بسم الله الرحمن الرحيم
إجراءات الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية
في الفقه وأنظمة المملكة العربية السعودية
إعداد الدكتور
محمد بن منصور ربيع المدخلي
جامعة الملك خالد - كلية الشريعة وأصول الدين
قسم الفقه - أبها
المملكة العربية السعودية
ص . ب (1211)
جوال : 0505744567
Email: adam 4141 @ hot mail com.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد ..
…فإن موضوع إجراءات الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه والنظم السعودية المعاصرة يُعد من أجل الموضوعات لإعتبارات عديدة منها أنه يسهل للقاضي الحكم ويقصر الطرق الطويلة للقضية القضائية ويسهل أيضاً على المتخاصمين الوصول إلى نتائج قضائية أسرع ، وأيضاً تجعل المحققين يستفيدون من هذه الإجراءات المعاصرة لسد قضية المتهم ، ولهذا أرى أن المنظمين والمنظرين للمسائل الفقهية المعاصرة يسعون دائماً إلى إدراك القصد الأسمى من الشريعة الخالدة وهي رفع الضيق والحرج وتحقيق العدل للإنسانية.
وقد انتهجت الأسلوب العلمي في هذا البحث جاعلاً نصب عيني وجهدي القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الفقهاء وترتيبها والأدلة على ذلك وعرض بعض مواد أنظمة المملكة العربية السعودية ذات العلاقة بالموضوع ، ومقارنتها متوخياً الأمانة العلمية والأسلوب الأمثل لاخراج البحث على الصورة المطلوبة منه .
وقد أفردت هذا الموضوع بمخطط يتكون من ثلاثة مباحث ومطالب تندرج تحتها على النحو التالي :
المبحث الأول : إجراءات الدعوى القضائية: حقيقتها ، أركانها ، وشروطها في الفقه والنظم السعودية المعاصرة وفيها مطالب:
المطلب الأول : تعريف إجراءات الدعوى القضائية والألفاظ ذات العلاقة.
المطلب الثاني : أنواع الدعوى القضائية وأركانها وشروطها في الفقه الإسلامي.
المطلب الثالث : تحديد طبيعة الدعوى وعلّتها في الفقه الإسلامي.(1/1)
المبحث الثاني : إجراءات رفع الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه والنظم السعودية وفيه مطلبان :
المطلب الأول : إجراءات رفع الدعوى أمام المحاكم الشرعية في الفقه الإسلامي.
المطلب الثاني : إجراءات رفع الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في النظم السعودية .
المبحث الثالث : إجراءات النظر في الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه والنظم السعودية وفيه مطالب:
المطلب الأول : إجراءات النظر في الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه الإسلامي .
المطلب الثاني : إجراءات النظر في الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في النظم السعودية.
المطلب الثالث : إجراءات المحاكمة في دعوى الحق العام ، وحق المتهم في ذلك .
المطلب الرابع : احترام القضاء أثناء إجراءات الدعوى القضائية، والعقوبات المترتبة على عدم ذلك.
الملاحق .
الخاتمة لأهم نتائج البحث.
المراجع.
المبحث الأول
إجراءات الدعوى القضائية : حقيقتها - أركانها وشروطها في الفقه والنظم السعودية المعاصرة- وفيه مطالب :
المطلب الأول : تعريف إجراءات الدعوى القضائية والألفاظ ذات العلاقة والفروق الواردة في ذلك:
أولاً: تعريف الإجراءات لغة واصطلاحاً :
…تطلق الإجراءات لغة على الخدمة والتوكيل في الأشياء وهي مأخوذة من الفعل أجرى يجري الشيء اذا استخدمه أو وكله . يقال : أجري لي أمورك(1).
__________
(1) انظر : الزمخشري ، أساس البلاغة جـ1 ، 113، دار الفكر ، بيروت.(1/2)
…وماهية الإجراءات القضائية اصطلاحاً : هي مجموعة القواعد التي تنظم إجراءات رفع الخصومات إلى القضاء ووسائل الدفاع أمامه وكيفية إصدار الأحكام وتنفيذها، وهذه القواعد تشكل أهم جزء فيما يعرف في الوقت الحاضر بـ(نظام أو قانون - المرافعات) الذي يشمل القواعد التي تنظم تكوين السلطة القضائية ، والقواعد التي تنظم الاختصاص وهو كما يقصد بالقواعد الإجرائية إضافة إلى ذلك ما يسمى في الوقت الحاضر بالإجراءات الجزائية وهي القواعد التي تنظم إجراءات رفع الدعوى ضد المتهمين بارتكاب الجرائم وقواعد محاكمتهم وإصدار الأحكام الإجرائية التي تستوجبها طبيعة الدعاوي الجزائية، ولذا فإنه لا تختلف الدعوى الجزائية عن غيرها من الدعاوي في شيء من الإجراءات فالإجراء شامل لجميع الدعاوي(1).
ثانياً: تعريف الدعوى لغة واصطلاحاً:
تطلق الدعوى لغة على إضافة الإنسان إلى نفسه شيئاً ملكاً أو استحقاقاً أوصفة ونحوه(2).
وفي الاصطلاح الشرعي تطلق الدعوى على اضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره، أو في ذمته وطلبه منه(3) لقوله تعالى : { ولهم ما يدعون } (4).
ثالثاً: الفروق بين الدعوى والادعاء :
__________
(1) انظر : د. محمد عبدالله المرزوقي ، سلطة ولي الأمر في تقييد سلطة القاضي ص 223، مكتبة العبيكان،1426هـ.
(2) انظر : الفيومي، المصباح المنير جـ1/38 باب دعوى.
(3) انظر : المرداوي الانصاف دـ29/119.
(4) سورة يس آية 57.(1/3)
وعن ماهية دعوى الحق العام فإن الأصل في الدعوى أنها وسيلة لضمان حماية الحق المقرر في الشريعة أو النظام ويكون لصاحب الحق المعتدى عليه أن يلجأ إلى القضاء ، لحماية هذا الحق عند وقوع الاعتداء عليه أو التهديد بهذا الاعتداء ، ومن موجبها أن يلتزم القاضي بالفصل في موضوعها أو مواجهتها على النحو المقرر في النصوص المنظمة لعمله. والدعوى في الفقه الإسلامي هي الوسيلة القضائية المشروعة لطلب الحق حيث لا يقتضي أحد الحق بنفسه ، والأصل في مشروعيتها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر "(1).
وتختلف (الدعوى) عن (الادعاء) إذ الأولى حق الالتحاء إلى القاضي ، بينما الادعاء يعني السبب الذي من أجله يلجأ الشخص إلى القاضي ، فبينما تكون الأولى ذات طبيعة إجرائية يكون الادعاء ذا طبيعة موضوعية ، ولما كانت الدعوى حقاً كامناً لا يرى إلا عند مباشرته في طلب أمام القضاء فقد دخل معنى الدعوى في الطلب المقدم إلى القضاء.
__________
(1) د.وهبه الزحيلي : الفقه الإسلامي وأدلته ، دار الفكر ، دمشق ، 1984م، جـ(6) ، ص (772). والحديث أ ورد ابن حجر العسقلاني في : بلوغ المرام وأدلة الأحكام ، ص 260 ، دار الكتاب العربي، بيروت.(1/4)
وعلى ذلك يقصد بـ(دعوى الحق العام ) الطلب الذي تتقدم به الدولة - ممثلة في سلطة المدعي العام - إلى القضاء تطلب فيه توقيع العقوبة على متهم في جريمة وقعت وقامت الأدلة على نسبتها إليه . وهو الطلب الذي يركن إلى حق الدولة في توقيع العقاب، أو هي سلطة توجيه طلب إلى القضاء له أثره في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإمكان توقيع العقاب على المتهم بجريمة معينة(1).
رابعاً: تعريف النظام لغة واصطلاحاً:
…النظام لغة مأخوذ من الفعل نظم بمعنى الاستقامة والاتساق والتمام تقول: نظمت الأمر فانتظم أي أقمته فاستقام وهو على نظام واحد أي نهج غير مختلف(2). ، كما يطلق النظام على اللؤلؤ المجموع في السلك(3) . وعلى تدبيبر الأمور وسياستها " يقال : قد انتظم لفلان الأمر والتدبير ، واتسق ، واستتب ، واطرد ، وتهيأ . واستقام ، والتأم(4) .
والنظام اصطلاحاً يطلق على تأليف الكلمات والجمل مترتبة المعاني ، مناسبة الدلالات، على حسب ما يقتضيه العقل .
وقيل : الألفاظ المترتبة المسبوقة المعتبرة دلالاتها على ما يقتضيه العقل(5).
…ويراد به أيضاً " اتساق الأمر واستقراره على هيئة رتيبة .. وجملة الأوضاع ذات الاتجاه الواحد" (6)، ومن ذلك الأنظمة القضائية.
__________
(1) انظر د. عماد النجار ، الادعاء العام والمحاكمة الجنائية. وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ، ص 49،50، ود. محمد منصور المدخلي ، أحكام الملكية في الفقه الإسلامي ، ص 227؛ الطبعة الثالثة، دار المعراج الدولية، 1425هـ الرياض .
(2) انظر الفيومي ، المصباح المنير جـ2/612.
(3) انظر الرازي : مختار الصحاح ص 667.
(4) الهمذاني الألفاظ الكتابية ص 25.
(5) جرجاني ، التعريفات ، ص 242.
(6) د. عيسى عبده النظم المالية في الإسلام ص 17، ومن ذلك النظم الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك. وانظر: د. محمد منصور المدخلي المعادن في الفقه الإسلامي ورقة 675 مخطوط. رسالة ماجستير.(1/5)
والنظام القضائي : عرفه محمد مصطفى الزحيلي بقوله :
…" التنظيم القضائي في الإسلام عبارة عن مجموعة القواعد والأحكام التي توصل إلى حماية الحقوق العامة ، وفصل الخصومات وقطع المنازعات "(1).
…وعرفه الشيخ عبدالله بن محمد آل حنين في باب فقه المرافعات بأنه "الأحكام والقواعد التي تنظم سير المرافعات وما يتعلق به منذ بداية الدعوى حتى الفصل فيها "(2).
خامساً: تعريف القضاء لغة واصطلاحاً:
…ويعرف القضاء في اللغة بأنه الفصل والقطع في الحكم والصنع والقدرة(3).
…وفي الاصطلاح يطلق القضاء على بيان الحكم في نزاع ، أو الفصل في خصومه، أو الحكم على مرتكب المعصية على سبيل الالزام والنفاذ (4).
المطلب الثاني : أنواع الدعوى القضائية وأركانها وشروطها في الفقه الإسلامي :
أنواع الدعوى :
وللدعوى جانبان : جانب مدني وجانب جزائي .
…وبعضهم يقسم الدعوى إلى قسمين : دعوى عمومية أو دعوى الحق العام . ودعوى الحق الخاص. وقد تندرج دعاوي عدة تحت الجوانب السابقة مثل الدعاوي المالية أو الأسرية ونحوها ودعاوي الحدود والجرائم والقضايا ذات العلاقة وتصح الدعوى في القليل والكثير في العصور القديمة والعصر الحاضر(5).
أركان الدعوى :
__________
(1) التنظيم القضائي ، ص 18.
(2) في كتابه المحقق الجنائي في الفقه الإسلامي ، ص 8-9
(3) انظر ابن منظور ، لسان العرب ، مادة قضى ، والزبيدي تاج العروس ، مادة قضى.
(4) انظر: الماوردي الأحكام السلطانية ص 127، والبهوتي كشاف القناع جـ3/135. ابن النجار شرح منتهى الإرادات ، 3/459.
(5) انظر: المرداوي ، الانصاف جـ28/412، وأنظمة المرافعات والمحاماة والجزاءات بالمملكة العربية السعودية الصادرة حديثاً فيما يتعلق بالدعوى مما سيأتي البحث فيها قريباً. انظر ملاحق البحث .(1/6)
وللدعوى أركان ذكرها ابن عابدين في حاشيته فقال : إن عناصر الخصومة هي حكم محكوم به ومحكوم له ومحكوم عليه بحاكم(1). وهي إشارة إلى عناصر الخصومة واعتبر الحكم الصادر فيها جزءاً منها والمحكوم به هو موضوعها وأطرافها ممثلة في محكوم له ومحكوم عليه، وأخيراً الحاكم الذي أصدر الحكم في الخصومة . وعلى ذلك يقتضي تناول الخصومة الإحاطة بهذه العناصر. وتصح الدعوى في القليل والكثير(2) .…
شروط الدعوى :
ولهذا فإن سير الدعوى وتقديمها لدى القضاء المعاصر لا بد من توفر شروط لها لكي تكون مقبولة من الناحيتين الشرعية والنظامية وأهم هذه الشروط ما يأتي :
… لا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف ، وأن تكون محررة تحريراً يعلم به المدعي لحديث الحضرمي والكندي حينما اختصما إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال الحضرمي يا رسول الله هذا غلبني على أرض لي وقال الكندي هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي ألك بينه قال لا قال فلك يمينه وهو حديث(3) حسن صحيح (4).
…ومن شروط صحة الدعوى أن تكون متعلقة بالحال ، وانفكا لها عما يكذبها، وذكر صفاتها عند غيابها ، وبيان قدرها وجنسها عند تلفها من ذوات الأمثال إلى غير ذلك مما يدخل ضمناً في تفاصيل الدعوى المنوطة بصاحب الدعوى القضائية وجهتها(5).
__________
(1) حاشية رد المحتار ، ج 6 ، ص 352.
(2) انظر أبواب الفقه الإسلامي ، من ذلك ابن قدامه المغني جـ5، 6 ، 9.
(3) المرداوي ، الانصاف جـ28/411 ، بتحقيق عبدالله التركي ، طبع دار عالم الكتب عام 1426هـ. مطبوع معه المقنع والشرح الكبير .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه باب الحكم في البئر ونحوها ، جـ9/90.
(5) انظر ابن قدامة ، الشرح الكبير والمرداوي الانصاف جـ28/460-470، مطبوعان معاً بتحقيق د. عبدالله التركي، مرجع سابق .(1/7)
ومن شروط الدعوى أيضاً وجود : الأهلية والعقل والتمييز لللمدعي ، وأن تكون في مجلس القضاء وعلى خصم حاضر ، وأن يكون المدعى به شيئاً معلوماً ومشروعاً ومحتمل الثبوت(1).
المطلب الثالث : تحديد طبيعة الدعوى القضائية وعلتها في الفقه الإسلامي:
ولقد انقسم علماء الفقه في تحديد هذه الطبيعة إلى رأيين : الرأي الأول أن الدعوى سلطة تمنح صاحب الحق مُكنة الالتجاء إلى القضاء طلباً لحماية حقه المعتدى عليه ، والرأى الآخر يرى أن الدعوى حق شخصي يمكن صاحب الحق المعتدى عليه من طلب حمايته من القضاء عند وجود ما ينال من هذا الحق(2).
وفي هذا المجال الإجرائي الجنائي لا أرى ثمة فارقاً أساسياً بين الاتجاهين ، ما دام كل حق عليه من الضوابط والقواعد التي تكفل اتجاهه إلى غايته ، فليس هنالك من حقوق مطلقة ، ولا من سلطات مطلقة ، وعلى ذلك أرى أن الدعوى حق يخول الالتجاء إلى القضاء، طلباً لإقرار حق وترتيب الجزاء المقرر لانتهاكه أو حمايته ، ويلتزم القاضي بمواجهة هذا الحق وإعمال القواعد المقررة لحمايته طبقاً للشرائع المنظمة والمقررة له.
وعلة الالتجاء إلى القضاء لتوقيع العقوبة أمران :
__________
(1) انظر: علاء الدين الكاساني : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، جـ(6) ، ص (222). وانظر أيضاً أبا الوليد محمد بن رشد القرطبي : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، جـ(2) ، ص (460).
(2) د. عزمي عبدالفتاح : نحو نظرية عامة لفكرة الدعوى، ص(13) وما بعدها ، دار النهضة العربية، القاهرة، 1990م.(1/8)
الأمر الأول : إنه لما كانت غاية الدولة هي إنزال العقاب على الجاني فإن ذات المصلحة تقتضي أن يوجه هذا الجزاء إلى مرتكب الجريمة على سبيل الحسم واليقين ، ذلك لأن سلطة العقاب المقررة للدولة حماية لمصلحة المجتمع لا تؤتي ثمارها إلا إذا وجهت هذه العقوبة إلى الجاني الحقيقي الذي قارف الجريمة ، بل على العكس فإن غاية الحق في العقاب لا تتحقق عندما توقع العقوبة على غير الجاني ، لذلك كان من الأهمية بمكان أن يتم البحث على أوسع نطاق للتحقق من شخص مرتكب الجريمة مالتي قارفها فعلاً وحقيقة ، وليس ذلك الشخص الذي حامت حوله الشبهات ، وليس أفضل من ساحة القضاء للوصول إلى حقيقة الجاني.
الثاني : إنه لما كان الأصل في الإنسان البراءة فإن من حق الشخص الذي يتهم بارتكاب جريمة ما أن يتاح له أكبر قدر من الإمكانيات لإثبات براءته وإعمال حقه في الدفاع عن نفسه ، وتفنيد ما قام من الأدلة ضده ، وذلك حماية للشخص البريء، وضماناً لعدم توقيع العقوبة إلا على فاعل الجريمة دون سواه.
وتحقيق هذين الاعتبارين لا يمكن الوصول إليهما إلا عن طريق الدعوى الجنائية أو دعوى الحق العام بمراحلها المختلفة من حيث إجراء التحقيقات والحكم فيها من القضاء، وذلك هو السبيل الأمثل لإعمال حق الدولة في توقيع العقاب على مرتكبي الجرائم(1).
المبحث الثاني
إجراءات رفع الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه والنظم السعودية
وفيه مطلبان :
المطلب الأول: إجراءات رفع الدعوى أمام المحاكم الشرعية في الفقه الإسلامي:
__________
(1) انظر: د. عماد النجار الادعاء العام ، مرجع سابق ، ص 93-95.(1/9)
…من حكمة الله في عباده أن شرع لهم الدين الإسلامي ليتحاكموا إليه عند حدوث الدعاوي ، وفق مصالح مرتبة على ذلك وانتفاء المفاسد ، وجعل القضاء الشرعي مكاناً لتحقيق العدل والإنصاف ، قال صاحب كتاب المقنع(1) الحنبلي في باب أدب القاضي في أحد وجهي المذهب الحنبلي أنه يجوز للقاضي أن يحرر الدعوى للمدعي إذا لم يحسن تحريرها، وأن يشفع إلى خصمه لكي ينظره في دعواه وهذا داخل ضمن الاجراء القضائي في رفع الدعاوي من الخصوم أو المدعين إذ أن إجراءات رفع الدعوى تتضمن الطرق والوسائل التي يمكن الالتجاء بها إلى القضاء للمطالبة بالحق ، وفي هذه المرحلة لم يكن القاضي ولا المتقاضي ملزماً - في الأصل - بأي إجراء شكلي معين ، فقد كان القاضي يجلس للقضاء في المسجد أو أي مكان شاء(2).
…وكان بوسع المتقاضي المدعي أن يتقدم إلى القاضي أيضاً أينما وجده ، ويبسط عليه قضيته شفاهة من غير أن يرده عنه حاجب ، ولا أن يلزم بطريق معين في رفع دعواه أو اجراء ما.
__________
(1) ابن قدامه : ص 367 ولان من شروط قبول الدعوى أن تكون محررة تحريراً يعلم بها المدعي. انظر: المرجع السابق، ص 331.
(2) انظر البخاري في الصحيح كتاب الأحكام رقم 93 ، باب القضاء والفتيا في الطريق رقم 10 (ج8، ص 107، 108) ، وباب من قضى ولاعن في المسجد رقم 18 ، (ج8 ، ص 112).(1/10)
…وقد كان هذا هو ما يتناسب مع طبيعة التقاضي - في الصدر الأول - وبساطة التعامل مما كانت تحقق معه العدالة بأيسر السبل ، ومع اتجاه التعامل نحو التعقيد والتشابك وتزايد المشاكل والخصومات اجتهد الفقهاء في وضع الإجراءات التي تسهل التقاضي وتنظم عرض الدعاوي بما يتناسب مع متغيرات كل عصر ، يكشف عن هذا ابن أبي الدم بقوله(1): "قال الشافعي - رحمه الله - : ينبغي للحاكم ألا يتخذ حاجباً ، ومن أصحابنا من قال : هذا في حال سكون الناس وخيرهم واجتماعهم على التقوى ، فأما إذا كثر الهرج والسفهاء واستطال الأغنياء استحب له أن يتخذ حاجباً.
…وقال القاضي أبو الطيب الطبري : يستحب له أن يتخذ حاجباً يقوم على رأسه إذا قعد للقضاء ليقدم الخصوم ويؤخرهم ، وقال صاحب المقنع(2) الحنبلي في أدب القاضي "ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً إلا في غير مجلس الحكم إن شاء" وهنا إجراءات فقط وهو الصيح، ولا سيما في زمننا هذا مع فساد العوام ، فإنه متى كان للحاكم حاجب رتب الخصوم وقدم من حضر أولاً على من تأخر ، ومنعهم من المخاصمة على التقدم والتأخر ، وزجر الظالم منهم ، وأخذ بيد المظلوم ، وفيه أبهة عظيمة للحاكم ، ومنصبه لا يخفى ، ولكل زمن أحوال ومراسم تقتضيه وتناسبه".
…ولذا فإن لولي الأمر في كل زمن أن يضع من الإجراءات ما يوفر حق التقاضي ويسهل سبيله لجميع الناس ، وتتحقق به المساواة بينهم في عرض دعاواهم ، ويمنع تزاحمهم في رفعها ، وما ينتظم به نظر الدعاوي ، ويمنع تقديم بعضها على بعض. بل إن وضع هذه الإجراءات من مسؤوليات ولي الأمر وواجباته باعتبارها من متطلبات إقامة العدل بين الناس.
__________
(1) في كتابه أدب القضاء ص 106، 107 ، وانظر الماوردي : أدب القاضي ج1 ، ص 201.
(2) ص 327.(1/11)
…ولعل أوضح مثال لتلك الإجراءات ما هو مقرر حديثاً من وجوب افتتاح الدعوى بصحيفة تسمى (صحيفة الدعوى) ، حيث يقوم المدعي بتحرير صحيفة دعواه يضمنها البيانات الضرورية ، ثم يودعها قلم كتاب المحكمة حيث تقيد في سجل خاص، ثم تعلن بعد ذلك إلى الخصم بمعرفة قلم المحضرين ، ويتضمن هذا الإعلان تكليف الخصم بالحضور إلى المحكمة في الجلسة المحددة لنظر الدعوى(1).
…وقد فرضت بعض التنظيمات الحديثة طريبقاً آخر للمطالبة القضائية إلى جانب صحيفة الدعوى - يسمى نظام أوامر الأداء .
…ولا ريب أن لولي الأمر أن يفرض مثل هذا الإجراء ، وأي إجراء آخر يكون من شأنه تيسير المطالبة القضائية وتنظيم التقاضي ، بل إن ما توصلت إليه التنظيمات الحديثة بعد طول تجربة من فرض طريق أوامر الأداء كطريق للالتجاء إلى القضاء نجد أساسه الذي بني عليه من رجاء تجنب المطالبة القضائية بالمبادرة بوفاء الدين(2) ، نجد هذا الأساس في الفقه الإسلامي في قول ابن أبي الدم(3) : " ولو استدعى رب الدين المدين إلى حضور مجلس الحكم لم تلزمه إجابته ، بل يلزمه قضاء الدين ، بخلاف إجابة داعي الحكم". فإذا لم يستجب فلولي الأمر أن يستدعيه بورقة أو ما يناسب مثل هذا الاجراء.
__________
(1) انظر د. المرزوقي سلطة ولي الأمر ص 324-325.
(2) انظرد. محمد المرزوقي ،سلطة ولي الأمر في تقييد سلطة القاضي ، ص 226.
(3) في كتابه أدب القضاء ص 132 ، وانظر الشربيني ، ، ومغني المحتاج ، جـ/415-416 وابن قدامه، المقنع ص 328.(1/12)
وإذا دعي الخصم إلى القضاء لزمته الإجابة ، قال الله تعالى : { وَإِذَا (#ûqممكٹ إِلَى اللَّهِ ¾د&د!qك™u'ur لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا ×,ƒحچsù مِنْهُمْ tbqàتحچ÷è-B (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ (#ûqè?ù'tƒ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي Nخkح5qè=è% يعuچ¨B أَمِ (#ûqç/$s?ِ'$# أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ ِNخkِژn=tم وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ ڑcqكJد="©à9$# (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا (#ûqممكٹ إِلَى اللَّهِ ¾د&د!qك™u'ur لِيَحْكُمَ ِNكgsY÷ t/ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ tbqكsد=ّےكJّ9$# (51) } (1). قال ابن العربي في تفسيره لهذه
الآية(2) : " هذه الآية دليل على وجوب إجابة الدعوى إلى الحاكم لأن الله سبحانه وتعالى ذم من دعي إلى رسول الله ليحكم بينه وبين خصمه فلم يجب بأقبح المذمة.. والواجب ما ذم تاركه شرعاً".
…ومن الإجراءات والوسائل التي يستخدمها القاضي لجلب الخصم والتي يمكن الاستعانة بها لتحقيق قبول رفع الدعوى :
-أن يبعث مع المدعي خاتمة أو ورقة مختومة تفيد طلب حضوره(3).
-أن يرسل إليه رجلاً من أجريائه(4) ويطلب حضوره(5).
-وإذا امتنع عن الحضور بعث إلى صاحب الشرطة أو الوالي لإحضاره.
__________
(1) سورةالنور ، 48-51.
(2) في كتابه أحكام القرآن ج3 ، ص 1391.
(3) انظر الشربيني، مغني المحتاج ، ج4 ، ص 416، والبهوتي ، كشف القناع ، ج6 ، ص 327 . وما بعدها .
(4) الأجرياء هم الأعوان المرتبون لإحضار الخصوم إذا استعدي عليهم (أدب القضاء لابن أبي الدم) ص 108.
(5) انظر الشربيني ، مغني المحتاج ، ج4 ، ص 416، والبهوتي، كشاف القناع ج6 ، ص 327.(1/13)
-فإن لم يحضر وطلب المدعي التضييق عليه بعث القاضي من ينادي على بابه ثلاثاً أنه إن لم يحضر إلى ثلاثة أيام ختم أو سمر بابه(1) فإن لم يحضر خلال ثلاثة أيام استجاب القاضي لسؤال المدعي.
فإن أمكن إحضار الخصم بعد امتناعه عزره القاضي على امتناعه بما يليق إن لم يبد عذراً(2).
قال ابن العربي(3) في تفسيره لقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } (4) ما نصه : " قال علماؤنا : في هذا دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم ؛ لأنه دعي إلى كتاب الله ، فإن لم يفعل كان مخالفاً يتعين عليه الزجر بالأدب".
وقال ابن تيمية(5) - رحمه الله- "والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعى عليه الذي يجب إحضاره وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم حتى يفصل بينهما" .
المطلب الثاني : إجراءات رفع الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في النظم السعودية:
__________
(1) انظر ابن عابدين ، رد المحتار ج5 ، ص 415 ، والشربيني: مغني المحتاج ج4 ، ص 131.
(2) انظر: الشربيني مغني المحتاج ، ج4 ، ص 416، البهوتي : كشاف القناع ، ج6 : ص 328.
(3) في كتابه أحكام القرآن ج1 ، ص 226.
(4) سورة آل عمران : 23.
(5) في فتاواه ج35، ص 397 .(1/14)
… وتعتبر المملكة العربية السعوية الرائدة بين الدول المعاصرة في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في كافة النواحي والقضايا والأحوال المدنية والتجارية والجنائية والأحوال الشخصية (الاسرة) بفضل الله ثم بجهود الملك عبدالعزيز الذي لولا أن الله من عليه بالاصرار على تنفيذ أحكام هذه الشريعة السمحة لكانت البلاد اليوم فريسة القوانين الوضعية ، ولأصاب الناس من التعقيد والتيه ما لا يعلمه إلا الله ، لكن الالتزام بالأحكام الشرعية في جميع الأمور وخاصة أنظمة القضاء لربط مجتمعنا بالصدر الأول للإسلام. والنظام القضائي نظام صالح لكل زمان ومكان بحيث يستطيع أن يساير الحياة في تقدمها وارتقائها بما يضمن العدل والنزاهة والانصاف(1).
…وقضية الدعوى تكون بخصائص وأدوات وآليات معينه يراها القاضي من تقديم الدعوى بين يديه ، جاء في المادتين التاسعة والعاشرة من النظام الأساسي للقضاء في المملكة العربية السعودية الصادر عام 1346هـ إذا حضر المدعى عليه ولم يحضر المدعي في الوقت المحدد لسماع الدعوى بغير عذر شرعي يقدمه للمحكمه، تشطب دعواه ، وله أن يطلب رؤية دعواه في وقت آخر باستدعاء جديد وإذا حضر المدعي ولم يحضر المدعى عليه في الوقت المحدد لسماع الدعوى بغير عذر شرعي يقدمه للمحكمة احضر للمرة الثانية بواسطة الشرطة، فإن اختفى اعتبر غائباً وأجرى عليه حكم الغائب (2).
__________
(1) انظر: د. محمد ناصر الشرتي الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله ، ص 206، مطبعة دار الحبيب بالرياض، ط4، 1421هـ.
(2) انظر المادتين التاسعة والعاشرة من النظام الأساسي للقضاء في المملكة العربية السعودية الصادر عام 1346هـ كتاب الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ الخاص حول القضاء في المملكة العربية السعودية ص7، طبع عالم الفوائد 1421هـ، أعده للنشر الوليد عبدالرحمن الفرات.(1/15)
…ولقد شمل الاصلاح القضائي المعاصر في العالم الإسلامي جوانب عدة وكانت المملكة العربية السعودية وما تزال حالياً اصلاحاً في مجال القضاء بعد قيام رئاسة القضاء سنة 1346هـ وشمل ذلك الجانب الفقهي والجانب الإداري التنظيمي في وقت واحد في اطار التطوير والتحديث شاملاً الأحكام الشرعية والقواعد الفقهية الإسلامية ففي الجانب الفقهي تمثل القرار الصادر من هيئة المراقبة القضائية برقم 3/ وتاريخ 7/1/1347هـ المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24/3/1347هـ بالصيغة الآتية :
أ - أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم ، منطبقاً على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، نظراً لسهولة مراجعة كتبه ، والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
ب - إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور، ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم: يجرى النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذُكر . ويكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، على الكتب الآتية :
أ - شرح المنتهى ……ب - شرح الإقناع .
…فما اتفق عليه أو انفرد به أحدهما ، فهو المتبع ، وما اختلفا فيه ، فالعمل بما في المنتهى . فإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرح الزاد ، والدليل، إلى أن يحصل بها الشرحان . وإذا لم يجد القاضي نصّ القضية في الشروح المذكورة، طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضي بالراجح(1).
…ولا شك أن هذا التنظيم القضائي المعاصر ينطلق من روح الفقه الإسلامي وبصورة تجديدية معاصرة يختارها القاضي في إجراءاته وحكمه.
__________
(1) انظر نص النظام في كتاب الشيخ عبدالعزيز عبدالله آل الشيخ ، لمحات حول الضاء في المملكة العربية السعودية، ص 107، 108.(1/16)
…وأما الجانب التظيمي فقد تناوله المرسوم الملكي الصادر في 4 صفر 1346هـ ، فهو وما أعقبته من أنظمة هي بمجملها جاءت لتنظيم القضاء والنهوض به بتحديد اختصاصات الأجهزة والعاملين فيها ، وبيان طرق إجراءات التقاضي وتقسيم المحاكم بتوسع تدريجي اقتضته ظروف التطبيق جرياً على الأسلوب المرحلي الذي اعتمدته المملكة العربية السعودية في حركة الاصلاح القضائي مما سيتضح في دراسة لاحقة مقارنة إن شاء الله(1).
…ولقد أشارت الأنظمة السعودية إلى تسهيل إجراءات الدعوى في مواعد عدة منها ما هو في نظام القضاء الصادر في صفر من 1346هـ ومنها نظام سير المحاكمات الشرعية الصادر في 29/2/1350هـ ، وفي نظام المرافعات الصادر في 11/2/1355هـ ونظام المرافعات وما يدخل تحته من آليات هيئة التحقيق والادعاء العام الصادر في 24/10/1409هـ والتنظيم الإداري الصادر في 24/1/1374هـ.
…وهناك إجراءات حديثة لرفع الدعوى اختص بها نظام الإجراءات الجزائية السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/39 في 28/7/1422هـ والذي يبين اختصاصات ولي الأمر وهيئة التحقيق والادعاء العام والقاضي والمتهم الجاني للمدعى عليه وكذا المجني عليه - المدعي وبيان الطرق الإجرائية فيه.
…وفيما يخص إجراءات رفع الدعوى فيها تتضمن تسهيل التقاضي وإجراءاته منذ أن تصل الشكوى والدعوى إلى المحكمة وحتى وصولها مرحلة التنفيذ.
__________
(1) المرجع السابق ، ص 109- 110.(1/17)
…وعبر مراحل أهمها إبلاغ المدعى عليه ، وطرق إبلاغه واحضاره، واتباع الطرق المناسبة لاحضاره، ومثوله أمام القضاء والشهود والبينات وإمكانية الوكالة في الخصومة وغيرها وهذه الإجراءات الغرض منها التسهيل والتيسير والاسراع قدر الإمكان في البت في القضايا وحسمها لصالح العدالة ومن أجل أن يكون القضاء في المملكة العربية السعودية عند حسن الظن وعلى المستوى اللائق به (1).
…وفي المملكة العربية السعودية مر الادعاء العام بنفس المرحلتين ، إذ عندما بدأ في العصر الحديث على يد جلالة الملك عبدالعزيز سنة (1351هـ/1932م) بدأ باعتباره شعبة من شعب السلطة التنفيذية، وآية ذلك أن النظام جعله في أيدي الشرطة واعتبر من بين مهام الشرطة مباشرة الادعاء العام أمام المحاكم ، بل خولها كذلك مباشرة إجراءات التحقيق بالاضافة إلى مباشرة الخصومة أمام المحاكم في دعوى الحق العام ، ثم صدرت بعد ذلك اللائحة الخاصة بنظام مديرية الأمن العام في (29/3/1369هـ) وهي تكرس الادعاء العام ضمن السلطة التنفيذية ويباشره ضباط الشرطة.
__________
(1) انظر عبدالعزيز عبدالله آل الشيخ ، لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية، ص 116-126 ، وعادل محمد سقا ،الدفوع والطلبات في نظام المرافعات بالمملكة العربية السعودية ، ج2 ، ص 104-125، الرياض ، الغرفة التجارية الصناعية ط 1423هـ.(1/18)
…وفي مرحلة لاحقة صدر المرسوم الملكي في (24/10/1409هـ) منشئاً (هيئة التحقيق والادعاء العام) كهيئة تتولى مهام التحقيق والادعاء العام في الجرائم . بعيداً عن الشرطة التي تتولى فقط أعمال الضبط الإداري الذي يستهدف الحيلولة دون وقوع الجريمة بصفة أساسية ، فإن أخفقت في مهمتها ووقعت الجريمة كان عليها جمع المعلومات اللازمة للتحقيق والدعوى ، ثم تتولى هيئة التحقيق مباشرة تحقيق هذه المعلومات فإن كانت كافية لتوقيع العقاب على الجاني قام الادعاء العام بمباشرة دعوى الحق العام أمام المحاكم ، وبذلك يكون الادعاء العام في المملكة قد خطا خطوة إلى الأمام بموجب هذا النظام الذي أنشأ هذه الهيئة واختصها بالتحقيق في الجرائم والادعاء العام أمام المحاكم.
…وهذا يعني استقلال الادعاء العام في المملكة ولا ينال من قيام هذا الاستقلال أن هذه الهيئة ترتبط بوزير الداخليه وهو أحد أعضاء السلطة التنفيذية، فالارتباط لا يعني الخضوع، وإنما يعني المتابعة والإشراف ، لأن الادعاء العام في كل البلاد لا بد أن يمتد إلى قمة السلطة عن طريق إشراف أحد الوزراء المسئولين السياسيين عليه، ويؤكد ذلك ويعضده أن النظام ذاته نص في المادة الخامسة إلى تكريس هذا الاستقلال التام وعدم الخضوع إلا لأحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية ، بل إن النص أضاف "وليس لأحد التدخل في مجال عمله" ، بما مؤداه أن النظام الحالي يكرس استقلال الادعاء العام وينص عليه ويزكيه(1).
__________
(1) انظر. د. عماد النجار ، الادعاء العام ، المحاكم الجنائية وتطبيقها في المملكة العربية السعودية، ص 76-77، ط 1417هـ ، معهد الإدارة العامة بالرياض.(1/19)
…وتباشر هيئة التحقيق والادعاء العام - ضمن اختصاصاتها التي حددتها المادة الثالثة من نظام هيئة التحقيق والادعاء العام - سلطة التصرف في التحقيق بعد استكمال إجراءاته ، وذلك برفع الدعوى إلى المحكمة المختصة أو حفظها إذا رأى المحقق أن الأدلة غير كافية لإقامة الدعوى . وتلتزم هيئة التحقيق والادعاء العام في ممارسة اختصاصها بالتصرف في التحقيق بالقواعد المحددة في نظام الإجراءات الجزائية التي تحكم التصرف في الدعوى الجنائية سواء بالإحالة إلى المحكمة أم بالحفظ . ويراعى في التصرف في التحقيق عدم الإخلال بمصلحة صاحب الحق الخاص.(1/20)
…وأن الفقه الإسلامي يفرق فيما يتعلق بإحالة الدعوى إلى المحكمة بين مجموعتين من الجرائم وهما جرائم الاعتداء على حق خاص والجرائم التي تقع على حق عام. فإذا كانت الجريمة اعتداء على حق خاص يتعين أن يطالب الفرد المجني عليه المحكمة بتوقيع العقوبة وتعويضه عن الضرر الذي أصابه. أما ما يخص جرائم الاعتداء على الحق العام فلكل شخص أن يرفع الدعوى عنها إلى المحكمة مطالباً بإنزال العقاب على الجاني(1). لكن المشاهد في العصر الحاضر أن الأفراد قلما يعنون بتحريك دعوى الحق العام أمام المحكمة ما لم يكونوا طرفاً فيها . لهذا ، أقر الفقهاء تكريس حق الادعاء العام للدولة وجهاز الادعاء العام الذي يمثلها ، واستدلوا على ذلك بأدلة من مصادر التشريع الإسلامي(2). والدليل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى : ( أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) (3) فالآية الكريمة تقرر ترسيخ علة الادعاء العام في جرائم الحق العام، إذا ما دامت الجريمة تصيب المجتمع بأسره فلا بد من رد فعل جماعي باسم المجتمع، ويكون لولي الأمر بما هو منوط به من واجب حماية المصالح الاجتماعية القيام بمهمة الادعاء العام وإحالة القضايا إلى المحاكم لانزال العقوبة على الجناة.
__________
(1) انظر: د. أحمد عبدالعزيز الألفي ، النظام الجنائي في المملكة العربية السعودية ، ص 43، معهد الإدارة العامة، الرياض، 1976م.
(2) انظر: د. عماد عبدالحميد النجار، الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية،ص48، معهد الإدارة العامة، الرياض ، 1997م.
(3) سورة المائدة : الآية (32).(1/21)
…ويحق لولي الأمر أن يكلف هيئة عامة للقيام نيابة عنه بواجب الادعاء العام في الدعوى الجنائية أمام المحاكم المختصة. وقد نص نظام الإجراءات الجزائية السعودي على أن تختص هيئة التحقيق والادعاء العام وفقاً لنظامها بإقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها أمام المحاكم المختصة(1) . وقد أقرت المادة (17) من نظام الإجراءات الجزائية حق المجني عليه في رفع الدعوى الجزائية للمطالبة بحق خاص. ونصت على ذلك بقولها : " للمجني عليه أو من ينوب عنه ، ولوارثه من بعده ، حق رفع الدعوى الجزائية في جميع القضايا التي يتلعق بها حق خاص ، ومباشرة هذه الدعوى أمام المحكمة المختصة، وعلى المحكمة في هذه الحالة تبليغ المدعي العام بالحضور".
المبحث الثالث
إجراءات النظر في الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه والنظم السعودية وفيه مطالب:
المطلب الأول: إجراءات النظر في الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه الإسلامي:
__________
(1) انظر المادة (16) من نظام الإجراءات الجزائية السعودية. وانظر د. مدني تاج الدين ، أصول التحقيق الجنائي في المملكة ، دراسة مقارنة ، ص 284-285، نشر مركز البحوث ، الغرفة التجارية، طبعة 1425هـ.(1/22)
…للنظر في الدعوى القضائية في الفقه الإسلامي حالات منها النظر بالصلح في الدعوى. وقد يرد القاضي الخصوم في الدعوى إلى الصلح وهو الذي يرتفع به النزاع بين الخصوم ، ويتوصل بها إلى الموافقة بين المدعي والمدعى عليه(1) . وقد أجمع الفقهاء على مشروعية الصلح مع اختلاف في بعض صوره(2) جاء في البدائع(3) " ولا بأس أن يرد القاضي الخصوم إلى الصلح إن طمع منهم ذلك ... وإن لم يطمع منهم فلا يردهم إليه ، بل ينفذ القضاء فيهم".
…ومن حالات النظر في الدعوى القضائية النظر بالإقرار أو الشهادة ، أو اليمين: قال السبكي في القول الموعب في القضاء بالموجب ما نصه(4) " ان الرافعي قال عند الكلام في كتابه السجل ويكتب في المحضر أنه ثبت عنده بإقراره أو شهادة فلان وفلان وثبت عدالتهما أو بيمينه بعد النكول ، وأنه حكم بذلك لفلان على فلان بسؤال المحكوم له ويجوز أن يقال ثبت ما في هذا الكتاب وأنه حكم بذلك ، وهو يقتضي ان الحكم بما في الكتاب حكم صحيح.. وأن علم القاضي كذب الاقرار بحس أو عقل أو شرع قطعي وإكراه المقر أو كونه ممن لا يصح إقراره لم يحكم بصحة الاقرار ولا بموجبه"(5).
__________
(1) انظر : الزمخشري ، أساس البلاغة ص 257 ، والنووي روضة الطالبين جـ4/193، والبهوتي كشاف القناع 3/378 ، والموسوعة الفقهية الصادرة من الكويت جـ27/237-239.
(2) انظر : ابن قدامة المغني 4/527.
(3) للكاساني جـ7/13.
(4) بتحقيق د. علي إبراهيم القصير ، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة السادسة عشرة ، رمضان ، 1425هـ، ص 258-2361.
(5) انظر ما جاء في معناه وابن قدامه المقنع ص 230 وما بعده ، ابن النجار شرح منتهى الارادات 6/466، وما بعدها ، ابن فرحون ، تبصرة الحكام 1/95 . ابن نجيم البحر الرائق ، 6/278.(1/23)
…وفي الفقه الحنبلي أن القاضي أول ما ينظر فيه أمر المحبسين فيبعث ثقة إلى الحبس فيكتب اسم كل محبوس ومن حبسه وفيم حبسه في رقعة منفردة ثم ينادي في البلدان أن القاضي ينظر في أمر المحبسين غداً فمن لم يتهم خصم فليحضر فإذا كان الغد وحضر القاضي أحضر رقعة فقال هذه رقعة فلان بن فلان ثم يبين نوع التهمة فإن لم يكن له خصم أخلي سبيله ، وإن كان خصمان أجلسهما أمامه ، فإن سبق أحدهما بالدعوى قدمه وإلا أقرع بينهما ثم يسمع لهما فمن كانت له بينة أو شهود نظر وحكم له في دعواه بشروطها ، وإلا أنكر فالقول قول المنكر مع يمينه ، فإن كان المدعى عليه غائباً حضر وإلا حكم بالبينة وبتقديرات يراها القاضي بعد الاستبيان والتحقيق في البينات والدعوى والشهود والقرائن ثم يحكم في القضية المطروحة(1).
…ولقد قرر العلماء مشروعية التفريق بين الشهود عند استشهادهم وذلك عند الاقتضاء، وتسمع شهادة كل شاهد منفرداً عن الشاهد الآخر.
…وهو أمر مهم بخاصة مع الريبة(2)، إلا النساء فقد جاء النص بمنع تفريق النساء عند أداء الشهادة يقول الله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } (3)، وبذلك صرح الحنفية(4).
__________
(1) انظر : ابن قدامة ، المقنع ، ص 328-334.
(2) انظر : ابن قدامه ، المغني والشرح الكبير 11/452، 444، ابن القيم : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية 32، 84.
(3) سورة البقرة ، آية 282.
(4) انظر: ابن نجيم الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان ، 228.(1/24)
…فعليه ، يفرق بين كل اثنتين اثنتين ، لا بين كل واحدة والأخرى. وعلى المحقق سماع شهادة الشهود فيما يتعلق بالتهمة ووقائعها وصفة ارتكاب الجريمة ومن ارتكبها وأن يسمع شهادة كل شاهد منفرداً ويدعه يأتي بما لديه من شهادة ثم يسأله عن الأوصاف المتعلقة بواقعة التحقيق مما يدعل على ثبوتها أو نفيها ، وله كذلك أن يسأله عن صفة تحمل الشهادة ووقتها من ليل أو نهار ومن معه وغيرها من الأسئلة التي تكشف صدق الشاهد ومطابقة الشهادة للواقع ، ويدون ذلك جميعه في محضر التحقيق .
…ويسمع المحقق شهادة جميع من حضر الواقعة ما لم يكثروا ويكون في تدوين ذلك مشقة، وذلك ليزداد يقين المحقق ومن يتولى الحكم في القضية ، وليبقى ما تقوم به الشهادة إذا طُعن في بعض الشهود.
…وقد عد نظام الإجراءات الجزائية السعودي سماع شهادة الشهود من أعمال التحقيق الجنائي (1).
…ويجب على المحقق عند سماع شهادة الشاهد التحقق مما يلي (2):
1-هوية الشاهد واسمه كاملاً بوساطة الوثيقة الرسمية أو التعريف عند تعذرها وإثبات ذلك في محضر التحقيق .
2-على المحقق أن يستوفي البيانات الكاملة عن الشاهد ، وهي :
أ ) سنه ، ومهنته ، وجنسيته ، ومحل إقامته.
ب) جهة اتصاله بالمتهم أو المجني عليه والمدعي بالحق الخاص بالقرابة أو الاستخدام أو غيرها إن كان له اتصال بهم.
3- يدون جميع ذلك مع نص الشهادة والمناقشة في محضر التحقيق مع توقيع الشاهد والكاتب والمحقق على ذلك .
…وقد نظمت المواد (95-100) من نظام الإجراءات الجزائية السعودي صفة الاستماع إلى الشهود.
__________
(1) المواد (95-100).
(2) نظام الإجراءات الجزائية السعودي، المادتان (96، 97 ).(1/25)
…وعن سماع طلبات الخصوم والفصل فيها ، فللخصوم - من المتهم ، والمدعي في الحق الخاص ، والمجني عليه - أن يقدموا طلباتهم التي يرغبون تقديمها إلى المحقق أثناء التحقيق ، وعلى المحقق تفحصها والفصل فيها إيجاباً أو سلباً مع بيان الأسباب التي استند عليها في هذا الفصل .
…وهذا أمر تستدعيه أصول المدافعة بأن يسمع من أطراف القضية جميعاً ويمكنهم من حضور التحقيق .
…فعن علي - رضي الله عنه - قال : " بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله ، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ، قال : فما زلت قاضياً - أو : ما شككت في قضاء بعد-"(1).
…ويجب على المحقق أن يثبت طلبات الخصوم في محضر التحقيق ويجري ما يلزم نحوها.
…وقد عد نظام الإجراءات الجزائية السعودي سماع المحقق طلبات الخصوم التي يتقدمون بها والفصل فيها - من التصرفات التي يتخذها المحقق ، فهي من أعماله(2).
…لكن الإشراف المباشر للقاضي على مراحل الدعوى وتنفيذ الأحكام مهم جداً ، وإن الهدف من الحكم القضائي هو التنفيذ ، أي إمضاء قضاء القاضي وتحويل مضمون الحكم إلى واقع تنتقل فيه الحقوق المادية والمعنوية إلى أصحابها وتستوفى فيه الحدود ونحوها من المحكوم عليهم وذلك إما من طرف القاضي نفسه أو من طرف سلطة أخرى غير القضاء ، فالتنفيذ هو الأثر المترتب على الحكم القضائي .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب القضاء.
(2) المادتان (68، 73) وانظر عبدالله محمد آل خنين ، المحقق الجنائي في الفقه الإسلامي ، ص 178-182.(1/26)
…فمراقبة القاضي وهيمنته على القضايا تستمر مع أول مراحل الدعوى إلى نهايتها بالتنفيذ وذلك أن الدعوى تمر بثلاث مراحل ، هي عمل القاضي الذي يقوم به ووظيفته الأصلية، فلا يمكن أن يخلو عمل القاضي من ثلاث مراحل متلازمة هي :
المرحلة الأولى : تحقيق وقائق الدعوى ذات النزاع ، والبحث عن طرق إثباتها .
المرحلة الثانية : البحث عن حكمها في الشرع.
المرحلة الثالثة : تطبيق الحكم الشرعي بصيغة ملزمة لحسم النزاع(1).
فالقاضي إذا رفعت إليه القضية يجب أن ينظر أول ما ينظر إلى نفس الدعوى ، هل هي صحيحة مستوفية الأركان والشروط أو لا ؟ فإن لم تكن صحيحة ردها ولا يلزمه البحث عن أي طريق يثبت صحتها ، وإن كانت صحيحة باشر عمله في التحقيق في وقائعها ، وطلب من كلا الخصمين ما يلزم طلبه منه من الإثبات أو النفي .
…ومن هذا يتبين أن عمل القاضي فيما يتعلق بتحقيق وقائع الدعوى يتوقف على ما يقدمه طرفا الخصومة ، فإن كانت الدعوى غير صحيحة ردها ، وإن كانت صحيحة فعبء إثبات الدعوى ونفيها يقع على الخصوم ، ويكون دور القاضي حينئذ هو مراقبة صحة ما يقدم من الأدلة على إثبات الدعوى أو إثبات دفعها .
أما البحث عن حكم الواقعة في الشرع ، فهذا العمل واجب على القاضي وحده، وليس الخصوم مكلفين بالبحث عن الحكم الشرعي ، ولا ينبغي للقاضي تكليفهم بذلك ، ولكن للخصوم أو وكلائهم أن يبينوا وجهة نظرهم في حكم القضية من الناحية الشرعية مؤيدين ذلك بالأدلة والبراهين ، غير أن بحث القاضي عن الحكم وتطبيقه على الواقعة من حقه وحده.
__________
(1) انظر: شوكت عليان : السلطة القضائية ، ص 433.(1/27)
أما تطبيق الحكم الشرعي بصيغة ملزمة لحسم النزاع ، فإن الجانب النظري من هذه المرحلة واجب على القاضي وحده أيضاً ، وأما الجانب التطبيقي الذي هو التنفيذ فإن له طرقاً وأنواعاً مختلفة في نظام المرافعات السعودي(1).
المطلب الثاني : إجراءت النظر في الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في النظم السعودية:
…وفي النظم القضائية السعودية إذا جرى التبليغ وفقاً للتعليمات ، وحضر المتداعيان - المتقاضيان - في اليوم المحدد ، فإن أول ما يبدأ به القاضي - بعد دراسة القضية قبل يوم واحد على الأقل من تاريخ النظر فيها - : هو الطلب من المدعي أولاً لعرض دعواه ، وتقديم ما لديه لإثبات ما يدعيه . فإذا انتهى من ذلك ، طلب من المدعي عليه الإجابة في نفس الجلسة. إلا إذا كانت إجابته تتطلب الرجوع إلى سجلات ودفاتر ومستندات وحسابات، فإنه يُهمل لفترة مناسبة لمرة واحدة؛ لمنعه من المماطلة والتسويف . وعلى القاضي أن يسمح للمدعي أن يعرض دعواه ، من دون أن يصححه له شيئاً . فإذا انتهى ، ورفض المدعى علية الإجابة في نفس الجلسة من دون عذر يقتضي التأجيل ، أو إجابات لا علاقة لها بموضوع الدعوى لغرض التهرب وكسب الوقت : فعلى القاضي أن ينذره ثلاث مرات بوجوب الإجابة وعدم الخروج عن الموضوع ، فإذا لم يرتدع المدعى عليه اعتبره القاضي ناكلاً ، واتخذ الإجراء المقتضي بحقه شرعاً.
__________
(1) انظر : د. محمد عبدالله الشنقيطي ، مجلة العدل السعودي ، العدد 28 شوال 1426هـ، ص 35-36.(1/28)
…فإذا حضر الخصوُم قبل يوم المرافعة المخصص لنظر الدعوى، وكان للقاضي متسع من الوقت ولم يكن مشغولاً بالنظر في دعاوي أخرى : فإن عليه أن يسمع منهما، وإلا أحالها إلى أحد نوابه ما لم يكن هو الآخر مشغولاً في قضايا أخرى . كل ذلك تيسيراً على الناس وتسهيلاً للإجراءات ، وحرصاً على عدم إطالة الوقت والتأخير في حسم القضايا من دون مبرر، المواد : (1 ، 2 ، 3، 4، 9، 10 ، 11 ، 13 ، 18 ، 19 ، 20 ).
…فإذا حضر المدعي مجلس المحاكمة في التاريخ المحدد ، ولم يحضر المدعى عليه، من دون عذر بعد ثبوت إبلاغه : فعلى الحاكم إحضاره في الحال ، بواسطة شرطة المحكمة. فإذا انتهى وقت الدوام الرسمي ولم تفلح الإجراءات في إحضاره : عين الحاكم يوماً آخر للنظر لا يتجاوز ثلاثة أيام من التاريخ الأول ، ويكلف الشرطة المختصة بالبحث عنه وتبليغه بموعد الجلسة . فإن لم يحضر ، فتجرى المحاكمة بحقه غيابياً. فإذا تخلف أكثر من مرتين من دون عذر مقبول ، اعتبر في حكم المختفي وتجري المحاكمة بحقه غيابياً ، وفقاً للأصول وتسمع عليه البينة.
…ولقد راعى النظام ، ظروف بعض المحكوم لهم. فأوجب تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحهم تنفيذاً مؤقتاً قبل تصديقه من رئاسة القضاة ، حتى ولو كان الحكم غيابياً واجب التمييز. وذلك بطلب من المحكوم له ، وذلك إذا كان الحكم يتعلق : بنفقة لمن يستحقها شرعاًَ، أو أجرة حضانة ، أو أجرة رضاعة ، أو مسكن ، أو تسليم الصغير ، أو الصغيرة للحاضنة، أو حفظ المرأة عند المحرم، وضم الولد إلى وليه.
…ولا شك أن التنفيذ المؤقت ، أو بالأحرى التنفيذ الفوري في تلك الأحوال التي أوردها النظام على سبيل الحصر ، هو من مقتضيات العدالة؛ للحاجة الماسة إلى تنفيذها بالسرعة اللازمة، من دون تأخير قد تترتب عليه مفاسد كثيرة.(1/29)
…ومما تناوله النظام أيضاً : موضوع الوكالة في الخصومة . حيث أجاز لكل شخص حق التوكيل عنه ، بلا تقييد . إلا أنه في نفس الوقت ، أجاز لمن يريد الوكالة عن الغير أن يتوكل عن الشخص الواحد في قضية واحدة ، إلى ثلاث قضايا . باستثناء موظفي الدولة ، فإنه لا يحق لهم التوكل عن الغير إلا إذا كان من ذوي القربى.
…أما ممارسة مهنة الوكالة : فقد اشترط النظام - لصالح العدالة ، ولكي لا يكون الوكيل عبئاً على المحكمة أو ضاراً بموكله بسبب جهله - أن تمارس الوكالة بإجازة صادرة من هيئة علمية، يتم اختيارها من قبل القاضي في بلد طالب الإجازة ، التي لا تمنح إلا بشروط هي:
1-ألا يقل عمره عن إحدى وعشرين سنة.
2-أن يكون حسن السيرة والسلوك.
3-أن يكون سعودي الجنسية.
4-أن يكون حاصلاً على شهادة تخرج من المعهد السعودي ، أو القسم العالي من مدارس الفلاح، أو على شهادة تعادل إحدى هاتين الشهادتين بقرار من مديرية المعارف.
5-الأشخاص الذين مارسوا القضاء ، أو تحصلوا على شهادة التدريس ، أو شهد لهم قاضي البلد أو عالم معتبر بأهليتهم لممارسة الوكالة.
أما الأشخاص الذين لا يملكون الشهادات المطلوبة : فإنه يجري إثبات كفاءتهم عن طريق اختبار في المسائل القضائية ، من قبل الهيئة العلمية.
هذه هي خلاصة ما تضمنه التنظيم الصادر بالمرسوم الملكي رقم (109) في 24/1/1372هـ بهدف تسهيل إجراءات التقاضي ، والتيسير على المتقاضين ، وتحقيق العدالة ، كما أشار إليه الملك سعود في توجيهه الذي صدر بموجب النظام المذكور.
وهي إجراءات لم تخرج عما سبق وأن بحثه الفقهاء السابقون، وأكدوا عليه واشترطوه، تحقيقاً للغرض من القضاء - كما مرت الإشارة إليه من قبل - ألا وهو تحقيق العدالة بين الناس ، وإعطاء كل ذي حق حقه من دون مماطلة ولا تسويف(1).
__________
(1) انظر: عبدالعزيز عبدالله آل الشيخ ، لمحات حول القضاء ،مرجع سابق ، ص 131-135.(1/30)
المطلب الثالث : إجراءات المحاكمة في دعوى الحق العام وحق المتهم في ذلك:
…فإنه من القواعد المقررة بخصوص سماع دعوى الحق العام أنه إذا كانت الدعوى مقامة على جهة حكومية فلا بد من استئذان ولي الأمر قبل رفعها ، وهذه قاعدة يراعى فيها ألا تتخاصم سلطات الدولة أمام المحاكم وتتصارع دون أن يعرض الأمر على ولي الأمر، وهذه القاعدة قد وردت في الأمر الملكي رقم (20941) الصادر في 28/10/1387هـ.
…وإذا رفعت دعوى الحق العام دون مراعاة هذا الإجراء فإنه يتعين على المحكمة أن ترفع عنها للوزارة (وزارة العدل ) مباشرة ، لتتولى هذه الأخيرة رفع الأمر إلى ولي الأمر لتدارك ما فات على سلطة الاتهام اتخاذه(1).
…إن دعوى الحق العام لها أولوية عند نظرها مع دعوى الحق الخاص ، فإذا كان الفصل في دعوى الحق الخاص المتصلة بها يترتب عليه تأخير نظر دعوى الحق العام تعين الحكم في دعوى الحق العام وترك دعوى الحق الخاص لحين استكمالها ، أما إذا كان الحكم في دعوى الحق العام يتوقف على دعوى الحق الخاص فيكلف المدعى بالحق الخاص برفع دعواه خطياً في أجل معين(2). ويستثنى من ذلك إذا كان المدعي الخاص مريضاً بسبب الحادث مثلاً فيمهل حتى يبل من مرضه وإلا كلف وكيلاً عنه لرفعها ، حتى يتسنى بعد ذلك نظر دعوى الحق العام ، وذلك لما لدعوى الحق العام من أهمية وأولوية تزيد على دعوى الحق الخاص.
__________
(1) انظر الأمر السامي رقم (4) ق (4567) الصادر في 2/2/1397هـ بالمملكة العربية السعودية.
(2) انظر: د. عماد النجار ، الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقها في المملكة العربية السعودية، ص286-288.(1/31)
…وعن سماع دعوى الحق العام أو إجراءات المحاكمة وسير الدعوى القضائية ، تبدأ المحاكمة بالنداء على المتهم ، فإن كان حاضراً تتخذ باقي الإجراءات ، أما إن كان غائباً فعلى المحكمة أن تتحقق من إعلانه باليوم المحدد للجلسة ، وإذا ما ثبت إعلانه بهذا اليوم ولم يحضر أمرت المحكمة بإحضاره ، وتنص المادة (24) من لائحة تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية(1) على أنه يخصص في كل مدينة من المدن الكبيرة... مخفر شرطة يكون مقره المحكمة أو قريباً منها ، مشتملاً على ضابط وعدة جنود تكون مهمته إجابة طلبات المحكمة ، وتنفيذ أوامرها في إحضار من تشعره المحكمة بإحضاره في الأوقات التي تحددها المحكمة ، سواء كان الطلب كتابياً أو شفوياً أو تليفونياً ، على أن يكون بالمخفر المذكور هاتف ودراجات نارية بقدر الحاجة لتسهيل أمور الطلبات ، وأن يكون المخفر مرتبطاً بالمحكمة رأساً في هذه الأعمال ، وعليه تنفيذ طلبات المحكمة من غير رجوع إلى مرجعه، وفي غير المدن الكبيرة يكون المكلف بإحضار الخصوم وإجابة طلبات المحكمة على النحو المذكور هو مدير شرطة البلدة التي تقع فيها المحكمة.
…وتبدأ مسيرة دعوى الحق العام بسماع المدعى العام باعتباره المدعى في دعوى الحق العام وهو يجيب بطلباته الواردة في قرار الاتهام ، حيث يتقيد بها ولا يخرج عن مضمونها على نحو ما سلف بيانه.
__________
(1) انظر المادة (28) من لائحة تنظيم الأعمال الإدارية في الدوانئر الشرعية ، وهو النظام المتوج بالتصديق العلي رقم (109) الصادر في 24/1/1373هـ بالمملكة العربية السعودية.(1/32)
…ثم يكلف المتهم بالرد على دعوى الحق العام كما لخصها المدعى العام أو ممثله ، أو الإجابة عن الدعوى أو الرد عليها حيث يواجهه القاضي بالتهمة المسندة إليه. فإذا لم يكن جاهزاً بالرد وطلب أجلاً لإعداد دفاعه أجابه القاضي لذلك في أجل مناسب. وإذا ما حضر بعد ذلك بسط دفاعه عن التهمة المسندة إليه ، فإن اعترف بها سأله القاضي عن تفصيل اعترافه، وإذا أنكر التهمة مضى القاضي في تحقيق الأدلة القائمة ضده.
…ولا يحكم القاضي حتى يسمع نظام الدعوى والبينة ، ويسأل المدعى عليه : هل لك مدفع؟ (1).
…وإذا امتنع المتهم عن الإجابة أو أجاب بكلمات لا يواجه بها الدعوى ولا تلتقى معها كرر القاضي عليه الاتهام طالباً الجواب الصحيح والمناسب عليها ، فإذا أصر على موقفه حيث الإجابة بما لا يتصل بالدعوى أو لم يواجهها يعتبره القاضي منكراً ، وذلك كله على ضوء ما ورد في المادة (18) وما بعدها من لائحة تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية.
…وقد ورد في مجلة الأحكام في المادة (1822) " إذا لم يجب المدعى عليه لدى استجوابه بقوله " لا " أو " نعم" وأصر على سكوته ، يعد سكوته إنكاراً ، وكذلك لو أجاب بقوله " لا أقر ولا أنكر " فيعد جوابه هذا إنكاراً أيضاً"(2) ، وذلك لأن العبرة بحقيقة ما يبطنه الجاني، ولا يسوغ تلمس إجابة تدينه أو مقالة تؤدي إلى إسارة مركزه في الاتهام.
…وبعد ذلك يبدأ القاضي في تحقيق الدعوى ، وهو التحقيق النهائي الذي تجريه المحكمة، ينطوي على تحقيق الأدلة القائمة في الدعوى وتقديرها ووزنها تمهيداً لإصدار قراره النهائي فيها بالحكم في موضوعها.
…وتسعى هذه القواعد إلى إحاطة المتهم بالتهمة المسندة إليه ومواجهته بها والوقوف على دفاعه بشأنها .
__________
(1) أبو بكر حسن الكشناوي : أسهل المسالك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك ، ص 200.
(2) علي حيدر : درر الحكام شرح مجلة الأحكام ، مرجع سابق ، ص 600.(1/33)
…وحق المتهم في ذلك نجد الإسلام يولي أهمية كبرى وإحاطة المتهم علماً بالتهمة المسندة إليه وعدم جواز معاقبته قبل أن يعلم بالتهمة ويرد عليها . من ذلك عندما عصى إبليس ربه فلم يسجد لآدم عندما أمره الله بالسجود له فخالف الأمر ، فكان أن سأله الله عن هذه التهمة ، وجاءت الآيات تؤكد هذا المعنى وذلك الاستنتاج وتؤكد ثبوته ورسوخه كما جاء ذلك في آيات عديدة بالقرآن الكريم.
المطلب الرابع : احترام القضاء أثناء إجراءات الدعوى القضائية والعقوبات المترتبة على عدم ذلك في الفقه والأنظمة السعودية:
…ولكي يتسنى للقاضي نظر الدعوى ومباشرة إجراءاتها فطن التشريع إلى احتمالات وجود ما يعكر صفو الجلسة وإمكان الاستمرار في نظرها في مواجهة من يعرقل مسيرتها أو يعكر نظامها. ولكفالة تحقيق أكبر قدر من التوقير والاحترام لمجلس القضاء والحفاظ على هيبته ومكانته ، فقد ورد في لائحة تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية في المادة (74) ما يلي " ضبط الجلسة وإدارتها منوط بالحاكم ، بحيث يكون له أن يُخرج منها من يحصل منه تشويش أو يُخل بنظامها وآدابها من الخصوم أو المترافعين فيها وغيرهم . فإن تمادى في فعله كان له حبسه فوراً لمدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة ، ومتى أمر بذلك أرسله إلى إدارة الشرطة لحبسه ، وعلى إدارة الشرطة تنفيذ ذلك . وإذا اقتضى الأمر زيادة في المجازاة يرفع بذلك إلى رئاسة القضاة".(1/34)
…وهذا هو الحد الأدنى المقرر للقضاة لإمكان الحفاظ على هيبة مجلس القضاء(1) ويتجه الفقه الإسلامي إلى تأييد هذا النظر والدفاع عن هيبة مجلس القاضي ، ويرى الفقهاء أن عقاب من يخرج على هيبة القاضي أوقع وأفضل من التجاوز عنه أو مسامحته ، لما في ذلك من تشجيع على إنقاص هيبة ومكانة مجلس القضاء. وإمكان الاستمرار في نظر الدعاوي ، غير أن الأمر لا يخلو أحياناً من وجود أشخاص تمتد تجاوزاتهم إلى ما يزيد على مجرد التشويش ويصل بهم الأمر إلى حد ارتكاب الجرائم ، وهو ما اقتضى من التشريع أن يورد نص المادة (73) من ذات اللائحة الخاصة بتنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية التي يجري نصها على النحو التالي : " في حالة وقوع جنحة أو جناية بالمحكمة ، على الحاكم أن يقرر تعزير الجاني ومن يستحق الجزاء بما يردع ويحفظ للمجلس الشرعي كرامته ، ويرفع ما يقرره في ذلك إلى رئاسة القضاة لتقرير اللازم أسوة بقرارات التعزيرات ، هذا إذا كان في العاصمة، أما إذا كان في الملحقات فيبعث للحاكم الإداري لتنفيذه "، والنص على هذا النحو يحتاج إلى ضبط وتفصيل ، ذلك أن المقصود بوقوع الجنحة أو الجناية بالمحكمة أي وقوعها بالجلسة حال انعقادها ، فما يقع في المحكمة من الجرائم خارج الجلسة حال انعقادها لا شأن للقاضي به، فجريمة القتل التي تقع في فناء المحكمة لا شأن للقاضي بها ، وإنما يختص بتحقيقها سلطة التحقيق ثم تحال إلى المحكمة المختصة طبقاً للقواعد العامة ، وكذلك الشأن فيما يقع من جرائم في الجلسة في غير حالات انعقادها ؛ لأن الغاية من هذه النصوص هو تمكين القضاة من نظر الدعاوي في هدوء انعقادها ؛ لأن الغاية من هذه النصوص هو تمنكين القضاة من نظر الدعاوي في هدوء واحترام ، وحفظ كرامتهم وكرامة المجلس الذي يباشرون فيه أعمالهم، وهذه سلطة استثنائية فلا معنى للتوسع فيها أو القياس
__________
(1) محمد بن رشد : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، جـ2 ، ص 289.(1/35)
عليها ، حيث يكون القاضي مدعياً عاماً وشاهداً وحكماً في وقت واحد.
…وفي لائحة الإجراءات أمام ديوان المظالم الصادرة بقرار مجلس الوزراء حيث تقرر ذات الحق بأسلوب آخر على النحو التالي (1):
…ضبط الجلسة ونظامها منوطان برئيس الدائرة ، وله في سبيل ذلك اتخاذ أي من الإجراءات التالية :
أ - أن يخرج من قاعة الجلسة من يُخل بنظامها ، فإن لم يمتثل وتمادى كان للدائرة أن تحكم على الفور بحبسه أربعاً وعشرين ساعاة أو بتغريمه مائتي ريال ، وللدائرة قبل انتهاء الجلسات أن ترجع عن الحكم الذي تصدره لأن الجاني عادة في هذه الحالات يسارع بالاعتذار والتودد إلى القاضي فلا بأس من العفو عنه(2).
ب - أن يأمر بمحو العبارات الجارحة أو المخالفة للآداب أو النظام العام من أية ورقة أو مذكرة يقدمها الخصوم في الدعوى كما ورد في الفقرة (ب) من نظام الإجراءات أمام ديوان المظالم.
ج - أن يأمر بكتابة محضر عن كل مخالفة أو جريمة تقع أثناء انعقاد الجلسة وعما قد يحدث أثناء ذلك من تعد على الدائرة أو أحد أعضائها أو ممثل الادعاء أو أحد العاملين مع الدائرة ، ويحيل المحضر إلى الجهة المختصة لاتخاذ اللازم نظاماً ، وله إذا اقتضى الحال أن يأمر بالقبض على من وقعت منه هذه الأفعال على ما تنص عليه الفقرة (ج) من ذات المادة سالفة الذكر.
__________
(1) انظر القرار رقم (190) الصادر في 16/11/1409هـ ، م (16) منه بشأن هذه الإجراءات أمام ديوان المظالم. وانظر د. عماد النجار ، الإدعاء العام ، مرجع سابق ، ص 288-292.
