوانات المنوية ، التي يكون منها الإنجاب ، وأما الخصية اليمنى فكان يعتقد أن وظيفتها إنبات الشعر في مواطن الذكورة والعمل على خشونة الصوت ، وهو ما يعرف في العلم الحديث بخصائص أو صفات الذكورة الثانوية ، والتي تنشأ عن الهرمون الذكري المعروف بهرمون التستسرون ، ثم تغير هذا المفهوم الطبي في ضوء علم الطب الحديث ، وعلم وظائف الأعضاء ( الفسيولوجي ) وعلم التشريح ( الهستولوجي ) حيث ثبت أن تركيب الخصيتين واحد ولا اختلاف بينهما في التركيب العضوي ، وان وظائفهما أيضاً واحدة ومتفقة تماماً ، فكلتاهما تقوم بإنتاج الحيوانات المنوية وهرمون الذكورة بنسب وكفاءة متساوية في الأحوال الطبيعية، ولا يختلف ذلك إلا لعارض مرضي يقوم بإحداهما، ولا شك أن القطع بهذا المفهوم اليقيني الجديد يستوجب تغيير الأحكام الشرعية التي تأسست على المفهوم السابق(2).
المطلب الثاني
الحد الأقصى لمدة الحمل عند الفقهاء
اختلف الفقهاء في تقدير أكثر مدة يمكن أن يمكثها الحمل اختلافاً كبيراً ، وجاءت أقوالهم في ذلك متباينة ومتفاوتة تفاوتاً شديداً .
__________
(1) وقد عزو ذلك بالفعل للأطباء حيث قالوا " ... أو مقطوع اليمني فيلاعن لوجود اليسرى التي تطبخ المني عند الأطباء ، وأما اليمنى فلنبات الشعر عندهم " أ. هـ. انظر المرجع السابق نفس الموضع .
(2) انظر المسألة محققة ومدعمة بالشرح والصور التشريحية، وموثقة من المراجع الشرعية والطبية ، رسالة ماجستير مقدمة من الباحث إلى كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، بعنوان: دراسة وتحقيق مخطوط تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة للإمام التنائي ص 400 وما بعدها .(28/13)
فبدأ تقدير أقصى الحمل عند بعض الفقهاء بالمدة المعتادة والمألوفة بين الناس وهي تسعة أشهر ، وتصاعد مدى أقصى الحمل عند آخرين حتى وصل تقديره عند البعض بألا حد لأقصاه .
قال ابن حزم :
ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر لقول الله تعالى " وحمله وفصاله ثلاثون شهراً " وقوله تعالى : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ومن ادعى أن حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهراً فقد قال الباطل والمحال ورد كلام الله عز وجل جهاراً(1).
وفي رواية عن محمد بن عبد الحكم من المالكية :
ومبنى هذا التقدير أن الأمر راجع إلى اختلاف عادات النساء ، وأن السنة من النادر المشهور ، أما أكثر من سنة فإنه أندر من النادر بل لا يزيد عن السنة إطلاقاً(2).
قال ابن رشد : وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة ، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد ، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد ولا بالنادر ، ولعله أن يكون مستحيلاً(3).
وقال الحنفية :
أقصى أمد الحمل سنتان ، لما روت جميلة بنت سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما تزيد المرأة في الحمل عن سنتين ولا قدر ما يتحول ظل عود المغزل "(4).…
قالوا : وهذا لا يعرف إلا توقيفاً إذ ليس للعقل فيه مجال ، فكأنها روته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حسن أو صحيح لأن الحافظ ذكره في التلخيص وسكت عنه ولم يعله بشيء وهو لا يسكت عن ضعيف(5).
__________
(1) …المحلي لابن حزم جـ10 ص 316.
(2) …أحكام النسب في الشريعة الإسلامية : د. علي محمد يوسف المحمدي، دار قطري بن الفجاءة ، الطبعة الأولى، 1994م، ص 78.
(3) …بداية المجتهد لابن رشد جـ2 ص 358
(4) …سنن البيقهي جـ7 ص 729
(5) …ملتقى الأبحر ص 295 ، ص 296 ، الفقه الحنفي وأدلته جـ2 ص 249 ، انظر تلخيص الحبير لابن حجر جـ2 ص 328(28/14)
بينما قال ابن حزم في نقض هذا الدليل ، في سنده جميلة بنت سعد مجهولة لا يدري من هي ، فبطل هذا القول والحمد لله رب العالمين(1).
واستدل الحنفية بدليل آخر ، هو ما رواه أبو سفيان عن أشياخ لهم عن عمر بن الخطاب ، انه رفع إليه امرأة غاب عنها زوجها سنتين ، فجاء وهي حبلى ، فهم عمر برجمها ، فقال له معاذ ابن جبل : يا أمير المؤمنين ، إن يك السبيل لك عليها ، فلا سبيل لك على ما في بطنها ، فتركها عمر حتى ولدت غلاماً قد نبتت ثناياه ، فعرف زوجها شبهة ، فقال عمر : عجز النساء أن يلدن مثل معاذ ، لولا معاذ هلك عمر(2).
قال ابن حزم : وهذا أيضاً باطل لأنه عن أبى سفيان وهو ضعيف، عن أشياخ لهم وهم مجهولون(3).
ثم ذكر ما روي عن عمر ابن الخطاب يخالف ذلك أن عمر قال : أيما رجل طلق امرأته فحاضت حيضة ، أو حيضتين ثم قعدت فلتجلس تسعة أشهر حتى يستبين حملها فإن لم يستبن حملها في تسعة أشهر فلتعتد بعد التسعة الأشهر ثلاثة أشهر عدة التي قعدت عن المحيض ، يقول ابن حزم معلقاً على الخبر : فهذا عمر لا يرى الحمل أكثر من تسعة أشهر(4).
وفي رواية عن الليث ابن سعد قال :
أقصى أمد الحمل ثلاث سنين ، واستدل لذلك بأن مولاة لعمر ابن عبد العزيز حملت ثلاث سنين(5).
والشافعي وجمهور الحنابلة قالوا :
__________
(1) …المحلي لابن حزم جـ10 ص 316
(2) …سنن البيقي الموضع السابق
(3) …المحلي لابن حزم ، الموضع السابق
(4) …المحلي لابن حزم جـ10 ص 317
(5) …المغني لابن قدامة جـ11 ص 232 ، ص 233(28/15)
بأن أقصى أمد الحمل أربع سنوات ، واستدلوا بما رواه الوليد ابن مسلم ، قال : قلت لمالك ابن أنس : حديث جميلة بنت سعد ، عن عائشة : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل . قال مالك : سبحان الله ، من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد ، وقال الشافعي : بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين ، وقال أحمد : نساء بني عجلان يحملن أربع سنين...... الخ(1).
وعند المالكية أقوال مختلفة :
فاختلفت الرواية عندهم عن مالك بين أربع وخمس ، وقال بعض أصحابه ست ، وسبع(2)، وهما عن الزهري أيضاً(3)، وقيل إلى تسع سنين(4).
ومستند جميع الروايات التي حددت أقصى الحمل بعدد معين من السنين كان في الغالب ما زعم من وجوده في الواقع ، ومن ثم فكل ما جاء به الشرع مطلقاً عن الحد ، وليس له حد في العرف ولا في اللغة ، فمرد حده إلى الوجود الذي أثبتوه وقالوا به .
وقال بعضهم : ليس لأقصاه حد :
قاله أبو عبيد وغيره ، ويبدو أن مستند هذا الرأي ، الاحتكام للواقع ، وأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود(5).
وتحقيق ما روي عن مالك يحتمل أن يكون هذا مذهبه ، قال في المدونة : " وكان مالك يقول ما يشبه أن تلد له النساء إذا جاءت به لزم الزوج "(6).
__________
(1) …وروايات أخرى في هذا المعنى ساقها ابن قدامه في المغني جـ11 ص 233 ، وانظر سنن البيهقي جـ7 ص 729 ، المهذب ، جـ4 ص 533 ، مغني المحتاج جـ5 ص 84
(2) …المدونة الكبرى للإمام مالك ، رواية سحنون عن ابن القاسم ، طبعة على نفقة السيخ زايد بن سلطان ، تحقيق المستشار السيد علي الهاشمي ، جـ4 ص 340 وما بعدها ، وفاضت مصادر المالكية عامة بهذه الروايات .
(3) …ابن قدامه في المغني جـ10 ص 233,
(4) …الفروق : لشهاب الدين القرافي ، دار أحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1346 هـ ، جـ3 ص 229.
(5) …المغني لابن قدامه جـ11 ص 233
(6) …المدونة جـ4 ص 340(28/16)
ولعل هذا هو مذهب ابن عباس أيضاً ، والذي يفيده ما روي عنه عند تفسير قول الله عز وجل: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار(1)" ، فقال : أقصى مدة الحمل عشر سنين أو أكثر أو أقل(2).
تعقب ابن حزم للروايات المختلفة :
تتبع ابن حزم كل من خالفه في المسألة بالمناقشة والرد ، وعرض لغالب الروايات التي بنيت عليها هذه الأقوال ، وكر عليها بالنقض تباعاً ، ثم عقب على مجملها بقوله : وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ، ولا يعرف من هو ، ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا(3) أ. هـ.
الخلاف في كيفية الاحتساب لأقصى الحمل :
عول بعض الفقهاء على إقرار المرأة بانقضاء عدتها وجعلوا له أثر في الاحتساب ، ولم يعول البعض الآخر على ذلك باعتبار أن النسب حق للطفل فلا ينقطع بإقرارها، وفي الرجعية ، هل الحساب من الفرقة أو من نهاية العدة ؟
الحقيقة أن الخلاف الواسع الذي وقع في تقدير أقصى مدة للحمل يجعل من غير المجدي وضع ضابط حسابي يوافق جميع الآراء ، طالما ظل الخلاف في الحد الأقصى قائماً .
سبب الخلاف في أقصى الحمل والاتفاق على أقله :
لاشك أن الحمل منشأ النسب ، وبه تنضبط عدة الحوامل ، وقد تقام لأجله الحدود، ويوقف لأجله تقسيم التركات وتوزيع الحقوق – ومن ثم - كان حرياً بضبط أحواله للاعتداد به مبدأ ونهاية ، وقد حرص فقهاء الصحابة على ضبط مدة الحمل في أقله ، فلم يختلف أحد منهم في أن أقل الحمل ستة أشهر ، استنباطاً من نصوص القرآن ، فكان الإجماع حجة ذلك ، ولم يشذ عن هذا الإجماع أحد من فقهاء المذاهب إلى اليوم .
__________
(1) …الآية (8) من سورة الرعد .
(2) …تفسير القرآن العظيم : لابن كثير ، مكتبة الإرشاد ، جـ4 ص 71
(3) …المحلي لابن حزم جـ10 ص 316 ص 317(28/17)
ولعل ما يدعو إلى التساؤل هو أن يترك فقهاء الصحابة أمر أقصى مدة الحمل دون إجماع ؟ والأرجح في الإجابة على هذا التساؤل ، ربما يكون هذا راجعاً إلى أن أمر الأكثر ليس مشكلة يترتب عليها كبير خطر كمشكلة أقل الحمل ، فقلما يقع بشأن الأكثر مشكلات ، وإن وقعت فقد يكون المرد في حلها هو واقع الناس ، وكثيرا ما يختلف هذا الواقع باختلاف البيئات(1).
المبحث الثاني
مدة الحمل في تقدير الأطباء
تعرض الأطباء قديماً وحديثاً لبيان المدة المعتادة للحمل وطريقة حسابها، ومدى إمكانية تجاوز الحمل لها بالنقص أو الزيادة، وفيما يلي نعرض لبيان ذلك في مطلبين، الأول في المدة المعتادة للحمل وكيفية حسابها، والثاني في تجاوز الحمل لمدته بالنقص وبالزيادة.
المطلب الأول
المدة المعتادة للحمل وكيفية حسابها
…المدة المعتادة للحمل :
…تظاهر كلام الأطباء قديماً وحديثاً على مدة تقريبية متوقعة للحمل تقدر بحوالي تسعة أشهر، وذلك هو الملموس والمألوف في الواقع المشاهد لغالبية النساء.
…فيذكر ابن يحيى البلدي وهو طبيب عربي مسلم عاش في القرن الرابع الهجري بمدينة بلد بالعراق، - يذكر – حد الولادة فيقول: " … وهو مائتان وثمانون يوماً "(2).
…وينقل عن أبقراط رأيه في ذلك فيقول: " … وتتصور أجنة أخر في أربعين صباحاً، ويتحركون في ثمانين صباحاً، ويولدون في مائتين وتسعين صباحاً "(3).
__________
(1) …موضوع النسب في الشريعة والقانون: د. أحمد حمد، دار القلم، الطبعة الأولى 1403 هـ - 1983م ص 271.
(2) كتاب تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم: لأحمد بن محمد بن يحيى البلدي، تحقيق د. محمود الحاج قاسم محمد، ص 121.
(3) المرجع السابق ص113.(28/18)
…ويقول ابن سينا في كتابه القانون في الطب: " … وأكثر ما يولد في العاشر يكون قد عرض له أن اشتهى الولادة في التاسع فلم يتيسر له(1) ".
…وما ذكره ابن يحيى البلدي يتفق تماماً، وبنفس عدد الأيام مع مقررات الطب الحديث في هذا الشأن إذ تتفق جميعها على أن مدة الحمل المعتاد هي مائتان وثمانون يوما(2).
…وهكذا ذكرت المدة في المصادر القديمة والمراجع الحديثة بالأيام، مع أن التسعة أشهر القمرية تنقص عن ذلك بأسبوعين، وهذا ما سنوضح سببه عند الكلام عن كيفية حساب المدة في العنوان القادم.
…والجدير بالذكر أيضاً في هذا المقام أن هذه المدة ليست قاعدة مطلقة لجميع الحوامل، إذ منهن من يمتد حملها أكثر من ذلك، ومنهن من يضعن قبل هذه المدة، وهذا أيضاً مما يتوافق على تقريره العلم الطبي قديماً
وحديثا(3)
__________
(1) القانون في الطب: الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن علي بن سينا، حققه إدوار القش، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، الكتاب الثاني، ص 1645.
(2) انظر: Nelson: Textbook of Pediatrics, SENIOR EDTTOR. Waldo E. Nelson, MD.
EDITED By: Richard E. Behrman, MD - Robert M. Kliegman, MD- Ann M. Arvin, MD.
W.B. SAUNDERS COMPANY. N 462.
…وانظر: الحمل: د. حسان جعفر، وغسان جعفر، الكتاب الطبي، دار المناهل، ص132، الحمل – الولادة – العقم عند الجنسين: إعداد محمد رفعت رئيس تحرير مجلة طبيبك الخاص، اشترك في تأليفه نخبة من أساتذة كليات الطب بجمهورية مصر العربية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ص19، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1984م، ص 451، 452.
(3) انظر المراجع السابقة نفس المواضع، وانظر التأكيد على هذا المعنى بالنص: رعاية الأم والطفل، نوزت حافظ، دار الفكر،
ص15، والقانون في الطب لابن سينا، الموضع السابق، وتدبير الحبالى … لابن يحيى البلدي، الموضع السابق أيضاً.(28/19)
وسنعرض له بمزيد من الإيضاح بإذن الله عند الكلام عن تجاوز الحمل لمدته بالنقص وبالزيادة في المطلب القادم.
…كيفية احتساب مدة الحمل :
…لعل الداعي إلى بيان كيفية احتساب مدة الحمل، هو وجود أكثر من طريقة لحساب مدة الحمل، فهناك التقويم الشمسي أو الميلادي، والتقويم القمري أو الهجري، وهذا الأخير هو الذي عليه التعويل وجرى به العمل عند أهل الاختصاص من الولاديين والجنينين.
…ثم ظهر أخيراً نظام يجمع بين النظامين عرف بالتقويم الأبدي المقارن، وهو يسهل عملية الحساب للحمل من خلال الربط المتوالي بين التاريخيين على كل من التقويم الشمسي والتقويم القمري(1).
…هذا فيما يتعلق بطريقة عد المدة وحسابها بالشهور والأيام، وأما فيما يتعلق بمبدأ العد فيختلف الأمر عند الولاديين ( أطباء التوليد )، عنه عند الجنينين ( علماء الأجنة ).
…فأطباء التوليد يحتسبون بداية المدة المذكورة ( 280 يوماً ) من أول يوم في الحيضة الأخيرة التي حاضتها المرأة قبل الحمل مباشرة، وتسمى هذه الطريقة بالتقويم الولادي(2).
…ولما كان الحمل لا يتم بالفعل إلا بعد الإباضة، والتي تحدث في اليوم الرابع عشر من بداية الحيض، فإن المدة الفعلية للحمل تكون حاصل ما يلي: 280-14 = 266 يوماً، وهذه الطريقة في الحساب هي التي يعتمدها علماء الأجنة في حسابهم لمدة الحمل وتسمى هذه بالتقويم الجنيني أو الحملي(3).
__________
(1) انظر: دليل مواقيت الحمل والولادة، طبقاً للتقويم النبوي الشريف وحسابات التقويم الأبدي المقارن بالتاريخيين الهجري والميلادي، الشيخ محمد كاظم حبيب، ص3، وما بعدها.
(2) القرار المكين: د. مأمون شقفة، دار الآداب، الشارقة، الطبعة الثانية 1407هـ - 1987م، ص258 وما بعدها.
(3) المرجع السابق نفس الموضع.(28/20)
…والملاحظ في هذا الشأن أن مدة الحمل بالتقويم الجنيني أو الحملي ( 266 يوماً ) تعادل تسعة أشهر قمرية، ومن ثم فقد ذكرت المؤلفات الحديثة لعلم الجنين أن التقويم القمري ( الهجري ) أفضل في تقدير عمر الجنين وزمن ولادته من التقويم الشمسي ( الميلادي )، ووضعت جميع جداولها على التقويم القمري(1).
…والخلاصة: أن أطباء التوليد عندما يستخدمون التقويم الولادي يعرفون أنه يسبق التقويم الجنيني – الذي يبدأ بالحمل الفعلي – بأسبوعين.
المطلب الثاني
تجاوز الحمل لمدته بالنقص والزيادة
…سبقت الإشارة إلى أن المدة المعتادة للحمل وإن كانت هي الغالبة من حيث الحدوث في الواقع، إلا أنها ليست قاعدة مطردة في جميع الحوامل، وإنما يحدث في الواقع أيضاً أن تأتي الولادة قبل بلوغ الحمل المدة المعتادة، وقد يحدث العكس فيتجاوز الحمل هذه المدة ويمكث في الرحم أكثر من المعتاد أو مما هو متوقع طبقاً لحسابات الحامل، وفيما يلي بيان لمدى وحدود هذا التجاوز سواء كان نقصاً أم زيادة.
…الولادة قبل المدة المعتادة :
…الولادة قبل الأوان تعني انتهاء الحمل والولادة قبل الأسبوع الأربعين ( 280 يوماً )، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن نسبة حصولها تصل حوالي 8% من الولادات، ويرجع حدوثها إلى ضمور الرحم وصغر حجمه، أو التهاب الغشاء المخاطي المبطن لجدار الرحم من الداخل، ولعدد آخر من الأسباب المرضية والعصبية مما تشير إليه الدراسات الحديثة المختصة(2).
…ولكن إلى أي مدى يمكن أن ينقص الحمل عن المدة المعتادة ويكون قابلاً للحياة ؟ أو بعبارة أخرى، ما هو الحد الأدنى لمدة الحمل الذي يولد بعده الطفل سليماً قابلاً للحياة ؟
__________
(1) تطور الجنين وصحة الحامل: د. محي الدين طالو العلبي، ص410.
(2) الحمل: د. حسان جعفر، د. غسان جعفر، ص 223.(28/21)
…اختلفت تقديرات الدراسات الحديثة، ولكنها تقاربت بشدة في تحديد الحد الأدنى لمدة الحمل، بما جعل الاختلاف طفيفاً ويمكن رده إلى اختلاف طريقة الحساب، فذكرت بعض الدراسات أن الحد الأدنى لمدة الحمل هو الأسبوع الثامن والعشرين ( 196 يوماً )(1).
…وذكرت بعضها: أن الجنين لا يكون قابلاً للحياة إذا سقط قبل نهاية الشهر السادس وبداية الشهر السابع، لأن الجهاز العصبي المركزي، والجهاز التنفسي – حينئذٍ – لم يتطور بعد بشكل ملائم(2).
…وأشار البعض إلى حدوثه في الواقع في العصر الحاضر، حيث نشرت جريدة البلاد السعودية
24/12/1978م، تحقيقاً صحفياً عن مولد طفل بمستشفى الولادة بجدة عمره ستة أشهر ووزنه ستمائة جراماً
فقط(3).
…ولعل هذا ما يؤكد ما سبقت الإشارة إليه من اتفاق الفقهاء والأطباء في شأن تقدير الحد الأدنى للحمل، وهو ما أشار إليه ابن القيم بقوله: " وأما أقل مدة الحمل فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنها ستة أشهر "(4).
…أما العجيب حقاً هو أن ابن يحيى البلدي في كتابه تدبير الحبالى الذي ألفه في القرن الرابع الهجري يقدر الحد الأدنى للحمل بدقة متناهية لم تبلغها الدراسات الحديثة بعد، وأسوق كلامه في المسألة نصاً لما فيه من دقة عالية وحسن بيان، حيث قال: " … وكذلك نجد الجنين يتكامل خلقه وتعلوه جلده وتتم أغشيته في الشهر الثالث، وتتم نهاية شدته وقوته وحركته فينقلب ويروم الخروج والظهور نصف السنة الذي هو آخر الشهر السادس، عند تمام مائة واثنين وثمانية يوماً ونصف وثمن بالتقريب، فيكون الولاد في هذا الوقت، وهو أول أوقات الولادة، ويقع في الشهر السادس " أ.هـ. (5).
__________
(1) المرجع السابق نفس الموضع.
(2) تطور الجنين وصحة الحامل: د. محي الدين طالو العلبي، ص136.
(3) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: د. محمد علي البار، ص451.
(4) التبيان في أقسام القرآن: لابن القيم ص213.
(5) تدبير الحبالى والأطفال … لابن يحيى البلدي، ص118.(28/22)
…ثم يحدد بعد ذلك آلية الولادة للحد الأدنى فيقول: " إن الأجنة بعد تحركها وانقلابها عند تمام نصف السنة يعرض لهن أن يهتكن أغشيتهن، والحجب التي عليهن، وأن ينتقلن عن أماكنهن نحو فم الرحم … الخ "(1).
…الولادة بعد المدة المعتادة :
…ويقصد بها أي تأخر في الولادة عن الأربعين أسبوعاً، التي هي المدة المعتادة للحمل، وبعض الدراسات الحديثة ذهبت إلى أن التأخر يحسب من بعد الأسبوع الثاني والأربعين، ونسبة حدوث ما يتأخر عن ذلك من الولادات تبلغ حوالي 10% من مجموع الولادات كمعدل وسطي(2).
…وجاء في إحصاء لبعض الدراسات أن 25% من الحوامل للأسبوع الثاني والأربعين (294 يوماً )،
و 12% في الأسبوع الثالث والأربعين ( 301 يوماً )، و 3% يلدن في الأسبوع الرابع والأربعين ( 308 يوماً )(3) ومن ثم لوحظ أن مجموع الذين يزيدون عن المدة الطبيعية يمثلون ما نسبته 40% من الحوامل(4).
…ويمثل الخلل الهرموني أبرز العوامل الطبية لتأخر الحمل، ويتمثل في نقص هرمون الأوسترين أو زيادة هرمون البرجسترون وأما عن الحد الأقصى للزيادة عن المدة المعتادة، أي أقصى أمد الحمل، فقد تباينت تقديرات الدراسات الحديثة، ولكنها تقاربت في التقدير، فبينما ذهب البعض إلى عدم إمكان الزيادة عن الأسبوع الرابع والأربعين(5)، ذكر البعض أن هناك حالات نادرة ومشهورة تأخر فيها الحمل إلى ( 331 يوماً ) بل وإلى ( 349 يوماً ) أي قرابة السنة(6).
__________
(1) المرجع السابق ص119.
(2) الحمل: حسان، وغسان جعفر ص228.
(3) انظر: Textbook of Pediatrics. Nelson. MD. 462
…وانظر: الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب، د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الطبعة الأولى 1993م، ص94، وعزا الإحصائية لمختصين.
(4) المرجع السابق: تعليق لمؤلفه ص94.
(5) المرجع السابق ص94.
(6) الحمل – الولادة – العقم عند الجنسين: محمد رفعت ص20.(28/23)
…وتؤكد الدراسات الحديثة أن هذا التأخر نادر تأسيساً على الأضرار الكثيرة المحتملة عند تأخر الحمل والتي قد تودي بحياة الجنين.
…وتأسيساً على ما قرره الأطباء في العصر الحديث من استحالة حدوث الحمل الممتد عدة سنين، استظهر البعض(1) خطأ من قال أو ظن أن الحمل يمتد إلى خمس أو ست سنين أو أكثر من ذلك، وقال: إنه يظن أن هذا الخطأ تسرب إلى فقهائنا السابقين من أطباء تلك العصور، فقد حكي لنا ابن القيم أن صاحب " الشفاء " قال: " بلغني من حيث وثقت أن امرأة وضعت بعد الرابع من رأي الحمل ( يريد العام الرابع ) ولداً قد نبتت أسنانه وعاش "(2).
…والحقيقة أني أجد أن أمر تسرب الخطأ في المدد الممتدة سنين، من أطباء تلك العصور – أجده – تخميناً أكثر منه استنتاجاً علمياً، وذلك في ظل ما ذكره ابن سينا في كتابه القانون في الطب عن أول وآخر أشهر الولادة، حيث قال: " الشهر السابع أول شهر يولد فيه الجنين … - إلى أن قال -…- وأكثر ما يولد في العاشر يكون قد عرض له أن اشتهى الولادة في التاسع فلم يتيسر له "(3).
…والبلدي من أطباء تلك العصور ومع ذلك نجده في كتابه تدبير الحبالى، يستنكر على من قلن من النساء أنهن يلدن في الشهر الحادي عشر، ونص كلامه: " فأما ما تذكره النساء من أنهن يلدن في الشهر الحادي عشر … وهل هن صادقات أم لا ؟ وإن كن صادقات فكيف ذلك وقد حددنا لآخر الولاد حداً لا يكون بعده ولادة وهو مائتان وثمانون يوماً(4).، ثم يحمل كلامهن فيما بعد مناقشة طويلة على أنهن إما واهمات في الحساب، أو أنهن صادقات في كونهن يلدن من لا يعيش(5).
__________
(1) د. عمر سليمان الأشقر: المرجع السابق ص96 وما بعدها.
(2) ذكره في الموضع السابق، وعزاه لابن القيم في التبيان ص211.
(3) القانون في الطب لابن سينا، الكتاب الثاني، ص 1645.
(4) تدبير الحبالى لابن يحيى البلدي ص121.
(5) المرجع السابق نفس الصفحة.(28/24)
…ومما سبق يظهر أن مسألة الحمل الممتد لسنين التي ذكرها الفقهاء ليست من باب تسرب الخطأ الطبي، وإن كان التسرب غير ممتنع إذا قامت عليه شواهد كالذي بنوه المالكية على مقطوع الخصية اليسرى، أما الشواهد في هذه المسألة فضد هذا الاستنتاج.
…وأما المحمل المتصور لهذه الروايات فقد يكون الوقوع الفعلي في عصرهم، وهو أمر لا يحيله العقل، ولا يوجب تكذيبهم بغير دليل سوى أن عادة الحمل على غيره، خصوصاً وأن رواياتهم عرضته على أنه من قبيل النادر، لا الغالب المألف، ومن ثم لا يستبعد وقوعه على هذا الوجه، وقد نشرت بعض المجلات العلمية (الإنجليزية)، لطبيب إنجليزي دراسة في العصر الحديث تقول نتائجها: إن الحمل قد يطول بقاؤه في بطن أمه سنين، وعلل ذلك بأن الحمل إذا كان في ظروف طبيعية ينزل في موعده الطبيعي، وإذا لم تكن ظروفه طبيعية وكان في حالة سيئة لا تعين على الحياة فإنه يموت، أما إذا كانت الحالة بين بين، فإن الطفل ينام في بطن أمه ويبقى نائماً حتى يوقظه الله(1).
…وقد عرفت هذه الظاهرة في العلم الحديث بظاهرة السبات، وهي مسألة تحتمل تأويلاً مقبولاً لروايات الحمل الممتد، هذا فضلاً عن أن قضية الخلق شأن من له الخلق والأمر، ولا يبعد عن التصور أن يقع فيها من مراداته تبارك وتعالى ما لم يألفه الناس، وصدق الله العظيم حيث يقول: { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، وفي هذا السياق يأتي ما ذكرته بعض المصادر الحديثة عن واقعة معاصرة تم فيها خلال عملية أجريت لأول مرة في البحرين إخراج جنين من بطن طفل حديث الولادة(2).
__________
(1) ندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت عن " الإنجاب في ضوء الإسلام " 1403هـ - 1983م، د. زكريا البري،
ص 293.
(2) انظر: تفاصيل الواقعة في كتاب: المرأة الحامل وأسرار الحمل، محمد رفعت، دار الفكر العربي، بيروت، ص69.(28/25)
…ولعل الأوجب من تكذيب روايات الفقهاء عن الحمل الممتد، أو تصور وهمهم وتسرب الأخطاء إليهم، بل ومن تكذيب صواحبات الوقائع المروية، هو تصور وهم صواحباتها ودخولهن فيما يعرف بظاهرة الحمل الكاذب وهي حالة تشبه الحمل الطبيعي تماماً في أعراضه ومظاهره الخارجية فيحدث أن الدورة الشهرية تختفي ويكبر حجم الثدي ويمتلئ بالإفراز اللبني، وتشكو المرأة من الأعراض المصاحبة للحمل كالغثيان وغيره، وشيئاً فشيئاً يكبر حجم البطن وتحس المرأة بحركة داخلها تفسرها بأنها حركة الجنين داخل الرحم وترجع أسباب هذه الظاهرة كما تؤكد ذلك الدراسات الحديثة – إلى توتر نفسي شديد يصيب المرأة فيؤثر على جزء من المخ يعرف بأسفل الثالاماس، الذي يؤثر بدوره على الغدة النخامية التي تتحكم في وظيفة المبيض، وعلى هذا الأساس يمكن أن يحدث الحمل الكاذب مع المرأة التي تشتاق إلى الإنجاب بعد فترة طويلة من العقم تكون قد تعرضت خلالها إلى عوامل نفسية شديدة فتكون النتيجة أن تدخل المرأة في حالة من الحمل الوهمي وتعيش هذا الخيال لفترة
طويلة(1).
…وتؤكد الدراسات الحديثة أن حالة الحمل الكاذب قد لا تقف عند هذا الحد، بل يمكن أن تتطور إلى ما يعرف بالوضع الكاذب حيث تتهيأ المرأة للوضع، وتبدأ معها آلام تشبه تماماً الوضع الحقيقي … وتحدث المفاجأة عندما لا تسفر هذه الآلام عن أي تقدم نحو الولادة، ويلجأ الطبيب إلى إجراءات التحقق من أشعة وتحاليل، وتأتي النتائج مذهلة ومؤسفة حيث، لا حمل هناك ولا جنين، والرحم صغير ولا يحمل أجنة، وكبر البطن مرده إلى الانتفاخ
ليس إلا(2).
__________
(1) انظر: الحمل – الولادة – العقم عند الجنسين: محمد رفعت ص28.
(2) الحمل اليسير: د. حمدي توفيق العليمي، سلسلة دليل المرأة الطبي، دار البشير، الطبعة الأولى، ص105.(28/26)
…والعجيب أن هذه النتائج التي توصلت إليها الدراسات الحديثة في المسألة لم تجاوز في مضمونها، ما قرره بعض فقهاء الحنفية بهذا المعنى وحملوا عليه روايات الحمل الممتد لأربع سنين، فقالوا: " … فإن غاية الأمر أن يكون انقطع دمها أربع سنين ثم جاءت بولد، وهذا ليس بقاطع في أن الأربعة بتمامها كانت حاملاً فيها، لجواز أنها قد امتد طهرها … ثم حبلت، ووجود الحركة في البطن ليس قاطعاً في الحمل، لجواز كونه غير الولد، ولقد أخبرنا عن امرأة أنها وجدت ذلك مدة تسعة أشهر من الحركة و انقطاع الدم وكبر البطن وإدراك الطلق، فحين جلست القابلة تحتها أخذت في الطلق، فكلما طلقت اعتصرت ماء، هكذا شيئاً فشيئاً، إلى أن إنضمر بطنها وقامت عن قابلتها من غير ولادة " أ.هـ.(1).
…ويضع ابن يحيى البلدي المسألة في إطارها الصحيح فيقول: " الكلام في مدة الحمل وتكون الأجنة وأوقات الولادة مختلف فيه، وما يعتقده الأطباء منه فمأخوذ من إقرار الحبالى واعترافهن وما يخبرون به " أ.هـ.(2).
…والأعجب مما سبق أن ما روي من روايات عن نساء بني عجلان، وجد من الدراسات الحديثة ما يدعم تصديقها، حيث أكدت هذه الدراسات ومن خلال وقائع ميدانية أن امتداد الحمل قد يكون مرجعه إلى عامل الوراثة، وذكرت كتب الطب واقعة وصفتها بالمشهورة وفيها أن سيدة رزقت بابنتين:
البنت الأولى: ولدت بعد مدة حمل ( 300 يوم )، وعندما تزوجت رزقت بابنة بعد فترة حمل طولها
( 291 يوماً ).
البنت الثانية: ولدت بعد مدة حمل (310 يوماً)، وعندما تزوجت رزقت بابنة بعد فترة حمل (298 يوماً).
ودلالة هذه الواقعة أن الحمل ربما يطول في العائلة الواحدة، وهذه حالات نادرة جداً(3).
__________
(1) فتح القدير جـ4، ص351 وما بعدها.
(2) تدبير الحبالى … لابن يحيى البلدي، ص115.
(3) الحمل – الولادة – العقم عند الجنسين: محمد رفعت، ص22.(28/27)
…هذا ما تقوله الدراسة، وعليه وفي ضوئه نقول لعل عائلة بني عجلان من هذه الحالات النادرة خاصة أن الإمام مالك وغيره من الفقهاء لم يشيروا في رواياتهم إلى أن هذا هو المألوف المعتاد، بل احتمل سياق الروايات أن ذلك من النادر الممكن ليس إلا، وهو ما أكده العلم الحديث. وهكذا تتظاهر الروايات والدراسات قديماً وحديثاً لتملي على الناظر المنصف ألا يحمل الأمر على تكذيب الفقهاء الأجلاء كما فعل ابن حزم، ولا على توهمهم وتسرب الأخطاء إليهم، كما ذكر البعض، ففقهاؤنا وإن كانوا عرضة للخطأ ككل البشر، وهذه حقيقة، إلا إنهم كانوا أبعد ما يكون عن التغفل، وقد رأينا أن المالكية الذين تكلموا عن مقطوع الخصية اليسرى بما ثبت فيما بعد أنه ليس بصواب – رأيناهم – يسندون الأمر لأهله وقالوا أن هذا كلام الأطباء، لتبرأ بذلك ساحتهم مما أسسوه على هذا الخطأ من أحكام، ما كانوا ليقرروها إلا على كلام الأطباء.
المبحث الثالث
موقف قانون الأحوال الشخصية الإماراتي
الجديد رقم 28 لسنة 2005م
…استعراض موقف قانون الأحوال الشخصية الإماراتي الجديد رقم 28 لسنة 2005م بشأن موضوع تحديد مدة الحمل أقله وأكثره، يقتضي التقديم له بعرض لحاصل فقه الموضوع في ضوء المعطيات العلمية الحديثة، والتي عول عليها القانون وجعلها موضع الاعتبار.
…ومن ثم سأتناول هذا المبحث في مطلبين :
الأول : عن حاصل فقه الموضوع في ضوء الحقائق العلمية.
والثاني : عن رصد توجه القانون ومرتكزاته في هذا التوجه.
المطلب الأول
حاصل فقه الموضوع في ضوء الحقائق العلمية
…باستعراض ما تقدم في موضوع تحديد مدة الحمل يمكن تحصيل الآتي:
أولاً:…أقل مدة الحمل كان موضع اتفاق الفقهاء والأطباء – تقريباً – وقدر بستة أشهر، تزيد بضعة أيام عند البعض، أو تنقص مثلها عند البعض الآخر.(28/28)
ثانياً:…ابتداء العد في أقل الحمل هل من العقد ؟ أم من الدخول ؟ كان موضع خلاف بين الجمهور والحنفية، وأن تناول الخلاف بين أتباع الفريقين، فيما بعد إثارته، جعله يطال آفاقاً أوسع من حدود البعد الذي أثاره بداية، بمعنى أن اشتراط الدخول لمبدأ العد، تطور إلى اشتراط إمكان الوطء، وبحث مسألة إمكان الوطء أفضى بدوره إلى بحث مسائل فنية تهدف إلى التحري عن إمكانية العلوق من هذا الوطء المشترط إمكانه، ليصل الأمر إلى اشتراط إمكانية العلوق لا مجرد الوطء فحسب.
ثالثاً:…الأفق الذي وصل إليه الخلاف السابق، وهو اشتراط إمكانية العلوق يثير مردوداً مهماً بشأن إثبات النسب في ضوء معطيات الإنجاب الصناعي، لأن إعمال رأي الجمهور باشتراط تصور إمكانية العلوق، يفضي إلى عدم إلحاق النسب بالزوج الذي لا يتصور إمكانية الإخصاب بنطفته، لمجرد مضي أقل مدة الحمل، وينتفي عنه النسب بدون لعان، ويلزمه فقط إثبات عدم خصوبة نطفته، أي عدم إمكانية العلوق، كما أن النسب ينتفي أيضاً دون لعان إذا أثبتت خصوبة النطفة بما استحدث من تحاليل طبية، ولكن لم يمضِ على الولادة أقل مدة الحمل، لأن النسب الذي تتشوف الشريعة لإثباته هو النسب الشرعي وليس النسب الطبيعي.
رابعاً:…أكثر مدة الحمل وقع بشأنه اختلاف كبير، وتباينت فيه الروايات تبايناً صارخاً، قدرته بعضها بسنين عُدت إلى التسع والعشر، وبعضها جعله إلى غير أجل، كما ثار خلاف أيضاً بشأن ابتداء العد لأكثر الحمل، إلا أن البحث في هذا الخلاف الأخير لم يكن مجدياً في ظل عدم الاتفاق على مدة يبتدأ عدها.(28/29)
خامساً:…روايات الحمل الممتد لسنين، بالرغم من اختلافها وعدم انضباطها على مرتكز معين في التحديد، لا يلزم من ذلك تكذيبها وردها، بل ينبغي تأولها على أنها حمل كاذب، تبعه حمل صادق، وحسبت مدتهما جميعاً دون إدراك لحقيقة الموقف، كما يمكن اعتبارها من حالات السبات النادرة التي كشفت عنها الدراسات العلمية الحديثة وكلا التأويلين تحتمله نتائج هذه الدراسات.
سادساً:…روايات الحمل الممتد لسنين، ومحاولة صرفها إلى المحامل الحسنة المذكورة في البند السابق، ينبغي التأكيد على أن ذلك التوجه لا يعني بالضرورة التعويل عليها في استنباط الحكم الشرعي العام، بل إنه يعني عكس ذلك تماماً، لأن وقائع هذه الروايات من النادر، وغير المنضبط، والأحكام الشرعية العامة إنها تناط بالوصف الظاهر المنضبط، وتتبع الغالب من الحوادث، وأما النادر فله حكمه.
سابعاً:…تحقق الحكم الجازم بما اختلف فيه، من إمكانية العلوق، أو حدود المدة الحقيقية لبقاء الحمل في الرحم، ليس من العلم الشرعي الذي يستدل عليه بنص شرعي، وإنما هو من العلم الحسي الذي يدرك بالحس والمشاهدة فيكون يقينياً، أو يستدل عليه بقرائن ظنية، حينما يتعذر إدراكه بالحس والمشاهدة، فيكون ظنياً، ولا شك أن ما يمكن تحصيله يقيناً بطريق الحس والمشاهدة في أمر ما، لا يعارض بما أفضت إليه القرائن الظنية في ذات الأمر، ومن ثم فإنه متى أفضت القرائن الظنية في أمر ما إلى مفهوم معين، وتأسس على هذا المفهوم حكم شرعي، ثم أمكن إدراك العلم بهذا الأمر على سبيل القطع بالحس والمشاهدة، وتحصل من ذلك مفهوماً مخالفاً للمفهوم المتحصل بالقرائن الظنية، فلا شك أن الحكم الشرعي ينبغي أن يتغير على ضوء المفهوم القطعي الجديد، لأن المحقق لا يعارض بالموهوم.(28/30)
ثامناً:…الخلافات الفقهية التي تتطرق إلى بحث مسائل فنية ليست فقهية لكنها من مقدمات الحكم الفقهي ضرورة، باعتبار أن الحكم على الشيء فرع عن صورته ينبغي أن تراعى فيها الثوابت الآتية:
عند تجاوز الخلاف للإطار الفقهي وانتقاله إلى بحث المقدمات الفنية للأحكام كالمسائل الطبية و ما شابهها، ينبغي أن تترك أدوات الحوار الفقهية ليستعاض عنها في بحث المسألة بأدوات وآليات فنية مناسبة، إذ ليس مما يصلح عقلاً أن تستخدم أدوات الطبيب في الميكنة وإصلاح الماكينات، ولا عكسه، ولا كلاهما في حرث الأرض وزراعتها، هذا بالطبع مع افتراض التأهل الفني للباحثين في المسألة موضع البحث، وإلا فعلى الفقيه أن يستعين بأهل الذكر لتحقيق المسألة فنياً ثم يعمل فيها أدواته الفقهية لترتيب الحكم المناسب.
إذا كان التاريخ يؤكد أن كثيراً من علماء الشريعة المجتهدين في عصور النهضة الفقهية قد بلغوا شأوً عظيماً في علوم أخرى كالطب والرياضيات والفلك بما يمكنهم من تصوير المسائل الفنية واستنباط أحكامها الفقهية بشكل دقيق، فالمؤكد أيضاً أن هذا الحال قد تغير عند ما تقلص فيما بعد النشاط الفقهي، وتوقف الاجتهاد وأغلق بابه.
إن المسائل الفنية التي يتوقف عليها استنباط الحكم الفقهي لا يصلح في تصويرها الاعتماد على المفاهيم التقليدية المتوارثة بل ينبغي تناولها تناولاً علمياً متجدداً يأخذ في اعتباره أحدث المستجدات في الفن موضوع المسألة لأن العلوم الحسية متطورة بطبيعتها ومن ثم فنظرياتها متغيرة ضرورة هذا التطور، الاجتهاد الفقهي الدقيق يستوجب متابعة هذه المتغيرات وأخذها في الحسبان عند استنباط الأحكام الفقهية، على ألا يتعارض ذلك مع نص قاطع.(28/31)
أقوال الفقهاء – ولو كانوا من الصحابة – في غير الفقه، كآرائهم في مسائل الطب، أو الفنون الأخرى، لا ينبغي أن تؤخذ على أنها تشريع، بل ولا يعول عليها وحدها في الاستنباط، وتسقط إذا عورضت بما هو أقوى من الحقائق، إلا أن يكون الفقيه عالماً مشاركاً ومن أهل الاختصاص بالفن المقصود، وقد رأينا في الحرص السابق لأقوال الفقهاء أن ابن قدامة فرق في الحكم بين مسألة الخصي ومسألة مقطوع الذكر تأسياً على ما يوجب عليه ضرورة عكس ما ذهب إليه، ولما تكلم في المسألة ابن رشد وهو فقيه طبيب آتى بما لم تجاوزه الدراسات الطبية الحديثة إلى الآن، وبديهي أن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، ولا يقلل هذا من قدر الفقيه في مجال الفقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو أرفع الخلق – في مسألة تأبير النخل – أنتم أعلم بشئون دنياكم.
المطلب الثاني
توجه قانون الأحوال الشخصية الإماراتي الجديد ومرتكزاته في تقدير مدة الحمل
…الاحتياط للنسب في فلسفة القانون:
…إن التوجه الذي يمكن رصده بقوة، وملاحظته بسهولة في القانون رقم 28 لسنة 2005م، هو الاحتياط للنسب، ولا شك أن هذا التوجه يأتي متناغماً مع المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية بهذا الخصوص والتي تتلخص في تشوفها لإثبات النسب حال قيامه، وفي الوقت نفسه ترفض إقرار الأنساب الباطلة، ومستند هذه النظرة، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصار قاعدة في هذا الشأن، من قوله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر "(1).
…وعن الجزاء الأخروي لمخالفة هذه القاعدة قال صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة أدخلت على قوم نسباً ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله الجنة، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين "(2).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، برقم " 6765 ".
(2) أخرجه الدارمي في سننه من حديث أبي هريرة 2/204.(28/32)
…كما تجدر الإشارة إلى أن ما سبق عرضه من مناقشات الفقهاء في الموضوع ينبئ عن مدى توخي الحرص الشديد من الفقهاء على تحقيق هذه المعاني.
…ولعل هذه النصوص، والمعاني التي تفيض منها، هي المرتكز المقدر في توجه القانون المذكور للاحتياط للنسب، كما يفيد نص الفقرة الأولى من المادة الثانية من هذا القانون، حيث نصت على أنه: " يرجع في فهم النصوص التشريعية في هذا القانون، وتفسيرها، وتأويلها، إلى أصول الفقه الإسلامي وقواعده ".
…النص المعنى بتقدير مدة الحمل من القانون: المادة " 91 " :
…تناول القانون الاتحادي رقم 28 لسنة 2005م في شأن الأحوال الشخصية، موضوع تقدير مدة الحمل، في المادة " 91 " منه، في الفصل الثاني من الباب الخامس في الكتاب الأول، وقد نصت هذه المادة على أن:
…" أقل مدة الحمل، مائة وثمانون يوماً، وأكثره ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، ما لم تقرر لجنة طبية مشكلة لهذا الغرض خلاف ذلك ".
…وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون: " حددت هذه المادة أقل مدة الحمل وأكثره بالأيام منعاً للخلاف الذي يحصل احتمالاً إن حددت بغير ذلك ".
…وأقول: إن هذا الخلاف المحتمل، لم يكن ليرد في ظل ما نص عليه هذا القانون ذاته في المادة الثالثة منه حيث نصت على أن:
…" يعتمد الحساب القمري في المدد الواردة في هذا القانون، ما لم ينص على خلاف ذلك ".(28/33)
…ومن ثم، فلو لم ينص في المادة " 91 " على الأيام ونص على الشهور، لاحتسبت الشهور بالحساب القمري، أما وقد نص على الأيام فقد أخرج مدة الحمل وهو موضوع المادة " 91 " من حكم المادة الثالثة في الاحتساب بالشهور القمرية، ولعل هذا مما يؤخذ على نص المادة " 91 " لأن الحساب بالشهور القمرية كان سيجعل أقل مدة الحمل ( 175 يوماً ) كما قال المالكية تقديراً لما يتوالى من الشهور القمرية على النقص، بينما جعلها التنصيص بالأيام في المادة " 91 " ( 180 يوماً )، وهذا يتناقض ولا شك مع توجه القانون للاحتياط للنسب، وتحقيق مقاصد الشريعة في التشوف لإثباته، وإن كانت هذه المعاني واضحة في تقدير أكثر المدة بـ ( 365 يوماً ) وهي بالطبع أكثر من السنة القمرية.
…ولتوازن النص وتناسقه مع أهداف التشريع، كان ينبغي أن يجعل الأقل ( 175 يوماً ) وليس
( 180 يوماً )، مراعاة لما ذكر، ومراعاة أيضاً لكون التقويم القمري هو المعمول به في شأن الحمل والولادة في جميع البلاد على مختلف أديانها.
…وأما الزيادة في أكثر المدة عن السنة القمرية فلا ينافي هذه المقاصد طالما جاء في حدود لا تناقضها.
…النصوص الأخرى ذات الصلة بمدة الحمل من القانون الجديد :
…سبقت المادة " 91 " مادتان أخريتان، في الفصل الثاني من هذا القانون لهما علاقة بمدة النسب، وهي المادة رقم " 89 " والمادة رقم " 90 ".
…أما عن المادة " 89 " فقد نصت على أن: " يثبت النسب بالفراش، أو بالإقرار، أو بالبينة، أو بالطرق العلمية إذا ثبت الفراش " ويلاحظ على هذا النص أنه عُني بإبراز الأسباب الشرعية لإلحاق النسب، وهو الفراش، والإقرار والبينة، وبالطبع هي الأسباب المعتمدة عند الفقهاء في هذا الشأن، ولا تثور بشأنها خلافات من حيث المبدأ.(28/34)
…وأما السبب الرابع الذي استحدثه، وهو الطرق العلمية، فهو استحداث اصطلاحي ليس إلا، لأن المقصود بالطرق العلمية هي التقنيات المعنية بالاستدلال على قيام النسب، وقد أتى بها القانون في هذا السياق بديلاً عمّا عرف في الفقه الإسلامي " بالقافة " وهي وسيلة بنفس معنى التقنيات المذكورة، حيث يُعنى فيها القائف بالاستدلال على قيام النسب، مع فارق الدقة بالطبع لصالح التقنيات المعاصرة، والقافة في الفقه الإسلامي من الأسباب المختلف في إلحاق النسب بها، ورعاية لهذا الخلاف قيدت المادة ثبوت النسب بالطرق العلمية بثبوت الفراش والحق أن ثبوت النسب بالطرق العلمية، مع قيام الفراش غير كافٍ في تحقيق مقاصد الشريعة بالتحرز والاحتياط للأنساب، وهو باب قد يُدخل على النسب ما ليس منه، مما يناقض المقاصد المذكورة، وهو الأمر الذي تداركه القانون، بالفقرة الأولى من المادة " 90 " التالية لهذه المادة حيث نص فيها على أن: " الولد للفراش إذا مضى على عقد الزواج الصحيح أقل مدة الحمل، ولم يثبت عدم إمكان التلاقي بين الزوجين ".
…فجاء التنصيص على اشتراط أقل مدة الحمل في هذه المادة قيداً على ما يمكن أن يستفاد من المادة السابقة من ثبوت النسب بالطرق العلمية حال قيام الفراش، وهو ما لا يستقيم ومقاصد الشريعة في هذا الشأن، لأن النسب الذي تتشوف الشريعة لإثباته هو النسب الشرعي وليس النسب الطبيعي، فتحصل من النصين أن إثبات النسب بالطرق العلمية مقيد بالفراش، والفراش مقيد بمضي أقل مدة الحمل.
…كما أفادت الفقرة الأولى من المادة " 90 " أمراً آخراً في هذا الشأن وهو أن القانون أفصح نصاً عن الاختيار الصريح لرأي الجمهور في الخلاف الذي سبق عرضه بخصوص إمكانية العلوق، فكأنه اشترط الإمكان نصاً، وأفاد بمفهومه أن الإمكان مفترض ما لم يثبت العكس.(28/35)
…وقد أحسن القانون بهذا الاختيار، ولا بديل يصح عنه في ضوء فلسفة الشريعة التي تتشوف لإثبات الأنساب حال قيامها فقط، ولكنها ترفض وبقوة إقرار الأنساب الباطلة. وفي ذلك يقول ابن قدامة: " وقال بعضهم: يلحقه بالفراش، وهو غلط، لأن الولد إنما يلحق بالفراش إذا أمكن " أ.هـ.(1).
…درجات الاحتياط التي تبناها القانون الجديد :
…إذا كان التوجه الثابت – بصفة عامة – للقانون 28 لسنة 2005م، في نص المادة " 91 " منه، هو الاحتياط للنسب، تشوفاً واحترازاً، كما هي فلسفة الشريعة في التشوف لإثبات النسب القائم والتحرز من إقرار النسب الباطل، فإن من الثابت أيضاً في هذا القانون، وفي نص ذات المادة رقم " 91 "، أن القانون جعل الاحتياط على درجتين، هما درجة الاحتياط العادي، ودرجة الاحتياط الاستثنائي.
أولاً:…درجة الاحتياط العادي :
وتبدو ملامح هذا الاحتياط في الشق الأول من المادة " 91 "، حيث تحدد أقل وأكثر مدة الحمل بالأيام
( 180 – 365 يوماً )، ففي الأقل أخذ القانون بما هو مجمع عليه في الفقه من أقل مدة الحمل ستة أشهر بسند الاقتباس القرآني من حاصل مفهوم الجمع بين قول الله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وقوله تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ، وهو الأمر الذي تواطئ الطب قديماً وحديثاً على تقريره وتأكيد محصلته، ولا شك أن هذا الإجماع الشرعي والطبي قد تأسس على الاستقراء لوصف ظاهر منضبط، استقراءً يصلح لترتيب الأحكام عليه، لما روعي فيه من الاحتياط لكل ما يمكن أن يولد صالحاً للحياة من الأجنة في أقل مدة زمنية، بالقدر الكافي من الاحتياط.
__________
(1) المغني جـ11، ص169.(28/36)
إلا أن القانون لما قدر الستة أشهر بالأيام وجعلها كاملة ( 180 يوماً ) فوت الفرصة لمزيد من الاحتياط بخمسة أيام أخرى عملاً بما قاله المالكية من أن الستة أشهر تقدر عندهم بمئة وخمسة وسبعين يوماً رعاية لما يمكن أن يتوالى من الشهور القمرية على النقص، وقد أخذنا ذلك عليه باعتبار ما سبق من تفصيل في المسألة.
أما بشأن أكثر المدة وما وقع في تقديرها من خلاف كبير بين الفقهاء، بل ولم تتفق بشأنها كلمة الأطباء أيضاً، وقد ظهر فيما سبق من تفصيل للمسألة، أن روايات الحمل الممتد لسنين والتي ذكرت عن بعض الفقهاء، وجدت بالفعل سنداً لها، في النظريات العلمية الحديثة.
وأما ما يمثل قدراً مشتركاً من الاتفاق بين الفقهاء والأطباء هو تأكيدهم على أن الغالب في أكثر الحمل تسعة أشهر، وهي محصلة استقرائية جرت بها العادة عبر القرون وأكدتها الوقائع المشاهدة والدراسات الحديثة.
ومن ثم فإن تقدير القانون لأكثر الحمل بسنة فيه قدر عالي من الاحتياط لما يمكن أن يخرج عن محصلة المقررات السابقة، من حالات توجد في الواقع، لكن المؤكد حقيقة أنها قليلة جداً.
كما أن تقدير السنة بالأيام ( 365 يوماً ) وهي مدة تزيد عن السنة القمرية بأسبوعين تقريباً، يجعل الاحتياط المقصود في هذا المقام، لا يقف عند الرغبة في استيعاب ما يخرج عن المألوف من الحالات القليلة، بل يطال النادر منها.
ولا شك أن القانون بهذا التقدير لمدة الحمل جاء متفقاً ومتسقاً مع ما درجت عليه تشريعات الدول العربية، والإسلامية في هذا الشأن(1).
ثانياً:…درجة الاحتياط الاستثنائي :
__________
(1) القانون الاتحادي رقم 28 لسنة 2005م مع المذكرة الإيضاحية ص212، وانظر الحماية القانونية للجنين بين الفقه الإسلامي والقانون: مفتاح محمد قريظ، سلسلة الدراسات القانونية، مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأول 1995م، ص 62 وما بعدها.(28/37)
جاء الشق الثاني من المادة " 91 " في صورة قيد على ما تقرر في الشق الأول منها بشأن تقدير مدة الحمل، حيث قيد هذا التقدير بقوله: " … ما لم تقرر لجنة طبية مشكلة لهذا الغرض خلاف ذلك ".
وواضح من التنصيص على هذا القيد أن القانون توجه قصداً إلى تجاوز حدود الاحتياط العادي، الذي شمل به القليل بل والنادر من الحالات كما سبق البيان، ليطال بهذا القيد الاحترازي أندر النادر، على سبيل الاستثناء.
…والحقيقة أن القانون بهذا التوجه، جاء مستوعباً للحقائق التي سبق أن استخلصناها في حاصل فقه الموضوع بشأن روايات الحمل الممتد التي عول عليها بعض الفقهاء، وما جاء معضداً لها من دراسات علمية حديثة.
…وهذا الاستنتاج هو ما أكدته المذكرة الإيضاحية للقانون حيث جاء فيها إيضاحاً لنص هذا القيد: " … إلا أن القانون تحوط لأمر بدأ يظهر في الأونة الأخيرة، ولعله كان موجوداً في الماضي، إلا أنه لم يكشف عنه النقاب، وهو ما يسمى بالسبات، حيث يتم الحمل، وفي مرحلة ما يتوقف هذا الحمل عن النمو لفترة، لكنه موجود حي وفق الفحوصات والاختبارات الطبية, مما يزيد في أمد أقصى مدة الحمل بقدر زيادة مدة السبات، فإذا قررت لجنة طبية متخصصة تشكل لهذا الغرض وجود حمل مستكن، فإن أقصى مدة الحمل تستمر حتى الولادة، ولعل هذا من الوقائع التي حدثت في عهد الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي، فاختلفت الرواية عنهم لذلك في أقصى مدة الحمل، فوردت عنهم روايات بأنها سنتان، وأربع، وخمس، وبعضهم قال بأكثر من ذلك ومرجع ذلك إلى المشاهدة الحسية وليس إلى نص شرعي، فإن تشوف الشارع إلى ثبوت النسب مع قيامه فعلاً وراء تعدد الأقوال في أقصى مدة الحمل، وقد وضع لها القانون ضابطاً عن طريق تشكيل لجنة متخصصة تحال إليها مثل هذه
الحالات(1).
المهمة الفنية للجنة الطبية :
__________
(1) انظر القانون 28 لسنة 2005م ومذكرته الإيضاحية ص 212، 213.(28/38)
وأما عن مهمة اللجنة الطبية فيمكن تحديدها من خلال ما جاء عنها في نص المادة " 91 " من أنها " مشكلة لهذا الغرض " والغرض المشار إليه في هذا النص يمكن تقديره استيحاءً من سياق النص بأنه الاستدلال على وجود أسباب سائغة ومتصورة وفق قواعد الفن الطبي وعلوم الاستيلاد، والتثبت من أن هذه الأسباب هي التي وراء تجاوز الحمل لحدود المدة التي اعتبرها القانون في مقدمة النص.
النطاق القانوني لاختصاص اللجنة :
حسب الإيضاح الوارد في المذكرة الإيضاحية للقانون بشأن اختصاص اللجنة، يربط الإيضاح اختصاص اللجنة بحالة الحمل الذي يتجاوز حدود المدة التي اعتبرها القانون بالزيادة على أقصى أمد الحمل، بل ويشير إلى حالة بعينها عرفت في العلم الحديث بحالة السبات، وأما عن الحمل الذي يجاوز المدة التي اعتبرها القانون بنزوله قبل أقل مدة الحمل فلم ينوه الإيضاح إلى اختصاص اللجنة به.
وفي تقديري :
أن اللجنة الطبية المشار إليها في ختام نص المادة " 91 " تختص بشكل قانوني بكل حالة تتجاوز حدود المدد التي اعتبرها القانون سواء بنزول الحمل قبل أقل مدة الحمل، أو بعد أكثر مدة الحمل، ذلك أن المادة
" 91 " حسب الصياغة أوردت قرار اللجنة الطبية في صورة قيد على ما ذكر في صدرها من تقدير لمدد أقل وأكثر الحمل، - هذا القيد – يقيد مطلقية هذا التقدير.
في تقديري أيضاً أن اللجنة غير مقيدة من حيث اختصاصها بالتثبت أو البحث عن نوع معين من الحالات المعروفة في تجاوزها كالسبات مثلاً، المشار إليه في المذكرة الإيضاحية، بل للجنة مطلق الصلاحيات في التقدير والتقييم العلمي والفني في هذا الشأن طالما أتى ذلك منها في إطار القواعد المرعية عند أهل الاختصاص، وفي هذا الإطار يكفل لها القانون بهذا النص صلاحية الكشف عمّا يتبدى لها من مستجدات في الموضوع.
حجية قرار اللجنة :(28/39)
إيراد ذكر قرار اللجنة الطبية في المادة " 91 " كقيد يحد من إطلاق التقديرات القانونية لأمد الحمل الأقل والأكثر، يدل بالمفهوم على أن لهذا القرار حجية معتبرة ومقدمة على سبيل الاستثناء أو الاستدراك على ما قرره القانون بهذا الخصوص.
ولعل المرتكز الشرعي المقدر لهذا الاستثناء، هو استمداد مشروعية قرار اللجنة الطبية من مشروعية أعمال الخبرة الثابتة شرعاً، وعلى وجه الخصوص في مجال النسب استناداً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر القافة(1).
وما روى عن الإمام مالك في إقراره لتقدير الخبراء في شأن النسب أيضاً، حيث سئل عن ولد الخصي هل يلزمه ؟ فقال: أرى أن يسأل أهل المعرفة بذلك، فإن كان يولد لمثله لزمه وإلا لم يلزمه(2).
الشروط القانونية المتطلبة في اللجنة الطبية :
لم يفصح نص المادة " 91 " عن أي شروط قانونية خاصة يلزم توافرها في هذه اللجنة، وكذلك المذكرة الإيضاحية تجاهلت هذا الأمر تماماً، ولكن وصف النص للجنة بـ " الطبية " يمكن في ضوئه التحول إلى القواعد العامة المعنية بتنظيم هذه اللجان والضوابط المرعية في هذا الخصوص، من حيث، مواصفات، ومؤهلات، وعدد أعضاء اللجنة.
…وإذا كانت المرجعية فيما يلزم من مواصفات ومؤهلات لأعضاء اللجنة مردها إلى عرف أهل الاختصاص والقواعد المرعية عندهم، فإن عدد أعضاء اللجنة قد يثير مردوداً شرعياً، فيما يتعلق بتكييف دور اللجنة وهل هو شهادة فيلزم مراعاة النصاب ؟ أم إخبار بعلم ممن يختص به ؟ والتكيف الأخير عند فقهاء الشرعية يُكتفى فيه بالواحد كقول القاسم والقائف وحده، وقال البعض هذا مع تعذر وجود غيره، فإن لم يتعذر فاثنان، وقال البعض لا يكتفي بدونهما.
والذي أراه :
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الفرائض برقم " 6770 ".
(2) المدونة جـ5، ص126، 127.(28/40)
أن الأمر هنا لا يتعلق بمسألة الإخبار بعلم بقدر ما يتعلق بمنهجية الشريعة الخاصة في إثبات الوقائع المتعلقة بالأبضاع، ومن ثم يلزم هنا مراعاة رباعية الإثبات الشرعية في هذا الخصوص، وهذا مأخوذ من استعاضة الشارع بالأيمان الأربع في اللعان عن الشهود الأربع في الزنا، ومن ثم فإن مراعاة ما للمسألة من خصوصية وحساسية جعلت الشارع يقصد فيها إلى منهجية التربيع في الإثبات، فإنه يلزم أن تكون اللجنة الطبية المعنية مكونة من أربع لجان فرعية، أو أربعة خبراء، على أن يتوافر بينهم في كل الأحوال الحياد والاستقلالية في إعداد التقارير الأربعة، لكي يعول عليها في المسألة، تحقيقاً لمقاصد الشارع في هذا المقام. والله تعالى أعلى وأعلم.
خاتمة بأهم نتائج البحث
…الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على من بُعث بخاتمة الرسلات … وبعد.
…ففيما يلي خلاصة لأهم النتائج التي يمكن تقريرها في ختام هذا البحث:
تقدير مدة الحمل: ابتداء وانتهاء كانت موضع اهتمام بالغ في اجتهادات الفقهاء لما لها من علائق تشريعية وقضائية في أحكام العدة، والحدود، والميراث والوصية والوقف.
أقل مدة الحمل كان موضع إجماع من عصر الصحابة وما بعده اقتباساً من النص القرآني وجاء هذا الإجماع مواتياً لمقررات الطب قديماً وحديثاً في هذا الخصوص.
أكثر مدة الحمل وقع فيه خلاف واسع بسبب عدم وجود نص شرعي فيه وصدور الاجتهادات عن روايات تؤكد الاستطالة إلى مدد مختلفة اعتبرها الطب من قبيل النادر الممكن.
في مبدأ وكيفية حساب الأقل والأكثر لمدة الحمل ازداد الخلاف اتساعاً بسبب تطرق الاجتهاد إلى بحث أمور فنية، هي وإن كانت من مقومات الاجتهاد الفقهي، إلا أنها من العلم الحسي الذي لا يخضع لآليات التنظير الفقهي.(28/41)
المسائل الفنية هي مقدمات للحكم الشرعي باعتبار أن الحكم على الشيء فرع عن صورته، ومن ثم لا يُكتفي في تصويرها بالموروث التقليدي من المفاهيم، بل ينبغي تناولها تناولاً علمياً متجدداً يأخذ في اعتباره أحدث المستجدات في الفن موضوع المسألة، تقديراً للطبيعة التطورية للعلوم الحسية.
تقريرات الفقهاء في العلوم الحسية لا تمثل حجة شرعية في مواجهة الثوابت العلمية الواردة في إطار ضوابط وقواعد الفن المقصود، وحجة هذا الاستنتاج قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
التوجه العام لقانون الأحوال الشخصية الإماراتي الجديد 28 لسنة 2005م هو امتثال المنهجية الإسلامية في الاحتياط للنسب تشوفاً واحترازاً، فيصطبغ مسلكه بالتشوف للإثبات تجاه النسب القائم، ويصطبغ بالاحتراز إذا بدت أمارات الريبة في النسب الباطل.
تبني القانون في منهجيته الاحتياطية خطين بارزين، الأول عادي تمثل في تحديد مدة معقولة ومقبولة لأقل وأكثر الحمل، والثاني، استثنائي تمثل في تدابير استثنائية بتشكيل لجنة طبية لبحث حالات الحمل التي تجاوز المدة المعتبرة قانوناً.
عنيت المادة " 91 " من القانون 28 لسنة 2005م بتقدير المدة فقط، بينما عنيت المادة " 89 " بثبوت الفراش، والمادة " 90 " بثبوت الإمكان، فتحصل من المواد الثلاث منظومة إثباتية تحقق مقاصد الشريعة في هذا الشأن بشكل عام.
تنحصر مهمة اللجنة الطبية التي نصت عليها المادة " 91 " في الاستدلال على وجود أسباب سائغة ومتصورة وفق قواعد الفن الطبي وعلوم الاستيلاد، والتثبت من أنها أدت إلى تجاوز الحمل لحدود المدة المعتبرة قانوناً.
الاختصاص القانوني للجنة المذكورة يطال كل حالات الحمل المجاوزة بالأقل أو بالأكثر عن المدة المعتبرة قانوناً.(28/42)
حجية قرار اللجنة المذكورة في إثبات النسب في إثبات النسب لها سندها من السنة وتقريرات الفقهاء، سيما إذا روعي في تشكيلها رباعية الإثبات الشرعي في الإبضاع ومتعلقاتها.
هذا ما أمكن بحثه تفصيلاً واستنتاجه إيجازاً.
المراجع
القانون الاتحادي رقم 28 لسنة 2005م مع المذكرة الإيضاحية ص212، وانظر الحماية القانونية للجنين بين الفقه الإسلامي والقانون: مفتاح محمد قريظ، سلسلة الدراسات القانونية، مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأول 1995م، ص 62 وما بعدها.
ملتقى الأبحر: للعلامة الفقيه إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي، ومعه التعليق الميسر على ملتقى الأبحر، تحقيق ودراسة وهبي سلميان غاوجي الألباني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1409هـ - 1989م.
شرح فتح القدير مع شرح العناية على الهداية للبابرتي لمحمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1977م.
الفقه الحنفي وأدلته للشيخ أسعد محمد سعيد الصاغرجي، دار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى
1420هـ - 2000م.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي. دار المعرفة، بيروت، الطبعة السادسة، 1403هـ - 1983م.
بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ أحمد الصاوي وبهامشه الشرح الصغير للشيخ أحمد الدردير، دار الفكر، د.ت.
المهذب في فقه الإمام الشافعي لابن إسحاق الشيرازي، تحقيق د. محمد الزحيلي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م.
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: شمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415هـ - 1994م.
كشاف القناع على متن الإقناع: منصور بن يونس البهوتي، عالم الكتب، بيروت، 1983م.(28/43)
المغني: لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، تحقيق الدكتور عبدالله بن عبد الله بن عبد المحسن التركي، الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1413هـ - 1992م.
المحلى: لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت.
الاستذكار: للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر، مؤسسة النداء، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2002م.
السنن الكبرى للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م.
مصنف عبد الرزاق للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1972م.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام جلال الدين السيوطي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز هجر للدراسات والبحوث الإسلامية.
الحاوي الكبير: علي بن محمد الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، راجعه وعلق عليه هشام البخاري والشيخ خضر عكاري، مكتبة العبيكان.
الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبدالله محمد الأنصاري القرطبي.
التبيان في أقسام القرآن، شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية.
حاشية ابن عابدين: المسمى رد المحتار على الدر المختار، مصطفى بابي الحلبي.
الكليات في الطب لابن رشد، تحقيق وتعليق د. سعيد شيبان، د. عمار الطالبي، المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع الاتحاد الدولي للأكاديميات 1989م.
كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني لعلي بن خلف المنوفي المصري وبهامشه حاشية العدوى للشيخ علي الصعيدي العدوي، مطبعة المدني، الطبعة الأولى 1409هـ- 1998م.(28/44)
تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة للإمام التتائي، تحقيق ودراسة. السيد محمود عبد الرحيم مهران.
أحكام النسب في الشريعة الإسلامية: د. علي محمد يوسف المحمدي، دار قطري بن الفجاءة، الطبعة الأولى، 1994م.
موضوع النسب في الشريعة والقانون: د. أحمد حمد، دار القلم، الطبعة الأولى، 1403هـ - 1983م.
تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، مكتبة الإرشاد.
المدونة الكبرى للإمام مالك، رواية سحنون عن ابن القاسم، طبعة على نفقة الشيخ زايد بن سلطان
آل نهيان، تحقيق المستشار السيد علي الهاشمي.
الفروق لشهاب الدين القرافي، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1346هـ.
تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر العسقلاني.
كتاب تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم: لأحمد محمد بن يحيى البلدي، تحقيق د. محمود الحاج قاسم محمد.
القانون في الطب: الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن علي بن سينا، حققه إدوار القش، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر.
الحمل: د. حسان جعفر، د. غسان جعفر، الكتاب الطبي، دار المناهل.
الحمل – الولادة – العقم عند الجنسين: إعداد محمد رفعت رئيس تحرير مجلة طبيبك الخاص، اشترك في تأليفه نخبة من أساتذة كليات الطب بجمهورية مصر العربية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1984م.
رعاية الأم والطفل، نوزت حافظ، دار الفكر.
دليل مواقيت الحمل والولادة، طبقاً للتقويم النبوي الشريف وحسابات التقويم الأبدي المقارن بالتاريخيين الهجري والميلادي، الشيخ محمد كاظم حبيب.
القرار المكين: د. مأمون شقفة، دار الآداب، الشارقة، الطبعة الثانية، 1407هـ - 1987م.
تطور الجنين وصحة الحامل: د. محي الدين طالو الحلبي.(28/45)
الحيض والنفاس والحمل بين الفقه والطب، د. محمد سليمان الأشقر، دار النفائس، الطبعة الأولى 1993م.
المرأة الحامل وأسرار الحمل، محمد رفعت، دار الفكر العربي، بيروت.
الحمل اليسير: د. حمدي توفيق العليمي، سلسلة دليل المرأة الطبي، دار البشير، الطبعة الأولى.
Nelson: Textbook of pediatrics.
SENIOR EDTTOR. Waldo E. Nelson, MD.
EDDITED By: Richard E. Behraman, MD- Robert M. Kliegman, MD
Ann- M. Arvin, MD. W.B. SAUNDERS COMPANY N. 462.
ندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت عن " الإنجاب في ضوء الإسلام " 1403هـ - 1983م، وزكريا البري.
قانون الأحوال الشخصية، قانون اتحادي رقم(28) لسنة 2005م في شأن الأحوال الشخصية مع المذكرة الإيضاحية لقانون الأحوال الشخصية. جمعية الحقوقيين يناير 2006م.
فهرس المحتويات
…
المقدمة وخطة البحث 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 1
مدة الحمل في تقدير الفقهاء 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 3
الحد الأدنى لمدة الحمل عند الفقهاء 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 3
الخلاف في مبدأ العد لأقل أمد الحمل 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 5
الحد الأقصى لمدة الحمل عند الفقهاء 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 8
الخلاف في كيفية الاحتساب لأقصى الحمل 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 11(28/46)
سبب الخلاف في أقصى الحمل والاتفاق على أقله 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 11
مدة الحمل في تقدير الأطباء 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 12
المدة المعتادة للحمل وكيفية حسابها 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 12
المدة المعتادة للحمل 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 12
كيفية احتساب مدة الحمل 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 13
تجاوز الحمل مدته بالنقص وبالزيادة 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 14
الولادة قبل المدة المعتادة 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 14
الولادة بعد المدة المعتادة 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 15
موقف قانون الأحوال الشخصية الإماراتي الجديد 28 لسنة 2005م 000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 19
حاصل فقه الموضوع في ضوء الحقائق العلمية 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 19
توجه قانون الأحوال الشخصية الجديد ومرتكزاته في تقدير مدة الحمل 000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 21(28/47)
الاحتياط للنسب في فلسفة القانون 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 21
النص المعنى بتقدير مدة الحمل من القانون: المادة " 91 " 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 22
النصوص الأخرى ذات الصلة بمدة الحمل 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 22
درجات الاحتياط التي تبناها القانون الجديد 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 23
الاحتياط العادي 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 23
الاحتياط الاستثنائي 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 24
اللجنة الطبية ومهمتها 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 25
النطاق القانوني لاختصاص اللجنة الطبية 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 25
حجية قرار اللجنة الطبية 000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 26
الشروط القانونية المتطلبة في اللجنة الطبية 00000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 26
خاتمة بأهم نتائج البحث 0000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000000 ... 28(28/48)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين
إعداد
د.عبد الرحمن بن أحمد الجرعي
أستاذ مشارك بقسم الفقه
كلية الشريعة -جامعة الملك خالد
أبها – المملكة العربية السعودية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .... وبعد
فهذا بحث عن التقنين لأحكام الشريعة , حاولت فيه استيفاء أهم الجوانب المتعلقة بقضية التقنين باعتبارها من قضايا الساعة التي تطرح , ولابد من توضيح الأمر فيها وعرض وجهات نظر المانعين والمجيزين , وحرصت في هذا البحث على جمع المتشابه من الأدلة , وصياغة بعضها بأسلوب سهل .
أسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير, وقد رأيت تقسيم البحث إلى فصول :
الفصل الأول : تعريف التقنين لغة واصطلاحا .
الفصل الثاني : في تاريخ التقنين .
الفصل الثالث : حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به .
الفصل الرابع : المانعون للتقنين وأدلتهم .
الفصل الخامس : المجيزون للتقنين وأدلتهم .
الفصل السادس : الرأي المختار , والتوصيات .
ثم فهرس المصادر والمراجع , وفهرس الموضوعات .
وقبل الدخول في فصول هذا البحث أود أن أؤكد على النقاط الآتية :
قضية التقنين من القضايا الاجتهادية , التي يسوغ فيها الخلاف . وبالتالي فلا إنكار على أي من الفريقين المختلفين طبقاً لما قرره علماؤنا من أن المسائل الاجتهادية لا إنكار فيها على أحد من المختلفين .
أن قضية التقنين ليست وليدة الساعة , وليس بحثها وتوضيح القول فيها بدعاً من القول , فقد عرضت هذه القضية على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية عام 1393 هـ لبحثها وإعطاء الرأي فيها , وخرجت اللجنة بقرار أغلبي خالف فيه جمع من العلماء , ورأوا جواز التقنين . ( أ )(29/1)
أن ما أستجد في هذا الوقت من توسع المحاكم , وزيادة عدد القضاة , بالإضافة إلى كثرة الحوادث وتشعّبها , وضعف الملكة العلمية عند كثير من طلاب العلم في الكليات الشرعية التي تخرج القضاة بالإضافة إلى انفتاح مجتمعنا على بقية المجتمعات العالمية خاصة مع قرب انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية ومطالبة الآخرين لنا بنظام قضائي واضح ومحدد . كما أن أنظمتهم واضحة ومحددة . كل ذلك يتطلب منا – في نظري –إعادة النظر في حكم التقنين . والله أعلم .
الفصل الأول
تعريف التقنين
أولا: التقنين لغة : مصدر " قنن " بمعنى " وضع القوانين " وهي كلمة مولدة ( أي غير عربية الأصل ) , والقانون " مقياس كل شيء وطريقة " . ( 1 )
ثانيا: التقنين اصطلاحا : هو :صياغة الأحكام في صورة مواد قانونية مرتبة مرقمة ، على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية . . . الخ . وذلك لتكون مرجعا سهلا محددا ، يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة ، ويرجع إليه المحامون ، ويتعامل على أساسه المواطنون. ( 2 )
وعرفه الدكتور وهبة الزحيلي بأنه : " صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات ممهدة لها , جامعة لإطارها , في صورة مواد قانونية , يسهل الرجوع إليها " . ( 3 )
وعرفه بعض الباحثين بأنه : صياغة الأحكام الفقهية ذات الموضوع الواحد التي لم يترك تطبيقها لاختيار الناس , بعبارات آمرة يميز بينها بأرقام متسلسلة ومرتبة ترتيبا منطقيا بعيدا عن التكرار والتضارب
وهذا التعريف احتوى على العناصر التالية للتقنين :
الصياغة : وهي ميزة التقنين عن الفقه المدون .
الترتيب والترقيم : وهي ميزة أخرى تجعل الرجوع للأحكام سهلا .
قوله :الآمرة : للتمييز بين مجرد بيان الأحكام , والإلزام بها، وهو من طبيعة القوانين .
لم يترك تطبيقها لاختيار الناس أما إذا امتنعوا فإنها غير متروكة لهم بل تدخل في جوانب أخرى في ذلك كالعقوبات.(29/2)
ذات الموضوع الواحد : لان القوانين عادة تفصل بين كل موضوع وآخر ولا يمنع ذلك أن تكون مجموع هذه المواضيع تمثل تقنين الفقه الإسلامي . ( 4 )
ومن هنا يتبين أن صياغة المسائل الفقهية في مواد كالمواد القانوني أي ] تدوين الأحكام [ لا يسمى تقنينا على الصحيح , ولا يعدو هذا النوع من التأليف أن يكون مؤلفا من المؤلفات ومرجعا من المراجع . ( 5 )
الفصل الثاني
في تاريخ التقنين
يرى بعض الباحثين أن مبدأ فكرة جمع الناس على رأي واحد في القضاء وهو خلاصة (فكرة التقنين ) قد جاءت من قبل عبدالله بن المقفع ( 1) الأديب المشهور , في رسالته الموجهة إلى أمير المؤمنين في عصره (2) وعلى فرض ثبوت ذلك , فلا يظهر لي أن ذلك مطعن ترد به الفكرة , فالحكمة ضالة المؤمن , فإذا ثبت صلاحية الرأي قُبل وإن جاء به الكافر أو الفاجر كما قال معاذ ابن جبل رضي لله عنه " أن المنافق قد يقول كلمة الحق , فاقبلوا الحق , فإن على الحق نوراً " . ( 3 )
كما أن فكرة إلزام الناس بالتقاضي على رأي واحد قد رويت في لقاء الإمام مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور , والمهدي , وهارون الرشيد , وقد أراد المنصور أن يلزم الناس بكتاب الموطأ - وهو للإمام مالك – ولا يتعدوه إلى غيره فأبى الإمام مالك ذلك . ( 4 )
وقد ظهرت محاولات عديدة لتقنين الفقه الإسلامي في القرنين الماضيين منها ( الفتاوى الهندية ) لجماعة من علماء الهند , لتقنين العبادات والعقوبات والمعاملات , ومجلة ( الأحكام العدلية ) التي تضمنت جملة من أحكام : البيوع , والدعاوى , والقضاء وصدرت هذه المجلة عام 1869 م , واحتوت على 1851 مادة أستمد أغلبها من الفقه الحنفي وقد ظلت هذه المجلة مطبقة في أكثر البلاد العربية إلى أوساط القرن ا العشرين. ( 5 )
وكان من البواعث على تأليف مجلة الأحكام العدلية ما يلي :
اتساع المعاملات التجارية وازدياد الاتصالات بالعالم الخارجي .(29/3)
وجود قضاة في المحاكم النظامية ومجالس تمييز الحقوق لا اطلاع لهم على علم الفقه وأحكامه , فكان تقنين الأحكام ليسهل عليهم الإطلاع عليها . ( 6 )
وقد عُني الفقهاء والباحثون بالمجلة وشرحوها , كما كان الفقهاء القدامى يشرحون المتون الشرعية , متبعين في شروحهم ترتيب المجلة لا الترتيب الفقهي .
ومن مشروعات القوانين المستمدة من الشريعة والتي قام عليه أفراد , وان لم يصدر بتطبيقها قرارات رسمية ما يلي :
مشروعات القوانين التي وضعها محمد قدري باشا حيث وضع ثلاثة مشاريع قوانين هي :
مرشد الحيران إلى معرفة حقوق الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان , وتضمنّ 1045 مادة .
الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة النعمان , وشرحه محمد زيد الأبياني في ثلاثة مجلدات .
قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف ويتكون من 646 مادة , وطبعته وزارة المعارف المصرية في المطبعة الأهلية سنة 1893 م وتوجد منه نسخة في مكتبة الرشيد نعمان تحمل الرقم المتسلسل 11330 . ( 7 )
مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل , لأحمد بن عبدالله القاري المتوفى سنة 1309هـ (8 ) رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة سابقاً , وقد اقتصرت فيها على المذهب الحنبلي من خلال كتبه المعتمدة , واحتوت المجلة على 2382 مادة وقد نسج القاري كتابه هذا على منوال مجلة الأحكام العدلية . (9 )
" ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب مالك " لمحمد محمد عامر , وقد وضعه على صورة مواد قانونية . (10)
- وهناك مشروعات قوانين استمدت من الفقه الإسلامي وقامت عليها جهات رسمية . (11)(29/4)
ومنها : ما قام به مجمع البحوث الإسلامية في مصر حيث أصدر مشروعاً متكاملاً لتقنين المعاملات على المذاهب الأربعة : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي , في ستة عشر جزءاً صغيراً , قرنت فيه كل مادة بتذييل توضيحي يبين المراد منها , ولكل مذهب أربعة أجزاء (12)
الفصل الثالث
إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به
التقنين في حقيقته إلزام القاضي بالقضاء بأحكام معينة لا يتجاوزها مهما خالفها اجتهاده لو كان مجتهداً .
وقد تكلم الفقهاء الأقدمون – رحمهم الله – عن حكم مسألة هي أصل لمسألة التقنين وهي :
حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به ولهم قولان في ذلك كما يلي :
القول الأول : لا يجوز إلزام القاضي بالحكم بمذهب معين , وأشتراطه على القاضي باطل غير ملزم . وهو قول عند المالكية ( 1 ) , والراجح عند الشافعية ( 2 ) وبه قال الحنابلة ( 3 ) , وقال ابن قدامة "لا أعلم فيه خلافاً" . ( 4 )
الأدلة :
قول الله تعالى { فأحكم بين الناس بالحق } ] سورة ص : 26 [ والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب ( 5 ) وإذا ظهر له الحق وجب عليه العمل به .
الإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه : حيث صرح به غير واحد من السلف ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كما في مجموع الفتاوى 35 / 357 , 360 , 365 , 372 , 373 , والمجلد 27 / 296 –298 والمجلد 30 / 079 ( 6 ) .
أنه ليس لمن ولى أمراً من أمور المسلمين منع الناس من التعامل بما يسوغ فيه الاجتهاد , ( 7 ) ولهذا لما أستشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه .
القول الثاني : يجوز الإلزام بالحكم بمذهب معين ويصح اشتراط الحاكم على القاضي أن يقضي به .
وإلى هذا القول ذهب الحنفية ( 8 ) وهو قول عند المالكية (9 ) وبه قال السبكي وغيره من الشافعية . (10)
وأستدل أصحاب هذا القول بما يلي :(29/5)
أن إلزام القاضي بمذهب معين لا يتجاوزه فيه مصلحة فإذا رأى الحاكم وجود هذه المصلحة جاز له الإلزام . ( 11 )
أن القاضي مفوض إليه القضاء على مذهب معين فليس له أن يتجاوزه إلى غيره حتى وإن خالفه اجتهاده لأن التولية لم تشمله . ( 12 ) فكأن القاضي هنا بمثابة الوكيل أو النائب عن الحاكم .
أما الترجيح في هذه المسألة فسوف أتركه حتى الانتهاء من أدلة المانعين والمجيزين للتقنين , حتى تتضح الأدلة كاملة , إذ أن مسألة التقنين فرع عن هذه المسألة كما ذُكر آنفا. والله أعلم
وأشير هنا إلى أن بعض أئمة الشافعية قد نقلوا إجماع المحققين على عدم جواز تقليد غير الأئمة الأربعة . ( 13 ) *
غير أن هذا القول ليس على إطلاقه , لأن تلاميذ الأئمة الأربعة قد رجحوا أموراً غير التي رجحها إمامهم وذلك لظهور دليل آخر , أو لمفتي شرعي أوجب ذلك , ولو قالوا في النقل السابق ( المذاهب ) بدل ( الأئمة ) لكان أقرب إلى الصواب , لأن في مذاهب الفقهاء أقوالاً متعددة لا يتسع المجال للبحث فيها وترجيح أحدها وفق الدليل . ( 14 ) *
الفصل الرابع
المانعون للتقنين وأدلتهم
قال بالمنع طائفة من المعاصرين ومنهم الشيخ : محمد الأمين الشنقيطي , والشيخ بكر أبو زيد , والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام .
حيث نقل الشيخ بكر أبو زيد عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كلاماً طويلا له في مخاطر التدوين ( التقنين ) ، وأما الشيخ بكر فله بحث منشور ضمن كتابه فقه النوازل وعنوان بحثه ( التقنين والإلزام ) .
والشيخ البسام – رحمه الله - له رسالة بعنوان ( تقنين الشريعة أضراره ومفاسده ) . ( 1 )
وممن قال بالمنع كذلك : هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حيث تناولت موضوع التقنين تحت عنوان ( تدوين الراجح من أقوال الفقهاء ) , وقسمته إلى جزئين , الأول حول التدوين , والثاني حول اللزوم ( 2 ) . وصدر قرارها بالأغلبية بالمنع من التقنين .
أهم أدلة القائلين بمنع التقنين :(29/6)
الآيات التي توجب الحكم بما أنزل الله ومنها قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } ] النساء : 105 [ وقوله تعالى : { فأحكم بين الناس بالحق } ] ص :26 [ , فهاتان الآيتان تأمران بالحكم بما أنزل الله وهو الحق , والحق لا يتعين بالراجح من أقوال الفقهاء , لأنه راجح في نظر واضعيه دون سواهم فلا يصح الالتزام به ولا اشتراطه على القضاة عند توليتهم ولا بعدها ( 3 ) ومن الآيات كذلك قوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } ] الشورى : 10 [ وقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ] النساء : 59 [ ووجه الاستدلال بهاتين الآيتين : أن الواجب هو الرجوع إلى حكم الله ورسوله , ولا يتعين حكم الله ورسوله في مذهب معين أو رأي معين ولا في قول مرجح والحكم بالرأي الراجح حكم بغير ما يعتقد القاضي أنه حكم الله ورسوله فهو حرام ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين . ( 4 )
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيات السابقة أنها عامة , وليست في موضوع الإلزام , ويصعب القول بأن ما يختاره العلماء من الأقوال الراجحة – هو خلاف الحق , أو أننا إذا رجعنا إلى قولهم فإننا نرجع إلى غير كتاب الله وسنة رسوله . فمن أين أخذ هؤلاء إذن , صحيح أن المجتهد يجب عليه أن يعمل بما يؤدى إليه اجتهاده , لكن مخالفته لاجتهاده شيء , خاصة إذا كانت المخالفة لمصلحة , وأتباعه للباطل شيء آخر .
" قوله صلى الله عليه وسلم : " القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار, فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به , ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار , ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " ( 5 )(29/7)
ووجه الاستدلال به : أن الحكم المانع من الإثم هو الذي يرى القاضي أنه الحق والرأي الراجح المدون ليس بالضرورة هو رأي الحق في نظر القاضي فإن قضى بخلاف ما عرف أنه الحق أثم ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين . ( 6 )
ويجاب عن هذا الاستدلال بما أجيب به عن الاستدلال السابق .
الإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه . كما نُقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 ) وغيره .
ويجاب عنه : بأن هذا الإجماع غير مسلّم , لأنه قد وجد من العلماء من قال بخلافه ( 8 ) ثم إن القول بالمنع من الإلزام بقول واحد قول صحيح لو كان جميع القضاة من المجتهدين , أما وقد علمنا أن العدد المطلوب تعينه من القضاة للفصل بين خصومات الناس يلزم تعيين من لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد – وهم كثير – فيصبح تعينهم جائز للضرورة أو الحاجة , وبالتالي فإن إلزامهم بقول واحد في هذه الحالة أمر سائغ . ( 9 )
أن تدوين القول الراجح والإلزام به مخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين ومن بعدهم من السلف الصالح , وعُرضت هذه الفكرة من قبل إلى جعفر المنصور على الإمام مالك فردها وبين فسادها ولا خير في شيء أُعتبر في عهد السلف من المحدثات . ( 10 )
ويمكن أن يجاب عن هذا : أن عدم وجود هذه الفكرة عند السلف لا يعني منعها , فلعل دواعيها لم توجد , ورأى الإمام مالك رحمه الله قد خالفه فيه غيره , ولو لم يخالفه غيره أليس قوله بمجردة حجه .
أن الصياغة للأحكام الفقهية بأسلوب معين سواء كان من قبل أفراد أو لجان فإنها ستتأثر ببشريتهم , ونسبتها إلى الله ليست دقيقة , بينما صياغة نصوص الشرع ربانية معجزة و يمكن نسبتها إلى الله فيقال أحكام الله تعالى . ( 11 )
ويجاب عن هذا : بأن التقنين مثله مثل الفقه فهو لا يخرج عن صياغة فقهيه لا أكثر , وما بقي من ترتيب , ووضع أرقام متسلسلة فهو أمر شكلي يسهل الرجوع للأحكام ولا يؤثر في مضمونها . ( 12 )(29/8)
التقنين ( التدوين ) لا يرفع الخلاف في الآراء , وهو من أهم مبررات التقنين , وهذا ما أثبتته تجربة الدول التي دونت الأحكام المعمول بها , حيث يختلف القضاة في تفسير النصوص . ( 13 ) ويجاب عنه : بالتسليم بما ذكروه , لكن التقنين يحُد من الاختلاف , وإن لم يرفعه , وهذا هو المطلوب .( 14 )
أثر التقنين ( التدوين ) على حركة الفقه عامة , وعلى القضاة خاصة , حيث يؤدي إلى تعطيل الثروة الفقهية , لأن عمل القضاة سيرتبط بهذه القوانين شرحا وتفسيرا مما يعطل التعامل مع كتب الفقه , ويحجر على القضاة , ويوقف حركة الاجتهاد , والنشاط الفكري , لتلبية مطالب الحياة المتغيرة , ومواجهة الأنظمة والأعراف والمعاملات المتجددة . ( 15 )
وأُجيب عن هذا : بأن التقنين ليس فيه حجر كبير على القضاة لأن تدوين الفقه لا يمنع الاجتهاد , والحياة تولد من المستجدات مما يعطي القاضي المجتهد مجالا واسعا في تبني أحكام جديدة لها , ويكفيه أن يجتهد في ملابسات القضية المعروضة عليه , ويعينه على الاجتهاد في القضايا الأخرى اللجان المختصة لوضع القوانين , كما أن للأحكام المقننة مذكرات إيضاحية وشروح ولا يستغني واضعو هذه المذكرات والشروح عن كتب الفقه .(16)
ويظهر لي والله أعلم : أن التقنين فيه كثير من التضييق على القضاة المجتهدين , وتأطير لهم ليكون عملهم ضمن مواد التقنين , لكن إنزال هذه المواد على القضايا المعروضة عليه , فيه نوع اجتهاد ، مع ملاحظة قلة المجتهدين في قضاة اليوم . والله المستعان .
لكن يلاحظ هنا أن التقنين ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به
, مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد , فإن الجهة المختصة به إداريا
ستعير اجتهاده ما يستحقه . (17 )(29/9)
أن كلمة ( تقنين ) يخشى منها أن تكون طريقا لإحلال القوانين الوضعية مكان الشريعة الإسلامية فيكون التشابه في الاسم أولا , ثم المضمون ثانيا , عياذا بالله . فمنع هذه التسمية واجب من باب الحذر . (18)
ويجاب : بأن هذه التسمية ( كالتقنين ) ونحوه , مواصفات واصطلاحات المراد منها مفهوم ومعلوم للجميع , ولامشاحة في الاصطلاح , والتخوف من المصطلح لإشكاليته أو مشاكلته يمكن أن يحل بإيجاد مصطلح مناسب .
وما يذكر من أن التقنين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية والاستدلال بعمل بعض الدول التي دونت الراجح من أقوال المذهب الذي تنتسب إليه في مواد , ثم ألزمت بالعمل به في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا . فهذا مردود بأن تلك الدولة لم يقتصر تنكرها للدين على السلك القضائي في المحاكم , وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا , وانتقلت إلى دولة علمانية , وكثير من الدول الإسلامية لم يكن القضاء عندها مقننا بل كانت تحكم بالراجح من مذهب إمام من أئمة المسلمين فكان منها عياذا بالله أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية وأخذت بقوانين أوربا , فليس التدوين ( التقنين ) وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه . (19 )
أن الأحكام الشرعية المدونة ( المقننة ) إذا ما عدّلت وهذا من طبيعة كل عمل بشري – فإنه يؤدي إلى زعزعة الثقة بأحكام الشريعة الإسلامية , وكثرة التعديلات التي تجرى على القوانين تبعدها عن أصلها الشرعي كما هو مشاهد في قوانين الأحوال الشخصية . (20 )
وأجيب عن هذا : بأن القاضي غير ملزم بالبقاء على اجتهاده الأول إذا صح لديه الدليل باجتهاده الجديد , ومنعه – في هذه الحالة – يؤدي إلى المنع من الأخذ بالدليل , ولا يقول به أحد , كما أن القول بعدم تعديل القوانين إذا ظهرت المصلحة في تعديلها , بناقض بناء الإسلام على رعاية مصالح الناس , وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان . (21 )
الفصل الخامس
المجيزون للتقنين وأدلتهم(29/10)
أجاز التقنين جمهور الفقهاء المعاصرين , ومنهم بعض أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية , كما تبين ذلك في وجهة نظر المتحفظين على قرار الهيئة بمنع تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وهم : الشيخ صالح بن غصون , والشيخ عبدالمجيد بن حسن , والشيخ عبدالله خياط , والشيخ عبدالله بن منيع والشيخ محمد بن جبير , والشيخ راشد بن خنين ( 1 ) , وممن يرى الجواز كذلك من أعضاء هيئة كبار العلماء : الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد ( 2 ) , ومن المجيزين للتقنين كذلك : الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ ( 3 ) , والدكتور عبدالرحمن القاسم حيث كتب فيه بحثا واسعا خلص فيه إلى جواز التقنين وضرورته . ( 4 )
ومن مشاهير المعاصرين الذين رأوا جواز التقنين : الشيخ محمد عبده ( 5 ) والشيخ محمد رشيد رضا ( 6 ) والشيخ أحمد شاكر ( 7 ) والشيخ محمد أبو زهرة ( 8 ) والشيخ مصطفى الزرقا ( 9 ) والشيخ علي الطنطاوي ( 10 ) والدكتور هبة الزحيلي ( 11 ) والدكتور يوسف القرضاوي ( 12 ) والشيخ محمد بن الحسن الحجوي صاحب كتاب الفكر السامي . ( 13 )
الأدلة :
استدل القائلون بجواز التقنين بأدلة أهمها ما يلي :
أن فكرة التقنين وهي إثبات الراجح من أقوال أهل العلم وتدوينها في كتاب ليست جديده , بل كانت موضع بحث وإثارة منذ أكثر من عشرة قرون , ومن آخرها ما فكر فيه الملك عبد العزيز رحمه الله من وضع مجلة للأحكام الشرعية يعهد فيها إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصين باستنباط الأحكام الشرعية من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة على غرار مجلة الأحكام العدلية , إلا أنها تختلف عنها في عدم التقيد في الاستنباط بمذهب دون آخر بل تأخذ بما تراه في صالح الإسلام والمسلمين بحسب قوة الدليل . ( 14 )(29/11)
إن فكرة التقنين كانت موضع التنفيذ في صورة الإلزام بالحكم بمذهب إمام بعينه في أماكن كثيرة من البلاد الإسلامية ولا يزال العمل بهذا جاريا في بعض البلاد . ( 15 )
ومن ذلك ما صدر به قرار الهيئة القضائية رقم ( 3 ) في 17 / 1 / 1347 هـ المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24 / 3 / 1347 هـ بما يأتي :
أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل نظراً لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله .
إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفه لمصلحة العموم يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر .
يكون إعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية :
شرح المنتهى .
شرح الإقناع .
فما اتفقا عليه أو انفردا به أحدهما فهو المتبع وما اختلفا فيه فالعمل على ما في المنتهي وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي الزاد أو الدليل إلى أن يحصل بها الشرحان وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح ( 16 ) .
ويمكن أن يلاحظ – من النص السابق لقرار الهيئة – ما يلي :
أن الأصل هو الإلزام بالقضاء على وفق المذهب الحنبلي .
أنه لا يصار إلى خلاف المذهب إلا عن وجود المشقة ومخالفة المصلحة العموم .
أن مراجعة كتب الفقه الحنبلي سهلة , وهذا صحيح , لكن هذه الخصلة ليست خاصة بالمذهب الحنبلي بل أن الصياغة القانونية للمواد تجعل مراجعة الأحكام أسهل من بقية كتب المذاهب الفقهية , وكذلك فإن ذكر الأدلة عقب المسائل ليست خاصة بالمذهب الحنبلي . ( 17 )(29/12)
الأدلة الدالة على طاعة ولي الأمر ( 18 ) ومنها قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ] النساء : 59 [ .
قال الشيخ محمد رشيد رضا "وفوض القرآن فيما يحتاج إليه من أمور الدنيا السياسية والقضائية والإدارية إلى أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة بقوله : { وأمرهم شورى بينهم } وقوله { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ] النساء : 83 [ ولهذا أمر بطاعة هؤلاء الذين سماهم أولي الأمر وهم أهل الشورى في الآية الأخرى فقال : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } , فهذا ما جاء به الإسلام , وهو هداية تامة كاملة لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها , مرتقية في سياستها وأحكامها , يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان , ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة , ويلزم القضاة والحكّام بإتباعها والحكم بها" . ( 19 )
ويستدل المجيزون للتقنين كذلك بالأحاديث الواردة لطاعة ولي الأمر لقوله صلى الله عليه وسلم ( السمع والطاعة على المرء فيما أحب أو كره , إلا أن يأمر بمعصية , فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) . ( 20 ) فإذا أمر الإمام بالتقنين به , لدخوله تحت طاعته .
ويجاب عن هذا الاستدلال عموماً :
بأن طاعة ولي الأمر فيما لا معصية فيه مما لا ينازع فيه , لكن الشأن في النظر للتقنين هل هو سائغ ويحقق مصلحة للأمة كما يراه المجيزون , أو هو محرم وبالتالي فهو معصية ليس لولي الأمر أن يأمر بتنفيذها , كما يراه المانعون للتقنين .
أن القضاة هم بمثابة الوكلاء عن الإمام وهم نواب له , لأنهم صاروا قضاة بإذنه , و الوكيل مقيد بشروط موكله فلا يخرج عن حدودها , فإذا ألزمه بالقضاء على مذهب معين , أو بالتقنين , وجب عليه التقيد بذلك . (21)(29/13)
أن الإجماع يكاد يكون منعقدا على أن من توفرت فيه شروط الاجتهاد من القضاة لا يجوز إلزامه بالحكم بمذهب معين أما إذا كان القاضي مقلد , كما هو حال أكثر قضاة اليوم , فأقوال الفقهاء صريحة بأن إلزام هؤلاء بالحكم بمذهب معين أمر سائغ , ومن لا يرى هذا الإلزام من الفقهاء إنما يمنعونه لأنهم لا يرون توليه القضاة غير المجتهدين , وهذا فيه من الحرج مالا يعلمه إلا الله , فلم يبق إلا الإلزام بمذهب معين , لهؤلاء القضاة غير المجتهدين . (22 )
ويمكن أن يجاب عن هذا : بأن الاجتهاد يتجزأ كما قرره بعض المحققين من أهل العلم (24) وبالتالي فإذا كان لدى القاضي القدرة على الإحاطة بالباب أو المسألة بتصورها , وأقوالها وأدلتها , وكان لديه معرفة حسنة بأصول الفقه , فلا مانع من اجتهاده في هذه القضية . والله أعلم
حاجة المستجدات إلى حكم شرعي يتم بالنص عليها في التقنين , وتركها لاجتهاد القضاة ليس من الحكمة لكثرة مشاغلهم, وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل مستجد , وخصوصا مع تطور الحياة , وكثرة المستجد فيها .
ومن الأمثلة على ذلك : المعاملات المصرفية ومسائل المقاولات , والمناقصات , وشروط الجزاء , ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه ونحو ذلك , مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها , مما كان سبباً في إيجاد محاكم أخرى , لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية , وفي اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين , وذلك كمحاكم الرشوة , وفض المنازعات التجارية . ( 25)
أن ترك القضاة يحكمون بما يصل إليه اجتهادهم يؤدي إلى فوضى واختلاف في الأحكام للقضية الواحدة . (26)
بل وقع هذا الاختلاف أحيانا بين محكمتي التمييز في الرياض ومكة المكرمة . ( 27)(29/14)
وربما أحدث ذلك بلبلة واضطراباً , وأهدر الثقة بالمحكم الشرعية ففي التقنين توحيد للأحكام في الدولة ببيان الراجح الذي يحكم به . (28)
أن منع الجائز لدى بعض أهل العلم قد يترتب عليه حصول مفسده , ويخشى أن في الإبقاء على الوضع القائم – وهو عدم التقنين – ما يدعو إلى مالا تحمد عقباه , وفي التاريخ من ذلك عبر , فالمبادرة إلى وضع تدوين للأحكام الشرعية أمر مطلوب .
وأقدر البلاد على ذلك هي المملكة العربية السعودية , بحكم تطبيقها للشريعة الإسلامية , وانتشار الثقافة الشرعية الإسلامية بين أبنائها , حتى يكون عملها نموذجا يحتذى به . (29)
التقنين يمنع التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم مستقلة عن الجهة الإدارية للقضاء كمحاكم الرشوة والتزوير , ومكافحة المخدرات , وفض المنازعات التجارية ونحوها , مما هو موجود أو في طريقه للوجود , مما كان له أثره في تفتيت الوحدة القضائية , وتقلص اختصاص المحاكم الشرعية . (29)
أن التقنين لا يخلو من مفاسد , لكن المصالح العامة التي يحققها التقنين والتي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفظ – كما مر في أدلة هذا القول – كل ذلك يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ تطبيقا للقاعدة القائلة "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما" (30)(31)
الفصل السادس
الرأي المختار
بعد أن ذكرت القولين بمنع التقنين وجوازه , وذكرت الأدلة ، يظهر لي- والله أعلم – اختيار القول الثاني ومفاده : جواز التقنين وذلك لما يلي :
وجاهة أكثر الأدلة والتعليلات التي استدلوا بها .
الإجابة عن أكثر أدلة القائلين بمنع التقنين(29/15)
ما استجد في واقعنا المعاصر من ظروف تقتضي إعادة النظر في النظام القضائي , ليكون هذا النظام أكثر ضبطاً , ووضوحا بالنسبة للقاضي أو المتقاضي , وكذلك فإن احتكاك بلدنا ببقة بلدان العالم وخاصة مع الانفتاح العالمي على غيرنا , مما يستدعي كتابة المواد التي يتقاضى إليها . خاصة وأن غيرنا سيطالبنا بها , إذا أردنا أن نقاضيه إلى شرعنا , فلا يمكن أن نحيله إلى مجموعة من كتب الفقه المذهبي أو المقارن .
فإن لم يوجد شيء مقنن ومرتب , فإما أن تفوت علينا مصالح لا نستغني عنها , وإما أن نتحاكم إلى قوانين ليس لها علاقة بالشريعة الإسلامية .
والتقنين وإن لم يسلم من المؤاخذات , إلا أن الأخذ به في هذا الوقت من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما .
لكنني أرى أن التقنين يستلزم الانفتاح على المذاهب الفقهية المعتبرة وآراء المفتين من الصحابة والتابعين , وأخذ أفضل ما في كل منهما في كل مسألة بعد النظر والتمحيص في ضوء الأدلة وقواعد الاستنباط , إذ لا يوجد مذهب واحد يحتوي على الراجح في كل مسألة .
ولعل في هذا المسلك ما يدفع لزيادة الاهتمام بدراسة الفقه المقارن في الجامعات الإسلامية وفي كليات القانون , وإلى خدمة فقه المذاهب بمؤلفات جديدة تخرجه من التعقيد الوعر الذي يشاهد في كتب المذاهب , إلى التعقيد والتبسيط . ( 1 )
وهذه بعض الاقتراحات بشأن تطبيق التقنين :
1. أرى المبادرة إلى تقنين الأحكام الشرعية للقضاء خاصة , ومن أقدر البلاد على ذلك المملكة العربية السعودية – كما قاله الدكتور وهبة الزحيلي – وذلك لأنها تطبق الشريعة الإسلامية , وهي أساس الحكم فيها . وأيضا لانتشار العلم الشرعي بين أبناءها . ( 2 )
وكذلك وجود الجامعات التي تحوي كليات الشريعة المتعددة بما فيها من علماء وأساتذة وباحثين .
وبذلك يكون عمل التقنين الذي تتولاه المملكة نموذجا يحتذى به في العالم الإسلامي .(29/16)
أرى أن تشكل لجنة عليا في الدولة , مرتبطة بأعلى المسؤولين , لصياغة مواد التقنين , وهذا يتطلب عددا وافر ا من العلماء , وأساتذة الجامعات من الأقسام الشرعية والقانونية , وكذلك من الباحثين .
ينبغي الاستفادة من التجارب السابقة للتقنين حتى تلك التجارب التي لم يكتب لها أن ترى النور إلى التطبيق , فإن المعرفة تراكمية , مع ملاحظة تجنب السلبيات التي حفلت بها تلك التجارب .
عند كتابة مادة التقنين تبحث المسألة من قبل القائمين على كتابة المواد وتستعرض الأدلة وأقوال العلماء فيها , ويختار القول الراجح بناء على قواعد الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه دون الالتزام بمذهب معين وعند الاختلاف يؤخذ بالأغلبية كما هو الحال في قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية , ثم تصاغ المادة بناء على القول الراجح , ويشارك القانونيون , في هذه الصياغة , خوفا من الالتباس أو سوء التفسير , وتستخدم الألفاظ الشرعية قدر الإمكان .
يوضع لمواد التقنين مذكرات توضيحية , تفصل الحالات وتذكر الاحترازات , وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل . على نفس الطريقة التي أتبعت في كتابة المواد .
يجب أن تخضع مواد التقنين للمراجعة بعد مرور وقت كافٍ , يؤخذ فيه رأي القضاة , وأهل العلم الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في المواد التي قيدت , وكذلك المحامون والمهتمون بشأن القانون عموما .
والله أسأل التوفيق والسداد للجميع إنه على كل شيء قدير .
………… الخاتمة
أهم النتائج التي توصل إليها البحث :
أن فكرة التقنين ( تدوين الأحكام الشرعية والإلزام بها ) فكرة قديمة , وجرى الخلاف فيها بين فقهاء المسلمين .
جمهور الفقهاء المعاصرين يرون جواز التقنين أبرز سلبياته في نظر الباحث : إلزام المجتهدين من القضاة بقول لا يعتقدونه , وإضعاف ملكة البحث والاجتهاد عن القضاة وقد أجيب في البحث عن وجه النظر تجاه هاتين السلبيتين .(29/17)
ترجح للباحث القول بجواز التقنين رغم بعض سلبياته , تغليبا لمصالحه الراجحة .
تضمن البحث بعض الاقتراحات التي يرى الباحث الأخذ بها ليتحقق المقصد الشرعي من التقنين .
والله أسأل أن يأخذ بأيدينا إلى الصواب , فهو ولي ذلك وإليه المرجع والمآب .
***
هوامش البحث
المقدمة :
أنظر : حمدي : محمد بن محمد , المتون الفقهية وصلتها بتقنين الفقه ص 475 , دار البلاد للطباعة والنشر . وبحث تدوين الراجح من أقوال الفقهاء ،منشور ضمن مجلة البحوث الإسلامية ،العدد 33، ص 52
الفصل الأول :
مصطفى : إبراهيم وزملاؤه , المعجم الوسيط , مادة قنن , 2 / 769 .
انظر: القرضاوي : يوسف، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ص 297، مكتبة وهبة- القاهرة
الزحيلي , وهبة , جهود التقنين الفقه الإسلامي , ص 26 , مؤسسة الرسالة -بيروت.
المحاميد , شويش , مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر , ص 437 , دار عمار – عمان – الأردن .
انظر : ابن حميد : صالح , الجامع في فقه النوازل , ص 101 , مكتبة العبيكان , الرياض .
الفصل الثاني :
انظر ترجمته في : ابن حجر , لسان الميزان 3 / 366 , منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت .
أمين: أحمد ،ضحى الإسلام ،1/209، 110 ، دار الكتاب العربي - بيروت . أبو زيد : بكر , فقه النوازل 1 / 17 , مؤسسة الرسالة - بيروت
الأصبهاني : أبو نعيم , حلية الأولياء , 1/232،دار الفكر-بيروت
الذهبي :شمس الدين ،سير أعلام النبلاء، 8/78، مؤسسة الرسالة.
الزحيلي , وهبه , جهود تقنين الفقه الإسلامي ص 23 . والمحاميد : مسيرة الفقه الإسلامي ص 464 .
انظر: سليم الباز , شرح المجلة ص 10 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت . المحاميد : مسيرة الفقه الإسلامي ص 464 .
المحاميد , مسيرة الفقه الإسلامي , ص 459 , 460 .
دراسة وتحقيق د. عبدالوهاب أبو سليمان , و الدكتور : محمد إبراهيم محمد علي , مطبوعات تهامة , الطبعة الأولى 1401 هـ , 1981 م .(29/18)
انظر : القارئ : أحمد بن عبدالله مجلة , الأحكام الشرعية , مقدمة التحقيق , ص 30 , 31 .
مسيرة الفقه الإسلامي , ص 460 .
انظر في تفصيلها : المرجع السابق ص 454 وما بعدها .
انظر : الزحيلي , جهود تقنين الفقه الإسلامي , ص 32 .
الفصل الثالث :
انظر : الحطاب : مواهب الجليل 6 / 93 , 98 . دار الفكر ـ بيروت . والدسوقي : الحاشية على الشرح الكبير 4 / 130 .دار إحياء الكتب العلمية بمصر
انظر الشيرازي , المهذب 2 / 291 . مطبعة عيسى الحلبي ـ مصر , و الهيثمي تحفة المحتاج10/116، دار إحياء التراث العربي-بيروت .
انظر : ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، جمع : عبد الرحم بن قاسم وابنه محمد ، 30 / 79 , 80 ، توزيع الرئاسة العامة لشؤون الحرمين بالمملكة العربية السعودية , والمرداوي : الإنصاف 11 / 169 ، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
ابن قدامة : المغني 14/91، تحقيق : د.عبد الله التركي ود. عبد الفتاح الحلو ، دار هجر-القاهرة . وفي المسألة خلاف معروف كما سيتبين عند ذكر القول الثاني .
أبو زيد , بكر , فقه النوازل 1 / 73 .
انظر : ابن تيمية : مجموع الفتاوى 3 / 239.
انظر : الحصكفي : الدر المختار مع حاشية الطحطاوي 3 / 198، دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت . وابن عابدين ، رد المحتار 5 / 408 ، دار الفكر-بيروت .
انظر الحطاب : مواهب الجليل 6 / 98 . والدسوقي : الحاشية على الشرح الكبير 4 / 130.
انظر: الهيثمي والشرواني : تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني10/116, وابن حجر الهيتمي ، الفتاوى الكبرى 2 / 212 .دار صادر –بيروت .
انظر : الحطاب , مواهب الجليل 6 / 98 , والدسوقي : الحاشية على الشرح الكبير 4 / 130 .
انظر: الهيثمي : الفتاوى الكبرى 2 / 212.
نقل هذا القول الإمامان ابن الصرح وإمام الحرمين الجويني , انظر : المناوي : شرح عماد الرضا 1 / 293 , بواسطة : د . أبو البصل : عبدالناصر , الحكم القضائي , ص 274 .(29/19)
أبو البصل , الحكم القضائي , ص 274 .
الفصل الرابع :
انظر : أبو زيد : بكر , فقه النوازل 1 / 25 , 94 .
انظر : مجلة البحوث الإسلامية , العدد 31 ص 65 , العدد 33 , ص 52 .
تدوين الراجح , بحث اللجنة الدائمة , العدد 32 , 38 .
المرجع السابق , الصفحة نفسها , وفقه النوازل 1 / 57 .
رواه أبو داود في سننه ، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، 4/5 (سنن أبي داود ، بتعليق : عزت الدعاس و عادل السيد , ، دار الحديث بيروت ) .
بحث تدوين الراجح (مرجع سابق) ع 32 ص 37 .
انظر هامش 6 في الفصل الثالث من هذا البحث .
انظر : القول الثاني في حكم إلزام القاضي بمذهب معين لا يقضي إلا به ص 7 من هذا البحث .
انظر : مسيرة الفقه الإسلامي ص 446 .
حمدي : محمد , المتون الفقهية , ص 467 .
من أجوبة الشيخ عطية محمد سالم , انظر المجذوب علماء ومفكرون عرفتهم , ص 212 .
انظر : المحاميد : مسيرة الفقه الإسلامي , ص 445 .
انظر : فقه النوازل 1 / 87 , 88 . ومجلة البحوث الإسلامية , العدد ( 31 ص 61 ) .
انظر : مسيرة الفقه الإسلامي , ص 446 .
انظر : الزحيلي : جهود تقنين الفقه الإسلامي ص 26 , ومجلة البحوث الفقهية العدد 31 , ص 60 ومسيرة الفقه الإسلامي , ص 443 .
انظر : مسيرة الفقه الإسلامي ص 464 .
انظر وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء ، بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص29
انظر : فقه النوازل 1 / 90 .
وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء ,. بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص50 .
من لقاء الشيخ عطية محمد سالم المسطور في كتاب : الدكتور محمد المجذوب، علماء ومفكرون عرفتهم , ، 2/213، دار الاعتصام
انظر : مسيرة الفقه الإسلامي ص 464 .
الفصل الخامس :
انظر بيان وجهة نظر هؤلاء العلماء وأسماؤهم في : بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص29ومابعدها
ابن حميد : صالح بن عبدالله , الجامع في فقه النوازل , ص 101 .(29/20)
انظر : مجلة أضواء الشريعة , الصادر عن كلية الشريعة بالرياض , العدد 4 , ص 13 , وفيها كتب الشيخ بحثا بعنوان ( أحكام الشريعة بين التطبيق والتدوين ) .
انظر : أبو البصل : الحكم القضائي , ص 291 .
انظر : مجلة المنار جـ 4 مجلة 16 , ص 270 بواسطة : أبو البصل , الحكم القضائي , ص 284 .
انظر : الحكم القضائي ( مرجع سابق ) ص 284 .
انظر : شاكر : أحمد محمد , الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين , ص 30 ،المكتبة السلفية-القاهرة
من مقدمة لكتاب الإسلام وتقنين الأحكام الذي ألفه د . عبدالرحمن القاسم , ص ( ن ) انظر : الحكم القضائي ( مرجع سابق ) .
مجد مكيّ , فتاوى مصطفى الزرقا , ص 373 دار القلم – لبنان , والشيخ رحمه الله كان يرى الوجوب لا الجواز .
فتاوى علي الطنطاوي , جمعها مجاهد ديرانيه , ص 29 , دار المنارة – جدة
جهود تقنين الفقه ( مرجع سابق ) , ص 29 .
القرضاوي : يوسف , مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية , ص 306 مكتبه وهبة – القاهرة .
الحجوي : محمد بن الحسن , الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2 / 418 ، دار التراث – القاهرة .
انظر : وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء في المملكة ، بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص 31
انظر : وجهة نظر المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء في المرجع السابق , ص 35.
انظر المرجع السابق ص 32،33. .
د . أبو البصل : الحكم القضائي , ص 292 .
مجلة البحوث الإسلامية , العدد 32 , ص 44 .
محمد رشيد رضا : الفتاوى ، جمع د. صلاح الدين المنجد، ويوسف خوري 2 / 625 ، دار الكتاب الجديد-بيروت
أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب الجهاد , باب : السمع والطاعة , البخاري مع الفتح 13 /121،122 ،مصورة من نسخة المطبعة السلفية ، الناشر : دار الفكر -بيروت .
مسيرة الفقه الإسلامي ص 441 , والحكم القضائي , ص 295 , وانظر قول المجيزين لإلزام القاضي بالحكم بمذهب معين ص 7من هذا البحث .(29/21)
بيان وجهة المخالفين لقرار هيئة كبار العلماء , بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص 46.
انظر : ابن تيمية : مجموع الفتاوى 20/212
انظر : بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص 48، 49. ومسيرة الفقه الإسلامي 441.
انظر : مسيرة الفقه الإسلامي ص 441
انظر : بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص48
الزحيلي : جهود تقنين الفقه الإسلامي , ص 28 .
انظر : المرجع السابق،وبحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص48
انظر : بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص47،48
انظر:السيوطي: جلال الدين، الأشباه والنظائر،ص87،مطبعة مصطفى الحلبي-مصر ،
انظر : بحث تدوين الراجح ، مجلة البحوث ، العدد 33، ص46
الفصل السادس :
انظر فتاوى مصطفى الزرقا ( مرجع سابق ) ص 373 .
انظر : الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي 56 .
المصادر والمراجع
حُمّدي : محمد بن محمد , المتون الفقهية وصلتها بتقنين الفقه , دار البلاد للطباعة والنشر – جدة.
الزحيلي : وهبة , جهود تقنين الفقه الإسلامي , مؤسسة الرسالة , بيروت .
المحاميد : شويش , مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر , دار عمار , الأردن .
ابن حميد : صالح , الجامع في فقه النوازل , مكتبة العبيكان , الرياض .
ابن حجر :أحمد بن علي , لسان الميزان , منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات , بيروت .
ابن خلكان :أحمد بن محمد بن أبي بكر , وفيات الأعيان ، دار صادر- بيروت
أبو زيد : بكر , فقه النوازل , مؤسسة الرسالة , بيروت .
البخاري : محمد بن إسماعيل , الجامع الصحيح مع شرح فتح الباري , المطبعة السلفية , مصر .
الأصفهاني :أبو نعيم (أخمد بن عبد الله ), حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دار الفكر -بيروت
السجستاني: أبوداود (سليمان بن الأشعث)، سنن أبي داود ، بتعليق : عزت الدعاس و عادل السيد , ، دار الحديث بيروت(29/22)
القارئ : أحمدبن عبدالله, مجلة الأحكام الشرعية ، دراسة وتحقيق د. عبدالوهاب أبو سليمان , و الدكتور : محمد إبراهيم محمد علي , مطبوعات تهامة , جدة - الطبعة الأولى 1401 هـ , 1981 م .
الحطاب : محمد بن محمد , مواهب الجليل , دار الفكر , بيروت .
الدردير : أحمد , والدسوقي : محمد بن عرفه , حاشية الدسوقي والشرح الكبير , مكتبة فيصل الحلبي , مصر .
الشيرازي : أبواسحاق , المهذب , دار الفكر , بيروت .
الهيثمي : أحمد بن محمد مكرم , تحفة المحتاج ، ومعه حاشية الشرواني على تحفة المحتاج , دار إحياء التراث العربي .
ابن تيمية : أحمد بن عبدالحليم , مجموع الفتاوى , طبع بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين بالمملكة العربية السعودية .
المرداوي : علي بن سليمان , الإنصاف , دار إحياء التراث العربي , بيروت .
ابن قدامة : موفق الدين , المغني , بتحقيق د . عبدالله التركي و د . عبدالفتاح الحلو , دار هجر , القاهرة .
الهيثمي : أحمد بن محمد مكرم , الفتاوى الكبرى , دار صادر- بيروت
أبو البصل : عبد الناصر , الحكم القضائي في الشريعة والقانون , دار النفائس – الأردن
مجلة البحوث الإسلامية ، مجلة تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد , العدد 31 , والعدد 33 .
المجذوب : محمد , علماء ومفكرون عرفتهم , دار الاعتصام- القاهرة
مجلة أضواء الشريعة , كلية الشريعة , الرياض .العدد 4.
محمد رشيد رضا : الفتاوى ، جمع د. صلاح الدين المنجد، ويوسف خوري، دار الكتاب الجديد-بيروت
الطنطاوي : علي , الفتاوى , جمعها مجاهد ديرانه , دار المنارة , جدة .
القرضاوي : يوسف , مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ,مكتبة وهبة - مصر .
الحجوي : محمد بن الحسن , الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، دار التراث – القاهرة
السيوطي: جلال الدين، الأشباه والنظائر ،مطبعة مصطفى الحلبي- مصر ،(29/23)
مصطفى : إبراهيم وزملاؤه , المعجم الوسيط، المكتبة الإسلامية- تركيا
الذهبي :شمس الدين ،سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة.
سليم الباز , شرح المجلة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت
الحصكفي : الدر المختار مع حاشية الطحطاوي ، دار المعرفة للطباعة والنشر -بيروت .
ابن عابدين: محمد أمين ، رد المحتار ، دار الفكر-بيروت .
شاكر : أحمد محمد , الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين ،المكتبة السلفية-القاهرة
مكيّ : مجد , فتاوى مصطفى الزرقا , دار القلم – لبنان
أمين: أحمد ،ضحى الإسلام ، دار الكتاب العربي - بيروت(29/24)
تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية
مقدم لندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع والآمال
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة
الدكتور
محمد عبد اللطيف رجب عبد العاطي
أستاذ مشارك بكلية الشريعة والقانون
جامعة الإمارات العربية المتحدة
maalaati@hotmail.com
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على خير خلقه محمد وآله وصحبه ، وبعد :
فالإسلام نظام كامل ومنهاج شامل لمختلف جوانب الحياة الإنسانية ، وقواعد شريعته تحدد المثل العليا لما يجب أنّ يكون عليه سلوك الأفراد في المجتمع ، والناس يتبعونها وفقاً لوازع داخلي يحكم معاملاتهم ، ويسود علاقاتهم الاجتماعية .
وقد أنتج اتباع هذه الشريعة تراثا فقهيا اتسعت آثاره ، وترامت نواحيه ، فصارت بهذا التراث مرجعا أصيلا لحياة المسلمين في القرون الأولى ، ومصدرا رئيسا لمختلف القوانين التي نظمت حياتهم في القرون اللاحقة ، حيث أوضح المجتهدون غامض هذه الشريعة ، وأكملوا باجتهادهم في ضوء نصوصها ما استدعت ظروف عصرهم إكماله .
وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية شريعة حية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ، أكد ذلك البراهين القاطعة من منطق الوحي ومنطق التاريخ ومنطق الواقع ، كما أكده فقهاء القانون في الشرق والغرب ، بالإضافة إلى مؤتمرات القانون المقارن الدولية في العصر الحديث ، وانتهت عدة دراسات جامعية إلى صلاحية هذه الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان من خلال عقد المقارنات بين قوانينها ومختلف القوانين الوضعية .(30/1)
ولهذا أسدى القانوني الكبير بيولا كازيللي وهو إيطالي كان مستشارا ملكيا لوزارة العدل ورئيسا للجنة قضايا الحكومة زمنا طويلا نصيحته الذهبية لأولي الرأي والعقل في مصر ، وهي أنه يجب على مصر أن تستمد قانونها من الشريعة الإسلامية لأنها أكثر اتفاقا من غيرها مع روح البلد القانونية ، كما قرر المؤتمر الدولي بمدينة لاهاي أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر القانون المقارن إلى جانب القانون الفرنسي والإنجليزي والألماني ، وفي مؤتمر سنة 1938م للقانون المقارن تقرر أن الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها لا تمت إلى القانون الروماني ولا إلى أي شريعة أخري (1).
من هنا كان من الضروري تقنين أحكام الشريعة الإسلامية ؛ لأنه ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وفي قضائنا وفي تشريعنا ، ويتيح لنا في الوقت نفسه أن نطالع العالم بنور هذه الأحكام ، لتضاء بهذا النور جوانب الثقافة القانونية فيه .
ونظرا لأهمية موضوع ندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع والآمال التي تنظمها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة ، ولأنني واحد ممن شرفوا بالعمل في رحاب هذه الكلية ، فامتدت بيني وبين نخبة العلماء العاملين فيها جسور المودة والمحبة حرصت على المشاركة في هذه الندوة ببحث عنوانه : تقنين الأحكام الشرعية ضرورة عصرية ، درست فيه مختلف القضايا المتعلقة بمسألة التقنين ، وهي على النحو الآتي :
مدلول التقنين
نشأة فكرة التقنين وتطورها في المجتمع الإسلامي
خصوم الشريعة ومسألة التقنين
أصل مسألة التقنين
موقف العلماء من مسألة التقنين
التقنين ضرورة عصرية
ضرورات عملية التقنين
وأردفت ذلك بخاتمة بينت فيها أهم نتائج البحث وتوصياته .
أسال الله تعالى أن يجزيني خيرا عن كل صواب في هذا البحث ، وأن يتجاوز لي عن الخطأ والزلات ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
__________
(1) انظر : نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات في الفقه الإسلامي ، عبد الحليم الجندي ص 82 .(30/2)
الدكتور
محمد عبد اللطيف عبد العاطي
مدلول التقنين :
التقنين : كلمة غير عربية الأصل ، وهي مصدر " قنن " بمعنى وضع القانون ، وقد استعمل القانون في اللغة العربية بمعنى الأصل ، كما استعمل بمعنى المقياس (1).
ويراد بالقانون القواعد الملزمة التي تنظم سلوك الأشخاص في أي مجتمع ، باعتبار أن هذه القواعد يستقيم بها نظام حياتهم على وتيرة واحدة ونظام ثابت معين (2).
والمقصود بالتقنين هنا : تجميع القواعد القانونية المتعلقة بفرع معين من فروع القانون في شكل كتاب أو مدونة أو مجموعة واحدة وذلك بعد مراجعة هذه القواعد وتنسيقها ورفع التناقض منها وتبويبها بحسب الموضوعات التي تنظمها ، والمجموعة تظهر في شكل مواد ، وتشمل مختلف النصوص الخاصة بالأحكام القانونية المتصلة بفرع من فروع القانون (3).
أو هو صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات ممهدة لها جامعة لإطارها في صورة مواد قانونية يسهل الرجوع إليها (4).
وبعبارة أكثر وضوحا هو صياغة أحكام الشريعة الإسلامية الملزمة للناس وذات الموضوع الواحد في صورة قواعد عامة مجردة ومرتبة ومرقمة على هيئة المواد القانونية الحديثة ، بحيث تكون مرجعا سهلا محددا ، يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة ، ويرجع إليه المحامون، ويتعامل على أساسه المواطنون (5).
فمدلول التقنين يتضمن ما يأتي (6):
__________
(1) انظر : مختار الصحاح ، والمصباح المنير ، مادة قنن ، والقاموس المحيط ، باب النون فصل القاف .
(2) انظر : مدخل لدراسة القانون وتطبيق الشريعة الإسلامية ، الدكتور عبد الناصر العطار ص 62 .
(3) المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي ، الدكتور عمر الأشقر ص 350 .
(4) جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ص 26 .
(5) انظر : مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، الدكتور يوسف القرضاوي ص 297 .
(6) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 437 .(30/3)
أولا : الصياغة التي تميزه عن الفقه المدون.
ثانيا : الترتيب والترقيم الذي يجعل الرجوع للأحكام سهلا .
ثالثا : الأحكام الشرعية الملزمة للناس وذات الموضوع الواحد ؛ لأن القوانين عادة تفصل بين كل موضوع وآخر ، ولا يمنع ذلك أن يكون مجموع هذه المواضيع يمثل تقنين الفقه الإسلامي .
ومن الممكن أن نستغني عن كلمة التقنين بكلمة تدوين أو تنظيم أو نحوهما ، إلا أننا نؤثر استعمالها لشيوعها في العصر الحديث ، ولأن بعض الأئمة المتقدمين قد استعملوها في مدوناتهم وكتبهم ، حيث كانت مستخدمة في عصرهم ، وهم لم يعولوا على الاسم بقدر ما عولوا على المضمون والمسمى ، فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ومن هؤلاء العلماء : ابن جزي المالكي المتوفى سنة 741 هجرية ، فقد ألف كتابا أسماه القوانين الفقهية ، والغزالي في كتابه قانون التأويل ، والقاضي أبو يعلي الحنبلي المتوفى سنة 458 هجرية في كتابه الأحكام السلطانية ، وكذلك القاضي الماوردي المتوفى سنة 50 هجرية ، وابن خلدون في مقدمته ، وغيرهم.
نشأة فكرة التقنين وتطورها في المجتمع الإسلامي :
تعتبر الوثيقة التي دون فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقوق المسلمين وغير المسلمين في المدينة المنورة بمثابة البذرة الأولى لفكرة التقنين ، حيث تدخل مضامين هذه الوثيقة تحت ما يسمى في عصرنا بالقانون الدستوري (1) .
كما ذكر الإمام مالك أن أبا جعفر المنصور قد طرح عليه فكرة إلزام الناس بالعمل بما في الموطأ ، وهي بمثابة الأصل لفكرة التقنين .
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص 447 .(30/4)
يقول الإمام مالك : " لما حج المنصور دعاني ، فدخلت عليه فحادثته ، وسألني فأجبته ، فقال : عزمت أن آمر بكتبك هذه يعني الموطأ فتنسخ نسخا ثم ابعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث ، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم ، قلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم ، وعملوا به ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم ، فقال : لعمري لو طاوعتني لأمرت بذلك " (1).
كما استرعى نظر عبد الله بن المقفع اختلاف الأحكام باختلاف الأمصار فكتب في رسالة الصحابة إلى الخليفة المنصور يقترح عليه أن يتبنى في المسائل المختلف فيها رأيا ينهي اختلاف القضاة ويجعل الرأي والحكم واحدا (2).
وذكر أبو نعيم رواية عن مالك مفادها أن هارون الرشيد عرض عليه ذلك أيضا ، فعن عبدالله بن عبدالحكم قال سمعت مالك بن أنس يقول : " شاورني هارون الرشيد في ثلاث : في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه ، وفي أن ينقض منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجعله من جوهر وذهب وفضة ، وفي أن يقدم نافع بن أبي نعيم إماما يصلي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا أمير المؤمنين ، أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في الآفاق ، وكل عند نفسه مصيب " (3).
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء للذهبي 8 / 78 ، 79 .
(2) انظر : المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي ، الدكتور عمر الأشقر ص351 – 352.
(3) ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء 6 / 332 .(30/5)
وهكذا لم تجد تلك الأطروحات فرصة التنفيذ لاعتبارات متعددة ، أهمها أن التوصل إلى التقنين المطلوب كان يقتضي الأخذ بمذهب دون بقية المذاهب الأخرى ، وطبيعي أن هذا الحل لن يظفر بتأييد فقهاء المذاهب المتروكة ، ومن يتبعون مذاهبهم ، وهذا ما فطن إليه الإمام مالك رحمه الله تعالى.
ولم يحسم الأمر إلا في عهد الدولة العثمانية عند اتساع المعاملات التجارية وازدياد الاتصالات بالعالم الخارجي ، ووجود قضاة في المحاكم النظامية ومجالس تمييز الحقوق لا اطلاع لهم على علم الفقه وأحكامه .
فكان تقنين الأحكام ليسهل عليهم الاطلاع عليها ، فجعلت المذهب الحنفي مذهبا مقررا متبعا في الدولة ، ووضعت "مجلة الأحكام العدلية" وكان تاريخ صدور هذه المجلة في عام 1295 هجرية ، واحتوت على 1851 مادة استمد أغلبها من الفقه الحنفي، وقد ظلت هذه المجلة مطبقة في أكثر البلاد العربية إلى أوساط القرن العشرين (1).
وبعد ذلك وجدت مشروعات قوانين استمدت من الفقه الإسلامي وقامت عليها جهات رسمية في بعض البلدان الإسلامية .
ومنها ما قام به مجمع البحوث الإسلامية في جمهورية مصر العربية ، حيث أصدر مشروعا متكاملا لتقنين المعاملات على المذاهب الأربعة : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، في ستة عشر جزءا صغيرا ، قرنت فيه كل مادة بتذييل توضيحي يبين المراد منها ، ولكل مذهب أربعة أجزاء (2)http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2005/08/article04.shtml - (17)#(17).
__________
(1) انظر : المدخل للتشريع الإسلامي ، الدكتور محمد النبهان 354 – 358 .
(2) انظر : جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ص 32 .(30/6)
ومعظم هذه المشروعات اعتمدت القول الراجح عند القائمين عليها ؛ لأن مسألة إثبات القول الراجح من أقوال أهل العلم وتدوينه في كتاب وتعميمه على المحاكم ليست وليدة الوقت الذي وجدت فيه هذه المشروعات ، فقد كانت مجلة الأحكام العدلية في الدولة العثمانية على هذا المنوال إلا إنها اقتصرت على المذهب الحنفي دون غيره من المذاهب ، ثم ظهر في مصر كتاب مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة النعمان ، وهو من تأليف محمد قدري باشا مرتبا في مواد ، وكانت وزارة المعارف توزعه على تلاميذها حتى الثلاثينيات من القرن الحالي (1).
وثبت أن الملك عبد العزيز فكر في أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها ثم تعميمها على المحاكم من خلال وضع مجلة للأحكام الشرعية ، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة ، وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها ، ولكنها تختلف عنها بأمور، أهمها : عدم القيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ماتراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة (2) .
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة تم إعداد مشروع قانون المعاملات المدنية عام 1980 م وأقره المجلس الاتحادي في 14 / 12 / 1985 م وأصبح نافذ المفعول اعتبارا من 29 / 3 / 1986 م (3).
__________
(1) انظر : نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات في الفقه الإسلامي ، عبد الحليم الجندي ص 76- 77 .
(2) انظر : التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية ، دكتور محمد عبد الجواد ص 74 – 88 .
(3) انظر : جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ص 32 .(30/7)
وفي جمهورية مصر العربية أعدت لجان شكلها الدكتور صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب المصري السابق ستة مشروعات قوانين هي (1):
- مشروع قانون المعاملات المدنية " 1044 مادة "
- مشروع قانون العقوبات " 635 مادة "
- مشروع قانون التجارة " 776 مادة "
- مشروع قانون التقاضي " 512 مادة "
- مشروع قانون الإثبات " 182 مادة "
- مشروع قانون التجارة البحري " 443 مادة "
كما شكلت الجامعة العربية لجنة من رجال القانون والفقه لتقنين الفقه الإسلامي ، وفي مؤتمر وزراء العدل العرب المنعقد في اليمن سنة 1981 م صدر إعلان صنعاء باعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي لقوانين الدول العربية وتوحيدها على أساس أن ذلك خطوة هامة على طريق الوحدة العربية المنشودة ، وكان من أهداف إنشاء مجمع الفقه الإسلامي : تقنين الفقه الإسلامي عن طريق لجان متخصصة ، كما وضع وزراء العدل بدول مجلس التعاون الخليجي خطة منهجية ترسم طريقة العمل للجنة التي تقوم بتقنين الشريعة الإسلامية (2) .
وكان مجمع البحوث الإسلامية قد قرر في جلسته رقم 27 في 8 / 3 / 1967م أن من مهمة المجمع العمل على إيجاد مشروع قانون شامل للأحوال المدنية والجنائية وغيرها إذا ما تقرر في الدستور اتخاذ الشريعة الإسلامية أساسا للتقنين (3).
ومن هذا الإستعراض التاريخي يتضح أن فكرة تقنين الأحكام الشرعية من حيث العموم كانت مطروحة للتنفيذ في مراحل متقدمة من تاريخنا الإسلامي من خلال طرح فكرة الإلزام التي تعد بمثابة الأصل لفكرة التقنين التي خرجت إلى حيز التنفيذ في مراحل متأخرة ، ولا زال العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء في بلدان إسلامية متعددة .
خصوم الشريعة وفكرة التقنين :
__________
(1) انظر : بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون ، دكتور محمد عبد الجواد ص 24 .
(2) انظر المصدر السابق ص 28 - 42 .
(3) انظر : مجلة المسلم المعاصر العدد الحادي عشر 1977 م ص 51 .(30/8)
حاولت فئات متعددة من خصوم تطبيق الشريعة الإسلامية منع تقنين أحكامها ، ويأتي على رأس هؤلاء من احتلوا بلدان عالمنا الإسلامي إبان فترة الانحطاط الحضاري التي مرت بها أمتنا .
فقد حرص هؤلاء المحتلون على فرض قوانينهم في الواقع الإسلامي ، واستدعى ذلك أن يحال بين المسلمين وبين العمل بأحكام الشريعة الإسلامية.
فالإنجليز فرضوا القوانين الإنجليزية في الهند والسودان ، والفرنسيون فرضوا قوانينهم في الجزائر ، والإيطاليون فرضوا قوانينهم في ليبيا بعد احتلالها سنة 1911 م .
ولهذا رأينا عجبا في تشكيل اللجان القانونية إبان فترات الاحتلال التي ابتلي بها العالم الإسلامي ، حيث ضمت هذه اللجان في عضويتها بعضا من هؤلاء المحتلين بالإضافة إلى بعض النصارى ، وبعض المسلمين الذين لا علاقة لهم بعلوم الشريعة الإسلامية ولديهم استعداد كبير لتقديم كل ما يطلب من تنازلات على حساب هذه الشريعة (1) .
كما حرص بعض العلمانيين على رفض أية فكرة لمحاولة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية متذرعين بالحفاظ على قدسيتها ، والحرص على تفتح آفاقها وفنونها .
__________
(1) انظر : نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات في الفقه الإسلامي ، عبد الحليم الجندي ص 70- 77 .(30/9)
ولهذا رأينا كاتبا مثل مثل جمال البنا يقرر أن الأمر الطبيعي للشريعة أن يترك ما بين الفقهاء ومحابرهم وما بين الجماهير ومشاعرهم ، وأن تكون العلاقات حرة ومتفتحة ، فهذا الوضع يدفع لازدهار الفقه ، وبالتالي الشريعة ، وتفتح آفاقها وفنونها ، كما يسمح للجماهير بحرية الأخذ برأي هذا الفقيه أو ذاك ، والانتماء إلى هذا المذهب أو غيره ، ويربط الجميع ويوحد بينهم إطار القرآن بحيث ينطلق الجميع من وازع القرآن ، وهذا الوضع ينتفي بمجرد تدخل السلطة لفرض تطبيق الشريعة ، فبعد أن كان العامل الأعظم في تفعيل الشريعة هو الإيمان ، فان هذا العامل يتحول إلى الإذعان ، وما أعظم الفرق بين حلاوة الإيمان ومرارة الإذعان ، وشيئا فشيئا تفقد الشريعة قداستها ودفئها وما يلتبس بها من انتماء إلى الله والرسول والصحابة وأجيال الفقهاء والعلماء الذين عملوا بوحي من الإيمان والإخلاص والقربى إلى الله ، وتصبح مجرد قانون تصدره الدولة وتشرف سلطاتها على تطبيقه ، فشعار تطبيق الشريعة يحتم تدوين الفقه في صورة تقنين قانوني يقلل من شأن الشريعة ووظيفتها الاجتماعية عندما يضعها في مرتبة القانون القامع ، ويعطي الدولة صلاحيات جديدة انتزعها منها مجتمعنا التاريخي فيكل إليها سلطة قامعة إضافية ، كما يتناقض مع التجربة التاريخية لأمتنا ، وهي التجربة القائمة على فكرة الجماعة إذ يشرذم المجتمع ، لأنه يخلق في النهاية نظاما قيميا جديدا ينسجم مع متطلبات الدولة القومية ذات الطابع القطري(1) .
وهذا الطرح بما يتضمنه من مغالطات جسيمة لا ينفرد به جمال البنا ، ولكن يشاركه فيه كل العلمانيين الراغبين في نبذ فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية من أساسها ، ومحاربة كل الوسائل المساعدة على هذا التطبيق ، ومنها وسيلة التقنين .
أصل مسألة التقنين :
__________
(1) http://www.metransparent.com/texts/gamal_al_banna_difficulty_of_codification_of_sharia.htm(30/10)
أصل مسألة التقنين إلزام القاضي بالقضاء وفق مذهب معين لا يتجاوزه وإن خالف اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد .
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: لا يجوز إلزام القاضي بالحكم بمذهب معين ، واشتراطه على القاضي باطل غير ملزم .
فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى رأيا ، ويرى على بن أبي طالب رأيا ، ويرى عبد الله بن مسعود رأيا ، ويرى زيد بن ثابت رأيا فلم يلزم عمر ، وهو أمير المؤمنين صاحب الرأي المؤيد بالوحي أحدا من هؤلاء أن يأخذ بقوله (1).
ولهذا كان رضي الله عنه إذا كثر عليه الخصوم صرفهم إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فلقي يوما رجلا ممن صرفه إلى زيد ، فقال له : ما صنعت ؟ قال : قضي علي يا أمير المؤمنين ، قال : لو كنت أنا لقضيت لك ، قال : فما يمنعك وأنت أولى بالأمر ؟ قال : لو كنت أردك إلى كتاب الله تعالى أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعلت ، ولكني إنما أردك إلى رأي والرأي مشترك (2) ..
وممن قال بعدم جواز إلزام القاضي بالحكم بمذهب معين الشافعي ، وابن تيمية ، وابن قدامة المقدسي ، وغيرهم .
قال الشافعي : " وإذا قاس من له القياس فاختلفوا ؛ وسع كلا أن يقول بمبلغ اجتهاده ، ولم يسعه اتباع غيره فيما أدى إليه اجتهاده " (3) .
وقال ابن تيمية : " ليس لولي الأمر أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما ، وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله " (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 384 .
(2) انظر : أخبار المدينة ، أبو زيد النميري البصري 1 / 367 .
(3) الأم للشافعي 1 / 153 .
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 387 – 388 .(30/11)
وقال ابن قدامة :" ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه ، وهذا مذهب الشافعي ، ولا أعلم فيه خلافا لأن الله تعالى قال : " فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ "(1) والحق لا يتعين في مذهب ، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب" (2) .
القول الثاني: يجوز الإلزام بالحكم بمذهب معين ، ويصح اشتراط الحاكم على القاضي أن يقضي به ، لأن إلزام القاضي بمذهب معين لا يتجاوزه فيه مصلحة ، فإذا رأى الحاكم وجود هذه المصلحة جاز له الإلزام ، والأصل في الشريعة أن تكون معلومة أو في حكم المعلومة لتكون ملزمة .
ودواعي هذا الإلزام ما يأتي (3):
وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى أو بالقصور في علمهم أو تطبيقهم .
عدم وجود كتاب سهل العبارة في المعاملات يتعرف منه الناس على أحكامها ليراعوا تطبيقها ويوفقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم وإدانتهم إذا حصل النزاع .
تهرب بعض الناس من رفع قضاياهم للمحاكم الشرعية في دول إسلامية ، ومنها المملكة العربية السعودية إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية نتيجة لما تقدم ذكره ، والخوف من أن يتزايد ذلك حتى ينتهي إلى استبدال القوانين الوضعية بالأحكام الشرعية .
موقف العلماء من مسألة التقنين :
بناء على اختلاف الفقهاء في جواز إلزام القاضي بالقضاء وفق مذهب معين كان للعلماء موقفان من مسألة التقنين ، فقد منعه بعضهم ، وأجازه البعض الآخر ، ولكل أدلته التي استند إليها .http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2005/08/article04.shtml - top#top
المانعون للتقنين وأدلتهم :
__________
(1) سورة ص : 26 .
(2) المغني لابن قدامة 10 / 136 .
(3) انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث بالمملكة العربية السعودية ، العدد 31 ، سنة 1411 ص 48 – 49 .(30/12)
يرى الدكتور عمر سليمان الأشقر أن الشريعة مدونة والرجوع إلى أحكامها سهل ميسور ولا يجب أن نبالغ في إعطاء فكرة التقنين أهمية عظمى (1) .
وممن يرى عدم جواز التقنين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، وبكر أبو زيد ، وعبد الله البسام ، وأغلبية هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (2) .
ورغم أن هذا هو موقف أغلبية هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، فقد أشار الدكتور عبد الرحمن القاسم في رسالته للدكتوراه بعنوان " الإسلام وتقنين الأحكام في البلاد السعودية " بإسهاب إلى أن السعودية قد أخذت بفكرة التقنين في كثير من المواضع ، وعدد المجالات التي طبقت فيها الفكرة ، وهي تشمل جميع أوجه نشاط الدولة (3) .
ومن أهم الأدلة التي استند إليها المانعون للتقنين ما يأتي (4) :
أولا : الآيات التي توجب الحكم بما أنزل الله عز وجل ، ومنها قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } (5) وقوله تعالى : { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } (6) .
فهاتان الآيتان تأمران بالحكم بما أنزل الله تعالى ؛ لأنه هو الحق ، والحق لا يتعين بالراجح من أقوال الفقهاء ، لأنه راجح في نظر واضعيه دون سواهم ، فلا يصح الإلزام به ولا اشتراطه على القضاة عند توليتهم ولا بعدها .
__________
(1) انظر : المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي ، الدكتور عمر الأشقر ص 356 – 357 .
(2) انظر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 31 ص 65، العدد 33، ص 52.
(3) انظر : جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ص 55 .
(4) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 442 – 444 .
(5) سورة النساء : 105 .
(6) سورة ص : 26 .(30/13)
ومن الآيات كذلك قوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (1) وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (2) .
فهذه الآيات ونظائرها تدل على أن الواجب هو الرجوع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتعين حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مذهب معين أو رأي معين ولا في قول مرجح ، والحكم بالرأي الراجح حكم بغير ما يعتقد القاضي أنه حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حرام ، ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين .
ثانيا : قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " القضاة ثلاثة : واحد في الجنة ، واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة ؛ فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " (3) .
فهذا الحديث يفيد أن الحكم المانع من الإثم هو الذي يرى القاضي أنه الحق ، والرأي الراجح المدون ليس بالضرورة أن يكون هو رأي الحق في نظر القاضي ، فإن قضى بخلاف ما عرف أنه الحق أثم ، ويلزم منه منع الإلزام بالتقنين .
__________
(1) سورة الشورى : 10 .
(2) سورة النساء : 59 .
(3) أخرجه أبو داود في الأقضية ، باب في القاضي يخطئ 3 / 299 ( 3573 ) والترمذي في الأحكام ، باب ما جاء عن الرسول في القاضي 3 / 613 ( 1322 ) وابن ماجه في الأحكام ، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق 2 / 776 ( 2315 )(30/14)
ويجاب عن هذين الاستدلالين : بأن هذه النصوص عامة ، وليست في هذا الموضوع بعينه ، والدليل إذا ورد إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وليس من الصواب القول بأننا إذا رجعنا إلى ما يختاره العلماء من الأقوال الراجحة فإننا نرجع إلى غير الكتاب والسنة ، إذ من أين أخذ هؤلاء العلماء إذن (1) ؟
ثالثا : الإجماع على عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه ، وقد نص على هذا الإجماع ابن قدامة المقدسي (2) .
ويجاب عنه : بأن هذا الإجماع غير مسلّم ، لأنه قد وجد من العلماء من قال بخلافه ، ثم إن القول بالمنع من الإلزام بقول واحد قول صحيح لو كان جميع القضاة من المجتهدين، أما وقد علمنا أن العدد المطلوب تعيينه من القضاة للفصل في خصومات الناس يلزم - كثيرا - بتعيين من لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد ، فيصبح تعيينهم جائزا للضرورة أو الحاجة ، وبالتالي فإن إلزامهم بقول واحد في هذه الحالة أمر غير ممنوع (3) .
رابعا : أن تدوين القول الراجح والإلزام به مخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ومن بعدهم من السلف الصالح ، وقد عرض أبو جعفر المنصور هذه الفكرة على الإمام مالك فردها وبين فسادها ، ولا خير في شيء اُعتبر في عهد السلف من المحدثات ، كما أن الصياغة للأحكام الفقهية بأسلوب معين سواء أكان من قبل أفراد أو لجان ستتأثر ببشريتهم ، ونسبتها إلى حكم الله عز وجل ليست دقيقة ، بينما صياغة نصوص الشرع ربانية معجزة ، ويمكن نسبتها إليه عز وجل ، فيقال : أحكام الله تعالى.
__________
(1) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 446 .
(2) انظر : المغني لابن قدامة 10 / 136 .
(3) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 446 .(30/15)
ويجاب عن هذا : بأن عدم وجود هذه الفكرة عند السلف لا يعني منعها ، فلعل دواعيها لم توجد ، ورأي الإمام مالك رحمه الله قد خالفه فيه غيره ، ولو لم يخالفه غيره فليس قوله بمجرده حجة ، ثم إن التقنين مثله مثل الفقه فهو لا يخرج عن صياغة فقهيه لا أكثر، وما بقي من ترتيب ووضع أرقام متسلسلة ما هو إلا أمر شكلي يُسهّل الرجوع للأحكام ولا يؤثر في مضمونها.
خامسا : التقنين لا يرفع الخلاف في الآراء ، رغم أنه من أهم مبررات الإقدام عليه ، وهذا ما أثبتته تجربة الدول التي دونت الأحكام المعمول بها ، حيث يختلف القضاة في تفسير النصوص (1) .
ويجاب عنه : بأن التقنين يحد من الاختلاف وإن لم يرفعه، وهذا هو المطلوب (2) .
سادسا : أثر التقنين على حركة الفقه عامة ، وعلى القضاة خاصة ، حيث يؤدي إلى تعطيل الثروة الفقهية ، لأن عمل القضاة سيرتبط بهذه القوانين شرحا وتفسيرا مما يعطل التعامل مع كتب الفقه ، ويحجر على القضاة ، ويوقف حركة الاجتهاد ، والنشاط الفكري، لتلبية مطالب الحياة المتغيرة ، ومواجهة الأنظمة والأعراف والمعاملات المتجددة .
ويجاب عن هذا : بأن التقنين ليس فيه حجر كبير على القضاة ؛ لأن تدوين الفقه لا يمنع الاجتهاد ، والحياة تولد من المستجدات مما يعطي القاضي المجتهد مجالا واسعا في تبني أحكام جديدة لها ، ويكفيه أن يجتهد في ملابسات القضية المعروضة عليه ، كما أن للأحكام المقننة مذكرات إيضاحية وشروحا ، ولا يمكن أن يستغني واضعو هذه المذكرات والشروح عن كتب الفقه (3) .
__________
(1) انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 31 ، سنة 1411ص 61 – 62 .
(2) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 446 .
(3) انظر : مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، الدكتور يوسف القرضاوي ص 306 .(30/16)
ثم إن الاجتهاد ليس محصورا في القضاة ، بل هو موجود عند غيرهم من علماء الأمة الإسلامية ، وفي غير الأحكام القضائية ، فالفتوى أشمل وأوسع من القضاء (1) .
إن التقنين ليس فقط إفراغ القواعد القانونية في صيغة مواد محددة ومرقمة ، ولكن السلطة التنظيمية موجودة ويفترض أنها تواكب التطورات لإصدار التنظيمات المناسبة لها ، فالتقنين ليس مرحلة نهائية ، ولكنه مرحلة مفتوحة ومتجددة ، بل هو قاعدة للانطلاق ، والدول التي أخذت بعملية التقنين في تشريعاتها المختلفة ، لم تغلق الباب أمام النهل من الاجتهادات والمدارس المختلفة التي تضمنها الفقه الإسلامي ، فالقاضي يحكم بالقضية بموجب النص المقنن أولاً ، فإن لم يجد فيحق له الرجوع إلى الشريعة الإسلامية بكل مدارسها ومذاهبها ، فإن لم يجد فله الأخذ بالعرف ما لم يكن مخالفاً للقانون ، وبالتالي فإن التقنين عملية فنية بحتة هدفها تحديد الحقوق والواجبات حتى يعرف كل مواطن ما له وما عليه ولا يترك للاحتمالات والتعسفات .
سابعا : أن الأحكام الشرعية المقننة ستتعرض بمرور الوقت إلى بعض التعديلات ، وهذا سيؤدي إلى زعزعة الثقة في أحكام الشريعة الإسلامية ، كما أن كثرة التعديلات التي تجري على القوانين تبعدها عن أصلها الشرعي كما هو مشاهد في قوانين الأحوال الشخصية.
ويجاب عن هذا : بأن القاضي غير ملزم بالبقاء على اجتهاده الأول إذا صح لديه الدليل باجتهاده الجديد ، ومنعه - في هذه الحالة - يؤدي إلى المنع من الأخذ بالدليل، وهذا لا يقول به أحد ، والتقنين مثله ، كما أن القول بعدم تعديل القوانين إذا ظهرت المصلحة في تعديلها يناقض بناء الإسلام على رعاية مصالح الناس وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان.
ثامنا : قبول فكرة التقنين يفتح الباب على مصراعيه للقائلين بتأثر الأحكام الشرعية بالقوانين الوضعية في العصر الحديث .
__________
(1) انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 33 ، سنة 1412 ص 51 .(30/17)
ويجاب عن ذلك : بأننا لا يمكن أن نرفض أمرا لمجرد ادعاء البعض بأن شريعتنا قد تأثرت بقوانين وضعية أو غير وضعية ، فدعاوى الخصوم لن تتوقف ، وسقفها أعلى من ذلك بكثير ، والإسلام لم يكن من أهدافه أبدا أن يهدم كل ما سواه ، و لكنه جاء بقواعد عامة للمعاملات وغيرها من النظم التي اتسعت لذلك الجزء الصالح من التشريعات السابقة ، فأقرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أقرها أصحابه من بعده أو أقرها علماء أمته فيما بعد ، فهل في ذلك من عيب ؟
لقد كان من محاسن الإسلام أنه قدر ما اصطلح عليه الناس و تعودوه ما دام حسنا، بل احترمه و لو كان نقصا ما دام صالحا للتطور والتعديل والتقويم ، لأن ذلك أدعى الى قبول الدين وسهولة ذيوع الدعوة اليه ، ولأن ذلك هو الفطرة .
تاسعا : أن المراد بالشريعة الكتاب والسنة ، ولا يمكن تقنين الكتاب والسنة بجعل ما فيهما على صورة المواد القانونية ؛ لأنهما أجل وأعظم من ذلك ، والمواد القانونية لا تتسع لاستيعاب ما فيهما ، كما أن الفقه لا يحتاج إلى تقنين ؛ لأنه مفصل في كتب وأبواب ومسائل وفهارس ، ومن أراد حكماً في مسألة أو فصلاً في قضية فسيجد ما يطلب بيسر وسهولة .
ويجاب عن ذلك : بأن المراد هو تقنين الأحكام المستنبطة من القرآن الكريم والسنة والإجماع ، وليس في نصوص القرآن الكريم والسنة ما يحظر ذلك ، خصوصا ونحن نرى أن بعض كتب الفقه المدونة قد اختصرت على نمط التقنين ، لكي يسهل التعامل معها ، فهما متماثلان ، ولا يصح التفريق بين المتماثلين .
ثم إن التقنين ليس لكل ما في الكتاب والسنة من أحكام ، وإنما للأحكام التي يتعلق بها حكم القضاة ، وإذا كانت كتب الفقهاء قد استوعبت هذه الأحكام ، فإن التقنين لا يزيد على صياغة ما تضمنته صياغة سهلة مرتبة معينة للقضاة وغيرهم لفهم الأحكام ، ومقتصرة على القول الراجح لاعتماده .(30/18)
والقول بأن من أراد حكماً في مسألة فسيجد ما يطلب بيسر وسهولة ليس صحيحا على إطلاقه ؛ لأن هذا ليس لكل أحد ، وخاصة في هذا العصر الذي قل فيه أهل البحث والاطلاع والاجتهاد ، فالمستوى العلمي بأحكام الشريعة قد تغير، وأهلية الاجتهاد في هذا العصر تكاد تكون معدومة ، ومشاكل الحياة وتعقيد المعاملات لا تقارن بما كانت عليه من قبل ، والسرعة التي تقتضيها كثرة الدعاوي والقضايا تقتضي تيسير الرجوع إلى أحكام الفقه.
عاشرا : أن كلمة تقنين يمكن أن تكون طريقا لإحلال القوانين الوضعية مكان الشريعة الإسلامية فيكون التشابه في الاسم أولا ، ثم المضمون ثانيا ، فمنع هذه التسمية واجب من باب الحذر ، وإلا فيمكن أن نقول : تشريع القانون أي تحويله إلى ما يوافق الشريعة ولا يقال : تقنين الشريعة أي تحويلها إلى مايشبه القانون الوضعي تأدباً مع شرع الله تعالى وتنزيهاً له من أن يهبط به إلى مستوى صورة القوانين الوضعية.
ويجاب عن ذلك : بأن التقنين لا يراد به مشابهة القانون الوضعي ، لا في الاسم ولا في المسمى ، لأن الهدف هو أن نصوغ الأحكام الشرعية بصورة مواد مبسطة مختصرة يفهمها الناس في تعاملاتهم ، ويعرفون ما يحكم به القضاة ، ويعرف القضاة ما يحكمون به، ويعرف الذين يأتوننا من خارج البلاد أن هذه أحكامنا ، فيعرفوا مالهم وما عليهم من الحقوق والواجبات ، أي أن التقنين ليس إلا وسيلة لحفظ أحكام الشريعة وتأكيدا لتطبيقها.(30/19)
وهذه التسمية ونحوها إنما هي مواصفات واصطلاحات المراد منها مفهوم ومعلوم للجميع ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، فالتخوف من المصطلح يمكن أن يحل بإيجاد مصطلح آخر مناسب ، وما يذكر من أن التقنين خطوة إلى تعطيل العمل بالشريعة الإسلامية والاستدلال بعمل بعض الدول التي دونت الراجح من أقوال المذهب الذي تنتسب إليه في مواد ، ثم ألزمت بالعمل به في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا ، مردود بأن تلك الدولة لم يقتصر تنكرها للدين على السلك القضائي في المحاكم ، وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا ، وأصبحت دولة علمانية ، وكثير من الدول الإسلامية لم يكن القضاء عندها مقننا ، بل كانت تحكم بالراجح من مذهب إمام من أئمة المسلمين فكان منها أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية وأخذت بقوانين أوربا ، فليس التقنين وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه (1) .
المجيزون للتقنين وأدلتهم :
أجاز التقنين جمهور الفقهاء المعاصرين، ومنهم في المملكة العربية السعودية : الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ، وصالح بن غصين ، وراشد بن خنين ، ومن جمهورية مصر العربية الإمام المراغي ، ومحمد أبو زهرة ، وعلى الخفيف ، وحسنين مخلوف ، ويوسف القرضاوي ، ومن سوريا العلامة مصطفى الزرقا ووهبة الزحيلي ، ومن المغرب محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي ، وأبو الأعلى المودودي من باكستان (2) .
ومن أهم الأدلة التي استندوا إليها ما يأتي :
أولا : الأدلة الكثيرة على طاعة ولي الأمر ، ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (3).
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص 50 .
(2) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 438 – 439 .
(3) سورة النساء : 59 .(30/20)
قال صاحب المنار : " وفوض القرآن فيما يحتاج إليه من أمور الدنيا السياسية والقضائية والإدارية إلى أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة بقوله: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (1) وقوله: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (2) ولهذا أمر بطاعة هؤلاء الذين سماهم أولي الأمر وهم أهل الشورى في الآية الأخرى فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (3) فهذا ما جاء به الإسلام ، وهو هداية تامة كاملة لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها ، مرتقية في سياستها وأحكامها ، يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان ، ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة ، ويلزم القضاة والحكّام باتباعها والحكم بها " (4) .
ثانيا : أن أحكام الشريعة متعددة ، ومصادرها كثيرة ، ووجهات النظر في كثير من مسائلها متباينة ، لما تحتمله نصوصها من المعاني الكثيرة ، وكذلك عقول البشر محدودة ، وتتفاوت في مدى قدرتها على استنباط الأحكام من تلك النصوص ، فتتضارب الأحكام في كثير من الأحيان ، وربما أحدث ذلك بلبلة واضطرابا ، وأهدر الثقة بالمحاكم الشرعية ، فكان التقنين ضرورة اقتضاها الحال وروح العصر(5) .
ثالثا : تطور الشرائع السماوية من أبرز الأدلة على جواز تقنين الأحكام الشرعية ، حيث كانت كل شرعة من هذه الشرائع تحوى من الأحكام و القواعد بقدر ما تتسع لها عقلية من نزلت اليهم.
__________
(1) سورة الشورى : 38 .
(2) سورة النساء : 83 .
(3) سورة النساء : 59 .
(4) الفتاوى لمحمد رشيد رضا 2 / 625 .
(5) انظر : الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، محمد بن الحسن الحجوي 2 / 418 .(30/21)
رابعا : أن فكرة التقنين كانت موضعا للبحث منذ أكثر من عشرة قرون ، وكانت موضع التنفيذ في صورة الإلزام بالحكم بمذهب إمام بعينه في أماكن كثيرة من البلاد الإسلامية ، ولا يزال العمل بهذا جاريا في بعض البلاد ، ومنها المملكة العربية السعودية ، فمجرى القضاء في جميع محاكمها طبقا على المفتى به من المذهب الحنبلي ، وإذا وجد القضاة في تطبيقه على مسألة ما مشقة ومخالفة لمصلحة العموم ؛ يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة ، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر (1) .
خامسا : أن القضاة هم بمثابة الوكلاء عن الإمام ونوابه ، لأنهم صاروا قضاة بإذنه ، والوكيل مقيد بشروط موكله ، فلا يخرج عن حدودها ، فإذا ألزمه بالقضاء على مذهب معين أو بالتقنين ؛ وجب عليه التقيد بذلك ، خصوصا إذا لم تكن شروط الاجتهاد متوفرة فيه (2) .
التقنين ضرورة عصرية :
موقف المجيزين للتقنين هو الأجدر والأحرى بالقبول لوجاهة أكثر الأدلة والتعليلات التي استدلوا بها ، ولإجابتهم عن أكثر أدلة القائلين بمنع التقنين ، ولأن هذا التقنين قد أصبح ضرورة عصرية نظرا لأسباب كثيرة من أهمها ما يأتي :
أولا : سهولة الرجوع إلى أحكام التقنين ؛ لأن الكتب الفقهية معروضة بأسلوب يختلف عن أسلوب العصر ، وهي تغص بالخلافات والآراء والنظريات في نطاق المذهب الواحد فضلا عن المذاهب المختلفة ، وهذا يجعل غير المتخصصين في حرج وعسر وضيق حينما يريدون الأخذ بحكم فقهي معين راجح في النظرة الإسلامية أو في دائرة المذهب الاجتهادي ذاته (3) .
__________
(1) انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث بالمملكة العربية السعودية ، العدد 33 ، سنة 1412 ص 35 .
(2) انظر : مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ص 441 .
(3) انظر : جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ص 27 – 28 .(30/22)
ثانيا : حاجة المستجدات إلى حكم شرعي ليس له ذكر في الكتب الفقهية المعتمدة لدى القضاة ، وتركها لاجتهادهم ليس من الحكمة لكثرة مشاغلهم ، وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل مستجد ، خصوصا مع تطور الحياة وكثرة المستجد فيها (1) .
ثالثا : التقنين يمنع التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم تأخذ بالقوانين الوضعية وتنبذ الشريعة ظهريا ، كمحاكم فض المنازعات التجارية ونحوها ، مما كان له أثره في تفتيت الوحدة القضائية ، وتقليص اختصاص المحاكم الشرعية (2) .
وقد رأينا كيف أن حاكم مصر الخديوي اسماعيل قال لرفاعة الطهطاوي : إن الفرنجة قد صارت لهم حقوق ومعاملات كثيرة في هذه البلاد ، وتحدث بينهم وبين الأهالي قضايا ، وقد شكا الكثيرون من أنهم لا يعلمون الحكم لهم أم عليهم ، ولا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم ، لأن كتب الفقه معقدة وكثيرة الخلاف ، فاطلب من علماء الأزهر أن يضعوا كتابا في الأحكام المدنية الشرعية يشبه كتب القانون في تفصيل المواد واطراح الخلاف ، فإن لم يفعلوا وجدتني مضطرا للعمل بقانون نابليون الفرنسي (3) .
رابعا : احتكاك بلادنا ببقية بلدان العالم يستدعي كتابة المواد التي يتقاضى إليها ، خاصة أن غيرنا سيطالبنا بها إذا أردنا أن نقاضيه إلى شرعنا ، إذ لا يمكن أن نحيله إلى مجموعة من كتب الفقه المذهبي أو المقارن .
__________
(1) انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 33 ، ص 48 – 49 .
(2) انظر : الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، محمد بن الحسن الحجوي 2 / 422 .
(3) انظر : الجريمة والعقاب في الشريعة الإسلامية ، المستشار السيد الهندي ص 48 – 49 .(30/23)
خامسا : ترك أمر التطبيق لاجتهاد القضاة في أرجاء البلاد المختلفة يجعل أحكامهم متعارضة ، وهذا يؤدي إلى البلبلة والاضطراب ، ويهدر الثقة بالمحاكم ، وقد حدث هذا فعلا في المملكة العربية السعودية خلال فترة معينة ، مما دفع إلى إلزام القضاة بالحكم بمضمون كتب معينة (1) .
سادسا : التقنين يتيح للمتقاضين فرصة العلم بما يتجه إليه الحكم سواء أكان لهم أم عليهم ، وهذا من شأنه أن يدفعهم لعدم الدخول في الخصومة ابتداء ، أو محاولة حلها بعيدا عن ساحات القضاء تجنبا للسلبيات المترتبة على طرح القضايا في هذه الساحات (2) .
سابعا : للتقنين أصداء إيجابية لا يمكن لأحد أن ينكرها ، فقد دفعت فكرته إلى الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي من خلال منهج يحفظ العلاقة بين النص والواقع ، ويزيل العصبية المذهبية ، كما دفعت إلى صحوة في الدرسات الفقهية المقارنة ونشأة الموسوعات الفقهية كموسوعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية ، والموسوعة الكويتية للفقه الإسلامي ، وواكبت هذه الحركة الموسوعية أعمال مساعدة لها تمثلت في إصدار فهارس لكتب أصولية وفقهية ، ومعاجم لبعض موسوعات الفقه (3) .
__________
(1) انظر : جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ص 28 .
(2) انظر : مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، الدكتور يوسف القرضاوي ص 306 .
(3) انظر : مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي ، الدكتور محمد إمام ص 296 – 299 .(30/24)
ثامنا : هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية تخطط للأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية لكنها تعجز بسبب عدم وجود شيئ ميسور تسير عليه ، وقد حدث ذلك في باكستان عقب الاستقلال ، وهناك حكومات أخرى تتعلل للتهرب من مطالبة الناس لها بتطبيق أحكام الشريعة بعدم وجود مشاريع قوانين مستمدة منها ، ولو أننا سلمنا بالمفاسد المترتبة على التقنين لكانت المصالح العامة التي يحققها والتي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفظ سببا في التغاضي عن هذه المفاسد تطبيقا لقاعدة إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما (1) .
ويكفي أن التقنين يحمل في طياته تحديدا لأبعاد الحكام الشرعي ، وبيانا لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد وصلاحيتها لكل زمان ومكان ، واستكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي.
ضرورات عملية التقنين :
هناك ضرورات لا يمكن أن يتم تقنين الأحكام الشرعية دون مراعاتها ، ومن أهمها ما يأتي :
( 1 ) فتح باب الاجتهاد للقادرين عليه ، والتحرر من الالتزام المذهبي المتشدد فيما يتعلق بالتشريع للمجتمع كله ، وهذا يستدعي ربط التقنين المنشود بمصادره الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة ، والفقه فيها على ضوء المقاصد العامة للشريعة الإسلامية ، والاجتهاد في المسائل والأوضاع الجديدة لاستنباط حكم مناسب لها ، وإعادة النظر في تراثنا الفقهي بمختلف مدارسه ، والانفتاح على المذاهب الفقهية المعتبرة لأخذ أفضل ما فيها في كل مسألة ، بعد النظر والتمحيص في ضوء الأدلة وقواعد الاستنباط ، إذ لا يوجد مذهب واحد يحتوي على الراجح في كل مسألة .
__________
(1) انظر : مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 33 ، سنة 1412 ص 49 .(30/25)
ولعل في هذا المسلك ما يدفع لزيادة الاهتمام بدراسة الفقه المقارن في الجامعات الإسلامية وفي كليات القانون ، وإلى خدمة فقه المذاهب بمؤلفات جديدة تخرجه من التعقيد الوعر إلى التقعيد والتبسيط ، ويجب أن يتخلى أنصار المذاهب عن مذهبيتهم عند البدء في عملية التقنين بحيث يؤخذ من المذاهب المختلفة ما هو أليق بروح العصر ومصالح الناس فيه (1) .
( 2 ) تنظيم العلاقة بين الإفتاء والقضاء ، فحينما يستشار المفتي من قبل الأفراد في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية مثلا فعليه أن يفتي بالرأي الذي يطبقه القضاء مما يجعل صاحب القضية أكثر اطمئنانا وشعورا بالعدالة .
( 3 ) تشكيل لجان عليا لصياغة مواد التقنين ، وهذا يتطلب عددا وافرا من العلماء وأساتذة الجامعات من الأقسام الشرعية والقانونية ، وكذلك من الباحثين ، وعلى هذه اللجان أن تستفيد من التجارب السابقة للتقنين ، حتى تلك التجارب التي لم يكتب لها أن ترى النور؛ لأن المعرفة تراكمية ، مع ملاحظة تجنب السلبيات التي حفلت بها تلك التجارب.
( 4 ) يوضع لمواد التقنين مذكرات توضيحية ، تفصل الحالات ، وتذكر المحترزات، وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل ، وتذكر أصل كلّ مادةٍ أو حكمٍ من الفقه الإسلامي ، وإن انفرد بها مذهب معين ذكرت أسباب أخذها بما انفرد به ذلك المذهب ، كما تعتني بذكر دليل كلّ مسألة من الكتاب أو السنة أو كليهما ، وإذا كان في المسألة إجماع ذكرت مستندها في ذلك ، وإذا لم تجد دليلاً خاصاً ذكرت اندراجها تحت القواعد العامة ، وبهذا يجد المطلع على هذه المذكرة التفسيرية ما يشفي غليله ويجيب عن تساؤلاته.
__________
(1) انظر : مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، الدكتور يوسف القرضاوي ص 273 – 276 ، 304.(30/26)
( 5 ) يجب أن تخضع مواد التقنين للمراجعة على ضوء التطبيق العملي بعد مرور وقت كافٍ ، بحيث يؤخذ رأي القضاة وأهل العلم الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في المواد التي قيدت ، وكذلك المحامين والمهتمين بشأن القانون عموما لتعديل ما يحتاج إلى تعديل ، وإضافة ما يحتاج إلى إضافة .
( 6 ) يجب أن نميز بين الأصول والفروع والكليات والجزئيات والغايات والوسائل، ففي الأولى نكون في صلابة الحديد ، وفي الثانية نكون في ليونة الحرير ، وهذا لا يعني التفريط في شيئ من الإسلام ، بل يجب أن يؤخذ كله لأنه كل لا يتجزأ ، فلا يجوز أن نأخذ ببعض القوانين ونترك البعض الآخر ، كما لا ينبغي أن تقصى القيم والأخلاقيات الإسلامية عن كافة مؤسسات المجتمع ، لأن القوانين الإسلامية تتنزل على واقع تصوغه القيم والمفاهيم والأخلاق الإسلامية ، وإلا حملنا هذه القوانين أوزار غيرها (1) .
( 7 ) يجب أن تكون صياغة القوانين مرنة أحيانا بحيث تعطي للقاضي معيارا يجعل له سلطة في التقدير ، وجامدة في أحيان أخرى بحيث تضع أمامه حلا واحدا لا يتغير بتغير الظروف ، وهذا يرتبط بطبيعة الحكم المقنن .
كما يجب أنّ تجعل الصياغة بعبارة مقتضبة غير متسمة بالتعقيد ، وواضحة لا يشوبها الغموض ، ودقيقة لا يعتريها الإبهام ، كما يجب أنّ يأخذ اللفظ معنى واحداً ، فلا يتغير معناه من مكان إلى مكان في نفس الموضوع ، بل يلتزم معناه في كلّ استعمالاته ، ويتجنب ركيك العبارة ، ويحذف ما لا يحتاج إليه من الأقوال والخلافات ، ويقتصر على الراجح أو المشهور أو ما به العمل .
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص 280 – 281 .(30/27)
( 8 ) أن تكون القوانين قليلة موجزة الأسلوب واضحة المعالم والحدود من حيث الأول والآخر والسّعة والضيق وخالية عن القيود والشروط والاستثناءات ما أمكن فإن طبيعة البشر لا تتحمّل القوانين الكثيرة ، وأن يكون وضع القانون حسب الواقع المعاش لا حسب الفرض الممكن ، وأن يكون لمطلق الناس لا لنسبة خاصة منهم .
الخاتمة
يجدر بي وقد انتهيت من هذه الدراسة أن أختم بأهم نتائجها وتوصياتها ، وأبدأ بأهم النتائج وهي على النحو الآتي :
أولا : المقصود بالتقنين صياغة أحكام الشريعة الإسلامية الملزمة للناس وذات الموضوع الواحد في صورة قواعد عامة مجردة ومرتبة ومرقمة على هيئة المواد القانونية الحديثة ، بحيث تكون مرجعا سهلا محددا ، يمكن بيسر أن يتقيد به القضاة ، ويرجع إليه المحامون ، ويتعامل على أساسه المواطنون .
ثانيا : من الممكن أن نستغني عن كلمة التقنين بكلمة تدوين أو تنظيم أو نحوهما ، إلا أننا نؤثر استعمالها لشيوعها في العصر الحديث ، ولأن بعض الأئمة المتقدمين قد استعملوها في مدوناتهم وكتبهم ، حيث كانت مستخدمة في عصرهم ، وهم لم يعولوا على الاسم بقدر ما عولوا على المضمون والمسمى ، فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني .
ثالثا : الإستعراض التاريخي يوضح أن فكرة تقنين الأحكام الشرعية من حيث العموم كانت مطروحة للتنفيذ في مراحل متقدمة من تاريخنا الإسلامي ، وخرجت إلى حيز التنفيذ في مراحل متأخرة ، ولا زال العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء في بقاع مختلفة من عالمنا الإسلامي(30/28)
رابعا : حاولت فئات من خصوم تطبيق الشريعة الإسلامية منع تقنين أحكامها ، ويأتي على رأس هؤلاء من احتلوا بلدان عالمنا الإسلامي إبان فترة الانحطاط الحضاري التي مرت بها أمتنا ، كما حرص بعض العلمانيين على رفض أية فكرة لمحاولة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية متذرعين بالحفاظ على قدسيتها ، وهدفهم من وراء ذلك إقصاء الشريعة الإسلامية عن حياة المسلمين.
خامسا : بناء على اختلاف الفقهاء في جواز إلزام القاضي بالقضاء وفق مذهب معين كان للعلماء موقفان من مسألة التقنين ، فقد منعه بعضهم ، وأجازه البعض الآخر ، ولكل أدلته التي استند إليها ، إلا أن http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2005/08/article04.shtml - top#topموقف المجيزين للتقنين هو الأجدر والأحرى بالقبول لوجاهة الأدلة التي استدلوا بها ، ولإجابتهم عن أكثر أدلة القائلين بمنع التقنين ، ولأن هذا التقنين قد أصبح ضرورة عصرية نظرا لأسباب كثيرة بينتها في هذا البحث كما بينت الضرورات التي لا يمكن أن يتم تقنين الأحكام الشرعية دون مراعاتها .
وأما التوصيات فمن أهمها ما يأتي :
أولا : السعي إلى تكوين جيل جديد من العلماء الذين يجمعون بين الثقافة الشرعية الأصيلة وبين الثقافة القانونية الحديثة ، بحيث يمكن تقنين الفقه الإسلامي دون أن يفقد أصالته.
ثانيا : ضرورة أن يكون لكليات الشريعة والقانون دور في تقنين الأحكام الشرعية يبدأ بإدخال فكرة التقنين ضمن توصيفات المناهج الدراسية ، ويمر بالمشاركة في إعداد مشرعات قوانين ، وينتهي بمراجعة وتدقيق ونقد ما يتم إنجازه في هذا السياق .(30/29)
ثالثا : لابد من التعاون الدائم والفعال بين المتخصصين في الشريعة وبين المتخصصين في فروع القانون المختلفة لتقنين الأحكام الشرعية ، والعمل على توحيدها في بلدان عالمنا الإسلامي ، ولن يتأتى هذا بالطبع إلا إذا تم توحيد بعض المناهج الدراسية في كليات الشريعة وكليات القانون بحيث تكون هناك أرضية مشتركة ينطلق الجميع في عالمنا الإسلامي منها .
والحمد لله رب العالمين
المراجع
القرآن الكريم
- أخبار المدينة ، أبو زيد النميري البصري ، دار الكتب العلمية 1996 م بيروت .
- الأم للشافعي ، دار المعرفة 1393 هـ بيروت .
- بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون ، دكتور محمد عبد الجواد ، نشر منشأة المعارف 1991 م الإسكندرية .
- التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية ، دكتور محمد عبد الجواد ، مطبعة جامعة القاهرة 1977 م القاهرة .
- الجريمة والعقاب في الشريعة الإسلامية ، المستشار السيد الهندي ، دار الهداية ، القاهرة
- جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الدكتور وهبة الزحيلي ، مؤسسة الرسالة 1987 م بيروت .
- حلية الأولياء ، أبو نعيم ، دار الكتاب العربي 1405 هـ بيروت.
- سنن أبي داود ، دار الفكر ، بيروت ، بدون تاريخ .
- سنن الترمذي ، دار إحياء التراث ، بيروت ، بدون تاريخ .
- سنن ابن ماجه ، دار الفكر ، بيروت ، بدون تاريخ .
- سير أعلام النبلاء للذهبي ، مؤسسة الرسالة 1413 هـ بيروت .
- الفتاوى لمحمد رشيد رضا ، جمع د. صلاح الدين المنجد، ويوسف خوري ، دار الكتاب الجديد ، بيروت .
- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، محمد بن الحسن الحجوي ، المكتبة العلمية 1977م المدينة المنورة .
- مجلة البحوث الإسلامية ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية ، العدد 31 ، سنة 1411.
- مجلة البحوث الإسلامية ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية ، العدد 33 ، سنة 1412 هـ.(30/30)
- مجلة المسلم المعاصر العدد الحادي عشر 1977 م الكويت.
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية .
- المدخل إلى الشريعة والفقه الإسلامي ، الدكتور عمر الأشقر دار النفائس 2005 م الأردن .
- مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ، الدكتور يوسف القرضاوي ، مكتبة وهبة 1991 م القاهرة .
- مدخل لدراسة القانون وتطبيق الشريعة الإسلامية ، الدكتور عبد الناصر العطار ، مطبعة السعادة ، القاهرة ، بدون تاريخ .
- المدخل للتشريع الإسلامي ، الدكتور محمد النبهان ، دار القلم 1977 م بيروت.
- مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر وملامحه ، الدكتور شويش المحاميد ، دار عمار 2001 م الأردن .
- المغني لابن قدامة ، دار الفكر 1405 هـ بيروت .
- مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي ، الدكتور محمد إمام ، المؤسسسة الجامعية للدراسات 1996 م .
- نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات في الفقه الإسلامي ، عبد الحليم الجندي ، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ، جمهورية مصر العربية.(30/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
……
تقنين الأحكام الشرعية
ودورها في إثراء المنظومة القانونية الجزائرية
إعداد: الدكتور عبد المجيد بوكركب
جامعة –باتنة-
كلية الاجتماعية والعلوم الإسلامية - الجزائر
توطئة:
الدارس للأدوار التي مرّ بها تطور الفقه الإسلامي يجد بأن مسألة جمع أحكامه على صيغة القوانين الوضعية الحديثة لم تعرف إلاّ في أواخر القرن الماضي 13هـ/19م، وذلك عندما لجأت الدولة العثمانية سنة 1276هـ/ 1868م إلى تقنين الأحكام المتعلقة بالمعاملات المدنية، والتجارية، رغبة منها في التسهيل على القضاة، والمتقاضين في إيجاد الحكم الشرعي للنوازل المستجدة، خاصة وأن الاختلافات الفقهية. في هذا العهد قد استشرت بسبب انعدام الاجتهاد واستفحال ظاهرة التقليد، فكان هذا العمل بمثابة فتح عظيم على الفقه الإسلامي، مما دفع بدول العالم الإسلامي إلى استحسان هذه الفكرة، وجعل الشريعة الإسلامية أهم مصادر تقنيناتها، وخاصة فيما يتعلق بأحكام الأسرة.
ومع ذلك نجد من المسلمين من رفض هذا المنهج ودعا إلى تجنبه وجعل القوانين الغربية المصدر الأول للتقنين ثم تأتي الشريعة في المرتبة الثانية، ومن ذلك البلاد الجزائرية التي قننت قانون الأسرة من أحكام الشريعة وجعلتها المصدر الأوحد له، بينما القوانين الأخرى وضعتها بالاعتماد على المنظومة الفرنسية.
ولبيان هذه المسألة سأعرض لهذه المسألة بتحديد جذورها التاريخية، وموقف العلماء منها، وتوضيح الضوابط التي تحكمها لأخلص في الأخير إلى بسط الكلام حول دور الأحكام الشرعية في إثراء المنظومة القانونية الجزائرية، وفيما يلي بيان لهذه العناصر.
المراد بتقنين الأحكام الشرعية العملية:
…سبق وأن أشرت إلى أنّ هذا المركب الإضافي لم يظهر إلاّ في أواخر القرن الماضي، وعليه فإنه لم يُعرَفْ لدى علماء اللغة، والفقه المتقدمين، وإنما ظهر عند المتأخرين الذين عملوا على تحديد مفهومه، وضبط عباراته.(31/1)
لذلك ، أرى أنه من الأفيد أولاً ضبط معنى التقنين لغة،واصطلاحا.
أ-تعريف التقنين لغة:عرّفه المعجم العربي الأساسي بأنه: "من قنّنَّ يقنّن تقنّينا، بمعنى: الوضع والسَنّ، لذلك نقول: وضع المشرع القوانين أو سَنَهَا(1)
فالتقنين مشتق من كلمة "قانون" الذي هو مقياس كل شيء، وطريقه، وأصله، قال صاحب المحكم: "وأراها دخيلة(2)، وجاء في تاج العروس: "أنه قيل: هي فارسية، وقيل هي: رومية(3) .
يظهر من التعريف أن كلمة "قانون" ليست عربية، بل هي دخيلة عليها، ومنها اشتقت كلمة التقنين التي تجد لها أساسا في القواميس الغربية والتي عرفتها بأنّها: حصر، وجمع نصوص تشريعية أو تنظيمية لموضوع واحد في كتاب معين (4).
ب – تعريف التقنين في الاصطلاح الفقهي:
…عرّف الفقهاء المعاصرون هذا المصطلح بتعاريف عدّة جميعها تفيد بأنّه التدوين، والجمع، والترتيب فنجد مثلا "المحمصاني" يعرّفه بأنّه: "اصطلاح حقوقي جديد، وهو تدوين القوانين" (5).
…بينما نجد العلامة "مصطفى الزرقاء" يفيض في تعريفه ويقدم لنا تعريفا "وافيا" فيقول: " يقصد بالتقنين جمع الأحكام، والقواعد التشريعية المتعلقة بمجال من مجالات العلاقات الاجتماعية، وتبويبها، وترتيبها وصياغتها بعبارة آمرة موجزة، واضحة في بنود تسمى مواد ذات أرقام متسلسلة، ثم إصدارها في صورة قانون أو نظام تفرضه الدولة، ويلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس»(6).
__________
(1) ألّفه جماعة من كبار اللغويين العرب 1010.
(2) على ابن إسماعيل ابن سيده:المحكم المحيط الأعظم في اللغة 6/86.
(3) الزبيدي المرتضى: 9/315.
(4) Petit la Rousse P, 217.
(5) الأوضاع التشريعية في الدول العربية، ماضيها وحاضرها 149.
(6) المدخل الفقهي العام: 1/313. القرضاوي: مدخل لدراسة الشريعة 297.(31/2)
وقريبا من هذا التعريف ذهب "جمال الدّين عطية" فقال بأن التقنين هو: "تجميع الأحكام القانونية المبعثرة بين مختلف القوانين والأحكام القضائية، والعرف، وإصدارها في مجموعة، واحدة لكل فرع من فروع القانون كالمدني، والتجاري والجزائي، وهكذا، وترتب الأحكام في كل مجموعة ترتيبا موضوعيا، وفق تصنيف واضح تقسم فيه الأبواب، والفصول، وتوضع المواد القانونية في مكانها من هذا التصنيف بعد صياغتها صياغة محكمة...» (1) .
هذا وقد أجمل سماحة الشيخ "صالح بن فوزان الفوزان" ما ذهب إليه "الزرقاء"، و"عطية" فقال بأن المراد بالتقنين هو: "وضع مواد تشريعية يحكم بها القاضي، ولا يتجاوزها(2) .
…يستفاد من هذه التعريف أن المراد بالتقنين هو: السنّ، والوضع للأحكام الشرعية على شكل مواد مختصرة ذات أرقام متسلسلة يحكم وفقها القاضي في المسائل التي تُعرض عليه، ولا يتجاوزها بحال.
ج-التعريف بتقنين الأحكام الشرعية العملية:
…بناءً على التعريف السابق لمصطلح التقنين نجد جمهرة الفقهاء المعاصرين قد عرَّفوا هذا المركب الإضافي على النحو الآتي :
قال محمد زكي عبد البر هو: "صياغة الأحكام الفقهية في مواد موقعة على هيئة القوانين بعد اختيار أصحها، وأقواها دليلا على أن لا يبدل فيها شرع اللَّه، ولا يشرع فيها من الدين ما لم يأذن به اللّه " (3).
وعرفه "وهبة الزحيلي" بقوله:«هو صياغة أحكام المعاملات وغيرها من عقود ونظريات ممهدة لها في صورة مواد قانونية يسهل الرجوع إليها»(4)
__________
(1) تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية : مجلة المسلم المعاصر، عدد 11/37.
(2) تقنين الشريعة الإسلامية بين التحليل والتحريم 11.
(3) محمد زكي عبد البرتقنين الفقه الإسلامي 21.
(4) جهود تقنين الفقه الإسلامي 26.(31/3)
ثم زاد "الزرقاء" هذا التعريف وضوحا حين قال: "ونقصد بتقنين الفقه الإسلامي تطبيق طريقة التقنين الآنف الذكر على الأحكام الفقهية المأخوذة من مذهب واحد"(1) أي تبويب، وترتيب، وصياغة الأحكام الفقهية المأخوذة من مذهب واحد-إن أرادت الدولة ذلك –في الشكل بنود تسمى مواد ذات أرقام متسلسلة، ثم يتم إصدارها بعد ذلك في كتاب مستقل يسمى التشريع الجنائي أو المدني أو التجاري ...الخ.
…وقد أتى الدكتور "محمد الزحيلي" بتعريف أراه حسنا؛ لأنه يدعو إلى أن لا يقف المقنّن عند قول واحد لمذهب واحد فقط، وإنّما له أن يختار أحد أقوال المذاهب الأخرى الذي يعتمد على الدليل القويّ، ويتم بعد ذلك جمع هذه الاختيارات في قانون مدوّن مسطور مرتب لكي يسهل التعرف على الحكم من قبل المسلمين(2).
…يظهر من هذه التعاريف أن عملية تقنين الفقه الإسلامي أو الأحكام الشرعية العملية لابد لها من توفر ركنين وهما
-الأول: وهو الركن الشكلي، ويتمثل في الطريقة التي تكتب وفقها الأحكام الشرعية.
-والثاني:وهو الركن الموضوعي، ويقصده به تلك القواعد، والمبادئ التي تزخر بها الأحكام الفقهية المنظمة للعلاقات المختلفة.
…كما يظهر أيضا من هذه التعاريف أن مجال التقنين هو المعاملات فقط؛ ذلك لأنه كما مرّ معنا يقصد به مجموعة القواعد التي تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم، وعليه فهو لا ينظم علاقاتهم مع ربهم؛ لأن هذه العلاقة ليست اجتماعية؛ وإنما هي علاقة تعبدية محضة لا يصح تقنينها على اعتبار أن أحكامها ثابتة بنصوص قطعية الثبوت والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيها .
الجذور التاريخية لعملية تقنين الأحكام الشرعية العملية:
__________
(1) المدخل الفقهي 1/313.
(2) التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية 110.(31/4)
يرى الكثير من الباحثين أن البداية الرسمية لتقنين الأحكام الشرعية العملية كانت عندما اتجهت الحكومة العثمانية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى تأليف مجلة الأحكام العدلية على شكل القانون المدني الفرنسي.
وعليه فما كان قبلها ما هو إلاّ مجرد محاولة لجمع الناس على مذهب واحد كما حدث "لأبي جعفر المنصور" مع "عبد الله بان المقفع"(1) ومع الإمام "مالك " (2)– رضى الله عنه-.
ثم بعد تأليف هذه المجلة ظهرت محاولات رسمية أخرى ترنو إلى تقنين الفقه الإسلامي، وذلك في مختلف الدول العربية، والإسلامية، وفيما يلي إطلالة سريعة على محتوى هذه المجلة العظيمة، ثم ألمح بعد ذلك إلى التعريف ببعض المجهودات التي بذلت بعدها.
أولا: مجلة الأحكام العدلية أول تقنين للأحكام الشرعية العملية:
…تعد هذه المجلة أول تقنين رسمي للأحكام الشرعية العملية،وللوقوف على أهميتها يحسن بنا التعرض بالشرح للعناصر التالية:
أ- سبب تأليف المجلة:
بالنظر إلى الظروف التي أنشئت فيها هذه المجلة يظهر بأن ثمة أسباب دعت إلى سنّها، لخصها بعضهم في:
-تنامي الدعوة إلى الإصلاح في أوروبا: (3)
__________
(1) حيث بعث له برسالة يدعوها فيها إلى إصلاح القضاء، ومؤسسات الدولة، وذلك بجمع ،وتدوين أقضية الصحابة وفتاويهم. (أحمد زكي، حمزة: رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة3/30-48).
(2) حيث استجاب الإمام مالك لطلب الخليفة فألف كتابه الموطأ الذي يعد تقنينا لأحكام الفقه، إلا أنه رفض حمل الناس عليه." أبو نعيم" الأصبهاني: حلية الأولياء وظيفة الأصفياء 6/331-332، جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية: مجلة المسلم المعاصر 39.
(3) المحمصاني صبحي: الأوضاع التشريعية 162،وهبة الزحيلي: جهود تقنين الفقه الإسلامي48.(31/5)
لقد تميز القرن التاسع في بداياته بالدعوة إلى تدوين القوانين في أوربا، وخاصة بعد تدوين القانون المدني الفرنسي، الذي تأثر به العثمانيون، فكان ذلك دافعا للمطالبة بالإصلاح(1) مما ترتب عليه ظهور تغير في المنظومة القضائية العثمانية حيث برز في القضاء الشرعي ازدواجية المحاكم والقضاء، وتأسس القضاء النظامي إلى جانب القضاء الشرعي، فصدرت بذلك: إرادات سلطانية في بعض المسائل الفقهية كمنع سماع الدعوى مع مرور الزمن،وعدم نفاذ وقف المدين بالقدر الذي يتوقف عليه تسديد الدّين من أمواله(2).
-إنشاء المحاكم النظامية: تعمدت السلطة العثمانية إنشاء محاكم نظامية مستقلة عن المحاكم الشرعية،فوضت لها بعد ذلك النظر في مختلف الدعاوي التي كانت تختص بها المحاكم الشرعية(3)، ولأجل التسهيل على قضاة هذه المحاكم والذين لم يكون باستطاعتهم أخذ الحكم الفقهي من الكتب الفقهية دعت الحاجة إلى تجميع الأحكام الشرعية المدعمة بالأقوال القوية المعمول بها، فصدرت إرادة سلطانية بتكوين لجنة من مشاهير العلماء لتقنين هذه الأحكام على شكل قانون عام، وكان ذلك في عهد السلطان الغازي "عبد العزيز خان العثماني" حيث ابتدأ عملها رسميا عام 1286هـ/1989م وانتهى أواسط عام 1293هـ/1876م، و كتبت أولا باللغة التركية ثم ترجمت إلى العربية(4).
ب- التعريف بالمجلة:
__________
(1) وهبة الزحيلي:جهود تقنين الفقه الإسلامي، 48.
(2) على محمد جعفر:تاريخ القوانين ومراحل التشريع الإسلامي 182.
(3) محمد بوزغيية :حركة تقنين الفقه الإسلامي بالبلاد التونسية 46.
محمد الزحيلي: تاريخ القضاء في الإسلام 443-444، مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام1/ 238 وما بعدها.
(4) محمد عبد الجواد ومحمد: بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون 22.
الزركلي: الأعلام 1/103، كحالة: معجم المؤلفين 1/184.(31/6)
…هي مجموعة الأحكام الشرعية المتعلقة بقسم المعاملات دون العبادات، ألفها أصحابها من كتب ظاهر الرواية في المذهب الحنفي غير ملتزمين بالقول الراجح في المذهب، وإنما بالقول الذي يوافق حاجات العصر تيسيرا، وتخفيفا على الناس، والدليل على ذلك أنك تجدهم في بعض الأحيان لا يلتزمون بالمذهب الحنفي وإنما يأخذون بقول أحد أئمة الإسلام سواء كان من أئمة المذاهب الأربعة أو من غيرهم، ومن ذلك تجدهم في أحكام البيع بالشرط يأخذون بقول عبد الله بن شبرمة(1) ولم يتركون مذهب أبي حنيفة.
هذا وقد رتبت مباحثها وفق منهج الكتب والأبواب الفقهية التي درج عليها الفقهاء المتقدمين إلاّ أنها ميّزت-فصلت- بينها بمواد ذات أرقام متسلسلة كالقوانين الحديثة ليسهل الرجوع إليها، والإحالة عليها فجاء مجموعها في ألف وثمان مائة وإحدى وخمسين مادة (1851 مادة). (2)
محتواها:
__________
(1) هو أحد كبار فقهاء الكوفة، توفي سنة 144 هـ/761م ابن حجر : تهذيب التهذيب 5/25.
(2) محمد مصطفى الزرقاء:المدخل الفقهي 1/240، الصابوني ومن معه:
المدخل الفقهي وتاريخ التشريع الإسلامي 365، محمد أبو زهرة الموسوعة الفقهية 1/99. شبلي مصطفى: المدخل إلى الفقه الإسلامي 159، محمد فريد بك: تاريخ الدولة العثمانية 298، عبد الستار الخويلدي: الخصائص المنهجية لمجلة الأحكام العدلية العثمانية: المجلة العربية التاريخية للدراسات العثمانية – تونس- عدد 13-14 أكتوبر 1996، ص130، صبحي المحمصاني: فلسفة التشريع في الإسلام،85 .(31/7)
…الناظر في مضمون هذه المجلة يجد بأن أصحابها اتبعوا في تبويب، وتنظيم أحكامها نفس المنهج الذي اتبعته القوانين الوضعية الحديثة، حيث قسمت إلى أبواب، وفصول، وأقسام،لكنها تختلف عنها بذكر بعض الأمثلة والتفسيرات في متن المواد ليسهل فهمها وتطبيقها(1).
كما احتوت أيضا على تسع وتسعين قاعدة فقهية(2) وستة عشر كتابا(3) تعالج جميعها المعاملات المدنية والتجارية وأحكامها القضائية(4).
لكن رغم هذا المجهود فإنه يلاحظ على المجلة أنها لم تشر إلى الأحكام القضائية الخاصة بالأسرة من زواج وطلاق، وأحكام الأولاد، من نسب وولاية، وميراث ووصية وكذا أحكام الوقف، وأحكام العقوبات؛بحجة أن هذه الأحكام كان يطبقها قضاة شرعيون بينما الأحكام المدنية والتجارية كان يطبقها حكام غير شرعيين(5).
مزايا المجلة:
__________
(1) صبحي المحمصاني: الأوضاع التشريعية 170، محمد بوزغيبة:حركة تقنين الفقه......49-50، جمال عطية: تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية42.
(2) أخذت في معظمها من كتاب الأشباه والنظائر لأبن نجيم (ت 970هـ/1563م) وكتاب المجامع لأبي سعيد الخادمي( كان حيات 1168هـ/1755م)
(3) و تتضمن جميع الأبواب الفقهية التي تعارف عليها الفقهاء المتقدمين من بيوع وإيجارات وكفالة وحوالة ورهن وأمانات وهبة وغصب،وإتلاف وحجر و شفعة ومختلف الشركات ووكالة وصلح وإبراء وإقرار ودعاوى وبينات وقضاء، محمد بوزغيبة: حركة التقنين......50-51.
(4) الزرقاء: المدخل 1/240، جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة ، م المعاصر 42.
(5) محمد أبو زهرة: الموسوعة الفقهية1/100.(31/8)
لقد كان صدور المجلة على شكل مواد قانونية فتحا جديدا في تاريخ الفقه الإسلامي، ذلك لأنها ملأت فراغا كبيرا في عالم القضاء، والمعاملات الشرعية خاصة وأنها كانت مبعثرة، و متناثرة في بطون كتب الفقه فأصبحت منظمة مقننة أحسن تقنين ملزمة للأفراد، و للقضاة، بحيث لا يجوز لهم أن يحكموا بغير ما نصت عليه إلا إذا لم يجدوا فيها ما يحكمون به، وبهذا تحقق حلم "ابن المقفع" -رحمه الله- منذ عهد الخليفة "أبي جعفر المنصور".
هذا وقد تميزت هذه المجلة عن المجلة الفرنسية، وغيرها من المجلات بوضع مقدمة عامة بمائة مادة، وتصدير كل فصل و كل كتاب بتمهيد، مع تقديم أمثلة لمزيد شرح المادة، والإسهاب في ذكر التعريفات، ورد المباحث، والفروع إلى مناسباتها، ومظانها.
كما قسمت المجلة مسائل كل كتاب إلى مواضيع أساسية، وفرعية كالتعريفات، والشروط والأحكام،وميزتها بفصول مضبوطة محددة، وألحقت كل مسألة بموضوعها، وبهذا يمكن القول بأن هذه المجلة هي بحق أول تقنين في العالم الإسلامي بالمعنى القانوني؛ لأنها اكتسبت صفة الإلزام بصدورها من قبل الدولة و عليه يكون ما سبقها مجرد تأليف علمي حر.
هذا ويؤخذ عليها أنها لم تتطرق بشيء من التفصيل إلى نظرية الالتزامات باستثناء بعض النصوص الخاصة بالمسؤولية التقصيرية التي تضمنها كتاب الإتلاف والغصب.
وقد ترتب على هذا النقص تأليف الكثير من القوانين المكملة لها وذلك مثل قانون الأراضي وقانون التصرف في الأموال غير المنقولة، ونظام إيجار العقار، وغير ذلك من القوانين الجزائية(1).
شروح المجلة:
نظرا لأهميتها العلمية، ولكونها عملا فريدا في تاريخ الفقه الإسلامي، فإن هذا المجهود النفيس قد اهتم بشرحه جمهرة من العلماء الأفذاذ الذين تركوا أعمالا جليلة أذكر منها:
__________
(1) علي الندوي: القواعد الفقهية 145، عبد الستار الخويلدي: الخصائص المنهجية لمجلة الأحكام 130. محمد الزحيلي: تاريخ القضاء في الإسلام 448.(31/9)
-شرح "مسعود أفندي" الموسوم بـ:"مرآة مجلة الأحكام العدلية"، وهو من أقدم الشروح باللغة العربية طبع بالاستانة سنة 1299هـ/1881م يحتوي على بيان صحيح للمآخذ، مع شرح وجيز واضح(1).
-شرح "سليم رستم باز اللبناني" الموسوم بـ: "شرح المجلة" طبع سنة 1888 وهو شرح يتميز بالوضوح والبعد عن التوسع(2).
-شرح "محمد سعيد المراد الغزي" الموسوم بـ:" كتاب الأدلة الأصلية شرح مجلة الأحكام العدلية" وهو شرح وجيز يقع في ثلاثة أجزاء صغيرة يحتوي على المواد الكلية وعلى مقابلات مفيدة(3)(4).
التقنين فيما بعد المجلة
استحسن الغالب من علماء الأمة العمل الذي قامت به اللجنة التي ألفت المجلة العثمانية، ولذلك تجدهم في مختلف عواصم البلاد العربية والإسلامية قد اهتموا بهذا العمل.
غير أن الناظر في مجهوداتهم يجد بأن منهم من مال إلى الأخذ من مذهب واحد من المذاهب الأربعة كما قال "محمد مخلوف" : « ولا مانع من اتخاذ المذهب الفقهي في البلاد أسّا في فروعه. وأصوله في العمل،ويضم إليه من باقي المذاهب ما تدعو الضرورة للأخذ به بدلا من بعض أحكامه تيسيرا على الناس، وأخذا بالأصلح والأعدل في هذا الزمان» (5).
__________
(1) صبحي المحمصاني: فلسفة التشريع 90.
(2) يعقوب عبد الوهاب الباحسين: القواعد الفقهية379.
(3) المحمصاني: فلسفة التشريع 90.
(4) الحق أن ثمة شروحا كثيرة قامت بشرح هذه المجلة ،ولم أذكرها مخافة التطويل،ولعل أهمها:-كتاب: درر الأحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، وشرح مجلة الأحكام العدلية للمحاسيني،وشرح المجلة لخالد الأتاسي،وشرح المجلة لمنير القاضي،وغيرها من الشروحات.
(5) قاسم عبد الرحمن: الإسلام وتقنين الأحكام 255.(31/10)
لكن البعض منهم رجّح الأخذ من جميع المذاهب الأربعة، ومن غيرها شريطة أن تتفق مع روح العصر، وتحقق مصالح الناس، وتنشر العدل والأمن بينهم (1)، وفيما يلي لمحة موجزة عن بعض هذه الجهود الجادة التي قننت الفقه الإسلامي:
أ-جهود التقنين في مصر:
تعود الجذور التاريخية لمحاولات تقنين الفقه الإسلامي في مصر إلى عهد"محمد علي" حيث عمل هذا الأخير على توحيد القضاء، واعتماد المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولة(2) وتكليف
الشيخ "محمد الجزائري" بوضع قانون مدني على شكل قانون" نابليون" غير متقيد بمذهب معين إلا أن الظروف الدولية آنذاك أجهضت عمله(3).
ثم في عهد "الخديوي إسماعيل" طلب هذا الأخير من علماء الأزهر تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات لكنهم تمنّعوا بحجة أن فيه خروجا على ما ألفوه(4)، وكذلك فعلوا مع" الخديوي توفيق" حيث رفضوا طلبه المتمثل في وضع تقنين مدني مستمد من الشريعة الإسلامية(5).
لكن بعد" الخديوي توفيق" تصدى "محمد قدري باشا" (1306هـ/1888م) لهذا العمل النفيس وقام بمجهودات فردية تكللت بوضع مشروعات قوانين قننت فيها الأحكام الشرعية العملية على مقتضى المذهب الحنفي ومنها:
__________
(1) عبد المنعم: نحو تقنين إسلامي صحيح، منار الإسلام 93، ع 10، س 8 شوال 1408.
(2) محمد مصطفى شلبي: أحكام الأسرة في الإسلام 16.
(3) محمد كمال الدين إمام: الخلفية الفكرية والتشريعية والاجتماعية لاستبعاد تطبيق الشريعة، م المعاصر 55 وما بعدها 1991.
(4) محمد رشيد رضا: تاريخ محمد عبده 1/620.
(5) م ن" ن ج ص.(31/11)
-كتاب "في المعاملات المدنية" الموسوم بـ:«كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان»، وهو كتاب نفيس اشتمل على ألف وتسعة وأربعين مادة تناول فيها أحكام الأموال، والحقوق المتعلقة بها، وأسباب الملك، والمدانيات والضمانات والحقوق عموما(1).
-كتاب:"الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية" على مذهب" أبي حنيفة النعمان" يتكون هذا الكتاب من 647 مادة تناول في مجموعها الأحكام الخاصة بالزواج، والطلاق، والنسب، والوصية،والهجر والهبة،والمواريث(2).
-كتاب:"العدل والإنصاف في حل مشكلات الأوقاف" ويتكون من 646 مادة يشمل الوقف وأحكامه،ولم يكن لهذا الكتاب موضع في المجلة وطبع سنة 1893 (3).
ب-التقنين في ليبيا:
قام الشيخ "محمد عامر" سنة 1937 بوضع بعض القواعد من الفقه المالكي في مجال المعاملات المدنية في صورة مواد قانونية موسومة بـ " ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب مالك"
وقد قسم هذا الكتاب إلى أربعة أقسام في القضاء الشرعي ومتعلقاته، وفي الأحوال الشخصية، وفي المعاملات، والتبرعات، وفي المواريث، وتقع جميعا في 928 مادة.
كما صدر في:28/10/1971 قرار: "يقضي بتشكيل لجان لمراجعة التشريعات، وتعديلها بما يتفق مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية خاصة في الزكاة والربا،والغرر،والوقف، والحدود " (4).
ج-التقنين في تونس:
لقد عرفت البلاد التونسية مجهودات كثيرة في مجال تقنين الأحكام الشرعية العملية، وذلك منذ عهد الأمان وإلى سنة 1965م
__________
(1) محمد دسوقي: الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية 191، جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة 42.
(2) م ن: 192.
(3) عطية: تاريخ تقنين 42.
(4) عطية :تاريخ ..... 42-43، وهبة الزحيلي:جهود تقنين 53.(31/12)
ولعل أهم هذه المجهودات تتمثل في "قانون عهد الأمان" الذي وضع بأمر المشير الثاني" محمد باشا باي" سنة 1857م، والذي احتوى على إحدى عشرة قاعدة فقهية رسمت جميعها منهجا إصلاحيا للسياسة التونسية وأرست نظاما قضائيا منظما وفق القواعد والأسس الحديثة.
ثم تتالت التقنيات الفقهية في هذه البلاد بعد عهد الآمان، والتي أخذت من مذهب الإمام "مالك" ومذهب "أبي حنيفة" فقط، ولعل أهمها يتمثل في:
-تقنين مجلة "الالتزامات والعقود "، وتقنين "مجلة الأحوال الشخصية" ،ومجلة الحقوق العينية،وكلها موضوعة بشكل كلي من أحكام الفقه الإسلامي. (1)
ح-التقنين في السعودية:
لقد عرفت البلاد السعودية رغم نفور أغلبية علمائها من كلمة «تقنين» محاولة جادة لتقنين الأحكام الشرعية العملية، وتتمثل في العمل القيم الذي قام به الشيخ "أحمد عبد الله القاري المكي" (2)، والموسوم بـ:«مجلة الأحكام الشرعية على فقه المذهب الحنبلي»، حيث وضعت على منوال مجلة الأحكام العدلية العثمانية، وتضمنت إحدى عشر كتابا موزعة على ألفين وثلاثمائة واثنين وثمانين مادة(2382) تناولت أحكام المعاملات ومسائل القضاء(3)(4).
خ-التقنين في الجزائر:
__________
(1) محمد بوزغيبة: حركة تقنين الفقه الإسلامي في البلاد التونسية 63 وما بعدها،( هذا وقد أفاض الدكتور محمد بوزغيبة الكلام عن هذه الحركة التقنينية في كتابه.
(2) كان رئيسا للمحكمة الكبرى على أساس المذهب الحنبلي، الزركلي: الأعلام 1/156.
(3) قام بدراسة وتحقيق المجلة:" عبد الوهاب أبو سليمان ومحمد إبراهيم أحمد ،ولم يقع طبعها إلا سنة 1420هـ /1998م.
(4) الزحيلي وهبة:جهود تقنين 53-54، عبد المنعم فؤاد: نحو تقنين إسلامي صحيح 92.(31/13)
إن المستقرئ لتاريخ تطور الفقه الإسلامي بالبلاد الجزائري يجد بأّن أهلها لم يعرفوا قبل الاستعمار الفرنسي مسألة تقنين الأحكام الشرعية العملية، وإنما كانوا يأخذون هذه الأحكام من كتب المذهبين المالكي والحنفي على اعتبار أنهم كانوا يتمذهبون بهذين المذهبين وخاصة أيام الحكم العثماني للجزائر(1).
لكن بعد دخول فرنسا الاستعمارية إلى التراب الجزائري عملت هذه الدولة على بسط نفوذها، وجعل أهل الجزائر يخضعون لأحكام قانون فرنسا، وذلك في جميع التصرفات، والمعاملات ما عدا ما يتصل بأحكام الزواج والطلاق.
هكذا، وبعد مرور نصف قرن من تجريد القضاء الإسلامي من اختصاصاته، وبعد أن قرروا فصل الدين عن الدولة أصدر في22 مارس 1905 الحاكم العام للجزائر" دومنيك لوسياني" قرارا: يقضي بتقنين أحكام الشريعة الإسلامية لتطبق بعد ذلك على المسلمين الجزائيين(2).
وبناء على هذا القرار عيّن "دومنيك" الأستاذ" مارسيل موران M.Morand" (3) بإعداد المشروع الموسوم بـ:"تدوين الحيثيات والخصوصيات في الشريعة الإسلامية المطبقة على المسلمين في الجزائر" (4)، وأسس هذا الأخير سنة 1906 لجنة تكونت من ستة عشر عضوا فرنسيا، وستة علماء جزائريين لتقنين الأحكام الشرعية الخاصة بالأسرة، والوقف، والعقارات، والبيّنات وفق المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي والاباضي(5).
__________
(1) أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي 4/528 وما بعدها ، و7/104 وما بعدها،
(2) جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة : م المعاصر 45، محمد بوزغيبة: تقنين الفقه الإسلامي بالبلاد التونسية 56.
(3) كان يومها عميدا لكلية الحقوق بالجزائر العاصمة.
(4) ثم اختصر عنوانها بعد ذلك فصار" مجلة الأحكام السارية الجزائرية(أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي7/105).
(5) م.ن: 4/533و 7/105، عطية:تاريخ تقنين ، م المعاصر 45.(31/14)
هذا وقد اجتمعت اللجنة لأول مرة في: 27 ماي 1905م وانتهت من عملها في 146 ماي 1914م بعد أن ألّفت سبعمائة وواحد وثمانين مادة (781م)، تتضمن أربعة كتب في الأحوال الشخصية والوقف والعقارات والبينات(1) .
لكن رغم دور" لوسياني" و"موران" فإن هذه المجلة قد صدرت باسم عالمين جزائريين هما: "مصطفى بن أحمد الشرشالي"،و"عبد الرزاق بن محمد الأشرف" وقد دامت فترة قصيرة، ولم تكن ملزمة، وإنما كانت للاستشارة فقط، ولذلك لم تعترف بها المحاكم العليا، حيث كانت ترى فيها مجرد مشروع ليست له أي أولوية على قواعد الفقه الإسلامي(2) .
كما لم تعترف بها غالبية الجزائريين؛ لأن نية فرنسا مكشوفة، وهي محاولة دمج الشريعة الإسلامية في القانون الفرنسي، وفتح أبواب التجنس ، والزواج المختلط، وما يترتب على ذلك من عواقب تؤدي إلى ذوبان الجزائريين في غيرهم، وقد حاول" موريس فيوليت" خلال العشرينيات عندما كان حاكما عاما إحياء المشروع عشية الاحتفال المئوي بالاحتلال لكنه فشل أيضا، ومنذ ذلك الحين دفن المشروع إلى أن استقلت الجزائر سنة 1962م، حيث قام المشروع الجزائري في سنة 1984م بتقنين أحكام الأسرة (3) ،والميراث والأوقاف وفق المذهب المالكي، وأصبح منذ هذا العام قانونا رسميا للدولة الجزائرية(4).
__________
(1) أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي 4/535-536.
(2) لقد جعل المشرع الجزائر الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد لقانون الأسرة،وهو ما أكدته المادة 222 منه إذا أشارت إلى أن:
(3) أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي 7/105-106.
(4) سيأتي الحديث بالتفصيل عن دور الأحكام الشرعية العملية في إثراء المنظومة القانونية.(31/15)
يظهر مما تقدم بيانه أن الأحكام الشرعية المتعلقة بالأسرة والأوقاف لم تقنن في الجزائر بصفة رسمية إلا بعد الاستقلال حيث أصبحت ملزمة بمجرد صدورها في الجريدة الرسمية،وعليه يمكن القول أن ما قامت به لجنة "موران" ليس تقنينا وإنما محاولة لتنظيم الأحكام الشرعية في كتاب مستقل كما فعل المتقدمون.
منهج التقنين:
الحق أن عملية تقنين الأحكام الشرعية تتطلب منّا الوقوف على المنهج الأمثل لتقنينها، وعلى الضوابط التي تحكم هذا المنهج، وفيما يلي كلمة مختصرة حول هاتين المسألتين:
أ-منهج التقنين: يقصد به كما قال السنهوري: " أفضل السبل التي تتبع في عملية التقنين»(1)
يستفاد من هذا التعريف أن المنهج الأمثل لتقنين الأحكام الشرعية العملية يجب أن يرتكز أساسا على معرفة الجهة المصدِّرة له، ثم الخطوات المنهجية لهذه العملية، ثم موضوع التقنين.
الجهة المصدرة للتقنين:
استقر العمل منذ المجلة العثمانية، وإلى يومنا هذا على أن يقوم بهذا العمل الجليل علماء الشريعة، وعلماء القانون الذين لهم دراية، بالمناهج العلمية المختلفة، وهذا ما أبانه الشيخ "أحمد محمد شاكر" بقوله: "يسند ذلك إلى لجنة قوية من أساطين رجال القانون، وعلماء الشريعة، ويجب أن تكون موفورة العدد، يُكوَّن منها لجنة عليا تضع الأسس،وترسم المناهج، وتقسم العمل بين لجان فرعية، ثم تعيد النظر فيما صنعوا ووضعوا لتنسيقه، وتهذيبه ...حتى إذا ما استقر الرأي عليه عرض على السلطات التشريعية لإقراره، وإصدار القانون للعمل به"(2)
__________
(1) وجوب تنقيح القانون المدني المصري 65
(2) شاكر: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدرا للقوانين في مصر 43.(31/16)
…وهذا ما طبقته جميع الدول العربية، وخاصة منها الجزائر التي أسندت جهة تقنين قانون الأسرة في سنة 1984م إلى أعضاء المجلس الأعلى الإسلامي، وإلى ثلة من القضاة، وعلماء القانون، وعليه يمكن القول بأن هذه المهمة النفيسة لا يجوز أن يتصدر لها فرد واحد، وأن يتوفر في الأعضاء شرط الاجتهاد، والإلمام بالمناهج القانونية المعاصرة، والمجالات العلمية الحديثة.
الخطوات المنهجية لعملية التقنين :
إنه لا يمكن لأي لجنة أن تفلح في عملها ما لم تتبع هذه الخطوات المنهجية، والتي من أهمها:
-التبويب: يقصد به تصنيف الأحكام المستخرجة من بطون الكتب الفقهية إلى أبواب، وفصول، ومباحث وهكذا ... (1)
…ويشترط أن يكون العمل علميا يوافق ما اتفق عليه علماء المنهجية، ونرى بأن ذلك لا يتحقق إلا بـ:
-أن يكون التبويب متماسكا ومنطقيا، ويتم هذا إذا ما روعي فيه تبيان الأهمية العلمية لهذه الأحكام.
اجتناب إظهار الجانب النظري للأحكام.
تنظيم الأبواب والفصول بحسب ورودها في المؤلفات الفقهية الأصلية، لأن التبويب الحسن يعين على الفهم والاستيعاب.
من الأحسن أن يتقدم –يتصدر- جميع الأبواب باب يتضمن القواعد العامة، وذلك مثل ما قامت به اللجنة المؤلَّفة للمجلة العثمانية، وفي ذلك تسهيل على القضاة، وربط للأحكام بالأصول الفقهية (2).
هذا ولا شك أن حسن التبويب يترتب عليه كما قال "السنهوري" عدة محاسن:
- غلبة الروح العلمية على الروح العملية، والفقهية، ويتحقق هذا بتجنب ذكر الأمثلة، والأسباب والتعليل والتعريفات، والتقسيمات الفقهية.
- تجنب الإحاطة بكل الجزئيات؛ لأن ذلك من مهمة الفقهاء والقضاة(3)
-الأسلوب:
__________
(1) محمد عبد الجواد : بحوث في الشريعة والقانون 38-39
(2) محمد زكي عبد البر: تقنين الفقه الإسلامي.
(3) وجوب تنقيح القانون المدني المصري، مجلة القانون والاقتصاد 70.(31/17)
…يقصد به تقنين الأحكام بألفاظ سهلة لا تعلو على إدراك المثقفين، ولا تنبو عنها أذواق المتخصصين بحيث يمكن فهمها دون اللجوء إلى التأويل، وهذا لتفادي ما وقعت فيه المجلة العثمانية(1).
-المصطلحات: اتّفق جمهور الباحثين على وجوب اعتماد المصطلحات الفقهية التي درج عليها المتقدمين في كتبهم (2).
موضوع التقنين : يقصد به مجاله، وأصله أو مصدره، وفيما يلي لمحة موجزة عن المقصود بهما:
أ-مجال التقنين: ذهب أغلب الباحثين إلى أن مجال التقنين ليس جميع الأحكام الشرعية من عقائد وأخلاق، وعبادات، وإنما هي الأحكام المتعلقة بقسم المعاملات(3) فقط، وهي عادة تثبت إما بنصوص قطعية الدلالة والثبوت، وإما بنصوص ظنية الدلالة، والثبوت وإما لم يرد بشأنها نص لا قطعي، ولا ظني وهو مجال خصب للتقنين.
ب-مصدره:يقصد به العلماء المصادر التي تستنبط منها الأحكام الشرعية المقننة وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة وإجماع الصحابة، وفتاويهم، والقياس الجلي الصحيح على كتاب الله وسنة بنية "ص"، مع جواز الرجوع إلى المصادر الفقهية التي ألفها المتقدمين لاختيار الرأي الراجح وذلك بعد دراسة مقارنة بين أقوالهم.
ضوابط التقنين:
أقصد بالضوابط تلك الأسس التي تجعل الأحكام الشرعية المقننة ملزمة للمسلمين؛ لأن الصياغة لا تكفي وحدها لتحقيق هذا المقصد النبيل، وعليه يمكن تلخيص هذه الضوابط في النقاط التالية:
__________
(1) محمد عبد الجواد: بحوث في الشريعة والقانون 37.
(2) شهر زاد بوسطلة: تقنين الفقه الإسلامي 97-98.
(3) ويقصد بها ما يتصل بـ:
-أحكام الأسرة (من زواج، وطلاق، وميراث، ووطنية ...)، -الأحكام المتعلقة بالحدود، والقصاص، والدية، والتعزير، الأحكام المتعلقة بالتنظيم القضائي، وكيفية إجراءاته وأنواعه، -الأحكام المتعلقة بالتنظيم السياسي القائم في الدولة، وواجبات الحكم وحقوقهم، وحقوق الأفراد.(31/18)
-أن تكون الشريعة مصدرا للتقنين:(1) بمعنى أنه لا يجوز أن يخرج المقنن عن المصادر المعروفة للشريعة الإسلامية، وإلاّ بطل عمله، ويترتب على هذا الضابط وجوب احترام المسلمين لجميع التقنينات التي تصدر عن اللجنة المكلفة بذلك، وهو ما يعرف في القوانين الوضعية بمبدأ المشروعية .
-مراعاة مقاصد الشارع من التشريع(2): المعروف أن ديننا الحنيف قد انبنى على رعاية المقاصد بأنواعها الثلاثة، من ضروريات (حفظ الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل)، ومن حاجيات وتحسينيات.
…لهذا يجب على المقنن أن يحترم هذه المقاصد جميعها ويحرص دائما على جلب المصلحة، ودفع المفسدة.
-مراعاة العرف: يقصد بالعرف هنا ما سار عليه الناس من قول أو فعل، أو ترك ما لم يخالف دليلا شرعيا ولم يحل حراما، ولم يبطل واجبا، وهذا ما نصت عليه المادة 21 من مشروع قانون إنشاء هيئة تقنين الأحكام الشرعية في الجمهورية اليمنية(3).
يتفرع عن هذا الضابط المبادئ التالية:
-العادة محكمة وهي قاعدة فقهية، والحقيقة تدرك بدلالة العادة، والعبرة للغالب الشائع لا للنادر، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان(4).
مما تقدم يتبين بأن عملية تقنين الأحكام الشرعية العملية لا يمكنها أن تكتسب الصفة الإلزامية إلا إذا تقيدت بمنهج واضح ومحدد، والتزمت بضوابط معينة، وبهذا تتميز عن غيرها من التقنينات الوضعية حيث نجد مثلا الجهة المصدرة للأحكام تتمثل في العلماء المجتهدين، بينما في غيرها تقوم بها السلطة التشريعية وكذلك مسألة توظيف القواعد الفقهية، ومراعاة المصطلحات الفقهية الأصلية، والمصالح، والعرف واعتبار مصادر الشريعة المصدر الوحيد للتشريع، وفي هذا اختلاف كبير بين العمليتين.
مشروعية تقنين الأحكام الشرعية العلمية:
__________
(1) جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية، م المعاصر، عدد 11، ص60.
(2) ن م 61،62.
(3) ن م62 .
(4) ن.م، ص62-63.(31/19)
الحق إنّّ المتتبع لأراء العلماء المتقدمين منهم، والمتأخرين يجد بأنَّهم قد اختلفوا حول هذه المسألة إلى مذهبين:
مذهب يرى بأنه لا يجوز تقنين الأحكام الشرعية على اعتبار أن وليَّ الأمر لا يحق له إلزام الرعية برأي أو مذهب واحد.
…ومذهب آخر يرى بأنه لا مانع شرعاً، من أن يقوم وليَّ الأمر بإلزام الناس برأي واحد، وفي ما يلي بيان لحجج كل رأي على حده، مع محاولة التوفيق بينهما.
أ-المذهب الأول: يرى أصحابه وهم من المتقدمين أنه ليس لولي الأمر أن يلزم الناس مذهب واحد للأسباب التالية:
-لا يعلم من هدْي الصحابة –رضي اللّه عنهم- مع مشاركتهم في العلم، والمشاورة مع بعضهم البعض إلزام واحد منهم للآخر بقوله، بل المعهود بالنقل خلافه(1)، وهو ما أكدّه الإمام "الشافعي" بقوله: " أجمع الناس على أنّ من استبانت له سنة رسول اللّه «ص» لم يَدَعَها لقول أحد"(2).
-التقنين مدخل لتغيير الشريعة بزيادة أو نقص، أو تبديل أو تعديل، وهو بذلك طريق إلى الحكم بغير ما أنزل اللّه(3) قال "ابن تيمية" معضداً هذا السبب: " وولي الأمر إن عرَف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه، وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا، وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به، وإن لم يمكنه لا هذا، ولا هذا، ترك المسلمين على ما هُمْ عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يُلزم أحدًا بقبول قول غيره وإن كان حاكما ...» (4).
__________
(1) ابن عبر البر: جامع بيان العلم 2/59، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 35/384، ابن قيم: إعلام الموقعين 2/189، بكر بن عبد الله: التقنين والإلزام 60.
(2) ابن قيم : إعلام الموقعين 2/282.
(3) عبد الرحمن بن سعد الشتري: تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم 21
(4) مجموع الفتاوى: 35/387-388.(31/20)
-التقنين حجرٌ على الأحكام الشرعية؛ لأنه يمنع من تغير الفتوى رغم تغيّر الزمان، وفي هذا تعارض مع القاعدة الفقهية التي تنص على أن: "الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأحوال"(1) .
-التقنين سبب رئيس للقضاء على التراث الإسلاميّ قضاءً نهائياً في مجال البيان لأحكام المعاملات لأنه يكتفى به(2).
-التقنين فيه تضييق على المسلمين بحملهم على قول واحد بصفة مستديمة، والحال أنهم غير مقيدين وليس ثمة نص يأمرهم بذلك(3).
-التقنين سبيلٌ لهجر الفقه الشرعي كلَّه،بحيث يصير لا يرجع إلاّ للمواد المقنَّنة، لأنها أضحت ملزمة من قبل ولي الأمر(4).
هذا وقد استدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بمجموعة من الآيات القرآنية أذكر منها:
-قوله تعالى لنيّبه صلى الله عليه وسلم: « فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا»المائدة42.
معنى هذه الآية بحسب رأيهم أنّ المولى عز وجل قد أمر نبيّه «ص» بأن يحكم بين الناس بالعدل ومن ثمَّ يجب على القضاة من بعده «ص» أن يحكموا بما يدينون به من الحق لا بما ألزموا من تقنين قد يرى الحق بخلافه(5).
__________
(1) ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/14-107، الشتري: تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم 24.
(2) ن م، 25، جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية: م السلم المعاصر 46 .
(3) الزحيلي وهبة: جهود تقنين الفقه الإسلامي 26.
(4) الشتري: تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم 18.
(5) ن م، ص ن .(31/21)
وقوله تعالى مبيّنا المرجع عند التنازع: « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا» النساء 56: يستفاد من هذه الآية أن الردّ إلى اللّه معناه: تحكيم كتاب اللَّه وسنة رسوله "ص" عند التخاصم، والتحاجج، وبذلك يبطل الرجوع إلى غيرهما(1).
وقوله تعالى: « وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا» الأحزاب 36 .
قال ابن القيمّ معقباً على هذه الآية: "فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله« صلى الله عليه وسلم»، فليس لمؤمن أن يختار شيئا بعد أمره «صلى الله عليه وسلم» بل إذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيّرة في قول غيره إذا خفي أمره،وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب الاتباع، فلا يجب عليّ إتباع قول أحد سواه»(2).
ب-المذهب الثاني: ويمثله العلماء المتأخرون الذين ذهبوا إلى أن لوليَّ الأمر الحق في إلزام الناس بمذهب واحد لأن ذلك يندرج ضمن الأعمال السياسية التي يحق لهم القيام بها، وقد احتجوا على وجاهة ما ذهبوا إليه بما يلي:
استدلوا بقوله تعالى:« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ» النساء 59.
__________
(1) أبو زيد: التقنين والالتزام 56، ابن قيم : أعلام الموقعين 2/170.
(2) زاد المعاد: 1/38.(31/22)
قالوا يستفاد من هذه الآية أن وليّ الأمر إذا أمر بما ليس فيه معصية، ولا تعارض مع المبادئ العامة للشريعة وجبت طاعته لهذه الآية، وعليه فإن الإلزام بالتقنين ليس فيه معصية لا ظاهرا، ولا ضمنا، ولا يتعارض مع الشريعة بوجه، بل فيه مصلحة كبرى تعود على جهاز القضاء وعلى الناس جميعا، وتندفع به أيضا مفاسد كثيرة، ومادام يتضمن أحكام الشريعة فقط فإن ذلك ليس إلا تطبيقا لأحكامها، وليس زائدا عليها(1).
يظهر من هذا التعليل أن التقنين تترتب عليه جملة من المصالح ألخصها في الآتي:
سهولة مراجعة الأحكام الشرعية (2)
الحد من كثرة الأهواء والحيل(3)
إبعاد الشبهة عن القضاة(4)
__________
(1) وهبة الزحيلي: جهود تقنين الأحكام الشرعية27، جمال الدين عطية، تاريخ تقنين الأحكام الشرعية 46-47، مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام 1/319، صبحي المحمصاني: الأوضاع التشريعية في الدول العربية 149، علي علي منصور: المدخل للعلوم القانونية والفقه الإسلامي 90/91.
(2) يقصد بذلك أن الأحكام الشرعية كما تكون ملخصة في كتاب معيّن يسهل على القاضي بالدرجة الأولى إيجاد الحكم الشرعي لها دون عناء البحث في الكتب الفقهية الكثيرة.
(3) التقنين يجعل الأحكام مضبوطة ومعلومة، وبذلك نحد من كثرة تأويلات القضاة.
(4) وهذه أعظم مصلحة تتحقق من خلال التقنين ذلك لأن القاضي هو المسؤول على تحقيق العدالة بين الناس، ولذلك فلما تكون الأحكام الشرعية مبينة بين دفتي كتاب فإن هذا من شأنه أن يبعث في صدور المتخاصمين الطمأنينة والرضا لأن القاضي ملزم بتطبيق الحكم الشرعي المبين في الكتاب.(31/23)
تنظيم المسائل والأحكام(1)
توحيد القضاء(2).
-كما استدلوا أيضا بما فعله السلف رضى الله عنهم حيث جمع عثمان رضى الله عنه الناس على مصحف واحد، وقراءة واحدة، وأحرق ما عداه من المصاحف، وذلك سدّا منه لباب الخلاف(3).
…فهذا العمل الجليل يمكن القياس عليه في هذه المسألة، وعليه يمكن القول بأنه يجوز حمل الناس على مذهب واحد دفعا للاختلاف والتشتت المقيت الذي لا يرجى منه الخير.
__________
(1) بفضل التقنين تنتظم تلك الأحكام الشرعية العملية التي لا ساحل لها، وهو عمل لا تأباه الشريعة الغراء التي إنبنت على اليسر، والعدل ...وبذلك تخرج كما قال محمد المرير في كتابه: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية «به يخرج التقنين من حيز الجواز إلى حيز الإيجاب والأختام» ص100.
(2) وهذه أيضا مصلحة عظمى؛ لأن الآراء الفقهية في المسألة الواحدة كثيرة وحتى التي ليست لها حكما فيها اختلاف كبير أيضا، وهو أمر يثير الشكوك بين أفراد الأمة الواحدة، ويهدر الثقة بالمحاكم.
(3) محمد ميكو : انطباعات حول أزمة القاعدة الفقهية 128.(31/24)
-كذلك قالوا:إن التقنين قد تم باختيار جماعة من العلماء المتخصصين، خاصة وإن الإجماع ينعقد بقول الأكثر من أهل العصر في قول الجمهور(1) وهو ما أشار إليه «البوطي» بقوله: "إنّ الذين يتحملون مهام تقنين الأحكام الفقهية، وتحضيرها بين يدي القضاة للتنفيذ ليسوا جماعة من دهماء الناس، ولا فئة من المحامين، والقانونين الذين لم تتح لهم دراساتهم أن يطّلعوا من الشريعة الإسلامية إلاّ أشكالها، ورسومها، ولا ثلة من الأدباء الذين يتفنون رصف الكلام، وفن التعبير، ولكن الذين يتحملون هذه الأمانة هم الفقهاء الذين تبصروا بأحكام الشريعة الإسلامية، وتمَّ لهم الاتصال الوثيق بأمهات الكتب الفقهية القديمة بل الأصلية، مع دراسات قانونية فتحت أمامهم آفاق المقارنة في المضمون والشكل، وهؤلاء الفقهاء تفيض بهم بحمد اللّه بلادنا العربية والإسلامية»(2).
-وقالوا أيضا: إنه ليس ثمة دليل يقضي بالمنع، وعليه فهو من المصالح المرسلة، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن(3).
التوفيق بين الرأيين:
يظهر مما تقدم بيانه أن الحجج التي قدمها المجيزين للتقنين أقوى، وأظهر للاعتبارات التالية:
-الملاحظ أن جميع دول العالم الإسلامي قد قامت بتقنين الأحكام الشرعية المتعلقة بقسم المعاملات، وذلك استجابة لرأي الجمهور من العلماء الذين لا يمانعون من ذلك، و هو ما ترجمته المادة الخامسة من النظام الأساسي لمجمع الفقه الإسلامي حيث نصت على أنه: "يسعى المجمع لتحقيق أهدافه بكل الوسائل الممكنة ومنها: تقنين الفقه الإسلامي عن طريق لجان متخصصة "(4).
__________
(1) بكر بن عبد الله: التقنين والإلزام، 26.
(2) م ن ، ص26
(3) ابن عبر البر: جامع بيان العلم 2/59، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 35/384، ابن قيم: إعلام الموقعين 2/189، بكرين عبد الله: التقنين والإلزام 60.
(4) محمد عبد الجواد محمد: بحوث في الشريعة و القانون 30.(31/25)
إذا فهذا النص دليل على تبني الأغلب الأعم من المسلمين لهذه الأطروحة.
-عدم تمتع قضاة العصر بخاصية الاجتهاد(1) في مقابل كثرة عدد القضايا، و النوازل التي استجدت في هذا العصر، و بذلك أصبح تقنين الأحكام ضرورة يفرضها الواقع تيسيرا على القضاة، و تحقيقا لمصالح الناس،و دفعا للمفاسد التي يمكن أن تترتب عن التأخير في إيجاد الحكم الشرعي لهذه القضايا المستعجلة.
- إن التقنين الذي ننشده هو ذلك التقنين الذي يهتم بتقنين الأحكام المتعلقة بالمعاملات دون العبادات.
- وكذلك فإننا لا نقول بتقنين واحد يطبق في كل دول العالم الإسلامي لاستحالة ذلك عمليا،و إنما المتصور أن تتعدد التقنينات، بحيث يصير لكل دولة تقنينها الخاص بها، وهذا جائز قياسا على جواز أن يتمذهب كل إقليم بالمذهب الفقهي الذي يختاره.
-كذلك إن التقنين الجائز في نظرنا هو ذلك النوع الذي يُتخير فيه الرأي الراجح في المذاهب الفقهية المختلفة مع الإشارة إلى الآراء الموازية ليسهل حينئذ على الناس التعرف على الحكم الشرعي.
-ليس في التقنين حجر على اجتهاد القاضي، وعمله؛ لأن الفضل يعود إليه في تحقيق الملاءمة بين النص والواقعة، وفي تفسير النصوص المجملة.
ثم إنه في كثير من الأحيان يترك مجال للقاضي ليحكم فيه بين حدين أحدهما أقصى و آخر أدنى.
-إن وجود نظام درجات التقاضي يؤمِّن حالة الخطأ عند القاضي فيكون الاستئناف علاجا لما وقع من الخطأ أمام محاكم الدرجة الأولى ثم يكون المرجع الأعلى أمام محكمة النقض التي تختص في معالجة الخطأ في تطبيق القانون والتي تكون أحكامها هادية للمحاكم الدنيا، و بذلك يكون للقضاة الحرية في الاجتهاد، وهذا هو المعمول به الآن مع وجود تقنين مكتوب.
__________
(1) إن الاجتهاد المطلوب من القاضي في هذا العصر هو سلامة تطبيق الحكم الشرعي المقنن على الواقع المعقدة أما الاجتهاد بمفهومه العام فنتركه لمن يختار الأحكام.(31/26)
-النصوص القرآنية التي احتج بها المانعون لا يفيد ظاهرها المنع من التقنين، بل هي في مجملها تدعو إلى تحكيم كتاب الله، وسنة نبيّه "ص"، وإلى وجوب طاعته. و طاعة أولي الأمر (1)
وعليه نرى بأن تأويلهم لمعنى هذه النصوص هو من باب التعسف المقيت، ولي أعناق النصوص،وتحميلها ما لا تحتمل و في ذلك اعتداء باطل.
كما نرى أيضا بأن التقنين لا يخرجنا من دائرة الحكم بما أنزل الله، و لا يبعدنا عن طاعته و طاعة نبيه "ص" وأولي الأمر بل العكس هو الصحيح، لأننا اجتهدنا في استخراج الأحكام الشرعية الميتوتة في بطون الكتب، ورتبناها أحسن ترتيب لكي يسهل على القاضي، و على المتقاضى الاستنفاع منها كما نكون بهذا العمل قد وافقنا روح المبادئ التي انبنت عليها الشريعة، والتي من أهمها:اليسر، ورفع الحرج، ودفع الضرر، ومواكبة النوازل، والمستجدات، وفي ذلك خير كبير.
…كما أننا إذا قمنا بتقنين أحكام الفقه الإسلامي ونشرناها في مختلف عواصم الدول غير الإسلامية نكون بذلك قد قمنا بعمل جليل، وفتح جديد، وهو تعريف الغير بتراثنا النفيس، وبذلك ندفع الكثير من الشبه التي تثار تجاه ديننا الحنيف، و خاصة في هذه الأيام التي استشرى فيها الحقد ضد الإسلام إلى أن وصل إلى حد الاستهزاء بالنبي "ص".
هذا و قد أعجبني قول "مخلوف العدوي" حول هذه المسألة الذي جمع فيه محاسن التقنين فقال: "ولا بد للعدل من قوانين كلية هي علم الشرائع، ولا بد له أيضا من إمام يقوم بإجراء هذه القوانين ليدفع عن ضعيف الرعية قويها، وعن رشيدها غويها، ويؤدب سفهاؤها ويحسم من الفتن أدواءها، ويستخرج حقوق الله من أموالها ليصرفها في مصالح أحوالها، فبذا يصون للرعية من متالفها، يؤمنها في ديارها ومن مخاوفها ويحوطها من عدوها بالمكر والكيد وبالحرب والأيد " (2).
__________
(1) المتفق عليه بين العلماء أن طاعة الإمام أو ولي الأمر في اجتهاده واجبة ما لم يخالف النصوص الصريحة.
(2) المقارنات التشريعية 1/48.(31/27)
دور الأحكام الشرعية في إثراء المنظومة القانونية الجزائرية
الناظر في محتوى المنظومة القانونية الجزائرية بقسميها العام والخاص، يجد بأن المشرع الجزائري قد اعتمد بالأساس على المدونة الفرنسية– على اعتبار أن فرنسا احتلت الجزائر منذ 1830م إلى 1962م» ثم على الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه المختلفة وخاصة فيما يتعلق بالأحكام المتعلقة بالأسرة التي استنبط أحكامها من المذهب المالكي بشكل أساسي مع أخذه ببقية المذاهب في بعض المناسبات.
وللوقوف على هذه الحقيقة يكون من الواجب تقديم نماذج لدور الأحكام الشرعية في إثراء هذه المنظومة لأن المساحة المسموح بها في مثل هذا المقال لا تمكننا من التطرق لجميع فروعها،وفيما يلي عرض لدور هذه الأحكام في إثراء القانون المدني وقانون الأسرة.
1-دور الأحكام الشرعية في إثراء القانون المدني(1):
الدارس لهذا القانون يجد بأن المشرع الجزائري قد أثرى أحكام هذا القانون من أحكام الشريعة الإسلامية وذلك في الكثير من الحالات أذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي:
-أخذه بنظرية التعسف في استعمال الحق(2)
__________
(1) يقصد به:مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات الخاصة التي تقوم بين الأفراد في المجتمع ،وخاصة منها المتعلقة بالأحوال العينية (حقوق شخصية،وأخرى عينية)، وقد صدر في:26/09/1975، ويحتوي على 1003 مادة مقسمة على أربعة كتب معنونة كالآتي:
الكتاب الأول في الأحكام العامة، والثاني في التزامات، والعقود، والثالث في الحقوق العينية الأصلية، والرابع في الحقوق العينية التبعية(حسين صغير: النظرية العامة للقانون 51-53، خليل أحمد حسن قدادة: شرح النظرية العامة للقانون في القانون الجزائري 55-56).
(2) علي علي سليمان:نظرات قانونية مختلفة 45، نادية فوضيل: دروس في المدخل للعوم القانونية، 61، فتحي الدريني: نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي 33 وما بعدها.(31/28)
لقد أخذ المشرع الجزائري بهذه النظرية وجعلها نظرية عامة مستقلة عن نظام المسؤولية التقصيرية وخصص لها المادة 41 ق م(1) وجعل لها تطبيقات في العديد من المواد والتي من أهمها: المادة 343 ق م(2)، وم534 (3)، وغيرهما من النصوص التي تشرح هذه النظرية(4).
-الحق أن المشرع الجزائري قد اخذ أحكام هذه النظرية من نصوص القرآن(5) والسنة(6) في حين نجد أن القانون الفرنسي، وغيره من القوانين لم يعرفوها إلا في أواخر القرن الماضي(7).
__________
(1) نصت هذه المادة على أنه:«يعتبر استعمال حق تعسفيا في الأحوال التالية: إذا وقع بقصد الإضرار بالغير، إذا كان يرمي إلى الحصول على فائدة قليلة بالنسبة إلى الضرر الناشىء للغير، إذا كان الغرض منه الحصول على فائدة غير مشروعة».
(2) تنص على أن للقاضي أن يمنع يمين الخصم إذا كان متعسفا»...إذا كان متعسفا في ذلك»
(3) تنص على أن للقاضي أن برفض لمالك استعمال حق الاستعادة إذا أثبت المكتري أو شاغل المحل أن نية المالك لأجل الأضرار بهما أو تقصد التهرب والتملص من أحكام القانون.
(4) ومن ذلك: م 690 و م 691 و م 708/7، وم 946، وم 958 ف م ج.
(5) من ذلك قوله تعالى:« وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ.....» البقرة 233.
قوله تعالى:« وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا» البقرة 233.
(6) ومنها: عن ابن عباس: قال رسول الله (ص):« لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد» البخاري ومسلم
…-عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال:«لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره» رواه الجماعة والنسائي.
…عن أبي سعيد الخذري أن النبي(ص) قال:«لا ضرر ولا ضرار» أخرجه مالك في الموطأ.
(7) علي علي سليمان: نظرات قانونية مختلفة 45.(31/29)
هذا ويقصد بها في الشرع:« استعمال الحق لتحقيق مصلحة غير مقصودة شرعا، أو للإضرار بالغير مما يفوت مقصد الشارع من تشريع الحق»(1).
إذا بناء على هذا التعريف نجد الفقهاء قد بحثوها في أبواب فقهية كثيرة، وخاصة منها: باب الضمان وغيره، ووضعوا لها قواعد فقهية والتي منها:
قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة "المشقة تجلب التيسير" والقواعد الجزئية المندرجة تحتها وهي جميعها مبحوثة في كتب القواعد الفقهية.
ثانيا : الأخذ بالإرادة الظاهرة(2) :
__________
(1) فتحي الدريني: نظرية استعمال الحق 33 وما بعدها.
(2) عرفها الزرقاء بأنها: التعبير عن الإرادة الحقيقية بكلام أو بفعل صادر عن المتعاقد المختار فهي العامل في العقد دون حاجة إلى البحث عن الإرادة الحقيقية الباطنة ...وتثبت أحكام العقد بهذه الإرادة المدخل 1/436-437.(31/30)
…بالنظر في نصوص القانون المدني وخاصة منها المادة (62) نجد المشرع الجزائري قد اعتمد إلى جانب الإرادة الباطنة على الإرادة الظاهرة في إبرام العقود(1)، وهو بهذا يكون قد وافق المذهب الحنفي والشافعي(2) وخالف المذهب المالكي والحنبلي(3) وكذا المشرع الفرنسي لأنهم لا يعتدون بها.
…وتتجلى لنا مظاهر الأخذ بهذه النظرية في القانون المدني الجزائري من خلال هذه الأمثلة:
-نص المشرع الجزائري في المادة (61م) على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره بمجرد وصول الإيجاب لمن وجه إليه، وعليه لا يمكن لهذا الأخير العدول عن إبرام العقد ما لم يقم الدليل على مخالفة ذلك (4).
-كما ذهب المشرع في المادة (62م) إلى أن الموت أو فقد الأهلية لا يمنعان من ترتب الأثر على العقد إذا وصل الإيجاب إلى من وجه إليه قبل حدوث هذين الأمرين، وهذا لا يستقيم مع الإرادة الباطنة لأنها تنتفي بانتفائهما(5).
__________
(1) أخذ بها المشرع الجزائري رغبة منه في تحقيق قدر من استقرار المعاملات، وهذا لا يعني أنه لا يأخذ بالإرادة الباطنة بل هي الأصل عنده (حليمة آيت حمودي: الباعث في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي 62-63)
(2) وقد احتج هؤلاء يكون الأحكام الدنيوية لا تبنى إلا على الظاهر لقوله "ص":«إنما أن يشر إنكم لتختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له بقطعة من النار فليأخذها أو فليتركها».
(3) لقد كان لها في نظر هؤلاء الفقهاء أثر بعيد المدى في تفسير العقد، وتحديد حدوده، والتزاماته، ولذلك عبروا عنها بقاعدة فقهية مفادها أن : "المعروف عرفا" كالمشترط شرطا" الزرقاء: المدخل الفقهي 1/437
(4) حمودي حليمة آيت العربي: نظرية الباعث 63.
(5) م ن: ص ن.(31/31)
-كما أكد في المواد: 57و 58، و59 على أن التدليس، والغلط، والإكراه أسباب لا تؤدي إلى إلغاء العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلمها (1).
-وأخذ أيضا بهذه النظرية في العقود غير الواضحة(2)، وهذا ما يستشف من نص الفقرة الثانية من المادة 112م حيث نصت على انه لا يجوز تفسير العبارات الغامضة الواردة في بعض العقود في غير مصلحة أحد أطرافها وهذا يستدعى العمل بالإرادة الظاهرة (3).
ثالثا: الأخذ بنظرية الظروف الطارئة:
…استفاد المشرع الجزائري من الشريعة الإسلامية في الأخذ بهذه النظرية التي تقضي بأن التزام المدين لا ينقضي عند وقوع حادث طارئ لم يكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد، والذي يترتب عليه اختلال التوازن الاقتصادي للعقد فلا يجعل تنفيذ المدين مستحيلا، وإنما مرهقا له، لذا يتدخل القاضي لتعديل العقد، ويرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول(4).
هذا وقد انبنت هذه النظرية في الشريعة الإسلامية على قول النبي ص: «لا ضرر ولا ضرار»(5)،وعلى قواعد فقهية كثيرة كقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، و" قاعدة" الضرر يزال" وقاعدة «الحاجة تنزل منزلة الضرورة».
…إذا فبهذا يكون المشرع الجزائري قد وافق الشريعة الإسلامية، وخالف المشرع الفرنسي الذي مازال يقول بأن العقد شريعة المتعاقدين، ولا يجوز تغييره مهما تغيرت الظروف(6).
__________
(1) م ن64 وما بعدها.
(2) ومنها: عقد الإذعان وغيره كثير.
(3) ديوان المطبوعات الجامعية: القانون المدني 21.
(4) وهذا ما أكدته المادة 1007 ق.م
(5) أخرجه الإمام مالك: الموطأ 529، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، حديث رقم 1426
(6) علي علي سليمان: نظرات قانونية مختلفة 46، نادية فوضيل: دروس في المدخل لدراسة القانون الجزائري 62.(31/32)
رابعا: الأخذ بنظرية "الإرادة المنفردة"(1): إضافة إلى النظريات السابقة نجد المشرع الجزائري يأخذ أيضا بنظرية الإرادة المنفردة التي تبنتها الشريعة الإسلامية كمصدر للالتزام، والمستنبطة من قوله تعالى: " قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ " يوسف 72.
…هذا وقد أوردها لها المشرع أمثلة عديدة أذكر منها:
* الإيجاب الملزم (م،63) والوعد من جانب واحد (م71)، والوعد بجائزة الموجه للجمهور (م115)، وإبراء الدائن المدين (م 305)...الخ.
خامسا: تبنى المشرع الجزائري في المادة 352م خيار الرؤية: متبعا في ذلك الشريعة الإسلامية، ومخالفا للقانون الفرنسي الذي لم يأخذ بهذا المبدأ(2)
سادسا: اعتبر في المادة 408م أن بيع مريض مرض الموت يدخل في حكم الوصية، وهو بهذا يوافق الشريعة الإسلامية ويخالف القانون الفرنسي.