(2) المادة (16) من قرار رقم (190) الصادر في 26/11/1409هـ ، بشأن الإجراءات أمام ديوان المظالم.(1/36)
…والمستفاد من هذه المادة أن سلطة رئيس الدائرة منحصرة في الحبس لمدة (24) ساعة أو الغرامة عند خروج أحد الناس على نظام الجلسة أو إحداث الضجيج أو التشويش أثناء انعقادها، وفي حالة وقوع جريمة على أعضائها أو العاملين معهم تحرر مذكرة لجهة التحقيق لاتخاذ ما يلزم مع الحبس عند الاقتضاء . ولكن هذه السلطة قللة ، إذ تعرف النظم المقارنة إمكان توقيع العقوبة في الجرائم البسيطة ليجمع القاضي بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم للوصول إلى إجراء مسريع وفعال لكفالة هيبة واحترام مجلس القضاء. وهو ما تنص عليه المادة (73) من نظام تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية على نحون ما سلف بيانه.
…كذلك ورد في المادة (28) من نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي ما يكفل حماية مجلس القاضي ، إذ جاء نص هذه المادة ليقرر أن " إدارة جلسات الهيئة وضبطها وحفظ النظام فيها من اختصاص الرئيس ، وله عند حصول شغب أو جدل غير لائق بأصول البحث توقيف الجلسة وإسكات من يلزم والسماح لمن يلزم بالكلام ، وعلى الهيئة إطاعته في ذلك"(1). والمقصود بالهيئة في هذا النص هو هيئة تدقيق الأحكام المنوط بها تدقيق الأحكام الشرعية الوارد بشأنها نصوص المواد (15) وما بعدها من نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي، وذلك قبل إنشاء محكمة التمييز بموجب نظام القضاء الصادر في سنة 1395هـ(2).
__________
(1) انظر المادة (28) من نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي رقم (109) المتوج بالتصديق العالي في 24/1/1372هـ.
(2) انظر المادة (15) من نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي سالف الذكر بخصوص صلاحيات أعضاء هيئة تدقيق الأحكام ، وذلك قبل صدور نظام القضاء الساري حالياً وهو النظام رقم (824) في 5/7/1395هـ.(1/37)
…وهكذا نجد أن النصوص عديدة في كفالة توقير مجلس القاضي وإحترامه وتيسير مهمته في نظر الدعوى وسماع واتخاذ إجراءاتها ، وذلك كي يشعر العامة بهيبة وجلال مكانة القاضي الذي فوضه النظام في احتكام الجمهور إليه وتخويله حسم المنازعات باسم المجتمع ولحسابه.
الخاتمة
…بعد الانتهاء من هذا البحث الموسوم بإجراءات الدعوى القضائية أمام المحاكم الشرعية في الفقه والنظم السعودية أجد أنني قد حصلت على فوائد علمية جمه تتلخص في معرفة الفروق بين الدعوى والادعاء من حيث المعنى الفردي والشخصي للأول والدولة أو السلطة التنفيذية في الثاني ، إضافة إلى سماحة الشريعة الإسلامية وتلبيتها لمتطلبات الأفراد والجماعات المعاصرة وأنها صالحة لكل زمان ومكان إضافة إلى التيسير على العباد في إجراءاتهم القضائية ابتداء من سير الدعوى وأهمية القضاء واحترامه أمام هذه الدعاوي في الفقه الإسلامي ، والنظم المعاصرة ، وأن أنظمة المملكة العربية السعودية تتناسب مع مقتضيات وأحكام الفقه الإسلامي في مجمل أنظمتها حيال هذا الموضوع والله ولي التوفيق.
المراجع
"القرآن الكريم.
"السنة النبوية المطهرة.
"ابن أبي الدم : أدب القضاء ، دار العلم للملايين ، بيروت، 1403هـ.
"ابن العربي : أحكام القرآن ، دار المعرفة ، لبنان ، 1407هـ.
"ابن القيم : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، دار الفكرللطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
"ابن النجار : منتهى الإرادات ، عالم الكتب ، بيروت.
"ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، طبع الرئاسة العامة لشؤون الحرمين بالمملكة العربية السعودية.
"ابن حجر العسقلاني : بلوغ المرام ، دار الكتاب العربي ، بيروت .
"ابن عابدين : حاشية رد المحتار ، دار الفكر ، بيروت ، 1399هـ.
"ابن فرحون : تبصرة الحكام ، مطابع القاهرة الحديثة ، الطبعة الأولى ، 1406هـ.
"ابن قدامة : الشرح الكبير ، دار عالم الكتب ، 1426هـ.(1/38)
"ابن قدامة : المغني،دار الفكر ، بيروت ، 1404هـ ، دار عالم الكتب ، 1426هـ.
"ابن قدامة : المقنع ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1399هـ .
"ابن منظور : لسان العرب ، دار صادر ، بيروت.
"ابن نجيم : الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، مؤسسة الحلبي،القارهة.
"ابن نجيم : البحر الرائق ، مطبعة كراتشي ، باكستان ، المكتب الإسلامي .
"أبو بكرحسن الكشناوي : أسهل المسالك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك. دار الفكر ، بيروت ، 1405هـ.
"أحمد عبدالعزيز الألفي ، النظام الجنائي في المملكة العربية السعودية ، معهد الإدارة العامة ، الرياض . 1976م.
"البخاري صحيح : دار المعرفة ، بيروت.
"البهوتي : كشاف القناع ، دار الفكر ، لبنان ، 1402هـ.
"د. عماد عبدالحميد النجار : الادعاء العام ، المحكمة الجنائية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ، معهد الإدارة العامة بالرياض ، 1977م.
"د. محمد المرزوقي : سلطة ولي الأمر في تقييد سلطة القاضي ، مكتبة العبيكان ، 1426هـ ، الرياض.
"د. محمد منصور المدخلي : أحكام الملكية في الفقه الإسلامي ، دار المعراج الدولية، سنة 1425هـ.
"د. محمد منصور المدخلي : المعادن في الفقه الإسلامي ، مخطوط .
"د. مدني تاج الدين : أصول التحقيق الجنائي في المملكة العربية السعودية ، مركز البحوث ، معهد الإدارة العامة بالرياض ، 1425هـ.
"د. وهبه الزحيلي : الفقه الإسلامي وأدلته ، دار الفكر ، دمشق ، 1984م.
"د.عماد الدين النجار : الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقها في المملكة العربية السعودية ، معهد الإدارة، مركز البحوث ، عام 1417هـ.
"الرازي : مختار الصحاح ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
"الزمخشري : أساس البلاغة ، دار الفكر ، بيروت.
"الشربيني : مغني المحتاج ، دار الفكر ، بيروت.
"شوكت عليان : السلطة القضائية، مكتبة الكليات ، القاهرة.(1/39)
"عادل محمد مسقان ، الدفوع والطلبات في نظام المرافعات بالمملكة العربية السعودية، الغرفة التجارية الصناعية بالرياض ، 1423هـ.
"عبدالعزيز عبدالله آل الشيخ : لمحات حول القضاء ، طبع عالم الفوائد، 1421هـ.
"عبدالله محمد آل حنين : المحقق الجنائي ، طبعة أولى ، 1426هـ.
"عزمي عبدالفتاح : نحو نظرية عامة لفكرة الدعوى . دار النهضة العربية، القاهرة، 1990م.
"علاء الدين الكاساني : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1402هـ.
"علي إبراهيم القصير : مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ، السنة السادسة عشرة، رمضان 1425هـ .
"علي حيدر : درر الحكام شرح مجلة الأحكام، دار إحياء التراث ، بيروت .
"عيسى عبده : النظم المالية في الإسلام ، معهد الدراسات الاسلامية ، القاهرة، عام 1396هـ .
"الفيومي : المصباح المنير ،نشر المكتبة العلمية ، بيروت.
"اللواء : كماء سراج الدين مرغلاني ، حقوق المتهم في نظام الإجراءات الجزائية السعودي ، الطبعة الأولى ، عام 1426هـ ، مطبعة الترجي التجارية ، الرياض.
"الماوردي : أدب القاضي ، دار الفكر العربي ، بيروت.
"الماوردي: الأحكام السلطانية ، المكتب الاسلامي، بيروت 1405هـ.
"محمد بن رشد : بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة ، الطبعة السابعة، عام 1405هـ.
"محمد عبدالله الشنقيطي : مجلة العدل السعودي ، العدد 28 شوال 1426هـ.
"محمد ناصر الشثري : الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز ، مطبعة دار الحبيب بالرياض، طبعة 4 ، عام 1421هـ.
"المرداوي : الإنصاف ، دار عالم الكتب ، 1426هـ .
"مسلم : صحيح : دار الكتاب العربي ، 1407هـ، بيروت.
"الموسوعة الفقهية - الكويت ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، مطابع دار الصفوة ، جمهورية مصر العربية ، الطبعة الأولى ، 1412هـ.
"نظام الاجراءات الجزائية السعودي ، ملحق بكتاب لواء كمال مرغاني ، حقوق المتهم، طبعة أولى ، 1426هـ، النرجس.(1/40)
"النووي : روضة الطالبين ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، 1405هـ.
"الهمذاني : الألفاظ الكتابية ، دار الكتب العلمية، بيروت ،1400هـ.
الملاحق
لبعض المواد الخاصة بإجراءات الدعوى القضائية في الأنظمة السعودية
الملحق الأول : مواد إجرائية من نظام المرافعات الشرعية الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/21 والتاريخ 20/5/1421هـ.
الملحق الثاني : مواد إجرائية من نظام المحاماة الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/38 والتاريخ 28/7/1422هـ
الملحق الثالث : مواد إجرائية من نظام الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/39 والتاريخ 28/7/1422هـ.
الملحق الأول
نظام المرافعات الشرعية الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/21 والتاريخ 20/5/1421هـ
المادة التاسعة والثلاثون :
…ترفع الدعوى إلى المحكمة من المدعي بصحيفة تودع لدى المحكمة من أصل وصور بعدد المدعى عليهم .
…ويجب أن تشتمل صحيفة الدعوى على البيانات الآتية:
أ - الاسم الكامل للمدعي ، ومهنته أو وظيفته ، ومحل إقامته، وسجله المدني ، والاسم الكالم لمن يمثله ، ومهنته أو وظيفته ، ومحل إقامته إن وجد.
ب - الاسم الكامل للمدعى عليه ، ومهنته أو وظيفته ، ومحل إقامته ، فإن لم يكن له محل إقامة معلوم فآخر محل إقامة كان له .
ج - تاريخ تقديم الصحيفة.
د - المحكمة المرفوعة أمامها الدعوى.
هـ - محل إقامة مختار للمدعي في البلد التي بها مقر المحكمة إن لم يكن له محل إقامة فيها.
و - موضوع الدعوى وما يطلبه المدعي وأسانيده.
المادة الأربعون :(1/41)
…ميعاد الحضور أمام المحكمة العامة ثمانية أيام على الأقل من تاريخ تبليغ صحيفة الدعوى، ويجوز في حالة الضرورة نقص هذا الميعاد إلى أربع وعشرين ساعة. وميعاد الحضور أمام المحكمة الجزئية ثلاثة أيام ، ويجوز في حالة الضرورة نقص هذا الميعاد إلى ساعة، بشرط أن يحصل التبليغ للخصم نفسه في حالتي نقص الميعاد ، ويكون نقص الميعاد في الحالتين بإذن من القاضي ، أو رئيس المحكمة المرفوعة إليها الدعوى.
المادة الثانية والاربعون :
…يقيد الكاتب المختص الدعوى في يوم تقديم الصحيفة في السجل الخاص بعد أن يثبت بحضور المدعي أو من يمثله تاريخ الجلسة المحددة لنظرها في أصل الصحيفة، وصورها، وعليه في اليوم التالي على الأكثر أن يسلم أصل الصحيفة وصورها إلى المحضر أو المدعي - حسب الأحوال - لتبليغها ورد الأصل إلى إدارة المحكمة.
المادة الثالثة والأربعون :
…يقوم المحضر أو المدعي - حسب الأحوال - بتبليغ صحيفة الدعوى إلى المدعى عليه قبل تاريخ الجلسة ، وبمقدار ميعاد الحضور.
المادة السابعة والأربعون :
…في اليوم المعين لنظر الدعوى يحضر الخصوم بأنفسهم أو من ينوب عنهم، فإذا كان النائب وكيلاً تعين كونه ممن له حق التوكل حسب النظام.
المادة الثامنة والأربعون :
…يجب على الوكيل أن يقرر حضوره عن موكله ، وأن يودع وثيقة وكالته لدى الكاتب المختص، وللمحكمة أن ترخص للوكيل عند الضرورة بإيداع الوثيقة في ميعاد تحدده، على ألا يتجاوز ذلك أول جلسة للمرافعة ، ويجوز أن يثبت التوكيل في الجلسة بتقرير يدون في محضرها ، ويوقعه الموكل أو يبصمه بإبهامه.
المادة التاسعة والخمسون:
…على كاتب الضبط أن يعد لكل يوم قائمة بالدعاوي التي تعرض فيه مرتبة بحسب الساعة المعينة لنظرها ،وبعد عرض القائمة على القاضي تعلق صورتها في اللوحة المعدة لذلك على باب قاعة المحكمة قبل بدء الدوام.
المادة الستون :
…ينادى على الخصوم في الساعة المعينة لنظر قضيتهم.(1/42)
المادة الحادية والستون :
…تكون المرافعة علنية إلا إذا رأى القاضي من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب أحد الخصوم إجراءها سراً محافظة على النظام ، أو مراعاة للآداب العامة، أو لحرمة الأسرة.
المادة الثانية والستون :
…تكون المرافعة شفوية ، على أن ذلك لا يمنع من تقديم الأقوال أو الدفوع في مذكرات مكتوبة تتبادل صورها بين الخصوم ، ويحفظ أصلها في ملف القضية مع الإشارة إليها في الضبط، وعلى المحكمة أن تعطي الخصوم المهمل المناسب للاطلاع على المستندات والرد عليها كلما اقتضت الحال ذلك.
المادة الثالثة والستون :
…على القاضي أن يسأل المدعي عما هو لازم لتحرير دعواه قبل استجواب المدعى عليه، وليس له ردها لتحريرها ولا السير فيها قبل ذلك.
المادة الرابعة والستون :
…إذا امتنع المدعى عليه عن الجواب كلياً ، أو أجاب بجواب غير ملاق للدعوى، كرر عليه القاضي طلب الجواب الصحيح ثلاثاً في الجلسة نفسها ، فإذا أصر على ذلك عده ناكلاً بعد إنذاره ، وأجرى في القضية ما يقتضيه الوجه الشرعي.
المادة الثامنة والستون:
…يقوم كاتب الضبط - تحت إشراف القاضي - بتدوين وقائع المرافعة في دفتر الضبط، ويذكر تاريخ وساعة افتتاح كل مرافعة ، وساعة اختتامها ، واسم القاضي ، وأسماء المتخاصمين ، أو وكلائهم ، ثم يوقع عليه القاضي وكاتب الضبط ومن ذكرت أسماؤهم فيه، فإن امتنع أحدهم عن التوقيع أثبت القاضي ذلك في ضبط الجلسة.
المادة الرابعة بعد المائة:
…إقرار الخصم عند الاستجواب أو دون استجوابه حجة قاصرة عليه ، ويجب أن يكون الإقرار حاصلاً أمام القضاء أثناء السير في الدعوى المتعلقة بالواقعة المقر بها .
المادة الخامسة بعد المائة:
…يشترط في صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً بالغاً مختاراً غير محجور عليه، ويقبل إقرار المحجور عليه للسفه في كل ما لا يعد محجوراً عليه فيه شرعاً.
المادة السابعة بعد المائة :(1/43)
…يجب على من يوجه لخصمه اليمين أن يبين بالدقة الوقائع التي يريد استحلافه عليها، وعلى المحكمة أن تعد صيغة اليمين اللازمة شرعاً.
المادة السابعة عشرة بعد المائة :
…على الخصم الذي يطلب المرافعة الإثبات بشهادة الشهود أن يبين في الجلسة كتابة أو شفاهاً الوقائع التي يريد إثباتها ،وإذا رأت المحكمة أن تلك الوقائع جائزة الإثبات بمقتضى المادة السابعة والتسعين قررت سماع شهادة الشهود وعينت جلسة لذلك ، وطلبت من الخصم إحضارهم فيها .
المادة الحادية والعشرون بعد المائة :
…للقاضي من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصوم أن يوجه للشاهد ما يراه من الأسئلة مفيداً في كشف الحقيقة ، وعلى القاضي في ذلك إجابة طلب الخصم إلا إذا كان السؤال غير متنج.
المادة الثامنة والثلاثون بعد المائة :
…الكتابة التي يكون بها الإثبات إما أن تدون في ورقة رسمية أو ورقة عادية. والورقة الرسمية هي التي يثبت فيها موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن وذلك طبقاً للأوضاع النظامية وفي حدود سلطته واختصاصه.
…أما الورقة العادية فهي التي تكون موقعة بإمضاء من صدرت منه أو ختمه أو بصمته.
المادة الخامسة والخمسون بعد المائة :
…يجوز للقاضي أن يستنتج قرينة أو أكثر من وقائع الدعوى أو مناقشة الخصوم أو الشهود لتكون مستنداً لحكمه أو ليكمل بها دليلاً ناقصاً ثبت لديه ليكون بهما معاً اقتناعه بثبوت الحق لإصدار الحكم.
الملحق الثاني
نظام المحاماة الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/38 والتاريخ 28/7/1422هـ
الباب الأول
تعريف مهنة المحاماة وشروط مزاولتها
المادة الأولى :(1/44)
…يقصد بمهنة المحاماة في هذا النظام : الترافع عن الغير أمام المحاكم وديوان المظالم، واللجان المشكلة بموجب الأنظمة والأوامر والقرارات: لنظر القضايا الداخلة في اختصاصها، ومزاولة الاستشارات الشرعية والنظامية ، ويسمى من يزاول هذه المهنة محاميا. ويحق لكل شخص أن يترافع عن نفسه .
المادة التاسعة عشرة :
…على المحاكم وديوان المظالم واللجان المشار إليها في المادة (الأولى) من هذا النظام والدوائر الرسمية وسلطات التحقيق أن تقدم للمحامي التسهيلات التي يقتضيها القيام بواجبه، وأن تمكنه من الاطلاع على الأوراق وحضور التحقيق ، ولا يجوز رفض طلباته دون مسوغ مشروع.
المادة العشرون :
…يجب على المحامي أو الوكيل أن يقدم أصل توكيله أو صورة منه مصدقاً عليها إلى المحكمة أو ديوان المظالم ، أو اللجان المشار إليها في المادة (الأولى) من هذا النظام في أول جلسة يحضر فيها عن موكله ، وإذا حضر الموكل مع المحامي في الجلسة أثبت كاتب الضبط أو من يقوم مقامه ذلك في محضر الضبط ، وقام هذا مقام التوكيل ، وإذا كان بيد المحامي توكيل عام مصدق عليه رسمياً بالنيابة عن أحد الخصوم يعفى من تقديم أصل التوكيل ويكتفي بتقديم صورة مصدقة منه ، أو يقدم أصل التوكيل مع صورة منه يقوم القاضي بتصديقها.
ملحق رقم (3)
نظام الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/39 والتاريخ 28/7/1422هـ
المادة الأولى :
…تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإسلامية، وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة ، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة ، وتتقيد في إجراءات نظرها بما ورد في هذا النظام.
المادة السادسة عشرة :
…تختص هيئة التحقيق والادعاء العام وفقاً لنظامها بإقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها أمام المحاكم المختصة.
المادة السابعة عشرة :(1/45)
…للمجني عليه أو من ينوب عنه، ولوارثه من بعده ، حق رفع الدعوى الجزائية في جميع القضايا التي يتعلق بها حق خاص، ومباشرة هذه الدعوى أمام المحكمة المختصة. وعلى المحكمة في هذه الحالة تبليغ المدعي العام بالحضور.
المادة السابعة والستون:
…تعد إجراءات التحقيق ذاتها والنتائج التي تسفر عنها من الأسرار التي يجب على المحققين ومساعديهم - من كتاب وخبراء وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم - عدم إفشائها ومن يخالف منهم تعينت مساءلته.
المادة التاسعة والستون :
…للمتهم والمجنى عليه والمدعي بالحق الخاص ووكيل كل منهم أو محاميه أن يحضروا جميع إجراءات التحقيق ، وللمحقق أن يجري التحقيق في غيبة المذكورين أو بعضهم متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة ، وبمجرد انتهاء تلك الضرورة يتيح لهم الاطلاع على التحقيق.
المادة السادسة والتسعون :
…على المحقق أن يثبت في المحضر البيانات الكاملة عن كل شاهد ، تشمل اسم الشاهد ولقبه وسنه ومهنته وجنسيته ومحل إقامته وصلته بالمتهم والمجني عليه والمدعي بالحق الخاص.
…وتدون تلك البيانات وشهادة الشهود وإجراءات سماعها في المحضر من غير تعديل، أو شطب ، أو كشط، أو تحشير ، أو إضافة ، ولا يعتمد شيء من ذلك إلا إذا صدق عليه المحقق والكاتب والشاهد.
المادة السادسة والثلاثون بعد المائة:
…إذا رفعت الدعوى إلى المحكمة فيكلف المتهم بالحضور أمامها ، ويستغنى عن تكليفه بالحضور إذا حضر الجلسة ووجهت إليه التهمة.
المادة السابعة والثلاثون بعد المائة:
…يبلغ الخصوم بالحضور أمام المحكمة المختصة قبل انعقاد الجلسة بوقت كاف . ويجوز إحضار المتهم المقبوض عليه متلبساً بالجريمة إلى المحكمة فوراً وبغير ميعاد . فإذا حضر المتهم وطلب إعطاءه مهلة لإعداد دفاعه ، فعلى المحكمة أن تمنحه مهلة كافية.
المادة الثامنة والثلاثون بعد المائة :(1/46)
…تبلغ ورقة التكليف بالحضور إلى المتهم نفسه ، أو في محل إقامته ، وفقاً للقواعد المقررة في نظام المرافعات الشرعية. فإذا تعذرت معرفة محل إقامة المتهم ، فيكون التبليغ في آخر محل كان يقيم فيه في المملكة ، ويسلم للجهة التابع لها هذا المحل من إمارة أو محافظة أو مركز . ويعد المكان الذي وقعت فيه الجريمة آخر محل إقامة للمتهم ما لم يثبت خلاف ذلك.
المادة الرابعة والخمسون بعد المائة:
…إذا رفع من أصابه ضرر من الجريمة دعواه بطلب التعويض إلى محكمة مختصة، ثم رفعت الدعوى الجزائية جاز له ترك دعواه أمام تلك المحكمة ، وله رفعها إلى المحكمة التي تنظر الدعوى الجزائية.
المادة السادسة والخمسون بعد المائة:
…يجب أن يحضر جلسات المحكمة كاتب يتولى تحرير محضر الجلسة تحت إشراف رئيس الجلسة ، ويبين في المحضراسم القاضي أو القضاة المكونين لهيئة المحكمة والمدعى العام ، ومكان انعقاد الجلسة ، ووقت انعقادها ، وأسماء الخصوم الحاضرين ، والمدافعين عنهم، وأقوالهم وطلباتهم ، وملخص مرافعاتهم ، والأدلة من شهادة وغيرها ، وجميع الإجراءات التي تتم في الجلسة ، ومنطوق الحكم ومستنده ، ويوقع رئيس الجلسة والقضاة المشاركون معه والكاتب على كل صفحة.
المادة الرابعة والستون بعد المائة :
…لكل من الخصوم أن يطلب سماع من يرى من شهود والنظر فيما يقدمه من أدلة، وأن يطلب القيام بإجراء معين من إجراءات التحقيق .وللمحكمة أن ترفض الطلب إذا رأت أن الغرض منه المماطلة ، أو الكيد ، أو التضليل ، أو أن لا فائدة من إجابة طلبه.
المادة الخامسة والستون بعد المائة :
…للمحكمة أن تستدعي أي شاهد ترى حاجة لمساع أقواله ، أو ترى حاجة لإعادة سؤاله. كما أن لها أن تسمع من أي شخص يحضر من تلقاء نفسه إذا وجدت أن في ذلك فائدة لكشف الحقيقة.
المادة السادسة والستون بعد المائة :(1/47)
…مع مراعاة ما تقرر شرعاً في الشهادة بالحدود ، يجب على كل شخص دعي لأداء الشهادة بأمر من القاضي الحضور في الموعد والمكان المحددين(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) حقوق المتهم في ضوء نظام الإجراءات الجزائية السعودي الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم م/39 والتاريخ 28/7/1422هـ، لواء متقاعد : كمال سراج الدين مرغلاني، الطبعة الأولى، 1426هـ /2005م.(1/48)
إجراءات الدعوى أمام المحاكم الشرعية المغربية
د . عبد الرحيم العلمي
عضو رابطة العلماء بالمغرب
جامعة محمد بن عبد الله
فاس
المملكة المغربية
مدخل
لموضوع المساطر الخاصة بالأحوال الشخصية أهمية بالغة ، لكونها ترتبط بإجراءات تحمي حقوق ومراكز قانونية مرتبطة بالأسرة ، بهدف تحقيق غايات ذات طبيعة اجتماعية وإنسانية ، لهذا فإننا سنعالج من خلال هذا العرض خصوصيات القضايا أو الدعاوي المرتبطة بالأحوال الشخصية بشكل عام دون الخوض في تفاصيل كل مسطرة على حدة .
ويقصد بدعوى الأحوال الشخصية الدعوى التي ينصب موضوعها على الزوجية وما يترتب عليها من نسب وحضانة ونفقة، وكذلك الحقوق المتعلقة بإنتهاء العلاقة الزوجية ، إضافة إلى مسائل الولاية والأهلية والإرث ، ويطلق عليها اسم الدعاوى الشرعية ، والأحكام الصادرة فيها تسمى أحكاما شرعية ويطلق على القاضي الذي يبت فيها : القاضي الشرعي (1) .
من هنا فإن مداخلتي سوف تنصب حول المحكمة المختصة بهذا النوع من الدعاوى وإمكانية خضوع الاختصاص المكاني فيها للقواعد العامة التي تجعل الاختصاص المكاني لمحكمة محل المدعى عليه ، وطبيعة الاستثناءات المرتبطة بشروط رفع دعاوى الأحوال الشخصية وما يميزها عن غيرها من الدعاوى .
طبعا لا يسمح السياق بتناول جميع هذه المسائل بتفصيل ، ومن ثم سنحاول معالجتها في هذه المداخلة بشكل عام ، دون الوقوف والتدقيق في تفاصيل كل مسطرة على حدة . وسيكون تناولي للموضوع من وجهتين اساسيتين :
أولاهما : تعريف رفع دعوى الأحوال الشخصية في مجال القضاء الشرعي المغربي ، وشروطها ، خصائصها .
والثانية : طبيعة الإجراءات والحكم في دعاوى الأحوال الشخصية .
1 - رفع دعوى الأحوال الشخصية :
أ – شروط رفع الدعوى :
__________
(1) - عبد المجيد غميجة - مميزات دعوى الأحوال الشخصية على ضوء تعديلات ظهائر 10-09-1993 - مجلة القسطاس - العدد الأول - أكتوبر 1997 .(2/1)
في البدء يمكن القول بأن الدعوى في مادة الأحوال الشخصية تعتبر كغيرها من الدعاوى وسيلة قانونية يتوجه بها الشخص إلى القضاء لكي يتسنى له الحصول على تقرير حق أو حمايته ، ومن ثم فإن تعريف الدعوى يختلف عن التقاضي ، على أساس أن هذا الأخير يعد حقا من الحقوق العامة اللصيقة بالشخصية (1) .
وللدعوى في مجال قضايا الأسرة شروط ومقومات أساسية لا تقوم إلا بها ، ويمكن تقسيمها إلى شروط تتعلق بأطراف الدعوى ، وأخرى بالحق المدعى به ، وأخرى بمقال الدعوى .
+ فبالنسبة للشروط اللازمة في أطراف الدعوى ، تنص المادة الأولى من قانون المسطرة المدنية على أنه : " لا يصح التقاضي إلا ممن له الصفة والأهلية والمصلحة لإثبات حقوقه " . بمعنى أن الدعوى – حسب منطوق هذا النص - لا تقبل إلا إذا توافر شرط الصفة والأهلية والمصلحة في أطرافها .
__________
(1) انظر : عبد الرحيم زروق - قواعد المسطرة في مادة الأحوال شخصية – ص : 5 - وتنص المادة 1234 – من مجلة الأحكام العدلية على أن أنه إذا ادعى أحد شيئا وكان يترتب على إقرار المدعى عليه حكم على إقراره ، يكون بإنكاره خصما في الدعوى ، وإقامة البينة . وإذا كان لا يترتب على إقرار المدعى عليه ، فلا يكون خصما بإنكاره .(2/2)
1 – أما الصفة فهي : " ولايةُ مباشَرةِ الدعوى ، وهي الصفة التي يتحلى بها صاحب الحق في إجراءات الخصومة ، يستمدها المدعي من كونه صاحب الحق أو خلفا له أو نائبه القانوني " (1) . فشرط الصفة يعتبر ضروريا ولازما لإقامة الدعوى . فإذا توفر في المدعي كانت دعواه مقبولة شكلا ، أما إذا انعدم ، فترد دعواه موضوعا لا شكلا . ففي مجال الأحوال الشخصية مثلا ، الزوجة التي تقاضى زوجها للحصول على نفقتها يجب أن تبين صفتها كزوجة ، وذلك بإدلائها بعقد زواج صحيح ، وإذا لم تتوفر عليه ، فعليها إثبات حالة الاستثناء التي منعتها من توثيق عقد الزواج وذلك وفق أحكام المادة السادسة عشرة ( 16 ) من مدونة الأسرة التي تنص على ما يلي : " تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج ، إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته ، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات ، وكذا الخبرة " .
وتنص الفقرة الثانية من نفس المادة على أن المحكمة تأخذ بعين الاعتبار وهي تنظر في دعوى الزوجية وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية ، وما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين .. ." ( المادة 16 من قانون الأسرة ) .
وبناء عليه ، فالقاضي في حالة عدم الإدلاء بعقد الزواج يقوم بإنذار الزوجة بتصحيح المسطرة داخل أجل محدد . فإن لم تفعل صرح القاضي بعدم قبول دعواها لعدم ثبوت صفتها التي تخول لها رفع الدعوى أمام المحكمة .
وكذا الشأن في حالة الزواج الفاسد ، فإن الزوجة لا صفة لها في رفع الدعوى النفقة (2) .
__________
(1) - موسى عبود/محمد السماح – المختصر في المسطرة المدنية والتظيم القضائي – 1999 – ص 125
(2) 1 - عرفت المادة 59 من قانون الأسرة الزواج الفاسد بما بلي : " يكون الزواج فاسدا إذا اختل فيه شرط من شروط صحته طبقا للمادتين : 60 – 61 . ومنه ما يفسخ قبل البناء ، ويصحح بعده ، ومنه ما يفسخ قبل البناء وبعده " .(2/3)
فلا بد إذن أن يكون لكل مدع صفة التقاضي . وهذا ما أكده المجلس الأعلى في إحدى قراراته : " وعليه ، فإن المدعي الذي لا يتوفر على وثيقة الزواج ، يكون ملزما بإثبات صفته ، أن يثبت حالة الاستثناء ، أو الأسباب القاهرة ، فإذا اقتنع القاضي بوجاهة هذه الأسباب ، يمكن له أن يسمع دعوى الزوجية " (1) .
فشرط الصفة إذن من أهم شروط رفع الدعوى إذ يمكن إثارته من قبل المتقاضين في أي مرحلة من مراحل الدعوى ، كما يمكن للمحكمة إثارته من تلقاء نفسها ، ويمكن أن تقضي بناء عليه برد الدعوى المعروضة عليها إذا تحقق لديها أن المدعي لا صفة له في ادعائه (2) ، حسبما يقضي به الفصل الأول من قانون المسرة المدنية .
2 - وأما الأهلية فالمقصود بها صلاحية الشخص للإلزام والالتزام ، ومسطريا صلاحية الشخص لأن يرفع الدعوى وأن ترفع ضده (3) . فكل من بلغ سن الرشد القانوني أي 18 سنة متمتعا بقواه العقلية تكون له أهلية التقاضي ، غير أن الأهلية في بعض قضايا الأحوال الشخصية لها أحكام خاصة ، فالقضاء لم يلزم في بعض الدعاوى الشخصية سوى تحقيق المصلحة والصفة كي تقبل الدعوى ، وذلك نظرا لطبيعة هذه القضايا التي تستلزم السرعة في البت وعدم انتظار القاصر حتى يبلغ سن الرشد القانوني (4) .
__________
(1) - 2 انظر قرار المجلس الأعلى الصادر في : فاتح فبراير 1971 . – مجلة القضاء والقانون – عدد 124 – س 7 - ص 28 . وايضا : ادريس بلمحجوب : " الاجتهاد القضائي في مادة الأحوال الشخصية " – ص 10 .
(2) - ادريس العلوي العبدلاوي - القانون القضائي الخاص الجزء الثاني- ط1- 1986 - ص 32 .
(3) - عبد الغزيز توفيق – شرح قانون المسطرة المدنية والتظيم القضائي الجزء 1- ص:72
(4) انظر : عبد الرحيم زروقي – مرجع سابق – ص 15 . -(2/4)
فالقاصر طبقا لمقتضيات المادة 20 من مدونة الأسرة إذا ما أذن له بالزواج يمكنه رفع دعواه أمام القضاء تطبيقا للمادة 22 من نفس القانون التي تنص على ما يلي : " يكتسب المتزوجان طبقا للمادة 20 أعلاه الأهلية المدنية في ممارسة حق التقاضي في كل ما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات . يمكن للمحكمة بطلب من أحد الزوجين أو نائبه الشرعي أن تحدد التكاليف المالية للزوج المعني وطريقة أدائها " .
ونظرا للطابع المعاشي الذي تتسم به النفقة ، فقد اعتراف المجلس الأعلى في إحدى قراراته بأهلية القاصر في إقامة دعوى النفقة دون مؤازرة الأب أو الوصي أو المقدم ، فقد جاء في هذا القرار ما نصه : " للقاصر أهلية إقامة دعوى ضد وليه بالنفقة لأنها من باب جلب المنفعة... التي له حق اكتسابها بدون مساعدة الأب أو الوصي أو المقدم ، ويفقد الوالي في هذه الحالة صفة الولاية الشرعية... " (1) .
وأما المصلحة :
فتتجلى في الفائدة العملية المشروعة التي يراد تحقيقها عن طريق القضاء ، وهي كذلك المنفعة القانونية التي يجليها المدعي من التجائه إلى القضاء بناء على مبدأ : " لا دعوى بدون مصلحة " (2) .
ويعتد بالمصلحة سواء كانت مادية أو أدبية ذات قيمة كبيرة أو زهيدة ، كما أنه يشترط فيها تحقق شروط ثلاثة : أولا أن تكون مصلحة قانونية . وثانيا : أن تكون مصلحة حالة وقائمة وقت وجود الدعوى . ثالثا:أن تكون مصلحة شخصية (3) .
فدعوى التطليق مثلا لا ترفع إلا من الزوجة أو من يمثلها قانونا .
__________
(1) - قرار عدد394 – ملف 73741 - صادر بتاريخ 26/9/1979- في مجلة قضاء المجلس الأعلى - ع 26 - ص 131 – 1993 .
(2) رزوقي عبد الرحيم – مرجع سابق – ص : 19 . -
(3) - انظر تفصبل ذلك في المختصر في المسطرة المدنية والتنظيم القضائي - لموسى عبود - ومحمد السماحي – ص : 127 – 128 .(2/5)
وكذلك الشأن إذا تقدمت مطلقة بدعوى استحقاق الحضانة لمطلقها ، فإن لها مصلحة في رفع هذه الدعوى ، لأن حضانة الأولاد من حقها ما دامت العلاقة الزوجية منفكة . إلا أن المصلحة في رفع هذه الدعوى قد تزول إذا تزوج المطلق بالمطلقة . لأن الحضانة في هذه الحالة تكون من حق الأبوين ، تطبيقا لمقتضيات المادة 167 من قانون الأسرة الذي ينص على ما يلي : " أجرة الحضانة ومصاريفها على المكلف بنفقة المحضون ، وهي غير أجرة الرضاعة والنفقة " .
وينص كذلك على أنه : " لا تستحق الأم أجرة الحضانة في حالة قيام العلاقة الزوجية ، أو في عدة من طلاق رجعي " .
******************
+ شروط الحق المدعى به :
فضلا عن الشروط اللازمة في أطراف الدعوى هناك شروط لابد من توافرها في الحق المدعى به حتى تقبل الدعوى . وهي ثلاثة : 1 - أن يكون الحق ثابتا ومستحق الأداء .2 - أن يكون مشروعا . 3 - ألا يكون قد سبق الحكم به .
الشرط الأول : أن يكون الحق ثابتا ومستحق الأداء :
إذ لا يجوز التمسك بحق غير موجود أصلا . ففي حالة فسخ الزواج الفاسد مثلا لا يمكن للزوجة أن ترفع دعوى للمطالبة بالنفقة لانعدام الحق في هذه الحالة لكون الزواج الفاسد لا ينتج آثار عقد الزواج الصحيح بعد الحكم بفسخه حسب المادة 64 من مدونة الأسرة .
كما يشترط أن يكون الحق المدعى به مستحق الأداء فلا يجوز للمطلقة أن تطالب طليقها بنفقة لم يحل أجلها بعد . كما أن سكوت من له الحق في الحضانة مدة سنة بعد علمه بالدخول لا يجوز له رفع دعوى استحقاق الحضانة لمرور الأجل المحدد طبقا لمنطوق المادة 176 من قانون الأسرة .(2/6)
لكن عدم ثبوت الحق وعدم استحقاقه حالا لا يمنع المدعي من اتخاذ بعض الإجراءات التحفظية التي من شأنها المحافظة على هذا الحق إلى أن يصير ثابتا ومستحق الأداء . لذلك يمكن للزوجة أو المطلقة المطالبة بأي إجراء تحفظي ضد زوجها أو مطلقها الدائن لها بالنفقة والذي يخشى فراره أو إعساره أو إفلاسه (1) .
الشرط الثاني: أن يكون الحق مشروعا :
وهو أن يكون الحق المطالب به غير مخالف للقانون ولا للنظام العام أو الأخلاق الحميدة . فإذا ما اعتبر القانون الحق المطالب به غير مشروع ، لم يجز الادعاء من أجله .
فلا تسمع الدعوى المقدمة بشأن إجراء مقاصة بين دينين كان سبب أحدهما نفقة أو غيرها لأن ذلك سيخالف ما ورد في الفصل 65 من قانون الالتزامات والعقود الذي لا يجيز المقاصة إذا كان سبب أحد الدينين نفقة . وذلك يرجع إلى طبيعتها المعيشية (2) .
الشرط الثالث : ألا يكون قد سبق الحكم به :
فإذا كان قد حكم للمدعي بالحق الذي يطالب به بحكم فاصل في النزاع وبات في الجوهر ، فإنه لا يجوز له أن يتقدم بدعوى ثانية من أجل نفس الحق . وهذا ما يعرف بقوة الشيء المحكوم فيه ، أو حجية الشيء المقضي به .
بمعنى أنه إذا اتحدت عناصر الدعوى الثلاث وهي : الموضوع والسبب والأطراف ، وبتت المحكمة فيها سلبا أو إيجابا ، فإنه لا يمكن أن تقام الدعوى بنفس هذه العناصر (3) .
فعلى سبيل المثال ، إذا ما طالب الوصي أو المقدم بأجرته عن أعباء النيابة الشرعية وحددتها المحكمة ، فلا يجوز له المطالبة بنفس الأجرة مرة أخرى . كذلك الأمر بالنسبة للنفقة ، فإذا ما طالبت الزوجة مثلا بنفقتها عن مدة معينة ، فإنه لا يمكنها المطالبة مرة أخرى بالنفقة عن نفس المدة .
__________
(1) - زروقي عبد الرحيم - مرجع سابق - ص: 22 .
(2) - محمد الكشبور- الوسيط في قانون الأحوال الشخصية - مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء -ط 5 – 2003 – ص : 314 .
(3) - عبد العزيز توفيق - مرجع سابق – ص : 75 .(2/7)
**************
+ الشروط المتطلبة في مقال الدعوى :
ويتعلق الأمر بكيفية تقييد الدعوى . فقد نص الفصل 31 من قانون المسطرة المدنية على أن الدعوى يجب أن ترفع " إلى المحكمة الابتدائية بمقال مكتوب موقع عليه من طرف المدعي أو وكيله أو بتصريح يدلي به المدعي شخصيا ويحرر به أحد أعوان كتابة الضبط المحلفين محضرا يوقع من طرف المدعي أو يشار في المحضر إلى أنه لا يمكن له التوقيع " .
وينص الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية أيضا على وجوب تضمن المقال أو المحضر " الأسماء العائلية ، والشخصية ، وصفة ، أو مهنة ، وموطن ، أو محل إقامة المدعى عليه والمدعي ، وكذا عند الاقتضاء أسماء وصفة وكيل المدعي ... " .
وتجب الإشارة في المقال كذلك إلى موضوع الدعوى والوقائع ، وترفق بالطلب المستندات التي ينوي المدعي استعمالها .
وإذا كان الأمر يتعلق بعدة مدعى عليهم فإنه على المدعي أن يرفق مقاله بعدد من النسخ مساو لعدد الخصوم ( الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية ) .
وللقاضي المكلف بالقضية أن يطلب تحديد هذه البيانات في حال إغفال بعضها .
هذا فضلا عن وجوب أداء الرسوم القضائية ، أو إرفاق المقال بقرار المساعدة القضائية ، إذا لم تكن الدعوى يسمح تقييدها مجانا كما هو الحال في دعاوى النفقة .
**********************
2 - الاختصاص في المساطر الخاصة بالأحوال الشخصية :
يقصد بالاختصاص صلاحية المحكمة للنظر والبت في الدعاوى المرفوعة أمامها ، أو عدم الاختصاص (1) .
بمعنى أن الاختصاص هو توزيع العمل بين مختلف المحاكم أي تحديد صلاحية المحكمة للنظر في نزاع ما عرض عليها .
__________
(1) الطيب الفصايلي –التنظيم القضائي في المغرب – ص 137 . وعبد العزيز توفيق - شرح قانون المسطرة المدنية : 1 /101 . -(2/8)
وعليه يمكن تعريف الاختصاص موضوعيا بأنه نطاق القضايا التي يمكن أن يباشر فيه العضو القضائي ولايته ، ومن الناحية الشخصية بأنه صلاحية العضو لمباشرة الولاية القضائية في مجال ترابي معين وفي نطاق محدد من القضايا .
ويقسم الفقه عادة الاختصاص إلى قسمين :اختصاص محلي ، وآخر نوعي .
1 - الاختصاص المكاني : يقصد به توزيع العمل بين المحاكم على أساس جغرافي أو ترابي أو إقليمي ، أي أن تختص كل محكمة بقضايا منطقة معينة تسمى دائرة اختصاص المحكمة (1) .
ولقواعد الاختصاص المحلي أهمية كبرى ، فقد شرعت لمصلحة المدعى عليه ما دام الأصل هو براءة الذمة إلى حين ثبوت العكس . كما تهدف إلى ضبط نظام التقاضي وتسهيل مأمورية الجهاز القضائي فضلا عن تقريبه من المواطنين .
وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ ، فإن المشرع لم يعتبره من قبيل النظام العام ، وسمح للمتنازعين تحديد المحكمة المختصة في حالة نشوب نزاع بينهم (2) .
هذا وقد أقر الفصل 27 من قانون المسطرة المدنية القاعدة العامة في الاختصاص المحلي والتي تجعل المحكمة المختصة محليا في البت في النزاع هي محكمة موطن المدعى عليه ، مع وجود استثناءات تسمح بفتح إمكانية رفع الدعوى في محاكم أخرى مثل محكمة محل إقامة المدعي ، مثل ما هو الحال بالنسبة إلى قضايا النفقة .
فمراعاة لظروف المرأة المتقاضية وتخفيفا عليها من مصاريف التقاضي والتنقل ، عمد المشرع المغربي إلى مخالفة المبدأ السابق بهدف تبسيط الإجراءات ، حماية للزوجة التي تطالب بنفقتها أو بنفقة أبنائها ، وذلك بإعطائها الحق في رفع الدعوى أمام محكمة موطن أو محل إقامة المدعى عليه ( الزوج ) أو أمام محكمة موطنها حسب اختيارها ، حسبما نصت عليه الفقرة الثالثة من الفصل 28 من قانون المسطرة المدنية .
__________
(1) نفسه – ص 139 -
(2) انظر : ادريس قاسمي - وخالد المير – التنظيم القضائي بالمغرب – ص 32 . -(2/9)
وتظهر أهمية هذا الاستثناء عندما يتواجد الزوج في بلدة غير تلك التي تتواجد بها الزوجة أو يتواجد الزوج خارج الوطن حيث يتعذر على الزوجة مقاضاته(1) .
ويجب على من يريد إثبات الزوجية أن يتقدم بدعوى بذلك لدى المحكمة التي يوجد بدائرة نفوذها المكان الذي تم فيه الزواج إذا كان هو موطن أو محل سكنى المرأة المراد ثبوت الزوجية لفائدتها ، أو بدائرة نفوذ المحكمة التي عاش فيها الطرفان عيشة الأزواج ، أو لا زالا يعيشان فيها ، وذلك لكون هذه المحكمة هي المكلفة أكثر من غيرها بالبحث والتحري في الطلب لإمكانية وجود شهود لهم معرفة بالموضوع (2) .
وينعقد الاختصاص المحلي بالنسبة للنيابة القانونية في دعوى الأهلية والترشيد والتحجير وعزل الوصي والمقدم أمام محكمة محل افتتاح التركة أو أمام محكمة موطن أولئك الذين تقرر انعدام أهليتهم باختيار هؤلاء أو ممثلهم القانوني ، وإذا لم يكن لهم موطن في المغرب ، فأمام موطن المدعى عليه ( الفصل 28 من قانون المسطرة المدنية ) .
و يرجع الاختصاص المكاني لقسمة التركة إلى المحكمة الابتدائية لمحل افتتاحها كما يقضي بذلك الفصل 258 من قانون المسطرة المدنية .
أما الغيبة فالمحكمة المختصة مكانيا فيها هي المحكمة الابتدائية لمحل آخر موطن أو آخر محل إقامة من تفترض غيبته و إلا فإلى المحكمة التي توجد الأموال بدائرتها .
وعليه فإن المشرع المغربي عند تنظيمه للاختصاص المحلي راعى إما مصلحة المدعي عليه باعتباره هو المجرور إلى ساحة القضاء وإما مصلحة المدعي(3) .
2 - الاختصاص النوعي :
__________
(1) - محمد الكشبور- مرجع سابق – ص : 88 .
(2) محمد الشتوي – الإجراءات الإدارية والقضائية – لتوثيق الزواج - ص 96 . -
(3) - عبد العزيز توفيق – مرجع سابق – ص : 131 – 132 .(2/10)
ويقصد به صلاحية طبقة من طبقات المحاكم دون غيرها للبت في نزاع معين ، وقد عد المشرع المغربي الاختصاص النوعي من قبيل النظام العام ، فلا يمكن للأطراف أن تتفق على خلافه .
فقد جاء في الفصل 18 من قانون المسرة المدنية ما نصه : " تختص المحاكم الابتدائية – مع مراعاة الاختصاصات المخولة إلى محاكم الجماعات وحكام المقاطعات – بالنظر في جميع القضايا المدنية وقضايا الأسرة ، والميراث ، والتجارية ، والإدارية ، والاجتماعية ، ابتدائيا وانتهائيا ، أو ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف .
تختص أيضا بقطع النظر عن جميع المقتضيات المخالفة ولو في الحالة التي يسند فيها قانون خاص سابق النظر في بعض أنواع القضايا إلى محكمة أخرى " .
نستشف من مقتضيات النص أعلاه أن الاختصاص النوعي يعود للمحكمة الابتدائية والتي لها الولاية العامة في التنظيم القضائي ، أي لها اختصاص شامل بنظر جميع المنازعات كيفما كان نوعها كالقضايا المدنية والتجارية والاجتماعية وقضايا الأسرة والميراث ، ولا يخرج عن هذا الاختصاص إلا ما وقع استثناؤه بنص خاص مثل القضايا التي جعلها المشرع بموجب ظهير 15-7- 1974 المنظم لمحاكم الجماعات والمقاطعات من اختصاص هذه الأخيرة (1) .
فمثلا يتعين على من يرغب في إثبات الزوجية عليه أن يتقدم بدعوى أمام المحكمة الابتدائية ( قسم قضاء الأسرة ) ، عملا بالفصل الثاني من قانون الالتزامات والعقود ، كما وقع تعديله بمقتضى القانون رقم 03-73 المغير والمتمم بموجبه ظهير 15-7-74 المعتبر بمثابة قانون المتعلق بالتنظيم القضائي والذي نص في فقرته الأخيرة على أن تنظر أقسام قضاء الأسرة في قضايا الأحوال الشخصية والميراث والحالة المدنية ، وشؤون التوثيق ، والقاصرين ، والكفالة .. الخ ، مؤكدا أن البت في قضايا الأسرة لا يتم إلا من طرف قسم الأسرة ، رغبة منه في خلق قضاء مستقل ومتخصص وسريع .
__________
(1) - عبد العزيز توفيق، مرجع سابق، ص:110/111.(2/11)
3 - الإجراءات والحكم في دعاوى الأحوال الشخصية :
أ - الإجراءات : خص المشرع المغربي دعاوى الأحوال الشخصية بمسطرة خاصة تراعي طبيعة موضوعها ووضعية أطرافها،منها : سرعة المساطر ، سرية المرافعات ، وجوب إجراء الصلح ، تدخل النيابة العامة ، الطعن بالنقض يوقف التنفيذ خلاف للقواعد العامة .
- فبالنسبة للخاصية الأولى ، أي سرعة المساطر ، لقد أولاها المشرع المغربي عناية واهتماما خاصين ، لاسيما في قضايا النفقة ، لارتباطها بالجانب المعيشي للطرف المستفيد منها ، إذ نص على ضرورة البت في قضايا النفقة في أجل أقصاه شهر واحد طبقا لمقتضيات المادة 190 من قانون الأسرة الذي ورد في فقرته الثانية ما نصه : " يتعين البت في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد " .
وتتجلى السرعة أيضا في النفاذ المعجل للأحكام المتعلقة بالصلح أمام القضاء إذ نص الفصل 180 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الأخيرة على أنه " .. إذا تم التصالح أصدر القاضي حالا حكما يثبت الاتفاق وينهي النزاع وينفذ بقوة القانون... " .
ويظهر هذا الاستعجال في كون المسطرة في دعاوى الأحوال الشخصية تكون شفوية أمام قضاء الأسرة باعتباره قسما تابعا للمحكمة الابتدائية ، خاصة في قضايا النفقة والطلاق والتطليق والحالة المدنية . فقد جاء في الفصل 45 ما نصه : ".. غير أن المسطرة تكون شفوية في القضايا التالية :
قضايا النفقة سواء كانت للزوجة ، أو للأصول ، أوللفروع ، مهما كان المبلغ المطلوب فيها . وقضايا الحالة المدنية " .
ونشير إلى أنه إذا كان الأصل أن تعرض النزاعات أمام المحكمة الابتدائية شفويا في قضايا الأحوال الشخصية ، فإن المسطرة أمام محكمة الاستئناف أو المجلس الأعلى تكون دائما كتابية استنادا إلى منطوق الفصلين 329 و354 من قانون المسطرة المدنية .(2/12)
وتتجلى هذه السرعة أيضا في الإعفاء من وجوب تنصيب محام في قضايا النفقة (1) ، ومن أداء الرسوم القضائية ، وأيضا في تخفيض الآجال في قضايا الأحوال الشخصية خاصة أمام المجلس الأعلى بحسب الفصول364- 365 -366- 367 من قانون المسطرة المدنية .
بل يجوز في جميع القضايا أن يحدد المستشار المقرر أجلا أقل إن تطلب ذلك نوع القضية أو ظروفها .
فأجل الطعن بالنقض في قضايا النفقة أو الأحوال الشخصية هو 15 يوما من تاريخ إعلان الحكم بدل 30 يوما في القضايا العادية . وحسب نفس الفصل فللمستشار المقرر أن يحدد أجلا أقل إن تطلب ذلك نوع القضية أو ظروفها.
--أما سرية المرافعات : فتعني أنه يمكن أن تناقش قضايا ألأحوال الشخصية في جلسة سرية ، حفاظا على مصالح الأطراف المتنازعة .
لكن في جميع الأحوال يجب أن يتم الحكم في جلسة علنية (2) .
- وجوب إجراء الصلح :
فرض المشرع المغربي أن يمر النزاع المرتبط بقضايا الأحوال الشخصية بمرحلة أولى ، وهي مرحلة الصلح ، وذلك لصبغته الإنسانية ، وامتثالا للآية الكريمة : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، إن الله كان عليما خبيرا " ( سورة النساء –الآية 35 ) .
تنص المادة 81 من قانون الأسرة على ما يلي : " تستدعي (3)
__________
(1) - انظر الفصل 31 من قانون تنظيم مهنة المحاماة الجديد الصادر بتاريخ: 10-09-1993.
(2) - عبد المجيد غميجة – مميزات دعوى الأحوال الشخصية – ص 52 -
(3) - الاستدعاء يكون مكتوبا، ويتضمن حسب الفصل 36 ق.م.م البيانات التالية:
- الاسم العائلي والشخصي، ومهنة وموطن أو محل إقامة المدعي والمدعى عليه
- موضوع الطلب
- المحكمة التي ستبت في القضية
- رقم الملف ويوم وساعة الجلسة وقاعتها
التنبيه إلى وجوب اختيار موطن في مقر المحكمة عند الاقتضاء(2/13)
المحكمة الزوجين لمحاولة الإصلاح . إذا توصل الزوج شخصيا بالاستدعاء ولم يحضر ، اعتبر ذلك منه تراجعا عن طلبه .
إذا توصلت الزوجة شخصيا بالاستدعاء ولم تحضر ولم تقدم ملاحظات مكتوبة ، أخطرتها المحكمة عن طريق النيابة العامة بأنها إذا لم تحضر سيتم البت في الملف ..." .
كما تقضي المادة 82 من قانون الأسرة بما يلي : " عند حضور الطرفين تجري المناقشات بغرفة المشورة بما في ذلك الاستماع إلى الشهود ، ولمن ترى المحكمة فائدة في الاستماع إليهم .
للمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات بما فيها انتداب الحكمين أو مجلس العائلة ، أو من تراه مؤهلا لإصلاح ذات البين . وفي حالة وجود أطفال تقوم المحكمة بمحاولتين للصلح تفصل بينهما مدة لا تقل عن 30يوما . فإذا تم الإصلاح بين الزوجين حرر به محضر وتم الإشهاد به من طرف المحكمة "
وبالرجوع إلى مقتضيات المواد 95 – 96 – 97 من قانون الأسرة نستخلص أن مهمة الحكمين تتحدد فيما يلي :
- محاولة فض النزاع والوصول إلى صلح بين الزوجين ، حيث يستقصي الحكمان أسباب الخلاف بينهما ، ويبذلان جهدهما من أجل إصلاح ذات البين . فإذا تحقق ذلك حررا مضمون الصلح في تقرير من ثلاث نسخ يوقعها الزوجان والحكمان ، ويرفعانها إلى المحكمة التي تسلم لكل واحد من الزوجين نسخة منه ، وتحفظ الثالثة بالملف . ويتم الإشهاد على ذلك .
أما إذا تعذر الصلح ، واستمر الشقاق ، فتثبت المحكمة ذلك في محضر ، وتحكم بالتطليق وبالمستحقات ، مع مراعاة مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر .
ويفصل في دعوى الشقاق في أجل لا يتعدى 6 أشهر من تاريخ تقديم الطلب.
- تدخل النيابة العامة :
أعطى المشرع المغربي للنيابة صلاحية المبادرة في عدة أمور مرتبطة بالأحوال الشخصية ، بوصفها طرفا أصليا في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة ، وذلك في المادة 3 منها .(2/14)
وبناء عليه تمنح دعوى الأحوال الشخصية للنيابة العامة صلاحية التدخل كطرف أصلي ، على الرغم من أنها تعتبر طرفا منضما في القضايا المدنية (1) .
فقد حرص المشرع في الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية على أن تبلغ إلى النيابة العامة جميع الدعاوى أو القضايا المتعلقة بالأسرة وكذا القضايا المتعلقة بفاقدي الأهلية أو التي يكون فيها ممثل قانوني نائبا أو مؤازرا لأحد الأطراف .
وحسب نفس الفصل فإنه تبلغ هذه القضايا إليها قبل الجلسة بثلاثة أيام على الأقل بواسطة كتابة الضبط ، غير أنه يتم هذا التبليغ أمم المحكمة الابتدائية في الجلسة المندرجة فيها .
ويمكن للنيابة العامة في هذه الحالة أن تطلب تأخير القضية إلى أقرب جلسة لتقدير مستنتجاتها كتابة أو شفويا وعلى المحكمة تأخيرها .
ففي ظل مدونة الأسرة الجديد أصبح للنيابة العامة دور بارز في قضايا الأحوال الشخصية في جميع المراحل بدءا بإبرام عقد الزواج إلى تصفية التركة عند الوفاة مرورا بمختلف المشاكل التي يمكن أن تمر بها العلاقة الزوجية من طلاق ونفقة وحضانة ونسب وغيبة .
ب - شكليات الحكم في دعوى الأحوال الشخصية
تقدم الدعوى إلى المحكمة الابتدائية ( قسم قضاء الأسرة ) بمقال مكتوب موقع عليه من طرف المدعي أم وكيله .
وتصدر الأحكام في دعاوي الأحوال الشخصية بنفس الشكليات التي تصدر بها الأحام الأخرى . في جلسة علنية باسم جلالة الملك .
__________
(1) - ينص الفصل 8 من قانون المسطرة المدنية على ما يلي : " تتدخل النيابة العامة كطرف منضم في جميع القضايا التي يأمر القاضي بتبليغها إليها ظن وكذا في الحالات التي تطلب النيابة العامة التدخل فيها بعد إطلاعها على الملف، أو عندما تحال عليها القضية تلقائيا من طرف المحكمة..." حول دور النيابة العامة كطرف أصلي ومنضم انظر : سفيان أديروش " دور النيابة العامة في قضايا الأسرة " مقال منشور بمجلة القصر عدد 9 - شتنبر 2004 - ص 87 و 103 .(2/15)
ويجب أن يشمل مقال الدعوى الهوية الكاملة والمضبوطة لكافة أطرافها ، من أسماء عائلية وشخصية ، وصفة أو مهنة ، وموطن أو محل إقامة المدعي والمدعى عليه ، ويجب أن يكون الطلب مرفقا بعدد من النسخ مساو لعدد الأطراف بما فيهم النيابة العامة عند الضرورة (1) .
فمثلا قضايا إثبات الزوجية تحال على قسم قضاء الأسرة ، وتقيد في سجل خاص بذلك ، وقد تم تحديد نموذج لهذه الغاية من طرف مديرية الشؤون المدنية بوزارة العدل يتكون من عشر خانات تتعلق بالرقم الترتيبي ، وتاريخ التسجيل ، واسم المدعي ، واسم المدعى عليه ، وموضوع الدعوى ، و اسم القاضي المعين ، وتاريخ أول جلسة ، وتاريخ الحكم ، و منطوق الحكم ، ثم خانة الملاحظات ... الخ.
ب - خصوصيات الحكم في دعاوى الأحوال الشخصية :
يتميز الحكم في دعاوى الأحوال الشخصية بمجموعة من الخصوصيات نذكر منها :
أولا : عدم قابلية الحكم بالصلح للطعن :
ينص الفصل 180 من قانون المسطرة المدنية في فقرته الأخيرة على أنه : " إذا تم الصلح أصدرت المحكمة حالا حكما يثبت الاتفاق وينهي النزاع وينفذ بقوة القانون ولا يقبل أي طعن " .
ثانيا : عدم قابلية الأحكام الصادرة بالإذن بالطلاق للطعن :
__________
(1) - انظر : محمد الشتوي – الإجراءات الإدارية والقضائية لتوثيق الزواج – ص 97 .(2/16)
فالأصل أن القرارات التي تصدرها الهيئة القضائية تمتاز بقابليتها للطعن إلا إذا قرر القانون خلاف ذلك (1) . لكن بالرجوع إلى مقتضيات مدونة الأسرة المرتبطة بإجراءات الطلاق نجد أن المشرع المغربي لم ينص على إشكالية الطعن في الأحكام الصادرة بالإذن بالطلاق أو التطليق ، من عدمه غير أن سكوت المشرع المغربي لا يعني قابلية تلك القرارات للطعن ، ذلك أن جميع المقررات القضائية…الصادرة بالإذن بالطلاق أو التطليق أو بالخلع أو الفسخ ، تكون غير قابلة لأي طعن في جزئها القاضي بإنهاء العلاقة الزوجية ، وذلك طبقا لما جاء في الدليل العملي لمدونة الأسرة (2) .
ثالثا: النفاذ المعجل للحكم بالنفقة :
جعل قانون المسطرة المدنية الأحكام الخاصة بالنفقة مشفوعة بالنفاذ المعجل ، بمعنى أن نفاذها يستمد قوته مباشرة من القانون ، فلا تحتاج المحكمة إلى أي تدخل بشأنه ولا أن يلتمس ذلك منها المحكوم له ، كما أنها لا تكون ملزمة بالتصريح به . وإن وقع إغفالها ، فذلك لا يؤثر على قابيلة الحكم بالتنفيذ المعجل بطبيعته .
ولكن ذلك لا يمنع من تقديم طلب الصعوبة في التنفيذ بشأنها في حالة ما إذا كانت هناك أسباب جدية يمكن اعتمادها لتقديم هذا الطلب كتقديم الطالب شكاية من أجل الزور في اللفيف الذي اعتمده الحكم موضوع الصعوبة لإثبات علاقة الزوجية ، فإن الرئيس الأول بصفته قاضيا للمستعجلات يمكنه التصريح بوجود صعوبة جدية في التنفيذ إلى حين رفع الصعوبة (3) .
__________
(1) - أنظر الفصل 134 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على أن : " استعمال طرق الطعن بالاستئناف حق في جميع الأحوال عدا إذا قرر القانون خلاف ذلك ..." .
(2) - الدليل العملي لمدونة الأسرة : منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الشرح والدلائل، العدد1، 2004 ص 68.
(3) - قرار محكمة الإستيناف بالرباط الصادر 5114/1996 في الملف الإستعجالي 1950/96 منشور في مجلة الإشعاع العدد 8- ص109.(2/17)
************
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كانت دعوى الأحوال الشخصية في النموذج المغربي الطموح تتميز عن مثيلاتها من أنواع الدعاوى المدنية ، على مستوى الاختصاص ، وعلى مستوى سرعة المساطر ، وكذا على مستوى إجراء مسطرة الصلح وغيرها كما سلف بيانه ، إلا أن هناك مشاكل تعوق التطبيق الأمثل لهذه المساطر مما يقتضي وجود قضاء أسري فعال ومؤهل ، وأكثر تخصصا ، ضمانا للتطبيق السليم لمدونة الأسرة والأهداف التي جاءت بها في صيغتها الأخيرة في تعديل سنة 2004 .
……………
لائحة المراجع
- الدليل العملي لمدونة الأسرة - منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية - سلسلة الشروح والدلائل - العدد 1 - 2004 .
- دور النيابة العامة في قضاء الأسرة - محمد الصخيري - مجلة الأيام الدراسية حول مدونة الأسرة - مطبعة ديور الجامع - الرباط – 2004 .
- دور النيابة العامة في قضاء الأسرة - سفيان ادريوش - مقال منشور بمجلة القصر - عدد 9 - شتنبر – 2004 .
- شرح قانون المسطرة المدنية والتظيم القضائي - عبد العزيز توفيق – ج 1- مطبعة النجاح الجديدة – الداربيضاء – 1995 .
- صلاحيات النيابة العامة للطعن بالاستئناف في الميدان المدني: الإحالة في المجلس الأعلى بسبب تجاوز القضاة سلطاتهم - أحمد الخمليشي – مجلة المحاكم المغربية - عدد 151 -1987 .
- القانون القضائي الخاص - ادريس العلوي العبدلاوي – ج 2 - ط1 – 1986 .
- قانون تنظيم مهنة المحاماة الجديد - صادر بتاريخ : 10-09-1993 .
- قرار عدد 394 – ملف 73741 - صادر بتاريخ 26/9/1979- في مجلة قضاء المجلس الأعلى ع 26 ص 131 ، 1993 .
- قرار محكمة الإستيناف بالرباط الصادر - 5114/1996 في الملف الإستعجالي 1950/96 - مجلة الإشعاع العدد 8 - ص109 .
- قواعد المسطرة في مادة الأحوال الشخصية – عبد الرحيم زروق – بحث نهاية التمرين – مرقون - وجدة - 1992 – 1993 .(2/18)
- محاضرات في القانون القضائي الخاص - عبد الحميد أخريف - السنة الجامعية 1998/1999 .
- المختصر في المسطرة المدنية والتنظيم القضائي- موسى عبود ومحمد السماحي – ط2 – 1999 .
- مميزات دعوى الأحوال الشخصية على ضوء تعديلات ظهائر 10-09-1993 - عبد المجيد غميجة - مجلة القسطاس - العدد الأول - أكتوبر – 1997 .
- موقف المجلس الأعلى من ثنائية القانون والفقه في مسائل الأحوال الشخصية (أطروحة دكتوراه ) – عبد المجيد غميجة - السنة الجامعية 1999-2000 .
- الوسيط في قانون الأحوال الشخصية - محمد الكشبور – ط 5 - 2003 - مطبعة النجاح الجديدة .
- الوجيز في القانون القضائي الخاص - الطيب الفصايلي - مطبعة النجاح الجديدة – الداربيضاء- ط2 - 1992 .(2/19)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
الموضوع : آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر.
تلبية للدعوة الكريمة الموجهة من الأستاذ الفاضل الدكتور محمد الزحيلي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية التابعة لجامعة الشارقة إلى السيد وزير العدل بالمملكة المغربية من أجل مشاركة الهيئة القضائية بالمملكة في أعمال الندوة العلمية التي تقيمها الكلية حول "القضاء الشرعي في العصر الحاضر : "الواقع والآمال" وذلك من يوم الثلاثاء 4 أبريل إلى يوم الخميس 6 أبريل 2006.
يشرفني أن أساهم في هذه الندوة العلمية الهامة بهذا العرض الوجيز المتواضع حول موضوع : "آفاق تطوير القضاء الشرعي في العصر الحاضر"، وسأتطرق فيه بحول الله إلى تقديم تمهيدي حول الوضعية الحالية للقضاء الشرعي ثم إلى النقط التالية :
1- مواصلة الاجتهاد الفقهي، قصد معالجة القضايا المستجدة.
2- تقنين الأحكام الشرعية، وتحيينه باستمرار، لمواكبة المستجدات.
3- تسهيل إجراءات التقاضي.
4- الأخذ بوسائل الإثبات المعاصرة.
5- انتقاء الأطر الجيدة للعمل في ميدان القضاء الشرعي، وإعدادها إعدادا جيدا وعميقا حسب الاختصاص، في مؤسسات خاصة للتأهيل، مع الاستمرار في التكوين.
6- تحسين مرتبات القضاة الشرعيين، والموظفين العاملين بالمحاكم الشرعية، والاستماع لمشاكلهم.
7- مساءلة القضاة الشرعيين والموظفين بشأن الإخلالات المهنية.
8- تكوين باقي مساعدي القضاء، وتحسين أجورهم، ومساءلتهم عن الإخلالات المهنية.
9- توسيع الاختصاص النوعي للمحاكم الشرعية.
10- تخصيص مقار لائقة للمحاكم الشرعية، وتزويدها بجميع ما تحتاج إليه من موارد بشرية، ووسائل عصرية للعمل.
11- اعتماد محاولة الصلح بين الأطراف المتنازعة.
12- إخضاع المحاكم الشرعية للمراقبة.
13- النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي.
تقديم حول الوضعية الحالية للقضاء الشرعي :(3/1)
أعطى الإسلام للقضاء منزلة سامية، فقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين التشريع والتنفيذ والقضاء، وإن كان قد عهد لولاته بالقضاء بين المسلمين بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وبعد وفاة الرسول الكريم تولى القضاء سيدنا عمر بن الخطاب، وسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
ويعتبر سيدنا عمر بن الخطاب أول من فصل القضاء عن الولاية العامة، حينما ولى أبا الدرداء قاضيا على المدينة، وشريحا قاضيا على البصرة، وأبا موسى الأشعري على الكوفة، ويعتبر خطابه (رضي الله عنه) إلى أبي موسى الأشعري أهم وثيقة يشير إليها الفقهاء في تحديد أسلوب التقاضي وآدابه، ووسائل الفصل بين المتقاضين.
وبعد أن اتسعت رقعة الإسلام، أصبح من الصعب على الخليفة القضاء بين المسلمين، فتولاه مجموعة متميزة من بينهم.
وقد كان للقضاء الإسلامي الاختصاص الواسع في كل القضايا التي تصل إليه، سواء كانت بين الأفراد، أو بين الجماعات، أو بين الدول، أو بين الطوائف. إلا أنه أصيب في القرن الرابع عشر الهجري ببعض الأعراض، نتيجة الوضعية التي أصبحت عليها الأمة الإسلامية، آنئذ فتقلص دوره وأصبح في بعض الدول الإسلامية قاصرا على النظر في نوع خاص من القضايا، بل إن بعض الدول الإسلامية أصبحت تعتمد في قضائها على القوانين الوضعية المستوردة بدل الشريعة الإسلامية، فما هي وسائل النهوض به وتطويره للوصول إلى تحقيق عدالة سريعة وفعالة ومرنة وشاملة لجميع القضايا ؟
يبدو أن وسائل النهوض بالقضاء الشرعي وتطويره للوصول به إلى الهدف المنشود متعددة، منها ما يلي :
1. مواصلة الاجتهاد الفقهي قصد معالجة القضايا المستجدة :(3/2)
إن الاجتهاد -كما قال الإمام الغزالي- : "ركن عظيم في الشريعة"(1)، "وقد كتب الأصوليون في موضوع الاجتهاد، كالإمام ابن السبكي في جمع الجوامع، والإمام الغزالي في المستصفى، والإمام الشاطبي في الموافقات، وابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين، ومن المعاصرين الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابيه : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، والاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، وغيرهم كثير"(2)، كما خصصت للموضوع عدة ندوات ولقاءات ومحاضرات.
وقد عرفت حياتنا اليوم نهضة علمية وتكنولوجية، وتطورات وغيرها، وهو ما يوجب على المسلمين الاستمرار في الاجتهاد الفقهي قصد إيجاد الحلول الملائمة للإشكالات التي تفرزها الحياة المعاصرة.
وقد تناول كثير من السادة العلماء الأجلاء الاجتهاد المعاصر بالدرس والتحليل، وقدموا مقترحات بشأنه، ورسموا معالم للطريق الموصلة إلى المبتغى، وفي هذا الصدد يبدو لي أن الاجتهاد الفقهي الحديث ينبغي أن يكون على النحو الذي دعا إليه فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال : (إن الذي أومن به وأدعو إليه، وأدافع عنه، هو : المنهج الوسط للأمة الوسط، وهو الاجتهاد بكل أنواعه ودرجاته : كليا وجزئيا، فرديا وجماعيا، ترجيحيا وإنشائيا، بشرط أن يصدر من أهله في محله، منضبطا بضوابطه الشرعية المعتبرة، بعيدا عن غلو الغالين، وتفريط المفرطين"(3).
أما الاجتهاد الفقهي الذي ينبني عليه التشريع فيستحسن أن يكون جماعيا صادرا عن مؤسسة متخصصة تضم علماء أكفاء وكفاة من جميع التخصصات، إذ لم يعد بإمكان علماء الشريعة وحدهم –أمام تعقد القضايا- إيجاد الحكم الشرعي الملائم لكل القضايا.
2. تقنين الأحكام الشرعية، وتحيينه باستمرار لمواكبة المستجدات :
__________
(1) - المنخول من تعليقات الأصول، ص : 462.
(2) - الدكتور محمد رياض – الشريعة الإسلامية كمال في الدين وتمام للنعمة، ص : 499.
(3) - الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، ص : 4.(3/3)
التقنين عرفه بعض الباحثين –حسبما ورد في بحث قيم منشور بالإنترنت للأستاذ عبد الرحمن بن أحمد الجرعي- بأنه : "صياغة الأحكام الفقهية ذات الموضوع الواحد التي لم يترك تطبيقها لاختيار الناس، في عبارات آمرة يميز بينها بأرقام متسلسلة ومرتبة ترتيبا منطقيا بعيدا عن التكرار والتضارب".
وتقنين الأحكام الفقهية أجازه بعض الفقهاء ومنعه بعضهم، ولكل أدلته كما هو معلوم.
ويبدو أن الصواب –والله أعلم- ترجيح جواز التقنين، لما له من مزايا، أشار إليها العديد من الفقهاء والباحثين، منها على سبيل التذكير –حسبما ورد في بحث قيم منشور بالإنترنت للأستاذ مرتضى معاش- :
"- أن التقنين هو خلاصة ما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب.
- التقنين تحديد لأبعاد الحكم الشرعي، وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ويستطيع الفقهاء المحدثون تحديد أحكامه بالنسبة للصور المستحدثة، وهكذا نجد التقنين استكمالا للبناء الفقهي الإسلامي.
- هذا التقنين يتيسر على الفقهاء شرحه ومقارنة أحكامه بغيرها من المذاهب المختلفة، فضلا عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته، وفي هذا تيسير لدراسة وتدريس الشريعة الإسلامية.
- هذا التقنين يسهل على المحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية، ويقطع دابر احتمال التضارب في الأحكام، ويعاون القاضي والفقيه وكل مشتغل بالقانون على الاهتداء إلى القاعدة القانونية في يسر وسهولة.
- هذا التقنين يسهل على الأفراد التعرف على أحكام الشريعة الإسلامية، فلا يتيهون بين الآراء الكثيرة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يعرف راجحها من مرجوحها إلا المتخصص فيها.
- عدم تقنين أحكام الشريعة سيدفع حكام المسلمين إلى اقتباس القوانين الأجنبية لتنظيم شؤون الدولة.
- يؤدي التقنين إلى حسن سير الجماعة نتيجة إلمام الأفراد بقواعد القانون وتطبيقها على علاقاتهم الاجتماعية المختلفة".(3/4)
إلا أن هذه المهمة الجليلة ينبغي أن يعهد بها في الوقت الحاضر –كما دعا إلى ذلك العديد من العلماء- إلى لجنة من خيار العلماء الاختصاصيين المؤهلين علما وسلوكا وأخلاقا، وتوفر لهم كل الإمكانيات والظروف، للقيام بالمهمة المناطة بهم، على أحسن ما يرام.
ويجب أن يراجع القانون باستمرار، بالإضافة أو بالتعديل، أو بالإلغاء عند الاقتضاء.
ويجدر التذكير أنه كانت –خلال التاريخ الإسلامي- عدة محاولات لتقنين أحكام الشريعة، ومنها ما قامت به الخلافة العثمانية بوضع (لائحة الأحكام العدلية) التي صدرت عام 1869 واشتملت على 1851 مادة تضمنت مجموعة من أحكام البيوع وغيرها.
أما في المملكة المغربية فقد سبق أن صدر –بعد الاستقلال- ظهير شريف تحت رقم 1.57.190 بتاريخ 22 محرم 1377 الموافق 19 غشت 1957 يتعلق بإحداث لجنة لوضع مدونة لأحكام الفقه الإسلامي، وفعلا قامت هذه اللجنة في البداية بصياغة أحكام الأسرة التي كانت مدونة الأحوال الشخصية الملغاة تتضمنها، ثم قامت بمحاولة جادة لإعداد مشروع قانون يتعلق بالمعاملات المالية، كما عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى لجنة علمية تتألف من علماء وفقهاء ورجال القانون بمراجعة المدونة المذكورة وإعداد مشروع لمدونة جديدة للأسرة، وفعلا تم ذلك بفضل الله، وصدرت بتاريخ 05/02/2004 –بعد مصادقة البرلمان على المشروع- مدونة جديدة للأسرة التزمت بأحكام الشرع ومقاصده السمحة.
3. تسهيل إجراءات التقاضي :
إجراءات التقاضي تتعلق بما يجب اتباعه أمام المحاكم في الدعاوى، وكيفية السير في الدعوى والتحقيق، والفصل فيها، وكيفية الطعن فيما يصدر عنها من أحكام، وبالإجراءات التي يجب اتباعها أمام المحاكم الأعلى درجة، والتي يجب اتباعها عند تنفيذ الأحكام...، وهي قواعد تنطوي –كما هو معلوم- على فوائد كثيرة.(3/5)
وحتى يتوصل الناس إلى حقوقهم بسرعة وفعالية، وتنشط الحياة الاقتصادية، يجب أن تكون إجراءات التقاضي ميسورة وواضحة ومحددة، والآجال ثابتة ومناسبة، فعلى سبيل المثال يجب أن تكون إجراءات التبليغ دقيقة تكفل وصول الأوراق القضائية وغير القضائية للأطراف المعنية بسرعة وفعالية حتى يتحقق العلم اليقيني أو الظني أو الحكمي بالإجراء، وينتج أثره القانوني.
وبخصوص تنفيذ الأحكام يجب تفادي البطء في تنفيذها، والعوائق التي تؤثر سلبا على قيمتها، وتمس بالتالي بسمعة القضاء، وذلك من أجل ضمان حسن سير العدالة وأدائها، وصدق من قال : "العدالة ليست في أن يصل صاحب الحق إلى حقه فحسب، إنما العدالة في أن يستوفي حقه في يسر، وبغير عنت، وفي زمن قليل، مع تهيئة فسحة زمنية تتسع لاستعمال الروية في إعداد وسائل الدفاع"(1).
4. الأخذ بوسائل الإثبات المعاصرة :
البينة أو وسيلة الإثبات هي الوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صيانة حقوقهم، وهي الأداة الضرورية التي يعتمد عليها القاضي في التحقق من الوقائع القانونية. إذ بواسطتها يميز بين الصحيح والمزيف، ويستخرج الحق من الباطل، ويصدر تبعا لذلك حكما عادلا يحفظ للقضاء هيبته.
والبينة هي كل ما يبين الحق ويظهره، وهي في كلام الله تعالى ورسوله الكريم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم تدل على هذا المعنى العام، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "ألك بينة ؟" وقال أيضا : "البينة على المدعي"، "وقد ثار الفقيه ابن القيم الجوزية على تحديد الفقهاء للأدلة في الإثبات تحديدا جامدا وتقيدهم بشهادة الشهود وأخذهم بها دون القرائن، والأدلة الأخرى، ونادى بوجوب ترك الإثبات حرا...... قال في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية"(2)
__________
(1) - أبو الوفاء – المرافعات المدنية والتجارية – طبعة 15 سنة 1990، ص : 440.
(2) - الدكتور ادريس العلوي العبدلاوي – وسائل الإثبات في التشريع المدني المغربي-الطبعة الأولى، ص : 23.(3/6)
: "فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته واعلامه شيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين إشارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست بمخالفة له".
وفي عصرنا الذي كثرت فيه المستجدات، فإن الإثبات بواسطة الإقرار وشهادة الشهود واليمين والقرائن، لا يطرح مشاكل كثيرة بالنسبة لمستجدات التقنيات الحديثة، وإنما الإشكال يظل كامنا بالأساس في الدليل الكتابي الذي يحاط بشروط وشكليات معينة يجب أن تتوفر فيه لقبوله في الإثبات، والتي تحد من قبول الإثبات بمستجدات التقنيات الحديثة، فالمعاملات والتصرفات أصبحت تتم عن بعد وبطريقة معلوماتية دون حضور الموظف العام والأطراف وتصب في أوعية معلوماتية غير ورقية.
كما أن البصمة الوراثية وهي الهوية الوراثية للشخص ثبت أن لها فوائد كثيرة في العلاج والوقاية، وفي القضايا الجنائية، وإثبات النسب بين الولد ووالديه، وكشف هوية المتهمين بالجرائم وغير ذلك.
ويبدو أن هناك وسائل أخرى في شتى المجالات تصلح لأن تكون وسائل إثبات قانونية.
والخلاصة أن الواقع المعيش أصبح يتطلب –بالإضافة إلى وسائل الإثبات المعروفة- الأخذ بوسائل إثبات حديثة في شتى المجالات، وذلك بغض النظر عما يسمى بمذهب الإثبات المطلق أو الحر، أو مذهب الإثبات القانوني أو المقيد، أو المذهب المختلط أو المعتدل، طالما أن الغاية هي تحقيق العدالة.
وتجدر الإشارة بهذه المناسبة إلى أن مدونة الأسرة المغربية التي صدرت بتاريخ : 05/02/2004 أخذت بالخبرة في إثبات النسب أو نفيه، حيث نصت في المادة 153 على ما يلي :
"- يثبت الفراش بما تثبت به الزوجية.(3/7)
- يعتبر الفراش بشروطه حجة قاطعة على ثبوت النسب، لا يمكن الطعن فيه إلا من الزوج عن طريق اللعان، أو بواسطة خبرة تفيد القطع، بشرطين :
- إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه،
صدور أمر قضائي بهذه الخبرة".
ونصت في المادة 158 على ما يلي : "يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة عدلين أو ببينة السماع وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية".
كما نصت في المادة 159 على ما يلي : "لا ينتفي نسب الولد عن الزوج أو حمل الزوجة منه إلا بحكم قضائي طبقا للمادة 153 أعلاه".
وتبني المدونة الجديدة هذه الوسيلة لإثبات ونفي النسب يعد قفزة نوعية في النظام القانوني المغربي.
5. انتقاء الأطر الجيدة للعمل في ميدان القضاء الشرعي، وإعدادها إعدادا جيدا وعميقا حسب الاختصاص، في مؤسسات خاصة للتأهيل، مع الاستمرار في التكوين :
من المعلوم أن العنصر البشري هو أهم وسيلة لتطوير القضاء الشرعي، ولذا يتعين انتقاء العناصر الجيدة بدقة وعناية للعمل في ميدانه، فيجب أن يكون المترشح لممارسة مهمة القضاء الشرعي مسلما، وكاملا في نفسه، وعدلا، وعالما بالأحكام الشرعية، إلى غير ذلك من الشروط اللازمة لقبول القاضي، ويجب أيضا أن يكون المترشح لمزاولة وظيفة في المحاكم الشرعية مؤهلا لها.
كما يتعين إعداد القضاة إعدادا جيدا وعميقا، ليكونوا على درجة من العلم والمعرفة والكفاءة، لأن تأهيل القاضي أول طريق لتطوير القضاء الشرعي، وهذا التأهيل يتطلب التكوين في المعاهد الخاصة بتكوين القضاة، والاستمرار في التكوين بعد التخرج، لأن الأحكام الجيدة تتوقف على التكوين الجيد للقاضي، دون أن ننسى الدور الذي يجب أن تقوم به المدارس والكليات في هذا المجال، كما يجب تكوين الموظفين المساعدين للقضاة الشرعيين تكوينا خاصا وجيدا للقيام بمهامهم على الوجه المطلوب.(3/8)
وعلى سبيل المثال أشير إلى أن المترشحين لمزاولة مهنة القضاء بالمملكة المغربية يخضعون لانتقاء أولي للمشاركة في المباراة، وبعد اجتيازهم المباراة بنجاح يعينون ملحقين قضائيين، ويقضون بهذه الصفة تدريبا يستغرق سنتين، ويشتمل على :
- دورة دراسات وأشغال تطبيقية بالمعهد العالي للقضاء تستغرق سنة، وتهدف إلى تأهيلهم مهنيا بواسطة تعليم مناسب.
- تدريب مدته سنة بمحاكم الاستئناف والمحاكم والإدارات المركزية والمصالح الخارجية والجماعات المحلية والمؤسسات العامة أو الخاصة.
ويؤدي الملحقون القضائيون بعد انصرام الفترة المذكورة امتحان نهاية التمرين، وبعد نجاحهم فيه يعينون قضاة لممارسة مهامهم بالمحاكم الابتدائية والمراكز التابعة لها، علما أن القضاة يخضعون إلى التكوين المستمر والمتخصص، ولاسيما عن طريق تنظيم دورات دراسية، وندوات وتداريب داخل المغرب وخارجه.
كما أن موظفي كتابة الضبط يجتازون مباريات خاصة، وبعد نجاحهم فيها يقوم المعهد العالي للقضاء بالتكوين الأساسي والمستمر لهم في ميدان كتابة الضبط من خلال تلقينهم علوم وتقنيات ومناهج التسيير والتدبير وخدمة الوافدين وقواعد وأسس الإجراءات المسطرية المتبعة أمام مختلف درجات المحاكم ودراسة قواعد وإجراءات تنفيذ الأحكام والقرارات والأوامر القضائية...، وتنظيم دورات للتكوين وندوات وتداريب لاستكمال الخبرة وإعادة التأهيل.
6. تحسين مرتبات القضاة الشرعيين، والموظفين العاملين بالمحاكم الشرعية، والاستماع لمشاكلهم :(3/9)
من الأمور التي تساعد على تطوير القضاء الشرعي الاستماع إلى مشاكل القضاة الشرعيين، والموظفين العاملين بالمحاكم الشرعية، والعمل على إيجاد حل مناسب لها ما أمكن، ومن ذلك تحسين مرتباتهم حتى يتمكنوا من تغطية المصاريف اللازمة للحياة، ويتفرغوا للعمل القضائي، ويفرغوا كامل طاقاتهم فيه، وحتى لا تدعوهم الفاقة إلى الارتشاء، فتصاب العدالة بالخلل، والاضطراب، والفوضى، وتضيع الحقوق.
7- مساءلة القضاة الشرعيين والموظفين بشأن الإخلالات المهنية.
نظرا لجسامة وخطورة المسؤولية الملقاة على عاتق القضاة الشرعيين والموظفين المساعدين لهم والتي تتجلى في انتزاع الحقوق من غاصبيها وإرجاعها إلى أصحابها في إطار المقتضيات التي تنظم ذلك، فإنه يجب عليهم القيام بمهامهم على الوجه المطلوب، كما يتعين على الجهات المختصة اتخاذ العقوبات الصارمة في حق كل من زاغ منهم عن جادة الصواب.
8- تكوين باقي مساعدي القضاء، وتحسين أجورهم، ومساءلتهم عن الإخلالات المهنية.
يجب تكوين باقي مساعدي القضاء الشرعي، من المحامين والخبراء والتراجمة والمكلفين بتوثيق العقود، وجميع العاملين بمحيطه، كما يتعين تحسين أجورهم، واتخاذ العقوبات اللازمة في حق كل من ارتكب منهم فعلا يمس بشرف المهنة، ولا شك أن هذا يساهم في رفع وتطوير القضاء الشرعي.
9. توسيع الاختصاص النوعي للمحاكم الشرعية :
ينبغي توسيع الاختصاص النوعي للمحاكم الشرعية لتنظر في جميع القضايا، كيفما كان نوعها زجرية كانت أو مدنية أو تجارية أو إدارية أو أسرية أو غيرها، فلا يبقى نظرها قاصرا على بعض القضايا دون أخرى، وبهذا يمكن استقبالا –بحول الله وقوته- منع الازدواجية في القضاء، واسترجاع القضاء الشرعي مكانته، والاختصاص الذي سلب منه، خلال فترة الأمراض التي أصابت الأمة الإسلامية، وازدهاره بصفة عامة.(3/10)
10. تخصيص مقار لائقة للمحاكم الشرعية، وتزويدها بجميع ما تحتاج إليه من موارد بشرية، ووسائل عصرية للعمل :
إن تطوير القضاء الشرعي يقتضي إيجاد مقار لائقة للمحاكم الشرعية، وتجهيزها بجميع الوسائل اللازمة للعمل، وخاصة الوسائل العصرية، وتزويدها بالقضاة الكفاة الأكفاء، وبالموظفين الذين يستطيعون تصريف الأشغال بها على الوجه المطلوب.
11. اعتماد محاولة الصلح بين الأطراف المتنازعة :
من المعلوم أن للصلح أهمية كبرى تتمثل في كونه يذوب الخلاف، ويضع حدا للنزاع، ويجتث جذور العداوة من النفوس، فتستعيد صفاءها، ويحل التآلف محل التنافر، ويحصل التواصل بدل التقاطع، وقد حثت الشريعة الإسلامية عليه، ورغبت فيه، وألحت عليه بما لا مزيد عليه، لنتائجه الإيجابية، قال الله تعالي : "والصلح خير(1)"، وقال : "إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون"(2)، وقال : "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"(3)، وقال : "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس"(4).
لذا ينبغي اعتماد هذه الوسيلة الهامة في القضاء الشرعي لحل كثير من النزاعات والخصومات، وخاصة المتعلقة منها بالأسرة، كما ينبغي أن تجرى محاولة الصلح بشكل جدي وفعال لتسفر عن نتائج مرضية وطيبة.
12. إخضاع المحاكم الشرعية للمراقبة :
من وسائل تطوير القضاء الشرعي إخضاع المحاكم الشرعية للمراقبة من هيئة متخصصة للسهر على حسن تطبيق القانون، وجودة الأحكام، والتوجيه والإرشاد، وتصريف الأشغال بها على أحسن ما يرام.
13. النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي :
__________
(1) - الآية 127 من سورة النساء.
(2) - الآية 10 من سورة الحجرات.
(3) -الآية 1 من سورة الأنفال.
(4) - الآية 113 من سورة النساء.(3/11)
"فالقاضي وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية إن لم يجد قاعدة يستهديها لحل النزاع في الكتاب والسنة، يجتهد رأيه مستنيرا في ذلك بالضوابط التي وضعها وأحكم ضبطها الأصوليون، لأجل ذلك كان الاجتهاد بالرأي يتضمن بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نص فيها بالتفكير، واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط منها فيما لا نص فيه"(1).
ونظرا لأهمية الاجتهاد القضائي الشرعي فإنه حري بالنهوض به، والبحث عن وسائل هذا النهوض.
وبعد البحث والاستقصاء عما يمكن أن يكون كذلك، تم الوقوف على وسائل يبدو أنها كفيلة للنهوض بالاجتهاد القضائي لتحقيق الغاية المتوخاة منه وتتجلى فيما يلي :
أولا- الاجتهاد الجماعي :
طالما أن المطلوب هو استنباط أحكام شرعية للنوازل المستجدة، فإنه حتى يكون الاطمئنان إليها أكثر، فالأمر يقتضي في القضايا الجديدة الاجتهاد الجماعي لأن في هذا ضمانة أكثر، لكون العمل الجماعي يطبعه التلاقح الفكري والتفكير والتمحيص والفنية والتنسيق، وغالبا ما يكون معه اليقين. فقد روى الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب قال : "قلت يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني ؟ قال : تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقض فيه برأيك خاصة"، وهذا هو مسلك أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ثانيا- استقلال القضاء :
نظرا للدور الكبير والمتميز للقضاء في البحث والتنقيب واستنباط الأحكام لتوفير العدالة يجب توفير المناخ الملائم، وتهيىء الجو المناسب، حتى يكون عطاء القاضي أكثر.
"وقد أجمع فقهاء الإسلام على استقلال القاضي، وخضوعه لضميره وحده، وكان القضاة يتمتعون بقدر كبير من الاستقلال إزاء الحكام من خلفاء وأمراء.
__________
(1) - الدكتور ادريس العلوي العبدلاوي – الوسيط في شرح المسطرة المدنية، الجزء الأول، ص : 99.(3/12)
وفي التاريخ الإسلامي شواهد وحوادث أكثر من أن تحصى، وكلها تدل على استقلال القضاء في صدر الإسلام وعصور التقدم والازدهار.
وقد جاءت الدساتير الحديثة في البلاد العربية تؤكد جميعها استقلال القضاء واحترامه، وأنه لا سلطان على القاضي إلا لضميره والقانون، لكون طبيعة العمل القضائي تستلزم أن يكون ضمير القاضي حرا، وهو وحده الذي يسير القاضي في طريق العدالة والحق، دون أي مؤثر خارجي"(1).
لذا فمن أسباب النهوض بالاجتهاد القضائي توفير هذا الاستقلال بشكل يوفر تهيئ الجو المناسب للقاضي المتمثل في حرية الفكر، وحرية البحث والاجتهاد، والحيلولة دون التأثير عليه من جميع الجوانب والجهات، ودون محاسبته على آرائه ولو كانت خاطئة، مادام لم يصل الخطأ إلى درجة الخطأ المهني الجسيم.
ثالثا- الاستئناس بالاجتهادات القضائية السابقة :
من المعلوم أن الاجتهادات القضائية، أو السوابق القضائية، عالجت عدة قضايا في دنيا الناس، وكانت ذخيرة مددت أطراف الفقه، ووسعت مجاله في كل مناحي الحياة، حيث بعثت فيه الحياة بالتطبيق.
فهذه الاجتهادات القضائية تستهوي أن ينسج على منوالها في القضايا المماثلة، وخاصة إذا كانت صادرة عن محكمة أعلى درجة، ذلك أن القاضي –حينما يقارن الواقعة التي ينظر فيها مع الواقعة التي صدر فيها عمل قضائي فيجدها متشابهة ودونما عنصر جديد- فإنه يستأنس به ويصدر حكمه مماثلا له، لاقتناعه به المستمد من كون فقه العمل القضائي صيغ صياغة وامتزج بحياة الناس، وارتقى على الفقه النظري الذي يحتاج إلى البحث ومقابلة الأقوال والترجيح بينها مع التخريج والاستنباط وهو أمر يقتضي مجهودا ليس بالهين. وفي حالة عدم اقتناعه بالعمل القضائي السابق، يمكنه أن يصدر حكما جديدا يجتهد فيه، وفق الضوابط المرعية والمعطيات المتوفرة لديه في النازلة.
__________
(1) -("القضاء والقضاة" تأليف محمد شهر أرسلان، حلب – ص : 65).(3/13)
رابعا- الاستشارة مع القضاة وعلماء الشريعة والهيآت الفقهية والعلمية المتخصصة :
لا يخفى أنه كلما اتسع فضاء البحث حول قضايا مستجدة تحتاج إلى ذلك إلا ويكون التسليم بالأحكام المستنبطة لها والاطمئنان إليها أكثر، وعلى هذا الأساس فإن من وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي توسيع فضاء المعرفة والبحث بالاستشارة مع القضاة الأكفاء المتخصصين، ومع الفقهاء المشهود لهم بالكفاءة العلمية، وكذا مع الهيئات الفقهية المتخصصة، كالمجالس العلمية، ودار الحديث الحسنية بالمغرب، كما تنبغي الاستعانة بالهيآت العلمية المتخصصة في الميادين الطبية والاجتماعية والاقتصادية والمالية وغيرها، وهذه الاستشارة أرشد إليها صاحب لامية الزقاق، إذ قال :
وشاور ذوي علم وسو بمجلس…(…ولا تفت في حكم وأحضر ذوي العلا
فهذه الاستشارة على نحو واسع تساعد القاضي الشرعي على البت في القضايا المعروضة عليه موضوع الاجتهاد بحكم عادل، وهو لون من النهوض بالاجتهاد القضائي.
خامسا- التكوين المستمر للقضاة الشرعيين :
إن النهوض بالاجتهاد القضائي يقتضي الاستمرار في تكوين القضاة الشرعيين، والتفتح على العالم المعاصر وما أفرزته الحضارة من التقدم العلمي والتكنولوجي والعولمة والإنترنت.
وهذا التكوين لا يكفي فيه قراءة ما كتب ونشر، وإنما لابد من الاحتكاك بالممارسين، إذ العلم -كما يقال- يؤخذ من أفواه الرجال، بواسطة الندوات، والملتقيات العلمية، والأيام الدراسية، والموائد المستديرة، المحلية والدولية، يشارك فيها القضاة والمحامون والفقهاء ورجال القانون وغيرهم من المتخصصين في ميادين أخرى، إذ بهذا تخلخل الموضوعات بالمناقشات والمداخلات والتعقيبات وتذيل بالحلول الملائمة عن قناعة واقتناع.(3/14)
وإن هذا التكوين لتشتد الحاجة إليه أكثر كلما حدث تغير جذري في المحيط بالقاضي، وظهر من المستجدات -نتيجة ما ذكر- ما يقتضي بذل الجهود ومضاعفتها للتناغم معه وفق ما يقتضيه التأصيل ومراعاة الزمان والمكان والإنسان، وهذا ما يكرس –بالتالي- مبدأ : "صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان".
ومن المعلوم أن أي مرجعية لا يمكنها الإحاطة بكل الأحكام للنوازل المستجدة مهما بلغت من الدقة والصياغة والمراعاة، وهذا ما يبدو عند وضعها على محك التطبيق العملي الذي يفرز -لا محالة- إشكاليات تحتاج تارة إلى تفسير النص، وأخرى إلى استنباط حكم في غيابه ، مما يكون معه القاضي أحوج إلى إسعافه وإعانته، ويبدو أن لا يوجد أفيد ولا أغنى لتنويره وصقل مواهبه مما ذكر.
فهذا التكوين هو الذي يوسع المدارك العلمية للقضاة ويشحذ مهارتهم الفنية، ويقوي صناعتهم القضائية، فيرتقي بهم إلى مصاف القضاة الأكفاء ويؤهلهم –بالتالي- إلى الاجتهاد القضائي.
سادسا- الانفتاح على القضاء الأجنبي والاستئناس به ما أمكن :
إن النهوض بالاجتهاد القضائي يقتضي ألا يقتصر على الاجتهادات القضائية المحلية -وإن كانت تعتبر ذخيرة كافية للاستئناس بها في هذا النهوض- وإنما لابد -لإعطاء النهوض شحنة قوية وقوة أكثر- من الانفتاح على القضاء الأجنبي لتوسيع فضاء البحث والمعرفة في القضايا المماثلة والاستئناس به فيها مادامت الغاية هي تحقيق العدالة، طالما أن ذلك يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، ولا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية ومصادرها.(3/15)
فعلى سبيل المثال أشير إلى أنه -في إطار الانفتاح على المؤسسات الأجنبية المماثلة لدعم كفاءات ومدارك السادة القضاة وجميع العاملين بالمجلس الأعلى بالمغرب- تم توقيع عدد من اتفاقيات تعاون وتوأمة مع بعض المؤسسات المماثلة التابعة لبعض الدول الشقيقة والصديقة التي تحدوها نفس الطموحات والمساعي التواقة إلى تقوية أواصر التعاون في المجال القضائي والقانوني وتؤكد جل بنودها على حتمية التحديث وتطوير أساليب العمل القضائي والاستفادة من خبرات وتجارب المؤسسات القضائية(1).
لذا فكلما اتسعت مدارك القاضي المجتهد على نحو أوسع إلا وساعده ذلك على الاجتهاد القضائي، وبهذا تتقوى لديه فنية ومهارة القضاء، فيكون متمكنا وأقدر على الخلق والإبداع، فيجرؤ -عن قناعة واقتناع- على الاجتهاد القضائي، وهذا -فيما يبدو- هو القاضي المنشود لهذا النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر.
سابعا- نشر الاجتهادات القضائية المتميزة للاستفادة منها :
__________
(1) - مجلة القضاء والقانون، عدد 148-ص : 32.(3/16)
لا يختلف اثنان أن الاجتهادات القضائية المتميزة تعتبر عملا قضائيا رائدا، لأنها عصارة فكر قضائي، وترسانة حلول قضائية شرعية لقضايا مستجدة، لذا فهي تستحق كل تنويه وتقدير، والتنويه بها هو إعمالها والاستفادة منها لا إهمالها، لذا لا يكفي ولا يليق أن تكون تلك الجهود الكبيرة المبذولة لنوازل معينة وقتية وكفى ثم تحفظ في الأرشيف في رفوف وخزانات الحفظ، قد تعلم أو لا تعلم بها المحاكم وكذا من لهم صلة بالقضاء كالمحامين والباحثين والدارسين والأساتذة الجامعيين وغيرهم، فهذا يعطل عصارات الفكر، ويجمد الطاقات، وإنما لابد للنهوض بالاجتهاد القضائي من إبداء الانطباعات والآراء حول الاجتهادات القضائية من طرف المحاكم والقراء، مع الأخذ بعين الاعتبار ما قد يكون من تعقيبات حولها، متى كان لها ما يبررها، وهذا لا يكون إلا بعد التمكين من الاطلاع عليها، وذلك عن طريق نشرها بواسطة المجلات والجرائد المتخصصة، وبهذا تكون الاستفادة متبادلة عن طريق هذا التواصل ومد الجسور، وهذا يساهم في النهوض بالاجتهاد القضائي.
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن مركز النشر والتوثيق بالمجلس الأعلى بالمغرب الذي يعتبر أعلى مؤسسة قضائية أصدر -لأول مرة- قرصا مدمجا يضم المجموعة الكاملة لمجلة قضاء المجلس الأعلى، ويشتمل هذا الإصدار على أربعة وستين عددا، بدءا من سنة 1957 إلى سنة 1999، منها ثمانية أعداد باللغة الفرنسية وفق آخر التقنيات المعلوماتية التي تسمح بإجراء بحث سريع ودقيق في قرارات مختلف الغرف، كما أصدر -المركز المذكور- قرصا مدمجا يتضمن مجموعة تشريع واجتهاد في المادة المدنية ومادة الأحوال الشخصية، والتجارية والإدارية، وتم الإعداد لتكوين بنك النصوص القانونية، وآخر للاجتهاد القضائي المغربي(1).
ثامنا- توحيد الاجتهاد القضائي :
__________
(1) - مجلة القضاء والقانون، عدد 148-ص : 35.(3/17)
من وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر توحيد هذا الاجتهاد، ذلك أن القاضي المجتهد يخلق باجتهاده قاعدة قضائية جديدة لم يتيسر للناس معرفتها من ذي قبل، وتعدد الاجتهادات في موضوع واحد بين مختلف المحاكم أو داخل المحكمة نفسها أو حتى داخل المحكمة الأعلى درجة، يخلق -لا محالة- بلبلة لدى المواطنين وخاصة المتقاضين منهم، وحتى لدى الهيآت القضائية، مما يشكك في توفير العدالة، ويعرض –بالتالي الحقوق للضياع.
وتفاديا لذلك، يجب التدخل من المسؤولين على القضاء، للعمل على توحيد الاجتهاد القضائي ما أمكن، في انتظار صدور تقنين في الموضوع، وهذا ما سار عليه المجلس الأعلى في المغرب، من السهر على التطبيق الصحيح للقانون، والعمل على توحيد الاجتهاد القضائي، حتى يبقى مرجعا قضائيا لمجموع المحاكم المغربية، وأن ما يعرف بمسطرة الغرف مجتمعة التي دأب عليها المجلس الأعلى كلما تعلق الأمر بنقطة قانونية مثار خلاف بين المحاكم قد تم تفعيلها واعتمادها بكثرة خلال السنوات الأخيرة حسما للتضارب في الرأي(1).
ذلك أن استمرار التضارب في الاجتهاد ليس محمودا ولا مرغوبا فيه، وهذا ما حدا ببعض الدول إلى التقليص منه بإنشاء أجهزة رسمية مختصة لمقارنة القرارات الصادرة مع سابقاتها، أو بالرقابة السابقة على اتخاذ القرار، وفي حالة عزم الغرفة على التراجع عن اجتهاد غرفة أخرى وجب عرض الملف إجباريا على الغرفة المختلطة(2).
__________
(1) - مجلة القضاء والقانون، عدد 148- ص : 30.
(2) - الاجتهاد القضائي في مجموعة القانون الجنائي، ص : 6-11.(3/18)
وعلى هذا الأساس فإن القاضي حينما يريد أن يجتهد في قضية ما يجعل في حسبانه مسبقا أن اجتهاده سوف يوضع في الميزان مع اجتهاد غيره من القضاة في حالة التضارب في نفس الموضوع. وأن عملية الترجيح ستجر إلى الاجتهاد الأكثر اعتبارا في الاستنباط والتأصيل، مما يدفع به إلى تكثيف جهده ليكون لاجتهاده وزنه، ولا شك أن في هذا نهوضا بالاجتهاد القضائي.
تاسعا- مراعاة الاجتهاد القضائي الشرعي عند التقنين :
إن ما يساعد على النهوض بالاجتهاد القضائي هو أخذه بعين الاعتبار عند التقنين، حتى تصبح القواعد القضائية قواعد قانونية، وتكون لها صبغة الإلزام، ويجب الاستناد عليها، عوض الاستئناس بها، وقد أثبتت التجربة في المملكة المغربية نجاعة هذا المسلك، ذلك أن مدونة الأحوال الشخصية السابقة قننت سنة 1957 وتم العمل بها إلى أن صدرت مدونة الأسرة، ودخلت حيز التطبيق بتاريخ 05 فبراير 2004، وأنه خلال تطبيق المدونة الأولى كان العمل القضائي يتدارك ما يقع فيها من ثغرات، سواء بالتفسير للنصوص، أو بإيجاد حلول عند غيابها. وعند مراجعتها أخذ بعين الاعتبار ما كان يتداركه العمل القضائي، وأصبحت القواعد القضائية قواعد قانونية، وضمنت في مدونة الأسرة.
عاشرا- إحداث جهة عليا رسمية للاستشارة في القضايا الكبرى :
من المعلوم أن عصر التقدم التقني والتكنولوجي والعولمة والإنترنت يطل علينا -من حين لآخر- بمستجدات في شتى المجالات كاستئصال وزرع الأعضاء وكأطفال الأنابيب وكراء البطون وبنك العيون والخبرات الطبية في مجال النسب وغيرها مما يقتضي إيجاد أحكام شرعية ملائمة لها.
وطالما أن المجتهد قد يخطئ في اجتهاده ويمكنه أن يتراجع عنه، وقد لا يكون لذلك أثر كبير، فإن الأمر بعكس ذلك في القضايا الكبرى، مما قد يحدث بلبلة ويثير ضجة لدى المجتمع بمختلف شرائحه، مما يجب معه –قبل الاجتهاد في ذلك- استشارة جهة عليا رسمية تتكون من أعضاء مختصين مشهود لهم بالكفاءة العلمية.(3/19)
فالقاضي المجتهد -حينما يجد من يمده بالفتوى الشرعية في القضية المعروضة عليه- يقبل بشجاعة على الاجتهاد القضائي، وهذا ما يساعد على النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر.
هذه أيها السادة الأفاضل دراسة متواضعة حول هذا الموضوع الذي يعتبر من الأهمية بمكان، وآمل أن تكون مساهمة في إغنائه وإثرائه، حتى يمتد شعاع قضائنا الشرعي إلى حيث يراد له من ذوي النيات الحسنة، والعزائم القوية، وما ذلك على الله بعزيز.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أهم مراجع الموضوع
( مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، للأستاذ علال الفاسي، الطبعة الرابعة مصححة 1411 - 1991، مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء.
( الشريعة الإسلامية كمال في الدين وتمام للنعمة، للدكتور محمد رياض، الطبعة الأولى 1420 - 2000، مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء.
( الفتاوى، للفقيه محمد كنوني المذكوري، دار الطباعة الحديثة - الدار البيضاء.
( الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، للدكتور يوسف القرضاوي، دار الطباعة والنشر الإسلامية - مدينة العاشر من رمضان - المنطقة الصناعية ب 2 ت : 362313 - (1414 – 1994).
( الوسيط في شرح المسطرة المدنية، الجزء الأول، للدكتور ادريس العلوي العبدلاوي، الطبعة الأولى1418-1998، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء.
( وسائل الإثبات في التشريع المدني المغربي، الجزء الأول، للدكتور ادريس العلوي العبدلاوي، الطبعة الأولى 1971، المطابع الفرنسية والمغربية - الرباط.
( شرح قانون المسطرة المدنية والتنظيم القضائي، للأستاذ عبد العزيز توفيق، الجزء الأول، الطبعة الثانية 1998، مطبعة النجاح الجديدة - الدار البيضاء.
( مدونة الأسرة بالمملكة المغربية الصادرة بتاريخ 05/02/2004، بالجريدة الرسمية عدد 5184.
( دليل عملي لمدونة الأسرة، مطبعة فضالة – المحمدية – سنة 2004.
( مقالات منشورة عبر الأنترنيت لمجموعة من الأساتذة الأفاضل منهم:(3/20)
( عبد الرحمن بن أحمد الجرعي، "تقنين الأحكام الشرعية بين المانعين والمجيزين" 29/08/2005.
الموقع : WWW.islamonline.net…
( محمد بن نصر، "حدود النظر في الأحكام الشرعية"، 16/06/2005.
الموقع : www.islamonline.net
( مرتضى معاش، مجلة النبأ–(العددين 23،24)، السنة الرابعة، ربيع الثاني–جمادى الأول 1419 هـ.
الموقع : www.annabaa.org………………
( يونس عرب، "حجية الإثبات بالمستخرجات الإلكترونية في القضايا المصرفية".
الموقع : www.mybiznas.com…
( عبد الرحمن الحبيب، "تقنين الشريعة".
الموقع : www.suhuf.net.sa……………
( مسعود عكو، "الظلم القانوني للمرأة في الدول العربية".
الموقع : www.iraqipapers.com
( أحمد بن يحيى حامد، "علاقة نظام الإجراءات الجزائية بالسياسة الشرعية".
الموقع : www.arriyadh.com ……………
( عبد الله بن محمد عمر طه، "مفاهيم حول التقنين".
الموقع : www.shura.gov.sa
( هادي محمود، "الخلفية التاريخية لمفهوم الأحوال الشخصية في الفقه الإسلامي ومخاطر عدم التقنين"، الحوار المتمدن – العدد 1131 – 08/03/2005.
الموقع : www.rezgar.com………………
( ضحى الزياني، "تقنين الأحكام الأسرية بين مؤيد ومعارض".
الموقع : www.amanjordan.org
( حسن بن أحمد الأنصاري، "أين موقع المصغرات الفلمية من مشروع قانون الإثبات ؟".
الموقع : www.alwatan.com …………
( أحمد تمام، "القضاء الشرعي مدرسة الأساطين".
الموقع : www.islamonline.net
( علي جمعة، "حقائق حول تطبيق الشريعة والحدود"، 16/06/2005.
الموقع : www.islamonline.net………………
( مدحت محمود، "القضاء في العراق : دراسة استعراضية للتشريعات التي نظمت شؤون القضاء في العراق".
الموقع : www.iraqiconstitution.org(3/21)
الاتجاهات الجديدة لقانون الأحوال الشخصية الإماراتي
وأثرها في تطور القضاء الشرعي
دكتور/ إسماعيل كاظم العيساوي
أستاذ مشارك
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الشارقة
بحث مقدم إلى ندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر:- الواقع والآمال
التي تقيمها كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الشارقة
بدولة الأمارات العربية المتحدة
4 – 6 / إبريل / 2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله الذي انزل الكتاب بالحق والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأرسل رسله لهداية الناس وإصلاحهم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الرسل والأنبياء، وعلى اله وصحبه،
وبعد :
فقد قاد النبيّ - صلى الله علية وسلم- الناس إلى الحقّ والعدل بعزم يقيني ثابت، وأكد هذا الموقف النبويّ في المعاهدة التي عقدها مع اليهود والمشركين في المدينة، إذ نصّت على أنّه: ( ما كان بين أهل الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده؛ فإنّ مرده إلى الله -عز وجل- وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- )(1).
ومما لا ريب فيه أنّ النصّوص عبارة عن قوالب الأحكام وتثبيت المبادئ؛ لأنّ العملية التشريعية ثمرة مسيرة طويلة، ومعاناة كبيرة ، لتعديل أحكام لم تعد متوافقة ومنسجمة مع حركة الحياة المتغيرة، بسبب قصور النصوص عن معالجة الحالات المتغيرة، باعتبار أنّ النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، فضلا عن أنّ الاقتصار على مدرسة فكرية واحدة من شأنّه أن يضيق من الحلول، وهذا مناف لمقاصد الشريعة ومرونتها التي يحرص القاضي على الوصول إليها.
__________
(1) - سيرة النبي صلى الله علية وسلم، المعروفة بسيبرةابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبعة كتاب التحرير، القاهرة، سنة 1384هـ\2\191\123.(4/1)
لذلك فقد أثبتت التجربة العملية أنّ هناك حاجة لأحكام سديدة لوقائع جديدة، في نفس الوقت الذي أبرزت الحاجة الاستغناء عن بعض الأحكام التي ثبت عجزها وعقمها عن تحقيق مقاصد الشريعة وغاياتها العليا وفقاً لنظرتها الشمولية المتكاملة، دون إنكار لدور الفقهاء الذين أعطوا البعد الفقهيّ والفكريّ والنظريّ لهذه المشاكل، والقضاة الذين أعطوا المرونة والحركة والحيوية لها، من خلال حكمتهم وفراستهم في إنزال أحكام النصّوص على الوقائع استحضارًا لمقاصد الشريعة العليا وأهدافها في الحفاظ على الضروريات الخمس.
والمتفحص لأحكام قانون الأحوال الشخصية الجديد تبدو له -جليا- الجهود الكبيرة التي بذلتها اللجنة القائمة على صياغة هذا القانون من القضاة الشرعيين والفقهاء في صياغة الأحكام وتناسقها، وقدرتها على حماية الحقوق، والموازنة بينها وبين الواجبات ، بإسلوب وقائيّ وعلاجيّ بآنٍ واحد، ارتقاءً بأهداف هذا القانون ليتناسق مع دقة الصياغة وجمال الصنعة التشريعية لهذه الإحكام التي تمثل فرعًا من فروع الفقه الإسلاميّ الذي حكم وما يزال يحكم جانبا كبيرًا من شؤون الأمة، وعليه فإنّ هذه الأحكام تمثل الدرة المضيئة في تاج الأمة الفقهيّ، فقه الأحوال الشخصية، الذي هو فرع من فروع الفقه الإسلاميّ، إنّ مثل هذه النصوص وما تضمنته من أحكام جديدة يحتاج إلى قضاة يرتقون إلى مستوى روح هذا القانون ومقاصده وأسبابه الموجبة، إذ ليس الغاية هو إصدار تشريع جديد، بقدر ما هو وسيلة لإحقاق الحقوق وأنّهاء الخصومة، وبالتالي فإنّ صلاح الأحكام يتأتى من خلال قدرته على تلبية متطلبات الحياة وحركة المجتمع بما ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية كما أوضحنا.(4/2)
ولأنّ الإشارة إلى نصوص الأحكام مجتمعة ليس من مهمة هذا البحث، لذا فإنيّ سأقتصر على مناقشة أهم الأحكام التي نجح القضاء في تقنينها، والتقنين كما هو معلوم ليس بمسألة جديدة على الفقه الإسلامي، إذ إِدرك القائمون على التشريع في عالمنا الإسلاميّ منذ زمن غير قريب هذا الأمر، فطلب ابن المقفع في رسالة مطولة إلى أبي جعفر المنصور أن يضع للناس قانونًا واحدا يتخذ من الفقه الإسلاميّ، ثم ظهرت الفكرة إلى حيز التنفيذ حينما ظهرت مجلة الأحكام العدلية، وهكذا تلاحقت تقنينات الأحوال الشخصية في كثير من البلدان العربية والإسلامية(1) .
وقد شهدت ساحات المحاكم الشرعية، على امتداد التاريخ الإسلاميّ أحكاما قضائية، تتميز ببعد النظر وقوة الاستنباط والاستقراء لسد حاجات واقعية تشكل حلولاً لمشاكل اجتماعية في العديد من الحواضر الإسلامية، من أجل هذا نجد أنّ من بين الكتب الفقهية المهمة جدا ، كتب الفتاوى، لأنّها فقه واقعيّ يتضمن فتاوى لأمور وقعت- فعلاً- استنبط الفقهاء منها حلولاً ذكية وشجاعة، كذلك كتب الأحكام القضائية التي كونت ما يسمى بالسوابق القضائية، التي أصبحت مصدرا مهمًا من مصادر المحاكم الشرعية، وبذلك فإنّ هذه الفتاوى والسوابق القضائية هي من أهم مصادر تشريعات الأحوال الشخصية في العالم العربيّ مثل الوصية الواجبة ...
ونظرا لوجود العديد من الدراسات المعاصرة التي اهتمت بدراسة قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربيّ والإسلاميّ، فإنّي لن أخوض بتفاصيل القوانين , لكنني سأقتصر في الحديث عن بعض الاتجاهات الجديدة لقانون الأحوال الشخصية الإماراتيّ وأثرها في تطور القضاء الشرعيّ، وبناءً على ذلك فإنّ خطة البحث ستتكون من مبحثين وخاتمة فضلاً عن المقدمة، وفقًا لما يأتي:
المبحث الأول: المبادئ النظرية الحديثة للقانون، وذلك في مطلبين:
__________
(1) _ قانون الأحوال الشخصية المصري سنة 1920م، والعراقي سنة 1956.(4/3)
المطلب الأول: توحيد المرجعية الفقهية
المطلب الثاني: توحيد الأحكام القضائية.
المبحث الثاني: الأثر العمليّ للتوجهات الجديدة للقانون، وذلك في خمسة مطالب:
المطلب الأول: مراعاة معطيات الوسائل العلمية الحديثة.
المطلب الثاني: احترام قيم المجتمع وأعرافه.
المطلب الثالث: رعاية حقوق الأبناء.
المطلب الرابع: اعتماد البدائل الجديدة للدعوى.
المطلب الخامس: الارتقاء بالتسامع إلى مرتبة الشهادة.
وخاتمة : أودعت فيها أهم النتائج والتوصيات المتحصلة من البحث.
والله اسأل أن يوفقني في ما أنا بصدد بحثه ودراسته، إنه الهادي إلى سواء السبيل.
المبحث الأول
المبادئ النظرية الحديثة للقانون
لقد أبدع علماؤنا بالتصنيف من حيث الشمولية وبراعة الاستدلال ؛ ولكن الكثير من المصنفات تعاني من عدم الترتيب بين الجزئيات والكليات، وهذا راجع – بلا ريب – إلى العصر الذي كتبت فيه فهي مناسبة لطلبةِ تلك الأزمان.(1)
ففي الوقت الحاضر يشق الأمر على كثير من الطلبة في استخراج أحكام الوقائع، وإِدراك المراد في كثير من المسائل في تلك المصنفات؛ مما دعا إلى تقنين الأحوال الشخصية في عصرنا، إذ عدهُ بعضهم ضرورةً عصرية.
وبرز في القانون أمر مهم هو توحيد المحاكم القضائية؛ إذ فصل القانون اختصاصات كلّ محكمة من حيث الاختصاص الزمانيّ والمكانيّ، وكيفية التدرج في اختصاصات المحاكم، وتوحيد المرجعيتين: الفقهية والقضائية يمثل أهم المبادئ التي تضمنها هذا القانون، لأنّها تحتل مكانا مهماَ في أحكامه باعتبارها من القواعد الجوهرية في التنظيم القضائيّ لأثرها في تحقيق الوحدة الفقهية والقضائية والدعاوى وفض المنازعات، لذلك فإنّ هذا المبحث سيتضمن مطلبين:
المطلب الأول: توحيد المرجعية الفقهية.
المطلب الثاني: توحيد المرجعية القضائية.
__________
(1) - من حسنات أبناء زماننا قيامهم بـ (فهارس علمية) ، عند نشر الكتب التراثية ، تيسرًا للوصول إلى مبتغى الطالب بسرعة ودقة متناسبتين.(4/4)
المطلب الأول
توحيد المرجعية الفقهية
كان القضاء الشرعيّ يأخذ بمذهب الإمام مالك، والقضاة يرجعون إلى مصادر هذا المذهب، وفي هذه المراجع أكثر من رأي لفقهاء المذهب في المسألة الواحدة، ونتيجة لذلك تتعدد الأحكام القضائية في الدعوى الواحدة تبعا لاختلاف القضاة في المكان والزمان، إضافة إلى مصادر القضاة المختلفة من إمارة إلى أخرى، فلم تكن الإمارات السبع المتحدة تنهل من معين واحد.
فجاء قانون الأحوال الشخصية فوحد هذه الأقضية على صعيد واحد، فتوحيد المرجعية الفقهية مسألة جوهرية، لغرض تحقيق العدالة الممكنة في الوقائع المتماثلة، وينأى بالقضاة عن مزالق الهوى ومظان التهم، فتطمئن بذلك نفوس المتقاضين وتقر أعينهم بعدالة القضاء؛ ذلك أنّ ترك القضاة يحكمون وفق اجتهاداتهم ومذاهبهم المختلفة؛ يفتح الباب أمام الناس للتحايل بغية تحقيق مآربهم، فيلجأ الخصم إلى التقاضي إلى قاضٍ معين يتبع مذهباً من المذاهب دون غيره من القضاة؛ لأنّه يعلم رأي المذهب في تلك المسألة، حيث إِنّ هذا القاضي سيحكم له وفق ما يريد، بينما لو ذهب إلى قاضٍ آخر، لحكم له بحكم آخر وفق المذهب الذي يتبعه، وأسوق مثالين من بحر زاخر بالأمثلة أولهما:
مسألة الطلاق الثلاث فقد نصّت الفقرة الثالثة من المادة:( 103 ): (لايقع بالطلاق المتكرر أو المقترن بالعدد لفظاً أو كتابةً أو إشارةً إلا طلقةً واحده).
فالمادة تتسم بتوحيد المرجعية في هذا الشأن، ولو ترك الأمر للاجتهادات الفقهية في فهم النصّوص الواردة في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، لوجدنا آراء مختلفة واتجاهات متباينة فمنهم:
من يوقعه إعمالا لما ذهبت إليه المذاهب الأربعة.
من يقضي بعدم وقوعه واعتباره بدعة محرمة أخذا بمذهب ابن حزم الظاهريّ.
من يقضي بوقوعه طلقة واحدة رجعية أخذا برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية.(4/5)
من يقضي بغير ما سبق مفرقا بين المدخول بها وغيرها؛ فيقضي بوقوعه بالعدد المصرح به في المدخول بها، وبوقوعه طلقة واحدة في غيرها أخذا برأي إسحاق بن راهويه.
هذا مثال لتعارض الأحكام القضائية مع بعضها، في واقعه واحدة، ويظهر مدى الخلاف الذي يحدثه التغاير المذهبيّ في مسائل الأحوال الشخصية ومدى خطورته بسبب عدم توحيد المرجعية، لذلك أبرز القانون الجديد توحيد المرجعية بوضع قاعدة حازمة حاسمة مانعة للنزاع وكثرة الاجتهادات قاطعة للجاجة والاختلاف، وإن كنت أرى لو أن القانون أخذ بما اجمع علية الفقهاء الأربعة لكان أجدر حتى لا يستسهل الناس أمر الطلاق، كما فعل القانون بأخذه برأي المذاهب الأربعة في قضية وجوب الولي في عقد الزواج.
أما المثال الثاني فهو: تحديد سنّ الحضانة بـ(11) إحدى عشرة سنة للذكر، و(13) ثلاث عشرة للأنثى.
ونجد لهذه التفرقة بين عمر الذكر وعمر الأنثى سندًا عند الفقهاء(1) وعلماء النفس، فغالبا ما يتأثر الذكر بأبيه وتتأثر الأنثى بأمّها؛ لأنّ تأصيل الصفات ومقتضياتها تقضي أن يقتبس الذكر الرجولة من أبيه وما يبني شخصيته من معاني الشجاعة والكرم، وأنّ تقتبس الأنثى معاني الأمومة والأنوثة من أمّها وما تقتضيه من معاني الصبر والتحمل والرقة، ولهذا حددت مدة بقاء البنت مع أمّها أكثر من فترة بقاء الذكر مع أبيه، وهذا دليل واضح على فطرية الإسلام وموضوعيته ومراعاته للفروق الخَلقية ، والنفسية بين الأنثى والذكر.
__________
(1) 1_ بدائع الصنائع، للكاساني 5\2262, العلامة علاء الدين بن أبي بكر بن مسعود الكاساني، مطبعة الإمام، الناشر زكريا علي يوسف، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للعلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي، مطبعة عيسى ألبابي الحلبي 2\526، مغني المحتاج شرح المنهاج، الشيخ محمد بن احمد الشربيني الخطيب، الناشر المكتبة الإسلامية 3\457.(4/6)
وهنالك مسائل عديدة في أبواب الزواج والطلاق، من الممكن حدوث اختلاف بينها، ما لم توحد فيها المرجعية، ومن ثَمَّ كان توحيد مرجعية العمل سدًا لذريعة الاختلاف بين الأحكام القضائية في المتماثلات، ولم يغفل القانون المذهب السائد، وإعمال الدليل، ومراعاة تناسب أحكامه لأحوال الناس ومصالحهم الشرعية وأعرافهم، وقد ذهب القانون أبعد مما ذكر حينما عنى بتوحيد المرجعية فيما لا نصّ فيه؛ إذ نصّت الفقرة الثالثة من المادة الثانية: (وإذا لم يوجد نصّ في هذا القانون يحكم بمقتضى المشهور من مذهب مالك ثم مذهب أحمد ثم مذهب الشافعي ثم مذهب أبي حنيفة).
والمتدبر لمعانيها وأحكامها يبدو له –جلياَ- سد ذريعة الاختلاف بين الأحكام، فيما لا نصّ فيه، استظهاراً للعدالة واستجلاءً للحقوق، وإبرازاً للقضاء الشرعي باعتباره أحد الأنظمة القضائية الكبرى، فيما يتصل بالخطوط والسمات العامة والقواعد الفقهية والموروث القضائي السائد الذي حافظ على مضمون العدل وجوهره.
المطلب الثاني
توحيد المرجعية القضائية
وحّد القانون الجديد المرجعية الفقهية في المحاكم الشرعية التي كانت تقضي في كلّ إمارة بمذهب معين، ففي إمارة أبوظبي، ودُبيّ، أغلب الأحكام في القضاء الشرعيّ كانت على المذهب المالكيّ، وفي إمارة الشارقة ورأس الخيمة، على المذهب الحنبليّ، وبناءً على هذا التوحيد في المرجعية الفقهية كما بينا وحدت المرجعية القضائية، فلم يكن قبل صدور هذا القانون مرجعية قضائية ودرجات للتقاضي كما هو الحال في القانون الجديد: ابتدائية، واستئناف،و تمييز، وهكذا... لكن القانون الجديد فصل في كثير من مواده اختصاصات المحاكم.
فمثلا في الفقرة الأولى من المادة (8):(تختصّ المحكمة الجزئية الابتدائية المشكلة من قاضٍ فردٍ في الفصل في مسائل الأحوال الشخصية).
وفي الفقرة الثانية من المادة أعلاها:(يختص قاضي التوثيقات بتوثيق الإشهادات التي تصدرها المحكمة).(4/7)
وفي الاختصاص المكانيّ جاء في الفقرة الأولى من المادة (10):(في الحالات التي يوجب فيها القانون الحصول على إذن المحكمة أو موافقتها، أو تطلب القانون رفع الأمر إلى القاضي، يقدم الطلب إلى المحكمة التي يقع في دائرتها موطن أو محل إقامة الطالب وذلك بموجب أمرٍ على عريضة، مالم ينصّ القانون على خلاف ذلك).
فالقانون –هنا- أعطى الاختصاص المكانيّ للمحكمة أَنٌ تحكم على مَن يقطن في المحيط الذي تكون فيه، أو يكون محل عمله في نفس مكان المحكمة كما فصلت ذلك الفقرة الأولى من المادة (9):(تختص المحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه أو محل إقامته، أو محل عمله، وإذا تعدد المدعى عليهم، كان الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن أحدهم، أو محل إقامته، أو محل عمله).
وبصدد ضمانات القضاء أخذ القانون في التدرج الهرمي للمحاكم، والغرض من إعمال درجات التقاضي، هذه زيادة قدرة النظام القضائي على تحقيق الضمانات القانونية لأطراف النزاع، وفقاً لأفضل المعايير القضائية في تحقيق العدالة، إذ أن الأحكام الصادرة من محكمة أعلى في الدرجة( التمييز والاستئناف) لها تأثير إلزامي على المحاكم الأقل درجة، وقد بينت ذلك الفقرة الثانية والثالثة من المادة(15).
كلّ هذه الإجراءات لم تكن معروفة لدى القضاء الشرعيّ الإماراتيّ قبل صدور هذا القانون.
المبحث الثاني
الأثر العملي للتوجهات الجديدة للقانون
تضمن المبحث الأول المبادئ النظرية لتوجهات القانون الجديد، وفي هذا المبحث نتعرض لنماذج من الآثار العملية لهذه التوجهات؛ فالتعرض لكل التوجهات الجديدة لايستوعبه هذا البحث الموجز؛ لذلك سأبحث بعضها في المطالب الخمسة الآتية :
المطلب الأول: مراعاة معطيات الوسائل العلمية الحديثة.
المطلب الثاني: احترام قيم المجتمع وأعرافه.
المطلب الثالث: رعاية حقوق الأبناء.
المطلب الرابع: اعتماد البدائل الجديدة للدعوى.(4/8)
المطلب الخامس: الارتقاء بالتسامع إلى مرتبة الشهادة.
المطلب الأول
مراعاة معطيات الوسائل العلمية الحديثة
يتسم هذا القانون بإضافة جديدة ألا وهي مراعاة معطيات الوسائل الحديثة، وأضرب لذلك بعض الأمثلة:
الفحص الطبيّ قبل الزواج:
للعلم منزلة كبيرة في الشريعة الإسلامية، والمتأمل في كتاب الله- تعالى- يجد العديد من الآيات التي تحض على العلم والتعليم والتعلم والتفكر والتدبر، فضلاً عن الحقائق العلمية التي تضمنت الأسرار التي بدأت العقول الطموحة تتسع لها وتدركها مؤخرًا، والقرآن الكريم كرم العلماء وجعلهم قرناء الملائكة، قال تعالى:(شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ...)(1) .
فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم أهل الذكر يلجأ إليهم الناس في حاجاتهم؛ ولم يقصر الشرع مصطلح العلماء على أهل العلم الشرعي، فالتّخصص بكل علم نافعٍ يعد من فروض الكفاية على الأمة وأحياناً من فروض الأعيان.
كما حثّ القرآن على استثارة العقل واستخدامه للتدبر والتفكر، قال- تعالى-:(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب)(2).
وقد ذكر القرآن الكريم الكثير من الحقائق العلمية الكونية، مثل الحقائق العلمية الصحية، قال –تعالى-:(وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصا سائغا للشاربين)(3) ، وقوله –تعالى-:(ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)(4).
__________
(1) 1- سورة آل عمران آية 18
(2) 2-سورة آل عمران آية 191، وانظر البقرة آية 164، يونس 101، العنكبوت 20
(3) - سورة النحل آية 66 .
(4) - سورة النحل آية 69(4/9)
وقد شهدت الوسائل العلمية والفنية تطورًا مذهلاً خاصة بعد مشروع الجينوم البشري العملاق الذي أسهم فيه مئات العلماء والباحثين من مختلف الجنسيات، مما يوجب على الفقهاء المسلمين بذل الجهد للاستفادة من معطياته وبيان حكم الشريعة في كلّ ما جد في حياة المسلمين.
وقد استفاد قانون الأحوال الشخصية الإماراتيّ من هذه المعطيات الجديدة ؛ إذ نصّت الفقرة الثانية من المادة (27) على أنّه: (يشترط لإجراء عقد الزواج تقديم تقرير من لجنة طبية مختصة يشكلها وزير الصحة، يفيد الخلو من الأمراض التي نصّ هذا القانون على طلب التفريق بسببها).
علما بأنّ الفقرة الأولى من المادة (112) قد نصّت على أنّه: (إذا وجد احد الزوجين في الآخر علةً مستحكمةً من العلل المنفرة أو المضرة كالجنون والبرص والجذام، أو التي تمنع حصول المتعة الجنسية: كالعنة، والقرن، ونحوهما ... جاز له أن يطلب فسخ الزواج, سواء أكانت تلك العلة موجودة قبل العقد أم حدثت بعده ).
والعيوب المسوغة للتفريق غير محصورة في هذه المادة، إذ يدخل فيها كلّ العيوب أو الأمراض المنفرة لأحد الزوجين عن الآخر, أو يسبب إيذاءً أو ضررًا يخلّ بالمقصود من النكاح سواء في تحقيق الأساس العام له وهو الانسجام والتوافق أم تحقيق السعادة في المتعة أو الأبناء, وقد أثبتت الاكتشافات الطبية المعاصرة وجود أمراض خطيرة قد تهدم كيان الأسرة، وتسبب الشقاق بين الزوجين إذا ما تم اكتشافها بعد العقد ودخول الحياة الزوجية.(4/10)
والقانون بتوجهه الجديد أراد أَنّ يحمي الأسرة من التفكك والتصدع والانهيار، وبناء أسرة حية بحاجة إلى بنائها على أسس سليمة, وبذلك جاءت الفقرة الرابعة من المادة (114) لتعطي؛ الحقّ لكلّ من الزوجين طلب التفريق أذا ثبت إصابة الآخر بمرض معدٍ يخشى منه الهلاك كـ( الإيدز) وما في حكمه، فإنّ خشي انتقاله للزوج الآخر، أو نسلهما، وجب على القاضي التفريق بينهما، لذلك شدد القانون الجديد على الفحص الطبيٌ قبل الزواج، وهو إن لم يرد فيه نصّ شرعيٌ لكن القواعد العامة في الشريعة الإسلامية لاتتنافى مع هذا الضابط الذي وضعه القانون، لكن لو أن القانون جعل طلب التفريق بسبب هذه الأمراض أمر جوازي لصاحب الحق يطلبه إن شاء وله أن يتنازل عنه، إذ أن جماهير الفقهاء يجعلون طلب التفريق جوازي وليس إلزامي.
وهذا يستدعي التعريف بالفحص الطبيّ قبل الزواج والآلية التي يتم بها.
أولا: تعريف الفحص الطبيّ قبل الزواج :
يقصد به مجموعة الفحوصات التي تجري للمقبلين على الزواج قبل العقد للتحقق من خلوهما من الأمراض التي تؤثر على الزوجين أو على ذريتهما مستقبلا(1) .
ويستهدف هذا الفحص خلو كلّ من الرجل والمرأة المقبلين على الزواج من الأمراض واسعة الانتشار التي تشكل خطرا على الزوجين حال إتمام الزواج, أو على ذريتهما حالة الإنجاب.
__________
(1) - انظر الفحص الطبي قبل الزواج من أجل صحة وسلامة الأسرة, دكتور سمير غويبه، سلسلة الإصدارات العلمية لمؤسسة صندوق الزواج, الطبعة الأولى 2002، وندوة الفحص الطبي قبل الزواج، جمعية العفاف، الأردن ص 16_ ومستجدات فقهية في قضايا الزواج أسامة الأشقر ص83.(4/11)
ويتم هذا الفحص من خلال مجموعه من الآليات والخطوات لبيان الوضع الصحي الكامل عند كلّ من الرجل والمرأة من خلال معرفة التأريخ الطبيّ الكامل لعائلتي المقبلين على الزواج, منها تحليل (الكروموسومات) في حالة وجود مرض وراثي, أو التأريخ العائلي لبعض التشوهات الخلقية، علما بأنّ نتائج هذا الفحص يجب أن تخضع إلى السرية التامة(1), بالنظر لما يترتب على إفشاء نتائجها من آثار سيئة على سمعة الزوجين وأسرتهما، وما تقتضيه القيم والتقاليد وفقا للضوابط الشرعية(2).
ثانيا : التكييف الفقهيّ للفحص الطبيّ قبل الزواج :
إنّ هذه المسألة من القضايا المعاصرة التي لم يرد فيها نصّ خاصّ يبين حكمها الشرعيّ , غير أن المتأمل فيها يجد أنّها تتفق مع مقاصد الشريعة وتحقق شرط الملائمة كونها تتلاءم مع جنس المصالح التي شهد الشارع باعتبارها ، ويتضح هذا من خلال ما يأتي :
__________
(1) 2- وقد ضمن قانون العقوبات الاتحادي رقم3 لسنة 1987حماية الأسرار من الإفشاء والإفضاء إذ نصّت المادة 379على أنّه(يعاقب بالحبس مدة لاتقل عن سنة وبالغرامة التي لاتقل عن عشرين ألف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين من كان بحكم مهنة أو حرفة أو وضعه أو فنه مستودع سر فأفشاه في غير الأحوال المصرح بها قانونا أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة شخص آخر، وذلك مالم يأذن صاحب الشأن في السر بإفشائه أو استعماله.
وتكون العقوبة السجن مدة لاتزيد على خمس سنين إذا كان الجاني موظفا عامة أو مكلفا بخدمه عامه واستودع السر أثناء أو بسبب أو بمناسبة تأدية وظيفته أو خدمته )
(2) 3- انظر مؤسسة صندوق الزواج تجربة منفردة ص 88, دولة الإمارات العربية المتحدة، مجلة البحوث الفقهية عدد( 36) السنه التاسعة، الرياض السعودية، ندوة الفحص قبل الزواج من منظور طبي وشرعي، تحرير فاروق بدران وعادل بدرانة ط2 1461هـ/1996م ص71 وما بعدها.(4/12)
إن إجراء الفحص من شأنه الحفاظ على النسل والذرية، وهو واحد من الضروريات الخمس التي تضافرت العديد من النصّوص الشرعية على قطعية قصد الشارع إليه والحفاظ عليه من جانبي الوجود والعدم لذلك، فمثلا:
ترغيب الإسلام بالزواج والدعوة إليه في قوله- تعالى-: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)(1), وقوله- صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنّه أغظ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فأنّه؛ له وجاء)(2).
__________
(1) 1- سورة النساء آية 3.
(2) 2- البخاري حديث رقم 5065 , فتح الباري 9 /1069 ، ومسلم حديث رقم 1400، 2 /1081.(4/13)
ومنها أيضا تحريم الإسلام لجملة من الأفعال لما فيها من خطر وفساد على النسل والذرية، مثل تحريم فاحشة الزنا بقوله- تعالى-: (ولا تقربوا الزنى أنّه كان فاحشة وساء سبيلا)(1). هذا وإنّ الوقوف على حالة كلّ من الرجل والمرأة قبل الزواج يمكن أن يكون من وسائل حفظ النسل, كونه يقلل من نسبة الأمراض الوراثية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء, حيث إنّ بعض هذه الأمراض الوراثية يمكن الوقاية منها وتفادي آثارها قبل وقوعها, إذا علم حال الزوجين قبل الإنجاب مثل مرض الثلاسيميا(2)، وذلك عن طريق العلاج المناسب الذي يدرأ عن النسل وذريته الخطر المتوقع مستقبلا، ومثل هذا الأمر يجعل الفحص الطبي قبل الزواج أمرا وقائيا يدرأ عن النسل آثار بعض الأمراض الخطيرة التي قد تفتك بالأبناء والذرية، أو تكون سببا في أمراض مزمنة تجعل الحياة ضربا من ضروب التعاسة والشقاء, أضف إلى ذلك أن الشريعة الإسلامية لا تنتظر وقوع المفسدة للسعي بعد ذلك للتخفيف من وطئتها والتقليل من آثارها، التي إن اكتشفت بعد الزواج تقضي إلى إنهائه إما بالطلاق، أو استمرار الحياة الزوجية مع انتقال المرض إلى الزوجين والأبناء, وإنما تعمل الشريعة على دفع المفاسد ابتداءً قبل وقوعها بإغلاق جميع السبل التي من شأنّها أن تؤدي إلى المفسدة (فاحتمال وقوع ضرر يمثل خطرا)، وهذا مانصت عليه القاعدة الفقهية المستنبطة من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(لاضرر ولا ضرار)(3)
__________
(1) 3- الإسراء آية 32.
(2) 4- وقد أوصى المؤتمر الدولي للثلاسيميا المنعقد في دبي يناير 2006ضرورة استصدار تشريع قانوني بألزامية الفحص الطبي قبل الزواج،كما أوصى بأهمية حث الزوجين الحاملين للجين المورث لمرض الثلاسيميا ضرورة القيام بأجراء الفحوص المختبرية الجينية المناسبة، لتفادي إنجاب طفل مصاب بهذا المرض.
(3) 5- موطأ مالك مع شرحه، لأبي عبد الله محمد عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي الأولى سنة 1381هـ ـ2745(4/14)
.