سابعا:رتب للجار، ولمالك الحائط في المادتين 691 و704 التزامات كثيرة آخذا في ذلك بأحكام الشريعة الإسلامية فقط(3).
ثامنا: جعل الشفعة سببا من أسباب كسب الملكية كما دلت على ذلك المادة 794، وهو بهذا يكون قد أخذ بالنظام الإسلامي الذي لا تعرفه المنظومة الغربية (4).
تاسعا: ذهب المشرع الجزائري في المادة 510م إلى أن الإيجار لا ينقضي بموت المستأجر على أن يكون لورثته الحق في إنهائه وهذا الحكم مستمد في أحكام الشريعة الإسلامية ولا يأخذ به المشرع الفرنسي(5).
__________
(1) يقصد بها كما قال مصطفى الزرقاء: "مجرد اعتزام الفعل والاتجاه إليه :المدخل 1/435 وما بعدها ، أو هي: تصرف إنفرادي يصدر عن صاحبه بقصد ترتيب آثار قانونية مختلفة، محمد بن أحمد تقية: الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام 33-34.
(2) علي علي سليمان: نظرات قانونية مختلفة 46 .
(3) ن م : 47.
(4) ن م: 48، ، نادية فوضيل : دروس في المدخل 62
(5) علي سليمان: نظرات 47(31/33)
عاشر: انفرد المشرع الجزائري عن غيره من المشرعين في مسألة تحريم الفوائد بين الأفراد في حالة القرض مستجيبا لحكم الشريعة وهو ما أكدته المادة 454م(1).
حادي عشر: استمد المشرع أيضا حوالة الدين(2) (م251) من أحكام الشريعة التي تعتبر الدين جزءا من ذمة المدين المالية، بينما التشريعات الغربية لا تقول بهذا.
هذه إذا عينة من بعض الأحكام التي استمدها المشرع الجزائري من الشريعة الإسلامية، وثمة أحكام أخرى لم أذكرها خشية التطويل.
إثراء الأحكام الشرعية لقانون الأسرة:
الناظر في محتوى قانون الأسرة الجزائري الذي صدر في 9 رمضان 1404هـ الموافق، لـ 9 يونيو 1984 يجد بأن أغلب أحكامه قد قننت بالاعتماد على الأحكام الشرعية التي تضمنتها المذاهب الفقهية الأربعة، وخاصة منها المذهب المالكي الذي كان سائدا في البلاد الجزائرية قبل صدوره(3).
…هذا وقد بوب المشرع الجزائري هذه الأحكام في أربعة كتب(4) موزعة على مائتين وأربع وعشرين مادة(5)، وفيما يلي ملخص لمضامينها:
الكتاب الأول : جعله للكلام عن أحكام الزواج والطلاق، ولذلك قسمه إلى بابين، حيث عالج في الأول الأحكام المتعلقة بالخِطبة، وبأركان الزواج، وموانعه، وحقوق وواجبات الزوجين، ثم ختمه بالكلام عن النسب.
أما الثاني فجعله لتوضيح مسألة انحلال عقدة الزواج أو ما يعرف بالطلاق، فتكلم عن تعريفه وعن إثباته وعن آثاره.
__________
(1) نادية فوضيل. المدخل لدراسة القانون 68.
(2) علي سليمان: نظرات في القانون 48
(3) نادية فوضيل: دروس في المدخل 60، شهر زاد بوسطلة: تقنين الفقه الإسلامي 112، حسين صغير: النظرية العامة للقانون ببعديها الغربي والشرعي 172 وهبة الزحيلي ، جهود تقنين الفقه الإسلامي 39.
(4) وزارة العدل: قانون الأسرة 68 وما بعدها .
(5) م ن، 66.(31/34)
الكتاب الثاني : وعنونه بالولاية الشرعية التي تضمنت العديد من المباحث مثل : الولاية والوصاية، والتقديم، والحجر، والمفقود والغائب، والكفالة.
وأما الكتاب الثالث: فقد تناول فيه الميراث حيث بيَّن فيه أسبابه وشروطه، ومن يستحقه، ومن لا يستحقه وأصناف الورثة ومسألة التنزيل، والمسائل الخاصة كالأكدرية، والمشتركة، والباهلة ثم ختمه بالكلام عن قسمة التركات.
وأما الكتاب الأخير: فقد أبان فيه التبرعات، ولخصها في الهبة، والوصية، والوقف.
…ثم في آخر هذه الكتب الأربعة ختم المشرع هذا القانون بأحكام عامة أشار فيها إلى أن هذا القانون يطبق على جميع المواطنين الجزائريين، وعلى غيرهم من المقيمين بالجزائر مع مراعاة الأحكام الواردة في القانون المدني(1) .
…كما نبه أيضا إلى وجوب اللجوء إلى أحكام الشريعة فقط في حالة انعدام النص في هذا القانون(2).
…هذا وقد سجلت بعض الملاحظات على هذا القانون أجملها في الآتي:
-لقد اتخذ المشرع كما لمحت سابقا المذهب المالكي مصدرا لاستخراج أحكامه مع الأخذ ببقية المذاهب الأخرى بحسب ما يراه محققا للمصلحة(3).
-كثيرا ما يحيل على القانون المدني كما في "كتاب النيابة" الذي احتوى على سبعة فصول.
-وُفّق في إيراد الحكم الخاص بكل مسألة مبتعدا في ذلك عن إيراد الاختلافات الفقهية التي تضمنتها الكتب الفقهية، فوفر بذلك عن القاضي عناء البحث عن الحكم في بطون هذه الكتب.
-أحسن عندما وضع أحكاما(4)عامة لعلم الميراث قبل بيان مسائله الكثيرة.
__________
(1) وهذا ما أكدته المادة 221 فيه.
(2) وهذا ما أكدته أيضا المادة 222 منه.
(3) من ذلك أخذه في المادة 10 برأي الأحناف فيما يخص الولي في عقد الزواج، وأخذه بقول ابن شبرمة وأبي بكر الأصنم في الزواج (م 07) والذي مفاده أن زواج الصغير لا يصح ولا يرتب أثرا، وهو خلاف لما عليه الجمهور .
(4) تتعلق بأسباب الإرث ومواضعه من المادة 126-138.(31/35)
-جاءت أحكامه مرنة، سهلة، ترك فيها مجالا واسعا لاجتهاد القاضي(1)مع إحالته الجيدة في المادة 222 المتضمنة وجوب أن يلجأ القاضي إلى الشريعة الإسلامية عندما يُعوزه النص في هذا القانون.
-كثيرا ما استقى المشرع عباراته من القرآن الكريم ومن السنة ومن القواعد والضوابط الفقهية، وفيما يلي أمثلة على ذلك.
فأما ما استقاه من القرآن الكريم فمثاله ما جاء في المادة الرابعة التي نصت على أن "الزواج هو عقد يتم بين رجل وامرأة على الوجه الشرعي، من أهدافه تكوين أسرة أساسها المودة، والرحمة، والتعاون، وإحصان الزوجين، والمحافظة على الأنساب" فهذه المادة إذن مأخوذة من قوله تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" الروم20، وأيضا نجده في المادة 14 يقول: "الصداق هو ما يدفع نحلة للزوجة من نقود أو غيرها..." ومثله في قوله تعالى: " وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً" النساء 4.وكذلك الأمر في المواد 58 و59 و61 فجميعها مأخوذة من القرآن الكريم.
وأما ما استقاه من الحديث النبوي فهو كثير أذكر منه ما جاء في المادة 189 التي نصت على أن: "لا وصية لوارث إلا إذا أجازها الورثة "، فهذا الحكم مأخوذ من قوله " صلى الله عليه وسلم " "إن الله أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" (2)
__________
(1) من ذلك سكوته عن تقدير المدير الشرعي الذي يجب له حق التعدد في م 08 وشروط الحاضن 62/2 وتقدير قيمة النفقة م 79، والإذن في التصرف في أموال القاصر م 84
(2) رواه النسائي عن عمر بن خارجة، وصحيحه الألبابي ، صحيح النساتئي 2/774.(31/36)
التناقض والغموض: المستقرئ لأحكامه يجد بأنها امتازت في الكثير من المناسبات بالتناقض، والغموض مما أثر على حسن تطبيقه ومن ذلك أذكر على سبيل التمثيل(1):
الولاية في الزواج:
نص عليها في المادة 11 بقوله:« يتولى زواج المرأة وليها وهو أبوها فأحذ أقاربها الأولين،والقاضي ولي من لا ولي له»
ثم في المادة 12 حيث قال أنه:«لا يجوز للولي أن يمنع من في ولايته من الزواج إذا رغبت فيه وكان أصلح لها، غير أن للأب أن يمنع بنته البكر إذا كان في المنع مصلحة للبنت»
ثم في المادة 13 رجع وأكد على أنه:«لا يجوز للولي أبا كان أو غيره أن يجبر من في ولايته على الزواج ،ولا يجوز له أن يزوجها بدون موافقتها».
يظهر من هذه المواد أن عبارات المشرع قد تضمنت شيئا من الغموض والتناقض.
فهو في المادة 11 ذهب إلى جعل ولاية التزويج بيد الأب، والقريب والقاضي سواء كانت هذه المرأة بكرا أو ثيبا لأن النص جاء عاما وفي هذا أخذ بالمشهور من المذهب المالكي.
لكنه في الفقرة الأولى من المادة 12 نجده يناقض ما ذهب إليه في المادة 11 بحيث جعل الولاية بيد المرأة إذا كان الرجل مناسبا لها، وفي هذا أخذ بالمذهبين الحنفي والشيعي.
ثم في الفقرة الثانية من المادة 12 يستدرك ويقول بأن الولاية للولي مع البكر فقط، في حالة ما إذا كان الرجل غير مناسب لها، ويختم هذا المبحث بمنع الولي من إجبار من في ولايته على الزواج بدون موافقتها وعليه يمكن القول بأن المشرع الجزائري في هذه المسألة وقع في تناقض فظيع ،وكان عليه أن يأخذ برأي الجمهور ليدفع هذا الذي وقع فيه.
النقص والصياغة الركيكة:
يلاحظ على بعض مواد هذا القانون النقص والصياغة الركيكة.
__________
(1) ثمة أمثلة عديدة منها ما ورد في الكلام عن ركنية الصداق (م 69، وعن الخطبة والفاتحة (م 06).(31/37)
فأما النقص فهو ملاحظ مثلا في نص المادة 175 التي تنص على أن:«لا يفرض للأخت مع الجد في مسألة إلا في الأكدرية وهي: زوج وأم وأخت شقيقة أو لأب وجد...»
لكن الذي عليه الفقه الإسلامي في مسائل الميراث أنه يفرض للأخت مع الجد الأكدرية كما نصت المادة 175، وفي مسألة أخرى تعرف بالخرقاء،وفي مسائل المعادة.
ومن النقص أيضا ما جاء في موضوع موانع الإرث حيث نص في المادة 138 على أنها تتلخص في اللعان والردة،ونسي بذلك اختلاف الدين، والقتل العمد،والمساهمة فيه.
وأما الصياغة الركيكة فمثالها ما جاء في نص المادة 140: "ذوو الفروض هم الذين حددت أسهمهم في التركة شرعا "
فكلمة " حددت" غير بليغة، ومبهمة، وغير دقيقة بحيث لا تمكننا من فهم النص جيدا ولذلك كان على المشرع أن يعتمد لفظة أخرى وهي "نصيب" فتصير المادة كالآتي: ذوو الفروض هم الذين لهم نصيب محدد...»
يلاحظ عليه أيضا كثرة الإحالات على مواده (1) وعلى مواد القانون المدني(2)،وهذا العمل من شأنه أن يعيب التقنين ويضفي عليه الإبهام والغموض.
كما يلاحظ عليه أيضا تكرار المواضيع،فنجده يعالج مسألة ثم يعود إليها مرة أخرى في موضع آخر بالتفصيل،وذلك مثل ما حدث مع أركان الزواج في المادة 09 حيث رجع إلى شرحها في المواد 10 و 11 و 12 و33 و 34 و 35.
هذه إذا بعض الملاحظات التي يمكن تسجيلها في هذا المقام، وأشير في الختام إلى أن هذا القانون هو محاولة جادة ورسمية لتقنين أحكام الأسرة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وهو كما رأينا تشوبه بعض النقائص التي تدعونا إلى مراجعته ليتم تنقيحه بناء على المنهج السالف الذكر.
خاتمة:
في ختام هذه المداخلة-المتواضعة- يطيب لي أن ألخص ما ذهبت إليه في النقاط التالية:
__________
(1) لقد أحال على موارده في أكثر من خمسة عشر مناسبة ومن ذلك: إحالته في م 06 على م 5 ، وفي م 40 على م 32 ،و 33، و34، و48.
(2) نلحظ ذلك بالخصوص في مبحث النيابة العامة.(31/38)
-التقنين فن نفيس، به تنضبط الأحكام الشرعية العملية، وتندفع شبهة جمود الشريعة،وعدم مواكبتها.
-مسايرتها- للنوازل والمستجدات،وبه يسهل أيضا على القاضي والمتقاضي الرجوع إلى الحكم الشرعي للقضية موضوع التقاضي والفصل.
-ثم إن التقنين الذي ننشده هو الذي قال به أغلب علماء الأمة، المأخوذ من مختلف المذاهب الفقهية المراعي للرأي الراجح المتسم باليسر والسهولة، والتخفيف لأن شريعتنا انبنت على هذه المبادئ مصداقا لقوله تعالى:« وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» الحج 78. وقوله تعالى:« ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ» البقرة 178. وقوله تعالى أيضا:« يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا» النساء28.
-من الأفيد والأحسن أن تختص كل دولة من دول العالم الإسلامي بتقنين مستقل مراعاة للأعراف والعادات والتقاليد....
-تعد مجلة الأحكام العدلية العثمانية أول عمل حقيقي، ورسمي لتقنين الأحكام العملية، ثم تلتها أعمال كثيرة في مختلف الدول العربية والإسلامية، وخاصة فيما يتعلق بأحكام الأسرة.
-كانت البلاد الجزائرية قبل احتلالها من قبل فرنسا سنة 1830 تطبق الأحكام الشرعية،ولم تعرف محاولة واحدة لتقنين هذه الأحكام إلا في سنة 1905 عندما أمر حاكمها العام السيد "موران ". بتقنين أحكام الأسرة، غير أنها لم تعتمد بصفة رسمية، مما أدى إلى التخلي عنها، وعدم العمل بها.
-لقد جنح المشرع الجزائري بعد الاستقلال إلى تقنين منظومة قانونية تضمنت فروع القانون العام والخاص، وقد اعتمد في وضعها -إذا ما استثنينا قانون الأسرة- على المدونة الفرنسية والمصرية، وفي بعض الأحيان على الشريعة الإسلامية، وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى تأثره بآراء المشرع الفرنسي الذي إستعمرت بلاده البلاد الجزائرية من سنة1830 إلى 1962م.(31/39)
-لقد اعتمد المشرع الجزائري سنة 1984 في تقنينه لأحكام الأحوال الشخصية على المذهب المالكي مع استئناسه وأخذه ببعض المذاهب الفقهية الأخرى, وأحكام القانون المدني.
-في الختام أقول بأننا مطالبون بالاعتناء بذخيرتنا الفقهية من حيث التحقيق، والضبط والتمحيص ثم التقنين لكي نقيم الدليل للآخر على أنها المصدر لكل القوانين الوضعية وأنها قادرة على مسايرة النوازل والمستجدات،وأحسب أن هذا الأمر النفيس لا يتأتى إلا بتكاثف الجهود بين المجامع الفقهية والعلماء،والباحثين في مختلف دول العالم الإسلامي.
…
…………
قائمة المصادر والمراجع:
01-أبو القاسم سعد الله: تاريخ الجزائر الثقافي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1998م.
02-أبو زهرة محمد : مقدمة موسوعة الفقه الإسلامي ، جمعية الدراسات الإسلامية، القاهرة 1387هـ/1967م.
03-الألباني ناصر الدين محمد: صحيح النسائي باختصار السند، مكتبة التربية العربي لدول الخليج، الرياض ط2، 1408هـ/1988م.
04-ابن القيم أبو عبد الله محمد: إعلام الموقعين عن رب العالمين، مؤسسة جواد للطباعة والتصوير، لبنان د.ت.
05-ابن منظور جمال الدين محمد بن أكرم : لسان العرب، دار المعارف .
06-إسحاق إبراهيم منصور: نظريتا القانون والحق، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999م.
07-الباحسين يعقوب: القواعد الفقهية، مكتبة الرشيد، ط1، 1418هـ/1998م.
08-بكر بن عبد الله أبو زيد: التقنين والإلزام، مطابع دار الهلال، الرياض، ط1، 1402هـ.
09-البوطي محمد سعيد رمضان: على طريق العودة إلى الإسلام، ط8، الرحاب الجزائر،1405هـ/1987م.
10-جعفر علي محمد: تاريخ القوانين ومراحل التشريع الإسلامي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت، ط2، 1409هـ.
11-جمال الدين عطية: تاريخ تقنين الشريعة الإسلامية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 11 1397هـ/1977م.(31/40)
12-حسين صغير: النظرية العامة للقانون ببعديها الغربي والشرعي، دار المحمدية، الجزائر 1421هـ/2001م
13-حليمة آيت حمودي: نظرية الباعث في الشريعة الإسلامية، والقانون الوضعي، دار الحداثة، لبنان بيروت.
14-خليل أحمد حسن قدادة: شرح النظرية العامة في القانون الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، 1994م.
15-الخويليدي عبد الستار: الخصائص المنهجية لمجلة الأحكام العدلية، المجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية، تونس، زغوان، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات العدد 13-14أكتوبر، 1996م .
16-رضا محمد رشيد: تاريخ الأستاذ الإمام، القاهرة، 1350هـ/1931م.
17-الزحيلي مصطفى: التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية، دار الفكر دمشق، 1402هـ.
18-الزركلي خير الدين: الأعلام، قاموس التراجم، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1979م.
19-زكي محمد عبد البر: تقننين الفقه الإسلامي، المبدأ والمنهج، إدارة إحياء التراث الإسلامي، الدّوحة 1983م.
20-شلبي محمد مصطفى: أحكام الأسرة في الإسلام، الدار الجامعية، بيروت، ط4، 1403هـ.
21-شهر زاد بوسطلة: تقنين الفقه الإسلامي، جامعة الأمير عبد القادر، قسنطينة، الجزائر، 2000م.
22-العربي بلحاج: النظرية العامة للالتزام في القانون المدني الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، 1991م
23-علي الندوي: القواعد الفقهية، دار القلم، دمشق، ط2، 1415هـ/1996.
24-علي علي سليمان: نظرات قانونية مختلفة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1994م.
25-علي علي منصور: مقارنات بين الشريعة والقوانين الوضعية، دار الفتح للطباعة، بيروت، ط1 1390هـ/1970م .
26-فريد بك محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، دار الجيل، بيروت، 1397هـ/1977م.
27-قاسم عبد الرحمن عبد العزيز: الإسلام وتقنين الأحكام في البلاد السعودية، ط المدني، مصر 1386هـ/1977م .(31/41)
28-القانون المدني الجزائري الصادر بأمر رقم 75-58، المؤرخ في 26 ديسمبر 1975م المعدل المتمم بالقانون رقم 89 -01 المؤرخ في 7 أفريل، 1989م، الديوان الوطني للأشغال التربوية، ط1 ، 1991م.
29-محمد إبراهيم بوزغيبة، حركة تقنين الفقه الإسلامي بالبلاد التونسية 1857هـ-1965م، مركز النشر الجامعي 2003.
30-محمد بن أحمد تقية: الإرادة المنفردة كمصدر للالتزام، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1420هـ/1999م.
31-محمد حسنين: الوجيز في نظرية القانون، في القانون الوضعي الجزائري، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، 1986م
32-محمد عبد الجواد محمد: بحوث في الشريعة الإسلامية والقانون منشأة المعارف، الإسكندرية 1411هـ/1991م .
33-محمد محدة : الأحكام الأساسية في الأحوال الشخصية، دار الشهاب، باتنة.
34-المحمصاني صبحي: الأوضاع التشريعية في الدول العربية ماضيها وحاضرها، دار العلم للملايين بيروت، ط1، 1957م ، فلسفة التشريع في الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط3 1380هـ، 1961م.
35-مرير محمد: كتاب الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية، تطوان، المغرب، 1951م
36-مصطفى أحمد الزرقاء: المدخل الفقهي العام، دار القلم، دمشق، ط1، 1418هـ/1997م.
37-ميكو محمد: انطباعات حول أزمة القاعدة الفقهية، ندوة الشريعة والفقه والقانون، الأكاديمية المغربية الرباط 1989م.
38-نادية فوضيل: دروس في المدخل للعلوم القانونية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999م.
39-وزارة العدل: قانون الأسرة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1993م.
40-وهبة الزحيلي: جهود تقنين الفقه الإسلامي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ-1987م.
41-يوسف القرضاوي: مدخل دراسة الشريعة الإسلامية، مكتبة وهبة، ط3، 1418هـ، 1997م.(31/42)
تقنين الشريعة الإسلامية
وصلته بتطبيقها في القضاء الشرعي
بحث مقدم لندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر
(الواقع والآمال)
1427هـ-2006م
الأستاذ الدكتور عبد الله الجبوري
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية/ قسم الشريعة
جامعة الشارقة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله الذي أنزل القرآن شرعة ومنهاجاً، وتفصيلاً لكل شيء، والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي يتلو على عباده المؤمنين آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فأمر الله تعالى ونهى، ودعا إلى الحق واجتناب الهوى.
قال تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } ، وأكد ذلك بقوله: { وأن أحكم بينهم بما أمر الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أمر أنزل الله إليك } (المائدة:49).
والمهمة التي جاء بها الإسلام هي إصلاح البشر جميعاً إصلاحاً عاماً في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية.
والشريعة التي أمر الله الناس بإتباعها والعمل بها قد أكملت قواعدها وأسسها واتضحت معالمها ومقاطعها، وطريقها في الحياة، ومناراتها الهادية، وهي دائمة وصالحة للتطبيق، في كل زمان ومكان.
وكانت مطبقة في جميع ديار الإسلام التي رفرفت عليها راية التوحيد من الأندلس غرباً إلى الصين شرقاً، ملبية لحاجات المسلمين ومنظمة لجميع شؤون حياتهم.
ولظروف قاهرة مرة على الأمة الإسلامية، من السيطرة عليها والتحكم في شؤونها جعلتها تتخلى عن تطبيق الشريعة الإسلامية في القضاء والمحاكم واستبدلتها بقوانين وضعية.
وقد آن لهذه الأمة في الرجوع إلى شريعة الله وتطبيقها في جميع قوانينها وأنظمتها وأقضيتها ومحاكمها.(32/1)
ولما كان تقنين الشريعة الإسلامية وسيلة لتبليغ أحكام الله وتيسير تطبيقها في القضاء والمحاكم وآلية لتنظيم حياة الناس أصبح ضرورة عصرية، ينبغي القيام به وشمول جميع القوانين بالتقنين، وعدم الاقتصار على قوانين الأحوال الشخصية فقط كما هو الشأن في بعض البلاد الإسلامية، لهذا رأيت المشاركة في هذه الندوة التي تنعقد في رحاب كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة ببحث عن تقنين الشريعة الإسلامية وصلته بتطبيقها في القضاء الشرعي، ومحاولات التقنين الرسمية والفردية، وبيان حكم تولية القضاء للمجتهد أو المقلد، وحكم إلزام القاضي بمذهب معين، وعدم القضاء بغيره لصلتها الوثيقة بالتقنين، وحكم تقنين الأحكام الشرعية وإلزام القضاء به، والخاتمة التي تتضمن أهم نتائج البحث.
والله ولي التوفيق
ماهية التقنين وأهميته:
التقنين هو صياغة الأحكام في مواد قانونية، لتكون مرجعاً محدداً يلتزم القضاة بتطبيقه بين الناس.
لقد ظلت الشريعة الإسلامية هي القانون الحاكم لكل العالم الإسلامي من عصر الفتوح، وكان القاضي المجتهد يحكم بما يؤدي إليه اجتهاده، والقاضي المقلد يلتزم بالقول الراجح في مذهبه، أو بما يلزم به ولي الأمر، ولم يعرف العالم الإسلامي التقنين إلا في مرحلة متأخرة ترجع إلى القرنين الأخيرين.
ولكن التفكير في مجموعة واحدة يرجع إليها القضاة والمتاقضون ليست جديدة على التفكير الفقهي، فقد روى ان ابن المقفع لما رأى اختلاف الأحكام والأقضية في عصره (القرن الثاني الهجري) ضمن رسالته في ((الصحابة)) التي وجهها إلى الخليفة أبي جعفر المنصور وفيما جاء فيها، ما نصح به من جمع الأحكام الفقهية وإلزام القضاة بها ونهيهم عن الحكم بغيرها(1).
__________
(1) صفوت أحمد زكي، جمرة رسالة العرب: 3/26 .(32/2)
وروي أن ابا جعفر المنصور طلب من الإمام مالك أثناء موسم الحج سنة 163هـ أن يضع كتاباً جامعاً يختار أحكامه من أدلة الشرع مع مراعاة التيسير، ليحمل الناس على العمل به وعدم القضاء بغيره، فرفض الإمام مالك قائلا: "إن فقهاء الصحابة تفرقوا في الأمصار، وكل عنده علمه وفقهه، وكل على حق ولا ضرر ولا ضير في اختلافهم"(1). فالإمام مالك لم يقل بتحريم ذلك ولكن اعتذر عن قبوله وبين سبب ذلك.
وقد اتجه أكثر الفقهاء المحدثين على الأخذ بتقنين أحكام الشريعة الإسلامية، لأنه أصبح من الضرورات الماسة في العصر الحاضر، لأن الكتب الفقهية القديمة لا يسهل لغير المتخصصين الرجوع إليها، واستخراج حكم المسألة الفقهية منها، فهي تعرض المسائل على نحو فروعي وهنا يوجد صعوبة في التعرف على الحكم الفقهي، والله سبحانه وتعالى قد أنزل شريعته في كتابه وسنة نبيه لتطبيقها والعمل بها، وهي شريعة جميع الأجيال والأزمان والأمكنة، والتي يجب على الناس الخضوع لها في أفعالهم الاختيارية ومعاملاتهم ليتم خضوع الكائنات كلها لله عز وجل.
قال الله تعالى: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون } (آل عمران:83).
ولأن الأمة لا تتبوأ مكانتها، وتنعم بعزتها بغير الاستقلال الكامل المادي والمعنوي الذي لا أثر فيه للتبعية الفكرية والثقافية لأية دولة أخرى.
والشريعة الإسلامية ذات المصدر السماوي الإلهي التي شهد الله بكمالها بقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } (المائدة:3)، كانت ولا تزال شريعة حية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.
وقد أكد ذلك فقهاء القانون في الشرق والغرب ومؤتمرات القانون المقارن والمحامين، وعمداء كليات القانون في البلاد العربية وغيرها.
__________
(1) الذهبي شمس الدين محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: 8/78 .(32/3)
فقد جاء في سجل المؤتمرات الدولية، مثل مؤتمر القانون المقارن في لاهاي سنة 1938م، مؤتمر المحامين الدولي في لاهاي سنة 1948م، وأسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في جامعة باريس سنة 1951م ما يأتي:
اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع العام.
وأنها حية قابلة للتطور.
وأنها شرع قائم بذاته وليس مأخوذاً من غيره.
أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة تشريعية لا يماري فيها.
إن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية هي مناط الإعجاب وبها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق في حاجاتها.
وجاء في توصيات ندوات عمداء كليات الحقوق والقانون والشريعة بالجامعات العربية بجامعة بيروت عام 1973م، وبجامعة بغداد 1974م، وتوصيات ندوة التشريع الإسلامي في مدينة البيضاء ليبيا عام 1972، وتوصيات مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض عام 1976-1978 جاء فيه "ضرورة الرجوع عن القوانين المتباينة في الدول العربية والعودة إلى الشريعة الإسلامية".
وقال الدكتور السنهوري كبير فقهاء القانون المدني من العرب المسلمين وواضع القانون المدني المصري وغيره في البلاد العربية بعد أن ذكر شهادات كبار فقهاء العالم الأوروبي بما انطوت عليه الشريعة الإسلامية من مرونة وقابلية للتطور جعلتها إحدى الشرائع الثلاث التي تسود العالم، ولكني أرجع للشريعة نفسها لأُثبت صحة ما قررته، ففي هذه الشريعة عناصر لو تولتها يد الصياغة فأحسنت صياغتها، لصنعت منها نظريات ومبادئ لا تقل في الرقي والشمول وفي مسايرة التطور عن أخطر النظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الغربي الحديث.(32/4)
وآتى على سبيل المثال بأربعة أمثلة، تعتبر من أحدث النظريات في فقه الغرب في القرن العشرين: نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية تحمل التبعية، ومسؤولية عديم التمييز، ولكل نظرية من هذه النظريات الأربع أساس في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلا للصياغة والبناء ليقوم على أركان قوية ويسامت نظريات الفقه الحديث(1).
وذكر في مقام آخر أنه يتمنى أمنية من أغلى الأماني وأعزها لديه أن يصدر قانون مدني مستمد كله من الشريعة الإسلامية(2).
محاولات التقنين:
ظهرت محاولات عديدة لتقنين الفقه الإسلامي في القرنين الماضيين رسمية تبنتها بعض الدول، وفردية.
أولاً: المحاولات الرسمية:
أول نشأة لتقنين الفقه الإسلامي ما قامت به دولة الخلافة العثمانية، عندما ألفت لجنة من كبار العلماء لوضع مجموعة من الأحكام الفقهية في المعاملات المدنية، وصدرت باسم مجلة الأحكام العدلية سنة1293هـ الموافق 1876م واحتوت على 1851 مادة مستمدة من المذهب الحنفي، الذي كان المذهب الرسمي للدولة، وكانت مطبقة في جميع البلاد العربية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية ماعدا مصر إلى أواسط القرن العشرين.
__________
(1) المدخل الفقهي العام، مصطفى أحمد الزرقا: 1/307 .
(2) جهود تقنين الفقه الإسلامي ، الزحيلي: 30 .(32/5)
وكان لصدورها أثر في تنشيط الحركة والاهتمام بالفقه والتقنين: فقد قام العلماء بشرح المجلة فبلغت شروحها ما بين مخطوط ومطبوع أكثر من مائة شرح من أشهرها شرح علي حيدر، والأتاسي، ورستم بارز، ومنير القاضي، وقرر تدريس موضوعاتها في كليات الحقوق وأقسام الشريعة(1) وقد وصفها السنهوري بقوله: "إنها تتمتع بصياغة تشريعية متقدمة بالنسبة لزمنها، سواء في أصلها التركي، أو في ترجمتها العربية، ولعل للفقه الإسلامي الذي أخذت منه الفضل الأكبر في ذلك، ومع عدم جحد فضل واضعي المجلة، فإن عملهم ينم عن علم غزير بالفقه الإسلامي وقدرة واسعة على الصياغة التشريعية، فعمل المجلة عمل رائد في أسلوبه وطريقة تنظيمه بالنسبة للفقه الإسلامي"(2)، ومما يؤخذ عليها التزامها بمذهب واحد هو المذهب الحنفي، والسعة الكبرى في قابليات الفقه الإسلامي العظيم إنما تتحلى في جموع مذاهبه الاجتهادية لا في واحد منها فكان الواجب أن تستمد المجلة من جميع المذاهب الفقهية لسد حاجات المجتمع المقبل على تطور في جميع المجالات.
وأول تقنين للأحوال الشخصية هو قانون حقوق العائلة العثماني، عام 1917م وهو لازال مطبقاً في لبنان، ومواده 157م في الزواج والطلاق حسب القول الراجح في المذهب الحنفي، وإن خرج عنه في بعض أحكامه.
__________
(1) الزرقا مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام:1 /225، محمد كمال الدين إمام، مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي: 289 .
(2) عمر بن صالح، المدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي: 117 .(32/6)
وقد اعقبته قوانين أخرى للأحوال الشخصية في البلاد العربية منها عدة قوانين في مصر منذ عام 1920م والقانون السوري 1953م، والقانون العراقي 1959م، والمغربي 1958م، والقانون التونسي 1958م وقد خرج على أحكام الشريعة الإسلامية، في إباحته للتبني، ومنعه تعدد الزوجات والطلاق. وكذلك صدرت قوانين أخرى في البلاد العربية كالقانون الأردني والكويتي، وآخرها قانون الأحوال الشخصية في دولة الإمارات العربية المتحدة الصادر سنة 2005م.
ولم تقتصر بعض الدول العربية في استمداد قوانينها من الشريعة الإسلامية على قانون الأحوال الشخصية بل استمد القانون المدني العراقي الصادر سنة 1981م أحكامه من الشريعة الإسلامية وكذلك القانون الأردني الصادر سنة 1976م والقانون الكويتي الصادر سنة 1981م، وصدرت عدة قوانين في السودان مستمدة أحكامها من الشريعة الإسلامية، منها قانون المعاملات المدني سنة 1983م وقانون العقوبات في نفس العام، وكذلك صدرت عدة قوانين في دولة الإمارات العربية المتحدة تستمد أحكامها من الشريعة الإسلامية كقانون المعاملات المدنية 1986م وقانون الحدود والتعزيرات.
ومضت حركة التقنين في طريقها واتجهت في الأعوام الأخيرة لتكون عنصراً من عناصر الوحدة بين البلاد العربية، فقد انبثقت لجان من قرارات وزراء العدل العرب فوضعت مشروع قانون أحوال شخصية موحد، ولازالت تعمل لإصدار قانون مدني موحد، كذلك قانون جزائي موحد(1)، ولازالت بعض الدول العربية تعتمد في الأحوال الشخصية على كتب الفقه الإسلامي كالسعودية واليمن والبحرين وعُمان.
__________
(1) الزرقا، المدخل الفقهي العام: 1/243.
الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي: 32 وما بعدها .(32/7)
ونوجه ندائنا إلى القائمين على الأمور في الدول الإسلامية إلى استمداد جميع قوانينها من الشريعة الإسلامية لأنهم أغنياء بها وليس للغني أن يطلب ويعتمد على قوانين وأنظمة من هنا وهناك مع غناه، ولا مانع من الاستفادة والأخذ من القوانين والأنظمة الأخرى مما فيه مصلحة الأمة ولا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
ثانياً: المحاولات الفردية:
ظهرت محاولات فردية لتدوين الفقه في صورة مواد قانونية، ولكنها لم تصدر بتطبيقها قرارات رسمية ملزمة، وان اعتمد عليها القضاة وأهم هذه المحاولات:
أولاً: وضع محمد قدري باشا ثلاثة مشاريع قوانين وهي:
مرشد الحيران إلى معرفة حقوق الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام أبي حنيفة وتضمن 1045 مادة.
الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة النعمان، وشرحه محمد زيد الأبياني في ثلاثة مجلدات.
قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف، ويتكون من 646 مادة.
ثانياً: مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأحمد بن عبد الله القارئ رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة سابقاً، واحتوت على 2382 مادة.
ثالثاً: ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية، محمد محمد عامر، وقد وضعه على صورة مواد قانونية، ويؤخذ على هذه الجهود اعتمادها على مذهب واحد من المذاهب الفقهية، والأولى والأكمل والأشمل الأخذ من جميع المذاهب الفقهية.
رابعاً: توجد مشروعات قوانين مستمدة من الفقه الإسلامي، وتبنتها جهات رسمية منها:
ما أصدره مجمع البحوث الإسلامية بمصر، فقد أصدر مشروعاً متكاملاً لتقنين المعاملات على المذاهب الأربعة، في ستة عشر جزءاً، وذيلت كل مادة بيان توضيحي يبين المراد منها(1).
تولية القضاء للمجتهد أو المقلد:
__________
(1) محمد كمال الدين إمام، مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي: 292 .
أحمد فراج، وعبد الودود محمد السري، النظريات العامة في الفقه الإسلامي وتاريخه: 3/265 .(32/8)
لتقنين الأحكام الشرعية القضائية ارتباط وثيق في تولية القضاء للقاضي المجتهد أو المقلد، وللفقهاء خلاف في اشتراط الاجتهاد في مَنْ يولي القضاء، ولهم في ذلك قولان:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وعموم المالكية ونسب إلى محمد بن الحسن من الحنفية إلى اشتراط الاجتهاد في من يعين قاضياً(1)، واستدلوا:
بقوله تعالى: { وأن أحكم بينهم بما أنزل الله } (المائدة:49)، وقوله تعالى: { لتحكم بين الناس بما أراك الله } (النساء:105)، فالله سبحانه وتعالى أمر بالحكم بما أنزل الله، وهذا يعرفه المجتهد لا المقلد، لأن المقلد يعرف قول أمامه، ولا يدري أهو حق أم لا، والقاضي ملزم أن يحكم بالحق، قال الطرابلسي: "وإنما يمكنه القضاء بالحق إذا كان عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي، لأن الحوادث ممدودة والنصوص معدودة، فلا يجد القاضي في كل حادثة نصاً يفصل به الخصومة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه وإنما يمكنه ذلك إذا كان عالماً"(2).
وبقوله صل الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر"(3).
__________
(1) أحمد الدروير، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 6/3 .
…الخطيب الشربيني، مغني المحتاج: 4/474 .
…ابن قدامة، المغني: 14/14 .
…ابن عابدين، رد المحتار على الدرر المختار: 8/40 .
(2) الطرابلسي، علاء الدين علي معين الحاكم: 14 .
(3) البخاري، صحيح البخاري: رقم (7352)، مسلم، صحيح مسلم، رقم (1716) .(32/9)
جاء في شرح مسلم : "قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجر باجتهاده وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد، قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فله أجر بل هو آثم ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ليست صادره عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر بشيء من ذلك..."(1).
ولأن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة بغير العلم(2).
القول الثاني: إن الاجتهاد ليس شرطاً للصحة بل هو شرط ندب فيجوز تولية المقلد مع وجود المجتهد وإليه ذهب الحنفية في الراجح عندهم، وبعض المالكية(3)، واستدلوا:
بقوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (النحل:43)، فالآية تدل على جواز سؤال غير المجتهد.
قال السمناني: "وإذا حكم بقول أهل الذكر فقد أدى ما وجب عليه لأن فصل القضاء فرض توجه عليه، فهو كما لو استفتى في حق نفسه، وما يوجه عليه من الحكم، ولا خلاف بيننا أنه يقلد في حق نفسه"(4).
__________
(1) النووي، يحيى بن شرف: 12/255 .
(2) العيني، محمد بن احمد، البناية في شرح الهداية: 8/9 .
(3) ابن عابدين، رد المحتار على الدرر المختار: 6/38 .
…الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود، بدائع الصنائع: بيروت، دار الكتب العلمية، 7/3 .
…الدردير أحمد، الشرح الكبير، حاشية الدسوقي: 6/4 .
(4) أبو القاسم علي بن محمد، روضة القضاة وطريق النجاة: 60 .(32/10)
بما روى عن علي رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك..... الحديث"(1)، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث علياً ولم يكن مجتهداً وهذا دليل على عدم اشتراط الاجتهاد للقضاء.
ومن ناحية النظر قولهم أن المقصود من القضاء هو إيصال الحق إلى مستحقه، ورفع الظلم، وهذا يحصل بقول المقلد وكذا الجاهل إذا عمل بفتوى غيره.
المناقشة والترجيح:
اعترض على استدلال أصحاب المذهب الثاني بالآية، بأنها واردة في سؤال خارج عن محل النزاع لأنها واردة في سؤال خاص كما ذكر المفسرون أنها نزلت في رد المشركين لما أنكروا كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً(2).
ويمكن الجواب عن ذلك أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
اعترض على استدلالهم بتولية علي رضي الله عنه قضاء اليمن بأن هذا ليس بشيء، فإنه عليه الصلاة والسلام دعا له بأن يهدي الله قلبه ويثبت لسانه، فإن كان بهذا الدعاء رزق أهلية الاجتهاد فلا إشكال، وإلا فقد حصل له المقصود من الاجتهاد وهو العلم والسداد وهذا غير ثابت في غيره(3).
ونوقش استدلالهم من ناحية النظر، بوجود الفرق بين العامي المقلد في فروع الشريعة، وبين القاضي المقلد، بأن المقلد في فروع الشريعة مضطر إلى أن يسأل للعمل بها في حق نفسه، بخلاف القاضي الذي يسأل ليلزم به غيره(4).
الترجيح:
الذي يظهر من خلال النظر في أدلة القولين، رجحان قول جمهور العلماء في اشتراط الاجتهاد في القاضي عند وجود المجتهد بقوة أدلتهم وعدم صمود أدلة المخالفين أمام المناقشة والتمحيص.
__________
(1) أبو داود، سنن أبي داود: (3582) .
(2) الشوكاني، محمد بن علي، تحقيق عبد الرحمن عبد الخالق: ص 18 .
(3) ابن الهمام كمال الدين بمحمد عبد الواحد، شرح فتح القدير: 7/241 .
(4) الماوردي، الأحكام السلطانية: 67 .(32/11)
ولكن مما يجدر التنبيه إليهن ان الفقهاء المتأخرون من المذاهب الثلاثة (المالكية والشافعية والحنابلة) وافقوا الحنفية وقالوا إذا تعذر وجود القاضي المجتهد كما هو حال عامة القضاة في العصور المتأخرة جاز تولية القاضي المقلد.
وقد نقل ذلك ابن فرحون عن المازري(1) وابن شاس(2) من فقهاء المالكية، ونقل ذلك عن الإمام الغزالي من الشافعية، ونقل ذلك المرداوي من الحنابلة، وقال وعليه العمل فقد ذهبوا إلى جواز تولية المقلد للقضاء للحاجة والضرورة لعدم توفر شروط الاجتهاد في أكثر من يتولى القضاء في زمانهم، وحتى لا تتعطل أحكام الناس ومصالحهم وقد جرى عليه العلم في زمانهم وبعده(3).
وبهذا تكون شقة الخلاف بين الجمهور والحنفية قد انحصرت في العصر الحاضر وأصبحت شبه معدومة، فإن أكثر القضاة مقلدون، إلا أن الجمهور بنوا الجواز على الضرورة وهي قائمة في زماننا، والحنفية ومن وافقهم بنوها على الإباحة الأصلية.
شروط ومواصفات المقلد الذي يتولى القضاء:
وضع جمهور الفقهاء غير الحنفية شروط ومواصفات ينبغي توافرها فيمن يتولى القضاء من المقلدين.
جاء في الشرح الكبير: "وأن لا يوجد مجتهد مطلق، فأمثل مقلد هو المستحق للقضاء، وهو الذي له فقه كامل يضبط المسائل المنقولة واستخراج ما ليس فيه نص بقياس على المنقول في مذهب إمامه أو باعتبار أصل"(4).
__________
(1) المازري: هو محمد بن علي بن عمر المالكي، من كبار أئمة زمانه، محدث، حافظ، فقيه، أصولي متكلم، توفي سنة 536هـ. ابن العماد شذرات الذهب، 4/114، ابن فرحون الديباج المذهب: 279.
(2) ابن شاس عبد الله بن نجم، كان فقيها فاضلاً في مذهب مالك عارفاً بقواعده، ت سنة (610)، ابن فرحون، الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب من 229 .
(3) ابن فرحون، تبصرة الحكام:1/22، الخطيب الشربيني، مغني المحتاج:5/478، المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف: 11/170.
(4) الدردير، أحمد: 6/3-4 .(32/12)
وقالوا أيضاً: "إن المقلد المتعلم هو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من تقرير أدلته على ما عرف من إمامه أو عن أصحابه، العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها وعامها وخاصّها، وغامضها وواضحها لكنه لم يبلغ درجة التخريج أو الترجيح هذا يجوز أن يدلي القضاء للضرورة"(1).
أما المقلد الجاهل بالأحكام الشرعية ولا يميز بين الغث والسمين ولا بين القوي والضعيف فلا يصح توليته القضاء، جاء في نهاية المحتاج: "لا يولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد، وهو من حفظ مذهب إمامه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير أدلته، لأنه لا يصلح للفتوى فالقضاء أولى"(2).
والأمر مادام خاضعاً للضرورة فينبغي أن يولى الأمثل فالأمثل حسب الأمكان بقدر ما يتوفر فيه من تلك الشروط، قال ابن تيمية رحمه الله: "إن هذه الشروط تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل، فيولى للعدم انفع الفاسقين وأقلهما شراً وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد"(3).
إلزام القضاء بمذهب معين وعدم القضاء بغيره:
هذا الموضوع هو أصل مسألة التقنين، لأن حقيقة التقنين هو إلزام القاضي بالقضاء بأحكام معينة، ليس له تجاوزها وإن خالفها في اجتهاده إذا كان مجتهداً اجتهاده.
وللفقهاء خلاف في حكم إلزام القاضي بمذهب معين وعدم القضاء بغيره، ولهم اتجاهان في ذلك:
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، تدوين الراجح من أحكام الفقهاء، العدد(31) ص 44 .
(2) الرملي، شمس الدين محمد بن أبي العباس: 8/238 .
(3) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: 23 وما بعدها .(32/13)
الاتجاه الأول: عدم جواز إلزام القاضي بمذهب معين، واستشراطه على القاضي باطل، وإليه ذهب المتقدمون من فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة(1)، لقوله تعالى: { فاحكم بين الناس بالحق } (ص:26)، قالوا: إن الحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان: بناء على الشروط الفاسدة في البيع، قال البهوتي من الحنابلة: "وعمل الناس على خلافه"(2).
الاتجاه الثاني: جواز ذلك، وإليه ذهب الحنفية وبعض المالكية والشافعية ان كان القاضي مقلداً، وحملوا أقوال أئمتهم المتقدمين على منع تقييد القاضي المجتهد خاصة بمذهب معين(3).
قال ابن عابدين: "ولو قيد السلطان القاضي بصيح مذهبه كما في زماننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف في عدم صحة حكمه"(4).
وجاء في مجلة الأحكام العدلية التي اعتمدت على مذهب الحنفية في الأحكام الواردة فيها ما نصه(1801) "وكذلك لو صدر أمر سلطاني بالعمل برأي مجتهد في خصوص، لما أن رأيه بالناس أرفق، ولمصلحة العصر أوفق، فليس للحاكم أن يعمل برأي مجتهد آخر مناف لرأي ذلك المجتهد، وإذا عمل فلا ينفذ حكمه"(5).
__________
(1) الخرشي محمد بن عبد الله، حاشية الخرشي على مختصر خليل: 7/476، الشيرازي، المهذب بشرح تكمله المجموع للمطيعي: 25/325، ابن قدامة، المغني: 14/91 .
(2) كشاف القناع: 6/295 .
(3) ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار: 6/38، الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 6/4 .
…السبكي تقي الدين علي عبد الكافي، فتاوى السبكي: 2/12 .
(4) رد المحتار على الدر المختار: 6/33 .
(5) حيدر علي، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 4/598 .(32/14)
وقال المازري من المالكية: "وإن كان الإمام مقلداً، وكان متبعاً لمذهب مالك، أو اضطر إلى ولاية قاضي مقلد، لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره ألا يتعدى في قضائه مذهب مالك لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي فيه هذا القاضي الذي ولي عليهم"(1).
وقال السبكي من الشافعية: "والذي يقول له السلطان: وليتّك القضاء على مذهب فلان، ليس له أن يتجاوز مشهور ذلك المذهب إن كان مقلداً، وإن كان مجتهداً في مذهبه فله الحكم بما ترجح عنده منه بدليل قوي وليس له مجاوزة ذلك المذهب مقلداً كان أو مجتهداً، لأن التولية صيرته في ذلك"(2).
ويرى ابن تيمية إن الحاكم في الأصل يحكم باجتهاده وإذا اشترط عليه أن يحكم بمذهب معين فالشرط باطل إلا في حالة الضرورة أو دفع المفسدة، جاء في فتاويه ما نصه: "ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته، أن يحكم بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا، فأما إذا قُدِّر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلاً وظلماً أعظم مما في التقدير، كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما"(3).
وقد جرى العمل منذ قرون على التزام القاضي في أحكامه بمذهب معين، وسار العرف على أن تكون الأحكام القضائية حسب المذهب السائد في كل بلد من البلاد الإسلامية وتولية المقلد مشروطة بأن يحكم بمذهب مقلده.
ولعدم توفر القضاة المجتهدين، وتغير الأحوال، أصبح يُولي القضاء من لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد، لضعف ثقة الناس في القضاة، والخوف من الجور والحيف، رأى بعض ولاة الأمور إلزام القضاة بمذهب معين، ويجب على كل مقلد العمل بمذهب مقلّده وعدم جواز الحكم بخلافه(4).
__________
(1) الحطاب، محمد بن محمد المغربي، مواهب الجليل: 2/98 .
(2) فتاوى السبكي: 2/12 .
(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 31/73 .
(4) الهيثمي، ابن حجر، تحفة المحتاج: 10/13 .(32/15)
وهذا داخل في باب السياسة الشرعية، مما فيه مصلحة للأمة، ويجب على القاضي والرعية طاعة ولي الأمر في ذلك، وإذا كان إلزام القضاة وتقيدهم بمذهب معين هو الواقع ويجري العمل عليه منذ قرون، ولم يحصل إنكار لذلك، فهل يجوز تقنين الأحكام في مواد قانونية وإلزام القضاة بها؟ هذا ما سنتناوله في الموضوع التالي:
حكم تقنين الأحكام الشرعية وإلزام القضاء بها:
لم يختلف العلماء في جواز تقنين الأحكام الشرعية إذا قصد به التيسير وسهولة الوقوف على أحكام المسائل، وإنما اختلفوا في اعتبار هذا التقنين ملزماً للقضاء به من قبل ولي الأمر.
وهذه المسألة من النوازل المعاصرة التي اهتم بها العلماء والمعاصرون، أما المتقدمون فقد تكلموا في حكم تقييد القاضي بمذهب معين.
ويمكن تخريج مسألة التقنين على رأيهم في ذلك فقد ذكرنا فيما تقدم أن الحنفية وبعض المالكية والشافعية، أجازوا إلزام القاضي المقلد بمذهب معين، إذا لم يكن فيه معارضة للأحكام الشرعية الثابتة، ومراعاة للمصلحة، وصرح بذلك ابن عابدين الفقيه الحنفي ونصت عليه المادة (1801) من مجلة الأحكام العدلية الذي سبق ذكرها.
ومنعه الفقهاء المتقدمون من المالكية والشافعية والحنابلة، وحمل المجيزون أقوال أئمتهم المتقدمين على منع تقييد القاضي المجتهد خاص بمذهب معين، وليس القاضي المقلد(1)، أما العلماء المعاصرون فقد ذهب أكثرهم إلى جواز تقنين الأحكام الشرعية وإلزام القضاة به بل صرح بعضهم بضرورة ذلك ووجوبه.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك ص (8 وما بعدها من هذا البحث) .(32/16)
وممن ذهب إلى ذلك محمد رشيد رضا، وحسنين محمد مخلوف، ومحمد أبو زهرة، وعلي الخفيف، وأحمد محمد شاكر، ومصطفى الزرقا، ووهبة الزحيلي، ويوسف القرضاوي، ومحمد بن حسن الحجوي، وبعض أعضاء هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منهم صالح بن غصون، وراشد بن صالح وغيرهما(1).
ونذكر أقوال بعضهم فيما يلي:
قال الشيخ محمد رشيد رضا: "وفوض القرآن فيما يحتاج إليه ن أمور الدنيا السياسية والقضائية والإدارية إلى أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة بقوله: { وأمرهم شورى بينهم } (الشورى: 38)، قوله: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } (النساء: 83)، ولهذا أمر بطاعة هؤلاء الذين سماهم أولي الأمر وهم أهل الشورى في الآية الأخرى. فقال: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (النساء:59).
فهذا ما جاء به الإسلام وهو هداية تامة كاملة لا تعمل به أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها مرتقية في سياستها وأحكامها، يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان، ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأم، ويلزم القضاة والحكام باتباعها والحكم بها."(2).
__________
(1) محمد رشيد رضا، الفتاوى: 2/625، أحمد محمد شاكر، الكتاب والسنة يجب أن يكون مصدر القوانين ص30، عبد الرحمن القاسم، مقدمة كتاب الإسلام وتقنين الأحكام، ص (ن) مجد مكي، فتاوى مصطفى الزرقا، وهبة الزحيلي جهود تقنين الفقه الإسلامي 29، القرضاوي، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية 2/418، مجلة البحوث الإسلامية العدد (33) من 27 وما بعدها .
(2) محمد رشيد رضا، الفتاوى: 2/625 .(32/17)
وقال الشيخ حسنين محمد مخلوف: "ولا شك أن في تقييد القضاء الشرعي بأحكام مستمدة من المذاهب الفقهية المدونة القائمة على الأصول الأربعة، الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومفرغة من قالب قانوني منسق محكم، ضماناً لتحقيق العدالة، وتيسيراً على القضاة، وطمأنة للمتقاضين، وبعداً عن مضان الريب ونوازع الشهوات، وذلك كله مصلحة ظاهرة توجب شرعاً أن نسلك في هذا الزمن بالأحكام الفقهية العملية مسلك التقنين المحترم الواجب التطبيق"(1).
وقال محمد أبو زهرة: "ونحن نرى أن استخلاص قانون من الشريعة الإسلامية لم يعد أمراً سائغاً فقط بل أصبح واجباً محتوماً، لأننا نخشى أن يكون تقاصرنا في هذه الناحية مؤدياً إلى أن يدخل بلادنا قانون أجنبي لم ينبع من الإسلام ولم يتفق معه... والقاضي ملزم بتنفيذ ما يأمره ولي الأمر بتنفيذه، لأن لولي الأمر سلطان تخصيص القضاة..."(2).
وقال مصطفى الزرقا: "لا شك أن من المصلحة تقييد القضاة بأحكام مقننة لكي يعلم الناس سلفاً ما تخضع لهم معاملاتهم، ولكن ذلك لا يقتضي أن تكون الأحكام المقننة للقضاة مختارة من مذهب واحد، بل يختار من كل مذهب ما هو أسد دليلاً وأنطق حكمة، وأجرى للمصلحة، فيكون مجموعة فقهية كقانون يتقيد بها القضاة، ثم يتجدد الاختيار من المذاهب تبديلاً وتعديلاً كلما دعت إليه الحاجة واقتضت المصلحة بحسب اختلاف الزمان"(3).
__________
(1) نقلاً عن الإسلام وتقنين الأحكام: 26 .
(2) مقدمة المرجع السابق ص (ن) .
(3) المدخل الفقهي العام: 1/313 .(32/18)
أما الشيخ أحمد محمد شاكر فقد أجاز تقنين الأحكام الشرعية ووضع خطة عملية لاقتباس القوانين من الشريعة الإسلامية، فقد دعا إلى العمل الجماعي واختيار لجنة من كبار علماء الشريعة، يسمو اختيارهم على الرغبات الشخصية والأهواء الحزبية، وان تكون اللجنة على علم واسع في مسائل على أصول الفقه، وتعارض الأدلة والترجيح بينها ومسائل علم أصول الحديث لتحقق كل مسألة وتوحد القاعدة التي يبنى عليها الاستدلال والاستنباط، وكذلك من كبار رجال القانون غير مقيدة برأي ولا مقلدة بمذهب إلا نصوص الكتاب والسنة، وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون، ثم تستنبط من الفروع ما تراه صواباً، مناسباً لحال الناس وظروفهم فما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة ولا يصادم نصاً ولا يخالف شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة ولا قاعدة أساسية من قواعد التشريع الإسلامي، وتضع اللجنة الأسس وترسم المناهج، وتقوم بالصياغة القانونية الدقيقة، ويُعرض عملها كاملاً على الأمة، ليكون موضع البحث والنقد العلمي، فإن استقر الرأي عليه عُرض على السلطات التشريعية لإقراره واستصدار القانون للعمل به....."(1).
وذهب بعض العلماء المعاصرين إلى منع التقنين والإلزام به، ومنهم محمد الأمين الشنقيطي، وبكر أبو زبد وعبد الله البسام وأكثر أعضاء هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية(2).
أدلة المجوزين والمانعين:
أولاً: أدلة المجوزين للتقنين:
الأدلة الدالة على طاعة ولي الأمر منا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (النساء:59)، فالطاعة أو أمر ولي الأمر ونواهيه واجبة، ما لم تكن بمعصية، ومتى كان الباعث عليها مصلحة الأمة.
__________
(1) نقلاً من كتاب لقاءات ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر، يوسف القرضاوي ص 98، 99 .
(2) مجلة البحوث الإسلامية العدد (31) ص 65 والعدد 33 ص 52 .(32/19)
الأحاديث الواردة بطاعة ولي الأمر، كقوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وأكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة..."(1)، فإذا أمر الإمام بالتقنين جاز لدخوله تحت الطاعة.
القضاة يعدون وكلاء عن الإمام وهم نواب له، لأنهم صاروا قضاة بإذنه، والوكيل ملزم بشروط موكله، فلا يخرج عن حدودها، فإذا ألزمه بالقضاء على مذهب معين، أو بالتقنين، يجب عليه الالتزام بذلك وعدم الخروج عليه(2).
ان التقنين يدخل في باب السياسة الشرعية، لأن على ولي الأمر أن يعمل على درء المفاسد وجلب المصالح، وتصرفاته على الرعبة مناطة بالمصلحة، وقد عمل الصحابة الكرام أموراً كثيرة لمطلق المصلحة، كجمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد وإحراق ما عداه خشية الفتنة، في حروف الأداء ووجوه القراءة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية، وتفرق المسلمين في الأمصار والأقطار.
وقد شبه الإمام ابن القيم جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف واحد بما "لو كان للناس عدة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتت، ويطمع فيهم العدو، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد وترك بقية الطرق، جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود، وان كان فيه نهي عن سلوكه لمصلحة الأمة"(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية رقم (7142) .
(2) المحاميد شويش، مسيرة الفقه الإسلامي المعاصر: 41-4 .
(3) الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية، ابن القيم الجوزيه: 24 .(32/20)
ويرى بعض العلماء المعاصرين قياس مسألة التقنين على تشبيه ابن القيم لجمع القرآن فقال: ونحن نقيس على ذلك أيضاً فيما يتعلق بموضوعنا: مسألة تقييد القضاء برأي معين مختار من جملة الآراء الفقهية، دون تقييد بمذهب معين ولا بفقيه بذاته، وإنما تعتبر في ذلك المصلحة العامة، وبما ييسر على الناس أمور حياتهم، ويتناسب مع عصرهم، فمن الجائز إذاً أن يتخير ولي الأمر الرأي الذي يرجحه على ضوء ما ذكرنا عند الاختلاف فيلزم به القضاة قاطبة في كل أنحاء البلاد الخاضعة لحكمه(1).
إن المستجدات تحتاج إلى حكم شرعي ينص عليه في التقنين، وليس من الحكمة والمصلحة ترك ذلك لاجتهاد القضاة، لعدم توافر صفات الاجتهاد في أكثرهم، وعدم تفرغهم للبحث والاستقصاء في كل مستجد، وخصوصاً مع تطور الحياة، وكثرة المستجدات فيها.
اتفق الفقهاء في الجملة على ان من توافرت فيه شروط الاجتهاد من القضاة لا يجود إلزامه بالحكم بمذهب معين، أما إذا كان القاضي مقلداً، كما هو الحال في أكثر قضاة العصر، فأقوال الفقهاء صريحة بأن إلزام هؤلاء بالحكم بمذهب معين أمر مقبول وسائغ، ومن لا يرى هذا الإلزام من الفقهاء إنما يمنعونه، لأنهم لا يرون تولية القضاة غير المجتهدين وهذا فيه من الضيق والحرج، ما لا يعلمه إلا الله فلم يبق إلا الإلزام بمذهب معين للقضاة غير المجتهدين(2).
ثانياً: أدلة المانعين للإلزام بالتقنين:
استدل من قال بمنع الإلزام بالتقنين بعدة أدلة أهما ما يلي:
قوله تعالى: { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } (المائدة:42).
__________
(1) مجلة الاحمدية: العدد 19، ص 491 .
(2) مجلة البحوث والدراسات الإسلامية، العدد (33) ص 46-48، ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 20/212 .(32/21)
وجه الدلالة: إن القول الملزم به إذا تبين للقاضي من وجه من الوجوه الشرعية أن الصحيح هو القول المقابل للقول الملزم به، يكون القسط والعدل. في حكمه حسب معتقده لا بما ألزم به.
قوله صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار"(1).
وجه الدلالة: إن القول المانع من الحق هو الذي يرى القاضي أنه الحق، وليس بالضرورة أن يكون الرأي الراجح المدون هو الحق في رأي القاضي، وقضاؤه بخلاف ما عرف أنه الحق إثم، ويلزم منعه الإلزام بالتقنين(2).
ان تدوين القول الراجح والإلزام به مخالف لما جرى عليه العمل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من السلف الصالح وقد عرض هذه الفكرة أبو جعفر المنصور على الإمام مالك فردها، وبين عدم سلامتها(3).
للتقنين أثر على حركة الفقه عامة، وعلى القضاة خاصة، فيؤدي إلى تعطيل الثروة الفقهية، لأن عمل القضاة سيرتبط بهذه القوانين شرحاً وتفسيراً، مما يجعل التعامل مع كتب الفقه معطلاً، والحجر على القضاة، وإيقاف حركة الاجتهاد، وتلبية مطالب الحياة المتغيرة، ومواجهة الأنظمة والأعراف والمعاملات المتجددة(4).
المناقشة والترجيح:
قبل بيان الرأي المختار نذكر بعض المناقشات الواردة لأدلة الفريقين:
أولاً: مناقشة أدلة المجيزين:
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ رقم (3573) .
(2) مجلة البحوث الإسلامية العدد (32) ص 37 .
(3) أحمد علي محمد، المتون الفقهية: 467 .
(4) الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي: 46 .(32/22)
نوقش استدلالهم بوجوب طاعة ولي الأمر إذا أمر بالتقنين لدخوله فيما يجب طاعته به، بأن وجوب طاعة ولي الأمر فيما لا معصية فيه لم يخالف فيه أحد، وإنما الشأن في النظر للتقنين هل هو سائغ ويحقق مصلحة للأمة كما يرى المجيزون، أم هو محرم ومعصية وليس لولي الأمر أن يأمر بتنفيذها، كما يرى المانعون.
ونوقش قولهم باتفاق الفقهاء على التفريق بين من تتوافر فيه شروط الاجتهاد من القضاة ومن لا تتوافر فيه كالمقلد. بأن الاجتهاد يتجزأ كما يرى بعض علماء الأصول، فإذا كان لدى القاضي القدرة على الإحاطة بباب أو مسألة بأقوالها وأدلتها، وكان على معرفة بعلم أصول الفقه وقواعده، فيجوز له الاجتهاد في هذه القضية(1).
ثانياً: أما أدلة المانعين فقد نوقشت بالآتي:
أجيب عن استدلالهم بالآية التي تأمر بالحكم بالقسط والعدل بان هذا الاحتمال وارد نظرياً، ولكن يبعد حصوله واقعياً لكون التقنين المقترح هو خلاصة لاجتهاد هيئة مختارة من الفقهاء ويستبعد خطؤهم جميعاً، وأصابته وحده، ولو وقع ذلك فمن الواجب الأخذ برأيه في التقنين، ولكن الأمر لا يترك مفتوحاً يحكم كل واحد بحسب ما يظهر له، وإن كان خطأ يظنه صواباً(2).
نوقش استدلالهم بالحديث ((القضاة ثلاثة)) وأجيب عنه بما اعترض به على الدليل الأول.
وأجيب عن استدلالهم بمخالفة التقنين والإلزام به ما جرى عليه العمل في عهد الرسول صل الله عليه وسلم والخلفاء من بعده. بأن عدم وجود ذلك في عهد السلف لا يلزم منعه لاحتمال عدم وجود دواعيه، وما نقل عن الإمام مالك هو رأي له، خالفه فيه غيره(3).
__________
(1) عبد البر محمد زكي، تقنين الفقه الإسلامي: 49 .
(2) مجلة الأحمدية: 19- ص261 .
(3) حمدي محمد، المتون الفقهية: 467 .(32/23)
ونوقش قولهم بأن التقنين يؤدي إلى تعطيل الثروة الفقهية، فأجيب بأن التقنين ليس فيه حجر كبير على القضاة، لأن تدوين الفقه لا يمنع الاجتهاد، ومستجدات الحياة كثيرة مما يعطي للقاضي مجالاً في تبني أحكام جديدة لها، وهو يجتهد في ملابسات الأقضية المعروضة عليه، وللأحكام المقننة مذكرات إيضاحية وشروح، ولا يستغني واضعوها عن كتب الفقه الإسلامي، ثم إن الإلزام والتقييد بمذهب معين، واقع في كثير من البلاد الإسلامية منذ قرون، ومع ذلك لم يكن هذا مانعاً من الاتساع الفقهي، بل الموسوعات الفقهية، ومطولات الكتب في الفقه وجدت في هذه الفترات(1).
الرأي المختار:
بعد أن ذكرنا رأي المجيزين والمانعين وأدلتهم ومناقشتها، نرى اختيار القول الأول بجواز تقنين الأحكام الشرعية والإلزام بها لسلامة أكثر أدلتهم وتعليلاتهم ووجاهتها، وللإجابة عن أدلة المانعين والرد عليها وللأمور التالية:
سهولة الرجوع إلى أحكام التقنين من القضاة وغيرهم، ومعرفة الحكم الشرعي، لأن الكتب الفقهية عرضت بأسلوب يختلف عن أسلوب العصر، وهي مليئة بالخلافات والآراء في القضية الواحدة، وهذا يجعل غير المتخصصين في حرج وحيرة عندما يريدون الأخذ بحكم فقهي، والتقنين يؤدي إلى ضبط الأحكام الشرعية، واعتماد الرأي الأصلح من الآراء المختلفة بين المذاهب بل في المذهب الواحد(2).
إن التقنين وسيلة عصرية لتطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، وعدم إتباعها يفتح السبيل أمام القوانين الأجنبية للدخول في البلاد الإسلامية(3).
__________
(1) المحاميد مسيرة الفقه الإسلامي: 464 .
(2) الزحيلي، جهود التقنين في الفقه الإسلامي: 27، الزرقا، المدخل الفقهي العام: 1/319 .
(3) عبد البر، تقنين الفقه الإسلامي: 62 .(32/24)
إن التقنين يؤدي إلى توحيد الأحكام في الدولة ويقطع دابر احتمال التضارب والتقاضي في أحكام وقضايا متماثلة، مما يفتح الباب لاتهم القضاة باطل وإتباع الهوى فيما يقضون، ويهدد الثقة بالحاكم(1).
في التقنين تحديد لأبعاد الأحكام الشرعية، وتحقيقها لمصالح العباد، وبيان صلاحيتها لكل زمان ومكان، وتحقيقها لمبدأ علنية النظام، والقيام بواجب إعلان النظام للمكلفين بجميع قواعده وأحكامه قبل سريانه عليهم، ونفاذه فيهم، وهذا يؤدي إلى حسن سير الجماعة لعلمهم بقواعد القانون وتطبيقهم له على علاقاتهم الاجتماعية.
إن التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية هو امتداد لحركتي التقعيد الفقهي والمتون الفقهية، ولا فرق بين التقنين الحديث عن القواعد والمتون الفقهية إلا في الترقيم والفرز والاختصار والتسهيل.
ان اعتماد الآلية الإسلامية في التفريق بين الأحكام الثابتة بالنصوص القطعية التي لا تخضع لآلية إنتاج النص القانوني إلا في الشكل الفني كالصياغة، مع عدم المساس بالمدلول والأحكام متعددة الاجتهادات، أو المتغيرة التي تخضع لآلية إنتاج النص القانوني. تضمن عدم التعارض بين القوانين المشرعة على وفقها، والأحكام المدلول عليها بالنصوص قطعية الدلالة من الكتاب والسنة.
ان المستجدات في العصر الحاضر كثيرة وفي مختلف المجالات، ويصعب على القضاة الوصول إلى أحكامها باجتهادات فردية، وإنما يسهل عليهم معرفة أحكامها باجتهاد جماعي وما يتوصل إليه كبار الفقهاء في هذا الاجتهاد، ينبغي أن يعمم على جميع المحاكم ويلزم القضاة به، وهكذا يعد التقنين استكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي(2).
__________
(1) المرجع السابق، 49 .
(2) الزرقا، المدخل الفقهي العام 1/314، مجلة البحوث الإسلامية العدد (33) 46 .(32/25)
تقنين الشريعة الإسلامية يسهل الإسهام في إمداد القانون الدولي الذي تحكم بموجبه محكمة العدل وغيرها من المحاكم الدولية، ويمده بالقواعد والنظريات القانونية من وجهة نظر الإسلام، وكذلك يزود المشاركين في المؤتمرات القانونية الدولية برأي الشريعة الإسلامية فيها تبحثه من مسائل وتتخذه من توصيات(1).
ومع ترجيحنا للقول بتقنين أحكام الشريعة الإسلامية إلا أننا ندعو إلى مراعاة بعض الضوابط وهي:
أن تقوم بهذا العمل هيئة من كبار فقهاء العصر ممن تتوافر فيه القدرة على الاستنباط من الفروع ما يرونه مناسباً لحال الناس وظروفهم مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصاً، ولا يخالف شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة ولا قاعدة أساسية من قواعد التشريع الإسلامي، لأن العمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الجماعي، لا الفردي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء ظهر وجه الصواب، وينظم إليهم متخصصون في مختلف المجالات لا سيما المجال القانوني. وينبغي ان يشرف على هذا العمل مجمع فقهي غير خاضع لسلطة محلية(2).
عدم التقيد بمذهب واحد فتستمد الدول الإسلامية تقنيناتها في مختلف المجالات من الفقه الإسلامي بمفهومه العام، أي من جميع المذاهب الفقهية المعتبرة ومن آراء فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين، فتعتبر كل المذاهب الاجتهادية كمذهب واحد، ويعد كل مذهب فردي منها في المذهب العام كالأقوال المختلفة في المذهب الفردي الواحد، فيرجح العلماء ويختارون منها للتقنين في ميدان القضاء والفتيا ما يفي بحاجات الناس وما تقتضيه مصالحهم في كل عصر(3).
__________
(1) مدى الحاجة إلى موسوعة الفقه الإسلامي: 123، ومجلة الأحمدية: ص19-ص250 .
(2) القرضاوي، لقاءات ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر: 68 .
(3) أحمد شاكر، الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين: 32 .
الزرقا، المدخل الفقهي العام 100/313، مجد أحمد مكي، فتاوى مصطفى الزرقا: 373 .(32/26)
يجب الاهتمام والعناية بالقضاة، وتأهيلهم علماً وديانة وعدالة، لأن العدالة أساس القضاء وركيزته، والقضاء نابع من العقيدة ومرتبط بالإيمان وهي التي تؤدي إلى صحة القضاء وسلامته. ويجب أن يتحلى من يتولى هذا المنصب الهام بهذه الصفات لكي يؤدي مهمته الخطيرة بكل أمانة وجدارة واستحقاق. فإذا تحقق ذلك يعطي التقنين نتائجه الإيجابية وثمراته المرجوة ويكون عاملاً هاماً في أمن المجتمع واستقراره في الداخل، وصورة مشرقة عن الإسلام في الخارج كما هو شأنه وحقيقته.
الخاتمة
وتتضمن أهم نتائج البحث:
ان الشريعة الإسلامية حية متطورة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان.
أول نشأة لتقنين الفقه الإسلامي ما قامت به دولة الخلافة العثمانية سنة 1293هـ-1876م بصدور مجلة الأحكام العدلية، وهي قانون مدني مأخوذ من المذهب الحنفي. وأول تقنين للأحوال الشخصية هو قانون حقوق العائلة العثماني الصادر علم 1917م، ثم تلى ذلك صدور عدة قوانين للأحوال الشخصية في البلاد العربية، وكان أخرها قانون الأحوال الشخصية الإماراتي الصادر سنة 2005م، ولم يقتصر الأمر على الأحوال الشخصية، بل استمدت بعض البلاد العربية بعض قوانينها من الشريعة الإسلامية كالقانون المدني، والقانون الجنائي وقانون الإثبات في العراق والأردن والسودان ودولة الإمارات العربية المتحدة.
اشترط جمهور الفقهاء الاجتهاد فيمن يتولى القضاء ولم يشترط ذلك بعضهم والراجح اشتراطه عند وجوده، وإن تعذر وجوده فيعين المقلد وهذا ما عليه عامة الفقهاء المتأخرون.
للمقلد الذي يتولى القضاء شروط ومواصفات ينبغي توافرها فيه.
ذهب جمهور الفقهاء المتقدمون إلى عدم جواز إلزام القاضي بمذهب معين، وأجازه الحنفية وعدد من فقهاء المذاهب الأخرى، وحملوا أقوال أئمتهم المتقدمين على منع تقييد القاضي المجتهد خاصة بمذهب معين.
اتفق الفقهاء على جواز تقنين الأحكام الشرعية إذا قصد بها التيسير وسهولة الوقوف على أحكام المسائل.(32/27)
اختلف الفقهاء في اعتبار التقنين ملزماً للقضاء به من قبل ولي الأمر.
يمكن تخريج مسألة حكم التقنين على حكم تقييد القاضي بمذهب معين، والراجح جواز ذلك كما ذهب إليه الحنفية وعدد من فقهاء المذاهب الأخرى.
تكلم العلماء المعاصرون في حكم تقنين الأحكام الشرعية وإلزام القضاة بها باعتبارها من الأمور المستجدة، فذهب أكثر العلماء المعاصرون إلى جواز ذلك بل صرح بعضهم بضرورة ذلك وجوبه، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، ومنعه آخرون، والراجح جواز ذلك لقوة أدلة المجيزين والرد على أدلة المانعين ولأسباب وأمور أخرى من تحقيق المصالح ودفع المفاسد التي تدعو إلى هذا الترجيح.
وفي الختام ندعو العلماء المعارضين للتقنين إلى مراجعة رأيهم وتأييد قول الداعين إلى تقنين الشريعة الإسلامية، لأن التقنين أصبح ضرورة عصرية، ووسيلة لتبليغ أحكام الإسلام الذي جاء ليطبق في حياة الناس ويسير شؤونهم، وآلية لتنظيم حياتهم بأسلوب عصري، فيسود التطبيق حسب الرؤية الإسلامية المتكاملة والضوابط الشرعية، ودفعاً لمساوئ تطبيق القوانين الوضعية فيما يخالف شرع الله تعالى.
وكذلك ندعو القائمين على الأمور في الدول الإسلامية عامة إلى اعتماد الشريعة الإسلامية في جميع تشريعاتها، واستمداد جميع قوانينها منها ومن أحكامها ومبادئها وضوابطها وقواعدها وتطبيقها في ساحات القضاء والمحاكم، لأن عبادة الله تستلزم الانقياد التام لأحكام الله وشرعه، في جميع شؤون الحياة أمراً ونهياً واعتقاداً وقولاً وعملاً، فلا يكون الإنسان عابداً لله إلا إذا كانت حياته قائمة على شريعته، يحل ما أحل الله ويحرم ما حرمه، ويخضع لهداية الله في سلوكه وسيرته وتعامله، ويترك أهواءه طاعة لربه، وفقنا الله جميعاً لطاعته والعمل بشريعته.
والحمد لله رب العالمين
أهم المصادر والمراجع
إمام محمد كمال الدين، مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات).(32/28)
البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري (الرياض: بيت الأفكار الدولية).
البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع، تحقيق هلال مصلحي، (بيروت: دار الفكر، 1402هـ-1982م).
ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، (الرياض: عالم الكتب، 1412هـ-1991م).
..................، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، (بيروت: دار الجيل، 1413هـ-1993م).
الحجوي محمد بن الحسن، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، (القاهرة: دار التراث).
حمدي محمد، المتون الفقهية، وصلتها بتقنين الفقه الإسلامي، (دار البلاد للطباعة والنشر).
حيدر علي، درر الحكام شرح مجلة الأحكام، (بيروت: دار الجيل، 1411هـ-1991م).
الخطيب الشربيني محمد بن الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (بيروت: دار الفكر، 1419هـ-1998م).
الخرشي، محمد بن عبد الله، حاشية الخرشي على مختصر خليل (بيروت: دار الكتب العلمية 1417هـ-1997م).
أبو داود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود (الرياض: بيت الأفكار الدولية).
الدردير أحمد الدردير، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي، (بيروت:الكتب العلمية، 1417هـ-1996م).
الذهبي شمس الدين محمد بن أحمد، تحقيق نذير حمدان، سير أعلام النبلاء، ط2 (1405هـ-1985م).
الرملي شمس الدين محمد بن أبي العباس، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت: دار الفكر، 1404هـ-1984م).
الزرقا مصطفى أحمد، المدخل الفقهي العام، (دمشق، دار القلم، 1418هـ-1998م).
السبكي: تقي الدين علي بن عبد الكافي، فتاوى السبكي، (بيروت: دار المعرفة).
شاكر، أحمد شاكر، الكتاب والسنة يجب ان يكونا مصدر القوانين (القاهرة: المكتبة السلفية).
الشوكاني: محمد بن علي، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد (الكويت: دار القلم، 1403هـ-1983م).
صالح: عمر صالح، المدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية، (الشارقة: النشر العلمي بجامعة الشارقة، 1425هـ-2004م).(32/29)
الطرابلسي: علاء الدين علي، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1393هـ).
ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1415هـ-1994م).
عبد البر محمد زكي، تقنين الفقه الإسلامي، (قطر: إدارة إحياء التراث الإسلامي).
العيني، محمود بن أحمد، البناية في شرح الهداية ( بيروت: دار الفكر، 1411هـ-1990م).
ابن فرحون، إبراهيم بن الإمام شمس الدين، تبصرة الحكام، (السعودية: عالم الكتب).
ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية، (القاهرة: مكتبة المدني ومطبعتها).
ابن قدامة: موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي، المغني، تحقيق عبد الله التركي، وعبد الفتاح الحلو، (القاهرة: ط هجر).
القرضاوي يوسف، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، (القاهرة: مكتبة وهبة).
............................، لقاءات ومحاورات حول قضايا الإسلام والعصر، (القاهرة: مكتبة وهبة).
مجلة البحوث والدراسات، الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في السعودية الأعداد: 31،/ 32، 33.
مجلة الأحمدية، تصدر عن دار البحوث الإسلامية وإحياء التراث بدبي (العدد 19).
المرداوي: علي بن سليمان، الأنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، (بيروت: دار إحياء التراث العربي).
المطيعي: تكملة المجموع شرح المهذب.
النووي: يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم (بيروت: دار القلم).
وهبة الزحيلي، جهود تقنين الفقه الإسلامي (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1408هـ-1987م).
ابن الهمام كمال الدين، شرح فتح القدير، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1415هـ).
الهيثمي، ابن حجر، تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني وابن القاسم (بيروت: دار صادر).(32/30)
تقنين الفقه الإسلامي في الأردن الواقع والآفاق
ورقة مقدمة لندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر
الواقع والآفاق
إعداد
الدكتور عبد الرحمن الكيلاني
جامعة الشارقة –كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
تقنين الفقه الإسلامي في الأردن
الواقع والآفاق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،وبعد:
فإن من أبرز ملامح التجديد في مسيرة الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر تقنين الفقه الإسلامي من خلال جمع الأحكام والقواعد الشرعية المتعلقة بمجالات الحياة المختلفة وصياغتها بعبارات آمرة موجزة واضحة وإصدارها في صورة قانون ملزم تفرضه الدولة وتلزم الناس بتطبيقه .
وقد بذلت في عصرنا الحاضر جهود كبيرة لتقنين أحكام الفقه الإسلامي ليكون هو الحاكم على تصرفات الأفراد والمنظم لها .
وكان من ضمن هذه الجهود المبذولة ،ما تم في الأردن من تقنين لأحكام المعاملات المالية ،وتقنين للعديد من الموضوعات الأسرية في قانون الأحوال الشخصية .
وفي هذه الورقة التي أقدمها لندوة (القضاء الشرعي في العصر الحاضر :الواقع والآفاق ) بعنوان :واقع تقنين الفقه الإسلامي في الأردن الواقع والآفاق ، أعرض واقع تقنين الفقه الإسلامي في الأردن ،وأهمية هذه القوانين في إثبات جدارة الفقه الإسلامي وقدرته على تنظيم حياة الفرد والمجتمع ، والتحديات التي تواجه هذه القوانين ، والطموح الذي ننشده للتقدم نحو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عن طريق إصلاح تشريعاتنا وقوانيننا.
وقد جعلت البحث على وفق المطالب الآتية :
المطلب الأول:لمحة عن الوضع التشريعي والقضائي في الأردن .
المطلب الثاني :تقنين أحكام المعاملات المالية
المطلب الثالث:تقنين أحكام الأسرة
المبحث الرابع :آفاق تقنين أحكام الشريعة في الأردن
الخاتمة والتوصيات .
والله أسأل فيما أنا بصدد بحثه ودراسته
إنه نعم المولى ونعم النصير(33/1)
المطلب الأول:لمحة عن الوضع التشريعي والقضائي في الأردن :
ظل الأردن خاضعا لسلطان الدولة العثمانية حتى عام 1918م ،وبقي حتى ذلك التاريخ مطبقا للقوانين والأنظمة السارية في الدولة العثمانية باعتباره جزءا من مناطق الدولة وأعمالها .
وبعد تأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921 ، لم تلغ قوانين الدولة العثمانية ،وبقيت في الكثير منها سارية المفعول ،وهذا ما وضحه القانون الأساسي للإمارة الصادر عام1928 والذي نص في المادة 58 منه :"إنه مع استثناء ما حصل من تعديل وإلغاء بموجب المنشورات والأنظمة والقوانين المذكورة في المواد التالية فالقوانين العثمانية المنشورة في أول تشرين الثاني 1914م أو قبل ذلك ،والقوانين العثمانية التي نشرت بعد ذلك التاريخ وأذيع أو قد يذاع بإعلان عام أنها معمول بها، تبقى نافذة المفعول بقدر ما تسمح بذلك الأحوال إلى أن تلغى أو تعدل بتشريع يسن بمقتضى القانون ."(1)
وقد أكد هذا المعنى الدستور الأردني لسنة 1946 في مادته 71 والتي صرحت ب:"إن القوانين المعمول بها هي القوانين العثمانية المنشورة في أول تشرين الثاني 1914 أو قبل ذلك .والقوانين العثمانية التي قبل نفاذ هذا الدستور وأذيع بإعلان أنها معمول بها بقدر ما تسمح الأحوال بتطبيقها في المملكة الأردنية الهاشمية ، ما لم تلغ أو تعدل هذه القوانين بتشريع في المملكة المذكورة "(2)
وهذا يعني أن الأردن بقي مطبقا للقوانين العثمانية وأن إلغاء هذه القوانين وإبدالها بقوانين جديدة بدأ بالتدريج ولم يتم دفعة واحدة .
__________
(1) القانون الأساسي عام 1928م
(2) الدستور الأردني لسنة 1946 في مادته 71(33/2)
وعند البحث في القوانين العثمانية التي كانت سارية في الأردن إبان تلك الحقبة من حيث استمدادها من أحكام الشرع الحنيف ،نجد أن القوانين العثمانية المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية تنحصر قي قانونين فقط هما مجلة الأحكام العدلية الصادرة 1876م والتي بقي معمولا بها في الأردن حتى عام 1976م ،و قانون حقوق العائلة 1917م والذي بقي معمولا به حتى عام . 1927(1)
أما بقية القوانين العثمانية الأخرى فإنها لم تكن مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية مثل قانون التجارة الذي صدر عام 1850 فإنه مقتبس مبدئيا عن القانون الفرنسي ، وقانون الجزاء الذي صدر عام 1858م منقول مبدئيا عن القانون الفرنسي ،وقانون أصول المحاكمات الحقوقية مقتبس عن القانون الفرنسي .فالقوانين العثمانية لم تكن جميعها مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية وإنما كانت مقسمة إلى ثلاث فئات :(2)
:
الأولى : القوانين المقتبسة عن الغرب .
والثانية :القوانين الشرعية المأخوذة عن المذهب الحنفي كالمجلة وقانون حقوق العائلة مع الإفادة من المذاهب الأخرى .
والفئة الثالثة :الأحكام الشرعية غير المدونة
على أن هذا الوضع التشريعي في الأردن لم يبق مستمرا حيث صدرت العديد من القوانين الجديدة التي نسخت التشريعات والقوانين العثمانية السابقة ،كما صدرت قوانين أخرى لم يكن لها نظير أصلا في التشريعات والقوانين العثمانية.
وبالنظر إلى مجموعة التشريعات والقوانين القائمة والمعمول بها في الأردن حاليا من حيث صلتها بأحكام الشرع الحنيف وعلاقتها بمقررات الفقه الإسلامي واعتمادها للتشريع الإسلامي مصدرا لها ، نجد أنه يمكن تصنيفها إلى الأقسام الآتية :
__________
(1) المحمصاني /الأوضاع التشريعية في الدول العربية ماضيها وحاضرها ص191-202
(2) صبحي محمصاني /الأوضاع التشريعية ص202(33/3)
1-قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية ونص القانون على اعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الأول لها ويتمثل هذا في قانون الأحوال الشخصية الأردني والقانون المدني الأردني .
2-قوانين غير مستمدة من أحكام الشرع الحنيف ولكنها لا تتناقض أو تتصادم معه مثل قانون السير ومكافحة المخدرات وغيرها .
3- قوانين تتصادم مع أحكام الشرع الحنيف في بعض موادها مثل قانون العقوبات الأردني نظرا لتضمنه لمواد تتعارض مع أحكام الفقه الإسلامي من حيث تكييف الأفعال الجرمية والعقوبات المترتبة عليها، كالقتل والسرقة والزنا والقذف .ومثلها أيضا قانون البنوك من حيث إجازته للتعامل بالربا الذي حرمه الله بنص كتابه بقوله تعالى " وأحل الله وحرم الربا " (1)
هذا فيما يتعلق بالقوانين والتشريعات أما فيما يتعلق بالقضاء فقد قسم الدستور الأردني المحاكم إلى ثلاثة أنواع (2)
المحاكم النظامية
المحاكم الدينية
المحاكم الخاصة
وأناط بالمحاكم النظامية في المملكة الأردنية الهاشمية حق القضاء على جميع الأشخاص في جميع المواد المدنية والجزائية بما فيها الدعاوى التي تقيمها الحكومة أو تقام عليها باستثناء المواد التي قد يفوض فيها حق القضاء إلى محاكم دينية أو محاكم خاصة بموجب أحكام الدستور أو أي تشريع آخر نافذ المفعول .(3)
وقسم المحاكم الدينية إلى:(4)
1- المحاكم الشرعية .
2- مجالس الطوائف الدينية الأخرى
و وحصر اختصاص المحاكم الشرعية في :
"1- مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين .
2-قضايا الدية إذا كان الفريقان كلاهما مسلمين أو كان أحدهما غير مسلم ورضي الفريقان أن يكون حق القضاء في ذلك للمحاكم الشرعية .
3- الأمور المختصة بالأوقاف الإسلامية ."(5)
__________
(1) البقرة 275
(2) الدستور الأردني المادة 99
(3) مادة 102 من الدستور الأردني
(4) مادة 104 من الدستور الأردني
(5) مادة 105 الدستور الأردني(33/4)
و اشترط فيما يتعلق بالقضاء الشرعي أن "تطبق المحاكم الشرعية في قضائها أحكام الشرع الشريف "(1)
وبالتأمل في هذه المواد التي نظم بها الدستور الأردني المحاكم في الأردن نجد ما يأتي :
1- أن الدستور في هذه المواد قد قلص وظيفة القضاء الشرعي ،فبدلا من أن ينظر القضاء الشرعي في كافة القضايا المدنية والجزائية بات محصورا في قضايا الأحوال الشخصية والديات والأوقاف فقط ،على الرغم من أن المادة الثانية من الدستور نفسه تصرح بأن الإسلام هو دين الدولة و أن اللغة العربية هي لغتها الرسمية ،وهذا النص يقتضي أن يكون القضاء كله شرعيا وخاضعا في أحكامه ومرجعيته لأحكام الشرع الحنيف حتى يكون منسجما مع دين الدولة .
2- أن تقسيم الدستور للمحاكم إلى شرعية ونظامية ،وأن المحاكم الشرعية تطبق في قضائها أحكام الشرع الحنيف، يجب أن لا يكون ذريعة لتطبيق أحكام غير شرعية في المحاكم النظامية ذلك لما قدمت من تصريح المادة الثانية من الدستور من "أن دين الدولة الإسلام "، وبناء على هذه المادة يجب أن تكون جميع الأحكام والقوانين في الأردن متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية سواء أكان تطبيق هذه القوانين من وظيفة المحاكم النظامية أم كان من وظيفة المحاكم الشرعية . وذلك لما هو مقرر عند فقهاء القانون الدستوري من أن القاعدة القانونية تستمد قوتها الإلزامية من الدستور ،فلا يجوز لها أن تخالفه سواء من حيث الاختصاص أو الشكل أو المحل . و أن القاعدة التي يتضمنها الدستور تعد أسمى من اللوائح القانونية التي تصدرها السلطة التشريعية ،وأن القانون الذي يكون مخالفا للدستور يعتبر مجردا من أثره القانوني ومن شرعيته وإلزاميته .(2)
و عليه يعتبر القانون المخالف لأحكام الشريعة الإسلامية قانونا غير دستوري وفق ما تمليه وتوجبه قواعد القانون الدستوري .
__________
(1) المادة 106من الدستور الأردني
(2) السنهوري /مخالفة التشريع للدستور ص47 و59(33/5)
على أن الاعتراض على القانون بعدم دستوريته لم يفعل عمليا في الأردن ولم يعترض على أي قانون مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية ،لبسبب بسيط هو :عدم وجود محكمة دستورية تراقب وتتابع وتفحص دستورية القوانين وشرعيتها ، ووجه عدم إمكانية الاعتراض على القوانين بعدم الدستورية يرجع إلى أن الدستور الأردني لم يتضمن أي نص خاص يمنح القضاء حق الرقابة على دستورية القوانين ،وبالتالي فإنه من غير الممكن رفع دعوى أصلية يطالب فيها برد القانون بحجة مخالفته أحكام الشريعة الإسلامية لعدم وجود جهة مختصة للنظر في هذه القضايا .(1)
أخلص من ذلك كله إلى أن تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في الأردن يكاد ينحصر في القوانين التي هي من الاختصاص الوظيفي للمحاكم الشرعية كقانون الأحوال الشخصية ،وقانون أصول المحاكمات الشرعية وقانون إدارة وتنمية أموال الأيتام .
أما المحاكم النظامية فإن القوانين فيها-في العام الغالب- لا تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية ومقررات وقواعد الفقه الإسلامي، ولا يخرج عن هذه القاعدة إلا القانون المدني الأردني المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية .
ونظرا لكون القانون المدني الأردني وقانون الأحوال الشخصية هما أبرز القوانين الأردنية التي تعكس واقع تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في الأردن فسأقوم بدراستهما بشكل مستقل كل على حدة .
المطلب الثاني: تقنين أحكام المعاملات المالية :"القانون المدني الأردني "
أولا :المراحل التي مر بها القانون :
يعتبر القانون المدني من أهم قوانين الدولة من حيث إنه القانون الذي ينظم معاملات الناس المالية ، ويضبط تصرفاتهم ويحدد التزاماتهم بناء على موجبات هذا القانون .
__________
(1) انظر :الدكتور نعمان الخطيب /الوجيز في القانون الدستوري ص132(33/6)
وفي الأردن كانت مجلة الأحكام العدلية هي القانون الساري الذي يحتكم إليه الأفراد في تنظيم أمورهم وتعاقداتهم المالية وتطبقه المحاكم باعتباره واحدا من القوانين العثمانية التي لم يصدر قانون آخر يلغيه وينسخ العمل به في (1) ، وبقي هذا الأمر قائما في الأردن إلى عام 1954 حيث قدمت الحكومة إلى مجلس النواب مشروع قانون جديد مستمد من القانون الفرنسي فأقره مجلس النواب ،ولكن مجلس الأعيان -الذي يمثل الشطر الثاني لمجلس الأمة - نظر في القانون بتاريخ 9/12/1957 م قرر رده وإعادته إلى مجلس النواب وأوصى ب :" وضع مشروع قانون مدني يقتبس من المجلة –مجلة الأحكام العدلية – ومن كنز شريعتنا ويضاف إليه من الأحكام ما يتطلبه عصرنا ، ويعدل ما يحتاج التعديل ،على أن تسبك مواده بلغة بليغة لا ركاكة فيها ولا تعقيد "(2).
وبتاريخ 17/12 /1957م أيد مجلس النواب قرار مجلس الأعيان وقرر رفض المشروع .
وبقيت خلال هذه الفترة مجلة الأحكام العدلية هي القائمة والمطبقة في المحاكم لعدم وجود قانون آخر يلغيها .
وفي عام 1963 م أي بعد ست سنوات من رد القانون في مجلس النواب أعادت الحكومة طرح مشروع القانون المدني نفسه مرة أخرى دون أن تأخذ بتوصية مجلس الأمة من الأعيان والنواب ،فاستعرضه مجلس النواب عام 1964 وقرر هذه المرة بتاريخ 10/3/1964 إقراره ورفعه إلى مجلس الأعيان .و في مجلس الأعيان أوصت أكثرية اللجنة القانونية في المجلس بالموافقة عليه دون أن تأخذ بالاعتبار توصية المجلس عام 1957م بوضع قانون مدني مأخوذ من الفقه الإسلامي ومستمد من أحكام الشريعة الإسلامية .
__________
(1) على أنه قد صدرت بعض التشريعات الخاصة التي ألغت بعض أحكام المجلة
(2) المذكرة الإيضاحية ص 18(33/7)
ولكن الشارع الأردني تفاعل مع هذه القضية ورأى أن في إلغاء مجلة الأحكام العدلية المستمدة من شرعنا الجنيف و استبدالها بقانون جديد مستمد من القانون الفرنسي اعتداء على عقيدة الأمة ودينها وانتهاكا للدستور الأردني ،وقد ساهم في تفاعل الشارع الأردني مع هذه القضية عملية التوعية التي نهض بها ثلة من علماء الشرع والخطباء والدعاة وكثير من رجال القانون ،مطالبين مجلس الأعيان برد القانون الجديد لأنه ينسخ مجلة الأحكام العدلية بقانون أجنبي بعيد عن الشريعة وغريب عن هوية الأمة وثقافتها ،ومطالبين المجتمع الأردني بالدفاع ن شريعته ودينه وعقيدته .
وبقي النقاش والجدل حول القانون الجديد قائما إلى أن حسم الملك حسين هذا الأمر في8/ 4/1964 ، برسالة أرسلها إلى رئيس مجلس الأعيان جاء فيها :" لما كان عدد كبير من رجال العلم والفقه والقانون قد توجهوا إلينا ملتمسين أن تظل مملكتنا الأردنية الهاشمية متمسكة بقانون مدني منبثق عن شريعتنا الإسلامية ،وإننا لما لهذا القانون من أهمية وخطورة نرغب في أن يصار إلى تأليف لجنة تضم كبار العلماء والفقهاء ورجال القانون لدراسة مشروع القانون المدني وإعادة النظر فيه حتى يظل هذا القانون عند تطبيقه والتوسع في فهمه والاجتهاد في معانيه ومراميه نابعا في أصوله ومصادره من حياتنا وحاجاتنا وأخلاقنا وتقاليدنا "(1)
وبناء على هذه الرسالة تم تشكيل لجنة تضم قاضي القضاة ومجموعة من علماء الشريعة والقانون وأعضاء من مجلس الأعيان والنواب من أجل إعداد مشروع قانون مدني أردني يكون مستمدا من الشريعة الإسلامية .
شكلت هذه اللجنة بموجب كتاب رئيس الوزراء رقم م/12/8826 بتاريخ 7/6/ 1971 (2)
__________
(1) المذكرة الإيضاحية 1/3
(2) ويلاحظ هنا التراخي في تأليف هذه اللجنة ما بين الرسالة الملكية وتأليف اللجنة .(33/8)
وعملت اللجنة على النهوض بالمهمة الجسيمة التي كلفت بها واستعانت بخبراء من فقهاء القانون المدني في العالم العربي هم الشيخ مصطفى الزرقا ،والدكتور محمد زكي عبد البر والأستاذ عبد القادر الأسود والأستاذ محمد مصطفى المنفلوطي والشيخ علي الخفيف ، إلى أن أنهت عملها وأعلنت عن طريق رئيس اللجنة المكلفة الأستاذ بهجت التلهوني بتاريخ 5/1/1976 إنجاز مشروع القانون المدني والانتهاء منه .
وبعدها صير إلى إصدار القانون بموجب قانون مؤقت بعد أن صدر في المجلة الرسمية في 9/1976 وبدأ العمل به في مطلع 1977 .
ثانيا:مصادر القانون وموجهاته :
استفيدت مواد القانون واحكامه من مجموعة من المصادر هي :
1-مجلة الأحكام العدلية.
2-الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه .
3- التشريعات والقوانين الأردنية بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية .
4-القانون المدني المقدم إلى مجلس الأعيان مما لا يتعارض منها مع أحكام الشريعة الإسلامية .
5-كافة التشريعات والقوانين المعاصرة والمستمدة من الفقه الإسلامي .
وقد بين أعضاء اللجنة الذين أعدوا القانون التوجه العام لهم في عملية التقنين وحددوا في مقدمة المشروع "أن اللجنة التي وكل إليها وضع القانون توخت وضع قانون جديد يهدف إلى تحقيق ما تصبو إليه الأمة والبحث عن تراثها وتوفير المصلحة المتطورة في زمانها ذلك لأن القانون مهما كانت مصادره يجب أن يكون صلة بين الماضي والحاضر لينير السبيل نحو المستقبل وحتى لا تفتقد حلقات الزمن وأن يكون وسيلة الوصول إلى غاية هي حفظ المجتمع وتثبيت دعائمه تطلعا إلى حياة يسودها العدل والنظام والاستقرار وعلى هدي ما تقدم روعي أن يكون الفقه الإسلامي المصدر الأساسي للتقنين وهو الذي نهل العلماء من نبعه ونما العلم في رحابه وبلغ أسمى ما وصلت إليه النظم الفقهية من دقة وإحكام "(1)
__________
(1) المذكرة الإيضاحية 1/24(33/9)
وحتى تبقى أحكام الشريعة الإسلامية هي المرجع والمصدر للمحاكم المختصة بالنظر في القضايا المدنية نص القانون في المادة الثانية منه على :
1-تسري نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بألفاظها ومعانيها ،ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص .
2-فإذا لم تجد المحكمة نصا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الإسلامي الأكثر موافقة لنصوص هذا القانون ،فإن لم توجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية .
3-فإن لم توجد حكمت بمقتضى العرف ،فإن لم توجد حكمت بمقتضى قواعد العدالة ،ويشترط في العرف أن يكون عاما وقديما ثابتا ومطردا ولا يتعارض مع أحكام القانون أو النظام العام أو الآداب .أما إذا كان العرف خاصا ببلد معين فيسري حكمه على ذلك البلد .
4-ويسترشد في ذلك كله بما أقره القضاء والفقه على أن لا يتعارض مع ما ذكر .
ومن خلال هذا النص نجد أن القانون قد اعتبر الفقه الإسلامي هو المرجع الأول في حالة عدم وجود نص في القانون ثم يتدرج القاضي بعدها نحو مبادئ الشريعة الإسلامية ومن ثم العرف وقواعد العدالة .
،وهنا يتبين لنا أمران :
1- أن القانون لم يجار الكثير من القوانين المدنية العربية التي أحالت على العرف أولا ثم على أحكام الشريعة الإسلامية ،وإنما جعل لأحكام الشريعة الإسلامية الصدارة في مرجعية القاضي ثم يتدرج بعدها نحو العرف وقواعد العدالة .
2-أن القانون فرق بين أحكام الفقه الإسلامي ومبادئ الشريعة الإسلامية ،حيث عنى بأحكام الفقه الإسلامي الأحكام المدونة في كتب الفقه الإسلامي بمدارسه المختلفة ،بينما عنى بمبادئ الشريعة الإسلامية القواعد العامة للتشريع كالأمر بالعدل والمساواة والنهي عن أكل أموال الناس بالباطل .(33/10)
وقد بينت المذكرة الإيضاحية أن الاحتكام إلى أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية قد نبع من مقتضى الإيمان بأن مبادئ الشريعة إذا احتيج إليها تغني عن مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة فضلا عما تتسم به الأخيرة من إبهام وغموض على خلاف مبادئ الشريعة الإسلامية فهي مسطورة في كتاب الله وسنة نبيه ومبينة في كتب العلوم الإسلامية المختلفة .(1)
وقد عزز واضعو القانون صلته بالشريعة الإسلامية وانبثاقه من معين أحكامها الغراء في المادة الثالثة منه التي جاء فيها :يرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله ودلالته إلى قواعد أصول الفقه الإسلامي .
وفي هذا تثبيت لما تميز به القانون من ارتباط بالفقه الإسلامي وأصوله ، كما أن فيه تفاديا لما وقعت به الكثير من التقنينات العربية التي لم تشر إلى القواعد التي يحتكم إليها في فهم النصوص تاركة الأمر لسليقة القاضي أو لكتب أصول القانون التي لا تعدل شيئا أمام القواعد المحررة التي تزخر بها الكتب الأصولية .
ثالثا:وصف القانون ومزاياه
يتكون القانون من1449 مادة جاءت موزعة على باب تمهيدي وأربعة كتب ينحل كل كتاب منها إلى عدد من الأبواب والفصول ،عرض في الباب التمهيدي الأحكام العامة ،والأشخاص ، والأشياء والأموال ،والحق ،وفي الكتاب الأول الذي يلي الباب التمهيدي ،الحقوق الشخصية ويتكون من بابين تناول في الباب الأول منه أحكام الحقوق الشخصية ،وفي الباب الثاني آثار الحق ، وتحت كل باب تندرج جملة من الفصول مثل العقد ،والتصرف الانفرادي ،والفعل الضار، وتعدد المحل ،وغيرها.
__________
(1) المذكرة الإيضاحية 2/36(33/11)
وفي الكتاب الثاني تناول أحكام العقود التي بدأها في الباب الأول بعقود التمليك كالبيع والهبة ،وفي الباب الثاني بعقود المنفعة كالإجارة والإعارة وفي الباب الثالث عقود العمل كعقد المقاولة .وفي الباب الرابع تناول أحكام عقود الغرر مثل الرهان والمقامرة ،ثم في الباب الخامس عرض أحكام عقود التوثيقات الشخصية مثل الكفالة والحوالة .
وفي الكتاب الثالث الذي لم يضع له عنوان وإنما وضع العناوين لأبوابه التي بدأها في الباب الأول بحق الملكية ،وفي الثاني بالحقوق المتفرعة عن حق الملكية .
وفي الكتاب الرابع والأخير تناول أحكام التأمينات العينية ،قنن في الباب الأول منه أحكام الرهن التأميني، وفي الباب الثاني أحكام الرهن الحيازي، وفي الباب الثالث التوثيق العيني بنص القانون .
وقد حكمت مواد القانون مجموعة من الاتجاهات هي (1):
1-اعتبار الحق بوجه عام أساسا لإقرار العدالة في المعاملات .
2-صياغة النصوص في ظل النزعتين الواقعية والنفسية مع تقدير للنزعة المادية في ظل الفقه الإسلامي إيثارا لاستقرار التعامل واعترافا بواقعية المعاملات .
3-إطلاق سلطة القاضي في البحث والتقدير ليتمكن من مواجهة الظروف والتغيرات التي تعرض في كثير من القضايا حتى لا يوصم القانون بالجمود والوقوف عند حد معين من القواعد التي قد تتهاوى عند مواجهة التطورات العملية .
4- مسايرة الأسس الاجتماعية الاقتصادية المتطورة في حدود اتجاهات الدولة وفي نطاق المبادئ الإسلامية التي لا تقل انطلاقا وتطورا عن غيرها في سبيل العدل والخير العام .
وضع القواعد الفقهية والأصولية في موضعها المناسب من أبواب القانون.
5-استهداف المصلحة العامة في التعامل حيث لا نص .
6- لم يجنح القانون إلى الغلو أو الانحراف إلى جانب اجتماعي خاص أو رأي ينحاز إلى مذهب معين بل وفق إلى حد بعيد بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة .
__________
(1) انظر: تقديم مشروع القانون :المذكرة الإيضاحية 1/26(33/12)
و قد سجل للقانون المدني الأردني مجموعة من المزايا هي :
1-تجاوزه للعديد من العيوب الشكلية والموضوعية التي سجلت على مجلة الأحكام العدلية مثل أن المجلة قد اشتملت على أصول المحاكمات ،وهو من العيوب الشكلية ،بينما القانون المدني لا يتضمن سوى الأحكام الموضوعية دون الإجرائية .
2-وأن المجلة قد خلت من وضع نظرية عامة للالتزام ،وجاءت جميع قواعد الإيجاب والقبول التي تتعلق بجميع العقود مندرجة في كتاب البيع ،بينما تضمن القانون المدني فصلا خاصا نظم فيه أحكام العقود من خلال نظرية مستقلة عرضها في الفصل الأول من الباب الأول .
3- كذلك فإن القانون المدني لم يلتزم بمذهب معين من المذاهب الفقهية وأخذ من جميع المذاهب بما يحقق العدالة والمصلحة ،بينما التزمت مجلة الأحكام العدلية بالمذهب الحنفي في الغالب لكونه المذهب الرسمي للدولة ولم تخرج عنه إلا في القليل من المواد (1)
رابعا:تأثير القانون في القوانين المدنية العربية :
يعتبر القانون المدني الأردني مرحلة متقدمة من مراحل تقنين الفقه الإسلامي ،ففي الوقت الذي ألغيت فيه مجلة الأحكام العدلية في العديد من الدول العربية واستبدلت بقوانين مدنية غريبة الأصل والنسب والهوية ،جاء القانون المدني الأردني ليؤكد قدرة الفقه الإسلامي على مواجهة تحديات العصر ،وصلاحيته ليكون مصدرا غنيا للتشريعات المعاصرة ،وأقام الحجة على الدعوات المتهافتة التي تحاول التشكيك في صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان وقد كان لهذا القانون تأثيره في العديد من التشريعات العربية منها :(2) :
1-القانون المدني السوداني الذي صدر عام 1984 وتكون من 819 مادة تقوم في جملتها على أساس القانون المدني .
__________
(1) :انظر سامر القبج/ مصادر مجلة الأحكام العدلية وأثرها في قوانين الشرق الإسلامي ص 291
(2) انظر :محمد وحيد الدين سوار /الاتجاهات العامة في القانون المدني دراسة موازنة بالفقه الإسلامي ص 13(33/13)
2- قانون المعاملات المدني الإماراتي الذي صدرعام 1985 ، حيث استمد في أكثر مواده وقواعده المكونة من 1528 مادة من أحكام ومواد القانون المدني الأردني .
3- مشروع القانون المدني العربي الموحد الذي أنجز في تونس 1984،وبلغت عدد مواده 433، وكان القانون المدني الأردني أساسا لهذا القانون
خامسا: ملاحظات واردة على القانون
سجل بعض العلماء و الدارسين على القانون العديد من الملاحظات وهي في مجملها لا تنتقص من عظيم قيمته وأهميته ،ولكنها توجه إلى الحاجة إلى إعادة النظر فيه وتمحيصه ليصبح أكثر استقامة على الطريق الصحيح و خلوا من العيوب والنقائص بقدر الإمكان(1) :
وأسوق في هذا المقام مجمل هذه الملاحظات دون الخوض في التفصيل حتى لا أخرج عن موضوع البحث الأساس :
1-إطلاق الأحكام في بعض المواطن التي تحتاج إلى تقييد ،مثل ما جاء في المادة 256 من القانون :" كل إضرار بالغير يلزم فاعله ،ولو غير مميز ،بضمان الضرر " .
فهذه المادة قد أطلقت الحكم بضمان الضرر حال وقوعه ،وهذا الإطلاق غير صحيح لا بالنظر الشرعي ولا بالنظر القانوني ،لأن الشريعة إنما توجب الضمان إذا كان في الضرر تعد على الغير ،وهناك صور كثيرة للضرر الذي يلحق بالغير ولا يطالب صاحبه بالضمان لعدم وجود التعدي ،كالشخص المكلف بتنفيذ الحدود والتعازير بالمجرمين ،فإنه لا يضمن رغم إيقاعه الضرر بالمجرمين ، ومن فتح محلا زاحم فيها محلا آخر ،فإنه لا يضمن وإن تضرر المزاحَم ،لأن ما قام به هو من الأعمال المشروعة الجائزة ،والجواز الشرعي ينافي الضمان .
وبناء على هذا كله كان لا بد من تقييد الإضرار بوصف التعدي حتى يكون الحكم سليما .(2)
وانظر
__________
(1) الفعل الضار والضمان فيه مصطفى الزرقا ص9
(2) مصطفى الزرقا /الفعل الضار ص72 وانظر : أمثلة أخرى على الإطلاق في مواطن تحتاج إلى تقييد في المواد 258 و259(33/14)
2-التأثر بالقانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي ،حيث إن هناك جملة من المواد في القانون قد اقتبست من القانون المصري مضمونا وصياغة ،وإن كانت قد بذلت فيها جهود كبيرة في تنزيل أحكامها على منازل موجودة أو مقبولة في مذاهب الفقه الإسلامي، أو في بعضها ،أو في أصولها على الأقل .
ولكنها قد وقعت في بعض أحكامها إلى الترقيع بين الشريعة والقانون منها على سبيل المثال لا الحصر المادة 261 من القانون "إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه ،كآفة سماوية ،أو حادث فجائي ،أو قوة قاهرة ،أو فعل الغير ،أو فعل المتضرر ،كان غير ملزم بالضمان ما لم يقض القانون أو الاتفاق بغير ذلك "
وهذه المادة توافق مضمون المادة 165 من القانون المدني المصري والمادة 166 من القانون المدني السوري .
والمأخذ على هذه المادة أنها وهي في صدد إرساء قواعد نظرية الضمان في الفقه الإسلامي ،وتقرير المسؤولية المترتبة فيها ،وتنظيم توزيعها بين المباشر للضرر والمتسبب فيه ،قد عمدت إلى ترقيعها بمفاهيم وتأثير القوة القاهرة والآفة السماوية القائمة في القانون الأجنبي ،انحدارا من الأساس اللاتيني .
ووجه غرابة هذه المادة عن الفقه الإسلامي :" أن النظرية اللاتينية في المسؤولية التقصيرية هي نظرية شخصية تربط هذه المسؤولية بأهلية الفاعل وإرادته .وحينئذ ينفسح المجال للنظر في حالات يقع فيها الفعل لكن تنتفي فيها الإرادة ،كما في حالات القوة القاهرة ،والسبب الأجنبي ،ومن ثم تنتفي المسؤولية .(33/15)
أما في الفقه الإسلامي ،فإن نظرية الضرر والضمان تأخذ المنحى المادي لا الشخصي بصورة واضحة في ترتيب المسؤولية بالضمان على المباشر أو المتسبب ،فترتبط هذه المسؤولية بمصدر الضرر من مباشر أو متسبب دون نظر شخصي إلى أهليته وإرادته وملابستهما .فعديم التمييز مسؤول بالضمان أصالة عما يلحقه بغيره من ضرر مباشرة أو تسببا "(1)
ومن هنا اقترح الشيخ مصطفى الزرقا إعادة صياغة هذه المادة لتصبح :"لا يكون مسؤولا من وقع الضرر منه مباشرة أو تسببا ،بفعل قوة قاهرة تجعله مجرد أداة لا تتحرك بالإرادة " (2)
3-الحياد عن قواعد الشريعة الإسلامية في بعض المواد القانونية :
رغم أن القانون المدني الأردني قد حاول أن يتجنب كل ما يخالف قواعد الشريعة وأحكامها ، فإنه لم يلتزم بالتقيد بأحكام الفقه الإسلامي في جميع مواده ،مثال ذلك مخالفة ما هو مقرر في الفقه الإسلامي من حصر التعويض في الإصابات الجسدية بالدية والأرش أو حكومة العدل ،ليسمح بالتعويض المدني للمتضرر إضافة إلى الدية .(3)
4- هناك ملاحظات شكلية وردت على القانون من حيث التكرار والتداخل في التقسيم في بعض مواده (4) مثل ما جاء في المادة 259 التي تنص على أن "إذا غرر أحد آخر ضمن الغرر المترتب على ذلك الضرر " والتي هي داخلة في المادة 256 التي تنص على " كل ضرر بالغير يلزم فاعله ولو غير مميز ،بضمان الغير "
__________
(1) الفعل الضار والضمان فيه مصطفى الزرقا ص102
(2) مصطفى الزرقا / الفعل الضار :ص 102
(3) انظر :شرح القانون المدني /مصادر الحقوق الشخصية الدكتور عدنان السرحان والدكتور نوري خاطر دار الثقافة الطبعة الأولى 2005 عمان الأردن ص 13
(4) مصطفى الزرقا /الفعل الضار(33/16)
هذه بعض الملاحظات التي سجلت على القانون ولكنها في مجملها لا تغض من قيمة القانون وأهميته من حيث كونه أول تقنين عملي لأحكام الفقه الإسلامي بعد مجلة الأحكام العدلية ،ومن حيث تأثيره بالقوانين المدنية العربية كما قدمت ذلك آنفا، وما سجلت عليه من ملاحظات هي خطوة لتنقية ما شابه من التناقض مع بعض أحكام ومقررات الفقه الإسلامي .
المطلب الثالث :تقنين أحكام الأسرة "الأحوال الشخصية ":
مصطلح الأحوال الشخصية من المصطلحات الحديثة نسبيا والتي لم تكن متداولة عند الفقهاء السابقين ،حيث كانوا يتناولون موضوعات الأسرة كلا على حدة تحت أبوب الفقه المختلفة :كتاب النكاح ،كتاب الطلاق ،كتاب الخلع ،كتاب العدة كتاب الحضانة وهكذا ،إلى أن برز مصطلح الأحوال الشخصية الذي كان من بواكير من استعمله محمد قدري باشا في كتابه "لمشهور :"الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية " و هو مصطلح قانوني معاصر يراد به الأوضاع التي تكون بين الإنسان وأسرته ،وما يترتب على هذه الأوضاع من آثار حقوقية والتزامات أدبية أو مادية ،وأطلق في مقابل الأحوال المدنية التي تنظم علاقات الإنسان بأفراد المجتمع خارج حدود أسرته (1)
أولا :المراحل التي مر بها قانون الأحوال الشخصية الأردني
__________
(1) السباعي /شرح قانون الأحوال الشخصية 1/11(33/17)
ظل القضاء في الأردن مقيدا في أحكام الأسرة بقانون حقوق العائلة العثماني الذي أصدرته الحكومة العثمانية عام 1917م ،والذي أخذ من الفقه الحنفي في الأغلب مع الإفادة من المذاهب الأخرى في بعض المسائل مثل مخالفة المذهب الحنفي في حكم زواج المكره وطلاق السكران ،وإثباته حق الزوجين التفرقة بسبب الشقاق والنزاع أخذا من المذهب المالكي ، وإعطاؤه الحق لزوجة المفقود بالتفرقة بعد مرور أربع سنوات ،ومنعه الأولياء من تزويج الصغار أخذا برأي ابن شبرمة وأبي بكر الأصم ،إلى غيرها من المسائل الأخرى التي أخذ بها القانون بخلاف المذهب الحنفي على وفق ما تقتضيه مصلحة الأفراد وحاجاتهم .
على أن هذا القانون لم يقنن أحكام المواريث والوصايا والأوقاف والنفقات ،وبقيت هذه الأمور معمولا بها على ما هو راجح في مذهب الإمام أبي حنيفة .(1)
وقد بقي هذا القانون معمولا به في الأردن ‘إلى أن صدر قانون جديد بتاريخ 12/شوال 1345ه الموافق 15/نيسان 1927 باسم "قانون حقوق العائلة –النكاح والافتراق " وقد صدر في الجريدة الرسمية تحت الرقم 154 .
وفي 6/شعبان /1366 ه الموافق 24/6/ عام 1947 م صدر قانون جديد سمي بقانون حقوق العائلة المؤقت ألغى القانون السابق .
و في 16/8/ عام 1951 ألغي القانون السابق بموجب قانون جديد باسم قانون حقوق العائلة وقد بقي هذا القانون معمولا به إلى أن ألغي بصدور قانون الأحوال الشخصية رقم 61 لسنة 1976 .(2)
وفي عام 2001 أدخلت تعديلات على بعض مواد القانون وصدر القانون المؤقت رقم 82 لسنة 2001 وقد لاقت بعض مواد القانون المعدل اعتراضا واسعا سآتي إلى بيانها وعرضها لاحقا
ثانيا : وصف القانون ومصادره :
__________
(1) انظر صبحي محمصاني / الأوضاع التشريعية في الدول العربية ص200-202
(2) انظر : أستاذي الدكتور عمر الأشقر /الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية ،دار النفائس ط2، 1421ه-2002م ص16(33/18)
يتألف القانون من تسعة عشر فصلا موزعة على مائة وسبع وثمانين(187) مادة تضمن عناوين فصوله الموضوعات الآتية :
1-الفصل الأول :الزواج والخطبة .
2-الفصل الثاني:ولاية الزواج .
3-الفصل الثالث:عقد الزواج
4-الفصل الرابع :الكفاءة .
5-الفصل الخامس:المحرمات .
6-الفصل السادس :أنواع الزواج .
7-الفصل السابع :أحكام الزواج .
8-الفصل الثامن :المهر .
9-الفصل التاسع:نفقة الزوجة .
10-الفصل العاشر :أحكام عامة في الطلاق .
11-الفصل الحادي عشر:المخالعة .
12-الفصل الثاني عشر:التفريق .
13-الفصل الثالث عشر :العدة .
14-الفصل الرابع عشر :النسب .
15-الفصل الخامس عشر:الرضاع .
16-الفصل السادس عشر:الحضانة .
17-الفصل السابع عشر:نفقة الأقارب .
18-الفصل الثامن عشر:أحكام عامة .
19- الفصل التاسع عشر –إلغاءات .
وقد استمدت أحكام ومواد القانون من أحكام الشريعة الإسلامية ،ومقررات الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة ،وذلك على وفق ما يوجبه الدستور الأردني الذي نص في المادة اشترط في المادة 106منه على "تطبق المحاكم الشرعية في قضائها أحكام الشرع الشريف " ،وقد أكد قانون الأحوال الشخصية الأردني هذا المعنى في المادة 183منه والتي نصت على "أنه ما لا ذكر له في القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة ".
والدارس لمواد القانون المختلفة يجد أنها قد استفادت من الفقه الإسلامي بمدارسه المختلفة بما يحقق مصالح الأفراد ويحفظ أمن الأسرة و استقرار المجتمع .
فقد استفاد القانون من الفقه الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي وأخذ من أقوال ابن القيم وابن تيمية ، واستمد بعض قواعده من بعض الأقوال الفقهية غير المشهورة مثل آراء ابن شبرمة وأبي بكر الأصم .(33/19)
فمن ذلك مثلا أخذه برأي جمهور العلماء في أن الكفاءة شرط للزوم العقد لا لصحته (1)،وأخذه برأي الشافعية والحنابلة في اشتراط أن تكون صيغة النكاح بلفظ الإنكاح والتزويج (2)
وأخذ بقول الإمام مالك في حق الزوجة بطلب التفريق بين زوجها للغيبة أو الفقد أو الهجر بلا عذر إذا لحقها الضرر من وراء ذلك كله(3)
واعتمد القانون رأي الإمامين ابن تيمية وابن القيم في الطلاق المعلق على شرط إذا قصد به الحمل على شيء أو تركه .(4)
كما يلاحظ هنا أن القانون قد منح القاضي الشرعي العديد من الصلاحيات التقديرية التي تعطيه مجالا واسعا للنظر والبحث والاجتهاد من مثل :
إعطاء القاضي صلاحية الإذن بزواج غير العاقل إذا وجد في هذا الزواج مصلحة له بناء على رأي الأطباء وهو ما جاء في المادة 8 من القانون "للقاضي أن يأذن بزواج من به جنون أو عته إذا ثبت بتقرير طبي أن في زواجه مصلحة له "
إعطاء القاضي صلاحية التحقق من تأمين مصلحة الصغير حين السفر به حيث جاء في المادة 164 "لا يسمح للحاضنة أن تسافر بالصغير إلى خارج المملكة إلا بموافقة الولي ،وبعد التحقق من تأمين مصلحته "
كما أن للقاضي تحديد زمان مشاهدة المحضون ومكانها حسب مصلحة الصغير إذا لم يتفق الطرفان على ذلك على وفق ما صرحت به المادة 163 من القانون
وهكذا يلحظ أن القانون قد أعطى مجالا للقاضي في بعض المجالات تحريا للمصلحة وتحقيقا للعدل .
ثالثا : الملاحظات الواردة على القانون :
سجل على قانون الأحوال الشخصية الأردني العديد من الملاحظات منها :
__________
(1) المادة 21 و23 من القانون
(2) : ،والماوردي /الحاوي :11/207 ، ابن قدامة /المغني :9/ 460 وانظر المادة 15 من القانون .
(3) المادة 123 و124 من القانون ابن رشد /بداية المجتهد .2/68
(4) المادة 89 من القانون وإعلام الموقعين :4/97(33/20)
1- أن القانون قد أخذ ببعض الأقوال الفقهية التي يلزم من الأخذ بها حرج بالناس ،رغم وجود آراء أخرى يسندها الدليل الشرعي وتحقق مصلحة الناس وتدفع عنهم الحرج والمشقة ،منها مثلا : اعتبار القانون للعقد على امرأة محرمة بسبب الرضاع من العقود الباطلة التي لا يترتب عليها أي أثر وإن حصل دخول بين الزوجين ،رغم أن الفقهاء قد رتبوا على هذا العقد أحكام الزواج الفاسد –المشتبه به –حيث قالوا بثبوت النسب ووجوب المهر والعدة وحرمة المصاهرة بالوطء فيه ،وذلك لكثرة اختلاف الفقهاء في المحرمات بالرضاع من حيث العدد والسن الذي يحرم فيه الرضاع .(1) .
ومن هذا أيضا سكوت القانون عن مقدار الرضاع المحرم وإحالته في المادة 183 على أن ما لا ذكر له في القانون يرجع فيه على الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة ،فإنه يقتضي أن قليل الرضاع يحرم ولو كان مصة أو مصتين ،رغم وجود أراء أخرى في المسألة كرأي الإمام الشافعي الذي يذهب إلى أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات مشبعات. (2)
وهو الرأي الذي أخذت به بعض القوانين العربية مثل قانون الأحوال الشخصية الإماراتي في المادة رقم 46 .
2- تجنب القانون تحديد المقصود ببعض المصطلحات الأساسية مثل العقد الباطل والعقد الفاسد واكتفى بإيراد الحالات التي يكون فيها باطلا والحالات التي يكون فيها فاسدا ,و كان جديرا بالقانون أن يحدد المقصود بهذين المصطلحين لأن هناك حالات يكون فيها الزواج فاسدا ولم يتعرض لها القانون(3)
__________
(1) انظر الدكتور محمود السرطاوي/ شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني :1/150
(2) المهذب 2/156
(3) السرطاوي/ شرح قانون الأحوال الشخصية ص 151 .(33/21)
3- ضعف الصياغة في بعض المواطن مثل المادة 46 التي جاء في صياغتها استطراد وتداخل " إذا عينت مدة للمهر المؤجل فليس للزوجة المطالبة به قبل حلول الأجل ولو وقع الطلاق ، أما إذا توفي الزوج فيسقط الأجل ، ويشترط في الأجل أنه إذا كان مجهولا جهالة فاحشة مثل إلى الميسرة أو إلى حين الطلب أو إلى الزفاف فالأجل غير صحيح ويكون المهر معجلا ،وإذا لم يكن الأجل معينا اعتبر المهر وقوع مهر مؤجلا إلى وقوع الطلاق أو وفاة أحد الزوجين "
و كان الأولى أن لا تقحم الوفاة قبل تحقق الأجل إلا بعد أن يتحدد متى يكون الأجل صحيحا ومن هنا اقترح الأستاذ الدكتور محمود السرطاوي أن تكون الصياغة :" إذا عينت مدة للمهر المؤجل فليس للزوجة المطالبة به قبل حلول الأجل ،وإذا كان مجهولا جهالة فاحشة مثل إلى الميسرة .." أو أن تكون على النحو الآتي "ويشترط في الأجل ألا يكون مجهولا جهالة فاحشة مثل إلى الميسرة أو إلى حين الطلب أو إلى حين الزفاف وإلا كان الأجل غير صحيح وكان المهر معجلا " (1)
4- كذلك فإن من الملاحظات التي سجلت على القانون إيراده لبعض المواد في غير مكانها المناسب، والإحالة غير الصحيحة على بعض المواد :مثل المادة 56 التي وردت تحت عنوان وجوب المتعة ،بينما هي في مهر المثل ،فكان الأولى وضعها تحت عنوان لزوم مهر المثل .