حيث تعبر عن وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكلّ الوسائل المتاحة؛ لأنّ الوقاية خير من العلاج(1)، وهذا ما تفيده أيضا القواعد الكلية الأخرى التي تعالج نفس الموضوع مثل: (الضرر يدفع قدر الإمكان)(2)، و(درء المفاسد أولى من جلب المنافع)(3).
وعليه فإنّ الفحص الطبيّ قبل الزواج لا يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية بل هو من الأمور التي يحافظ بها على العشرة الزوجية لذا فهو متطابق مع مقاصدها.
وبناءً على ماتقدم يمكن القول أن المُشرع القانونيّ لدولة الإمارات العربية المتحدة أخذ بمعطيات العلوم الطبية والمختبرية، فليس سائغا الجمود على النظم التي ظلت سائدة في أغلب القوانين العربية، وقد كان لهذا المشرع فضل السبق، الذي تميز به على سائر قوانين الأحوال الشخصية العربية(4)، ولو ترك المشرع أمر الفحص اختياريا لمن يرغب فيه لكان أولى من الإلزام الذي قد يشق على بعض الناس.
2- إثبات النسب بالطرق العلمية:
نصّت المادة(89) على أنّه: (يثبت النسب بالفراش، أو بالإقرار، أو بالبينة، أو بالطرق العلمية أذا ثبت الفراش).
__________
(1) 1- المصلحة المرسلة وبعض تطبيقاتها المعاصرة بالمجال الأسري , دكتور عبد الرحمن الكيلاني ص 15-19
(2) 2- درر الحكام شرح مجلة الأحكام، علي حيدر، تعريب المحامي فهمي الحسيني، دار الجيل، بيروت- لبنان، 1\42، مادة 31.
(3) 3- المصدر السابق مادة 30، وانظر أيضا القواعد الفقهية للأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، دار المكتبي للطباعة والنشر دمشق- ط1\1998 ص62.
(4) 4- كان الأردن قد أصدر نظاما يوجب على طرفي عقد الزواج إجراء الفحص الطبي قبل توثيق العقد، لكنه لم يجعل الفحص الطبي واجباً قبل إجراء العقد وإنما اشترطه قبل التوثيق.(4/15)
وهذا يعني أن القانون قد تأثر بالوسائل العلمية الحديثة التي أصبح لامناص من الرجوع إليها في كثيرٍ من الحالات المعاصرة، ومن أهم الطرق العلمية في إثبات النسب (بصمة الحمض النوويّ)(1) وتسمى البصمة الوراثية، وهي تختلف من شخص لآخر نظرا لاختلاف الصفات الوراثية ويمكن بواسطتها تحديد البنوة؛ لأن هناك تشابهاً بين الشخص ووالديه في هذا الحمض، فإن وجدت الصفات الوراثية الموجودة في الابن نصّفها في الأم والنصّف الآخر غير مطابق لصفات الأب المدعي فهذا يدل على أنّه ليس هو الأب الحقيقي والعكس صحيح، وهذا يتم بعمل بصمة الحمض النووي لكلٌ منهم ومطابقتها، وبناءً على ذلك وما قرره الأطباء من أنّه لايوجد تشابه بين شخص وآخر في الحمض النووي ما عدا الابن مع والديه فإن؛ تلك القرينة تعد قاطعة في إثبات النسب إذا تشابه المدعى به مع المدعين له في هذا الحمض أما إذا اختلفت فهي قرينه قاطعه على نفي النسب ولا تقبل الشك.
__________
(1) 5- وجسم الإنسان عبارة عن مجموعة ترليونات من الخلايا، والحمض النوويّ قد تطابق تماما مع كلّ الخلايا، وكلّ خلية تحتضن نواة، وكلّ نواة تحتضن المادة الإرثية والحصيلة الإرثية.(4/16)
ويظهر لنا التأريخ القضائي المشرق أن جمهور القضاة قد اتفقوا على العمل بالقافة(1) في إثبات النسب بناءً على العلامات الظاهرة التي يعرفها القائف، كما ورد في حديث مجزز المدلجيّ(2) في قصة أسامة بن زيد، وزيد بن حارثة (3) , لذلك فإنّ أصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحقوق النسب والشارع متشوف إلى إيصال الأنساب وعدم انقطاعها , ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب من شهادة المرأة الواحدة على الولادة والدعوى المجردة مع الإمكان وظاهر الفراش، فلا يستبعد أنّ يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيا في ثبوته(4) .
__________
(1) 6- القافة مصدر قافه بمعنى تتبع أثره ليعرفه , يقال فلان يقوف الأثر ويقتافه قيافة , وفي لسان العرب أن القائف هو الذي يتتبع الآثار ويعرفها , ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه , ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للقيافة عن المعنى اللغوي المتعلق بتتبع الأثر ومعرفة الشبه , ففي التعريفات للجرجاني أن القائف هو : الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود ص171 , وانظر أيضا سبل السلام للصنعاني 4/137.
(2) 1- سمي بذلك لوقوعه أسيرًا في الجاهلية, وكان الأسير تجزز ناصيته ويطلق, فتح الباري 12/57.
(3) 2- أخرجه البخاري , فتح الباري 12/56 , ومسلم 2/1082 من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) 3- الفروق للقرافي, دار المعرفة بيروت، 4/99 مغني المحتاج 2/489 , الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، لابن قيم الجوزية تحقيق محمد حامد الفقي ، دار الكتب العلمية بيروت , ص222 , وللتوسع في أحكام القيافة انظر الموسوعة الفقهية , وزارة الأوقاف الكويتية , 34/95_96.(4/17)
فالفقه الإسلاميّ لايمنع من الأخذ بالوسائل الطبية الحديثة في إثبات النسب أو نفيه؛ لأنّ العمل بالعلامات الوراثية أولى من الأخذ بقرينة الشبه أو القافة؛ لأنّ نسبة الخطأ فيها نادر بينما نسبة الخطأ في الشبه والقافة واردة، لكونها تقوم على الظنّ والخبرة (1).
المطلب الثاني
احترام قيم المجتمع وأعرافه
__________
(1) 4- القضاء بالقرائن المعاصرة، دكتور إبراهيم بن ناصر الحمود ص 8،بحث منشور على شبكة المعلومات الانترنت.www.islamtoday.net
ومن قرارات مجمع الفقه الإسلامي في أثبات النسب بالبصمة الوراثية(يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال لثبات النسب في الحالات التالية:
أ- حالات التنازع على مجهول النسب.
ب- حالات الاشتباه في المواليد والمستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال وأطفال الأنابيب .
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث والكوارث وحالات عدم التعرف على الهوية أو القبيلة.(4/18)
لم تترك الشريعة كلّ أمرٍ إلاّ وبينت الحكم فيه، لذا فإنّها أقرت بعض القيم والأعراف التي كانت سائدة في الجاهلية لأنّها لا تتنافى مع مقاصد الشريعة وقواعدها، فالفضائل الإنسانية والأخلاقية هي التي جاءت الشريعة لإكمالها، فما كان موافقا لها من قيم وعادات وتقاليد أقرتها الشريعة وأدخلتها في أصولها، كالقسامة مثلاً والتي كانت في الجاهلية من وسائل تحقيق التكامل الاجتماعي في منع جريمة القتل، فأقرها رسول الله- صلى الله عليه سلم- على ما كانت علية وقضى بها بين أناس من الأنصار ادعوا القتل على يهود خيبر، كما اقر -صلى الله عليه وسلم- بعض قضايا النكاح التي كانت بخطبة وصداق وولي، وما خالف ذلك نهت عنها، كالأنكحة الفاسدة مثل الاستبضاع(1) والمقت، وهما من عادات الجاهلية، فالمقت هو: أن يتزوج الرجل زوجة أبيه بعد وفاته فجاء الإسلام وأبطل هذه العادة التي كانت سائدة وحرمها وزيادة في ذلك فقد نفر منها , قال- تعالى-: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف أنّه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا)(2)، وفي آية أخرى قال- تعالى- : (ولا تقربوا الزنا أنّه كان فاحشة وساء سبيلا)(3) , ومن المقارنة بين النصين يبدو أنّ القرآن الكريم أراد أَنٌ يرسم صورة بشعة لهذا الإثم _وهو الزواج بزوجة الأب_ بقوله (ومقتا) , لأن الإقلاع ؛عن العادة يحتاج إلى علاج استئصالي وشامل للداء, إذ الزنا تأباه النفوس بالفطرة في حين أنه إذا ألفه الإنسان يحتاج إلى جهد لكي يقلع عنه.
__________
(1) 5- ومؤداه أن يدفع الرجل بزوجته إلى أحد الأشخاص المشهورين أو المعروفين لتحمل منه ليكون المولود مطابقاً لصفات الرجل
(2) 1- سورة النساء آية 22 .
(3) 2-سورة الإسراء آية 32(4/19)
فالشريعة جاءت بقواعد عامة جامعة يمكن إدخال كلّ جزئية من جزيئات الأعراف والقيم والتقاليد تحت مظلتها وفي ضمن سلطانها، فالقاعدة: (العرف في الشرع له اعتبار) قال ابن قيم الجوزية: (يجب الأخذ بالعرف اعتبارا وإسقاطا... وعلى هذا أبدًا تجئ الفتاوى في طول الأيام , فمهما تجدد العرف, فاعتبره, ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقولات في الكتب طول عمرك, بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك, فلا تجره على عرف بلدك, وسله عن عرف بلده, فأجره عليه, وأفته به, دون عرف بلدك والمذكور في كتبك... فهذا هو الحق الواضح, والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل لمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين..)(1).
ويجب أَنّ يكون العرف المعتبر عاما قديما ثابتا مطردًا, مطابقا للنظام العام مقبولا لدى الطباع السليمة(2), وفي ضوء ما ذكر من رؤى وضوابط، جاء قانون الأحوال الشخصية مراعيا العرف السائد في دولة الإمارات في كثير من المسائل, ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: مسألة الكفاءة بين الزوجين:
المفروض أنّ شرط الكفاءة من شأنه أن يتكامل مع شرط الدين والخلق حيث يحقق التكافؤ في الزواج , فقد تزوج زيد بن حارثة من زينب وهي قرشية , وتزوج سيدنا عثمان من كتابية , والقران الكريم أجاز للرجل المسلم أن يتزوج كتابية قال – تعالى- : (...والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ...)(3), فالكفاءة قضية عرفية إذ عناصر الكفاءة تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان فجاءت المادة (22 ) لتقرر: (العبرة في الكفاءة بصلاح الزوج دينا , ويعتبر العرف في تحديد الكفاءة في غير الدين) .
__________
(1) 3- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الرحمن الوكيل ، القاهرة دار الكتب الحديثة 1969م ،ج3 /99.
(2) 4- فلسفة التشريع في الإسلام، دكتور صبحي المحمصاني، ص: 242
(3) 5- سورة المائدة آية 5(4/20)
والكفاءة في مذهب جمهور الفقهاء ليست شرطا لصحة النكاح , إنما هي شرط للزومه, وأنّ الأمر في ذلك مبني على التراضي من قبل الزوجين والولي(1) ,ولكن ينبغي أن لا يكون الحسب أو النسب هو المعتبر وحده سواء وجد معه دين وخلق أم لا , وإنما ينبغي أن يكون الاعتبار في الدرجة الأولى هو الدين، كما نصّت عليه المادة ( 22) ، وهي مستقاة من قوله -صلى الله عليه وسلم- :(إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)(2) .
__________
(1) 6- أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، الدكتور علي احمد القليصي , دار النشر للجامعات صنعاء، ط6، 2002 , 1/58.
(2) 1- سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،3\394\395، رقم الحديث 108، دار الكتب العلمية بيروت.(4/21)
ولقد قطعت هذه المادة الخلاف الدائر بين الفقهاء حول الكثير من المهن والحرف من حيث كونها من شروط الكفاءة بين الزوجين, و أحالت ذلك إلى العرف المتغير وفقاَ للضوابط التي تحكمه، وعلى القاضي أن لا يتقيد حرفيا في تطبيق الأعراف القديمة عند تحديد الكفاءة , وإنما ينبغي مراعاة المتغيرات التي أملتها طبيعة الحياة المتغيرة تطبيقا لقاعدة (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)(1), إذ قد يفوت هذا التقييد أو التقليد الأعمى إِلى تفويت فرصة الزواج على كثير من الفتيات بسبب عدم فهم العلة والغاية التي حرص المشرع على تحقيقها من اعتبار العرف في تحديد الكفاءة , إذ المفروض أَنّ يسهم العرف مع الدين في تحديد مفهوم الكفاءة وفقاً لمقاصد الشريعة ومبادئها العليا, إذ القانون جاء لحمايتها لا أن تفرض عليها قيود بسبب الأعراف , فالعرف يجب أن يتكامل مع شرط الدين والخلق ليتحقق التكافؤ في الزواج .
ثانيا: اشتراط الولي في عقد النكاح:
__________
(1) 2- انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، ط1،1997،2/3، وانظر أيضا المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، دكتور عبد الكريم زيدان، دار الوفاء، مكتبة القدس،ط12، 1992م، ص:86.(4/22)
يذهب جمهور الفقهاء إلى أَنّ الولي شرط في صحة العقد(1) أخذا بظاهر النصوص من الكتاب والسنة قال –تعالى- :(ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف)(2), والمتدبر في قوله –تعالى- (فلا تعضلوهن ) يبدو له جليا أنّه موجه إلى الأولياء , قال الحافظ ابن حجر: (هذا أصرح دليل على اعتبار الولي وإلا لما كان لعضله معنى , ولأنّها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه، وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك).(3)
__________
(1) 3- قوانين الأحكام الشرعية، محمد بن احمد بن محمد بن جزي، مطبعة دار العلم للملايين 1979م ص:221 , المجموع شرح المهذب، لأبي يحيى زكريا محمد بن احمد النووي 15/302 , المغني، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن احمد بن محمد بن قدامه المقدسي دار الكتاب العربي بيروت 1972م، 6/449 , والمحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأندلسي، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي دار الجيل بيروت 11/32 .
(2) 4- سورة البقرة آية 232وسبب نزول هذه الآية إن معقل ابن يسار زوج أختا له إلى رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقال له معقل ابن يسار: يالكع، أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لاترجع إليك أبداً ... فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية، فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة، فدعاه فقال: أزوجك وأكرمك. انظر: العجاب في بيان الأسباب: أحمد بن علي بن حجر العسقلانيّ، تحقيق د.عبد الحكيم الأنيس، دار ابن الجوزي، الرياض، ط2، 1426هـ، 1/590.
(3) 5- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق الشيخ عبد العزيز بين عبد الله بن باز، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1996م-10-235.(4/23)
وفي السنة وردت أحاديث كثيرة تفيد اشتراط الولي , ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزوج المرأة المرأة , ولا تزوج المرأة نفسها)(1) ,وما رواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال:قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نكاح إلا بولي)(2) كما استدل الجمهور إضافة إلى المنقول بأنّ التفويض إليهنّ مخل بمقاصد الزواج من السكن والاستقرار لتحصيل النسل وتربيته ولا يتحقق هذا مع كل زوج، فالتفويض مخل بهذه المقاصد لأنّهن سريعات الاغترار ولربما يدعوهن إلى سوء الاختيار فيخترن من لا يصلح خصوصا عند غلبة الهوى والوقوع في شبكة الحب(3) .
وقد تأثر قانون الأحوال الشخصية الجديد بهذا الرأي إذ نصّ في المادة (39) على أنّه: (يتولى ولي المرأة البالغة عقد زواجها برضاها ويبطل العقد بغير ولي، فإن دخل بها فرق بينهما, ويثبت نسب المولود).
__________
(1) 1- سنن ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمود محمد محمود،وحسن نصار، دار الكتب العلمية بيروت،ط1، 1419هـ 1998م،2\435، رقم1882، سنن الدار قطني: علي بن عمر الدار قطني، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وحسن عبد المنعم شلبي، وهيثم عبد الغفور، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1424هـ / 2004م، 4/325، رقم 3535.
(2) 2- سنن الترمذي: 3/407، رقم 1101، وسنن ابن ماجة: 2/435، رقم 1881.
(3) 3- شرح فتح القدير, كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان, ط1, 1995, 3/246.(4/24)
وهذا الرأي هو مذهب جمهور الفقهاء ، فضلا عن أنّه قد راعى العرف السائد لدى دولة الإمارات، و في دول الخليج عموما إذ أن ولاية المرأة على نفسها في الزواج برأينا يعد من المثالب الخطيرة التي تهز كيان الأسرة ، و أن الأخذ بهذا هو الأصلح للحفاظ على مصالح المرأة ويسهم في تقييم المرأة لمثل هذه الأمور وزنا واعتبارا باعتبارها جزءًا من منظومة المجتمع القيمية والأخلاقية , لأنّ المرأة التي يكون لحضور أهلها في عقدها وزواجها أثر طيب في نفوس أسرة الزوج، ويحسب لها أهل بيتها الجديد مكانة مرموقة وبذلك يكون هذا القانون قد خالف أغلب قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية(1) ، إذ أخذوا بجواز ولاية المرأة على نفسها استنادًا إلى مذهب الحنفية الذين أجازوا ذلك رغم أنّهم لا يفضلونه ، إذ وصف في شرح فتح القدير: (خلاف المستحب وهو ظاهر المذهب)(2) , ثم علل الكمال ابن الهمام النهي عن مباشرة المرأة العقد كي لا تنسب إلى الوقاحة (3) .
__________
(1) 4- وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية اليمني بنفس الاتجاه الذي ذهب إليه القانون الإماراتي, وقد تناول القانون اليمني ولآية الزواج في ست مواد منه فقد نصّت المادة 12 على أنّه :(ولي عقد الزواج هو الأقرب فالأقرب على الترتيب الأتي : الأب وإن على , ثم الابن وإن سفل , ثم الأخوة وأبناؤهم , ثم الأعمام وأبناؤهم ...) وانظر المواد من _12_ الى _17_ من قانون الأحوال الشخصية اليمني
(2) 5و6- شرح فتح القدير 3/247(4/25)
أما القوانين التي أخذت برأي الحنفية، فالحق أنّها خضعت لضغوطات المرأة التي أساسها الأعراف والتقاليد غير الإسلامية والأنظمة التي لا تليق بمجتمعاتنا الإسلامية, فالأسرة لا كيان لها والمجتمع لا رقابة له، نعم يمكن أن يكون رأي الحنفية استثناء يؤخذ به عند الضرورة، لا قاعدة يقوم الزواج على أساسها، لكن الخلل في المادة (39) المذكورة هو اعتبار العقد الذي تم بدون ولي عقدًا باطلا, وهذا يثير إشكالية, لان العقد الباطل باتفاق الفقهاء لا يترتب عليه أثر وفي مثل هذه الحالة قد رتب عليه أثر بنفس المادة وهو إثبات نسب المولود, أضف إلى ذلك أنّ الحكم ببطلان العقد من شأنه أنٌ يعتبر العلاقة التي أقيمت بين الزوجين علاقة غير شرعية وهذا الحكم له آثار ونتائج خطيرة، إذ أن عقد الزواج بموافقة القاضي يعد صحيحاً حتى وإن ذهب بعض الفقهاء إلى اعتباره باطلاً.
لذلك أقترح صياغة المادة لتكون وفقا لما يأتي (يتولى ولي المرأة البالغة عقد زواجها برضاها فان تولت العقد بنفسها وجب التفريق بينهما قبل الدخول)، أما في حالة الدخول فأرى أن التفريق أمر مجحف لأنه يؤدي إلى مشاكل اجتماعية خطيرة بالنسبة للمرأة والمولود، والأفضل الاعتراف بالأمر الواقع خاصة وأن رأي الحنفية يجيز للمرأة أن تتولى العقد بنفسها كما أشرت إلى ذلك آنفا.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما الحل في حالة عضل الولي؟ , وللإجابة على هذا التساؤل أقول: إن القانون فيه غموض شديد, إذ لم أجد ما يشير إشارة واضحة إلى مسألة العضل اللهم إلا ما جاء في المادة 30 عند الحديث عن أهلية الزواج:
1_ سن البلوغ لأهلية الزواج تمام الثامنة عشرة من العمر لمن لم يبلغ شرعاً قبل ذلك.
2_ لا يتزوج من بلغ ولم يكمل الثامنة عشرة من عمره إلا بإذن القاضي وبعد التحقق من المصلحة.
3_ إذا طلب من أكمل الثامنة عشرة من عمره الزواج وامتنع وليه عن تزويجه جاز له رفع الأمر إلى القاضي.(4/26)
4_ يحدد القاضي مدة لحضور الولي بعد إعلانه يبين خلالها أقواله, فإن لم يحضر أصلا أو كان اعتراضه غير سائغ زوجه القاضي).
والمتفحص لأحكام المادة المذكورة يبدو له جلياً أن القانون لم يفرق فيما يبدو بين الذكر والأنثى هذا أولا , وثانيا الأصل أن الذكر أذا بلغ لا يحتاج إلى ولاية عليه , في حين أنّ النصّ القانونيّ –هنا- جعل عليه ولاية ؛ لذلك أقترح أن تكون هناك صياغة واضحة تحدد الموقف من عضل الولي , لتكون حماية للمرأة من تعسف بعض الأولياء, وتكون الفقرة الخامسة من المادة(30): (إذا تقدم للمرأة كفء، أو طلبت الزواج من كفء وامتنع الولي عن تزويجها جاز لها رفع الأمر إلى القاضي)، إذ أن هذا المقترح ينسجم مع توجهات القانون لاسيما أن القانون أعطى الحق للبنت التي لا يرضى أهلها بالزواج من رجل ما باللجوء إلى القضاء لحسم الموضوع فإن من باب أولى أن يعطي مثل هذا الحق للمرأة التي تزوجت وأنجبت أطفال بدون إذن أهلها.
ثالثا: تحديد المهر:
مما لا خلاف فيه بين الفقهاء أنّ المهر حقّ من حقوق المرأة , وإن اختلفوا في وقته ونوعه وقلته وكثرته , لكن الجديد في القانون هو أنّه ألزم الأزواج أن لا يتجاوزوا ما حدده قانون تحديد المهور , إذ جاء في المادة (49): (المهر هو ما يقدمه الزوج من مال متقوم بقصد الزواج ولا حد لأقله , ويخضع أكثره لقانون تحديد المهور ) .(4/27)
ولا غرابة في هذا التحديد؛ لأَنّ الأصل في المهر تكريم المرأةِ -قال تعالى-:(وأتوا النساء صدقاتهن نحلة...)(1). ولكن إذا أصبح ما هو حق لها ضد مصلحتها, فمن حق ولي الأمر مراعاة المصلحة وفق ضوابطها, إذ التصرف على الرعية منوط بالمصلحة, فالقياس الضابط للتفرقة بين ما هو هوى للحاكم, وبين ما هو مصلحة, هو مقدار النفع والضرر, فما يدفع أكبر ضرر, وما يجلب أكبر نفع للناس يكون الحكم به تابعا للمصلحة, وما ليس كذلك يعد هوى(2).
لذا فإنّ قانون تحديد المهور الذي أخذ به قانون الأحوال الشخصية الجديد, يحقق مصلحة لكلّ من المرأة والرجل؛ إذ يشجع على الزواج في وقت قلَّ الأقدام فيه على الزواج بسبب تعقيدات الحياة أولا, ثم بسبب المغالاة في المهور ثانيا, التي أصبحت عقبة كأداء حالت دون إقدام كثير من الشباب على الزواج.
__________
(1) 1- سورة النساء آية 4
(2) 2- الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي: العقوبة، للإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ص: 72.(4/28)
والسؤال الذي يطرح بهذا الصدد هل يجوز تحديد المهور , لاسيما وأن سيدنا عمر أراد ذلك إلا أنّه تراجع عن هذا الرأي بعد أن ناقشته امرأة مستدلة بقوله تعالى : (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا)(1) , وقال قولته المأثورة أصابت امرأة وأخطأ عمر(2)، وهذه المقولة التي يستدل بها الكثير على عدم جواز تحديد المهور قال عنها علماء الحديث أنه من الأحاديث المنكرة الضعيفة الإسناد(3)، فالذي قاله عمر رضي الله عنه:( لا تغالوا في مهور النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أحقكم بها محمد – صلى الله علية وسلم – وأولاكم، ما اصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية...)(4)، لذلك فلا يوجد دليل على المنع من تحديد المهور، بل أن تحقيق المصلحة العليا للمجتمع الإسلامي ومقاصد الشريعة تقتضي التحديد؛ إذ هو ارتشاف من فقه الواقع وفقه الأولويات.
المطلب الثالث
رعاية حقوق الأبناء
نصّت المادة الثانية من قانون الأحوال الشخصية الإماراتيّ على أنّه:
يرجع في فهم النصوص التشريعية في هذا القانون , وتفسيرها , وتأويلها , إلى أُصول الفقه الإسلاميّ وقواعده .
تطبق نصوص هذا القانون على جميع المسائل التي تناولتها في لفظها أو فحواها, ويرجع في تفسيرها واستكمال أحكامها إلى المذهب الفقهي الذي أخذت منه.
__________
(1) 3- سورة النساء آية 20
(2) 4- الجامع لأحكام القران , لأبي عبدا لله محمد بن أحمد الأنصّاري القرطبي، دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط5، سنة 1996م، 5/66.
(3) 5- مجموعة الرسائل الحديثية، علي رضي بن عبد الله ، سلسلة إصدارات الحكمة، بريطانيا، مانشستر، ط1، 1425هـ،1/159.
(4) 6 - المصنف: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تحقيق: حمد بن عبد الله الجمعة، ومحمد بن إبراهيم اللّحيدان، مكتبة الرشيد، الرياض، ط1، 1425هـ/ 2004م، 6/87، رقم 16512.(4/29)
و إذا لم يوجد نصّ في هذا القانون يحكم من مقتضى المشهور من مذهب مالك ثم مذهب أحمد ثم مذهب الشافعيّ ثم مذهب أبي حنيفة).
والمتدبر لأحكام الفقرة الأولى من المادة يبدو له بوضوح حرص القانون في الاحتكام إلى أُصول الفقه وقواعده في أيّ إشكال يحدث في فهم نصوصه وتفسيرها وتأويلها , والتي من أبرزها في هذا المجال الاجتهادات الفقهية باعتبار أنَّ النصوص تتناهى والوقائع لا تتناهى , وقد أكدت الفقرة الثانية من المادة نفسها هذا التوجه , إذ بينت بان يرجع في تفسير النصوص واستكمال أحكامها إلى المذهب الفقهي الذي أخذت منه بكلّ ما يعني هذا الرجوع من الالتزام بقواعد الاجتهاد وضوابطه في القضايا التي تتطلب إيضاحا أو تفسيرا أو تأويلا .
أما الفقرة الثالثة فإنّها فتحت الباب على مصراعيه للاجتهاد في حالة خلو القانون من نصّ يعالج الوقائع والقضايا , إذ اعتبرت المشهور من آراء أو فتاوى أو اجتهادات المذهب المالكيّ مصدرا للقانون وله قوة النصّ في حكمه , فإن لم يوجد فإنّه يمكن الرجوع إلى مذهب أحمد ثم مذهب الشافعي ثم مذهب أبي حنيفة , وهذا أكبر دليل على رجاحة عقل المشرع في ضرورة ، إيجاد الحلول لكافة القضايا والوقائع والإشكالات بشكل متسلسل ومنطقي ابتداءً من قواعد الفقه الإسلامي وأصوله ومرورا بالمرجع الفقهيّ الذي أخذ منه النصّ حكمه , و انتهاءً بتوسيع صلاحية القاضي بالحكم بمقتضى المشهور من المذاهب التي بينتها الفقرة الثالثة في حالة عدم وجود نصّ في القانون يعالج الواقعة أو المسألة.
كما نصّت المادة(144) على أنّه:(يشترط في الحاضن زيادة على الشروط المذكورة في المادة السابقة(143):
1- إذا كانت امرأة:
أن تكون خالية من زوج أجنبي عن المحضون دخل بها، إلا إذا قدرت المحكمة خلاف ذلك لمصلحة المحضون.
أن تتحد مع المحضون في الدين مع مراعاة حكم المادة(145) من هذا القانون.
إذا كان رجلاً:
أن يكون عنده من يصلح للحضانة من النساء.(4/30)
أن يكون ذا رحم محرم للمحضون إن كان أنثى.
أن يتحد مع المحضون في الدين.
ونصّت المادة(145) على أنّه:(إذا كانت الحاضنة أمًّا وهي على غير دين المحضون سقطت حضانتها إلا إذا قدر القاضي خلاف ذلك لمصلحة المحضون على ألا تزيد مدة حضانتها له على إتمامه خمس سنوات ذكراً كان أو أنثى).
ونصّت الفقرة السادسة من المادة(146) على أنه:(للأم حضانة أولادها عند النزاع على الحضانة، مالم يقرر القاضي خلاف ذلك لمصلحة المحضون)، كما نصّت الفقرة السابعة من المادة(146):(لكل من الأم والأب طلب ضم الأولاد له إذا كان بينهما نزاع وخرجت الأم من مسكن الزوجية ولو كانت الزوجية قائمة بينهما، ويفصل القاضي في الطلب اعتبارا بمصلحة الأولاد).
وأخيرًا نصّت المادة(147) على أنّه:( إذا لم يوجد الأبوان، ولم يقبل الحضانة مستحق لها، يختار القاضي من يراه صالحا من أقارب المحضون أو غيرهم أو أحد المؤسسات المؤهلة لهذا الغرض).
ومنِ استعراض أحكام هذه المواد جميعا، يتجلى بوضوح حرص القانون على تحقيق المقصود من الحضانة في الحفاظ على مصلحة المحضون بمعناها الواسع والتي تشمل تربيته ورعايته وتوجيهه وتقويمه وحفظه من كلّ الأخطار والمغريات التي يمكن أَنّ يتعرض لها.
والذي أراه أنّ ما أوردته المادة(142) بشأن بيان أغراض الحضانة إنما جاء على سبيل التعداد وليس الحصر، بدليل أنّ المواد المذكورة قد وسعت من مفهوم الحضانة وأهدافها عندما تركت للقاضي سلطة تقدير المصلحة الراجحة للمحضون، وعلى الرغم من الترتيب الذي أورته في الفقرة الأولى من المادة(146) والذي ألزم القاضي بمراعاته عند البت في مصلحة المحضون.(1)
__________
(1) 1- يثبت حق حضانة الطفل للأم ثم للمحارم من النساء مقدماً فيه من يدلي بالأم على من يدلي بالأب ومعتبراً فيه الأقرب من الجهتين وذلك باستثناء الأب على الترتيب التالي، على أن يراعى القاضي عند البت في ذلك مصلحة المحضون:
أ- الأم.
ب- الأب.
ج- أم الأم وإن علت.
د- أم الأب وإن علت.
هـ- الأخوات بتقديم الشقيقة ثم الأخت لأم، ثم الأخت لأب.
و- بنت الأخت الشقيقة.
ز- بنت الأخت لأم.
ح- الخالات بالترتيب المتقدم في الأخوات.
ط- بنت الأخت لأب.
ي- بنات الأخ بالترتيب المتقدم في الأخوات.
ك- العمات بالترتيب المذكور.
ل- خالات الأم بالترتيب المذكور.
م- خالات الأب بالترتيب المذكور.
ن- عمات الأم بالترتيب المذكور.
س- عمات الأب بالترتيب المذكور.(4/31)
وبذلك يتضح أنّ القانون رعى الأبناء رعايةً تحفظ لهم حقوقهم بل ويحفظ للزوجة-أعني الأم حقوقها- فيما نصّ عليه من خلال إعطاء مساحة معقولة من الحرية للقاضي يتوخى فيها تحقيق العدالة إثراءً لما نصّ علية القانون ولحسم بعض الجوانب التي لم ينص عليها، وهذه الحرية من مميزات القضاء الشرعي في الدولة الإسلامية لإحالتهم إلى ذلك المخزون الفقهي الواسع والموروث القضائي الكبير، بل هي رجوع إلى صفة القاضي الشرعي كما قال صاحب (معين الحكام):( القاضي مأمور بالقضاء بالحق، قال تعالى:( ياداود أنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، وإنما يمكنه القضاء بالحق إذا كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي، لأن الحوادث ممدودة، والنصوص معدودة؛ فلا يجد القاضي في كل حادثة نصّاً يفصل به الخصومة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه، وإنما يمكنه ذلك إذا كان عالما بالاجتهاد)(1)
المطلب الرابع
اعتماد البدائل الجديدة للدعوى
لجنة التوجيه الأسريّ
قد يسهم الزمن في حل الخلاف الزوجيّ، وكثيرا ما حصل في الحياة العملية أَنّ النجاح في تأخير الطلاق قد أسهم في إعادة العلاقات إلى طبيعتها بالنظر إلى ذهاب ثورة الغضب الآني والهياج النفسيّ ورغبة الإنسان في الانتقام ولو على حساب مصلحته، لذلك فقد جاءت المادة (16) من قانون الأحوال الشخصية لتضع حلقة في سلسلة المنهج الزمنيّ المطول التي عمدت الشريعة الإسلامية إلى وضعه للزوجين حرصا منها على منع الطلاق من الإيقاع أو الوقوع، إذ نصّت على أنّه:
(لا تقبل الدعوى أمام المحكمة في مسائل الأحوال الشخصية؛ إلا بعد عرضها على لجنة التوجيه الأسري.
__________
(1) 1- معين الحكام في ما يتردد بين الخصمين من الأحكام: علاء الدين أبو الحسن علي بن خليل الطرابلسيّ، القاهرة، المطبعة الميرية،1882م، ص13.(4/32)
إذا تم الصلح بين الأطراف أمام لجنة التوجيه الأسريّ، أثبت هذا الصلح في محضر، يوقع عليه الأطراف، وعضو اللجنة المختص، ويعتمد هذا المحضر من القاضي
المختص، ويكون له قوة السند التنفيذيّ، ولا يجوز الطعن فيه إلا إذا خالف أحكام هذا القانون.
يصدر وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف اللائحة التنفيذية المنظمة لعمل لجنة التوجيه الأسري).
والمتفحص لأحكام هذه المادة، يدرك حرص القانون على حل الخلاف الزوجي بوسائل غير قضائية، إذ أنّه برفضه قبول رفع الدعوى أمام المحكمة قبل أن تعرض القضية على لجنة التوجيه الأسري أراد أن يدخل وسائل وجهودا إضافية لحل الخلاف والشقاق بين الزوجين، وهي جهود اجتماعية وتربوية ونفسية فهذه اللجنة كما هو معروف عنها: جهاز اجتماعيّ يعمل فيه مجموعه من الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين الذين يعول عليهم في تقصي المشكلات التي تتعرض لها الأسرة، وتهيئة الجو العائليّ السليم الذي يكفل للأبناء نشأة صالحة، وتوجيه الأسرة لمصادر الخدمات المختلفة للمجتمع للاستفادة منها، ومعاونة محاكم الأحوال الشخصية في بحث أسباب المنازعات الزوجية والعائلية، واقتراح الحلول الملائمة لها، ونشر وتنمية الوعي الأسري لتفادي المشاكل والمنازعات الزوجية قبل وقوعها، وتباشر هذه المؤسسات دورا حيويا في تحقيق تماسك الأسرة وحمايتها من التصدع والانهيار من خلال التوجيه الخاص للزوجين بإفراد جلسات خاصة لكلا الزوجين وتقديم الخدمات الاستشارية لهما، وهذه الاستشارات تسهم في رأب الصدع وتنقية الأجواء وإعادة المياه إلى مجاريها(1).
__________
(1) - انظر: مدخل في رعاية الأسرة والطفولة، السيد رمضان، 55\56\200\201.(4/33)
وقد أكدت الفقرة الثانية من المادة (16) أهمية الصلح الذي تتوصل إليه لجنة التوجيه الأسريّ إذا اعتمد من القاضي المختص، حيث تكون له قوة السند التنفيذيّ، أي: تكون له قوة الشيء المقضي فيه إذ يكون باتاً ولا يجوز الطعن فيه بأيّ طريق من طرق الطعن، إلا إذا خالف أحكام القانون.
فإذا وفقت لجنة التوجيه الأسريّ في تحقيق التقارب بين الأطراف المتنازعة وصولا إلى الصلح فعليها إتباع خطوات توثيق هذا الاتفاق وفقاً لما نصت عليه الفقرة الثانية المذكورة:(إذا تم الصلح بين الأطراف أمام لجنة التوجيه الأسري اثبت هذا الصلح في محضرٍ، يوقع علية الأطراف، وعضو اللجنة المختص، ويعتمد هذا المحضر من القاضي المختص، ويكون له قوة السند التنفيذي، ولا يجوز الطعن فيه، بأي طريق من طرق الطعن إلا إذا خالف أحكام هذا القانون).
والذي يمكن قوله: أنّ الصلح الذي توصل إليه الأطراف أمام لجنة التوجيه الأسريّ يمثل التحكيم بالصلح، والذي لايتقيد فيه المحكمون بنصوص القانون(وهم أعضاء لجنة التوجيه الأسريّ من الاختصاصين الذين تم ذكرهم) إنما يصدر هذا الصلح وفقا لقواعد العدالة وأَنٌ يكون هذا الصلح منطقيا ومعقولاً يأخذ بالاعتبار كافة الظروف المحيطة بالقضية، وحرصاً على أَنٌ يكون لهذا الصلح قوة السند التنفيذي وفقاً لمفهوم المخالفة لنصّ الفقرة المذكورة، ينبغي أن يتقيد بعدم مخالفته للنظام العام والآداب والقيم التي تضمنتها الشريعة الإسلامية ومبادئها الأساسية ومقاصدها العليا ،التي حرص القانون على حمايتها ورعايتها والمحافظة عليها، وهو ما نصّت علية الفقرة الثانية صراحةً بقولها:(ولا يجوز الطعن فيه بأيّ طريق من طرق الطعن إلا إذا خالف أحكام هذا القانون).(4/34)
ومخالفة أحكام هذا القانون كما بينا آنفاً تتمثل في مخالفة النظام العام باعتباره القيد الأساس لكافة التصرفات القانونية والأحكام القضائية والتحكيمية وتؤدي مخالفته إلى بطلان هذه التصرفات والأحكام، وهذا يعني أنّه لا يجوز الطعن بقرار اللجنة بطرق الطعن العادية إذا كان موافقًا لأحكام قانون الأحوال الشخصية، ومادام أنّ قانون الأحوال الشخصية قد أحال النزاع بين الطرفين إلى لجنة التوجيه الأسريّ ومنع قبول الدعوى أمام المحكمة المختصة فهذا يعني أنّه قبل أن تكون هذه المنازعات موضوع اتفاق تحكيم وفقا للقواعد العامة ومن ثم جواز الصلح فيها بالنصّ الصريح الذي لا لبس فيه.
وفي حالة عدم التوصل إلى الإصلاح بينهما عرض القاضي الصلح عليهما، فقد جاء في الفقرة(1) من المادة(118): (... وتعذر على لجنة التوجيه الأسري والقاضي الإصلاح بينهما، عين القاضي بحكم حكمين من أهليهما إن أمكن بعد أن يكلف كلا من الزوجين تسمية حكم من أهله قدر الإمكان في الجلسة التالية على الأكثر، وإلا فمن يتوسم فيه الخبرة والقدرة على الإصلاح، إذا تقاعس أحد الزوجين عن تسمية حكمه،... ويكون هذا الحكم غير قابل للطعن فيه).
وهذا يعني أن الزوجين لا يحالان إلى القاضي المختص إلا بعد أن تستنفذ جميع وسائل الإصلاح الممكنة، وهذا بدوره يفتح الباب واسعا للتخفيف من حالات الطلاق والتقليل من نسبته(1).
وقد شرحت المواد (118 – 121)عمل الحكمين وعلاقتهما بالمحكمة و الزوجين المتنازعين وصولا إلى الحكم في القضية.
__________
(1) - 1انظر قرار وزاري 542لسنة2003 صادر عن وزير العدل للشؤون الإسلامية والأوقاف لدولة الأمارات العربية المتحدة.(4/35)
وبعد التدبر في أحكام هذه القضية ابتداءً من عرضها على لجنة التوجيه الأسريّ مرورا بالحكمين وانتهاءً بما يصدره القاضي من قرار، يظهر له بوضوح أنّ من واجب القضاء الشرعيّ أنٌ يرفع النزاع والشقاق بين الزوجين ويقطع الخصومة بينهما، كما يبدو أيضا حرص القضاء الشرعيّ المعاصر على تحقيق الصلح بين الزوجين بكلّ الوسائل المتاحة استمرارا للحياة الزوجية حتى يسودها الهدوء والمحبة والتراحم، وعلى القاضي أنٌ يعمل جاهدا من أجل الحفاظ على العلاقات الزوجية وإعادتها إلى سابق عهدها، حرصا على بناء الأسرة وتكافلها وتماسكها، وحماية للحياة الزوجية من التفكك والتصدع، وما يترتب عليه من آثار سيئة على الأبناء، لأنّ العلاقة الأسرية ليست علاقة ثنائية بين الرجل والمرأة وحدهما، ولكنّها علاقة متعددة الأطراف تشمل الزوجين والأولاد، وللأبناء حقوق على الآباء يغفلها كثير من الآباء والأمهات، بل لا يعلمون بوجودها أصلا(1).
فإن ضاع الأولاد ضاع المجتمع وضاعت الأمة، ومتى ما فقد الأبناء الشفقة والعناية والرعاية والدفء والحنان، بحثوا عمن يوفر لهم هذه المعاني، وذهبوا ضحية الفوضى الأخلاقية والتربوية، والولد الذي ينشأ في وسطٍ كهذا يكون مستعداً لأن يقترف الرذيلة والجريمة (2).
__________
(1) 2-الفقه الإسلامي في طريق التجديد، دكتور محمد سليم العوا ، ص:80.
(2) 1- ا لصلح في القضاء الإسلامي ودوره في إصلاح وتنقية المجتمع، بحث مقدم إلى المنتدى القضائيّ الأول الذي أقامه المكتب الفني برئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر 1419هـ-1998م، الأستاذ الدكتور محمد شلال العاني، ص:24.(4/36)
فإذا أضيفت إلى هذه المدة الزمنية للحكمين التي حددها القانون وفقا لما بينته المادة(118) الفقرة الثانية:(ويجب أن يشمل حكم تعيين حكمين على تأريخ بدء المدة وانتهائها، على ألا تتجاوز مدة تسعين يوما، ويجوز مدها بقرار من المحكمة، وتعلن المحكمة الحكمين والخصوم بحكم تعين الحكمين وعليها تحليف كلّ من الحكمين اليمين بأن يقوم بمهمته بعدل وأمانةٍ) إلى المدة الزمنية التي تعقب ذلك في حالة عدم وصول الحكمين إلى حل النزاع، فلابد من إعداد الزوجة للطلاق حيث يدعها تحيض ثم تطهر ثم لايواقعها في ذلك الطهر ، ثم يطلقها في هذا الطهر الذي لم يواقعها فيه حيث تدخل المدة الزمنية الثالثة، وهي مدة العدة وهي لاتقل عن ثلاثة أشهر وقد تزيد، وقد تمتد شهورا إذا كانت الزوجة المطلقة حاملاً، وتبقى الزوجة المطلقة في بيت زوجها أثناء العدة على أمل أن تكون الرؤية اليومية بينهما عاملا من عوامل الرجعة، هذا الوجود وما يرافقه من مشاعر وأحاسيس قد يكون سببا في عودة المياه إلى مجاريها، أو يخفف من الشقاق والخلاف، أو يكون وسيلة للحوار والتفاهم، فضلاً عن أنّها مازالت من الناحية الشرعية على ذمة زوجها.
وقد أثبتت الوقائع العملية أنَّ كثيرا من الزوجات قد تراجعت عن طلبها في إيقاع الطلاق، بعد أَنٌ تقومت أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها اتجاه زوجها، والمهم أن يكون هذا التراجع منبعه دوافع نفسية ذاتية بنية طيبة وإرادة حرة غير مكرهة، دفعها إلى إعادة النظر في موقفها والعدول عن الطلاق بعد أَن وجدت الاستمرار في الحياة الزوجية هو أفضل الخيارات والبدائل المتاحة لها، فإيثار السلامة والأمان النفسيّ والانسجام خير من القلق والخوف واللجاجة في الخصومة، وهو متطابق مع حكمة الشريعة ومقاصدها في إقامة الأسرة على أساس من الاستقرار والطمأنينة، فإجراءات التطليق السنيّ تقوم على أساس إعطاء الزوجين فرصة زمنية كافية للتراجع والمراجعة.(4/37)
ومن هنا يظهر أنَّ القانون الجديد حاول أَنٌ يلجأ إلى وسائل لحل المنازعات أقل عبئا في إجراءات التقاضي التقليدية حرصا على تخفيض حجم العمل القضائي والتأخر في حسم الدعاوى، وحسناً فعل فهو قد أخذ بأفضل الحلول البديلة للمنازعات من جهة وتحقيق مصلحة الأسرة والزوجين من جهة أخرى.
المطلب الخامس
الارتقاء بالتسامع إلى مرتبة الشهادة
التسامع هو: استفاضة الخبر واشتهاره بين الناس(1).
واختلف الفقهاء في بيان المراد بالتسامع، فيرى جمهور الفقهاء هو: أَنٌ تتواتر به الأخبار ليحصل للسامع نوع من اليقين.(2)
وفي مذهب الحنفية هو: أَنٌ يخبر الشاهد رجلان أو عدل وامرأتان(3)،وتوسط المالكية فقالوا: أَنٌُ يكون المنقول عنه غير معين ولا محصور، بأنٌ ينتشر المسموع به بين الناس العدول وغيرهم، واشترطوا أن يقول الشهود: سمعنا كذا ونحو ذلك.(4)
ومهما كان تحديد الفقهاء لمفهوم التسامع فإنَّ القانون ارتقى بالتسامع إلى مرتبة الشهادة؛ إذ طلب من القاضي أَنٌ يقبل الدعوى من المرأة التي تطلب التطليق بسبب الضرر، إذا ماثبت هذا الضرر بطرق الإثبات الشرعية، الإقرار أو البينة بل نصّت المادة ( 122) على أنّه:(...وتقبل الشهادة بالتسامع إذا فسر الشاهد أو فهم من كلامه اشتهار الضرر في محيط حياة الزوجين حسب ما تقرره المحكمة، ولا تقبل الشهادة بالتسامع على نفي الضرر...).
__________
(1) 1- أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، دكتور علي أحمد القليصي، 2\268.
(2) 2- المغني لابن قدامه،9\162، غآية البيان شرح زيد بن رسلان، شمس الدين بن احمد بن شهاب الدين الرملي ، دار إحياء الكتب العربية لعيسى ألبابي الحلبي وشركائه ص 369.
(3) 3- شرح فتح القدير، الكمال بن الهمام،7\388.
(4) 4 - حاشية الدسوقي،4\195- 196.(4/38)
وفي هذه المادة حماية جديدة أضافها القانون للمرأة حتى لا تكون عرضة للاعتداء عليها؛ إذ جعل انتشار الخبر في محيط الأسرة والبيوتات التي تجاورها وسيلة من وسائل الإثبات، إذا ماقدمها الشاهد للمحكمة كقوله: أنّ كلّ أهل الحي يعرفون ويسمعون الضرر الذي يوقعه هذا الرجل على زوجته، سواء كان هذا الضرر ماديًا أو معنوي.
الخاتمة:
قانون الأحوال الشخصية الجديد، هو أحدث قانون في البلاد العربية والإسلامية، ويمكن القول بأنّه استفاد منها جميعا وأخذ أحسن ما فيها.
هذا القانون مستمد بكافة مواده من الشريعة الغراء.
هذا القانون استفاد من جميع المذاهب الفقهية دون الالتزام بمذهب معين، بل أخذ بالأنسب لهذا العصر من كلّ مذهب بما يحقق مصلحة الأمة، والمجتمع، والأسرة، والأفراد.
القانون الجديد قد أنصف المرأة وحمى الأسرة من التفكك والضياع.
استفاد القانون من انفتاحه على المذاهب الأخرى، التي تلقاها المسلمون بالقبول، وانفتاحه على قوانين الأسرة في العالم العربيّ، مما جعله يتسم بالشمول والدقة والتيسير والمصلحة.
على الرغم من التوجهات الجيدة في القانون فقد يعتريه عدم الوضوح في بعض المواد القانونية كمسألة عضل الولي في الزواج، والقول ببطلان العقد الذي تتولاه المرأة بنفسها.
القانون بحاجة إلى قضاة متمسكين بعقيدتهم الإسلامية وأخلاقهم المثالية، ظاهرين على الحق ماسكين لميزان العدل بأيد لا ترتجف وقلوب تحركها خشية الله تعالى، يشعرون بحجم ثقل المسؤولية التي كلفهم الله تعالى بحملها، وإعطاء النموذج للقضاء الشرعي الذي باتت الأمة بحاجة إليه بعد أن استنفدت القوانين ما لديها من نظم وأحكام، أوقعت البشرية في متاهات من الظلم وقساوة من الأحكام وانهيار في الثوابت.(4/39)
يجب تفعيل لجنة التوجيه الأسريّ لكونها المأمن من الوصول إلى الطلاق، خاصةً، إذا اختير لها الأكفاء ممن عرفوا بحصافة الرأي، ومتانة الخلق، وقوة الدين، ورضى الناس عنهم، ويكون أحدهم من له معرفة بأحكام الشرع دون تزمت ولا تسيب، وآخر له معرفة بالأعراف والعادات والتقاليد، وهكذا تتعدد مواهب واختصاصات لجنة التوجيه الأسري.
تعد قضايا المرأة من أخطر الأمور التي يحاول أعداء الإسلام الدخول من خلالها للنيل من الإسلام، وتضمن القانون أكثر من خمسين مادة تخص المرأة أبرز لها من الحقوق ما تعجز قوانين دول متقدمة أن تمنحه للمرأة، ومن أهمها إضافة لما ذكرته في ثنايا البحث: الذمة المالية، وحرية تصرف المرأة بأموالها الخاصة دون حاجة إلى إذن الزوج في ذلك.
أقترح بإضافة فقرة جديدة للمادة (30) لتكون الفقرة الخامسة وكما يلي:(إذا تقدم للمرأة كفء، أو طلبت الزواج من كفء وامتنع الولي عن تزويجها جاز لها رفع الأمر إلى القاضي).
أقترح إعادة صياغة المادة (39) لتكون كما يأتي: (يتولى ولي المرأة البالغة عقد زواجها برضاها فان تولت العقد بنفسها وجب التفريق بينهما قبل الدخول).
وأخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين .
المصادر والمراجع
أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية، الدكتور علي أحمد القليصي, دار النشر للجامعات صنعاء، ط6، 2002.
إعلام الموقعين عن ربّ العالمين، لشمس الدين أبي الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الرحمن الوكيل ، القاهرة دار الكتب الحديثة 1969م.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، العلامة علاء الدين بن أبي بكر بن مسعود الكاسانيّ، مطبعة الإمام، الناشر زكريا علي يوسف.
الجامع لإحكام القران، لأبي عبد الله محمد بن احمد الأنصّاري القرطبي، ط5، 1996م، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي القاهرة.(4/40)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للعلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقيّ، مطبعة عيسى ألبابي الحلبيّ.
درر الحكام شرح مجلة الأحكام، علي حيدر، تعريب المحامي فهمي الحسيني، دار الجيل بيروت.
سيرة النبيّ -صلى الله علية وسلم-، المعروفة بسيرة ابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميريّ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبعة كتاب التحرير، القاهرة، سنة 1384هـ.
سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمود محمد محمود، وحسن نصار، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1419هـ
سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،دار الكتب العلمية بيروت.
سنن الدار قطني: علي بن عمر الدار قطني، تحقيق شعب الأرنؤوط، وحسن عبد المنعم شلبي، وهيثم عبد الغفور مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1424هـ/ 2004م.
شرح فتح القدير, كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان, ط1, 1995.
ا لصلح في القضاء الإسلامي ودوره في إصلاح وتنقية المجتمع الأستاذ الدكتور محمد شلال العانيّ، بحث مقدم إلى المنتدى القضائي الأول الذي أقامه المكتب الفني برئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر 1419هـ-1998م،.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية بيروت.
غاية البيان شرح زبد بن رسلان، شمس الدين بن احمد بن شهاب الدين الرمليّ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه.
فتح البارئ شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت لبنان، 1996م.
الفروق، للقرافيّ, دار المعرفة بيروت.
فلسفة التشريع في الإسلام، دكتور صبحي المحمصاني.
الفقه الإسلامي في طريق التجديد، دكتور محمد سليم العوا.(4/41)
الفحص الطبيّ قبل الزواج، سمير غويبة، سلسلة الإصدارات العلمية لمؤسسة صندوق الزواج في الإمارات، ط1، 2002.
قوانين الأحكام الشرعية، محمد بن احمد بن محمد بن جزيّ، مطبعة دار العلم للملايين 1979م.
القضاء بالقرائن المعاصرة، دكتور إبراهيم بن ناصر الحمود، بحث منشور على شبكة المعلومات الانترنت.www.islamtoday.net
القواعد الفقهية، للأستاذ الدكتور محمد الزحيليّ، دار المكتبيّ للطباعة والنشر دمشق- ط1، 1998 .
المجموع شرح المهذب، لأبي يحيى زكريا محمد بن احمد النوويّ.
مجموعة الرسائل الحديثية، علي رضى بن عبدالله، سلسلة إصدارات الحكمة، بريطانيا، مانشستر، ط1، 1425هـ.
المحلى، لأبي محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم الظاهريّ الأندلسيّ، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي دار الجيل بيروت.
المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، دكتور عبدالكريم زيدان، دار الوفاء، ط12، 1992.
مدخل في رعاية الأسرة والطفولة، السيد رمضان.
مستجدات فقهية في قضايا الزواج، أسامة الأشقر، ط1، دار النفائس، عمان.
المصلحة المرسلة وبعض تطبيقاتها المعاصرة بالمجال الأسري , دكتور عبد الرحمن الكيلاني.
المصنف، عبدالله بن محمد بن أبي شيبه، تحقيق حمد بن عبدالله الجمعة، ومحمد بن إبراهيم اللحيدان، مكتبة الرشيد، الرياض،ط1، 1425هـ/2004م.
معين الحكام في ما يتردد بين الخصمين من الأحكام، علاء الدين أبو الحسن علي بن خليل الطرابلسيّ، القاهرة، المطبعة الميرية، 1882م.
مغني المحتاج شرح المنهاج، الشيخ محمد بن احمد الشربيني الخطيب، الناشر المكتبة الإسلامية.
المغني، لموفق الدين أبي محمد عبدالله بن احمد بن محمد بن قدامه المقدسيّ، دار الكتاب العربي بيروت 1972م.
موطأ مالك مع شرحه، لأبي عبدالله محمد عبد الباقي بن يوسف الزرقانيّ، طبعة مصطفى البابي الحلبي الأولى، سنة 1381هـ .
الموسوعة الفقهية, وزارة الأوقاف الكويتية.(4/42)
ندوة الفحص الطبيّ قبل الزواج من منظور طبيّ وشرعيّ، تحرير فاروق بدران وعادل بدرانة، مجلة البحوث الفقهية، عدد 36 ، السنة التاسعة، الرياض السعودية.(4/43)
بسم الله الرحمن الرحيم
الإثبات بالإقرار أمام القضاء الشرعي المعاصر في السودان
د . محمد سليمان النور
جامعة الشارقة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قد أصبح القضاء الشرعي المعاصر في السودان هو صاحب الولاية في جميع القضايا ، ولم يعد مقتصرا على الأحوال الشخصية كما كان في بعض الأزمنة السابقة ؛ حيث توجد اليوم في السودان قوانين مأخوذة من الفقه الإسلامي تغطي جميع الجوانب القضائية : الجنائية ، والمدنية ، والأحوال الشخصية ، والإثبات ، والإجراءات المدنية والجنائية ، وغيرها ، والإقرار سيد الأدلة ، وأهميته في الإثبات ليست بخافية ، كما أن دراسة هذه القوانين ، وبيان جوانبها الإيجابية والسلبية من الأهمية بمكان ؛ لذا جعلت هذا البحث عن الإثبات بالإقرار أمام القضاء الشرعي المعاصر في السودان – حيث أصبح القضاء كله شرعيا بفضل الله تعالى - ، وقد قمت فيه بالرجوع إلى القوانين السودانية ذات العلاقة وشروحها ، وكتب الفقه الإسلامي ؛ وذلك لبيان ما أخذ به القانون في الإثبات بالإقرار أمام القضاء ، وموقف الفقه منه .
وقد تضمن البحث ما يلي :
المبحث الأول : تاريخ القضاء الشرعي في السودان وواقعه المعاصر
المبحث الثاني : الإقرار وأثره في الفقه الإسلامي
المبحث الثالث : الأحكام العامة للإقرار في قانون الإثبات
المبحث الرابع : الإثبات بالإقرار في القضايا الجنائية
المبحث الخامس : الإثبات بالإقرار في المعاملات
المبحث السادس : الإثبات بالإقرار في الأحوال الشخصية
المبحث السابع : أثر الرجوع عن الإقرار
الخاتمة
المبحث الأول
تاريخ القضاء الشرعي في السودان وواقعه المعاصر
تمهيد(5/1)
عندما فتح المسلمون مصر واستقر لهم الحال ، بعث واليها عمرو بن العاص : عبد الله بن سعد بن أبي السرح على جيش كبير إلى بلاد النوبة (السودان) ، فعقد معهم صلحا واتفاقية شهيرة في دنقلا ، وبعد ذلك بدأ جمع من العرب يهاجرون إلى السودان ، وتوغلوا في البلاد واختلطوا بأهلها ، ووفد علماء الحجاز ، فنشروا الإسلام ، والفقه الإسلامي .
وفي سنة 1276 م قضى الظاهر بيبرس على مملكة المقرة المسيحية في شمال السودان . كما استولى العرب الذين هاجروا إلى السودان بتحالف مع الفونج على مملكة علوة (المسيحية) ، وخربوا عاصمتها سوبا (جزء من ولاية الخرطوم الآن). بعد ذلك قامت في السودان دولة إسلامية هي سلطنة الفونج ، سنة 1504م ، واستمرت حتى 1821 م عندما غزا محمد علي حاكم مصر السودان .
تاريخ القضاء في السودان :
يمكن استعراض تاريخ القضاء في السودان على النحو التالي :
أولا : القضاء في عهد الفونج (السلطنة الزرقاء ) :
قامت سلطنة الفونج الإسلامية عام 1504م على أنقاض مملكة علوة ، واتخذت سنار عاصمة لها ، وكانت تمثل كل السودان عدا كردفان ودارفور ، وكانت المرجعية التشريعية فيها هي الشريعة الإسلامية ، وتوافد الناس نحو الأزهر طلبا للعلم ، وصار المذهب المالكي مذهب البلاد .
ثانيا : القضاء في سلطنة دارفور :
ضمت سلطنة دارفور كردفان ودارفور ، وظل القضاء فيها يطبق المذهب المالكي ، وأدى تشجيع العلم إلى توافد العلماء من تونس ومصر وسنار إلى دارفور ، كما شجعت دار فور مواطنيها على طلب العلم في الأزهر الشريف فكوّنوا فيه : "رواق دارفور ".
ثالثا : النظام القضائي في عهد التركية (1821- 1885م) :
نظمت الإدارة التركية القضاء مع غيره من مرافق الدولة فأنشأت المحاكم الشرعية وعينت قاضي عموم السودان ( رئيس القضاء ) ، وأول من شغله هو محمد الأسيوطي الحنفي .(5/2)
سار البلد على المذهب الحنفي ؛ لأنه المذهب الرسمي للدولة التركية رغم أن الحملة التركية اصطحبت معها ثلاثة علماء يمثلون المذاهب المختلفة .
رابعا : النظام القضائي في عهد المهدية ( 1881-1898م) :
قامت الثورة المهدية ضد الاستبداد التركي المصري الذي أدى إلى تذويب الهوية الحضارية بتطبيق قوانين تخالف الشريعة الإسلامية ، وكان المصدر الأساسي للتشريع في دولة المهدية هو الكتاب ، والسنة ، ومنشورات الإمام المهدي التي كانت بمثابة تقنين وقواعد قضائية يستهدي بها القضاة ، وقد حاول المهدي تجاوز الاختلافات المذهبية في هذه المنشورات ، ووجه بأنه في حالة غياب النص يعمل بالمذهب المالكي .
خامسا : النظام القضائي في فترة الحكم الثنائي ( 1898-1956) :
كانت أولى خطوات الحكم الثنائي الإنجليزي المصري بعد قضائه على حكم المهدية إلغاء الشريعة الإسلامية في السودان - ماعدا دارفور التي ظلت عصية على الغزاة تطبق فيها الشريعة - ولم يبق من تطبيق الشريعة الإسلامية إلا مسائل الأحوال الشخصية ، واقتبس الإنجليز مما طبقوه على الهند من قوانينهم ليكون نواة النظام القانوني في السودان الجديد ، إلا أن القانون المصري وجد سبيله للتطبيق في السودان حتى صدور قانون القضاء المدني السوداني لسنة 1900م ، وهذا القانون منقول عن القانون الهندي ، وفي حال غياب النص تطبق المحكمة مبادئ العدالة والإنصاف والوجدان السليم .
لقد سعى المستعمر إلى التفريق بين ما أسماه القضاء الشرعي والمدني ؛ حيث كان القضاء الشرعي يأتي في المرتبة الثانية ، وكانت درجة رئيس القضاء المدني أعلى من قاضي القضاة – رئيس القضاء الشرعي - ، وحتى الزي فيه اختلاف يعكس التهميش المتعمد للقضاء الشرعي .
سادساً : النظام القضائي بعد الاستقلال (1956-2004م ) :(5/3)
صدر قانون الحكم الذاتي ولأول مرة كفل للقضاء استقلاله ، ومنع السلطتين التنفيذية والتشريعية من التدخل في أعماله ، أو محاولة التأثير عليه ، وصارت الهيئة القضائية حارسة دستور 1956م المؤقت ، ولها حق تفسيره ، واستمر العمل هكذا حتى عام 1958 م حيث كان انقلاب عبود الذي عطل الدستور ، وأصدر قانون المجلس المركزي ، ثم جاءت ثورة أكتوبر 1964م فأعادت العمل بالدستور المؤقت ، ولكن في عام 1966م تم فصل القضاء الشرعي عن المدني ، وإنشاء محكمة استئناف مدنية عليا ، وشرعية عليا ، ثم دمجا عام 1972م ، ثم فصلا عام 1976م ، ثم كان الدمج الأخير في عام 1983م .
ولعل أبرز ملامح هذه الفترة إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1983م ، حيث صدرت القوانين بعد صياغتها وفق مبادئ ومقاصد الشريعة الإسلامية ، وذلك في سبتمبر 1983م .
وصدر قانون الهيئة القضائية عام 1983م ، والذي نص على أن ولاية القضاء في السودان لجهة قضائية واحدة تسمى الهيئة القضائية ، وتكون مسؤولة مباشرة لدى رئيس الجمهورية عن أداء أعمالها ، كما اشتمل القانون على تكوين المحكمة العليا والأجهزة القضائية بحيث ينشأ جهاز قضائي في كل إقليم .
قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983م :
تنص المادة (6) من القانون في الفقرة (2 ) : " في المسائل التي لا يحكمها أي نص تشريعي تطبق المحاكم الشريعة الإسلامية والمبادئ التي استقرت قضاء في السودان والعرف والعدالة والوجدان السليم " .
النظام القضائي في ظل دستور 1998م :
اعتمد دستور جمهورية السودان لسنة 1998م بعد أن ظلت حكومة الإنقاذ بلا دستور لتسع سنوات تحكمها المراسيم بعد أن جمدت دستور 1985م ، و بعد انتقالها من مرحلة الثورة إلى مرحلة الشرعية الدستورية .
وقد أفرد هذا الدستور الباب الخامس للنظام العدلي ، وجعل على قمة هذا النظام الهيئة القضائية وأفرد لها الفصل الأول في هذا الباب .(5/4)
ونصت المادة (99) من دستور 1998م على أن ولاية القضاء في جمهورية السودان لهيئة مستقلة تسمى الهيئة القضائية تتولى سلطة القضاء فصلا للخصومات وحكما فيها وفق الدستور والقانون ، كما نصت المادة (100 ) على أن الهيئة القضائية مسؤولة عن أداء أعمالها مباشرة أمام رئيس الجمهورية .
وتجدر الإشارة إلى أنه نشأت محكمة دستورية بموجب دستور 1998 م ، وحددت المادة (11) من قانونها لسنة 1998 م اختصاصاتها ، وهذه المحكمة مستقلة عن الهيئة القضائية إداريا وماليا .
استقلال القضاء :
نصت المادة (101) على أن : القضاة مستقلون في أداء واجباتهم ، ولهم الولاية القضائية الكاملة فيما يلي اختصاصهم ، ولا يجوز التأثير عليهم في أحكامهم ، ويهتدي القاضي بمبدأ سيادة الدستور والقانون ، وعليه حماية هذا المبدأ متوخيا إقامة العدل باتقان وتجرد دون خشية أو محاباة .
وأوجبت الفقرة (3) على أجهزة الدولة تنفيذ أحكام القضاء .
الهيكل القضائي :
المادة (103) من الدستور : يتكون الهيكل القضائي من محكمة عليا ، ومحاكم استئناف ، ومحاكم أولية ، وينظم الهيكل قانون يحدد الأقسام ، والاختصاصات ، وأية مسائل أخرى تتعلق بها .(1)
المبحث الثاني
الإقرار وأثره في الفقه الإسلامي
يشتمل هذا المبحث على ما يلي :
تعريف الإقرار
مشروعية الإقرار وأثره
حكم إقرار الإنسان بما عليه من الحقوق
أولا : تعريف الإقرار
تعريف الإقرار لغة :
الإقرار : الإذعان للحق والاعتراف به (2)
تعريف الإقرار اصطلاحا :
عرفه الحنفية بأنه : " إخبار بحق عليه للغير من وجه ، إنشاء من وجه "(3).
__________
(1) مبحث : " تاريخ القضاء الشرعي في السودان وواقعه المعاصر " ملخص من : محمد خليفة حامد ، تاريخ النظام القضائي في السودان 1504 م – 2004 م الملامح والتطور
(2) ابن منظور ، لسان العرب ، 5/88 ، الزاوي ، ترتيب القاموس المحيط ، 3/588
(3) الحصكفي ، الدر المختار ،5/588(5/5)
وعرفه المالكية بأنه : " الاعتراف بما يوجب حقا على قائله بشرطه" (1) .
وعرفه الشافعية بأنه : " إخبار خاص عن حق سابق على المخبر"(2)
وعرفه الحنابلة بأنه : " إظهار مكلف مختار ما عليه بلفظ ، أو كتابة ، أو إشارة أخرس ، أو على موكله ، أو موليه ، أو مورثه بما يمكن صدقه " (3)
وهذه التعريفات تتفق في أن الإقرار إخبار من المقر عن حق عليه ، فهي مع اختلاف ألفاظها متفقة في هذا المعنى ، ويعود الاختلاف في الألفاظ إلى ذكر بعض التعريفات لبعض شروط الإقرار ، وعدم ذكر البعض الآخر لها ، والله أعلم .
ثانيا : مشروعية الإقرار وأثره
الإقرار مشروع باتفاق الفقهاء ، وأثره أن المقر مؤاخذ بما أقر به سواء أكان المقر به حقا لله كالحدود الخالصة لله – تعالى – أم للآدمي كالمال والقصاص وحد القذف (4)، قال ابن رشد – رحمه الله - : " وأما الإقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به " (5)
الأدلة :
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ) – النساء 135 – وجه الاستدلال : أن النص الكريم طلب من المؤمنين العدل وقول الحق ولو على النفس ، وقال المفسرون إن الشهادة على النفس إقرار ، فلو كان الإقرار غير مشروع لما جاز طلب الإتيان به طلبا حثيثا قويا (6)
__________
(1) الدردير ، الشرح الصغير ، 2/190
(2) الهيتمي , تحفة المحتاج ، 4/354
(3) البهوتي ، شرح منتهى الإرادات ، 3/569 ، وهذا لفظ منتهى الإرادات
(4) ابن فرحون ، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 2/56 ، الدردير، الشرح الصغير 2/190 ، البجيرمي ، التجريد لنفع العبيد (حاشية البجيرمي)، 3/71 ، ابن قدامة ، المغني 5/87
(5) ابن رشد الحفيد ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2/ص352
(6) الحصري ، علم القضاء ، 2/13(5/6)
قوله تعالى : ( وليملل الذي عليه الحق ) – البقرة 282 – أمره بالإملال ، فلو لم يقبل إقراره لما كان لإملاله معنى (1)
عن أنس – رضي الله عنه – أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين ، فقيل لها : من فعل بك هذا ؟ أفلان ؟ أفلان ؟ حتى سمي اليهودي فأومت برأسها ، فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرض رأسه بالحجارة (2)
في حديث العسيف (3) أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنيساً الأسلمي أن يأتي المرأة فيرجمها إن اعترفت بالزنا ، فاعترفت فرجمها (4) .
رجم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ماعزاً والغامدية لما أقرا بالزنا (5) ، فإذا وجب الحد بإقراره على نفسه فالمال أولى أن يجب (6).
ولأن الإقرار إخبار ينفي التهمة والريبة عن المقر ؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضر بها ، ولهذا كان الإقرار آكد من الشهادة (7)
__________
(1) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ، الموسوعة الفقهية ، مادة : إقرار
(2) السجستاني ، سنن أبي داود ، 4/673 كتاب الحدود – باب القود بغير الحديد رقم 4535
(3) العسيف : الأجير . ترتيب القاموس المحيط 3/224 ،ابن منظور ، لسان العرب 9/246
(4) متفق عليه : صحيح البخاري ، 6/2510 ، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة ، باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا ... برقم 6451 ، صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنى برقم 1697 و 1698
(5) صحيح مسلم 3/1322 ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفسه بالزنى
(6) الزيلعي ، تبيين الحقائق ، 5/3
(7) ابن قدامة ، المغني 5/87 ، الشربيني ، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ، 2/238(5/7)
والإقرار حجة قاصرة على المقر وحده ، ولا يكون حجة على غيره (1) ؛ لما رواه الحاكم عن " سهل بن سعد - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنه زنى بامرأة سماها وأنكرت فحده وتركها " وقال الحاكم : " هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه " (2).
ثالثا : حكم إقرار الإنسان بما عليه من الحقوق
فيما يتعلق بحق الآدمي كالمال والقتل والقذف يجب عليه أن يقر به ليستوفى منه ؛ لما في حقوق الآدميين من التضييق .
ويستحب لمن ارتكب معصية تتعلق بحق الله- تعالى - الستر على نفسه ، لقوله – صلى الله عليه وسلم - : " اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ، فمن ألم فليستتر بستر الله ، وليتب إلى الله ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله – عز وجل – " (3) فإظهارها ليحد أو يعزر خلاف المستحب (4) .
ويكره لمن علم بحال من ارتكب معصية تتعلق بحق الله أن يحثه على الإقرار (5) ؛ لما روي عن النبي أنه قال لهزال وقد كان أمر ماعزاً أن يأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – فيخبره بأنه زنى : " لو سترته بثوبك كان خيرا لك "(6)
المبحث الثالث
الأحكام العامة للإقرار في قانون الإثبات السوداني
ويشتمل على ما يلي :
أولا : تعريف الإقرار في قانون الإثبات
ثانيا : أنواع الإقرار في قانون الإثبات
ثالثا : صور الإقرار
رابعا : شروط المقر
خامسا : حالات عدم صحة الإقرار
أولا : تعريف الإقرار في قانون الإثبات
__________
(1) تبيين الحقائق 5/3
(2) المستدرك ، كتاب الحدود
(3) المستدرك 4/383 كتاب الحدود – من ألم بشيء فليستتر بستر الله .
(4) النووي ، روضة الطالبين وعمدة المفتين ، 10/ 95 ، مغني المحتاج 4/150 .
(5) المغني9/74
(6) سنن أبي داود 4/541 كتاب الحدود – باب في الستر على أهل الحدود برقم 4377 ورقم 4378(5/8)
عرّف قانون الإثبات السوداني لعام 1994 م الإقرار في المادة 15/1 ونصها : " الإقرار هو اعتراف شخص بواقعة تثبت مسؤولية مدعى بها عليه " (1) ، والذي جرى به العرف في القضاء السوداني أن كلمة إقرار ترد في القضايا المدنية ، وكلمة الاعتراف تستعمل في الجنائي غالبا ، يقال سجل المتهم اعترافا قضائيا ، وحسب هذه المادة فإن الاعتراف يكون في المدني والذي يشمل المعاملات المالية والاقتصادية والتجارية والأحوال الشخصية كما يكون في الجنائيات (2) .
ويلاحظ : أن القانون قيّد الإقرار بكونه اعترافا بواقعة تثبت مسؤولية مدعى بها على المقر ، حيث قال : " اعتراف شخص بواقعة تثبت مسؤولية مدعى بها عليه " وهذا يخرج اعتراف الشخص بشيء لم يدع به عليه كاعتراف الإنسان بحق بمالي عليه لآخر من غير أن يدعي عليه صاحب هذا الحق ، وكاعتراف من ارتكب جرما بجرمه في حال عدم الادعاء عليه بأنه ارتكبه ، فعلى تعريف القانون للإقرار لا يسمى مثل هذا إقرارا ، وهو في الفقه يعد إقرارا ؛ ويدل على ذلك اعتراف ماعز بالزنى من غير أن يكون قد ادعى عليه أحد بذلك ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – اعتبر إقراره إقرارا صحيحا ، ورتب عليه العقوبة ؛ ولذا أقترح إعادة النظر في صياغة هذه المادة ، وتعريف الإقرار تعريفا جامعا لأفراد المعرّف .
ثانيا : أنواع الإقرار في قانون الإثبات
قسم القانون الإقرار إلى قسمين :
إقرار قضائي
إقرار غير قضائي
ففي المادة 15/2 : " يكون الإقرار قضائيا وغير قضائي " (3) ، ثم بيّن القانون المراد بالإقرار القضائي في المادة (16) التي نصها : "
الإقرار القضائي هو الإقرار بواقعة عند نظر الدعوى المتعلقة بها أمام المحكمة ، أو أثناء إجراء متعلق بالدعوى أمام قاض أو أي جهة شبه قضائية
__________
(1) وزارة العدل ، قانون الإثبات لسنة 1994 م الخرطوم : ، ص 10
(2) حاج آدم حسن الطاهر ، شرح قانون الاثبات السوداني ، ص : 47 - 48
(3) قانون الإثبات لسنة 1994 م ، ص 10(5/9)
مع عدم الإخلال بأحكام البند (1) لا يعتبر الإقرار أمام أي جهة شبه قضائية إقرارا قضائيا في المسائل الجنائية " (1)
ويلاحظ : أن القانون عرّف الإقرار القضائي ، ولم يعرف الإقرار غير القضائي ؛ إذ يفهم من تقسيم القانون الإقرار إلى قضائي وغير قضائي أن الإقرار الذي لم يستوف شرط الإقرار القضائي المذكور في المادة 16/1 يكون إقرارا غير قضائي
التفرقة بين الإقرار القضائي وغير القضائي :
يشترك الإقرار غير القضائي مع الإقرار القضائي في طبيعته من حيث أنه عمل قانوني إخباري من جانب واحد ، وأنه يعتبر بمثابة عمل من أعمال التصرف ، ولكنه يختلف عنه في أنه لا يصدر أمام جهة قضائية في ذات القضية المتعلقة بالمقر .
ولما كان الإقرار غير القضائي يختلف عن الإقرار القضائي من حيث أنه لا يصدر أمام جهة قضائية أو شبه قضائية في ذات القضية المتعلقة بالمقر به فقد نصت المادة (17) من قانون الإثبات لسنة 1994 م على ما يلي : " يتبع في إثبات الإقرار غير القضائي القواعد العامة في البينة " ، ومقتضى هذا النص أن عبء إثبات الإقرار غير القضائي يقع على عاتق من يتمسك به ؛ ولأن هذا العبء ينطوي على صعوبات على خلاف الحالة في الإقرار القضائي ، فقد أجاز القانون إثباته بالقواعد العامة لإثبات البينة من شهادة أو كتابة أو غير ذلك من الطرق العامة لإثبات أي واقعة أخرى (2)
ثالثا : صور الإقرار
ذكر قانون الإثبات صور الإقرار في المادة (18) ، ونصها : " يكون الإقرار صراحة أو دلالة ، ويكون باللفظ أو الكتابة ، ويكون بالإشارة المعهودة من الأخرس الذي لا يعرف الكتابة " (3)
رابعا : شروط المقر
بينت المادة (19) من قانون الإثبات شروط المقر في ثلاثة بنود كالتالي :
__________
(1) قانون الإثبات لسنة 1994 م ، ص 10
(2) بدرية عبد المنعم حسونة ، شرح قانون الإثبات لسنة 1994 م ، ص : 69
(3) قانون الإثبات ، ص 11(5/10)
يشترط في المقر أن يكون عاقلا مختارا وغير محجور عليه ، وبالغا سن المسؤولية التي ينص عليها القانون
يصح إقرار الصغير المميز فيما هو مأذون له من المعاملات
يصح إقرار الوكيل إذا كان صادرا في حدود سلطته " (1)
ويلاحظ على هذه الشروط ما يلي :
أولا : ما اشترطه القانون من العقل والاختيار في المقر ، متفق عليه بين الفقهاء ، قال ابن قدامة - رحمه الله - : " ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار ، فأما الطفل والمجنون والمبرسم والنائم والمغمى عليه فلا يصح إقرارهم ، لا نعلم في هذا خلافا " (2)
ثانيا : أخذ القانون بقول الإمامين أبي حنيفة وأحمد- رحمهما الله - بصحة إقرار الصغير المميز فيما هو مأذون له فيه ، ولم يأخذ بقول الشافعي - رحمه الله – في ذلك ، قال ابن قدامة - رحمه الله - : " وأما الصبي المميز فإن كان محجورا عليه لم يصح إقراره ، وإن كان مأذونا له صح إقراره في قدر ما أذن له فيه ، قال أحمد في رواية مهنا في اليتيم إذا أذن له في التجارة وهو يعقل البيع والشراء فبيعه وشراؤه جائز ، وإن أقر أنه اقتضى شيئا من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه ، وهذا قول أبي حنيفة ، وقال أبو بكر وابن أبي موسى إنما يصح إقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشيء اليسير ، وقال الشافعي لا يصح إقراره بحال ؛ لعموم الخبر ، ولأنه غير بالغ فأشبه الطفل ، ولأنه لا تقبل شهادته ولا روايته فأشبه الطفل .
ولنا إنه عاقل مختار يصح تصرفه فصح إقراره كالبالغ ، وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى ، والخبر محمول على رفع التكليف والإثم "(3)
__________
(1) المرجع السابق
(2) المغني ج5/ص87
(3) المصدر السابق ج5/ص87(5/11)
ثالثا : أخذ القانون بقول جمهور الفقهاء القائلين بصحة إقرار الوكيل ، خلافا للشافعية المانعين لذلك في الأصح عندهم ، فقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية : " الأصل أن التوكيل يجوز في كل ما يقبل النيابة ، ومن ذلك الإقرار ، كما هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وفي قول عند الشافعية ؛ إذ الإخبار من الموكل حقيقة ، ومن الوكيل حكما ؛ لأن فعل الوكيل كفعل الموكل ، فكأن الإقرار صدر ممن عليه الحق . وصرح الشافعية بأن إقرار الوكيل بالتصرف إذا أنكره الموكل لا ينفذ ، كما صرح المالكية بأن إقرار الوكيل يلزم الموكل إن كان مفوضا أو جعل له الإقرار . والأصح عند الشافعية : أن التوكيل في الإقرار لا يجوز ." (1)
خامسا : حالات عدم صحة الإقرار
ذكرت المادة (20) من قانون الإثبات حالات عدم صحة الإقرار في ثلاثة بنود ، وهي :
لا يكون الإقرار صحيحا إذا كذبه ظاهر الحال
لا يكون الإقرار صحيحا في المسائل الجنائية إذا كان نتيجة لأي إغراء أو إكراه
بالرغم من أحكام البند (2) لا يكون الإغراء مؤثرا في صحة الإقرار في المعاملات " (2)
المبحث الرابع
الإثبات بالإقرار في القضايا الجنائية
ذكر قانون الإثبات أحكام ثبوت الجنايات بالإقرار في المواد التالية :
المادة (21/1) : " يكون الإقرار حجة قاطعة على المقر ... " (3) ، وهذا نص عام يشمل الإقرار بالجنايات وما سواها .
المادة (21/2) : " لا يشكل الإقرار في المسائل الجنائية حجة قاطعة إذا كان غير قضائي ، أو اعترته شبهة "
المادة (20/2) : " لا يكون الإقرار صحيحا في المسائل الجنائية إذا كان نتيجة لأي إغراء أو إكراه "
المادة (62) : " تثبت جريمة الزنا بأي من الطرق الآتية : ، وهي : أ – الإقرار الصريح أمام المحكمة ما لم يعدل عنه قبل البدء في تنفيذ الحكم " (4)
__________
(1) مادة : إقرار
(2) ص 11
(3) ص 11
(4) ص 20(5/12)
المادة (63) : " مع مراعاة أحكام المادة (62) تثبت سائر الحدود بأي من الطريقين الآتيين ، وهما : أ – الإقرار الصريح ولو مرة واحدة أمام المحكمة "
ويلاحظ على إثبات القانون للقضايا الجنائية بالإقرار ما يلي :
أولا : اعتبر القانون الإقرار حجة قاطعة على المقر ، إلا أنه قيّد ذلك في الجنايات بكون الإقرار قضائيا ، وقد سبق بيان المقصود بالإقرار القضائي (1) ، ولم يعتبر الإقرار بالجنايات صحيحا إذا كان نتيجة لإغراء أو إكراه ، كما اشترط خلو الإقرار بها من الشبهة ليكون حجة قطعية ، فإذا اعترته شبهة كأن يكون المقر يريد دفع تهمة عن بعض ذويه ، ويتحمل هو المسؤولية نيابة عنهم ، أو أي شبهة أخرى تعتري الإقرار فإنه لا يقبل (2) ، وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية عن أثر الشبهة في الإقرار : " الشبهة لغة : الالتباس , وشبه عليه الأمر : خلط حتى اشتبه لغيره ، وعرفها الفقهاء بأنها : ما يشبه الثابت وليس بثابت ، فهي بهذا تؤثر على الإثبات ومنه الإقرار . فلو احتمل الإقرار اللبس أو التأويل أو شابه شيء من الغموض والخفاء اعتبر ذلك شبهة , والشيء المقر به إما أن يكون حقا لله تعالى أو حقا للعباد . وحقوق العباد تثبت مع الشبهات , بخلاف حقوق الله تعالى , فإن منها ما يسقط بالشبهة , كالزنى والسرقة وشرب الخمر , ومنها ما لا يسقط بالشبهة , كالزكاة والكفارة . " (3) ، ومن المعلوم أن الجنايات منها ما هو حق لله خالصا ، وهي : جرائم الحدود الخالصة لله تعالى ، أي ما عدا حد القذف ، وجرائم التعزير التي ليس فيها حق للعبد ، ومن الجنايات ما هو حق للعبد ، وهي : القصاص في النفس وما دونها ، وحد القذف عند جمهور الفقهاء – خلافا للحنفية أن المغلب فيه حق الله - ، وجرائم التعزير التي فيها حق للعبد يجتمع فيها حق الله وحق العبد ، أما درء الحدود بالشبهات فهو أمر متفق عليه بين
__________
(1) انظر : ص 8
(2) حاج آدم ، شرح قانون الإثبات ، ص 57
(3) مادة : إقرار(5/13)
الفقهاء ، قال ابن المنذر- رحمه الله - : " وأجمعوا على أن درء الحد بالشبهات " (1) ، والله أعلم .
ثانيا : نص القانون على أن الإقرار بالحدود لا بد أن يكون صريحا ، ولعل هذا يدل عليه ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال لما أتى ماعز بن مالك النبي- صلى الله عليه وسلم - قال له لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ، قال لا يا رسول الله ، قال أنكتها ؟ لا يكني ، قال فعند ذلك أمر برجمه " (2) ، قال ابن حجر - رحمه الله - : " وفي حديث نعيم فقال : هل ضاجعتها ؟ قال : نعم ، قال : فهل باشرتها ؟ قال : نعم ، قال : هل جامعتها ؟ قال : نعم ، وفي حديث ابن عباس المذكور : فقال : أنكتها ، لا يكنى بفتح التحتانية وسكون الكاف من الكناية ، أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحا ولم يكن عنه بلفظ أخر كالجماع ، ويحتمل أن يجمع بأنه ذكر بعد ذكر الجماع : بأن الجماع قد يحمل على مجرد الاجتماع ، وفي حديث أبي هريرة المذكور أنكتها ؟ قال : نعم ، قال :حتى دخل ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم ، قال : كما يغيب المرود في المكحلة ، والرشاء في البئر ؟ قال : نعم " (3) ، ولأن الإقرار غير الصريح فيه شبهة ، وهي احتمال أن المقر ارتكب ما لا يوجب الحد ، وهو يظنه حدا ، والحدود تدرأ بالشبهات ، والله أعلم .
ثالثا : لم يشر القانون إلى عدد مرات الإقرار بالزنا ، حيث خلت المادة (62) من ذلك ، بينما صرح القانون بأن سائر الحدود تثبت بالإقرار الصريح مرة واحدة ، وعدم النص على عدد مرات الإقرار بالزنا يفهم منه أن الإقرار به مرة واحدة كاف لثبوت الحد ، فيتحصل من ذلك أن الحدود كلها تثبت بالإقرار مرة واحدة في القانون ، وتجدر الإشارة إلى أن الفقهاء قد اختلفوا في عدد مرات الإقرار الذي يثبت به حد الزنا وحد السرقة على النحو الآتي :
__________
(1) الإجماع ص113
(2) صحيح البخاري ، كتاب المحاربين من أهل الكفر... ، باب سؤال الإمام المقر هل أحصنت
(3) فتح الباري ج12/ص 123 - 124(5/14)
أ : عدد مرات الإقرار بالزنا :
1- ذهب الحنفية (1) والحنابلة (2) والحكم وابن أبي ليلى (3) إلى أن الإقرار المعتبر في الزنا أن يقر الزاني به أربع مرات ، ولا يثبت بإقراره بما دون الأربع .
2- ذهب المالكية (4) والشافعية (5) والحسن وحماد وأبو ثور(6) إلى أن حد الزنا يثبت بإقرار الزاني مرة واحدة .
الأدلة على أنه لا يثبت إلا بأربع مرات :
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم فقال : " أبك جنون ؟ " قال : لا ، قال : "فهل أحصنت ؟ " قال : نعم ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : "اذهبوا به فارجموه " (7) ، ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله (8) .
__________
(1) الميرغناني ، الهداية شرح بداية المبتدئ 4/117 ، ابن نجيم ، البحر الرائق 5/6-7
(2) ابن قدامة ،المغني 9/60 ، الفراء، الأحكام السلطانية، ص 248 ، البهوتي، كشاف القناع 6/99.
(3) المغني 9/60
(4) الحطاب ، مواهب الجليل ، 6/294 ، القرطبي ، الكافي ، 2/1070 ، الخرشي على خليل 8/80 ، الدردير ، الشرح الصغير 2/423
(5) الأم 6/155، الماوردي ، الأحكام السلطانية ، ص 224 ، شرح المحلي على منهاج الطالبين ، 4/181 ، مغني المحتاج 4/150
(6) ابن قدامة ، المغني 9/60
(7) متفق عليه : صحيح البخاري 6/2499 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة – باب لا يرجم المجنون والمجنونة برقم 6430 وباب سؤال الإمام المقر هل أحصنت برم 6439 ، وصحيح مسلم 3/1318 كتاب الحدود – باب من اعتراف علي نفسه بالزني برقم 1691
(8) المغني 9/60 ، الهداية 4/118(5/15)
وروى نعيم بن هزال حديث ماعز وفيه : حتى قالها أربع مرات ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ؟ قال : بفلانة " (1) . وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هو الموجب (2)
عن أبي بكر – رضي الله عنه – قال كنت عند النبي – صلى الله عليه وسلم – جالسا فجاء ماعز بن مالك فاعترف عند مرة فرده ، ثم جاء فاعترف عنده الثانية فرده ، ثم جاءه فاعترف الثالثة فرده ، فقلت له : إنك إن اعترفت الرابعة رجمك ، قال : فاعترف الرابعة فحبسه ثم سأل عنه ، فقالوا : ما نعلم إلا خيراً ، قال : فأمر برجمه (3) وهذا يدل من وجهين :
أحدهما : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقره على هذا ولم ينكره ، فكان بمنزلة قوله ؛ لأنه لا يقر على الخطأ.
الثاني : أنه قد علم هذا من حكم النبي – صلى الله عليه وسلم – لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه (4)
قال بريدة : " وكنا نتحدث أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بيننا أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه وإنما رجمه عند الرابعة " (5) . وعن بريدة أيضا كنا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما ، أو قال : لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، وإنما رجمهما عند الرابعة (6)
ولأن الشهادة اختصت في الزنا بزيادة العدد فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا ، وتحقيقا لمعني الستر (7)
المناقشة :
__________
(1) سنن أبي داود 4/573 كتاب الحدود – باب رجم ماعز بن مالك برقم 4419 .
(2) المغني 9/60
(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل ، 1/8
(4) المغني 9/60
(5) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/347
(6) سنن أبي داود 4/584 كتاب الحدود – باب رجم ماعز بن مالك رقم4434
(7) الهداية 4/118(5/16)
نوقش الاستدلال بحديث ماعز بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – استنكر عقله ، ولذا أرسل لقومه مرتين يسألهم عن عقله حتى أخبروه بصحته فأمر برجمه(1) ، ولم يكرر الإقرار في خبر الغامدية (2)
أما ما رواه بريدة من أن الصحابة كانوا يتحدثون أنه لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يرجمه فليس ذلك مما تقوم به الحجة ؛ لأن الصحابي لا يكون فهمه حجة إذا عارض الدليل الصحيح ؛ ومما يؤيد ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما قالت له الغامدية : " أراك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً " (3) لم ينكر ذلك عليها ، ولو كان تربيع الإقرار شرطا لقال لها : إنما رددته لكونه لم يقر أربعاً ، وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار ليس بشرط ، للتصريح فيها بأنها متأخرة عن قصة ماعز وقد اكتفى فيها بدون أربع مرات (4) .
أما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا ففي غاية الفساد ؛ لأنه يلزم من ذلك أن يعتبر في الإقرار بالأموال والحقوق أن يكون مرتين ؛ لأن الشهادة في ذلك لابد أن تكون من رجلين ، ولا يكفي فيها الرجل الواحد ، واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزوم مثله (5) .
الجواب :
أجاب المخالف عن المناقشة الورادة على الاستدلال بحديث ماعز: بأن كون النبي – صلى الله عليه وسلم – رد ماعزاً أربعاً لاسترابته في عقله ، إن سلم لا يتوقف علم ذلك على الأربع ، والثلاثة موضوعة في الشرع لإبداء الاعتذار كخيار الشرط جعل ثلاثاً ؛ لأن عندها لا يعذر المغبون ، والمرتد يستحب أن يؤخر ثلاثاً ليراجع نفسه في شبهته ، فلو لم تكن الأربعة عدداً معتبراً في اعتبار إقراره لم يؤخر رجمه بعد الثالثة ، ومما يدل على ذلك ترتيبه – صلى الله عليه وسلم – الحكم عليها وهو مشعر بعليتها وكذلك الصحابة (6)
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 8/80
(2) مغني المحتاج 4/150
(3) سبق تخريجه.
(4) نيل الأوطار 7/263 - 264
(5) المرجع السابق 7/264
(6) ابن الهمام ، فتح القدير، 4/119.(5/17)
الأدلة على أنه مرة واحدة :
عن أبي هريرة وزيد بن خالد - رضي الله عنهما - : " أن رجلين اختصما إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال أحدهما : اقض بيننا بكتاب الله ، وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله ، فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم ، قال : " تكلم " ، قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك " وجلد ابنه مائة ، وغربة عاماً ، وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر : " فإن اعترفت فارجمها " فاعترفت فرجمها " (1) ، فظاهر ما في الحديث الاكتفاء بأقل ما يصدق اللفظ عليه ، وهو يصدق بالمرة الواحدة (2) .
__________
(1) متفق عليه : صحيح البخاري 6/2510 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة – باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به برقم 6451 ، صحيح مسلم 3/1324 كتاب الحدود – باب من اعترف على نفسه بالزنى برقم 1697/1698 .
(2) الخرشي على خليل 8/80(5/18)
روى بريدة : أن امرأة من غامد أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت يا رسول الله طهرني ، فقال : ويحك ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه " ، فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك ، قال : وما ذاك؟ قالت : إنها حبلي من الزنى ، فقال : آنت ؟ قالت : نعم ، فقال لها : حتى تضعي ما في بطنك ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال: فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلى رضاعه يا نبي الله ، قال : فرجمها (1) .
عن خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه كان قاعداً يعمل في السوق فمرت امرأة تحمل صبياً فثار الناس معها ، وثرت فيمن ثار فانتهيت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول : " من أبو هذا معك ؟ " فسكتت ، فقال شاب : خذوها أنا أبوه يا رسول الله ، فأقبل عليها فقال : من أبو هذا معك ؟ قال الفتى : أنا أبوه يا رسول الله ، فنظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا : ما علمنا إلا خيراً ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : أحصنت ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم ، قال فخرجنا به فحفرنا له حتى أمكنا ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ (2)
عن سهل بن سعد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن رجلا أتاه فأقر عنده أنه زني بامرأة سماها له ، فبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المرأة فسألها عن ذلك ، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها (3)
ولأنه حق فيثبت باعترافه مرة كسائر الحقوق (4)
المناقشة :
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سنن أبي داود 4/584 كتاب الحدود – باب رجم ماعز بن مالك برقم 4435
(3) المرجع السابق 4/584 كتاب الحدود - باب رجم ماعز بن مالك برقم 4437
(4) المغني 9/60(5/19)
قوله – صلى الله عليه وسلم – : " واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " معناه الاعتراف المعهود في الزنا على أنه كان معلوماً بين الصحابة خصوصا لمن كان قريباً من خاصة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين الصحابة (1) .
أما كون الغامدية لم تقر إلا مرة واحد فممنوع ، بل أقرت أربعاً ، يدل عليه قول بريدة : كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، وإنما رجمهما عند الرابعة (2) ، فهذا نص في إقرارها أربعاً ، غاية ما في الباب أنه لم ينقل تفاصيلها ، والرواة كثيراً ما يحذفون بعض صورة الواقعة (3) .
أما الأحاديث التي استدلوا بها فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير ، والأحاديث التي دلت على أنه أربع مرات تفسره ، وتبين أن الاعتراف الذي يثبت به الزنا كان أربعاً (4) .
الترجيح :
والذي يظهر أن الزنا لا يثبت بالإقرار به مرة واحدة ، بل لابد أن يكون الإقرار به أربع مرات ؛ لما سبق من أدله لهذا القول ، ولكون هذا القول أحوط في إثبات الحد الذي مبناه على الدرء بالشبهات ، والله أعلم .
ب : عدد مرات الإقرار بالسرقة
ذهب أبو حنيفة ومحمد بن الحسن (5) والمالكية (6) والشافعية (7) وعطاء والثوري (8) إلى أن حد السرقة يثبت بإقرار السارق مرة واحدة .
__________
(1) فتح القدير 4/119
(2) سبق تخريجه
(3) فتح القدير 4/118 - 119
(4) المغني 9/60
(5) السرخسي ، المبسوط 9/182 ، البحر الرائق 5/56
(6) الباجي الأندلسي ، المنتقى ، 7/168 ، الخرشي على خليل 8/102
(7) الشافعي ، الأم ،7/150 ، روضة الطالبين10/143 ، شرح المحلي على منهاج الطالبين 4/196
(8) المغني 9/119(5/20)
ذهب أبو يوسف (1) والحنابلة (2) وابن أبي ليلى وابن شبرمة (3)إلى أنه يشترط إقرار السارق مرتين لثبوت حد السرقة عليه .
الأدلة على أنه مرة واحدة :
عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة بن حبيب ابن عبد شمس جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني ، فأرسل إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا : " إنا افتقدنا جملا لنا " ، فأمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقطعت يده (4)
ولأن ما يثبت بشهادة شاهدين من العقوبات يثبت بإقرار واحد كالقصاص(5)
الأدلة على أنه مرتان :
عن أبي أمية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتي بلص فاعترف اعترافاً ، ولم يوجد معه المتاع ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " ما إخالك سرقت " قال : بلى ، ثم قال : " ما إخالك سرقت " فقال " بلى . فأمر به فقطع ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : " قل أستغفر الله وأتوب إليه " قال : أستغفر الله وأتوب إليه ، قال : " اللهم تب عليه " مرتين(6) ، ولو وجب القطع أول مرة لما أخره (7) .
__________
(1) وقد رجع أبو يوسف إلى قول أبي حنيفة.المبسوط 9/182 ، الدر المختار للحصكفي وحاشية رد المحتار عليه لمحمد أمين الشهير بابن عابدين 4/85 . هذا وعن أبي يوسف أنه يشترط الإقرار مرتين في الخمر ، وهو نظير الاختلاف في السرقة. الهداية 4/186 ، حاشية رد المحتار 4/40
(2) المغني 9/119 ، المرداوي ، الإنصاف ، 10/284
(3) المغني 9/119
(4) ابن ماجة، سنن ابن ماجة 2/863 ، كتاب الحدود ، باب السارق يعترف برقم 2588
(5) المبسوط 9/182
(6) سنن ابن ماجة 2/866 كتاب الحدود – باب تلقين السارق برقم 2597 ،وسنن أبي داود 4/543 كتاب الحدود – باب في التلقين في الحد برقم 4380 وفيها : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –" ما إخالك سرقت " قال: بلي ، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً " .
(7) المغني 9/119(5/21)
عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : شهدت عليا – رضي الله عنه – وأتاه رجل فأقر بالسرقة فرده ، وفى لفظ : فانتهره فسكت عنه ثم عاد بعد ذلك فأقر ، فقال له علي : شهدت على نفسك مرتين ، فأمر به فقطع (1) ، ومثل هذا يشتهر فلم ينكر .
ولأنه حد يتضمن إتلافا فكان من شرطه التكرار كحد الزنا (2)
ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة(3)
المناقشة :
حديث السارق الذي أتي به إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يدل على اشتراط الإقرار مرتين ، وإنما يدل على أنه يندب له تلقين المسقط للحد عنه ، والمبالغة في الاستثبات ، ومما يدل على أن هذا هو المراد أنه – صلى الله عليه وسلم – قال له : " لا أخالك سرقت " ثلاث مرات ، ولو كان مجرد الفعل يدل على الشرطية لكان وقوع التكرار منه – صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات يقتضي اشتراطها (4) .
اشتراط الزيادة في الزنا بخلاف القياس فيقتصر علي مورد الشرع (5) .
ولا يصح قياس الإقرار على الشهادة ؛ لأن الزيادة فيها تفيد تقليل تهمة الكذب ، ولا تفيد في الإقرار شيئا لأنه لا تهمه فيه (6)
الترجيح :
ويظهر أن الراجح هو اشتراط الإقرار مرتين للقطع في السرقة ؛ لما سبق في ترجيح كون الإقرار بالزنا أربع مرات ، أما فيما يتعلق بالشيء المسروق فيكفي الإقرار مرة واحدة لثبوت حق المسروق منه في المسروق كسائر الأموال ، والله أعلم .
المبحث الخامس
الإثبات بالإقرار في المعاملات
__________
(1) الصنعاني ، المصنف 10/191 كتاب اللقطة – باب اعتراف السارق برقم 18783-18784 ، الحافظ ابن أبي شيبة الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، 9/494 كتاب الحدود –باب في الرجل يقر بالسرقة كم مرة يرد برقم 8239
(2) المغني 9/119
(3) المغني 9/119 ، البحر الرائق 5/56
(4) نيل الأوطار 7/309
(5) البحر الرائق 5/56
(6) المصدر السابق(5/22)
ذكر قانون الإثبات السوداني لسنة 1994م أحكام الإثبات بالإقرار في المعاملات في البندين (1) و (2) من المادة (21) ونصهما : "
يكون الإقرار حجة قاطعة على المقر ، وهو يسري في المعاملات في حق من يخلف المقر فيما أقر به .
يشكل الإقرار بينة قاطعة على صحة المقر به ، إلا إذا قصد المقر الإضرار بخلفه فيما أقر به ، أو اختلف الطرفان في سببه " (1)
فقد اعتبر قانون الإثبات الإقرار في المعاملات حجة قاطعة على المقر ، أي أنه إذا صدر إقرار قضائي فانه يكون حجة بذاته على المقر ، فلا يكون الخصم في حاجة إلى تقديم دليل آخر ، ويلتزم القاضي بأن يحكم بمقتضاه من تلقاء نفسه ، ذلك أن القانون لا يكلف المدعي إقامة الدليل على دعواه إذا سلم له خصمه بها (2) ، وكما جعل القانون الإقرار حجة على المقر في المعاملات جعله حجة على ورثة المقر فيما أقر به مورثهم قبل موته ، فلو أقر شخص قبل موته ببيع شئ لآخر ثم توفي قبل تسليم المبيع فان إقراره هذا يكون حجة على ورثته و يلزمهم بمقتضاه تسليم المبيع للمشتري .
إلا أن القانون استثنى من حجية الإقرار في المعاملات أمرين :
أحدهما : إذا قصد المقر بالإقرار الإضرار بخلفه فيما أقر به ، وذلك مثل إقرار الإنسان في مرض موته بدين لأحد الورثة ، ولعل هذا الاستثناء مبني على أن الإقرار يشترط فيه انتفاء التهمة عن المقر، ففي الموسوعة الفقهية الكويتية : " ويشترط في المقر لصحة إقراره أن يكون غير متهم في إقراره , لأن التهمة تخل برجحان الصدق على جانب الكذب في إقراره ؛ لأن إقرار الإنسان على نفسه شهادة . قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } والشهادة على نفسه إقرار . والشهادة ترد بالتهمة . " (3)
__________
(1) ص 11
(2) بدرية ، شرح قانون الإثبات ، ص 88
(3) مادة : إقرار(5/23)
الثاني : إذا اختلف المقر والمقر له في سبب المقر به ، حيث قال أحدهما إنه مقابل بيع ، وقال الآخر إنه قرض ، فهذا لا يعتبر إقرارا (1) ، ولم أقف على القائل بهذا القول من الفقهاء فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كتبهم ، بل وجدت في بعض كتب الحنفية ما يخالفه ، ففي البحر الرائق شرح كنز الدقائق : " بخلاف ما إذا أقر لرجل بألف درهم من القرض ، وقال المقر له من ثمن مبيع ، فإنه يقضي له عليه بألف ، وإن اختلف السبب ؛ لأن الأموال تثبت بالشبهة فلا يبالي باختلاف السبب عند اتحاد الحكم " (2) ، ومثله ما في تبيين الحقائق (3) ، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام (4) ، وقريب منه ما ذكره ابن فرحون المالكي- رحمه الله - في تبصرة الحكام ، حيث قال : " والرافع مثل أن يقر بشيء ثم يعقبه بما يبطله ويرفع حكمه فإنه يبطل إلا أن يخالفه المقر له مثل أن يقول له عندي ألف من ثمن خمر أو خنزير وقال ابن شاس لا يلزمه شيء إلا أن يقول المقر له بل هي من ثمن بر فيلزم مع يمين الطالب " (5) ، والله أعلم .
المبحث السادس
الإثبات بالإقرار في الأحوال الشخصية
ثبوت النسب بالإقرار :
أقر قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991 م ثبوت النسب بالإقرار ، حيث نصت المادة (96) منه على ما يلي : " يثبت النسب بالفراش أو الإقرار أو الإشهاد " (6) .
شروط الإقرار بالنسب
ذكرت المادة ( 101) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991 م بعض شروط ثبوت النسب بالإقرار، و نصها : " يثبت النسب بالإقرار ولو في مرض الموت بالشروط التالية وهي أن :
1.…يكون المقر له مجهول النسب .
2.…يكون المقر بالغا عاقلا .
3.…يولد مثل المقر له للمقر .
4.…يصدق المقر له المقر متى كان بالغا عاقلا .
__________
(1) حاج آدم ، شرح قانون الإثبات ، 56 - 57
(2) 8/438
(3) ج6/ص163
(4) ج4/ص86
(5) ج2/ص59
(6) ص 35(5/24)
واشترطت المادة (102/أ) تصديق الزوج أو المطلق على ثبوت النسب منه بالإقرار إذا كان المقر امرأة ، ونصها : " لا يثبت نسب المولود إذا كان المقر امرأة متزوجة أو مطلقة إلا بتصديق الزوج أو المطلق أو بالشهادة " (1) ، كما اشترطت المادة (103) لإثبات النسب بالإقرار في حالة الإقرار بالنسب على الغير : تصديق المحمول عليه النسب ، ونص المادة : " لا يسري الإقرار بالنسب في غير البنوة والأبوة والأمومة على غير المقر ، إلا بتصديقه أو بالشهادة " ، وذلك أن الإقرار بالنسب نوعان : أحدهما : إقرار بحمل نسب المقر له على غير المقر، مثل أن يقر خالد بن محمد بأن سعدا أخوه ، فان أخوة سعد لا تثبت لخالد إلا بعد ثبوت بنوة سعد من محمد ، فإقرار خالد اقتضى حمل النسب على غيره ، وهو أبوه ، والنوع الثاني : إقرار بحمل نسب المقر له على المقر نفسه ، مثل أن يقر خالد بن محمد بأن سعدا ابنه ، فإنه حمل لنسب سعد على نفسه ابتداء ، ثم يتفرع عن ذلك أخوته لأبناء خالد ، وعمومة إخوة خالد له ، وهكذا (2) .
إقرار بعض الورثة بالنسب
__________
(1) ص 37
(2) محمود بن مجيد الكبيسي ، الوجيز الميسر في فقه الأحوال الشخصية على مذهب الإمام مالك ، ص 314(5/25)
ورد في المادة (405/ج) من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991 م : " إذا أقر ... بعض الورثة لآخر بالنسب على مورثهم ، ولم يثبت النسب بغير هذا الإقرار فيأخذ المقر له نصيبه من المقر دون سواه ما لم يكن محجوبا . " (1) ، وبهذا يقرر القانون عدم ثبوت النسب المحمول على الغير بإقرار بعض الورثة ، وهو أمر مجمع عليه بين الفقهاء ، وجعل القانون أثر هذا الإقرار مقتصرا على المقر وحده في شأن الميراث أخذا بقول جمهور الفقهاء ، ففي الموسوعة الفقهية الكويتية : " أقر أحد الورثة بوارث ثالث مشارك لهما في الميراث لم يثبت النسب بالإجماع ؛ لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر ، ولا يمكن إثباته في حقهما ؛ لأن أحدهما منكر ولم توجد شهادة يثبت بها النسب . ولكنه يشارك المقر في الميراث في قول أكثر أهل العلم ؛ لأنه أقر بسبب مال لم يحكم ببطلانه فلزمه المال ، كما لو أقر ببيع أو بدين فأنكر الآخر . ويجب له فضل ما في يد المقر من ميراثه ، وبهذا قال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وشريك ، ويحيى بن آدم وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور . وتقسم حصة المقر أثلاثا فلا يستحق المقر له مما في يد المقر إلا الثلث ( وهو سدس جميع المال ) كما لو ثبت نسبه ببينة ؛ لأنه إقرار بحق يتعلق بحصته وحصة أخيه ، فلا يلزمه أكثر مما يخصه ، كالإقرار بالوصية ، وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ، وقال أبو حنيفة : إذا كان اثنان فأقر أحدهما بأخ لزمه دفع نصف ما في يده ، وإن أقر بأخت لزمه ثلث ما في يده ؛ لأنه أخذ ما لا يستحق من التركة ، فصار كالغاصب ، فيكون الباقي بينهما ؛ ولأن الميراث يتعلق ببعض التركة كما يتعلق بجميعها ، فإذا ملك بعضها أو غصب تعلق الحق بباقيها ، والذي في يد المنكر كالمغصوب فيقتسمان الباقي بالسوية ، كما لو غصبه أجنبي . وقال الشافعي : لا يشارك المقر في الميراث ( قضاء ) ، وحكي ذلك عن ابن
__________
(1) ص 146(5/26)
سيرين ، وقال إبراهيم : ليس بشيء حتى يقروا جميعا ؛ لأنه لم يثبت نسبه فلا يرث ، كما لو أقر بنسب معروف النسب . ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان المقر صادقا فيما بينه وبين الله تعالى . هل يلزمه أن يدفع إلى المقر له نصيبه ؟ على وجهين : أحدهما يلزمه ( ديانة ) وهو الأصح ، وهل يلزمه أن يدفع إلى المقر له نصف ما في يده أو ثلثه ؟ على وجهين . وإن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث ثبت نسبه ، سواء أكان الورثة واحدا أم جماعة ، ذكورا أم إناثا ، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة ؛ لأن الوارث يقوم مقام الميت في ميراثه وديونه . . . وكذلك في النسب ، وقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن { سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة , فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه ، فقال عبد بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه فقال رسول - الله صلى الله عليه وسلم - : هو لك يا عبد ابن زمعة } ولأنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد ؛ ولأنه قول لا تعتبر فيه العدالة فلم يعتبر العدد فيه ، والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت إلا بإقرار رجلين أو رجل وامرأتين ، وقال مالك : لا يثبت إلا بإقرار اثنين ؛ لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشهادة . " (1)
المبحث السابع
أثر الرجوع عن الإقرار
ويشتمل على :
أولا : أثر رجوع المقر عن إقراره في الفقه الإسلامي
ثانيا : أثر الرجوع عن الإقرار في قانون الإثبات
أولا : أثر رجوع المقر عن إقراره في الفقه الإسلامي
__________
(1) مادة : إقرار(5/27)
الأصل في الإقرار اللزوم وثبوت الحق المقر به على المقر ، قال القرافي - رحمه الله - : " الأصل في الإقرار اللزوم من البر والفاجر ؛ لأنه على خلاف الطبع " (1) ، إلا أن المقر قد يرجع عن إقراره ، فهل يقبل رجوعه عن إقراره ويسقط عنه الحق الذي أقر به إن كان قد ثبت عليه بالإقرار وحده ، أو أنه لا يقبل رجوعه ؟ ، ولبيان ذلك يمكن تقسيم الحقوق المقر بها إلى ثلاثة أقسام :
حقوق الآدميين
حقوق الله- تعالى- التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات والتعزير
الحدود الخالصة لله - تعالى- وهي جميع الحدود ما عدا حد القذف
وفيما يلي بيان أثر الرجوع عن الإقرار في كل قسم من هذه الأقسام :
أ - الرجوع عن الإقرار بحق الآدمي
لا أثر للرجوع عن الإقرار بحق الآدمي باتفاق الفقهاء ، فمن أقر بحق لآدمي لزمه ذلك الحق ، ولا يصح رجوعه عن إقراره بعد ذلك ، ولا يسقط عنه الحق المقر به (2) ، قال ابن قدامة - رحمه الله - : " أما حقوق الآدميين ... فلا يقبل رجوعه
عنها ، ولا نعلم في هذا خلافاً " (3)
فعلي هذا لا أثر للرجوع عن الإقرار بالأموال ، والقتل ، والجناية على ما دون النفس ، وحد القذف ، وما يوجب التعزير لحق الآدمي ، وسائر حقوق الآدميين .
الأدلة :
__________
(1) أنوار البروق في أنواء الفروق ، 4/92
(2) بدائع الصنائع 9/4189 ، 4213 ، البحر الرائق 5/8 ، 30 ، تبصرة الحكام 2/57، الأم 7/151 مغني المحتاج 4/190 ، المغني 5/95 ، ويفهم من كلام الشيرازي في المهذب 2/351 – طبعة دار الفكر - أن المقر له لو صدقه في رجوعه سقط الحق ، فقد قال : " وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الإقرار وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان : أحدهما أنه يسقط النسب وهو قول أبى علي الطبرى رحمه الله كما لو أقر له بمال ثم رجع فى الإقرار وصدقه المقر له فى الرجوع "
(3) المغني 5/95(5/28)
الرجوع خبر محتمل للصدق وليس أحد يكذبه فيه إذا كان في الحدود الخالصة لله – تعالى - فتتحقق به الشبهة في الإقرار السابق عليه فيندرىء بالشبهة ؛ لأنه أرجح من الإقرار السابق بخلاف ما فيه حق العبد ؛ لأن العبد يكذبه في إقراره الثاني فينعدم أثره في إخباره أول بالكلية (1) .
لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه بغير رضاه ؛ لأن حق العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السقوط بالرجوع .
لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة ، وما دام قد ثبت له فلا يمكن إسقاطه بغير رضاه (2)
ب - الرجوع عن الإقرار بحقوق الله- تعالى- التي لا تدرأ بالشبهات
لا أثر للرجوع عن الإقرار بحقوق الله- تعالى- التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات والتعزيز(3) ، فمن أقر بحق منها لزمه ، ولا يقبل رجوعه عن إقراره به ، وذلك باتفاق الفقهاء ، قال ابن قدامة - رحمه الله - : " ولا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا فيما كان حد الله – تعالى – يدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطه ، أما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل رجوعه عنها ، ولا نعلم في هذا خلافاً " (4)
ج - الرجوع عن الإقرار بالحدود الخالصة لله – تعالى –
اختلف الفقهاء في أثر رجوع المقر عن إقراره بالحدود الخالصة لله - تعالى- إذا كان الحد قد ثبت بالإقرار وحده على النحو الآتي :
__________
(1) فتح القدير 4/121
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية ، مادة : إقرار
(3) لعدم درء التعزير بالشبهات انظر : ابن عابدين ، رد المحتار 4/ 60 ، ابن نجيم ، الأشباه والنظائر ، ص 130
(4) المغني 5/95(5/29)
اتفقت المذاهب الأربعة (1) على أن الرجوع عن الإقرار يسقط جميع الحدود عدا حد القذف ، سواء أكان الرجوع قبل إقامة الحد أم في أثنائه ، فإذا رجع قبل إقامته سقط عنه ، وإذا رجع في أثنائه سقط المتبقي منه ، وسواء أكان رجوعه لشبهة أم لغير شبهة ، وفي قول للمالكية لا يقبل رجوعه عن إقراره إذا كان لغير شبهة (2). وليس لرجوع المقر بالحد الخالص لله –
__________
(1) الهداية 4/120-121 ، 186 ، 258 ، بدائع الصنائع 9/4189 ، 4212 ، 4295 ، البحر الرائق 5/8 ، 30، 56 ، الدر المختار 4/10 ، 41، 86 ، حاشية رد المحتار 4/113 ، 6/550 ، الإمام مالك ، المدونة الكبرى 16/208 ، الكافي في فقه أهل المدينة المالكي 2/1070، تبصرة الحكام 2/57 مواهب الجليل 6/316 ، الخرشي على خليل 8/80 ، 102، 109 ، الشرح الصغير 2/423 ، 434 ، 438. ، الأم 6/152 ، 155 ، 7/151 روضة الطالبين 10/96 ، 143 ، المهذب 2/348 ، مغني المحتاج 4/138 ، 150 ، 190 ، المغني 5/95 ، الفروع 6/60 ، الإنصاف 10/163، كشاف القناع 6/85 ، 119 ، 144
(2) وعن مالك – رحمه الله – روايتان في الرجوع عن الإقرار بالزنا لغير شبهة، قال في بداية المجتهد 2/ 329: " من اعترف بالزنا ثم رجع فقال جمهورا لعلماء يقبل رجوعه إلا ابن أبي ليلى وعثمان البتي ، وفصل مالك فقال : إن رجع لشبهة قبل رجوعه ، وأما إن رجع إلى غير شبهة فعنه في ذلك روايتان : إحداهما : يقبل وهي الرواية المشهورة ، والثانية : لا يقبل رجوعه" وانظر: التاج والإكليل 6/294 ، ولهم مثل هذا التفصيل الذي في السرقة في سائر الحدود التي لله ، ففي القوانين الفقهية لأبي القاسم محمد ابن أحمد بن جزي الغرناطي – الدار العربية للكتاب ص 208 : " فإن أقر بحق لمخلوق لم ينفع الرجوع ، وإن أقر بحق الله تعالى كالزنى وشرب الخمر : فإن رجع إلى شبهة : قبل منه ، وإن رجع إلى غير شبهة : ففيه قولان : قيل يقبل منه وفاقا لهما ، وقيل : لا يقبل منه وفاقا للحسن البصري " .(5/30)
تعالى – أثر على ما وجب عليه بإقراره من حق للآدمي ، فإذا رجع السارقة المقر بالسرقة عن إقراره يسقط عنه القطع ، ولا يسقط عنه ضمان المال المسروق (1) ، وكذلك إذا رجع المحارب المقر عن إقراره يسقط عنه حد الحرابة ، ولا يسقط عنه القصاص إذا قتل أو جرح في حرابته ، ولا ضمان المال المأخوذ في الحرابة (2) .
ذهب ابن حزم- رحمه الله - إلى أن جميع الحدود لا تسقط برجوع الجاني عن إقراره ، فإذا أقر بالحد وجبت إقامته عليه وإن رجع عن إقراره (3) ، وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتي وأبي ثور والحسن وسعيد بن جبير في حد الزنا (4)، وقول داود وابن أبي ليلى في حد السرقة (5) .
الأدلة على سقوط الحدود الخالصة لله بالرجوع عن الإقرار :
لما هرب ماعز وذكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: " هلا تركتموه .. " دل ذلك على أن الرجوع مسقط للحد (6) .
__________
(1) البحر الرائق 5/56 ، الدر المختار 4/86 ، المدونة الكبرى 16/297 ، المنتقى 7/168 ، الشرح الصغير 2/434 ، حاشية العدوي على الخرشي – دار صادر – بيروت 8/102 ، الأم 7/151 ، روضة الطالبين 10/143 ، مغني المحتاج 4/175 ، شرح المحلي على منهاج الطالبين 4/196 ، المغني 9/120 ، كشاف القناع 6/144 . وعدم سقوط ضمان المسروق برجوع السارق عن إقراره هو المذهب عند الشافعية ، ولهم قول آخر بسقوطه . روضة الطالبين 10/143 ، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 4/196.
(2) بدائع الصنائع 9/4297 ، حاشية رد المحتار 4/113 ، الشرح الصغير 2/432 ، الأم 6/153 ، روضة الطالبين 10/143 .
(3) المحلى 9/121 .
(4) بداية المجتهد 2/329 ، المغني 9/63 ، نيل الأوطار 7/270
(5) المغني 9/119 .
(6) الكاساني ، بدائع الصنائع 9/4213(5/31)
لما أقر ماعز بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقنه الرجوع فقال : " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " (1) وقال للسارق الذي أقر عنده : " ما أخالك سرقت " وكان ذلك منه – صلى الله عليه وسلم – تلقيناً للرجوع ، فلو لم يكن محتملا للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين معنى (2) .
وعن بريدة قال : " كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن ماعزاً والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما ، أو قال : لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، , إنما رجمهما عند الرابعة " .
لأنه يحتمل أن يكون صادقا في الرجوع وهو الإنكار ، ويحتمل أن يكون كاذبا فيه ، فإن كان صادقا في الإنكار يكون كاذبا في الإقرار ، وإن كان كاذبا في الإنكار يكون صادقا في الإقرار ، فيورث شبهة في ظهور الحد ، والحدود لا تستوفى مع الشبهات (3) .
لأن الإقرار إحدى بينتي الحد ، فيسقط بالرجوع عنه كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد (4)
المناقشة :
ناقش ابن حزم- رحمه الله - بعض هذه الأدلة بما يلي :
__________
(1) صحيح البخاري 6/2502 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة- باب هل يقول الإمام للمقر : لعلك لمست أو غمزت برقم 6438
(2) بدائع الصنائع 9/4213
(3) المصدر السابق 9/4212 ، ابن قدامة ، المغني 9/163
(4) المغني 9/63(5/32)
فأما حديث ماعز فلا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه ليس فيه أن ماعزاً رجع عن الإقرار البتة لا بنص ، ولا بدليل ، ولا فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : إن رجع عن إقرار قبل رجوعه أيضا البتة (1) ، وقد قال جابر – رضي الله عنه - : " أنا أعلم الناس بأمر ماعز إنما قال رسول الله : " هلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول الله منه ، فأما لترك حد فلا " (2) ، وهذا نص كلام جابر فهو أعلم بذلك ، ولم يرجع ماعز قط عن إقراره وإنما قال : " ردوني إلى رسول الله فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي " (3) فبطل تمويههم بحديث ماعز(4)
وقال عن حديث بريدة : " كنا أصاحب رسول الله نتحدث أن ماعزاً والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما .. . وهذا ظن ، والظن لا يجوز القطع به ، وقول القائل : لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمرا كذا : ليس بشيء إذ لم يفعل ذلك الفلان ولا غيره ذلك الفعل قط ، ولا فعله عليه السلام قط " (5) .
__________
(1) المحلى 9/125
(2) سنن أبي داود 4/576 كتاب الحدود – باب رجم ماعز بن مالك برقم 4420
(3) المصدر السابق
(4) المحلى 9/126 .
(5) المحلى 9/125(5/33)
أما " ادرؤوا الحدود بالشبهات " فما جاء عن النبي قط من طريق فيها خير ، ولا نعلمه أيضا جاء عنه عليه السلام أيضا لا مسنداً ، ولا مرسلا، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر فقط ، ولو صح لكانوا أو مخالف له ؛ لأن الحنفيين والمالكيين لا نعلم أحداً أشد إقامة للحدود بالشبهات منهم ، فالمالكيون يحدون في الزنا بالرجم والجلد بالحبل فقط – وهي منكرة – وقد تستكره وتوطأ بنكاح صحيح لم يشتهر ، أو هي في غير عقلها ، ويقتلون بدعوى المريض أن فلاناً قتله ، وفلان منكر ولا بينة عليه ، ويحدون في الخمر بالرائحة ، وقد تكون رائحة تفاح أو كمثرى شتوي ، ويقطعون في السرقة من يقول : صاحب المنزل بعثني في هذا الشيء ، وصاحب المنزل مقر له بذلك ، ويحدون في القذف بالتعريض ، وهذا كله هو إقامة للحدود بالشبهات ، وأما الحنفيون فإنهم يقطعون من دخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة فلم يتول أخذ شيء ولا إخراجه ، وإنما سرق الذي دخل فيه فقط فيقطعونهما جميعاً في كثير لهم من مثل هذا . فمن أعجب شأناً ممن يحتج بقول قائل دون رسول الله ثم هو أول مخالف لما احتج به من ذلك " (1) .
الأدلة على أن الحدود لا تسقط بالرجوع عن الإقرار :
عن أنس – رضي الله عنه – أن جارية وجدت قد رض رأسها بين حجرين ، فقيل لها : من فعل بك هذا ؟ أفلان ؟ أفلان ؟ حتى سمي اليهودي فأومت برأسها ، فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرض رأسه بالحجارة .
في حديث العسيف أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنيسا الأسلمي أن يأتي المرأة فيرجمها إن اعترفت ، فاعترفت فرجمها . فقتل – عليه السلام – بالإقرار ورجم به ، فإن الحد يلزمه بإقراره فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به (2) .
__________
(1) المصدر السابق 9/126- 127
(2) المصدر السابق 9/125(5/34)
لأن ماعزاً هرب فقتلوه ولم يتركوه ، وروي أنه قال " ردوني إلى رسول الله فإن قومي هم غروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي ، فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه ، ولو قبل رجوعه للزمتهم ديته(1)
لأنه حق وجب بإقراره فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق (2) .
المناقشة :
إنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه ؛ لأنه ليس بصريح في الرجوع .
وفارق الحد سائر الحقوق فإنها لا تدرأ بالشبهات (3) .
الترجيح :
والذي يظهر أن الحدود الخالصة لله إذا ثبتت بالإقرار وحده فإنها تسقط بالرجوع عنه ؛ لما سبق من أدله لهذا القول ؛ ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة .
ويناقش قول المخالف : " فإن الحد يلزمه بإقراره فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به " بأن المقر بالحد مؤاخذ بإقراره ما لم يرجع ، فإذا رجع سقط عنه الحد ؛ لما سبق من أدلة على سقوطه بالرجوع ، أما بقية أدلة المخالف فقد تقدمت مناقشتها ، والله أعلم .
ثانيا : أثر الرجوع عن الإقرار في قانون الإثبات
ذهب قانون الإثبات السوداني لسنة 1994 م إلى عدم صحة الرجوع عن الإقرار في المعاملات إلا لخطأ في الوقائع يثبته المقر ، بينما جعل الرجوع عن الإقرار بالحدود شبهة يدرأ بها الحد عن الجاني المقر ، ففي المادة (22) :
" لا يصح في المعاملات الرجوع عن الإقرار إلا لخطأ في الوقائع على أن يثبت المقر ذلك
يعتبر الرجوع عن الإقرار في جرائم الحدود شبهة تجعل الإقرار بينة غير قاطعة " (4)
ثم بيّن القانون أن أثر رجوع المقر عن إقراره في جرائم الحدود يعد شبهة دارئة للحد عنه ، وقد جاء هذا الحكم في المادة (65) ونصها :
" تدرأ الحدود بالشبهات
يعد من الشبهات الرجوع عن الإقرار ، واختلاف الشهود ، ورجوع الشاهد عن شهادته
يدرأ الحد عن الزوجة في الملاعنة حلفها " (5)
وبتأمل هذه المواد يلاحظ ما يلي :
__________
(1) المغني 9/63
(2) المغني 9/63
(3) المصدر السابق
(4) ص 12
(5) ص 21(5/35)
أولا : أن القانون " أورد على الحكم الخاص بعدم صحة الرجوع عن الإقرار في المعاملات استثناءا أجاز بموجبه إمكانية الرجوع عن الإقرار إذا ثبت أن المقر وقع في غلط في الوقائع ، ويقع على المقر عبء إثبات الغلط في الوقائع ، وهذا أمر سائغ ؛ لأن قوة الإقرار تقوم على كونه خبرا يسوقه المقر ، فيكشف به عن حقيقة الوقائع المدعى بها عليه ، فإذا كانت هذه الوقائع تمثلت في اعتقاد المقر على غير حقيقتها جاز له أن يرجع عن الإقرار ، كأن يقر وارث بدين على مورثه وهو يجهل بأن هناك مخالصة بهذا الدين ثم يعثر بعد ذلك على هذه المخالصة ؛ فيكون له حينئذ أن يرجع عن إقراره بسبب هذا الخطأ ، أما الخطأ في القانون فلا يصلح سببا للرجوع عن الإقرار ؛ ذلك أن الإقرار ما هو إلا إخبار بواقعة ولا يمكن للمقر أن يرجع عن إخباره بحجة أنه يجهل النتائج القانونية التي تترتب في حقه على هذا الإخبار " (1)
__________
(1) بدرية ، شرح قانون الإثبات لسنة 1994 م ، ص 90(5/36)
ثانيا : يؤخذ من الفقرة (ب) من المادة (22) والفقرة (1) و (2) من المادة (65) أن الرجوع عن الإقرار يدرأ جميع الحدود بلا استثناء ؛ حيث استخدمت الفقرة (ب) من المادة (22) لفظ : " جرائم الحدود " وهو لفظ عام يشمل جميع جرائم الحدود بما فيها حد القذف ، وقد ورد في القانون الجنائي لسنة 1991 م تفسير جرائم الحدود في المادة رقم (3) : ( " جرائم الحدود " تعني جرائم شرب الخمر والردة والزنا والقذف والحرابة والسرقة الحدية ) (1) ، إلا أنه يمكن أن يقال إن هذا تفسير لجرائم الحدود حيث ورد ذكرها في القانون الجنائي ؛ لأن هذه المادة التي ورد فيها تفسير معنى جرائم الحدود صدّرت بالعبارة الآتية : " في هذا القانون – أي القانون الجنائي لسنة 1991 م – ما لم يقتض السياق معنى آخر ، تكون للكلمات والعبارات التالية المعاني المبينة أمام كل منها : ........" ، ولو سلمنا بأن هذا التفسير لجرائم الحدود إنما هو تفسير لها في القانون الجنائي ، فإن ذلك لا يمنع من حمل لفظ جرائم الحدود في قانون الإثبات على عمومه ، وكذلك المادة (65) من قانون الإثبات استخدمت لفظا عاما وهو كلمة : " الحدود " فيدخل في ذلك حد القذف وغيره من الحدود ، وعموم نص قانون الإثبات المقتضي كون الرجوع عن الإقرار شبهة دارئة لجميع الحدود بما فيها حد القذف ، مخالف لاتفاق الفقهاء على عدم سقوط حق العبد بالرجوع عن الإقرار كما سبق ، وحد القذف فيه الحقان : حق الله ، وحق العبد ، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف ، فهو الذي ينتفع به على الخصوص ، فمن هذا الوجه حق للعبد ، ثم أنه شرع زاجرا لإخلاء العالم عن الفساد فمن هذا الوجه حق الله (2) ، وقد ذهب جمهور الفقهاء : المالكية (3) والشافعية (4)
__________
(1) لمواد القانون الجنائي انظر : عبد الله الفاضل عيسى كرم الله ، شرح القانون الجنائي لسنة 1991 م ، ص 10
(2) الهداية 4/197
(3) المدونة الكبرى 16/249 ، التاج والإكليل لمختصر خليل 6/305
(4) المهذب 2/351 ، روضة الطالبين 10/106-107(5/37)
والحنابلة (1) - وهو المذهب عند الحنابلة - إلى أن المغلب في حد القذف : حق العبد ، وذهب الحنفية (2)- وهو رواية عن الإمام أحمد – إلى أن المغلب فيه حق الله – تعالى - ، وبالرغم من أن المغلب عند الحنفية في حد القذف : حق الله ، فهو لا يسقط برجوع القاذف عن إقراره ؛ وذلك لتضمنه لحق العبد الذي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار ، قال الكاساني- رحمه الله - في بدائع الصنائع : " وأما الرجوع عن الإقرار بالقذف فلا يسقط الحد ؛ لأن هذا الحد حق العبد من وجه ، وحق العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السقوط بالرجوع كالقصاص وغيره " (3) ، وقال ابن نجيم- رحمه الله - في البحر الرائق : " فإن رجع عن إقراره قبل الحد أو في وسطه خلي سبيله ؛ لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار وليس أحد يكذبه فيه فتتحقق الشبهة بالإقرار بخلاف ما فيه حق العبد ، وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه ، ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع"(4)
ويلاحظ أن القانون الجنائي لسنة 1991 م الصادر قبل قانون الإثبات ذكر أسباب سقوط حد القذف ، ولم يذكر ضمنها الرجوع عن الإقرار ، ففي المادة (158/1) منه : " تسقط عقوبة جريمة القذف في أي من الحالات الآتية :
بالتقاذف ، إذا ثبت أن المقذوف أو الشاكي قد رد على الجاني بمثل قوله
إذا عفا المقذوف أو الشاكي قبل تنفيذ العقوبة
باللعان بين الزوجين
إذا كان المقذوف فرعا للقاذف " (5)
__________
(1) المغني 9/77 - 78، الإنصاف 10/200 ، كشاف القناع 6/105
(2) الهداية 4/160 ، بدائع الصنائع 9/4202
(3) 9/4202
(4) 5/8
(5) لمواد القانون الجنائي انظر : عبد الله الفاضل عيسى كرم الله ، شرح القانون الجنائي لسنة 1991 م ، ص 231(5/38)
والذي يظهر لي أنه يمكن اعتبار عموم نص قانون الإثبات القاضي بسقوط جميع الحدود بالرجوع عن الإقرار من باب العام الذي أريد به الخاص ، أي أريد به ما سوى حد القذف ؛ لاتفاق الفقهاء على عدم سقوط حد القذف بالرجوع عن الإقرار ، وكون القانون الجنائي لم يذكر الرجوع عن الإقرار من مسقطات عقوبة القذف ، مع التنبيه إلى ضرورة مراجعة هذه المادة ، والنص فيها على استثناء حد القذف من السقوط بالرجوع عن الإقرار ، والله أعلم .(5/39)
ثالثا : أن القانون لم ينص على أثر الرجوع عن الإقرار فيما عدا الحدود من الجنايات الأخرى : وهي القصاص والتعزير ، والقصاص هو حق للآدمي ؛ لقوله تعالى : " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " – الإسراء 33 - ، ولقوله – صلى الله عليه وسلم - : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما أن يودى ، وإما أن يقاد " (1) ؛ وطالما أن القصاص حق للآدمي فهو لا يسقط بالرجوع عن الإقرار ؛ إذ لا يصح الرجوع عن الإقرار بحق الآدمي باتفاق الفقهاء كما سبق . وأما التعزير فلا يسقط بالرجوع عن الإقرار إذا كان حقا للآدمي ؛ لما سبق ، وإن كان حقا لله فهو أيضا لا يسقط بالرجوع عن الإقرار ؛ لاتفاق الفقهاء على عدم سقوط حقوق الله التي لا تدرأ بالشبهات بالرجوع عن الإقرار ، والتعزير مما لا يدرأ بالشبهات (2) ؛ وكان الأولى أن ينص القانون على عدم صحة الرجوع عن الإقرار بالقصاص والتعزير كما نص على عدم صحة الرجوع عن الإقرار في المعاملات ؛ لأهمية هذا الحكم الذي هو محل اتفاق بين الفقهاء ، والله أعلم .
الخاتمة
أهم النتائج والتوصيات :
__________
(1) صحيح البخاري 3/2522 ، كتاب الديات ، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين برقم 6486
(2) لعدم درء التعزير بالشبهات : انظر : ابن عابدين ، رد المحتار 4/ 60 ، ابن نجيم ، الأشباه والنظائر ص 130، ولعدم سقوط التعزير بالرجوع عن الإقرار : انظر : الكاساني ، بدائع الصنائع 9/4222 ، ابن عابدين ، رد المحتار 4/60 ، ابن قدامة ، المغني 5/95(5/40)
أولا : في السودان الآن هيئة قضائية واحدة ، لها ولاية الفصل في جميع أنواع القضايا – باستثناء القضايا الدستورية فلها محكمة مستقلة لا تتبع للهيئة القضائية – حسب القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء ، وذلك منذ سنة 1983 م تاريخ إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية ، وبذلك يتبين أن القضاء في السودان كله قضاء شرعي ، وأنه لم يعد هناك قضاء مسمى بالقضاء الشرعي يحكم وفق الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية فحسب ، كما حدث ظلما وعدوانا في بعض السنوات القليلة المظلمة من تاريخ السودان بعد تشرفه بدخول الإسلام فيه .
ثانيا : الإقرار مشروع باتفاق الفقهاء ، وأثره أن المقر مؤاخذ بما أقر به سواء أكان المقر به حقا لله كالحدود الخالصة لله – تعالى – أم للآدمي كالمال ، والقصاص ، وحد القذف .
ثالثا : حكم إقرار الإنسان بما عليه من الحقوق عند الفقهاء : فيما يتعلق بحق الآدمي كالمال والقتل والقذف يجب عليه أن يقر به ليستوفي منه ؛ لما في حقوق الآدميين من التضييق ، ويستحب لمن ارتكب معصية تتعلق بحق الله- تعالى - الستر على نفسه .
رابعا : عرّف قانون الإثبات السوداني لعام 1994 م الإقرار في المادة 15/1 ونصها : " الإقرار هو اعتراف شخص بواقعة تثبت مسؤولية مدعى بها عليه " ،
ويلاحظ : أن القانون قيّد الإقرار بكونه اعترافا بواقعة تثبت مسؤولية مدعى بها على المقر ، وهذا يخرج اعتراف الشخص بشيء لم يدع به عليه كاعتراف الإنسان بحق بمالي عليه لآخر من غير أن يدعي عليه صاحب هذا الحق ، وكاعتراف من ارتكب جرما بجرمه في حال عدم الادعاء عليه بأنه ارتكبه ، فعلى تعريف القانون للإقرار لا يسمى مثل هذا إقرارا ، وهو في الفقه يعد إقرارا ؛ لذا أقترح إعادة النظر في صياغة هذه المادة ، وتعريف الإقرار تعريفا جامعا لأفراد المعرّف .
خامسا : قسم قانون الإثبات الإقرار إلى قسمين : إقرار قضائي ، وإقرار غير قضائي ، ورتب أثرا على هذه التفرقة .(5/41)
سادسا : الإثبات بالإقرار في الجنايات : اعتبر القانون الإقرار حجة قاطعة على المقر في الجنايات ، إلا أنه قيّد ذلك بكون الإقرار قضائيا ، ولم يعتبره صحيحا إذا كان نتيجة لإغراء أو إكراه ، كما اشترط خلوه من الشبهة ليكون حجة قطعية ، وفي الموسوعة الفقهية : " والشيء المقر به إما أن يكون حقا لله تعالى أو حقا للعباد . وحقوق العباد تثبت مع الشبهات , بخلاف حقوق الله تعالى , فإن منها ما يسقط بالشبهة , كالزنى والسرقة وشرب الخمر , ومنها ما لا يسقط بالشبهة , كالزكاة والكفارة . " ، ومن المعلوم أن الجنايات منها ما هو حق لله خالصا ، وهي : جرائم الحدود الخالصة لله تعالى ، أي ما عدا حد القذف ، وجرائم التعزير التي ليس فيها حق للعبد ، ومن الجنايات ما هو حق للعبد ، وهي : القصاص في النفس وما دونها ، وحد القذف عند جمهور الفقهاء – خلافا للحنفية أن المغلب فيه حق الله - ، وجرائم التعزير التي فيها حق للعبد يجتمع فيها حق الله وحق العبد ، أما درء الحدود بالشبهات فهو أمر متفق عليه بين الفقهاء .
نص القانون على أن الإقرار بالحدود لا بد أن يكون صريحا ؛ وهو ما دل عليه الحديث الصحيح ؛ وأن الإقرار غير الصريح فيه شبهة ، وهي احتمال أن المقر ارتكب ما لا يوجب الحد ، وهو يظنه حدا ، والحدود تدرأ بالشبهات .
الحدود كلها تثبت بالإقرار مرة واحدة في القانون ، وتجدر الإشارة إلى أن الفقهاء اختلفوا في عدد مرات الإقرار الذي يثبت به حد الزنا ، وحد السرقة ، وترجح للباحث أن الزنا لا يثبت إلا بالإقرار به أربع مرات ، والسرقة لا تثبت إلا بالإقرار بها مرتين ، والله أعلم .(5/42)
سابعا : الإثبات بالإقرار في المعاملات : اعتبر قانون الإثبات الإقرار في المعاملات حجة قاطعة على المقر ، إلا أنه استثنى من ذلك أمرين : أحدهما : إذا قصد المقر بالإقرار الإضرار بخلفه فيما أقر به ، ولعل هذا الاستثناء مبني على أن الإقرار يشترط فيه انتفاء التهمة عن المقر ، والثاني : إذا اختلف المقر والمقر له في سبب المقر به ، ولم أقف على القائل بهذا القول من الفقهاء فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كتبهم ، بل وجدت في بعض كتب الحنفية والمالكية ما يخالفه .
ثامنا : أثر الرجوع عن الإقرار عند الفقهاء : لا أثر للرجوع عن الإقرار بحق الآدمي باتفاق الفقهاء ، ولا أثر للرجوع عن الإقرار بحقوق الله- تعالى- التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات والتعزيز ، باتفاق الفقهاء كذلك .