ومن هذا أيضا ما جاء في المادة 33 الحالات التي يكون عقد الزواج فيها باطلا منها :تزوج الرجل بامرأة ذات رحم محرم وهن الأصناف المبينات في المادة 24 و25 و26 وبالرجوع إلى هذه المواد نجد أن المادة 25 و26 تتناول المحرمات بالمصاهرة والرضاع ، لا ذوات الرحم المحرم .
هذا ،وإن تسجيل بعض الملاحظات على القانون لا تغض من مكانته وأهميته واعتباره ، ولا تقدح في حجم الجهد الذي بذل في صياغته وترتيبه وتقسيمه .
رابعا:التحديات الذي تواجه قانون الأحول الشخصية :
__________
(1) السرطاوي/شرح قانون الأحوال الشخصية : 1/172(33/22)
ترافق حالة العولمة التي تجتاح العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا حملة محمومة للترويج لجملة من القيم والأفكار التي تشكل خطرا عظيما يتهدد هوية الأسرة المسلمة ويستهدف مقوماتها الحضارية التي تكسبها صفة التميز والخصوصية وتمنحها الحصانة الذاتية التي تحميها من كل عوامل الانصهار والانهيار .حيث تسعى دول العالم الغربي لفرض القيم الغربية على عالمنا الإسلامي عن طريق تقنين هذه القيم وإعطائها صفة الإلزام والمشروعية .
ولا أدل على ذلك من السعي الحثيث والحركة النشطة التي تطالب بتعديل قوانين الأحوال الشخصية في العالم الإسلامي بما يتناسب مع قيم الغرب وأخلاقه وثقافته .
وقانون الأحوال الشخصية الأردني واحد من هذه القوانين المستهدفة في العديد من مواده ومضامينه المستمدة من أحكام الفقه الإسلامي يرشد إلى ذلك ما جاء في التقرير الذي أعلنته مكتبة حقوق الإنسان في جامعة منيسوتا والذي تضمن تقرير اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة والرد
علي التقريرين الأول والثاني المقدمين من الأردن فيما يتعلق بإعمالها لإلتزاماتها تجاه اتفاقية القضاء علي جميع أشكال التمييز ضد المرأة حيث جاء فيه :" وتلاحظ اللجنة أن قانون الأحوال الشخصية –تقصد الأردني -لا يعترف بحق المرأة في اختيار اسم الأسرة أو اختيار مهنتها أو عملها، أو بحقوقها عند الطلاق، أو بحقوقها ومسؤولياتها بوصفها أحد الأبوين. وتلاحظ اللجنة بقلق أيضا أن القانون الأردني يعترف بممارسة تعدد الزوجات.(33/23)
وتدعو اللجنة الحكومة إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية بشكل يجعله يعترف بحقوق المرأة في اختيار اسم عائلتها ومهنتها، وكذلك بحقوقها عند الطلاق، وفيما يتعلق بمسؤولياتها بوصفها أحد الأبوين. وتدعو اللجنة الحكومة إلى إعادة النظر في القانون والسياسات المتصلة بتعدد الزوجات بغية القضاء على تلك الممارسة تمشيا مع الاتفاقية والدستور والعلاقات الاجتماعية المتطورة في البلد. "(1)
ولا ريب أن هذا التقرير وغيره كثير يكشف عن الجهود المبذولة في سبيل صياغة قوانين جديدة للأسرة تذيب خصوصية الأسرة المسلمة وتفقدها عوامل القوة والتماسك والحصانة ،ناهيك عما يتضمنه من تجن وافتراء على قانون الأحوال الشخصية الأردني ،من جهة اتهامه بمصادرة حق المرأة في الانتساب لعائلتها ، وتضييعه لحقوق المرأة باعتبارها أحد الأبوين ،وكل ذلك عار عن الصحة وبعيد عن الحقيقة والواقع .
ولست هنا بصدد مناقشة هذا التقرير وتفنيده وإبراز ما فيه من كذب وافتراء ، لأن هذا يخرجنا عن موضوع البحث وغايته ،وإنما أردت أن أظهر ما يحيط بقوانين الأسرة المسلمة من أخطار ومكائد ، تلبس لبوس المحافظة على حقوق الإنسان ،والمطالبة بكرامة المرأة ، والمساواة بين المواطنين ،وهي في حقيقتها حرب على قيم الأمة وأخلاقها وثقافتها ودينها .
وفي هذا السياق نشطت الحركة للمطالبة بتعديل قانون الأحوال الشخصية الأردني ، حيث تقدمت اللجان الوطنية لشؤون المرأة عام 1996م بمشروع مقترح لتعديل قانون الأحوال الشخصية .
وفي عام 2001م تم تعديل قانون الأحوال الشخصية فعليا بموجب القانون المؤقت رقم 82 لسنة 2001 ،وتضمن التعديل الموضوعات الآتية :
__________
(1) ورد نص هذا التعليق في الوثيقة A/55/38(33/24)
رفع سن الزواج إلى سن الثامنة عشرة للشاب والفتاة (1)، بعد أن كان بموجب قانون 76 خمسة عشرة سنة بالنسبة للمخطوبة وستة عشرة سنة بالنسبة للخاطب (2)
ضرورة إعلام الزوجة الأولى بالعقد المكرر بعد إجراء عقد الزواج ،ولم يكن لهذا الشرط وجود ولا اعتبار .(3)
تفصيل شروط استحقاق الزوجة العاملة للنفقة . (4)
منح الزوجة الحق في الخلع إذا افتدت نفسها وردت على زوجها الصداق ، حتى ولو تم الخلع بدون إرادة الزوج ،وكان القانون سابقا يشترط تراضي الطرفين .(5).
ضمان حق الأم وحق الولي في مشاهدة الصغير عندما يكون في يد غيره ممن له حق حضانته .(6)
وبالنظر والتأمل في التعديلات الواردة على القانون نجد أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين :
تعديلات يمكن إدراجها تحت مبدأ السياسية الشرعية و قواعدها ،و اعتبارها من قبيل صلاحية ولي الأمر لاختيار الأصلح بالناس وحقه في تقييد المباح إذا اقتضت الحاجة أو المصلحة هذا التقييد ،وذلك عملا بالقاعدة الشرعية" تصرفات الإمام منوطة بالمصلحة و بالقاعدة " للإمام الحق في تقييد المباح "،ومن هذه التعديلات التي تندرج تحت هذا القسم: اشتراط إجراء الزواج المكرر بإعلام الزوجة الأولى .
تعديلات تنبئ عن التأثر بالإملاءت والضغوط الخارجية وحركة التغريب التي تعصف بالأسرة المسلمة ، وقد تمثل هذا بإعطاء المرأة حق الخلع بإرادتها وحدها ،و رفع سن الزواج إلى سن الثامنة عشرة .
ولهذا فقد وجهت لهذين التعديلين على وجه الخصوص جملة من الاعتراضات وذلك :
__________
(1) انظر المادة 5 من القانون المعدل
(2) المادة 5 من القانون االسابق
(3) انظر المادة 6 من القانون المعدل
(4) المادة 68 من القانون
(5) المادة 123 فقرة 41 من القانون المعدل
(6) المادة 163 من القانون المعدل .(33/25)
أولا :أن في هذه التعديلات مخالفة لما هو مقرر عند جماهير أهل العلم في كل من الخلع وسن الزواج ، أما الخلع فإن الثابت عند جماهير أهل العلم أنه لا بد فيه من تراضي الطرفين(1) بناء على قوله تعالى :"فلا جناح عليهما فيما افتدت به "(2)حيث اعتبرت الآية الخلع حقا لكلا الطرفين معا ،وليس حقا للزوجة فقط ،و "لأن كلا الزوجين له شأن في المسألة إذ به يسقط ما للزوج من الحقوق ،فلا بد من رضاه كما يلزم الزوجة العوض فيشترط رضاها ،فهو كالعقود من هذه الجهة ،وليس إسقاطا محضا حتى ينفرد به أحدهما "(3).
وورود بعض الآراء الفقهية التي تجيز الخلع دون تراض هي آراء فقهية مرجوحة ،لا تقوى على مخالفة أدلة جماهير أهل العلم
وهذا الملحظ نفسه ينطبق على التعديل الوارد برفع سن الزواج إلى الثامنة عشرة بدلا من الخامسة عشرة ، على أن القانون قد أعطى مجالا للاستثناء حين جعل للقاضي أن يأذن بزواج من لم يتم منهما هذه السن إذا كان قد أكمل الخامسة عشرة من عمره وكان في مثل هذا الزواج مصلحة "(4) حيث منح بموجب هذا النص صلاحية تقديرية للقاضي أن ياذن بالزواج إذا كان من شان هذا الزواج أن يحقق المصلحة لكلا الزوجين
__________
(1) انظر : ابن عابدين /الحاشية :2/557 و ابن رشد /بداية المجتهد :2/68 الدسوقي الحاشية 2/348 و الشربيني /مغني المحتاج :3/276 والبهوتي /كشاف القناع :5/237 وابن حزم /المحلى :10 /235
(2) البقرة /229
(3) الأبياني /شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية 1/393
(4) المادة 5 من القانون(33/26)
ثانيا :أما الاعتراض الثاني الذي وجه إلى هذه التعديلات فهو أنها تنبع من توجيهات غربية وضغوط خارجية تستهدف تغريب المجتمع المسلم ،يرشد إلىهذا التشابه الكبير بين هذه التعديلات من جهة وبين ما تضمنه "برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية "الذي انعقد بالقاهرة من 5-13/9/1994م و والذي احتوى على العديد من القيم الفاسدة التي ترفضها شعوب العالم الإسلامي وتعتبرها اعتداء صارخا على الكثير من قيمنا الإسلامية وأصولنا الحضارية .منها: ما جاء في الفقرة 21 الفصل الربع :"على الحكومات أن تزيد السن الأدنى عند الزواج حيثما اقتضى الأمر ولا سيما بإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر من قبيل فرص التعليم والعمل " (1)
كذلك ما جاء فيها من اعتبار المرأة ندا مساويا للرجل في كل ميادين الحياة ،(2) مخالفة بهذا للتصور الإسلامي لطبيعة وظيفة المرأة من أن النساء والرجال يقومون بأعمال تكاملية يتمم كل طرف الدور والوظيفة التي يقوم بها الجانب الآخر . ".
__________
(1) مشروع برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة من 5-15 سبتمبر 1994م نقلا عن صراع القيم بين الإسلام والغرب د/محمد عمارة ص32
(2) الفقرة 1 الفصل الرابع والفقرة 11 الفصل الرابع من الوثيقة(33/27)
ثالثا : كما وجه إلى هذا التعديل اعتراض من جهة ما سيفضي إليه من مفاسد اجتماعية كبيرة من أهمها : زيادة حالات الطلاق في المجتمع نتيجة لمنح الزوجة حق التطليق دون موافقة الزوج وبهذا يصبح للطلاق مصدران الزوج بإرادته المستقلة والزوجة بحكم القاضي إذا أرادت هذا وأصرت على الطلاق ، وهذا ينذر بتمزق العديد من الأسر وهو ما حصل فعلا" فبحسب الإحصاءات الرسمية فقد شهدت قضايا الخلع المرفوعة في المحاكم الأردنية تزايداً كبيراً، بعد سنّ الحكومة لهذا القانون قد شهد عام 2002 م ،170 قضية رفعت أمام المحاكم التي وافقت على 41 قضية منها وأسقطت 127، ارتفع الرقم عام 2003م إلى 482 قضية خلع، وافقت المحكمة على 255 منها وأسقطت 212، أما في العام الحالي 2004 فإن 416 قضية تفريق بالخلع شهدتها المحاكم الأردنية ، "(1) وكان من الواجب على الجهات التي تقدمت بهذا القانون أن تطالب فيه بمعالجة مشكلة الطلاق والحد منها بدلا من تشريع قوانين تفضي إلى زيادتها وتؤدي إلى مزيد من تفسخ الأسر في المجتمع .
و هذه المفاسد الاجتماعية تتوقع أيضا في رفع سن الزواج حيث يقف هذا القانون حائلا دون أن تصرف الرغبة الجنسية التي فطر الله عليها الشاب والفتاة في طريقها الشرعي الصحيح عن طريق عقد الزواج ،ويبحثون عن وسائل غير مشروعة يشبعون فيها حاجاتهم وميولهم وغرائزهم وفي هذا من الفساد ما فيه .
وإن من العجيب أن تطالب المؤتمرات الدولية والمنظمات النسوية بحض الحكومات على منع الزواج المبكر في الوقت الذي تجعل فيه الإباحية الجنسية حقا للمراهقين والمراهقات وتدعو إلى أن تقوم الحكومات بتأمين "الصحة التناسلية "" والصحة الجنسية " لهؤلاء بحجة أنهم يمارسون حقوقا إنسانية لا تقتصر على المتزوجين زواجا شرعيا فقط .(2)
__________
(1) عاطف الجولاني /مجلة المجتمع
(2) انظر بتصرف :محمد عمارة /صراع القيم ص 16- 26(33/28)
فأيهما هو الأولى بالحظر والمنع العلاقات غير الشرعية التي يتمخض عنها اللقطاء وضياع حقوق المراة وفساد المجتمع ،أم الزواج الذي يحفظ الحقوق ويصون الأنساب ويحفظ كرامة المجتمع وطهره وأخلاقه ؟
بناء على ذلك كله أقول إن هناك مؤامرة واضحة تستهدف قيم الأسرة المسلمة وأسسها التي تكفل لها القوة والأمن والتماسك ،وإن على العلماء أن يكونوا على حذر شديد من اعطاء صفة المشروعية للإملاءات الغربية من حيث لا يقصدون ، عن طريق تلمس بعض الأقوال الفقهية المرجوحة في التراث الفقهي واعتمادها لتصبح هي التشريع الملزم للأفراد ،لا من أجل تحقيق مصلحة المجتمع واستقراره وإنما في سبيل تحقيق رغبة الأجنبي وإرادته واستدرار عطاياه وهباته وقروضه التي صارت مرتبطة بقدر تغيير الدول لتشريعاتها ونظمها بما يخدم السياسات الخارجية في بلاد المسلمين .
المطلب الرابع :آفاق تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في الأردن .
لقد ظهر من خلال المطالب المتقدمة واقع تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في الأردن ،وتبينت مزايا القوانين المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية ومن نبعها الصافي ومصدرها الأصيل ،وإن هذا الأمر يدعو إلى توسيع مظلة الشريعة الإسلامية لتكون حاكمة على جميع القوانين والتشريعات والنظم .
وإن هذا المطلب يوجبه ويمليه آيات القرآن الكريم التي بينت أن تحكيم الشريعة أمر فرض لازم وحكم قاطع في قوله تعالى :"يا أيها الذي آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "(1)
__________
(1) الأنفال /24(33/29)
وقوله تعالى :"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق "(1) وقوله تعالى :" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "(2) ، وقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون "(3) ،وقوله تعالى :" ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون "(4) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي توجب في التشريع الذي يخضع له المسلمون أن يكون تشريعا إلهيا يخضع لأوامر الله ونواهيه وأحكامه مقاصده مراميه .
كما يوجب هذا المطلب الشرعي أن المجتمعات تسعى لوضع القوانين والتشريعات في سبيل تحقيق سعادتها وانتظامها،وهذا الأمر لا يكون بأخذ قوانين أجنبية لا أثر لها إلا بالانسلاخ من أصالتنا وحضارتنا وتراثنا العظيم وإنما طريق السعادة والخلود هو " أن ننشئ من جوهر فقهنا الذي ملأت آلاف مؤلفاته مكتبات العالم ،وأن نستمد من نبعه العذب المعين الهدار قوانين جديدة تفي بحاجاتنا الحديثة فيكون أصل القوانين راسخا في فقهنا وفرعه شامخا في السماء "(5) ،وإن أصدق شاهد على ذلك القانون المدني الأردني الذي استمد من أحكام الشريعة الإسلامية واستطاع أن يحقق مصالح الناس وأن يلبي متطلبات الواقع وتحدياته .
أضف إلى هذا وذاك أن الدستور الأردني قد نص في المادة الثانية منه على أن دين الدولة الإسلام وهذا يقتضي أن تكون جميع القوانين والتشريعات قوانين متوافقة ومنسجمة مع دين الدولة وإلا اعتبرت قوانين غير دستورية .
__________
(1) المائدة 48
(2) المائدة 44
(3) المائدة /45
(4) المائدة /47
(5) انظر بتصرف مصطفى الزرقا / المدخل إلى الفقه الإسلامي 1/22(33/30)
هذا ،ولا تعني المطالبة بأسلمة القوانين ودستوريتها ،نقض جميع القوانين القائمة وهدمها من أساسها ،ذلك أن الكثير من القوانين النافذة والقائمة اليوم لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية ويمكن إدراجها تحت أصل السياسة الشرعية أو المصلحة المرسلة أو غيرها من القواعد التي تتيح لولي الأمر أن يتخذ من الإجراءات ما يحقق مصالح الأفراد والمجتمعات .وأن المخالفة تكاد تنحصر في بعض الجوانب المحددة مثل بعض أحكام العقوبات والشركات والبنوك ،فهذه هي التي تحتاج إلى تبديل وإصلاح بما يتوافق مع شريعة رب العالمين .
وإن هذا المطلب الشرعي والدستوري لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إلا بتشكيل لجنة تضم نخبة من علماء الشريعة والقانون والقضاء توكل إليها هذه المهمة الجسيمة وتعكف على دراسة القوانين النافذة اليوم لتنقيتها من الأحكام التي تتخالف مع أحكام الشريعة الإسلامية ،وإن القيام بهذا الأمر سيكسب القانون مكانة ومنزلة في قلوب الأفراد لأنهم سيشعرون بانسجامه مع دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم .
وفي هذا السياق فإنني أذكر بما صدر عن وزراء العدل العرب عام 1981 في صنعاء وسمي بإعلان صنعاء أعلن فيه اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي الوحيد لقوانين الدول العربية:(1)
وهذا يعني ضرورة التزام الدول بما تعهدت به حتى يكون القول منسجما مع العمل ، والتوصيات متوافقة مع الممارسات كما قال تعالى في محكم التنزيل "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " (2)
والحمد لله رب العالمين
الخاتمة والتوصيات
بعد هذه الدراسة لواقع تقنين الفقه الإسلامي في الأردن فإنني أسجل في هذه الخاتمة أبرز النتائج والتوصيات التي توصلت إليها على النحو الآتي:
__________
(1) المؤتمر الثاني لوزراء العدل العرب صنعاء 23-25/2/1981 ،المجلة العربية للفقه والقضاء عدد 8، ص15
(2) الصف 2(33/31)
1- إن تقنين الفقه الإسلامي في الأردن يكاد ينحصر في القوانين التي هي من اختصاص المحاكم الشرعية فقط ،أما المحاكم النظامية فإن قوانينها لم تستمد من أحكام الفقه الإسلامي باستثناء القانون المدني الأردني فقط الذي استمد من أحكام الشريعة الإسلامية .
2-إن نص الدستور الأردني على أن دين الدولة هو الإسلام يوجب أن تكون جميع القوانين المعمول بها في الأردن متوافقة ومنسجمة مع أحكام الإسلام سواء أكانت مطبقة في المحاكم الشرعية أم المحاكم النظامية ،وإن وجود قوانين تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية يجعل هذه القوانين فاقدة المشروعية ،نظرا لتعارضها مع الدستور .
3-أثبت الواقع التشريعي في الأردن قدرة الفقه الإسلامي على الوفاء بحاجات العصر ومتطلباته حيث استطاع القانون المدني الأردني وهو أول قانون مدني يستمد من أحكام الشريعة الإسلامية أن ينظم المعاملات المالية للأفراد دون خلل ولا قصور ،وأن يقدم جهدا تشريعيا معاصرا يعيد للفقه الإسلامي مكانته واعتباره .
4- أظهر البحث أثر التوعية التي قام بها العلماء في رد القانون المدني المأخوذ من القانون الفرنسي ،والعمل على وضع قانون مدني جديد مستمد من الشريعة الإسلامية ،وهذا يوجب تصعيد حملة التوعية الشعبية بحقيقة القوانين التي تتصادم مع عقيدة الأمة ودينها لتقوم الشعوب بدورها ومسؤوليتها في الدفاع عن عقيدتها بالطرق القانونية التي كفلتها لها الدساتير .
5- تبين من خلال البحث حملة التغريب الشرسة التي تستهدف قوانين الأحوال الشخصية العربية ،عن طريق تقنين بعض القيم الغربية وإقحامها في تلك القوانين وإلزام الدول العربية بها .(33/32)
6- انتهى البحث إلى ضرورة تشكيل لجنة تضم نخبة من علماء الشريعة ورجال القانون والقضاء لمراجعة التشريعات الأردنية وتبين ما يتصادم منها مع أحكام الشريعة الإسلامية لاستبداله بالأحكام المناسبة التي تكفل صلاح الأفراد وأمن المجتمعات والحفاظ على هوية الأمة وحضارتها ودينها وعقيدتها .
الفهارس والمراجع
الدسوقي: محمد عرفة : الحاشية على الشرح الكبير ،دار الفكر –بيروت .
ابن القيم :أبو عبد الله محمد بن أبي بكر /إعلام الموقعين عن رب العالمين ،تحقيق طه عبد الرؤوف سعيد ،مكتبة الكليات الأزهرية .
ابن حزم: علي بن أحمد /المحلى ،المطبعة المنيرية ،مصر.
ابن رشد : محمد بن أحمد /بداية المجتهد ،دار المعرفة –بيروت .
ابن عابدين :محمد الأمين / رد المحتار على الدر المختار (الحاشية) دار إحياء التراث العربي
ابن قدامة : أبو محمد عبد الله بن أحمد /المغني شرح مختصر الخرقي ،ط1،دار الفكر –بيروت ،1404ه
الأبياني : محمد زيد /شرح الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية ،مكتبة النهضة –بيروت .
الأشقر الدكتور عمر /الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية ،دار النفائس ط2، 1421ه-2002م
البهوتي :منصور بن إدريس /كشاف القناع عن متن الإقناع ،مكة ،1394ه
الخطيب: الدكتور نعمان /الوجيز في القانون الدستوري ط2، جامعة مؤتة -1998م
الدستور الأردني لسنة 1946
الزرقا :الشيخ مصطفى / الفعل الضار والضمان فيه ، ط1 ،دار القلم ،دمشق 1409ه ،1988م
الزرقا: الشيخ مصطفى أحمد / المدخل الفقهي العام ،دار القلم ط1 دمشق ،1998م
السباعي :الدكتور مصطفى /شرح قانون الأحوال الشخصية ، ط7 ،المكتب الإسلامي بيروت -1417ه-1997م
السرحان :الدكتور عدنان بالاشتراك مع والدكتور نوري خاطر /شرح القانون المدني /مصادر الحقوق الشخصية دار الثقافة الطبعة الأولى 2005 عمان الأردن
السرطاوي: الدكتور محمود / شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني، ط1،دار الفكر –عمان 1417ه،1997م(33/33)
سوار: الدكتور محمد وحيد الدين /الاتجاهات العامة في القانون المدني دراسة موازنة بالفقه الإسلامي، ط2 ،دار الثقافة ، عمان .
الشربيني : محمد بن أحمد الخطيب /مغني المحتاج ،دار الفكر –بيروت .
الشيرازي : أبو اسحاق ابراهيم بن علي بن يوسف /المهذب ،طبعة مطبعة عيسى البابي وشركاه بمصر .
عمارة :الدكتور محمد /صراع القيم بين الإسلام والغرب دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع .
القانون الأساسي الأردني عام 1928م
القانون المدني الأرني لعام 1976 مع المذكرة الإيضاحية
القبج : الدكتور سامر / مصادر مجلة الأحكام العدلية وأثرها في قوانين الشرق الإسلامي رسالة دكتوراة غير مطبوعة -جامعة الزيتونة –تونس
المحمصاني: الدكتور صبحي /الأوضاع التشريعية في الدول العربية ماضيها وحاضرها ط4 ،دار العلم للملايين –بيروت .
مشروع برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة من 5-15 سبتمبر 1994م .(33/34)
تهذيب مصطلحات القضاء الشرعي المعاصر
بحث مقدم إلى كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الشارقة / دولة الإمارات العربية المتحدة ؛ لغرض المشاركة في ندوتها المباركة عن " القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع و الآمال "
إعداد الباحث
الدكتور : أحمد قاسم كسار الجنابي
جامعة الأنبار / كلية العلوم الإسلامية
العراق
1427هـ 2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
(( المقدمة ))
الحمد لله الذي أكرمنا بالقرآن ، وشرّفنا ببعثة النبي العدنان ، وفضلنا على سائر الخلق بالنطق والبيان ، وهانا للإسلام وأكرمنا بالإيمان ، فالحمد لله ملء الميزان ، والصلاة والسلام على من جاء بالعدل والقسط والبيّنة والبرهان ، وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه من الإنس والجان .
وبعد :
فقد تبنت كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الشارقة طرح موضوعات من خلال مؤتمراتها الناجحة وندواتها الفالحة وأنشطتها المباركة لمعالجة قضايا الإسلام والمسلمين ولاسيما المعاصرة منها .
وها هي اليوم تتحفنا بموضوع : " القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع و الآمال " وهو موضوع من الأهمية بمكان ، وأنا على اعتقاد قريب من اليقين أن أبحاث هذه الندوة ستسهم في سد فراغ علمي بهذا المجال ، وسوف تؤصل لمستقبل زاهر – إن شاء الله – لتحقيق أغراض الندوة وأهدافها على أرض الواقع ، فالأمة اليوم تنتظر حلولًا جذرية لمشكلاتها ، وتتطلع إلى خلاص من مآزقها ، والإسلام يضمن ذلك ويتعهد به ، فإن ديننا العظيم صاحب تجربة ناجحة في هذا الميدان ، فقد عمّ العدل في أرجاء المعمورة دهورًا وأزمانًا ، وشهدت بقاع من العالم الإسلامي نظام حكم استند إلى شريعة الله – تعالى – وهدي المصطفى – صلى الله عليه وسلم - .(34/1)
ومن هنا كانت الرغبة للمشاركة في أعمال هذه الندوة ببحثي الموسوم بـ( تهذيب مصطلحات القضاء الشرعي المعاصر ) ليشارك في المحور الرابع والمختص بـ(تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر ) فهو يسعى إلى تقنين الأحكام الشرعية ، وضبط المصطلحات الإسلامية ، وإصلاح ألفاظ القضاء العصرية ، والإفادة من ثراء اللغة العربية ، وأسلوب القرآن الكريم ، وهدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في عملية القضاء الشرعي المعاصر .
إذن فلا شكّ أن كل لفظة لها ميزانها في العدالة ، وأن كل مصطلح ومفهوم له دلالته في الحكم ، وأن كل كلمة لها أثرها في القرار ، فيتطلب ذلك دقة الاختيار ، وتحديد العبارة ، ووضوح الدلالة .
فجاء بحثنا ليهتم بهذا الجانب ، وليسلط الضوء على هذا المجال ، ولذا تطلبت مني هذه الدراسة أن أقسّم الموضوع على أربعة مباحث رئيسة هي :-
المبحث الأول : تعريف بمصطلح القضاء الشرعي وأهميته ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : مصطلح القضاء الشرعي – أصوله ومادته اللغوية -
المطلب الثاني : أهمية المصطلح في القضاء الشرعي
المطلب الثالث : تأريخ تقنين المصطلح في القضاء الشرعي
المبحث الثاني : أثر المصطلح في القضاء الشرعي وأهميته ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : اللغة العربية لغة القضاء الشرعي في الإسلام
المطلب الثاني : قيمة المصطلح في القضاء الشرعي
المبحث الثالث : دلالة المصطلح في القضاء الشرعي ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تأثر القضاء الوضعي بمصطلح القضاء الشرعي
المطلب الثاني : الدلالة اللغوية للقضاء الشرعي
المبحث الرابع : تطبيقات على المصطلح في القضاء الشرعي المعاصر
المطلب الأول : نماذج من مصطلحات القضاء الشرعي في الإسلام
المطلب الثاني : نماذج من مصطلحات القضاء الشرعي المعاصر وحاجتها للمراجعة والتهذيب(34/2)
فأرجو أن أكون قد وفقت بهذا الطرح العلمي الذي من شأنه أن يميّز لغتنا ولغة كتابنا الخالد الذي أكرم الله – تعالى – به هذه الأمة المرحومة .
الباحث
المبحث الأول
تعريف بمصطلح القضاء الشرعي وأهميته
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : مصطلح القضاء الشرعي
– أصوله ومادته اللغوية –
المطلب الثاني : أهمية المصطلح في القضاء الشرعي
المطلب الثالث : تأريخ تقنين المصطلح في القضاء الشرعي
المطلب الأول
مصطلح القضاء الشرعي
– أصوله ومادته اللغوية –
القضاء لغةً :
كلمة القضاء في اللغة تطلق ويراد عشرة وجوه (1) هي :-
الوجه الأول : قضى بمعنى : ( وصّى ) ومنه قوله – تعالى - : { وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إياه } (2) ، وقوله : { وما كنت بجانب الغربيّ إذ قضينا إلى موسى الأثر } (3) .
الوجه الثاني : قضى يعني : ( أخْبَرْنا ) ومنه قوله – تعالى - : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } (4) ، وقوله : { وقضينا له ذلك الأمر } (5) .
الوجه الثالث : قضى يعني : ( فرغ ) ومنه قوله – تعالى - : { فإذا قضيتم مناسككم } (6) ، وقوله : { فإذا قضيتم الصلاة } (7) .
الوجه الرابع : اقض يعني : ( افعل ) ومنه قوله – تعالى - : { فاقضِ ما أنت قاض } (8) ، وقوله : { ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا } (9) .
الوجه الخامس : قضى يعني : ( نزول الموت ) ومنه قوله – تعالى - : { يا مالك ليقضِ علينا ربك } (10) ، وقوله : { لا يقضى عليهم فيموتوا } (11) .
__________
(1) أنظر : الوجوه والنظائر : 326 – 329 ، و قاموس القرآن : 383 – 385 .
(2) سورة الإسراء : 17 / 23 .
(3) سورة القصص : 28 / 44 .
(4) سورة الإسراء : 17 / 4 .
(5) سورة الحجر : 15 / 66 .
(6) سورة البقرة : 2 / 200 .
(7) سورة النساء : 4 / 103 .
(8) سورة طه : 20 / 72 .
(9) سورة الأنفال : 8 / 42 .
(10) سورة الزخرف: 43 / 77 .
(11) سورة فاطر : 35 / 36 .(34/3)
الوجه السادس : قضى يعني : ( وجب ) ومنه قوله – تعالى - : { وقضي الأمر } (1) ، وقوله : { وقال الشيطان لما قضي الأمر } (2) .
الوجه السابع : قضى يعني : ( الكتاب ) ومنه قوله – تعالى - : { وكان أمرًا مقضيًا } (3) وذلك في أمر عيسى – عليه السلام – ويعني به كتاب اللوح المحفوظ .
الوجه الثامن : قضى يعني : ( أتمّ ) ومنه قوله – تعالى - : { فلما قضى موسى الأجل } (4) ، وقوله : { ليقضى أجل } (5) .
الوجه التاسع : قضى يعني : ( فصل ) ومنه قوله – تعالى - : { وقضي بينهم بالحق } (6) ، وقوله : { إن ربك يقضي بينهم } (7) .
الوجه العاشر : قضى يعني : ( خلق ) ومنه قوله – تعالى - : { فقضاهنَّ } (8) وذلك في أمر السماوات السبع .
فيتبين لنا تعريف القضاء لغة : بمراد بحثنا وموضوعنا الذي نحن بصدد تناوله فهو :- مصدر قضى يقضي بين الخصمين ، حكم بينهما وفصل .
القضاء اصطلاحًا :
قول ملزم يصدر عن ولاية عامة ، أو الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام ، فيقال : قضى القاضي ، أي : ألزم الحق أهله ، والذي يظهر من هذا التعريف أن القضاء هو مظهر للأمر الشرعي (9) .
أو هو نظام خاص يقيمه الحاكم الشرعي في البلاد بوساطة قضاة عالمين بشريعة الإسلام التي تضمنها كتاب الله – تعالى ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - (10) .
والقضاء شرعاً : فصل الخصومات وقطع المنازعات ، وهو الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى .
__________
(1) سورة هود : 11 / 44 .
(2) سورة إبراهيم : 14 / 22 .
(3) سورة مريم : 19 / 21 .
(4) سورة القصص : 28 / 29 .
(5) سورة الأنعام : 6 / 60 .
(6) سورة الزمر : 39 / 69 .
(7) سورة يونس : 10 / 93 .
(8) سورة السجدة : 32 / 11 .
(9) المدخل للفقه الإسلامي : 328 .
(10) العلم والعلماء : 63 .(34/4)
ودليل مشروعيته الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، وقد اجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس (1) .
أهمية القضاء الشرعي :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( المقصود من القضاء ، وصول الحقوق إلى أهلها ، وقطع المخاصمة ، فوصول الحقوق هو المصلحة ، وقطع المخاصمة إزالة المفسدة ، فالمقصود هو جلب تلك المصلحة ، وإزالة هذه المفسدة ، ووصول الحقوق هو من العدل الذي تقوم به السماء والأرض ، وقطع الخصومة هو من باب دفع الظلم والضرر ، وكلاهما ينقسم إلى إبقاء موجود ، ودفع مفقود ، ففي وصول الحقوق إلى مستحقها ، يحفظ موجودها ، ويحصل مقصودها، وفي الخصومة يقطع ، موجودها ويدفع مفقودها ، فإذا حصل الصلح زالت الخصومة التي هي إحدى المقصودين )) (2).
إذن لا يشك أحد في أهمية القضاء في كل زمان ومكان ، فهو كالملح للطعام ، لاسيما إن كان القضاة هم العلماء ، فلا غنى لبشر عنهم ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ، والأنبياء قضاة أقوامهم ، وحكماء دولهم ، بهم تزهو الشعوب ، وينتشر الخير ، ويعم الرخاء ، وتزول المدلهمات ، وتنقشع الملمات ، فهم كالغيث أينما حلّ نفع .
ويشرع القضاء لكل عدد زاد عن الاثنين ، أن يؤمروا أحدهم ، منعاً للخلاف الذي يؤدي إلى الإختلاف ، حتى لا يستبد كل إنسان برأيه ، فيهلك الجميع ؛ لذلك شرع الشارع الحكيم القضاء ووجود القضاة بين الناس ، وإذا كان ذلك بين العدد القليل في السفر ، فوجود القضاة في الحضر مع تزايد أعداد السكان لهو أحرى وأوجب ، لأن الناس يحتاجون لدفع التظالم ، وفصل التخاصم ، فلهذا يجب تنصيب الولاة والحكام والقضاة للسيطرة على أمور الناس ، ومنع الظلم ، وإعطاء كل ذي حق حقه (3) .
__________
(1) أنظر : مراتب الإجماع : 85 .
(2) مجموع الفتاوى : 35 / 355 .
(3) أنظر: نيل الأوطار : 8 / 258 .(34/5)
إذ لا يمكن أن تقام الحدود ، وتُدرأ الشبهات ، ولا يتم الحق والعدل ، إلا في ضوء وجود القضاة ، الذين علموا كتاب الله – تعالى - ، وحفظوا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وتعلموا العلم الشرعي المبني على الوحيين .
ومع تقدم الحضارة الزائفة ، وابتعاد كثير من الناس عن دينهم ، حتى أصبحت أسهل المسائل الشرعية ، تمثل عقداً وإعياءً ، كان لابد من وجود القضاة ، الذين يدينون لله - عز وجل - ، والذين يأتمرون بأمره ، دون محاباة لأحد ، لا من قريب ولا من بعيد ، فالناس سواسية كأسنان المشط عندهم ، يعاملهم الحكم العدل ، والله يحب القسط والمقسطين ، هو أعدل العادلين ، وأحكم الحاكمين ، حرم الظلم على نفسه ، وجعل بين عباده محرماً .
مفهوم الشرع وعلاقته بالقضاء :
قال ابن تيميّة – رحمه الله - : (( لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام : أحدها : الشرع المنزّل ، وهو الكتاب والسنّة ، واتباعه واجب ، من خرج عنه وجب قتله ، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه وسياسة الأمراء وولاة المال وحكم الحكام ومشيخة الشيوخ وغير ذلك ، فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله .
وأما الثاني : فهو الشرع المؤول ، هو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة ، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه ، ولم تجب على جميع الخلق موافقته ، إلا بحجة لا مرد لها من الكتب والسنّة .
وأما الثالث : فهو الشرع المبدَّل ، وهو ما كان بديلًا مذمومًا عنت الشرع الربانيّ )) (1) .
المطلب الثاني
أهمية المصطلح في القضاء الشرعي
__________
(1) أنظر: مجموع الفتاوى : 3 / 268 .(34/6)
إن المصطلحات على الأشياء عند الناس فيها جناية على بعض الحقائق ، ولهذه الجناية قصة طويلة في كل فن ولغة ، وفي كل أدب ودين ؛ لأنها تولّد كائناً آخر ، تنشأ عنه الشبهات ، وتطمس من دونه المسميات ، وتشتد حوله الخصومات ، وتتكون فيه المذاهب ، وتستخدم لها الحجج والدلائل ، ويحمى فيها وطيس الكلام والخصام والجدال ، فلو عدلنا عن هذه المصطلحات المحدثة أو المستوردة ، وعن هذه الأسماء العرفية ، ورجعنا إلى الحقائق اللغوية والشرعية ، وعدنا إلى الماضي وإلى الكلمات التي يعبر بها الناس عن هذه الحقائق في سهولة ويسر ، وإلى ما كان ينطق به رجال العهد الأول والسلف الأقدمون لانحلت العقدة في موضوعنا وهان الخطب فيما بيننا ، واصطلح الناس على ما فيه جمع كلمتهم ووحدة صفهم (1) .
ومصطلحات القضاء الشرعي هي امتداد في الغالب لما اشتهر بين الفقهاء والقضاة وسائر العلماء بعد مراحل تدوين الفقه الإسلامي .
وإن ما يميّز شريعتنا الغراء أنها شريعة نصوص ثابتة ومستخرجة مستنبطة ، فهي بالتالي تكوّن في مجموعها مصادر التشريع الإسلامي المعتبر .
وهذه النصوص نحن ملزمون بالتقيّد بها قولًا وعملًا ، ومن هنا تأتي أهمية المصطلح في القضاء الشرعي المبثوث في ثنايا تلك النصوص ؛ إذ لا يسع المكلف العدول عنه ، وتأتي أهمية المصطلح في القضاء الشرعي أيضًا من باب ما يترتب على المصطلح من مفاهيم وأحكام ، ولذا فهو يصاغ بدقة متناهية في اللفظ .
ولذلك أشارت السنة النبوية المطهرة إلى هذا المفهوم من خلال الحديث الذي يرويه عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – حين ولاّه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال له : (( إن الناس سيتقاضون إليك ، فإذا أتاك الخصمان فلا تقضينّ لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق )) (2) .
__________
(1) أنظر : ربانية لا رهبانية : 10 ( بتصرف ) .
(2) صحيح ابن حبان : 11 / 451 .(34/7)
وتأتي أهمية المصطلح الشرعي في القضاء من خلال الفائدة المرجوة منه ، والثمرة التي من المؤمل جنيها من القضاء في فقه المصالح الشرعية وتحقيق الغايات والموازنات حتى يتحقق العدل بين الناس على سواء ، وإشاعة الأمن والطمأنينة بينهم حتى لا يبغي أحد على أحد ، ولا يعتدي أحد على أحد .
فإذا علمنا أن مجلس القضاء العادل في الإسلام ، الذي يضم الحاكم والخصوم والشهود ...الخ ، فإن في هذا المجلس سماع مباشر للدعوى من أطراف ، وحق دفاع من أطراف آخرين ، وفي هذا المجلس بينات وأيمان ، وشهادة شهود وقرار القاضي ، وهذا كله لا يتم إلا من خلال لغة محبوكة ، وألفاظ صريحة ، وجمل دقيقة ، وصياغة محددة ؛ لأن الحرف والحركة الإعرابية قد تغيران المعنى وتقلبه من الإفراج إلى القتل أو الحد ، أو من البراءة إلى التهمة ، فلذلك كان لا بدّ من ضبط المصطلح في القضاء الشرعي وفي غيره ، وفي ديننا من باب أولى لأن الإسلام هو لغة البيان والفصاحة العربية ، وكتابنا المعجز نزل بلسان عربي مبين ، ورسولنا هو أفصح من نطق بالضاد على الإطلاق – صلى الله عليه وسلم - .
والتشريع الإسلامي – ولله الحمد - يمتلك ثروة لسانية ضخمة ، تجمعت مفرداتها على مر العصور بمساهمة عدد غفير من القضاة الشرعيين والولاة العادلين والحكام المسلمين ، وهم في استنباطهم وتدوينهم وإثرائهم للقضاء الشرعي في الإسلام ، وفي الوقت نفسه كانوا يوجهون عنايتهم الفائقة بمصطلح القضاء الشرعي الذي سعى القضاء منذ بدء الدعوة الإسلامية – أو بالأحرى من قيام الدولة الإسلامية – سعى إلى ضبط ألفاظه ومصطلحاته ومفرداته ، وتوجيه المجتمع المسلم إلى تفهم هذه المعاني والقواعد الرئيسة في فقه القضاء الشرعي في الإسلام .(34/8)
وهذا ما أشار إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح الصريح الذي روته أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – حين قالت : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (( إنما أنا بشر ، وأنكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار )) (1).
وقد أثار بعض الباحثين المنبهرين بقانون الغرب ودساتيرهم شبهة جواز الاستعانة بالمصطلحات الغربية في القضاء الشرعي والإفادة منها ومن مفاهيمها الحضارية واستدل بحديث : ( الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها ) ، وما علم هذا أن هذا الحديث قد ضعفه المختصون بعلم الرجال هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أن لفظ الحكمة ورد في الاستعمال القرآني بشكل مفرد مرة ، ومقترن بلفظ الكتاب مرة أخرى ، أما المفردة فقد فسرها العلماء بأنها : النبوة أو القرآن أو العلم أو الفقه ، وأنها تعني الإصابة في القول والفعل ، وأنها معاني الأشياء وفهمها ، وأما الحكمة المقترنة بالكتاب فهي السنة لا غير .
ثم إن طلب الهدى عند أهل الضلال هو من أعظم الجهل فالمفاهيم الغربية نحو القضاء والحكم والمصطلحات التي تتفرع منها مبنية على أصل فاسد في شريعتنا واعتقاداتنا ، فهم يجعلون الإنسان محور الكون ورفيق الطبيعة المادية ، وأن حل مشكلات هذا الإنسان تكمن في داخله ومن محيطه ،، لذلك فليس للإنسان حاجة – عندهم – إلى أن يطلب شريعة وقانون من السماء ليقيّد بها نفسه ، وهذا ما يعبرون عنه بـ( المطلق ) وهو مفهوم من مفاهيم الحرية .
المطلب الثالث
تأريخ تقنين المصطلح في القضاء الشرعي
__________
(1) صحيح البخاري برقم: ( 2534 ): 2 / 591 ، صحيح مسلم برقم : ( 1713 ) : 3 / 1337 .(34/9)
من أوائل الذين أدركوا حاجة المصطلح في القضاء الشرعي وأهميته ابن المقفع الذي أشار على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور أن يوحد ما يقضى به بين الناس في قانون يدونه ويختاره من آراء القضاة المجتهدين والفقهاء في ذلك العصر بعد تمحيصها والترجيح بينها .
فبيَّن ابن المقفع في رسالته المسماة : ( رسالة الصحابة ) (1) حال اختلاف القضاة المجتهدين ، وكيف إن الأمر الواحد يقضي فيه أحد القضاة المجتهدين برأي ، ويقضي غيره في نظيره بخلافه ، في الأموال والأنكحة وغيرها . وقال في رسالته : (( فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة ، فترفع إليه في كتاب ، ويرفع ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس ، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك ، وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم له عليه ، وينهى عن القضاء بخلافه ، وكتب بذلك كتاباً جامعاً عزماً ، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً" )) (2) .
وقد أراد أبو جعفر المنصور ومن بعده الرشيد أن يختار مذهب الأمام مالك – رحمه الله - وكتابه : ( الموطأ ) جمع فيه أحاديث مرسلة ومتصلة وفتاوي الصحابة وأقضيتهم وأقوال التابعين وآراءه الفقهية قياساً على الآثار قانوناَ قضائياً للدولة العباسية فنهاهما الإمام مالك – رحمه الله - من ذلك وقال : (( إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان ، وكل مصيب )) (3) ، وقد كان الإمام مالك محقاً في هذا الرأي ؛ ولكن رأي ابن المقفع كان تأسيساً لفكرة دولة القانون ، وهو المصطلح الذي يجرى الحديث عنه في الأدبيات السياسية والقانونية المعاصرة ، واستند في رسالته على فكرة الاستفادة من ثمرات اختلاف الاجتهادات .
__________
(1) الرسالة منشورة في كتاب : ( جمهرة رسائل العرب ) للأستاذ أحمد زكي صفوة ، برقم ( 26 ) : 3 .
(2) المصدر السابق .
(3) المدخل الفقهي العام : 1 / 178 .(34/10)
وبدلاً من تدوين قانون للقضاء على أساس البحث عن السهل اليسير المعتمد على ثمرات اختلاف اجتهادات الفقهاء ، انصرف الكثيرون إلى تدوين فقه المذاهب لتسهيل تناولها بين الناس ، وشاعت كتب الفتاوى وانصرف الناس إلى التقليد ، وتراجع تطور الفقه الإسلامي وحيويته في التعامل مع المستجدات ، وساعدت دولة الخلافة في الوصول إلى هذه الحالة ، فقد آثر الخلفاء اختيار القضاة من المقلدين ليقيدوهم بمذهب معين يفضله الخليفة بناءً على اعتبارات سياسية تفرضها أولويات حماية كرسي الحكم والمشروعية السياسية الشرعية التي منحها فقهاء مذهب معين للحاكم ، وبدأ القضاة يحكمون على مذهب معين.
بدايات التقنين للمصطلح في القضاء الشرعي المعاصر :
بدأت حركة التقنين أولاً بالمعنى المعاصر في أواخر العهد العثماني في مجال القانون المدني ، بصدور مجلة الأحكام العدلية عام 1293 هـ .
وأصبحت المجلة قانوناً مدنياً عاماً تضم مجال المعاملات المدنية والتجارية ومفردات القانون المدني المتنوعة مثل : ( البيوع ، الإجارة ، الكفالة ، الحوالة ، الرهن ، الهبة ، الشركات ، الوكالة ) وغيرها منتخباً من الأحكام الفقهية الخاصة بالمعاملات للفقه الحنفي - المذهب الرسمي للدولة العثمانية - ولم يعول على ما يخالفه من أحكام فقهية في حالة تواجد الحكم المطلوب في المجلة ، وذلك لاقتران صدور المجلة بأمر السلطان ، ويرجع القضاة إلى نصوص الفقه الإسلامي فيما لا نص عليه ، وقد رتبت أحكامها في صورة مواد مختصرة يقتصر الحكم فيها على رأي واحد (1) .
__________
(1) أنظر : تاريخ التشريع الإسلامي : 337 .(34/11)
علماً إن الدولة العثمانية سبق وأن كانت لها تجارب تشريعية ، حيث سنُّ السلطان سليمان القانوني ( القانون نامه ) الذي ضم أحكامًا في العقوبات التعزيرية وفي حقوق الأراضي وتحديد الأراضي الأميرية والخراج ، وكذلك في الموضوعات العسكرية والإدارية ، كما جرى تأسيس السجلات الشرعية التي ضمت قرارات المحاكم الصادرة من المحاكم الشرعية .
وفيما يخص مجلة الأحكام العدلية فقد رتبت مباحثها على الكتب والأبواب الفقهية المعهودة ، ولكنها فصلت الأحكام بمواد ذات أرقام متسلسلة كالقوانين الحديثة لكي يسهل الرجوع إليها والإحالة عليها ، وكان مجموعها : ( 1851 ) مادةً .
وقد سبق إصدار هذه المجلة تأسيس المحاكم النظامية في الدولة العثمانية ، التي تمتعت باختصاص النظر في أنواع من الدعاوى التي كانت ترجع إلى المحاكم الشرعية سابقاً .
وأتى إصدار مجلة الأحكام العدلية ضمن حركة إصلاح الوضع المتدهور في الدولة العثمانية والمسعى الذي بذل من أجل تحديث الدولة ، وخاصة بعد اتساع الاتصالات والتجارة والعلاقات الاقتصادية بين الدولة العثمانية والدول الأوربية التي شهدت تطورات سريعة وكبيرة ، وإطلاع كبار موظفي الدولة العثمانية على التجربة الأوروبية ، وحاجة الدولة العثمانية إلى ربط التصرفات والعقود العقارية بنظم شكلية وإجراءات منها تنظيم السجل العقاري ، لكي تكون تحت مراقبة الحكومة لأغراض مالية وحقوقية وسياسية.(34/12)
ومن الأسباب الأخرى لإصدار المجلة ضمن وجهة الإصلاح السياسي والإداري في الدولة العثمانية ، هي أن أحكام الفقه الإسلامي في القضاء الشرعي منثورة في الكتب الفقهية ، وقد تتواجد في غير أماكن بحثها ، كما إن الكتب الفقهية متفاوتة في استيعابها للأحكام العملية ، ومتفاوتة في لغتها ، فضلًا عن وجود آراء فقهية متعارضة في الحكم على القضية الواحدة ، كما إن معرفة القوي الراجح من الضعيف المرجوح مسألة نسبية تحتاج إلى قدرة ومرونة فقهية يصعب توفرها عند الكثيرين بالدرجة نفسها ، وقد يرجح مؤلف ما لا يرجحه آخر ، مما يؤدي إلى وضع القضاة في بحر من الفتاوى والتخريجات وأقوال مجتهدي المذهب بترجيحات متباينة .
فبدأت حركة التقنين في جملةً من الأحكام من كان في مطلعها مجال الأنكحة والمواريث ، وبالأخص المبررات المتعلقة بوجود تعدد الحكم الشرعي في قضية واحدة من قضايا الأنكحة والمواريث .
ومن هنا ظهر مصطلح ( الأحوال الشخصية ) في أواخر القرن التاسع عشر حيث ورد هذا المصطلح في كتاب : محمد قدري باشا ، المعروف بـ( الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية ) ، وقد ورد في مقدمته أنه : (( يشتمل على الأحكام المختصة بذات الإنسان من حين نشأته إلى حين منيته وتقسيم ميراثه بين ورثته )) ، وللكاتب المذكور كتب أخرى في هذا المجال ، منها في الوقف وفي أحكام المعاملات (1) .
ويبدو أن الاختيار على هذا المصطلح كان نتيجة تمكين الطوائف غير الإسلامية في ظل الدولة العثمانية من الاحتكام لرؤساء دياناتهم أو لمحاكمهم القنصلية في المسائل المتعلقة بأشخاصهم دون سواها فضلاً عن بداية حركة تدوين القوانين وارتباط هذه الحركة بالفكر القانوني الغربي واقتباس بعض المصطلحات القانونية منه .
__________
(1) أنظر : المصدر السايق : 338 .(34/13)
وفي الوقت الذي بدأ فيه هذا المفهوم في التبلور والوضوح ، بادر العثمانيون بإصدار قانون حقوق العائلة سنة 1917 م مقتبسين هذا المصطلح المستحدث أيضاً من الغرب ؛ لكن ما يميز قانون الأسرة العثماني في منهجيته عن مجلة الأحكام العدلية أنه لم يعتمد الفقه الحنفي ، بل أخذ بعض الأحكام من المذاهب الثلاثة الأخرى كاعتبار عقد الزواج صحيحاً والشرط معتبراً إذا اشترطت المرأة في العقد إلاّ يتزوج عليها ، وأخذ القانون المذكور بالتفريق الإجباري القضائي بين الزوجين ، ومكُّنت المرأة من التخلص من زوج السوء بطلبها التفريق ، وقد أخذ من مذهب مالك إطلاق حرية الزواج لزوجة المفقود بعد أربع سنين من فقدانه ، بينما يقضي المذهب الحنفي بانتظار وفاة جميع أقرانه في العمر ، فتبقى زوجة المفقود معلقة حتى شيخوختها (1) .
ولم تكن مسألة أخذ الأحكام الفقهية في قانون الأسرة العثماني من المذاهب المخالفة للمذهب الحنفي مسألةً إرادية ؛ بل كانت هذه الخطوة حاجةً موضوعية بسبب الضيق الموجود في كل مذهب فردي من المذاهب الإسلامية إذا ما أخذت أحكامه على حدة ، حتى في حالة تثبيت الاجتهاد في علم أصول الفقه للمذهب المعين ، فضلًا عن أن خطوة التقنين خطوة ضرورية لمعرفة حقوق المواطن الفرد بعد تثبيت الحدود القومية للدول المعاصرة ونشوء مفهوم الجنسية وسريان أحكام القانون من حيث المكان .
وإذا أخذنا تجربة البلدان العربية فنجد أن مصر في زمن محمد علي باشا 1805ـ 1849 م ، الذي تزامن حكمه مع الفترات الأخيرة لحكم الدولة العثمانية ، اقتصر أمر القضاء فيه على المذهب الحنفي ، بعد أن تغير هذا الأمر طوال تاريخ مصر الإسلامية حسب مذهب الحكام .
__________
(1) أنظر : المدخل الفقهي العام : 1 / 208 .(34/14)
وقد جمع محمد علي باشا علماء الأزهر وقال لهم : لا أريد أن أحكم بشيء حرمه الله ، لكن اجتمعوا وضعوا لي قانوناً ، وقد فشل علماء الأزهر آنذاك وقالوا : ما وصلنا إلى شيء (1) .
وفي أوائل عام 1915م شكلت في مصر لجنة من كبار العلماء من المذاهب الأربعة إلى تقنين قانون للأسرة يستنبط من المذاهب الأربعة ويختار منها ، بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون صالحاً وفقاً لروح العصر ، إلاُّ أن اللجنة لم تفلح في الأمر رغم إعدادها لائحةً بهذا الشأن بسبب الانتقادات الموجهة للمشروع بعد عرضه على رجال القضاة والمحاماة والمتعاملين بالمسائل الفقهية (2) .
إلاَّ أن جزءاً قليلاً من القانون ظهر في لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها الصادر بهما الأمران العاليان المؤرخان 10 / ديسمبر / 1920 م وهو خاص بأحكام النفقات وبعض مسائل الأحوال الشخصية ، وجاء الكثير من مواد هذا القانون وفق المذهب المالكي متأثراً بقانون الأسرة العثماني .
وفي عام 1926 م وفي ذروة تطور حركة الإصلاح الديني تألفت لجنة من المختصين بالمسائل الفقهية من تلامذة الشيخ محمد عبده وضعت اللجنة مقترحات تجازوت المذاهب الأربعة إلى آراء الفقهاء عامة مما هو نافع للأسرة ، وارتقى عمل اللجنة إلى الاستنباط من القرآن الكريم والسنة النبوية حتى ولو ناقض ذلك ما قاله السابقون .
وفي سوريا صدر أول قانون عام للأحوال الشخصية عام1953م ، ويتضمن القانون المذكور الأبواب التالية : ( الزواج ، الأهلية ، الوصية ، والميراث )
__________
(1) أنظر : نصر حامد أبو زيد في مقاله : ( هل هناك مفهوم للحكم والسلطة في الفكر الإسلامي ) مجلة الثقافة الجديدة ، العدد : ( 295 ) ، تموز ـ آب 2000م .
(2) أنظر : الأحوال الشخصية : 12 .(34/15)
وقد استمد القانون المذكور أحكامه من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه ، إضافة إلى الأحكام الإصلاحية التي اخذ بها قانون الأسرة العثماني والقوانين المصرية المتفرقة التي تناولت قضايا الأحوال الشخصية (1) .
وفي العراق وبعد تأسيس الدولة العراقية ، كانت المحاكم الشرعية تعتمد المذهب الشخصي للمسلمين المتداعين ، وتصدر قرارها وفقاً لما تنص عليه فتاوى ومقررات هذا المذهب ، عبر العودة إلى النصوص المدونة في الكتب الفقهية ، والى الفتاوى في المسائل المختلف عليها ، ويستعان في اغلب الأحيان بالمراجع الدينية لهذا المذهب ، أو بالعودة إلى قضاء المحاكم في البلاد الإسلامية.
وبعد الرابع عشر من تموز1958م ألفت وزارة العدل العراقية بتاريخ : 7 / شباط / 1959 م لجنة لوضع لائحة قانونية استمدت مبادئها مما هو متفق عليه من أحكام الشريعة ، وما هو مقبول من قوانين البلاد الإسلامية ، وما استقر عليه القضاء الشرعي في العراق ، واستطاعت اللجنة صياغة مشروع قانون للأحوال الشخصية والذي عرف بقانون رقم ( 188 ) لسنة 1959م ، واشتمل القانون على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج والطلاق والولادة والنسب والحضانة والنفقة والوصية والميراث (2) .
وهكذا مضت سائر الدول العربية والإسلامية بالتتابع في تحكيم القوانين منا ما هو متأثر بالشريعة الإسلامية ومنها ما هو متأثر بالقانون الغربي الوضعي ، ومع ذلك استطاعت بعض البلدان الاحتفاظ بالشيء الكثير من القضاء الشرعي ومواده ومصطلحاته وبنوده حتى العصر الحاضر ولاسيما في الحجاز ونجد واليمن وبعض مناطق الخليج العربي وبلاد الأفغان وغيرها .
المبحث الثاني
أثر المصطلح في القضاء الشرعي وأهميته
وفيه مطلبان :
__________
(1) أنظر : المدخل الفقهي العام : 1 / 210 .
(2) أنظر : لائحة الأسباب الموجبة لصدور قانون الأحوال الشخصية المرقم : ( 188 ) لسنة : 1959م .(34/16)
المطلب الأول : اللغة العربية لغة القضاء الشرعي في الإسلام
المطلب الثاني : قيمة المصطلح في القضاء الشرعي
المطلب الأول
اللغة العربية لغة القضاء الشرعي في الإسلام
أهم ما تميّز به العرب حتى يومنا هذا هو لغتهم ، والفضل من بعد الله عليهم في ذلك يعود إلى القرآن الكريم ، وإلى أفصح من نطق بالضاد نبي الرحمة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - ، فقد اتسمت هذه اللغة بكثرة مفرداتها ، وقابليتها على الاشتقاق ، وقدرتها على النمو والتجدد ، وإمكانيتها على التعايش في كل زمان ومكان .
فقد اعتز القرآن الكريم بنزوله { بلسان عربي مبين } (1) ، وبهذه اللغة كان إعجاز أسلوبه واستقامة صياغته وبيان آياته والإفصاح عن مراده ومقصوده فقال – سبحانه - : { قرآنًا عربيًا غير ذي عوج } (2) ، وقد صرّح المولى – جلّ جلاله – بلغة الحكم والحاكمية في هذا الدين أنها بلغة العرب وعلى سنن كلامها وأفانين خطابها فقال عزّ من قائل : { وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا } (3) .
وقد حافظ العرب بعد دخولهم في دين الله ، واعتناقهم الإسلام منهج حياة ، ومشاركتهم في إقامة دولة وتوسيع الفتوحات مع اعتزازهم بلغتهم ونشرها وتعليمها الناس ، وتمسكهم باستعمالها لأنها لغة الدين ، فكانت لغة المجتمع ، ولغة الحوار ، ولغة الخطاب السياسي ، ولغة الخلفاء والولاة ، ولغة القادة والجند ، ولغة القضاة والحكم ، ولغة العلم والتدوين ...الخ ، ولمّا توسعت حركة النقل والترجمة في العهود العباسية الأولى أصبحت لغة العلوم الصرفة والعلوم التطبيقية والعلوم التجريبية كالطب والهندسة والجبر والرياضيات وغيرها .
__________
(1) سورة الشعراء : 26 / 195 .
(2) سورة الزمر : 39/ 28 .
(3) سورة الرعد : 13 / 37 .(34/17)
فهي لغة النتاج الفكري العالمي للأمة الإسلامية مما لم يتيسر ذلك لأية لغة أخرى ، مما دعا الأعاجم ولاسيما المتصلين منهم بالعرب أو القريبين على حاضرة الدولة الإسلامية أو من الراغبين في الاستزادة على تعلم اللغة العربية أن ينهلوا من معينها ويشربوا من عبقها حتى ظهر منهم كثير من المتبحرين فيها ، فألفَّ عدد منهم مصنفات وكتبًا لجمع قواعدها ، وتوضيح معالمها .
وسأتناول هنا بعض المباحث اللغوية المتعلقة بالقضاء الشرعي والمرتبطة به للإطلاع على أهمية اللغة العربية في مجال القضاء :
1- استنباط الحكم :
إذا علمنا بان القضاء الشرعي يستدل بالكتاب والسنّة ، فإن هذا الاستدلال يتوقف على معرفة لغة العرب ومعرفة أقسامها ؛ لأنهما واردان بلغة العرب ، ولذلك كان لا بدَّ من التعرف على مباحث اللغة العربية ، فمن ذلك مسألة ( استنباط الحكم ) للمثال لا الحصر دون غيره من المباحث الأخرى ؛ لأن ما يبحث من الكتاب والسنة ينقسم إلى خبر وإنشاء ، والقاضي الشرعي إنما ينظر في الإنشاء دون الأخبار ؛ لعدم ثبوت الحكم بها غالبًا ، ومن هنا كان القول في الكتاب والسنّة ينقسم إلى : أمر ونهي ، وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومفصل ، وناسخ ومنسوخ ، فلا بدَّ من ذلك الاهتمام بهذه الأقسام حتى يمكن الاستدلال على الأحكام الشرعية في القضاء .
2- التعريب :(34/18)
التعريب جائز لكل عربيّ وفي كل عصر بشرط أن تكون عنده الأهلية اللغوية ، ولا بدَّ من الانسجام بين أهل اللغة وأهل القضاء في هذا الميدان في العصر الحاضر ؛ فعلى علماء اللغة العربية اليوم أن يوجدوا ألفاظًا جديدة للأسماء والمعاني الجديدة ، ولا مناص لهم من إيجاد هذه الألفاظ الجديدة في القضاء الشرعي إلا عند السير مع الحياة ومتطلباتها ، ومواكبة الأحكام الشرعية في الوقائع والأشياء التي لا بدَّ من بيان حكم الشرع فيها ، وهذا العمل العلمي فيه مصلحة للّغة العربية نفسها ، فاللغة تبقى وتحيا بالاستعمال ، فإذا وجدت معان جديدة ضرورية لحياة الأمة ولم توجد في اللغة العربية ألفاظ تعبّرُ بها عنها انصرفت الأمة حينذاك بكل تأكيد إلى لغة أخرى لتعبّر بها عما هو من ضرورياتها ، وبالتالي ستجمد اللغة ومن ثمّ تخمد وتموت .
فقد أفاد القضاء الشرعي من بعض المصطلحات الأجنبية آنذاك وقبلها ما دامت على وزن من أوزان اللغة العربية ، مثلما استعمل القرآن الكريم لفظ ( القسطاس ) وهي رومية الأصل ومعناها الميزان (1) ، و ( العربون ) السلف من المال في البيع وهو أعجميّ (2) ، وغيرهما .
3- الحاجة إلى معجم القضاء الشرعي المعاصر :
إن عقد بحث لمفردات القضاء الشرعي المعاصر يتطلب معجمًا خاصًا به يرجع إلى سعة مدلول القضاء الشرعي وشموله جوانب متعددة من مظاهر الحياة المادية والاجتماعية والأخلاقية والعلمية في المجتمع الإسلامي بمختلف الفئات المتعددة والجماعات المتنوعة والشعوب المتباينة واللهجات المختلفة وحتى الجنسيات والأعراف والتقاليد المتلونة .
__________
(1) أنظر : المعرب : 124 .
(2) أنظر : نفسه : 114 – 115 .(34/19)
ويرجع التعقيد في تقعيد هذا الموضوع إلى تباين مدى انتشار تلك المفردات في الأماكن الشاسعة في عموم العالم الإسلامي ، وكذا ديمومتها في الأزمان المتباعدة حتى ولو حصرنا الموضوع في العصر الحاضر فلا شك أن ذلك يتطلب قرنًا أو قرنين من الزمان على أقل تقدير أو تحيد مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية إلى يومنا هذا – مثلًا - .
فبعض مفردات القضاء الشرعي المعاصر عم استعمالها في مجتمعات كثيرة ومناطق واسعة وقد استمرت في الوقت ذاته حينًا من الدهر ، وبعضها الآخر كان استعماله محصورًا في جماعة معينة ، أو في رقعة جغرافية محددة ، فهذه الأمور وغيرها يجدر الإشارة إليها ، ومراعاة شأنها من أجل ضبط تلك المصطلحات الخاصة والعامة ، والمؤقتة والدائمة ، في مؤسسات القضاء الشرعي المعاصر .
المطلب الثاني
قيمة المصطلح في القضاء الشرعي
يتميز النص في القضاء الشرعي عن القضاء القانوني الوضعي أن الأول مصطلحاته لا تقبل التعديل ولا التبديل بخلاف غيره حتى النصوص الفقهية هي كالنصوص القانونية تتأثر بالمتغيرات والمستجدات ويؤثر عليها عامل الزمان وعامل المكان ما لم يكن النص الفقهي منصوصًا عليه بنص قطعي الدلالة أو مجمعًا عليه أو معلومًا من الدين بالضرورة .
وتكمن قيمة المصطلح في القضاء الشرعي في الاختيار الدقيق للألفاظ ، وتحديد المصطلحات ، وصياغة الكلمة ، لاسيما في القضاء الذي يأتي اهتمامه بهذا الجانب بدءًا من إفادة المدعي إلى شهود الشاهد إلى سماع المتهم وإقراره وصولًا إلى كلام الدفاع ورأي الإدعاء وأخيرًا بحكم القاضي وصياغة القرار ، وهذا كله مستند إلى اللغة ، ومتعلق بالدلالة ، ومتصل بالألفاظ والمعاني .(34/20)
وتظهر قيمة الاهتمام بالمصطلح في القضاء الشرعي جليًا في مظاهر الحفاظ على وسطية هذا الدين في اتجاه الأمور جميعها ومنها قضية المصطلح ، إذ بعد سقوط الخلافة الإسلامية اتخذ المصطلح الإسلامي عمومًا طريقين هما : الأول : التيار المحافظ على التقيد بالمصطلح الشرعي ، ورفض المصطلحات الدخيلة والبديلة ، وقد وسم هذا الاتجاه بـ( التقليدي ) ، أو كما عبروا عنه بتيار ( الرفض المطلق ) ، والآخر : التيار التجديدي والتحديثي الذي رفض الركون إلى تفسير المصطلحات التقليدي لمفاهيم الدين ونصوصه وسمي هذا الاتجاه بتيار ( القبول المطلق ) الذي انفتح آنذاك مع المفاهيم الغربية والشرقية للإفادة منها في الترجمة التفسيرية - وليست اللغوية - لنصوص الشريعة التي أدت فيما بعد إلى دخول مصطلحات فلسفية وكلامية ومنهجية على لغة نصوص التشريع الإسلامي .
وفي تقدم الأيام التي شهدت صحوة العالم الإسلامي ولاسيما بعد الثلث الأخير من القرن العشرين ومطلع دخول الألفية الثالثة ظهر اتجاه جديد للمصطلح الإسلامي في كافة جوانبه ومنه موضوع القضاء الشرعي الذي ورث الاتجاهين عمن سبقه وتعاملهم القديم مع قضية المصطلح ، فحرص على دفع إشكالية الجمود والتعصب والتحجر التي اتهم بها المسلمون من قبل الهجمة الغربية الصليبية والمكر اليهودي المخادع في إثارة شكوك مفادها عدم قدرة الإسلام على مواكبة العصر والانسجام مع الواقع ، فاجتهد بعض العلماء في تقديم الإسلام بثوب جديد في قراءة عصرية للدين حاولت التوفيق بين الثوابت الشرعية ومحاكاة الفكر الوافد تهدف إلى إيجاد نوع من المزاوجة بين المفاهيم الإسلامية والمفاهيم الأخرى ومن بينها المصطلحات .(34/21)
ولذلك دعا المجددون من هذا النوع إلى استلهام المفاهيم الصائبة في الحضارة الغربية واستعمال مصطلحاتهم التعبيرية عن تلك المفاهيم وهذا ما حدث فعلًا يوم أن قام بعضهم بمقارنة بين المصطلحات الإسلامية والمصطلحات العصرية محاولة منهم في تجسير للفجوة في إطار التنظير الفقهي للمسائل ، فكان من بين ذلك قراءة في المصطلحات الآتية : الشورى والديموقراطية ، الإجماع المعتبر ورأي الأغلبية ، الضريبة والزكاة ، الجهاد والإرهاب ، حقوق المرأة ... الخ (1) .
وإن مما يعزز قيمة المصطلح في القضاء الشرعي هو المحافظة على هوية أمتنا العربية والإسلامية لأن لغتنا ونصوص شريعتنا كانت وما تزال مستهدفة من قبل أعداء الأمة ليتمكنوا من إزالة هذه اللغة واستبدال مصطلحاتهم الشرعية وجعلها لغة مساجد ودير وصوامع ليس لها علاقة بخارج إطار العبادات بهدف علمنة القضية وفصل الدين عن الحياة ومن أهم جواهر هذا الموضوع القضاء الشرعي الذي يهدف المخطط العالمي إلى تحويله نحو القوانين الوضعية والمحاكم العصرية البعيدة عن روح الوحيين في الإسلام .
__________
(1) أنظر : الفقه السياسي الإسلامي : 101 .(34/22)
وقد كانت محاولتهم هذه قد بدأت يوم أن أرادوا تهميش قيمة التشريع الإسلامي ولغته وأصوله وادعائهم بأنه نسخة طبق الأصل من فلسفات قديمة وقوانين سابقة ، وهذا ما صرّح به المستشرق ( ريان ) الذي يعد المخطط الفكري للإستعمار الفرنسي للعالم الإسلامي إذ يقول : (( إن الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية )) (1) ، وقال الصليبي ( شيلدون آموس ) : (( إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدّلًا وفق الأحوال السياسية في المملكات العربية )) (2) ، ويقول كذلك : (( إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي )) (3) ، ويقول ( ريتشارد بل ) اليهودي : (( إن محمدًا قد استمد القرآن من مصادر يهودية ، ومن العهد القديم بشكل خاص ، وكذلك من مصادر نصرانية )) (4) .
وقد شهد العالم الإسلامي الهجمة الإستشراقية التي استهدفت إسقاط الرؤية الوضعية والتأثيرات البيئية المعاصرة على الوقائع التأريخية الإسلامية ، وإخضاع التراث الإسلامي ونصوصه ومصطلحاته للتفسير المادي ، ومن أمثلتهم في ذلك : المرحلة الإقطاعية لنماذج العدل في المجتمع الإسلامي ، الأرستقراطية المكيّة للدعوة الإسلامية ، والملكية الروحية في النظام الإقتصادي الإسلامي وغيرها .
ومن هذا وغيره تأتي أهمية الاعتناء بالمصطلح في القضاء الشرعي والمحافظة عليه والتقيد به لأن إسلامنا تميّز بروح التشريع لشؤون الحياة من جانب ، وليس فيه سلطة بابوية معصومة من جانب آخر ، وكذا فالقضاء الإسلامي يتمتع بنشر العدل والقسط بين الناس على السواء وشهدت مجالسه المباركة إعطاء الحريات للجميع حتى مع الخصوم ، والتزامه بمنهج وأسلوب وطريقة تعبير تغنيه عما سواه من مناهج القضاء والحكم والتشريع .
__________
(1) أنظر : الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : 33 .
(2) أنظر : المصدر نفسه .
(3) أنظر : المصدر نفسه .
(4) أنظر : المصدر نفسه .(34/23)
المبحث الثالث
دلالة المصطلح في القضاء الشرعي
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تأثر القضاء الوضعي بمصطلح القضاء الشرعي
المطلب الثاني : الدلالة اللغوية للقضاء الشرعي
المطلب الأول
تأثر القضاء الوضعي بمصطلح القضاء الشرعي
تتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال بيان أثر مصطلحات الأحكام الشرعية الإسلامية في القوانين الوضعية ، وهذا الموضوع ذو دلالات مهمة فهو يعني أن الإسلام فيه مادة قضائية وقانونية مستقلة ، وأن الاستنباط منها والإفادة من خبرتها وتجربتها يكشف عن القمة التي بلغتها الحضارة الإسلامية في هذا المجال .
وإذا كان الفضل هو ما شهدت به الأعداء فإن الباحث الغربي رنيه دافيد DAVID) ( RENEأشار إلى أن العديد من الرسائل في أوروبا قالت بتأثر القوانين الغربية بالشريعة الإسلامية (1) .
ومن المعلوم أن أحكام القانون المدني الفرنسي متأثر بالشريعة الإسلامية ، ولا يمكن إنكار ذلك لتضمنه مواد ليس لها أصل إلا في القضاء الإسلامي .
هذا من حيث العموم والإجمال ، أما من حيث معيار المصطلح فإنه من الملاحظ أيضًا أن هناك مصطلحات مستمدة من اللغة العربية ومستعملة في القضاء الشرعي الإسلامي قد وردت في مؤلفات أساتذة القانون والقضاء الغربي وفي محاضراتهم العلمية (2) .
فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
1 – مصطلح ( AVAL ) الفرنسي ، وهو مأخوذ عن المصطلح الإسلامي الشرعي ( الكفالة ) بمعنى : الضمان الذي يعطى عن دين بالتوقيع على الورقة التجارية أو على ظهرها .
2 - مصطلح ( Mokatra ) مأخوذ من الكلمة العربية الفصيحة ( مخاطرة ) .
3 - مصطلح ( Cheque ) مأخوذ من مصطلح ( صك ) بالعربية .
__________
(1) DAVID (R.) LeS grants systems de droit con temporains , D, Paris , 1982 . p . 492 .
(2) أنظر : تراث الإسلام : شاخت وبوزورف ، ترجمة د . حسين مؤنس و إحسان صدقي الصمد ، سلسلة عالم المعرفة ، ط / 2 ، 1988 م : 160 .(34/24)
4 - مصطلحا ( Sensalis ) و ( Sensalc ) وبالألمانية ذات اللهجة النمساوية Senal ) ( أخذت عن المصطلح العربي الإسلامي ( السمسار ) .
فعلى ذلك يمكن القول بأن للقضاء الشرعي مصطلحاته الخاصة المستمدة من اللغة العربية لغة النصوص الدينية في الشريعة الإسلامية ولعلّ هذا التأثر والتأثير بالغير كانت نتيجة أسباب من أهما ما يأتي (1) :-
التأثر من خلال العرف والتعامل التجاري .
التأثر بوساطة القانون الروماني .
التأثر من خلال الهيمنة الحضارية الإسلامية على أوروبا خلال قرون .
وقد بلغ هذا التأثر إلى درجة تأصيل القواعد القانونية على ضوء تأصيلاتها في الشريعة الإسلامية ، ولكن يحاولون إخفاء مثل هذه المعلومات فلم يشيروا مرة واحدة إلى المضمون الموجود في نصوص الشريعة الإسلامية الذي أخذوا منه ، وبعضهم اكتفى كالقانون الفرنسي الذي استخدم كلمة القول بأن القاعدة القانونية الفلانية ( adage ) كانت موجودة في ( العرف ) .
ومن تلك القواعد ( قاعدة المسؤولية ) التي تناول جزءً منها قانون أكيليا ( Aquili ) الذي عدد أفعالًا معينة وحدد لكل منها التعويض الذي يطالب به المتضرر (2) ، بينما اشتمل القضاء الشرعي في الإسلام قاعدة عامة بالتعويض عن الضرر يحفظها جميع المسلمين وهي نص حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – (( لا ضرر ولا ضرار )) (3) ، وقد فسرت هذه القاعدة بأن مفهوم الضرر هو إلحاق المفسدة بالغير مطلقًا ، والضرار هو إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة له ، بمعنى أنه : لا مقاصة في الخطأ (4) .
__________
(1) أثر أحكام الشريعة الإسلامية في التشريعات الغربية ، د . صبري حمد خاطر ، مجلة دراسات قانونية ، العدد ( 1 ) السنة ( 2 ) بيت الحكمة / 2000 : 54 .
(2) BART ( V ) Op . Cit , p . 418 .
(3) رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده برقم : ( 2867 ) : 1 / 313 .
(4) أنظر : الفعل الضار والضمان فيه : 22 .(34/25)
وحين درس الغرب جهود العلماء المسلمين الفقهية لقضايا أمتهم ومعالجاتهم الشرعية وحلولهم الإجتهادية وقفوا منبهرين لعلم هؤلاء الأعلام فمن بين الشخصيات التي تأثروا بها شخصية محمد بن الحسن الشيباني خريج مدرسة الرأي العراقية وتلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان – رحمه الله - .
فقد أسس الغربيون معهدًا باسم ( معهد محمد بن حسن الشيباني المتخصص في العلاقات الدولية العامة ) في فرنسا ، وعدوه مؤسس القانون الدولي فعرفوا قدره من خلال سيرته وما تمّ تدوينه في كتاب ( السير الكبير ) للشيباني ، وهو من أوائل المراجع في كتب السياسة الشرعية وقواعدها العامة الضابطة (1) .
ولقد وصل تأثير المصطلح في القضاء الشرعي إلى التشريعات العربية الحديثة فإن معدل 60 % من قوانين العالم الإسلامي مصطلحاتها وموادها القانونية مستمدة من الشريعة الإسلامية ؛ لأن الشريعة الإسلامية الغراء كانت القانون الوحيد في جميع التنظيمات الحياتية لأمتنا منذ عهد الدولة الإسلامية في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإلى بدء احتلال الدول الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي وتحديدًا حتى سنة 1336 هـ الموافق 1918 م .
وخير دليل على ذلك احتفاظ كثير من الدول الإسلامية بقوانين الأحوال الشخصية بنصوص الشريعة الإسلامية وتقيدها بمذاهب الفقه الإسلامي المتنوعة والمتعددة ، وخير شاهد على ذلك سجلات المحاكم الشرعية المحفوظة في القدس وبغداد ودمشق واستانبول وغيرها .
__________
(1) أنظر : الفقه السياسي الإسلامي : 48 – 49 .(34/26)
وخلال هذه الفترة حافظ القضاء الشرعي على مصطلحاته وحرص عليها ، وليس في ذلك ثمة جمود وتحجر يتسم به القضاء الشرعي في الإسلام ؛ بل على العكس فهو حريص على المحافظة على لغة النصوص الشرعية والمحافظة على هوية الأمة ، ولذلك رأينا في القضاء الشرعي من أفاد من القوانين الأخرى بعد التأكد من عدم مخالفتها للإسلام ، فقد وافق القضاة المسلمون على قانون الجزاء العثماني سنة 1275 هـ / 1857 م ، وأدخلوا قانون الحقوق والتجارة عام 1276 هـ / 1858 م ، ثم في 1288 هـ / 1870 م جعلت المحاكم على قسمين : محاكم شرعية ومحاكم نظامية ، ووضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية في 1296 هـ / 1878 م .
فهذه القوانين استعملت كأحكام أجازها الإسلام ، وأخذت الفتوى الشرعية للعمل بها ، وكانت دقيقة في صياغتها ، والإصطلاح الشرعي ما زال قائم فيها (1) .
ولهذا يجب على المسلمين في هذا العصر أن يعتزوا بهذا التأريخ المجيد لأمتهم ، وأن يحافظوا على تراثهم الخالد الذي ورثه لهم أجدادهم ، وأن لا ينساقوا وراء كل مطبّل ومزمّر يريد سلخ المسلمين من تأريخهم ، وتجريدهم من ماضيهم ، فإنه لحري بنا اليوم أن نقرأ تلك الحوادث الخالدت وكيف وقف الغرب والشرق وهو منحي الرأس أمام الحضارة العربية الإسلامية .
ومع هذا كله نجد اليوم من ينادي بالإنفتاح على عالم الغرب كليًا ، وكسب ما عندهم جذريًا ، وكأننا لا نملك ثروة الماضين وعقول المعاصرين وهمة العاملين ، وكأننا حفاة عراة من كل علم وفقه ومبدأ ودين ، وهؤلاء ( المستغربون ) قياسًا على ( المستشرقين ) الذين نادوا وينادون بعصرنة الإسلام لتواكب العصر الراهن ، ولذلك مزجوا بين المصطلحات والمفاهيم ، وخلطوا بعضها بالآخر ، إما قصدًا لإضفاء صبغة دينية على المصطلح الغربي ومفهومه وأفكاره ، وإما جهلًا لعدم تمييزهم بين الحضارة والمدنية ، وما يؤخذ وما لا يؤخذ .
__________
(1) أنظر : نظام الإسلام : 44 – 45 .(34/27)
وقد صدق النبي الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم – حين قال : (( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان )) (1)
المطلب الثاني
الدلالة اللغوية للقضاء الشرعي
العربية لسان الإسلام ، ولغة قرآنه وسنّته ، ودعوة ثقافته وحضارته ، وقوانين دستوره وأنظمته ، وقد أحسن من قال :
هي العروبة لفظ إن نطقت به فالشرق والضاد والإسلام معناه
وتأتي أهمية أثر الدلالة النحوية للقضاء الشرعي من خلال صياغة الألفاظ والاهتمام بسلامتها لغويًا حتى تؤدي معناها الصحيح فمن المعلوم أن الحركة الإعرابية تعطي أكثر من دلالة في الكلام ، ولذلك نبّه النبي - صلى الله عليه وسلم – إلى خطورة اللحن في الكلام في ميدان القضاء وأثر ذلك في الحكم وما يترتب عليه فقال : (( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار )) (2) .
التصريح والكناية في الإقرار :
أفرد الفقهاء بابًا للإقرار لأهميته ، فقرروا أنه لا يصح أن يكتفي القاضي بإقرار المدعى عليه ؛ بل لا بد أن يتثبت من الإقرار ليعرف هل المقر أقرّ وهو يدرك أن ما أقرّ به هو المدعى ؟ أو هو الذي وجبت فيه العقوبة ؟ فلا بد أن يسأله عما أقر به ، وأن يوغل في السؤال ، وهذا الجهد يتطلب الدقة في تحديد الألفاظ والتمييز بين الكلمات ودلالاتها المعهودة .
__________
(1) رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده برقم : ( 143 ) : 1 / 22 .
(2) صحيح البخاري : برقم : ( 6566 ) : 6 / 2555 .، صحيح مسلم : برقم : ( 1713 ) : 3 / 1733 .(34/28)
وهذا هو من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في القضاء كما جاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال : (( جاء الأسلمي إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات ، كل ذلك يعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبل في الخامسة فقال أنكتها ؟ قال : نعم ، قال :حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم ، قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ؟ قال : نعم ، قال : هل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم ، أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني ، فأمر به فرجم .... الحديث )) (1) .
فالواجب في القضاء الشرعي في مثل هذه المسائل أن يستفسر القاضي المقر عما أقر حتى يسأله بصراحة لا يكني في الأمور التي لا يستحسن ذكرها (2) .
الماضي والمستقبل في الحلف :
المراد من اليمين أن يكون على نية الماضي لا على المستقبل ، فالحلف على المستقبل الذي لا يصح فيه الكفارة لا يدخل في البينات ؛ بل الذي يدخل في البينات هو الأيمان على الماضي وهي ما تسمى بـ( اليمين الغموس ) .
فيجب التنبيه في القضاء أن اليمين حين يطلبها الحاكم أو القاضي من المدعي أو من المدعى عليه إنما هي على نية المحلِف لا على نية المحلَف ، فهي على نية القاضي فلا تدخل فيها التورية ولا تصح ، ولذلك عقد الإمام مسلم في صحيحه بابًا باسم : ( باب يمين الحالف على نية المستحلف ) وجاء فيه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اليمين على نية المستحلف )) (3) ، فمن هذا يتبين أن اليمين في القضاء على نية المحلِف لا على نية الحالف (4) .
الشهادة بصيغة المضارع :
__________
(1) سنن أبي داود : برقم : ( 4428 ) : 2 / 553.
(2) أنظر : أحكام البينات : 11 .
(3) صحيح مسلم : برقم : ( 1653 ) : 3 / 1274 .
(4) أنظر : أحكام البينات : 12 .(34/29)
الشهادة في القضاء لا بدّ أن تكون بلفظ : ( أشهدُ ) بصيغة المضارع ، فإذا لم يقل الشاهد ( أشهدُ ) ؛ بل قال : ( أعرفُ ) أو ( أخبرُ ) وما شاكل ذلك فإنه لا يكون قد أدى الشهادة ؛ لأنها لا تكون حينئذٍ شهادة ؛ لأن النصوص ناطقة بلفظ الشهادة فلا يقوم غيره مقامه .
وأما اشتراط لفظ المضارع فلكي يفيد أنه يشهد للحال ، إذ لو قال : ( شهدت ُ ) لا يجوز ؛ لاحتمال الإخبار عما مضى فلا يكون شاهدًا للحال ، غير إنه لو شهد بغير لفظ الشهادة وسأله القاضي : ( أتشهدُ هكذا ؟ ) وأجاب بقوله : ( نعم هكذا أشهدُ ) يكون قد أدى الشهادة (1) .
مفهوم العدد في أنصبة القضاء :
المقادير في الشرع هي لون من ألوان العدل إما لمنع الزيادة والنقصان في الحكم مثل قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } (2) ، وإما لمنع النقصان دون الزيادة مثل قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )) (3) ، وإما لمنع الزيادة دون النقصان مثل قول الفقهاء : ( أكثر مدة الحيض أكثر مدة الحيض فهو خمسة عشر يوما مع لياليها ) (4) ، فالعدد في القضاء الشرعي له دلالته وعباراته ومفهومه .
المبحث الرابع
تطبيقات على المصطلح في القضاء الشرعي المعاصر
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : نماذج من مصطلحات القضاء الشرعي في الإسلام
المطلب الثاني : نماذج من مصطلحات القضاء الشرعي المعاصر
المطلب الأول
نماذج من مصطلحات القضاء الشرعي في الإسلام
أولًا : من القرآن الكريم
قوله – تعالى - : { والله يعلم المفسد من المصلح } (5) .
قوله - تعالى - : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } (6) .
__________
(1) أنظر : المصدر نفسه : 17 .
(2) سورة النور : 24 / 2 .
(3) سنن أبي داو\د : برقم : ( 63 ) : 1 / 64 .
(4) أنظر : الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 105 .
(5) سورة البقرة : 2/ 220.
(6) سورة البقرة : 2/ 282.(34/30)
قوله – تعالى - : { والصلح خير } (1) .
قوله – تعالى - : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } (2) .
ثانيًا : من السنة النبوية
قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( فأعطِ كلَ ذي حقّ حقّه )) (3) .
قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر )) (4) .
قوله – صلى الله عليه وسلم - : (( الخراج بالضمان )) (5) .
ثالثًا : من آثار الصحابة
قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : { مقاطع الحقوق عند الشروط } (6) .
قول عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما - : { كل شيء في القرآن أوْ أوْ فهو مخيّر ، وكل شيء فإن لم تجدوا فهو الأول فالأول } (7) .
رابعًا : من أقوال الفقهاء
قول الأمام أحمد بن حنبل – رحمه الله - : ( كل ما جاز فيه البيع ، تجوز فيه الهبة والصدقة والرهن ) (8) .
خامسًا : من القواعد العامة في القضاء الشرعي
المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (9) .
إعمال الكلام أولى من إهماله (10) .
__________
(1) سورة النساء : 4 / 128.
(2) سورة المائدة : 5 / 1.
(3) رواه البخاري : برقم : ( 1832 ) .
(4) رواه مسلم ، وانظر شرحه عند النووي : 12 / 3 .
(5) رواه ابن ماجه : برقم : ( 2243 ) ، وأبو داود : ( 3502 ) .
(6) فتح الباري : 5 / 322 .
(7) مصنف عبد الرزاق : 4 / 395 .
(8) مسائل الإمام أحمد ، لأبي داود السجستاني ، تقديم السيد رشيد رضا : 203 .
(9) مجلة الأحكام العدلية : المادة : ( 43 ) .
(10) مجلة الأحكام العدلية : المادة : ( 60 ) .(34/31)
فهذه النماذج وغيرها مما تضعه المصادر بين أيدينا لحري بالقضاء الشرعي أن يجمعها وأن يضعها نصب عينيه حتى ينضبط المصطلح من خلال مصادره الموثوقة ومراجعة المامونة على مستوى اللغة والفكر والعقيدة وغيرها كالناظر في كتاب الله – تعالى - ، والمتتبع لسنّة رسوله – صلى الله عليه وسلم - ، والباحث في أقوال الأئمة والفقهاء وآرائهم وما أكثرها في مظانها ، فالقضاء الشرعي المعاصر به حاجة على أن يبعث الهمم للاستنباط واستخراج المسائل وجمعها من جهة ، ويدفع المسلمين جميعًا إلى الاستنارة منها والاستناد إليها من جهة أخرى ، وذلك في جميع المجالات وعلى مختلف المستويات .
سادسًا : من التعاريف الخاصة بألفاظ القضاء الشرعي
البيّنة : هي كل ما يبين الدعوى ، وهي حجة المدعي على دعواه (1) ، فلا تكون بينة إلا إذا كانت قطعية يقينية .
الشهود : ورد لفظ الشهود في النصوص الشرعية كلفظ مجمل مثل لفظ الزكاة والصلاة وغيرها وقد وضحت النصوص وبينت حال الشهود ونوعيتهم في كل قضية ، فقد يكون الشهود رجلين ، أو رجل وامرأتين ، أو أربع نسوة ، أو شاهد واحد ويمين ، فهذا التفصيل يعد بيانًا للشهود .
المطلب الثاني
نماذج من مصطلحات القضاء الشرعي المعاصر
أولًا : المصطلحات السياسية في القضاء الشرعي المعاصر
لم تغب في التشريع الإسلامي مصطلحات سياسية يمكن أن يفيد منها القضاء الشرعي المعاصر في تعامله مع كافة شؤون الحياة ، ومن ذلك مسائل الحكم وأنواعه وأنظمته وأشكاله ، فالإسلام له نظامه السياسي المستقل بمنهجه وألفاظه ومصطلحاته ودلالاته ومفاهيمه فهي يسعى لتحقيق مبدأ الشورى والعدل والتنظيم الإداري ورعاية شؤون الناس من جميع الجوانب ومفردات هذه المبادىء السامية مبثوثة في مصادر ومراجع السياسة الشرعية أو الفقه السياسي الإسلامي .
__________
(1) أنظر : أحكام اليينات : 5 .(34/32)
ومن جانب آخر فقد تطرق الإسلام إلى نبذ مظاهر الاستبداد والظلم وما شاكله من عيوب السياسة وشوائبها ، فقد استعمل مصطلحات لها وجود في المعالجة الغربية لقضايا السياسة ونشر الحريات المزعومة والديموقراطيات المكذوبة ، فرفض الإسلام حكم الفرد المستبد وأمر المسلمين بخلعه وإزالته كائنًا من كان ، وهذا ما اصطلح عليه الغرب بـ( Autocracy , Monocracy ) ، ولم يرض الدين الإسلامي الحنيف طاغوت الأفراد أو حكم العصبة الطاغية أو الأغلبية الظالمة وهو ما يعرف في بروتوكولات السياسة بـ( Tyranny ) ، ولم يسمح التشريع الربانيّ المحكم بحكر السلطة لرجال الدين ( Theocracy ) كما هو معهود في الكنيسة في الفترات الماضية ، ولم يشأ الباري أن يولي هذا الأمر لفئة محددة كالمترفين والإقطاعيين مثلًا وهم ما يصطلحون عليهم بـ(, Piutocracy Autocracy ) (1) .
وها هي بعض المصطلحات الشائعة المعاصرة سأكتفي بالتعريف ببعضها كنماذج لمصطلحات المرحلة التي نعيشها ، والتي نسعى إلى تهذيبها ومعالجتها .
الإرهاب :
أحصى الأستاذ محي الدين عطية في قائمة وراقيّة مئة دراسة وبحث عن مفهوم الإرهاب وما يتصل به ، وقال : (( إننا في زمن اختلطت فيه المصطلحات ، مما يكون من الضروري القصوى تحديد كلّ من هذه المصطلحات تحديدًا علميًا دقيقًا ، ومن هذه المصطلحات مصطلح : { الإرهاب } )) (2) .
__________
(1) أنظر : المصطلحات السياسية : 16 – 17 .
(2) مجلة ( إسلامية المعرفة ) العدد : ( 18 ) : 163 .(34/33)
ويتعارض هذا المصطلح في القضاء الشرعي لأنه غير مستقر وغير واضح الدلالة فهو بمفهوم دولة ما يعني كذا ، وهو بمفهوم طائفة ما يعني غير ذلك وهكذا ، والشريعة الإسلامية المنصوصة والقضاء الشرعي المعاصر ليس فيهما جريمة محددة تسمى بـ( الأرهاب ) ، وإنما فيهما أحكام عامة يؤثم فعلها أو ارتكاب جرمها تحت مسميات مثل : ( الحرابة ، الغصب ، الإكراه ، السرقة ، القتل ، الترويع ..الخ ) ، ولا يمكن في مصطلحاتنا أن يكون مصطلح ( الإرهاب ) أحادي الجانب ، بمعنى أن هذا الفعل يتهم به أناس دون آخرين ، وفي الوقت نفسه لا يجوز أن تتحكم في المصطلحات المصالح والمتغيرات ، فإذن هذا المصطلح الطارىء لا يمكن استساغته في القضاء الشرعي لأنه غير محدد بعد حتى على مستوى السياسة فالخلاف ما زال قائم في تحديد هذا المفهوم (1) .
ومن هنا لم تصطلح العلوم الشرعية أو القانونية أو السياسية إلى يومنا هذا على مصطلح الإرهاب ، ويكتنف هذا المصطلح ألوان من الغموض والازدواجية واختلاف المعيار به وتنوع أحوله وأشكاله من إرهاب الأفراد إلى إرهاب الدول وغيره (2) .
أما القضاء الشرعي إجمالًا فهو يرفض كل إخلال بمقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية الخمسة المعروفة وأحكام العقوبات بحق تلك الأعمال معروفة وموجودة في مظانها .
المعارضة :
__________
(1) أنظر : الإرهاب الدولي في ضوء أحكام القانون الدولي والاتفاقات وقرارات الأمم المتحدة : 202 .
(2) أنظر : الإرهاب : 25 .(34/34)
المعارضة هي : اختلاف في المفاهيم ينتج عنها اختلاف في السلوك ، أو عي رأي الأقلية المخالف لرأي الأكثرية (1) ، وقد مكّن الغرب هذا المفهوم في بلاد المسلمين ، ومكّنت المعارضين من السلطة الحاكمة ، وحرصت على دعمهم ، وأضفوا الشرعية على وجودهم ، فعملوا على إنشاء أحزاب المعارضة ضمن الدساتير والقوانين الوضعية .
وهذا المصطلح ومفهومه العام ليس له أصل في القضاء الشرعي ، فنظام الحكم في الإسلام يعارض المعارضة ، بيد أن الإسلام يقر مبدأ المحاسبة أو الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا المفهوم فرض من الله على المسلمين في كل زمان ومكان ، والأدلة الشرعية على ذلك كثيرة ، وهذا الموضوع مفتوح على مستوى الأفراد والجماعات والأمة على حد سواء .
فمتى رأى الناس أو أحدهم أو بعضهم الخلل في أداء الحاكم وجب نصه ووعظه وتذكيره والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم غير معصومين عن الخطأ والزلل والتقصير .
وبهذا المفهوم وهذا المصطلح سنحافظ على أبناء المسلمين من رميهم في أحضان الكفر ومناهجه بقصد التغيير والإصلاح ، وستعالج الأمة قضاياها من الداخل دون تدخل الأجنبي .
ثانيًا : المصطلحات الفكرية في القضاء الشرعي المعاصر
أثر الحاجات الضرورية التي كانت تظهر تباعاً بصورة تدريجية دون أن يكون لها حكم شرعي في القرآن أو في السنة ، تطور المصطلح الإسلامي بما في ذلك النطاق الفكري ، ولم يكن هذا التطور في مجال الحالات التي لم يجد الفقهاء حكماً لها في المصدرين الرئيسيين فقط ، ففي ذروة تطور الفكر الإسلامي وعلى ضوء المستجدات الحياتية الجديدة وجد التنوع الفقهي في فهم النصوص المقدسة في القرآن وفي السنة ، وذلك انطلاقاً من التعامل مع النص المقدس كمعطى لغوي لا يخلق على كثرة الرد .
__________
(1) أنظر : مصطلحات الحكم الجبري ، موسى عبد الشكور ، مجلة الوعي ، العدد : 216 ، السنة : 19 ، 1424هـ - 2005 م .(34/35)
لقد أوجدت هذه المستجدات تنوعاً في الفتاوى المتعلقة بالحالة أو القضية الواحدة ، وتتابع الأمر إلى التنوع في أحكام القضاء ، وخاصةً بعد ظهور المدارس الفقهية والمجالس القضائية .
وفي ظل هذا التنوع الفقهي من جهة وتبلور الحياة الإسلامية وحاجاتها كدولة ، وجدت الحاجة لتقنين الأحكام الشرعية لكي يتقيد القضاء الإسلامي بأحكام مقننة معينة لكي يعلم الناس سلفاً ما تخضع له معاملاتهم وعقودهم من الأحكام ، فيكونوا على بصيرة من صحتها وفسادها .
ومن بين المصطلحات الفكرية التي ينبغي تحليلها قبل استعمالها في القضاء الشرعي المعاصر ما يأتي :-
العلمانية :
التي هي نقيض الدين ، وهي بمفهوم آخر : ( اللادينية ) ، وهي مصطلح يعمل على إلغاء دور الدين في مختلف الأصعدة ومنها القضاء والتشريع .
ولعلاقة العلمانية ونفوذها إلى القضاء الشرعي كمصطلح عصري يمكن التعبير عنها بأنها : (( جملة من التدابير النظامية والقانونية ، جاءت وليدة الصراع الطويل والشديد بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوربا ، واستهدفت فك الاشتباك بينهما ، واعتماد فكرة الفصل بين الدين والدولة بما يضمن حياد هذه تجاه الدين ، أي دين ، ويضمن حرية الرأي الفكري والعقيدة الدينية ، ويمنع رجال الدين عن إعطاء آرائهم واجتهاداتهم صفة مقدسة باسم الدين ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة )) (1) .
وهذا المصطلح ينبغي أن لا يكون له وجود في مصطلحات القضاء الشرعي ، لأنه لا يعترف بسيطرة الدين على الناس ومن ثم احتكامهم إليه في حياتهم كلها .
حقوق الإنسان :
ألّف الكثير من الباحثين المعاصرين عن حقوق الإنسان في الإسلام ، وحاولوا ربط تلك الحقوق بأدلة شرعية محاكاة منهم للمفاهيم الغربية المطروحة عن دعم مثل هذا الموضوع .
__________
(1) العلمانية والدولة الدينية : 18 .(34/36)
وهذا المصطلح به حاجة للتعديل والإضافة ، فالأجدر أن يقال عنه : ( الحقوق الشرعية للإنسان ) وهذا ما لا يسع القضاء الشرعي جهله ؛ لأن ليس للإنسان حق أن يضع نظام حياته وعلاقاته بنفسه لأنه مخلوق ، وخالقه –وهو الله تعالى – قد تكفّل بنظام الحياة الكلي بما فيه الكون والإنسان وبين له حقوقه وواجباته وما له وما عليه فينبغي التقيد بذلك ؛ لأنه سبحانه هو الخبير بعباده قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } (1)
ثالثًا : المصطلحات القانونية في القضاء الشرعي المعاصر
المساواة :
هي شعار يطلق عام ومفهوم مضلل ومصطلح فاسد ، وهو مستورد من العالم الغربي خصيصًا لمحاربة أحكام الإسلام عمومًا وقضايا المرأة خصوصًا .
فلا يوجد شيء في الإسلام اسمه ( مساواة ) ، ولم يستخدم هذا اللفظ في كتب الفقه الإسلامي ، ولم يتحدث به القضاء الشرعي يوماً ما ، ولا يمكن أن توجد المساواة بين الناس في هذه الحياة ؛ لأن هذا الأمر من حكمة الله – تعالى – ولذلك خلقهم ، فهم متفاوتون في الرزق والعلم والدرجات وغيرها .
وأما ما تطبقه الدولة أو يحكم به القضاء بين الناس فهو من باب العدل النسبي وليس العدل المطلق ، وهذا ما يجب تغييره كمصطلح في القضاء الشرعي المعاصر .
وبالتالي ينتفي مصطلح ومفهوم المساواة بين الرجل والمرأة من باب أولى ، لأن العلاقة بين الرجل والمرأة في الإسلام يحكمها نظام اجتماعي جاء به الوحي من عند الله – تعالى – وقضى به نبي الرحمة محمد – صلى الله عليه وسلم – والقضاء الشرعي له أحكام تعالج تصرفات كل من الرجل والمرأة على ضوء الحقوق والواجبات والمخالفات التي تصدر كل منهما .
الزواج المدني :
__________
(1) سورة الملك : 67 / 14 .(34/37)
يستخدم بعضهم مصطلح ( الزواج المدني ) بدلًا من مصطلح ( الزواج الشرعي ) ؛ لأن الأول فيه تحرر عن قيود الشرع الإسلامي الحنيف ، فالزواج المدني يقوم على عدة أمور منها : منع تعدد الزوجات التي أباحها الله بعدد مقيد وأسباب محددة ، وأباح الزواج المدني أن يتزوج الكافر من المسلمة ، وأباح التبني ، وأباح التوارث بين المسلمين والكفار ، ومنع الطلاق بالتراضي ، وفي هذا كله تفكك في النظام الإجتماعي في الإسلام ، وحرب على التشريع الإسلامي مما يؤدي بالتالي إلى إقامة العلاقات غير الشرعية بين الرجال والنساء وفساد الأمور وضياع النسل وهتك الحرمات .
وقد دافع الغرب والشرق بكل ما يستطيع عن هذا القانون الوضعي المنحل ؛ ولكنه أقر في مؤتمر الأسرة في بكين ، ومؤتمر السكان في القاهرة ، واجتماعات الأمم المتحدة وغيرها .
رابعًا: المصطلحات القضائية في القضاء الشرعي المعاصر
إن اختلاف النظرة إلى الأمور وفهم الوقائع والمعطيات على ضوء الموقف الذي يجب أن يتخذ حيال تلك الأمور يحتم الاستقلالية في المفاهيم والمصطلحات ، فالقضاء الشرعي يتميز بنظرته الكلية عن الأشياء والكون والحياة ، ووجهة نظره إلى المسائل هي نظرة مخالفة لكل نظرات المناهج والأفكار والدساتير والقوانين ، ومن هنا فإن قدرات القضاء الشرعي في المصطلح لا تقبل الاشتراك اللفظي دون المعنوي على مسميات الأشياء وما تعارف عليه القضاة في مجالس حكمهم العامرة بالالتزام بالشريعة الإسلامية حرفيًا .
ومن بين المصطلحات القضائية الشائعة في القضاء الشرعي المعاصر التي تحتاج إلى وقفة تهذيب ومراجعة منها :
الأحوال الشخصية(34/38)
تناولت الشريعة الإسلامية مواضيع الأحوال الشخصية ( الزواج والطلاق والتفريق والولاية والوصاية والإرث .. الخ ) في أحكام عامة مبثوثة أساساً في القرآن ، بالدرجة الأولى ، الذي يعتبر المصدر الأول والأساسي من مصادر الفقه ، والجدير بالذكر أن الآيات القرآنية المتعلقة بالأحوال الشخصية والتي تأتي ضمن نطاق آيات الأحكام تصل إلى نحو ( 70 ) آية، من أصل ستة آلاف آية تقريبًا في القرآن عموماً (1) ، وتليه بالدرجة الثانية السنة النبوية أي ما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم - من قول و فعل و تقرير ، ففي عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - كانت سلطة التشريع والقضاء والفتيا في كل ما كان يواجه المسلمين من قضايا يومية وحياتية تتعلق بالمنازعات المتعلقة بالحقوق فيما بينهم ، بما في ذلك قضايا الأحوال الشخصية ، بيد النبي نفسه لكونه المرجع في ذلك .
القانون المدني :
يصطلح بعضهم على تسمية بعض المفردات القانونية بـ( المدني ) فما هو المدني وما هي علاقته بالدين ؟
فالزواج في الإسلام عقد مدني كسائر العقود ، وينعقد باتفاق الإرادتين وحضور شاهدين دون أن يكون لرجل الدين أو المرجع الديني دور في ذلك ، فالإسلام رفض وجود سلطة لرجال الدين ، فلا حاجة للوساطة بين الإنسان وربه .
وهذا الطابع المدني متوفر في كل العقود وفي كافة أحكام المعاملات ، وتعتمد مسألة القضاء والفصل في المنازعات الناشئة عن هذه الحقوق والعقود على الظاهر والقرائن ، أما الجانب الديني في مثل هذه العقود والمعاملات والحقوق الناشئة عنها، فيتعلق بفكرة الحلال والحرام الناشئة في البيئة الإسلامية الأولى ليكون رقيباً باطنياً ونفسياً ، ولتراقب تصرفات الإنسان.
__________
(1) أنظر : الوجيز في أصول الفقه : 156 .(34/39)
ففصلت الشريعة الإسلامية بصورة عملية الجانب الدنيوي المدني عن الجانب الديني ، ونظمت أمور المجتمع على أساس الجانب الدنيوي المتجسد بالأفعال والعقود وكيفية إثباتها حسب المعطيات القضائية ، ونجد في التطبيقات التاريخية للمجتمعات الإسلامية الفصل الواضح بين حكم القضاء الذي يعتمد على الاعتبارات القضائية القرائنية وبين حكم الدين الذي يعتمد على الاعتبارات الاعتقادية والأخلاقية ضمن التشكيلة الاجتماعية السائدة ، وعليه قد يكون هناك خلاف بين حكم القضاء الذي يحاكم العمل أو الحق حسب الظاهر، وبين حكم الدين الذي يحكم على أساس ما في النفوس والدواخل ، وعلى أساس الاعتبارات الدينية ، فلو عجز الدائن عن إثبات دين حقيقي جحده المدين أمام القضاء ، لا يستطيع أخذ حقه عنوة ولا يحكم القضاء لصالحه لأنه فشل في إثبات حقه ، في حين يقر له الاعتبار الديني أن يأخذ منه قدر حقه دون إذن المدين أو دون علمه ، ولو وصل مثل هذا الأمر للقضاء لا يقر للدائن فعلته، بل وسيحاسبه.
وارتباطاً بفكرة التميز بين الجانب المدني والجانب الديني ، نجد أن السلطة الإسلامية وفي العصور المتأخرة ميزت بين وظيفة القاضي الذي يعتمد على الاعتبار القضائي للأعمال والأحكام ، وبين وظيفة المفتي الذي يعتمد الاعتبار الديني .
وهذا هو الفرق بين القضاء والإفتاء : فالقضاء : هو بيان الحكم الشرعي مع الإلزام به ، أما الإفتاء : فهو بيان الحكم الشرعي دون الإلزام به (1) .
خامسًا : المصطلحات الاقتصادية في القضاء الشرعي المعاصر
اهتم التشريع الإسلامي برعاية شؤون الأمة من جميع جوانبها ، ومن ذلك إدارة الأموال والتصرف بها وإنفاقها وأنواعها وكيفية تحصيلها وبيان أحكامها على مستوى العام والخاص .
__________
(1) أنظر : الموسوعة الفقهية : 33 / 283 .(34/40)
فكما ضبطت الأموال في الإسلام فقد ضبطت ألفاظها ، وحدد مصطلحاتها ، وبينت أنواعها ، وخصص جانب كبير من الفقه للمعاملات ، له ألفاظه ومصطلحاته وأحواله ؛ كي يتمكن القضاء الشرعي وغيره حل المنازعات التي تنجم عن الخلاف فيه ورفع الدعوى بشأنه .
لذلك لا بدّ من الاحتفاظ بحقوق الإصطلاح للتشريع الإسلامي الحكيم ، وإدخال المصطلحات الأخرى إلى تمحيص ودراسة اصطلاحية ولغوية قبل استعمالها في ميدان الشرع ومن ذلك ما يأتي :-
الخصخصة :
هي تحويل المؤسسات الصناعية والمنشئات العامة من ملكية الدولة أو الملكية العامة إلة ملكية الأفراد أو الملكية الخاصة وتحجيم دور الدولة الاقتصادي .
وهذا من المصطلحات الغربية التي لا يستسيغها القضاء الشرعي في أحكامه الاقتصادية العامة ؛ لأن النظام الاقتصادي في الإسلام قد حدد الملكيات وأنواعها ، وجعل لكل منها أحكامًا ، بل وشرّع أمورًا للحفاظ عليها ، فلا يحق للدولة أن تتصرف بالأموال العامة كيفما اتفق إلا من خلال الأحكام الشرعية ؛ لأنها أمانة في عنقها ، وحرّم الإسلام تحويل الملكية العامة إلى ملكية خاصة – بحسب ما يدل عليه مفهوم الخصخصة المعاصر - ، اللهم إلا ما تمنحه الدولة للأفراد من ملكيتها ، أو تبيعهم ما تشاء منها بشرط أن يكون ذلك على وفق المصلحة الشرعية ، وقانون الأموال في الإسلام لا يجيز للدولة أن تعطي الأفراد من رعاياها – ومن غير رعاياها من باب أولى - الماء والبترول والملح والساحات العامة لا يجوز إعطائها لأحد ؛ ولكن في الوقت نفسه تجيز استخدامه واستعماله والإفادة منه من قبلهم لمصالح الدولة العامة وتلبية حاجاتها من ذلك .
الرفاهية الاقتصادية :
قد يقع بعضهم ضحية التشابه اللفظي بين مفهوم في الاقتصاد الحديث ومفهوم في الاقتصاد الإسلامي فيصدر عنه أحكام تأسيسية بناء على هذا التشابه الذي لا يتعدى اللفظ .(34/41)
فمن ذلك الاعتقاد السائد بأن ( الرفاهية الإقتصادية ) أو ما يعبر عنه بـ( الرخاء المادي ) هو مفهوم مرادف لـ( حد الكفاية ) مع إن كلا المفهومين مختلفان من حيث الموضوع بالكلية ، وهكذا تتشابه مفردات كثيرة يتناولها القضاء الشرعي المعاصر مثل ( الاحتكار ) و ( الحاجة ) وغيرهما (1) .
الخاتمة
…إن فهم المصطلحات والمفاهيم ومعرفة مدلولاتها والتمييز بينها وغيرها يتطلب معلومات خاصة توضح ذلك ، فلمعرفة المصطلحات لا بد من معارف لغوية تمكن من فهم هذه المصطلحات والتمييز بينها وهذا يتطلب معارف أخرى مثل المعرفة الشرعية والعلمية والثقافية والاجتماعية ، والناس متفاوتون في ذلك ، وفي إمكانية الحصول عليها ، وكذلك متفاوتون بالذكاء والقدرة على إدراك الأمور تبعًا لما أنعم الله على الإنسان من عقل وقابلية تفكير .
وقد جاء الإسلام بمفاهيم ومصطلحات لتحديد هوية المسلم في كل شؤونه ومن ذلك القضاء ، فيجب الالتزام بذلك والرضى بها وعدم الرضى بغيرها ، لاسيما ونحن في أزمة ثقافة ومعركة هوية .
وستقتصر الخاتمة في هذا البحث على المبادىء الأساسية في منهجية وضع واختيار المصطلحات في القضاء الشرعي المعاصر على ضوء ما أقر في ندوة توحيد منهجيات وضع المصطلحات العلمية الجديدة (2) .
ضرورة وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلول المصطلح اللغوي ومدلوله الإصطلاحي .
وضع مصطلح واحد للمفهوم القضائي الواحد ، ذي المضمون الواحد .
تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد ، وتفضيل اللفظ المختص على اللفظ المشترك .
استقراء وإحياء التراث العربي ، ولاسيما ما استعمل منه أو ما استقر منه من مصطلحات عربية وإسلامية صالحة للاستعمال الحديث ، وكذا ما ورد فيه من ألفاظ معربة .
مسايرة المنهج الدولي في اختيار المصطلحات العلمية :
__________
(1) أنظر : الدولة ووظيفتها الاقتصادية : 10 .
(2) أنظر : اللغة وبناء الذات : 126 .(34/42)
أ – مراعاة التقريب بين المصطلحات الإسلامية وغيرها لتسهيل المقابلة بينهما للمشتغلين بالعلم ودارسيه من خلال الترجمة .
ب - اعتماد التصنيف العشري الدولي لتصنيف المصطلحات حسب حقولها وفروعها .
ج – تقسيم المفاهيم واستكمالها وتحديدها ، وتعريفها وترتيبها .
د - اشتراك المختصين في المحاكم الشرعية في وضع المصطلحات .
هـ - مواصلة البحوث والدراسات ليتيسر الاتصال على الدوام بين واضعي المصطلحات ومستعمليها من خلال المؤتمرات والندوات .
استخدام الوسائل اللغوية في توليد المصطلحات العلمية الجديدة بالأفضلية طبقًا للترتيب التالي : التراث ، فالتوليد ( بما فيه من مجاز ، واشتقاق ، وتعريب ، ونحت ) .
تفضيل الكلمات العربية الفصيحة المتواترة على الكلمات المعربة .
تجنب الكلمات العامية إلا عند الاقتضاء ، بشرط أن تكون مشتركة بين لهجات عربية عديدة ، وأن يشار إلى عاميتها بأن توضع بين قوسين مثلًا .
تفضيل الصيغة الجزلة الواضحة ، وتجنب النافر والمحظور من الألفاظ .
تفضيل الكلمة التي تسمح بالاشتقاق على الكلمة التي لا تسمح به .
تفضيل الكلمة المفردة ؛ لأنها تساعد على تسهيل الاشتقاق ، والنسبة ، والإضافة ، والتثنية ، والجمع .
تفضيل الكلمة الدقيقة على الكلمة العامة أو المبهمة ، ومراعاة الفصل بين المصطلح العربي مع مدلول المفهوم للمصطلح الأجنبي ، دون تقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأجنبي .
في حالة المترادفات أو القريبة من الترادف ، تفضل اللفظة التي يوحي جذرها بالمفهوم الأصلي بصفة أوضح .
تفضل الكلمة الشائعة على الكلمة النادرة أو الغريبة إلا إذا التبس معنى المصطلح العلمي بالمعنى الشائع المتداول لتلك الكلمة .(34/43)
عند وجود ألفاظ مترادفة في مدلولها ، ينبغي تحديد الدلالة العلمية الدقيقة لكل واحد منها ، وانتقاء اللفظ العلمي الذي يقابلها ، ويحسن عن انتقاء مصطلحات من هذا النوع أن تجمع كل الألفاظ ذات المعاني القريبة أو المتشابهة الدلالة وتعالج كلها كمجموعة واحدة .
مراعاة ما اتفق المختصون على استعماله من مصطلحات ودلالات علمية خاصة بهم ، معربة كانت أو مترجمة .
التعريب عند الحاجة ، ولاسيما المصطلحات ذات الصيغة العالمية ، كالألفاظ ذات الأصل اليوناني أو اللاتيني أو أسماء العلماء المستعملة مصطلحات ، أو العناصر والمركبات الكيماوية .
عند تعريب الألفاظ الأجنبية يراعى ما يأتي :
أ – ترجيح ما سهل نطقه في رسم الألفاظ المعربة عند اختلاف نطقها في اللغات الأجنبية .
ب – التغيير في شكله ، حتى يصبح موافقًا للصيغة العربية ومستساغًا .
ج – اعتبار المصطلح المعرب عربيًا ، يخضع لقواعد اللغة العربية ، ويجوز فيه الاشتقاق والنحت ، وتستخدم فيه أدوات البدء والإلحاق ، مع موافقته للصيغة العربية .
د – تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية ، واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح .
هـ - ضبط المصطلحات عامة والمعرب منها خاصة بالشكل حرصًا على صحة نطقه ودقة أدائه .
المصادر والمراجع
بعد القرآن الكريم :
أولًا : الكتب المطبوعة
أحكام البينات ، أحمد الداعور ، مطابع الغندور ، بيروت ، 1385 هـ - 1965 م .
الإرهاب الدولي في ضوء أحكام القانون الدولي والاتفاقات وقرارات الأمم المتحدة ، د . أحمد محمد رفعت ، دار النهضة العربية ، بيروت – لبنان .
الإرهاب – روافده وأسبابه الفكرية - ، د . أحمد بن حسين الموجان ، سنا الفاروق للنشر ، السعودية ، ط / 1 ، 1425 هـ - 2004 م .
تاريخ التشريع الإسلامي ، للشيخ محمد الخضري بك ، مطبعة الاستقامة ، القاهرة ، ط / 5 ، 1358 هـ - 1939 م .(34/44)
تراث الإسلام : شاخت وبوزورف ، ترجمة د . حسين مؤنس و إحسان صدقي الصمد ، سلسلة عالم المعرفة ، ط / 2 ، 1988 م
الدولة ووظيفتها الاقتصادية في الفقه السياسي الإسلامي ، د . عبد اللطيف الهميم ، دار عمار ، الأردن ، ط / 1 ، 1424هـ - 2004 م .
ربانية لا رهبانية ، السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي ، دار الفتح للطباعة والنشر ، بيروت ، 1388 هـ .
سنن أبي داود ، لسليمان بن الأشعث أبي داود السجستاني الأزدي ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الفكر ، ب . ت .
سنن ابن ماجه الكتاب ، لمحمد بن يزيد أبي عبد الله القزويني ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر ، بيروت ، ب . ت .
شرح النووي على صحيح مسلم ، لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت، ط / 2 ، 1392 هـ .
صحيح البخاري ، لمحمد بن إسماعيل أبي عبد الله البخاري ، تحقيق : د. مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير ، اليمامة ، بيروت ، ط / 2 ، 1407 هـ - 1987 م .
صحيح ابن حبان ، لمحمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي ، تحقيق : شعيب الأرنؤوط ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط / 2 ، 1414هـ - 1993م .
صحيح مسلم ، لمسلم بن الحجاج أبي الحسين القشيري النيسابوري ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ب . ت .
العلمانية والدولة الدينية ، شبلي العيسمي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، العراق ، 1993 م .
العلم والعلماء ، للشيخ أبي بكر الجزائري ، دار الكتب السلفية ، القاهرة ، 1403 هـ .
فتح الباري شرح صحيح البخاري ، لأحمد بن علي بن حجر أبي الفضل العسقلاني الشافعي ، دار المعرفة ، بيروت ، 1379 هـ .
الفعل الضار والضمان فيه ، دراسة وصياغة قانونية مؤصلة على نصوص الشريعة الإسلامية وفقهها انطلاقًا من نصوص القانون المدني الأردني ، مصطفى أحمد الزرقاء ، دمشق ، 1988م .(34/45)
الفقه السياسي الإسلامي ، د . خالد سليمان حمود ، دار الأوائل ، سوريا – دمشق ، 3003 م .
الفقه على المذاهب الأربعة ، لعبد الرحمن الجزيري .
قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم ، للفقيه الحسين بن محمد الدامغاني ، تحقيق : عبد العزيز سيد الأهل ، دار العلم للملايين ، ط / 2 ، 1977 م .
لائحة الأسباب الموجبة لصدور قانون الأحوال الشخصية ، المرقم : ( 188 ) لسنة : 1959م .
مجموع الفتاوى ، لابن تيمية ، مطابع الرياض ، السعودية ، ب . ت .
المدخل الفقهي العام ، د . مصطفى الزرقاء ، ط / 1 ،دار الفكر ، بيروت ، لبنان .
المدخل للفقه الإسلامي ، عيسوي أحمد عيسوي ، مطبعة دار التأليف ، ط / 1 ، 1963 م .
مسائل الإمام أحمد ، لأبي داود السجستاني ، تقديم السيد رشيد رضا ، ط / 1 ، مصر ، ب . ت .
مسند الإمام أحمد بن حنبل ، لأحمد بن حنبل أبي عبد الله الشيباني ، مؤسسة قرطبة ، القاهرة ، ب . ت .
المصطلحات السياسية ، عبد الوهاب الكيالي ، الموسوعة العربية للدراسات والنشر ، بيروت – لبنان .
مصنف عبد الرزاق ، لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، تحقيق : حبيب الرحمن الأعظمي ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، ط / 2 ، 1403 هـ .
المعرب من الكلام الأعجمي ، لأبي منصور الجواليقي ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، ط / 1 ، 1319 هـ - 1998 م .
الموسوعة الفقهية ، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف ، الكويت ، مطبعة ذات السلاسل ، 1983 م .
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة ، الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الرياض .
نظام الإسلام ، تقي الدين النبهاني ، ط / 6 ، 1422 هـ - 2001 م .
نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار ، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ، إدارة الطباعة المنيرية ، مصر ، ب . ت .
الوجيز في أصول الفقه ، د. عبد الكريم زيدان ، بغداد ، ط / 4 ، 1390 هـ - 1970 م .(34/46)
الوجوه والنظائر في القرآن الكريم عن هارون بن موسى ، تحقيق : د. حاتم صالح الضامن ، وزارة الثقافة والإعلام ، العراق ، 1409 هـ - 1988 م .
ثانيًا: المجلات
مجلة الوعي ، العدد : 216 ، السنة : 19 ، 1424هـ - 2005 م .
مجلة ( إسلامية المعرفة ) العدد : ( 18 ) .
مجلة الأحكام العدلية ، وشرحها : لمنير القاضي .
مجلة دراسات قانونية ، العدد ( 1 ) السنة ( 2 ) بيت الحكمة / 2000 .
مجلة الثقافة الجديدة ، العدد : ( 295 ) ، تموز ـ آب 2000م .
ثالثًا: الكتب الأجنبية
DAVID (R.) LeS grants systems de droit con temporains , D, Paris , 1982 .
BART ( V ) Op . Cit(34/47)
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث بعنوان
حجية التوقيع الإلكتروني في القضاء الشرعي
مقدم إلى ندوة
القضاء الشرعي في العصر الحاضرالواقع والآمال
المحور
مستجدات في القضاء الشرعي
(وسائل الإثبات المعاصرة)
إعداد
وليد مصطفى شاويش
معهد التكنولوجيا التطبيقية / العين
بسم الله الرحمن الرحيم
…
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أما بعد.
كلنا يعلم مدى التطور التقني الكبير في عالم الشبكة العنكبوتية العالمية (الإنترنت) الذي جعل من عالمنا هذا قرية صغيرة، حيث سقطت الحدود الجغرافية والسياسية، وأصبح المرء في حجرة في بيته يتواصل مع العالم أجمع في شتى فروع المعرفة البشرية، وأدت سهولة الاتصال هذه إلى ظهور مواضيع جديدة لم تكن لتقع في ضمن بيئة الاتصال التقليدية.
لقد برزت وسائل جديدة للتعاقد عبر الشبكة العنكبوتية، وأصبح المرء من مكتبه يبرم صفقاته من على مسافات بعيدة، حيث يمكنه أن يعاين السلعة التي يرغب بشرائها بالوسائل الممكنة عبر هذه الشبكة، فبرزت الحاجة إلى التكييف القانوني لهذه التصرفات، بالإضافة إلى توفير الحماية القانونية اللازمة للمتعاملين بهذه الصفقات، لا سيما وأن توفير هذه الحماية سيؤدي بدوره إلى إنعاش هذه التجارة وتنميتها، وهو أمر ترى الدولة الحديثة أنه أمر من وظائفها الأساسية في رعاية التنمية، وتحقيق الرفاه والحياة الكريمة لمواطنيها.(35/1)
هنالك ظهر على الساحة الإلكترونية التقنيات الفنية التي تحمي هذه التعاقدات من الغش والتزوير، لضمان سلامة هذه التعاقدات من الاعتداء والتحايل، وبناء على هذه التقنيات العالية رآى القانونيون أنه لا بد أيضا من حماية هذه التعاقدات الإلكترونية بقوة القانون أيضا، واعتماد الوسائل الفنية الآمنة المستخدمة عبر الشبكة العنكبوتية وسائل إثبات مستقلة، لها القوة ذاتها التي تتمتع بها وسائل الإثبات الكتابية بالطرق التقليدية المعروفة، لذلك وجدنا أن الدول في كثير من أنحاء العالم اعترفت بالوثيقة الإلكترونية الموقعة إلكترونيا بشكل آمن كحجة في الإثبات، ومن الدول العربية التي أصدرت قوانين إلكترونية بهذا الخصوص دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والمملكة الأردنية الهاشمية، ومصر، وتونس.
إلا أن هذه القوانين الإلكترونية، وهذا الاعتراف بحجية الوثيقة الإلكترونية الموقعة إلكترونية بشكل آمن، لم يكن عاما لجميع المعاملات، فقد استثنيت معاملات الأحوال الشخصية: كالزواج، والطلاق، والوقف، والوصية، من تطبيق هذه القوانين عليها، وبما أن القضاء الشرعي في كثير من البلدان العربية يختص فقط في شؤون الأسرة من خطبة وزواج وطلاق وغيرها، أصبح خارج نطاق ميزة الاستفادة من الشبكة العنكبوتية وما تقدمه للمتعاملين بها من خدمات جليلة، نظرا للاستثناء السالف الذكر، فإذا استمر القضاء المدني والجنائي يسير في خطوات سريعة في التعامل مع مستجدات الحضارة، وبقي القضاء الشرعي على حاله، وعبر هذا التسارع الهائل في التطور التقني ستزداد الفجوة لصالح القضاء غير الشرعي، ثم بعد ذلك يُرمى قضاؤنا الشرعي بأنه على حالة من الجمود، لم تعد تسمح له بمواكبة حاجات العصر، وأنه قضاء جامد لم يفلح في أن يتناول معطيات العصر الإلكتروني بالحل والتوجيه والحماية.(35/2)
لذا؛ رأيت أن أوجه الشراع نحو دراسة هذا الاستثناء الذي منع القضاء الشرعي من التعامل بوسائل الإثبات الإلكترونية، وأن أبحث عن المبرر الذي يقف وراء هذا الاستثناء، ودراسة ما إذا كانت هناك موانع شرعية تحول دون التعامل بالوثيقة الإلكترونية الآمنة التي اعترف بها القانون نفسه أم لا، فرجعت إلى كتب الفقه الإسلامي لأرى الحالات التي تشابه الكتابة الإلكترونية، وهل يمكن أن تقاس الكتابة الإلكترونية عليها، وما العلة المشتركة بين الكتابة التقليدية على الورق وبين الكتابة الإلكترونية، وهل يمكن أن تلحق الكتابة الإلكترونية بها، وإن صح هذا القياس فهل خص فقهاء المسلمين الاحتجاج بالكتابة في أمر دون آخر؟ كل هذه الأسئلة أحاول أن أجيب عليها من خلال بحثي المتواضع، والذي أرجو أن أكون من خلاله قد قدمت خدمة لقضائنا الشرعي الأصيل.
وقد اقتطفت في هذا البحث بعض نصوص الفقهاء ذات الصلة بالموضوع علني أصل الفروع بالأصول، وحتى لا يكون قبول التوقيع الإلكتروني تقليدا محضا لما قبله القانون سواء عند المسلمين أو عند غيرهم، و للتوكيد على أن هذا الاعتماد على التوقيع الإلكتروني كحجة في التوقيع، إنما هو نابع من الفقه الإسلامي نفسه، لا أن تكون عملية البحث في حجية التوقيع واعتماده هي عملية تغيير في الواجهة والشكل الخارجي.
وقد جاء هذا البحث مرتبا على النحو التالي:
أولا: طبيعة التوقيع الإلكتروني، ويتضمن النقاط التالية:
( نبذة عن التوقيع الإلكتروني.
(صور التوقيع الإلكتروني.
(الحاجة إلى التوقيع الإلكتروني.
(آلية عمل التوقيع الإلكتروني.
(شهادة التوقيع الإلكتروني.
ثانيا: واقع تطبيق التوقيع الإلكتروني في القضاء الشرعي.
( الاستثناءات الواردة في قوانين التجارة الإلكترونية.
(أسباب استثناء المعاملات الشخصية من قوانين المعاملات الإلكترونية.
(التكييف الفقهي للتوقيع الإلكتروني.
أولا: طبيعة التوقيع الإلكتروني
(ما هو التوقيع الإلكتروني:(35/3)
…يطلق مصطلح التوقيع الإلكتروني على وسائل مختلفة فهو يشمل على تثبيت صورة التوقيع الإلكتروني الخطي الصادر من يد الموقع أو طباعة اسم المرسل في نهاية رسالة البريد الإلكتروني أو من خلال استعمال رقم سري أو شيفرة خاصة بشخص الموقع على النحو الذي اعتاد الناس استعماله في بطاقات الإئتمان وبطاقات الصرف الآلي، وفيما يلي أوضح صورا من التوقيع الإلكتروني، ولكن غلب في استعمال القانونيين إطلاق التوقيع الإلكتروني على التوقيع الرقمي، وهو نوع معين من أنواع التوقيعات الإلكترونية يتمتع بتقنيات عالية وله من الخصوصية ما ليس لغيره، وهو التوقيع المعني بالدرجة الأولى في هذا البحث، وفيما يلي أعرض هذه الأنواع .
(صور التوقيع الإلكتروني:
(التوقيع البيومتري:
…وهو التوقيع بإحدى الخواص الذاتية للإنسان، كبصمة العين والإصبع والكف، وبصمة الصوت، وغيرها حيث يتم تخزينها في ذاكرة الحاسوب، وعندما يدخل المتعامل بطاقة الصراف الآلي، تجري المقارنة بين تلك الصفة الذاتية لمستخدم البطاقة، والصفة المخزنة في ذاكرة الحاسب، ويرى القانونيون أن هذا النوع من التوقيع الإلكتروني موثوق بدرجة كبيرة، يمكن استخدامه في مجالات الصراف الآلي والإنترنت، بالرغم من وجود احتمال للتزوير، وهو أمر يمكن أن يحدث للتوقيع الخطي المعروف(1).
(التوقيع الديناميكي في البنك المباشر:
__________
(1) - برهم، نضال إسماعيل، أحكام عقود التجارة الإلكترونية(173)، عمان، دار الثقافة، ط1، 2004م، نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(32)، عمان، دار الثقافة، ط1، 2005م.(35/4)
حيث يستطيع المتعامل بواسطة البنك المباشر، أن يجري عملياته المصرفية من بيته، أو من مؤسسته بواسطة بطاقة مصرفية، توفر الحماية لعمليات هذا العميل عن طريق توليد دالة جبرية، تولد رموزا سرية بصفة احتمالية، تتغير كل دقيقة بصفة متزامنة مع منظومة المصرف، فيستطيع المتعامل عن طريق هذه الآلة إصدار أوامره بالدفع والتوقيع عليها، وحتى يستفيد المتعامل من هذه الخدمة فلا بد أن يوقع عقدا مع المصرف يعترف بموجبه بصحة توقيعه على بهذه الصفة، بالإضافة إلى الظروف التي يستخدم بها هذه البطاقة(1).
(التوقيع الإلكتروني اليدوي بالحروف:
في هذا النوع من التوقيع الإلكتروني يتم الاحتفاظ بالتوقيع الإلكتروني وتخزينه في الحاسوب وحمايته برقم سري عند الحاجة، ويمكن بهذه الطريقة نقل التوقيع بخط اليد عن طريق الماسح الضوئي ومن ثم إضافة التوقيع إليه ، وهو لا يتمتع بدرجة كبيرة من الأمان اللازم لإعطائه الثقة ، إذ يمكن للمستقبل أن يحتفظ بهذه الصورة ثم يعيد لصقهاعلى أية وثيقة يريد(2).
(التوقيع بالقلم الإلكتروني:
…وتقوم هذه الطريقة على أساس استخدام قلم إلكتروني، حساس يمكنه الكتابة على شاشة الحاسب الآلي، عن طريق برنامج يسيطر على هذه العملية، ويمكن لهذا التوقيع الإلكتروني من خلال هذا البرنامج أن يحقق أمرين(3):
(خدمة التقاط التوقيع من خلال التوقيع بالقلم الإلكتروني.
__________
(1) - حجازي، عبد الفتاح بيومي، النظام القانوني لحماية التجارة الإلكترونية(190) الإسكندرية، دار الفكر الجامعي، ط1، 2002م، نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(33).
(2) - علاء محمد،نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(34).
(3) - نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(35)، قشقوش، هدى حامد، الحماية الجنائية للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت(77) دار النهضة العربية،2000م.(35/5)
(خدمة التحقق من صحة التوقيع، عن طريق مقارنة التوقيع المخزن، مع التوقيع المنشأ من خلال برمجيات معينة.
(التوقيع بالرقم السري في البطاقة البلاستيكية:
…وهذا الاستخدام معروف ومشهور، حيث يقوم المتعامل بإدخال بطاقة المصرف في جهاز الصراف الآلي، الذي يطلب من حامل البطاقة إدخال رقمه السري، لتمكينه من عمليات السحب والإيداع، وهذا النظام يتميز بدرجة عالية من الأمان، فلو فقدت البطاقة لا يمكن الاستفادة منها إلا إذا كان الواجد لها على علم برقمها السري، وهو احتمال بعيد(1).
(التوقيع الرقمي:
…يعد هذا التوقيع الإلكتروني من أهم التواقيع الإلكترونية، وأكثرها أمانا وثقة، بل إن كثيرا من الدول سمى التوقيع الإلكتروني في تشريعاته بالتوقيع الرقمي، وإن هذا البحث مقتصر على التوقيع الإلكتروني، المعروف بالتوقيع الرقمي المشفر، وهو ما يصطلح عليه بالإنجليزية بـ Digital Signature، وهو التوقيع الذي يتم إصداره بواسطة تقنيات التشفير، ويعرف بأنه:” اصطلاح يطلق على عملية متعددة الخطوات تتضمن تشكيل وإنشاء رسالة إلكترونية وتشفيرها واختصارها إلى مجموعة من الأرقام، أو الخانات الرقمية، ومن ثم إرسالها إلى الشخص المستقبل، والذي يستطيع من خلال برامج حاسوبية التوثق من مضمون الرسالة، سليمة من التزوير، ومن شخصية مرسلها(2).
__________
(1) - نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(36).
(2) - المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(51)،عمان، دار وائل للنشر والتوزيع، ط1، 2003م.(35/6)
…وقد عرف القانون الأردني التوقيع الإلكتروني بأنه:” البيانات التي تتخذ هيئة حروف، أو أرقام، أو رموز، أو إشارات، أو غيرها، وتكون مدرجة بشكل إلكتروني، أو رقمي، أو ضوئي، أو أي وسيلة أخرى مماثلة، في رسالة معلومات، أو مضافة عليها، أو مرتبطة بها، ولها طابع يسمح بتحديد هوية الشخص الذي وقعها، ويميزه عن غيره من أجل توقيعه، وبغرض الموافقة على مضمونه“(1).
تحليل التعريف:
يلاحظ أن التعريف السابق للتوقيع الإلكتروني، يؤكد على أداء التوقيع الإلكتروني ووظيفته، وأن هذه الوظيفة هي نفسها وظيفة التوقيع التقليدي المعروف، وهي أنه يميز هوية الشخص الموقع، ورضاه بمحتوى الوثيقة التي وقع عليها، ويلاحظ ذلك من خلال الشروط التي اشترطها القانون في القانون الإلكتروني ليكون حجة:
أولا:استخدام طريقة لتعيين هوية الشخص الموقع، والتدليل على موافقة ذلك الشخص على المعلومات الواردة في رسالة البيانات(2)، واشترط القانون الشروط التالية ليكون التوقيع الإلكتروني حجة(3):
(أن يكون متميزا بشكل فريد بارتباطه بالشخص صاحب العلاقة.
(أن يكون كافيا للتعريف بشخص صاحبه.
(أن يتم إنشاؤه بوسائل خاصة بالشخص وتحت سيطرته.
(أن يرتبط بالسجل الذي يتعلق به، بصورة لا تسمح بإجراء تعديل على القيد بعد توقيعه، دون إحداث تغيير في التوقيع الإلكتروني .
__________
(1) - المادة الثانية من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني رقم (85) لسنة 2001م، انظر: المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(97)، وانظر: قشقوش، هدى حامد، الحماية الجنائية للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت(72).
(2) - المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(107).
(3) - المادة (31) من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني رقم (85) لسنة 2001م المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(109)، أبو الهيجاء، محمد إبراهيم، عقود التجارة الإلكترونية(68) عمان، دار الثقافة، ط1، 2005.(35/7)
ثانيا: أن تتناسب هذه الوسيلة في الثقة بها مع الغرض الذي من أجله أنشئت الرسالة وأرسلت(1)؛ يعنى أن الثقة في التوقيع الإلكتروني وأساليب الأمان المتعلقة به، لا بد أن تتناسب مع قيمة الصفقة التي توثق بهذا التوقيع، فلا بد أن تتوافر في الصفقات الكبيرة أشد معايير الأمان والسرية، بينما في الصفقات الصغيرة يمكن أن يكتفى بمعايير أقل، تتناسب وقيمة هذه الصفقات.
شروط اعتبار السجل الإلكتروني قانونا:
إن الشروط التي اشترطها القانون في السجل الإلكتروني نفسه ضرورية لاعتبار التوقيع الإلكتروني عليها قانونيا، وهذه الشروط هي(2):
(كون المعلومات في السجل الإلكتروني قابلة للاحتفاظ بها وتخزينها والرجوع إليها في أي وقت.
(إمكانية الاحتفاظ بالسجل الإلكتروني في الشكل الذي تم إنشاؤه به أو إرساله أو تسلمه دون تغيير.
(أن تشير المعلومات الواردة في السجل إلى منشئه أو متسلمه وتاريخ إرساله ووقته وتسلمه.
(الحاجة إلى التوقيع الإلكتروني :
__________
(1) - المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(107).
(2) - أبو الهيجاء، محمد إبراهيم، عقود التجارة الإلكترونية(64)، المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(102).(35/8)
إن الانطلاق الواسع للشبكة العنكبوتية العالمية أدى إلى حدوث طفرة هائلة في عالم الاتصالات، حيث أصبح في وسع الإنسان أن يتواصل إلكترونيا مع الآخرين كما لو كان الجميع يجلسون في غرفة واحدة، مما جعل من هذه الشبكة مكانا خصبا لنمو التجارة الإلكترونية، والتي أصبحت تطرح إشكالات جديدة أمام الفقه والقضاء، و تسأل عن كيفية تمكن المتعاملين بهذه الشبكة من عقد اتفاقاتهم بما يحفظ حقوقهم أما القضاء، في حال حصول النزاع بين الأطراف المتعاملين بهذه الوسيلة المعاصرة، وما هي وسائل الإثبات الممكن اعتمادها من أجل إتمام هذه الصفقات على نحو يُسنده القانون، ويضيف أحد القانونيين مبررا الحاجة إلى التوقيع الإلكتروني بقوله: ” والعلة في الحاجة إلى التوقيع الإلكتروني سببها اعتبارات الأمن والخصوصية على شبكة الإنترنت ... ولذلك تم اللجوء إلى تكنولوجيا التوقيع الإلكتروني حتى يتم رفع مستوى الأمن والخصوصية بالنسبة للمتعاملين على شبكة الإنترنت“(1).
(آلية عمل التوقيع الإلكتروني:
…يعتمد في حجية التوقيع الإلكتروني على مدى الأمان والسرية المتوافرين في التوقيع الإلكتروني، وهذا الأمر يعتمد على طريقة الترميز(التشفير) التي يرمز بها التوقيع الإلكتروني، ويقصد بعملية الترميز:”تغيير في شكل البيانات من اطلاع الغير عليها، أو من تعديلها أو من تغييرها“(2)، فكلما كانت عملية الترميز معقدة كلما كانت الثقة أكبر في التوقيع الإلكتروني، لصعوبة كسر نظام الترميز في ذلك التوقيع، وهناك نظامان للترميز، هما(3):
(نظام الترميز المتناسق:
__________
(1) - حجازي، عبد الفتاح بيومي، النظام القانوني لحماية التجارة الإلكترونية(183).
(2) - قشقوش، هدى حامد، الحماية الجنائية للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت(60).
(3) - برهم، نضال إسماعيل، أحكام عقود التجارة الإلكترونية(174)، نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(37)، المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(55).(35/9)
…ويقوم على أساس وجود مفتاح سري واحد، يتم تبادله بين فئة معينة من الأشخاص، ويقوم على أساس علاقات رياضية معينة، كأن يتضمن إزاحة حرف من حروف الهجاء أربع خانات مثلا، فيصبح حرف الألف حرف جيما، والباء حاء، ثم يقوم المستقبل باستقبال الرسالة فيقوم بعملية معاكسة تعيد كل حرف أربع خانات إلى الوراء فتعود الرسالة إلى حالتها الأصلية ويمكن الاطلاع على محتواها.
(منظومة الترميز غير المتناسق:
في هذا النظام يمكن استعمال مفتاحين مختلفين، أحدهما المفتاح العام، والآخر المفتاح الخاص السري، حيث ينشر حامل هذا الزوج من المفاتيح مفتاحه العام بين الجمهور، فمن أراد أن يراسله فإنه يرمز رسالته بالمفتاح العام ثم يرسل هذه الرسالة إلى حامل زوج المفاتيح الذي يقوم بفك الترميز بمفتاحه الخاص، ولمزيد من التوثيق يستطيع المرسل أن يوقع رسالته بمفتاحه الخاص، أو أن يرمز جزءا من الرسالة أيضا بمفتاحه الخاص، مما يضمن للمستقبل أن صاحب المفتاح الخاص هو الذي أرسل الرسالة، فتتأكد الرسالة بواسطة المفتاح الخاص للمستقبل، والمفتاح العام الذي أعطاه إياه المرسل، وتلخص هذا النظام بما يلي(1):
( كل مستعمل للنظام يملك مفتاحين الأول علني والثاني سري.
(يستخرج المفتاح العلني من دالة رياضية للمفتاح السري ذات اتجاه واحد، بحيث لا يمكن استخراج المفتاح السري من المفتاح العلني.
(يحافظ المستعمل على المفتاح السري، ويستعمله في رفع التشفير عن الرسائل المستقبلة، أو في إمضاء الرسائل المرسلة للمستعملين الآخرين.
(الإعلان عن المفتاح العلني من طرف المستعمل، بحيث يمكن المستعملين الآخرين من استعماله، لإرسال رسائل مشفرة ومراقبة صحة توقيعه الإلكتروني.
__________
(1) - المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(57)، قشقوش، هدى حامد، الحماية الجنائية للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت(76)، أبو الهيجاء، محمد إبراهيم، عقود التجارة الإلكترونية(75).(35/10)
…وقد سنت القوانين عقوبات رادعة لمن يقوم بفض الترميز، أو الكشف عن مفاتيح الترميز المودعة في مكتب التشفير في غير الأحوال المصرح بها قانونا، وهي عقوبات تترواح بين الغرامة المالية، والحبس(1)، وهو مما يضفى مزيدا من المصداقية لهذا التوقيع، مما يشجع على التعامل به على نطاق واسع، والفقه الإسلامي قادر على التعامل مع الوقائع المستجدة، وأن ينظم لها من الأحكام ما يفي بالحاجات، ويحفظ الحقوق.
ما الذي يضمن أن حامل المفتاح الخاص والعام هو صاحبه الحقيقي؟
__________
(1) - تتراوح هذه الغرامة بين 3000-10000 جنيه مصري، والحبس لمدة لا تقل عن سنة، ويشدد العقاب إذا كرر الشخص جريمته فتصبح الغرامة بين 10000-50000 جنيه مصري، والحبس لمدة لا تقل عن سنتين، المادة 30من قانون مشروع قانون التجارة الإلكترونية المصري، وانظر أيضا المادة 481 من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية التونسي، قشقوش، هدى حامد، الحماية الجنائية للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت(62فما بعدها)، وانظر المواد (35-37) من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني أبو الهيجاء، محمد إبراهيم، عقود التجارة الإلكترونية(141فما بعدها).(35/11)
كثيرا ما يحتاج المتعامل بالتجارة الإلكترونية إلى التعامل مع أشخاص آخرين أو هيئات معينة لا يعرفها، وبالتالي لا تكون لديه الثقة الكافية للإقبال على التعاقد، مما أدى إلى الحاجة إلى طرف ثالث يكون ثقة يضمن المصداقية والأمان بين المتعاملين، ويكون هذا الطرف الثالث محلفا لدى القضاء فهو أشبه بكاتب عدل إلكتروني(1)، فهذا الطرف الثالث يمكن أن يشهد بسلامة الوثيقة الإلكترونية وتسلمها من باعثها، وتاريخ إنتاجها وإرسالها، وشخصية مرسلها، كما يمكن أن يمنح الطرف الثالث شهادات تصديق إلكترونية لأعضائه تعرف بهوياتهم، ويمكن أن تمنح أي عضو المفتاح العام لجهة ما، ليتأكد من أن مرسل الرسالة هو تلك الجهة فعلا وليس غيرها، وقد يقوم هذا الطرف الثالث بدور الشاهد أمام القانون على صدقية أي توقيع إلكتروني أو نفيها.
ميزات التوقيع الإلكتروني(2) :
( التوقيع الإلكتروني يدل على الحقيقة بدرجة أكبر من التوقيع التقليدي، بدليل أن مفتاح الحرب النووية هو عبارة عن رقم مع رئيس الدولة فقط، وهو الوحيد الذي يملك إشارة الحرب، ولم يعتمد على التوقيع الخطي التقليدي، خشية تزويره.
(التوقيع الإلكتروني يسمح بإبرام الصفقات عن بعد، دون حضور المتعاقدين جسديا، وهو بذلك يساعد على تنمية التجارة وضمانها.
(أنه وسيلة آمنة لتحديد هوية الشخص الموقع، ويمكن من خلال الحاسوب التأكد من ذلك وبسهولة.
(شهادة التوثيق الإلكترونية:
__________
(1) - المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(61).
(2) - حجازي، عبد الفتاح بيومي، النظام القانوني لحماية التجارة الإلكترونية(192).(35/12)
…وقد عرفت هذه الشهادة بأنها:”عبارة عن سجل إلكتروني معلوماتي، صادرة عن سلطة توثيق معتمدة، تحتوي على معلومات عن الشخص الذي يحملها، والجهة المصدرة وتاريخ صلاحيتها والمفتاح العام للشخص“(1)، بمعنى أن هذه الشهادة هي هوية إلكترونية صادرة من شخص محايد، تعترف بتوقيعه وتشهد بصحته وتصادق على توقيعه الإلكتروني، خلال فترة صلاحية الشهادة، كما تصادق على جميع معاملاته عبرة شبكة الإنترنت، وبشكل عام لا بد أن تحتوي هذه الشهادة على ما يلي:
(رقم التسلسل.
(هوية مصدر الشهادة(هوية سلطة التصديق)
(تاريخ إصدار الشهادة وانتهاء صلاحيتها
(هوية حامل الشهادة (من صدرت لمصلحته)
(المفتاح العام لحامل الشهادة.
(التوقيع الإلكتروني لسلطة التصديق، وشهادة تصديق لسلطة التصديق.
…ويمكن أن تقوم سلطة التوثيق التي تمنح الشهادة الرقمية، بنشرها على الموقع (on line)، ويمكن أن يصل إليها الجميع للتحقق من مطابقتها للأصل عبر التوقيع الإلكتروني، ويمكن التثبت منها بواسطة المفتاح الخاص بالشهادة، ويستطيع مستلم الرسالة أن يعيد ترميز الرسالة باستخدام المفتاح العام المرسل، وبرنامج الترميز المستخدم في ترميز الرسالة فإذا كانت النتيجة واحدة فهذا يدل على صحة الرسالة والتوثق من المرسل(2).
وتعتبر هذه الشهادة معتمدة، في الحالات التالية(3):
(أن تكون صادرة عن جهة مرخصة ومعتمدة.
(أن تكون صادرة عن جهة مرخصة من سلطة مختصة في دولة أخرى ومعترف بها.
(أن تكون صادرة عن دائرة حكومية أو مؤسسة أو هيئة مفوضة قانونا بذلك.
(أن تكون صادرة عن جهة وافق أطراف المعاملة على اعتمادها.
سلطات التوثيق:
__________
(1) - نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(139).
(2) - برهم، نضال إسماعيل، أحكام عقود التجارة الإلكترونية(174).
(3) - برهم، نضال إسماعيل، أحكام عقود التجارة الإلكترونية(185)، المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(110).(35/13)
هي عبارة عن هيئة عامة أو خاصة، تسعى إلى ملء الحاجة الملحة لوجود طرف ثالث، موثوق يقدم خدمات أمنية في التجارة الإلكترونية، بأن يصدر شهادات تثبت صحة حقيقة معينة متعلقة بموضوع التبادل الإلكتروني، كتوثيق هوية الأشخاص المستخدمين لهذا التوقيع الإلكتروني، وتأكيد نسبة المفتاح العام المستخدم إلى صاحبه(1).
وقد اشترطت معظم التشريعات المتعلقة بالتوقيع الإلكتروني، وجود هذه الهيئة كطرف ثالث، يضمن أمن المعاملات الإلكترونية الجارية بين الأفراد والمؤسسات(2). ويجدر في هذا المقام الإشارة إلى درجة الأمان في التوقيع الإلكتروني كبيرة جدا، يقول أحد الباحثين القانونيين: ”والخلاصة إن الدراسة الفنية والتكنولوجية لهذه العملية تشير إلى إمكانية إرسال الرسالة باستخدام التوقيع الرقمي بشكل آمن تماما محققة الأهداف الثلاثة التي تم الإشارة وهي السرية والسلامة والموثوقية وهي الوظائف التي يفترض أنها يعبر عنها التوقيع بشكل عام“(3).
ثانيا: واقع تطبيق التوقيع الإلكتروني في القضاء الشرعي:
__________
(1) - نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(145)، المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(63).
(2) - القواعد الموحدة بشأن التوقيعات الإلكترونية المادة(10)، توجيهات الاتحاد الأوروبي(2/11) نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(145)، المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(89).
(3) - المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(68)، وانظر (59) من المصدر نفسه، مع التذكير بأن درجة الأمان هذه مشروطة باتباع إرشادات الأمان والسرية، كاستخدام برامج ترميز متطورة، ومجربة، وأن يقوم حامل المفاتيح بالمحافظة على سرية المفاتيح، وعدم نسخها أو مشاركتها مع شخص آخر، وأن يحفظ هذا المفتاح على جهازه الخاص فقط.(35/14)
…إن التشريعات القانونية التي أسبغت على التوقيع الإلكتروني الصفة القانونية استثنت بعض المعاملات من تطبيق التشريعات الإلكترونية عليها، لا سيما تلك المعاملات التي اشترط لها القانون شكليات خاصة في إجراءات انعقادها، بالإضافة إلى اشتراط الكتابة فيها، مثل معاملات الأحوال الشخصية: كالزواج، والطلاق، والوصية، والوقف، والطلاق، ولم تكن معاملات الأحوال الشخصية وحدها المستثناة من تطبيق قوانين المعاملات الإلكترونية، بل استثنيت بعض المعاملات المدنية الأخرى مثل شراء العقارات وبيعها، والأوراق المالية.
فقد نصت المادة الخامسة من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية الإماراتي على الآتي(1):
1- يسري هذا القانون على السجلات والتواقيع الالكترونية ذات العلاقة بالمعاملات والتجارة الالكترونية ,ويستثنى من أحكام هذا القانون ما يلي :
(أ) المعاملات والأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية: كالزواج، والطلاق، والوصايا .
(ب)سندات ملكية الاموال غير المنقولة .
(ج) السندات القابلة للتداول .
(د )المعاملات التي تتعلق ببيع وشراء الاموال غير المنقولة والتصرف فيها وتأ جيرها لمدة تزيد علبى عشر سنوات.
(هـ) أي مستند يتطلب القانون تصديقه أمام كاتب العدل .
(2) للرئيس بقرار يصدره أن يضيف أية معاملات أو أمور أخرى لما هو وراد في الفقرة (1) من هذه المادة ,أو أن يحذف منها , أو يعدل فيها.
__________
(1) - أبو الليل، إبراهيم الدسوقي، الجوانب القانونية للتعاملات الإلكترونية(126)، الكويت جامعة الكويت(مجلس النشر العلمي)، 2003م.(35/15)
وفي المعنى نفسه استثنت المادة السادسة من قانون المعاملات الالكترونية الأردني، العقود والمستندات والوثائق التي تنظم وفقا لتشريعات خاصة بشكل معين , أو تتم بإ جراءات محددة , ومنها(1):
أ - انشاء الوصية وتعديلها .
ب- انشاء الوقف , وتعديل شروطه .
ج- معاملات التصرف بالاموال غير المنقولة بما في ذالك الوكالات المتعلقة بها وسندات ملكيتها، وإنشاء الحقوق العينية عليها، باستثناء عقود الإيجار الخاصة بهذه الأموال .
د- الوكالات والمعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية .
هـ- الإشعارات المتعلقة بإلغاء أوفسخ عقود خدمات المياه والكهرباء والتأمين الصحي و التأمين على الحياه.
و- لوائح الدعاوى والرافعات وإشعارات التبليغ القضائية وقرارات المحاكم .
2- الأوراق المالية إلا ما تنص عليه تعليمات خاصة تصدر عن الجهات المختصة استنادا لقانون الأوراق المالية النافذ المفعول.
أسباب استثناء المعاملات الشخصية من قوانين المعاملات الإلكترونية:
__________
(1) - أبو الليل، إبراهيم الدسوقي، الجوانب القانونية للتعاملات الإلكترونية(126)،المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني (101)، نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(164)، أبو الهيجاء، محمد إبراهيم، عقود التجارة الإلكترونية(131).(35/16)
إن هذا الاستثناء لمعاملات الأحوال الشخصية من تطبيق قانون الأحوال الشخصية راجع إلى اشتراط القانون شكلية الكتابة فيها، وأن الكتابة فيها ركن شكلي لا بد من مراعاته(1)، وسبب آخر أن التوقيع الإلكتروني يختص بالمعاملات التجارية، وأن التصرفات المتعلقة بالزواج والطلاق والوصية والوقف، هي تصرفات شخصية تخرج من نطاق المعاملات التجارية، بالإضافة إلى خطورتها من الناحية الشرعية(2).
فمثلا عقد الزواج يتم حسب نص المادة (17) من قانون الأحوال الشخصية الأردني لعام1976، كالآتي(3) :
يجب على الخاطب مراجعة القاضي أو نائبه لأجراء العقد.
2- يجري عقد الزواج من مأذون القاضي بموجب وثيقة رسمية وللقاضي بحكم وظيفته في الحالات الاستثنائية إن تولى ذلك بنفسه بإذن قاضي القضاة، وعليه؛ فإن عقد الزواج حسب نص هذه المادة، لا بد أن يجري أمام المأذون الشرعي، الذي يتولى إجراء عقد الزواج بموجب وثيقة رسمية. وذلك لحفظ الحقوق الشرعية، نظرا لما يترتب على عقد الزواج من آثار خطيرة سواء من الناحية الاجتماعية أو المالية لكلا الزوجين. وعليه؛ فإن إجراء معاملات الأحوال الشخصية، والوكالات المتعلقة بها، لا بد أن يتم حسب إجراءات محددة، ولا يجوز إجراؤها بوسائل إلكترونية، إذ لا يجوز استخدام الكتابة والتوقيع الإلكتروني في إجراء مثل هذه المعاملات.
__________
(1) - نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(167فما بعدها)، المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(101).
(2) - حجازي، عبد الفتاح بيومي، مقدمة في التجارة الإلكترونية العربية(2/131)، الإسكندرية، دار الفكر الجامعي،2003م.
(3) - نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(167فما بعدها)، إن اشتراط القانون لشكلية الكتابة والإثبات بها في معاملات الأحوال الشخصية، هي السبب في استثنائها من تطبيق قوانين المعاملات الإلكترونية، انظر ذلك بالتفصيل نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات(164-168).(35/17)
…ولكن هذا الاستثناء ليس ثابتا بل يمكن للسلطات التي يخولها القانون أن تعدل في هذه الاستثناءات، فقد أجاز القانون الإماراتي في الفقرة الثانية من المادة الخامسة منه، وبقرار من السلطة المختصة أن تضيف أية معاملات أو أمور أخرى أو تحذف أو تعدل في هذه الاستثنناءات، ويعلق المستشار بالمجلس الوطني الاتحادي بدولة الإمارات العربية المتحدة على ذلك، فيقول: ” مؤدى ذلك أن السلطة المختصة تملك حذف المعاملات التي تتعلق بأمور الأحوال الشخصية من نطاق الاستثناء في تطبيق أحكام هذا القانون وإضافتها إلى نطاق سريانه، ومن ثم تسري أحكام هذا القانون كاملة على كل المعاملات والأوراق والمستندات التي تتعلق بالأحوال الشخصية، وسواء كانت زواجا أو طلاقا أو إيصاء“(1)، وهو رأي جدير بالتقدير، لاسيما وأن الشريعة الإسلامية لم تحدد وسيلة بعينها لا نعقاد العقد لا يصح إلا بها أو لا ثبت إلا بها.
__________
(1) حجازي، عبد الفتاح بيومي، مقدمة في التجارة الإلكترونية العربية(132).(35/18)
كما لا يُعد هذا الاستثناء خاصا بالقانون الأردني أو الإماراتي بل إن هناك إجماعا دوليا على هذه الاستثناءات يتضح ذلك من خلال القانون الأيرلندي والإنجليزي وغيرها(1)، ومما يُخشى منه أن هذه الاستثناءات في القوانين العربية جاءت تقليدا محضا للقوانين الأوربية التي يُجري بعض مواطنيها زواجهم ومعاملاته وفقا لطقوس كنسية خاصة، أو أنها لا تريد أن تدخل في نزاع مع الأعراق المتعددة فيها، والتي لها مذاهب متعددة فيما يتعلق بالزواج والطلاق، وهي نابعة من معتقدات دينية، فنأت تلك الدول بنفسها عن الدخول في خصوصيات الأسرة، و التي في الغالب تتبع مراسيم معينة وإجراءات خاصة، في إجراءات الزواج والطلاق وغيرها من شؤون الأسرة، وهي مراسيم لا يمكن استيعابها في تشريعات إلكترونية. ولكن هذا الأمر لا علاقة للشريعة الإسلامية والقضاء الشرعي به، إذ إن الشريعة لا تشترط الكتابة في العقود حتى تكون صحيحة، واشترطت في إنشاء الزواج فقط شاهدي عدل، ولم يشترط ذلك في الطلاق والوصية كشروط صحة.
أسباب عدم تطبيق قوانين المعاملات الإلكترونية في القضاء الشرعي:
…يمكن أن تعزى أسباب عدم تطبيق هذه القوانين في القضاء الشرعي، لثلاثة أسباب، هي:
(حصر القضاء الشرعي ضمن إطار محدد ألا وهو إطار الأسرة من خطبة وزواج وطلاق وميراث ووصية وما شابه ذلك.
(أو لسبب يتعلق بالدراسات الفقهية ذات العلاقة بالتواصل الإلكتروني فهي تحتاج إلى وقت كاف حتى تنضج وتستقر، لا سيما أن الأمور المتعلقة بالأسرة أمور من الحساسية بمكان.
__________
(1) المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني(101).(35/19)
( أما السبب الثالث، فهو طبيعة المعاملات الشخصية الآنفة الذكر، فإن لها نظاما اجتماعيا وتقاليد أسرية تضفي عليها هالة من القيمة الاجتماعية ليست متوافرة في المعاملات المالية، مع ملاحظة أن هذه العادات الاجتماعية ليست شروطا أو أركانا في العقد، تتوقف عليه الصحة أو تنتفي، على نحو ما هو مطبق في الديانات التي تعد الطقوس والمراسيم، أمر ضروري في الانعقاد.
إن أقصاء الشريعة الإسلامية عن التطبيق في العديد من مجالات الحياة سوى الجانب المتعلق بالأحوال الشخصية، أدى إلى تأخر في البحوث الفقهية التي تعالج المستجدات في نطاق المعاملات، ذلك لأن هذه المستجدات تلح بنفسها على المتعاملين الذين يهمهم الوضع القانوني لمعاملاتهم، والقانونيين الذين يجدون أنفسهم أمام قضايا تفرض نفسها عليهم، لا بد لها من أحكام يفصل بها القضاء، بينما تصبح هذه القضية مسألة نظرية أمام الفقهاء يبحثونها من باب الفتوى، أو من باب المحافظة على قبس الفقه الإسلامي ونوره في حياة المسلمين، وعلى أمل أن تجد هذه البحوث طريقها إلى التطبيق يوما، وأرجو أن يكون ذلك قريبا.
لذا؛ فإن عدم تطبيق الفقه الإسلامي على معطيات الحياة المعاصرة كان نتيجة لتلك المقدمة، وهو ما يفسر لنا ذلك التسارع الكبير الذي تسير به المؤلفات القانونية المتعلقة بالتجارة الإلكترونية، بينما لا نرى أدبيات الفقهاء في هذا المجال تسير بذلك التسارع، وإن كانت أبحاث الفقهاء في هذا الميدان لا زالت فتيّة بالنسبة لما كتب قانونا واقتصادا، وفي طريقها إلى أن تكون ثرية إن شاء الله.(35/20)
أما بالنسبة للسبب الثاني الذي يتعلق بالنواحي الفقهية التي تحكم التوقيع الإلكتروني، فإن الأمر يحتاج إلى البحث والتحقيق فيما إذا كانت هناك موانع شرعية تمنع الاحتجاج بهذا التوقيع كوسيلة إثبات، ولا بد لي هنا من أن أبين الأصل في الإثبات في الشريعة يكون بثلاث وسائل، هي: الإقرار، الشهادة، القرائن، ولدى التحقق من حقيقة التوقيع الإلكتروني سنجد أنه يستند في حجيته إلى الإقرار والشهادة، وأوضح ذلك من خلال بيان التكييف الشرعي للتوقيع الإلكتروني.
التكييف الشرعي للتوقيع الإلكتروني:
…إن التكييف الشرعي للتوقيع الإلكتروني يتناول التوقيع الإلكتروني من عدة وجوه، تارة من كونه إقرارا من جهة الموقع، وتارة من جهة كونه شهادة من قبل الهيئة المصدرة لشهادة التوقيع الإلكتروني، في كونها شاهدة على المُوقع من خلال المفتاح العام، أو المفتاح الخاص الذي تم تخصيصه لشخص بعينه، وبما أن هذه الهيئة قد تكون غير مسلمة كما هو الحال في الهيئات العالمية المختصة التي تمنح هذه الشهادات، فما حكم هذه الشهادة شرعا، وفيما يلي تفصيل ذلك:
- الإقرار:(35/21)
إن للإقرار مدخلا كبير في حجية التوقيع الإلكتروني، لأن الشخص الذي يريد أن يستخرج لنفسه توقيعا إلكترونيا، فإن عليه أن يتوجه إلى إحدى الهيئات المتخصصة في إصدار هذا النوع من التوقيعات، بموجب تراخيص تمنحها الدولة، أو تعترف بهيئات خارج الدولة كمؤسسة لها صلاحية لمنح هذا التوقيع، وتسجيله باسم شخص معين، ويقر هذا الشخص بمسؤوليته القانونية أمام القضاء والغير عن توقيعه هذا، ثم يمنح شهادة تتضمن بيانات مهمة عن التوقيع وصاحبه، على النحو المبين آنفا(1).
- - الشَّهادة:
…يشكل على الإثبات بالشهادة التي تصدرها الهيئات المعنية بالتوقيع الإلكتروي أن كثيرا من الهيئات المختصة بهذا النوع من التوقيع هي شركات يقوم عليها غير المسلمين، والشهادة لا تقبل من المسلم الفاسق فكيف تقبل من الكافر، والإسلام والعدالة شرطان في صحة الشهادة وقبولها، وهذا واضح في حالة كون الشهادة لم تبلغ حد التواتر، ولكن هل يُشترط الإسلام في الخبر المتواتر؟ وهل هذه الشهادات من قبيل الخبر المتواتر؟
((هل الإسلام شرط في قبول الخبر المتواتر؟
…قد يقول قائل إن اللجان والهيئات التي تمنح هذه الشهادات من غير المسلمين، فكيف نقبل شهادتهم بمصداقية هذا التوقيع الإلكتروني؟ ويطبق في القضاء الشرعي؟ يمكن أن يناقش ذلك بأن التواتر يفيد العلم، وأن إفادة العلم بمصداقية هذا التوقيع بصفة عامة حاصلة بمجموع الكافرين وأكد على ذلك سواهم من المسلمين، وليس أدل على ذلك تلك القوانين في البلاد العربية التي سارعت إلى الاحتجاج بالتوقيع الإلكتروني، وجعلوه حجة قانونية.
__________
(1) لقد نظمت المادة 22 من قانون التجارة الإلكترونية الإماراتي واجبات الموقع توقيعا إلكترونيا وأنه مسؤول عن توقيعه، في حال عدم اتخاذ صاحب التوقيع الإلكتروني الإجراءات المعقولة لتأمين استعمال توقيعه الإلكتروني. حجازي، عبد الفتاح بيومي، مقدمة في التجارة الإلكترونية العربية(2/223).(35/22)
ويمكن أن يقال أيضا إن من الفقهاء من لم يشترط الإسلام في الخبر المتواتر، قال في البحر المحيط: ”وكذلك قال الأستاذ أبو منصور . قال : ولا يشترط أن تكون نقلته[يعني الخبر المتواتر] مؤمنين أو عدولا ... وقال ابن برهان : لا يشترط إسلامهم خلافا لبعضهم , وجرى عليه المتأخرون من الأصوليين ... فإن الشافعي قال في المختصر " : ولو وقت بفصح النصارى لم يجز ; لأنه قد يكون عاما في شهر وعاما في غيره , على حساب ينسئون فيه أياما , فلو اخترناه كنا قد عملنا في ذلك بشهادة النصارى , وهذا غير حلال للمسلمين . قال ابن الصباغ : هذا ما لم يبلغوا حد التواتر , فإن بلغوه بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب , فإنه يكفي لحصول العلم“(1).
وقال في المراقي:
واقطع بصدق خبر التوارتر *** وسَوِّ بين مسلم وكافر
”وقوله : وسَوِّ بين مسلم وكافر، يعني أن المتواتر يقطع بصدقه، سواء كان المخبرون مسلمين أو كفارا أو فاسقين، لأن القطع بصدقه من جهة استحالة تواطئهم على الكذب لا عدالتهم“(2).
((هل شهادة هذه الشركات من قبيل الخبر المتواتر؟
__________
(1) - الزركشي، بدر الدين بن محمد بهادر، البحر المحيط (6/100)، دار الكتبي، ورأى عدم جواز ذلك بعض الفقهاء أنظر: ابن أمير حاج، محمد بن محمد بن محمد، التقرير والتحبير في شرح التحرير (2/234)، دار الكتب العلمية.
(2) - الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار، نثر الورود على مراقي السعود(1/380)، جدة، توزيع: دار المنارة للنشر والتوزيع، الناشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي، ط2، 1999م.(35/23)
…إن الهيئات التي تصدر مثل هذه الشهادات هي هيئات دولية، قد اكتسبت مصداقية ليس على مستوى دولة ما بعينها، بل على مستوى دول عدة، وأن انتشار شهاداتها عالميا، واعتراف القوانين الأجنبية والعربية بصدقية هذه الشهادات وموثوقيتها، يعزز في نفس المتعامل بهذه التواقيع والشهادات الصادرة لأصحابها، وكثرة المتعاملين بها عالميا يجعل من مصداقيتها أمرا لا يملك الشخص أن يطعن فيه بالكذب، لسبب أنها صدرت من غير المسلمين، إن التعامل على نطاق عالمي مع هذه الهيئات المصدرة للشهادات الخاصة بالتوقيع الإلكتروني، سواء من قبل المتعاملين بالتجارة عبر الإنترنت، أم من قبل القانونيين الذين تعاملوا مع هذه الشهادات واعترفوا بصدقيتها يعتبر بمثابة المتواتر الذي لا يمكن أن يطعن فيه.
((قياس هذه الشهادة على الشهادة على الخط:
نظرا لما تقوم به الهيئات المختصة من إصدار شهاداتها التي تشهد من خلالها على أن التوقيع الإلكتروني الذي وقعت بها الشهادة يعود إلى شخص محدد، وهو مَن صدر المفتاح العام لصالحه، ومنه تم استخراج المفتاح الخاص الذي يتعهد صاحب التوقيع الإلكتروني بالمحافظة عليه من الاستخدام من قبل الآخرين، وبما أن هذا الشخص هو الشخص الوحيد الذي يمكنه استخدام هذا التوقيع الإلكتروني، يمكن قياس هذه الشهادة على الشهادة على الخط.(35/24)
…ولكن السؤال هنا ما العلة التي تجمع بين الخط، والتوقيع الإلكتروني، بحيث يمكن أن تقاس من خلاله الشهادة على التوقيع الإلكتروني على الخط، مع العلم بأن الرسالة الموقعة إلكترونيا سواء قبل توقيعها، أم بعده هي عبارة عن كتابة حاسوبية لا تظهر الفروق في الكتابة بين شخص وآخر، فالورقة المطبوعة بواسطة الحاسوب لا تدل حروفها على شخصية طابعها، بخلاف الخطوط بواسطة اليد فإنها تختلف من شخص لآخر، بالإضافة إلى أن الرسالة الإلكترونية بعد ترميزها بواسطة البرنامج الخاص، تصبح رموزا غير مفهومة، ولا يعرف فحواها إلا بعد عملية فك الترميز المعاكسة، لتظهر الرسالة بمحتواها الحقيقي، فأين وجه الشبه بين الخط بواسطة اليد وبين التوقيع الإلكتروني ؟
…إن العلة الجامعة بينهما هي أن كِلا الأثرين: أثر الخط اليدوي، و أثر التوقيع الإلكتروني يدلان على منشئهما، فكما أن الخط اليدوي لا يستند إلى الحرف نفسه، إذ الحروف هي هي لا تختلف أيا كان كاتبها، وشكلها في الأساس كذلك، وهو القدر المشترك بين الرسائل جميعا لأشخاص متعددين، فلو أعطينا عددا من الأشخاص رسالة طلب إليهم جميعا أن يكتبوا الرسالة نفسها بخط اليد، لوجدنا أن هناك قدرا مشتركا بين الجميع، وأن الذي يفترق هو مظاهر خاصة للحروف، يختص بها كل واحد منهم، وهو الذي يشكل الدليل على أن هذا الخط لهذا الشخص أو ذاك، وأن ما تبقى هو قدر مشترك لا يدل على كاتب بعينه.(35/25)
ومثل ذلك ما تعارف عليه المتعاملون بالبطاقات الإئتمانية، حيث يستطيع المتعامل أن يسحب مبلغا من المال، بواسطة الرقم السري وإدخال البطاقة، وهنا يحل الرقم محل التوقيع الخطي الموضوع على طلبات السحب الورقية(1)، إذن الدلالة ليست من الحروف نفسها إنما بالصبغة الشخصية التي تركها الكاتب على الحرف لتدل عليه، وهو نفس ما يجري في التوقيع الإلكتروني حيث يصبح المفتاح المستخدم في ترميز الرسالة هو صبغ الرسالة الإلكترونية بالصبغة الشخصية المميزة لمرسِل الرسالة، التي تصبح بعد ترميزها تحمل في ثناياها السمة الخاصة بموقع الرسالة، وبالتالي تصبح دليلا عليه.
ويؤكد أحد القانونيين على ذلك فيقول:”ويقال كذلك إن التوقيع الرقمي لا يعبر عن شخصية صاحبه، مثل التوقيع التقليدي، بالكتابة لكن ذلك مردود عليه، بأن التوقيع الإلكتروني لا يصدر عن الحاسب، إنما عن صاحب التوقيع وأن الحاسب وسيلة في أداء هذا التوقيع تماما كما أن القلم وسيلة للتوقيع التقليدي“(2).
__________
(1) - شرف الدين، أحمد السعيد، حجية الكتابة الإلكترونية في الإثبات(39)، دبي، مركز البحوث والدراسات بشرطة دبي، 2001م.
(2) - حجازي، عبد الفتاح بيومي، النظام القانوني لحماية التجارة الإلكترونية(193).(35/26)
إن هذه العلة المشتركة بين المكتوب على الأوراق بخط اليد، وما يتبعه من توقيع عليها يدويا بالشكل المعروف، بالإضافة إلى الرسائل والوثائق الإلكترونية، تدعونا إلى تحديد مفهوم جديد للكتابة، يجمع بين الكتابة الحاسوبية والكتابة الورقية التقليدية، ويصبح التوثيق بالكتابة عند إطلاقه يطلق على نوعي الكتابة التقليدية والحاسوبية، لا سيما وأن الحاسوب اليوم أصبح في متناول الكثير من الناس، وهو وسيلة التعامل الرائجة والشائعة في كثير من أنحاء العالم، كل ذلك يفرض على علماء المسلمين التعامل مع هذه الوثائق الإلكترونية، بما كفل المحافظة على الحق والعدل بين الناس اللذين أمر الله تعالى بهما(1).
((أقوال الفقهاء في الاحتجاج بالخط:
…ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم حجية الخط في الإثبات لإمكان التزوير، بينما يرى الإمام مالك حجية الخط، وجواز الشهادة عليه، فقد أجاز الإمام مالك الشهادة على الخط من حيث كونه يدل شخص محدد يعرف الشاهد خطه.
__________
(1) - لقد أخذت العديد من الدول بمبدأ اعتماد سجلات الحاسبات والوسائط أو الحوامل التي يمكن تثبيت المعلومات عليها مثل الميكروفيلم والشرائط والإسطوانات، من هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية في مشروع سنة1999م، وإنجلترا في قانونها المدني سنة،1986، ومحكمة النقض الفرنسية سنة 1989، انظر: شرف الدين، أحمد السعيد، حجية الكتابة الإلكترونية في الإثبات(54 فما بعدها)، برهم، نضال إسماعيل، أحكام عقود التجارة الإلكترونية(177).(35/27)
جاء في منح الجليل:”وسئل مالك رحمه الله: عن رجل كتب على رجل ذِكْر حق وأشهد فيه رجلين، فكتب الذي عليه الحق شهادة على نفسه بيده في ذِكْر الحق، وهلك الشاهدان ثم جحد المكتوبَ الشاهدُ على نفسه، فأتى رجلان، فقالا: إنه كتابُه بيده , فقال مالك رضي الله تعالى عنه: إذا شهد عليه شاهدان أنها كتابته بيده، رأيت أن يؤخذ منه الحق ولا ينفعه إنكاره , وذلك بمنزلة لو أقر ثم جحد وشهد عليه شاهدان بإقراره، فأرى أن يغرم“(1).
ولا تقتصر الشهادة على الخط على القضايا المالية فقط، بل تتعدى ذلك إلى القضايا التي تعرف بقضايا الأحوال الشخصية، التي هي من اختصاص القضاء الشرعي في زمننا هذا، جاء في مواهب الجليل: ” وجازت على خط مقر ... وإن بغير مال فيهما هذا الذي اختاره رحمه الله، أن الشهادة على الخط جائزة في الطلاق والعتاق وغيرهما ... الأصل في الشهادة على الخطوط من قول مالك وأكثر أصحابه أنها تجوز في الحقوق والطلاق والعتاق والأحباس وغيرها“(2).
وهناك قول بعدم جواز الشهادة على الخط في الطلاق والحدود، فقال في مواهب الجليل:”وهو [ يعني جواز الشهادة الخط] خلاف ما نقله البرزلي عن السيوري أنه قال : لا تجوز الشهادة على الخط في طلاق ولا عتاق ولا حد من الحدود على ما في الواضحة وغيرها “(3). وهذا يؤكد على أن التفريق الحالي في الإثبات بين القضايا المالية وقضايا الأحوال الشخصية على غير المعتمد في مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى.
__________
(1) - أبو عبدالله محمد بن أحمد،عليش، منح الجليل شرح مختصر خليل (8/462) دار الفكر، وانظر: ميارة، محمد بن أحمد الفاسي، الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام (1/64) دار المعرفة.
(2) - أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني، الحطاب، مواهب الجليل شرح مختصر خليل(6/188) دار الفكر، عليش، منح الجليل (8/462).
(3) - الحطاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل(6/188)، عليش، منح الجليل (8/462).(35/28)
((تفريق الفقهاء في الاحتجاج بالخط في الأموال وغيرها:
وقد فرق بعض الفقهاء بين كون الكتابة حجة في الأموال أو أنها حجة في الأموال وغيرها، وفيما يلي طرف من هذه النصوص:
( قال في تبصرة الحكام: ”ولا تجوز[يعني الشهادة على الخط] إلا في الأموال خاصة , وحيث لا تجوز شهادة النساء ولا اليمين مع الشاهد , لا تجوز الشهادة على الخط , وحيث يجوز هذا يجوز هذا , قال ابن راشد : وهذه التفرقة لا معنى لها , إلا أن يروا أن الأموال أخف لكونها يقضى فيها بالشاهد واليمين , ويقبل فيها شهادة النساء , وليس بذلك يعني في القوة , قال والصواب الجواز في الجميع“(1) .
( وفي الأشباه والنظائر:” هل يصح بالخط [يعني الظهار]؟ الأصح : نعم , كالطلاق , صرح به الماوردي , وأفهمه كلام الأصحاب , حيث قالوا : كل ما استقل به الشخص , فالخلاف فيه , كوقوع الطلاق بالخط , وجزم القاضي حسين بعدم الصحة في الظهار , كاليمين , فإنها لا تصح إلا باللفظ“(2)، وهو يفيد أن الفقهاء اعتبروا الخط، في وقوع الطلاق والظهار، وهذا لا يعني أن الخط وسيلة إثبات في الطلاق وغيره، وإنما يفيد أنه يقع به، أما الإثبات بالخط فلم يأخذ به الشافعية.
__________
(1) - ابن فرحون، القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي ، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام(443) دار الكتب العلمية.
(2) - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ، الأشباه والنظائر(175) دار الكتب العلمية.(35/29)
(وفي الإتقان والإحكام قال المتيطي:” لا تقبل الشهادة على الخط إلا من الفطن العارف بالخطوط وممارستها , ولا يشترط فيه أن يكون قد أدرك صاحب الخط “(1)، ومما يستفاد من هذا القول اعتماد شهادات المؤسسات والهيئات التي تعنى بإصدار الشهادات الخاصة بالتوقيع الإلكتروني، كمؤسسات تتمتع بالمعرفة والخبرة الكافية في إثبات التواقيع الإلكترونية ونسبتها إلى أصحابها.
( وفي الأشباه والنظائر:”إذا رأى بخط أبيه أن لي على فلان كذا أو أديت إلى فلان كذا قال الأصحاب : فله أن يحلف على الاستحقاق والأداء اعتمادا على خط أبيه , إذا وثق بخطه وأمانته“(2) .
(وفي الفتاوى الكبرى:”تنفذ الوصية بالخط المعروف وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره وهو مذهب الإمام أحمد“(3).
(وفي درر الحكام شرح مجلة الأحكام في المادة ( 1736 ): ” لا يعمل بالخط والخاتم فقط، أما إذا كان سالما من شبهة التزوير والتصنيع، فيكون معمولا به أي؛ يكون مدارا للحكم ولا يحتاج للإثبات بوجه آخر ... لا يعمل بالخط والخاتم فقط ; لأن الخط الواحد يشبه الخط الآخر والخاتم يشبه الخاتم الآخر فيكون فيه شائبة التزوير والتصنيع “(4). وفي المادة 1737: ”البراءات السلطانية، وقيود الدفاتر الخاقانية لكونها أمينة من التزوير معمولا بها أي أمينة وسالمة من شبهة التزوير والتصنيع“(5).
__________
(1) - ميارة، محمد بن أحمد الفاسي، الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام (1/64) دار المعرفة.
(2) - السيوطي، الأشباه والنظائر(311).
(3) - ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ، الفتاوى الكبرى(5/439) دار الكتب العلمية.
(4) - علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4/479)، دار الجيل.
(5) - علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4/480).(35/30)
وفي المادة 1476:”...ولكن الإقرار الذي ادعي به كان قد ربط بسند حاو لخط وختم المدعى عليه المعروف سابقا بين التجار وأهل البلدة ولم يوجد مرور الزمن من تاريخ السند إلى وقت الدعوى ففي تلك الصورة تسمع دعوى الإقرار ; لأنه يثبت الإقرار في هذا الحال بريئا من شبهة التزوير والتصنيع“(1).
أقوال الفقهاء في عدم الاحتجاج بالخط:
( الشافعية:
…قال السيوطي في الاحتجاج بالخط: ”إذا رأى القاضي ورقة فيها حكمه لرجل , وطالب عنه إمضاءه والعمل به ولم يتذكره , لم يعتمده قطعا لإمكان التزوير وكذا الشاهد : لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر , فلو كان الكتاب محفوظا عنده وبعد احتمال التزوير والتحريف , كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه , فوجهان الصحيح أيضا : أنه لا يقضي به ولا يشهد“(2). ولكن ينبغي الملاحظة أن قول السيوطي السابق في صحة وقوع الطلاق بالخط، وهنا يتحدث عن الخط كوسيلة إثبات وليس كشرط في وقوع الفعل، يعني أن الطلاق يقع بواسطة الخط، وكذلك بالوسائل الإلكترونية إن قلنا بصحة قياس الرسالة الإلكترونية الموقعة بالتوقيع الإلكتروني المعترف به على الخط، ولكن إثبات الطلاق بالخط أمر فيه وجهان سبق ذكرهما.
وفي الأحكام السلطانية:”إن تقدمته[يعني كاتب الديوان] القوانين المقررة فيها، رجع فيها إلى ما أثبته أمناء الكتاب إذا وثق بخطوطهم، وتسلمه من أمنائهم تحت ختمهم، وكانت الخطوط الخارجة على هذه الشروط مقنعة في جواز الأخذ بها، والعمل عليها في الرسوم الديوانية والحقوق السلطانية , وإن لم تقنع في أحكام القضاء والشهادات اعتبارا بالعرف المعهود فيها“(3).
( الأحناف:
__________
(1) - علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4/320).
(2) - السيوطي، الأشباه والنظائر(311)
(3) - الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد حبيب ، الأحكام السلطانية والولايات الدينية (268)، دار الكتب العلمية.(35/31)
وفي البحر الرائق: ” قوله ولا يعمل شاهد وقاض وراو بالخط إن لم يتذكروا ... وجوز محمد للكل الاعتماد على الكتاب إذا تيقن أنه خطه وإن لم يتذكر توسعة للأمر على الناس وجوزه أبو يوسف للراوي والقاضي دون الشاهد“(1). وإن كان المشهور عند الأحناف عدم الاحتجاج بالخط، خلافا لمحمد إلا أنهم استثنوا مسألتين، وقالوا بحجية الخط فيهما، وهما مسألة كتاب أهل الحرب، ودفتر السمسار والصراف والبياع.
جاء في كتاب الضمانات فيما هو مستثى من عدم الاحتجاج بالكتابة: ”... إلا في مسألتين : الأولى : كتاب أهل الحرب بطلب الأمان إلى الإمام، فإنه يعمل به ويثبت الأمان لحامله , كما في سير الخانية . ويمكن إلحاق البراءة السلطانية بالوظائف في زماننا إن كانت العلة أنه لا يزور , وإن كانت العلة الاحتياط في الأمان لحقن الدم فلا . الثانية: يعمل بدفتر السمسار والصراف والبياع كما في قضاء الخانية . وتعقبه الطرسوسي بأن مشايخنا رحمهم الله ردوا على مالك في عمله بالخط لكون الخط يشبه الخط , فكيف عملوا به هنا ؟ ورده ابن وهبان عليه بأنه لا يكتب في دفتره إلا ماله وعليه“(2).
__________
(1) - ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق(7/72) دار الكتاب الإسلامي.
(2) - البغدادي، غانم بن محمد، مجمع الضمانات(371)، دار الكتاب الإسلامي.(35/32)
وفي الفتاوى الهندية:”رجل ادعى على رجل مالا فأنكر المدعى عليه فأخرج المدعي خطا بإقرار المدعى عليه بذلك المال , وقال : هذا خط المدعى عليه فأنكر المدعى عليه أن يكون خطه فاستكتب وكتب وكان بين الخطين مشابهة ظاهرة اختلفوا فيه قال بعضهم : يقضي القاضي على المدعى عليه بذلك المال , وقال بعضهم : لا يقضي , وهو الصحيح“(1)، وفيها أيضا: ”رأى خطه , ولم يتذكر الحادثة أو تذكر كتابة الشهادة , ولم يتذكر المال لا يسعه أن يشهد , وعند محمد - رحمه الله تعالى - يسعه أن يشهد قال الحلواني : يُفتى بقول محمد“(2).
( الحنابلة:
أجاز الحنابلة الاحتجاج بالخط في الوصية، جاء في كشاف القناع: ” وإن وجدت وصيته بخطه الثابت أنه خطه بإقرار ورثته أو بينة تعرف خطه صحت، الوصية وعمل بها، قال في الاختيارات : وتنفذ الوصية بالخط المعروف وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره، وهو مذهب الإمام أحمد انتهى“(3)، وقال أيضا:” ولو رأى الحاكم حكمه بخطه تحت ختمه ولم يذكر أنه حكم به أو رأى الشاهد شهادته بخطه ولم يذكر الشهادة لم يجز للحاكم إنفاذ الحكم بما وجده بخطه تحت حكمه ولا للشاهد الشهادة بما رأى خطه به على الصحيح احتياطا . والفرق بين ذلك والوصية أنها سومح فيها بصحتها مع الغرر والخطر وبالمعدوم والمجهول فجازت المسامحة فيها بالعمل بالخط كالرواية بخلاف الحكم والشهادة“(4).
المناقشة:
__________
(1) - جماعة من علماء الهند، الفتاوى الهندية(3/449)، دار الفكر.
(2) - الفتاوى الهندية ( 3/ 456).
(3) - البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع على متن الإقناع(3/338)، دار الكتب العلمية.
(4) - البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع على متن الإقناع(3/338).(35/33)
…يلاحظ القارئ للنصوص السابقة أن الفقهاء الذين أجازوا الاحتجاج بالخط لم يجيزوه بإطلاق، وإنما أجازوا الاحتجاج به حيث أمن التزوير، أما المانعون فلم يمنعوا الاحتجاج أيضا بإطلاق، فبعضهم قيد جواز الاحتجاج في أمور معينة دون أخرى، فالحنابلة أجازوا الاحتجاج بالخط في الوصية ومنعوا القاضي والشاهد من العمل بالخط، بينما أجاز الأحناف العمل بالخط والاحتجاج به،في دفاتر التجار والسماسرة وسجلات الدولة لكونها بعيدة من التزوير، وفي درر الحكام وهي تقنين حنفي مقنن، فقد توسعت في قبول الخط كوسيلة إثبات كما هو واضح في نصوصها السابقة، أما محمد بن الحسن فقد كان الأكثر توسعا في قبول الخط المعروف، كوسيلة إثبات، وصُرِّح في الفتاوى الهندية بأن الفتوى على قول محمد.
…أما الشافعية فعندهم وجهان في جواز الاحتجاج بالخط إذا أمن التزوير، الأصح أنه لا يعتمد وإن أمن التزوير، ولكن ذلك لا يعني أن نُغفل الوجه الآخر عندهم، لا سيما وأن الماوردي أشار في نصه المذكور آنفا في الأحكام السلطانية إلى أن سبب عدم العمل بالخط كحجة في الإثبات هو العرف، ومعلوم أن العرف له اعتباره شرعا ما دام مستمرا. وإن كان المرجع هو العرف في عدم الاحتجاج بالخط، فإن العرف السائد عالميا وبين الدول العربية الإسلامية التي احتجت بالتوقيع الإلكتروني يجعل من التوقيع الإلكتروني حجة شرعية في الإثبات يسندها العرف.
…من خلال المناقشة السابقة، يمكن استخلاص النتائج التالية:(35/34)
( إن هناك قدرا متفقا عليه في الاحتجاج بالخط بين فقهاء المسلمين مما يعني أن الخط حجة ولكن هناك من قيد، وبالتالي يمكن أن يستند إلى أن الخط حجة من حيث المبدأ، ومن ثم قياس التوقيع الإلكتروني على الخط في حجية الإثبات، بل إنني أستطيع أن أقول إن هناك اتفاقا بين المذاهب الأربعة على مطلق الاحتجاج بالخط، وأن الشافعية عندما منعوا الاحتجاج بالخط كوسيلة إثبات كان لأمر عرفي على ما صرح به الماوردي، والعرف لا يمنع من الاحتجاج بالخط كوسيلة للإثبات.
( إن مدار نقاش الفقهاء في قبول الخط كحجة أو عدم قبوله كان من حيث إنه يمكن تقليده أم لا، فمن رآى عدم إمكان التقليد والتزوير، اعتبره حجة، ومن رآى إمكان التقليد والتزوير منع من الاحتجاج به، وإذا نظرنا إلى التوقيع الإلكتروني نجد أن هناك توافقا عالميا من قبل أهل الخبرة والمعرفة على أنه على درجة عالية جدا من الأمان، بحيث يصعب تقليده، مما حدا بالقوانين أن تعتد به في الاحتجاج.
( إن تفريق بعض الفقهاء في الاحتجاج بالخط في أمر دون أمر، كان مرده إلى أن الخط حجة، ولكنه لايرقى إلى الدرجة العليا المصداقية، فأثبته في الوصية مثلا كونها مبنية على التبرع، فتم التساهل فيها على النحو المذكور عن الحنابلة، أو في المعاملات المالية دون الزواج والطلاق والحدود، لأن الأمور المالية أهون شأنا من أمور الزواج والطلاق وأمثالها، ومع ذلك فقد رأى الإمام مالك حجية الخط وجواز الشهادة عليه حتى في هذه الأمور التي يطلق عليها في عرفنا الأحوال الشخصية، فكيف بالتوقيع الإلكتروني الذي هو نظام يقوم على أسس علمية وتقنية متفوقة، فمن باب أولى أن يؤخذ بالتوقيع الإلكتروني، الذي تتوافر فيه شروط الأمن من التزوير والتقليد، مما يعني أن العلة هنا أتم في الفرع المقيس ممثلا في التوقيع الإلكتروني منها في الأصل الذي هو الخط، وبالتالي، فمن باب أولى أن يحتج به.
المراجع(35/35)
ابن أمير حاج، محمد بن محمد بن محمد، التقرير والتحبير في شرح التحرير، دار الكتب العلمية.
ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ، الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية.
ابن فرحون، القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي ، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، دار الكتب العلمية.
ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير ، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، دار الكتاب الإسلامي.
أبو الليل، إبراهيم الدسوقي، الجوانب القانونية للتعاملات الإلكترونية، الكويت جامعة الكويت(مجلس النشر العلمي)، 2003م.
أبو الهيجاء، محمد إبراهيم، عقود التجارة الإلكترونية، عمان، دار الثقافة، ط1، 2005.
برهم، نضال إسماعيل، أحكام عقود التجارة الإلكترونية،عمان، دار الثقافة، ط1، 2004م.
البغدادي، غانم بن محمد، مجمع الضمانات ، دار الكتاب الإسلامي.
البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع على متن الإقناع، دار الكتب العلمية.
جماعة من علماء الهند، الفتاوى الهندية، دار الفكر.
حجازي، عبد الفتاح بيومي، النظام القانوني لحماية التجارة الإلكترونية، الإسكندرية، دار الفكر الجامعي، ط1، 2002م.
حجازي، عبد الفتاح بيومي، مقدمة في التجارة الإلكترونية العربية، الإسكندرية، دار الفكر الجامعي،2003م.
الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، دار الفكر.
الزركشي، بدر الدين بن محمد بهادر، البحر المحيط ، دار الكتبي.
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد ، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية.
شرف الدين، أحمد السعيد، حجية الكتابة الإلكترونية في الإثبات، دبي، مركز البحوث والدراسات بشرطة دبي، 2001م.
الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار، نثر الورود على مراقي السعود، جدة، توزيع: دار المنارة للنشر والتوزيع، الناشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي، ط2، 1999م.(35/36)
علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام ، دار الجيل.
عليش، أبو عبدالله محمد بن أحمد، ، منح الجليل شرح مختصر خليل، دار الفكر.
قشقوش، هدى حامد، الحماية الجنائية للتجارة الإلكترونية عبر الإنترنت، دار النهضة العربية،2000م.
الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد حبيب ، الأحكام السلطانية والولايات الدينية ،دار الكتب العلمية.
المومني، عمر حسن، التوقيع الإلكتروني،عمان، دار وائل للنشر والتوزيع، ط1، 2003م.
ميارة، محمد بن أحمد الفاسي، الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام ، دار المعرفة.
نصيرات، حجية التوقيع الإلكتروني في الإثبات، عمان، دار الثقافة، ط1، 2005م.
النتائج والتوصيات:
( إن التجارة الإلكترونية أصبحت أمرا واقعا يحتاج من علماء المسلمين أن يدرسوه دراسة وافية.
(إن القوانين التي استثنت معاملات الأحوال الشخصية من تطبيق القوانين الخاصة بالمعاملات الإلكترونية استندت إلى الإجراءات الشكلية التي فرضها القانون.
(لا يوجد مانع شرعي يحول دون الاحتجاج بالتوقيع الإلكتروني الموثق من الجهات المختصة.
(ضرورة دعم القضاء الشرعي بالأبحاث والدراسات التي تضمن له فاعليته في علاج المستجدات.
(إن استثناء القضاء الشرعي من الاستفادة من معطيات الحياة المعاصرة والتي لا تتعارض مع الشرع، هو تجميد لقطاع حيوي في حياة المسلمين ألا وهو القضاء الشرعي.
(الفقه الإسلامي قادر على أن يعطي الحل الأمثل دائما، ويلبي حاجات المجتمع في ظل التطور التقني.
(التحذير من اتساع الفجوة بين القضاء الشرعي والواقع في حالة استمرار مثل هذه الاستثناءات.(35/37)
بسم الله الرحمن الرحيم
ورقة بحثية مقدمة إلى:
ندوة
"القضاء الشرعي في العصر الحاضر :الواقع والآمال"
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الشارقة
بعنوان:
دور القضاء الشرعي في حماية كيان الدولة المالي
دراسة تطبيقية في قضايا الزكاة والضرائب والجمارك كأمر مستحدث
إعداد
د. أسامة محمد عثمان خليل
أستاذ ورئيس قسم القانون المدني
جامعة النيلين – السودان
مقدمة في وظيفة القضاء الشرعي:-
…تعد المهمة الجوهرية للقضاء عموماً في تطبيق القوانين مع ضرورة مراعاة الأفكار والإتجاهات السائدة في المجتمع. ولا شك في عظمة هذه المهمة بالنسبة للقضاء الشرعي بإعتباره الملمح والمظهر الحقيقي للدولة الاسلامية إذ تتجلي فيه المدنية. حيث إرتطبت وظيفة القضاء في الدولة الإسلامية منذ صدر الإسلام بالمجتمع المدني وكيف لا وهي الوظيفة المدنية(1) الوحيدة لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
…ومن متطلبات هذه المهمة أن يواكب القاضي الشرعي وهو يطبق أو يفسر القوانين ما يجري من تطور في المجتمعات والمساهمة في اصلاح ما يناسب عصره مع ما يستقر في ضمير هذه المجتمعات الآن مثل إنشغاله بالمفاهيم المعاصرة كمفهوم حقوق الإنسان، وإقراره بمفاهيم السياسة المالية الحديثة يجعله جزءاً جوهرياً من تكوينه المهني كقاضى شرعي وكمسلم من قبل. إذ على المسلم ضرورة معرفة علاقة المسلمين بغيرهم في الداخل والخارج حتى لا يستغل الأعداء ذلك، ليدركوا ويعلموا ان هذه الرسالة هي رسالة عطاء ومحبة وخير للإنسانية جمعاء في جميع جوانب الحياة، وتاتي في ذروة هذه الجوانب، جانب إقامة العدل في نشاطات السياسية المالية.
…في هذه الورقة سوف نحاول بإذن الله دراسة الموضوع على ظلال الأفكار التالية:
__________
(1) - د. أحمد صبحي منصور، القضاء والمجتمع ، رؤية إسلامية، "حلقات نقاشية عن دور القضاء " ، مركز ابن خلدون ، مصر 1997م ، دار الأمين، ص 24.(36/1)
ربط ما يحدث في القضاء الخاص في المسائل المالية كأمر مستحدث امام القضاء الشرعي مع بيان ما هو سائد في قضايا الزكاة والضرائب والجمارك في السودان.
أن يكون البحث والنظر على أساس قواعد ومبادئ الشريعة الاسلامية والاسترشاد بإجراءات المحاكم السودانية وإجراءات اللجان المختصة لجباية هذه الاموال، كل ذلك في ضوء اجتهادات فقهاء الإسلام في خصوص المسائل المشابهة لهذه المسائل المستحدثة استرشادا بها في تحديد الإطار الشرعي لهذه المستجدات.
نضع في بالنا ونحن نبحث في هذا الموضوع ان الفقه والقانون مطالبين بالبحث عن احكام هذه المستجدات، يقيناً بان الاحكام تتغير بتغير الزمان والمكان(1)، إذ لا يبقى إلا أصول الشريعة الواردة في القرآن والسنة الشريفة، وذلك داخل دائرة عدم التعارض مع هذه الأصول من جهة، وبقدر ما تحفظه هذه الوسائل من مصالح جديرة بالرعاية من جهة اخري.
__________
(1) - تنص المادة 5/هـ من قانون المعاملات المدنية "السوداني"" لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان".(36/2)
الاهتمام بإبراز الجانب التطبيقي بإعتبار أن المشكلة ليست في القواعد المنظمة لعمل القاضي الشرعي واستقلاله ، ولا قوانين تحمي عمله إنما قد يكون في شخص القاضي نفسه، في ملكاته في فهم الوقائع، وثقافة المجتمع، والظروف المتوفرة له كفرص التدريب لمواكبة مستجدات العصر في إطار مؤسسات مهنية. ولا سيما ان وظيفة القضاء في الإسلام تختلف نوعاً ما عن نظيره في النظام الوضعي فالمتهم مثلاً في القوانين الوضعية برئ حتى تثبت إدانته فإذا لم تثبت إدانته فهو برئ حتى ولو كان مجرماً محترفاً فالعبرة هنا بالحقيقة القضائية لا الحقيقة الواقعية ، ومن ثم الضبطية القضائية، اما في التشريع القرآني فليست العبرة فقط بهذه الضبطية القضائية ولكن بضمير الإنسان نفسه "أى التقوى". أى ان تحقيق العدل عملية مركبة لا تتوقف فقط على ضميرالقاضي وورعه- خاصة إذا علمنا ان القاضي الشرعي أيضاً يحكم باسم المجتمع لا بأسم الله رغم قيامه بوظيفة من وظائف الله على الأرض – وانما بنصيب وافر على نزاهة الخصوم، مما يضاعف من دور القاضي في إعمال تزكية الخصوم وذلك بحث الخصوم علي تقوى الله وخشيته، قال تعالي " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم" (1) وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا كونو قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى"(2).
نأمل أن تعكس هذه الورقة الفهم السليم لعمل القاضي الشرعي وإظهار دوره بأمر يتعلق بجانب مهم جداً ذو صلة قوية بالمدنية الحديثة الا وهو الجانب المالي وهو يستصحب أثر الرسول صلي عليه وسلم الذى ربى أصحابه على حرية الرأي واستقلال الإرادة وقوة الشخصية مما يمكنه من تحليل الأمور واقتراح العلاج المناسب عند القضاء والتشريع
…ينقسم البحث الى أربعة مطالب:
__________
(1) - سورة النساء آية رقم 135
(2) - سورة المائدة آية رقم 8.(36/3)
المطلب الأول: الحاجة للمحاكم الخاصة في إطار قاعدة "حق كل مواطن في اللجوء الى قاضيه الطبيعي" .
المطلب الثاني: تحديات حديثة تواجه القضاء الشرعي
المطلب الثالث: قضايا الزكاة كامر مستحدث "دراسة التجربة السودانية".
المطلب الرابع: قضايا الضرائب والجمارك أمام القضاء الشرعي كأمر مستحدث.
المطلب الاول
الحاجة للمحاكم الخاصة في اطار قاعدة حق كل مواطن في اللجوء
الي قاضيه الطبيعي
أولاً :- تأكيد هذا الحق في المواثيق والإعلانات العالمية :-
أهتمت المواثيق والاعلانات الدولية المعنية بحقوق الانسان كفالة حق كل مواطن في اللجوء الي قاضيه الطبيعي. فقد نصت المادة العاشرة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر سنة 1948م علي ان لكل انسان الحق علي قدم المساواة التامةمع الاخرين في ان تنظر قضيته امام محكمة مستقلة نزيهة، نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته واية اتهامات جنائية توجه اليه. وقد عمدت المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في بيان عناصر حق الانسان في التقاضي وضمانات ذلك الحق، ونجد هذا الالتزام في الدساتير وقوانين الدول المختلفة علي شكل نصوص(1).
بجانب هذا القضاء الطبيعي يكون من الضروري تاكيد استقلال القضاء وحصانته مما يستلزم الغاء المحاكم الاستثنائية والخاصة .
__________
(1) - تنص المادة 34/3 من دستور جمهورية السودان الانتقالي لعام 2005م : " يكون لاي شخص تتخذ ضده اجراءات مدنية اوجنائية الحق في سماع عادل وعلني امام محكمة عادية مختصة وفقا للاجراءات التي يحددها القانون" .(36/4)
يقصد " بالمحاكم الخاصة " المحاكم التي لاتتبع الاجراءات الطبيعية والعادية(1)، اما المحاكم النوعية علي شاكلة محاكم الزكاة والضرائب والجمارك لانستطيع اطلاق مسمي المحاكم الخاصة عليها بصورة جازمة الا اذا حادت عن الاجراءات الطبيعية والعادية. أما إذا عملت هذه المحاكم ببعض الاجراءات فقد تكون محماكم نوعية او متخصصة في اطار مبدأ استقلال القضاء.
ونجد تأكيدات لهذا الاستقلال في التشريعات الوطنية والاعلانات العالمية مثال ما جاء في الاعلان العالمي لاستقلال القضاء الصادر عن مؤتمر كندا لسنة 1983:" حرية القاضي في الفصل في الدعوي دون تحيز " من الدعوي دون تحيز او تاثير او الخضوع لاية ضغوط او اكراه .وجاء فيه ان تكون السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية ، وان يكون اعادة النظر في الاحكام القضائية من اختصاص السلطة القضائية وحدها.
نصت المادة الثانية من الاعلان العربي لاستقلال القضاء والذي صدر بالمملكة الاردنية في ابريل 1985 عن اتحاد المحامين العرب علي انشاء المحاكم الاستثنائية او الخاصة بجميع انواعها محظور ، كما يحظر تعدد جهات التحقيق والحكم ، واكد الاعلان في المادة الثالثة علي ان حق التقاضي مصون ومكفول للناس كافة وكل مواطن له حق الالتجاء الي قاضيه الطبيعي .
__________
(1) - كمحاكمة المدنين امام المحاكم العسكرية "ومحاكم أمن الدولة"، وكذلك تعد مبدا استقلال القضاء تجربة محاكم العدالة الناجزة ابان الفترة الاولي لتطبيق قوانين الشريعة الاسلامية عام 1983 في السودان صورة حية لهذه المحاكم الخاصة حيث كانت لها اجراءات خاصة في رفع الدعاوي والخصومة منها تشكيل المحاكم واعطاء اعضائها سلطة النظر في الطعون المقدمة ضد قرار هذه المحاكم .(36/5)
جاء تاكيد هذا الحق في المؤتمر السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الذي نظمه المجلس الاقتصادي والاجتماعي للامم المتحدة الذي عقد في ميلانو بايطاليا سنة 1985م : "ان لكل فرد حق في ان يحاكم امام المحاكم العادية ولايجوز انشاء هيئات قضائية استثنائية او متخصصة تنزع الولاية القضائية التي تتمتع بها اصلا المحاكم العادية او الهيئات القضائية" .
ثانيا :- تأكيد الحق في الاسلام " نماذج من الممالك الاسلامية في السودان"(36/6)
…هناك من الاحداث والوقائع مايؤكد إجتهاد الرسول وصحابته في صدر الاسلام بدرجة لاتحتاج معه التفصيل، الاردة التفصيل ، حيث كان للقضاة والحكام كامل " الاستقلالية " وحرية الراي وقوة الشخصية، الامر الذي دفع البعض بالقول: لقد افسح النبي صلي الله عليه وسلم صدره لهم "القضاة والمحاكم " في هذا المجال حتي يخيل للمرء انهم جاوزوا حدهم فيه(1). مما اذكي الواقع العملي بقضاء موحد يدمج في فترات كثيرة مع وظيفة الحاكم مما يباعد فرص وجود قضاء خاص وهذا النظام الموحد عرف في مملكة الفونج الاسلامية(2) في السودان التي لاول مرة ظهر فيها القضاء المنظم بل فيها وضع اساس استقلال القضاء في السودان، ولم يكن القضاء موزعا الي قضاء شرعي وجنائي ومدني كما هو الحال الان، لذا كان يشترط من يتولي القضاء الفطنة والعلم الواسع بجانب المعرفة العميقة باحكام الشريعة الاسلامية(3). الا ان الفونج عرفوا وجود بعض المحاكم الخاصة مثل "قضاء الشريعة البيضاء(4) في المناطق الريفية للمملكة حيث تفصل هذه المحاكم بأحكام الشريعة الاسلامية، و كذلك محاكم الاجاويد اي الصلح وغيرها .
عرفت سلطنة دارفور نظام القضاء الشرعي واهتمت بامر القضاء والفقه الاسلامي. حيث قام نظام التقاضي في هذه السلطنة الاسلامية علي قسمين :-
__________
(1) - د/ سليمان دنياالتفكير الفلسفي الاسلامي ، مصر ، الطبعة الاولي 1387ه – 1967م
(2) 2- من المالك الاسلامية التي حكمت السودان في الفترة من 1504 – 1821و تكونت بتحالف دولة العبدلاب ودولة الفونجوأسست مايعرف بالسلطنة الزرقاء – انظر محمد خليفة حامد ،تاريخ النظام القضاء في السودان الملامح والتطور (بدون بيانات النشر ) طبعة 2004 ، ص 19
(3) -حافظ جعفر ابراهيم ، المرجع السابق ص 216
(4) -جاءت التسمية من سهولة اجراءات المخاصمة في عهد المهدية في قضاء الخليفة عبد الله التعايشي خليفة الامام المهدي.(36/7)
قضاء الشرعي يختص بالاحوال الشخصية، وقضاء عرفي يختص بالقضايا الجنائية(1) .
…اما القضاء في الدولة المهدية فيبدو فيه الاستقلالية حيث احدث المهدي وظيفة قاضي الاسلام، كرئيس للجهاز القضائي الا أنه من الملاحظ ان دور قاضي الاسلام كان ضئيلا حيث فوض المهدي الامراء للنظر في قضايا مناطقهم بمعني ان وظيفة القاضي امتزجت بوظيفة الحاكم كما في صدر الاسلام . وعرف تنوع المحاكم والقضاة حيث قام بتعين نواب الشرع "وهم القضاة "، والامناء للفصل في القضايا السياسية (2)، وعرفت الدولة كذلك وظيفة رد المظالم. اما الخليفة عبد الله التعايشي "خليفة المهدي" ألغي وظيفة الامناء المختصين بنظر القضايا السياسية مع الاحتفاظ بمنصب قاضي الاسلام،وعرفت المهدية في عهده المحاكم المتخصصة (3) مثل محكمة الاسلام، برئاسة قاضة الإسلام في العاصمة أمدرمان، ومحكمة السوق (محكمة المحتسب) ومحكمة بيت المال ، ومحكمة الكارة التي تختص بقضايا المجاهدين.
المطلب الثاني
تحديات حديثة قد تواجه القضاء الشرعي
أولاً:- مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية وامكانية تعارضها مع مفهوم النظام العام واحكام الشريعة الاسلامية في الدول الاسلامية .
مفهوم الجريمة المنظمة يتمثل في توزع اركان وعناصر هذه الجرائم علي اقليم اكثر من دولة مثال جريمة الاتجار بالمخدرات وغسيل الاموال .
__________
(1) - انظر بتفصيل علي محمد علي ، القضاء في الدولة المهدية، مركز الدرسات السودانية ، الطبعة الاولي 2002م ص 14
(2) - انظر حافظ جعفر ، المرجع السابق، ص 229.
(3) - اكد رئيس الجمهورية ، ورئيس القضاء في احتفال الهيئة القضائية بمرور خمسين سنة (اليوبيل الذهبي )لاعتلاء اول سوداني منصب رئيس القضاء بضرورة التوسع في انشاء المحاكم المتخصصة، 18 فبراير 2006 الخرطوم(36/8)
هذه الظاهرة بلا شك تثير مشكلات عديدة ومعقدة تعقد هذا العصر ، الامر الذي يدعو الي ضرورة توحيد التشريعات القانونية التي تكافحها .وهذا التوحيد في التشريعات قد ينتج عنه خروج من مباديء واصول مستقرة كمبدأ الشرعية ، ومباديء السيادة الاقليمية وسيادة احكام الشريعة الاسلامية بالنسبة الي القاضي المسلم . هذا بالفعل ماجاءت به الاتفاقيات الدولية كاتفاقية الامم المتحدة لعام 2000 وهي تتجاوز في مكافحتها لظاهرة الجريمة المنظمة مسلمات السياسة العقابية التقليدية .
حيث نصت المادة الرابعة من الاتفاقية علي انه(1) :-
يتعين علي الدول الاطراف ان تؤدي التزاماتها بمقتضي هذه الاتفاقية علي النحو الذي يتفق مع مباديء المساواة في السيادة والحرمة الاقليمية للدول، ومع مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الاخري .
ليس في هذه الاتفاقية ما يبيح لدولة طرف ان تقوم في اقليم دولة أخري بممارسة الولاية القضائية واداء الوظائف التي يناط اداؤها حصراً لسلطات تلك الدولة الاخري بمقتضي قانونها الداخلي.
__________
(1) - في اوراق عمل الندوة العلمية حول نتائج واثار التصديق علي اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة عبر الوطنية، الخرطوم –السودان 5- 6 مارس 2002م(36/9)
لاشك ان مثل هذه النصوص تشكل قيودا للولاية القضائية المطلقة للدولة ضيقا واتساعا من حيث التطبيق ، اذ تجعل من كل الافعال الخطرة المنصوص عليها في الاتفاقية مجرمة داخل الدولة التي صادقت علي الاتفاقية في حين انها قد تكون غير مجرمة في التشريع الداخلي ، بل قد يتعارض مع النظام العام للدولة او مع القواعد المنظمة لحل التنازع في هذه الدولة لاسيما في دولة لاتجعل من نصوص المعاهدة علوٌ علي الاحكام الداخلية (1).
فقد نصت المادة (5) في الفقرة 3 من الاتفاقية بانه " لايتعين علي الدول الاطراف التي يشترط قانونها الداخلي ضلوع جماعة اجرامية منظمة لتحرير الافعال المنصوص عليها في الفقرة (1) من هذه المادة ان تكفل شمول جميع الجرائم الخطيرة التي تضلع فيها جماعات اجرامية منظمة".
اذاً المقصد في هذا التعاون الدولي تحقيق تقريب شقة الاختلاف بين القواعد الموضوعية والاجرائية للقوانين الجنائية الوطنية لكافة الدول (2).
__________
(1) - في بعض التشريعات الوطنية قد تعطل نصوص المعاهدة نصوص القانون الوطني –مثال ماتقاضي به المادة 12 من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 "السودان" التي تنص: " لاتسري احكام المادة 11 " وهي قواعد الاسناد" اذا وجد نص في قانون خاص او معاهدة دولية نافذة في السودان يتعارض معها".
(2) - د- بابكر الشيخ ، تفاعل المباديء الانسانية العلمية في القانون ، مجلة العدل ، العدد السادس عشر السنة الرابعة ص 142.(36/10)
مايلينا هنا مدي ما قد ينتج من تعارض حينما تسعى دولة القاضي الشرعي لأعمال نصوص مثل هذه الاتفاقيات على ضوء مفهوم النظام العام، وتظل المشكلة قائمة.(1) وهل يعني مفهوم "النظام العام " في دولة القاضي الشرعي أحكام الشريعة الاسلامية ؟ ام هو معني مرادف؟ ام تدخل احكام الشريعة الاسلامية في معني النظام العام للدولة المسلمة؟
صحيح ان الموضوع معقد يحتاج الي بحث منفصل ممايدعو علماء الامة ومفكروها واصحاب الرأي في العمل علي توحيد التصورات والمفاهيم لمثل هذه الامور علي اساس سياسة المرونة في الدعوة . نعتقد انه من الثابت ان اعمال مانع النظام العام في مجال تطبيق القوانين الاجنبية عموماً تضيق فرصه، وذلك لوجود ضرورة في تطبيق هذه الاحكام ولاسيما احكام غير المسلمين امام القاضي المسلم عنها في نطاق القانون الداخلي وذلك لوجود ضرورة ايفاء تطبيق شرائع غير المسلمين وبالتالي ايفاء لمتطلبات المعاملات الخاصة الدولية.
الا اننا نلاحظ بعض التوسع في مفهوم النظام العام بل شيء من عدم الدقة في موقف القانون السوداني حيث عالج القانون السوداني فكرة الدفع بالنظام العام ضمن قيود تطبيق القانون الاجنبي وذلك بالنص في المادة 16/ 2 بانه : " لايجوز تطبيق احكام قانون اجنبي عينته النصوص السابقة اذا كانت هذه الاحكام تخالف الشريعة الاسلامية او النظام العام والاداب في السودان".
__________
(1) - مفهوم النظام العام يعبر عن هذه الفكرة في النظام القانوني الداخلي بقواعد امرة لايجوز للافراد مخالفتها ، اما في مجالف فرص تطبيق قوانين اخري غير وطنية امام القاضي الوطني يعتبر رفع استثنائي يفيد من تطبيق هذه القوانينز انظر د/ هشام علي صادق ، تنازع القوانين ، طبعة ثانية منشأة المعارف الاسكندرية ، ص 293(36/11)
…هنا لابد للقاضي الشرعي أن يفسر موقف المشرع بأنه " لايقصد بهذا التوسع ابعاد كل احكام القوانين الاجنبية التي تخالف الشريعة الاسلامية والا قام حينها بإبعاد اغلب احكام غير المسلمين المتعلقة بأحوالهمالشخصية." (1)
عليه يكون الاوفق الاكتفاء بتعبير "النظام العام " او الاداب باعتبارها تشمل الشريعة الاسلامية وبالتالي يكون اضافة قيد الشريعة الاسلامية، لتطبيق القانون الاجنبي اشارة الي ابعاد اي حكم مخالف للشريعة الاسلامية وهذا قد يكون خلاف مقتضى المشرع الذي يحرص دائماً على تطبيق القانون الأجنبي نزولاً على مقتضيات التعامل الدولي. ودور القاضي الشرعي بإعتباره حامي حمى أحكام الشريعة الإسلامية يحمله أن لا يتمادى في التضييق في إعمال هذا الدفع وبالتالي تطبيق أحكام قد تتعارض تعارضاً بيناً مع الأحكام القطعية للشريعة الإسلامية بإعتبارها السياج الأخير الذى يحفظ الدولة المسلمة .
مثال: إذا أثير مستحدث كأعمال مبدأ الأثر المخفف للنظام العام أمام القاضي الشرعي مثل المطالبة بحق مكتسب وكان الحق نفسه مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية فما هو الحل ؟
__________
(1) - د. أسامة محمد عثمان -مؤلفات تنازع القوانين- دراسة في القانون السوداني والمقارن 2004 .(36/12)
الثابت في الفقه الوضعي أنه يقرر بأن لا مانع في إنفاذ الأوضاع القانونية التى نشأت خارج إقليمها رغم مخالفة هذه الأحكام للنظام العام فيها. بمعنى أنه قد يتعارض إنشاء الحق في دولة القاضي مع اعتبارات النظام العام فيها، بينما لا يصطدم نفاذ هذا الحق في دولة القاضى بالضرورة مع هذه الاعتبارات، ما دام ان الحق قد نشأ واكتسب في الخارج. أي أن هناك فرق بين الفرض الخاص بالحقوق الناشئة في الدولة وبين حالة التمسك بحق اكتسبت في الخارج من جهة أخرى. لهذا على القاضي الشرعي ان يفرق بين حالة شركة أجنبية تكونت بنظام أساسي بتشريع أجنبي وتؤول جميع أسهمها إلى شريك واحد إذ عليه إجازة بقاء الشركة، وتقرير بطلان شركة تحت التأسيس بشريك واحد، إذا لجات إليها لاستصدار حكم بالتأسيس، وإذا قسنا الأمر في مسائل الاحوال الشخصية وموقف الفقهاء المسلمين فيها نجد انهم على إختلاف مذاهبهم يقررون ان حيث يترافع الى القاضي المسلم زوجان التمسا لحكم الشريعة الإسلامية في شأن بينهما من نكاح المحارم فإنه يتعين عليه أن يفرق بينهما.(1)
__________
(1) - د. عنايت عبدالحميد ثابت ، أساليب، قضي تنازع القوانين ذات الطابع الدولي في الإسلام، القاهرة، دار النهضة العربية، 1418هـ-1998.(36/13)
…إلا أننا نعتقد ان رأي الإمام أبو حنيفة في هذه المسألة جدير بالإتباع في هذا العصر في ظل إقرار لحقوق غير المسلمين في إعمال احكامهم ولا سيما الدينية(1) ويكون انفع ومبرر بالطبع إذا تعلق الأمر بمسائل مالية. وبنفس القدر على القاضي الشرعي ان يبعد باسم النظام العام احكام قد لا تخالف الشريعة الإسلامية.
…مثال اشتراط شرط المقابل بالذهب في العقود الداخلية بالرغم من عدم مخالفته للشريعة الاسلامية بإعتبار ان الشرط قائم من اجل حماية الإئتمان العام وحماية العملة الوطنية، وكذا الحال في المسائل المتعلقة بالتهريب الجمركي والضريبي، أما إذا كان العقد دولياً لا يتم إبعاد هذا الشرط لإيفاء متطلبات المعاملات الخاصة الدولية.
ثانياً: إقرار دور مؤسسات المجتمع المدني(2)في إطار إعمال نظام الحسبة :-
__________
(1) - إذ يرى الامام أبو حنيفة من وجوب الحكم للزوجة في نكاح المحارم بالنفقة على زوجها متى ارتفعت إلى القاضى المسلم مطالبة بها، وكانت هي وزوجها يدينان بصحة النكاح القائم فيما بينهما. وإذا تقدمت الزوجة في نكاح المحارم الى القاضي المسلم طلباً للنفقة المستحقة لها على زوجها لا يفيد تخليها عن معتقداتها بل يؤكد تمسكها به – راجع بالتفصيل المبسوط ج5 ، ص 39-41.
(2) - المجتمع المدني او الغير الحكومي له مفهوم واسع وشامل فهو يمثل جميع قطاعات وطوائف المجتمع سواء القبلية أو الدينية أو السياسية او منشآت القطاع الخاص.
أنظر:د. عبدالرحيم احمد بلال، القضية الإجتماعية والمجتمع المدني في السودان، دار عزه للنشر والتوزيع ، الخرطوم ، 2005، ص 44.(36/14)
…قد عنيت الشريعة الإسلامية بالفرد كما عنيت بالجماعة، إن كانت جماعة صغرى ممثلة بالأسرة او جماعة اكبر حجماً مثل تجمعات الأفراد وهو ما يسمى الآن "بالمجتمع المدني" ، والجماعات الكبري "الجماعة السياسية" الدول. ولم ينظر الإسلام إلى الفرد إلا على انه أساس بناء الجماعة ولا إلى الجماعة إلا على انها مكونة من الفرد؛ لذا يجئ إهتمام الإسلام بالفرد بتربيته وحماية حقوقه مما ينتج في الآخر رعاية المجتمع المسلم، قال صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي"(1)
__________
(1) - صحيح بخاري 7/80، صحيح مسلم 8/20.(36/15)
…لما كان حديثنا عن إقامة العدل بالمحافظة على كيان الدولة المالي حماية للمجتمع وتحقيقاً لأمنه بل وتجميل جوانب حياته بتوفير خدمات متنوعة من حدودها الدنيا مجرد إماطة الأذى من الطريق قد تمتد إلى المحافظة على المرافق العامة وحتى الشجر كما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يروى عن عبدالله بن حبش رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار"(1) ، مما يعكس رقي وحرص نظرة الإسلام إلى مصالح الناس العامة ومنافعهم نظرة إهتمام مما يوجه الفرد إلى زيادة السعي في تنميتها والمحافظة عليها شخصياً وإدعاءاً أمام المحاكم إذا لزم الأمر ضد من يعتدى عليها. هنا يجد الاحتساب مجالاً رحباً في هذا المجال الاجتماعي(2) الواسع ليشمل جميع اوجه النشاط الإنساني وفي قمتها تحقيق العدل. إذ أن الغاية في الاحتساب كنشاط للجماعات هو وقاية المجتمع وتحقيق منافع العباد والحرص على سلامتهم وتطبيق العدل ولإقامة الشرع من قبل.(3)
__________
(1) - أخرجه أبو داوؤد.
(2) - د. حامد بن أحمد الرفاعي، الإسلام والنظام العالمي الجديد، الطبعة الثالثة، السنة السادسة عشر، العدد 146، الطبعة الثالثة 1419هـ- أشار إلى ندوة الحج التى عقدت في إطار رابطة العالم الإسلامي ودعت الى جمعيات الإحياء للاعتناء بشئون الحي وخدماته المتنوعة.
(3) - د. طامي بن هديف بن معيفي النعمي، التطبيقات العلمية للحسبة في المملكة العربية السعودية 1419هـ - 1998م، ص 246.
ويذكر إن في الدولة القعبطية بحضرموت كان من يتخلف عن صلاة الجمعة يحاكم أمام محكمة المحتسب.
متعب مبارك صالح بازياد ، التنظيم القضائي في الدولة القعبطية ، رسالة ما جستير، كلية القانون، جامعة النيلين، 2006، ص78.(36/16)
…فيما يتعلق بإقامة العدل تقوم فكرة الحسبة على منح المواطن المسلم حق رفع دعاوى الحسبة التى تمس حقاً من حقوق الله تعالى وهي قريبة المعنى بما يسمى الدعاوى الشعبية كما نجده في قانون الذكاة السوداني إذ تنص المادة (29) على: " تنشأ بالديوان لجان شعبية لمساعدته في مباشرة اختصاصاته وممارسة سلطاته، وتحدد اللوائح اختصاصاتها وسلطاتها". اما إذا خصصنا الحديث حول وظيفة الحسبة في الامور المالية فقد نجد في التجربة السودانية خير معين، إذ نجد دولة المهدية والتى قامت بإحياء نظم إسلامية عديدة من ضمنها إعمال الحسبة في الدعاوى المتعلقة بجمع الزكاة خاصة ضد عمال الزكاة عند القسوة في جبايتها، والانحراف عن جادة الإجراءات مثل تفتيش لجان الزكاة والضرائب حيث حظر التفتيش الناشئ بواسطة جباة الزكاة إلا بامر من القضاء، وانشأ خليفة المهدي عبدلله التعايشي محكمة السوق التى كانت تقومعن جادة الإجراءات مثل تفتيش لجان الزكاة والضرائب حيث حظر تفتيش الأفراد بواسطة جباة الزكاة إلا بأمر من القضاة وأنشأ خليفة المهدي عبد الله التعايشي "محكمة السوق" التي كانت تقوم بأعمال المحتسب وتنظم إجراء المعاملات من بيع وشراء وتهريب البضائع والغش في المأكولات أي جميع الدعاوى المتعلقة بالمجتمع المدني (1) .
__________
(1) - علي محمد علي ، القضاء في دولة المهدية ، مركز الدراسات السودانية ، الطبعة الأولى القاهرة 2002 ص : 80 وما بعدها .(36/17)
اذاً على القاضي الشرعي أن ينظر نظرة مرنة ومتسقة لوظيفة المحتسب كوسيلة رقابية ولا سيما في قضايا أموال الدولة ، إذ يعد ً من طرق مكافحة التهريب. لهذا يكون التبليغ بواسطة الغير عما لديهم من معلومات من شأنها أن تساعد في التأكد من صحة إقرارات الممول وتحفيز من قام بالتبليغ بمكافأة مالية كما هو الحال في بعض التشريعات (1). عليه يكون دور المحتسب مقبولاً في قضايا المال العام كما في قضايا حماية المستهلك (2) . ودعاوى البيئة حيث القاسم المشترك بين هذه الدعاوى حماية المجتمع المدني ، لذا تكون هذه الدعاوى مقبولة من هذه الجماعات دون اشتراط توافر مصلحة مباشرة .
حيث نجد مثلاً تنظيم لهذه الدعوى في دعاوى البيئة بقانون حماية البيئة لسنة 2001 م (السوداني ) ، إذ تنص المادة 20 /1 على :
" يجب على كل شخص سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً الإبلاغ عن المخاطر التي تهدد البيئة و المخالفات لأحكام هذا القانون وغيره من القوانين الأخرى المتعلقة بصحة وحماية البيئة وتقديم المساعدات والإمكانات المطلوبة لحماية البيئة ويكون له الحق في استرداد أي نفقات يتكبدها (3) في سبيل أداء هذا الواجب من أي من السلطات المختصة المعنية التي تقوم بأداء هذا الواجب نحوه ".
وأعطت الفقرة (2) من المادة الحق لأي فرد بأن يرفع دعوى مدنية في حالة حدوث ضرر للبيئة دون الحاجة لإثبات علاقته بذلك الضرر وذلك بالنص:
__________
(1) - د. محمد كرم علي ، مرجع سابق ، ص: 127 .
(2) - د. خليفة بابكر الحسن ، دراسات في قضايا الثقافة والاقتصاد الإسلامي ، القاهرة مكتبة وهبة الطبعة الأولى 1421 - 2000 م ص: 66 وما بعدها .
(3) يقصد يتكابدها.(36/18)
"مع مراعاة أحكام القوانين المنظمة للحقوق والإجراءات المدنية يكون لكل شخص الحق حسبة في رفع دعوى مدنية اذا حدث الضرر أي ضرر للبيئة دون الحاجة لإثبات علاقته بذلك" ومن الضروري كذلك أن تمتد المرونة لدى القاضي الشرعي بإقرار الدول الإسلامية التي تضم داخل كياناتها الاجتماعية مختلف المواطنين من ديانات مختلفة بأن يصبح هذا حق في الاحتساب لغير المسلم بصفته مواطن . وبهذا الفهم يتسع نشاط مؤسسات المجتمع المدني في إقامة العدل من كون القضاء سلطة وطنية من المفروض أن تعمل بعيداً عن السلطة التنفيذية مما يعظم من دور المجتمع المدني الواعي من خلال مجموعاته وأجهزته غير الرسمية والإعلامية المساهمة في مراقبة القضاء المستقل وتقديم المساعدة له بتقديم المنحرفين للمحاكمة في قضايا المال . ولا غرو أن تجد نشاط هذه الجماعات القبول والشرعية لدى القضاء الشرعي وذلك بالنظر إلى الدولة الإسلامية باعتبارها في الأساس دولة تقوم على عناصر الدولة المدنية وهما العدل ، والقسط ومجتمع مدني يملك السلطة والثروة والأمن في حدود الشرع "الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف" . وبالتالي يتمتع أفراده بحقوق متساوية ضمن قاعدة التكافل الاجتماعي ؛ وبذلك يكون للقاضي الشرعي المجال السهل ليرسم المجال المشروع لنشاطات هذه الجماعات تخطيطاً لحدود لا يجب تعديها وذلك بتفسير القواعد القانونية التي تحكم هذه النشاطات تفسيراً يتوخى ما يقصده المشرع وذلك في إطار النظام العام على المعنى الذي فصلناه وفي إطار الأوامر القاطعة للشريعة الإسلامية بما يحقق العدل ويضمن الحقوق .(36/19)
عليه يكون إقامة التوازن بين ضرورة الحفاظ على النظام العام ، والحاجة إلى حماية الحقوق الفردية والحريات الجماعية يكون هو التحدي الأكبر للقاضي الشرعي حيث يواجه بعديد من العراقيل تتمثل على سبيل المثال ، في تدخل الحاكم متزرعاً بالحفاظ على النظام العام أو خوف الفتنة ، بل لمجرد سمعة الحاكم أو سمعة مؤسساته الأمنية وفي مثل هذه المواقف نجد السند والمعين في التأسي بالقاضي الشرعي الإمام أبو حنيفة وما قام به ضد الاستبداد السياسي وما وجده في سبيله من تعذيب تمسكاً باستقلاله الفكري واستقلاله في القضاء والفتوى على غير هوى الحاكم.
المطلب الثالث
قضايا الزكاة كأمر مستحدث (دراسة في التجربة السودانية )
أولاً : الزكاة ركن شرعي وأداة للسياسة المالية:
خير مدخل للحديث عن الزكاة هو التساؤل إن كانت الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام تصلح أداة من أدوات السياسة المالية للدولة ؟ الإجابة بنعم وتعني أنها أداة فوق أنها ركن يؤديه العبد تقرباً إلى الله تعالى وهذا الأمر مستحدث . ويترتب على هذه الصفة الجديدة أن تخضع للتغييرات بحسب الظروف الاقتصادية؛ أي يمكن في أحوال معينة تغيير أوعيتها ومصارفها تبعاً لهذه التغيرات . بل أن هذه النظرة تجعل من عدم الالتزام بها عقوبة مالية تنظر أمام المحاكم ، أي تدخل في اختصاص القاضي الشرعي (قضاء عادي ) بدلاً من اختصاص لجان الزكاة ، أو إضفاء وظيفة القضاة لهذه اللجان . بهذه الصفة قد تتخذ السلطة التنفيذية المختصة ممثلة في ديوان الزكاة من القرارات والإجراءات ما قد يحدث تغيير وتبديل في الإيرادات والنفقات لتحقيق الأهداف الاقتصادية العامة . هنا تكمن المعضلة إذ نحن نعلم أن للزكاة معدلات وأنصبة محددة ومفروضة ثابتة ووجوه إنفاق معينة حددها الشرع إذ لا مجال لإحداث أي تغيير في هذه الأنصبة والمصارف.(36/20)
هنا بلا شك يتعاظم دور القاضي الشرعي أو المشرع أو عضو لجنة الزكاة بتوسعة هذه الأنصبة تنفيذاً لسياسة الدولة ، مثال جعل المستغلات كأوعية للزكاة و هي الاستثمارات الثابتة كالعقارات والسيارات والطائرات والسفن وتأجير عينها وبيع ما يحصل من إنتاجها مثل المصانع ومزارع الألبان والورش الصناعية ( المادة 21 من قانون الزكاة) ، وكذلك فيما يتعلق بالمال المستفاد مثل وعاء بيع المنازل ، المكافآت والهبات .
اذاً للقاضي الشرعي إن كان جالساً للقضاء أو الفتوى أو كان في موقع المشرع أن يمد بصره إلى وظيفة الزكاة بأنها فرضت على أموال الأغنياء لتذهب حصيلتها للفقراء وهي لذلك أداة للسياسة المالية لإعادة توزيع الدخل القومي ضمن منظومة النظام المالي للدولة ، و يجعل لها دوراً مهماً في النشاط الاقتصادي وليس ركناً شعائرياً (فقط) تمنحها قدر من المرونة التي تمكن من استخدامها كأداة للسياسة المالية . (1)
ثانياً: لمحة عن تشريعات الزكاة في السودان :
طبق المسلمون في السودان فريضة الزكاة في العصور الماضية (2) حتى قيام دولة الحكم الثنائي عام 1899م ، ثم صارت في العهد الثنائي عملاً فردياً يؤديه الأغنياء للفقراء طوعاً .
__________
(1) - أحمد عبد الله ، ورقة اقتصاديات الزكاة ، مؤتمر الزكاة الأول 1994م ، السودان (المعهد العالي لعلوم الزكاة).
(2) - كان للإمام المهدي مناديب للزكاة والغنائم وكان يأمر في بعض الحالات باستبدال هؤلاء المناديب إذا قامت شكاوى ضدهم – أنظر حافظ جعفر إبراهيم ، المرجع السابق ، ص: 231 .(36/21)
في عام 1400هـ الموافق 1981م ، بدأ إسباغ الصفة الشرعية لولي الأمر في فريضة الزكاة مرة أخرى على مراحل : صدر أول تشريع للزكاة في غرة محرم 1400 هـ كفريضة تجبى طوعاً وتنفذ عن طريق صندوق الزكاة ، وفي عام 1405 هـ صدر قانون الزكاة والضرائب حيث نقل بموجبه فريضة الزكاة من الطوعية إلى الالتزام وأصبح للديوان شخصية اعتبارية لها قانون خاص وهو قانون الزكاة لعام 1406هـ ومن ثم تم فصل الزكاة عن الضرائب و أعيد صياغة القانون ليصبح قانون الزكاة لعام 1410هـ الموافق 1990 ميلادية وهو القانون النافذ الآن ، حيث قضت المادة 41/ فقرة 1 منه : بأن لديوان الزكاة ميزانية مستقلة تعد وفقاً للأسس الحسابية السليمة ومن ثم أصبح للديوان ميزانية مستقلة عن الميزانية العامة .
ثالثا:تكييف الزكاة كمورد مالي في النظم الحديثة أمام القاضي الشرعي :
الموارد المالية في نظام المالية هي الضرائب والرسوم وهذا يثير تساؤل إن كان من الجائز فرض الزكاة على غير المسلم ، قال ابن العربي في الأحكام لدى قوله تعالى: " و أتى المال على حبه "(1) ما نصه : كان الشعبي ، مما يؤثر عنه ، يقول : بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس بهذا اللفظ مرفوعاً ، وهو ضعيف لا يثبت عن الشعبي ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في المال حق سوى الزكاة . وإذا وقع أداء الزكاة و نزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء . وقد قال مالك : (يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم). (2)
__________
(1) - سورة البقرة ، الآية 177 .
(2) - محمد بن الحسن الحجوي ، الأحكام الشرعية في الأوراق المالية ، الاجتهاد والتحديث ، المرجع السابق ، ص : 193 .(36/22)
أي أن الأصل هو أن الزكاة المورد المالي الأول بالنسبة للمسلمين ، ولا مندوحة بإيجاد موارد أخرى كالضرائب والرسوم اللذان أصبحا الموردان الأساسيان في المجتمعات المسلمة ، ولا غرو في ذلك إذ تعد هذه الموارد مظهر من مظاهر السيادة للدولة باعتبارهما يعكسان العلاقة بين المكلف (المواطن والسلطة الحاكمة ) إذ أن الأخيرة هي التي قررتها وحددتها ولها حق إنقاصها أو زيادتها أو إلغاءها أما الزكاة باعتبارها عبادة تغل من السلطة التي ذكرت – بالنسبة للضرائب والجمارك- فهي عبادة فرضت على المسلم شكراً لله وتقرباً إليه لذا تصبح النية شرط لأدائها وقبولها إذ هي علاقة بين المكلف وربه امتثالاً لأمره ولا تسقط عنه بأي حال حتى إذا لم توجد ولاية للدولة عليها . وتدخل ولاية الدولة في تنظيم أخذها يحتاج إلى تبيان تكييف شرعي يبرر اعتبار هذا المورد المهم (الزكاة ) من إيرادات الدولة وليس فقط علاقة بين فرد والله سبحانه وتعالى . عليه يكون من الضروري معرفة الآتي:
1/ كيفية الأداة وشروطها ، خاصة إذا علمنا أن الضرائب والرسوم عبارة عن مبلغ نقدي من المال يدفع للخزينة العامة إلا أن الزكاة في أغلبها تعتمد على القاعدة الأصلية أنها تؤدى من جنس المال ، وهناك شروط لهذا الأداء منها : الإسلام ، الملك التام ، النصاب ، وخلو المال من الدين ، وحولان الحول.(36/23)
هنا يمكن أثارة مدى سلطة القاضي الشرعي أو المشرع في تعديل أحكام تحديد كيفية الأداء أو شروطها كما هو سائد بالنسبة لبعض الضرائب والرسوم التي تفرض في أحيان كثيرة دون مراعاة بعض القيود كتحديد حد الإعفاء – وهو الذي يعادل النصاب في الزكاة – فمثلاً ضريبة الزروع تفرض بواقع 5% من الإنتاج. (1) ونعتقد بالنسبة لهذه الشروط التي تحدد وجوب الزكاة أن تراعي في عمومها مصلحة المكلف بعدم تكليفه بما لا يطاق .
…2/ضرورة معالجة قانونية لمسألة اعتماد ميزانية ديوان الزكاة وفق إستراتيجية الدولة المعدة سلفاً ، حيث تختلف المسألة بالنسبة إلى الغرض الأساسي من إجازة الميزانية هل هو عمل إداري فيمكن بالتالي أن يختصر أمر إجازتها على مجلس الأمناء لديوان الزكاة وفقاً لما هو وارد للمادة (22) من قانون الزكاة ، أم أن كان الأمر هو مشروع قانون وهو التكييف السليم(2)، الذي يتماشى مع نص المادة (48) والتي تنص على اعتبار أموال ديوان الزكاة في حكم الأموال العامة لأغراض قانون العقوبات . فلا بد إن كان هذا الاتجاه هو المتفق عليه أن تكتمل إجازة الميزانية من قبل السلطة التشريعية لتصبح قانون له قوة وإلزام .
3/ هذا التكييف يلزم أن تصاحبه بعض المرونة الخاصة فطبيعة العمل الزكوي تختلف في المنهج والهدف ، فقوانين اعتماد الميزانيات للدول تنص عادة على أنه لا يجوز تجاوز الاعتمادات المرصودة إلا بقانون اعتماد ، وعليه يتم تقنين توزيع كل الجباية التي تحققت لتصرف وفقاً لقوانين.
__________
(1) - د. عبد المنعم القوصي ، ورقة الجباية ، مؤتمر الزكاة الأول 1994م ، السودان (المعهد العالي لعلوم الزكاة ) ص: 113 .
(2) - - د. محمد كرم علي . المرجع السابق . ص: 159 وما بعدها .(36/24)
4/ قد يواجه القاضي الشرعي تكييف الأموال الخاضعة للجباية وتحديد حدود كل مصرف مثال تحديد الفاصل لحد الفقر والمسكين (1) ، والعمل بما تحددها الجهات المالية المختصة لحد الفقر حسب الحالة المالية والقوة الشرائية للنقود (الشرائح الفقيرة) ، وأن يشمل هذا المصرف المحتاجين المتعففين الذي جاء ذكرهم في قوله تعالى : (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) (2) ، وذلك بالاستعانة باللجان المحلية (الشعبية ) من ذوي الثقة في كل حي لتزكية الحالات بقول رسولنا الكريم حينما وصف بعض مستحقي الصدقة : (ورجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجا )(3) .
رابعاً : دور القاضي الشرعي في توسعة مصارف الزكاة :
أصبحت الزكاة الآن من النشاطات المرتبطة بالقطاع الحكومي عليه تصبح عملية تكييف الأموال الخاضعة للجباية من الأمور التي تحكمها مجموعة من اللوائح مشمولة بالمحاسبة الحكومية . إذ أن الزكاة جاءت أساسا لتخصيص الموارد نحو مجالات معينة تندرج داخل مصارف الزكاة وتتوزع إلى مجالات :
مجال الضمان الاجتماعي (مصارف الفقراء والمساكين ، إبن السبيل ) ، مجال التخصيص نحو النشاط العسكري (مصرف سبيل الله) ، وجزء نحو مجال تأمين النشاط الإنتاجي والائتماني (مصرف الغارمين).
__________
(1) - فرقت المادة 3 من قانون الزكاة بين الفقير والمسكين رغم اعتبارهما مصرفاً واحداً .
(2) - سورة الآية
(3) - رواه مسلم عن قبيضة بن المخارف ، صحيح مسلم ، ط- دار الفكر الأول الحديث 1421 هـ . – 2000م ، ص: 190 .(36/25)
…وعلى ضوء هذه المجالات المتنوعة يكون للقاضي الشرعي التوسع في مفهوم المصارف ، عليه أن يشمل بالزكاة مثلاً حتى الأوراق المالية التي جعلها التداول النقدي واجبة الزكاة (1)؛ لأنه في الوقت الحاضر نزلت هذه الأوراق منزلة العين وقامت مقامها إذ أن المعاملات كلها صارت بهذه الأوراق وأصبحت قيمة الأشياء قائمة مقام العين . ويتفرع من مسألة إيتاء الزكاة بالأوراق النقدية مسائل وهذا ما ذهب به الفقه الإسلامي إذ أن المنصوص على الإمام الشافعي أن الزكاة تجب في عين المال لا في الذمة ، وعن أبي حنيفة أنها تتعلق بالعين تعلق الجناية بالرقبة ولا يزول ملكه عن شيء من المال إلا بالدفع المستحق ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد في الأموال الظاهرة ، والذي قال به مالك أنها تتعلق بالذمة إلا إذا فرغت بالدفع وعليه فحيث العين مفقودة رأساً ، والذمم إنما تفرق وتبرأ بالأوراق وإيصال النفع للمستحق حاصل بها كما يحصل بالفلوس المقومة . (2)
وتوجد في الشريعة الإسلامية عموميات تقتضي وجوب الزكاة في الأوراق المالية منها قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم)(3)
__________
(1) - سعيد بنسعيد العلوي ، الاقتصاد والتحديث : دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب ، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي ، الطبعة الأولى 1992م ، سلسلة الفكر الإسلامي المعاصر . 3 ، ص : 182 وما بعدها .
(2) - انظر لمزيد من التفصيل : أحمد بن المواز ، المعاملات البنكية في ضوء الشرع وأحكام الضرورة ، المرجع السابق ، ص: 127 .
(3) - سورة آية محمد بن الحسن الحجوي ، المقال السابق ، ص : 190 ، حيث ذكر : أن الآية مدنية فهي في زكاة الوجوب كما في روح المعاني والبيضاوي وغيرها ) ، واستشهد بما قاله مالك في الموطأ : ( السنة التي لا خلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين ديناراً عيناً كما تجب في مائتي درهم) ، ص : 174 .(36/26)
، وجاء في فريضة الصدقة : (وفي الرقة " يعني الورق بكسر الراء" ربع العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء).
…خلاصة يمكن القول أنه من الجائز للقاضي الشرعي أن يقوم بإدخال أنشطة كأوعية للزكاة وذلك خلاف الفقهاء السابقين الذين لم يتطرقوا لها أما لعدم ظهورها أو لندرة وجودها في عصرهم مثال هذه الأنشطة الأوراق المالية التي برزت وفرضت نفسها على النشاط الاقتصادي في العصر الحديث. وخيراً فعل المشرع السوداني عندما قضى في المادة (12) الفقرة 1 من قانون الزكاة بأن الزكاة تجب في الزروع والثمار بأنواعها أخذاً بمذهب الإمام أبي حنيفة باعتباره أكثر استيعاباً لهذه الأنشطة ويحقق مقصود عموم الآية الكريمة في قوله تعالى : (ومما أخرجنا لكم من الأرض)(1) ، فأوجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض .
خامساً : إجراءات نظر قضايا الزكاة أمام القاضي الشرعي :
يأتي دور القاضي الشرعي في قضايا الزكاة كقضاء استثنائي وليس كقضاء موضوع ، أي بمعنى ليس هنالك قضاء خاص للزكاة في السودان كما في قضاء الجمارك والضرائب .
__________
(1) - سورة آية(36/27)
نجد هذا حتى في عهد المهدية إذ كان قضاء الزكاة يدخل في اختصاص قضاء رد المظالم أو محكمة المحتسب (1) ، ولعل هذا يكون هو الأسلوب المناسب إذ دمجت وظيفة جباية الزكاة في أعمال الحاكم . لهذا يكون من الطبيعي ما نشاهده اليوم في السودان أن يقوم بإجراءات الجباية والتقدير ديوان الزكاة عبر مجالسه المختلفة بعيداً من القضاء وقوانين المرافعات العادية على علة أنها ربما تجهض كثير من أهداف الزكاة أو تتعارض أحكامها مع أحكام الزكاة مثال تعارض أحكام التقادم في القانون المدني – القانون العام بالنسبة للمعاملات – مع أحكام الزكاة ، حيث يقضي قانون الزكاة (2) بأن دين الزكاة دين ممتاز لا يسقط بالتقادم . بل نجد أن مفهوم التجريم نفسه يختلف حيث الممتنع المجاهر بالامتناع عن أداء الزكاة هو الذي يعاقب أما الذي يتهم فقط أنه أخفى شيئاً من ماله دون عصيان فلا عقوبة عليه كما في كتب الشريعة لأنه حق فيما بينه وبين الله .(3)
…هذا يعكس أن قضاء الزكاة هو قضاء للتظلمات وهذا ما أكده قانون الزكاة الذي ينص في المادة 32 فقرة 1 على : ( 1/ تنشأ بالديوان لجنة عليا للتظلمات وتتكون من قاضي محكمة عليا متخصص في الشريعة الإسلامية رئيساً يعينه رئيس القضاء ، وعضوية ممثل لكل من النائب العام وأمين عام ديوان الضرائب وتكون قراراتها نهائية.
2/ تحدد اللوائح كيفية تنظيم أعمال اللجنة) .
يتم تشكيل لجان للنظر في التظلمات من تقدير الديوان للزكاة الواجب دفعها بواسطة الشخص المكلف بالزكاة المنصوص عليها في المادة 30 / ج من القانون.
__________
(1) - علي محمد علي ، المرجع السابق ، ص: 9 وما بعدها .
(2) - كما كان الحال في قانون الزكاة والضرائب 1984م الملغي وقانون الزكاة 1406هـ إلا أن قانون الزكاة 1410 هـ أغفل عن ذلك
(3) - أحمد بن المواز ، المرجع السابق ، ص :123 .(36/28)
وهناك لجان للتظلمات في المحافظات والولايات . بالنسبة للتظلم إلى لجان المحافظة ، يجوز لأي شخص أن يتظلم أمام لجنة التظلمات بالمحافظة من تقدير الزكاة الواجب دفعها وتتبع في هذه الحالة الإجراءات التالية كما تقضي بها المادة 29 :
أ/ يتقدم بتظلمه كتابة خلال أسبوعين أثنين من صدور الإعلان بالتقدير مبيناً أسباب تظلمه على وجه الدقة مرفقاً الإقرار والمستندات والأوراق المؤيدة لتظلمه.
ب/ يسدد الزكاة حسب إقراره .
ج/ تقوم لحنة التظلمات بالمحافظة بالنظر في التظلم ويجوز لها استجواب المتظلم ومناقشته فيما يتعلق بالإقرار والمستندات والأوراق المشار إليها في الفقرة أ ثم تصدر قرارها في التظلم بأن : -
أولاً : تؤيد التقدير أو تخفضه ، تزيده أو تلغيه أو تأمر بأي إجراء آخر تراه مناسباً.
ثانياً : تتفق مع المتظلم على قيمة الزكاة الواجب دفعها .
د/ ترسل قرارها في التظلم بصورة إلى الجهة المختصة .
أما الإجراءات أمام لجنة التظلمات بالولاية فجاء تنظيمها كما يلي:
1/ إذا لم يقتنع الشخص المتظلم بقرار لجنة التظلمات بالمحافظة الصادر بموجب أحكام المادة 29 د فيجوز للمتظلم أن يتقدم باستئنافه ضد المذكور أمام لجنة التظلمات للولاية وذلك خلال شهر واحد من تسلمه القرار .