واختلف الفقهاء في أثر رجوع المقر عن إقراره بالحدود الخالصة لله - تعالى- إذا كان الحد قد ثبت بالإقرار وحده على النحو الآتي : اتفقت المذاهب الأربعة على أن الرجوع عن الإقرار يسقط جميع الحدود عدا حد القذف ، سواء أكان الرجوع قبل إقامة الحد أم في أثنائه ، وسواء أكان رجوعه لشبهة أم لغير شبهة ، وفي قول للمالكية لا يقبل رجوعه عن إقراره إذا كان لغير شبهة . وليس لرجوع المقر بالحد الخالص لله – تعالى – أثر على ما وجب عليه بإقراره من حق للآدمي ، وذهب ابن حزم- رحمه الله - إلى أن جميع الحدود لا تسقط برجوع الجاني عن إقراره ، وترجح للباحث سقوطها بالرجوع عن الإقرار ، والله أعلم .(5/43)
تاسعا : أثر الرجوع عن الإقرار في قانون الإثبات : ذهب القانون إلى عدم صحة الرجوع عن الإقرار في المعاملات إلا لخطأ في الوقائع يثبته المقر ، بينما جعل الرجوع عن الإقرار بالحدود شبهة يدرأ بها الحد عن الجاني المقر ، والذي يظهر لي أنه يمكن اعتبار عموم نص قانون الإثبات القاضي بسقوط جميع الحدود بالرجوع عن الإقرار من باب العام الذي أريد به الخاص ، أي أريد به ما سوى حد القذف ؛ لاتفاق الفقهاء على عدم سقوط حد القذف بالرجوع عن الإقرار ، وكون القانون الجنائي لم يذكر الرجوع عن الإقرار من مسقطات عقوبة القذف ، مع التنبيه إلى ضرورة مراجعة هذه المادة ، والنص فيها على استثناء حد القذف من السقوط بالرجوع عن الإقرار ، والله أعلم .
كما أن القانون لم ينص على أثر الرجوع عن الإقرار فيما عدا الحدود من الجنايات الأخرى : وهي القصاص والتعزير ، والقصاص حق للآدمي فلا يسقط بالرجوع عن الإقرار باتفاق الفقهاء ، والتعزير أيضا لا يسقط بالرجوع عن الإقرار ؛ لأنه مما لا يدرأ بالشبهات ، وكان الأولى أن ينص القانون على عدم صحة الرجوع عن الإقرار بالقصاص والتعزير كما نص على عدم صحة الرجوع عن الإقرار في المعاملات ؛ لأهمية هذا الحكم الذي هو محل
اتفاق بين الفقهاء ، والله أعلم .
والله الموفق
قائمة المصادر والمراجع
الإجماع ، تأليف : محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري أبو بكر، تحقيق : د. فؤاد عبد المنعم أحمد ، دار الدعوة – الإسكندرية ، ط 3 – 1402هـ
الأحكام السلطانية لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء – صححه وعلق عليه محمد حامد الفقي – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر – ط 1 ، 1356هـ - 1938م .
الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر – ط 3 ، 1393 هـ - 1973 م .(5/44)
الأم للإمام الشافعي – صححه محمد زهري النجار – دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت 1393 هـ .
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي – صححه وحققه محمد حامد الفقي - ط 1 ، 1377 هـ - 1957 م .
أنوار البروق في أنواء الفروق ، أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي ، تحقيق: خليل المنصور ، بيروت : دار الكتب العلمية ، ط 1 ، 1418هـ ، 1998م
البحر الرائق شرح كنز الدقائق لزين العابدين إبراهيم بن نجيم – دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن الرشد الحفيد – دار الفكر .
تاريخ النظام القضائي في السودان 1504 م – 2004 م الملامح والتطور ، محمد خليفة حامد ، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ، 2004 م
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للقاضي ، تأليف : برهان الدين إبراهيم بن علي بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون ، خرج أحاديثه وعلق عليه وكتب حواشيه: الشيخ جمال مرعشلي ، دار الكتب العلمية – بيروت - لبنان ،1422هـ - 2001 م
التجريد لنفع العبيد (حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب) ، لسليمان ابن عمر بن محمد البجيرمي، المكتبة الإسلامية - ديار بكر - تركيا .
تحفة المحتاج ، لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي , ، مطبوع بهامش حواشي الشرواني وابن القاسم – دار صادر – بيروت .
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي ، المكتب الإسلامي - القاهرة - 1313هـ.
ترتيب القاموس المحيط ، للطاهر أحمد الزاوي ، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه – ط 2 .
الخرشي على خليل لأبي عبد الله الخرشي – دار صادر بيروت(5/45)
الدر المختار للحصكفي وحاشية رد المحتار عليه لمحمد أمين الشهير بابن عابدين – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر – ط 2 ، 1386 هـ - 1966 م .
درر الحكام شرح مجلة الأحكام ، لعلي حيدر، تحقيق : تعريب: المحامي فهمي الحسيني ، دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان
روضة الطالبين وعمدة المفتين لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي – المكتب الإسلامي – ط 2 ، 1405هـ - 1985 م .
سنن ابن ماجة أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – دار الفكر للطباعة والنشر .
سنن أبي داود ، لسليمان بن الأشعث السجستاني – إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد – دار الحديث للطباعة والتوزيع – بيروت .
سنن الترمذي ، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي ، تحقيق وتعليق إبراهيم عطوة عوض – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر – ط 1 ، 1382 هـ - 1962 م .
الشرح الصغير، أحمد بن محمد بن أحمد الدردير ، مطبوع بهامش بلغة السالك ، دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت 1398 هـ - 1978 م .
شرح القانون الجنائي لسنة 1991 م ، عبد الله الفاضل عيسى كرم الله ، الخرطوم ، ط 5 ، 2004 م .
شرح قانون الإثبات لسنة 1994 م ، د . بدرية عبد المنعم حسونة ، الخرطوم : مطبعة جي تاون ، ط 8 ، 2004 م
شرح قانون الإثبات السوداني ، د . حاج آدم حسن الطاهر ، السودان : دار جامعة القرآن الكريم للطباعة ، ط 4 ، 2005 م .
شرح المحلي على منهاج الطالبين مطبوع بهامش حاشيتي قليوبي وعميرة – دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابي الحلبي وشركائه – مصر .
شرح منتهى الإرادات ، لمنصور بن يونس البهوتي – مطبعة أنصار السنة بالقاهرة ، 1366 هـ .
صحيح البخاري ، ضبطه ورقمه الدكتور مصطفى ديب البغا – دار العلم – دمشق – بيروت – ط 1 ، 1401 هـ - 1981 م .(5/46)
صحيح مسلم ، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي – ط 1 ، 1375 هـ - 1955 م .
فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تأليف : أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني ، تحقيق : محب الدين الخطيب ، دار المعرفة - بيروت
فتح القدير على الهداية لكمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام – المطبعة الأميرية ببولاق – مصر – الطبعة الأولى – 1316 هـ .
قانون الإثبات لسنة 1994 م ، الخرطوم : وزارة العدل .
الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد ابن عبد البر النمري القرطبي ، تحقيق الدكتور محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني – مكتبة الرياض الحديثة – ط 1 ، 1398هـ .
الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار للحافظ عبد الله محمد بن أبي شيبة – تحقيق مختار أحمد الندوي – من مطبوعات الدار السلفية – الهند – ط 1 ، 1401 هـ .
كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس البهوتي – مطبعة الحكومة بمكة 1394 هـ
لسان العرب ، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري ، دار صادر للطباعة والنشر ، دار بيروت للطباعة والنشر 1388 هـ.
المبسوط لشمس الدين السرخسي – دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت 1406 هـ
المستدرك على الصحيحين للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري – مكتبة المطبوعات الإسلامية – حلب .
مسند الإمام أحمد بن حنبل – المكتب الإسلامي للطباعة والنشر – دار صادر للطباعة والنشر – بيروت
المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني – تحقيق وتعليق حبيب الرحمن الأعظمي – من منشورات المجلس العلمي بالهند - المكتب الإسلامي – بيروت – ط 1 ، 1392 هـ
المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ، دار الفكر - بيروت ، ط 1 ، 1405 هـ
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الخطيب الشربيني – دار الفكر.(5/47)
المنتقى شرح موطأ الإمام مالك لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي الأندلسي – مطبعة السعادة – مصر – ط 1 ، 1332 هـ .
الموسوعة الفقهية ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت ، الكويت ، ط 4 ، 1414هـ - 1993م
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب – مكتبة النجاح – طرابلس – ليبيا ،
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني – دار الجيل – بيروت 1973 .
الهداية شرح بداية المبتدىء لأبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الميرغناني - مطبوع مع شرح فتح القدير – المطبعة الأميرية ببولاق – مصر – ط 1 ، 1318 هـ
الوجيز الميسر في فقه الأحوال الشخصية على مذهب الإمام مالك ، مع مقارنة أكثر مسائله وأهمها بالمذاهب الأخرى ، محمود بن مجيد الكبيسي ، أبو ظبي ، دار الإمام مالك ، ط 2 ، 1425 هـ ، 2005 م .(5/48)
بسم الله الرحمن الرحيم
الاجتهاد القضائي المعاصر
ضرورته ووسائل النهوض به
الدكتور قطب الريسوني
أستاذ الفقه المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
مقدمة :
لا يخفى على كل ذي علم ونظر دور القضاء الشرعي في ضبط المعاملات ، وحسم النزاعات ، وإلحاق الحقوق بأصحابها ، ولذلك لم تنعم مجتمعات الإسلام في عصورها الزاهرة باستقرار حبل الأمن إلا في ظل مؤسسة قضائية راشدة ، جعلت نصب عينها إقامة موازين القسط ، وإشاعة قيم العدل .
ومن ثم كان علماؤنا ـ إذا راموا إصلاح القضاء وترميم ما تداعى من بنائه الريّان ـ شخصت أبصارهم إلى الصفحات النيّرات من تاريخنا القضائي ، استمداداً منه ، واستيحاءً لمناهجه وضوابطه التي تؤول جميعها إلى التفيّؤ بظلال القرآن والسنة ، والأنس بأحكام السماء وعدالتها المطلقة .
ولما كان للقضاء الشرعي هذا الدور البالغ في صون كيان المجتمع عن دواعي التصدّع والإنحلال ، صار من الضرورة اللازبة أن يجتهد أهل العلم والحزم في كل عصر في تقويم مساره ، وإصلاح شأنه ، وتدارس سبل النهوض به ، مما يسعف في بلوغ مقاصده المرجوة .
وفي هذا الإطار عنيت بصياغة مقترحات ورؤى من شأنها النهوض بالإجتهاد القضائي المعاصر ، حتى يصل ماضيَه الأثيل بحاضره المتجدّد ، ويرقى إلى مشارف التحديات الراهنة برؤية راسخة مستشرفة .
وقد وزعنا هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث :
- المبحث الأول : عنيت فيه بتعريف الإجتهاد القضائي الشرعي في ضوء اعتبارين : اعتبار التلازم الوصفي بين الإجتهاد والقضاء والشرع ، واعتبار اللقبية ، مع تعقّب بعض التعريفات ، وبيان ما يقدح فيها ، وانتقاء التعريف الذي يمكن عدّه جامعاً لأفراد المعرَّف وخصائصه ، ومانعاً من دخول غيره فيه .
- المبحث الثاني : قسّمته إلى مطلبين :
* المطلب الأول : هل الإجتهاد شرط في تولية القضاء ؟
* المطلب الثاني : مؤيدات الإجتهاد القضائي الشرعي المعاصر(6/1)
- المبحث الثالث : قسمته إلى خمسة مطالب ترصد وسائل النهوض بالإجتهاد القضائي الشرعي المعاصر ، وهي :
* المطلب الأول : نبذ التعصّب المذهبي
* المطلب الثاني : التأهيل الإجتهادي للقضاة الشرعيين
*المطلب الثالث : تطبيق مبدأ المشاورة
* المطلب الرابع : توثيق الصلة بين القضاء الشرعي وفقه الواقع
* المطلب الخامس : : تفقّد الجهاز القضائي الشرعي
ونأمل أن تكون هذه المعالم النظرية قد تمخّضت عن رأي مستحسن ، ومنزع مبتكر ، وزاحمت بمنكبها – مع قلة البضاعة وكساد الصناعة ـ في مضمار الإصلاح القضائي ، فإذا حزت نصيباً من المأمول فالتوفيق من عند الله عز وجل ، وإذا قصّرت فالزلل مني ومن الشيطان ، ولي من حسن النية ، ونبل القصد ، شفيع لا يرد ، وواسطة لا تخيب ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم .
المبحث الأول : تعريف الاجتهاد القضائي الشرعي
الاجتهاد القضائي الشرعي هو استفراغ القاضي وسعه في دَرْك الأحكام الشرعية ، وتنزيلها على الواقع ، من أجل الفصل بين المتنازعين ، وصيانة الحقوق العامة .
وتُستفاد من هذا التعريف قيود وضوابط يمكن إجمالها فيما يلي :
1 – إن التصدّر للقضاء والبتّ في الأحكام يحتاج إلى مؤهلات اجتهادية تعين عن انتزاع الأحكام من مصادرها ، وضمان حسن تنزيلها على الواقعات .
2 – إن تقييد الأحكام المستنبَطة بنعت حقيقي هو ( الشرعية ) فصْلٌ يحترز به عن كل حكم وضعي روعيت فيه القوانين المدنية والجنائية المستوردة وما جرى مجراها .(6/2)
3 – إن تعريف الاجتهاد القضائي الشرعي باستفراغ الوسع في درْك الأحكام الشرعية لا يعرى عن قصور وابتسار ، لأن العملية الاجتهادية غير محصورة في استنباط المراد الالهي من النص ، وإنما تتجاوز ذلك إلى أفق رحب تُراعى فيه خصوصيات الواقع المنزّل عليه ، والظواهر المتشابكة المؤثرة في المحيط الإنساني ، مما يثمر في نهاية المطاف عن فهم شرعي مسدَّد للنص ، وتنزيل محكم له على الواقعات لا تتخلّف فيه المقاصد ، أو تتعطّل المآلات .
ومن ثم تكون العملية الاجتهادية المنوطة بالقاضي الشرعي ذات بعدين : بعد تأويلي استنباطي ، وبعد تطبيقي إنجازي ، وهما يشكّلان معاً عصب الاجتهاد الصحيح القادر على تفعيل الحياة بتعاليم الوحي المتمحّضة لخير الإنسان في العاجل والآجل،ولذلك كان لزاماً علينا أن نضمّن التعريف شرط : (التنزيل على الواقع ) .
4 – إن ما نقع عليه في كتب المذاهب من تعاريفَ تجلّي ماهية القضاء الشرعي تُعقّب من جهتين :
الأولى : عدم الجمع ، لاقتصار التعاريف على قضايا التنازع والمخاصمة ، والقضاء قد يبتّ في غيرها مما يعرى عن الخصومة كالحكم بالحجر والولاية ، وهذا التضييق يؤول إلى عدم الإحاطة بأفراد المعرَّف وخصائصه ، والثانية : عدم المنع ، إذ يدخل في القضاء الصلح بين الخصمين ، وحكم الحكمين في شقاق الزوجين ، وجزاء الصيد ، وفي هذا من التوسّع والتسامح ما لا يخفى .
ولسنا هنا بحاجة إلى جلب التعاريف من مظانها ، وبيان أوجه العلّة في صياغتها المنطقية ، وحسبنا لفت النظر إلى إخلالها بشرط الجمع والمنع ، ولعل هذا ما حملنا حملاً على تجاوز الثغرة الملحوظة في التعاريف المسطورة ، إذ جاء تعريفنا للاجتهاد القضائي الشرعي معزَّزاً ببيان مقاصده ومراميه ،وهي :(6/3)
( الفصل بين المتنازعين ، وصيانة الحقوق العامة ) ، ويؤخذ من هذه العبارة الأخيرة أن القضاء سلطة تعنى بالحسم في الخصومة ، وتتعدّى ذلك إلى صيانة الحقوق العامة ، فيدخل في التعريف قضاء المظالم وقضاء الحسبة وغيرهما ، وهذا لا يتأتى إلا بتطبيق الأحكام الشرعية بالنصّ أو الاجتهاد .
- المبحث الثاني : حاجتنا إلى اجتهاد قضائي معاصر
مما يحسن سوْقه من إضاءات بين يدي موضوع النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر ، التأكيد على اشتراط الإجتهاد في تولية القضاء ، واستجلاء المؤيدات الشرعية والعقلية التي تبرز الحاجة الماسة إلى قيام اجتهاد قضائي معاصر يرقى إلى مشارف التحديات الحضارية الراهنة ، وهذا ما عنينا باستيفاء الحديث عنه في مطلبين اثنين :
المطلب الأول : هل الاجتهاد شرط في ولاية القضاء ؟
اختلف الفقهاء في اشتراط الاجتهاد في صحة تولية القضاء على قولين :
- الأول : اشتراط الاجتهاد في صحة التولية ، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة(1)، واستدلوا بما يأتي :
أ - قوله تعالى : ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) (2)، ووجه الدلالة من الآية : أن الحكم بين الناس يكون بالنص أو الاجتهاد .
ب - قوله تعالى : ( فاحكم بين الناس بالحق ) (3) ، ووجه الدلالة من الآية : أن الحكم بين الناس بالحق قد لا يستقيم إلا بالإجتهاد في النازلة ، واستفراغ الوسع في درْك حكمها الشرعي ، والمقلّد يلتبس عليه التمييز بين الحق والباطل في موارد الإجتهاد ، ومضايق الإشتباه .
__________
(1) ابن رشد ، بداية المجتهد ، 2 / 421 ، وابن فرحون ، التبصرة ، 1 / 24 ، وابن قدامة ، المغني ، 11 / 382 .
(2) النساء : 105 .
(3) ص : 26 .(6/4)
ج - عن عمرو بن العاص مرفوعاً : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإن حكم فاجتهد ، ثم أخطأ فله أجر ) (1)،ووجه الدلالة من الحديث : أنه أصل في مشروعية الاجتهاد القضائي، وثواب الحاكم المجتهد في كل حال ، مما يشجّع على بذل الوسع في درك الأحكام الشرعية
من طريق النظر والاستنباط . قال النووي : ( قال العلماء : أجمع المسلمون أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ) (2).
د- حديث معاذ في كيفية القضاء : ( أجتهد رأيي ولا آلو ) (3)، ووجه الدلالة من الحديث : أنه أصل في إعمال الرأي ، والمصير إلى الاجتهاد عند غياب المنقول ، وهذا عام في القضاء والفتوى .
وأجيب عنه : بأن الحديث ضعيف ، وتقدح فيه ثلاث علل : الإرسال ، وجهالة أصحاب معاذ ، وجهالة الحارث بن عمرو(4).
وهذه الأدلة متضافرة متعاضدة كانت تكأة متينة للجمهور في اشتراطهم الاجتهاد في صحة تولية القضاء ، لاسيما إذا توافر المجتهدون ، ولو كان بعضهم في أدنى مراتب الاجتهاد .
__________
(1) رواه البخاري ، رقم : 6919 ، ومسلم ، رقم 1716.
(2) النووي ، شرح صحيح مسلم ، 12 / 14 .
(3) رواه أبو داود ، 2 / 272 ، والترمذي ، 2 / 394 ، والبيهقي في السنن ، 10 / 114 وغيرهم .
(4) انظر : الترمذي ، السنن 2 / 394 ، وابن حزم ، الإحكام ، 7 / 112 ، وابن الجوزي ، العلل المتناهية ، 2 / 758 ، وعبد الحق الإشبيلي ، الأحكام الوسطى ، 1 / 170 ، والذهبي ، ميزان الإعتدال ، 1 / 439 ، والألباني ، السلسلة الضعيفة ، 2 / 273 .(6/5)
- الثاني : إن الاجتهاد ليس بشرط لصحة التقليد ، وإنما هو شرط كمال وأولوية يستحب رعيه فيمن ينتصب للقضاء ، وهو مذهب الحنفية ، واستدلوا على ذلك بتعذّر وجود المجتهد في كل الأزمنة والبلدان(1). بل إن الحنفية ذهبوا أبعد من ذلك فقالوا بجواز تقليد الجاهل قياساً على الإمام الأعظم الذي يمكنه أن يستعين بعلم غيره فيقضي به ، ويتخذ لنفسه مجلساً للشورى الفقهية يفتيه في صعاب الأمور ، ومعضلات المسائل ، وكذا القاضي ، إلا أن من الحنفية أنفسهم من سفّه هذا الرأي ، لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح ، وقد يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به(2).
والراجح في هذه المسألة مذهب الجمهور ، لأن الاجتهاد أعون للقاضي على إصابة الحق ، ونصب موازين القسط ، وتحقيق قيّومية الشرع على الواقع ، والمجتهدون متوافرون في كل عصر ، وإن لم يرْقَ اجتهادهم إلى أعلى الرّتب ، فلا نعدم منهم من يؤهل للقضاء ، ويتصدّر للبتّ في الأحكام ، إلا أنه ليس من شرط القاضي المجتهد أن يحيط بالعلوم الشرعية ( إحاطة تجمّع أقصاها ، وإنما يحتاج أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ) (3)، مع ارتياض بالأصول ، وتمهّر في صناعة الترجيح .
وقد صار شرط الاجتهاد ، اليوم ، متعيَّناً أكثر من تعيّنه في العصور الغابرة ، ولا يعتذر عنه بانقراض المجتهدين من جهة ،وسدّ الذريعة إلى الفوضى في دين الله من جهة ثانية ،لأن الحياة المعاصرة
__________
(1) ابن عابدين ، رد المحتار ، 5 / 365 .
(2) الكاساني ، بدائع الصنائع ، 1 / 407 .
(3) ابن قدامة ، المغني ، 11 / 383 .(6/6)
تدور في فلك تطورات متلاحقة حثيثة لا تكفّ عن المخاض كل يوم ، مما يستدعي المواكبة الشرعية الموصولة للنوازل الحضارية والمستجدات العلمية ، وهي مواكبة متاحة وميسورة ، بعد التئام مادة المعارف والفنون ، وتيسّر سبل إدراكها وتحصيلها ، ولاسيما علوم الاجتهاد التي وُطّئت أكنافها ، وذلّلت قطوفها بما لا مزيد عليه .
- المطلب الثاني : مؤيدات الاجتهاد القضائي المعاصر
إن النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر ليس شعارً كاسداً ناتجاً عن ترف الفكر ، وبطر الذهن ، وإنما هو مطلب شرعي ملحاح يمليه المنهج الإسلامي في التفكير ، والإيقاع العصري الوثّاب بتحدياته ونوازله ، وتشفع لهذا المطلب مؤيدات شرعية وعقلية نجملها فيما يأتي :
_ أولا : إن الحياة المعاصرة ولود معطاء ، تتمخّض كل ساعة عن جديد تنزع به قديماً في أنظمة السياسة والاقتصاد ، وضروب العلم وألوان المعرفة ، ومناشط الفرد والجماعة ، ولا سبيل إلى أن نصحبَ هذه الحياة على الصحة والعافية والسلامة ، إلا في حمى الشريعة ، وفي ضمان وثيق من الفكر الاجتهادي ، ولن يستقيم ذلك إلا إذا قال الشرع قوله في الحوادث والمستجدات التي تأخذ منها وندع ، وهذه رسالة المجتهدين من الفقهاء والمفتين والقضاة على حد سواء ، وإذا ما تعطّلت هذه الرسالة فلن نجد للإسلام ذلك الضوء الهادي المؤنس ، وتلك المعالم النيّرة المبشّرة التي قادت ومازالت تقود إلى شطآن الخير والأمان .
فهل يبقى القضاء الشرعي بعد هذا السباق الحثيث في حلائب التطور ، أسير التقليد الأعمى ، وطريد الفكرة المذهبية الضيّقة ، والحياة لا تكاد تلبس ثوباً في أول النهار حتى تخلعه في آخره ، لا لأن هذا الثوب قد بليَ ورثّ ، وإنما هو السعي الحثيث نحو التحوّل والتغيير واستشراف الأفضل ونسخ آيات العلم الكائنة بآيات أخر أردّ على البشرية نفعاً وعائداً ؟؟ !!(6/7)
لا سبيل ، إذا ً ، أمام قضائنا الشرعي المعاصر إلا الأخذ بزمام الاجتهاد مواكبةً للركب الحضاري المنطلق بقوة واندفاع وإغْذَاذِ سير ، حتى لا ينكمش ظله ، ويضعف شأنه ، ويخفّ ميزانه في حياة الناس ، وهو ملاذ في الحكم بشرع الله ، وتسديد الواقع به .
- ثانياً : إن إصابة الحق الذي أمر به الحاكم ، مطلب ضروري يستقيم به أمر القضاء ، وتزكو ثمرته،
ولا شك أن استيفاء هذا المطلب رهين بأمرين : أولهما : الحكم بما أنزل الله ، لأن المصلحة فيه متمحّضة لخير الإنسان في العاجل والآجل ، وثانيهما : الاجتهاد في فهم المراد الإلهي من الوحي ، وتنزيله على الواقع تنزيلاً محكماً ، وكذا الحسم في النوازل المستجدة ذات الصلة بدعاوى المتقاضين .
فلا غرو ، إذاً ، أن يكون الحق المنشود ثاوياً في اجتهاد قضائي صادر عن أهله وخاصته ، ومسدَّدٍ في منزعه ومنحاه ، وإذا ما تراخى أهل القضاء عن النهوض بفريضة الاجتهاد ، وقصّروا فيها تقاعداً وتقاعساً ، فاتت أحكام الشرع في الحوادث بفوات اجتهادهم ، ، وتعطلت المعاني الحركية السامية في رسالة القضاء .
- ثالثا : إن الرسالة المثلى للقضاء هي نصب موازين العدل والقسط ، وتسديد الحياة بها ، وكي تؤتيَ هذه الرسالة أكلها لابد أن يستعان بفهوم المجتهدين في معالجة النوازل والحكم فيها بالرأي المسدَّد ، حتى يتهدّى الناس إلى جادّة الصواب ، وتُلحق الحقوق بأصحابها دون تباطؤ أو تلكّؤ .
ولنفرض - جدلاً – أن قاضياً تعرض بين يديه النازلة فيتوقّف فيها إذا أعوزه النظير أو المثال في مسطور مذهبه ، ويتهيّب ولوج مضايق الاجتهاد ، فإن حكم النازلة يفوت ، ورسالة الحق تتعطل ، ومصالح الناس تضيع ، وهذا حيف كبير تتنزّه عنه الرسالة الفضلى للقضاء .(6/8)
- رابعاً : إن الاجتهاد القضائي باب توسعة ورحابة وميسرة في دين الإسلام ، لا يوصده إلا داعية إلى الجمود ، والتحجّر ، والانكفاء ، وجاحد لفريضة التفكير ومنهج الاعتبار ، وكيف لا والاجتهاد في كل مضمار يوسّع على الناس ضيّقاً ، ويفتح في حياتهم نوافذ الخير ، فإذا داهمتهم نازلة أدلى فيها بدلوه ، وإذا حزبتهم معضلة حسم فيها برأيه ، فحصحص لهم الحق ، واستنار السبيل .
- خامساً : إن القاضي المجتهد في قضائه يتعاطى صناعة الاجتهاد من جهتين : الأولى : فهم المراد الإلهي من الوحي أحكاماً ومقاصدَ وغاياتٍ ، انطلاقاً من مناهج الاستدلال وأدوات الاستنباط ، والثانية : فهم موازٍ للفهم الأول وهو الفقه في الواقع الإنساني المتغيّر المنزَّل عليه ،وإدراك علائقه المتشابكة ، وسماته المعقدة ، وأبعاده الغنية . وبالفقهين معاً : فقه النص وفقه الواقع ، تحكم عرى الوصل بين ( وحي السماء وواقع الأرض ) (1)، فتغدو حياة الناس منفعلة بتعاليم الوحي ، ومتشرّبة لمقاصده ، ويشقّ الوحي مجراه نحو الحضور الفعلي في الواقع بقصد تكييفه وفق إلزاماته المتمحّضة للخير في العاجل والآجل .
ومن ثم فإن اجتهاد القاضي ثنائي المقصد والاتجاه ، إذ لا ينكفىء على استجلاء المراد الالهي في الوحي فقط ، وإنما يعنى بتطبيق المراد المفهوم على الواقع الإنساني ، وهذا يقتضي تبصّراً بخصوصيات
كل واقع منزَّل عليه ، وتوسّلاً بأدوات التنزيل المحكَم التي تحمي مآل الحكم ، وتصون مقصده الشرعي عن التخلّف والانطماس .
وفي ضوء هذه المعطيات عن طبيعة العملية الاجتهادية المناطة بالقاضي ، يمكننا الجزم بأن الاجتهاد
القضائي يسعف في تحقيق قيّومية الشرع على الواقع ، وتسديد الحياة بتعاليم الوحي الهادية البانية ، وهذا مقصد عالٍ من مقاصد الاستخلاف في الأرض وعمارة الكون .
__________
(1) قطب محمد سانو ، أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر ، ص 20 .(6/9)
- المبحث الثالث : وسائل النهوض بالاجتهاد القضائي المعاصر
إن النهوض بالاجتهاد القضائي الشرعي المعاصر يحتاج إلى صياغة رؤية إصلاحية محكمة شاملة لمناحي القصور ، ومستوفية بأغراض العلاج ، فضلا عن إخراج هذه الرؤية من الحيّز النظري إلى الحيّز التطبيقي لتؤتيَ أكلها بقوة الفعل وفاعلية الإنجاز. ومن ثم فإن النهوض المرجو لا يستقيم إلا بتضافر جهدين : الجهد التأسيسي لعلماء الأمة ، والجهد التطبيقي المنوط بأهل الحكم ، إذ بيدهم من السلطة المكينة ما يعينهم على الإنجاز الفوري المثمر .
ولا شك أن سؤال النهوض والإصلاح والتطوير لا يثار في مضمار ما ويلحّ عليه إلحاحاً ، إلا إذا كان المجال المراد إصلاحه والنهوض به يعاني قصوراً في نواحٍ معينة ، مما يستدعي استفراغ الوسع في تدارك الثغرات ، ودفع الآفات . وقضاؤنا الشرعي المعاصر لا يشذّ عن هذا الوضع ، إذ طرأت عليه أزمة عاقت مسيرته الاجتهادية ، وعطلّت أبعاده الإصلاحية ، فكان من الضرورة اللازبة أن تصاغ المعالم النظرية القمينة بتجاوز هذه الأزمة ، وتوطّىء أكناف النهوض ، وهذه المعالم تؤلف في لحمتها وسداها منهجاً لاحباً ومضيئاً يعود على قضائنا بعواد الخير ، إذا ما أتيحت له فرص التطبيق الصحيح والإنجاز الفاعل .
إن المعالم / الوسائل التي ندعو إلى تفعيلها في مضمار القضاء الشرعي نهوضاً بفكره الاجتهادي ، ورسالته الإصلاحية تنحصر فيما يأتي :
- المطلب الأول : نبذ التعصب المذهبي :(6/10)
إن التعصب آفة لا يعرى عنها أتباع المذاهب غالباً ، فتراهم يجمدون على المسطور في كتبهم ، ويغالون في حبّ متبوعيهم مغالاة تعمي وتصمّ ، ولم يكن لقضائنا الشرعي أن يسلم من أعراض هذه الآفة بوصفه ضرباً من ضروب الفقه ، ومنشطاً من مناشطه ، بل إن التعصب المذهبي عطّل أبعاده الاجتهادية ، وأفرغه من معاني الاستقلال الفكري ، ولذلك كان أول باب يولج للنهوض بفقه القضاء نبذ التعصّب ظهريا ، وتلمّس طرائق الاجتهاد ومنازع النظر ، وفي طليعتها :
1 - مراعاة الدليل الراجح للمخالف
إن مراعاة الخلاف مدرك محكَّم عند المالكية والشافعية ، ثم الحنفية والحنابلة ، ولم يكن هذا المدرك من خواص مذهب مالك وانفراداته التأصيلية كما وقر في أخلاد البعض ، ولعل من يروّج لذلك أحد رجلين : جاهل بسِير المذاهب أصولاً وفروعاً ، أو متعصّب للمذهب المالكي دفع به الهوى المستحكم
إلى إفرادمذهبه بأصل اجتهادي ، مع أنه مرعي في مذاهب أخر ، وملاحظ في فروعها .
وقد عني بتعريف هذا المدرك ابن عرفة في حدوده(1)، وأبو العباس القباب(2)، ومحمد بن عبد السلام الهواري(3)، بيد أن تعاريفهم يقدح فيها من جهة الجمع ، أي : دلالة التعريف على جميع أفراد المعرَّف وخصائصه،ولسنا هنا بصدد سوق هذه التعاريف واستيضاح أوجه الخلل في صياغتها المنطقية،
وحسبنا الإشارة إلى أن التعريف المختار السالم من المآخذ من صياغة باحث معاصر وهو : ( اعتبار خلاف من يعتدّ بخلافه عند قوة مأخذه بامتثال مقتضى ما اختلف فيه ) (4).
__________
(1) ابن عرفة ،الحدود بشرح الرصاع ، 1 / 263 .
(2) الونشريسي ، المعيار ، 6 / 388 ، والشاطبي ، الموافقات ، 4 / 109 .
(3) نقله المقري في القواعد 1 / 236 ، وابن ناجي في شرح الرسالة ، 2 / 37 .
(4) عبدالرحمن السنوسي ، اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات ، ص 322 .(6/11)
ولا شك أن رعي القاضي للخلاف مستحبٌّ ومسلَّمٌ ما أمكن ، إلا أن له حالاتٍ وصوراً يخفّ فيها الطلب ويتأكّد ، وذلك راجع إلى نظر المجتهد ، وبصره بأسرار الشريعة ومآلات الأمور ، فمتى ظهر للقاضي قوة مدرك مخالفه وصحة متمسّكه ، صار إلى اجتهاده ، وامتثل مقتضاه ، وهو إما مبني على الاحتياط ، أو مستجلب لمصلحة شرعية ظاهرة ، أو جارٍ على فقه واقعي متين .
وقد يراعى الخلاف بعد الوقوع والشروع في الفعل كأن يحكم قاض مالكي مثلاً باستحقاق المرأة المهر والميراث إذا تزوجت بغير ولي ، لأن الإمام مالكاً مع حكمه بفساد النكاح دون وليّ يراعي الخلاف الجاري فيه اعتباراً لمآله وما يترتّب عليه بعد وقوعه ، ولو لم يراع ذلك كانت المفسدة المحقَّقة أقوى من مفسدة النهي ، وهذا تصحيح للمنهيّ عنه في وجه .
وليس كل خلاف يعتبر عند القاضي ، وإنما يحاط إعمال هذا المدرك بشروط متينة تصون حرمة الاجتهاد عن العبث ، وهذه الشروط متفاوتات في قيمتها التقعيدية ، ومستقرءات من جملة كلام العلماء في التنظير والتطبيق على حد سواء ، ، ويمكن إجمالها فيما يلي :
أ – أن يكون مدرك المخالف قوياً ، لا مجرد قول شاذ عارٍ عن الصحة ، ومن هنا لم يراع خلاف أبي حنيفة في بطلان الصلاة برفع اليدين لثبوته من طريق التواتر ، وخلاف مالك في عدم التوقيت في المسح على الخفين في الحضر والسفر ، لثبوت التوقيت بالأحاديث الصحيحة الصريحة ، وخلاف الشيعة في نكاح المتعة لافتقاره إلى الدليل الناهض .
ب - ألا يفضي رعي الخلاف إلى خرق الإجماع ، بأن يكون الحكم الذي روعي فيه الخلاف لفّق تلفيقاً لا يقرّه أحد من أهل العلم ، ومنه ما نُقل عن ابن سريج الشافعي أنه كان يغسل أذنيه مع
الوجه ، ويمسحهما مع الرأس ، ويفردهما بالغسل مراعاة لمن قال : إنهما من الوجه أو الرأس أو
عضوان مستقلان ، وقد خرق الإجماع بتلفيق لا يلتفت إليه(1).
__________
(1) الزركشي ، المنثور في القواعد ، 2 / 131 .(6/12)
ج – ألا يترك المراعي للخلاف مذهبه بالكلية(1)، لأن معنى رعي الخلاف اعتبار دليل المراعي من وجه ، واعتبار دليل الخصم من وجه آخر ، أما اعتبار دليل المخالف من كل وجه ، فهو انتقال إلى مذهب آخر وتقليد للغير .
وهذا الشرط ليس بمرضيّ عندنا ، والإستغناء عنه مستحسنٌ ، لأنه يقيّد رعي الخلاف بما هو خارج عن حقيقته ومسمّاه ، وإنما له صلة وثقى بمسألة تقليد المجتهد لمجتهد آخر ، وهذا ملاحظ في فتاوى بعض الأئمة ، ومبسوط في مباحث الأصول .
د- أن يكون الجمع بين المذهب ممكناً ، حتى لا يكون رعي الخلاف مفضياً إلى خلاف آخر ، ولذلك كان فصل الوتر أفضل من وصله ، ولم يراع خلاف أبي حنيفة لأن طائفة من أهل العلم تمنع الوصل . والذي يبدو أن محلّ هذا الشرط هو كل مسألة تكافأت فيها الأدلة عند المجتهد ، فإذا تعذّر الجمع ، فلا يترك الراجح عند اعتقاده لمراعاة المرجوح ، لأن الجمع بين النقيضين يستحيل عقلا ، بيد أن هذا الشرط لا يسوغ إعماله في سائر مسائل الخلاف ، لأنه أعلق ما يكون بباب الديانة ، وأجفاه عن باب القضاء ودائرة الأحكام المعلّلة .
هـ - انتفاء المحذور الشرعي ، ذلك أن رعي الخلاف قد يفضي إلى ترك سنة ثابتة ، أو اقتحام أمر مكروه فيمنع ، وذكر ابن السبكي مثالاً لهذا الشرط فقال : ( فصل الوتر أفضل من وصله لحديث : ولا تشبهوا بالمغرب ، ومنع أبو حنيفة فصله ) (2)، وهنا لا يراعى الخلاف ( لأن الوصل يلزم منه ترك سنة ثابتة ) (3).
وثمة سؤال ينثال على الذهن بعد استجلاء شرائط رعي الخلاف : أي ثمرة اجتهادية يجنيها القاضي من إعمال هذا المدرك ؟؟
نجيب : إن إعمال هذا المدرك لا يعرى عن عوائد اجتهادية يمكن إجمالها فيما يلي :
__________
(1) الولاتي ، الدليل الماهر اناصح ، ص 80 .
(2) ابن السبكي ، الأشباه والنظائر ، ص 1 / 112 .
(3) نفسه .(6/13)
أ – إن الأصل في رعي الخلاف الميل إلى الدليل الراجح عند المخالف ، والراجح متى ثبت وجب المصير إليه ، لأن القول لا يتقوّى بفضل صاحبه وإنما بدلالة الدليل عليه .
ب _ إن رعي الخلاف ضرب من الاجتهاد المآلي لا ينفك عن أصل الاستحسان ؛ ذلك أن مقتضى
القياس أن يجريَ المجتهد على وفق دليله ، ويصدر عن مقتضى اجتهاده الذي تأدّى إليه بالظن الغالب
الموجب للعمل(1)، لكن المجتهد قد يعدل عن ذلك ، ويضرب صفحاً عن مقتضى اجتهاده ملتفتاً إلى اجتهاد غيره لما ترجّح فيه من جانب المصلحة المعتبرة ، ومن ثم فإن المراعيَ للخلاف يعتدّ بمآل الحكم عند تنزيله على الواقع ، فيصونه عن كل ما من شأنه أن يعطّل فيه المصلحة ، وإن كان جلبها أحياناً تشوبه بعض المفاسد التي لا تنفكّ عن بعض حالات الجلب ، باعتبار أن المصالح الخالصة والمفاسد الخالصة عزيزة الوجود .
ج – إن رعي الخلاف يكبح جماح التعصّب المذهبي ، ويردم هوة الخلاف بين المشارب الفقهية المتباينة ؛ وآية ذلك أن المجتهد الذي راعى دليل المخالف يصدر عن قناعة مفادها أن الحق ليس حكراً على مذهب أو إمام ، وقد يظهر على لسان الأكابر والأصاغر على حدّ سواء ،ولذلك قال فقهاؤنا : لا يجوز أن يقلّد القضاء لأحد على أن يحكم بمذهب بعينه ، لأن الحق لا ينحصر في مذهب ، وقد يظهر في غيره ، فإذا نصّب القاضي على هذا الشرط بطل الشرط وفي صحة التولية خلاف(2).
2 – الأخذ بما جرى به العمل
__________
(1) عبد الرحمن السنوسي ، اعتبار المآلات ، ص 338 .
(2) ابن قدامة المغني ، 9 / 106 .(6/14)
العمل في اصطلاح المالكية المتأخرين بالمغرب : ( العدول عن القول الراجح أو المشهور في بعض المسائل إلى القول الضعيف فيها رعياً لمصلحة الأمة وما تقتضيه حالتها الاجتماعية ) (1)، ويستفاد من هذا التعريف أن ما يجري به العمل ضرب من الاجتهاد المذهبي يقوم على ميل العالم أو القاضي إلى اختيار قول ضعيف رعياً لعرف جارٍ ، أو جلباً لمصلحة معتبرة ، أو درء اً لمفسدة محققة ، ولا ينهض بهذا الصنيع الاجتهادي إلا من ميّز بين رتب المصالح والمفاسد ، وخبر طرائق الموازنة والتغليب ، أما القاصر عن هذه المدارك ( فليس له رخصة في أن يترك المشهور إلى الشاذ في الفتوى والحكم أصلاً فالباب دونه مسدود ) (2).
والذي يميّز العرف عن العمل ، أن الأول : ما تواطأ عليه عمل العامة من غير استناد إلى مدرك ، والثاني : حكم القضاة بالقول وتواطؤهم عليه(3).
وينقسم العمل إلى قسمين :
أ – ما جرى به العمل في بلد معين كالعمل القرطبي ، والعمل الفاسي ، والعمل التطواني ، ويسمى العمل المقيّد .
ب – ما جرى به العمل في شتى البلدان ، ويسمى العمل المطلق .
مهما يكن من أمر فإن القاضي المعتدّ بما جرى به العمل يترك الراجح أو المشهور لدواعٍ أوجبت ذلك ، وهي تنحصر في ثلاثة : جلب المصلحة ، ودرء المفسدة ، ومراعاة الضرورة . جاء في مراقي السعود :
وقدّم الضعيف إن جرى عمل به لأجل سبب قد اتصل(4)
وقال أبو الشتاء الصنهاجي :
عملنا هو الذي به حكم قضاة الإقتداء رعيا للحكم(5)
__________
(1) عمر الجيدي ، العرف والعمل في المذهب المالكي ، ص 342 .
(2) محمد بن الحسن الحجوي ، الفكر السامي ، 2 / 406 .
(3) المهدي الوزاني ، تحفة الأكياس ، بشرح عمليات فاس ، 1 / 5 .
(4) العلوي الشنقيطي ، نشر البنود ، 2 / 333 .
(5) الصنهاجي ، مواهب الخلاق ، 2 / 30(6/15)
ومن شواهد الفروع على إجراء العمل عند المالكية مسألة الخلطة في اليمين ، إذ المشهور في مذهب مالك أن المدعى عليه إذا أنكر لا يمين عليه حتى تثبت الخلطة بينه وبين المدعي ، وإليه أشار ابن أبي زيد القيرواني : ( ولا يمين حتى يثبت الخلطة أو الظنة ) (1)، لكن العمل بالأندلس وافريقيا جرى بخلاف ذلك ،فلم تراع الخلطة لحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم مرفوعاً: (ولكن اليمين على المدعى عليه) .
والملاحظ على نظرية ما جرى به العمل عند المالكية المتأخرين أنها ذات مناحٍ متعددة يمكن إجمالها فيما يلي :
إجراء العمل وفق المشهور في المذهب
إجراء العمل وفق الضعيف في المذهب
إجراء العمل بخلاف النصوص الشرعية القطعية
إجراء العمل وفق الدليل الشرعي مع مخالفة مشهور المذهب
إجراء العمل فيما لا نص فيه
إجراء العمل فيما فيه شبهة دليل
__________
(1) النفراوي ، الفواكه الدواني ، 2 / 299 .(6/16)
وليس من وكدنا هنا التمثيل لهذه المناحي بفروع من ( فقه العمليات ) ، وحسبنا الإلماح إلى ثراء هذه النظرية ، وانفساح آفاقها الاجتهادية ، إلا أن ما جرى منها بخلاف النص القطعي يعدّ معاندة صريحة لشرع الله ، ومضاهاة له والعياذ بالله ، ومن هذا الوادي : ترك اللعان مطلقاً ، واعتبار طلاق العوام كله بائناً ولو كان في مدخول بها دون عوض ، واعتداد المطلقة ذات الأقراء بثلاثة شهور ، وعدم الرد في الدواب بالعيب إذا قام به المشتري بعد شهر .. وهذه صور من العمل تصادم نصوصاً قطعية لا تحتمل إلا معنى واحداً ، وتستدرك على الشرع ببدع لا خطم لها ولا أزمّة ، مما أثار سخط بعض الفقهاء ، فأنحى باللائمة على نظرية العمل وشذوذاتها الصريحة كالطرطوشي ، والمقري ، ومحمد ابن الحسن الحجوي الثعالبي ، وأبو العباس الهلالي ، وأحمد بن الصديق الغماري(1).
ومن ثم لا يسوغ شرعاً نصرة العمل الفاسد ، وإجراء الفتوى به وإن صدر عن قضاة مؤهلين وعلماء معتبرين ، لأنه من قبيل البدعة المذمومة التي تساعد على تشويه معالم الشرع ، واندراس رسومه ، وما من سنة مضاعة إلا ومن ورائها بدعة مذاعة ، نسأل الله السلامة والعافية . ويعجبني هنا أن أستحضر شيئاً من نظم أبي عبد الله محمد الأغلالي فيما تجوز به الفتوى ، لتعلّقه بالمقصود ، ودلالته على المراد :
وليس كل ما جرى به العمل معتبر شرعاً فمنه ما انهمل
فربما أجراه ذو التعاصي بترك طاعة وبالمعاصي(2)
__________
(1) كان الحافظ المحدث أحمد بن الصديق الغماري أكثر علماء عصره نقداً للعمل وتثريباً على منتحليه ، وله فيه أوصاف بذيئة في كتاب ( البحر العميق ) .
(2) الأغلالي ، منظومة ما تجب به الفتوى ، مخطوطة الخزانة العامة بالرباط ، رقم : 1242 د .(6/17)
ولا شك أن الحديث عن الجانب الكالح في نظرية ما جرى به العمل يجرّنا إلى سوق الضوابط التي من شأنها تسييج هذه النظرية ، وتقييد العمل بمقتضاها ، حتى لا يفتح الباب على مصراعيه لمراعاة الأقوال الشاذة ، والأعراف الفاسدة ، والمصالح المرجوحة ، ويصير دين الله كلأ مباحاً لكل راتع ، يخبط فيه بمجرد الرأي والنظر ، ومحض التحّكم والهوى . ويمكن إبراز هذه الضوابط فيما يأتي :
أ – ثبوت جريان العمل بالقول الضعيف بشهادة العدول ، وبنص عالم موثوق به .
ب – معرفة مكان ما جرى به العمل ، لأن اختلاف الأماكن والأقاليم يراعى في صياغة الحكم وإنشاء الفتوى ، فلكل بلد أعرافه وخصوصياته التي تتيح إجراء عمل دون غيره ، واختيار قول دون سواه ، وهذا ما جلاّه أبو العباس الهلالي حين قال : ( فإنه إذا جهل المحلّ ، أو الزمان ، الذي جرى به العمل لم تتأت تعديته إلى المحل الذي يراد تعديته إليه ، إذ للأمكنة خصوصيات كما للأزمنة خصوصيات ) (1).
ج - معرفة زمان ما جرى به العمل ، لأن لكل زمان أهله وظواهره وقضاياه ، فيكون إجراء العمل خاصاً بوقت معين لا يتعداه إلى غيره ، لأن المصلحة فيه قائمة معتبرة ، وقد تزول بزوال هذا الوقت ، وقد تطرد في جميع الأوقات .
د - أن يكون العمل صادراً عن علماء وقضاة مقتدى بهم في العلم والحال ، ومن قصر عن مدارك
الاختيار ، وافتقر إلى آلة الترجيح ، فباب العمل دونه مسدود ، وهو عنه بمعزل ، إذ لا بد في إجراء العمل من صنيع اجتهادي يقوم على الترجيح بين المصالح ،والاستحسان ، وسد الذرائع ، ورعي المآلات .
__________
(1) الهلالي ، نور البصر ، شرح خطبة المختصر ، ص 132 .(6/18)
هـ - معرفة الموجب الذي اقتضى العدول عن المشهور ، وقد يكون مصلحة معتبرة ، أو عرفاً جارياً ، أو سداً لذريعة ، أو ضرورة ملجئة ، حتى إذا زال الموجب عاد الحكم إلى أصله ، والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً كما يقول الأصوليون . كما أن الجهل بالموجب يمنع تعديته إلى المحل لاحتمال ( أن يكون الموجب معدوماً في البلد الذي يريد تعديته إليه ) (1).
وقد أشار محمد كنون إلى جملة هذه الشروط فقال :
والشرط في عملنا بالعمل صدوره عن قدوة مؤهل
معرفة الزمان والمكان وجود موجب إلى الأوان
إن نظرية ما جرى به العمل نبتة أندلسية تفتحت أكمامها واخضرت فروعها بآفاق المغرب ، وأتت أكلها بإذن ربها ، وما أجدر قضاة اليوم باستثمار الإمكانيات الاجتهادية في هذه النظرية باعتبارها :
أ – ضرباً من الاستصلاح يراعي في ترك المشهور جلب مصلحة معتبرة ، ومثاله : تضمين الرعاة حفظاً لمصلحة أرباب المواشي ، وهذا التضمين من شأنه أن يجعل الراعي يقظاً بعيداً عن مواطن التعدي وأسباب الغفلة .
ب – ضرباً من الاستحسان يعدل عن مقتضى القياس الصحيح المطرد ، ومثاله : إن المشهور أن لا يقضي القاضي بعلمه ، ولا بما يسمع في مجلس نظره ، لكن العمل في الأندلس والمغرب جرى بخلاف ذلك استحساناً .
ج – ضرباً من الاجتهاد الذرائعي يعتدّ بثمرة الفعل لا برسمه الشرعي الظاهر ، ومثاله : إجازة بيع المضغوط درءاً لمفسدة معاناته النفسية ، مع أن المشهور أن البيع لا يلزمه وأن يرد إليه ما باعه بدون ثمن .
__________
(1) الهلالي ، نور البصر ، شرح خطبة المختصر ، ص 133 .(6/19)
وفي ضوء هذه الصلة الوثيقة بين نظرية ما جرى به العمل ومدارك الاجتهاد ، يلوح لنا أن الإنكار على هذه النظرية بأنه لا يجوز الاحتجاج بالقول الضعيف أو الشاذ بأي حال من الأحوال غير مسلَّم ، لأن إجراء العمل لا يكون اعتداداً بهذا القول نفسه ، وإنما بالمدارك التي اعتضد بها كالمصلحة أو العرف أو سدّ الذريعة ، وهي محكمة في مذاهب الفقهاء وفتاوى العلماء بما لا يحتاج إلى تقرير فضلا عن نصب برهان . ومن ثم يترقّى القول الضعيف المفتى به من رتبة الردّ إلى رتبة الاحتجاج.
ولا شك أن استمداد القاضي من نظرية ما جرى به العمل مع التقيّد بالضوابط الشرعية المومإ إليها ، يعود على قضائنا بعوائد الخير من ثلاثة وجوه :
- الأول : ارتياد القاضي لآفاق البحث والنظر ، وارتياضه بطرائق الموازنة والتغليب ، وانتشاله من وهدة الجمود على تركة المذهب ، وأقواله المشهورة المسطورة .
- الثاني : إمداد القاضي بآلة الاجتهاد المآلي ، ذلك أن حياده عن المشهور قد يكون في بعض الأحيان التفاتاً إلى خصوصية الزمان وخصوصية المكان باعتبارهما وعاءين مؤثرين في الحكم المراد تنزيله على الواقع ، واعتداداً بثمرة هذا الحكم الذي لا بد أن يثمر عن مقصده عند التنزيل بعيداً عن أسباب التعطيل والانطماس ، وأكثر ما يتجلى هذا الاعتبار المآلي في تلكم الحالات التي يجري فيها الأخذ بالعمل درء اً لمفسدة محقَّقة .
- الثالث : تطوير المذهب الفقهي الذي يدين به القاضي نفسه ، عن طريق تأصيل فقهي عملي يعتدّ بتغيرات الواقع ، ويراعي أعراف الناس ، ويلتفت إلى مآلات الأمور ، وهذا كله صنيع اجتهادي حلْو الجنى ، محمود الغِبّ ، جارٍ على مقاصد الشرع .
3 – الاجتهاد الانتقائي(6/20)
قد تعرض للقاضي نازلة لا يجد لها جواباً في كتاب الله وسنة رسوله ، ولا نظيراً يخرّج عليه في منقولات مذهبه ، فيكبّ على البحث في تراث السلف ومذاهب الفقهاء ، لعله يظفر بالمطلوب ، لأن الحالات تتشابه ، والحوادث تتكرر ،ورب حادثة تحدث اليوم فنجد فيها قولاً عند صحابي أو تابعي ،
أو رأيا عند إمام من الأئمة المعتبرين ، فيؤخذ به على سبيل الاقتباس والإفادة من ذخائر المتقدمين .
بيد أن القاضي ، وإن كفي مؤونة الاجتهاد برأيه ، فإنه يعمد إلى انتقاء الجواب المناسب عن النازلة المعروضة ، وهذا الانتقاء ينطوي على ضرب من الاجتهاد ، إذ لا يخلو من معاناة نظر ، وإعمال رأي ، وترجيح للأقوى والأصلح .
ومن ثم فإن الاجتهاد الانتقائي يكفكف من غلواء التعصب المذهبي ، ويتيح للقاضي فسحةً من البحث والنظر ، واستشرافاً لأفق جديد يتناغم وتطلّعات العصر ، هذا ؛ إن روعيت فيه الضوابط الآتية :
أ – انتقاء ما هو أوفق للكتاب والسنة ، وأعلق بمقاصد الشرع وتصرفاته .
ب – تجنّب التلفيق في الحكم ، وتصيّد المخارج المحظورة .
ج – إعمال قواعد الترجيح ومعايير التغليب ضماناً لسلامة الانتقاء الاجتهادي ، وتنزّهه عن التحكّم والتمحّل .
- المطلب الثاني : التأهيل الاجتهادي للقضاة الشرعيين
إن المتأمل في المسيرة التعليمية للقاضي الشرعي خلال المرحلتين الثانوية والجامعية يتلامح له شيء من القصور في مناهج تحصيل العلوم الشرعية ، ويمكن عزوه إلى دواعٍ شتى ، نعدّ منها ولا نعدّدها :
- التعثّر في انتقاء المواد الشرعية المناسبة لكل مرحلة تعليمية .
- التضحيم من شأن مقررات شرعية لا تجدي فتيلاً في إثراء القدرات الاجتهادية عند الطالب ، وغالبا ما يكون ذلك على حساب مقررات أخر ذات وشيجة وثقى بالعملية الاجتهادية .
_ إهمال الملمح الواقعي في تدريس المقررات الشرعية ، والاقتصار على الحمولة النظرية المعرفية المعزولة عن آداب التفقّه ، وضوابط التنزيل على الواقع .(6/21)
إن هذه الأزمة الملحوظة في تكوين القاضي الشرعي تلحّ علينا إلحاحا لصياغة بديل للتعليم الشرعي تعدّل فيه المساقات الدراسية وطرائق التلقين على نحو يصقل الملكة الاجتهادية عند الطالب ، ويرقى بتكوينه إلى آفاق علمية أرحب ، ويلج به بوابات العصر بخطى ثابتة ورؤى مستشرفة .
فالتعليم ، إذا ً، هو مفتاح التأهيل الاجتهادي للقضاة ، إذ لا تأهيل بدون مناهج مستقيمة فاعلة في إعداد الطالب ، وإغناء محصوله ، وتمكينه من أدوات التفقه والاستبصار والنقد . ومن ثم فان هذا المشروع التأهيلي لا يستقيم في تصورنا إلا بولوج ثلاثة مسالك :
1 – تعديل مناهج تدريس الشريعة :
إن النظم التعليمية المعاصرة المطبّقة في الجامعات الإسلامية والكليات الشرعية والمعاهد الدينية لا تفي التأهيل الاجتهادي حقه من العناية والرعاية ، وكأنه مقصد مغيّب في رسالة التعليم ، ونغمة نشاز في المنظومة التربوية ، ولا شك أن نظماً تلقينية لا تحفل بصقل المواهب الاجتهادية عند الطالب وإنضاجها في سبيل الترقي إلى رتبة ( العالمِية ) المنشودة ، لن تخرج إلا أجيالا من المثقفين تعوزهم صنعة العلم ورسالية العالم في الوقت ذاته . ومن هنا تنتصب ضرورة تشخيص مكامن العلّة في مناهج تدريس الشريعة الإسلامية ، وبيان أسباب تعطيل المشروع التأهيلي للمجتهدين ، وإذا عرف الداء تيسّر الدواء .
وقد تأدّى بنا فحص المناهج المعتمدة في تدريس الشريعة الإسلامية إلى الوقوف على علل عليلة تحول دون اكتمال البناء المعرفي والإعداد الاجتهادي للطالب ، ويمكن إجمالها فيما يلي :
أ – الفصل بين فروع العلم الشرعي من فقه وأصول وحديث وعقيدة ولغة ، وصرف العناية إلى فن بعينه بدافع التخصص العلمي الدقيق ، وإذا كان هذا المسلك الأكاديمي المحمود يتيح لصاحبه الحذق بصناعته ، والقيام عليها أتم القيام ، فإن التأهيل الاجتهادي للطالب يستلزم أول ما يستلزم مشاركة(6/22)
في فروع العلم الشرعي ، ولو بإحراز الرتبة الوسطى فيها ، وهذا لا يمنع من الانقطاع لفرع مخصوص، والإكباب على استنطاق أسراره وخوافيه .
إن الشريعة الإسلامية منظومة علمية متكاملة ، والعالم المتمكّن هو الذي يستوفي حظه من فروعها على نحو يستكمل به عدّته الاجتهادية ، فقد تنزل النازلة فيحتاج في معرفة حكمها إلى فقه وأصول وحديث ولغة ناهيك عن فقه الواقع فيها ، وهذا الضرب الاجتهادي لا يلج مضايقه إلا من أوتي وفوراً في العلم ، وسعة في الأفق .
ومن ثم فإن سياسة الفصل بين فروع العلم الشرعي تخرّج أجيالا من حاملي التخصص الواحد ، وتكرّس أحادية في التكوين تحول دون التوفّر على الآلة الاجتهادية ، والعدّة المعرفية .
ب - الجمود على مقرّرات العلوم الشرعية ، وإضفاء صفة القدسية على مادتها العلمية ، مع أن حظاً منها يقبل التعديل والتنقيح والإضافة ، لقصور في التنظير ، أو إعواز في المادة ، أو تحجّر في الأساليب لا يتواءم و معطيات العصر . ولنضرب في هذا السياق مثالاً بعلم أصول الفقه ـ وهو فلسفة الشريعة ورافدها التنظيري – فإن هذا العلم الجليل ما زال يدرَّس إلى يومنا هذا بصورته المتوارثة التي تلقّتها أجيال عن أجيال بدءاً من المؤسسين الرواد وانتهاء إلى المؤلفين المعاصرين ، بينما منطق التجديد يملي علينا أن ننقّح مادته حذفاً وإضافة وتصحيحاً ، ومن دواعي هذا التنقيح :
* تنقية المباحث الأصولية من الجدل المنطقي البارد الذي لا يزيد المادة إلا تشعّباً وإغراقاً في التكلّف .
* تهذيب الحدود الأصولية التي يقدح فيها قادح من جهة محتواها المعرفي أو صياغتها المنطقية .(6/23)
* النظر في أدوات الاجتهاد ومؤهلات المجتهد بما يتواءم والمستجدات الطارئة ، فإن نوعية الأداة الاجتهادية ترتبط بنوعية التحدي الفكري السائد في العصر ، ولا يمكن الجمود على أدوات كان التوسّل بها وليد منبت فكري معين لم يعد له من أثر اليوم ، بل إن التحديات الفكرية الراهنة تملي ضرورة إضافة أدوات جديدة لابد للمجتهد من التوفّر عليها ، وهذا ما تسكت عنه المدونات الأصولية المعاصرة مجتزئة بما سطّر الأسلاف في باب التأهيل الاجتهادي ، مع مجافاته لمنطق العصر ، ومتغيراته الموّارة .
*إثراء المادة الأصولية بمباحث جديدة أملتها متغيرات العصر ، وإذا كان من نقص لابد من استدراكه في هذه المادة فهو التأصيل لضروب من الاجتهاد العصري كالاجتهاد الجماعي ،والاجتهاد المقاصدي، والاجتهاد الانتقائي ، فضلا عن صياغة تصورات محكمة عن وسائل التأهيل الاجتهادي الأكاديمي في ضوء المعطيات الحديثة والتطورات الحثيثة .
إن هذا الجمود على مقرّرات العلوم الشرعية ، وحظرَ كل محاولة اجتهادية تروم التعديل في(6/24)
موادها ومناهجها(1)، كان سبباً فاعلاً في تخريج أجيال من الطلبة ذوي النظرة الأحادية الفطيرة في شتى القضايا والمسائل ، فلا غرو ، إذاً ، أن تمسيَ فهوم البشر لدى تلكم الأجيال من جنس النصّ المقدّس المعصوم إلى جانب الكتاب والسنة ، ولا غرو كذلك أن ينظر ( إلى الحديث ، أي حديث في مراجعة أي فرع من فروع العلم الشرعي ، كأنه حديث في ذات الدين الإلهي ونصوصه المقدسة الطاهرة ، بل إن الهمّ بتجاوز منهجيات تلكم المعارف وأدواتها يقود صاحبه إلى نيل نصيب وافر من التهم والمكائد الصادرة عمن كان يؤمَّل فيهم أن يكونوا أدرى الناس بالفرق بين نصوص الوحي الثابتة ، وبين أفهام البشر المتغيرة والمتأثرة بظروف تشكّلها وتكوينها ) (2).
__________
(1) المقصود بالتعديل هنا ما كان نابعا من حاجة شرعية ملحة تمليها الغيرة الصادقة على العلوم الإسلامية ، واستشراف آفاق تطويرها استجابة لتحديات العصر ، ومادام أن حظا غير يسير من مقررات هذه العلوم كان وليد فهوم واجتهادات بشرية تأثرت بظروف تشكلها وصياغتها ، فإنها التعديل فيها مباح ومتاح ما لم تمسّ الثوابت وتهدر الأصول . أما التعديل الذي ينادي به الغرب في مضمار التعليم الشرعي فلا يعدو أن يكون محاولة يائسة لطمس هوية الإسلام ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .
(2) قطب مصطفى سانو ، أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر ، ص 147 .(6/25)
ج - الفصام النكد بين المعرفة الدينية النصية والمعرفة الإنسانية الواقعية في مناهج الجامعات الإسلامية والكليات الشرعية ، باعتبارهما معرفتين متضاربتين لا تجتمعان في وعاء واحد ، ومن تجليات هذا الفصام إهمال فروع المعرفة الواقعية في النظم التعليمية المعنية بإقراء علوم الشريعة ، مع أن إصدار حكم شرعي في مسألة ما يتوقّف على معرفة فقه الواقع فيها ، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما يقول المناطقة ، وكل خطإ في فهم الواقع ينتج عنه خطأ في الحكم عليه قبولاً أو رفضاً . ومادام فقه النص يرتبط بفقه الواقع ارتباط العلة بالمعلول في كل تأصيل اجتهادي سليم ، فإن من الضرورة الشرعية الملحّة الدمج بين الفقهين أو المعرفتين ، والتأهيل فيهما معاً إن أردنا للعملية الاجتهادية نضجاً واستواءً في التصور والإنجاز على حد سواء .
إن النظرة التجزيئية العليلة التي فصمت بين المعرفتين الشرعية والواقعية أفرزت صنفين من الفقهاء :
* فقهاء نصّ لا دراية لهم بالتحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي يحبل بها العصر ، ولا علم لهم بسبل تفعيل الشرع ، وتحقيق قيوميته على الواقع بشتى مستوياته وأنماطه .
* فقهاء واقع يعوزهم الفهم لمعاني النصوص ومقاصدها ، والدراية بتنزيل المراد الإلهي فيها على الواقع الحي ، مع حظهم الوافر من المعرفة الواقعية الإنسانية .
ولا شك أن التمييز بين هذين الصنفين إلى حد التدابر والتنافر بدعة في الرأي لا نعرف لها نظيراً في تاريخنا العلمي ، ولا متحمّلاً لوزرها من جيل الرعيل الأول ، إذ كان فقهاء النص وفقهاء الواقع كياناً واحداً ،وذاتاً ملتحمة ، يسكنهم جميعاً هاجس تسديد الحياة بتعاليم الوحي الراشدة الخالدة ، وكم من عالم نبغ في الفقه والأصول والحديث نبوغه في الفلك والحساب والطب ، فجمع بين الحسنيين ، وولج صناعة الاجتهاد من بابها الصحيح .(6/26)
وما أجدر مناهجنا التعليمية اليوم ، وهي تستشرف آفاقاً حبلى بالتغييرات ، موّارة بالمستجدات ،
أن تردم الهوة المصطنعة بين المعرفتين : الشرعية والواقعية ، وتقتدي في ذلك بنموذج الجامعة الإسلامية بماليزيا ( التي تبنّت إلزام طلابها الدارسين للعلوم الشرعية دراسة تخصص فرعي من المعرفة الواقعية ، وذلك بغية تمكّنه من استيعاب المبادىء الأساسية التي تشملها جميع المعارف الإنسانية من اجتماع وسياسة وفلسفة وتاريخ وعلم نفس وعلم إنسان .. كما أن الجامعة تلزم طلابها الذين يدرسون المعرفة الواقعية ضرورة التخصص تخصصاً فرعياً في المعرفة الدينية بجانب تخصّصهم في أحد فروع المعرفة الواقعية . وبناء على هذه السياسية التعليمية المبتكرة والفريدة ، فإن الطالب يتخرج في هذه الجامعة حاملاً تخصصين مختلفين : تخصص أساسي إما في المعرفة الدينية أو في المعرفة الواقعية ، وتخصّص فرعي إما في المعرفة الدينية أو المعرفة الواقعية ، وإذا رغب في صيرورة تخصّصه الفرعي تخصّصاً أساسياً لن يكلّف ذلك سوى دراسة بقية مقررات ومتطلبات التخصّص الفرعي ، وذلك خلال فصلين دراسيين على الأقل ، فيتحوّل ذلك التخصص بالنسبة له تخصّصاً أساسياً ، لأنه حامل من حيث الأصل المبادىء والأسس العامة في تخصّصه الفرعي ، ويحتاج فقط إلى تكملة المشوار ) (1).
إن هذه التجربة الرائدة والفتية في الآن عينه ، تبشّر بصحوة تعليمية مباركة هادية إلى خير العلم والعمل ، فما أحراها بالتشجيع والمؤازرة ، وأجدرها باهتمام كل غيور على نهوض الشريعة ، ومتهمّم بكمال الاجتهاد .
__________
(1) قطب مصطفى سانو ، أدوات النظر الاجتهادي المنشود ، ص 142 .(6/27)
من الواضح والجلي ، إذاً ، أن تدارك ثغرات المناهج المطبَّقة في إقراء العلوم الشرعية ، مرتبط أوثق الارتباط بالتعديل الجوهري في المواد المقرّرة وخطط التدريس ، وهو إن استقام على الصورة المنشودة غَنِم الطالب تأهيلاً راقياً ، واستوفى حظّه من التحصيل الثري ، حتى إذا ما آنس في نفسه ميلاً إلى العمل القضائي كان ذا عدّة اجتهادية معتبرة .
2 – إنشاء مؤسسات للتأهيل الاجتهادي
إن التمكّن من ناصية علوم الاجتهاد يحتاج إلى تفرّغ ودربة ومراس ، ولا يتاح في سنوات التحصيل الجامعي ، لأن الطالب تتجاذبه تخصصات شتى ، وتتضافر عليه أعباء جسام ، فضلاً عما يعتور المناهج والمساقات من قصور يحول دون الإعداد الجيّد والتكوين المتين . ومن هنا تلوح ضرورة
إنشاء مؤسسات للتأهيل الاجتهادي يرتادها طلبة الكليات الشرعية الراغبون في ولوج السلك القضائي الشرعي بقصد استكمال عدّتهم الاجتهادية ، واستدراك ما فاتهم من علوم العصر .
ولعل من المناسب أن تستغرق الدراسة بهذه المؤسسات سنتين يكثّف فيهما التحصيل ، ويمنح المتخرج منها شهادة ( التأهيل الاجتهادي ) على أن يكون من أرباب التفوق ، وهذه الشهادة تكون بمثابة شرط للتصدّر للقضاء الشرعي ، إن أردنا نهوضاً بمستواه العلمي وأدائه الاجتهادي .
وقد ينثال على البال سؤال : إن حامل شهادة ( الإجازة ) في العلوم الشرعية لابدّ له من تكوين أكاديمي قبل الالتحاق بالعمل القضائي ، فكيف يجمع بين التكوين في المعاهد العليا للقضاء ومؤسسات التأهيل الاجتهادي ؟؟
والجواب : إن هذا الجمع متاح وميسور بإحدى وسيلتين : إما أن تؤسس في المعهد العالي للقضاء شعبة التأهيل الاجتهادي ، وتظفر بحظها من الرعاية والاعتناء ، أو يستعاض عن المعهد القضائي العالي بمؤسسة التأهيل الاجتهادي ، على أن يدمج بين مساقات المؤسستين على نحو من التوازن لا يخلّ بمقصودهما الأكاديمي ، وبهذا لا يحرم الطالب من كل عائد منشود وفائدة مرجوة .(6/28)
أما عن العلوم التي تدرَّس بهذه المؤسسات التأهيلية فلا بد أن ترتبط بنوعية التحديات الفكرية السائدة في العصر ، إذ ليس من المعقول في شيء أن نتحجّر على أدوات اجتهادية كانت منبثقة من منبت فكري مخصوص ، ومتأثرة بظروف تشكّلها وصياغتها ، وما دامت الحاجات تتغير بتغيّر وعائها الزمني ، فإن مؤهلات المجتهد ينبغي أن تدور مع الحاجة العصرية حيث دارت ، فيكون لكل عصر أدواته الاجتهادية القمينة بحلّ معضلات الرأي وصعاب المسائل .