2/ تقوم لجنة التظلمات بالولاية النظر في الاستئناف ويجوز لها استجواب المتظلم ومن ثم تصدر قرارها في الاستئناف أما بتأييد التقدير أو تخفيضه أو زيادته أو إلغائه ، أو تأمر بأي إجراء مناسب آخر ، ويجوز لها كذلك أن تتفق مع المتظلم على قيمة الزكاة الواجب دفعها .(36/29)
…توجد بجانب ذلك "اللجنة العليا للتظلمات" كجهة استئنافية للطعون في القرارات التي تصدر للمتظلمين من قرارات لجان التظلم للولايات (المادة 37 الفقرة 1 ) ومن السلطات الممنوحة للمحكمة منح ديوان الضرائب الحق في حجز أموال المزكي الذي لم يدفع زكاته في وقتها دون عذر مقبول ويكون للديوان الحق في بيع هذه الأموال بالمزاد وفق ما تحدده اللوائح المادة 30 (الفقرة د) . وفي حالة تحايل أو تهرب أو امتناع عن دفع الزكاة الواجبة يكون الشخص عرضة للعقوبة والغرامة وتكون هذه العقوبة من قبل المحكمة مع حق الديوان بأخذ الزكاة جبراً بأمر المحكمة (المادة 44 ) ؛ وذلك في حالة تحديد الزكاة الواجب دفعها وانتهاء مراحل الطعن ، أما في حالة عدم تحديد الزكاة فيبقى الأصل في أن لا إجبار لدفع الزكاة ولا تفتيش كذلك عن أوعية الزكاة.
المطلب الرابع
قضايا الضرائب والجمارك أمام القاضي الشرعي كأمر مستحدث
أولاً :الحاجة للضريبة :
تعرف الضريبة بأنها : "مبلغ من النقود تقوم الدولة باستقطاعه من دخول الأفراد وثرواتهم جبراً عليهم ، دون مقابل أو نفع خاص لهذا الاستقطاع وإنما النفع لجميع أفراد المجتمع تحقيقاً لأهداف الدولة الاقتصادية والاجتماعية(1)".
أما الضريبة الجمركية هي ضريبة تجبى علي السلع التي تجتاز الحدود أما عند استيرادها أو تصديرها تحقيقاً للمصلحة الاقتصادية للدولة .
يرى البعض(2) أن المصلحة الضريبية لا تقتصر على الضريبة بمعناها الدقيق إنما تشمل الأعباء الضريبية كلها وهذه الأعباء تجمعها ثلاث خصائص هي :
1/ يفرضها شخص من أشخاص القانون العام .
2/ أساسها القانوني هو السلطة المطلقة للدولة .
3/ تستخدم كوسيلة لسد الحاجات المالية للشخص المعنوي العام .
__________
(1) - د. محمد كرم علي ، المرجع السابق ص : 106 .
(2) - أحمد فتحي سرور ، الجرائم الضريبية ، القاهرة : دار النهضة العربية 1990 ، ص : 36 .(36/30)
إذا الأساس في فرض الضريبة هو وجود المصلحة العامة إذ بها تصبغ على هذه المعاملة صفة الشرعية إن كانت ضريبة مباني أو إحداث الضرائب المتنوعة كضرائب الفئات والاحتراف وغيرها . ولعل بهذه المصلحة يكون المخرج من الحكم الشرعي بأن " لا يؤخذ مال المسلم إلا عن طيب نفس إذاً هي مصلحة مقيدة في أحوال مخصوصة كدفع الطوارئ والحوادث تمثلها الآن سد احتياجات الخزينة العامة " .
وبذات النظرة تجد أعمال الجمارك التبرير إعانة لدور الدولة وهي تحمي البلاد في مواردها وصناعتها ومنتجاتها بفرض قيود لحماية كل صناعة وكل ناتج من البلاد بمنع دخول ما ينافسه ويزاحمه احتكاراً أو إغراقا للأسواق .(1)
ثانياً :أثر تحرير التجارة العالمية على تشريعات الضرائب والجمارك الوطنية :
__________
(1) - الاحتكار هو حبس الشيء والامتناع عن بيعه مع شدة حاجة الناس إليه حتى يغلو سعره أو ينقطع عن السوق ، وذلك لغرض اقتصادي أو سياسي أو غيرهما مما يقصده المحتكر . د. عبد الرازق خليفة الشايجي ، د. عبد الؤوف محمد الكمالي ، بحث (أحاديث الاحتكار حجيتها و أثرها في الفقه الإسلامي) ، مجلة الحقوق العدد الثاني ، السنة الرابع والعشرون 1421هـ - 2000م جامعة الكويت .
أما الإغراق يقصد به تصدير منتج ما إلى دولة بسعر تصدير أقل من قيمته العادية في مجرى التجارة العادي .(36/31)
تحرير التجارة العالمية هي نتيجة من نتائج ما يعرف "بالتكامل الاقتصادي". ويتمثل هذا التحرير بقيام ما يسمى "مناطق التجارة الحرة " ومن ثم يحصل الاندماج الاقتصادي كنتيجة أخيرة بين دول معينة . وتترتب آثار مباشرة لهذا التحرير منها إلغاء القيود على حركة التجارة الخارجية التي تتم عادة على مراحل في أن كل دولة تبقي على بعض القيود بغرض حماية منتجاتها لحين أن تتفق الدول الأعضاء على تعريفة جمركية مشتركة ومن ثم الوصول إلى السوق المشتركة وبعدها يحصل الاندماج الاقتصادي ، وحينها يتم تنسيق السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والائتمانية (1) ، الشيء الذي يلزم قيام مؤسسات وأجهزة سياسية وتشريعية مشتركة.
__________
(1) - الكندي يوسف محمد عثمان ، مقال " رؤى وأفكار حول هيئة القطاع الصناعي لمرحلة تحرير التجارة العالمية " ، مجلة التصنيع – هيئة التصنيع الحربي ، العدد الثاني ، يونيو 2005 م ، ص: 66 – 77 .(36/32)
ولا شك أن قيام هذه الكيانات الاقتصادية(1) وما تترتب عليها من ضرورة قيام أجهزة تشريعية مشتركة على نحو قد يؤثر في عمل القاضي الشرعي خاصة في حالة تعارض نظم هذه الكيانات مع أحكام السياسة المالية لدولته والتي هو مكلف بإنفاذها وفق مفاهيم المصلحة العامة (النظام العام) بل قد يرى في إجحاف نظم التجارة العالمية في فرض ضريبة عالية لسلعة من سلع بلاده حينها تكون هناك معضلة تحتاج إلى حل ، خاصةً و أن ظاهر الحال يؤكد ذلك إذ جعل النظام العالمي للدول الغنية وهي صاحبة النصيب الأوفر للتجارة العالمية مع تدني حجم هذه التجارة في البلدان النامية وذلك لعدة أسباب تأتي في مقدمتها بلا شك فرض ضرائب كبيرة على المنتجات الأولية لهذه الدول النامية التي قد تصل كمثال 200% لدولة مثل السودان في صادراتها للحوم لدول الاتحاد الأوروبي ، وهي ضريبة عالية جداً بالنظر إلى مقررات الأمم المتحدة التي تشترط ألا تزيد عن 12%(2) .
__________
(1) - من أمثلة الكيانات والتكتلات الاقتصادية : الإتحاد الأوروبي " EU" ، تجمع دول الآسيان " ASEAN" ، دول الأوبك " APEC" ، تجمع دول شرق أفريقيا "EAC" ، مجموعة دول الإيقاد "IGAD" ، السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا "COMESA" .
(2) - الكندي يوسف محمد عثمان ، المقال السابق .(36/33)
إزاء هذا الوضع لا بد أن تتغير النظرة لوضع تشريعات مواكبة و قضاء مواكب إقراراً للواقع – في ظل الهيمنة على أسواق الخدمات والتكنولوجيا – بأن الحواجز الحمائية المتمثلة في الضرائب الجمركية وغير الجمركية قد تكون هي العقبة في الدخول في التجارة العالمية مما يضطر معهم إقرار هذه الضرائب الرسوم الكبيرة أو إفساح التشريعات الوطنية لبنود الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الأولوية على النصوص الوطنية في التطبيق ولا سيما في مسائل التجارة الخارجية وحل تنازع القوانين ، وذلك إقرارا لتأثيرات العولمة على كل النظم خاصة المستقر منها كالضرائب والجمارك إذ يكون من المفيد ملاحقة التطور كما في التجارب الدولية كتجربة الاتحاد الأوروبي (1) التي لا تتعدى فيها حقوق الجمارك معدل نسبة 5% . وبالتالي الإقرار باضمحلال قوانين الضرائب والجمارك الوطنية الأمر الذي قد يدعو إلى تهيئة القضاة نفسياً والتأهيل بإعطائهم المعلومات الضرورية لقواعد السوق العالمي والمواكبة وتطور الجريمة المرتبطة بالغش التجاري العابرة للحدود وغسل الأموال . كل ذلك هو تحدي مطروح بلا شك على جميع مؤسسات الدولة وفي قمتها الأجهزة العقلية .
ثالثا: الحاجة لقيام محاكم خاصة بإجراءات مخصوصة لجباية الضرائب.
1/ القضاء الشرعي كقضاء خاص في الطعون المقدمة ضد تقدير الضريبة
أفتى كثير من العلماء بجواز وجود الضريبة إلى جانب الزكاة إذا لم تف الموارد غير الضريبية للدولة بحاجة الخزينة العامة .
وقد جرى التطبيق العملي على ذلك في السودان وفي كثير من الدول الإسلامية التي طبقت الضريبة إلى جانب الزكاة من هذه الدول المملكة العربية السعودية ، الكويت الأردن ، باكستان .
__________
(1) - مجلة الاجتهاد القضائي ، المحكمة العليا الجزائر ، الجزء الثاني 2002م ، ص : 70 .(36/34)
ويلاحظ أن الحاجة للضرائب وضحت بصورة جلية بعد صدور قانون الزكاة في السودان علام 1406هـ حيث الغي بموجب هذا القانون جميع قوانين الضرائب في البلاد بما في ذلك قانون ضريبة الدخل سنة 1971م (المعدل) اذ كانت النتيجة أن تأثرت حينها موارد الخزينة العامة ؛ الأمر الذي حمل المشرع السوداني أن يقوم بتعديل المادة التي تخول ولي الأمر بفرض ضريبة على رؤوس الأموال المستثمرة بنسبة 10% والتي تعدلت من بعد في قانون ضريبة العدالة الاجتماعية . وكذلك أرجأت مصلحة الضرائب تطبيق قانون العدالة الاجتماعية على دخل سنة الأساس 1985م ، بل ذهب المشرع لنفس الغرض – وهو توفير الموارد اللازمة للخزينة العامة – بالنص على سريان أحكام قانون ضريبة الدخل الجديد قانون 1986م بأثر رجعي. (1)
__________
(1) - محمد كرم علي ، المرجع السابق، ص : 106 .(36/35)
ولا نعدم الأمثلة لأن الحكومات الإسلامية عرفت الضرائب كما في عصري المرابطين والموحدين بالأندلس والمغرب كضرب من ضروب الموارد ، إذ يذكر أنه في عهد دولة الموحدين كان يوجد وظيفة متولي المجابي الذي يباشر المسؤوليات المتعلقة بتحصيل الضرائب.(1) وكذا كان الحال في عهد المرابطين حيث زادت الضرائب والمكوس والمقارم لاتساع المسؤوليات ولا سيما في أواخر عهد هذه الدولة(2).وكانت تجبى هذه الضرائب بواسطة القضاة .
يتمثل دور القاضي في قضايا الضرائب والجمارك كما هو حاصل في السودان أنه يقتصر فقط على تحصيل الضريبة دون بحث تفاصيل تقديرها . أي هو طريق استثنائي إلا أنه رغم ذلك يعد السياج حتى لا يفلت المال العام من مظلة التحصيل حيث يعمد وكيل الديوان للتحصيل القضائي كملاذ أخير . إذ يجوز له القانون رفع الدعوى قضائية بصفته أمام محكمة مختصة بالضريبة المستحقة على من قصّر في سدادها في المواعيد المحددة وتحصيلها منه كدين مستحق للحكومة مع كل مصروفات الدعوى في حالة مماطلة الممول أو تهربه من دفع الضريبة .
__________
(1) - د. عبد الله محمد حسين الزياد ، مقال "مظاهر اقتصادية في عصري المرابطين والموحدين بالأندلس والمغرب" ، مجلة آفاق الثقافة والتراث ، السنة الثانية عشر ، العدد السادس والأربعون ، جمادى الأول 1425هـ - يوليو (تموز) 2004م .
(2) - في بداية عصر المرابطين لم تكن تجمع الضرائب التي لم تقررها الشريعة الإسلامية لذا تم إبطال وإلغاء كل الضرائب التي لا تجيزها الشريعة ، إلا أنه في أواخر عهدها في سنة 525هـ - 1130م يذكر أن فرض الضرائب على أهل قرطبة لأجل إصلاح سورها تسبب في ثورة على قاضي القضاة المدعو بإبن المناصف حتى رجمه الناس بالحجارة وقد أعفاه المرابطون من منصبه بعد ذلك . د. عبد الله محمد حسين الزياد ، المقال السابق .(36/36)
كما ذكرنا أن دور القضاء يقتصر على تحصيل الضريبة ؛ عليه إذ أبدى الممول الرغبة في السداد بطريقة الأقساط أو لجأ بعد رفع الدعوى إلى الديوان للاتفاق حول طريقة الدفع أو أعمال مخالصة نهائية للدفع ، فإن للديوان إخطار المحكمة بهذا الاتفاق وطلب إعادة الأوراق إليه (مادة 68 بند 1 ، 2) إلا أن للممول حق الطعن في قرار الديوان بشأن تقدير الضريبة وذلك بإعلان لوكيل الضرائب وفق شروط معينة ، فإذا رفض الديوان نظر إعلان الطعن يجوز رفع أمر الرفض إلى المحكمة المختصة التي يجوز لها تأييد قرار الرفض أو تأييد إعلان الطعن (المادة 55 ).
بهذا النص يؤمن القانون حق الطاعن في نظر دعوته وحمايته من تعسف لديوان الضرائب .
أما في حالة قبول الديوان لإعلان الطعن يجوز للديوان الاتفاق مع مقدم الطعن – بعد المناقشات والإيضاحات التي يراها مناسبة – على تعديل التقدير ومن ثم تصبح تسوية نهائية لموضوع الطعن (المادة 56) حينها لا يحق اللجوء إلى لجنة ضريبة الدخل (1) ، أو المحكمة المختصة . أما إذا لم يوافق الممول على قرار التعديل المقترح فله أن يرفع الأمر إلى لجنة استئناف ضريبة الدخل في خلال ثلاثين يوماً من تاريخ صدور قرار وكيل الديوان .
__________
(1) - هذه لجنة محايدة لها كيان قانوني مستقل عن ديوان الضرائب ويشكل أعضاءها بقرار من وزير المالية ويطعن في قرار هذه اللجنة أمام المحكمة المختصة (المادة 58) .(36/37)
ويلاحظ أن دور المحكمة مقيد حيث لا يجوز لها قبول الطعن في قرار ضريبة الدخل إلا إذا كان الطعن مبنياً على خلاف في تفسير القانون مع واقع التطبيق ، بل أن الدور الاستثنائي لهذا القضاء الخاص يظهر بصورة واضحة في أنه لا يترتب على تقديم الطعن للمحكمة ، عدم سداد الضريبة المطعون فيها ، مما يؤكد الطبيعة الخاصة لهذه المحاكم كقضاء خاص ؛ لذا يجب على القاضي الشرعي تفهم ذلك فهو يجلس كقاضي لهذه المحكمة بأنها محكمة طعن وإن دورها ينحصر في حدود ضيقة تتعلق كما ذكرنا بتفسير أحكام قانون الضرائب من واقع التطبيق ، وفي ضوء هذا التفسير تبقى الفرصة الأوسع في نظر هذه الطعون "للجنة ضريبة الدخل " .
ويستقر أمر التقدير ويوصف بأنه نهائي بطريقتين هما:
أولهما- قبول الشخص للتقدير الذي أعلن به أول مرة ، وثانيهما- أن يصدر الحكم النهائي في الطعن وبذلك يصبح حائزا على حجية الأمر المقضي به إذ لا يجوز حينئذٍ الرجوع فيه ما لم تظهر حالة من حالات الغش أو الاحتيال المتعمد في بيانات الإقرار ، لم تؤخذ في الاعتبار عند تقدير الضريبة ، في هذه الحالة يجوز لديوان الضرائب إعادة فتح التقدير مرة أخرى .
وفي ظل هذه السلطات الكبيرة الممنوحة لهذه الضرائب يكون من المناسب بالطبع أن يخول له سلطات واسعة في إجراءات التحقيق وفي إطار كشف الجريمة مثل القبض والتفتيش ، وسلطة الاطلاع على الدفاتر والمستندات والأوراق الأخرى ولكل ما يتعلق بتنفيذ القانون الضريبي ، ولدرجة قد تقيد سلطة النيابة العامة صاحبة السلطة الأصلية في رفع الدعاوى الجنائية .
نخلص إلى القول بأن دور القاضي مكمل لسلطة ديوان الضرائب فيما يتعلق بالتقدير باعتبار أن التقدير عملية فنية وتخصصية .(1)
__________
(1) - هنالك أنواع من التقدير منها :
أ/ طريقة التقدير من واقع الإقرار Declaration based Assessment
ب/ التقدير الجزافي Summary assessment .
ج/ التقدير الثابت Standard Assessment .
أنظر بالتفصيل د. محمد كرم علي ، المرجع السابق ، ص : 185 – 186 .(36/38)
بل أن تحريك الدعوى الجنائية نفسها معلقة على تقدير طلب مكتوب من الضرائب أو من يخوله ، إلا أن للمحكمة سلطة أصيلة في نطاق ضيق وهو التحصيل القضائي للضريبة (Judicial) إذا تعزر التحصيل بطرق الإدارة الضريبية (التحصيل الإداري ) (Administration Collection) .
2/الطبيعة الخاصة بالجرائم الضريبية :
أ/ سلطات محاكم الضرائب والجمارك:
لمحاكم الضرائب والجمارك سلطات واسعة واستثنائية مقارنة بسلطات المحاكم العادية ؛ للطبيعة الخاصة للجرائم الضريبية عن غيرها من الجرائم . ويمكن تلمس هذه الخصائص والملامح على مستويات مختلفة نستعرضها بإيجاز دون إطناب في الآتي:-
1/ الصلاحيات الواسعة الممنوحة لإدارة الضرائب في التحري .
2/ تقديم الدليل ولا سيما المحاضر المعدة سلفاً من قبل ديوان الضرائب أو إدارة الجمارك (خصم وحكم).
3/ اللجوء للتسويات بصورة واسعة .
4/ تبني المفهوم الاستثنائي "المستفيد من الغش" الذي يختلف عن مفهوم الاشتراك المعروف في القوانين الجنائية .
5/ سلطة القيام بإجراءات بيع المهملات والتقويم .
6/ السلطة الواسعة في المصادرة .
7/ اعتبار جرائم الضرائب والجمارك جرائم مطلقة .
8/ القيود على الاقتناع الشخصي للقاضي .
9/ غياب أو ضعف الركن المعنوي لجرائم الضرائب ، والجريمة الجمركية .
ب/ خصائص الجرائم الضريبية:
للجرائم الضريبية أهمية خاصة باعتبارها تؤثر في كيان الدولة المالي وتترتب على هذه الطبيعة الخاصة عدة خصائص منها :(36/39)
1/ يجب أولاً التمييز بين سلطة الدولة في فرض الأعباء الضريبية ، وسلطة إدارة الضرائب في ربط الضريبة وتحصيلها . فسلطة الدولة ليست إلا مظهراً من مظاهر سيادة الدولة باعتبارها نظاماً قانونياً يقررها الدستور ، أما سلطة ديوان الضرائب في تحديد الربط السنوي للضريبة وتحصيلها فيقررها القانون الضريبي(1)، ويقوم الديوان بأعماله في حدود هذا القانون . وفي مقابل هذه السلطة يكون على الممول التزام بدفع هذه الضرائب دون التهرب منها .
2/ لا ينشأ الالتزام بدفع الضريبة (دين الضريبة) بمجرد صدور قانون الضريبة إنما بتوافر الشرط الذي أوجب القانون تحققه لنشوء هذا الدين فمثلاً الحصول على الربح التجاري هو الشرط المنشئ لضريبة الأرباح التجارية باعتبار هذه الأرباح وعاءً للضريبة يتميز عن موضوع الالتزام بالضريبة هو دفع مبلغ معين من المال للخزينة العامة .
لا شك أن القانون وهو يسعى لتنظيم مثل هذه الجرائم الخاصة لا بد أن يضع نظام إجرائي خاص لهذه الجرائم ، حيث تتبع فيه إجراء إدعاء وإجراءات خصومة خاصة تتميز عن غيرها من الإجراءات المتبعة بالنسبة للجرائم العادية .
__________
(1) - د. أحمد فتحي سرور ، الجرائم الضريبية ، المرجع السابق ، ص :16 .(36/40)
لهذا يتعاظم دور القاضي الشرعي خاصة في ظل قانون لا يضع قواعد إجرائية خاصة لجرائم الضرائب كالقانون السوداني في أن يتلمس ويعمل على وضع قيود معينة على استعمال الدعوى الجنائية لهذه الجرائم مثل تحديد من لهم صفة الضبط القضائي فيما يتعلق بتنفيذ أحكام قانون الضريبة . إلا أن هذا الدور يكون ميسراً للقاضي بالنسبة للتشريعات التي عنيت من الأساس بوضع قواعد إجرائية خاصة للمسائل المتعلقة بالضرائب كالقانون الفرنسي والألماني(1). في هذه التشريعات لا تقتصر تلك القوانين على مجرد تنظيم الجرائم الضريبية وإنما تضع تنظيم للإجراءات الجنائية الخاصة لهذه الجرائم تعكس استقلالها الذاتي .
3/ ضرورة تغير النظرة للتهرب الضريبي من مجرد مخالفة قانونية إلى مخالفة واجب ديني وأخلاقي .
أصبح التهرب الضريبي اليوم مصدر إزعاج وقلق للحياة الاقتصادية للدول فهو يضر بالخزينة العامة وبالتالي مصالح المجتمع ومن ضمنهم الممولين أنفسهم.
إذاً الالتزام الضريبي يعد واجباً خليطاً من الواجبات الأخلاقية والواجبات المشروطة التي قد لا يؤديها الأشخاص إلا خوفاً من العقاب ، أي أن التجريم الضريبي في حقيقته خليط من العدالة والنفعية .
تختلف تشريعات الضرائب في التجريم بالأخذ بأي من المبدأين العدالة أم المنفعة . إذ أن الأخذ بالمبدأ الأول "العدالة" يعني أن تأسس المسئولية في التجريم على سلوك الشخص (الخطيئة) في حين أن الأخذ بمبدأ "المنفعة" تعني أن تؤسس المسئولية على نتيجة الجريمة نظراً إلى الضرر أو الخطر الذي يترتب عليها.
__________
(1) - د. أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص : 23 .(36/41)
وتترتب نتائج بالغة الأهمية تختلف تبعاً للمبدأ المختار . فالأخذ "بمبدأ النفعية" يترتب عليه أن القانون يعد مجرد وسيلة لكفالة جمع إيرادات الدولة وتجنبها الخسارة وبالتالي السير على أخذ المبادئ التي تحقق هذه الفلسفة مثل عدم رجعية القانون الأصلح ، عدم احترام مبدأ المسئولية الشخصية ، تقرير المسئولية بلا خطأ وتقرير المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية . أما الأخذ "بمبدأ العدالة" يعني إتباع عكس المبادئ السابقة .
يتعاظم دور القاضي الشرعي في ترجيح أي من المبدأين ولا سيما إذا لم يحسم المشرع الأمر كما في القانون السوداني بأن تتسم نظرته بالمرونة تبعاً لحجم المخالفة والخسارة التي لحقت بها . صحيح أن أغلب التشريعات الآن تميل إلى مبدأ العدالة حيث يراعى الأخذ بالركن المعنوي ومراعاة ظروف الجاني ؟ إلا أنه لا بد أن ينظر إلى ظاهرة التهرب الضريبي باعتبارها ظاهرة تتسع دائرتها خاصة في ظل غياب الوعي الضريبي والإحساس القومي بواجبات الدولة المالية وضرورة المساهمة فيها بتضحيات مالية ، بل على العكس نجد عدم المبالاة والنظر إلى التهرب نوعاً من "الشطارة" مما يدعو إلى الأخذ بالجانب النفعي .
ويلاحظ أن القانون السوداني أختط مسلكاً وسطاً إذ واجه المشرع في قانون ضريبة الدخل لسنة 1996م الأخذ بأحكام خاصة تمثلت في وضع عقوبة مشددة لجريمة التهرب الضريبي بمقدار غرامة تحددها المحكمة أو بالسجن مدة لا تتجاوز سنتين أو بالعقوبتين معاً.(36/42)
وأضيف في تعديل القانون فقرة جديدة اعتبر بمقتضاها التهرب الضريبي مخلاً بالشرف والأمانة ، الأمر الذي يؤثر بلا شك في التمتع بالحقوق المدنية أو تولي الوظائف العامة (الجانب الأخلاقي) ، وكذلك ربط شهادات خلو الطرف من الالتزام الضريبي في جميع المعاملات مع الجهات المختصة (في السفر للمغتربين السودانيين ، الدخول في المزادات الحكومية ، وغيرها) . أحاط المشرع السوداني في مشروع قانون 1996م حالات التهرب بكثير من الأحكام بعضها يتعلق بفرض جزاءات مالية إضافية وبعضها يتعلق بحصر النشاط لمنع اللجوء إلى التهرب من ذلك النص على خضوع دخل نشاط القاصر لضريبة الأب ، هذا يؤكد الجانب النفعي وذلك لمنع حالات التهرب من الضريبة مما يلزم تقريرها على مجموع الدخل بتوزيعه على أشخاص لم يشاركوا في تحقيقه ؟ للاستفادة من إعفاء تقدير الدخل الموزع وتجنب حدة التصاعد(1).
هذا يتعارض مع أحكام القانون المدني كما ذهبت المحكمة العليا في حكم لها، لتعارض الوضع مع العدالة . مع التسليم بسلامة الحكم ، إلا أننا نعتقد أن التهرب الضريبي وما يؤدي إليه من حرمان لموارد الدولة يقتضي التقليص في إعمال مبدأ العدالة لمواجهة هذا النوع من الجرائم بأحكام خاصة وإن تعارضت مع أحكام القوانين العامة(2).
3/ طبيعة الغرامة الضريبية:
إذا نظرنا إلى الغرامات الضريبية الصادرة من قبل ديوان الضرائب لا تعدو أن تكون غرامات إدارية خالية تماماً من فكرة العقوبة . أما الغرامة الضريبية التي تقضي بها محكمة الضرائب فتبدو بها الصفة المختلطة للعقوبة باعتبارها تنطوي على عنصر التعويض .
__________
(1) - د. محمد كرم علي ، المالية العامة المبادئ والتطبيق ، الطبعة الثانية ، الخرطوم (بدون تاريخ) ص: 169 .
(2) - وهذا ما يراه أستاذي د. محمد كرم علي ، المرجع نفسه ص: 199.(36/43)
إذ تقف كعقوبة بحتة ممثلة في الغرامة محققة الإيلام الاجتماعي من جهة ، وتحمل فكرة التعويض من جهة أخرى باعتبارها تعويضاً للمجتمع عن الضرر الذي لحقه كما في جرائم الاختلاس .
إذاً السمة التعويضية للغرامة الضريبية واضحة ؛ بمعنى أنه وإن كانت فكرة العقاب هي الأصل في هذه الغرامة إلا أنها تهدف في الوقت نفسه إلى تحقيق معنى التعويض مما يبرر وصفها بأنها ذات طبيعة مختلطة ولعل في هذه النقطة تلتقي مع فكرة الضمان في الفقه الإسلامي كما في تطبيقات الدية التي تمثل غرامة (عقوبة) وتعويض . لكن رغم ذلك نجد أن جانب العقوبة في الغرامة الضريبية ظاهرة جداً باعتبار أن معظم الجرائم الضريبية تعتبر من جرائم الخطر أي لا يترتب عليها ضرر محقق بالدولة إلا أنه ضرر محتمل ، والثابت أن مجرد الضرر المحتمل غير المحقق لا يستحق عنه تعويض كما تقرره القواعد العامة مما يعزز هذه الطبيعة الخاصة للغرامة الضريبية . بل يلاحظ أن الغرامة لا تحسب بقدر ما أصاب الدولة من ضرر مما يباعد صفة التعويض عنها ، أي أن الأصل هو العقاب وليس التعويض ، لذا يتعين وصفها بأنها عقوبة تعويضية لا تعويض عقابي كما جاء في وصف أحد الفقهاء(1) .
بهذه الصفة تسري على الغرامة الضريبية القواعد الإجرائية المقررة بشأن العقوبة منها :
1/ لا يجوز الحكم بها إلا من محكمة جنائية .
2/ يجب على المحكمة أن تقضي بها من تلقاء نفسها بطلب من النيابة العامة .وليس للإدارة الضريبية حق الإدعاء ولا حق الطعن .
3/ لا يجوز الحكم بالغرامة الضريبية متى ما انقضت الدعوة الجنائية لأي سبب من أسباب انقضائها .
كذلك يلزم إتباع قواعد خاصة للأحكام الموضوعية مثل قاعدة أنه لا يجوز الحكم به إلا بناء على نص يقرره ويحدده القانون ، وقاعدة شخصية العقوبة .
__________
(1) - أحمد فتحي سرور ، المرجع السابق .(36/44)
في ضوء ما توصلنا إليه الطبيعة الخاصة للغرامة الضريبية يكون من الطبيعي إلا تسري عليها جميع القواعد المذكورة آنفاً وبالتالي لا تتوفر فيها جميع آثار العقوبة الجنائية البحتة؛ عليه تسري على هذه الغرامة قواعد خاصة مشمولة بالقانون الضريبي كحق رفع الدعوى وحق الطعن المقرر لديوان الضرائب ، وفكرة التضامن في العقوبة ترجيحاً لفكرة التعويض، واستبعاد وسيلة الإكراه البدني كوسيلة تنفيذ في جرائم التهرب إذ تنص قوانين الضرائب على أن يتم تحصيل الضرائب بطريق الحجز الإداري كما هو معمول به في السودان.
عرف القانون السوداني طريق الحجز الإداري كوسيلة تحصيل إلا أن الملاحظ في التطبيق والممارسة لا يلجأ إلى طريقة الحجز الإداري إلا في حدود ضيقة عندما لا يستجيب الممول لإعلانات الديوان الخاصة بالمبادرة بدفع الضريبة وبعد أن يكون قد منح الفرص الكافية للدفع . هذه السلطة لخطورتها تكون من أعمال القاضي رغم أن القانون أعطى هذا الحق للديوان ولكن بصفة استثنائية حيث الإشراف دائماً يكون قضائياً .
ونخلص في شأن هذه الطبيعة بأن بعض هذه القواعد الإجرائية لا تطبق على الغرامة الضريبية لغلبة سمة التعويض لهذا لا تطبق عليها قواعد إجرائية مهمة كقاعدة وقف التنفيذ باعتبارها تخل بعنصر التعويض ، وقاعدة العفو عن العقوبة التي يجب أن ينحصر مداها في حدود العقوبة دون أن يمتد إلى حق الدولة في التعويض إلا إذا كان قرار العفو شاملاً . تبدو السمة التعويضية ظاهرة كذلك في أن القانون قد يعطي حتى المصادرة للمواد موضوع الجريمة كتعويض لديوان الضرائب عما أصابه من ضرر بسبب هذه الجريمة .
عموماً هذه الصفة المختلطة للغرامة الضريبية وكذا الإجراءات الخاصة بالنسبة للضرائب والجمارك يعطي القاضي الشرعي شيئاً من المرونة بتوقيع العقوبة المناسبة ترجيحاً بين المبدأين أو التوفيق بينهما (العقاب أم التعويض).
نتائج البحث :-
توصل الباحث إلى النتائج التالية :(36/45)
1/ تأكيد عظمة مهمة القاضي الشرعي باعتباره المظهر الحقيقي للدولة الإسلامية وهو يقضي أو يصدر الفتوى ، وضرورة مراعاة الأفكار والاتجاهات السائدة في مجتمعه عندما ينبري لمعالجة التحديات الحديثة كإقرار حق مؤسسات المجتمع المدني في الإدعاء في إطار نظام الحسبة ، وفي تضييق إعمال موانع تطبيق أحكام القوانين الأخرى .
2/ الإقرار بالحاجة للمحاكم الخاصة دون إغفال حق المواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، مع إسباغ الشرعية للإجراءات الخاصة بهذه المحاكم (محاكم الزكاة والضرائب والجمارك) .
3/ تكييف الزكاة كأداة للسياسة المالية الأمر الذي يحتاج إلى بعض المرونة بالنسبة للأموال الخاصة للزكاة مع إقرار الإجراءات الخاصة لأعمال محاكم الزكاة دون التقيد بالقواعد العامة الإجرائية التي قد تجهض كثير من أهداف الزكاة .
4/ إسباغ الشرعية للضرائب والجمارك كمورد مالي بجانب الزكاة ، مع إعطاء دور للقضاء الشرعي في نظر قضايا الضرائب والجمارك كمحكمة موضوع وطعن باعتباره السياج الأخير حتى لا يفلت المال العام من مظلة التحصيل وذلك بإعطاء القاضي الشرعي سلطات واسعة واستثنائية.
المراجع والمصادر
القرآن الكريم.
السنة النبوية (صحيح بخاري 7/80. صحيح مسلم 8/20.)
أحمد بن المواز ، المعاملات البنكية في ضوء الشرع وأحكام الضرورة .
أحمد صبحي منصور، القضاء والمجتمع ، رؤية إسلامية، "حلقات نقاشية عن دور القضاء " ، مركز ابن خلدون ، مصر 1997م ، دار الأمين.
أحمد فتحي سرور ، الجرائم الضريبية ، القاهرة : دار النهضة العربية 1990 .
أسامة محمد عثمان، تنازع القوانين، دراسة في القانون السوداني والمقارن 2004 .
بابكر الشيخ ، تفاعل المباديء الانسانية العلمية في القانون ، مجلة العدل ، العدد السادس عشر السنة الرابعة.
حافظ جعفر ابراهيم، تاريخ القانون في القانون المقارن والسوداني، الخرطوم، ط2005.(36/46)
حامد بن أحمد الرفاعي، الإسلام والنظام العالمي الجديد، الطبعة الثالثة، السنة السادسة عشر، العدد 146، الطبعة الثالثة 1419هـ.
خليفة بابكر الحسن ، دراسات في قضايا الثقافة والاقتصاد الإسلامي ، القاهرة مكتبة وهبة الطبعة الأولى 1421 - 2000 .
سعيد بنسعيد العلوي ، الاقتصاد والتحديث : دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب ، منشورات مركز دراسات العالم الإسلامي ، الطبعة الأولى 1992م ، سلسلة الفكر الإسلامي المعاصر .
سليمان دنيا، التفكير الفلسفي الاسلامي ، مصر ، مكتبة الخانجي ،الطبعة الاولي 1387ه – 1967م
طامي بن هديف بن معيط النعمي، التطبيقات العلمية للحسبة في المملكة العربية السعودية 1419هـ - 1998م.
عبد الرازق خليفة الشايجي ، د. عبد الؤوف محمد الكمالي ، بحث (أحاديث الاحتكار حجيتها و أثرها في الفقه الإسلامي) ، مجلة الحقوق العدد الثاني ، السنة الرابع والعشرون 1421هـ - 2000م جامعة الكويت .
عبدالرحيم احمد بلال، القضية الإجتماعية والمجتمع المدني في السودان، دار عزه للنشر والتوزيع ، الخرطوم ، 2005.
علي محمد علي ، القضاء في الدولة المهدية، مركز الدرسات السودانية ، الطبعة الاولي 2002م .
علي محمد علي ، القضاء في دولة المهدية ، مركز الدراسات السودانية ، الطبعة الأولى القاهرة 2002 .
عنايت عبدالحميد ثابت ، أساليب فض تنازع القوانين ذات الطابع الدولي في الإسلام، القاهرة، دار النهضة العربية، 1418هـ-1998.
المبسوط ج5 ،
محمد بن الحسن الحجوي ، الأحكام الشرعية في الأوراق المالية ، الاجتهاد والتحديث.
محمد خليفة حامد ،تاريخ النظام القضاء في السودان الملامح والتطور (بدون بيانات النشر ) طبعة 2004 .
محمد كرم علي ، المالية العامة المبادئ والتطبيق ، الطبعة الثانية ، الخرطوم (بدون تاريخ) .
هشام علي صادق ، تنازع القوانين ، طبعة ثانية منشأة المعارف الاسكندرية.
المجالات والمقالات وأوراق العمل:-(36/47)
الكندي يوسف محمد عثمان ، مقال " رؤى وأفكار حول هيئة القطاع الصناعي لمرحلة تحرير التجارة العالمية " ، مجلة التصنيع – هيئة التصنيع الحربي ، العدد الثاني ، يونيو 2005 م .
مجلة الاجتهاد القضائي ، المحكمة العليا الجزائر ، الجزء الثاني 2002م .
د. عبد الله محمد حسين الزيات ، مقال "مظاهر اقتصادية في عصري المرابطين والموحدين بالأندلس والمغرب" ، مجلة آفاق الثقافة والتراث ، السنة الثانية عشر ، العدد السادس والأربعون ، جمادى الأول 1425هـ - يوليو (تموز) 2004م
اوراق عمل الندوة العلمية حول نتائج واثار التصديق علي اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة عبر الوطنية، الخرطوم –السودان 5- 6 مارس 2002م
أحمد عبد الله ، ورقة اقتصاديات الزكاة ، مؤتمر الزكاة الأول 1994م ، السودان (المعهد العالي لعلوم الزكاة).
عبد المنعم القوصي ، ورقة الجباية ، مؤتمر الزكاة الأول 1994م ، السودان (المعهد العالي لعلوم الزكاة ) .(36/48)
دولة الإمارات العربية المتحدة
جامعة الشّارقة
كليّة الشّريعة
مؤتمر القضاء الشّرعي في العصر الحاضر/ الواقع والآمال.
شخصيّة القاضي
سبل بنائها وتنميتها وحمايتها
بحث مقدم للإسهام في مؤتمر القضاء الشرعي في العصر الحاضر
بقلم
كلثم الشيخ عمر عبيد الماجد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
…فأتوجه أولا بالشكر الجزيل لصاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، القائم على ترقية صروح العلم والنهضة العلمية، وصاحب المبادرات الكريمة في إنماء العمل الإسلامي والثقافات العلمية المتميزة.
…
كما أخص بالشكر الجزيل الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي عميد كلية الشريعة، وجميع السادة القائمين على هذه الكلية، وأشكر لهم جهودهم في تنظيم مؤتمر القضاء الشرعي، وأسأل الله تعالى لهم التوفيق والسداد على الدوام.
……
…ويسعدني أن أسهم في هذا المؤتمر ببحث موسوم بـ ( شخصية القاضي؛ سبل بنائها وتنميتها وحمايتها) – رؤية تربوية -، وهو بحث هادف إلى تحقيق التكامل المعرفي بين التخصصات التربوية الإسلامية والقانونية، وإلى إثراء موضوعات القضاء من خلال منافذ جديدة تقدم رؤية التربية الإسلامية في النهوض بالعمل القضائي.
……
…وقد اشتمل هذا البحث على أربعة مباحث، جاءت موزعة ضمن الخطة الآتية:
مقدمة
المبحث الأول: تمهيد
…المطلب الأول: نبذة عن سُبُل بناء الشخصية الإنسانية.
…المطلب الثاني: صلة شخصية القاضي بالشخصية الإنسانية فيما يتعلق بسُبُل البناء.
…المطلب الثالث: الخصائص العامّة لشخصية القاضي.
المبحث الثاني: عوامل بناء شخصيّة القاضي
المطلب الأول: التهيؤ المسبق للعمل القضائي.
…المطلب الثاني: الصفات الشخصية.
…المطلب الثالث: الاستقلالية في شخصية القاضي.
المبحث الثالث: عوامل تنمية شخصيّة القاضي
…المطلب الأول: تنمية حب الانتماء للعمل القضائي.(37/1)
…المطلب الثاني: استمرارية تطوير المعارف العلمية في مجال القضاء.
المطلب الثالث: تنمية المعارف الفنية المتطورة، المتمثلة في أنظمة المعلوماتية الحديثة.
المطلب الرابع: التحصيل الثقافي المستمر للمستجدات من الأحداث العامة.
المبحث الرابع: عوامل حماية شخصيّة القاضي:
…المطلب الأول: سبل ووسائل حماية شخصية القاضي.
…المطلب الثاني: الآداب الأخلاقية والسلوكية.
…المطلب الثالث: العلاقات الإنسانية.
الخاتمة والنتائج والتوصيات.
قائمة المراجع.
المبحث الأول
تمهيد
المطلب الأول: نبذة عن سبل بناء الشخصية الإنسانية:
…إن الحديث عن الشخصية الإنسانية يتطلب التطرق إلى مفهوم هذا المصطلح، من خلال معرفة مكوناته وأبعاده؛ ليتسنى التعرف على إمكانات الربط بين متطلبات الشخصية، وسبل بنائها.(37/2)
…فالشخصية الإنسانية تتكون من وحدة متكاملة من الصفات والمميزات الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية، وهذه الصفات تحكم التعامل الاجتماعي للإنسان، وتميزه تمييزاً واضحاً عن غيره(1). وإذا كان الأمر كذلك؛ فمن الضرورة بمكان مراعاة تلك الصفات في التربية، ومراعاة تنميتها بالسبل الملائمة لكل منها: فبناء الجسم يتطلب الرعاية الغذائية والصحية والنفسية، ابتداء من مراحل العمر الأولى. ولتلك الرعاية تفصيلات تضمنتها دراسات تخصصية كثيرة. أما بناء العقل فيتطلب الرعاية الفكرية التي يمكن البدء بها من مرحلة الطفولة أيضا، من خلال مخاطبة عقل الطفل وتوجيهه بأسلوب مُبسّط نحو التأمل والتفكير فيما حوله من مخلوقات وموجودات، وتوجيهه كذلك للتفكير في إيجاد حلول للمشكلات التي تتولّد نتيجة الأخطاء السلوكيه له، والمصاعب التي تواجهه في طريق توجهه نحو تحصيل شيء من متطلباته، ومساعدته في تكوين تلك الحلول. وهذا الأسلوب المُبَسَّط هو الأسلوب الأول في تغذية الفكر، ويليه أسلوب التحصيل العلمي الذي يتزود به الإنسان عن طريق المؤسسات التعليمية المختلفة، والمطالعات المستمرة للكتب والنشرات، في مراحل العمر اللاحقة. وأما الصفات الاجتماعية والمزاجية، فمن المعروف أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وبحاجة إلى تنمية الصفات الاجتماعية والمزاجية عن طريق اكتساب العادات الاجتماعية السليمة، واكتساب التوجه الاجتماعي الفاعل في تنمية الشخصية في هذا الجانب، وذلك من خلال التنمية الأسرية الأولى، فإذا كان الطفل وحيداً؛ فذلك يتطلب السعي إلى توفير المخالطة الاجتماعية للطفل في إطار مجتمع الأقارب، ومجتمع الزملاء. وكذلك
__________
(1) القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر، الدكتور عبد المجيد مسعود. (سلسلة: كتاب الأمة). (تم هذا الاقتباس، من المادة المطروحة من هذا الكتاب على شبكة الانترنت، وليس فيها تحديد لرقم الصفحة، وتعذّر علي الحصول على الكتاب نفسه).(37/3)
توفير الُّلعبْ التي تؤدي ذلك الغرض؛ كالشخصيات التي تمثل العامل والمزارع والشرطي والحاكم وغيرها من الشخصيات.
…وتلك الصفات جميعها (الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية) تتضمن دوافع الإنسان وعواطفه وميوله واهتماماته وسماته الخلقية وآراءه ومعتقداته، وتشمل عاداته وذكاءه ومواهبه الخاصة ومعلوماته، وما يتخذه من أهداف ومُثُل وقيم.(1)
…ولا شك أن ما تتضمنه تلك الصفات من دوافع وعواطف وميول وغيرها، تتأثر بتلك الصفات، وتؤثر فيها. مما يشير إلى حاجة الإنسان إلى عدد من العوامل التي من شأنها أن تنهض بشخصيته، وتجعلها في المستوى الذي يليق به، ويوفر له إمكانات التعامل الأمثل مع الحياة، وإمكانات العطاء الأمثل في الجوانب التخصصية التي يتوجه لها في حياته العملية.
…ويمكننا هنا أن نشير بإيجاز إلى عدد من تلك العوامل للتعرف على أهميتها في حياة الإنسان. وأولها أهمية هو العامل الديني. ولا شك أن دين الإسلام قد قدّم للإنسان منهجاً حياتيا رفيعاً، وفّر فيه جميع متطلباته الحياتية والأخروية؛ ووفّر له وسائل وأساليب إشباع متطلباته الروحية والجسدية والعقلية والنفسية والاجتماعية، وغيرها. وعليه فإن لدين الإسلام أثراً بالغاً في بناء الشخصية الإنسانية بناء محكماً بعيداً عن أسباب الزعزعة والهوان واستلاب الشخصية. ويتضمن هذا العامل أيضا، دوافع ومسوِّغات العوامل الأخرى التي سيأتي الحديث عنها.
…فهناك عامل التنشئة، الذي يُقصد به الرعاية التربوية المتكاملة التي تراعي حاجات الإنسان المتعددة في مراحل العمر المختلفة. وهناك عامل القيم الذي يُزود الإنسان بالوعي الفكري، ويُكوِّن لديه الاتجاهات والتطلُّعات والغايات السامية، ويأخذ بيده للتوجه بِهِمَّة إلى تحقيقها. ويبني في الإنسان سلوكيات ظاهرة وباطنة، تقوم على مبادئ مستوحاة من تلك القيم.
__________
(1) المرجع السابق.(37/4)
…وهناك أيضا عامل المسئولية الذي يوجِّه الإنسان نحو تنمية قدراته ومعارفه، والرقي بها ليكون على قدر المسئولية. وذلك يأخذ بيده إلى أسلوب آخر من أساليب بناء الشخصية؛ ألا وهو تنمية الذات، فالذات الإنسانية تحتاج إلى تنمية الخبرات عن طريق التفاعل مع المحيط الاجتماعي، ليتكون لديها تراكم للخبرات تؤدي إلى بناء الذات، وتكوين مفهوم عنها، وهذا التكوين – لا شك- له أهميته القصوى؛ فالمدرك لذاته قادر على تحديد طاقاته وإمكاناته، وقادر كذلك على تحديد مكانته والمهام المنوطة بها، بصفته جزءاً من المجتمع، ولوجوده في هذا المجتمع أهداف وغايات مهمة، كما لوجوده في هذه الدنيا أهداف وغايات رفيعة.
…ولذا فإن التنمية الذاتية تأخذ بيد الإنسان إلى بلوغ سمات راقية يتسم بها الفكر والسلوك لدى الإنسان؛ مثل: المرونة الفكرية، واحترام آراء الآخرين، وتحقيق العدل في العلاقات الإنسانية؛ وذلك عن طريق الموضوعية في التعامل مع الآخرين، وإقصاء جميع عوامل التأثّر الأخرى؛ كالنزاع السياسي والاقتصادي، أو علاقات الزمالة، أو غير ذلك مما يوقع الإنسان أسيراً للعوامل الذاتية أو الانفعالية.
… ومن عوامل بناء الشخصية أيضا: التربية المدنية، التي نالت نصيباً وافياً من توجيهات الإسلام وتطبيقاته العملية في حياة المسلمين؛ وهي تربية ترمي إلى (تكيف الإنسان مع متطلبات عصره، ومحيطه الاجتماعي، هذه المتطلبات لا يحددها الفرد من منطلق نظري، بل يجد نفسه بمواجهتها، فهي متطلبات الواقع التي أفرزتها عوامل مختلفة ومتداخلة تفاعلت فيما بينها، فأوجدت الوضع الاجتماعي الذي يتهيأ الإنسان لدخوله والتعامل معه).(1)
__________
(1) مجلة الفكر السياسي، العدد (21)، السنة الثامنة، شتاء: 2005م. مقال عنوانه: (التربية المدنية، دراسة في أزمة الانتماء والمواطنة في التربية العربية) د. عبد الله مجيدل، ص: )15).(37/5)
…وعليه فإن هذه التربية تعمل على تهيئة الإنسان لكي يكون متمكنا من التعامل الأمثل مع كل جديد من إفرازات العوامل المتطورة، التي أصبحت – في الوقت الحاضر- متلاحقة بشكل سريع.
…
…ويمكن القول: إنّ الشخصية الإنسانية تحتاج إلى بناء واضح المعالم، وإعداد مُتقن ومُخطّطٌ له، ليتحقق لها التكامل؛ فـ (لفكرة تكامل الشخصية أهمية كبيرة في سلامة الشخصية وسوائها وتمتعها بالشعور بالرضا عن ذاتها، وعن المجتمع الذي تعيش في كنفه؛ فالتكامل في الشخصية يؤدي إلى اتزانها وانضباطها وتوازن قواها وانسجام عناصرها ووجود درجة من الوئام بين مقوماتها).(1)
المطلب الثاني: صلة شخصية القاضي بالشخصية الإنسانية فيما يتعلق بسبل البناء:
…لا شك أن القاضي من جملة البشر؛ يتسم بسماتهم، وتحتويه صفاتهم، وله حاجات ومتطلبات كغيره. وإذا كانت الشخصية الإنسانية مكوّنة من صفات ومميزات جسمية وعقلية واجتماعية ومزاجية، وهذه الصفات تحكم التعامل الاجتماعي للإنسان، وتميزه تمييزاً واضحاً عن غيره. فإنها لا شك صفات تتصف بها شخصية القاضي أيضاً.
…ومن هنا تصبح هذه الشخصية بحاجة إلى التأسيس والرعاية والبناء كغيرها. ولعل متطلبات هذه الشخصية –خاصة- تحتاج إلى تأسيس خاص يبدأ منذ الصِّغر، ويُرعى باستمرار بما يتفق وحاجات المكانة التي يُعدُّ لها. فلا شك أن الإعداد المبكر للعمل القضائي أمر له ضرورته وأهميته، وقد اتبعت الدول الغربية أسلوب الإعداد المبكر للشخصية نحو التوجه الذي تكشف عنه الدراسات التربوية لدى الأطفال. وهو أسلوب فاعل في تحقيق النجاح في التخصصات والمهام الإنسانية.
__________
(1) الإسلام والعلاج النفسي؛ د. عبد الرحمن العيسوي، ص: (118)، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية، دت، دط.(37/6)
…ويشترك الجنس البشري –أيضا- في كونهم جميعاً يقعون تحت المؤثرات النفسية، التي تؤدي إلى توجيه السلوك الإنساني؛ وذلك يشير إلى أمر مهم للغاية يتعلق بالعلوم التي ينبغي أن يتلقاها القاضي.
…تحدث القاضي فتيحة عن هذا الأمر فقال: (.... ومن ثم يبين مدى أهمية دراسة العامل النفسي وأساليب التحليل النفسي، وتدريسها للقاضي ذاته، لكي تكون خير معين لدراسة نفسه عند الحكم في قضايا الآخرين. وإذا كان للنفس البشرية نزعات شاردة وميول جامحة، فإن لها من الناحية الأخرى فضائلها ومُثُلها العليا، المستمدة من الجانب الروحاني، وهو ما يسمى بالضمير، وليد آداب المجتمع الإنساني وتعاليمه ووريث ثروته المعنوية التي تجمعت على ممر الأجيال والعصور، منذ فجر الحياة الاجتماعية، متمثلة في مجموع الروادع والنواهي الوالدية والدينية والأدبية والمظهر الأسمى من الطبيعة البشرية، ومهبط وحي العدالة المنزهة من كل محاباة أو مجاملة).(1) ويتضح من هذا القول أن النفس الإنسانية، وإن كانت تميل في بعض أحوالها إلى الجنوح والزلل، إلا أنها لا تنطلق إلى هذا التوجه إذا ما تمت تربيتها وتدريبها على الفضائل والكمالات، فحينها تستسلم لوازع الضمير وتنقاد له طواعية. ويتم القاضي فتيحه قوله حول هذا المعنى: (إذا ما استيقظ الضمير كان له خطره، وأصبح شديد الوطأة على النفس، ولذلك كان من ألزم الأمور وأوجبها أن يأمن القاضي على نفسه من نفسه، ويحاط بالضمانات التي تبعث إلى قلبه الطمأنينة والشعور بالاستقرار، وتحصنه تجاه العوامل الشخصية، والأهواء والمنافع الذاتية؛ فتسقطها من حسابه، ويقصيها من ميدان تفكيره ووجدانه، وبغير ذلك يتعذر في نظر العلم النفسي الاعتقاد بتجرد حكمه على الأمور من كل ظن أو شبهة).(2)
…
__________
(1) قيم القضاء وتقاليده؛ القاضي: فتيحة محمود قرة، القاضي بمحكمة تمييز دبي. ص: (12). كتاب صادر عن محاكم دبي، دت، دط.
(2) المرجع السابق.(37/7)
…وإذا عدنا إلى ما أوجزنا الحديث عنه من سُبل بناء الشخصية الإنسانية؛ وصلة شخصية القاضي بها؛ فسنجد أن بناء شخصية القاضي تقتضي مراعاة عوامل البناء أيضا، وتقتضي ما يزيد على ذلك، مما سنتحدث عنه في المباحث اللاحقة.
…أما ما سبق ذكره من عوامل؛ فلا شك أنها لازمة وضرورية؛ فأثر العامل الديني في إحكام تأسيس ورعاية شخصية القاضي، له ضرورة بالغة؛ ذلك لأن تعاليم الإسلام وإرشاداته وموجِّهاته تُعدّ أساساً متيناً لا تستغنى شخصية القاضي عنه، فضلا عما ينبغي له من (العلم بالأحكام الشرعية وأسرار التشريع).(1)
__________
(1) التشريع والقضاء في الإسلام؛ المستشار أنور العمروسي. ص: (72). مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية، 1984م. دط.(37/8)
…وقد ذكر ابن أبي الدم(1) عدداً من مطالب العلم الشرعي الذي تأسست عليه معارف القضاة السابقين، ولكنه عقّب على ذكرها بقوله: (والذي أراه بعد هذا كله أن الاجتهاد المطلق أو المقيد إنما كان يُشترط في الزمن الأول الذي ما يَعْرَى فيه كل أقليم عن جماعة من المجتهدين الصالحين للقضاء والفتوى، فأما في زماننا هذا، وقد خلت الدنيا منهم، وشغر الزمان عنهم، فلا بد من جزم القول، والقطع بصحة تولية من اتصف بصفة العلم في مذهب إمام من الأئمة، وهو أن يكون عارفاً بغالب مذهبه ومنصوصاته وأقواله المخرجة له، وأقاويل أصحابه، عالما بذلك، جيّد الذهن، سليم الفطنة، صحيح الفكر والفطرة، حافظاً للمذهب، صوابُه أكثر من خطئه، مستحضراً لما قاله أئمته، قادراً على استخراج المعاني المفهومة من الألفاظ المنقولة. عارفاً بطرق النظر، وترجيح الأدلة، قيَّاساً، فهِماً، فطناً، قارداً على معرفة الأدلة ووضعها وترتيبها، وإقامتها على الأحكام المختلف فيه، متمكناً من ترجيح الأدلة، بعضها على بعض).(2)
…وعليه؛ فإن بناء شخصية القاضي تتطلب تزويده بالعلم الشرعي، وتكثيف ما يتعلق بمهامه القضائية منها.
…ويتطلب البناء أيضا تزويده بالقيم الدينية والإنسانية، ومعارف وقيم العصر الذي يعيش فيه، لما لها من أثر في توعية فكره، ونضوجه، وتوجيهه نحو التحلي بمبادئ الحق في السلوك الباطن والظاهر. وهي من الحاجات التي تتطلبها شخصية القاضي كغيره من البشر، بل هو أحوج لهذا الجانب عن غيره.
__________
(1) هو القاضي شهاب الدين أبي إسحاق ابراهيم بن عبد الله، المعروف بابن الدم الحموي الشافعي، المتوفى سنة 642هـ.
(2) كتاب أدب القضاء، وهو الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات، للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق، المعروف بابن أبي الدم. ص: (80، 81). تحقيق: محمد مصطفى الزحيلي، دار الفكر، دمشق.(37/9)
…إضافة إلى أثر عامل المسئولية في الشخصية؛ فالإحساس بالمسئولية لدى القاضي؛ يقتضي أن يكون مُضاعفاً؛ فالمسئولية القضائية، تتضاعف آثارها تجاه الغير، عن غيرها من المسئوليات التي يتحملها الآخرون. وهي دافع فعّال من الدوافع التي تنطلق به نحو تنمية معارفه وقدراته ومهاراته، وتنمية ذاته في نواحٍ أخرى؛ مثل تنمية الذات فيما يتعلق بالمرونة الفكرية، وبالموضوعية في التعامل مع الناس.
…وذلك إلى جانب عامل التربية المدنية، التي تُعنى بتحقيق تكيّف الإنسان مع متطلبات عصره، ومحيطه الاجتماعي، التي تفرض عليه أن يتهيأ لدخول الوضع الاجتماعي السائد والتعامل معه بالأسلوب الأمثل، فذلك يساعد على اتخاذ مواقف سليمة تقتضيها مواكبة إفرازات العصر المتجددة.
…ولهذا الأمر ضرورته في بناء شخصية القاضي؛ فهو بطبيعة مهماته القضائية يحتاج إلى الإلمام بمهارات ومعارف التربية المدنية(1)، ليتمكن من بناء أحكامه بناء مُتّسِقاً مع رؤية المستجدات رؤية واضحة لا غبار عليها.
…
…وهكذا يتضح أن شخصية القاضي لا تنفك في متطلبات تأسيسها عن الشخصية الإنسانية؛ بل تزداد في حاجتها إليها وإلى غيرها من عوامل التأسيس.
…
المطلب الثالث: الخصائص العامة لشخصية القاضي.
__________
(1) جاء في موقع على شبكة الانترنت، مقال عنوانه: (التربية المدنية، دراسة في أزمة الانتماء والمواطنة في التربية العربية) للدكتور عبد الله مجيدل. حديثا مُفصّلا عن موضوع التربية المدنية، وذكر فيه تفصيلات جيدة وذات فوائد قيمة. وجاء هذا المقال ضمن مجلة الفكر السياسي، العدد: (21) السنة الثامنة، شتاء: 2005م.(37/10)
…تختص شخصية القاضي بخصائص رفيعة تتميز بها عن غيرها من الشخصيات، وتستمدها من مقومات فاعلة. ذلك لأن (مبدأ تخصص القضاة هو من أهم سمات القضاء؛ بمعنى أن يكون ممارسة العمل القضائي مقصوراً على فئة مؤهّلة تأهيلا علمياً خاصاً بالعلم القانوني المتعمِّق، والمعرفة الواسعة، والثقافة الرفيعة ذات تكوين عمل خاص قوامه التدريب والتأهيل والممارسة والتجربة والخبرة متفرغاً لمهمته، منقطعاً لفرائضه، صابراً على مناسكه، وأن تتوفر له الملكات الشخصية الضرورية، كالخلق الحسن، والسمعة الطيبة، والسلوك السوي، ورجاحة العقل، وسلامة التقدير، وسداد النظر، وموضوعية التفكير، واستقلال الشخصية وتجردها وحيادها).(1)
…ولا يقتصر الأمر على ذلك فالخصائص العامة لشخصية القاضي تقتضي أن يكون (فطِناً نزيها مهيباً حليماً مستشيراً لأهل العلم والرأي)(2)؛ وأن يكون (غير مستضعف؛ لأن الشخصية لها أهمية كبرى في تحقيق المصالح؛ فإذا كان القاضي لا شخصية له، وكان علمه واسعاً، لم يُستفد منه).(3) كما تقتضي (استمداده من علم الأدب المانع من اللحن والسقط، واتصافه بكل جميلة تزيده هيبة في النفوس، وعظمة في القلوب، وخلوُّه من كل ما ينقص من قدره ومنزلته في أقواله وأفعاله).(4)
__________
(1) قيم القضاء وتقاليده. ص: (63).
(2) القضاء في الإسلام وآداب القاضي، د. جبر محمود فضيلات، ص: (61). دار عمار. الأردن، ط1. 1412هـ. 1991م.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق. عزاه إلى كتاب (آداب القاضي، ص: (34).(37/11)
…ولعل رسالة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى واليه في مصر، التي تُبيِّن مدى الحذر والحيطة في انتقاء القضاة، تشير أيضا إلى الخصائص التي تُميِّز شخصية القاضي، ويُنتقى على أساسها. إذ يقول رضي الله تعالى عنه: (....ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الذلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تستشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم إلى أقصاه، أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تَبرُّما بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على كشف الأمور، وأصرمهم عند إتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه المراء، ولا يستمليه إغراء، وأولئك قليل......).(1)
…
…وذلك بالإضافة إلى ما تختصُّ به شخصية القاضي من ناحية ما يصدر عنه من أحكام؛ فأحكامه ليست قولاً قابلا للأخذ والعطاء، أو المدح والثناء، أو القدح والنعي؛ ذلك لأنها تقوم على دراسة مُسبقة ومستفيضة للقضايا ومتعلقاتها، ولأنها تُبني على ضمير مؤسس على الفصل العادل، ولكن إذا مسَّ هذه الحقيقة شيء من الريب؛ فلا يتمكن -أيضا - الطاعن من الطعن (إلا بالطرق التي رسمها القانون للطعن في الأحكام؛ وأمام المحكمة المختصة بذلك، والنعي عندئذ يوجه إلى الحكم لا إلى من أصدره، وإلى مدونات القضاء لا إلى بواعثه أو دوافعه، فهذه مناطق محرمة، ليس لأحد أن يقع فيها ولا أن يحوم حولها).(2)
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام؛ محمود بن محمد بن عرنوس، ص: (17). مكتبة الكليات الأزهرية. مطبعة الحلبي، مصر.
(2) الحق في التعبير؛ د. محمد سليم العوا، ص: (10). دار الشروق، القاهرة، ط1، 1418هـ - 1998م.(37/12)
…ولعل السبب في ذلك هو ما يختص به القاضي من كونه (محور ومصدر الأحكام، وإليه يعود النظر في كل وجوه القضاء، وحقيقته، وحكمه وشروطه، وأركانه. فأما حقيقته؛ فهي الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام، وأما حكمه ففرض على الكفاية بالإجمال، وأما حكمته فهي قمع المظالم ونصرة المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).(1)
…وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، قولا اتضحت فيه خصائص الشخص المرشّح لتَسلُّم القضاء، أنه (لا يصلح للقضاء إلا القوي على أمر الناس المستخفّ بسخطهم وملامتهم في حق الله، العالم بأنه مهما اقترب من سخط الناس وملامتهم في الحق والعدل والقصد، استفاد بذلك ثمناً ربيحاً من رضوان الله تعالى).(2)
…ومما اختصّ القضاة به أيضاً أنهم كانوا (باستمرار يرفدون الفقه والفقهاء بمعين لا ينضب من الأحكام والقواعد التي تنبع من الواقع، وتستمد أسسها وجذورها من مقاصد الشريعة ونصوصها المحفوظة. ويحق لنا أن نقول: إن جهود القضاة في التصنيف والتأليف والشروح يشكل شطر تراثنا الفقهي في مختلف المذاهب، وإن كتب الفقه ناطقة وشاهدة على صدق ما نقول).(3)
__________
(1) مجلة (دراسات تاريخية). ص: (146). صادرة عن لجنة كتابة تاريخ العرب بجامعة دمشق، السنة السادسة عشرة، العدد: (51). كانون الثاني، نيسان، 1995. د. علي أحمد. عزا المؤلف هذا القول إلى كتاب الولايات للونشريسي؛ تحقيق محمد الأمين بلغيث، ص: (38).
(2) المرجع السابق. وعزاه إلى (المرقبة العليا؛ للنباهي، ص: (3).
(3) كتاب أدب القضاء، ابن أبي الدم. ص: (30).(37/13)
…وإذا كان هذا هو حال القضاة؛ فذلك يعني أنهم تميزوا بصفات عالية الشأن، واختصوا بها؛ فتفَوَّقوا بها على العقول الأخرى؛ ذلك لأن الذي يستمد الأحكام والقواعد الفقهية من واقع عمله، ويستمد جذورها من مقاصد الشريعة؛ فذلك يعني أنه يتمتع بمواهب عقلية متعددة؛ كالذكاء وسعة الإدراك، وقوة الملاحظة، والاستدلال، ويتمتع كذلك بالمواهب النفسية، كالقدرة على الإصغاء إلى المرافعات الشفوية، والقدرة على التحكم في العواطف، ومقاومة الأهواء وإصلاح ذات النفس.(1)
…وذلك يعني أن (القاضي مُصدَّرٌ للعدالة بما حباه الله من فهم لمعنى العدل وإحساس بالقيام بالواجب، وصفاء في الذهن، ونقاء في الطبع، ونور في القلب، ورغبة في الاجتهاد).(2)
…ويعني أيضا أن الخصائص العامة لشخصية القاضي تُشكِّل منطلقات يمكن الانطلاق منها إلى تأسيس مناهج تخصصية، ذات تقنين محدد، وخطط دراسية، يتم من خلالها تأسيس المؤهلين للقضاء، لتساعدهم على التوجّه إلى اكتساب عوامل التميز وتنمية القدرات الخاصة بشخصية القاضي.
…ذلك لأن هذه الشخصية ذات أهمية خاصة، تدعو إلى دراستها والعمل على الإسهام فيما يرتقي بها صُعُداً باستمرار.
المبحث الثاني
عوامل بناء شخصية القاضي
المطلب الأول: التهيؤ المسبق للعمل القضائي.
…
…لا تقتصر حاجة العمل في القضاء على المعارف العلمية المكتسبة في الدرجة الجامعية الأولى، كغيرها من الوظائف، بل تزداد الحاجة فيها إلى التزود بخبرات عملية سابقة على العمل القضائي، ومستمرة لاحقاً؛ مما يُمَكِّن القاضي من التأهُّل الأمثل لمهمته.
__________
(1) انظر كتاب: التشريع والقضاء في الإسلام، المستشار: أنور العمروسي، ص: (75)، بتصرف. وعزاه إلى كتاب (مقال: نظرة عامة في القضاء) للأستاذ حافظ سابق، المحاماة، السنة: 4، العدد: 1، ص: 106.
(2) المرجع السابق.(37/14)
…فولاية القضاء كغيرها من الولايات التي يُشترط فيها العلم بالأحكام، والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها؛ ذلك ما ذكره ابن عبد السلام والإمام البغوي رحمهما الله تعالى: (للولاية شرطان: العلم بأحكامها، والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها، فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية).(1) فينبغي للمرء أن (لا يدخل القضاء إلا إذا أحسّ من نفسه الكفاءة والأهلية وحسن النية؛ لأنه منصب ديني، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به، وأداء الحق فيه).(2) مما يؤكد ضرورة التهيؤ المسبق القائم على الإعداد الأمثل الذي يؤهل لتلك الولاية.
…ويقتضي التهيؤ المسبق للعمل القضائي أن يَعِيَ الذي سيقدم على هذه المهمة عموم الخطاب الإلهي في قوله تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ).(3) وما أنزله الله سبحانه وتعالى، لعباده عام وشامل لجميع مصالحهم، وذلك يتطلب الإلمام بما أنزل الله تعالى من أحكام، بتلقي العلم النظري، والتطبيقي، وممارسة التدريب العملي.
…ويتطلب العلم النظري الإلمام بالعلوم الفقهية والقانونية؛ فأما العلوم الفقهية؛ فيستعد لهذا المنصب بدراسة المذاهب الفقهية، أو غالب مذهبه ومنصوصاته وأقوال أصحابه، وأن يكون عالماً بذلك. وأن يتدرب على قدرات استحضار أقوال الأئمة، واستخراج المعاني المفهومة من الألفاظ المنقولة، وأن يُنمي في نفسه إمكانات طرق النظر، وترجيح الأدلة، وأن يتدرب على قدرات القياس، وعلى إقامة الأدلة وترتيبها وإقامتها على الأحكام.(4)
__________
(1) القضاء في الإسلام، جبر الفضيلات، ص: (58). وعزاه إلى: زاد المحتاج بشرح المنهاج: 4/516.
(2) المرجع السابق، ص: (276).
(3) سورة المائدة؛ جزء من الآية: (48).
(4) كتاب أدب القضاء، ابن أبي الدم، ص: (80، 81) بتصرف.(37/15)
…وأما العلوم القانونية فلا شك أنها ذات فروع عديدة، فيبدأ بدراسة مداخل كل فن من فروعها، ثم يتخصص في المجال الذي يجد نفسه متوجهة إليه؛ ذلك لأن التوجّه المناسب للإنسان يحقق له النجاح والتفوق فيه أولا، ثم يحقق له إمكانات البذل والعطاء الأكبر في مجاله.
…وقضية التخصص القضائي في زماننا هذا أصبحت ذات أهمية تفوق أهميتها السابقة؛ ذلك لما تجدد في هذا العصر من مستجدات في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية، وغيرها من المستجدات مما نتج عنه مشكلات وقضايا لم تظهر في السابق، الأمر الذي يدعو إلى تكثيف مواد التخصصات القانونية بحيث تتضمن سياسات التحليل والتعامل الأمثل مع مستجدات العصر.
…ويتطلب التهيؤ المسبق أيضا أن يُهيئ نفسه للكفاءة اللائقة بالقضاء، وذلك بـ (التشمير والاستقلال بالأمر ومواتاة النفس على الجدِّ فيما إليه).(1) وهذا الأمر ألزم في حد ذاته، لأن الهمّة والتشمير للعمل المستقل الذي تترتب عليه سلامة الأفراد والمجتمع، جدير بأن يؤخذ بعين الاعتبار ابتداءً.
…ويقتضي التهيؤ المسبق أيضا الاهتمام بالناحية العملية التدريبية التي تسبق العمل المستقل، ويحتاج المتدرب حينها إلى مراعاة الوعي التام الذي يتمكن من خلاله من اكتساب قدرات المهارات العملية التي يتطلبها العمل القضائي.
المطلب الثاني: الصفات الشخصية.
…أسهب العلماء في ذكر شروط تعيين القضاة؛ وبيّنوا الصفات اللازمة للعمل القضائي، وورد خلاف بينهم حول بعض الصفات المشروطة للتعيين. وفي هذا المطلب لا تعنينا تلك الصفات بالقدر الذي يعنينا منها ما هو متصل بأداء القاضي بعد التعيين.
__________
(1) كتاب أدب القضاء، ابن أبي الدم، ص: (81).(37/16)
…يتميز القضاة بصفات شخصية خاصة، ولكنها لا تعني انفرادهم بها، إلا ما كان منها مكتسباً من خلال اكتسابهم علوم القضاء، ومن خلال ما تفرضه طبيعة العمل القضائي من توجهات فكرية وعملية وسلوكية، يترتب عليها بناء صفات خاصة بشخصية القاضي.…
…فمن الصفات التي يتميز بها العلماء والفقهاء والقضاة عموماً. ما ذكره عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، باعتبارها صفات لازمة لا غنى عنها في شخصية القاضي؛ فقال: (ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال؛ إن فاتته واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والفقه والورع، والنزاهة، والصراحة، والعلم بالسنن، والحكم).(1)
…فبالعقل يتمكن من استنباط الأحكام، وربطها بأسبابها، وبالفقه يتوصل إلى مظانِّ أحكامه، وتفصيلاتها، وبالورع والنزاهة والصراحة يتحصن من الزلل والخطأ، وبالعلم بالسنن والحكم، يمتلك الإمكانات والمؤهلات التي تعينه على أداء مهامّه.
…وهذه الصفات –وإن اتصف بها غيره- إلا أنها تتبلور في شخصية القاضي تبلوراً مختلفاً عما هي عليه لدى غيره من العلماء؛ ذلك لأنها تُقدِّم له كيفيات خاصة في مُعالجة مواقف لا تتسنى لها المعالجة إلا أمامه هو فقط.
__________
(1) المغني لابن قدامة: (10/39، 40).(37/17)
…وجاء عن ابن المناصف في تنبيه الحكام وبيان ما ينبغي على القاضي مراعاته في خاصة نفسه: (واعلم أنه يجب على من تولى القضاء أن يعالج نفسه على أدب الشرع، وحفظ المروءة، وعلو الهمة، ويتوقى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله ويَحُطُّه عن منصبه وهمته، فإنه أهل لأن ينظر إليه ويقتدى به، فليس يسعُه في ذلك ما يسعُ غيره؛ فالعيون إليه مرفوعة، ونفوس الخاصة على الاقتداء بهديه موقوفة.......).(1) فهذه الصفات توضح البناء العام المحكم لشخصية القاضي، الذي ينبغي أن يحرص على اكتسابه إن لم يتوفّر فيه أحد هذه الصفات.
…ويقول الإمام مالك رضي الله تعالى عنه في الخصال التي لا يصلح القاضي إلا بها: (لا أراها اليوم تجتمع في أحد، فإذا اجتمع في الرجل خصلتان رأيت أن يولى: العلم والورع). قال عبد الملك بن حبيب: (فإن لم يكن فعقل وورع؛ فبالعقل يُسأل، وبه تصِحُّ خصال الخير كلها، وبالورع يعِفُّ، وإن طلب العلم وجده، وإن طلب العقل، إذا لم يكن فيه لم يجده).(2)
…ولعل العقل والورع وعلو الهمة هي الصفات الأساس التي تتأتى عنها كثير من الصفات الحميدة الأخرى التي يُراعى وجودها في شخصية القاضي.
…وقد يتضمن النضج العقلي عدداً من الصفات المهمة التي اشترطها العلماء في شخصية القاضي؛ كالتي ذكرها الماوردي في قوله: (صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى حَلِّ ما أشكل وفصْلٍ ما أعضل).(3)
__________
(1) القضاء في الإسلام؛ د. محمد أبو فارس، ص: (69). دار الفرقان، عمان، ط2، 1404هـ، 1984م. عزاه إلى تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: 1/28، 29، ومعين الحكام: (14، 15).
(2) تاريخ القضاء في الإسلام، محمود بن محمد عرنوس، ص: (75).
(3) نقلا عن مقال: (الخصائص المميّزة لنظام القضاء في الإسلام)؛ إدريس العلوي العبدلاوي. ص: (140). من مجلة: الأكاديمية؛ مجلة أكاديمية المملكة المغربية، العدد: 11، سنة: 1994م.(37/18)
…ولا شك أن هذه السمات قد تتوقف أحياناً على خطوات يتبعها بعضهم لتنمية القدرات الخاصة؛ وذلك لحاجة القاضي إلى (المنهجية في معالجة الأمور، والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء لا الوقوف عند ظاهرها، وتمييز الأمور من أشباهها، وصواب تحديد مكوناتها، والدقة في الحكم عليها، مما يقود القاضي حتماً إلى سلامة التفكير والبت في الأمور بإدراك سليم وتقدير صائب وحياد تام، وتجرد عام تفرضه طبيعة مهنة القضاء).(1)
…وقد يتساءل البعض: هل هذه الصفات موهبة ربانية أم قدرات بشرية مكتسبة؟ والإجابة عن هذا السؤال تقتضي اليقين أولا أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء. وقد يتفضل الخالق جل وعلا على بعض عباده بها كلها، وعلى غيرهم من العباد بعدد منها. إلا أن ذلك لا يمنع من الاستفادة من الوسائل والعلوم الحديثة في تنمية الإمكانات والقدرات الذهنية، والتّمرس على المبادرات الذكيّة، واليقظة اللازمة. وذلك من خلال الدورات الكثيرة التي باتت في هذا الزمان تُعقد في كثير من المؤسسات التربوية، وما شابهها من مؤسسات.
…
المطلب الثالث: الاستقلالية في شخصية القاضي.
__________
(1) قيم القضاء وتقاليده؛ ص: (61).(37/19)
…تُشكِّلُ استقلالية القضاء عنواناً (للمفهوم الحضاري للجماعة الإنسانية).(1) والاستقلالية في شخصية القاضي تعني استقلاله في الرأي، والحيدة والتجرد في أحكامه، وحماية استقلاله الوظيفي، حتى يُحسن أداء وظيفته، ويتمكن من مواجهة أية ضغوط أو مؤثرات قد يتعرض لها، فلا يخضع لهوى أو يذل لسلطان، أو يخشى في الحق أحداً.(2)وهذا الحق يعني أن الاستقلال في شخصية القاضي لا ينفك عن الاستقلال القضائي؛ فمن الفقهاء من يجري (تفرقة بين كل من استقلال القضاء وبين استقلال القاضي بالقول بأن استقلال القضاء يعني تحرر سلطته من أي تدخل من جانب السلطتين التشريعية أو التنفيذية، وعدم خضوع القضاة لغير القانون، أما استقلال القاضي، فيعني تجرده ونزاهته وعدم خضوعه لأي تأثير، وهذه التفرقة غير منتجة، لأن استقلال القاضي وحيدته من لوازم استقلال القضاء، وإذا كانت التشريعات قد اهتمت بحماية القاضي من المتقاضين أو من كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية، وقررت له امتيازات خاصة، فإن تلك الامتيازات لم تتقرر له بصفته الشخصية، وأنها تقررت لأنها من لوازم استقلاله في عمله القضائي، ولذلك يكون من غير المجدي إجراء تفرقة بين سلوك القاضي الشخصي وبين سلوكه في عمله بالنسبة لممارسته لسلطاته القضائية).(3)
__________
(1) من مقال على موقع في شبكة الإنترنت، عنوانه: (استقلال القضاء). للمحامي بسام جمال. عنوان الموقع: www.nlbar.org.lb/right_8.html-30k
(2) قيم القضاء وتقاليده. ص: (44) بتصرف يسير.
(3) مجلة الدراسات القانونية، كلية الحقوق، جامعة أسيوط، ص: (218، 219). العدد الثاني عشر. 1990م.(37/20)
…وبهذا المعنى المترابط –أي الاستقلالية القضائية بطرفيها- تتم المزايا المتوخاة منها. فَتَحَقُّق الاستقلالية عامل بالغ الأهمية؛ ليس لشخصية القاضي فحسب، وإنما للمجتمع بأكمله. فبطبيعة الحال يميل البشر إلى حب الاستقلالية في شئونهم سواء كانت الشئون التي تخصهم أم الشئون التي يتحملون فيها مسئوليات تجاه غيرهم. وفي كل الأحوال تكتسب القدرات البشرية مهارات أكبر كلما أتيحت لها فُرص الاستقلالية في الأداء، فكيف بها وهي من صلب العمل القضائي؛ فما دام تنصيب القضاة يهدف إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل؛ فذلك مما تنبغي له الاستقلالية التي لا تنفك عنه في أي حال من الأحوال.
…ولقد طبّق النظام الإسلامي الاستقلالية القضائية بأبهى صورها؛ حتى بلغت شأواً حظي فيه القضاة بسلطان عظيم هيّأ لهم تحقيق العدالة وإرساء قواعد الحق على صعيد الأمة بأكملها. ولذا فإن تَحقُّق معاني الاستقلالية في شخصية القضاة يعني تحقيق رقي المجتمعات وسعادتها.
…ولا تتنافى الاستقلالية في شخصية القاضي بتقييده بالقواعد والأسس التي توجِّه تلك الاستقلالية وتسمو بها للأداء الأقوم. ومن الأمثلة على ذلك: سلطته التقديرية في المسائل الجزائية، فهو مستقل في تقديرها، ولكنه في نفس الوقت مُوَجّه من خلال عدد من الضوابط التي تُسهِّل عملية التقدير بالنسبة له؛ منها: مَنْطِقُهُ في القضية، فحكمه فيها ينبغي أن يكون مرتبطاً بالأسباب التي أدت إلى ذلك الحكم. وأن يكون قائماً على عدد من القيود الموجِّهة. وهي – كما ذكرها القاضي فتيحة- على النحو الآتي:
أن يتولد اقتناع القاضي من أدلة طرحت عليه.
أن يكون اقتناع القاضي مبنيا على دليل مستمد من إجراء صحيح.
أن يكون اقتناع القاضي مبنيا على أدلة مستساغة عقلا.
أن يكون اقتناع القاضي مبنيا على اليقين.
أن يكون اقتناع القاضي مبنيا على قرائن واستدلالات متعددة.(1)
__________
(1) قيم القضاء وتقاليده؛ ص: (27-29).(37/21)
…وهي – كما هو واضح- قيود منطقية، واضحة الدلالة على أنها إرشادات تأخذ بمبدأ الإستقلالية لدى القاضي نحو الأداء الأمثل.
…وعليه فإن الاستقلالية في شخصية القاضي تمثل جانباً مهماً من جوانب بناء شخصيته.
…ولعل بناء شخصية القاضي أمر في غاية الضرورة، وحريٌّ بأنظمة الدول أن تسعى إلى تحقيقه بالسبل المنهجية، وخاصة فيمن تلتمس فيه الكفاءة والأهلية التي يصعُب إيجاد بديل يماثله في مستواها.
المبحث الثالث
عوامل تنمية شخصية القاضي
المطلب الأول: تنمية حب الانتماء للعمل القضائي.
…لا شك أن الانتماء للمهنة –أي مهنة- يُشكِّل رافداً إيجابياً يمدُّ النفوس بالمعنويات اللازمة والفاعلة للتفاني من أجل تحقيق النجاح والتَّقدم في العمل، وإذا كانت تنمية الانتماء للوظائف العامة تتأتى عن طريق رفع المعنويات من خلال التشجيع المتواصل وتقديم وسائل التحفيز، والعمل المتَّزن في النهوض بالمهام الوظيفية، وغير ذلك. فإن مهنة القضاء تتطلب ذلك كله، وتتطلب أيضا عوامل أخرى متعلقة بطبيعة العمل القضائي؛ كاستمرارية التعزيز الديني والوطني لمنصب القضاء.
…فالتعزيز الوارد في الموجهات الشرعية لعمل القضاة يتضمن مادة خصبة، تأخذ بيد القاضي إلى العلياء، وتمنحه الثقة الكاملة فيما يقدُم عليه من أحكام وجهود يبتغي بها مرضاة الله عز وجل.
…وعليه فإن التعزيز الديني يؤخذ بعين الاعتبار ضمن التنظيمات المُعدّة لتحقيق تنمية الانتماء لمهنة القضاء.
…وذلك إلى جانب التعزيز الوطني؛ فإذا توجهت الأنظمة المحلية نحو مضاعفة جهودها في تعزيز العمل القضائي، والرقي بأدائه، فإن ذلك سيؤدي إلى بناء الهوية القضائية لدى القضاة، ويحقق في نفوسهم حب الانتماء للعمل القضائي.
…ولعل هذين العاملين يشكلان أهم العوامل الفاعلة في التنمية، ويشكلان الأساس الذي يمكن أن تنطلق منه عوامل أخرى فاعلة في بناء الهوية القضائية.(37/22)
المطلب الثاني: استمرارية تطوير المعارف العلمية في مجال القضاء.
…يرتبط العمل القضائي بكافة المجالات الإنسانية؛ التي يختص كلٌّ منها بعلومه ومعارفه فيجعل له طبيعة خاصة. وترتبط مشكلات كل مجال بطبيعته؛ بحيث يمكن إيجاد حلول لها من خلال طبيعة مجالها ومعارفه الخاصة به؛ وذلك يقتضي أن لا تقتصر علوم القاضي على العلوم القانونية فحسب؛ وإنما يتطلب الأمر أن يُطوِّر معارفه لتمتد إلى المعارف الإنسانية الأخرى. فذلك يعينه على إجادة فهم القانون، ويُمكِّنُه من حسن تطبيقه؛ ففهم الواقعة وتحديد أبعادها يتطلب الإحاطة بكثير من المعرفة التي تتصل بشتى العلوم ومناحي الحياة.
…وترتبط العلوم القانونية النظرية بعدد من العلوم الأخرى ارتباطاً وثيقاً؛ كالطب الشرعي، والطب العقلي، والطب النفسي، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الإجرام، وعلم العقاب، وعلم السجون.
…وتتطلب مهام العمل القضائي أن يُلِمَّ القاضي أيضا بقدرٍ من العلوم الأخرى، كأسس ومبادئ العلوم التطبيقية؛ كالهندسة والزراعة والتجارة، حتى يتمكن من إصدار أحكامه لتحقيق المصالح الاجتماعية وِفقاً للقانون، وحتى تكون لديه القدرة على تقدير النواحي غير القانونية لكل المشكلات التي تنبع وترتبط بالمجتمع الذي يطبِّق فيه القانون.(1)
…ولا شك أن الإحاطة أو الإلمام ولو بقدر متوسط من العلوم الأخرى غير القانونية يتطلب وقتاً وجهداً، إلا أن الحاجة الماسة في العمل القضائي تقتضي تحقيق ذلك.
…وللوصول إلى هذا المستوى فإن الأمر بحاجة إلى تنظيم إداري يُهيئ للقضاة إمكانات تطوير المعارف الأخرى من خلال إتاحة الفرص لهم، من ناحية تحقيق التفرغ، وتسهيل العمليات التنظيمية والإجراءات المالية اللازمة.
__________
(1) قيم القضاء وتقاليده، ص: (60). بتصرف.(37/23)
…وتمتد هذه الحاجة إلى المعاهد القضائية والمؤسسات العلمية الأخرى التي تُعنى بالعلوم القانونية؛ حيث تُصبح بحاجة إلى تأسيس مناهج ومقررات شاملة لأسس وخلاصات العلوم الأخرى مما يمكن أن يكون له ارتباط نافع بمهمات العمل القضائي. ومن ثَمَّ تعمل على تنظيم تقديم المعرفة بالأساليب الدورية المستمرة، مراعاة لتجدد العلوم وتطورها المستمر.
المطلب الثالث: تنمية المعارف الفنية المتطورة، المتمثلة في أنظمة المعلوماتية الحديثة.
……توجهت دول العالم جميعها إلى استخدام تقنيات جديدة لنظم المعلومات، تمثلت في الشبكات العالمية، أو ما يسمى (بالانترنت). وتعمل هذه التقنية على تنشيط الاتصال بين المستخدمين، عن طريق ربط الحواسيب في شتى أنحاء العالم بعضها ببعض. الأمر الذي أدى إلى توافر إمكانات عالية في تقديم الخدمات والنشاطات المتنوعة، سواء على المستوى المحلي أم على المستوى العالمي.(1)
…وتُمثل هذه الأنظمة ضرورة من الضرورات العلمية المعاصرة التي تم أخذها بعين الاعتبار في جميع المؤسسات الحكومية والقطاعات الخاصة على حدٍّ سواء.
…والعمل القضائي ليس بمعزل عما عليه السياق العالمي العام؛ بل هو أحوج إلى هذه الأنظمة عن غيره، بل إن من المفترض أن يكون العمل القضائي سبّاق إلى التعرف على كل جديد في هذا الجانب؛ وذلك للضرورات التي تقتضيها المتطلبات التنظيمية والمعرفية والأمنية وغيرها من المتطلبات.
…ولما كان القاضي هو عمدة العمل القضائي، أصبحت الحاجة إلى التعرف على الأنظمة المعلوماتية، وممارسة استخدامها والانتفاع بخدماتها، ومعرفة القضايا المتعلقة بها، أصبح ذلك كله مرتبطاً بالحاجات العلمية المتطورة للقاضي نفسه.
…ذلك لكون تطوير معارفه فيما يتعلق بهذه الأنظمة يقدم له خدمات جليلة وفاعلة. ويمكن التمثيل على هذه الخدمات بما يأتي:
__________
(1) مجلة العربية، 3000، العدد: 3-4، لعام: 2002م. السنة الثالثة. ص: (246، 247) بتصرف.(37/24)
تتوفر في الشبكة المعلوماتية العالمية مواقع تزوّد القرّاء بالمعلومات المستجدة حول موضوعات شتى منها الموضوعات القضائية والثقافية، والموضوعات المتعلقة بالأنظمة الحاسوبية والمعرفية.
تُسهِّل الشبكة العالمية سُبل التواصل السريع، ومن خلالها يمكن إنجاز العديد من المهام القضائية في أقصر وقت ممكن، وبجهد أقل.
توفير إمكانات التثقيف القضائي، حول التوعية التي يرتئي القضاة ضرورة تقديمها للمجتمع؛ حيث يتمكَّن القاضي من تقديمها بيسر وسهولة عبر الشبكة.
فهم الموضوعات المتعلقة بأنظمة الشبكة العالمية يقدم للقضاة إمكانات البت في قضايا معاصرة نشأت مع نشأة تلك الأنظمة، كأعمال القرصنة الحاسوبية، وما شابهها. وهي قضايا مستجدة في هذا العصر وتتطلب تنمية المعارف المتعلقة بها.
…وهذه الخدمات غيض من فيض مما تقدمه الأنظمة المعلوماتية للإنسان الذي جعله الخالق جل وعلا قابلاً للسمو العلمي المطّّرد، وقابلاً للتعرف والاستفادة من كل جديد مُسَخِّرٍ له على وجه البسيطة.
المطلب الرابع: التحصيل الثقافي المستمر للمستجدات من الأحداث العامة.
…تُعرّف الثقافة بأنها: (هي ذلك الكلّ المعقد الذي يشمل المعرفة، والعقيدة، والفن والأخلاق، والقوانين، والعرف، وأي قدرات وعادات يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع).(1)
…ولا شك أن نطاق المعارف والثقافات المختلفة كبير جداً، ذلك لأن المعارف المتجددة لها منابع كثيرة؛ فمنها الثقافات الدينية، والثقافات السياسية، والاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية. وكل منها يُدلي بدلوه في خضمِّ المعرفة البشرية المستمرة.
…
__________
(1) التكنولوجيا والثقافة، مقالات ومقتطفات مختارة، ص: (2) تحرير: ملفين كرانزبرج، ويليام هـ. دافنبورت، ترجمة مهندس محمد عبد المجيد نصار. مؤسسة: سجل العرب بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر. 1975م. القاهرة.(37/25)
…ويأتي إلى جانب هذه الثقافات ثقافات أخرى أفرزتها عوامل جديدة ظهرت على الساحة نتيجة نظام العولمة، واعتبار العالم كيان خاضع لعدد من الأنظمة العالمية، واعتباره أيضا قرية واحدة ذات اتصال مفتوح على الإطلاق في بعض بلدان العالم.
…وذلك كله أدى إلى وجود مشكلات داخلية وخارجية، فرضت نفسها على العمل القضائي، وتطلبت استحداث إجراءات تجاهها.
…ولأجل ذلك اقتضت الحاجة إلى تحقيق التحصيل الثقافي المستمر لمعطيات العصر، وما يستجد فيه من قضايا.
…ولعل المنابع الحيوية التي تزود بمثل هذه الثقافات، تتمثل في وسائل الأعلام التي تُعنى بتقديم كل جديد من الثقافات العامة. إلا هذه الوسائل قد كثُرت إلى الحد الذي أصبح من المتعذر فيه متابعتها جميعاً، أو متابعة برامجها كلها، فضلا عن ما تحويه من الغث والسمين من البرامج. وذلك كله يدعو إلى تأسيس أقسام تابعة للعمل القضائي، تُعنى بانتقاء المعرفة الثقافية اللازمة مما تبثه وسائل الإعلام. ثم تعمل على تقديمها بشكل موجز أو مُفصل – حسب ما تقتضيه الحاجة- عبر المواقع الالكترونية الخاصة بالقضاة. لتسهيل عملية اطلاعهم عليها.
…
…وهو أمرٌ أملَتْهُ الظروف والأحوال المعاصرة. ولذا فإن أخْذ هذا الأمر بالاعتبار يعين على الأداء الأمثل في العمل القضائي.
المبحث الرابع
عوامل حماية شخصية القاضي
المطلب الأول: سبل ووسائل حماية شخصية القاضي.
…يتطلب العمل القضائي تحقيق عدد من السبل والوسائل التي تحقق حماية للقضاة؛ ليكون (القاضي آمناً في حاضره، مطمئناً في مستقبله.... حتى يؤدي دوره في المجتمع بإرساء دعائم العدل وإعلاء الشرعيَّة، وتدعيم سيادة القانون، وحماية الحقوق).(1)
__________
(1) قيم القضاء وتقاليده؛ ص: (45).(37/26)
…ويتم ذلك من خلال عدد من الضمانات التي تحدّث العلماء عنها في مؤلفاتهم.(1) ذلك لأن القاضي من حقه (أن يكون في مأمن من كيد ذوي السلطة والنفوذ، حتى لا يخشى بأسهم، ولا يعمل على إرضائهم، وتحقيق رغباتهم، بل يجب أن يكون القاضي في مأمن من كل مؤثر من قريب أو بعيد).(2) ومما جاء في رسالة سيدنا علي رضي الله عنه لوالِيهِ في مصر: (.... وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، فيأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك).(3) فهذا أصل شرعي ثابت، وسبيل من سُبُل حماية شخصية القاضي. عرفه المسلمون، وجعلوه من القواعد التي تُساسُ بها الرعية.
…ومن ضمانات الحماية التي عرفها النظام السياسي الإسلامي، وعمل على تطبيقها: حماية القاضي من ذوي السلطة والنفوذ، وحمايته من الخصوم، وحمايته أيضا من نفسه، وقد وردت تفصيلات عدة حول هذه الموضوعات في كتب القضاء، يمكن الرجوع إليها.(4)
…ويُعد أسلوب الضمانات من الأساليب التي تتأتى من خارج نطاق شخصية القاضي، وهناك أساليب أخرى تغرس حماية ذاتية في نفس القاضي، وتتأتى من داخله؛ مثالها ما يستمده القاضي من قرارة نفسه من حماية لنفسه، (فخير حصن يلجأ إليه هو ضميره؛ فالوسام لا يصنع قاضيا إن لم يكن بين جنبيه نفس القاضي، وعزة القاضي، وكرامة القاضي الذاتية).(5)
__________
(1) انظر على سبيل المثال: كتاب قيم القضاء وتقاليده، ص: (48).
(2) التنظيم القضائي الإسلامي، حامد محمد أبو طالب، ص: (86). ط1، 1402هـ، 1982م. دن.
(3) مرجع سابق.
(4) انظر على سبيل المثال: كتاب التنظيم القضائي الإسلامي، للدكتور حامد أبو طالب، ص: (86-91).
(5) قيم القضاء وتقاليده؛ ص: (45).(37/27)
…وإن مما يعين على حماية شخصية القاضي، والحفاظ على ثباتها توفُّرْ الجوّ الإيماني التعبدي الذي يحقق دعم مبادئ العقيدة في القلب؛ وذلك من خلال عقد مجالس العلم الديني باستمرار، في شتى فروع المعرفة الإسلامية، وفي مقدمتها المبادئ العقدية، والعبادية؛ ذلك لأن (توفر العقيدة وممارسة العبادات الإسلامية يؤديان إلى تربية الضمير، ويحققان تهذيب النفس، ويدعمان الباعث الديني، والشريعة الإسلامية دين وقانون، أو دين ونظام، وهما قسمان متعاونان متكاملان، يلتقيان في شخصية الفرد المسلم، فالناحية الروحية في العبادة والتربية والأخلاق تتصل بخفايا النفوس، وتكون المسئولية أمام الله تعالى، الذي يعلم السر وأخفى، كما تمتزج القواعد الخلقية والمبادئ الدينية مع القواعد التشريعية).(1) فيتشكل بذلك ضمير يَقِظ، يحيطه الوعي المستمر والرعاية الجادة للعمل القضائي.
…وعليه فإن الدورات العلمية الشرعية –الفقهية خاصة- دورات ضرورية في حماية الضمير الإنساني، واستمرارية اليقظة النفسية والعملية في شخصية القاضي.
المطلب الثاني: الآداب الأخلاقية والسلوكية.
…القضاة (أهم عنصر بشري يظهر في العملية القضائية، وهم مصابيح مضاءة تنير طريق الحق، وهم سياج متين يحبس الظلم ويكبته، وهم ملجأ الناس وملاذهم حين تظلم الدنيا بالظلم، وكثير منهم قضى نحبه فداء للحق، وكبتاً للظلم، ومنهم من تغلب عليه الظالم وقتله مظلوماً).(2)
__________
(1) التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، وتطبيقه في المملكة العربية السعودية؛ محمد مصطفى الزحيلي، ص: (20). دار الفكر.
(2) التنظيم القضائي الإسلامي، حامد محمد أبو طالب، ص: (73).(37/28)
…وهذه المناقب تحلى بها الذين اتصفوا بالصلاح، وهذّبوا نفوسهم وهيأوها للحق بالفضائل والكمالات الأخلاقية. وهي سمات لا غنى للقاضي عنها، ولا تُعدُّ صفات كمال، وإنما هي صفات لازمة تُشكل درعاً واقية لشخصية القاضي، وتُشكل مطلباً ضرورياً لحماية أحكامه ومواقفه من الزلل.
…ولذا كان التحلي بالآداب الأخلاقية والسلوكية في شخصية القاضي، يُشكل صلاحاً واستقامة مؤهلة له لبلوغ هذا المنصب؛ ولبلوغ غاياته السامية.
…والصلاح في الإنسان رفعة له، والإنسان الصالح هو (من كان مستوراً غير مهتوك، ولا صاحب ريبة، مستقيم الطريقة، سليم الناحية، كامن الأذى، قليل السوء، ليس بمعافر النبيذ، ولا ينادم عليه الرجال، ليس بقذاف للمحصنات، ولا معروفاً بالكذب، فهو أهل الصلاح).(1)
…وهذه السمات يترفّع عنها الإنسان الصالح؛ فكيف بالقضاة وأولي الأمر، فهي في جانبهم أحق أن يُترفّع عنها. ذلك لأن الذي يتولى مهنة رفيعة الشأن كمهنة القضاء يتحتم عليه أن (يسير السير الذي يرضي الله ورسوله، فيأخذ بآداب الشرع الشريف، فيتوقى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله، فإنه أهل لأن ينظر إليه ويُقتدى به، فيتقي الله في جميع أعماله، ويقضي بالحق، فلا يقضي لهوىً يَصلُه، ولا لرغبة تُغيِّرُه، ولا لرهبة تزجره، بل يؤثر طاعة ربه، ويعمل لمعَادِه طمعاً في جزيل ثوابه، وهرباً من أليم عذابه، فيتبع الحكمة وفصل الخطاب).(2)
…وإنه لجدير بمن كانت هذه أخلاقه وسجاياه أن يحاط بسياج أمان يقيه من المزالق والدنايا والمؤثرات.
المطلب الثالث: العلاقات الإنسانية.
__________
(1) التشريع والقضاء في الإسلام، العمروسي، ص: (72).
(2) التشريع والقضاء في الإسلام، العمروسي، ص: (73). عزاه إلى (مباحث المرافعات، للأستاذ محمد زيد الإبياني، ص: 174).(37/29)
…لا تنفك شخصية القاضي عن غيره من البشر، ولا يخلو من الحاجة إلى الآخرين؛ فاًلإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، إلا أن هذا الارتباط الطبيعي، يكاد لا يخلو من الحاجة إلى الضبط والتقييد، ورعاية التوازن فيه باستمرار؛ لما في طبيعة العمل القضائي من احتياطات لازمة للحفاظ على أمانة هذا العمل واتزانه.
…وَلِذا كَرِهَ العلماء دخول القاضي في أعمال التجارة، أو الأعمال التي تتطلب الأخذ والعطاء مع الناس. وكرهوا له أيضا ولوج الأسواق، والمجالس والموضوعات التي لا يليق بالعلماء اجتيازها. قال الخرشي المالكي في حاشيته: (تجارة الولاة مفسدة لهم لشغلهم بها عن إصلاح الرعية. قال عمر بن عبد العزيز: تجارة الولاة من أشراط الساعة. وقال ابن أبي الدم الشافعي: ويكره له مباشرة البيع والشراء بنفسه أو بوكيل خصيص له به مشهور بوكالته، وهكذا يكره له ولوج الأسواق ومخالطة الناس في البيع والشراء، وفي الموضوعات التي لا يليق بالعلماء والحكام الاجتياز بها).(1)
…ومن الواضح أن تلك الأسباب تُعدُّ من الدواعي التي قد تميل بالنفس إلى مجانبة الاتزان والسواء اللازم في العمل القضائي؛ لما لها من تأثير في نفس الإنسان؛ فالتجارة ليست شغل شاغل فحسب، ولكنها أيضا تشكِّل داعياً من دواعي الهموم التي قد تذهب بالفكر إلى مذاهب شتى، فتكون سبباً في حيدة الفكر والسلوك الإنساني وعدم اتزانه.
…ولا يقتصر الأمر على الحذر من تلك الأمور؛ فالحذر في تعيين القضاة ابتداء ألزم؛ ذلك لأن تعيين الولاة يتم بطريقين؛ إما بتعيين الخليفة، وإما بالتعيين الانتخابي؛ أي بأسلوب الشورى. وعلى الرغم من أهمية الشورى في الإسلام، إلا أن التنظيم الإسلامي الرفيع في مراعاته لقضية العلاقات الإنسانية والآثار المترتبة عليها عَمِلَ على رعاية شخصية القاضي باستثنائه من ذلك التنظيم.
__________
(1) القضاء في الإسلام؛ د. محمد عبد القادر أبو فارس، ص: (56).(37/30)
…يقول حامد أبو طالب: (أخذ التنظيم القضائي الإسلامي بمبدأ تعيين ولي الأمر للقضاة، ولم يأخذ بمبدأ انتخاب القضاة عن طريق الرعية، نظراً لأن القاضي نائب عن ولي الأمر لمصلحة المسلمين، فضلا عن أن هذا الطريق يجعل للقاضي حاجة عند الناس، وقد يعمل على إرضائهم للحصول عليها، مما يؤثر على سير العدالة).(1)
…وهي لفتة طيبة تُرشد إلى ضرورة ضبط اتزان جميع العلاقات الإنسانية التي لا تنفك حاجة القضاة عنها.
…وقد تحدث الفقهاء في ما يشبه هذا الأمر، وناقشوا قضاياه. ومن ذلك ما جاء حول قبول الهدية، وحضور الولائم، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، وضيافة الخصم.
…وفي جميع هذه الأمور وردت تفصيلات فقهية ناطقة بالاحتراز فيما قد يتأتى عنها من مؤثرات في نفس القاضي.
__________
(1) التنظيم القضائي الإسلامي، حامد محمد أبو طالب، ص: (75).(37/31)
…ومما تمت مناقشته والخلاف فيه من تلك القضايا، قضية استضافة القاضي لأحد الخصمين في داره: (قال أبو القاسم الدارَكيُّ(1) : "هذا إذا كانت دار الخصم بعيدةً عن دار القاضي، فأما إنْ كان أحدُ الخصمين جاراً للحاكم أو من أقاربه، جاز للقاضي أن يدعوه إلى داره وضيافته، لأنّ فيه قضاء حقِّ الجوار والقرابة، فلا تُهْمَة". - وردّ هذا القول ابن أبي الدم بقوله- : "قلت: وهذا عندي على العكس مما ذكره، فإن التُّهمة تتمكن من الجار والقريب أكثر من البعيد؛ لقربهما من قلب الحاكم ومودته، وكلّما قرُبَ الخصمُ من الحاكم بجوارٍ أو قرابةٍ كانت التُّهمة أتَمُّ، وهذه حِكمةُ منعِ الحكم للأصول والفروع على أحد الآراء وعدم قبول الشهادة لهم مطلقاً، ولذلك لا تُقبل شهادة الزوج لزوجته على قولٍ لنا، ولا شهادة الصديق لصديقه، عند الإمام مالك رضي الله عنه. ثم يلزم على مَساق ما ذكره جواز قبول هدية أحدهما، إذا كان جاراً أو قريباً، ولا قائل به مع قيام الخصومة، فما ذكرناه أولى).(2)
__________
(1) أبو القاسم الداركي: هو عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، أحد الأئمة في مذهب الشافعية، وكان محدثاً وربما اجتهد، وروى عنه الحاكم، ودرس الفقه بنيسابور سنين، ثم خرج إلى بغداد فصار المجلس له إلى وفاته، كان يتهم بالاعتزال، وربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين: الشافعي وأبي حنيفة، ويحتج بالحديث، توفي ببغداد سنة 375هـ. وكان ثقة أميناً. نقلا عن كتاب أدب القضاء، ص: )116). وعزى ترجمته إلى: (وفيات الأعيان: 2/361. البداية والنهاية: 11/304. طبقات الشافعية الكبرى: 3/330. التاج المكلل: 74).
(2) كتاب أدب القضاء؛ ابن أبي الدم، ص: (116، 117).(37/32)
…يتضح من قول ابن أبي الدم ضرورة مراعاة الحذر في مثل هذه الأمور. وعليه فإن العلاقات الإنسانية التي تتصل بشخصية القاضي تتطلب حصراً ودراسة وتقييداً، وقد تتطلب عقد دورات تدريبية للقضاة حول تحقيق التوازن لها؛ ذلك لأن العلاقات التي تحدّث عنها الفقهاء علاقات محدودة اقتصر عليها زمانُهم، أما العلاقات المعاصرة فلا شك أن نطاقها قد اتسع عما كان عليه في السابق؛ لما ظهر على الساحة الإسلامية، وفي أقطار العالم الإسلامي من مستجدات ومتطلبات إنسانية تفرض الاتصال، وتُحوِجُ إلى معونة الآخرين .
…
الخاتمة
…
…الحمد لله تعالى الذي بفضله تتم الصالحات والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،،،
…
…فهذا جهدٌ بحثي موجز حول شخصية القاضي، من ناحة جوانب البناء والتنمية والحماية. هدفت من خلاله الإسهام بما أمكن من معلومات تربوية شرعية، لخدمة مؤتمر القضاء الشرعي الذي تنظمة كلية الشريعة بجامعة الشارقة.
…وخلصت منه إلى عدد من النتائج والتوصيات، تم إيجازها فيما يأتي.
…
…وأسأل الله تعالى أن يُلهمنا جميعاً الرشد والتوفيق والسداد.
النتائج والتوصيات
تُعدُّ شخصية القاضي إحدى الشخصيات المهمة والفاعلة على المستوى البشري، ولها من الأهمية ما يدعو إلى الاعتناء بكافة الجوانب المتعلقة بها على الدوام.
تقتضي الدراسات الشرعية المتعلقة بشخصية القاضي إضافة دراسات أخرى ذات صلة كالدراسات التربوية، والعلمية والنفسية.
يُعدُّ التطوير المستمر في جميع جوانب المعرفة الإنسانية، المرتبط بالعمل القضائي، وبشخصية القاضي خاصة أمراً ذو بال، ويُحبَّذ أن يؤخذ بعين الاعتبار على الدوام.
قائمة المراجع:
تاريخ القضاء في الإسلام؛ محمود بن محمد بن عرنوس. مكتبة الكليات الأزهرية، مطبعة الحلبي، مصر.
الحق في التعبير؛ الدكتور: محمد سليم العوا. دار الشروق، القاهرة. الطبعة الأولى: 1418هـ، 1998م.(37/33)
مجلة الفكر السياسي، العدد (21) السنة الثامنة، شتاء: 2005م. مقال عنوانه: (التربية المدنية، دراسة في أزمة الانتماء والمواطنة في التربية العربية). د. عبد الله مجيدل.
قيم القضاء وتقاليده؛ القاضي فتيحة محمود قرة، القاضي بمحكمة تمييز دبي. كتاب صادر عن محاكم دبي، دت. دط.
كتاب أدب القضاء؛ وهو الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات، للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق، ابراهيم بن عبد الله، المعروف بابن أبي الدم الحموي الشافعي، المتوفى سنة 642هـ، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الزحيلي. دار الفكر، دمشق.
مجلة (دراسات تاريخية). صادرة عن لجنة كتابة تاريخ العرب بجامعة دمشق، السنة السادسة عشرة، العدد: (51). كانون الثاني. نيسان: 1995م. الدكتور علي أحمد.
مجلة الأكاديمية/ وهي مجلة أكاديمية المملكة المغربية، العدد: 11، سنة 1994م.
مجلة الدراسات القانونية، كلية الحقوق، جامعة أسيوط، العدد الثاني عشر، 1990م.
مجلة العربية 3000، العدد: 3-4، لعام: 200م. السنة الثالثة.
التكنولوجيا والثقافة، مقالات ومقتطفات مختارة، تحرير: ملفين كرانزبرج، ويليام هـ. دافنبورت، ترجمة مهندس محمد عبد المجيد نصار. مؤسسة سجل العرب بالاشتراك مع مؤسسة فارنكلين للطباعة والنشر، 1975م. القاهرة.
موقع على شبكة الإنترنت: (www.nlbar.org/right_8html-30k). مقال عنوانه: (استقلال القضاء) للمحامي بسام جمال.
موقع آخر: لمجلة الفكر السياسي، العدد: (21). السنة الثامنة، شتاء: 2005م. (مقال: التربية المدنية، دراسة في أزمة الانتماء والمواطنة في التربية العربية) للدكتور عبد الله مجيدل.
الإسلام والعلاج النفسي. د. عبد الرحمن العيسوى، دار الفكر الجامعي، الاسكندرية، دت. دط.
التشريع والقضاء في الإسلام. المستشار أنور العمروسي. مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية. 1984م. دط.(37/34)
التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، وتطبيقه في المملكة العربية السعودية؛ الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار الفكر، دمشق.
التنظيم القضائي الإسلامي، الدكتور: حامد محمد أبو طالب. الطبعة الأولى: 1402هـ، 1982م. دن.
القضاء في الإسلام وآداب القاضي. الدكتور جبر محمود فضيلات. دار عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 1412هـ، 1991م.
القضاء في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس. دار الفرقان. عمان، الأردن. الطبعة الثانية. 1404هـ، 1984م.
القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر؛ الدكتور عبد المجيد مسعود. (سلسلة كتاب الأمة).(37/35)
عوامل انحسار القضاء الشرعي في بعض المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر
بحث من إعداد
د. عبد الحق حميش
مقدم للمؤتمر
" القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال "
الذي ستقيمه
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الشارقة
في الفترة
31- 15ربيع الأول 1427هـ الموافق11-13/4/2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الكرام العلماء الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد:
فالقضاء ركن من أركان الدولة ، وجزء مهم من مقومات المجتمع ، وعليه تقع مسؤولية حماية الأنفس والأموال والحقوق وتطبيق الأنظمة والأحكام ، ليؤمن العدل والسلام في المجتمع ، ويعيش الناس مطمئنين آمنين لا يكدر صفو عيشهم خوف أو إجرام أو ظلم متوقع عليهم..
ولقد كان القضاء الشرعي قائما بهذه الوظيفة السامية منذ قيام الدولة الإسلامية الأولى في عصر الرسالة إلى أن دخل الاستعمار بلادنا بجحافله المغيرة لأنظمة حياتنا في جميع مجالاتها ومنها نظام القضاء الشرعي الذي كان المرجع في الحكم بين الناس في منازعاتهم وخلافاتهم .. فأحل محله القضاء الوضعي إلا في بعض المسائل والأحكام .. وأصبحت المجتمعات تحتكم مع كل أسف للقوانين الوضعية والمحاكم المدنية بدل أن تتحاكم لأحكام الشريعة والقضاء الشرعي ..
وإن قضية انحسار القضاء الشرعي في كثير من البلاد العربية والإسلامية من القضايا التي يجب أن توجه إليها أقلام الباحثين واهتمامات العلماء والمفكرين ، وذلك لأن معرفة أسباب هذا الانحسار والتراجع للقضاء الشرعي في البلاد العربية والإسلامية من شأنه أن يدفعنا للبحث عن حلول لتلك الأسباب والعوامل التي أبعدت القضاء الشرعي ووضعته جانبا .(38/1)
وإن من أوجب الواجبات علينا ونحن نشارك في هذا المؤتمر الذي يبحث في واقع القضاء الشرعي أن نقف على أسباب وعوامل انحسار القضاء الشرعي في بعض المجتمعات الإسلامية ونضع الحلول المناسبة لكي يعود القضاء الشرعي لمكانته ويتبوأ مقعده المناسب في الحكم بين الناس والفصل في منازعاتهم وقضاياهم .
وكانت خطتي في تناولي هذه القضية الحساسة على النحو التالي :
خطة البحث :
…قسمت بحثي هذا إلى هذه المقدمة ومبحثين :
المبحث الأول : في تعريف القضاء الشرعي ، وأهميته ، وتاريخه
و يحتوي هذا المبحث على المطالب التالية :
المطلب الأول : في تعريف القضاء الشرعي .
المطلب الثاني : أهمية القضاء في الإسلام .
المطلب الثالث : تاريخ القضاء في الإسلام .
المطلب الرابع : القضاء الشرعي في العصر الحاضر .
المبحث الثاني : عوامل انحسار القضاء الشرعي في هذا العصر
ويحتوي هذا المبحث على المطالب التالية :
المطلب الأول : الاستعمار
المطلب الثاني : الغزو الفكري
المطلب الثالث : العلمانية
الخاتمة : وتحوي أهم نتائج البحث وبعض التوصيات .
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وأن يتقبل مني ما بذلت ، ويغفر لي ما أخطأت فيه أو قصرت، وأسأله أن ينفع به عباده والحمد لله أولاً وأخيراً.
المبحث الأول
في تعريف القضاء الشرعي ، وأهميته ، وتاريخه
يحتوي هذا المبحث على المطالب التالية :
المطلب الأول : في تعريف القضاء الشرعي .
المطلب الثاني : أهمية القضاء في الإسلام .
المطلب الثالث : تاريخ القضاء في الإسلام .
المطلب الرابع : القضاء الشرعي في العصر الحاضر .
المطلب الأول
في تعريف القضاء الشرعي
تعريف القضاء :(38/2)
القضاء لغة : جمع أقضية ، وقضى يقضي قضاء : أي حكم (1) ، قال ابن فارس : القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته ، والقضاء الحكم (2) .
أما اصطلاحا : فقد عرف القضاء بتعاريف كثيرة كلها ترجع إلى معنى واحد ، اخترت منها التعريف التالي : " الفصل بين الناس في الخصومات ، حسما للتداعي ، وقطعا للنزاع ، بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة "
وهو مأخوذ من قول العلامة ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد بيان الخطط الدينية المختصة بالخلافة : " وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة ، لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات ، حسما للتداعي وقطعا للنزاع ، إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة ، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجا في عمومها " (3) .
القضاء الشرعي :
كان القضاء في معظم التاريخ الإسلامي يتمتع بالوحدة ، وكان قاضي الشرع أو القضاء الشرعي هو المرجع القضائي الوحيد في الدولة حتى العهد الثاني من الدولة العثمانية ، حيث حلت الازدواجية في القضاء ، وقامت المحاكم النظامية إلى جانب المحاكم الشرعية ، ثم تغلبت الأولى على الثانية في معظم المجالات(4) .
وأصبح القضاء الشرعي في العصر الحاضر محصورا في زاوية ضيقة في إطار أحكام الزواج والطلاق وسائر الأحوال الشخصية ، وفقد كيانه واستقلاله في معظم البلاد العربية ، وأصبح جزءاً من القضاء المدني (5).
__________
(1) القاموس المحيط – للفيروز آبادي – مادة قضى 4/371
(2) معجم مقاييس اللغة – لابن فارس – مادة قضى 5/99
(3) المقدمة – لابن خلدون – ص 222 .
(4) تاريخ القضاء في الإسلام : د. محمد الزحيلي ص 525 .
(5) المرجع السابق ص 526 .(38/3)
ويمكننا تعريف القضاء الشرعي بأنه : " مجموعة من النظم والقوانين التي سنها الإسلام للقضاء بين الناس في خصوماتهم ، وهذه النظم والقوانين مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ، ثم من إجماع المسلمين وقياساتهم واجتهادهم ..." (1).
المطلب الثاني
أهمية القضاء في الإسلام
منزلة القضاء في الإسلام :
يحتل القضاء في الإسلام مكانة مرموقة ويتبوأ منزلة عالية رفيعة لأنه جُعل لهدفٍ نبيل ألا وهو إقامة ميزان العدالة في الأرض وتطبيق مباديء الحق فيها .
…فيه تحقن الدماء وتصان الأعراض والأموال ، وتحترم الحقوق بوجه عام ، فلا يخول لقوي أن يبطش بضعيف ، ولا ظالم أن يستبد بمظلوم ، فالقوي في ساحته ضعيف حتى يؤخذ الحق منه ، والضعيف بسلطانه قوي حتى يأخذ حقه (2) .
ومن ثم كان القاضي العادل في الإسلام جدير بحب الله تعالى إذ يقول سبحانه : ( إن الله يحب المقسطين ) [ المائدة:42] ، وجدير بأن يحسد على ما حباه الله من نعمة حب العدل ، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها " (3) .
القضاء جزء من أجزاء الشريعة الإسلامية ، به تحفظ الحقوق والأموال والأنفس والأعراض وحماية الحقوق العامة ، وتطبيق أحكام الشرع ، والقضاء يصون القيم والأخلاق ويمنع العدوان والظلم ، والاعتداء على الغير ، والتهرب من واجبه ، لذلك كانت الحاجة إلى القضاء ضرورية ، ولأجل ذلك أقيم القضاء ووضعت الأحكام .
__________
(1) الموسوعة العربية العالمية 18/213
(2) ضمانات العدالة في القضاء الإسلامي : محمود عايش متولي ص 7 .
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة ( 73 ) 1/39 ، ومسلم في كتاب الصلاة باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ( 816 ) 1/559 .(38/4)
والقضاء عند الأمم رمز لسيادتها واستقلالها والأمة التي لا قضاء فيها لا حق فيها ولا عدل ، وبالعدل قامت السموات والأرض ، وهو أساس العمران ، وأساس الملك ، وأقوى دعامة لاستتباب الأمن ، ورقي المجتمع ، واستقرار النظام .
وقد بعثت الرسل ، وأنزلت الكتب ، لتحقيق العدل ، واعتنى به الإسلام بشكل خاص ، وحرص عليه حرصا شديدا ، قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) [ الحديد: 25 ] ، ومن هنا اعتبر الفقهاء والعلماء أن علم القضاء من أجل العلوم قدرا و أشرفها مكانة ، لأنه يحفظ الحقوق والأنفس ، ويأخذ على يد الظالم ، ويبين الحلال من الحرام (1) .
يمثل القضاء إحدى السلطات الثلاث التي تتكون منها الدولة وهي : السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية . وأهمية القضاء تنبع من كونه الحكم الذي يفصل بين المنازعات والخصومات التي تنشأ بين الأفراد بعضهم البعض ، وبين السلطة والأفراد فضلا عن كونه مراقبا وموجها للسلطتين التشريعية والتنفيذية ..
ولقد منح القضاء في العصر العباسي الأول الكثير من المزايا، حتى توسعت سلطاته " واستقر منصب القضاء على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم ، استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم ، وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه ، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب .." (2) .
نرى من خلال هذا النص المنقول عن مقدمة ابن خلدون أن وظيفة القاضي توسعت واستوعبت أنشطة أخرى في العصر العباسي الأول مما جعل توافر شروط كثيرة في القاضي أمراً ضروريًا ليتمكن من القيام بكل هذه المهام التي ذكرها العلامة ابن خلدون في مقدمته .
__________
(1) تاريخ التشريع الإسلامي : د . أسامة الحموي ص 184 .
(2) المقدمة : لابن خلدون ص 222 .(38/5)
كفالة الشريعة الإسلامية لحق التقاضي :
منحت الشريعة الغراء لكل إنسان داخل دار الإسلام الحق في أن يتداعى أمام القضاء الإسلامي لإنصافه ، ودفعا لأي ظلم يقع عليه ، وجميع الأفراد متساوون في ذلك ، لا فرق بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو الطبقة أو اللون أو الثروة ، ولا يقتصر هذا الحق على المسلمين فقط بل هو للذميين أيضا ، بل لقد منحته شريعة الإسلام للمستأمنين وهم في الأصل من رعايا دار الحرب (1) .
…وتمتع كل إنسان داخل دار الإسلام بحق التقاضي بلا تفاضل بين الناس في ذلك ، إنما ينبثق من عدالة هذه الشريعة وإعلانها لمبدأ المساواة بين بني الإنسان ، إذ مَنْعُ الفردِ من اللجوء للقضاء للمحافظة على حقوقه يمثل انتهاكاً خطيراً لمبدأ المساواة الذي يعتبر سمة من سمات الشريعة الإسلامية كما أن هذا المنع في ذاته أيا كان سببه ظلمٌ تأباه عدالة الإسلام .
…ففي شريعة الإسلام لا يوصد باب التقاضي أمام البعض ويفتح أمام البعض الآخر ، ولا يجوز إنشاء محاكم خاصة بفئات خاصة أو طبقات معينة من الناس على أساس إنشاء امتياز لهذه الفئات أو الطبقات على غيرهم من الأفراد ، لما يمثله ذلك من إخلال بمبدأي العدل والمساواة .
__________
(1) النظام القضائي الإسلامي : د . أحمد محمد مليجي ص 117 .(38/6)
…وتيسير التقاضي من مميزات النظام القضائي الإسلامي ، فلا توجد أية عوائق أو عراقيل أمام الفرد في لجوئه للقضاء ، لدرجة أن بعضا من الفقهاء لم يجز للقاضي أن يتخذ حاجبا (1) ، حتى لا يكون هذا الحاجب عائقا أمام المتقاضي ، ومنهم من اشترط في مجلس القضاء أن يكون في مكان بارز غير مستتر بحيث يصل إليه كل قاصد للتقاضي (2) ، كذلك لا مجال للرسوم القضائية في النظام القضائي الإسلامي لما قد تمثله هذه الرسوم من مشقة مادية على بعض المتقاضين .
…ولا يستثني القضاء الإسلامي أحدا مهما كان شأنه من المثول أمامه حتى لو كان الخليفة نفسه ، إذ جرى العمل في ظل النظام القضاء الإسلامي على مقاضاة الخلفاء والولاة تماما كما يحاكم سائر الأفراد ، ففي شريعة الإسلام لا حصانة لأشخاص أو أعمال معينة من الخضوع للقضاء الإسلامي ، لما يترتب على هذه الحصانة من ظلم تأباه روح العدل التي تسود أحكام هذه الشريعة ..(3)
المطلب الثالث
تاريخ القضاء في الإسلام
…يقسم المؤرخون المراحل التي مر بها القضاء في الإسلام على النحو الآتي :
القضاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج : عبد الحميد الشرواني 13/3 ، المحرر في الفقه : عبد السلام بن تيمية 2/204
(2) كفاية الأخيار : الحسيني الدمشقي ص 551 .
(3) موسوعة الأحوال الشخصية : معوض عبد التواب 1/27(38/7)
إن أول من قام بوظيفة القضاء في الإسلام هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كما كان مأمورا بالدعوة إلى الدين ، كما كان مأمورا بالحكم والقضاء بين الناس فيما يكون بينهم من خصومات ومنازعات ، قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء:65] ، وقال سبحانه : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) [ النساء:105 ] ، وقال سبحانه : ( فاحكم بينهم بما أنزل الله ) [ المائدة:48]
وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه سبحانه فكان يفصل في الخصومات بين الناس ، ويقوم بمهمة الإفتاء إلى جانب ذلك ، ويبلغ الناس ما نزل عليه من ربه سبحانه من تشريع وأحكام ، فتجمعت في يده عليه الصلاة والسلام كل هذه السلطات ، فكان يقوم بوظيفة التبليغ عن ربه بصفته نبيا ورسولا ، ويقوم بواجب القضاء بين الناس بصفته قاضيا ، ويقوم بالإفتاء إلى جانب ذلك .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين الناس بالظاهر وباليمين عند عدم البينة ، وكان قضاؤه اجتهادا منه لا وحيا من عند الله تعالى (1) .
قال عليه الصلاة والسلام : " إنما أنا بشر مثلكم ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقتطع له قطعة من النار " (2) .
القضاء في عهد الخلفاء الراشدين :
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام : د . محمد الزحيلي ص 79
(2) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب من أقام البينة بعد اليمين ( 2534 ) 2/952 ، ومسلم في كتاب الأقضية باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة ( 1713 ) 3/1337 .(38/8)
وعلى ذات طريقة النبي صلى الله عليه وسلم سار أبو بكر الصديق ، فكان يقضي بين الناس في المدينة وكان ولاته يقضون بين الناس في الأقاليم ، وكانت مصادر القانون في عهده : القرآن والسنة والاجتهاد بعد البحث ومشورة الصحابة .
وذكر البعض أنه أسند القضاء في المدينة إلى عمر بن الخطاب ، فظل سنتين لا يأتيه متخاصمان لما عرف به من الشدة ، كما أنه بعث أنسا قاضيا إلى البحرين .
ولما انتشر الإسلام في عهد عمر ازدادت أعباء الحكم ، وتوسعت مهام الولاة ، فصل عمر بن الخطاب القضاء عن الولاية ، وعين للقضاء أشخاصا غير الولاة، وفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية: فعيّن أبا الدرداء معه قاضيا في المدينة، وعين شريحا قاضيا في البصرة، وعيّن أبا موسى الأشعري قاضيا في الكوفة.(1)
كان عثمان بن عفان أول من خصص داراً للقضاء، وكان القضاء في عهد الخليفتين قبله في المسجد. وكان عثمان يستشير في قضائه علياً وغيره قبل إصدار حكمه. وقد عرض منصب القضاء على عبدالله بن عمر، فاعتذر عن القبول، رغم إصرار عثمان. وقال له : " أما سمعت رسول الله يقول : من استعاذ بالله فأعيذوه (2)، وأنا أعوذ بالله أن أكون على القضاء" ، وقيل إن عثمان بن عفان لم يستعمل قاضيا في المدينة.
وحكم علي بن أبي طالب بين الناس، ولما خرج إلى البصرة استخلف عبدالله بن عباس على المدينة، وولى أبا الأسود الدؤلي إمارة البصرة وقضائها، وكلفه بوضع كتاب في أصول النحو، ثم عزله بعد مدة لثرثرته، لأن ( كلامه كان يعلوا على كلام الخصمين ).
__________
(1) المقدمة : ص174
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب عطية من سأل بالله ( 1672 ) 2/128 ، والنسائي في المجتبي كتاب الزكاة باب من سأل بالله عز وجل ( 2567 ) 5/82 ، وأحمد في مسنده ( 5365 ) 2/68 .(38/9)
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يتعهد الولاة والقضاة بالإرشادات والتوجيهات، وقد تحدثت كتب القضاء والفقه والتاريخ عن اجتهاد هذا الإمام القاضي وعن أحكامه التي اتصفت بالفطنة والذكاء، والدقة وصواب التفكير وأدت إلى إحقاق الحق وإقامة العدل.
القضاء في عهد الأمويين:
امتاز القضاء في هذا العهد بميزتين:
الأولى هي استمراره لما كان الحال في عهد الخلفاء، من أن القاضي كان مجتهدا يحكم برأيه واجتهاده إذا لم يجد في القضية نصا قاطعا أو إجماعا سابقا.
والثانية عدم تأثره بالسياسة وظل القضاة مستقلين لا يتأثرون بميل الدولة الحاكمة، وكانوا مطلقي التصرف وكلمتهم نافذة حتى على الولاة.
وكان الخليفة يراقب أحكامهم ويعزل من شذ منهم، ولم تكن أحكام القضاة تعرف التسجيل، وأول من إتخذ سجلا لتدوين أحكام القاضة هو قاضي مصر في عهد معاوية (1).
القضاء في عهد العباسيين:
وفي هذا العهد اتسع نطاق العمران، وانتشر الإسلام وازداد النشاط العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وظهر الجدل الفقهي وقامت المذاهب الأربعة وعرف التقليد، وضعفت روح الاجتهاد، واختلفت أحكام القضاة: فكان القاضي في العراق يحكم وفق المذهب الحنفي، وفي الشام والمغرب وفق المذهب المالكي وفي مصر وفق المذهب الشافعي، وإذا تقدم خصمان على غير المذهب الشائع في البلد ، أناب القاضي عنه قاضيا آخر يحكم وفق مذهب المتخاصمين.
وقد عمد بعض الخلفاء العباسيين إلى التدخل في استقلال القضاء، مما جعل الفقهاء يزهدون في هذا المنصب ويتهربون منه، ومن هؤلاء أبي حنيفة النعمان، وزفر صاحب أبي حنيفة ، والإمام أحمد بن حنبل (2).
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام : د. محمد الزحيلي ص 161 ، المدخل للفقه الإسلامي : د. محمد سلام مدكور ص 328 .
(2) تراث الخلفاء الراشدين : د.صبحي محمصاني ص 78- 79 .(38/10)
وقد أنشأت في هذا العهد وظيفة قضائية جديدة :هي وظيفة قاضي القضاة، وقد عين فيها أبو يوسف وسمي قاضي القضاة، فأصبح هو الذي يشرف على أمر تعيين القضاة وعزلهم، وكان يتفقد أحوالهم وأعمالهم، وهو أول من ميًّز القضاة بزي خاص بهم يميزهم عن بقية الناس.
وأحيط القضاة بالمهابة، وأقيم بين يدي القاضي من يمنع الناس ويحافظ على النظام، وصار للقاضي أيضا أعوان يحضرون له الخصوم، ويعدون له النظر في الدعوة، وحددت للقاضي الأيام التي ينظر فيها الخصومات بحيث لا ينظر في غيرها، وعلى الأخص في أيام العيد وما أشبهها.
وأدخلت بعض الاصطلاحات كالعناية بالسجلات وتسجيل الوصايا والديون فيها. وكثيرا ما كانت تضاف إلى القضاة ولاية الشرطة والمظالم والحسبة ودار الضرب وبيت المال (1).
ملاحظة: لقد استمرت السيادة التامة للقضاء الاسلامي في جميع الأقطار الإسلامية منذ العهد العباسي إلى قيام الدولة العثمانية.
القضاء في العهد العثماني:
عندما تأسست الدولة العثمانية في أوائل القرن الرابع عشر في الأناضول كانت الدول العربية آنئذ ( ومنها بلاد الشام: سوريا ولبنان) خاضعة للشريعة الإسلامية كقانون عام ،وكان قضاة الشرع بوجه عام يشكلون المحاكم العادية. وبقيت الحال كذلك حتى القرن السادس عشر، حيث أخذ الأتراك بالاستيلاء عليها تدريجيا ، وخضعت بلاد الشام لهم سنة 1516م (2).
واحتفظت الدولة العثمانية لنفسها بحق تعيين القضاة وتبعية السلطة القضائية لها، وقد منحت الدولة العثمانية امتيازات قضائية للطوائف الملِّية بها بسبب التسامح الديني الذي اتبعته. حتى يكون بجانب القضاء الإسلامي قضاء ملّي طائفي (3).
__________
(1) المقدمة : لابن خلدون ص 192 .
(2) الأوضاع التشريعية في الدول العربية : د . صبحي محمصاني ص 166 .
(3) تاريخ التشريع الإسلامي : د . أسامة الحموي ص 201 .(38/11)
ثم أصبح القضاء في المدة الأخيرة خلال الخلافة العثمانية على ثلاثة أنواع (1):
الماحكم الشرعية: وقد حصر اختصاصها بمسائل الأحوال الشخصية وببعض القضايا المحدودة. وكانت مؤلفة من قاض منفرد يسمى قاضي أو نائب الشرع ، ويعينه شيخ الإسلام. وكان القضاء الشرعي يطبق الأحكام الشرعية وحدها، وفقا للمذهب الحنفي الرسمي مبدئيا.
المحاكم النظامية: وهي المحاكم العادية التي تشكلت على أثر صدور القوانين العثمانية الجديدة المقتبسة عن القوانين الأوروبية، وكان يدخل في اختصاصها جميع القضايا الجزائية والمدنية التي لم تدخل في اختصاص المحاكم الشرعية والمحاكم الخاصة. وكان تشكيل هذه المحاكم النظامية على ثلاث درجات: محاكم البداية، ثم محاكم الاستئناف، ثم محكمة التمييز، وهي تتألف جميعا من ثلاثة قضاة أو أكثر. ولكن كان يوجد للقضايا الصغيرة حكام صلح يفصلون فيها منفردين وبصورة سريعة.
المحاكم الخاصة : وأهمها المحاكم القنصيلة والمحاكم الروحية. فالأولى هي المحاكم والمجالس التي كانت القنصليات الأجنية صاحبة الامتياز تؤلفها للنظر في القضايا التي يكون لأحد رعاياها مصلحة في ذلك.
أما المحاكم الروحية، فكانت المحاكم التي تنظمها طوائف الأقليات غير المسلمة، للنظر في مسائل الأحوال الشخصة المتعلقة بأبناء الطائفة.وقد ظل هذا التنظيم مرعيا في البلاد العربية التي كانت تحت النفوذ العثماني حتى انهيار السلطنة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى ودخول الاستعمار إلى البلاد العربية والاسلامية.
المطلب الرابع
القضاء الشرعي في العصر الحاضر
__________
(1) الأوضاع التشريعية في الدول العربية ص 186 .(38/12)
واقع القضاء الشرعي في العصر الحاضر أليم وصعب جدا، ولا تختلف الدول العربية في ذلك إلا ما ندر. فبعضها ألغت القضاء الشرعي نهائيا كمصر ومثلها غيرها، وبعضها جعلته تحت مظلة القضاء العادي، وله استقلال شبه ذاتي كسورية والعراق، وبعضها جعلته مستقلا ويضاهي النظام المدني كالأردن، وبعضها يعتبر القضاء الشرعي هو الأساس والأصل وصاحب الولاية العامة، ويشاركه محاكم شبه قضائية ومستقلة، وتزاحم القضاء الشرعي كالسعودية (1).
ويظهر للمتأمل في واقع القضاء اليوم بالبلاد العربية الإسلامية الملاحظات التالية:
إن معظم البلاد العربية تأخذ بالقضاء المزدوج، المدني والشرعي، وبعض البلاد ألغت المحاكم الشرعية كقضاء مستقل، ولكن له وجود تحت مظلة القضاء المدني، وبعضها تعتبر القضاء الشرعي هو الأصل والشائع، ولكن يوجد بجانبه مؤسسات شبه قضائية تشارك القضاء الشرعي بالعمل.
يعتبر القضاء المدني هو الأصل وصاحب الولاية العامة، ويتمتع بالنفوذ الواسع، مع تعداد المحاكم في معظم البلاد العربية، ويكون بجانبه أو في داخله قضاء شرعي محدد، وسلطة مقيدة لمحاكم الأحوال الشخصية العامة، والقضاء الشرعي خاصة.
تظهر الصفات المشتركة بين أنظمة القضاء في البلاد العربية، ولكن يوجد اختلاف كثير بينها، والأخطر في ذلك وجود الاختلاف في القوانين والشرائع بين البلاد العربية مما يكرس الانفصال والتبعية والإقليمية في الوطن العربي، ويؤكد وجود الاستعمار التشريعي باستمداد معظم القوانين والأنظمة من البلاد الغربية ولم يبق للتشريع الإسلامي إلا مسائل الأحوال الشخصية في أكثر الدول العربية.
تختص المحاكم الشرعية في أكثر البلاد العربية بالأحوال الشخصية، ويضاف إلى ذلك بعض المسائل المدنية، وماله صلة مباشرة بالدين، بينما تعتبر المحاكم الشرعية هي صاحبة الاختصاص العام ، والولاية الشاملة في القضاء إلا ما استثني بنص.
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام : الزحيلي ص 514 .(38/13)
يتولى القضاء في المحاكم الملّية والروحية والطائفية والمذهبية أشخاص من أتباع الملة والمذهب، كما يتولى غير المسلمين القضاء في المحاكم النظامية، وفي بعض الأحيان يتولى غير المسلمين القضاء بين المسلمين في الأحوال الشخصية إما قانونيا، أو عمليا.
يقوم القضاء الشرعي في أكثر البلاد العربية على درجة واحدة تنظر في الدعاوي، ثم ترفع للتدقيق والمتابعة في محكمة عليا تسمى محكمة استئناف في الأردن وغيره، أو تكون دائرة من محكمة النقض أو التمييز في الغالب، بينما تعمل بعض البلاد العربية على تطبيق نظام الدرجتين في المحاكم الشرعية، فتتألف من محاكم بداية، ثم محاكم استئناف، ثم محكمة نقض أو تمييز (1).
- إلغاء المحاكم الشرعية :
يقول فضيلة الدكتور محمد الزحيلي : " وبعد الثورة والاستقلال أقدمت الحكومة المصرية على خطوة مؤلمة ومحزنة ، فبدلا من إعادة الأمور إلى نصابها ، والالتزام بدين الأمة ، وعقيدة الشعب ، والشرع الحنيف ، وتطبيق الشريعة الغراء والفقه الإسلامي ، وإعادة الحياة والحق والعدل إلى القضاء الشرعي ، فبدلا من ذلك ألغت المحاكم الشرعية أصلا .
…وصدر القانون رقم 462 لسنة 1955 م ، وتضمن إلغاء المحاكم الشرعية والمجالس الملية ، وقرر القانون إلحاق رجال القضاء الشرعي السابقين بالمحاكم المدنية للاستفادة من خبرتهم السابقة بالمحاكم الشرعية ، وعند بلوغ هؤلاء سن التقاعد سوف لا يعين غيرهم من علماء الشرع " (2).
المبحث الثاني
أسباب انحسار القضاء الشرعي في هذا العصر
__________
(1) المرجع السابق ص 521- 522 .
(2) المرجع السابق ص 484 .(38/14)
كما عرفنا من المطلب الأخير في المبحث السابق ، فإن القضاء الشرعي لم تعد له تلك المكانة المرموقة والمنزلة العالية التي كان عليها في العصور السابقة ، بل أصبح محصورا في قضايا الأحوال الشخصية - مع كل أسف - ، وببحثي عن أسباب ذلك ، والعوامل التي أبعدت القضاء الشرعي من أغلب المحاكم في المجتمعات الإسلامية تبين لي أن ذلك يعود لأسباب ثلاثة ، فصلت الحديث عنها من خلال المطالب التالية :
المطلب الأول : الاستعمار
المطلب الثاني : الغزو الفكري
المطلب الثالث : العلمانية
المطلب الأول
الاستعمار
1- تعريف الاستعمار:
" الاستعمار هو إخضاع جماعة من الناس لحكم أجنبي ، ويسمى سكان البلاد : المُسْتَعْمَرين ، وتسمى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال : البلاد المستعمرة "(1) .
2- استبدال القوانين الإسلامية:
إن أول من حاول التلاعب بالشريعة الإسلامية في العصر الحديث في الديار الإسلامية هو نابليون بونابرت عندما احتل مصر سنة 1214هـ / 1798م حيث حاول تغييرها واستبدالها بالقانون الوضعي ومن أجل ذلك أنشأ في مصر محكمة سماها 'محكمة القضايا' وهي هيئة تتكون من إثنى عشر تاجراً نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من عباد الصليب وأسند منصب الرئاسة فيها إلى قاضي قبطي وجعل من اختصاصها النظر في المسائل التجارية ومسائل المواريث ، وقد شكلت هذه المحاكم في كل من الإسكندرية ورشيد ودمياط .
ثم أنشأ خليفة نابليون 'منو' لكل طائفة من الطوائف غير الإسلامية من الأقباط والأروام واليهود وغيرهم محكمة خاصة يتولى رئاستها قاضي على نفس الملة وذلك كي تنافس هذه المحاكم المحاكم الشرعية التي كانت مازالت قائمة وتعمل .
__________
(1) الموسوعة العربية العالمية 1/718(38/15)
وفي عهد 'محمد علي' تقلص القضاء الشرعي حيث أنشأ ما يسمى 'بالمجالس القضائية المحلية' بجانب المحاكم الشرعية وقد أخذت هذه المجالس كثيراً من اختصاصات المحاكم الشرعية , ولكن ظلت المحاكم الشرعية هي التي تحكم بين الناس في الديار المصرية حتى سنة 1856م ، ولكن منذ هذه السنة رأت الحكومة المصرية في عهد سعيد باشا إنشاء محاكم سميت 'مجالس قضائية محلية' وكانت تحكم بمقتضى الخط الهمايوني, ثم تشعب القضاء في مصر نتيجة المعاهدات الخارجية والامتيازات الأجنبية التي كانت وابلاً على الخلافة والمسلمين وأصبح قناصلة البلاد الأجنبية يحكمون بين رعاياهم والحائزين للحماية .
وفي عهد الخديوي إسماعيل سنة 1863م وجد أن النظام القضائي الذي يخضع له الأجانب في حالة فوضى شديدة وفكر إسماعيل في إنهاء كل هذه الفوضى وإعادة الحكم بالشريعة الإسلامية ولكن بطانة السوء التي لا تأمر إلا بالشر ولا تدعو إلى خير أبداً خذلته عن ذلك حيث عمل الصليبي 'نوبار' الذي كان يعمل وزيراً للخارجية إلى إيجاد فكرة المحاكم المختلطة وقد وافقت الدول صاحبة الامتيازات على فكرة نوبار باشا لأنها تهدف في المقام الأول لإقصاء الشريعة ، وبالفعل قامت المحاكم المختلطة سنة 1870م وقد اشترطت الدول الأجنبية أن تكون مصادر تلك المحاكم المختلطة مستمدة من القوانين الفرنسية !! وقد كلف محام فرنسي يدعي 'مونوري' بوضع القوانين التي ستطبق على تلك المحاكم .(38/16)
تألفت في أواخر سنة 1880م لجنة لوضع لائحة لمحاكم نظامية وقامت هذه اللجنة المشكلة من الصليبيين فقط لتقنين القوانين الوضعية ولكن اشتعال الثورة العرابية حال دون إكمال تلك المهمة الخبيثة , فلما احتل الإنجليز مصر أعادوا عمل تلك اللجنة الشريرة وأكملت مهمتها سنة 1883م إلى الوجه القبلي وهكذا أقصيت الشريعة الإسلامية واستبدل بها القانون الوضعي الفرنسي ولم تعد المحاكم الشرعية هي صاحبة الاختصاص العام ولم يبق في اختصاصها إلا الأحوال الشخصية ، وتسلل إليها الفساد بعد أن أدارت لها الدولة ظهرها ولم تقدم إليها يد العون ، وتعالت الأصوات بضرورة الإصلاح .
وظل الأمر على هذا النحو من الإهمال إلى أن انتدبت نظارة الحقانية ( العدل ) الشيخ محمد عبده لتفقد أحوال المحاكم الشرعية ، ومعرفة أدوائها ، ووضع أفضل السبل لعلاجها ، فقام بمهمته المطلوبة منه ، وطاف على محاكم مصر الشرعية سنة ( 1317هـ/1899م) ووقف على المشكلات بنفسه ، وخالط القضاة والعاملين في المحاكم ، وقدم تقريرا شافيا لما وصلت إليه أحوال تلك المحاكم من سوء الحال في الأماكن والمباني والأثاث ، وضعفٍ في مستوى القضاة والكتبة ، وقصور المرافعات فيها ... (1)
وفي الوقت نفسه كشف في تقريره عن تقصير الحكومة تجاه هذه المحاكم ، وإهمالها لشأنها حتى وصلت إلى ما هي عليه من ضعف وفساد .
__________
(1) تاريخ القضاء : عرنوس ص 233- 235(38/17)
وتضمن التقرير وسائل النهوض بتلك المحاكم من توسيع اختصاصاتها ، وعدم تقييدها في إصدار الأحكام بالمذهب الحنفي ، وكسر جمودها بوضع كتاب في أحكام المعاملات الشرعية يتفق مع مصالح العصر ، والنهوض بمستوى القضاة وتحسين مرتباتهم ، وانتقاء العناصر الجيدة للعمل في هذا الميدان ، وتسهيل إجراءات التقاضي ، وختم التقرير بطلب إنشاء معهد خاص يختار طلبته ممن يدرسون في الأزهر ، ويعدون إعدادا خاصا لتولي منصب القضاء (1).
3-أبرز أعمال الكيد التي قام بها الاستعمار في بلاد المسلمين :
…أعمال كثيرة قام بها المستعمر في بلاد المسلمين ، لكنني سأكتفي بالأشياء التي لها صلة بموضوعنا وهو إبعاد وإقصاء القضاء الشرعي والمحاكم الإسلامية عن القيام بدورها في المجتمعات الإسلامية ، فمما قام به :
فصل الدين عن الدولة وسائر الأمور السياسية ، وإلغاء الحكم الإسلامي نهائيا .
افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات العلمانية في صورتيها المعادية للدين صراحة والمتظاهرة نحوه بالحياد .
الضغط على التعليم الإسلامي التقليدي ، واتخاذ مختلف الوسائل التي تقضي إلى إلغائه نهائيا .
إخضاع نظم البلاد للقوانين المدنية الوضعية الغربية بدل أحكام الشريعة الإسلامية.
التوسل إلى إلغاء القضاء الشرعي الإسلامي بمختلف الوسائل الظاهرة أو الخفية الماكرة ، وإلغاء الأوقاف الإسلامية شكلا ومضمونا .
نشر أسلوب الحياة الغربية الإباحية بين الشعوب المسلمة ، وإفساد أخلاق الشعوب الإسلامية .
وضع السلطات الإدارية الفعالة في البلاد في أيدي الأقليات الطائفية غير الإسلامية ، وفي أيدي ذيولهم من المستغربين العلمانيين ...
__________
(1) راجع النظام القضائي المصري الحديث : لطيفة محمد سالم ، واتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر : حمدي صادق الجمال.(38/18)
تربية أجيال موالية للدول الاستعمارية ومحبة لشعوبها ، ومعجبة بطريقة حياتها ، وكارهة للإسلام وقيمه وأحكامه ، وعاملة في بلدانها بدائل للاستعمار المباشر في تنفيذ مخططاته بعد رحيله ... (1)
والملاحظ أن جميع قوانين ونظم القضاء في الدول العربية والإسلامية تتسم بتعدد المصادر والهويات ، وهي تحمل في طياتها آثارا فرنسية وأخرى إنجليزية ... كلها تمثل آثار الاحتلال الأجنبي بمختلف جنسياته ، وهذا أدى في النهاية إلى انعدام وحدة تشريعية ، وظهور تشتت قضائي على مختلف الأصعدة ، ويكرس الطبيعة العلمانية لدول العالم الإسلامي .
يقول الشيخ عبد القادر عودة تحت عنوان :" الاستعمار أدخل هذه القوانين في بلادنا :
إن طبيعة الإسلام أن يحكم كل بلد يدخله ، وإذا كان الإسلام دينا فهو شريعة كاملة لكل مسلم ، لذلك كانت الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد لكل بلد إسلامي من يوم أن دخله الإسلام ، وظلت كذلك حتى تسلط الاستعمار على البلاد الإسلامية ، فأدخل فيها القوانين الوضعية الأوروبية ، وأغرى حكامها الذين وضعهم تحت حمايته أو تحت رحمته بإدخالها ، و كانت الحجة المتكررة في إدخال هذه القوانين أنهم يريدون الأخذ بأسباب المدنية الأوروبية والتقدم الأوروبي ، كأنما التقدم الأوروبي والمدنية الغربية راجعة إلى هذه القوانين البشرية ، وكأنما تأخر المسلمين وضعفهم راجع إلى شريعتهم السماوية ..
وقد وجدت هذه الحجة الفارغة عقولا فارغة في البلاد الإسلامية تصدقها وتؤمن بها ، وتلقنها للنشء في معاهد الدراسة وتثبتها في الكتب المدرسية .. " (2) .
المطلب الثاني
الغزو الفكري
مفهوم الغزو الفكري :
__________
(1) أجنحة المكر الثلاثة : عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني ص 181- 184
(2) الإسلام وأوضاعنا القانونية : عبد القادر عودة ص 48 – 49(38/19)
أما مفهوم الغزو الفكري فهو مفهوم قد استقر في الأذهان في معظم بلاد العالم الثالث على الرغم من عدم دقة إطلاقه. فالغزو يعني الإرغام والقهر. وهذا المعنى غير قائم إلا في بعض الصور التي يطلق عليها مفهوم الغزو الفكري. أما بقية صورة ما يسمى بالغزو الفكري فتتم بأيدينا نحن وباختيارنا، وهذا هو وجه الخطورة.
وبصفة عامة: يمكن القول بأن مفهوم الغزو الفكري يقصد به : " كل التيارات الفكرية الهدامة الواردة من الغرب الرأسمالي أو ا لشرق الماركسي، سواء تمثلت في نظريات اجتماعية أو فلسفية أو اقتصادية أو تربوية أو سياسية أو دينية أو دراسات استشراقية أو غير ذلك من نظريات تتصل بحقل الدراسات الأنسانية على وجه الخصوص " (1).
تأثير الغزو الفكري في المجتمعات الإسلامية :
وقد تكون بعض هذه التيارات الفكرية قد فرضت بالفعل فرضا من جانب المستعمر على الشعوب الإسلامية إبان فترة الاحتلال لهذا البلاد مثل فرض النظرية العلمانية بالفصل بين الدين والدولة في مجال السياسة والاقتصاد وتنظيم المجتمع، وازدواجية التعليم وما إلى ذلك من أمور أريد لها دون إرادتنا أن نسير في تيارها.
وقد يكون بعض التيارات الفكرية جلب إلى بلاد المسلمين على أيدي مسلمين تثقفوا بالثقافات الغربية في الوقت الذي لم يكونوا فيه على دراية تامة بأمور دينهم العامة والخاصة، وقد يكون بعض هذه التيارات قد جلب على أيدي مواطنين غير مسلمين يهمهم بالدرجة الأولى إضعاف الإسلام وتفتيت وحدته- وقد يكون بعض هذه التيارات قد وجد لنفسه مرتعا خصبا وفرصة مواتية لدى بعض النفوس المقلدة للغرب في كل شيء من أبناء المسلمين تحت تأثير مركبات النقص وعقد التخلف التي تعاني منها. ولعل هذا الفريق هو الذي عناه المرحوم مالك بن نبي-المفكر الإسلامي الجزائري- حينما تحدث في بعض مؤلفاته عن أولئك الذين مازلت لديهم القابيلية للإستعمار.
__________
(1) هموم الأمة الإسلامية : د . محمود حمدي زقزوق ص 177 .(38/20)
ولا يجوز إغفال الدور التي تقوم به بعض وسائل الإعلام في العالم الاسلامي في نقل الكثير من هذه التيارات الفكرية الهدامة سواء أكان ذلك عن علم ودراسة أم عن جهل وغفلة، وسواء أكان ذلك بطريق مباشر أو غير مباشر. فإن ما تنقله وسائل الإعلام هذه مسموعة أومرئية أو مقروءة يعمل عمله في صياغة أفكار الشباب والأطفال على وجه الخصوص، بل وفي صياغة أفكار الكهول أيضا وينعكس أثره سلبيا على سلكوهم وتوجهاتهم.
وغني عن البيان أن الجسم الضعيف يكون أكثر تعرضا لخطر اللإصابة بالأمراض الفتاكة من الجسم السليم، فالأمة الإسلامية لو كانت قوية مرهوبة الجانب ورائدة في مضمار التقدم والحضارة لما كانت هناك على الإطلاق مشكلة قائمة حول الغزو الفكري وخطره على الإسلام. فالإسلام في ذاته قوي في مبادئه وأصوله وأهدافه وتشريعاته، ولا يخشى عليه من أية تيارات فكرية مناوئة أيا كان خطرها وأيا كان مصدرها ما دام هذا الدين قد وجد من أتباعه الفهم الصحيح لأهدافه وغاياته وتشريعاته. ولكن إذا افتقد الإسلام لدى أتباعه ذلك الفهم، لضعفهم وانهيار عزائمهم وانحلال عرى وحدتهم فهنا يكون الخطر كل الخطر الذي يهدد كيانهم كله.
فالقضية-إذن- تدور حول ما يتعرض له المسلمون- نظرا لضعفهم- من مخاطر الغزو الفكري الذي يحاول أن يحتويهم ويستولي على عقولهم ويصوغ لهم أفكارهم ويخطط لهم في كل مجالات حياتهم حتى ينسوا دينهم الذي يراد إزاحته تماما من النفوس،أو على الأقل يراد له أن يكون فقط مجرد مظهر خارجي يتمثل في بعض المظاهر الدينية الشلكية التي لا تعني شيئا. فالمستهدف في النهاية هو الإسلام بوصفه يشكل العقبة الرئيسية أما القوى الأجنبية التي تحاول السيطرة على المسلمين أو استنزاف خيراتهم (1).
لقد تأثرت المجتمعات الإسلامية بالخضارة الغربية نتيجة للغزو الفكري في عدة مجالات منها :
__________
(1) المرجع السابق 178- 179 .(38/21)
المجال الاجتماعي ويتجلى ذلك التأثر في قضية تحرير المرأة ، وفي المجال الاقتصادي فقد فرضت علينا نظم اقتصادية قائمة على الربا ، وفي المجال التشريعي ونظام الحكم يتجلى ذلك في نظام القضاء الذي أخذ في الانحسار ، وتم انتقاض اختصاصه بدعوى جموده تارة وبافتئاته على الرعايا الأجانب تارة أخرى .. (1)
يقول القاضي محمد عبد الرحمن البكر : " لقد أزعجنا وآلمنا كما أزعج وآلم غيرنا، ما تطبقه المحاكم من قوانين وضعية هي في الواقع من بنات الغزو الاستعماري الفكري المبطن، والذي خدعت به مجموعة من الأمة الإسلامية، معتقدة أنه يحمل في طياته خلاصها وإنقاذها من براثن التخلف والجهل، ولاندري أن في ذلك السم الزعاف " (2).
المطلب الثالث
العلمانية
1- تعريف العلمانية :
لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (secularism) في الانجليزية أو (secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته على الإطلاق والترجمة الصحيحة للكلمة هي : " اللادينية" أو " الدنيوية" لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص هو ما لا صلة به بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد (3).
تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف مادة (secularism) هي : " حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها... " (4).
2- علمنة التشريع (5):
__________
(1) راجع : منهج الإسلام في مواجهة التيارات المعاصرة : د .نصر الدين مصباح القاضي
(2) السلطة القضائية وشخصية القاضي : محمد عبد الرحمن البكر ص 14 .
(3) العلمانية : سفر بن عبد الله الحوالي ص 21 .
(4) Ency. Britannica vol ix p.19
(5) حاضر العالم الإسلامي و الغزو الفكري : د . صالح حسين الرقب ص 88-89 .(38/22)
بقيت الشريعة الاسلامية- بمعناها القانوني- تحكم المجتمعات الإسلامية أكثر من ألف عام، وتلبي حاجات المجتمعات، وتساير قضاياها المتجددة، وظلت الشريعة بأصولها وأنظمتها شامخة راسخة، لا تدانيها اجتهادات العقول، ولا تقاربها تجارب أوروبا القانوينة، ولكن نتيجة غفلة المسلمين وبجهود الغزاة المستعمرين وعملائهم من أباء المسلمين طردت الشريعة الاسلامية من ميادين الحياة، ووضعت مكانها شتاتا من شرائع الكفار وقوانينهم وتعرضت الشريعة الربانية لحملة ظالمة من التشكيك في صلاحيتها، ورميها بالجمود والتعصب والتخلف عن مسايرة الحياة.
وتعتبر الهند أول قطر إسلامي تم فيه إلغاء الشريعة الإسلامية من قبل الاستعمار البريطاني، إذا اتبع أسلوب التدرج في الإلغاء، وفي أواسط القرن التاسع عشر لم يبق من أحكام الشريعة الإسلامية سوى ما يتعلق بأحكام الزواج والطلاق- ما يعرف بالأحوال الشخصية- وعلى منوال صنيع الانجليز في الهند نسجت الحكومات الوطنية في العالم الإسلامي.
وفي مصر: أنشأ الخديوي إسماعيل المحاكم المختلطة عام 1875م، التي تحكم بالقانون الفرنسي، وبعد احتلال الانجليز لمصر عام 1882م أقام الإنجليز المحاكم الأهلية التي تحكم بالقانون الإنجليزي الذي استمدت مواده من القانون الفرنسي، وشرع الإنجليز في إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم في المعاملات المالية والتجارية والزراعية، والمبادلات والشركات ونحوها، وقصروا القضاء الشرعي الإسلامي على ما يسمى بالأحوال الشخصية تماما كما فعل الإنجليزي في الهند.
وتدعيما للقوانين الأوروبية أنشئت مدرسة الحقوق المصرية لدراسة القوانين الأوروبية، وتم إرسال الطلبة المتفوقين إلى فرنسا ليستكملوا دراساتهم القانونية، ومن ثم يعودوا معاول هدم للشريعة الإسلامية.(38/23)
وهكذا صارت خطة علمنة القانون في البلدان الإسلامية، حتى أصبحت " القوانين الوضعية" هي الحاكمة المسيطرة، وشريعة الله تعالى غائبة ومحاربة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: " لتنتقض عرى الإسلام: عروة...عروة، فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها، أولهم نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" (1) .
إن العلمانية تريد من الإسلام أن يعتزل حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية، وأن ينزوي في زاوية في بعض جوانب الحياة لا يتعداها ولا يتجاوزها، مثلا:
تريد منه أن يقنع بالحديث الديني في الإذاعة والتلفزيون، وأن يقنع بالصفحة الدينية في الصحيفة يوم الجمعة، ويوم المناسبات الدينية.
تريد منه أن لا يتدخل في الشؤون التشريعية والقانوينة، بل يقنع بقانون الأحوال الشخصية في قوانين الدولة (2).
3- كيف أثرت العلمانية في نظام القضاء الشرعي:
من الوجهة التشريعية كان القضاء في العالم الإسلامي يعتمد على الشروح والحواشي والمختصرات التي كانت أقرب إلى الطلاسم والمعميات إلى حد جعل الذين يفقهونها- لاسيما مع الركود العلمي العام- قلة ضئيلة- ثم إنها في الحقيقة لم تكن المصدر الوحيد للتشريع فبجانبها كانت الأهواء وأعراف المجتمع وتقاليد القبيلة..
ومن أهم القضايا التي يجدر الإنتباه إليها أن الإنحراف غير المقصود ابتدأ من منطلق التخلص من جمود الفقه الاسلامي أمام المتغيرات الحيوية الجديدة، ومن توهم المسلمين بأن سبب تخلفهم هو عجزهم التنظيمي والإداري، وأن محاكاة أساليب الحياة الغربية جديرة بالقضاء على ذلك التخلف، وعلى هذا الأساس قامت الحركة المسماة " حركة الإصلاح" في جناحي العالم الإسلامي تركيا ومصر..
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ( 22214 ) 5/251 ، والطبراني في الكبير ( 7486 ) 8/98 ، ورجالهما رجال الصحيح ( مجمع الزوائد 7/281 )
(2) حاضر العالم الإسلامي والغزو الفكري ص 100 .(38/24)
وقف مصطفى كمال أتاتورك يوما قائلا : " إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد.." (1) ، وكان زعيم الإصلاح في مصر هو الشيخ محمد عبده الذي أثاره تقدم الغرب وتخلف المسلمين في كل ميدان، فهب يدعوا إلى الإصلاح، وابتدأ عمله الإصلاحي بمهاجمة الأزهر ونقد المحاكم ونقد الحياة الاجتماعية، وكرومر من ورائه يقطف الثمار، فلقد كانت بريطانيا عازمة على إلغاء الشريعة الإسلامية فور تمكنها في البلاد غير أن كرومر رأي أن أفضل وسيلة لذلك هو تفريغ المحاكم الشرعية من محتواها... (2)
لأن الشيخ محمد عبده - ولعله دون قصد- قد أوجد القاعدة التي ارتكز عليها من يسمون بدعاة الإصلاح للتعلق بأذيال الغرب وإقصاء الإسلام عن توجيه الحياة، لم يكن محمد عبده علمانيا ولكن أفكاره اتخذت جسرا عبر عليه إلى العلمانية في العالم الإسلامي، وإلى تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية وإبطال العمل والتحاكم إلى الشريعة الاسلامية..
وبدئ بالهجوم على الشريعة الإسلامية بعد ذلك بأكملها وتوالت حملات التشكيك معلنة عدم ملائمتها لمقتضيات العصر وظروف التطور.
والقول بأن التعاليم الدينية لم تعد صالحة لإمداد الفرد بحاجاته الروحية فضلا عن حاجاته الاجتماعية بينما أصبحت مصالحه الدينية وحاجاته الدنيوية هي أكثر ما يستدعي انتباهه.
وينتهي " جب " إلى القول أن العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة جدا علمانيا في كل مظاهر حياته (3).
4- الاسلام دين ونظام دولة:
__________
(1) حاضر العالم أفسلامي 3/344 .
(2) العلمانية : الحوالي ص 578 .
(3) راجع في هذا الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر : محمد محمد حسين .(38/25)
يمثل نظام الدولة في الإسلام وسمو آدابه جانبا مهما من عظمة وعبقريةالتراث الاسلامبي الحضاري الذي يتعين أن يكون محط الأنظار والتقدير. ففي مبادئ ومآثر وآداب دولة الإسلام أغنى الكنوز القانوية والفكرية، وأرقى النظم السياسية، وأروع الأحداث التاريخية، وأسمى المواقف الإنسانية.
قد يعتقد البعض من الناس أن الإسلام دين وعبادات فحسب، وأنه لا علاقة له بتنظيم الدولة وأصول الحكم والإدارة وعلم الإقتصاد وشؤون المجتمعات، وغير ذلك من مما يتصل بالأمور التنظيمية لسلوك الأفراد وتصرف المجتمعات.وهذا البعض لا يدري أن الإسلام نظام شامل وكامل للبشرية، وأنه جاء ليحكم كافة أنواع السلوك الإنساني الفردي والجماعي، وقد اهتم بتنظيم علاقة الدولة بالأفراد وبالدول، وعلاقة الحاكم السياسي والمسؤول الإداري بالرعايا، وغير ذلك من العلاقات والتنظيمات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية (1).
فإذا كان بعض الأديان يفصل بين أحكام الدين وشؤون الدولة، ويرسم لكل منهما مجاله الخاص به، فإن الإسلام لا يأخذ بهذا الفصل بل يمزج بين الدين والدولة، ومن ثم كانت الرئاسة والخلافة لدى المسلمين رئاسة شاملة لأمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك أن لغاية من إقامة الرئاسة هي حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
وفي ذلك يقول العلامة ابن خلدون:" الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذا أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به " (2).
الخاتمة
لقد عرفنا من خلال هذا البحث على أن :
__________
(1) نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام : د . سمير عالية ص 9 .
(2) المقدمة : ص 191 .(38/26)
القضاء الشرعي هو : " مجموعة من النظم والقوانين التي سنها الإسلام للقضاء بين الناس في خصوماتهم ، وهذه النظم والقوانين مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ، ثم من إجماع المسلمين وقياساتهم واجتهادهم ..."
يحتل القضاء في الاسلام مكانة سامية مرموقة لأنه ميزان العدالة في الأرض وتطبيق مبادئ الحق فيها. وهو جزء من أجزاء الشريعة به يحتفظ الحقوق والأموال والأنفس والأعراض.
منحت الشريعة الغراء لكل إنسان داخل دار الإسلام الحق في أن يتداعى أما القضاء الشرعي لإنصافه ودفعا لأي ظلم يقع عليه، وجميع الأفراد متساوون في ذلك، لا فرق بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو الطبقة أو اللون أو الثروة..
إن أول من قام بوظيفة القضاء في الاسلام هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى طريقته القضاء سار الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم من بعده.
وفي عهد العباسيين ظهر منصب قاضي القضاة- وهو بمثابة وزير العدل اليوم، حيث يشرف على تعيين القضاة أو عزلهم كما يتفقد أحوالهم وأعمالهم.
ولقد استمرت السيادة التامة للقضاء الاسلامي في جميع الأقطار الاسلامية منذ العهد العباسي إلى قيام الدولة العثمانية.
واحتفظت الدولة العثمانية لنفسها بحق تعيين القضاة في البلاد العربية التي كانت تحت نفوذها، وأصبحت السلطة القضائية تحت تبعيتها، وقد منحت الدولة امتيازات قضائية للطوائف الملية بها بسبب التسامح الديني الذي اتبعته..
ولما حل الاستعمار بالبلاد العربية تم الاستيلاء على القضاء، ضمن استيلائه على بقية السلطات، وبعد الاستقلال ألغي القضاء الشرعي في كثير من البلاد العربية والإسلامية، وبعضها جعلته مستقلا ويضاهي النظام المدني، وإن كان بقي محتشما في بعض البلاد العربية الأخرى..
أسباب إقصاء القضاء الشرعي من العمل به في كثير من البلاد الاسلامية والعربية واحدة متشابهة وبالبحث والنظر في تلك الأسباب نجدها منحصرة في ثلاثة وهي:(38/27)
الاستعمار : فلقد ألغى الاستعمار المحاكم الشرعية لما دخل بلاد الإسلام واستبدلها بالمحاكم القائمة على القوانين الوضعية .
الغزو الفكري: ويقصد به كل التيارات الفكرية الهدامة الواردة من الغرب أو الشرق سواء في نظريات فلسفية أواجتماعية أو اقتصادية أو تربوية أو سياسية أودينية أودراسات استشراقية أوغير ذلك من نظريات تتصل بحقل الدراسات الإنسانية على وجه الخصوص ، والتي بسببها وجد من أبناء الأمة الإسلامية عن قصد أو عن غير قصد من ينادي ويدعو إلى إبعاد المحاكم الشرعية عن الحكم بين الناس بدعوى تخلفها ورجعيتها عن مواكبة التطور الحضاري ..
العلمانية: وهي حركة تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الإهتمام بهذه الدنيا وحدها ، وبسببها تم إقصاء الشريعة الإسلامية من نظم الحكم والقضاء والاجتماع والاقتصاد وغيرها من الحياة الإسلامية ..
التوصيات
وفي الختام فيما يلي جملة من التوصيات المقترحة لهذا المؤتمر القيم :
العودة إلى رحاب الشريعة الغراء والإلتزام بمنهج الله تعالى ودينه القويم في جميع شؤون حياتنا، ومنها جهاز القضاء الذي نريده أن يكون قضاء شرعيا لأن بالشريعة وحدها نحمي البلاد والعباد وفيها الغناء والكفاء وعزة الأمة وكرامتها..
توحيد التشريعات والأنظمة القضائية في البلاد العربية لتحقيق وحدة الأمة عقائديا وتشريعيا ونظاما وقضاء، لتعود للأمة الإسلامية عزها وكجدها..
نأمل أن يحرر العالم الإسلامي نفسه فكريا فينبذ التشريعات الأجنبية كما حرر نفسه سياسيا فطرد الاستعمار السياسي من بلاده.
الأخذ بيد المحاكم الشرعية القائمة ببعض البلاد الإسلامية، والتأكيد عليها، وتقويمها وترشيدها إلى الأخذ بأفضل السبل والطرق العصرية في نظم الحكم والقضاء .
المراجع
- أجنحة المكر الثلاثة : عبد الرحمن حسن حبنكة لميداني ( دار القلم : دمشق )
- الإسلام وأوضاعنا القانونية : عبد القادر عودة ( الطبعة الأولى: 1951م )(38/28)
- الأوضاع التشريعية في الدول العربية : د . صبحي محمصاني ( دار العلم للملايين : بيروت )
- تاريخ التشريع الإسلامي : د . أسامة الحموي ( منشورات جامعة دمشق : دمشق )
- تاريخ القضاء في الإسلام : د . محمد مصطفى الزحيلي ( دار الفكر : دمشق )
- تاريخ القضاء في الإسلام : محمود بن محمد عرنوس ( القاهرة )
- تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء : د . صبحي محمصاني ( الفكر الإسلامي : بيروت )
- حاضر العالم الإسلامي والغزو الفكري : د . صالح حسين الرقب ( الجامعة الإسلامية : غزة )
- حواشي الشرواني : عبد الحميد الشرواني ( دار الفكر : بيروت )
- السلطة القضائية وشخصية القاضي:محمد عبد الرحمن البكر (الزهراء للإعلام العربي: القاهرة)
- سنن أبي داود : الإمام أبو داود سليمان السجستاني ( درا الفكر : بيروت )
- سنن النسائي ( المجتبى ) : عبد الرحمن بن شعيب النسائي ( دار القلم : بيروت )
- صحيح البخاري : محمد بن إسماعيل البخاري ( دار ابن كثير : بيروت )
- صحيح مسلم : مسلم بن الحجاج القشيري ( دار إحياء التراث العربي )
- ضمانات العدالة في القضاء الإسلامي : محمود عايش متولي ( دار الكتب العلمية : بيروت )
- العلمانية : سفر بن عبد الله الحوالي ( مكتبة الطيب : مصر )
- القاموس المحيط : مجد الدين الفيروز آبادي ( الرسالة : بيروت )
- كفاية الأخيار : تقي الدين الحسيني الدمشقي ( دار الخير : دمشق )
- مجمع الزوائد : نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ( دار الريان للتراث : القاهرة )
- المحرر في الفقه : عبد السلام بن تيمية الحراني ( مكتبة المعارف : الرياض )
- المدخل للفقه الإسلامي : د . محمد سلام مدكور ( دار الكتاب الحديث : الكويت )
- المسند : الإمام أحمد بن حنبل ( مؤسسة قرطبة : القاهرة )
- المعجم الكبير : سليمان بن أحمد الطبراني ( مكتبة العلوم والحكم : الموصل )(38/29)
- معجم مقاييس اللغة : أحمد بن فارس بن زكريا ( دار الجيل : بيروت )
- المقدمة :عبد الرحمن بن خلدون ( دار القلم : بيروت )
- موسوعة الأحوال الشخصية : معوض عبد التواب ( دار الوفاء للطباعة والنشر : المنصورة )
- الموسوعة العربية العالمية : ( مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر : الرياض )
- نظام الدولة والقضاء والعرف في الإسلام: د.سمير عالية ( المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر )
- نظام القضائي الإسلامي : د . إسماعيل إبراهيم البدوي ( جامعة الكويت : الكويت )
- هموم الأمة الإسلامية : د . محمود محمد زقزوق ( دار الرشاد : القاهرة )
ملخص البحث
القضاء الشرعي هو : " مجموعة من النظم والقوانين التي سنها الإسلام للقضاء بين الناس في خصوماتهم ، وهذه النظم والقوانين مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله ، ثم من إجماع المسلمين وقياساتهم واجتهادهم ..."
يحتل القضاء في الإسلام مكانة سامية مرموقة لأنه ميزان العدالة في الأرض وتطبيق مبادئ الحق فيها. وهو جزء من أجزاء الشريعة به تحفظ الحقوق والأموال والأنفس والأعراض.
ولقد استمرت السيادة التامة للقضاء الإسلامي في جميع الأقطار الإسلامية منذ نشوء الدولة الإسلامية الأولى إلى قيام الدولة العثمانية.
ولما حل الاستعمار بالبلاد العربية تم الاستيلاء على القضاء، ضمن استيلائه على بقية السلطات، وبعد الاستقلال ألغي القضاء الشرعي في كثير من البلاد العربية والإسلامية، وبعضها جعلته مستقلا ويضاهي النظام المدني، وإن كانت بقي محتشما في بعض البلاد العربية الأخرى..
أسباب إقصاء القضاء الشرعي من العمل به في كثير من البلاد الاسلامية والعربية واحدة متشابهة وبالبحث والنظر في تلك الأسباب نجدها منحصرة في ثلاثة وهي:
الاستعمار : فلقد ألغى الاستعمار المحاكم الشرعية لما دخل بلاد الإسلام واستبدلها بالمحاكم القائمة على القوانين الوضعية .(38/30)
الغزو الفكري: ويقصد به كل التيارات الفكرية الهدامة الواردة من الغرب أو الشرق سواء في نظريات فلسفية أواجتماعية أو اقتصادية أو تربوية أو سياسية أودينية أودراسات استشراقية أوغير ذلك من نظريات تتصل بحقل الدراسات الإنسانية على وجه الخصوص ، والتي بسببها وجد من أبناء الأمة الإسلامية عن قصد أو عن غير قصد من ينادي ويدعو إلى إبعاد القضاء الشرعي والأحكام الشرعية عن الحكم بين الناس بدعوى تخلفها ورجعيتها عن مواكبة التطور الحضاري ..
العلمانية: وهي حركة تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الإهتمام بهذه الدنيا وحدها ، وبسببها تم إقصاء الشريعة الإسلامية من نظم الحكم والقضاء والاجتماع والاقتصاد وغيرها من الحياة الإسلامية .(38/31)
عوامل انحسار القضاء الشرعي في جمهورية مصر العربية
بحث مقدم
لندوة ( القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع والآمال )
في الفترة من 11 – 13 / 5 /2006
والمنعقد برحاب كلية الشريعة والقانون جامعة الشارقة
د/ عبد الغنى الغريب طه راجح
كلية الشريعة والقانون / جامعة الإمارات / قسم الدراسات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المسلمين ، سيدنا محمد بن عبد الله
وعلى آله وأصحابه والتابعين وبعد .
فقد استطاع الإسلام أن يقيم أعظم حضارة عرفها التاريخ ، والتي بلغت ذروتها بقيام الخلافة
العثمانية ، التي وصلت بالمسلمين إلى أبواب فيينا ( النمسا ) وشكلت قوة عظمى يحسب لها
ملوك الغرب ألف حساب ، ومع بداية القرن الثامن عشر بدأ الضعف يدب في أوصال دولة الخلافة .
وفى الوقت ذاته بدأ الغرب ينهض من كبوته ويدخل في عصر الحداثة والثورة الصناعية ، في
الوقت الذي توقف المسلمون عن الأخذ بأسباب العلم والتقدم الذي تدعوه إليه شريعتهم ،
فاختل ميزان القوى لصالح الغرب الذي بدأ في التآمر على دولة الخلافة وأضعف شوكتها ،
وأفاق المسلمون في نهاية القرن الثامن عشر لكي يجدوا أنفسهم في حالة من التخلف العلمي
والحضاري ، فبدأوا يبحثون عن أسباب هذا التخلف ، ويحاولون النهوض من جديد .
ووصلوا إلى نتيجة مفادها أن السبب الرئيسي في تخلفهم يعودوا إلى انحراف المسلمين عن
دينهم وشريعتهم وإقصاء الشريعة جانبا وتنحيها عن مجال التطبيق ،ويعود السبب في ذلك إلى
عوامل متعددة منها : الاستعمار الذي لحق بدول المسلمين ولم يتركها إلا بعد أن أقصى الدين
عن مجال الحياة ، ثم العلمانية . فحين أدرك أعداء الإسلام أن القرآن الكريم والسنة النبوية
المطهرة بما قرراه من تشريعات وقوانين هما مصدر القوة الإسلامية ، وبالتالي فالعلاج هو
في عودتهم إليه والحفاظ على شريعتهم واسلامهم وتنقية مما لحق به من شوائب .(39/1)
وأنه لا أمل في استعباد المسلمين ما داموا يطبقون إسلامهم على حياتهم كنظام اجتماعي
وسياسي واقتصادي وأخلاقي . ومن هنا وضعوا أسلوبا جديدا لمقاومة القوانين الإسلامية .
وبذلك يصلون إلى ما يريدون من هدم العقيدة الإسلامية . وبذلك يصلون إلى ما يريدون من
هدم العقيدة الإسلامية واخراج المسلمين من نطاق التوحيد إلى نطاق الشرك ، ذلك أن الدولة
الإسلامية هىجزء من الدين الإسلامي ، ويستحيل في عرف الإسلام أن يقوم دين بغير دولة
وإلا انهدم الجزء الأكبر من هذا الدين ، وهذا ما قصد إليه أعداء الإسلام حين نادوا في
المجتمعات الإسلامية بفكرة إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق الواقعي، والاستعاضة عنه بنظام
الغرب وقوانينه وهو ما عرف في التاريخ : بفصل الدين عن الدولة ( 1) . وإمعانا في
التضليل والخداع سماها الفكر الغربي بالعلمانية .
ثم إلغاء الخلافة الإسلامية حين استطاع أعداء الإسلام عن طريق أتاتورك إلغاء الخلافة
الإسلامية ، واستطاع عن طريق القوة والقتل لكل معارض تنحية الشريعة جانبا وطبعها بطابع
الروحانية ، ثم ألغى المحاكم الرعية ، وقوانين الشريعة الإسلامية ، وقرر العمل بالقوانين
الغربية ، وبعبارة وجيزة : قضى على كل مظاهر الحياة الإسلامية في تركيا ، وكان لكل
ذلك الأثر الكبير الذي انعكس على مصر مما مهد الطريق سريعا لكي تحذو حذو تركيا .
وقد قسمت هذا البحث إلى عدة مباحث :
المبحث الأول : أهمية القضاء الشرعي .
المبحث الثاني : الاستعمار وأثره في انحسار القضاء الشرعي .
المبحث الثالث : العلمانية ودورها في تنحية الشريعة عن مجال التطبيق .
المبحث الأول :
أهمية القضاء الشرعي:
لقد اتسع مفهوم العلوم الشرعية ليشمل سائر العلوم المستنبطة من الكتاب والسنة ، بالإضافة
إلى المصادر الأخرى للشريعة الإسلامية مثل الحديث والتفسير وأصول الفقه وتاريخ التشريع(39/2)
، بل إنه قد اتسع في القرن العشرين لكي يشمل علوما مستحدثة لم يكن لها وجود من قبل مثل
علوم المذاهب والتيارات الفكرية والدراسات الإستشراقية المتعلقة بالإسلام ، وغير ذلك من
العلوم التي تعد دراستها ضرورة شرعية من أجل وضع حلول لمشكلات اجتماعية متغيرة .
القضاء الشرعي في خدمة المجتمع :
تتبين لنا أهمية القضاء الشرعي في خدمة المجتمع حين نحدد سمات وخصائص وأهداف
المجتمع الذي نعيش فيه . ولا شك أن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع مسلم،
ومن سماته وخصائصه :
أنه مجتمع يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وفق ما
جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
ب-كما انه مجتمع متوازن . أي تتوازن فيه حاجات الإنسان والاستجابة إليها بين المطالب الروحية والمادية معا دون تغليب لطرف على آخر ، أو كبت طرف لحساب الطرف الآخر .
ج-كذلك ويتسم هذا المجتمع بأنه مجتمع الانضباط وفق المنهج الإسلامي ، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الأمة ( 2) .
كما تتضح لنا أهمية القضاء الشرعي حين نعلم أنه ليس مجرد علوم دينية كما يظن البعض ،
بل هو في صميمها علوم دنيوية ، خصوصا وأن الإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا ، بل
ينظر إليهما على أنهما وجهان لعملة واحدة .
يقول الإمام الغزالى : إن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ، ولا نظام للدين إلا بنظام
الدنيا ، فإن الدنيا مزرعة للآخرة ، وهى الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذ آله ومنزلا
لامن يتخذها مستقرا ووطنا . (3)
وإذا كانت مجتمعاتنا في حاجة ماسة إلى العلوم المادية فإن حاجتها إلى العلوم الشرعية أشد ،
لأن العلوم المادية لا يستقيم أمرها إذا كانت مجردة من أخلاق الإسلام وقيمه ومثله ، وإلا
وقعنا فيما وقعت فيه المجتمعات التي فضلت بين العلم وبين الدين . وخلقت بينهما نوعا من
الصراع الذي لا يعترف به الإسلام . حيث ربط بين العلم المادي وبين العلوم الشرعية ربطا
محكما .(39/3)
وأما أهدافه : فهي كثيرة ومتنوعة وأهمها : الأهداف الضرورية التي لا يستقيم نظام الحياة
دون المحافظة عليها ، وهى : حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل من أى اعتداء عليها.
ولا شك أن المحافظة على تلك السمات وهذه الأهداف لا يمكن أن تتم دون إدخال القضاء
الشرعي ليحكم بين الناس . وإذا كان تقدم المجتمع لا يكون إلا بالعمل ، فإن العلم لابد أن
يسبق العمل ، فالعلم هو الوسيلة التي تبين لنا كيفية العمل ، وبهذا نسير فى بناء مجتمعنا على
هدى وبصيرة من وحي الله . فلا يحدث صراع أو تصادم بين الناس بعضهم وبعض ، أو
بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه .
هذا ومن فضل الله علينا أن القضاء الشرعي قد استوعب سائر النشاطات الإنسانية التي يقوم
عليها المجتمع سواء منها ما يتعلق بالنظام الاجتماعي أو النظام التربوي والأخلاقي أو
الاقتصادي بمختلف وسائله وطرقه التنموية ، أو السياسية.
كما يساهم القضاء الشرعي في بناء المجتمع من زاوية ثانية في تهذيب الأخلاق والنفوس
عن الصفات الدميمة .وإذا كانت الأخلاق هي أساس بناء المجتمعات ، فإن القضاء الشرعي
هو أصل الأخلاق ومنبعها فلا أخلاق فاعلة عارفة بطريق الحق والصواب إلا إذا قامت على
العلم الشرعي واستقامت عليه .
ثم إن هناك الكثير من المشاكل التي يعانى منها المجتمع والتي قد تكلفه الكثير من الأموال
والطاقات لإزالة آثارها ، ومنشأ هذه المشاكل إذا بحثنا في جذورها هو الجهل بأحكام الشريعة
الإسلامية ، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض هذه المشاكل ومنها :
المشاكل الأسرية وما يعانى منه المجتمع بسببه كثرة حالات الطلاق ، وتعدد الزوجات ،
وتقصير الرجل في حق أسرته ، وتقصير المرأة في حق زوجها وأولادها ، مما يترتب عليه
تشرد الأولاد وانحرافهم في كثير من الأحيان .
مشاكل الشباب من الوقوع في براثن الإدمان والمخدرات والمسكرات أو وقوعهم في(39/4)
مشكلة سوء الفهم للإسلام مما يؤدى إلى التشرد والحكم على الناس بالكفر والفسق .
- مشاكل العمالة والعلاقة بين رب العمل الذي لا يعطى العامل حقه ، وبين العامل الذي قد لا
يؤدى عمله بأمانة وإتقان .
أقول إن معظم هذه المشاكل سببها الأساسي قد يكون هو الجهل بأحكام الإسلام في مثل هذه
المجالات ، ومن ثم فحين ندخل القضاء الشرعي ليقوم بدوره في الحياة فإنما نقوم بدور
أساسي في القضاء على هذه المشكلات بمنعها قبل وقوعها .
ورغم كل هذه الأهمية للقضاء الشرعي ، إلا أن هناك من عمل على انحسار هذا القضاء ،
وتنحيته عن مجال حياة المسلمين بوجه عام والمصريين بوجه خاص ، وسيكون محور حديثنا
عن مصر لعدة أسباب منها :
تمسك أهل مصر بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة ، مع إيمانهم بأن الإسلام دين
ودولة ، ولا مجال للفصل بينهما على الإطلاق .
إيمانهم بان تشريعات الإسلام تتسم بالشمول والإحاطة ، فليس هناك شعبة من شعب الحياة
إلا وقننت لها الشريعة الإسلامية ،و أوضحت لنا فيها الخير من الشر ، خلافا للقوانين الوضعية .
إيمانهم بان الإسلام كل ولا يتجزأ ، فتشريعات الإسلام متشابكة متكاملة ، ولن تؤتى
ثمارها إلا بالتطبيق الكامل لكل فروعها واجزائها .
مصر من اكبر الدول الإسلامية تعدادا ، وبها الجامع الأزهر حامى حمى الإسلام في كل
أنحاء العالم الإسلامي وبالتالي فان إلغاء القضاء الشرعي بها سيمهد الطريق لإقصاء دول
أخرى تقف حجر عثرة أما هذا الإقصاء . [ وكما يقول أستاذنا الدكتور فتحي الزغبي : مصر
في نظر الغزاة هي مركز التوجيه الروحي والثقافي بسبب موقعها الجغرافي ومكانتها
التاريخية ، وبسبب وجود الأزهر فيها ، فإذا أمكن إفسادها من الناحية الإسلامية كان عونا
كبيرا للذين يخططون لإفساد العالم الإسلامي كله ] ( 4 ).
المبحث الثاني : الاستعمار وأثره في انحسار القضاء الشرعي في مصر.(39/5)
كان من أهم العوامل التي عملت على تنحية القضاء الشرعي في مصر أسباب عديدة منها :
الاستعمار . لقد ابتليت بلاد إسلامية كثيرة بالاستعمار ،وحين وقع الاستعمار أراد أن يأكلها ويلتهمها التهاما .
فقد أراد المستعمر عزل المجتمع الإسلامي كلية عن ماضيه ، وعن تراثه العقلي ، والروحي
والتوجيهي ، والسلوكي فإذا ما تم عزله أصبحت قيادته ميسرة وطيعة للمستعمر ، وبالأخص
للأجيال التي تنشأ في ظل هذه العزلة .
وكان الطريق الذي سلكه للعزل والحيلولة دون رؤية الماضي مزدوجا :
مرة بتمجيد التقدم العلمي الأوروبي في نظر المسلم ، وإبراز خصائص الحضارة الغربية
المادية أمامهم . ومرة أخرى بالتزهيد أو التنفير من تراث الأمة الإسلامية بالتقليل من شأنه
والحط من قيمه ، وإبراز عدم فاعليته أو عدم صلاحيته لحياة الإنسان ، والادعاء بأن ما مر
في تاريخ الأمة الإسلامية يرجع جميعه إلى مبادئ الإسلام وتعاليمه ذاتها وعلى الخصوص
ما كان منه ضعيفا وهزيلا في التفكير ، وفى الفقه ، والتشريع ، وفى شيوع الفرقة المذهبية
والطائفية والشعوبية ،والجهل والأمية في قرونه الأخيرة ، وإما أن الإسلام نفسه كدين لم يكن
وحيا إلهيا ، كما لم يكن وضعا وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقلا به عن
المسيحية،وإنما كان تلفيقا منها ومن عقائد أخرى ، جعله لا يرتفع به إلى مستوى الإنسانية ،
وما يجب في علاقات الأفراد ببعضهم من المحبة والمودة ذلك المستوى الذي تؤكده
المسيحية( 5 ) .
وحين دخل الاستعمار ديار المسلمين كان يحمل بين جنباته روحا صليبية لم يستطع الساسة
العسكريون أن يخفوها بما يخفيها السياسيون المداهنون ، ألم يقل القائدالعسكرى البريطاني
اللبني سنة 1917 عبارته التي تؤكد الحق على الإسلام وهى : اليوم انتهت الحروب الصليبية
نعم بعد ستة قرون ما زال النصارى يتذكرون هزيمة المسلمون لهم .(39/6)
بل إن لويد جورج وزير الخارجية البريطاني أطلق على الحرب العالمية الأولى اسم : الحرب
الصليبية الثانية .
ولما دخل القائد العسكري الفرنسي إلى دمشق ووصل إلى قبر القائد المسلم ( صلاح الدين )
وقف يقول بشماتة : ها قد عدنا يا صلاح الدين( 6 ) .
وحين دخل الاستعمار بلاد المسلمين أراد أن يحكم المسلمين بغير الإسلام ، فطرد الشريعة
الإسلامية ، وأحل محلها القوانين الوضعية ، فلم يكن يجرؤ أي حاكم مهما ( طغى وتجبر أن
يلغى شريعة الإسلام في مجتمع المسلمين ، لم يستطع ذلك الحجاج الثقفي ، ولم يستطع ذلك
ظالم من الظلام ، قد يجور أو ينحرف في حكم من الأحكام ، لكن أن تعطل الشريعة ، وأن
يلغى حكم الله ، هذا ما لم يحدث في تاريخ المسلمين إلا بعد دخول الاستعمار ) (7) .
لقد تمكن الاستعمار الغربي من السيطرة التامة على المسلمين في آسيا وأفريقيا ، كما تمكن
من نفوذه إلى قلب العالم الإسلامي ومركزه الرسمي في منطقة الشرق ، وبذلك طوق العالم
الإسلامي من الشرق والغرب ، وسلط ألاعيبه ودسائسه على بقية التجمعات الإسلامية الأخرى
بين هذين الطرفين ( فوهنت هذه التجمعات ، وانحل عقدها ، وسقط بعضها إثر بعض تحت
نفوذ المستعمر الغربي ، وما جاءت الحرب العالمية الأولى وانقضى أجلها حتى اصبح العالم
الإسلامي كله تحت نفوذ هذا المستعمر ) ( 8 ) .
لقد فرضت على الشعوب الإسلامية قوانين بعيدة عنه ،بل وغريبة عليه .وحين تفرض على
الأمة مثل هذه القوانين يقع الاصطدام ،وتحصل الفجوة بين الشعب والقانون الذي يحكمه .
وكلما كان القانون نابعا من عقيدة الأمة وأهدافها الكريمة للحياة ،مجسدا لقيمها ،متجاوبا مع
أخلاقها وعاداتها وأعرافها (أدى أهدافه الكريمة في المجتمع عدلا وأمنا وقوة وازدهارا ،وكان
علاجا لمشكلاته ،محصنا له من العلل وأسباب الضعف المتوقعة ،وكان موجها للأمة ،مؤديا(39/7)
لأهدافه في تبصير الناس بحقوقهم وواجباتهم ،ذلك لأن استجابة الناس لأحكام القانون بسلطان
العقيدة والتقوى قبل سلطان ورقابة القضاء التي قد يحتال الناس عليها بمختلف الوسائل
والأساليب ،وخير القوانين ما كان مكتوبا في قلوب الناس وعقولها )(9) .
وكانت مصر أول دولة إسلامية تتحلل من أحكام الشريعة الإسلامية ،ويفرض عليها الأعداء
القوانين الوضعية ،فما إن وصل محمد على إلى حكم مصر حتى أرسل البعثات الخارجية إلى
فرنسا لدراسة القانون الوضعي سنة 1828،ولما عاد المبعوثون كانوا هم أول نواة رجال
القانون الوضعي في مصر ،حيث أنشأ مدرسة الحقوق من أجل دراسة القوانين الوضعية(10)
وبعد سقوط مصر تحت يد المحتل البريطاني ،رافق الغزو العسكري لها غزوا ثقافيا استهدف
تغيير هوية الأمة وخصائصها ومقوماتها ،بل وتغريبها ليقتل فيها خصائصها الذاتية ،وأسباب
وحدتها وقوتها واستقلالها ،وسلك لتحقيق هذه الأهداف الاستعمارية طريقين :
طريق القانون والتشريع ليستبدل بالقوانين الإسلامية قوانين غربية تفصل الأمة عن
أصولها الحضارية والفقهية والقانونية ،ويقطع ما بين الشعب والقانون الذي يحكمه عقيدة
وانتماء ،ويصوغ الأمة عن طريقه صياغة جديدة في مثلها وأهدافها ،وطريق حياتها .
طريق التربية والتعليم والتوجيه العام بالإذاعة والتلفاز والصحف وغيرهامن وسائل
الإعلام والثقافة ،ليصل إلى النتائج نفسها في تغريب الأمة والقضاء على معالم شخصيتها
الحضارية ،عقيدة وثقافة وحضارة وانتماء (11) .
وفى 27 يوليو سنة 1880 ألف مجلس النظار لجنة للنظر وإجراء المطالعات والتحضيرات
اللازمة بشأن إنشاء محاكم مختلطة .
وحين ننظر إلى أسماء من تم اختيارهم ،يتبين لنا على الفور مدى الحقد الدفين الذي يكنه
هؤلاء ومن وضعوهم للإسلام وأهله .من هؤلاء :
بطرس غالى وكيل وزارة العدل في ذلك الوقت .
ميخائيل كحيل سكرتير مجلس النظار .
قدري بك مستشارا بالمختلط .(39/8)
عبد السميع أفندي قاضى محكمة مصر المختلطة .
بوريللى بك رئيس قلم قضايا نظارة المالية .
مسيو آرا رئيس مجلس شورى الحكومة .
مسيو فاشيه النائب العمومي المختلط .
تجران بك وكيل نظارة الخارجية.
واللجنة التي تشكل على هذا الوجه ،وفى عضويتها وكيل أجنبي لوزارة الخارجية ،لا يمكن أن
تعمل إلا لتحقيق غرض سياسي يرضاه المستعمر .
ولم يختلف الأمر كثيرا بعد أن تشكلت اللجنة من جديد بتاريخ 7/11/188،فقد كان أعضاؤها:
إسماعيل يسرى باشا ،ومحمد أمين بك ،وحسن واصف بك ،وميخائيل كحيل ،ومسيو فاشيه
،وبطرس غالى ،وبوريللى بك ،والأربعة الآخرون أعضاء اللجنة السابقة .ولم يستطع قدري
باشا ناظر وزارة العدل في ذلك الوقت أن يتخلص من الأعضاء الأربعة الأخير ون .
ثم وقع الاحتلال البريطاني لمصر في 9 سبتمبر سنة 1881 ،لكي يبدأ حملة شعواء الشريعة
الإسلامية ،كي يبعدها عن مجال التطبيق ،ويأتي ببديل متمثل في فرض القوانين الفرنسية
منذ عام 1885. (وحينما طالب المصريون في مؤتمر جنيف 1937بأن تكون الشريعة
الإسلامية مصدرا للتشريع ، رفض أعداء الإسلام ،واشترطوا لإلغاء الامتيازات الأجنبية في
مصر أن تستمر القوانين الوضعية ،وأن تظل الشريعة الإسلامية بعيدة عن التطبيق )(12).
وبعد مرور عام على الاحتلال البريطاني لمصر ،فكر المحتل البريطاني في إنشاء محاكم
خاصة تطمئن الأوربيين وتنال ثقتهم ،وكان لابد من أن يمر هذا التعديل ،ففي 21ديسمبر سنة
1882انعقد مجلس النظار ،ودارت مناقشات انتهت بنتائج كان من أهمها :
تشكيل المحاكم مع إدخال بعض القضاة الأجانب في المحاكم المستجدة ،باعتبار قاض واحد في كل محكمة ابتدائية ،واثنين في كل محكمة استئنافية .
تتبع أمام المحاكم المستجدة القوانين المتبعة الآن أمام المحاكم المختلطة على ماهى عليه
،ما عدا قانون العقوبات ،وتحقيق الجنايات ،فإنه يصير تعديلهما بما يكون ملائما لحالة البلد (13) .(39/9)
وإدخال قضاة أجانب في بلد محتل معناه :أن هؤلاء القضاة أجانب مستوردون لحساب
الأجانب ،ثم إن فرنجة القضاء أملا في أن يرفعوا قضاياهم إلى المحاكم الوطنية لم يتم
،وانتهى الأمر بأن تفرنج القضاء المصري ولم يتمصر هؤلاء الذين أتوا بهم .
واستبدلت بالشريعة الإسلامية القوانين الغربية في مجالات القانون الثلاث :المدني ،والجنائي
،والإداري .
فأخذت مصر بالقانون المدني الفرنسي الذي صدر في 16/7/1948،واعتمد اعتمادا كليا أربع
مصادر هي :
التقنين المدني المصري ،الذي أخذ عن التقنين الفرنسي .
التقنيات اللاتينية ،كالتقنين الإيطالي ،والأسباني ،والبرتغالي .
التقنيات الجرمانية وأهمها ثلاثة :الألماني ،والنمساوي ،والسويسري .
الشريعة الإسلامية ،وقد أخذ بعض نظرياتها العامة وأحكامها .
وبهذا الكيد السافر وقعت الأمة في انفصالية خطيرة بين ما يسمى بالقضاء الشرعي وما سمى
بالقضاء الأهلي ،وما يستلزمه كل منهما من تشريع مختلف المصادر والوجهة ،حين قصر
الاحتلال القضاء الشرعي على ما سمى بالأحوال الشخصية ،أما بقية المعاملات الهامة من
تجارية ومالية وزراعية فقد أحالوها إلى القانون الفرنسي .وكان من أخبث أساليب التهوين
تسمية هذه المحاكم :بالأهلية .(إن الأهلي يقع في مقابله الأجنبي ،فكأن هذه المحاكم وطنية
أهلية ،لا أثر للأجنبي فيها ،وفى غمرة الإسم والشكل والمظهر نسى الناس الشريعة التي
فرضت عليهم ليتحاكموا إليها، وقد بلغت الغفلة مداها حين أدخل هذا الأمر على المسلمين
تحت دعاوى :الإصلاح التشريعي والقضائي ،وكان عماد هذا الخداع والتضليل تلك الطلائع
النكدة التي أشربت قلوبها ثقافة العدو وفكره ،والتي تعلمت في مدارسه ومعاهده )(14) .
ومن الغرابة أن تسمح إنجلترا بقيام التشريع والقضاء في مصر على أسس فرنسية واضحة
،مع ما في هذا من كسب ثقافي وفكري وحضاري لعدوتها اللدود التي كانت تشتبك معها في(39/10)
صراع شامل ، وتفسير الأمر واضح تماما في أنه ما دام (الهدف واحدا وهو ضرب الإسلام
،فإن الجهود تتناسق ،والأعمال تتوافق ،والخلافات تتناسى أمام هذا العدو المشترك )(15) .
ويتحدث الدكتور على عبد الواحد وافى عن قانون العقوبات وما أصابه من انحراف فيقول :
إن مظاهر الانحراف عن الإسلام في المجتمع المصري والعربي ترجع إلى نوعين :أولهما :
يتمثل في انحراف النظام والقوانين عن الإسلام .
وثانيهما :يتمثل في انحراف الأفراد في سلوكهم وحياتهم الخاصة ،والنوع الأول أشد خطرا
لأنه يؤدى إلى انحراف الأفراد ويصعب إصلاحه .وينقل الدكتور وافى على بعض مواد قانون
العقوبات المصري الخاصة بجرائم الزنا وهتك العرض ،ثم يذكر أنه يتبين من هذه المواد أن
الزانية لاتوقع عليها عقوبة إذا زنيت برضاها ولم تكن متزوجة ،أو كانت متزوجة ولم يرفع
زوجها الدعوى عليها ،أو رفعها ولم تسمع منه ،أو سمعت منه ولكنه أوقف الإجراءات ،كما
أن الزاني لا يعاقب إذا زنى بامرأة غير متزوجة برضاها ،أو متزوجة ولكن زوجها لم يرفع
الدعوى ،أو رفعها ولم تسع منه ،وإذا زنى الزوج خارج منزل الزوجية فإنه لا يعاقب هذه
المواد وغيرها كما يذكر الدكتور وافى مقتبسة بنصها مع تغيير يسير من قانون العقوبات
الفرنسي ،ومن هذا القانون نفسه استمدت معظم القوانين الأوربية والأمريكية موادها الخاصة
بهذه الجرائم ،أو جاءت موادها متفقفة مع مواده في كثير من الوجوه. ويضرب الدكتور وافى
أمثلة عدة تبين مدى الانحراف والفوضى الجنسية والإباحة المنتشرة لدى الغربيين ،ثم يقول :
فإذا جاءت قوانينهم فقررت أن هذه الجرائم لا عقوبة فيها ما دامت ترتكب برضا الطرفين
،وأن زنا الزوجة نفسه لا عقوبة فيه ما دام قد ارتكب برضا الزوج ،فإنها بذلك تعبر عن
تقاليدهم وعرفهم الخلقي ، ومقايسيهم للفضيلة والرذيلة ، أما نحن فإننا لم نصل بعد إلى هذه(39/11)
الدرجة من الحضارة ، ونسأل الله تعالى ألا نصل عليها ، فلا تزال مسائل العرض عندنا من
أهم المسائل التي تشغلنا ، ولا يزال الناس يتقاتلون ويقتلون في سبيل المحافظة على العرض
والزود عنه ( 16 ) .
ومن هنا يتبين لنا أثر الاستعمار الغربي على حياة المصريين ، ودفعهم إلى سن قوانين تخالف
أخلاقهم وعرفهم الاجتماعي ، فضلا عن مخالفتها لدينهم وشريعتهم .
وإن دراسة لجرائم القتل التي تتعرض فيها الزوجة والبنت والأخت في كثير من البلاد
الإسلامية للقتل بسبب هتك العرض تزيدنا إيمانا لأن ما يصلح للمجتمع الغربي لا يصلح في
مجتمع إسلامي ، وأن القانون الذي لم يرع طبائع الشعوب وعاداتها لا يؤدى رسالته ، وبدل
أن يكون حاميا للأمن في المجتمع يكون باعثا للذعر والجريمة .
ومع أننا قد تحررنا من المستعمر الذي فرض علينا قوانينه ونظمه إلا أننا ما زلنا بعيدين عن
الشريعة الإسلامية ، وما زلنا مستعمرين فكريا وقانونيا . إن الاستعمار كما يقول الأستاذ
أنور الجندي لم يحقق الجلاء العسكري إلا وقد حقق أكبر أهدافه في فرض نفوذ دائم مستمر،
واستبقاء هذا النفوذ عن طريق تغريب الثقافة والفكر الإسلامي وسلخ مقوماتهما ، وإضفاء
مقومات الفكر الغربي والثقافة الغربية عليهما ، بحيث ينتزع من هذه الأمة مقدراتها النفسية
والعقلية على مقاومته ، أو معارضته أو التخلص منه ، وإحلال روح من التقبل والتشبع به ،
هذه الروح تحمل في طياتها أيضا الغض من شأن التراث واللغة العربية والشريعة الإسلامية .
إن أمتنا كي تحقق ذاتها لابد أن تكشف هذه الصفحة الهامة من صفحات النفوذ الاستعماري[17] .
المبحث الثالث : العلمانية ودورها في تنحية الشريعة عن مجال التطبيق .
الحداثة والتحديث أصبحت من المصطلحات التي تستخدم كبديل أو مرادف للعلمانية والتغريب.
وتستعمل كلمة الحداثة لوصف الخصائص المشتركة للبلدان الأكثر تقدما على صعيد التنمية(39/12)
السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، أما التحديث فإنه يستخدم لوصف العمليات التي
بواسطتها تكتسب هذه المستويات من التنمية ، ومن ثم يصبح التحديث عبارة عن المحاولات
التي تستهدف تحقيق النماذج الغربية ، وإعادة إنتاجها واستنساخها دون المشاركة في صنعها.
وهذا الفهم للحداثة يبقى في مجمله مرتبطا بالسياق الثقافي للغرب ،ويطابق بين الحداثة
والغرب بحيث لا ينظر إلى تجارب الآخرين إلا بوصفها تكرارا للنماذج الغربية .وأهم ما
يميز الحداثة هو التغير المستمر ،والثورة على القديم ،وطغيان العقلانية ،والليبرالية ،وعبادة
العلم والتقنية والنزعة الإنسانية ، ولكن أهم ما يميزها وهو ما يتصل بموضوعنا –هو ثورتها
على التراث المسيحي والكتب المقدسة التي أخضعتها لحركة نقدية تستهدف إسقاط قداستها،
واستبعادها من مجال الحياة بكل ما تحمله من قيم ونظم وعقائد وأخلاق .فقد كان سلاح
الحداثة المفضل هو النقد التاريخي للنصوص –كل النصوص بما فيها من نصوص مقدسة ،في
محاولة لإزاحتها عن طريق الحداثة تحت إعلاء النزعة الإنسانية التي أعلنت موت الإله طبقا
لمقولة (نيتشه)في القرن التاسع عشر .وهكذا انتقلت المركزية إلى الإنسان كمشرع ومنظم
وواضع للقيم .
وقد تأثر فريق من المفكرين العرب الذين تعلموا في الغرب وتشربوا فكره بهذا المشروع ،
فتبنو ه كمشروع نهضوى للعالم الإسلامي،حيث دعوا إلى تبنى موقف الغرب من الدين
والتراث بحجة أن الغرب قد تقدم لأنه استبعد الدين من حياته .
وهكذا دعوا إلى العلمانية ،بمعنى إبعاد الدين عن الدولة والنظام الذي يحكمه المجتمع ،مع عدم
الاعتراف بشرعية الله وحكمه ،وترك مسائل التشريع للعقل البشرى الذي يحكم فيها بما يريد
،مع تحديد دور رجال الدين في تعليم الشعائر التعبدية وربما الأمور الشخصية .
وأستطيع أن أقسم العلمانيين في مصر إلى قسمين :
1-علمانيين ليبراليين .
2-علمانيين متطرفين .(39/13)
أما العلمانيون الليبراليون ،فهم الفريق الذي تأثر بالجانب العقلاني من مشروع الشيخ محمد
عبده ،وبالدعوة إلى الاستفادة من الحضارة الغربية في مشروع رفاعة الطهطاوى ،مع إهمال
الجانب الإسلامي في المشروعين معا .
ومن هنا نادى الليبراليون بالحرية والديمقراطية الغربية ،والتحديث ،والحكم النيابي ،كما نادوا
بمفهوم جديد للأمة لا يستند إلى العقيدة الإسلامية ،وإنما إلى الرابطة الوطنية التي سبق أن
أسسها رفاعة الطهطاوى .كما أنهم اعتبروا النظام الأوربي هو المثل الأعلى ،وأن التغريب
هو الطريق إلى التقدم ،كما وقفوا من التراث الإسلامي موقفا سلبيا ونظروا إليه كتراث وطني
دون اعتباره مصدرا تشريعيا .ومن هنا استطاع المستعمر أن يصنع على عينيه رجالا من
أبناء مصر يسيرون في خطته وينهجون نهجه ،ويتبنون أفكاره بعد رحيله من خلال العمل
على تنحية الشريعة عن مجال التطبيق.
وأول من نادى بهذا المشروع في العالم العربي هو (الخديوي إسماعيل )الذي أعلن عن رغبته
في جعل مصر قطعة من أوربا ،واستوزر (أرمنيا )هو (نوبار باشا )الذي استبدل القوانين
الوضعية بأحكام الشريعة الإسلامية (19).
كما ساعد على نشر عدد كبير من المدارس العلمانية في مصر ،وكون أصحاب هذا المشروع
ما عرف بحزب الأمة أو حزب (الأعيان والخاصة)الذي هادن الإنجليز معتبرا أن الاحتلال
أقل خطرا من حكم الطغيان والاستبداد وكان من زعماء هذا التيار : قاسم أمين الذي نادى
بخروج المرأة على القيم الإسلامية تحت عنوان : تحرير المرأة ، ومحمد حسين هيكل ،
وعلى عبد الرازق الذي دعا إلى فصل الدين عن الدولة بكتابة : الإسلام وأصول الحكم .
وغير هؤلاء كثيرون وهكذا تميز المشروع الليبرالي بالخصائص التالية :.
أن النموذج الغربي هو النموذج السياسي الأمثل للتطبيق في المجتمع المصري .
اعتبار النزعة الوطنية هي البديل عن النزعة القومية والرابطة الإسلامية .(39/14)
إهمال الشرع الإسلامي والوقوف منه موقفا فاترا ، وهو وان كان قد حاول أن يستبعد
الفكر والخطاب الديني من مجال الحياة العامة ، إلا أن هذا الاستبعاد لم يكن صادرا عن
موقف عدائي واضح أو إلحادي من الدين ، بل كان كل هم رموزه تحويل الدولة إلى دولة
ليبرالية لا سلطان للدين عليها ، انطلاقا من كلمتهم المشهورة ( الدين لله والوطن للجميع )
تبنى شعارات الماسونية التي كانت تنادى بالحرية والإخاء والمساواة ، ولا يخفى على
المتتبع لتاريخ الفكر الليبرالي مدى العلاقة الوثيقة بين رموز هذا المشروع وبين التنظيمات
الماسونية ( 20 ) وسوف نمثل لذلك بعلماني يساري مصري هو الدكتور / حسن حنفي .
وأما التيار الثاني من تيارات المشروع العلماني ، فيمثله العلمانيون المتطرفون الذين لم يقفوا
عند حدود المطالبة بإبعاد الإسلام والشريعة عن مجال الحياة ، وانما حاولوا الطعن في ثوابت
الإسلام ومرجعيا ته الأساسية وهى الكتاب والسنة ، تحت دعوى العلمية والمنهجية ، وحاولوا
تطبيق آليات الفكر الغربي في تعامله مع كتبه المقدسة ، والتي حاول إسقاط تاج القداسة عنها،
لاعتبارات خاصة وظروف تاريخية حكمت الصراع بين رجال الكنيسة ورجال العلم ، واهم
من نحى هذا المنحى / طه حسين .
حياته :
بدأ حياته العلمية في الأزهر الشريف ، ثم سافر إلى فرنسا ، وتتلمذ على يد المستشرقين ، ثم
حصل على الدكتوراه من جامعة السربون ، وقد أعجب بنمط الحياة الغربية ، وتزوج من
امرأة نصرانية فرنسية ،ولما عاد إلى مصر بدأ يدعو إلى العلمانية ، واحياء النزعة الوطنية،
وحارب التعليم الأزهري ودعا إلى تطويره بما يتفق والمناهج العلمانية ، ووقف ضد الدعوة
إلى توحيد المسلمين على أساس من العقيدة . بل نص في كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر )
على أن من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة
اللغة لا تصلحان أساسا للوحدة السياسية ، ولا قواما لتكوين الدول ( 21 ) .(39/15)
موقفه من الشريعة الإسلامية :
لقد عبر عن موقفه المعادى للدين والشرع من خلال كتابه ( في الشعر الجاهلي )
الذي دعا لتطبيق منهج الشك الديكارتى على القرآن الكريم ، والنظر إليه كنص مجرد لا فرق
بينه وبين أي نص أدبي يمكن تحليله عقليا وتاريخيا ، وقد انتهى من تحليله إلى أن القرآن ليس
كتابا سماويا وإنما كتابا وضعه محمد صلى الله عليه وسلم متأثرا بالبيئة والظروف
الاجتماعية، كما ادعى أنه قد تأثر باليهودية في المدينة المنورة .
وأما منهجه في التعامل مع النصوص القرآنية والشريعة الإسلامية فقد عبر عنه بقوله : لنجتهد
في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم ، ولا مكترثين بنصر
الإسلام أو النعي عليه ، ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي ، ولا
وجلين حيث انتهى بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية ، أو تنفر منه الأهواء السياسية ، أو
تكرهه العاطفة الدينية ، فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد فليس من شك في أننا سنصل
ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء ( 22 ) .
وبناء على هذا المنهج ادعى أن في القرآن روايات أسطورية ومنها قصة إسماعيل وإبراهيم
وبنائهما للكعبة حيث قال : للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن ان يحدثنا
عنهما أيضا ، ولكن ورود هذين الاثنين في التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما
التاريخي ( 23 ) .
كذلك أنكر طه حسين الشعر الجاهلي في محاولة خبيثة للطعن في إعجاز القرآن الكريم ، لأن
الشعر الجاهلي هو الشاهد والبرهان على أن القرآن قد تحدى أمة مطبوعة على البلاغة
والفصاحة ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثله ، فإذا ما شكك المضللون في وجود الشعر
الجاهلي ، فانهم بذلك يهدمون مقدمة أساسية من مقدمات الدليل على إعجاز القرآن .
وهكذا كان طه حسين من الرعيل الأول الذي نقد الشريعة متمثلة في القرآن والسنة نقدا(39/16)
مباشرا على أساس من آليات الفكر الغربي الذي تلقاه في السربون ، ليصل من خلال ذلك إلى
الطعن في تنحية الشريعة والقضاء الشرعي .
وأعداء الإسلام لا يستطيعون أن يقولوا لنا اتركوا منهج الله وشريعته ، ولكنهم دفعونا ( إلى
الكفر بها من طريق آخر حين فرضوا علينا قوانينهم ونظمهم وعزلوا تشريعاتنا ونظمنا)(24)
وعلى الرغم من هذه الفترة الطويلة في تطبيق المشروع العلماني في مصر ، إلا أنه لم يحقق
شيئا مما وعد به العلمانيون من التقدم التقني أو الرفاهية ، أو الحرية ، أو حقوق الإنسان ، أو
الديمقراطية . فما تزال مصر متأخرة على جميع المستويات العلمية والتقنية ، وصدقت عليها
مقولة الشيخ محمد عبده : إن أوروبا قد تركت دينها ولكنها ربحت دنياها وأما نحن فقد خسرنا
ديننا ودنيانا معا . ولن تتحرر مصر ثقافيا ، وإنما استمر الاستعمار الثقافي ومؤسساته يقومان
بعملهما على خير وجه . ولم تتحقق الرفاهية ، بل زاد الفقر والحاجة ، مما أوقع البلاد فى
مصيدة القروض الأجنبية التي أوقعت البلاد في استعمار من نوع جديد .
وهكذا فشل طه حسين فيما دعا إليه ، لأنه مناهض لهوية الأمة ، ويشكل انقطاعا في تلك
الهوية النابعة من ديننا الإسلامي . وما دعا إليه يكرر الدور الثقافي للاستعمار الغربي الذي
عمل جاهدا على أن يقطع الصلة بين المسلمين وبين تراثهم متمثلا في شرع الله وفى قضائه،
حتى يفقدوا توازنهم وذاتيتهم المستقلة التي كانت تعطيهم الشحنة الكافية لمواجهة التحديات .
أما النفر الثاني من العلمانيين فيمثلهم / الدكتور حسن حنفي .
حياته :
ولد الدكتور حسن حنفي في القاهرة عام 1935 ، وتخرج من جامعة القاهرة عام 1965 ،
وانضم في شبابه إلى جماعة الإخوان المسلمين ، ثم انشغل بالتيار الاشتراكي الذي تبنته
الثورة المصرية ، ثم سافر إلى فرنسا ، وهناك أعجب بدين العقل والطبيعة ودين الإنسان عند(39/17)
( فوير باخ ) و( ليسنج ) كما أعجب بفلسفة ( هوسرل ) ثم حصل على الدكتوراه من جامعة
السربون في موضوع : مناهج التفسير وتفسير الظاهريان ( 25 ) .
أي كيفية تفسير النص القانوني والأدبي والديني والتراث الشعبي . وبذلك يعتبر من الرعيل
الأول في العالم العربي ممن طبقوا على النص الديني آليات النص البشرى ، ولم يسبقوا في
هذا المجال إلا / طه حسين .
وتتلخص دعوته في محاربة القضاء الشرعي في أنه لا فرق عنده بين الإسلام واليهودية
والمسيحية ، بل التراث يجمع حتى التراث السامي القديم : الفرعوني ، والآشوري ، والبابلي،
والكلداني ( 26 ) . كما أن التراث عنده ليس له وجود مستقل عن الواقع ، وإنما هو استجابة
لواقع يتغير ويتبدل . فالواقع هو الذي أنتج التراث ، لأنه أسبق من الفكر بما في ذلك الأصول
الأولى التي نشأ عنها : الكتاب والسنة والوحي ،( فالواقع هو أساسها ، فالدين جزء من التراث
لأنه لا يوجد دين في ذاته ، بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر فى لحظة تاريخية محدودة ،
ويمكن تطويره طبقا للحظة تاريخية أخرى ) ( 27 )
إذا : فالوحي أنتجه الواقع ، وبالتالي فليس له مصدر إلهي لأنه فكر . كذلك رفض حسن حنفي
لغة التراث القديمة ، وطالب بأن تكون اللغة لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة حتى
يمكن ضبط معانيها ، والرجوع إلى واقع واحد يكون محكما للمعاني ، ومرجعا إذا تعارضت
وتضاربت . فألفاظ مثل ( الله – النبوة – الرسول الملائكة – البعث – القيامة – الصراط –
الحوض ) وكل ما يدخل تحت مفهوم السمعيات والغيبيات هي ألفاظ تجاوز الحس والمشاهدة
ولذلك لا يمكن استعمالها ، لأنها لا تشير إلى واقع حسي ، والأصل أن اللغة تنشأ من الحس
وتخرج من الواقع ، ولا يوجد معنى للفظ إلا وقد نشأ من التربة والطين والأرض ( 28 ) .
فلفظ ( الله ) مثلا هو لفظ لا يعبر عن معنى معين ، فهو صرخة وجودية أكثر منه معنى(39/18)
محدد يمكن أن تعبر عنه بلفظ من ألفاظ اللغة ، أبصورة من صور العقل ، فهو رد فعل لحالة
نفسية ، أو عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن مقصد ، فكل ما تعتقده ثم تعظمه تعويضا عن فقد
يكون في الحس الشعبي هو ( الله ) ، كلما حاقت بنا المصائب نقول( الله ) فالله عند الجائع
هو الرغيف ، وعند المستعبد هو الحرية ، وعند المظلوم هو العدل ، وعند المحروم عاطفيا
هو الحب . الله هو الأرض ، والتنمية والتقدم ، هو لفظ نعبر به عن صرخات الألم وصيحات
الفرح ، هو مجرد تعبير أدبي أكثر منه وصفا لواقع ( 29) . وبدلا من الله نستخدم لفظ
(الإنسان الكامل) الذي يجمع كل صفات الله من العلم والقدرة والحياة ، فكل صفات الله
واسمائه الحسنى هي آمال الإنسان وغايته التي يصبو إليها ، ومن هنا يكون الإنسان الكامل
أكثر تعبيرا من لفظ الله ( 30 ) . وهكذا علينا أن نفعل مع سائر المصطلحات الغيبية ، نعبر
عنها بكلمات واقعية ، وبذلك نكون قد حققنا هدفا آخر وهو التمركز حول الإنسان ، بدلا من
التمركز حول الله ( 31 ) .
كما أن المعاني القديمة في التراث يمكن أن نخلق لها ألفاظا جديدة .(فتوحيد الله بالمعنى القديم
يمكن أن نعبر عنه بتوحيد الأمة ،ولاهوت الأرض ،ولاهوت الثورة ،ولاهوت التنمية،ولاهوت
التقدم )(32).
وحين يفرق بين اليمين واليسار ،نراه يفرق تفرقة عجيبة فيقول : (اليمين تقوم العقيدة عنده
على أساس :أشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله ،أما اليسار فيقوم على أساس :أشهد
أن الإنسان حر مستقل له عقل وإرادة وأنني هو ذلك الإنسان ) (33).
اليمين يؤمن بحدوث العالم لكي يثبت محدثه القديم ،بينما اليسار يؤمن بقدم العالم وبقائه
وقوانين الطبيعة .اليمين يؤمن بإله موصوف بالقدم والبقاء والمخالفة للحوادث والوحدانية،بينما
اليسار يؤمن بالإنسان الذي لايشك في وجوده أحد ،ولا يقدر على إعدامه شيء،فهو الحقيقة(39/19)
الأزلية التي لايمكن الشك فيها ،ومن هنا فالشهادة والاعتراف ينبغي أن توجه إلى الإنسان
وليس إلى الله ،اليمين يؤمن بأن الله موصوف بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر ،ومن ثم
ينتزع من الإنسان أهم صفاته لحساب الصفات الإلهية ،بينما يؤمن اليسار بأن الإنسان هو
الموجود الوحيد الموصوف بهذه الصفات ،وأنه ليس هناك أي كائن آخر يمكن أن يتصف بها.
اليمين يؤمن بقضاء الله وقدره ،بينما اليسار يؤمن بأن للإنسان إرادة لا تحدها إرادة ،وقدرة
ليس فوقها قدرة ،اليمين يؤمن بالوحي الشفوي الذي يهدر سلطة العقل ،بينما اليسار يؤمن
بالعقل كأساس ويقدمه على سلطة النقل .اليمين يؤمن بالنبوات وسلطتها الدائمة ،بينما يؤمن
اليسار باستقلال الإنسان ومدى قدرته العقلية التي لم تعد مستعدة للخضوع لأي سلطة أخرى .
اليمين يؤمن بالبعث بعد الموت ،ويخوف الناس من أهوال يوم القيامة ويرغبهم في الجنة لكي
يسلبهم حاصرهم ،بينما اليسار يؤمن بأن كل هذه العقائد هي مجرد تصوير فني ومجاز من
عالم الأمل الذي يعيشه الإنسان ،وهو يؤمن بتحقق عالم أفضل في هذه الحياة .اليمين يؤمن
بحاكمية الله وشرعه ،بينما يؤمن اليسار بحاكمية الشعب )(34).
وبعد أن يفرق الدكتور حسن حنفي من هذه المقارنة ،يزعم أن هذا الموقف هو الذي تبناه
المصلحون الاجتماعيون بدءا من الأفغاني وإقبال ومحمد عبده ومحمد بن عبد الوهاب
وغيرهم(35) .
بل يدعى أنه الموقف الذي أسسه المعتزلة في مقابل المذهب الأشعرى الذي مثل اليمين .
ولقد كذب الدكتور حسن حنفي فيما افتراه على المعتزلة ،وزعماء الإصلاح ،فلم ينكر المعتزلة
ولا زعماء الإصلاح وجود الله والسمعيات وغيرها من حقائق العقيدة ،بل قال واصل بن
عطاء مؤسس مذهب المعتزلة :الحق يعرف من وجوه أربعة :كتاب ناطق ،وخبر مجمع عليه
وحجة عقل ،أو إجماع من الأمة (36).
ولم يثبت عن واحد من أتباعه الملتزمين بأصول المذهب أنه أنكر حقائق العقيدة الإسلامية ،(39/20)
ولا شرع الله ولا قضائه .نعم ربما اضطروا إلى تأويل بعضها بهدف التنزيه ،ولكنهم كانوا
داخل دائرة الإسلام .
وأما زعماء الإصلاح فقد كانوا كلهم أقرب إلى عقيدة السلف ،ولم يقل واحد منهم بما قال به
حسن حنفي .
-فإذا كان منهج الأفغاني ومن جاءوا بعده هو جمع الناس حول الإسلام من خلال الالتزام
بالشرع الإسلامي ،واستعادة سيرة السلف الصالح ،فإن منهج حسن حنفي يدعو إلى تجاوز
الكتاب والسنة والقضاء على الشرع الإسلامي .
وإذا كان الأفغاني والشيخ محمد عبده قد دعوا إلى الالتزام بالنقل والعقل معا وتطبيق شرع الله
بين الناس مع تحرير الفكر من قيد التقليد ،فإن منهج حسن حنفي هو الالتزام بالعقل دون النقل
ورفض الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلا .
وإذا كان منهج زعماء الإصلاح هو إحياء الأمة وفق شرع ربها ،مع الحفاظ على العقيدة
الإسلامية وفهمها فهما على طريقة سلف الأمة ،فإن منهج حسن حنفي كان يعنى بالتحديد :
الإلغاء والتفريغ ،واستبدال العقيدة والشريعة بعقائد وشرائع جديدة ،مع إحياء النزعات الهدامة
في تاريخ الإسلام .
إن الإسلام كل متكامل ،والشريعة فيه لا تنفصل عن العقيدة ،والعمل فيه لا يمكن أن يقوم
بدون الإيمان ،ولا يمكن للإنسان أن يتحدث عن إسلام بدون هداية ربانية ،وبدون كتاب وسنة
ولا إيمان بالنبوات ،ولابالوحى .
إن الحديث عن إسلام بدون هذه الثوابت هو حديث خرافة.وما قال به حسن حنفي أسطورة
ابتدعها في محاولة منه لجمع متنا قضته الفكرية والدينية .
وبالجملة فإن العلمانيين يقبلون بالقانون الوضعي الذي ليس له في أرضنا تاريخ ولا جذور ولا
قبول عام ،وترفض الشريعة التي تدين أغلبية الأمة بر بانيتها ،وعدالتها ،وكمالها ،وخلودها
،وتحس بالإثم والقلق إذا عرضت عن أحكامها .
هوامش البحث
1- إحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام د/ سعد الدين صالح القاهرة 1995 ط3 ص 199
-راجع تربية الناشئ المسلم د/ على عبد الحليم محمود القاهرة 1992 ص26 .(39/21)
3- إحياء علوم الدين ج1 ص 19 .
4-الثقافة الإسلامية د/ مصطفى مسلم ، د/ فتحي الزغبي بيروت الشارقة مؤسسة الرسالة
ودار البشير 2004 ج1 ص 318 .
الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر مشكلات الأسرة والتكافل د/محمد البهىالقاهرة 1982 مكتبة وهبة ط3 ص42 .
6- قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله/ جلال العالم ص 28 .
7- الجزء الثاني من خطب الدكتور القرضاوى القاهرة 1998 ط1 ص 284 .
8- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي د/ محمد البهي القاهرة 1991 مكتبة
وهبة ط12 ص23 .
9- كتاب الفكر الإسلامي إصدار جامعة الإمارات العربية المتحدة ص 645 .
10- احذروا الأساليب الحديثة ص210 .
11- كتاب الفكر الإسلامي ص646 .
12- المشروعية الإسلامية العليا د/ على جريشة القاهرة 1985 ص 106.
13- نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات في الفكر الإسلامي /المستشار عبد الحليم الجندي
إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ص 73 .
14- الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ضمن بحوث مؤتمر الإمام محمد بن سعود
1396 د/ على عبد الحليم محمود ص 240 .
15- السابق ص 241 .
16- الإسلام في المجتمع العربي الكويت نشر مكتبة المنار ص 170 .
17- الإسلام في وجه التغريب أ/أنور الجندي القاهرة بدون دار الاعتصام ص 132 .
18- راجع ص 208 من كتاب أزمة التنوير ( شر عنة الفوات الحضاري ) د/ عبد الرازق عيد دمشق 1977 .
19- حقيقة القومية العربية فضيلة الشيخ محمد الغالي القاهرة 1978 ص 171 .
20- راجع بالتفصيل ص 95 وما بعدها من : العلمنة من منظور مختلف عزيز العظمة
بيروت 1992 .
21- راجع ص 16من كتابه مستقبل الثقافة في مصر .
22- في الشعر الجاهلي طه حسين القاهرة 1926 ص14 .
23- السابق ص 26 .
24- احذروا الأساليب الحديثة د/ سعد صالح ص 229 .
25-راجع السيرة الذاتية التي كتبها د/ حسن حنفي لنفسه في كتابه :الدين والدولة في مصر
ج6 ص 232 ، ج7 ص 315 القاهرة .(39/22)
26- التراث والتجديد د/ حسن حنفي بيروت 1992 ص30 .
27- السابق ص 24 .
28- السابق ص121 .
29- السابق ص 113 ، 114 .
30 – السابق ص138 .
31- السابق ص122 .
32- السابق ص139 ، قارن ص 209 ج2 من الدين والثورة حين يتحدث عن جرأته في
العقيدة وضرورة الانتقال من الله المشخص إلى الله المبدأ العقل الشامل الذي تتوحد أمامه قوى
الإنسان الفكرية والقولية والوجدانية .
33- الدين والدولة ج7 ص161 .
34- السابق ج7 ص 4 –28 .
35 – السابق ص 37 .
36- المدخل لدراسة علم الكلام د/ حسن الشافعي القاهرة 1991 ص139.
المصادر
إحذروا الأساليب الحديثة في مواجهة الإسلام د/ سعد الدين السيد صالح القاهرة 1995 ط3 .
تربية الناشئ المسلم د/ على عبد الحليم محمود القاهرة 1992 .
إحياء علوم الدين للغزالى القاهرة بدون .
الثقافة الإسلامية د/ مصطفى مسلم ، د/ فتحي الزغبي بيروت والشارقة مؤسسة الرسالة ودار البشير 2004 ط1 .
الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر مشكلات الأسرة والتكافل د/ محمد البهي القاهرة 1982 مكتبة وهبة ط3 .
قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله جلال العالم بدون .
الجزء الثاني من خطب الدكتور القرضاوى القاهرة 1998 ط1 .
الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي د/ محمد البهي القاهرة 1991 مكتبة وهبة ط12 .
كتاب الفكر الإسلامي إصدار جامعة الإمارات العربية تأليف نخبة من أساتذة الجامعة 1995 .
المشروعية الإسلامية العليا د/ على جريشة القاهرة 1985.
نحو تقنين جديد للمعاملات والعقوبات في الفقه الإسلامي المستشار عبد الحليم الجندي إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية .
الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ضمن بحوث مؤتمر الإمام محمد بن سعود 1396 .
الإسلام في المجتمع العربىد/ على عبد الواحد وافى الكويت نشر مكتبة المنار .
الإسلام في وجه التغريب الأستاذ أنور الجندي القاهرة بدون دار الاعتصام .(39/23)
حقيقة القومية العربية الشيخ محمد الغزالى القاهرة 1978 .
العلمنة من منظور مختلف د/ عزيز العظمة بيروت 1992 .
مستقبل الثقافة في مصرد/ طه حسين القاهرة بدون .
في الشعر الجاهلي د/ طه حسين القاهرة 1926 .
الدين والدولة في مصر د/ حسن حنفي القاهرة 1988 .
التراث والتجديد د/ حسن حنفي بيروت 1992 .
مدخل لدراسة علم الكلام د/ حسن الشافعي القاهرة 1991 .
……(39/24)
قضاة الشرع في العصر الحاضر
مكانتهم – شروطهم – حقوقهم – واجباتهم - درجاتهم
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، وأكمل لنا الشرع القويم، ليكون شريعة كاملة وتامة للناس أجمعين، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمة للعالمين، الذي بيّن أحكام الدين، ثم أشرف على تطبيقها عملياً، وأسهم في فصل المنازعات، وإنهاء الخصومات، وإحقاق الحق، فكان أول قاضٍ في الإسلام، وبعد:
فإن الشريعة حقوق وواجبات، وكثيراً ما يقع الخلاف بين الناس في ذلك، فأقام الإسلام القضاء لحل الخلافات، ومنع العدوان، وتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم سدّة القضاء بالحق والعدل، وعيَّن النجباء من صحابته لتولي القضاء في الأقطار والولايات، وفي المدن والأمصار، وحتى في المدينة، وبحضوره، ليدربهم على عملية القضاء، ويرشدهم لإجراءاته، ويعلمهم أصول التقاضي، وإقامة الشرع، وقام الخلفاء من بعده بهذه المهمة الجليلة التي تمثل الصورة الموازية لمعرفة أحكام الله تعالى نظرياً، وتؤكد صلتها بالدولة الإسلامية التي يعتمد عليها القضاء المقترن بالسلطة والقوة للتنفيذ والالتزام، وصار القضاء علماً مهماً، وأفرد له الفقهاء أبواباً في كتبهم، وخصّه كثير من العلماء بالتأليف والتصنيف، ومنها: كتب أدب القضاة، وآداب القضاء، وأدب القاضي، وتبصرة الحكام، وكان القضاة في الدولة الإسلامية مضرب المثل في النزاهة والعدالة والاستقامة وإقامة العدل، وبيان الحق لصاحبه، فكانوا أحد الأسباب للدعوة للدّين الحق، والترغيب بالإسلام، والدخول فيه.
وكان القاضي ذا اختصاص عام غالباً، ويفصل في جميع المنازعات، مع ظهور التخصصات أحياناً، وكان يعرف بقاضي الشرع.(40/1)
وفي العصور الأخيرة تأكد الاختصاص القضائي، وتعددت التشريعات والأنظمة والقوانين، وصار القاضي الشرعي محدَّد الاختصاص – في أغلب البلاد العربية والإسلامية – بأحكام الأسرة، وما يعرف بالأحوال الشخصية، مع إضافة بعض الاختصاصات له أحياناً كالحدود والقصاص والديات وغيرها، وصار القاضي الشرعي قريناً للقاضي المدني، والقاضي الجنائي، والقاضي التجاري، ويشاركهم غالباً في شروط التعيين والحقوق والواجبات، وفي إجراءات المحاكمة، وفي معظم الأعمال، ولكنه ينفرد عن الجميع بالالتزام بالشرع والدِّين، وقد ينفرد القضاء الشرعي في موضوع تعدد القضاة، وفي درجات التقاضي، في بعض البلاد.
ولذلك اخترت موضوع "قضاة الشرع في العصر الحاضر" للبحث فيه حسب الخطة التالية:
المبحث الأول: مكانة القضاة.
المبحث الثاني: شروط قضاة الشرع في العصر الحاضر.
المبحث الثالث: حقوق قضاة الشرع في العصر الحاضر.
المبحث الرابع: واجبات قضاة الشرع في العصر الحاضر.
المبحث الخامس: درجات قضاة الشرع وتصنيفهم في العصر الحاضر.
الخاتمة في نتائج البحث والتوصيات والمقترحات.
وكان منهج البحث استقرائياً من كتب الفقه الإسلامي، ومقارناً بين المذاهب الفقهية، وموازياً بين الشريعة والأنظمة والقوانين المعاصرة، مع ضرب الأمثلة العملية من بعض البلاد العربية، والنماذج التطبيقية التي يجري عليها العمل في هذه البلاد.(40/2)
وأسأل الله التوفيق والسداد لعرض هذا الموضوع، للتأكيد على خلود الشريعة الإسلامية، وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، وأسبقيتها للشرائع والقوانين المعاصرة، واستيعابها للمستجدات والأمور الطارئة، ومعالجتها للتطور السريع، وتكيفها مع الواقع المتغير، والحياة المعاصرة، ومواكبتها لحاجات الأمة والمجتمع والأفراد، لتأمين الهدف الأسمى من القضاء وهو المحافظة على الحقوق، وردّها لأصحابها، ومنع الاعتداء عليها، وإنزال العقوبات على المخالفين والخارجين عن الأحكام، ليسود العدل، ويتحقق الأمن، وتُحفظ الأموال والأنفس، وفي ذلك دعوة، وإلحاح، للعودة الكاملة إلى دين الله وشرعه القويم، وللالتزام بأحكام الشريعة موضوعياً وأصولياً أو إجرائياً، لينعم آخر هذه الأمة بما سعد به أولها، وتعود شريعة الله لتحكم أرض الله، وعباد الله، ويومئذ يظفر المؤمنون بنصر الله وسعادته في الدنيا والآخرة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول
مكانة القضاة
إن القضاء يعتمد – عادة – على المكان، والتشريع، والإنسان، ويتناول القضاء المتخاصمين، ووسائل الإثبات، وأعوان القضاة من الموظفين، ثم القضاة، ويتبوأ القضاة المكانة السامية، والمركز الرفيع، وهم قطب الرحى، والمنارة الوضاءة، والركيزة الحاسمة، والدعامة المتينة، والجانب القوي الذي يطمئن له النّاس، ويضعون به الثقة، وتتحقق عن طريقه الآمال، ويقام به العدل، وينصف الناس، وتحمى الحقوق.(40/3)
وهذا يتفق مع المنهج الإسلامي في التركيز على العنصر البشري المهم والأساسي في تحقيق الأداء في جميع المجالات، ليس على مجرد الأمور المادية، ولا التشريعية، ولا على مجرد الأحكام، ولو كانت سماوية، فالعبرة في الجهاد والقتال للجندي والقادة، والمهم في التعليم المدرس والمعلم، والأمل في الحكم والدولة بالإمام والخليفة، وهكذا، ولذلك حرص الشرع الحنيف على حسن اختيار القضاة، والتركيز على شروطهم، والاهتمام في أحوالهم، لضمان تحقيق الأهداف المرجوة، والمقصودة من القضاء والسلطة القضائية.
وتحقق هذا الهدف في القضاء الشرعي، وكان القضاة المسلمون مضرب المثل في تاريخ البشرية في القضاء، وكانت وظيفة القاضي من أسمى الوظائف، وأنبل الأعمال، وكان القاضي يحاط بالهيبة، ويقرن بالإجلال والاحترام، وكان مكانته تفوق – أحياناً – مكانة الخلفاء والولاة والحكام.
وأثبت القضاة – في ظل الشريعة الإسلامية – سمو مركزهم، وعلو منزلتهم، ونزاهة عملهم، حتى كسبوا محبة الناس، ونالوا الثقة الكاملة، وكانوا محط أنظارهم وآمالهم ورجائهم.
وبلغ من محبة الناس للقضاة وثقتهم بهم، وأنهم يمثلون الشرع الصحيح، أن أصبح الولاة والأمراء يفكرون طويلاً إذا حدثتهم أنفسهم بالإقدام على عزلهم بدون سبب شرعي، حتى لا يتعرضوا لكراهية الجمهور الذي ينحاز للقضاة، ويتخلى عن الحكام، وكان هذا الموقف نواة الحصانة القضائية التي حصل عليها القضاة منذ العصر العباسي حتى وقتنا الحاضر، بل كان الولاة والحكام يهابون القضاة، ويخشون جانبهم، والأمثلة كثيرة، منها قصة العز بن عبد السلام في دمشق والقاهرة، وقصة أبي حامد الإسفرايني مع الخليفة في بغداد(1).
__________
(1) انظر: القضاء في الإسلام، عطية مشرفة ص159، 162، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، الدكتور محمد الزحيلي ص85، تاريخ القضاء في الإسلام (في العهد العباسي) ص216، 303.(40/4)
وتتمثل الأسباب التي رفعت مكانة القضاة، وسمت بنفوسهم إلى ذلك المستوى الشاهق في النزاهة والتجرد، وأداء الحق، والقيام بالواجب في العصر الإسلامي، في عدة أمور، أهمها:
1- تعاليم الإسلام كاملة، بما فيها العقيدة والأخلاق والآداب والأحكام، التي كانت غضة مؤثرة في النفوس، ومربية لها تربية دينية روحية كاملة، قال الماوردي رحمه الله تعالى في وصف الناس عامة: (لأنهم كانوا مع ظهور الدين عليهم، يقودهم التناصف إلى الحق، أو يزجرهم الوعظ عن الظلم، وإنما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة، يوضحها حكم القضاء)(1)، وهذا يفسر قلة الدعاوي وندرتها، وقلة عدد القضاة في المدن الكبرى، وأن القضاء أشبه بالإفتاء لمعرفة الحكم عند الاشتباه، والخلاف، ثم الالتزام بما يقوله الشرع.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص77.(40/5)
2- ما كان عليه الخلفاء والأفراد من حبّ للعدل، وتطبيق ذلك على أنفسهم، ومن يلوذ بهم من أبناء الأسرة الحاكمة، وفي المجتمع عامة(1)، وكان الخلفاء يرعون بأنفسهم أعمال القضاة، ويقدمون لهم النصح الحازم لإقامة العدل، ويتابعون أقضيتهم في مختلف الأمصار.
__________
(1) إن تاريخ القضاء في الإسلام مشحون بالأمثلة الواقعية، بدءاً من السيرة النبوية، ثم الخلفاء الراشدين، ثم من بعدهم، فمن ذلك قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع سواد، وقصة عمر مع أبي بكر، ومع ابن عمرو بن العاص، وقصة علي مع القاضي شريح واليهودي، وقصص الخليفة عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وقصة الخليفة المنصور في ساحة القضاء مع قاضي المدينة محمد بن عمران الطلحي وكاتبه نمير المدني مع الجمّالة أو العتالين، وقصة القاضي شريك بن عبد الله مع أمير الكوفة موسى بن عيسى، وهو ابن عم أمير المؤمنين المهدي، وقصة القاضي ابن حربويه (319هـ) الذي كان الأمراء يركبون إليه لخطب ودّه، وقصة العز بن عبد السلام مع حكام دمشق، ثم مع مماليك القاهرة، وقصة القاضي محمد بن عبد الله المرداوي الصالحي الحنبلي قاضي الحنابلة بدمشق (714-788هـ) وحكم الخليفة العادل عمر بن الخطاب على ابنه، ومع ابن عمرو، وقصة علي وابنه وقنبر وشريح، وغير ذلك كثير.
انظر: أخبار القضاة، وكيع 1/184، 193، 2/194، أدب القضاء لابن أبي الدم، فقرة 11، القلائد والجواهر في أخبار الصالحية 2/484، قضاة عادلون، محمد عبد الرحيم، تاريخ القضاء في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي، نظام الحكم في الشريعة والتاريخ، المحامي ظافر القاسمي، وغير ذلك.(40/6)
3- ما كانت عليه الأمة من العزة والأنفة، فلا تنام على مظلمة، ولا تسكت أمام الظالم، بل تطالب بالحق، وترفع الأمر للقضاة، وللخلفاء(1)، تحقيقاً لقوله تعالى: ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)) هود/113، وقوله تعالى: ((إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وكان الله سميعاً عليماً)) النساء/148.
4- تخير القضاة من العلماء الأتقياء، الورعين، المبرزين، المشهورين بحسن الصيت، وعزة النفس، وسعة العلم، دون أن تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يطمعوا بجمع الثروة، ولا بجاه المنصب والوظيفة، يبغون مرضاة الله تعالى، ويلتزمون شرعه، ويطبقون أحكامه، وفوق كلّ ذلك يراقبون الله تعالى في السر والعلن، ويضعونه أمام ناظريهم قبل القضاء، وأثناءه، وبعده، وكان الخلفاء والحكام والأمراء يبحثون عن كبار العلماء لتعيينهم في القضاء(2).
__________
(1) من ذلك قصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص الذي ذهب من مصر إلى المدينة للشكوى، وقصة أهل سمر قند مع القائد الفاتح ورفع الأمر للخليفة في دمشق، وانظر: قصص العرب 3/47، 67، 71، 74، 78، 81، 96، بعناوين: خليفة بين يدي قاض، قاضٍ لا يقبل شهادة خليفة، المنصور في ساحة القضاء مع الجمالة، أمير في مجلس القضاء، قاضي الرقة مع أميرها الذي قال له: (فوالله لا أفلح قاض لا يقيم الحق على القوي والضعيف) رجل يقاضي المأمون، قاض يطلب إقالته من القضاء، لأنه قُدّم له هدية فلم يقبلها، ولكن مالت نفسه لها، وغير ذلك كثير.
(2) كان القاضي الشعبي يؤدب ولد عبد الملك على تصرفاتهم، وكان عبد الله بن نوفل أو ابن الحارث قاضي المدينة أول من قضى على آل مروان الذي عينه (أخبار القضاة 1/113، 114، 2/421).(40/7)
ولا يزال كثير من قضاة الشرع في عصرنا الحاضر تنطبق عليهم هذه الصفات والميزات، وأن قضاة الشرع في ظل الأنظمة الحاضرة يتميزون عن غيرهم في كثير من الأمور، ويحتلون مركز الصدارة والاحترام في المجتمع.
المبحث الثاني
شروط قضاة الشرع
لما كان القضاء بهذه الأهمية والمكانة الرفيعة، وكان القضاة بهذه المنزلة العالية، والموقع المهم، فقد أولى الفقهاء قديماً اهتماماً زائداً لتعيين القضاة، ووضعوا الشروط المناسبة والكافية التي تؤهل القضاة لهذا العمل الجليل، وتضمن نجاحهم وتحقيقهم للأهداف الجسيمة المخولة لهم، وبحث الخلفاء والحكام عمن يوثق بصلاحه وعفافه، واستقامته، وفهمه للقرآن والسنة، والقدرة على استنباط الأحكام منها، لينصَّب قاضياً، وكان عمر وعلي رضي الله عنهما يتشددان في اختيار القضاة الذين تتحقق فيهم أهلية القضاء، ثم توسع الأئمة والعلماء في هذه الشروط، واتفقوا على معظمها، واختلفوا في بعضها، ونذكرها اختصاراً وتعداداً لنرى مدى الالتزام بها في العصر الحاضر، والأخذ بها، والمقارنة معها.
قال النووي رحمه الله تعالى: (وشرط القاضي: مسلم، مكلف، حرّ، ذكر، عدل، سميع بصير، ناطق، كافٍ، مجتهد)(1).
وقال ابن أبي الدم رحمه الله رحمه الله تعالى: (شرائط القضاة عشرة: الإسلام، والحرية، والذكورة، والتكليف، والعدالة، والبصر، والسمع، والنطق، والكتابة، والعلم بالأحكام الشرعية)(2).
__________
(1) المنهاج ومغني المحتاج 4/375، وانظر: المهذب 5/471، الروضة 11/97.
(2) أدب القضاء، له ص81، وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص62-65، البيان للعمراني 13/17.(40/8)
وقال المرغيناني الحنفي والكمال بن الهمام رحمهما الله تعالى: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع فيه شروط الشهادة من الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، وكونه غير أعمى، ولا محدوداً في قذف، (والكمال فيه أن يكون عدلاً عفيفاً عالماً بالسنة وبطريق من كان قبله من القضاة)، وأن يكون من أهل الاجتهاد، والفاسق أهل للقضاء، وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء بالحدود والدماء فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما)(1).
وقال ابن رشد رحمه الله تعالى: (فأما الصفات المشتركة في الجواز فأن يكون حراً، مسلماً، بالغاً، عاقلاً، عدلاً، واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد..، واختلفوا في اشتراط الذكورة)(2).
وقال المجد بن تيمية رحمه الله تعالى: (ويشترط في القاضي عشر صفات: كونه بالغاً، عاقلاً، ذكراً، حراً، مسلماً، عدلاً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، مجتهداً)(3).
ويضاف إلى ذلك شروط كثيرة مستحبة، توحي بالكمال، ورفعة النفس، وحصافة العقل، حتى سماها الكاساني رحمه الله تعالى: "شرائط الفضيلة والكمال"(4)، وتعرف في مواطنها من كتب الفقه وأدب القضاء، كما يوجد شروط خاصة في بعض أنواع القضاة، كقاضي الحسبة، وقاضي المظالم، ونكتفي بالإشارة إليها(5).
شروط القضاة في الأنظمة والقوانين المعاصرة:
__________
(1) فتح القدير للكمال بن الهمام، شرح الهداية للمرغيناني 5/453-454، وانظر: بدائع الصنائع 9/4079، حاشية ابن عابدين 5/354، 395.
(2) بداية المجتهد 4/1768، وانظر: تبصرة الحكام 1/17، الكافي لابن عبد البر 2/347.
(3) المحرر 2/203، وانظر: المغني 10/36، الروض المربع ص705، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي الدكتور محمد الزحيلي ص87.
(4) بدائع الصنائع 9/4080، وانظر: التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ص96.
(5) المراجع السابقة.(40/9)
إن شروط قضاة الشرع في العصر الحاضر متفقة مع شروط تعيين عامة القضاة في كل دولة، وهي في مجموعها متفقة غالباً بين البلاد العربية والإسلامية، وهي:
1- المواطنة والجنسية:
اشترطت جميع الأنظمة المعاصرة أن يكون القاضي من مواطني الدولة التي يعمل فيها القاضي، وذلك أخذاً من وجود الدولة المعاصرة، والأنظمة المستقلة، وقيام الدولة على عنصر الشعب الذي يتكفل بالواجبات الملقاة على عاتقه، ويتمتع بمزايا المواطنة بالمقابل، ومنها تولي الوظائف، لأن القضاء مظهر لسيادة الدولة، فينحصر بمواطنيها(1).
وهذا يعتمد على صلاحية رئيس الدولة والهيئات التشريعية وسلطتهم في إصدار الأنظمة والقوانين حسب المصالح أولاً، وبما يتفق مع العرف الدولي ثانياً، ومع التطور الحديث للدول في التوظيف وتعيين الموظفين ثالثاً.
وفيه تكريس للإقليمية، وتقديس للمواطنة والحدود المصطنعة بين البلاد العربية والإسلامية، وتقييد لمبدأ "الأخوة الإسلامية" ((إنما المؤمنون إخوة)) ومبدأ "المساواة بين المسلمين" "المسلمون سواسية كأسنان المشط" وأن العبرة للكفاءة والأهلية والخبرة، وليس لمجرد المواطنة، وأن العالم المسلم كان يتولى الأعمال والوظائف في ديار الإسلام والمسلمين متى توفرت فيه الشروط العلمية، سواء كان من الشرق أم من الغرب، والتاريخ الإسلامي مشحون بقضاة في مصر والشام والعراق وقد قدموا من الأندلس والمغرب، والعكس بالعكس.
__________
(1) المادة 37 من نظام القضاء في المملكة العربية السعودية (أن يكون سعودي الجنسية)، والمادة 18 من قانون السلطة القضائية الإماراتي، وفي سورية أن يكون متمتعاً بالجنسية منذ خمس سنوات على الأقل.
انظر: فقه القضاء من 157، التنظيم القضائي ص164، 269، القضاء والتقاضي الدكتور علي الحديدي ص43.(40/10)
وقد اصطدم هذا الشرط بالواقع عند عدم وجود مواطنين تتوفر فيهم الكفاءة وشروط القضاء، فنصت بعض الأنظمة على جواز تعيين قضاة من غير المواطنين بالإعارة، أو الندب، أو التعاقد(1).
ولعل شرط المواطنة يلتقي –جزئياً- مع ما شرطه بعض العلماء المتأخرين في الدولة الإسلامية، فزادوا في شروط القاضي –المستحبة- أن يكون بلدياً، أي من أهل البلد(2)، ليعرف عاداتهم، ويألف السكن معهم، وتسهل عليه الإقامة بينهم، ويدرك المعاني التي يريدونها في دعواهم، ومخاصمتهم، ودفاعهم، وشهاداتهم.
2- الإسلام:
اشترطت بعض الأنظمة والقوانين المعاصرة أن يكون القاضي مسلماً، وذلك التزاماً برأي جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة باشتراط الإسلام في القاضي؛ لأن القضاء ولاية للحكم بمقتضى الشرع، ولأدلة كثيرة وردت في كتبهم، فأخذت بعض الأنظمة المعاصرة بذلك، منها الإمارات العربية المتحدة(3).
أما في السعودية فلم ينص نظام القضاء فيها على اشتراط الإسلام (المادة/37) ولعل هذا الشرط دخل في شرط الجنسية؛ لأن مواطني المملكة العربية السعودية مسلمون مائة بالمائة(4).