ومن هنا ندرك أن المدونات الأصولية المؤلفة بعد القرن الثامن الهجري إلى العصر الحالي ، لم تعن بالنظر في مؤهلات الصناعة الاجتهادية نظراً يواكب متطلبات العصر وتحدياته الفكرية ، ففاتها التأصيل لأدوات فاعلة لا ينكر دورها في تسديد الفهم ، وضمان حسن التنزيل ، واجترت كلاماً مكروراً ومعاداً عن الأدوات ذاتها التي سطّرها علماؤنا المتقدمون في ضوء التحديات الفكرية التي عجّ بها عصرهم ، وكانت بحق خير موجّه في التنظير للتأهيل الاجتهادي .
أيا كانت الحال فإن العلوم التي نرى تحصيلها فرض عين لمجتهد العصر ، واعتمادها ضرورةً في مؤسسات التأهيل هي :
أ - اللغة العربية بوصفها لسان الوحي ووعاء التنزيل ، ذلك أن إدراك معاني النصوص ومقاصدها يتوقّف على الإلمام بالآلة النحوية والبلاغية ، وإلا ظل النص الشرعي منغلقاً على أسراره ، ومختوماً بخاتم الإبهام ، بيد أنه لا يشترط في المجتهد أن يكون إماماً في العربية كالخليل وسيبويه والأخفش ، وإنما يكفي من العلم بها ما يعين على فهم خطاب الشارع ، والارتياض بأساليبه وأوضاعه .
ب- أصول الحديث ، وهو علم يعنى بالجانب الثبوتي للنص ، وكذا بفقهه ومعانيه ، وإتقان هذا العلم فرض عين على المجتهد ، لأن النظر الاجتهادي يقوم أول ما يقوم على معرفة رتبة النص ، هل
هو من الصحيح أو الحسن المحتج به أم من الضعيف المردود ؟ وقديما قيل : ثبت العرش ثم انقش .(6/29)
وإذا كانت مدونات الأصول قد نصّت في سياق الحديث عن التأهيل الاجتهادي على شرط المعرفة الحديثية ، فإنها اجتزأت بالإشارة إلى حفظ المتون ، وأغفلت صنعة التصحيح والتضعيف بآلياتها المعروفة كعلم الجرح والتعديل وعلم علل الحديث ، وهذه الصنعة إن كانت معتركاً اجتهاديا صعباً ، إلا أن من فتوحاته الاحتجاج بالحديث أو ردّه ، ومن ثمّ بناء الحكم عليه ، أو إسقاطه من دائرة العمل.
ج – أصول الفقه ، وهو بمثابة المرتاج الذي يفتح مغاليق النص ، ويستخرج خبيئه ومكنونه ، فيتجلّى خطابه كأوضح ما يكون التجلّي مقصداً ومراداً ، ومن ثم فإن جودة الفهم تتوقف على التضلّع من مباحث هذا العلم الجليل بوصفه مستودعاً للأدوات والقواعد المفضية إلى إدراك المعاني المستكنة في طوايا النصوص الشرعية . أما القدر المطلوب تحصيله من هذا العلم فهو أن يتمكّن المجتهد من ناصيته حتى يخالط لحمه ودمه ، دون حاجة إلى الإكباب على مباحثه المنطقية البادرة ، وقضاياه اللغوية العقيمة ، فإنها - في الحق - أمشاج وأخلاط وفدت على ساحته ، وكدّرت صفوه ، لإغراقها في التكلّف حيناً، وانقطاع صلتها بالقضايا الكبرى لهذا العلم حيناً آخر .
د – علم المقاصد ، وهو أداة مثرية للنظر الاجتهادي ، ومكمّلة للمعرفتين اللغوية والأصولية ، ومعينة على استجلاء مرامي الخطاب الشرعي وأبعاده الثاوية في طوايا النصوص .
إن هذا العلم بمسالكه وأدواته يصون النظر الاجتهادي عن السقوط في فخ النظرة التجزيئية الضيقة ، ويضمن حسن الربط بين المبنى والمعنى ، ويسعف على التنزيل المحكم على الواقعات، فيتمخّض الحكم عن ثمرته المرجوة ومآله المنتظر دون تعطيل أو انطماس ، وينفعل الواقع بالمراد الإلهي ويترشّد به ، وهو مراد متمحّض لمصلحة الانسان في العاجل والآجل .(6/30)
وقد كان الإمام الشاطبي محقاً حين عزا أخطاء كثير من العلماء إلى الجهل المطبق بالمعرفة المقاصدية ، وأكد أن زلة العلم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه(1).
هـ - علم الخلاف ، وهو أداة يقتدر بها على معرفة مناهج الاستنباط وأصول الاستدلال التي جرى عليها الأئمة المجتهدون في فهم المراد الإلهي من الوحي كتاباً وسنة ، وتنزيله على الواقع(2). وليس المقصود من التضلّع من هذا العلم التحجّر على مناهج السلف إلى الحدّ الذي يستعبد الأفكار ، ويستأسر العقول ، وإنما الاستئناس بطرائقهم في الفهم ، والتهدّي إلى آدابهم الراشدة في التنزيل على الواقعات . ويعجبني هنا أن أسوق كلاماً متيناً للأستاذ الكبير المودودي - رحمه الله – في التأكيد على أهمية هذا العلم لمن يروم الاجتهاد الصحيح والفهم الأكمل : ( الوقوف على تراثنا القانوني الفقهي الذي ورثناه عن فقهاء السلف ، والحاجة إليه ليست للتدرب على الاجتهاد فحسب ، بل هي كذلك لاستمرار الارتقاء القانوني ، لأنه لا يسوغ أنه يكون المقصود بالاجتهاد أن يهدم كل جيل جديد ما بناه سلفه ، أو يحكم عليه بالبلى ، ويشرع في بنائه من جديد ) (3).
و – مبادىء العلوم الإنسانية المعاصرة كالاقتصاد والطب وعلم النفس ، وهي أدوات فاعلة للغوص في فقه الواقع ، وإدراك أبعاد الإنسان ، واستجلاء منازع تفكيره ، وتفسير الأزمات والظواهر التي تكتنف محيطه تفسيراً منطقياً مستساغاً ،مما يقود في نهاية المطاف إلى بصارة نافذة بخصوصيات الواقع ،
__________
(1) الشاطبي ، الموافقات ، 4 / 170 بتصرف
(2) قطب مصطفى سانو ، أدوات النظر الاجتهادي المنشود ، ص 125 .
(3) المودودي ، مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة ، ص 196 .(6/31)
وترشيد له بتعاليم الوحي ومقاصده ، ورحم الله الإمام الشافعي الذي تهدّى بفكره الثاقب إلى أهمية المعرفة الواقعية وانبناء الحكم الشرعي عليها فقال : ( لا يحل لفقيه أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه ) (1).
وقد كان للجهل بمبادىء هذه العلوم ضلع أي ضلع في فشوّ أخطاء الفتوى وانحرافات التأصيل ، لأن الفقيه قد يفتي في النازلة مع قصوره في فهم الواقع فيها اقتصادياً كان أو علمياً أو سياسياً ، فيصدر الحكم على الواقع استحساناً أو استهجاناً وهو عن الخطإ ليس بمعزل ، وما يبنى على الباطل فهو باطل.
ولعل من نافلة القول الإيماء هنا إلى أن من يضطلع بتدريس هذه العلوم في مؤسسات التأهيل يشترط فيه أول ما يشترط الكفاية العلمية والقيام التام على التخصص ، حتى يستقيم التلقي من منابعه الأصيلة وروافده الثرّة ، ويتحقق المستوى المرجو في التأهيل الاجتهادي .
3 – التأليف في مناهج التأهيل الاجتهادي للقضاة الشرعيين
إن القراءة وسيلة طيّعة ذلول في مضمار التأهيل الاجتهادي ، وهي – في الحق – لا تنفصم عن العملية التعليمية ، إن لم تكن قطب الرحى فيها ، إذ لا فائدة في تعليم لا ينمّى بقراءات خارجية موازية ، ومهما كانت نظمه مستقيمة فاعلة فإن ثماره تظل رهينة باستعداد الطالب وشغفه المعرفي .
ومن هنا نلحّ على أن يكون لأهل الكتابة والتنظير دور في التأصيل لمناهج تأهيل القضاة الشرعيين تأهيلاً اجتهادياً محكماً ، ومن الموضوعات الحقيقة بالعناية والرصد :
أ – اقتراح الوسائل المفيدة في التأهيل الاجتهادي للقضاة الشرعيين .
ب – صياغة ضوابط التأهيل الاجتهادي للقضاة الشرعيين .
__________
(1) الشافعي ، الرسالة ، 511 .(6/32)
ب – تحديد أدوات الصناعة الاجتهادية التي ينبغي توافرها في القاضي الشرعي بحسب كل عصر ، ومن ثم فإن هذا التحديد يكون منوطاً بمحل مخصوص ، ومؤقتاً بحيز زمني لا يتعداه ، ولا تفترض فيه القطعية أو الصيرورة ، بل يخضع في تصوّر المنظّر له للبعد الزماني والمكاني ، باعتبار أن لكل زمان مجتهديه ، ولكل مجتهد أدوات يركن إليها في صنعته بدافع من تحديات مناخه العملي .
ثالثا : تطبيق مبدأ المشاورة
إن الشورى مبدأ مقرّر في الكتاب والسنة ، ومحكّم عند قضاتنا منذ زمن غير قصير ، حتى عدّ الفقهاء أعوان القاضي ، وعقدت مجالس للشورى الفقهية لا يستغنى عن رأيها في الدعاوى المعروضة،
بل أصبحت الشورى في الأندلس خطة محكمة التنظيم ، لائحة المنهج ، وكان القاضي الذي لا يشاور موسوماً بالتعنّت والاستبداد وتنكّب سَنن العدل(1). وليس من وكدنا هنا إشباع القول في تاريخ الشورى وخصائصها العامة في المشرق والمغرب ، وحسبنا الإلماح إلى أصالة هذا المبدأ وجريان العمل به في تاريخنا القضائي الزاهر .
بيد أن المقام يفرض هنا تجلية صورة الشورى المراد تطبيقها في مضمار القضاء الشرعي ، بدءاً من بيان حكمها الشرعي ، ومروراً باستجلاء ضوابطها ، وانتهاءً إلى رصد ملامح دورها في النهوض بالاجتهاد القضائي ، وهذا ما سنعنى باستيفاء القول فيه في الفقر الآتية .
1 – حكم مشاورة القاضي الشرعي لغيره
أ – تحرير محلّ النزاع في المسألة
__________
(1) ينظر في هذا السياق كتاب تاريخ قضاة الأندلس للخشنى ، وهو مطبوع متاول .(6/33)
اتفق الفقهاء على أن القاضي لا يشاور في مسائل ورد فيها نص صريح من الكتاب والسنة ، أو عضّدها إجماع معتبر ، لأن الحاجة إلى المشاورة منتفية(1)، وإذا ما لجّ الداعي إلى مشاورة غيره فلا بد أن يكون المشاوَر عالماً ثقة ، وكل ما يشترط في المفتي من مؤهلات علمية ينبغي اشتراطه في المشاوَر لأنه لا يشذّ في إبداء رأيه عن صنعة الإفتاء . وإنما اتسع بساط الخلاف في حكم المشاورة في كل مسألة لم يرد فيها نص صريح من منقولات الشرع ومعقولاته ، فيكون النظر فيها من موارد الاجتهاد ومضايق الاشتباه .
ب – أقوال العلماء في المسألة
اختلف العلماء في حكم مشاورة القاضي لغيره على ثلاثة أقوال :
- الأول : إن مشاورة القاضي غيره من الفقهاء مستحبة ، وهو مذهب الحنفية(2)، والشافعية(3)، وقول عند المالكية(4)، وقول عند الحنابلة(5)، واستدلوا بما يأتي :
* حمل الأدلة التي حضّت على الشورى على محمل الندب ، ومنها : حديث معاذ بن جبل حينما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن(6)، ولم يذكر فيه المشاورة مع أن مقتضي البيان كان قائماً ، وأقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .
* إن الصحابة لم يواظبوا على الالتزام بمبدأ الشورى في أقضيتهم ، بل كان كل واحد يستقل بمنزعه في الحكم والاجتهاد ، فمنهم الحريص على المشاورة ، ومنهم من يجتهد رأيه ولا يآلو .
__________
(1) السرخسي ، المبسوط ، 16 / 84 ، والحطاب ، مواهب الجليل ، 6 / 117 ، والماوردي، الحاوي الكبير ، 20 / 100هـ 103، وابن قدامة ، المغني ، 11 / 395 ـ 396 .
(2) الكاساني، بدائع الصنائع ، 7 / 5 ، والسرخسي ، المبسوط ، 16 / 71 .
(3) الشافعي ، الأم ، 6 / 203 .
(4) الدسوقي ، الحاشية ، 4 / 139 ، وابن فرحون ، التبصرة ، 1 / 34 .
(5) البهوتي ، كشاف القناع ، 6 / 315 .
(6) تقدّم تخريجه .(6/34)
* لم يرد في خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ما يشعر بأهمية المشاورة مع أن المقام كان يقتضي بسط كل آلية اجتهادية ومنهجية من شأنها تسديد أبي موسى في مهمته القضائية ، ومما جاء في هذا الخطاب : ( ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك ، وورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ) (1).
_ الثاني : إن مشاورة القاضي غيره من الفقهاء واجبة فيما استغلق عليه واستشكل ، وهو قول عند المالكية(2)، وقول عند الحنابلة(3)، واستدلوا بما يأتي :
* عموم الأدلة القاضية بتحكيم مبدأ الشورى كقوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) (4)، وهذا أمر قرآني يحمل على الوجوب ولا ينصرف إلى الندب إلا بقرينة .
* مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه امتثالاً للأمر القرآني ، وتأكيداً على معنى الوجوب، ذلك أنه كان مسدّداً بالوحي ، ومنزّهاً عن النطق بالهوى ، ومع ذلك كان يشاور في المسائل .
* مشاورة الخلفاء الراشدين غيرهم من الصحابة الذين لهم دراية واسعة بالسنة ، إذ قد يحيطون بأحاديثَ قولية أو سوابقَ في السنة العملية تسعف في معرفة الحكم الشرعي للواقعات ، وقد نقل عن
ميمون بن مهران أن أبا بكر وعمر بن الخطاب كانا إذا لم يجدا نصّاً في واقعة استشارا قبل القضاء(5).
__________
(1) أخرجه البيهقي في السن الكبرى ، كتاب آداب القاضي ،باب إنصاف الخصمين ،في المدخل عليه والاستماع منهما ، 10 / 135 ، والدراقطني في سننه ، كتاب الأقضية والأحكام ، 4 / 206 ـ 207 .
(2) الدسوقي ، الحاشية ، 4 / 139 ، وابن فرحون ، التبصرة ، 1 / 34 .
(3) البهوتي ، كشاف القناع ، 6 / 315 .
(4) آل عمران ، 159 .
(5) ابن القيم ، أعلام الموقعين ، 1 / 20 .(6/35)
- الثالث : إن مشاورة القاضي غيره من الفقهاء غير جائزة ، وانتصر لهذا الرأي ابن حزم الظاهري قائلا : ( فإذا لم يكن عالماً بما لا يجوز الحكم إلا به ، لم يحلّ له أن يحكم بجهله بالحكم ، ولا يحلّ له إذا كان جاهلاً بما ذكرنا أن يشاور من يرى أن عنده عملاً ثم يحكم بقوله ، لأنه لا يدري أفتاه بحق أم بباطل ، وقد قال الله تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " (1)، فمن أخذ بما لا يعلم فقد قفا ما لا علم له به ، وعصى الله عز وجل ) (2).
والراجح في هذه المسألة استحباب مشاورة القاضي فيما حزبه من أمر ، وأشكل عليه لغياب دليله ، أو تعارض أخباره ، وتشفع لهذا الاستحباب المرجحات الآتية :
* أدلة مشروعية الشورى ، وهي من الظهور والشهرة بالمكان الذي لا يخفى ، فلا يحتاج إلى بسطها وتقريرها ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بالمشاورة ، وهو المؤيَّد بالوحي ، والمسدَّد بالتنزيل ، والناطق عن الحق الذي لا ريب فيه .
* من القرائن التي تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مشاورته لأصحابه في الخصومات ، كما جاء كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما غفلاً من ذكر المشاورة ، مع أن هذا الكتاب وثيقة نفيسة في فقه القضاء وآدابه ، وزاخرة بالتوجيهات الشرعية والضوابط الاجتهادية .
__________
(1) الإسراء ، 36 .
(2) ابن حزم ، المحلى ، 8 / 428 .(6/36)
* إن منع ابن حزم للمشاورة معلَّل بما إذا كان القاضي يحكم برأي المشاورين تقليداً وانقياداً ، وهذا منحى غريب عن صنعة المشاوَرة وأهدافها المرجوة ، لأن القاضي ( لم يؤمر بالمشاورة للتقليد ,وإنما أمر بها لأمرين : أحدهما : ليتوصل بها إلى معرفة ما لم يصل إليه من الأدلة ، وربما خفيت عليه سنة علم بها المستشار ، ولم يعلم بها المستشير . والثاني : ليستوضح بمناظرتهم طرق الاجتهاد ، والتوصل إلى غوامض المعاني ، فإن باجتماع الخواطر في المناظرة يكمل الاستيضاح والكشف ) (1).
ومن هنا نستشفّ أن القاضي قد ينظر في آراء مستشاريه ، ويقلّبها على وجوه شتى ، ويصطفي منها الأرجح والأصلح مما يغلب على ظنه وجوب العمل به لشبهه بالحق وقربه من الاجتهاد الصحيح.
2 ـ ضوابط المشاورة
إذا كان كثير من فقهاء المسلمين يستحسنون مشاورة القاضي غيره من أهل العلم والفهم ، فإنهم لم يبلغوا في ذلك حدّ إجازة تعدّد القضاة ،خشية زعزعة ثقة الجمهور في كفاية القاضي واستقلاليته ، وتعدّد القضاة ودرجات التقاضي أسلوب مستحدث تجري عليه محاكم العصر ، إذ يجلس أكثر من قاضٍ للنظر في القضية الواحدة ، ويصدر الحكم بعد المداولة بالإجماع أو الأغلبية . والمطلوب ،اليوم ، أن نفيء من جديد إلى مبدأ المشاورة فيئة رشد وترشيد ، فنحكّمه في قضائنا الشرعي مثلما يحكّم مبدأ تعدّد القضاة في غيره ، على أنه إذا كان رأي المشاوَر ملزماً فإن دوره يكون شبيهاً بدور محاكم النقض والتمييز في النظام المعاصر .
__________
(1) الماوردي ، الحاوي الكبير ، 20 / 104 ـ 105 .(6/37)
ولاشك أن تطبيق هذا المبدأ الجليل يستوجب إنشاء مجلس للشورى يكون رهن إشارة القاضي في إصدار الفتاوى والأحكام ، حتى إذا حزبه أمر ، واستوقفته معضلة أرجأ النظر في الدعوى إلى حين تداول الرأي وإجراء المباحثة مع أعضاء المجلس الاستشاري ، ثم ينظر القاضي في نتيجة المداولة ، وله بعد ذلك أن يناقش مشاوريه في مذاهبهم ، فيرد وينقض ويرجح ، مادام أهلاً للنظر والاجتهاد .
ولا تضنّ علينا مصادر فقه القضاء والسياسة الشرعية بضوابط مرشّدة لمبدأ المشاورة ، حرصاً على إقامة موازين القسط ، وتجذير قيم العدالة ، ويمكن أن نجمل هذه الضوابط فيما يلي :
أ – يشترط في المشاوَر أن يكون مستوفياً لشروط صنعة الإفتاء ، متوفراً على أدوات الاجتهاد ، يقول الماوردي : ( ومجموعها : أن كل من صحّ أن يفتيَ في الشرع ، صحّ أن يشاوره القاضي في الأحكام، فتعتبر فيه شروط المفتي ، ولا تعتبر فيه شروط القاضي ) (1).
ب – لا يشاور القاضي من هو أقل منه علماً ، وفي هذا الشرط نظر ، لأنه قد يكون عند المفضول من جودة الرأي في المسائل ما ليس عند الفاضل ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه وهم أقل منه معرفة ودراية(2).
ج – لا يشاور الفقهاء بحضرة الخصوم ، وإنما تكون المشاورة محاطةً بالسرية والتكتم ، حتى لا يعلم الخصم ما يدور بين القاضي ومستشاريه ، وما استقر عليه الرأي فيحتال لدفعه وإسقاطه(3).
د – إذا خشي القاضي انشغال قلبه وباله بالحذر من جلوس العلماء إليه ، فيفضي ذلك إلى نقصان علمه ، واضطراب فهمه ، فالأولى أن يتركوا الجلوس إليه لما في ذلك من ضرر زعزعة الثقة في القاضي(4).
__________
(1) نفسه ، 20 / 103
(2) الرملي ، نهاية المحتاج ، 8 / 254 ، والشربيني ، مغتي المحتاج ، 4 / 391 .
(3) الحسام الشهيد ، شرح أدب القاضي ، ص 76 ـ 77 ، والسرخسي ، المبسوط ، 16 / 71 .
(4) الحسام الشهيد ، شرح أدب القاضي ، ص 76 ، وابن فرحون ، التبصرة ، 1 / 34 .(6/38)
وإذا كانت هذه الضوابط تغني غنائها في إنضاج المشاورة وتذليل ثمارها الاجتهادية ، فإن من اللائق بحال العصر والمجاراة لمستجداته أن يضاف إلى هذه الضوابط ضابط خامس وهو أن يراعى في اصطفاء المشاورين التخصصات العلمية المتباينة كالفقه والأصول والحديث والخلاف العالي والمقاصد والعلوم الإنسانية المعاصرة ، لأن المسائل المستجدة لا يُهتدى فيها إلى الحكم الشرعي الصائب إلا بتضافر هذه التخصصات المعينة على الفهم وحسن التنزيل في آن واحد ، وفي هذا المسلك ما يحقق معنى الاجتهاد الجماعي الذي ننشد أن يكون ، اليوم ، رهان المجتهدين ، ومركبهم الذلول إلى التأصيل المحكم والمعالجة الراشدة .
3 – دور المشاورة في النهوض بالاجتهاد القضائي
إن لتحكيم المشاورة في القضاء الشرعي دوراً محموداً في النهوض بمستواه الاجتهادي ، ويمكن أن نستجليَ ملامح هذا الدور فيما يأتي :
أ – إن المشاورة تنبيه للقاضي على أشياء قد تندّ عن فطنته أو تخفى عنه ، فيذكر ما نسي ، ويعلم ما جهل(1).
ب – في المشاور انتزاع للأدلة من مصادرها ، وتقريبها إلى مدارك القاضي ، فربما خفيت عن المستشير سنة علم به المستشار ، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ، ومنهم من لزم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر ، تخفى عنهم سنن ، وتفوتهم أحاديث ، فلا يجدون ضيراً ولا حرجاً في المشاورة(2).
ج – المشاورة تسعف القاضي على استيضاح طرائق الاجتهاد ، واستجلاء غوامض المعاني ، لأن تلاقح الآراء واجتماع الخواطر في المناظرة مما يجلّي صور المسائل ، ويجوّد الرأي فيها(3).
__________
(1) السرخسي ، المبسوط ، 16 / 84 ، وابن فرحون ، التبصرة ، 1 / 34 ، والماوردي ، الحاوي الكبير ، 20 / 102 .
(2) الماوردي الحاوي الكبير ، 20 / 104 .
(3) نفسه ، 20 / 105 .(6/39)
د – إذا تقاصرت مدارك القاضي عن معرفة الحق ، فإنه يفتقر إلى من يعينه على التهدّي إليه ، ولا يستقيم ذلك إلا بالمشورة وتداول الرأي(1).
هـ - إن الحكم الصادر عن جمع من الفقهاء أقوى من الحكم الصادر عن فقيه واحد ، وأقوم في العلم والعمل ، وهذا في معنى الاجتهاد الجماعي العاصم من مزالق الاستبداد بالرأي ، والانفراد بالفتوى .
رابعاً : توثيق الصلة بين القضاء الشرعي وفقه الواقع
إن توثيق الصلة بين القضاء الشرعي وفقه الواقع مسلك اجتهادي محمود يضمن حسن التنزيل على الواقعات ، وصون مآلات الأحكام المتمحضة لخير الإنسان من التعطيل ، ذلك أن فقه النص ليس بكاف وحده في تسديد العملية الاجتهادية وتفعيل الحياة بها ، ما لم يلتحم بفقه الواقع في سبيكة رائعة يمكن الاصطلاح عليها ب ( المعادلة الصعبة ) في الاجتهاد الفقهي .
وفي تصورنا أن التوثيق المرجو بين القضاء وفقه الواقع مهيع متّسع ، وتسلك فيه ثلاثة مسالك:
- الأول : فهم الواقع الاجتماعي بتركيبته المعقدة وسماته المتداخلة ، ولعل من أهم مكونات هذا الواقع الأعراف الشائعة والعادات المستحكمة ، فهي تميط اللثام عن البنية الفكرية لأبناء المجتمع ، وخصائص الأوضاع اللغوية المتداولة ، مما يجعل رعيها في التصرفات الشرعية كالأوقاف والنذور والأيمان وغيرها ضرورة لا محيص عنها . ومن هنا عدّ القاضي الذي لا يراعي العرف الجاري بين الناس مع سلامته من المعارضة الشرعية ، جائراً في قضائه ، ومتعنّتاً في حكمه ، ومتنكّباً مقاصد الشريعة وموجبات التيسير في الدين .
وقد كان المالكية على حظ وافر من سداد النظر وشفوف الرأي حين اشترطوا فيمن ينتصب للقضاء أن يكون محيطاً بعادات القوم وأعراف البلد ، حتى إذا قضى في الناس بحكم كان عن حجة ناهضة ، وبرهان منير .
__________
(1) الماوردي ، الحاوي الكبير ، 20 / 102 .(6/40)
_ الثاني : الإلمام بمبادىء العلوم الإنسانية المعاصرة كالطب والاقتصاد والكيمياء ، بوصفها مفاتيح لتحقيق المناط الخاص في المسائل المستجدة ، وأدوات لسبر فقه الواقع على نحو يتيح الفهم العميق لكنْه الواقعات ، والتفسير المعقول للظواهر الاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي يحبل بها العصر ، وهذا كله مؤدٍّ إلى استيعاب كل جديد وافد على الساحة ، وتأصيله على المستوى الشرعي تأصيلاً
سديداً يتآزر فيه الفقهان : فقه النص وفقه الواقع .
_ الثالث : إن الاطلاع على القدر المطلوب من مبادىء العلوم الإنسانية المعاصرة ليس مرغوباً فيه لذاته ، وإنما لما يتيحه من القدرة على استيعاب معطيات العلم الحديث في شتى حلائبه ، ذلك أن قضايا شرعية كثيرة يتوقّف معرفة الحكم فيها على تبيّن صورة المعطى العلمي الحديث ، فينظر إلى مفردات هذه الصورة مفردة مفردة ، ثم النظر فيها بمجموعها وباعتبار ما تؤول إليه من نتائج ومآلات، حتى إذا صدر الحكم الشرعي على الواقع / الإشكال ، كان على حظ وافر من التكييف الصحيح والتنزيل المسدَّد .
وأرى من اللائق هنا أن أضرب المثل بمسألة من مسائل فقه القضاء وهي إثبات النسب ، فإن الكشوف العلمية تمخّضت عن وسائل جديدة في الإثبات لا بد للقاضي أن يحيط به خبراً ، ويستفتي رأي الشرع فيها بعد استفتاء رأي العلم في قطعية نتائجها ، ونجتزىء هنا للتمثيل بوسيلة واحدة هي البصمة الوراثية .(6/41)
إن البصمة الوراثية ( عبارة عن النمط الوراثي المتكون من التتابعات المتكررة خلال الحمض النووي ، وهذه التتابعات تعتبر فريدة ومميزة لكل شخص ) (1)، وقد زفّ هذا الاكتشاف المحمود إلى عالم النور العالم الطبيب الإنجليزي ( اليكس جيفرير ) سنة 1985 م ، ذلك أنه لاحظ في مقارباته التحليلية أن كل شخص يحمل داخل خلاياه نواة تحتفظ بمجموع مادته الوراثية التي ينفرد بها عن غيره، ويحمل الابن نصف مادته عن الأب ، والنصف الآخر من الأم ، ويستقيم إثبات البنوة بإجراء مقابلة بين بصمة الابن الوراثية مع بصمة والديه .
ومادام فحص البصمة الوراثية يفضي إلى نتائج قطعية باعتبار أن التطابق الايجابي المخطىء بين عينات المادة الوراثية مستحيل ، وهذا بإجماع كبار العلماء المتخصصين في هذا المضمار ، فإنه لا ينهض من الشرع مانع من استثمار هذه التقنية في إثبات النسب قياساً على القيافة ، بل إن التعويل على البصمة أولى بالتقديم والاعتبار ، لأن حاسة القائف مصدرها التقدير والتخمين وملاحظة الأوصاف الظاهرة التي يتشابه فيها كثير من الخلق ، بخلاف البصمة فإنها أدخل في الحقائق الساطعة الدامغة ، فضلاً عن أن الوصف الخفي مقدَّم على الوصف الظاهر في الإستلحاق وثبوت النسب ، ولذلك جاء في ( مغني المحتاج ) : ( ولو ألحقه قائف بالأشباه الظاهرة ، وآخر بالأشباه الخفية كالخلق وتشاكل الأعضاء ، فالثاني أولى من الأول ، لأن فيها زيادة حذق وبصيرة ) (2).
بيد أن استثمار هذه التقنية لا بد أن يسيّج بضوابط محكمة تمنع التسيب والاستخفاف بأنساب الناس ، وهي نفسها الضوابط التي ينبغي توافرها في القائف :
أ – الدراية والخبرة ، أي أن يكون الخبير مؤهلاً لفحص البصمة الوراثية وإعمال التطابق بين العينات المختلفة .
__________
(1) عائشة المرزوقي ، إثبات النسب في ضوء المعطيات العلمية المعاصرة ، ص 305 .
(2) الشربيني ، مغني المحتاج ، 4 / 491 .(6/42)
ب – أن يكون مسلماً ، فلا يقبل قول غير المسلم في أمر خطير كالنسب كما لا يقبل قوله في تعيين القبلة .
ج – أن يكون عدلاً ، لأن في الإدلاء بنتيجة الفحص خبراً وروايةً ، والفاسق مجرَّح بما لا يستبعد معه الكذب والتزييف .
د – تعدد الخبراء ، لأن الإخبار بنتيجة الفحص شهادة ، وأصل النصاب في الشهادة رجلان عدلان، ولعل المطلوب اليوم أن يناط فحص العينات بأكثر من مختبر أو جهة متخصصة ، حرصاً على سلامة الإجراءات ودقة النتائج .
ومن ثم فإن القاضي ، اليوم ، ليس بمُكْنته الحسم في إثبات النسب أو نفيه في ضوء التقنيات العلمية الحديثة كالاستنساخ والبصمة الوراثية وتحليل الحمض النووي إلا بعد استجلاء كنه هذه التقنيات ، والتيقن التام من دقة نتائجها ، لأن مدار الإثبات أو النفي على طبيعة هذه النتائج ، هل هي قطعية يقينية ، أم نسبية محتلمة للخطأ والصواب ؟وهذا معترك طبي يستفتى فيه أهل الاختصاص ، وفي ضوء فتواهم يتيسّر الحكم الشرعي في شأن الاستعانة بتقنية ونبذ أخرى .
بات من الجلي والواضح ، إذاً ، أنه لا سبيل إلى النهوض بالاجتهاد القضائي ، وتفعيل دوره في صياغة الواقع وفق منظور شرعي ، إلا بامتلاك أعنة فقه الواقع بأدواته العلمية ومفاتيحه المنهجية التي تسعف في فهم أبعاد الإنسان ، وتفسير الظواهر المنبثقة عن محيطه ، و احتواء القضايا المستجدة في آفاق حياته ، وبهذا تتجدّد عافية القضاء والاجتهاد في الوقت ذاته .
خامساً : تفقّد جهاز القضاء الشرعي
إن تعقّب جهاز القضاء الشرعي في صنيعه وسيرة رجاله ضرب من الرقابة محمود يعين على تجويد الأداء المهني ، وإحكام الممارسة الشرعية ، وإذا كانت الحسبة تطول الخبازين والطباخين وأصحاب الحرف ، فإن القضاء أولى بالاستفادة من حسنات هذه الهيئة الرقابية ، لانبثاقه عن العلم الشرعي ، وتعلّقه بحقوق الناس به ، وارتباطه برسالة العدل وموازين القسط .(6/43)
وقد كان ابن المناصف القرطبي موفَّقاً في كتابه : ( تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام ) ، حين عقد فصلاً بعنوان : ( في التكشّف عن القضاة ، وتعقّب أحكامهم ) ، ومن أنبل كلامه فيه :
( ينبغي للإمام أو القاضي الجامع لأحكام القضاة أن يكون متفقّداً لأحوال قضاته وحكّامه ، متصفّحاً لأقضيتهم ، ومراعياً لأمورهم وسيرتهم في الناس ) (1).
وما أحوجنا اليوم ، إلى إنشاء هيئة عليا للرقابة القضائية يُصطفى أعضاؤها من خيرة علماء كل بلد ، ويناط بها دور تعقّب المسيرة القضائية لا سيما في بعدها العلمي وصنيعها الاجتهادي ، لأن التجويد في الأداء القضائي رهين بالمستوى العلمي للقاضي ، ومكنته الاجتهادية ، ومنهجه في المعالجة الشرعية .
ولعل من أجل الأعمال التي يمكن أن تضطلع بها هذه الهيئة الرقابية :
أ – مراجعة الأحكام القضائية الشرعية على نحو يعين على تقييم المستوى العلمي ، وفحص المنهج المختار في المعالجة الشرعية .
ب – اقتراح الوسائل القمينة بتحسين الأداء العلمي للقاضي الشرعي ، وتهذيب أدواته الاجتهادية .
ج – تمكين الهيئة من اصطفاء بعض الكفايات العلمية المؤهلة لتقلّد منصب القضاء الشرعي .
د – الإشراف على تطوير التكوين العلمي للقاضي الشرعي عن طريق إرشاده إلى إتقان مبادىء العلوم العصرية ، والتعامل مع معطيات التكنولوجيا الحديثة .
ومن ثمّ فإن تفقّد الجهاز القضائي الشرعي يحفّز القضاة على الرقي بمداركهم العلمية ، ومؤهلاتهم الاجتهادية ، فيستفرغون الوسع في إثراء المهارات ، وتنقيح الأدوات ، حسبة لله أولاً ، واحتساباً من نقد الرقابة ثانياً .
وقد يثور هنا سؤال : ألا يعدّ مبدأ استقلالية القضاء مانعاً من تفقّد صنيع القضاة وتصفّح أحكامهم وتوجيه الإرشاد إليهم من قبل الحاكم أو غيره ؟؟
__________
(1) ابن المناصف ، تنبيه الحكام ، تحقيق : عبد الحفيظ منصور ، ص 36 .(6/44)
والجواب : إن تفقّد أحوال القضاة واجب يضطلع به الحاكم ، وقد يوكل هذه المهمة بمن يراه صالحاً لذلك ، دون التدخل في إصدار الأحكام ، والبتّ في الخصومات ، والاستقلالية في القضاء تستقيم بتجرّد القاضي عن الأهواء ، وتنزهه عن الشبهات ، وميله عن محاباة الحاكم ، ونصرته للحق ولو عانى في سبيل ذلك عنتاً ورهقاً ، وهذه المعاني مصانة عن الإهدار في عملية التفقّد والرقابة ، لأن القصد منها بذل النصح ، وإصلاح الأحوال ترقياً إلى الأفضل والأكمل ، ولنا أسوة حسنة في رسالة عمر ابن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ، فإنها معالم نيّرة على الدرب ، يسترشد بها كل راغب في الإحسان إلى دين الله ، ومتهمّمٌ بنشر رسالة العدل الفضلى ، ولم يقل أحد من أهل العلم : إن عمراً جار على استقلالية القضاء ، أو ضيّق الخناق على القضاة !!
خاتمة
وبعد :
فإن للقضاء رسالة فضلى تنصب ميزان العدل ، وتصون حقوق الخلق ، وتسدّد الواقع بإلزامات الوحي وتعاليمة الراشدة ، وهذه المقاصد من الأهمية والخطورة والشأن بالدرجة التي تستدعي تقليب الرأي ومعاناة النظر في شأن القضاء الشرعي تجاوزاً لمعضلاته ، واستشرافاً لآفاق تطويره ، ذلك أن جهاز القضاء الشرعي يعتريه كل عصر ما يعتري غيره من الأجهزة من أدواء توهن القوى ، وتقعد عن الحركة ، لكن الخلل في القضاء أشدّ مضاضة على النفس من الخلل في غيره بوصفه ميزاناً للحق والقسط ، وإتقان الصنعة فيه ينبغي أن يبلغ أقصى غاياته .
وإذا كان ثمة من مهيع يسلك في إصلاح القضاء الشرعي ، اليوم ، والرقي بمستوى أدائه ، فهو النهوض بالاجتهاد القضائي ، وقد بسطنا في غضون هذه الدراسة مسوغات تعضّد مشروعية هذا المسلك من جهة النقل والعقل ، واجتهدنا في صياغة معالم نظرية وضوابط تأصيلية ترسم المنهج اللاحب للاجتهاد القضائي المنشود في ضوء معطيات العصر .(6/45)
وإذا كنا لا نزعم للصنيع التنظيري في هذه الدراسة الإحاطة التامة والإيعاء الكامل ، فلسنا نستكثر عليه سبقاً في إثارة الإشكال ، وجدة في المعالجة ، وعمقاً في التأصيل ، وحادينا في ذلك كلّه غيرة صادقة على فقه القضاء الذي كان وما يزال قبساً من عدالة السماء ، وفيضاً من مشكاة النبوة .
فهرس المصادر والمراجع
- الألباني ، محمد ناصر الدين
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، مج 2 ، ( بدون مكان الطبع ) ، 1399 هـ .
- الآمدي ، علي بن محمد
الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الاسلامي، بيروت، 1402 هـ .
- الباجي ، سليمان
كتاب الحدود ، تحقيق : نزيه حماد ، مؤسسة الزعبي ، بيروت ، 1973 م .
- البخاري ، محمد بن اسماعيل
الجامع الصحيح ، دار الفكر ، بيروت .
- البهوتي ، منصور
كشاف القناع عن متن الإقناع ، تحقيق : هلال مصيلحي ، دار الفكر ، بيروت .
- البيهقي ، أبو بكر
السنن الكبرى ، تحقيق : محمد عبد القادر عطا ، دار الباز ، مكة المكرمة ، 1994 م .
- الترمذي ، أبو عيسى محمد
السنن ، تحقيق : أحمد شاكر ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
- الجرجاني ، علي
التعريفات ، تحقيق : ابراهيم الأبياري ، ط 1 ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1405 هـ .
- ابن الجوزي ، أبو الفرج
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، تقديم وضبط : خليل الميس ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1403 هـ / 1983 م .
- الجيدي ، عمر
العرف والعمل في المذهب المالكي ومفهومهما لدى علماء المغرب ، منشورات اللجنة المشتركة لنشر إحياء التراث بين الإمارات العربية والمملكة المغربية ، 1405 هـ / 1985 م .
- الحجوي الثعالبي ، محمد بن الحسن
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ، تحقيق : عبد العزيز بن عبد الفتاح القارىء ، المدينة المنورة ، 1397 هـ / 1977 م .
- ابن حزم ، أبو محمد علي(6/46)
* الإحكام في أصول الأحكام ، تقديم : إحسان عباس ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ،
1403 هـ .
* المحلى بالآثار ، تحقيق : عبد الغفار البنداري ، دار الفكر ، بيروت .
- الحسام الشهيد ، عمر
شرح أدب القاضي للخصاف ، تحقيق : أبي الوفاء الأفغاني وأبو بكر الهاشمي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1994 م .
- الحطاب ، محمد
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، ط 2 ، دار الفكر ، بيروت ، 1398 هـ .
- الحميضي ، عبد الرحمن إبراهيم
القضاء ونظامه في الكتاب والسنة ، منشورات جامعة أم القرى ، مكة ، ط 1 ، 1409 هـ / 1989 م .
- أبو داود ، سليمان بن الأشعث
السنن ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الفكر ،بيروت .
- الدراقطني ، أبو الحسن علي
السنن ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم يماني ، دار المعرفة ، بيروت ، 1966 م .
- الذهبي ، أبو عبد الله محمد
ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، تحقيق : محمد علي البجاوي ، ط 1 ، دار المعرفة ، بيروت ، 1382 هـ /1963 م .
- ابن رشد ، محمد بن أحمد ( الحفيد )
بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، دار الفكر ، بيروت ، 1995 م .
- الرصاع ، أبو عبد الله
شرح حدود ابن عرفة ، تحقيق : محمد أبي الأجفان ، والطاهر المعموري ، دار الغرب الإسلامي ، 1993 م .
- الرملي ، محمد بن أحمد
كفاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، دار الفكر ، بيروت ، 1984 م .
- الزحيلي ، محمد
تاريخ القضاء في الإسلام ، دار الفكر ، بيروت ، دار الفكر ، دمشق ، ط 1 ، 1415 هـ / 1995 م
- الزركشي ، بدر الدين محمد
المنثور في القواعد ، تحقيق : تيسير فائق أحمد ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، الكويت ، 1405 هـ / 1985 م .
- ابن السبكي ، تاج الدين عبد الوهاب
الأشباه والنظائر ، تحقيق : عادل أحمد عبد الموجود ، وعلي محمد عوض ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1991 م .
- السرخسي ، أبو بكر
المبسوط ، دار المعرفة ، بيروت ، 1406 هـ .
- السنوسي ، عبد الرحمن(6/47)
اعتبار المآلات واعتبار نتائج التصرفات ، دار ابن الجوزي ، السعودية ، ط 1 ، 1424 هـ .
- الشاطبي ، أبو اسحاق إبراهيم
الموافقات ، شرح : عبد الله دراز ، ضبط : محمد عبد الله دراز ، دار المعرفة ، بيروت .
- الشافعي ، أبو عبد الله محمد
الأم ، ط2 ،دار المعرفة ، بيروت ، 1393 هـ .
- الشربيني ، محمد
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ، دار الفكر ، بيروت .
- شموط ، حسن
العدالة القضائية وتطبيقاتها في الشريعة الإسلامية ، دار النفائس ، الأردن ، ط 1 ، 1426 هـ / 2006 م .
- الصنهاجي ، أبو الشتاء
مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الزقاق ، مطبعة الأمنية ، الرباط ، 1375 هـ / 1955 م .
- ابن عابدين ،محمد أمين
حاشية رد المحتار على الدر المختار ، شرح تنوير الأبصار ، دار الفكر ، بيروت ، 1992 م .
- العلوي الشنقيطي ، عبد الله
نشر البنود على مراقي السعود ، مطبعة فضالة ، المحمدية ، المغرب .
- الغزالي ، أبو حامد
المستصفى في علم الأصول ، تحقيق : محمد عبد السلام عبد الشافي ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1413 هـ .
- ابن فرحون ، ابراهيم
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ، ط 1 ،دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 م
- ابن قدامة ، عبد الله
المغني ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
- القرافي ، أبو العباس ، أحمد
شرح تنقيح الفصول ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد ،مكتبة الكليات الأزهرية ،مصر ، 1973 م
- ابن القيم ، أبو عبد الله محمد
إعلام الموقعين عن رب العالمين ،تحقيق : محمد المعتصم بالله البغدادي ،دار الكتاب العربي ،بيروت ، 1996 م .
- الكاساني ، علاء الدين أبو بكر
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، دار الفكر ، بيروت ، 1996 م .
- الكفوي ، أبو البقاء أيوب
الكليات ، فهرسة واعتناء : عدنا درويش ومحمد المصري ، مؤسسة الرسالة ط 1 ، 1992 م .
- ابن ماجة ، أبو عبد الله محمد(6/48)
السنن ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الفكر ، بيروت .
- الماوردي ، أبو الحسن علي
الحاوي الكبير ، تحقيق : محمود مطرجي ، دار الفكر ، بيروت ، 1994 م .
- المرزوقي ، عائشة سلطان
إثبات النسب في ضوء المعطيات العلمية المعاصرة ، منشورات جامعة الإمارات العربية ، ط 1 ، 2003 م .
- مسلم بن الحجاج ، أبو الحسين
صحيح مسلم ، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
- مصطفى سانو ، قطب
أدوات النظر الاجتهادي في ضوء الواقع المعاصر ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، دار الفكر ، دمشق ، ط 1 ، 1421 هـ / 2000 م .
- المقري ، أبو عبد الله محمد
القواعد : تحقيق : أحمد بن عبد الله بن حميد ، منشورات جامعة أم القرى ، مكة .
- ابن المناصف ، محمد
تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام ، تحقيق : عبد الحفيظ منصور ، معهد الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية ، تونس .
- ابن ناجي ، قاسم بن عيسى
شرح الرسالة ، طبع مع شرح زروق ، دار الفكر ، 1982 م .
- النفراوي ، أحمد بن غنيم
الفواكه الدواني ، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ، المكتبة الثقافية ، بيروت .
- النووي ، أبو زكريا يحيى
شرح صحيح مسلم ، ط 2 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1392 هـ .
- الهلالي ، أبو العباس أحمد
نور البصر ، شرح خطبة المختصر ، طبعة حجري ، فاس ، ( د . ت ) .
- الوزاني ، المهدي
تحفة الأكياس ، بشرح عمليات فاس ، طبعة حجرية ، فاس ، 1333 هـ .
- الولاتي ، محمد يحيى
الدليل الماهر الناصح شرح المجاز الواضح في قواعد المذهب الراجح ،مراجعة : باب محمد عبد الله ، مطابع ، عالم الكتب ، الرياض ، 1993 م .
- الونشريسي ، أحمد
المعيار المعرب ، تحقيق جمع من الأساتذة بإشراف الدكتور محمد حجي ، منشورات وزارة الأوقاف، الرباط ، 1981 م .(6/49)
الإجراءات القضائية في أصول رفع الدعوى الشرعية
(أمام القضاء الشرعي الفلسطيني)
بحث مقدم من
الشيخ/ القاضي/ ماهر عليان خضير
رئيس محكمة الاستئناف الشرعية – فلسطين
إلى ندوة
[القضاء الشرعي في العصر الحاضر : الواقع والآمال]
الذي تنظمه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الشارقة – الإمارات العربية المتحدة
الفترة من : الثلاثاء 11/4/2006 – الخميس 13/4/2006
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين أحكم الحاكمين، القائل في كتابه المبين : {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} (الأنعام، آية : 57) . والصلاة والسلام على سيد الحامدين والشاكرين، أفضل الأولين والآخرين محمد عبده ورسوله القائل : (العدل أساس المُلك) . وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد...(7/1)
فإن القضاء الشرعي هو من فروض الكفايات له منزلة كبيرة وهيبة عظيمة لأنه وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفصل في الخصومات بين الناس، ونصرة المظلوم، وردع الظالم، وإيصال الحق إلى أهله، والإصلاح بين الناس، والحكم بما شرع الله في القرآن الكريم والسنة النبوية، لأنها مصدري الشريعة الأساسيين، وهما المرجع الأول للقضاء الشرعي، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم أول قاضٍ في الإسلام، ثم الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين وحكام المسلمين، أسسوا القضاء الشرعي وزخرت كتب تاريخ القضاء في الإسلام بالأحكام الشرعية، وكان الفقه الإسلامي بمصادره المؤسسة على الكتاب والسنة مرجعاً للفصل في الدعاوى التي تُقام لدى المحاكم، وذلك لشمول هذا الفقه وعمومه وصلاحيته لكل زمان ومكان واتساع مصادره وخصوبة قواعده، فظل القضاء الشرعي شاملاً لكل أنواع الدعاوى إسلامياً شرعياً ولمدة تزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمن إلى أن أُلغيت الخلافة وأُنشئت المحاكم النظامية التي طبقت القوانين الوضعية المستوردة، وأصبحت المحاكم الشرعية في بعض الدول الإسلامية مختصة بنظر مسائل الأسرة والتي اصطُلِحَ عليها بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والنفقات والحضانة والإرث والوصية والهبة والحجر وغير ذلك من المسائل التي تفصل فيها المحاكم الشرعية .
وفي بعض الدول ظل القضاء الشرعي مستقلاً صامداً قوياً أمام تيارات الضم إلى القضاء النظامي، وهذا ما كان في فلسطين، فرغم كل المحاولات الساعية لإلغائه إلا أنه اتسع وتطور وأصبح المعقل الأول لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في فلسطين .
وهنا وفي هذا البحث فقد اخترت المحور الثالث المتعلق بإجراءات التقاضي أمام المحاكم الشرعية لسببين :(7/2)
الأول : أهمية الإجراءات القضائية والتي هي : "مجموعة من القواعد التي تبحث وتنظم الإجراءات الواجب إتباعها لتطبيق أحكام القانون"، وهذا يدخل في إطار السياسة الشرعية للحاكم ووضوح الطريق أمام القضاة الشرعيين لتطبيق أحكام القانون وفق الأصول .
الثاني : عملي في القضاء الشرعي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي فلسطين، وكرئيس لمحكمة الاستئناف الشرعية، وقبلها كقاضي شرعي طَبَّقَ عملياً قانون أصول المحاكمات الشرعية، وفي مختلف القضايا الشرعية منها والجنائية والمدنية .
وأسأل الله –تبارك وتعالى- التوفيق في بيان الإجراءات القضائية في رفع الدعوى الشرعية وتطبيقاتها أمام القضاء الشرعي الفلسطيني مع بيان كل إجراء طبقاً لقانون أصول المحاكمات الشرعية الفلسطيني رقم : (12) لسنة 1965، ومجلة الأحكام العدلية والمعمول بها في قطاع غزة خلافاً لما هو مطبق في الضفة الغربية وهو القانون الأردني رقم : (31) لسنة 1959، علماً بأن القانونين متشابهين في الإجراءات خصوصاً وأن تعميمات وقرارات قاضي القضاة عملت على التقريب بينهما وهذا ما سنوضحه في هذا البحث والذي يتكون من مبحثين وثمانية مطالب .
المبحث الأول
الدعوى في القضاء الشرعي
ويتضمن أربعة مطالب، الأول : تعريف الدعوى ومشروعيتها، والثاني : أركان الدعوى الأربعة، والثالث : شروط الدعوى وأقوال الفقهاء فيها، والرابع : أنواع الدعوى .
المطلب الأول
تعريف الدعوى ومشروعيتها
لغةً : الدعوى تعني الطلب والتمني(1)، وقد ورد ذلك في قوله تعالى : {لهم فيها فاكهة ولهم
ما يدعون}(2) . والدعوى اسم لما يدعيه المرء وتجمع على دعاوى بكسر الواو وفتحها(3)،
__________
(1) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص117 .
(2) سورة يس، آية : 57 .
(3) ابن منظور : لسان العرب، ج14، ص257 .(7/3)
وهي تختلف عن الدعوة بفتح الواو، والتي يُقصَد بها : "الدعوة إلى الطعام"(1)، وقد ورد معنى
الدعوى في اللغة بمعانٍ كثيرة(2)، منها الاستغاثة، ومنها الدعاء كقول الله تعالى : {وآخر
دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}(3)، ومنها الزعم والإضافة، وذلك في قوله تعالى : {وقيل هذا الذي كنتم به تدعون}(4) .
اصطلاحاً : عرَّف الفقهاء الدعوى بتعريفات عديدة(5)، وقبل أن نذكرها لابد من ذِكر تعريف مجلة الأحكام العدلية والتي لازالت موادها مطبقة على القضاء الشرعي الفلسطيني، فقد جاء في المادة : (1613) منها : "أن الدعوى : هي طلب أحد حقه من آخر في حضور الحاكم، ويُقال للطالب المدعي وللمطلوب منه المدعى عليه"(6) .
تعريف الدعوى عند الحنفية : هي قول مقبول "عند القاضي" يُقصَدُ به طلب حق قبل غيره، أو دفعه "أي دفع الخصم" عن حق نفسه(7)، أو هي إخبار بحق له على غيره عند الحاكم(8).
تعريف المالكية : ذكر القرافي –من علماء المالكية-(9) أن الدعوى هي : "طلب معين أو ما
في ذمة معينة، أو ما يترتب عليه أحدهما معتبرةً شرعاً لا تكذبها العادة، فالأول كدعوى أن السلعة المعينة اشتراها منه أو غُصِبت منه، والثاني كالديون والسلم" .
__________
(1) انظر : د. إبراهيم أنيس وآخرون : المعجم الوسيط، ج1، ص287 . والرازي : مختار الصحاح، ص205 . والرافعي : المصباح المنير، ص195 .
(2) انظر : مأمون محمد أبو سيف : الدفوع الموضوعية في دعاوى النفقات، ص5 .
(3) سورة يونس، آية : 10 .
(4) سورة المُلك، آية : 27 .
(5) انظر : د. عبد الناصر موسى أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي، ص118 وما بعدها .
(6) سليم رستم باز : شرح المجلة، ص776 .
(7) ابن عابدين : حاشية رد المحتار، ج5، ص541 .
(8) انظر : الشيخ عبد الغني الغنيمي : اللباب في شرح الكتاب، ج2، ص26 .
(9) الفروق، ج4، ص72 .(7/4)
وعند الشافعية : هي : "إخبار عن وجوب حق على غيره عند حاكم"(1) .
وعند الحنابلة : الدعوى هي : "إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته (أي ذمة الغير) من دين ونحوه"(2) .
والذي نراه من هذه التعاريف التعريف التالي :-
الدعوى هي : "طلب مدعي حقه من آخر في مجلس القضاء"، فالطلب هنا يشمل المطالبة كتابةً وقولاً وإشارة، والمدعي صاحب الطلب سواء كان كاذباً أو صادقاً، وحقه يشتمل على حق نفسه وحق غيره بالوكالة أو الولاية أو الوصاية، "ومن آخر" الشخص المدعى عليه، وفي مجلس القضاء قيدت الدعوى أن تكون في مجلس القضاء وإلا لم تكن دعوى"(3) .
مشروعية الدعوى :
إن الدعوى هي : "الوسيلة الأساسية والوحيدة غالباً لوصول الإنسان إلى حقه، ولذلك فهي تدخل في مقدمة الواجب، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(4)، وقد وردت أدلة كثيرة على مشروعية الدعوى مع ملاحظة أن الدعوى تأخذ مشروعيتها من مشروعية القضاء نفسه .
الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع(5) :
أولاً : الكتاب :
__________
(1) مغني المحتاج، ج4، ص461 . وحاشية قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين، ج4، ص334 .
(2) ابن قدامة : المغني، ج9، ص271 .
(3) انظر : د. أحمد محمد علي داود : أصول المحاكمات الشرعية، ج1، ص195 .
(4) د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص118 .
(5) انظر في ذلك : د. عبد الناصر أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي، ص122 وما بعدها . و د. محمد الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص118 .(7/5)
قول الله تعالى : {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم معرضون}(1) . قال القرطبي : "إن هذه الآية دليلٌ على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله سبحانه وتعالى ذم من دعا إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه فأعرض بأقبح الذم"(2) .
قول الله تعالى : {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}(3) . وقد فسرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقاعدة : (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(4) .
قول الله تعالى : {يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله}(5) .
قول الله تعالى : {فاحكم بينهم بالقسط}(6) .
قول الله تعالى : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في
أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}(7) .
ثانياً : السنة :
لقد وردت أحاديث كثيرة على أدلة مشروعية الدعوى، ونورد منها الآتي :
ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو يُعطى الناس بدعواهم لادعى أُناسٌ دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه)(8) .
__________
(1) سورة النور، آية : 48 .
(2) الجامع لأحكام القرآن، ج12، ص294 .
(3) سورة ص، آية : 20 .
(4) انظر : القرطبي : الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص162 .
(5) سورة ص، آية : 26 .
(6) سورة المائدة، آية : 42 .
(7) سورة النساء، آية : 65 .
(8) انظر : صحيح مسلم بشرح النووي،, حديث رقم : (1713) .(7/6)
ما رواه البخاري عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال : (إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها)(1) .
عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضِ للأول حتى تسمع كلام الآخر)(2) .
عن إسماعيل عن قيس عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا حسد إلا في اثنتين : رجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)(3) .
ثالثاً : الإجماع :
لقد أجمع المسلمون(4) من يوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا على مشروعية الدعوى والقضاء وجوازها، قال ابن قدامة(5) : "وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس"، ثم قال : "والقضاء من فروض الكفايات، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجباً عليهم كالجهاد والإمامة" .
المطلب الثاني
أركان الدعوى
__________
(1) البخاري : صحيح البخاري، باب من قُضي له بحق أخيه فلا يأخذه، حديث رقم : (7181) .
(2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن حبان . انظر : بلوغ المرام، ج4، ص120 .
(3) البخاري : صحيح البخاري، ج13، ص141، حديث رقم : (7141) .
(4) انظر : ابن المنذر : الإجماع، ص62 .
(5) المغني : ج9، ص34 .(7/7)
ركن الشيء ما كان داخلاً في ماهيته ولا يتحقق ذلك الشيء إلا به، وركن الدعوى هو إضافة الحق إلى نفسه عند النزاع، وأركان الدعوى كما ذكر الفقهاء(1) أربعة : المدعي (المحكوم له)، والمدعى عليه (المحكوم عليه)، والمدعي به (المحكوم به)، والصيغة وهي الطلب المقدم إلى القاضي ليُطالب الخصم والحكم له بها .
ويرى الأحناف(2) أن ركن الدعوى هو الصيغة والطلب أو القول وما يقوم مقامه المرفوع إلى القاضي للنظر فيه، يقول الكاساني(3) : "قول الرجل : لي على فلان أو قبل فلان كذا، أو قضيت حق فلان أو أبرأني عن حقه، ونحو ذلك، فإذا قال ذلك تم ركن الدعوى، ويوضحون فكرة الدعوى بأن اسم المدعي يتناول من لا حُجة له ويتناول من له حُجة، فالقاضي يسميه مدعياً قبل إقامة البينة وبعدها يسميه محقاً لا مدعياً" . وأما المدعي والمدعى عليه والمدعي به فهذه من مقومات الدعوى أو أطراف الدعوى لأنه لا يتصور وجود الدعوى إلا بها ولكنها ليست جزء داخلاً في الدعوى فلا تعتبر أركاناً فيها(4) . وتقسيم الدعوى من جهة أركانها الأربعة أو أطرافها أو صيغتها مسألة لها قيمتها في إجراءات السير في الدعوى مع أن المهم هو المدعي والمدعى عليه لأن الدعوى لا تقوم إلا بين طرفين، وهذان الطرفان ركنان أساسيان في الدعوى، فلا يمكن أن تقوم دعوى من مدعي بدون وجود مدعى عليه، وأما الصيغة فهي مرحلة تالية لوجود المدعي وصادرة منه ومتضمنة ما يدعي به .
التمييز بين المدعي والمدعى عليه :
__________
(1) انظر : ابن عابدين : الحاشية، ج4، ص580 . والزيلعي : تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، ج4، ص290 .
(2) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص119 .
(3) بدائع الصنائع، ج6، ص222 .
(4) د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص119 .(7/8)
لاشك أن القاضي يعرف أن موضوع التمييز بين المدعي والمدعى عليه له إجراءاته، وأنه يترتب على كل واحد منهما التزامات وواجبات، فقد يقرر المدعي دعواه وبصفته مدعٍ فيها ثم بعد الرد عليها من قِبَل المدعى عليه قد ينقلب المدعي إلى مدعى عليه، والمدعى عليه إلى مدعي، ويكون المدعى عليه الأول قد دفع دعوى المدعي .
والدفع هو : "الإتيان بدعوى من قِبل المدعى عليه لدفع دعوى المدعي"(1)، فإن دَفْعهُ هنا يعتبر دعوى يكون فيها الدافع مدعياً وهذا يتكرر في الدعوى من بدايتها حتى صدور الحكم فيها، فإذا لم يتنبه القاضي عن التفريق بين المدعي والمدعى عليه منذ بداية الدعوى فإن السير فيها يكون فيه خللاً، لأن القاضي قد يطلب إثبات الدعوى من غير المدعي، وقد يوجه اليمين الشرعية إلى غير صاحبه وتنقلب الأمور كلها في الدعوى، ويصدر قرار الحكم فيه إجحاف وجب نقضه .
ومن ضمن الإجراءات في دفع الدعوى وكيفية السير فيها أمام القضاء الشرعي الفلسطيني فإن قاضي القضاة أصدر التعميم رقم : (ق.س/69)، بتاريخ : 30/3/1997 يؤكد فيه على نظرية الدفع في الدعوى حيث جاء في البند : (4) : "يُقبل الدفع –أي دفع- في الجلسة الأولى أو التي تليها إذا طلب المدعى عليه تأجيل الجلسة الأولى لإبداء دفوعه مرة واحدة، وعلى المحكمة تكليفه بحصرها، وبعد ذلك لا يُقبل منه دفع لأن الدفع دعوى له مكانة أثناء السير في الدعوى الأصلية وإلا ترتب على ذلك تعقيد وخلل في سير الدعوى"(2). وبذلك اهتم الفقهاء واختلفت عباراتهم في تعريف المدعي والمدعى عليه طبقاً لوضعه أثناء السير في الدعوى، ونذكر أهمها :-
التعريف الأول :
__________
(1) المادة : (1631) من مجلة الأحكام العدلية . انظر : سليم رستم باز : شرح المجلة، ص793 .
(2) تعاميم قاضي القضاة، فلسطين، مكتبة الديوان، غزة .(7/9)
المدعي من إذا ترك تُرِك، أي من إذا ترك الخصومة تُرِك، والمدعى عليه من إذا ترك لم يترك، أي ترك الخصومة لم يترك . وهذا هو تعريف الحنفية(1) وقول عند الشافعية، وقال الشوكاني : "أنه أسلم تعريف، ويعتمد على آثار الاعتراف بالحق، وأن صاحب الحق مخير بين المطالبة بحقه أو تأجيله أو إسقاطه أو إبراء المدعى عليه منه أو إعفائه عنه، فإن اختار ترك الخصومة والدعوى والمطالبة فله ذلك ويُترك وشأنه ولا يُجبر على رفع الدعوى ومخاصمة الآخرين"(2)، وأما إن اختار المطالبة بحقه فإن المدعى عليه مُلزَم بالحضور للجواب على الدعوى ولا يُترَك بل ويُجبر على الحضور إن امتنع .
التعريف الثاني :
المدعي من يتمسك بغير الظاهر، والمدعى عليه من يتمسك بالظاهر، وبتعبيرٍ آخر : "من كان قوله على خلاف أصل أو عُرف، والمدعى عليه من كان قوله على وفق أصل أو عُرف"(3).
التعريف الثالث :
المدعي من يلتمس قبل غيره لنفسه عيناً أو دَيناً أو حقاً، والمدعى عليه من يدفع ذلك عن نفسه، ومعنى هذا أن المدعي من يلتمس أو يدعي لنفسه التزاماً على غيره(4) .
المطلب الثالث
شروط الدعوى
__________
(1) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص120 .
(2) المرجع السابق، ص120 .
(3) انظر : القرافي : الفروق، ج4، ص75 .
(4) انظر : د. عبد الناصر أبو البصل : شرح أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي، ص128 .(7/10)
لقد اشترط الفقهاء شروطاً لصحة الدعوى وجواز قبولها، فمنها ما يتعلق بالدعوى نفسها، ومنها ما يتعلق بالمدعي، ومنها ما يتعلق بالمدعى عليه، ومنها ما يتعلق بالمدعى به، فإذا توافرت هذه الشروط صحت الدعوى، أي قُبِلَت من المدعي وسُمِعَت وسُئِلَ الخصم المدعى عليه عنها، ويمكن ذكر هذه الشروط(1) في المحددات الآتية :-
الشرط الأول : أهلية المتداعيين :
فلا تُقبل الدعوى ممن لا تتوفر فيه الأهلية لرفعها أو الجواب عنها كأن يكون عاقلاً بالغاً فلا تُقبل الدعوى من صبي أو مجنون وكل من لم تتوفر فيه الأهلية ينوب عنه وليه أو وصيه(2) وهذا ما أخذ به القانون الفلسطيني حيث جاء في المادة : (16) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965(3) : "يُشترط في إقامة الدعوى في المحاكم الشرعية تقديم لائحة بالدعوى موقعة من المدعي المُكلف شرعاً متضمنة هوية الطرفين ومحل إقامتهما وموضوع الدعوى، وتبليغ للمدعى عليه حسب الأصول"، كما أن قاضي الموضوع يجب أن يتحقق في أول جلسة وعندما يقوم بتسجيل حضور الطرفين أنهما مكلفان شرعاً .
الشرط الثاني : الصفة :
__________
(1) انظر : د. الشيخ الدكتور : أحمد محمد علي داود : أصول المحاكمات الشرعية، ج1، ص200 . والمستشار/ أنور العمروسي : أصول المرافعات الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية، ص155 .
(2) انظر : قليوبي وعميرة : الحاشية على منهاج الطالبين، ج4، ص163 .
(3) انظر : مجموعة القوانين الفلسطينية، المجلد العاشر، ص127 .(7/11)
وتوافر الصفة شرط لقبول الدعوى بإجماع الفقهاء والقضاء، وهو شرط بديهي يتعلق بطرفي الخصومة، بحيث يتعين أن تكون للمدعي صفة في المطالبة بما يدعيه، وأن تكون للمدعى عليه صفة في توجيه الدعوى إليه، أي أن الصفة تحقق ما يشترطه القانون في جانب كل منهما(1)، والخصومة في الصفة تأتي عن طريق دفع الدعوى بأنها مقامة على غير ذي صفة، وهذا دفع موضوعي يُقصد به الرد على الدعوى برمتها ويترتب على قبوله رد دعوى المدعي برمتها أيضاً، كأن تدعي امرأة بطلب ضم أولادها الصغار من أبيهم فيدفع الأب الدعوى بأن الصغار ليسوا تحت يده وغير واضع يده عليهم وإنما مع جدتهم لأبيهم ويقيمون معها في بلدٍ آخر مثلاً، فهنا الدعوى مقامة على غير ذي صفة لأن دعوى ضم الأولاد إنما تُقام على واضع اليد .
الشرط الثالث : وجود الخصومة أو المصلحة :
شرط لصحة الدعوى أن يكون نزاع بين أطرافها وخصومة حقيقية، وأن يعود الحكم فيها مصلحة لأحد أطرافها، وأن لا تكون الخصومة صورية من أجل التحايل على القضاء للحصول على حكم صوري، ولذلك ما لم تتوافر المصلحة لا تُقبل الدعوى، ولذلك يُقال : "أن المصلحة مناط الدعوى وأنه لا دعوى حيث لا مصلحة"(2) . وليس بلازم ثبوت الحق لتوافر المصلحة بل تكفي شبهة الحق حتى تكون الدعوى جديرة بالعرض على القضاء(3)، وهذا ما أخذ به قانون أصول المحاكمات الشرعية المطبق في الضفة الغربية في المادة رقم : (44) "ترفض الدعوى إذا لم يكن بين الطرفين خصومة في الواقع بل قصداً بالتقاضي الاحتيال على حكم يدعيه أحدهما" .
الشرط الرابع : أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت عقلاً أو عادة وأن يكون
معلوماً :
__________
(1) انظر : أنور العمروسي : أصول المرافعات الشرعية، ص156 .
(2) المستشار أنور العمروسي : أصول المرافعات الشرعية، ص159 .
(3) د. أحمد مسلم : أصول المرافعات، ص314، نقلاً عن المرجع السابق، ص159 .(7/12)
فلا تُقام الدعوى على شيء لا يقبله العقل أو العرف، كأن تدعي امرأة على رجل صالح أنه زنى بها، أو يدعي فقير على غني أنه أقرضه مبلغاً من المال، أو يكون المدعى به مجهولاً ففي هذه الحالة لا يتحقق الإشهاد والإلزام فيها، كما جاء في نص المادة : (1617) من مجلة الأحكام العدلية المطبقة في فلسطين : "يُشترط أن يكون المدعى عليه معلوماً، فإذا قال المدعي لي على واحد لا على التعيين من أهل القرية الفلانية، أو على بعضهم مقدار كذا لا تصح دعواه ويلزمه تعيين المدعى عليه" . وفي حالة جهل المدعى به لا تكون الدعوى صحيحة ولا يكون الخصم مجبوراً على إعطاء الجواب، كما أنه في هذه الحالة لا تُقام البينة على المدعى عليه المنكر، ولا يُحَلَّف المدعى عليه(1) .
والمعلومية تكون ببيان الحدود أو الأوصاف أو النوع والصفة والمقدار، ويُستثنى من معلومية المدعى به عدة حالات تقبل فيها الدعوى مع جهالة المدعى به "كالدعوى بالإقرار والوصية والرهن والإبراء والكفالة مع الاختلاف في بعضها وفي عددها، وكذلك تجوز الدعوى مع جهالة المدعى به إذا كان يتوقف على تقدير القاضي كدعوى الإتلاف والضمان والنفقة وغيرها"(2) .
الشرط الخامس : أن يكون المدعى به مشروعاً :
__________
(1) انظر : ابن عابدين : حاشية رد المختار، ج6، ص94 .
(2) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص125 .(7/13)
أي أن يكون جائز شرعاً أو مما يتعلق به حكم أو غرض صحيح أو مصلحة مشروعة وهذا ظاهر من تعريف الدعوى التي هي طلب أحد حقه من آخر في حضور القاضي، فالحق في الدعوى هو ما اعترف به الشرع وحماه القضاء وتتحقق المصلحة في حفظ الضروريات الخمس وهي : "حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل"، وذلك على ضوء ما قررته الشريعة من أحكام في ذلك(1)، وقد شرعت الدعوى لحماية الحقوق والمصالح المشروعة والمطالبة بها وفق الأسس والمقتضيات الشرعية المقررة(2)، أما إذا كان المدعى به لا يقره الشرع كالخمر ومال الربا والآثار المترتبة على الباطل والفاسد فلا يحميه الشرع ولا تُقبل الدعوى به، وكذلك الأحكام التي يقرها الشرع ولكن لا يلزم الناس بها ولا يكلفهم أداءها وجوباً أو جعل جزاءها في الآخرة فلا تقبل الدعوى فيها كالدعوى على آخر بالامتناع عن الإقراض أو مساعدة الجار أو قبول الوكالة أو التبرع، ويعبر كثير من الفقهاء عن هذا الشرط بشرط الإلزام في الدعوى أي أن يلزم به المدعى عليه إذا ثبتت الدعوى(3) .