__________
(1) المادة 19 إماراتي: يجوز تعيين القضاء من رعايا الدول العربية الذين تتوفر فيهم الشروط (الإماراتية) عن طريق الاستعارة من الحكومات التابعين لها، أو بمقتضى عقود شخصية خارجية، لمدة محددة قابلة للتجديد.
انظر: فقه القضاء ص157، التنظيم القضائي ص164.
(2) تبصرة الحكام 1/20-21 طبع بيروت، د.ن.ت، وانظر فقه القضاء ص157.
(3) المادة 8 من قانون السلطة القضائية الاتحادية.
(4) فقه القضاء ص157، التنظيم القضائي ص164، 269، الوجيز في أصول المحاكمات (السوري) الدكتور عدنان الخطيب ص115، أصول المحاكمات (السورية) أنطاكي ص87، الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية (السورية) الفاضل ص335.(40/11)
واشترط نظام القضاء في السعودية أن يكون القاضي متمتعاً بالأهلية الكاملة للقضاء حسب ما نص عليه شرعاً، وهذا يشمل شرط الإسلام.
وأشار الشيخ عبد الله اليحيى إلى المادة 37 من نظام القضاء السعودي التي تشترط أن يكون القاضي سعودي الجنسية، فقال: (وفي هذا إلماحة إلى أن من يتولى القضاء أن يكون مسلماً بطبيعة الحال، وذلك بالنظر إلى أن الدولة دينها الإسلام وتطبق أحكام الشريعة الإسلامية) وهذا تحميل للنص أكثر مما يحتمل، فكثير من الدول المعاصرة تنص أن دينها الإسلام، ومع ذلك لا تشترط في القاضي أن يكون مسلماً.
ولم تشترط معظم القوانين العربية اليوم أن يكون القاضي مسلماً، ولكن الجهة التي تتولى تعيين القضاة تحرص بقدر الإمكان على تعيين القضاة المسلمين في المحاكم الشرعية، أو عند تطبيق الأحوال الشخصية الشرعية، ولكن ذلك لا يمنع أن يتولى غير المسلم القضاء إما قصداً، وإما عند غياب القاضي المسلم أو عند إجازته، أو عندما يتولى القاضي المدني قضايا الأحوال الشخصية خارج المدن لقلة عدد القضاة والدعاوي، مما يتنافى مع المنطق والعقل والشرع والعلم.
3- الأهلية والعمر:
يشترط في القضاة أن يكونوا كاملي الأهلية، وذلك بالبلوغ والعقل، فلا يعين الصغير ولا المجنون، وهذا شرط منطقي وبدهي، لأن القضاء يتطلب نضج الفكر وقوة الشخصية والخبرة، والمراد بلوغ السنة الثامنة عشرة أو الحادية والعشرين، وزادت سورية أن يكون المرشح متمتعاً بالحقوق المدنية.
ولكن معظم القوانين حددت سناً أكبر من ذلك لتعيين القضاة، لأن القضاء يتطلب نضج الفكر، وقوة والشخصية، والخبرة بأمور الحياة، والدربة في التطبيق العملي للأحكام الشرعية والقانونية.(40/12)
ففي سورية والسعودية يشترط لتعيين القاضي أن يكون قد أتم الثانية والعشرين من عمره، على افتراض دخول الجامعة وهو ابن 18 سنة، ثم دراسة أربع سنوات جامعية ليتخرج ثم يعين، لكن يشترط أن لا يقل عمره عن أربعين سنة إذا كان تعيينه في درجة قاضي تمييز في السعودية، لتوفر قسط كبير من الخبرة والتجربة التي تضاف إلى الحصيلة العلمية المشترطة(1)، وخمس وثلاثين سنة في سورية للرئيس في محكمة الاستئناف والمستشار في محكمة النقض، وفي الإمارات يشترط أن لا يقل سنه عن ثلاثين سنة بالنسبة لقضاة المحاكم الابتدائية، وخمس وثلاثين سنة بالنسبة إلى قضاة المحاكم الاتحادية الاستئنافية، وأربعين سنة بالنسبة إلى رؤساء المحاكم الاتحادية الاستئنافية ورئيس وقضاة المحاكم الاتحادية العليا(2).
__________
(1) المادة 37 من نظام القضاء في المملكة، وانظر: تأهيل القضاة في المملكة، اليحيى ص13.
(2) المادة 3 من قانون السلطة القضائية، ثم عدلت هذه المادة عام 1998 بعدم التقيد بالسن بالنسبة للمواطنين حتى عام 2008م وانظر: فقه القضاء ص157، التنظيم القضائي ص165، 269.(40/13)
والسبب في رفع السن أن قانون السلطة القضائية في الإمارات اشترط فيمن يولى القضاء أن يكون قد أمضى في الأعمال القضائية أو القانونية بإحدى المحاكم أو ما يقابلها من وظائف النيابة العامة أو الفتوى والتشريع وقضايا الدولة أو في تدريس الشريعة الإسلامية أو القانون في إحدى الجامعات أو المعاهد العليا المعترف بها، أو في مهنة المحاماة أو في غير ذلك من الأعمال القانونية التي تعتبر نظيراً للعمل في القضاء مدداً لا تقل عن عشرين سنة للتعيين في المحكمة العليا أو في الاستئناف، وأربع عشرة سنة للتعيين في قضاء الاستئناف، وعشر سنوات للتعيين في قضاء المحاكم الابتدائية(1).
فإذا تخرج الطالب من الجامعة وتوفر فيه مضي هذه المدة فسوف يتجاوز السن المشروطة سابقاً، وهذا يتفق مع قاله الماوردي رحمه الله تعالى في النضج العقلي للقاضي بعد البلوغ، ليكون قادراً على النظر في الأمور، فاشترط أن يكون "صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل، وفصل ما أعضل"(2)، وهذا يعود للمصلحة التي يقدرها ولي الأمر بما يتناسب مع الواقع والحياة.
4- حسن السيرة والسلوك:
اشترطت معظم الأنظمة والقوانين المعاصرة أن يكون القاضي حسن السيرة والسلوك سواء في ذلك جميع القضاة، ومنهم قضاة الشرع، ليكون حسن السمعة(3).
وهذا شرط لا غبار عليه، ويلتقي من حيث الجملة مع شرط العدالة الذي يذكره الفقهاء ويتوسعون به.
5- الشهادة الجامعية:
__________
(1) المادة 18 ف5 من قانون السلطة القضائية، ثم عدلت هذه المادة عام 1998م بأن تقصر المدة إلى النصف بالنسبة للمواطنين حتى عام 2008م. وانظر: التنظيم القضائي ص183، القضاء والتقاضي ص80، قواعد المرافعات ص34.
(2) الأحكام السلطانية له ص65.
(3) المادة 18ف6. من قانون السلطة القضائية الإماراتي، وانظر فقه القضاء ص158، التنظيم القضائي ص184، المادة 23 قانون السلطة القضائية السوداني عام 1406هـ.(40/14)
يشترط في جميع القضاة الحصول على شهادة جامعية تخصصية، ثم تختلف البلاد العربية والإسلامية في تحديد هذه الشهادة في العصر الحاضر.
ففي السعودية يشترط في المرشح للقضاء أن يكون حاصلاً على ليسانس (بكالوريوس) من إحدى كليات الشريعة، أو درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء، وهذا الشرط يعني شرط العلم بالأحكام الشرعية الذي يشترطه جمهور الفقهاء(1)، ويؤهل القاضي للحكم بما يوافق الشريعة.
وفي سورية والسودان ومعظم البلاد العربية يشترط في القاضي أن يكون حاصلاً
على إجازة (ليسانس أو بكالوريوس) في الحقوق، ولا يقبل من يحمل الإجازة في
الشريعة حتى في القضاء الشرعي(2).
وجمعت دولة الإمارات بين الأمرين فاشترطت فيمن يولي القضاء أن يكون حاصلاً على إجازة في الشريعة الإسلامية، أو القانون(3).
ونرى أنه يجب أن يشترط في القاضي الشرعي أن يكون حاصلاً على الإجازة أو الليسانس أو البكالوريوس في الشريعة حصراً، لأنه ستعرض عليه أمور كثيرة تتعلق بالفقه الإسلامي، والاصطلاحات الشرعية، وفي مسائل دقيقة جداً، وأن طالب القانون أو الحقوق لم يدرس مسائل الأحوال الشخصية كلها في الزواج والطلاق والعدد والنفقات والميراث والوصايا، بينما يدرسها طالب الشريعة في عدة مساقات بالإضافة إلى مساقات آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، ومساقات أصول الفقه التي تكثر فيها الأمثلة والأحكام الفقهية والمصطلحات الشرعية.
6- براءة الذمة من العقوبات:
اشترطت الأنظمة المعاصرة فيمن يتول القضاء أن لا يكون قد حكم عليه بعقوبة.
__________
(1) المادة 37 من نظام القضاء في المملكة، وانظر: تأهيل القضاة في المملكة ص13، فقه القضاء ص157، التنظيم القضائي 183، 269.
(2) التنظيم القضائي ص165.
(3) المادة 18 ف 4 قانون السلطة القضائية، وانظر: التنظيم القضائي ص183.(40/15)
وحدد نظام القضاء في السعودية تلك العقوبة بحد أو تعزير أو جرم مخل بالشرف، أو صدر بحقه قرار تأديبي بالفصل من وظيفة عامة، ولو كان قد رد إليه اعتباره.
وهذا يؤكد الأخذ بالمعاصي المتقادمة، وعدم إسقاطها بمضي المدة، وذلك من باب الحيطة، لحماية القضاء من وصول من ساءت سمعته إلى السلك القضائي، والانتماء إليه، وهذا الشرط مكمل لشرط العدالة(1).
وحدد القانون الإماراتي ذلك بأن لم يسبق الحكم عليه من إحدى المحاكم، أو مجالس التأديب، لأمر مخل بالشرف أو الأمانة، ولو ردّ إليه اعتباره، أو مُحي الجزاء التأديبي الموقع عليه(2).
وحدد قانون السلطة القضائية السوداني (م/23 لعام 1406هـ) ألا يكون قد صدر ضده حكم من محكمة مختصة أو من مجلس محاسبة في أمر مخل بالشرف أو الأمانة، حتى لو صدر قرار بالعفو عنه.
وهذا شرط مقبول، ويعود بالاعتبار المعنوي للقضاة، ويتفق مبدئياً مع شرط العدالة الذي يقرره الفقهاء.
7- الذكورة:
اختلفت الأنظمة والقوانين المعاصرة في اشتراط الذكورة للقضاة عامة، وقضاة الشرع خاصة.
فاشترطت المادة 18 ف 1 من قانون السلطة القضائية الإماراتي أن يكون القاضي ذكراً، ولا يقبل تعيين المرأة للقضاء.
__________
(1) تأهيل القضاء في المملكة ص13، المادة 37 من نظام القضاء في المملكة العربية السعودية.
(2) قانون السلطة القضائية الإماراتي، المادة 18 ف6، وانظر: فقه القضاء ص158، التنظيم القضائي ص269، قواعد المرافعات في دولة الإمارات، أحمد صدقي محمود ص34، القضاء والتقاضي ص86، 95.(40/16)
وهذا يتفق مع قول المالكية والشافعية والحنابلة(1) باشتراط الذكورة في القاضي، وأنه لا يصح تعيين المرأة للقضاء، لأدلة كثيرة، أهمها أن القضاء ولاية مهمة ولا تصلح لها المرأة، للحديث الشريف (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)(2)، وهو في رأيي القول الراجح، ويؤيده الواقع العملي والتجارب، ولا مانع من مساهمة المرأة في الأعمال القضائية الأخرى، وفي مجال الأحداث، والإصلاح الأسري، والخبرة، وخاصة فيما يخص النساء.
ولم يشترط نظام القضاء في السعودية ذلك صراحة، ولكنه مطبق عملياً، وقال الشيخ عبد الله اليحيى: (أن يكون سعودي الجنسية، وفي هذا الشرط إلماحة إلى أن من يتولى القضاء بحيث أن يكون رجلاً، وطريق الدلالة على ذلك أن اسم (يكون) راجع إلى "من يتولى" ومن اسم موصول بمعنى الذي" أي صفة للرجل، وهذا تأويل بعيد، وتحميل للفظ أكثر مما يحتمل، مما لا يقبله أحد، فجميع نصوص الأنظمة والقوانين تأتي بلفظ المذكر، ولا يعني ذلك اشتراط الذكورة، ولكن نظام القضاء العملي في المملكة يتفق مع قول الجمهور، وسبق الإمارات في ذلك، وهو ما كان مطبقاً عملياً في مصر حتى عهد قريب، ثم عينت النساء في القضاء.
__________
(1) بداية المجتهد 2/449، تبصرة الحكام 1/8، مغني المحتاج 4/375، شرح الباجوري 2/336، المغني 10/36، الأحكام السلطانية، أبو يعلى الفراء الحنبلي ص60.
(2) هذا الحديث أخرجه البخاري 4/1610 رقم 4163، والترمذي 6/541، والنسائي 8/227، وأحمد 5/38، 43، 47، 51، والبيهقي 10/118.(40/17)
وذهبت معظم القوانين المعاصرة إلى عدم اشتراط الذكورة في القاضي، وأنه يصح تعيين النساء في القضاء، وهذا يتفق مع قول ابن جرير الطبري والحسن البصري وابن القاسم المالكي وابن حزم الظاهري، بعدم اشتراط الذكورة قياساً على الفتوى، وهو ما أجاز والحنفية فيما تقبل فيه شهادة النساء، وهو ما عدا الحدود والقصاص، قياساً على قبول شهادتها في ذلك عندهم(1) ونقل بعض الباحثين أن ما جوّزه شراح القانون الوضعي بجواز القضاء للمرأة تقليداً للغرب أنه ثبت من خلال الاستقراء للواقع ولأهل الاختصاص أن التجربة قد فشلت في المجتمع الأوربي التي أذنت للمرأة باحتلال منصب القضاء(2).
ولعل هذا الأمر مطروح على الساحة العربية والإسلامية، وتسعى إليه جمعيات حقوق المرأة، أو ما يسمى بتحرير المرأة.
وكتبت صحيفة الخليج بعددها 9683 الثلاثاء في 20/10/1426 الموافق 22/11/2005م الصفحة 25 عنواناً (مجلس الوزراء السعودي يدعو إلى إزالة المعوقات أمام المرأة وتوسيع مشاركتها في الأنشطة الاقتصادية والإنمائية)، ولم يرد شيء في الإعلان عن القضاء.
وجاء في نفس الصحيفة بالصفحة الأولى، والصفحة 25، أن "وزارة العدل (في الإمارات) تدرس إمكان عمل المرأة في السلك القضائي، وتم تشكيل لجنة لدراسة قانون السلطة القضائية ومراجعة التعديلات المقترحة عليه، وتشمل نصاً يتيح للمرأة العمل بالسلك القضائي"، ولم يظهر المراد من "السلك القضائي" هل يشمل القضاة؟ أم يقتصر على أعمال القضاء الأخرى؟.
8- السلامة:
__________
(1) مغني المحتاج 4/375، المغني 10/37، مواهب الجليل 6/87، نيل الأوطار 8/274، المحلى 9/425، 429، بدائع الصنائع 7/3 (9/4079 ط إمام) فتح القدير 5/454، حاشية ابن عابدين 4/370، وأنكر ابن رشد نسبة هذا القول للطبري (بداية المجتهد 2/381، 449) وكذا ابن العربي (أحكام القرآن 3/1446) وانظر تفصيل ذلك في التنظيم القضائي، للباحث ص90 وما بعدها.
(2) تأهيل القضاة ص14.(40/18)
يشترط في سورية في القاضي أن يكون سالماً من الأمراض السارية والعاهات التي تمنعه من القيام بالوظيفة(1).
وهذا شرط ضروري، وخاصة مع التقدم الطبي في الفحوص والأدوية، وحاجة القاضي للتمتع بالصحة التامة، والقوى البدنية التي تساعده على القيام بواجبه، وهو واجب ثقيل وصعب يحتاج إلى همة ونشاط وقوة وسلامة الحواس، واشترطه بعض الفقهاء سابقاً.
9- قرار التعيين:
اشترطت الأنظمة والقوانين المعاصرة أن يتم تعيين القضاة بمرسوم أو غيره، يصدر من الملك أو رئيس الدولة، وذلك تكريماً للقضاة، ورفعاً لشأنهم.
ففي الإمارات يكون تعيين القضاة لأول مرة في المحكمة الاتحادية بمرسوم اتحادي يصدر من رئيس الدولة بناء على اقتراح وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، وفي إمارة دبي (المستقلة قضائياً) يشترط لتعيين القضاة أن يصدر مرسوم من صاحب السمو حاكم إمارة دبي بالنسبة لقضاة محاكم دبي(2).
ويشترط في سورية أن يوافق مجلس القضاء الأعلى على قبول ترشيح القاضي قبل أن يصدر مرسوم أو قرار بتعيينه.
وفي السعودية يجري التعيين والترقية بأمر ملكي بناء على قرار مجلس القضاء الأعلى (المادة 53 نظام القضاء السعودي) ويخضع القاضي لفقرة تجربة لمدة سنة (المادة 50 نظام القضاء السعودي).
وهذا يتفق – إجمالاً – مع ما قرره الفقه الإسلامي في حق تعيين القضاة، وأن القاضي نائب عن الخليفة الذي يملك قرار التعيين أو تفويض ذلك إلى ولاة الأقطار، ابتداء من العهد النبوي، حتى العهد العباسي، عندما تنازل الخليفة الرشيد عن ذلك إلى قاضي القضاة الذي يمثل وزير العدل في عصرنا الحاضر.
__________
(1) انظر التنظيم القضائي ص165.
(2) المادة 21 من قانون السلطة القضائية الإماراتي، وانظر: فقه القضاء ص178، التنظيم القضائي ص98، 166، تأهيل القضاة، اليحيى ص21.(40/19)
فالحق في تعيين القضاة – شرعاً- هو لرئيس الدولة، وهذا يعين بدوره قاضياً للقضاة، أو وزيراً للعدل، أو نائباً عنه، أو نخبة لاختيار القضاة، وتناط بهم صلاحية التعيين.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن فوّض الإمام إلى إنسان تولية القضاء جاز، لأنه يجوز أن يتولى ذلك، فجاز له التوكيل كالبيع، وإن فوَّض إليه اختيار قاض جاز)(1).
واشتراط صدور قرار التعيين يتفق مع مكانة القضاة، والدولة المعاصرة، وفيه تكريم للقضاة، وتأكيد لهيبة رئيس الدولة في صدور القرار منه.
المبحث الثالث
حقوق قضاة الشرع
لم يخصص قضاة الشرع في العصر الحاضر بحقوق خاصة، وإنما يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها سائر القضاة في كل بلد، وهي:
1- الاستقلال:
يتمتع القضاة عامة، وقضاة الشرع خاصة بالاستقلال عن بقية السلطات، وهذا يقتضي عدم التدخل في أعمالهم، وأنه لا سلطان عليهم لغير الشريعة الإسلامية، أو القانون، أو الضمير، ونصت المادة الأولى من قانون السلطة القضائية في الإمارات أن "العدل أساس الملك، والقضاة مستقلون، لا سلطان عليه في أداء واجبهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المرعية وضمائرهم، ولا يجوز لأي شخص أو سلطة المساس باستقلال القضاء أو التدخل في شؤون العدالة".
ونص نظام محاكمة الوزراء في السعودية على أن "تدخل الوزراء الشخصي في شؤون القضاء يعدُّ جريمة يستحقون عليها العقوبة" وغير الوزراء أولى بالعقوبة إن تدخلوا في شؤون القضاء(2).
وهذا أمر مهم ومناسب، ويتفق مع طبيعة العمل القضائي، ورفع المؤثرات المادية والمعنوية عن كاهل القضاة، ليتحملوا المسؤولية الكاملة أمام الله والضمير والوطن والمجتمع والقانون.
2- الحصانة القضائية:
__________
(1) المغني 10/93، انظر حاشية ابن عابدين 4/501، الولاة والقضاة للكندي ص301، زاد المعاد 1/64، أخبار القضاة لوكيع 1/68، تاريخ القضاء، عرنوس ص96، تاريخ القضاء، للباحث ص241.
(2) التنظيم القضائي ص182، 273.(40/20)
وهي تعني عدم فصل القاضي من عمله، أو نقله منه، أو وقفه، أو إحالته على المعاش قبل السن المحددة.
وهذا تطبيق لاستقلال القضاء تجاه السلطة التنفيذية، ولتأمين حسن سير العدالة، ومنح القاضي الاطمئنان عما يلحقه من جراء أحكامه(1).
وهذا أمر محمود، وطبقه القضاة المسلمون عملياً، وإن لم يرد فيه نص، وكان الحكام يترددون كثيراً في عزل القضاة ونقلهم حتى لا يتعرضوا لنقمة الشعب الذي يعتقد أن القضاة يمثلون العدل والاستقامة.
ولكن هذه الحصانة قد تتعرض للإلغاء فتقوم السلطة التشريعية أو التنفيذية برفع الحصانة القضائية عن بعض القضاة، ثم تسرحهم من الوظائف بذرائع متعددة.
ونؤيد هذا الحق بالحصانة للقضاة لرفع جميع التأثيرات الخارجية عنهم، ولمنحهم الطمأنينة في عملهم، وعلى مصدر رزقهم، فلا يكون لذلك أثر على إعلان الحق والعدل، دون أن يخاف القاضي لومة لائم.
3- حماية الدولة للقضاة:
إن القاضي موظف في الدولة، ويعمل لمصلحة الأمة والمجتمع، لذلك يستحق الحماية، بمنع التعرض له بسبب الأحكام التي يصدرها، ومنع الأفراد من مخاصمة القضاة إلا عند الضرورة وضمن إجراءات خاصة، وتحمل الدولة مسؤولية الأحكام التي يصدرها القضاة، وما ينتج عنها، أو يترتب عليها من أضرار في تنفيذ الحكم، وضمان المحكوم به فيما صدر عن اجتهاد، إذا لم يكن فيه إهمال أو تقصير أو تعمد للضرر(2).
__________
(1) المادة 31، 97 من قانون السلطة القضائية الإماراتي.
انظر: التنظيم القضائي ص167، 189، القضاء والتقاضي ص98، قواعد المرافعات ص40، أصول المحاكمات، أنطاكي ص79، الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية، الخطيب 1/120.
(2) المادة 486، 487 أصول المحاكمات السوري، المادة 31، 97، قانون السلطة القضائية الإماراتي، وانظر: التنظيم القضائي ص103، 167، قواعد المرافعات ص43، القضاء والتقاضي ص106.(40/21)
كما تتكفل الدولة بتأمين القوة للقاضي أثناء نظر الخصومة لحفظ النظام، وتأمين الأمن، وتتولى بنفسها تنفيذ الأحكام تحت إشراف القاضي.
وتعاقب المادتان 262، 263 من قانون العقوبات الإماراتي من يسيء إلى القضاة، أو يشهر بهم بالحبس مدة لا تتجاوز سنة، وبالغرامة التي لا تزيد عن عشرة آلاف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، ويعاقب بما سبق من نشر أمراً يقصد به التأثير على القضاة، وتعاقب المادة 270 كل موظف امتنع عن تنفيذ حكم أو أمر صادرة من المحاكم بالحبس والغرامة.
وهذا يتفق مع ما قرره الفقهاء قديماً، قال الكاساني رحمه الله تعالى عن القاضي: (إنه لا يؤاخذ بالضمان؛ لأنه بالقضاء لم يعمل لنفسه، بل لغيره، فكان بمنزلة الرسول، فلا تلحقه العهدة)(1).
وقال الفقهاء بمنع سماع الدعوى على القاضي باتهامه فيها بالظلم، حماية للقاضي، وللمصلحة العامة، حتى لا يمتنع القضاة عن القيام بأعمالهم خشية المسؤولية والضمان، فيتعطل مرفق القضاء، ويتسلط الناس بدعاويهم ضد القضاة(2).
وهذه الحماية ضرورية للقاضي ليستطيع أداء عمله الكامل، دون أن تطاله مسؤولية ليس مؤاخذاً عنها، وكانت نتيجة قيامه بالعمل الصحيح، إلا إذا تعمد أو قصر أو خرج عن واجباته.
4- راتب القضاة:
يستحق القاضي راتباً يؤمن له أسباب الحياة الكريمة على المستوى اللائق له، وبما يعينه على التفرغ للعمل القضائي، وعلى النهوض بواجبه في ثقة واطمئنان، لأنه يعمل لحساب الأمة، ومحبوس لمصالحها.
وتقوم معظم دول العالم بوضع مرتبات للقضاة أعلى بكثير من سلم رواتب بقية الموظفين، أو تمنحهم علاوات خاصة لتأمين العدل الكامل منهم، وضمان عدم تطلعهم لأموال الآخرين أو للرشوة وغيرها.
__________
(1) بدائع الصنائع 7/16 ط قديمة.
(2) نظرية الدعوى 1/308، التنظيم القضائي ص103، 16، 189.(40/22)
ويتدرج راتب القاضي بحسب تعيينه ومرتبته ودرجته وأقدميته، وهذا حق ضروري للقاضي باعتباره موظفاً يعمل لحساب الأمة، ومصلحة المجتمع، ويتفرغ لعمله.
وهو يتفق مع ما قرره الفقهاء، وسار عليه العمل القضائي في الإسلام ابتداء من العهد النبوي عندما عين عتاب بن أسيد والياً وقاضياً على مكة، وخصّص له راتباً وفرض له في كل يوم درهماً، وهذا أول راتب في الإسلام، ثم سار العمل على منواله، في الخلافة الراشدة، ورزق عمر رضي الله عنه شريحاً مائة درهم كل شهر، وطلب توسيع الرزق على القضاة من ذلك الزمن(1).
5- ترقية القضاة أو ترفيعهم:
إن القيام بالعمل يعطي خبرة فيه، للاضطلاع لشؤونه، ولذلك نصت الأنظمة والقوانين المعاصرة على حق القضاة بالترقية، حتى لا يترك ذلك في يد السلطة التنفيذية فتتدخل في مصير القضاة.
ونص قانون السلطة القضائية الإماراتي على ترقية القضاة في المادة 22، للوظائف الأعلى في القضاء، وذلك بقرار من وزير العدل بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للقضاء، وتكون الترقية بحسب القدم (مرور الزمن) في الوظيفة وبناء على تقرير كفاية القاضي(2).
وهذا الحق اقتضته الظروف المعاصرة، والقوانين الحديثة، ويطبق على جميع الموظفين والعاملين، ويتفق مع المصلحة التي يقدرها ولي الأمر.
6- يتمتع القضاة بجميع الحقوق والضمانات المقررة في نظام الموظفين العام، كالإجازة، والضمان الاجتماعي، والراتب التقاعدي، وغير ذلك(3).
المبحث الرابع
واجبات القضاة
__________
(1) المادة 24 قانون السلطة القضائية الإماراتي. وانظر: التنظيم القضائي ص101، 167، 190، 274، قواعد المرافعات ص40، 45، القضاء والتقاضي ص115.
(2) التنظيم القضائي ص167، 191، 174، أصول المحاكمات، انطاكي ص79، الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية، الخطيب 1/120، قواعد المرافعات ص48، القضاء والتقاضي ص111.
(3) التنظيم القضائي ص274.(40/23)
عرض الفقهاء واجبات كثيرة تحت عنوان "آداب القاضي أو القضاة" وجمعوا بين الواجبات المفروضة وبين الآداب المستحبة التي يحسن أن يتحلى بها القاضي، أو أن يراعيها في شؤونه كلها.
وجاءت الأنظمة والقوانين وفرضت عدة واجبات على القضاء، بعضها إيجابية ليقوم بها القاضي، وبعضها سلبية ليمتنع عنها، فهي ممنوعات، ولكن جاء القسمان تحت عنوان واجبات القضاة، وهي:
القسم الأول: الواجبات العملية:
1- أداء اليمين:
يجب على القاضي عند تعيينه، وقبل مباشرة العمل أداء اليمين، وصيغتها في قانون السلطة القضائية الإماراتي (م/39) (أقسم بالله العظيم أن أحكم بالعدل دون خشية أو محاباة، وأن أخلص لدستور دولة الإمارات العربية المتحدة وقوانينها)(1) وصيغتها في قانون تشكيل المحاكم في إمارة دبي (المادة/7) (أقسم بالله العظيم أن أحكم بين الناس بالعدل، وأن أحترم القوانين، وأؤدي مهنتي بكل أمانة وإخلاص وأن ألتزم سلوك القاضي الشريف)(2).
وهذا مما استحدثته الأنظمة المعاصرة، وتعارفت عليه الدول بالنسبة لكبار الموظفين والمسئولين، ويدخل في صلاحية ولي الأمر فيما يعود بالخير والنفع، ويحقق المصالح.
2- الإقامة في مكان المحكمة:
يجب على القاضي أن يقيم في البلد الذي يكون فيه مقر عمله، احتياطاً لأية ظروف تتعلق بالعمل في غير أوقات العمل الرسمية، كالأوامر على العرائض والقضاء المستعجل وغيره مما يخشى عليه من فوات الوقت.
ولا يجوز للقاضي التغيب عن مقر عمله، وألا ينقطع عن العمل لغير سبب مفاجئ، لضمان سير القضاء بانتظام.
__________
(1) خص قانون السلطة القضائية الإماراتي أداء اليمين بقضاة المحاكم الاستئنافية والابتدائية (المادة 39)، وأما المحكمة العليا فورد ذلك في قانونها رقم 10 لسنة 1973م وتعديلاته 1994م، وحسب دستور دولة الإمارات، المادة 98.
(2) التنظيم القضائي ص185، قواعد المرافعات ص69، القضاء والتقاضي ص93.(40/24)
لكن يجوز استثناء أن يرخص للقاضي في الإقامة – مؤقتاً – لظروف استثنائية في بلد آخر قريب من عمله(1).
وهذا يتفق مع تفرغ القاضي للعمل، والتزامه بأداء واجبه الكامل، ليكون قريباً من مكان العمل، ومستعداً لتلبية مطالب الناس، وحتى الطارئة منها.
3- الحياد والنزاهة:
يجب على القاضي أن يكون نزيهاً، ومستقلاً وأن يتحرر من أية قيود، أو نقد، أو إغراءات أو ضغوط، أو تهديدات أو تدخلات مباشرة أو غير مباشرة في الأمور العامة والخاصة، مما يجعله بعيداً عن التحيز، ويفرض عليه التعصب لرأي، أو المحاباة لجهة، أو تفضيل شخص على آخر، بل يجب أن يكون موضوعياً، وبعيداً عن العواطف، وسوء النية(2).
وهذا يتفق مع ما يقرره الشرع بالمساواة بين الخصوم، والعمل فيما يحبه الله ويرضاه، وإقامة الحق والعدل، دون تأثير جانبي، ليكون في المكان الذي يحبه الله ويرضاه.
4- حفظ الأسرار:
يجب على القاضي حفظ سر المداولات التي تتم بين القضاة قبل إصدار الحكم ولا يجوز له إفشاؤها (م/37 قانون السلطة القضائية الإماراتي).
كما يجب عليه حفظ الأسرار التي تعرض في الدعوى والدفاع والمناقشات التي تصدر من الخصوم والشهود، والمحامين(3). وهذا من أهم واجبات كل مسلم، وخاصة القاضي الذي تقتضي طبيعة عمله الاطلاع على الأسرار التي يجب حفظها، ويمتنع عن إشاعتها، لما يرتب عليها من مفاسد وأضرار، فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
5- المواظبة على الدوام:
يجب على القاضي المواظبة على الدوام، وعدم الانقطاع عن عمله بسبب غير مفاجئ إلا بترخيص كتابي (م/61ف1 نظام القضاء السعودي).
__________
(1) المادة 60 من نظام القضاة السعودي. وانظر: التنظيم القضائي 168، ص188.
(2) قواعد المرافعات ص69، القضاء والتقاضي ص93، التنظيم القضائي ص188.
(3) المادة 59 نظام القضاء السعودي.(40/25)
فإن تغيب القاضي عن مقر عمله، أو أخلّ بالمواظبة على الدوام، نُُبه على ذلك كتابة، فإن تكرر منه ذالك يرفع أمره إلى مجلس القضاء الأعلى للنظر في محاكمته تأديباً (3/61 ف2 نظام القضاء السعودي)(1).
وهذا واجب بدهي يفرضه العقل والمنطق والشرع والأنظمة، ولأن القاضي مكلف بالعمل طوال الوقت مقابل أجر والتزام، فيجب التقيد به.
6- الالتزام بالأنظمة والقوانين:
إن أداء اليمين السابقة توجب على القاضي الالتزام بالحكم بموجب الشريعة الإسلامية أو القوانين النافذة، وتوجب عليه التقيد بالأنظمة واللوائح المطبقة، كما يجب على القاضي أداء عمله في المحاكم وخاصة النظر في الدعوى، والتأمل بالقضية، والقضاء فيها، وتطبيق الإجراءات والمرافعات المقررة (م1، 41 نظام الأعمال الإدارية في المحاكم الشرعية بالسعودية)(2).
7- ارتداء الرداء والشارات:
يجب على القاضي أن يرتدي في أثناء الجلسات وفي المناسبات الخاصة الرداء والشارات الخاصة بالقضاء، وهذا واجب في بعض البلاد، وقد يكون نظرياً، ولا يطبق عملياً إلا في بعض المحاكم، وتعفي بعض الأنظمة من ذلك نهائياً(3).
وهذا أمر نظامي ومصلحي ويعود تقديره لولي الأمر لاعتبارات تتعلق بالوظيفة والأعراف، وفيه هيبة للقضاة، وتميز لهم بما يعود بالخير والنفع والاحترام والمصلحة.
القسم الثاني: الممنوعات على القضاة:
1- إبداء الآراء السياسية:
__________
(1) انظر التنظيم القضائي ص168، 275، النظام القضائي في المملكة ص79.
(2) أصول المحاكمات، انطاكي ص97، الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية الخطيب 1/120، التنظيم القضائي ص169.
(3) المراجع السابقة.(40/26)
إن الأصل في القضاء والقضاة الحياد والموضوعية مع جميع المواطنين، ولذلك يمنعون من إبداء الرأي في الأعمال السياسية بأي صورة، وفي أية حال، سواء في أثناء ممارسة القضاء وداخل المحكمة أو خارج أروقة المحاكم، حتى لا يفهم انحياز القاضي لجهة ضد أخرى، فتؤثر – ولو نفسياً – على الحياد، وتؤدي إلى عواقب وخيمة.
كما يحظر على القاضي الاشتغال بالأعمال السياسية؛ كالانضمام إلى حزب سياسي، أو الاشتراك في ندوات حزبية، أو الترشيح لانتخابات المجلس التشريعي أو غيره من المجالس الإقليمية والتنظيمات السياسية(1).
وهذا أمر مفيد، ويتفق مع طبيعة عمل القضاة، وفصل السلطات، والتزام الحياد والموضوعية، لأن الانخراط في الشؤون السياسية تشغل القاضي، وتجعله طرفاً ضد آخر، مما يتنافى مع عمله، وهو يؤدي إلى نتائج وخيمة على القضاء والناس.
2- إبداء الرأي في القضية:
يجب على القاضي أن يمتنع عن إبداء رأيه، أو توجهه، في قضية معروضة لأية جهة كانت، وإلا أصبح القاضي غير صالح بالنظر في الدعوى إذا خالف هذا الحظر، فضلاً عن تعرضه للمساءلة التأديبية(2).
وهذا واجب مقبول، لأن إبداء الرأي مسبقاً في القضية يجعل رأي القاضي معروفاً سلفاً، مما يزيد في إحباط الخصم، وشلّ دفاعه، وكأن القاضي صار خصماً وحكماً في آن واحد، وهو غير مقبول شرعاً.
3- مزاولة الأعمال الأخرى:
يجب على القاضي عدم مزاولة الأعمال المعارضة للقضاء، والتي لا تتفق مع التفرغ للقضاء، وتمس حياد القاضي(3)، ولا تتفق مع استقلال القضاء وكرامته، أو تتعارض مع واجباته وحسن أدائها.
__________
(1) المادة 36 قانون السلطة القضائية الإماراتي، انظر: التنظيم القضائي 168، 185، قواعد المرافعات ص69، القضاء والتقاضي ص93.
(2) المادة 37 قانون السلطة القضائية الإماراتي.
(3) المادة 35 قانون السلطة القضائية الإماراتي، المادة 58 نظام القضاء السعودي، وانظر: التنظيم القضائي ص168، 185.(40/27)
مثل مزاولة الأعمال التجارية، وأعمال المقاولات، والتوريدات، وأعمال السمسرة، والصرافة، وممارسة المهن اليدوية أو الحرفية(1).
وهذا يتفق مع الشرع وآداب القضاة التي ذكرها الفقهاء، حتى يبقى القاضي متفرغاً لعمله، ومتجنباً لمخالطة الناس الذين قد يؤثرون عليه، أو يتأثر به، وخاصة في الوساطات، أو عند وجودهم في مخاصمة.
4- الاشتراك في التحكيم:
لا يجوز للقاضي، بغير موافقة المجلس الأعلى للقضاء الإماراتي أن يكون رئيساً لهيئة تحكيم، أو محكماً، ولو كان النزاع غير معروض على القضاء، ويتولى المجلس الأعلى للقضاء الاتحادي في الحالات السابقة اختيار القاضي، وتحديد المكافأة التي يستحقها، ولا تصرف له إلا بعد الانتهاء من التحكيم(2).
وأجاز القانون الإماراتي الاتحادي رقم لسنة 1991 (م/2-3) في تعديل قانون السلطة القضائية، أجاز أن يكون القاضي محاكماً عن الأشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجوز أن يكون محكماً عن الأشخاص الاعتبارية الخاصة، أو الأشخاص الطبيعيين، ما لم يكن أحد أطراف النزاع قريباً للقاضي، أو صهراً له حتى الدرجة الرابعة(3).
وهذا أمر مصلحي يقدره ولي الأمر، ويتفق مع تفرغ القاضي لعمله، وعدم أدائه أعمالاً أخرى قد يكون لها مساس بكرامته، أو طبيعة عمله، إلا إذا رأى المجلس الأعلى للقضاء المصلحة في السماح للقاضي الاشتراك في التحكيم.
5- الوكالة في الخصومة:
لا يجوز للقاضي أن يكون محامياً أي وكيلاً عن الخصوم في حضور الدعوى، أو المرافعة فيها بالمشافهة، أو بالكتابة، أو بالإفتاء، ولو كانت الدعوى مقامة أمام محكمة غير المحكمة التابع هو لها.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المادة 26 قانون السلطة القضائية الإماراتي.
(3) التنظيم القضائي ص169، 186.(40/28)
ويستثنى من ذلك أن يباشر القاضي الوكالة بالخصومة أمام القضاء عمن يمثله بكونه ولياً شرعياً على أولاده، أو وكيلاً عن غائب، أو وصياً على قاصر، أو قيماً، أو وكيلاً عن زوجته أو أحد أصوله وفروعه حتى الدرجة الثانية(1).
والمنع صحيح ومتفق مع الشرع، فلا يجمع القاضي بين القضاء والمحاماة أو الخصومة في الدعاوي، لما يترتب على ذلك من تأثيره – بحكم الوظيفة – على القاضي الآخر، أو الإحراج له، أو التدخل في عمله، ويستثنى حالات الضرورة، فيرتكب أهون الشرين، وأخف المفسدتين.
6- القضاء للنفس وللأقارب:
يمتنع على القاضي النظر في القضايا التي تتعلق بمصالحه الخاصة، أو التي تخص من له صلة قرابة به، أو القضايا التي يكون فيها متأثراً بعواطفه، وعليه التخلي عن الدعوى.
وتوسع القانون والأنظمة المعاصرة في ذلك فمنعوا القاضي من النظر عند وجود خصومة قائمة بين القاضي أو زوجته مع أحد الخصوم في الدعوى، أو إذا كان وكيلاً أو وصياً، أو قيماً، أو له صلة بوكيل أو وصي أو قيم حتى الدرجة الرابعة، أو كان مظنون الوراثة لأحد الخصوم ولو بأبعد من الدرجة الرابعة، أو إذا كان للقاضي أو لزوجته، أو أحد أقاربه وأصهاره، مصلحة في الدعوى، وكذا إذا كان القاضي أبدى رأياً مسبقاً في الدعوى قبل اشتغاله بالقضاء.
كما يمتنع على القضاة النظر في دعوى إذا كانت بينهم قرابة أو مصاهرة حتى الدرجة الرابعة في قضاة الدائرة الواحدة، أو وجود قرابة أو مصاهرة حتى الدرجة الرابعة بين القضاة وبين ممثل النيابة، أو المدافع عن أحد الخصوم(2).
__________
(1) المادة 59 إجراءات مدنية إماراتية، وانظر: التنظيم القضائي ص186.
(2) المادة 114 قانون الإجراءات المدنية الإماراتي، المادة 38 قانون السلطة القضائية الإماراتي، والأول اشترط الدرجة الثانية في النيابة، والثاني اشترط الدرجة الرابعة مع النيابة، فيعمل بالثاني.(40/29)
وكذا في حالة رفع القاضي دعوى تعويض على طالب الرد، أو إن قدم بلاغاً لجهة الاختصاص، ففي جميع هذه الحالات يجب على القاضي أن يتنحى عن النظر في الدعوى، وإلا كان حكمه باطلاً، ولو تم باتفاق الخصوم(1).
وهذا يتفق مع ما قرره الفقهاء من امتناع القاضي من القضاء لنفسه أو لأقاربه، تجنباً للتهمة والشبهة، فلا يكون قاضياً وخصماً في آن واحد للتنافي بين الأمرين.
7- الاشتراك في المزايدة والشراء:
لا يجوز للقاضي المشرف على إجراءات التنفيذ، أو المشترك فيها، أن يتقدم للمزايدة بنفسه، أو بطريق تسخير غيره، وإلا كان العقد باطلاً.
ولا يجوز أن يشتري باسمه، أو باسم مستعار الحق المتنازع فيه كله، أو بعضه، إذا كان النزاع يدخل في اختصاص المحكمة التي يباشر عمله في دائرتها، وإلا وقع البيع باطلاً(2).
وهذا يتفق مع واجب النزاهة والحياء، ودفع التهمة والشبهة، وعدم استغلال المنصب والوظيفة للكسب غير المشروع، أو لاحتمال التواطئ لاستنزاف أموال الناس.
المبحث الخامس
درجات قضاة الشرع وتصنيفهم
كان القضاء الشرعي من درجة واحدة، فينظر الدعوى، ويصدر الحكم بشكل نهائي، لكنه يخضع للمراقبة والمتابعة من الخليفة والولاة، بدءاً من العهد النبوي، فالعهد الراشدي، إلى إن تم تعيين الإمام أبي يوسف رحمه الله تعالى قاضياً للقضاة في العهد العباسي، فصار يتولى الإشراف على القضاة، ويتابع أحكامهم، لبيان مدى موافقتها للشرع، فيقرها، أو مخالفتها للشريعة فينقضها ويردها إلى القاضي الذي أصدرها ليعيد النظر فيها.
درجات القضاء والقضاة:
__________
(1) انظر التنظيم القضائي ص187.
(2) المادة 132 قانون الإجراءات المدنية الإماراتي، وانظر: التنظيم القضائي في ص188.(40/30)
انقسم القضاء في العصر الحاضر في البلاد العربية والإسلامية إلى صنفين، فالصنف الأول التزم بالمنهج السابق، وبقي القضاء الشرعي فيه درجة واحدة ابتدائية، وترفع أحكامه إلى المحكمة العليا لمراقبته فقط أمام محكمة النقض في سورية، ومحكمة التمييز في السعودية ودبي، ومحكمة الاستئناف في الأردن.
وصار قضاة الشرع في هذه الأنظمة قسمين:
1- قضاة الشرع للحكم في الموضوع في المحكمة الشرعية الابتدائية مع تعدد أسمائها(1).
2- قضاة للمراقبة والمتابعة والتدقيق في الدائرة الشرعية في المحكمة العليا، ويطلق عليهم اسم مستشار.
واتجهت بعض البلاد العربية والإسلامية إلى تبني درجات التقاضي في المحاكم الشرعية(2)، وأن الدعوى تنظر في المحكمة الشرعية الابتدائية التي تصدر حكماً في الدعوى، ويحق للأطراف استئنافه لتنظر الدعوى مجدداً وكلياً في محكمة الاستئناف، وكأن الحكم السابق لم يكن، لتصدر محكمة الاستئناف حكماً جديداً ومستقلاً ونهائياً في الدعوى.
__________
(1) إن المحاكم الشرعية في السعودية لها عدة أسماء، كالمحكمة الشرعية الكبرى في المدن الرئيسة، وتتكون من عدد من القضاة، والمحكمة الشرعية في سائر المدن وتتكون من قاض واحد، والمحكمة المستعجلة الأولى والمحكمة المستعجلة الثانية، وكلتاهما في مكة المكرمة، والمحكمة المستعجلة في سائر الأماكن مع توزيع الاختصاصات بين هذه المحاكم، وحددت المادة 51 من نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي أسماء القضاء وتصنيفهم الوظيفي، ثم صدر نظام القضاء الجديد عام 1395هـ/1975م وبين شروط القضاة وتصنيفهم حسب التعيين والمحكمة والقدم في العمل، انظر: التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ص251، 252، 269.
(2) إن درجات التقاضي لها حسنات، ولها سيئات، واتجهت معظم بلاد العالم اليوم إلى تطبيقها في معظم المحاكم، انظر: التنظيم القضائي ص144 وما بعدها.(40/31)
وبعد أن يصبح الحكم نهائياً (إما بمضي المدة بعد صدوره من المحكمة الابتدائية بدون استئناف أو بتنازل الأطراف عن الاستئناف، وإما بصدوره من محكمة الاستئناف) تتولى الدائرة الشرعية في المحكمة العليا تدقيق الحكم ومراقبته للتصديق عليه، أو نقضه وإعادته للمحكمة التي أصدرته، ولا تنظر في الدعوى وإصدار الحكم إلا في حالات استثنائية محدودة، وهذا هو المعمول به في الإمارات العربية، والعراق، ومصر وغيرها.
ويكون قضاة الشرع في هذا القسم ثلاث درجات:
1- قضاة المحكمة الشرعية الابتدائية، وتتكون المحكمة عادة من قاض واحد.
2- قضاة محكمة الاستئناف الشرعية، وتتكون المحكمة من ثلاث قضاة، أو من رئيس محكمة ومستشارين.
3- مستشارون في الدائرة الشرعية في المحكمة العليا، وتنظر الأحكام من ثلاث قضاة على الأقل، ويطلق على كل منهم لقب مستشار.
وأخذ نظام القضاء في السعودية بقضاء الفرد في المحاكم الجزئية (م/25) وبقضاء الجماعة في المحكمة العامة في قضايا القتل والرجم والقطع وما يحدده النظام، فتصدر الأحكام من ثلاثة قضاة، وكذا في محكمة التمييز، ما عدا قضايا القتل والرجم والقطع فتصدر الأحكام من خمسة قضاة (م/13) وكذا في قضايا مجلس القضاء الأعلى (3/9)(1).
ويلاحظ أن نظام القضاء الشرعي في العصر الحاضر أخذ بالقاضي الفرد أحياناً، وبقضاء الجماعة أحياناً، مراعياً في ذلك المصلحة وخطورة الأحوال والقضايا، ومراعاة العصر، بانتشار قضاء الجماعة، وهذا اجتهاد سديد، وسياسة حكيمة، واختيار مناسب(2).
القاضي الشرعي الأول:
__________
(1) التنظيم القضائي ص272، النظام القضائي في المملكة ص41، تاريخ القضاء في الإسلام، للباحث ص400.
(2) انظر موضوع قضاء الفرد وقضاء الجماعة، وحكمه الشرعي في: التنظيم القضائي ص150 وما بعدها، الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية، الفاضل 1/263 وما بعدها.(40/32)
يوجد في سورية وظيفة القاضي الشرعي الأول في العاصمة دمشق، وفي مقر وزارة العدل، وكان يسمى القاضي الشرعي الممتاز، ويتولى توزيع الأعمال بين قضاة الشرع، وإدارة القضاء الشرعي، وأداء بعض الأعمال الإدارية المتعلقة بالقضاء الشرعي، والإشراف على المساعدين القضائيين في المحاكم الشرعية، ومنح الإذن لهم بإجراء عقود الزواج وتسجيلها وتدوينها، بينما يتولى ذلك بنفسه داخل الوزارة، ويستقبل المراجعين من أفراد الشعب للإجابة عن استفساراتهم، وأحياناً عن فتاويهم، وهو المسئول عن إثبات الأهلة القمرية في مطلع الشهور العربية.
تصنيف قضاة الشرع:
إن قضاة الشرع في معظم البلاد العربية والإسلامية يشتركون مع سائر القضاة في الشروط والتعيين والدرجات والحقوق والواجبات، وأنه يتم فرزهم – عادة – لتولي القضاء الشرعي ضمن الاختصاصات المحددة له بحسب كل بلد، وبحسب القوانين التي تنظمه.
وإن قضاة الشرع لهم درجات وظيفية، وأسماء محددة، وتصنيف مقرر في كل بلد، وبحسب المحكمة التي يعمل بها مثل القاضي المتمرن، والملازم القضائي، وقاضي أ، وقاضي ب، ووكيل محكمة أ، وكيل محكمة ب، ورئيس محكمة أ، ورئيس محكمة ب، وقاضي استئناف، ورئيس محكمة تمييز، والقاضي الجزئي، وقاضي الصلح، وقاضي البداية، والقاضي الكلي، وقاضي الاستئناف، وقاضي الشرع، وقاضي تمييز، والمستشار، وكثيراً ما تتغير هذه التسميات(1).
قضاة الشرع، وقضاة المظالم:
في مجال درجات التقاضي وتصنيف القضاة نشير لوجود نوعين من قضاة الشرع في العصر الحاضر خاصة في السعودية، وهما قضاة الشرع وقضاة المظالم، وهذا يذِّكر بمؤسسات القضاء الأربع في الإسلام وهي القضاء العادي، وقضاء المظالم، وقضاء الحسبة، وقضاء العسكر..
__________
(1) التنظيم القضائي ص269.(40/33)
وقضاة المظالم في السعودية يتبعون ديوان المظالم الذي صدر المرسوم الملكي به سنة1374هـ/ 1955م، ثم وضع رئيس ديوان المظالم بتاريخ 1379هـ/1959م النظام الداخلي للديوان، ويتشكل من 1- لجنة التحقيق التي تتألف من مستشارين في الأحكام الشرعية والشؤون الصحية والإدارية والهندسية والمالية كل في مجال اختصاصه، 2- لجنة المستشارين التي تتكون من المختص في لجنة التحقيق مع أعضاء آخرين، ويقومون بتقديم المشورة لرئيس الديوان والمحققين فيما يخص النواحي الشرعية والنظامية، 3- لجنة التدقيق التي تتألف من نائب الرئيس ومستشار شرعي، ومستشار أنظمة، وأمين سر، وتقوم بتدقيق التقارير التي يقدمها المحققون في الديوان بعد أن يحيلها إليهم رئيس الديوان، 4- قضاة المظالم في الدعاوي والشكاوي التي ترفع إليهم(1).
وهذه الدرجات والأصناف للقضاة أمر مصلحي واعتباري، يقرره ولي الأمر، ويتفق مع مبدأ التخصص للقضاة الذي قرره الفقهاء جميعاً.
أما درجات التقاضي فهو أمر حديث، ومختلف فيه، ولكل بلد أن يختار ما يراه المناسب والأصلح، ولا غضاضة في ذلك.
ملحق:
إن شروط قضاة الشرع وحقوقهم وواجباتهم وتصنيفهم ودرجاتهم أهم الجوانب التي تتعلق بهم، وينصرف إليها الذهن.
وبقيت مسائل أخرى تتعلق بالقضاة عامة، وبقضاة الشرع معهم، وتحتاج لبحث مستقل.
مثل تنحي القضاة لعدم صلاحيتهم للنظر في الدعوى مع رد القضاة (المواد 114-124 قانون الإجراءات المدنية الإماراتي).
ومثل عزل القضاة واستقالتهم وإحالتهم على التقاعد أو المعاش (المواد 31-34 قانون السلطة القضائية الإماراتي، والمادة/75 نظام القضاء السعودي).
ومثل مساءلة القضاة وتأديبهم (المواد 40-54 قانون السلطة القضائية الإماراتي، والمواد 71-74 نظام القضاء السعودي).
__________
(1) التنظيم القضائي، للسليم ص37، النظام القضائي الإسلامي ص617. التنظيم القضائي 224، 227 وما بعدها.(40/34)
ومثل مخاصمة القضاة لأحد الأخطاء المهنية الجسيمة (م/197 قانون الإجراءات المدنية الإماراتي).
ومثل نقل القضاة بناء على رأي مجلس القضاء الأعلى (المادتان 27، 28 قانون السلطة القضائية الإماراتي، المادتان 3،55 نظام القضاء السعودي).
ومثل اختصاصات قضاة الشرع التي تأخذ مداها الواسع في البلاد التي تلتزم بالإسلام والدين والشرع في التنظيم والتشريع والتطبيق، وتضيق قليلاً في الإمارات لتتناول الحدود والقصاص والديات والأحوال الشخصية، وتنحصر في معظم البلاد العربية والإسلامية بالأحوال الشخصية، لتصل إلى الإلغاء من الوجود في بعض البلاد، ليقوم القاضي المدني بالقضاء الشرعي.
وكل ذلك يحتاج إلى بحوث أخرى في قادمات الأيام، وفي مجالات أرحب.
الخاتمة:
نصل إلى خاتمة البحث لتلخيص النتائج التي وصل إليها، ولتقديم بعض التوصيات والمقترحات.
أولاً: نتائج البحث:
1- إن القضاء الشرعي في العصر الحاضر هو امتداد للقضاء الشرعي قديماً، ويتمثل عملياً في قضاة الشرع.
2- إن القضاة عامة هم العمود الفقري في القضاء، وهم العنصر الأساسي الذين تتعلق بهم الآمال لتحقيق العدل وأهداف القضاء وتطبيق الشرع.
3- يشترط في قضاة الشرع في العصر الحاضر المواطنة، والأهلية والعمر المحدد، والشهادة الجامعية، وبراءة الذمة من العقوبات السابقة، وصدور قرار التعيين من الجهات المختصة، ويجب أن يحمل قضاة الشرع شهادة من كلية الشريعة وما يعادلها.
وتشترط بعض البلاد الإسلام، والذكورة، وحسن السيرة والسلوك، والسلامة من الأمراض والعاهات.
4- يتمتع قضاة الشرع بالاستقلال، والحصانة القضائية، وحماية الدولة، والراتب، والترقية أو الترفيع، كما يتمتعون بجميع الحقوق والضمانات المقررة في نظام الموظفين.
5- يجب على قضاة الشرع أداء اليمين، والإقامة في مكان العمل، والحياد والنزاهة، والمواظبة على الدوام، والالتزام بالأنظمة والقوانين، ولبس الرداء والشارات الخاصة بالقضاة.(40/35)
6- يمتنع على قضاة الشرع إبداء الآراء السياسية، وإبداء الرأي في القضية، ومزاولة الأعمال الأخرى، والاشتراك في التحكيم إلا في حالات وبإذن مجلس القضاء الأعلى، والوكالة في الخاصة إلا في حالات استثنائية، والقضاء للنفس وللأقارب، والاجتماع مع أقارب في محكمة واحدة، والاشتراك في المزايدة والشراء.
7- إن درجات قضاة الشرع تختلف من قضاة محاكم ابتدائية إلى استئناف، إلى محكمة عليا، ولهم درجات معينة وتصنيف بحسب تعيينهم وأقدميتهم وترقيتهم ورئاستهم للمحكمة، كما أنهم يصنفون إلى قضاة محاكم شرعية وقضاة مظالم في بعض البلاد.
ثانياً التوصيات:
1- إن القضاء الشرعي في تاريخ الإسلام يمثل صفحة ناصعة، ويضرب المثل بقضاة الشرع في التاريخ، لذلك نوصي بالسير على خطواهم، ومنوالهم، وسيرتهم، لتحقيق العدل والحق.
2- نوصي بعودة القضاء الشرعي إلى مكانته التي كان يتمتع بها، وأن يكون اختصاص قضاة الشرع عاماً، مع تخصيص العمل بينهم.
3- نوصي بالالتزام بشرط الإسلام والذكورة في قضاة الشرع، وأن يمنحوا الحصانة القضائية الكاملة والحقيقية.
4- يجب تأهيل قضاة الشرع، وفتح معاهد لتدريبهم قبل التعيين، وتحصينهم بالعمل الكافي، والتدريب العملي الواسع.
5- نطالب بتعيين قضاة الشرع في البلاد التي ألغي فيها القضاء الشرعي.
6- نوصي بوجوب التعاون والتبادل بين قضاة الشرع في البلاد العربية والإسلامية، وتعميم الأقضية والاجتهادات التي تصدر عن المحاكم العليا.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
أهم المصادر والمراجع
1- الأحكام السلطانية، علي بن حبيب الماوردي (450هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر – ط2-1386هـ/1966م.
2- الأحكام السلطانية، محمد بن الحسن الفراء الحنبلي (458هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر – ط2-1386هـ/1966م.(40/36)
3- أخبار القضاة، وكيع، محمد بن خلف بن حيان (306هـ) تصوير عالم الكتب، بيروت – د. ت.
4- أدب القضاء، إبراهيم بن عبد الله، ابن أبي الدم الحموي الشافعي (642هـ) تحقيق الدكتور محمد الزحيلي، دار الفكر – دمشق – ط2- 1402هـ/1982م.
5- أصول المحاكمات، الدكتور رزق الله أنطاكي – مطبعة جامعة دمشق – دمشق – 1383هـ-1963هـ.
6- بدائع الصنائع، علاء الدين بن مسعود الكاساني (587هـ) مطبعة الجمالية بالقاهرة – 1328هـ/1910م+طبعة علي زكريا – القاهرة – 1968م.
7- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن أحمد، ابن رشد الحفيد (595هـ) مكتبة الطلبات الأزهرية – القاهرة – د. ت.
8- تأهيل القضاة في المملكة العربية السعودية، الشيخ عبد الله بن محمد اليحيى، بحث في ندوة القضاء والأنظمة العدلية – الرياض -1424هـ/2004م.
9- تاريخ القضاء في الإسلام، الدكتور محمد الزحيلي – دار الفكر – دمشق – 1415هـ/1995م.
10- تاريخ القضاء في الإسلام، القاضي الشيخ محمود عرنوس (1955م) المطبعة المصرية الحديثة الأهلية – القاهرة – 1352هـ/1934م.
11- تبصرة الحكام، في أصول الأقضية، إبراهيم بن علي بن فرحون المالكي (799هـ) تصوير دار الكتب العلمية – بيروت – عن المطبعة العامرية الشرقية بمصر – 1301هـ.
12- التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، الدكتور محمد الزحيلي، دار الفكر – دمشق – 1423هـ/2002م.
13- حاشية ابن عابدين رد المحتار، محمد أمين (1252هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر – 1386هـ/1966م.
14- الروض المربع بشرح زاد المستقنع للحجاوي، منصور بن يونس البهوتي (1051هـ) المطبعة السلفية – القاهرة – ط7- 1392هـ.
15- الروضة = روضة الطالبين، يحيى بن شرف، محيي الدين النووي (676هـ) المكتب الإسلامي – دمشق – 1384هـ/1964م.
16- زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر، ابن قيم الجوزية (751هـ) مؤسسة الرسالة – بيروت – ط1 – 1399 هـ/1979م.(40/37)
17- فتح القدير شرح الهداية للمرغيناني (593هـ) الكمال بن الهمام (861هـ) المكتبة التجارية الكبرى، مصر – 1356هـ.
18- فقه القضاء والدعوى والإثبات، الدكتور محمد الزحيلي – نشر جامعة الشارقة – الشارقة – 1422هـ/ 2002م.
19- القضاء والتقاضي في قانون الإجراءات المدنية في الإمارات، الدكتور علي الحديدي – نشر كلية الشرطة – دبي – 1998م.
20- قواعد المرافعات في دولة الإمارات، الدكتور أحمد صدقي محمود، مطبعة البيان التجارية – دبي – 1999م.
21- الكافي في الفقه على مذهب أهل المدينة، يوسف بن عبد البر المالكي (463هـ) مؤسسة النداء – أبو ظبي – 1424هـ/2004م.
22- المحلى، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (456هـ) المطبعة المنيرية – القاهرة – 1350هـ.
23- المغني، عبد الله بن أحمد، ابن قدامة المقدسي (620هـ) طبع مكتبة الجمهورية – القاهرة – 1386هـ/1966م.
24- مغني المحتاج، محمد بن أحمد الشربيني الخطيب (997هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1370هـ/1968م.
25- المنهاج، ومعه مغني المحتاج، يحيى بن شرف، محيي الدين النووي (676هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة – 1370هـ/1968م.
26- المهذب في الفقه الشافعي، إبراهيم بن يوسف، أبو إسحاق الشيرازي (476هـ) تحقيق الدكتور محمد الزحيلي – دار القلم – دمشق – 1412هـ/1992م.
27- مواهب الجليل شرح مختصر خليل، محمد بن محمد الحطاب (954هـ) مطبعة السعادة – مصر – ط1 – 1329هـ.
28- النظام القضائي في المملكة العربية السعودية، الدكتور حامد أبو طالب – دار الفكر العربي – القاهرة – 1404هـ/1984م.
29- الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية، الدكتور عدنان الخطيب – مكتبة الاستقامة – دمشق – 1381هـ/1961م.
30- الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية، الدكتور محمد الفاضل – مطبعة جامعة دمشق – دمشق – 1963م.
31- الولاة والقضاة، أبو عمر، محمد بن يوسف الكندي المصري (350هـ) مكتبة المثنى، بغداد – 1908م.(40/38)
قول الخبير وحجيته في إثبات العيب الموجب لفسخ عقد النكاح
إعداد
الدكتور عدنان عزايزة
قسم الفقه وأصوله
كلية الشريعة – جامعة الزرقاء الأهلية
مقدم إلى ندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع والآمال "
في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الشارقة
11-13/4/2006م
قول الخبير وحجيته في إثبات العيب الموجب لفسخ عقد النكاح
…سأتناول باذن الله تعالى هذا العنوان بالبحث في تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة على النحو الآتي :
تمهيد : أتحدث فيه عن اهتمام الاسلام بالأسرة والحفاظ على كيانها واستقرارها وحل ما ينجم بين الأزواج من نزاع وخصومة، وأبين أهمية القضاء الشرعي في فض النزاعات واقامة الحق والقسط بين الزوجين باتباع وسائل الاثبات المعروفة ووسائل الاثبات المعاصرة كقول الخبير .
الفصل الأول : أبين فيه معنى الخبير لغة واصطلاحاً .
الفصل الثاني : مشروعية قول الخبير وحجيته .
الفصل الثالث : قول أهل الخبرة في فسخ النكاح بسبب العيب .
الخاتمة : وفيها الخلاصة ونتائج البحث .
الباحث
ملخص بحث
"قول الخبير وحجيته في إثبات العيب الموجب لفسخ عقد النكاح"(41/1)
عالج الباحث الموضوع ، بتمهيد تحدث عن اهتمام الشريعة الإسلامية بالأسرة وعقد الزواج والحرص على استقرار الأسرة وإزالة النزاعات ودور القضاء الشرعي في الحفاظ على استقرار المجتمع بالحفاظ على أفراده وفض النزاعات الناجمة بينهم لأسباب مختلفة ومن أهمها العيوب ، التي تقتضي الرجوع إلى أهل الخبرة لإثبات وجودها وأثرها الموجب للفسخ ، ثم جرى تعريف الخبير وشروطه والأدلة على حجية قوله ثم أهم النتائج التي توصل إليها البحث والتي من أهمها وجوب الرجوع إلى قول أهل الخبرة فيما ليس للقضاة فيه مدرك أو إحاطة، وان العقد ينفسخ بوجود عيب تتحقق فيه واحدة من علل ثلاث أن يكون مانعاً للمعاشرة الزوجية أو معدياً للسليم أو منفراً من العشرة ، ومن أهم النتائج القول بمنع إجراء عقد الزواج ابتداءً إذا قرر الخبير الحاذق العارف أن زواج الرجل بالمرأة ينتج أطفالاً مصابين بأمراض وإعاقات تؤثر في بنية المجتمع واستقراره .
تمهيد(41/2)
للأسرة أهمية بالغة في شريعة الإسلام فهي أساس المجتمع ونواته الأولى ولذا حرص الإسلام على استقرارها وبنائها على أسس سليمة لتحقق مقاصد الشريعة في إيجادها ، ومن هنا فان عقد النكاح في شريعة الإسلام عقد عظيم الخطر جليل القدر ، فلذا اهتم الإسلام به اهتماماً كبيراً وسماه ميثاقاً غليظاً وجعل له من الهيبة والاحترام والاهتمام ما لم يجعله لعقد غيره لأنه وما يترتب عليه من آثار يشكل النواة الأولى في بناء المجتمع المسلم ، وهو السبيل الوحيد المشروع لاستمرار الحياة بالتناسل والتكاثر وعمارة الأرض ، فلذا كانت له أحكام تناسب خطره وأهميته ، ومن هنا حرصت الشريعة على رعايته منذ اللحظات الأولى من لحظة التفكير بالزواج فحثت الرجل على البحث عن ذات الدين والظفر بها ، وحث النساء والأولياء على تزويج صاحب الخلق والدين وجعل مجاوزة أمر الشارع في هذا الأمر يحدث فتنة في الأرض وفساد كبير ، ولما كان يراد لهذا العقد الدوام والاستمرار ، حرصت الشريعة على تشريع الأحكام التي تساهم في استمراره في جو من السكينة والمودة والرحمة والتعاون على البر والتقوى ، فشرع لكل من الخاطبين النظر إلى صاحبه ليؤدم بينهما وأمر الأولياء والنساء بألا يكتموا شيئاً من العيوب وما يرغب عنه الناس من الصفات والأخلاق حتى لا يكون الغرر المفضي إلى النزاع والخصومة والشقاق الذي ينافي مقصد العقد في تحقيق السكن والمودة والرحمة ، ولكن كل هذه التوجيهات قد يتجاوزها الأولياء والأزواج فيكتمون ما أمروا بإظهاره وكشفه ، فيكتشف بعضهم عيباً في زوجه الآخر فيثور النزاع والشقاق ، المفضي في المآل إلى رفع الأمر للقاضي لفض النزاع وحسم الخلاف ، وهو يحتاج في سبيل هذا لإثبات وجود العيب المدعى به واثبات علته الموجبة للفسخ ، كضرره وأعدائه أو كونه مانعاً من المعاشرة الزوجية ، ولما كان بعض هذه العيوب لا يمكن للقاضي إدراكها بسهولة ويسر إما لكونها في العورات أو مما لا يطلع(41/3)
عليه الرجال ، أو هو أمر يخفى على غير الخبير المختص ، فوجب على القاضي الرجوع إلى قول أهل الخبرة والبصيرة من الأطباء الحاذقين ، فهم أهل الذكر في هذا المجال وقولهم هو القول الفصل في إثبات الأمر ونفيه ، وبيان أثره المعدي وضرره ، فرجوعه إلى قولهم التزام بأمر الشارع بسؤال أهل الذكر وتحقيق لمقصد الشريعة ومصالحها من إقامة العدل والقسط ودفع المفاسد ورعاية المصالح واستقرار المجتمع .
…والذي يقع عليهم عبء هذا الأمر ، هم القضاة الشرعيون فهم الذين ينصبون لفض النزاعات وإزالة الخصومات ، لما يعنيه هذا من حفاظ على امن المجتمع بالحفاظ على الأسرة المسلمة متماسكة مترابطة مطمئنة تعيش مكوناتها في رحمة وسكينة ومودة ، فثقل المسؤولية عليهم وخطر الأمر الذي يتصدون له يوجب الاهتمام بهم وتطوير أدائهم والارتقاء بعملهم حتى يبلغ درجة الإحسان ، واني أرى من آفاق تطوير القضاء الشرعي في هذا العصر إن يواكبوا التقدم والتطور في الاختراعات والاكتشافات التي تعينهم على إقامة الحق والعدل ، باستخدام كل وسيلة مشروعة تمكنهم من تصور المسائل والوقوف على حقائقها الذي يمكنهم من الحكم بموجبها على هدى وبرهان لا على ظن وتخمين ، سيما والبينة في اصطلاح الشرع هي كل ما يبين الحق ويظهره ، وأولى هذه البينات بالاعتبار قول الخبير الحاذق العادل من الأطباء العارفين بتلك العلل والأمراض الموجبة لفسخ عقد النكاح عند التنازع بين الزوجين .
الفصل الأول: معنى الخبير لغة واصطلاحاً
المبحث الأول : معنى الخبير لغة :(41/4)
الخبير لغة : من خبر وقد خبره يخبره خبراً وخبرة وخبرت الأمر اخبره إذا عرفته على حقيقته والخبرة العلم بالشيء واسم الفاعل منه خابر وخبير والخبير العالم وهو الذي يختبر الشيء بعلمه ، والخابر المجرب العالم بالخبر(1) والخبير من أسماء الله الحسنى وهو العالم بما كان وما يكون ، ومعناه العالم ببواطن الأمور الذي لا يخفى عليه شيء .
…والخبرة اخص من العلم وهي شيء زائد عليه فلذا لم تتقدم الخبرة على العلم في قوله تعالى "عليم خبير" لان الخبرة العلم بالشيء علماً يحيط بكل شأن من شؤونه ظاهراً وباطناً ، وفيها زيادة علم بمعرفة دقائق الأمر وخصائصه على وجه الدقة ، وقال الزبيدي "وقال بعضهم الخبر بالضم العلم بالباطن الخفي لاحتياج العلم به للاختبار ، والخبرة العلم بالظاهر والباطن ، وقيل بالخفايا الباطنة ويلزمها معرفة الأمور الظاهرة(2) .
…والإنسان لا يكون خبيراً بأمر إلا إذا عرف ظاهره وأدرك خفاياه وباطنه .
المبحث الثاني : معنى الخبير في الاصطلاح :
لم أجد للفقهاء القدماء فيما اطلعت عليه تعريفاً للخبير في الاصطلاح ، لان الفقهاء لم يفردوا الخبير ببحث منفصل يبين مفهومه ومعناه، وإنما ذكروا بشكل مجمل أهل الخبرة وأهل المعرفة وأهل العلم وأهل البصر بالشيء، وقال الشوكاني " الخبير المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء"(3)
، وعرفه بعض المحدثين فقال البهنسي "الخبير هو كل شخص له دراية خاصة بمسألة من المسائل"(4)
__________
(1) ينظر ابن منظور لسان العرب 4/226، وابن فارس: معجم مقاييس اللغة 2/239 .
(2) ينظر د. فضل عباس: اعجاز القرآن 217 .
(3) الشوكاني: فتح القدير 4/84
(4) أحمد فتحي بهنسي : نظرية الاثبات في الفقه الخبائي الاسلامي 205، مصطفى مجدي : الاثبات في المواد الجنائية 100(41/5)
…وقال الجوخدار معرفاً الخبرة "هي وسيلة علمية وفنية للبحث عن الأدلة وتقديرها يقوم بها أهل الفن والصنعة والاختصاص"(1)
…ويمكننا تعريف الخبير بأنه "كل شخص له معرفة وحذق ودراية خاصة في فن من الفنون وصنعة من الصناعات بحيث يصير مرجعاً لأهلها وغيرهم في معرفة دقائقها وخصائصها ، وقد حصلها واكتسبها بالدراسة أو بالتجربة وطول المعايشة" .
…فمدار الخبرة واعتمادها على المعرفة الخاصة والإدراك العميق لأمر من الأمور أو شأن من الشؤون نتيجة لطول المصاحبة والمعايشة لهذا الأمر وكذلك لطول مدة البحث فيه والدراسة عنه حتى عرف ظاهره وباطنه وأسراره وخفاياه ، بحيث يرجع إليه لمعرفة أي أمر يتعلق بالموضوع الذي له فيه خبرة عند التنازع على أمر ، أو للتأكد من وجود صفة فيه أو عدمها ، أو لمعرفة عيب فيه أو لتقدير قيمته وغير ذلك .
المبحث الثالث : الفرق بين الخبير والشاهد :
هناك فروق بين الخبير والشاهد يدركها المتعمق في النظر بين المصطلحين ومن هذه الفروق :
الشاهد يخبر عما شاهده بعينه وسمعه بأذنه وهو يؤدي ما تحمله كما سمعه أو شاهده وليس له أن يزيد أو ينقص أو يغير أو يعدل أو يحلل ويستنبط ، أما الخبير فيشاهد الأمر ولكنه يستدل على الأمر الباطن بالشيء الظاهر ويربط النتائج بالمقدمات والأسباب بالمسببات ويدرس الأمر ويحلله ويستنبط منه النتائج بحسب خبرته ومعرفته وبناء على الحقائق الثابتة والقواعد العلمية .
__________
(1) حسن الجوخدار: شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري 359، 360(41/6)
الشاهد شخص معين لا يمكن استبداله لان الشهادة متعلقة بعينه فهو الذي شاهد وسمع ، فلا يجوز الإتيان بغيره ليشهد على أمر لم يره ولم يسمعه فان فعل فهو شاهد زور ، أما الخبير فهو ليس شخصاً معيناً بعينه ، فيمكن استبداله وتغييره لان موضوع الخبرة ليس الإخبار عما شاهد فحسب وإنما هو بيان الرأي العلمي والحقيقة الغنية في ظواهر وعلامات وتغيرات وادعاءات وهذا ليس شرطاً أن يقوم به شخص معين بل يستطيعه كل شخص خبير في هذا المجال ، فلو تعذر على خبير الحضور عند القاضي للشهادة بخبرته لموت أو غيبة أو مرض فللقاضي أن يطلب خبيراً غيره ، وهذا غير ممكن في الشهادة لان ذلك يناقض حقيقتها وشروطها .
الشاهد يكتفي بظواهر الأمور وما بدا منها ، والخبير ينفذ إلى الأعماق ويتجاوز الظواهر ويستفيد من الظروف والأحوال المصاحبة للوصول إلى الحق .
القاضي لا يكون شاهداً وبالتالي لا يقضي بعلمه على خلاف بين العلماء في ذلك ، ولكنه إن كان خبيراً في أمر فعليه استخدام خبرته ومعرفته في تصور المسائل وإدراك الأمور على حقيقتها حتى يحكم بالعدل .
قد ينخدع الشاهد بظواهر الأمر فيشهد مثلاً على سلامة المبيع من العيب ولكن الخبير لا يخدعه الظاهر ، فقد يحكم بتعييب الشيء مع أن الظاهر السلامة منه .
لا بد أن يكون الخبير ذكياً فطناً دقيق الملاحظة حاد الفهم وقد يكون الشاهد إنساناً عادياً ساذجاً غير فطن .
الشاهد قد يشهد في كل مجالات الحياة كالبيع والزواج والاعتداء وغيرها وأما الخبير فلا يخبر إلا عن الشيء الذي هو متخصص فيه إلا إذا كان خبيراً في كل شيء وهذا أمر نادر .
قول الخبير في بعض المجالات كإثبات الشخصية بالبصمات أو بتحليل الدم والجينات يصل حد القطع واليقين وشهادة الشاهد تفيد غلبة الظن ولا تصل حد اليقين ، لأنها قد يتطرق إليها احتمال الكذب والتزوير بخلاف الخبرة في بعض المجالات لأنها أشياء مادية ملموسة لا تتبدل ولا تتغير .(41/7)
الخبير لا بد أن يكون مجتهداً في مجال خبرته لان الخبرة علم يتعلم ولا يطلب من الشاهد أن يكون عالماً بكل ما يرى ويسمع وإنما ينقل كلاماً ويشهد بحادثة أو واقعة .
بينهما عموم وخصوص فكل خبير شاهد وليس كل شاهد خبير .
المبحث الرابع : أنواع الخبراء:
لا يمكن حصر أنواع الخبراء لأنه ما من مجال من مجالات الحياة ولا جانب من جوانبها ولا علم من العلوم ولا فن من الفنون ولا حرفة من الحرف ولا صنعة من الصنائع إلا وفيها خبراء مختصون من أهلها فالخبرة تتسع مجالاتها بتقدم العلم ودقة الاختصاصات ، وقد ذكر ابن فرحون المالكي بعضاً من أنواع الخبراء وسماهم أهل المعرفة وقد افرد لهم باباً خاصاً فقال الباب الثامن والخمسون في القضاء بقول أهل المعرفة ثم اخذ يعددهم فقال "ويجب الرجوع إلى قول أهل البصر والمعرفة من النخاسين في معرفة عيوب الرقيق ... ويرجع إلى أهل الطب والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح وعمقه وعرضه ... وكذلك يرجع إلى أهل المعرفة من النساء في قياس الجرح وقدره إذا كان مما تجوز فيه شهادة النساء ، ويرجع إلى أهل المعرفة من الاكرياء في معرفة عيوب الدواب ، ويرجع إلى أهل المعرفة في عيوب الدور وما فيها من الصدوع والشقوق وسائر العيوب ، ويرجع إلى أهل المعرفة من التجار في تقويم المتلفات وعيوب الثياب ، ويرجع إلى أهل المعرفة من النساء في عيوب الفرج وفي عيوب الجسد مما لا يطلع عليه الرجال ويرجع إلى أهل المعرفة بالجوائح وما ينقص الثمار ، ويرجع إلى أهل المعرفة بمسائل الضرر مما يحدثه الإنسان على جاره أو في الطرقات وأنواع ذلك "(1)
وقد استجدت أنواع كثيرة من الخبراء اقتضاها التقدم في العلوم والاختراعات ومعرفة أسرار الكون وسننه .
المبحث الخامس : مدى الحاجة إلى أهل الخبرة من قبل القضاة لفض النزاعات وإزالة الخلافات:
__________
(1) ابن فرحون : تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 2/72 ، 75(41/8)
يحتاج القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس ونزاعاتهم في معاملاتهم وبالأخص فيما يتعلق بأحوالهم الشخصية من زواج وطلاق إلى الرجوع إلى الخبراء والعارفين للاهتداء بأقوالهم في توضيح الحقائق واثبات الجوانب الفنية في القضايا المطروحة ، لان القاضي ليس خبيراً في كل فن ولا عالماً في كل صنعة وحرفة ، فلو نظر القاضي في دعوى مرفوعة من شخص على آخر انه اشترى منه سلعة فوجدها معيبة ويريد ردها على صاحبها واخذ الثمن الذي دفعه فالقاضي لا يشك أن المبيع يرد على صاحبه بالعيب القديم الذي لم يحدث عند المشتري ولا رضي به ، لكن بعض العيوب لا يمكن معاينتها من القاضي وإنما هي أمور باطنة لا يعرفها ولا يدركها إلا الخبراء المختصون فلذا يرجع إليهم في إثبات ذلك ، فكذلك عندما ترفع الزوجة مثلاً دعوى على زوجها تطالبه بفسخ العقد لوجود عيب من العيوب الجنسية المانعة من الوطء في زوجها ، فالقاضي لا يستطيع الوقوف على حقيقة هذه العيوب ولا بد له من الفصل في هذه القضية ، فإما أن يحكم على الأمر ويقضي بغير علم وإما أن يعيد الأمر إلى نصابه ويرد الأمر إلى أهل الذكر وهم أهل الخبرة والمعرفة فيبينون حقيقة الأمر ووجود العيب فيقضى عندها بالبينة الواضحة القوية وفي ذلك حكم بالحق والعدل والقسط وما عداه الظلم والجور والهوى فلذا صار الأمر ضرورياً لازماً - خصوصاً في زماننا هذا الذي تطور فيه العلم والاكتشاف - الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة فيما لا يدركه القاضي ويمكنه الوقوف عليه ، لان الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فإيجاب سؤال من لا يعلم للخبراء العارفين وخصوصاً القضاة المأمورين بالحكم بين الناس بالعدل والقسط لازم لا بد منه .
الفصل الثاني
مشروعية قول أهل الخبرة وحجيته
لقد تضافرت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والمعقول على مشروعية قول أهل الخبرة واعتبار قولهم حجة في الحكم في بيان الحق وفض النزاعات والقضاء في الخصومات .(41/9)
المبحث الأول : الأدلة من الكتاب الكريم
قوله تعالى " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" الأنبياء اية7 ، فالآية الكريمة تأمر بسؤال أهل الذكر الذين أهل العلم والمعرفة والخبرة عند عدم العلم ، وهي عامة في كل شأن وبالأخص من أمر بالعدل والقسط بين الناس ، والله عز وجل قد قال "ولا ينبئك مثل خبير" لان الخبير العارف يصدر قوله عن فهم وإدراك ومعرفة ، وغيره يكون قوله صادراً عن ظن وتوهم .
قال السرخسي "إنما يرجع إلى معرفة كل شيء إلى من له بصر في ذلك الباب كما في معرفة القيمة والأصل في ذلك قوله تعالى "فاسئلوا أهل الذكر"(1) .
وقال الكاساني "فإذا أراد المشتري إثبات كون العيب في السلعة موجوداً للحال في يده وكان مما لا يقف عليه إلا الأطباء والبياطرة فانه يثبت بقولهم لقوله عز وجل "فاسئلوا أهل الذكر" وهم في هذا الباب من أهل الذكر فيسألون.(2)
قوله تعالى "يا أيها الذين امنوا لا تقتلوا الصيد وانتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم" المائدة أية 95 .
قال الألوسي "حكمان عدلان من المسلمين لان التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل احد من الناس"(3)
__________
(1) السرخسي : المبسوط 13/110 .
(2) الكاساني : بدائع الصانع 5/278،279 .
(3) الألوسي : روح المعاني 7/26 وانظر الطبري : جامع البيان 5/48 ، ابن كثير : تفسير القرآن العظيم 2/99 ، الشوكاني : فتح القدير 2/78(41/10)
فالله سبحانه وتعالى أوجب على من قتل صيداً وهو محرم جزاء يحكم بتقديره عدلان مسلمان خبيران بقيمة الصيود ، قال الكاساني "فان كان القتل مباشرة فعليه قيمة الصيد المقتول يقومه ذوا عدل لهما بصارة بقيمة الصيود"(1) ، قال الشيرازي "يرجع في معرفة المماثلة بينة –أي الصيد- وبين النعم إلى عدلين من أهل المعرفة"(2) ، وقال ابن عابدين "والمراد بالعدل من له معرفة وبصارة بقيمة الصيد"(3)
فإيجاب الرجوع إلى حكم العدلين من أهل البصر والمعرفة في تقدير قيمة الصيد اعتبار لقول الخبير العارف .
قوله تعالى "وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ان يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما" النساء 35 .
قال القرطبي "يكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه"(4) ، فالله سبحانه وتعالى أمر ببعث الحكمين وتسميتهما بهذا الاسم ووصفهما بهذا الوصف للنظر في التنازع بين الزوجين لإزالة الخلاف ليدل على اعتبار قول الخبير العارف وحجته في أهم العقود وأخطرها ولو كان ذلك بالتفريق بين الزوجين .
الآيات الكريمات التي تأمر بالحكم بين الناس بالعدل والقسط :
مثل قوله تعالى "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "النساء58 ، وقوله تعالى "قل أمر ربي بالقسط" الأعراف 29 . وقوله تعالى "فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى" ص26 .
__________
(1) الكاساني : بدائع الصانع 2/198 .
(2) الشيرازي المهذب : 1/223 .وانظر الدردير : الشرح الكبير 2/322 ، 323 .
(3) ابن عابدين : حاشية رد المحتار على الدر المختار 2/563
(4) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 3/175 ، 176 ، وينظر ابن كثير : تفسير القرآن العظيم 1/493 ، النسفي: مدارك التنزيل 1/224 ، الشوكاني : فتح القدير 1/463 ، الألوسي : روح المعاني 5/26 .(41/11)
قال ابن القيم رحمه الله : فان الله سبحانه وتعالى أرسل رسله عليهم السلام وانزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات ، فان ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ، والله سبحانه وتعالى اعلم واحكم واعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو اظهر منها وأقوى دلالة وأبين إمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له"(1)
أقول فالحكم له طريقان إما طريق الحق والعدل وإما طريق الهوى والضلال وقد أمر الله سبحانه القضاة والحكام بإتباع طريق الحق والعدل ومجانبة طريق الهوى والضلال ، فرجوع القاضي فيما لا يدركه من الأمور إلى الخبير العارف سلوك لطريق الحق والعدل ، وان اعرض عن قولهم فقد سلك طريق الهوى المفضي إلى الضلال والظلم ، وهذا اعتبار من الشارع لقول الخبير وجعله حجة في المسائل التي لا تعرف إلا من طريقه .
المبحث الثاني: الأدلة من السنة النبوية :
ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور فقال يا عائشة الم تري أن مجززاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدأت أقدامهما فقال أن هذه الأقدام بعضها من بعض"(2)
__________
(1) ابن قيم : الطرق الحكمية 14 .
(2) البخاري : صحيح البخاري مع فتح الباري 12/56 حديث رقم 6771 ، صحيح مسلم 10/40-42 ، مختصر سنن أبي داود 3/175 ، 176 ، صحيح الترمذي مع عارضة الاحوذي 8/290 ، 291 .(41/12)
قال الخطابي "في هذا الحديث دليل على ثبوت أمر القافة وصحة قولهم في إلحاق الولد"(1)وكذا قال ابن عربي(2).
والقائف هو الذي يعرف الأشباه فيعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه فيلحق النسب اعتماداً على الشبه البين .(3)
ووجه الدلالة في الحديث إقراره صلى الله عليه وسلم لقول مجزز دليل على مشروعية وحجية قول القائف وحكمه في إلحاق النسب لأنه صلى الله عليه وسلم لا يسر بباطل ولا يقره ، واعتبار قول القائف في إلحاق النسب اعتبار لقول الخبير وحجية حكمه .
ما رواه البخاري ومسلم واللفظ له عن أبي حميد الساعدي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخرصوها فخرصناها وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق وقال احصيها حتى نرجع اليك ان شاء الله ... . ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها فقالت عشرة أوسق"(4)
قال ابن حجر "في هذا الحديث مشروعية الخرص"(5)
والخارص أصله من خرص بمعنى حزر وقدر،(6) وفي الاصطلاح : حزر ما على النخلة من الرطب ثمراً"(7)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص البساتين على اليهود.(8)
أقول : في فعله صلى الله عليه وسلم وأمره أصحابه وإرساله ابن رواحة دليل على اعتبار قول الخارص وهو الخبير العارف والاعتماد على حكمه وتقديره للثمار من اجل الزكاة أو القسمة بين الشركاء .
__________
(1) الخطابي : معالم السنن على مختصر سنن ابي داود 3/175 .
(2) ابن عربي : عارضة الاحوذي شرح صحيح الترمذي 8/290 .
(3) انظر المنذري : مختصر السنن 6/203 .
(4) مسلم : صحيح مسلم 15/41-43 ، صحيح البخاري مع الفتح 3/343 ، 344 حديث رقم 1481 .
(5) ابن حجر : فتح الباري 3/346 .
(6) ابن منظور : لسان العرب 7/21 .
(7) النسفي : طلبة الطلبة 307 .
(8) انظر المنذري : مختصر السنن 2/213 .(41/13)
استئجار النبي صلى الله عليه وسلم ابن اريقط ليدله على طريق الهجرة .
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت " ... واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً ، والخريت الماهر بالهداية"(1)
قال ابن القيم "وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الدليل المشرك الذي استأجره ليدله على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته"(2)
أقول وفي فعله صلى الله عليه وسلم دليل على الاعتماد على خبرة الخبير واعتبار قوله وفعله ولو كان مشركاً إذا ظهر صدقه وأمانته .
أمره صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليترجم بينه وبينهم .
قال البخاري قال خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقراته كتبهم إذا كتبوا إليه"(3)
وعند أبي داود "فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته"(4)
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم زيداً بتعلم لسان اليهود حتى يصير مترجماً بينه وبينهم دليل على اعتبار قول الخبير وحجيته في الشرع .
المبحث الثالث : الأدلة على مشروعية قول أهل الخبرة وحجيته من المعقول
البينة اسم لكل ما يبن الحق ويظهره فيدخل في مسماها قول الخبير وشهادته كالقائف والخارص والمقوم والطبيب وسائر الخبراء في كل فن وصنعة(5) .
__________
(1) البخاري : صحيح البخاري مع الفتح 7/232 حديث رقم 3905 .
(2) ابن القيم : أعلام الموقعين 1/104 .
(3) البخاري : صحيح البخاري مع الفتح 13/185 ، 186 حديث رقم 7195 ، قال ابن حجر : وهذا التعليق من الاحاديث قد وصله مطولاً في كتاب التاريخ ، فتح الباري 13/186 .
(4) المنذري : مختصر السنن 5/246 .
(5) أنظر ابن القيم : أعلام الموقعين 1/91 ، 96 ، 100 ، الطرق الحكيمة : 12 ، 24 ، 96 ، 97 .(41/14)
ان عدم اعتبار قول الخبير وحكمه في ما يرجع إليه من المسائل والقضايا التي لا يدركها كل احد ، سيكون سبباً في ضياع كثير من الحقوق وسبباً في إتلاف الأنفس والأموال ، وقد جاءت الشريعة لحفظها وصيانتها ولإقامة العدل والقسط .
إن إقامة العدل والقسط وإشاعة الأمن ومحاربة الظلم مقصد من أهم مقاصد الشريعة المطهرة ، ويتوصل إلى هذا بكل طريق مشروع والرجوع إلى قول أهل الخبرة والمعرفة من أهم الوسائل في تحقيق هذه المقاصد .
إن واجب القاضي الحكم بالعدل والقسط فإذا لم يمكنه تحصيل هذا المقصد بنفسه يتعين عليه الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة وإلا جار في حكمه وظلم ، فهما طريقان للحكم إما حكم بالحق والعدل وإما حكم بالهوى والضلال والحق أحق أن يتبع .
المبحث الرابع : أقوال العلماء في اعتبار قول الخبير
* وقد تضافرت نصوص الفقهاء وأقوالهم في اعتبار قول أهل الخبرة والرجوع إلى أقوالهم في المسائل والقضايا التي لا تدرك إلا من طريقهم وسأذكر بعض هذه الأقوال من شتى المذاهب للتمثيل لا للاستقراء والإحصاء .
قال الزيلعي "المرجع في الحبل إلى قول النساء في الداء إلى قول الاطباء"(1)
قال ابن الهمام "والمرجع في كونه عيباً أو لا لأهل أخبرة بذلك"(2)
قال الكاسائي "وأما إن كان لا يقف عليه إلا الأطباء والبياطرة فانه يثبت بقولهم"(3)
وقال الباجي المالكي "فان كان العيب مما لا يعلمه إلا أهل العلم به كالأمراض التي لا يعرف أسرارها إلا الأطباء فلا يقبل إلا قول أهل المعرفة بذلك"(4)
وقال ابن فرحون المالكي "ويرجع إلى أهل الطب والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح وعمقه وعرضه"(5)
__________
(1) الزيلعي : تبيين الحقائق 4/34 .
(2) ابن الهمام : فتح القدير 6/4 .
(3) الكاساني : بدائع الصانع 5/278 .
(4) المواق : التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 4/462 .
(5) ابن فرحون : تبصرة الأحكام 2/75، وانظر ابن الجزيء : القوانين الفقهية 230 .(41/15)
وقال النووي "إن قال واحد من أهل المعرفة بالعيب انه عيب ثبت الرد"(1)
قال الرافعي "يثبت الخيار في فسخ الزواج إذا حكم أهل البصائر باستحكام العلة"(2)
قال ابن مفلح "فان اختلفا في وجود العنة فان كان للمدعي بينة من أهل الخبرة والثقة عمل بها"(3)
وقال أيضاً "وان اختلفا في ذهاب بصره أري أهل الخبرة"(4).
المبحث الخامس : شروط أهل الخبرة في الشريعة :
لا بد أن تتحقق في الخبير مهما كان مجاله الذي يعد فيه خبيراً الأهلية الكاملة وهو كونه عارفاً عالماً حاذقاً بخفايا الشأن الذي يعمل فيه فاهماً لأسراره ومدركاً لظاهره وخفاياه ، علاوة على هذه هناك شروط لا بد أن تتوافر فيه بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه وأهمها .
الإسلام : أتفق العلماء على قبول رأي الخبير المسلم ، ولكنهم اختلفوا في قبول قول غير المسلم .
فعند الحنفية لا بد من قول خبير مسلم حاذق(5).
وقال الحصكفي رداً على من قال بجواز التطبيب بالكافر فيما ليس فيه إبطال عبادة ، وفيه كلام لأنه عندهم نصح المسلم كفر فأنى يتطبب بهم"(6).
وأما المالكية فاشترطوا كون الخبير عدل عارف ولم يشترطوا إسلامه ، وأجازوا شهادة غير المسلم الخبير إذا لم يوجد غيرهم (7).
__________
(1) النووي : روضة الطالبين 3/489 .
(2) الرافعي : الشرح الكبير 8/133 .
(3) ابن مفلح : المبدع في شرح المقنع 7/102
(4) ابن مفلح : المبدع 8/386 .
(5) ينظر الزيلعي : تبين الحقائق 1/333 ، شيخ زاده : مجمع الانهر 1/38 .
(6) الحصلفي : الدار المختار بهامش الحاشية 2/422 ، 423 ، وانظر ابن عابدين : الحاشية 2/423 ، …الكاساني : بدائع الصانع 5/278 ، 279 .
(7) ينظر الحطاب : مواهب الجليل 1/334 ، الازهري : جواهر الاكليل 1/26 ، ابن جزيء : القوانين الفقهية 174 ، …الكشناوي : اسهل المدارك 2/294 .(41/16)
* وأما الشافعية فيشترطون كون الخبير مسلماً (1)
* وأما الحنابلة فلا يقبل عندهم قول الخبير غير المسلم إلا عند الضرورة قال ابن القيم "قال شيخنا وقول الإمام في قبول شهادتهم –في الوصية في السفر- في هذا الموضع هو ضرورة ، يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضراً أو سفراً"(2)
وقال "وقد أمر الله تعالى بالتثبت والتبين في خبر الفاسق ولم يأمر برده جملة، فإن الكافر والفاسق قد تقوم على خبره شواهد الصدق فيجب قبول قوله والعمل به ، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة دليلاً مشركاً على دين قومه فأمنه ودفع إليه راحلته"(3)
والذي أميل إليه قبول قول الخبير المسلم فان عدم فيقبل قول الخبير غير المسلم الذي اشتهر بالخبرة والحذق ، وإذا لم يعرف عنه الكذب واشتهر بالصدق والإنصاف .
الذكورة :
…اجمع أكثر العلماء من مختلف المذاهب على أن الخبير لا بد أن يكون رجلاً سواء إشترطنا العدد أو اكتفينا بالواحد وقد أجازوا شهادة النساء مع الرجال في أحوال ، وأجازوا شهادة النساء منفردات فيما لا يطلع عليه إلا النساء وبيان ذلك فيما يأتي :
…القائف عند المالكية لا بد من كونه رجلاً ولا يعمل عندهم بقيافة النساء إلا أن يضعف بصر القائف فيستعين بهن(4)وأما الشافعية فالأصح عندهم اشتراط كونه ذكراً (5)وكذا يشترط كونه ذكراً عدلاً مجرباً عند الحنابلة(6).
__________
(1) ينظر النووي : روضة الطالبين 1/103 ، الهيتمي : الفتاوى الكبرى 1/68 ، الشربيني : مغني المحتاج 1/93 ، والرافعي : الشرح الكبير1/220 ، والمارودي : الحاوي الكبير 10/177 .
(2) ابن القيم : الطرق الحكمية 192 ، 193 .
(3) ابن القيم : الطرق الحكيمة 24 ، 104 ، أعلام الموقعين 1/104 .
(4) ينظر ابن عبد البر : الكافي 2/931 .
(5) ينظر النووي : الروضة 12/101 ، 102 .
(6) ينظر ابن قدامة : المغني 5/769 .(41/17)
والخارص عند المالكية والحنابلة لابد من كونه رجلاً لأنه حاكم(1)والأصح عند الشافعية اشتراط الذكورة في الخارص(2).
وعند المالكية في عيوب النساء مما ينظره النساء فيقبل فيه امرأتان وما جاز للرجال النظر إليه في الوجه والكفيين فلا بد لإثباته من شهادة اثنين من الخبراء الرجال.(3)
وأما ما لا يطلع عليه الرجال ولا يطلع عليه إلا النساء كالعيوب تحت الثياب والبكارة والثيوبة وغيرها فجمهور الفقهاء(4)من الأئمة الأربعة وغيرهم انه تقبل فيه شهادة النساء ، وعند الشافعية والحنابلة في رواية انه تقبل فيه شهادة الرجال أيضاً .
والذي أراه وأميل إليه أن ما لا يطلع عليه إلا النساء فلا يقبل فيه إلا قول النساء الخبيرات وأما ما يمكن أن يطلع عليه الرجال والنساء ، فأرى أن تقبل فيه شهادة الرجال والنساء ، لان الخبرة ليست حكراً على الرجال ولا مقصورة عليهم بل يمكن أن تكون النساء كالرجال في الخبرة والمعرفة بعد أن تطورت الحياة وأصبحت المرأة تخوض غمار الحياة وتشارك في كافة مجالاتها فصارت طيبة خبيرة في التحليل الطبي والكيماوي وغيرها ، ولا أرى ما يمنع من قبول قول الخبيرة وقد أخذ عمر رضي الله عنه بقول خبراء من قريش في ولد تنازعه رجلان ، فألحقنه بالأول فأمضاه عمر رضي الله عنه بناء على قولهنّ(5).
العدد : هل يكتفى بالخبير الواحد أم لا بد من اثنين ؟
__________
(1) ينظر ابن قدامة : المغني 2/705 ، ابن جزيء : القوانين الفقهية 72 .
(2) ينظر الرملي : نهاية المحتاج 3/81 ، والهيثمي : تحفة المحتاج 3/257 .
(3) ينظر الازهري : جواهر الاكليل 1/301 .
(4) ينظر الكاساني : البدائع 5/279 ، والازهري : جواهر الاكليل 1/301 ، والنووي : روضة الطالبين 11/253 ، ابن القيم : الطرق الحكمية 161 ، 162 .
(5) القوافي : الفروق 4/101 .(41/18)
…لقد اختلفت أقوال الفقهاء واجتهاداتهم في هذه المسألة فمرة يشترطون العدد في أهل الخبرة ومرة يكتفون بقول الخبير الواحد ، ومرة يقولون لا بد من اثنين فإن لم يقدر عليهما يجزيء الواحد ، وسأذكر مثلاً على هذه الأحوال في كل مذهب من المذاهب ، لتتجلى الصورة ، ولا أريد الاستفصال حتى لا يطول المقام .
…قال الحنفية إذا وقعت جناية ثم ادعى حصول ضرر معين فاختلف في ذلك فيرجع في ذلك إلى قول طبيبين عدلين من أهل الخبرة(1)، وكذا عند تقويم العيب لمعرفة النقصان لا بد من قول اثنين من أهل الخبرة ، وكذا في إثبات الداء الذي لا يعرفه إلا الأطباء لا بد من اثنين(2).
…وقالوا بقبول شهادة الخبير الواحد العدل من الأطباء في إثبات الضرر المبيح للفطر(3).
وأجازوا شهادة الخبيرة الواحدة من النساء وان كانتا اثنتين فأوثق وأحوط بشرط العدالة ، في العيوب والداء الذي لا يطلع عليها إلا النساء(4)وكذا في معرفة البكارة والثيوبة عند التنازع(5).
…وأما المالكية فأشترطوا قول اثنين من الخبراء في إثبات الداء عند الرجال وكذا عند النساء إذا كان الداء في الوجه والكفيين(6).
وأما ما لا يطلع عليه الا النساء ، كالعيوب في الفرج والداء تحت الثياب والبكارة والثيوبة فلا بد من قول اثنتين من الخبيرات المسلمات.(7)
وكذا لا بد من قائفين عدلين في الحاق النسب وهذا في رواية(8).
__________
(1) ابن عابدين : الحاشية 6/551 .
(2) الزيلعي : تبيين الحقائق 4/34 ، الكاساني : البدائع /279 .
(3) ابن عابدين : الحاشية 6/232 ، 233 ، الكاساني : البدائع 5/279 ، 6/278 .
(4) الكاساني : البدائع 5/279 ، 6/278 ، الزيلعي : تبيين الحقائق 4/34 .
(5) ابن الهمام : فتح القدير 4/130 ، 131 ، ابن عابدين : الحاشية 3/494 – 496 .
(6) الازهري : جواهر الاكليل 1/301 .
(7) الازهري : الجواهر 1/301 ، المواق : التاج والاكليل 3/490 ، 491 .
(8) ينظر ابن عبد البر : الكافي 2/931 .(41/19)
وقد اكتفوا بقول الخبير الواحد في تقدير الجراح والشجاج اذا لم يوجد اثنين(1).
وكذا في معرفة العيب حدوثه وقدمه او وجوده وعدمه(2).
…وأما الشافعية فقد اشترطوا خبيرين في المجالات الاتية : في اثبات الضرر وتقدير مقداره(3) ، وما لا يطلع عليه الرجال وتختص بمعرفته النساء لا بد من العدد(4). ويقبلون قول الخبير الواحد ، في قبول قول الخارص على الاظهر والمشهور(5)وفي اثبات حصول الضرر من استعمال الماء لاباحة التعميم بقول طبيب واحد(6) ، واما ما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة والثيابة والعيوب في الفرج فلا يكتفي بأقل من رجلين او اربعة من النساء(7).
…واما الحنابلة فقد اشترطوا الاثبات بقول خبيرين في اثبات العيب عند التنازع(8)وللتأكد من ذهاب منفعة العضو لا بد من قول عدلين من اهل الخبرة(9) ، ويكتفون بقول مترجم واحد وطبيب واحد اذا لم يوجد اثنين(10)ويجزئ عندهم خارص واحد وقائف واحد(11)
__________
(1) ابن عبد البر : الكافي 2/931 .
(2) الدردير : الشرح الكبير 4/222 .
(3) الرملي : حاشيته على أسنى المطالب 2/427 .
(4) النووي : الروضة 11/253 ، 254 .
(5) النووي : الروضة 2/250 .
(6) الشربيني : مغني المحتاج 1/93 ، النووي : الروضة 1/301 .
(7) العز بن عبد السلام : قواعد الاحكام 224 ، النووي : الروضة 11/253 ، 254 .
(8) ابن قدامة : المغني 6/651 ، 652 .
(9) ابن المفلح : المبدع 8/387 .
(10) ابن قدامة : المغني 2/705 ، ابن مفلح : المبدع 2/350 .
(11) ابن مفلح : الفروع 2/492 ، ابن قدامة : الكافي 1/344 .(41/20)
أقول بعد هذا العرض المختصر لاراء الفقهاء واجتهاداتهم فان الذي يظهر لي ان سبب الخلاف في اشتراط قول خبيرين في بعض القضايا او الاكتفاء بواحد في البعض الاخر ، هو ان الشهادة بالخبرة لا يقدر عليه كل احد وانما يختص به اهل الخبرة والمعرفة والاختصاص في كل فن وصنعه ، ثم ان العلماء ترددوا في جعل الخبير شاهداً ام حاكماً فمن جعله شاهداً اشترط العدد ومن جعله حاكماً اكتفى برأي الخبير الواحد(1).
__________
(1) ينظر ابن القيم : الطرق الحكيمة 228 ، 229 ، ابن قدامة : المغني 9/270 ، المارودي : الحاوي الكبير 10/177 ، …القوافي : الفروق 1/5(41/21)
…والذي اميل اليه واراه راجحاً ان يكتفى بقول الخبير الواحد العدل لانه مما لا يمكن لكل احد الشهادة به و مما يختص به اهل الخبرة في كل صنعة ، ولان خبر من ليس بمعصوم عن الكذب لا يفيد العلم قطعاً او يقيناً ، وانما يفيد غالب الظن وهو كاف للحكم بموجبه وهذا يثبت بخبر الواحد العدل ، ويؤيد هذا ما قاله ابن القيم رحمه الله انه يجوز العمل بشهادة الرجل الواحد اذا عرف صدقه في غير الحدود ، ولم يوجب الله تعالى على الحكام إلا يحكموا إلا بشاهدين أصلاً ، وإنما أمر صاحب الحق أن يحفظ حقه بشاهدين أو بشاهد وامرأتين ، وهذا لا يدل على ان الحاكم لا يحكم بأقل من ذلك وما تحفظ به الحقوق شيء وما يحكم به شيء ، فان طرق الحكم اوسع ، وقد ذهب طائفة من قضاة السلف العادلين الى الحكم بشهادة الشاهد الواحد اذا علم صدقه روي ذلك عن شريح وزرارة عن ابي أوفى(1)، وقال ايضاً "فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد خبر العدل قط لا في رواية ولا في شهادة بل قبل خبر الواحد العدل في كل موضع اخبر به ... وقد اجمع المسلمون على قبول اذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت ... وأجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد وهو خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره(2).
العدالة :
اختلفت نصوص فقهاء الحنفية في اشتراط العدالة لقبول قول الخبير ، فقد اشترطه بعضهم ونص عليه لان العدالة بها يترجح جانب الصدق على جانب الكذب في الخبر ، وبعضهم اكتفى بكونه مستور الحال غير ظاهر الفسق(3).
__________
(1) ابن القيم : الطرق الحكمية 267 ، 76 ، 79 .
(2) ابن القيم : إعلام الموقعين 1/103 ، 104 .
(3) الكاساني : البدائع 1/278 ، 279 ، الحصكفي : الدر المختار 2/422 ، ابن الهمام : فتح القدير 2/272 .(41/22)
…واما المالكية فيشترطون في الخبير العدالة ، فان لم يوجد العدل ، فيقبلون قول غير العدل بشرط سلامته من جرحة الكذب(1)،وعند الشافعية والحنابلة لا بد من العدالة في شهادة الخبير(2).
وقد اجاز ابن القيم والشيخ احمد الزرقا من الحنفية قبول شهادة الامثل فالامثل عند فقد العدالة او ندرتها(3).
أقول والذي اميل اليه انه لا بد من العدالة لان بها يترجح جانب الصدق على جانب الكذب واما اذا فشا الفسق في الناس وندرت العدالة فأرى ان تقبل شهادة الناس بعضهم على بعض ، ويحكم بشهادة الامثل فالامثل بشرط سلامتهم من الكذب ، لان مدار قبول الشهادة وردها على غلبة ظن الصدق وعدمه والله سبحانه قد امر التبين في خبر الفاسق ولم يأمر برده ، فاذا احتفت به قرائن دالة على صدقه اخذنا به ، ولذا فان اشتراط العدالة في هذه الحال يوقع في الحرج ويفضي الى فساد كبير بضياع حقوق كثيرة امر الشارع بصيانتها ورعايتها والحفاظ عليها .
الفصل الثالث
قوال أهل الخبرة في فسخ النكاح بسبب العيب
__________
(1) ينظر ابن جزئ : القوانين الفقهية 72 ، الحطاب : مواهب الجليل 2/289 ، الونشريسي : المعيار المعرب 10/17 ،
… الكشناوي : أسهل المدارك 2/294 .
(2) ينظر النووي : الروضة 1/103 ، الشيرازي : المهذب 2/201 ، 202 ، ابن مفلح : المبدع 2/350 ، ابن قدامة : المغني 5/769 .
(3) ابن القيم : الطرق الحكمية 175 ، 176 ، احمد الزرقا : شرح القواعد الفقهية 112 .(41/23)
تمهيد : ان عقد النكاح في شريعة الاسلام عقد عظيم الخطر جليل القدر فلذا اهتم به الاسلام كثيراً وسماه ميثاقاً غليظاً ، وجعل له من الهيبة والاحترام ما لم يجعله لعقد غيره ، لان عقد النكاح وما يترتب عليه من آثار يشكل اللبنة الاولى في بناء المجتمع وهو السبيل الوحيد المشروع لاستمرار الحياة بالتناسل والتكاثر لعمارة الارض فلذا كانت له احكام تتناسب وخطره واهميته ومن هنا حرصت الشريعة على رعايته منذ اللحظات الاولى من لحظة التفكير بالزواج ، فحثت الرجل على البحث عن ذات الدين ورغبته بالظفر بها وكذلك حثت النساء والاولياء ان يبحثوا عن صاحب الخلق والدين ولما كان هذا العقد يراد له الدوام والاستمرار فلذا حرصت الشريعة على تشريع الاحكام التي تساهم في استمراره في جو من السكينة والمودة والرحمة والتعاون على البر والتقوى ، فشرع الاسلام رؤية كل من الخاطبين للاخر لانه احرى ان يحقق الؤئام والود والمحبة ، وامر الاولياء والنساء الا يكتموا شيئاً من العيوب حتى لا يحصل الغرر الذي يفضي الى النزاع والشقاق، والضرر الذي ينافي مقصد العقد من تحقيق السكن والمودة والرحمة ومن هنا جاء الحديث في بيان العيوب التي تكون سبباً مسوغاً لفسخ النكاح ودور الخبير العارف في اثبات وجود العيب وحقيقته عند التنازع في ذلك ، ولكن قبل بيان هذا لا بد من تعريف العيب لغة واصطلاحاً ، فالله المستعان وعليه التكلان .
المبحث الأول : تعريف العيب لغة واصطلاحاً :
العيب لغة : مصدر عاب يعيب عيباً والعاب والعيب والعيبة الوصمة وجمعها اعياب وعيوب وهو الخلل والنقص ، وفي التنزيل "فأردت ان اعيبها" أي بخرقها ، والخرق في السفينة نقصان ويخرجها عن كونها صالحة(1).
__________
(1) ينظر ابن منظور : لسان العرب 1/623 ، الراغب الاصفهاني : المفردات 322 .(41/24)
وفي الاصطلاح : خلل او نقص يكون في الشيء يخرج به عن اصل الفطرة السوية التي خلقه الله عليها . وفي الانسان خلل او نقص يكون في بدنه او عقله(1).
المبحث الثاني : حكم التفريق بين الزوجين بسبب العيب :
…اختلف الفقهاء في حكم فسخ النكاح بسبب العيب الى فريقين :
الفريق الأول: قالوا بعدم جواز فسخ عقد الزواج بعيب البتة سواء اكان في الزوج او الزوجة ، ومن هذا الفريق ابن حزم وطائفة من علماء السلف من التابعين ومن بعدهم وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهم(2).
الفريق الثاني: وقد اجازوا فسخ عقد النكاح بالعيب ، ولكن اختلفوا فيما بينهم فطائفة اجازت للزوجة دون الزوج الفسخ للعيب الجنسي المانع من الوطء ، وهذا قول النعمان وابي يوسف ، والحق محمد بن الحسن بالعيوب الجنسية ، العيوب المنفرة كالبرص والجذام(3).
وطائفة اجازت للزوجين التفريق اذا وجد الواحد في صاحبه عيباً جنسياً يمنع الوطء كالجب والعنة والقرن والرتق او كان في احدهما عيب ضار منفر كالجنون والبرص والجذام وبهذا قال مالك والشافعي واحمد(4).
وطائفة قالت بفسخ العيب بكل عيب مستحكم يمنع الوطء او يضر بالزوج السليم او ينفره عن زوجه ، وجعلوا كل عيب يعدي او يضر او ينفر عرفه الناس قديماً او صار جديداً حادثاً موجباً للفسخ ، وروي ذلك عن بعض الصحابة ومن تبعهم(5).
__________
(1) ينظر الاشقر : الوجيز في شرح قانون الاحوال الشخصية 235 .
(2) ابن قدامة : المغني 6/650 ، ابن القيم : زاد المعاد 5/182 ، ابن حزم : المحلى 1/58 ، 60 ، ابن رشد : بداية المجتهد 2/38 ، الشوكاني : نيل الاوطار 6/298 ، 299 ، ابن الهمام : فتح القدير 4/133 .
(3) ينظر ابن الهمام : فتح القدير وهوامشة 4/133 ، 134 ، الكاساني : البدائع 2/327 .
(4) ينظر ابن عبد البر : الكافي 2/565 ، 566 ، النووي : الروضة 7/176-178 ، ابن قدامة : المغني 6/650-652 .
(5) ابن القيم : زاد المعاد 5/182 ، 183 .(41/25)
والذي اميل اليه واراه راجحاً جواز فسخ الزواج بكل عيب مستحكم يمنع الوطء والمعاشرة او يضر بالزوج السليم او ينفره من صاحبه وكذلك كل عيب يشترك في العلة مع العيوب التي ذكرها الفقهاء وهي الاعداء والاضرار والتنفير سواء اكان قديماً مما يعرفه الناس او حديثاً اكتشفه الناس في هذا الزمان ، والسنة وآثار الصحابة والقياس والمعقول يقوي هذا ويرجحه ، فان مصالح النكاح لا تقوم ولا تتحقق مع وجود هذه العيوب ، فلا يكون معها سكن ولا مودة ولا طمأنينة .
المبحث الثالث : كيف يمكن اثبات العيب ودور اهل الخبرة في ذلك
… العيوب التي ثبت بها الخيار كثيرة متنوعة ، منها العيوب الجنسية او التي يسمونها عيوب الفرج عند الرجال والنساء ومنها العيوب الجلدية المنفرة والتي يكون بعضها ظاهراً مشاهداً يراه كل احمد كالعيب في الوجه والكفين ، وقد يكون العيب خفياً تحت الثياب وقد يكون في العورتين ، وقد تكون هذه العيوب مما يطلع عليه الرجال والنساء ، ومنها ما لا يطلع عليه الا النساء ، ومنها عيوب يمكن لكل احد ان يشهد على وجودها ، ومنها ما لا يمكن الا للخبير الحاذق اثباتها والشهادة عليها ، فسأبين اراء العلماء في بعض هذه المسائل ودور الخبير في ذلك والله المستعان وعليه التكلان :
مسألة : لو ادعت الزوجة على زوجها انه مجبوب ، فقال العلماء ان كان لايعرف بالمس من وراء الثياب ، يأمر القاضي اميناً ينظر الى عورته ليخبر بحالة ضرورة(1).
__________
(1) ينظر ابن عابدين : الحاشية 3/495 ، ابن نجيم : البحر الرائق 7/82 ، الحطاب : مواهب الجليل 3/490 .(41/26)
أقول : والذي يشهد لجواز النظر الى العورات للضرورة فعل اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يوم بني قريضة واقرار النبي صلى الله عليه وسلم لانهم فعلوا ذلك وهو حاضر شاهد وروى اصحاب السنن إلا ابن ماجه واللفظ لابي داود عن عطية القرظي رضي الله عنه قال كنت في سبي بني قريضة فكانوا ينظرون - أي الصحابة رضي الله عنهم – فمن انبت قتل ومن لم ينبت لم يقتل ، فكنت فيمن لم ينبت(1)وقوله ينظرون أي ينظرون الى عانته لان انباتها علامة على البلوغ ، فالحديث فيه الحكم بالقرينة القاطعة ، وجواز النظر الى العورات عند الضرورة .
مسألة : لو ادعت عليه انه عنين فما الحكم ؟ وما دور اهل الخبرة في اثبات العنة ؟
العنين هو العاجز عن اتيان النساء مع وجود آلة الجماع وربما اشتهى الجماع وطلبه ولكنه يعجز عن ايلاج ذكره في فرج المرأة(2).
فعند الحنفية ان اقر أنه عاجز اجله سنة ، وان انكر دعواها وادعى الوصول اليها ، فلا بد من ان ينظرها اهل الخبرة من النساء ، فان وجدوها ثيباً فالقول قوله مع يميينه ، لان الثيابة دليل الوصول في الجملة والمانع من الوصول من جهته عارض ، اذ الاصل السلامة عن العيب فكان الظاهر شاهداً له الا انه يستحلف دفعاً للتهمة ، وان قلن هي بكر فالقول قولها(3).…
وعند المالكية ان انكر قولها وهي ثيب فالقول قوله مع يمينه وان كانت بكراً فلمالك فيها قولان : القول قوله مع يمينه ، والقول الاخر انه ينظر اليها النساء فان هي بكراً فالقول قولها وان قلن زالت عذرتها فالقول قوله مع يمينه(4).
__________
(1) المنذري : مختصر السنن 6/233 ، الترمذي : صحيح الترمذي مع العارضة 7/82 ، النسائي : السنن 6/155 .
(2) ابن الهمام : فتح القدير 4/128 ، الشلبي: حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 3/21 .
(3) ينظر الكساني : البدائع 2/323 ، ابن الهمام : فتح القدير4/130 ، 131 ، السرخسي : المبسوط 5/101 .
(4) ابن عبد البر : الكافي 2/564 ، الكشناوي : أسهل المدارك 2/97 .(41/27)
وعند الشافعية العنة تثبت باقراره ولا يتصور اثباتها ولا يتصور اثباتها بالبينة لانه لا مطلع للشهود عليها(1).
وعند الحنابلة ان انكر وهي عذراء فالقول قولها ، وان كانت ثيباً فالقول قوله مع يمينه في ظاهر المذهب ، وان زعم انه وصل اليها وادعت انها عذراء اريت النساء الثقات ، فان شهدن معها ثبتت عنته واجل سنة لان الوطء يزيل العذرة فوجودها يدل على عدمه ، وان كانت ثيباً وادعى الوصول اليها اخلي معها في بيت وقيل له اخرج ماءك على شيء لان العنين يضعف عن الانزال ، فان انزل تبينا صدقه فنحكم له ، وفي رواية القول قوله مع يمينه لتعذر اقامة البينة على هذا الامر ولان جانبه اقوى(2).
أقول : قول الشافعية ولا يتصور ثبوتها بالبينة فانهم قصروا البينة ههنا على الشهود وهذا مدرك معروف فلا يمكن للشهود الاطلاع على العنة لان الالة موجودة وهي تزعم انها عاجزة عن العمل ، ولكن يمكن الرجوع في معرفة هذا الامر الى الاطباء العارفين من اهل الخبرة والاختصاص وخصوصاً مع تقدم علوم الطب .
وأقول : ان صورة الاختبار التي ذكرها الحنابلة هي تجربة عرفها بالممارسة اهل الخبرة والمعرفة، والان بعد تقدم العلم يستطيع الاطباء ان ادعى انه وصل اليها ، ان يتبينوا ذلك بأن يأخذوا عينات من فرجها ويتم فحصها وهل هي مني رجل ام لا ؟ ويمكن التأكد من ان النطفة عائدة لهذا الرجل وانها من مائه عن طريق تحليل ما يسمى (DNA) والذي هو عبارة عن تحليل الجينات التي تخص كل فرد وبقول اهل الخبرة يمكن للقاضي الفصل في مثل هذه القضايا .
__________
(1) النووي : الروضة 7/197 .
(2) ابن قدامة : المغني 6/668 ، 669 ، 674-676 .(41/28)
مسألة – لو ادعى عليها عيباً من عيوب الفرج كالقرن(1) والرتق(2) والافضاء(3) ، فما الحكم ؟ وما هو دور اهل الخبرة في اثبات ذلك ؟ .
فعند المالكية تصدق المرأة في نفي داء فرجها بيمينها ولا ينظرها النساء جبراً عليها ، وان اتى الزوج بأمرأتين مكنتهما من نظرها تشهدان له بعيب في فرجها قبلنا(4).
وعند الشافعية : مالا يطلع عليه الرجال من العلل والامراض والعيوب وتختص بمعرفته النساء غالباً فيقبل فيه شهادتهن منفردات وذلك في الولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن وعيب المرأة من برص وغيره تحت الازار ، فكل هذا لا يقبل فيه الا اربع نسوة او رجلان او رجل وامرتأن(5).
وقال النووي : ان اختلفا في العيب ، فالقول قول المنكر وعلى المدعي البينة ويشترط كون الشاهدين عالمين بالطب(6).
وعند الحنابلة ان اختلفا في وجود العيب فان كان للمدعي بينة من اهل الخبرة ثبت بقولها قوله ، وان اختلفا في عيوب النساء اريت النساء الثقات ويقبل منه قول امراة واحدة(7).
__________
(1) القرن : شيء يبرز في فرج المرأة يشبه قرن الشاة يمنع لذة الجماع ويكون لحماً غالباً وقد يكون عظماً ، السرخسي: المبسوط 13/109 .
(2) الرتق : التصاق محل الوطء والتحامه وانسداد مسلك الذكر بحيث لا يمكن الجماع معه ، النووي : الروضة 7/177 .
(3) الافضاء : اختلاط مسلك البول ومسلك الذكر ، وقيل اختلاط مسلك البول والغائط ، الكشناوي : اسهل المدارك 2/96 ،
(4) الازهري : جواهر الاكليل 1/301 .
(5) النووي : الروضة 11/253 ، 254 .
(6) السابق 7/176 ، 177 ، وينظر الشربيني : معني المحتاج 3/202 .
(7) ينظر ابن قدامة : المغني 6/651 ، 652 .(41/29)
…والقول الفصل في النزاع في هذه العيوب بالرجوع الى اهل الخبرة والمعرفة سواء اكانوا من الرجال ام من النساء ، لانه لا يعرف الامر على حقيقته الا اهل الخبرة وهم الاطباء والطبيبات والحاذقين والعارفين فالقاضي ملزم بالرجوع اليهم ، وعلى الخبراء هؤلاء عبء اثبات حقيقة العيب والقاضي يصدر قوله بناء على رأيهم وقولهم .
…والقول في العيوب الجلدية المنفرة والمعدية كالقول في العيوب الجنسية ، وسواء اكانت من العيوب القديمة المعروفة عند الفقهاء او ظهرت في الناس ولم تكن قد ظهرت في اسلافهم ، والمرجع لاثبات وجودها او اثبات اضرارها او اعدائها هم الخبراء الحاذقون من اهل الطب والعدول المختصون ، فوجب الرجوع الى قولهم .
مسألة مهمة هل للقاضي منع إجراء عقد زواج بين رجل وامرأة مصابين بمرض من الإمراض التي قرر أهل الخبرة والمعرفة من الأطباء أن هذه الأمراض تنتقل بالوراثة وتؤثر على الأجنة تأثيراً بالغاً ، مثل مرض نقص المناعة المعروف بـ(الإيدز) وغيرها من الأمراض الأخرى ؟(41/30)
أقول أن للقاضي بما له من ولاية أن يمنع عقد الزواج بين رجل وامرأة ، إذا ثبت لديه بتقرير الخبير الحاذق من أهل الطب أن هذه الأمراض تعدي وتنتقل من الأبوين إلى الأبناء ، وانه ينتج من هذا الزواج أبناء مصابين بعلل وعاهات ونقص خلقي وتشوهات ، والدليل على ما أقوله أن الشارع أباح للسليم من الزوجين إذا تضرر بعيب صاحبه أن يفسخه بعد عقده بل وبعد الدخول ، فمن باب أولى المنع منه قبل حصوله ووجوده ، لان الضرر المترتب عليه يتعدى العاقدين إلى الأبناء ، ويتخرج هذا القول على ما قاله ابن قدامة حيث قال "وليس للولي تزويج كبيرة بمعيب بغير رضاها بغير خلاف نعلمه ، لأنها تملك الفسخ إذا علمت به بعد العقد فالامتناع عن عقده من باب أولى ، وان أرادت أن تتزوج معيباً فله منعها في احد الوجهين ، قال احمد ما يعجبني أن يزوجها بعنين وان رضيت ساعة تكره إذا دخلت عليه ... وذلك لان الضرر في هذا دائم ، والرضى غير موثوق بدوامه ، ولا يتمكن من التخلص اذا كانت عالمة في ابتداء العقد ، وربما أفضى إلى الشقاق والعداوة فيتضرر وليها وأهلها ، فملك الولي منعها ، كما لو أرادت نكاح من ليس بكفء ، والثاني ليس له منعها لان الحق لها وقال القاضي له منعها من نكاح المجنون وليس له منعها من نكاح المجبوب والعنين لان ضررهما عليها خاصة ، وفي الأبرص والمجذوم وجهان : أحدهما لا يملك منعها لان الحق لها والضرر عليها فاشبها المجبوب والعنين والثاني له منعها لان عليه ضرراً فانه يتعير به ويخشى تعديه إلى الولد فأشبه التزويج بمن لا يكافئها وهذا مذهب الشافعي ، والأولى أن له منعها في جميع الصور لان عليها فيه ضرراً دائماً وعاراً عليها وعلى أهلها فملك منعها منه كالتزويج بغير كفء"(1)
الخلاصة ونتائج البحث
__________
(1) ابن قدامة : المغني 6/658 وينظر الرافعي : الشرح الكبير 8/138 .(41/31)