الشرط السادس : الجزم والتحقيق في الدعوى وعدم التناقض فيها :
__________
(1) انظر : المادة : (1613) من مجلة الأحكام العدلية، سليم رستم باز : شرح المجلة، ص776 .
(2) انظر : د. أحمد علي داود : أصول المحاكمات الشرعية، ص233 .
(3) د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص124 .(7/14)
يشترط في الدعوى أن تكون جازمة، فلو قال المدعي أشك أو أظن لم تصح دعواه، ولو قال المدعى عليه أيضاً في جوابه أشك أو أظن فلا تُقبل إجابته، "وليست هناك عبارات مخصوصة يشترط ذكرها في الدعوى ولا كلمة أدعي، بل إن كل ما يفيد من ألفاظ الجزم والقطع بالمدعى به يعتبر دعوى صحيحة وتُسمع"(1)، وهذا ما جرى عليه العمل في القضاء الشرعي الفلسطيني فإن الدعاوى في النفقات مثلاً عادةً تبدأ بعبارة "أعرض لمحكمتكم الموقرة أن المدعية هي زوجة ومدخولة بصحيح العقد الشرعي على فلان بن...، ولا تزال الزوجية الصحيحة الشرعية قائمةً بينهما حتى الآن، وأنه تركها بلا نفقة ولا منفق ولا إسكان...، أطلب من محكمتكم الموقرة فرض نفقة زوجة لها على حسب حاله وأمثاله...." . فصيغة الدعوى هنا واضحة جازمة في طلباتها، والرد يجب أن يكون كذلك أيضاً .
الشرط السابع : حضور الخصم حين الدعوى :
وهذا شرط أوجبه الحنفية(2) دون باقي الفقهاء، وقد جاء في شرح المادة : (1618) من المجلة : "لأنه لا يُقضى على غائب، ولا له إلا بحضور نائبه حقيقةً كوكيله ووصيه ومتولي الوقف أو نائبه شرعاً كوصي نصبه القاضي"، وعلى ذلك لا تُقبل الأدلة أو البينة على مدعى عليه غائب، وقد خالف القضاء الشرعي الفلسطيني ذلك فتسمع الدعوى على الغائب إذا
تم تبلغيه حسب الأصول القانونية المذكورة في المادة : (20) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965، والخاصة بإجراءات تبليغ المدعى عليه .
الشرط الثامن : مجلس القضاء الشرعي(3) :
__________
(1) د. أحمد علي داود : أصول المحاكمات الشرعية، ص233 .
(2) انظر المادة : (1618) من مجلة الأحكام العدلية، سليم رستم باز : شرح المجلة، ص778 .
(3) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص125 .(7/15)
يُشترط أن تكون الدعوى في حضور مجلس شرعي يعقده القاضي في الوقت المحدد، ويصدِّر محضر الدعوى بفتح المجلس كأن يقول : (في المجلس الشرعي المعقود لديَّ أنا/.... قاضي محكمة....... الشرعية)، والهدف من وجود مجلس القضاء الشرعي هو لإلزام المدعى عليه بالحكم وإنهاء النزاع بصدور قرار الحكم من القاضي وأصبح واجب التنفيذ، وهذا لا يتحقق إلا إذا رُفعت الدعوى أمام القاضي وحدد لها موعداً رسمياً، وسمع فيها أقوال المتداعيين والأدلة والإثباتات حتى يصدر قراره معللاً ومسبباً، وهذا ما عليه العمل في المحاكم الشرعية في فلسطين .
المطلب الرابع
أنواع الدعوى
تنقسم الدعوى إلى ثلاثة أنواع، دعوى صحيحة، وفاسدة، وباطلة، وهذا التقسيم جارٍ على أساس قاعدة الأحناف في الصحيح والفاسد والباطل(1) .
أولاً : الدعوى الصحيحة :
وهي الدعوى التي استوفت فيها جميع الشروط، وترتب عليها حكم ووجوب إحضار الخصم وإلزامه بالإجابة على دعوى خصمه المدعي والسير بإجراءات الدعوى حسب الأصول القضائية في الإثبات وإحضار البينة كسماع الشهود واليمين من المدعى عليه إذا أنكر(2).
ثانياً : الدعوى الفاسدة :
__________
(1) انظر : د. عبد الناصر أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي، ص137 . وابن عابدين : حاشية رد المختار، ج5، ص47 .
(2) انظر : في شروط صحة الدعوى : سليم رستم باز : شرح المجلة، ص777 .(7/16)
وهي دعوى صحيحة أصلاً، إلا أنه قد فقدت أحد شروطها كأن يكون المدعى به مجهولاً أو غير محدد، وهذه الدعوى سماها الشافعية "دعوى ناقصة"، أما الأحناف فسموها دعوى فاسدة(1)، وفي هذه الدعوى يُكلَّف المدعي بتصحيح دعواه، فإذا صححت ترتب عليها أحكام الدعوى الصحيحة وطبقاً لنص المادة : (105) من قانون أصول المحاكمات الشرعية الفلسطيني رقم : (2) لسنة 1965 فإن المدعي يحق له طلب التأجيل ثلاث مرات لتصحيح دعواه فإن لم يصححها خلال ذلك يرد القاضي الدعوى مع بقاء حق المدعي في رفع دعواه مرة أخرى صحيحة . والدعوى الفاسدة لا يترتب عليها أية آثار قبل تصحيحها فلا يلزم المدعى عليه بالإجابة عليها ولا تُسمع البينة والمحكمة مباشرة، وفي الجلسة الأولى وبعد تقرير الدعوى من المدعي تطلب منه تصحيح دعواه فإن صححها سارت في الدعوى حسب الأصول وإلا كلفته مرة ثانية بالتصحيح فإن لم يستطع ثلاث مرات رُدت . جاء في تبصرة الحكام فصل في كيفية تصحيح الدعوى قال : "والمدعى به أنواع : فإن كانت الدعوى في شيء من الأعيان وهو بيد المدعى عليه فتصحيح الدعوى أن يبين ما يدعي، ويذكر أنه في يد المطلوب بطريق الغصب أو العداء أو الوديعة أو العارية أو الرهن أو الإجارة أو المساقاة أو غير ذلك... قال ابن سهل : إذا أنقص المدعي من دعواه ما فيه بيان مطلبه أو بتمامه وإن أتى بإشكال أمر ببيانه فإذا صحت الدعوى سأل الحاكم عنها"(2) .
__________
(1) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص127 .
(2) انظر : تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام : للإمام برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن فرحون، ج1، ص104 .(7/17)
ثالثاً : الدعوى الباطلة(1) :
وهي الدعوى غير الصحيحة أصلاً ولا يمكن تصحيحها أو إكمال ما نقص فيها ولا يترتب عليها أي حكم شرعي وهي لا تُسمَع أصلاً، وتُرَد دون سؤال الخصم عنها، ومثالها الدعوى التي يكذبها العقل أو تتعارض مع الأحكام الشرعية، أو كما لو ادعى المدعي بدعوى "طاعة زوجية" دون ذِكر اسم المدعى عليها .
المبحث الثاني
أصول رفع الدعوى الشرعية
طبقاً لقانون أصول المحاكمات الشرعية الفلسطيني
بعد أن تكلمنا عن تعريف الدعوى ومشروعيتها وأركانها وشروطها وأنواعها يلزم علينا أن ندخل إلى الجانب العملي فيها، فإذا رُفِعت الدعوى صحيحة وجب على القاضي النظر فيها وإعطاء قرار معلل ومسبب، وهذا واجب على القاضي لأنه مكلف بحماية الحقوق وبرفع الظلم وبرد العدوان وعدم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض وإحقاق الحق بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، ولكن كيف نرفع الدعوى الصحيحة ؟ وكيف تُقيد في سجلات المحكمة ؟ ويُحدد لها موعد جلسة ؟ وكيف يسير فيها القاضي حسب الإجراءات القضائية المتبعة في قانون أصول المحاكمات ؟ وهنا "قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965 المطبق في قطاع غزة"، وهذا ما نذكره في المطالب التالية :-
المطلب الأول
رفع الدعوى وقيدها
__________
(1) انظر في الدعوى الباطلة : د. أحمد علي داود : أصول المحاكمات الشرعية، ج2، ص196 . و د. عبد الناصر أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي، ص138 . و د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص127 . وسليم رستم باز : شرح المجلة، ص777 .(7/18)
نُجيب في هذا المطلب عن كيفية رفع الدعوى لدى المحكمة الشرعية في فلسطين وطريقة قيدها في سجلات المحكمة وتحديد موعد جلسة لنظرها بعد تحريرها بلائحة تتضمن البيانات اللازمة لتقديمها إلى قلم كتاب المحكمة لدفع الرسم المُقرر عليها ثم تُقيد في سجل الأساس وتُعطى رقماً مسلسلاً وفق الأصول، وأن الإجراءات المُتبعة في قطاع غزة لرفع الدعوى وقيدها وضحها قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965 في المواد الخاصة بالدعاوى والمذكورة في الباب الأول وفي المواد : (16، 17، 18، 19، 20، 21، 22)، ومواد مجلة الأحكام العدلية المذكورة في الكتاب الرابع عشر من المادة : (1616) وما بعدها، وفي تعاميم وقرارات قاضي القضاة الصادرة بعد وجود السلطة الوطنية الفلسطينية وأخيراً على الراجح من المذهب الحنفي كما نصت المادة : (157) من قانون أصول المحاكمات الشرعية المذكور، وقالت : "تصدر الأحكام طبقاً لهذا القانون ولأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة ماعدا الأحوال التي نص فيها قانون المحاكم الشرعية على قواعد خاصة فيجب أن تصدر الأحكام طبقاً لتلك القواعد" .
كما أن الإجراءات المتبعة أيضاً منها ما لم يكن مقنن وإنما في بعض الأحيان استمد مما خلفه رجال القضاء الشرعي في فلسطين من تراث نفيس من المبادئ والإجراءات القضائية وهذا التراث موجود في محكمة القدس الشرعية ومحكمة غزة الشرعية وقبل مئات السنين، ورغم أن الاحتلال حاول إخفاء السجلات الموجودة في المحاكم الشرعية إلا أنها ظلت محفورة في عقول رجال القضاء الشرعي جيل يعلمها لجيلٍ آخر حتى يومنا هذا .(7/19)
وأن الدعوى الشرعية تتميز بسماتٍ تُضفي عليها ذاتية خاصة لأنها تمس علاقات الإنسان بزوجه وأولاده وأسرته منذ أن كان جنيناً في بطن أمه وحتى وفاته، وسواء كانت هذه العلاقات خاصة بنفسه أو بصفاته أو بأمواله(1) . ولذلك عندما تُرفع الدعوى الشرعية يجب أن تكون على الأساس المذكور في تحديد موضوعها، لأن لكل موضوع أركان يحددها .
وعلى ذلك يمكن إجمال مراحل رفع الدعوى الشرعية في النقاط الآتية :-
يُحرر المدعي لائحة بدعواه يذكر فيها البيانات اللازمة بأسماء الخصوم وموضوع الدعوى ولأي محكمة موجه هذه اللائحة والطلبات التي يريد الحكم له فيها ومن ثم التوقيع عليها .
تُقدم اللائحة المذكورة إلى قاضي المحكمة المختصة الذي يقوم بدوره بإحالتها إلى قلم الكتاب لقيدها واستيفاء الرسوم المقررة عليها وتبليغ الخصوم حسب الأصول .
يُقدم المدعي لائحة الدعوى وصوراً منها بقدر عدد المدعى عليهم إلى قلم كتاب المحكمة لدفع الرسم المقرر والمُستَحق على الدعوى وأن تقدير الرسوم في فلسطين حدده قانون رسوم المحاكم رقم : (39) الصادر سنة 1933، الصادر عن المجلس الإسلامي الأعلى، وهذا مُطَبَّق في قطاع غزة وتم معادلته بتعميمات قاضي القضاة لاستبدال الجنية المصري فيه بالدينار الأردني، أما في الضفة الغربية فإن الرسوم المُطبقة بالدينار الأردني طبقاً لقانون الرسوم الأردني رقم : (55)، لسنة 1983 .
يدفع المدعي الرسم كاملاً، ويُعطى إيصالاً بذلك ولا يتم تأجيل الرسم في القضايا الشرعية بأي حالٍ من الأحوال ولا تُعتبر الدعوى مُقيدة إلا بعد دفع رسمها .
__________
(1) انظر : المستشار : أنور العمروسي : أصول المرافعات الشرعية، ص166 .(7/20)
تُقيد الدعوى في سجل الأساس وتُعطى رقماً مسلسلاً وفق الترتيب ويُعيَّن القاضي المختص لنظرها، وقد يظهر ذلك من رقم الدعوى الزوجي والفردي وهذا ما وضحه التعميم الصادر من قاضي القضاة رقم : (928/95)، بتاريخ : 19/جمادى الأول/1416ه، الموافق : 1/10/1995، والذي ينص على أن الدعاوى في المحاكم ذات القاضيين توزع حسب الرقم الفردي والزوجي بين القاضيين الموجودين، وليس لأحد القاضيين نظر قضية مخصصة لزميله إلا في حالة غيابه في إجازة وبتكليف من قاضي القضاة .
توضع الدعوى بعد قيدها في ملف خاص يحمل اسم المحكمة المختصة بنظر الدعوى بالإضافة إلى اسم المدعي وشهرته، وبلدته الأصلية في فلسطين(1)، ومكان إقامته الحالية، واسم محاميه أو وكيله إن كان له محامي أو وكيل، ثم يُكتَب على الملف موضوع الدعوى، ورقم الأساس، وتاريخ رفع الدعوى، ورقم إيصال الرسم المدفوع.
يتم تحديد موعد أول جلسة من قِبل كاتب ضبط الجلسة "حسب الأجندة" وتُعاد للقلم ليتم تسجيلها في ملف الدعوى الذي تم إعداده، ويتم إعلام المدعي بالموعد والتوقيع على ذلك.
يُنظم قلم كتاب المحكمة مذكرة حضور لتبليغ المدعى عليه أو عليهم ويُعِد نسخاً من المذكرة بعدد نسخ لائحة الدعوى ويذكر فيها اسم المدعى عليه كاملاً، وعنوانه، وتاريخ الجلسة، وتُوَقَّع من القاضي الشرعي وتُختم بخاتم المحكمة الرسمي وتُرفق معها لائحة الدعوى .
تُسَلَّم لائحة الدعوى ومذكرة الحضور إلى قلم المُحضرين لتبليغ المدعى عليه حسب الأصول المتبعة في نص المادة : (20) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965 .
__________
(1) جرت العادة في المحاكم الشرعية في فلسطين على ذِكر البلدة الأصلية لكل من الخصمين والتي هي داخل أراضي عام 1948 حتى لا تختفي هذه الأسماء أو تُهمَل خاصةً وأن الاحتلال قام بتغيير الاسم الأصلي إلى اسم آخر، ومثالاً على ذلك مدينة "المجدل" سماها الاحتلال "أشكلون" .(7/21)
ينتقل المُحضر لتبليغ صورة مذكرة الحضور ولائحة الدعوى إلى المدعى عليه أو من يمثله وفق الأصول كما ذكرت في البند السابق، وبعد التبليغ توضع مذكرة الحضور في ملف الدعوى انتظاراً لموعد الجلسة .
المطلب الثاني
لائحة الدعوى
بيَّنت الإجراءات القضائية المتبعة في المحاكم الشرعية في قطاع غزة، ومن خلال السوابق القضائية والتعاميم والقرارات الصادرة عن قاضي القضاة أن لائحة الدعوى تُكتَب على ورقة بيضاء طباعة أو بخط اليد بشرط أن يكون واضحاً وبالحبر، ونصت المادة : (16) من قانون أصول المحاكمات الشرعية أن الشرط في إقامة الدعوى في المحاكم الشرعية : "تقديم لائحة بالدعوى مُوَقَّعة من المدعي متضمنة هوية الطرفين، ومحل إقامتهما، وموضوع الدعوى، وتُبَلَّغ للمدعى عليه حسب الأصول" .
المواصفات التي تُشترط في لائحة الدعوى :
يجب أن تتضمن لائحة الدعوى ما يلي :-
اسم المحكمة المختصة المرفوعة أمامها الدعوى، فيكتب مثلاً : "حضرة صاحب الفضيلة قاضي محكمة غزة الشرعة، أو قاضي محكمة خان يونس الشرعية.... .
اسم المدعي رباعياً وشهرته، وبلدته الأصلية، ومحل إقامته الحالية، واسم من يمثله كأن يُسجِّل : "فلان بن فلان بن فلان الفلاني، المشهور كذا، من المجدل، وسكان غزة الرمال، يمثله المحامي الشرعي فلان" .
اسم المدعى عليه أيضاً رباعياً وشهرته، وبلدته الأصلية، ومحل إقامته الحالية، فإن لم يكن له محل إقامة معلوم وقت رفع الدعوى فيذكر آخر محل إقامة له حتى يسهُل تبليغه بموعد الجلسة، كأن يكتب مثلاً : "فلان بن....، المشهور كذا، من يافا، وسكان غزة الشجاعية سابقاً والمجهول محل الإقامة حالياً .
يكتب في منتصف الصفحة موضوع الدعوى مثل : الموضوع : دعوى نفقة زوجية، أو ضم أولاد، أو دَين على تركة، أو تفريق للسجن .(7/22)
يكتب وقائع الدعوى وأركانها وأسانيدها باختصار وبصورة موجزة يشرح فيها علاقة المدعي بالمدعى عليه كأن يقول : "إن المدعية فلانة هي زوجة ومدخولة بصحيح العقد الشرعي إلى المدعى عليه فلان، ولا تزال الزوجية الصحيحة الشرعية قائمةً بينهما حتى الآن"، ثم يبين سبب رفع الدعوى كأن يقول : "وقد تركها المدعى عليه بلا نفقة ولا منفق ولا إسكان بلا سبب شرعي ولا عذر مقبول"، ثم يبين الأسانيد والبيِّنات التي يستند إليها كأن تذكر بأنها ليست ناشزة عن طاعته، ولا مطلقة منتهية العدة، وممكن أن توضح في حالة هذه الدعوى المذكورة الأسانيد المذكورة في المواد : (57) وما بعدها من قانون حقوق العائلة الصادر بالأمر رقم : (303) لسنة 1954(1)، أو المواد : (166) وما بعدها المذكورة في قانون الأحوال الشخصية الفلسطيني على مذهب الإمام أبي حنيفة(2) .
كتابة الطلبات في نهاية شرح الدعوى، فيجب أن تتضمن طلبات المدعي بالتفصيل لأن الدعوى التي لا تشتمل على طلبات المدعي تكون دعوى غير مقبولة فلا حكم إلا بطلب كأن يذكر مثلاً : "ألتمس من المحكمة الموقرة الحكم لي على المدعى عليه بنفقة زوجية حسب حاله وأمثاله، وأمرِهِ بدفعها لي، وإذني بالاستدانة والصرف والرجوع عليه بما يتراكم من هذه النفقة" .
يجب تحرير تاريخ لائحة الدعوى باليوم والشهر والسنة، وهنا لا يعتمد القاضي الشرعي قيد الدعوى على التاريخ المذكور فيها لأن المدعي قد يكتب تاريخاً سابقاً، أو لاحقاً، ولذلك يُعتَمد في المقام الأول على تاريخ دفع الرسم المقرر، ويقوم قلم الكتاب بتسجيل رقم الإيصال وتاريخه على لائحة الدعوى، وأيضاً توقيع الكاتب وتاريخ تسجيل الدعوى .
__________
(1) مجموعة القوانين الفلسطينية، المجلد العاشر، قانون حقوق العائلة، ص114 .
(2) المرجع السابق، ص27 .(7/23)
توقيع المدعي أو وكيله على لائحة الدعوى، وهذا أمرٌ مهم لأن الدعوى غير المُوَقَّعة من صاحبها أو وكيله قد تؤدي إلى بطلانها ولا يُغني عن ذلك كتابة الاسم طباعةً أو كتابةً دون الإمضاء أو البصم .
وهذا هو الشكل اللازم للائحة الدعوى، ولكن ماذا لو قُدمت لائحة الدعوى وفيها إغفال شيء يجب ذكره لصحة الدعوى ؟ يقوم القاضي في الجلسة الأولى بسؤاله عنه، "ولا يُعد ذلك تلقيناً إلا إذا زاده علماً، ومعنى هذا أنه لا يترتب على نقص في البيانات الواجب توافرها في لائحة الدعوى بطلان هذه اللائحة، بل يستوضح القاضي من المدعي هذه البيانات أو المعلومات، ويستكمل بذلك لائحة الدعوى ويصححها، ثم يسير في إجراءات المحاكمة حسب الأصول، أما إذا كانت البيانات المطلوبة يترتب عليها أن تفقد الدعوى شرطاً من شروط صحتها فيجب على المحكمة ردها دون أن تسأل المدعى عليه عنها"(1) .
المطلب الثالث
تبليغ لائحة الدعوى(2)
__________
(1) انظر : د. عثمان التكروري : الوجيز في شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص64 .
(2) انظر : المرجع السابق، ص64 .(7/24)
تقضي المادة : (16) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965 المطبق في قطاع غزة بعد تقديم لائحة الدعوى وقيدها تبليغ هذه اللائحة للمدعى عليه وتكلفه بالحضور للجلسة المحددة لها، والجهة المختصة بالتبليغ هي قلم المُحضرين وهو الذي يتلقى مذكرة الحضور وصورة الدعوى من قلم الكتاب ويُكَلِّف أحد المحضرين بتبليغها إلى المدعى عليه أو من يمثله قانوناً، ولذلك لا يصح أن يقوم شخص آخر بالتبليغ سوى المُحضر حتى لو كان موظفاً عمومياً وذلك لأن المشرع أناط مهمة تبليغ الأوراق القضائية حصراً للمحضرين، وأن قاعدة تبليغ الطرف الآخر في الدعوى قاعدة عامة ومعروفة في جميع قوانين أصول المحاكمات ومنها الفلسطيني، وتنبني على مبدأ المواجهة بين الخصوم والذي يقتضي علم الخصم الآخر بكل ما يجريه أحد الخصوم في الدعوى(1) وهو تطبيقٌ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي –كَرَّم الله وجهه- : (يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء)(2) .
وعلى ذلك لا يجوز اتخاذ إجراء ضد شخص دون تمكينه من العلم به، ودون إعطائه الفرصة للدفاع عن نفسه، قال ابن أبي الدم الشافعي : "إذا استعدى الحاكم رجل على رجل وطلب منه إحضاره إلى مجلس الحكم لمخاصمته بعث الحاكم إليه رجلاً من أجريائه أو خاتمه أو طيناً مختوماً بخاتمه إلى المطلوب لإحضاره، ويجب على المدعو الإجابة إلا أن يوكل أو يقضي الحق إلى الطالب"(3) .
موعد التبليغ :
__________
(1) د. عبد الناصر موسى أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص156 .
(2) الترمذي : السنن، ج3، ص609، كتاب الأحكام، رقم الحديث : (1331)، وأبو داود : السنن، ج3، ص301، رقم الحديث : (3582) والشوكاني : نيل الأوطار، ج8، ص284 .
(3) انظر : د. عبد الناصر موسى أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص156، نقلاً عن أدب القضاء، ص131 .(7/25)
لم يُحدد قانون أصول المحاكمات الشرعية ميعاداً محدداً يلتزم به المُحضر لإجراء التبليغ، ولكن نصت المادة : (18) من قانون أصول المحاكمات الشرعية على أنه : "يقتضي تبليغ ورقة إعلان الخصوم إلى المتداعيين قبل يوم من يوم المحاكمة على الأقل، وأما إذا راجع الطرفان المحكمة وطلبا إجراء المحاكمة يشرع في المحاكمة من غير حاجة إلى تسطير ورقة الإعلان، وللقاضي أن يجلب في الحال المدعى عليه في المواد المستعجلة" .
تنظيم مذكرة التبليغ :
ذكرت المادة: (20) من قانون أصول المحاكمات الشرعية كيفية تنظيم مذكرة التبليغ وقالت :-
يُنظم قلم المحكمة إعلان تبليغ يُشعِر بإبلاغ كل نوع من الأوراق القضائية، وتُعطى صورة عنه إلى من استدعى التبليغ ويُسلم أصله إلى قلم المحكمة ليُحفَظ في الملف المخصوص ويجب أن تكون مضبطة التبليغ محتوية على :-
أولاً : ذِكر محل التبليغ وتاريخ وقوعه .
ثانياً : اسم الخصم الذي طلب التبليغ وهويته، والمحكمة التي أمرت بالتبليغ .
ثالثاً : اسم المُبَلَّغ وهويته .
رابعاً : اسم الشخص الذي أمكن تبليغه الأمر فعلاً وهويته .
خامساً : ذِكر أن صورة كل من الأوراق قد سُلِّمَت إلى المُبلَّغ إليه .
سادساً : إمضاء الشخص الذي بُلِّغَت إليه الأوراق .
سابعاً : إمضاء المباشر الذي توسط في التبليغ، وإذا لم تحتوِ على هذه المواد يعتبر التبليغ كأنه لم يكن .
كيفية التبليغ :
تسليم مذكرة التبليغ ولائحة الدعوى إلى الشخص نفسه :
لقد نصت المادة : (20) من قانون أصول المحاكمات الشرعية على أن يتم تبليغ إعلان الخصوم إلى الشخص المراد تبليغه بالذات أو إلى وكيله المُفَوَّض قانوناً بقبول التبليغ عنه .(7/26)
إذاً الأصل أن يتم التبليغ للشخص بذاته، وذِكر اسمه وهويته، وأن الأوراق سُلِّمَت إليه، وإمضائه على ذلك، ويصح التبليغ من قِبل المُحضر للمدعى عليه في أي مكان يلقاه فيه سواء في الشارع أو في العمل أو في البيت أو حتى في ساحة المحكمة، وهذا يقتضي أن يكون المحُضر على علمٍ ومعرفة بالشخص المطلوب تبليغه، أما إذا كان بدلالة وإرشاد المدعي فيتم التأكد في كل حال من هوية المدعى عليه واسمه ويشهد على ورقة التبليغ شخصاً آخر .
أما إذا كان الشخص المطلوب تبليغه يقطن في مكان آخر وفي اختصاص محكمة أخرى فترسل الأوراق (مذكرة الحضور ولائحة الدعوى) إلى تلك المحكمة لتتولى تبليغه حسب الأصول وتعيدها إلى المحكمة التي أصدرتها مُرفقة بمحضر يفيد ما اتُخِذَت بشأنها من إجراءات، كما أنه يحق للمحكمة التي أصدرت التبليغ أن ترسل تلك الأوراق مباشرةً إلى الهيئات والسفارات التي نص قانون أصول المحاكمات عليها حتى لو كانت خارج منطقة المحكمة أو البلد(1) .
تبليغ المدعى عليه في محل إقامته ولأقاربه(2) :
__________
(1) انظر : المادة : (19) .
(2) انظر : المادة : (20) .(7/27)
إذا لم يوجد الشخص المراد تبليغه الأوراق واقتضت الحال تبليغ محل إقامته تُسَلَّم الأوراق إلى أي من وُجِدَ من أفراد عائلته المقيم معهم والمتمم الخامسة عشر سنة من عمره، ويكلف أن يمضي مضبطة التبليغ باسمه، وإذا امتنع عن التبليغ واستنكف عن التوقيع على المضبطة يستصحب المباشر اثنين على الأقل من مخاتير القرية أو المحلة ويحرر مضبطة أخرى يذكر فيها اليوم الذي ذهب فيه لأجل التبليغ، والمكان، واسم طالب التبليغ وهويته، والمحكمة التي أمرت بالتبليغ، واسم المُبَلَّغ إليه وهويته، وبيان كيفية الممانعة والاستنكاف عن التوقيع، ويقوم بإلصاق المضبطة ولائحة الدعوى على باب المُبَلَّغ إليه ويذكر ذلك في المضبطة، ويوقع المُحضر والمخاتير على ذلك، وإذا لم يحضر المخاتير يكلف المحضر اثنين من الجيران أو أقرباء المُبَلَّغ إليه ليوقعا على ذلك ويرفع المحضر المضبطة إلى رئيس المحكمة لتوضع في ملف الدعوى انتظاراً ليوم الجلسة .
تبليغ القاصر أو فاقد الأهلية :
إذا كان المدعى عليه قاصراً أو شخصاً فاقد الأهلية تُبَلَّغ الأوراق القضائية إلى وليه أو الوصي عليه .
تبليغ السجين :
إذا كان المدعى عليه معتقلاً في سجن السلطة الوطنية الفلسطينية فترسل لائحة الدعوى وإعلان الخصوم مع كتاب رسمي من المحكمة إلى مدير السجن لتبليغ الشخص المطلوب وإعادة المذكرة بكتاب رسمي يفيد إمضائه وتبليغه حسب الأصول، ويجب على مدير السجن أن يحضر السجين إلى المحكمة في الموعد المقرر إذا رغب في الدفاع عن نفسه، وإذا رفض الحضور فعلى مدير السجن إعلام المحكمة بذلك(1) .
__________
(1) انظر المادة : (21) من قانون أصول المحاكمات الشرعية، رقم : (12)، لسنة 1965 .(7/28)
أما إذا كان المعتقل داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي فالحقيقة أن هناك إشكالية في تبليغ السجين مذكرة الحضور ولائحة الدعوى، لأن إجراءات الاحتلال وتعنته في إيصال التبليغ قد تحول دون ذلك، وعليه أحياناً يتم التبليغ عن طريق "الصليب الأحمر الدولي"، أو وزارة شئون الأسرى، وقبل ذلك يتم إعلام أهل السجين وتبليغ آخر محل إقامة له، فإن لم يتم التبليغ بذلك يتم الإعلان في إحدى الصحف المحلية، والحقيقة أن القانون لم ينص على أي من هذه الإجراءات، وإنما هي اجتهادات يجتهدها القاضي، ورغم أن القضايا التي تُرفع على المعتقلين في سجون الاحتلال قليلة ومعظمها تكون دعاوى تفريق بسبب السجن نظراً لطول المدة المحكوم عليه بها إلا أن قاضي القضاة وحفاظاً على كرامة السجين وحقه في الدفاع عن نفسه خصوصاً وأنه سُجِنَ دفاعاً عن الدين والوطن وأصدر التعميم رقم : (47/2004) بتاريخ 20/7/2004، والذي ينص على إجراءات تبليغ السجين بواسطة شؤون الأسرى والمعتقلين، وإحضار شهادة من الدائرة المذكورة تتضمن تاريخ الاعتقال، وتاريخ الحُكم ومدته وهل أصبح نهائياً ؟ وإذا تعذر ذلك فيبلغ بالنشر حسب الأصول .
تبليغ موظفي الحكومة ومستخدمي الشركات :
إذا كان المدعى عليه موظفاً في الحكومة أو مستخدماً في شركة يجوز للمحكمة أن ترسل الأوراق إلى رئيس المكتب أو الدائرة التابع لها ذلك الموظف ليتولى تبليغه إياه، ويحق أيضاً للمحكمة تبليغه ذلك عن طريق المحضر وفي مكان عمله .(7/29)
وفي جميع الحالات السابقة عند التبليغ يجب على المحضر أن يشرح فور وقوع التبليغ على مذكرة الحضور أو إعلان الخصوم وفي ذيلها بياناً بتاريخ التبليغ، وكيفية إجرائه، وأن يذكر فيه إذا أمكن اسم وعنوان الشخص الذي كان مُعَرِّفاً وشاهداً على التبليغ, أو البيت الذي عُلِّقَت عليه لائحة الدعوى، وأخيراً إذا اقتنعت المحكمة بأنه لا سبيل لإجراء التبليغ وفق الأصول المتقدمة لأي سبب من الأسباب كأن يكون المدعى عليه مجهول محل الإقامة فللمحكمة أن تأمر بإجراء التبليغ عن طريق النشر في إحدى الصحف المحلية .
المطلب الرابع
إجراءات السير في الدعوى الشرعية وما عليه العمل
أمام المحاكم الشرعية الفلسطينية
ذكرنا أن الدعوى الشرعية تتميز بسماتٍ خاصة لم تظفر الدعوى المدنية أو الجنائية بمثلها، ومرجع هذه الذاتية الخاصة للدعوى الشرعية إلى تعلقها بمسائل على جانب كبير من الحساسية هي علاقات الزوجين والأقارب والأولاد في جميع مراحل حياة الإنسان منذ كان جنيناً حتى بعد وفاته بتنفيذ وصاياه وتوزيع تركته على ورثته الشرعيين وبعد سداد ديونه لأنه لا تركة إلا بعد سداد الديون(1)، وعليه وبعد أن ذكرنا كيفية رفع الدعوى وتنظيم لائحة الدعوى وإجراءات تبليغ الخصوم، الأحرى بنا أن نتصور أمامنا دعوى شرعية نسير في إجراءاتها القانونية حتى نرى الإجراءات القضائية في أصول السير في الدعوى الشرعية أمام القضاء الشرعي الفلسطيني وحتى صدور الحكم فيها، لذا نتناول في هذا المطلب الجلسة الأولى في فتح المجلس الشرعي وتحضير الخصوم وتقرير الدعوى والرد عليها، ومن ثم طريقة الإثبات وتقديم المستندات والشهود والمرافعة في الدعوى انتهاءً بصدور الحكم الشرعي.
أولاً : فتح المجلس الشرعي وتحضير الخصوم والتعريف عليهم :
__________
(1) انظر : المستشار/ أنور العمروسي : أصول المرافعات الشرعية، ص139 .(7/30)
تجري المحاكمة في المحاكم الشرعية في فلسطين بصورة علنية، إلا في الأحوال التي تقرر المحكمة إجراءها سراً سواء كان ذلك من تلقاء نفسها أو بطلب من الخصوم محافظةً على النظام أو مراعاةً للآداب أو حرمة الأسرة . ويجب على الشرطة أن تخصص أحد أفرادها لتنفيذ ما يأمر به القاضي لحفظ النظام بصورة دائمة أو مؤقتة عندما يطلب القاضي ذلك(1)، وكل من تجاسر على إجراء حركة من شأنها مس كرامة رئيس المحكمة أو الأعضاء وسائر مأموري المحكمة في أثناء تأدية وظائفهم أو تخويفهم يُلقى القبض عليه حالاً بأمر الرئيس ويُرسل بقرار المحكمة إلى محل التوقيف ويجري استجوابه في ظرف 24 ساعة .
وبناءً على ذلك إذا ثبتت تهمة بحقه تحكم عليه المحكمة الشرعية التي جرت بها الواقعة بالحبس من 24 ساعة إلى أسبوع(2) .
ويجوز للمحكمة أن تؤجل المحاكمة من وقت لآخر أو تقرر رؤيتها في مكان آخر يقع ضمن منطقة اختصاصها إذا رأت ذلك ملائماً تحقيقاً للعدالة مع تدوين الأسباب(3) .
__________
(1) انظر المادة : (32) من قانون أصول المحاكمات، والمادة : (1815) من المجلة .
(2) انظر المادة : (32) .
(3) انظر في إجراءات السير في الدعوى : الشيخ محمد أبو سردانة : أصول الإجراءات القضائية والتوثيقات الشرعية، ص93 .(7/31)
وجلسة المحاكمة –المجلس الشرعي للحكم- يتكون من قاضي وكاتب يكونان في قاعة المحكمة، ولا يجوز للقاضي أن ينظر الدعوى منفرداً دون وجود كاتب، وإدارة الجلسة منوطة بالقاضي لأنه رئيس الجلسة وكلمته نافذة، فهو الذي يسمح للخصوم بالكلام، ويسمع اعتراضهم، ويطلب إحضار الشهود، وعليه ضبط الجلسة والتصرف بحكمة وثبات، وأن يحرص على عدم ترك الأمور دون انضباط وإحكام، ويجب على القاضي أيضاً مراعاة ما نص عليه الفقهاء في كتبهم عند حديثهم عن أدب القاضي وسلوكه في مجلسه، لأن القاضي يكون محط أنظار الجميع وعلى الخصوص الخصوم . وفي اليوم المعين والساعة المعينة لأنه لابد من ذِكر اليوم والساعة(1)، وألا يقتضي الانتظار إلى قبيل آخر الدوام حتى يحضر الطرفان أو أحدهما .
وبعد أن يُنادى على الخصوم بواسطة الحاجب فإن حضرا أو أرسل الغائب وكيلاً(2) يبدأ القاضي بالمحاكمة بعد أن يتأكد من لائحة الدعوى ودفع الرسم المقرر عليها، وحصول التبليغات القضائية حسب الأصول فإذا تم ذلك فتح المحضر الشرعي كالآتي :-
__________
(1) انظر في ذلك : قرار محكمة الاستئناف الأردنية، رقم : (13292)، القرارات الاستئنافية، د. عبد الفتاح عمر، ص185 .
(2) المقصود بالوكيل : "الوكيل الشرعي كوكالة المحامي الشرعي، أو الصديق حسب نص القانون" . انظر : د. عبد الناصر موسى أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص170 .(7/32)
[في المجلس الشرعي المعقود لديَّ أنا/.......... قاضي محكمة غزة الشرعية، حضر المُكَلَّفان شرعاً : .......... و ..........، وكلاهما من : (البلدة الأصلية)، وسكان غزة الرمال، وعَرَّف بهما المُكَلَّفان شرعاً : .......... و .......... التعريف الشرعي . "وهنا لابد من التعريف على الخصوم سواءً بالأشخاص أو بالبطاقة الشخصية، وذِكر ذلك في محضر الضبط"، هذا إذا حضر الطرفان بذاتهما، وقد يحضر وكلائهما فيذكر : ..... حضر المحاميان الشرعيان فلان ....... وكيلاً عن .......، والمحامي الشرعي فلان وكيلاً عن ....... الخ] . ثم يتم توقيع الخصمين أو الوكيلين على حضورهما في محضر الجلسة .
ثانياً : الطلب من المدعي تقرير دعواه الصحيحة :
…يُكَلَّف القاضي الشرعي المدعي بتقرير دعواه وشرحها، وبما أن الدعوى تكون مكتوبة على شكل لائحة ومنظمة كتابةً فلا حاجة لأن يتلوها المدعي شفاهاً بل يتلوها القاضي ويقرأها من اللائحة فيصدقها المدعي –أو وكيله- ويكررها علناً في مجلس القضاء وذلك لإظهار عزمه على متابعة الدعوى، وقد يتلو المدعي بنفسه لائحة الدعوى أو يكررها ويطلب إضافتها إلى محضر الجلسة . وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى أن عدم تكرير لائحة الدعوى في مجلس القضاء يعتبر عدولاً عن متابعتها يتعين معها إسقاطها طبقاً للقاعدة : "أن المدعي من إذا ترك تُرِك"، وحينئذٍ يسير القاضي في بقية الإجراءات(1) . وهذا ما أخذ به القضاء الشرعي في فلسطين حيث أن المدعي يقوم بتلاوة لائحة الدعوى وتكرارها ثم يسأله القاضي عن طلباته ويُدَوِّن ذلك كله في محضر الجلسة(2)، وإذا كانت الدعوى صحيحة مستوفيةً للشروط التي ذكرناها فإنه حينئذٍ يترتب آثارها وأولها أن يطلب القاضي من المدعى عليه الجواب على ما جاء في تقرير دعوى المدعي .
ثالثاً : الطلب من المدعى عليه الرد على الدعوى الصحيحة :
__________
(1) المرجع السابق، ص171 .
(2) انظر : المادة : (1816) من المجلة .(7/33)
والرد على الدعوى إذا كانت صحيحة قد يكون بلائحة جوابية تُتلى علناً في الجلسة وتُدَوَّن في المحضر ويسمعها المدعي وتعتبر جزءاً من الرد على الدعوى، وعلى المحكمة حينئذٍ أن تسأل المدعي عما جاء فيها إذا كان في مضمونها ما يتطلب الإجابة عليه، وقد يحتمل الرد على الدعوى أربعة أمور هي :-
الإقرار بالدعوى :
وفي هذه الحالة يلزمه القاضي بإقراره لأن الإقرار حُجة ملزمة على المُقِّر(1)، ولا حاجة إلى طلب البينة من المدعي في حالة الإقرار، ويكون قضاء القاضي في تلك الدعوى بناءً على ذلك الإقرار(2) .
إنكار الدعوى :
أما إذا أنكر المدعى عليه ما جاء في دعوى المدعي طلب القاضي من المدعي البينة، ويُكَلَّف بإحضار بيناته سواء كانت شخصية أم خطية أو أي أدلة أخرى تثبت دعواه، وللمدعي الحق في الطلب من القاضي إمهاله لأجل إحضار بينته، وعلى المحكمة أن تجيبه إلى طلبه لأن ذلك يحقق العدالة، فإذا أثبت المدعي دعواه بعد إتباع الوسائل الخاصة بالإثبات المقررة لكل وسيلة من وسائل الإثبات يحكم القاضي للمدعي بناءً على بينته(3) .
__________
(1) انظر : المادة : (79) من المجلة .
(2) انظر : المواد : (39، 40، 41، 42) من قانون أصول المحاكمات الشرعية . وانظر : سليم رستم باز : شرح المجلة، المادة (1817)، ص1006 .
(3) انظر : المادة : (1818) من المجلة وشرحها لسليم رستم باز، ص1007 .(7/34)
أما إذا لم يستطع إثبات دعواه فيعتبر عاجزاً عن الإثبات ويبقى له حق تحليف المدعى عليه اليمين الشرعية(1)، فإذا طلب ذلك كَلَّف القاضي المدعى عليه حلف اليمين ويذكر له القاضي صورة ذلك اليمين ليقع حلفه على ما جاء في الدعوى، ولا يتم تحليف المدعى عليه اليمين إلا بناءً على طلب من المدعي ويكون ذلك بعد عجز المدعي عن إثبات دعواه، وعلى المحكمة أن تُفهِمه إذا كان يرغب في تحليف المدعى عليه اليمين أم لا لأن اليمين لا توجه إلا بطلب(2) .
الإقرار بجزء من الدعوى والإنكار بالجزء الآخر :
قد يُقِّر المدعي بجزء من الدعوى ويُنكر جزء آخر، فإن كان ذلك فإن المحكمة تُكلف المدعي بإثبات دعواه في الجزء الذي تم إنكاره حسب قواعد الإثبات كما ذُكِرَ في البند السابق، ويتم الحكم للمدعي بالجزء المُقَّر بناءً على الإقرار والحكم بالجزء المنكر بناءً على الإثبات أو عدمه حسب الإجراءات التي ذُكِرَت في البندين السابقين .
دفع الدعوى :
__________
(1) انظر : المادة : (108) من قانون أصول المحاكمات الشرعية .
(2) انظر : المادة : (1820) من المجلة .(7/35)
وهذا هو الاحتمال الأخير الذي يذكره المدعى عليه بعد سماعه الدعوى في المجلس الشرعي فإنه قد يدفع الدعوى بدفع يأتي به يتضمن رداً وإزالة لدعوى المدعي عن نفسه، ومثالها أن تدعي الزوجة على زوجها مطالبةً إياه بنفقة زوجية، وعندما يسأل المدعى عليه –الزوج- عن دعوى الزوجية فيُقِّر بالزوجية ولكنه يدفع دعوى استحقاقها للنفقة بالنشوز والناشز لا نفقة لها بنص القانون(1)، فالدفع هنا والادعاء بالنشوز هو دعوى جديدة، وكما عَرَّفت المادة : (1631) من المجلة الدفع بأنه : "دعوى من قِبل المدعى عليه أو وكيله يُقصد بها دفع الخصومة عنه أو إبطال دعوى المدعي"، وعلى ذلك يُعامَل الدفع كما تُعامَل الدعوى من كل الوجوه تقريباً، فيكلف الدافع بإثبات دفعه استناداً إلى قاعدة البينة على المدعي، لأن المدعى عليه أصبح مدعياً وعليه عبء الإثبات، وكذلك إذا طلب المدعى عليه –الدافع- الحكم بما دفع به دعواه فعليه أن يقوم بدفع الرسم المقرر للدعوى التي يطلب الحكم بها وإن كانت داخل المحاكمة الجارية(2) .
والدفوع تنقسم إلى عدة تقسيمات، فمنها دفوع موضوعية أي في موضوع الدعوى، ودفوع شكلية وهي التي تتعلق بالإجراءات التي تتم أمام القضاء دون أن تمس أصل الادعاء كالدفع بعدم اختصاص المحكمة لنظر الدعوى، أو بعدم صحة التبليغ، وهناك دفوع بعدم قبول الدعوى كالدفع بعدم الخصومة، أو الدفع بسبق الفصل في الدعوى، وكل هذه الدفوع تعتبر دعوى جديدة تأخذ إجراءات الدعوى ويصبح الدافع فيها مدعي والمدعي مدعى عليه، وبعد الانتهاء من الدفع والحكم فيه يُصار إلى الدعوى الأولى إما بردها إذا قُبِلَ الدفع أو بالسير فيها حسب الأصول الشرعية إن رُدَّ الدفع .
__________
(1) انظر : المادة : (171) من قانون الأحوال الشخصية الفلسطيني : مجموعة القوانين الفلسطينية، ج1، ص28 .
(2) انظر : د. عبد الناصر موسى أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية (ونظام القضاء الشرعي)، ص174 .(7/36)
رابعاً : المرافعة في الدعوى :
نصت المواد من : (29) وحتى : (37) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965(1) على إجراءات المرافعة في الجلسة، والأصل أن تسمع المحكمة ما يبديه الخصوم أو وكلاؤهم من طلبات ودفوع شفاهةً، ويجوز أن يكون ذلك عن طريق مذكرات مكتوبة، ويقتضي مبدأ المواجهة إطلاع الخصم أو كيله على كل مذكرة يقدمها الخصم الآخر سواء بتسليمه صورة عنها أو تمكينه من الإطلاع عليها في ملف الدعوى .
والقاعدة أيضاً هي أن المدعى عليه هو آخر من يتكلم، وهذه القاعدة تنطبق أيضاً على المذكرات وذلك لتمكينه دائماً من إبداء دفاعه على أقوال المدعي ومذكراته(2) .
خامساً : إصدار الحكم الشرعي :
وهو آخر مرحلة من مراحل الدعوى، والنتيجة النهائية بعد الإجراءات التي سارت فيها المحكمة، وسمعت البينات والأدلة بل إنه أهم مرحلة، والهدف الأساسي من رفع الدعوى "وهو النهاية الطبيعية لكل دعوى"(3) .
__________
(1) مجموعة القوانين الفلسطينية، ج10، ص130 .
(2) انظر في تنظيم المرافعة د. عثمان التكروري : الوجيز في شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص78، 79 .
(3) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص243 .(7/37)
والحكم بالمعنى العام هو : القرار الذي تصدره المحكمة في خصومة، سواءً أثناء سيرها –ويسمى قرار جزئي- أو في نهايتها، وسواءً أكان صادراً في موضوع الخصومة، أم في مسألة فرعية(1)"، على أن القواعد العامة للأحكام لا تسري على جميع أنواع الأحكام بل يُقصد بها أساساً الحكم الأخير الفاصل في الدعوى . لذلك يقتصر المفهوم الخاص للحكم على القرار الصادر عن المحكمة للفصل في الدعوى سواءً أكان بقبول طلبات المدعي كلها أو بعضها، أو برفض هذه الطلبات . هذا التعريف هو ما قررته مجلة الأحكام العدلية في المادة : (1786) حيث عَرَّفت الحكم بأنه : "قطع الحاكم وفصله المخاصمة وحسمه إياها"، أما ما يصدره القاضي قبل الحكم النهائي فيسمى : "قراراً جزئياً" تمييزاً له عن الحكم الفاصل في الدعوى(2) .
ويشترط في الحكم الشرعي عدة شروط منها : أن تتقدمه دعوى صحيحة، وأن يكون الحكم بصيغة جازمة لإنهاء النزاع، وإلزام الخصم بالمحكوم به، وأن يكون الحكم واضحاً لا لبس فيه ولا إبهام، وأن يكون الحكم موافقاً للأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وبقية المصادر الشرعية(3) .
والحكم الشرعي يعتبر وجاهياً إذا صدر بمواجهة الطرفين أو إذا حضر المدعى عليه جلسة من جلسات المحاكمة أو أكثر وتخلف بعد ذلك عن الحضور وفيما عدا ذلك يكون غيابياً ويشترط في ذلك أنه إذا صدر الحكم على شخص أو أشخاص لم يكونوا حاضرين جلسة الحكم فيجب تبليغ إعلام الحكم إليه أو إليهم حتى تبدأ مدة الاستئناف من تاريخ التبليغ(4) .
__________
(1) د. عثمان التكروري : الوجيز في شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص115 .
(2) سليم رستم باز : شرح المجلة، المادة : (1786)، ص992 .
(3) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية، ص246 .
(4) انظر : الشيخ/ محمد أبو سردانة : أصول الإجراءات القضائية، ص99 .(7/38)
وقد نصت المادة : (155) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965 أنه يجب إعطاء الحكم فور تفهيم الطرفين انتهاء المحاكمة إن كان ذلك ممكناً وإلا ففي خلال عشرة أيام من انتهاء المحاكمة إذا كان الحكم يحتاج إلى التدقيق والتأمل وتغيب الطرفين أو أحدهما في هذه الحالة لا يمنع المحكمة من إصدار حكمها، كما ويجب تنظيم الإعلام وإعطائه إلى أصحابه في ظرف خمسة عشر يوماً اعتباراً من وقت طلبهم(1) .
وقد نصت المادة : (156) على أن يكون الحكم المعطى محتوياً على أسبابه الموجبة، وتاريخ إعطائه، وأن يكون ممضياً من القاضي، كما يجب أن تكون الإعلامات مختومة بختم المحكمة الرسمي، وممضاة من قِبل القاضي، ومحتوية رقم السجِّل وأساس الدعوى(2)، وهذا ما أكد عليه تعميم سماحة قاضي القضاة رقم : (457/95) بتاريخ : 3/ ذو الحجة/ 1415هـ، الموافق : 2/5/1995، والذي ينص على أن : "قرار المحكمة في أية دعوى يجب أن يكون معللاً ومُسَبباً مع ذِكر الحيثيات بوضوح" عملاً بالمادة : (156) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم: (12) لسنة 1965 .
وجاء في البند الثالث من التعميم : (أ) أن يكون القرار واضحاً ومعللاً ومحتوياً على الأسباب مع ذِكر الحيثيات، والحيثيات المطلوبة أصولياً في قرار الحكم تشتمل الدعوى وأسباب الحكم فيُقال مثلاً : [بناءً على الدعوى والطلب والإقرار إن ثبتت الدعوى بالإقرار والبينة الشخصية أو الخطية إن ثبتت الدعوى بهما، والنكول عن حلف اليمين إن كان سبباً في ثبوت الدعوى، ويقول عملاً بالمواد الآتية، ونذكر المواد المتعلقة بذلك، فقد حكمت...] .
__________
(1) مجموعة القوانين الفلسطينية، ج10، ص146، المادة : (155) .
(2) المرجع السابق، ص156 .(7/39)
وعلى المحكمة أن تفصل في جميع المسائل المتعلقة بالمصاريف بين الخصمين ومنهم الشخص الثالث، وأن تصدر القرارات التي تقتضيها العدالة في ذلك الشأن، ويرجع الحكم بمصاريف أية دعوى أو إجراءات إلى رأي المحكمة مع مراعاة أحكام أي قانون أو نظام آخر.
وعند الانتهاء من فصل الدعوى تُقَدِّر المحكمة أجرة المحاماة التي تراها عادلة على أن يأخذ بعين الاعتبار موضوع الدعوى والجهود التي بُذِلَت في سبيل ذلك(1) .
يجب أن يشمل الحكم في نهايته على الصيغة التنفيذية والمنصوص عليها في المادة : (217) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965(2) ونصها : "ويجب على الجهة التي يُنَاطُ بها التنفيذ أن تُبادر إليه متى طُلِبَ منها، وعلى كل سلطة وكل قوة أن تُعين على إجرائه ولو باستعمال القوة الجبرية متى طُلِبَ منها ذلك طبقاً لنصوص القانون" .
وإذا لم يشتمل الحكم في نهايته على هذه الصيغة لا يمكن تنفيذه حسب الأصول "لأن الحكم القضائي يختص بصفة الإلزام وهذا ما يميز الحكم القضائي عن الحكم الصادر من المفتي أو المستشار القانوني أو غيرهما"(3) .
ويتم تبليغ وتفهيم منطوق الحكم وتلاوته علناً في الجلسة للطرفين إن كانا حاضرين، أو إرسال مذكرة تبليغ حكم للغائب حسب نص المادة : (155) من قانون أصول المحاكمات الشرعية حتى يستطيع الاعتراض أو الاستئناف على الحكم حسب الأصول القانونية .
وأخيراً فإن المادة : (158) من قانون أصول المحاكمات الشرعية تنص على أن الأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية الابتدائية مرعية ومعتبرة ما لم تُفسخ أو تنقض حسب الأصول(4) .
النتائج والتوصيات
__________
(1) انظر : الشيخ/ محمد أبو سردانة : أصول الإجراءات القضائية، ص100 .
(2) مجموعة القوانين الفلسطينية، ج1، ص155، المادة : (217) .
(3) انظر : د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية، ص245 .
(4) مجموعة القوانين الفلسطينية، ج1، ص147، المادة : (158) .(7/40)
أولاً : النتائج :
النظام القضائي الفلسطيني هو نظام عثماني مستمد من مجلة الأحكام العدلية في الإجراءات والأحكام، وأن قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم : (12) لسنة 1965 يعتمد في جميع مواده على قانون الأصول الشرعية العثماني الواضح في مجلة الأحكام العدلية، وكذا قانون رقم : (31) لسنة 1959 الأردني والمطبق في محافظات الضفة الغربية .
القضاء الشرعي الفلسطيني مستقل عن القضاء النظامي، وقاضي القضاة بدرجة وزير تابع لرئيس الدولة مباشرةً، والقضاة الشرعيون مستقلون .
المحاكم الشرعية في فلسطين على ثلاث درجات : ابتدائية، واستئنافية، وعليا شرعية.
المحاكم الشرعية منتشرة في جميع أنحاء فلسطين، وتتبع أسلوب القاضي المنفرد، وتختص بالنظر في الأحوال الشخصية للمسلمين .
الدعوى الصحيحة: هي التي يترتب عليها حكم ويُسأل الخصم عنها بخلاف الفاسدة والباطلة.
الإجراءات المتبعة في المحاكم الشرعية في فلسطين في رفع الدعوى تبدأ بتقديم لائحة الدعوى إلى المحكمة ولا تعتبر مقيدة إلا بعد دفع الرسم المقرر عليها .
الإجراءات المتبعة في المحاكم الشرعية في فلسطين تشبه إلى حد كبير الإجراءات المتبعة في المحاكم الشرعية الأردنية .
تعاميم وقرارات قاضي القضاة تعمل على توحيد الاجتهاد القضائي بين جناحي الوطن الفلسطيني (الضفة الغربية وقطاع غزة) لوجود قانونين في أصول المحاكمات الشرعية رغم وجود الشبه بينهما .
ثانياً : التوصيات :
ضرورة إصدار تشريع جديد لقانون أصول المحاكمات الشرعية ليوحد الإجراءات القضائية بين جناحي الوطن في فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) ويواكب التطور القضائي في العصر الحديث .
توحيد قانون الرسوم أيضاً في جميع أنحاء الوطن بما يتلاءم مع وضع المواطن الفلسطيني حتى لا تكون الرسوم عائقاً عن التقدم للقضاء للحصول على الحق .(7/41)
إنشاء معهد عالٍ للقضاء الشرعي في فلسطين لتدريب القضاة الشرعيين وبالتعاون مع كلية الشريعة وديوان قاضي القضاة في داخل الوطن والتعاون مع المعاهد في الدول العربية.
ضرورة إنشاء اتحاد إسلامي يُعنى بشئون المحاكم الشرعية في الدول الإسلامية وأقترح أن يُسمى: (الاتحاد الإسلامي للمحاكم الشرعية في الدول العربية والإسلامية).
أقترح كتابة مشروع قانون أصول محاكمات شرعية موحد للعالم العربي يُصادق عليه من جامعة الدول العربية لتوحيد إجراءات التقاضي في العالم الإسلامي .
ضرورة تعاون المعاهد القضائية في تدريب القضاة وتوجيههم وتنمية قدراتهم وتبادل الخبرات القضائية عن طريق هذه المعاهد .
دورية الندوات والمؤتمرات التي تُعنى بشئون القضاء الشرعي كهذه الندوة .
والله الموفق،،،
مراجع البحث
القرآن الكريم : الجامع لأحكام القرآن للإمام أبو عبد الله حمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الناشر : دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان .
صحيح مسلم بشرح النووي : [الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري نسباً، النيسابوري موطناً، توفيَّ سنة 261هـ]، [النووي : محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الشافعي، توفيَّ سنة 676هـ]، حققه وفهرسه عصام الصبابي وآخرون، الناشر : مطبعة دار أبي حيان، 9 أجزاء .
البخاري : صحيح البخاري : [أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري]، الناشر : دار الجيل، بيروت .
الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي [لأبي عيسى بن عيسى بن سورة (209-297هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر : مكتبة ومطبعة مصطفى البابي، مصر 1316هـ-1976م .
أبو داود : السنن [للإمام الحافظ المصنف أبي داود سليمان أبي الأشعث السجستاني الأزدي، وُلِدَ وتوفيَّ سنة 202-275هـ]، مراجعة محي الدين عبد الحميد، الناشر : دار الفكر للطباعة والنشر .(7/42)
د. محمد مصطفى الزحيلي : أصول المحاكمات الشرعية والمدنية للسنة الرابعة، كلية الشريعة، الناشر : مطبعة دار الكتاب، دمشق (1408-1409هـ-1988-1989م)
.لسان العرب لابن منظور [الإمام أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأنصاري الإفريقي المصري، توفيَّ سنة 711هـ]، الناشر : طبعة دار صامد، بيروت- لبنان .
المعجم الوسيط، "مجمع اللغة العربية، المكتبة الإسلامية، تركيا- استانبول، أخرجه د. إبراهيم أنيس وآخرون .
الرازي : مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي، توفيَّ سنة 606هـ، الناشر : دار النهضة، مصر .
الرافعي : المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، الناشر : دار المعارف، القاهرة .
مأمون محمد أبو سيف : الدفوع الموضوعية في دعاوى النفقات، الناشر : دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمّان .
د. عبد الناصر موسى أبو البصل : شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية (ونظام القضاء الشرعي)، الناشر : دار الثقافة للنشر والتوزيع، سنة 1999م .
سليم رستم باز: شرح المجلة، الناشر: دار العلم للجميع، بيروت، لبنان 1418هـ-1998م.
حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، "محمد بن أمين المعروف بابن عابدين"، توفيَّ سنة 1252هـ، طبعة المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز، القاهرة.
اللباب في شرح الكتاب، تأليف الشيخ/ عبد الغني الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي، أحد علماء القرن الثالث عشر على المختصر المشتهر باسم : "الكتاب" الذي صنفه الإمام أبو الحسين أحمد بن محمد القدوري البغدادي الحنفي، المولود سنة 332هـ، المتوفى سنة 428هـ، الناشر : المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، 1413هـ-1993م .
القرافي : الفروق، للإمام العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي، وبهامش الكتابين تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، الناشر : عالم الكتب، بيروت، 4 أجزاء .(7/43)
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، شرح الشيخ محمد الشربيني الخطيب، من علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري على متن المنهاج لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي من علماء الشافعية في القرن 7 هجري، توفيَّ سنة 676، الناشر : مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1958م .
حاشية قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين [شهاب الدين أحمد القليوبي، توفيَّ سنة 1069هـ]، الناشر : دار إحياء الكتب العربية .
ابن قدامة : المغني تأليف : [أبي عمر عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، توفيَّ سنة 620هـ على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبد الله أحمد الخرقي]، الناشر : مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1400هـ .
د. الشيخ أحمد محمد علي داود : أصول المحاكمات الشرعية، الناشر : مكتبة الثقافة للنشر والتوزيع، جزئين .
بلوغ المرام من أدلة الأحكام، للإمام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، توفيَّ سنة 852هـ، الناشر : دار المعرفة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة2، 1420هـ-1999م .
ابن المنذر : الإجماع، تحقيق د. فؤاد عبد المنعم أحمد من مطبوعات رئاسة المحاكم الشرعية، قطر، ط3، 1411هـ .
الكاساني : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع [للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي الملقب بملك العلماء]، توفيَّ سنة 587هـ، الناشر : مطبعة دار الكتب العلمية، ط2، 1406هـ .
المستشار أنور العمروسي : أصول المرافعات الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية، الناشر : دار الكتب المصرية، رقم الإيداع (3658/1989)، ط7 .
مجموعة القوانين الفلسطينية، الجزء العاشر، مطبعة دار الأيتام الإسلامية الصناعية بالقدس، 1977م .(7/44)
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، تأليف الإمام العلامة برهان الدين أبي الدفار إبراهيم ابن الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن فرحون اليعمري المالكي، وبهامشه كتاب العقد المنظمة للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام، للشيخ ابن سلمون الكناني، الناشر : دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان .
د. عثمان التكروري : الوجيز في شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، الناشر : مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمّان، ط1، 1997م .
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخبار للإمام [محمد بن علي بن محمد الشوكاني، توفيَّ سنة 255هـ]، والمنتقى للإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني، توفيَّ سنة 652هـ، الناشر : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع .
الشيخ/ محمد حسين أبو سردانة : أصول الإجراءات القضائية والتوثيقات الشرعية، الناشر : دار العلوم للنشر والتوزيع، عمّان، ط1، 1424هـ-2003م .
الشيخ د. عبد الفتاح عايش عمر : القرارات القضائية في الأحوال الشخصية، الناشر : دار إيمان للنشر والتوزيع، عمّان، 1990م .(7/45)
الإجراءات الميدانية للقضاء بالقرائن
في مسائل إثبات النسب
د/ فريدة زوزو(1)
ملخص البحث:
تهدف هذه الدراسة إلى معالجة أحد القضايا المعاصرة والحديثة في القانون والفقه الإسلامي في مجال القضاء، لإثبات بعض الدعاوى أو إبطالها، في مجال الحدود والجنايات أو في إثبات النسب وإلحاقه بمدعيه أو نفيه عنه، وغيرها من المسائل القضائية، وخاصة في هذا العصر الذي انتشرت فيه قرائن حديثة لم تكن معلومة سابقا مثل؛ DNA الذي اكتشف عام 1953م، والبصمة الوراثية التي اكتشفت عام 1984م، وتحليل الدم واللعاب والمني والعرق والشعر وفك الأسنان، وغيرها مما عُرف في مجال الإثبات القضائي، فيما يعرف بالطب الشرعي أو الخبرة الطبية، فإنه ومما يمكن الاستعانة به على معرفة القاتل أو التحقق من هويته باستخدام كل القرائن الموجودة في مكان الحادث؛ مثل نقطة دم أو مني أو عرق أو لعاب أو أعقاب سيجارة رميت في مكان الحادث أو شعرة و ظفر على سجاد وما أشبه ذلك، كذا الأمر بالنسبة لإثبات النسب ما غير معروف بتحليل دمه، ومقارنته مع دم المدعى عليه.
__________
(1) دكتوراه في الفقه وأصوله، باحثة متفرغة للقضايا الأسرية والقضايا الفقهية المعاصرة.(8/1)
ولهذا فإن هذه الدراسة ستلقي الضوء على الإجراءات التنفيذية للقضاء بالقرائن في المحاكم الجزائرية؛ بأخذ محكمتي ولايتين في الجزائر كنموذج تطبيقي، وهما : المجلس القضائي لولاية بسكرة- مدينة تقع في الجنوب الجزائري- والمجلس القضائي لولاية باتنة –مدينة تقع في الشرق الجزائري- والنظر في مجموعة من القضايا والدعاوى المعروضة للبث النهائي فيها بأخذ القرائن كوسائل إثبات؛ وبخاصة في مجال إثبات النسب. فقانون الأسرة الجزائري على اعتبار أنه باعتماده كليا على أحكام الشريعة الإسلامية كما سنرى فهو يمثل القضاء الشرعي ، وقد جاء القانون الجديد المعدل في شهر فبراير 2005م بإضافات وتعديلات كثيرة؛ كما في المادة 40 منه :"يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب". وهي المادة التي سنناقش على ضوئها القضايا المعروضة للدراسة؛ فما مدى تطبيق القضاة ورجال القانون لهذه المادة، وهل بدؤوا العمل بها حقا وقد مضى على تعديلها سنة كاملة؟
كما سنلقي الضوء بداية -كما تقتضيه منهجية البحث العلمي- على تعريف القرينة، وأنواعها، ثم النظر في آراء الفقهاء في مدى الأخذ بها كدليل إثبات أو نفي، ومنه التطرق إلى بعض المسائل والقضايا التي تعتبر فيها القرائن أدلة مادية مثبتة أو نافية للدعوى.
تعريف القرائن:
القرائن جمع قرينة وهي: كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه.(1)
وقد عرفها الشيخ عبد العال عطوة على أنها : الأمارة التي تدلنا على الأمر المجهول استنباطا واستخلاصا من الأمارة المصاحبة والمقارنة لذلك الأمر الخفي المجهول ، ولولاها لما أمكن التوصل إليه . فالبعرة تدل على البعير ، وأثر السير يدل على المسير .(2)
__________
(1) عبد الناصر أبو البصل . 1997م . مسائل في الفقه المقارن . عمان : دار النفائس : ص 283
(2) إبراهيم بن محمد الفائز . 1983م . الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي . بيروت : المكتب الإسلامي : ص 67(8/2)
ومن هذين التعريفين يُفهم أنه لا بد من تحقق أمرين كما قال د/وهبة الزحيلي:
أن يوجد أمر ظاهر معروف يصلح أساسا للاعتماد عليه.
أن توجد صلة مؤشرة بين الأمر الظاهر والأمر الخفي(1).
وقد أطلق عليها الإمام ابن القيم ( الأمارات) تارة ، و(القرينة الظاهرة) تارة أخرى.(2)و(شواهد الأحوال) تارة أخرى(3).
أما تعريفها عند القانونيين فهي كالتالي:
القرائن القضائية: وهي النتائج التي يستخلصها القاضي ويحكم بثبوتها من وقائع أو أمارات معلومة ومعروضة عليه لإثبات الواقعة المتنازع فيها.
وهي إحدى طرق الإثبات مثلها مثل الكتابة، أو الشهادة(4).
ومنه يمكن أن نقول بأن القرائن هي الأمارات والعلامات التي يستدل بها على وجود شيء أو نفيه، كما لو شوهد شخص يخرج من دار مذعورا وبيده سكين ملطخة بالدماء وعند دخول الناس الدار وجدوا شخصا مذبوحا فيستدلون بما رأوه من حال الشخص الخارج من الدار على أنه هو القاتل الذي باشر القتل بنفسه مع أنهم لم يشاهدوا ذلك بأنفسهم .
أو يوجد المتاع المسروق في بيت شخص فيستدل بذلك على أن هذا الشخص هو السارق، أو أن السارق أودعه إياه، أو أن صاحب البيت اشتراه من السارق.(5)
__________
(1) وهبة الزحيلي.1989م. الفقه الإسلامي وأدلته. ط3. دمشق: دار القلم. ج6/ص391.
(2) ابن قيم الجوزية .2002م. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية . تحقيق: سيد عمران. ط1. القاهرة: دار الحديث.: ص 9 وما بعدها.
(3) ابن قيم الجوزية، 1999م، إعلام الموقعين، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، ج3/ ص 15.
(4) بكوش يحي، 1989م. أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري والفقه الإسلامي، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. ص 195.
(5) عبد الكريم زيدان . 2000م . نظام القضاء في الشريعة الإسلامية . بيروت : مؤسسة الرسالة : ص 185(8/3)
وكذلك إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس – وليس ذلك عادته – وآخر هاربا قدامه بيده عمامة ، وعلى رأسه عمامة : حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعا . ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف .(1)
وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه رضي الله عنهم برجم المرأة التي ظهر بها حمل ، ولا زوج لها ولا سيد .(2)
أنواع القرائن
القرينة تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي :
أولا – القرينة القاطعة:
ويسمونها القرينة القوية أو الأمارة الظاهرة . وقد عّرفها الفقهاء بأنها : الأمارة البالغة حد اليقين أو الأمارة الواضحة التي تصير الأمر في حيز المقطوع به .
فهي التي تكون دلالتها لا تقبل إثبات العكس، كالدم في بدن القاتل، والسكين في يده(3).
…ومثالها أيضا ما جاء في قوله تعالى:{ واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم . قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين . فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم }.(4)
ثانيا – القرينة غير القاطعة:
__________
(1) ابن قيم الجوزية . الطرق الحكمية في السياسة الشرعية . ص 12
(2) المرجع السابق ص 12.
(3) إبراهيم بن محمد الفائز . الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي .ص 67- 70
(4) سورة يوسف آية رقم 25-28(8/4)
…وهي على العكس من النوع الأول؛ فإن دلالة القرائن على مدلولاتها تتفاوت في القوة والضعف تفاوتا كبيرا . وإنها قد تصل إلى درجة القطع وتكون القرينة القاطعة ، وقد تضعف حتى تنزل دلالتها إلى مجرد الاحتمال فتكون ضعيفة فلا يصح الاعتماد عليها وحدها في ترتيب الحكم عليها بل لا بد من ضمّها إلى الدليل أو اجتماعها مع قرائن أخرى لتكتسب الحجية .(1)
…ومثالها إذا وجد رجل مع امرأة غريبة عنه في مكان مظلم، ولم ير أحد ممن شاهدهما حدوث ما يستوجب إقامة الحد عليهما ، فإن مجرد وجودهما في موضع ريبة لا يكفي لإثبات الحد عليهما ، وإنما يجب التعزير بما يناسب .
وهذه القرينة لم يعتمد عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحدها في ترتيب الحكم عليها ، فقد ثبت أنه عزّر رجلا وجد مع امرأة بعد العتمة في ريبة بضربه دون المائة جلدة .
فهي التي تكون دلالتها تقبل إثبات العكس(2). وفي هذا النوع ستتم مناقشة القرائن الحديثة مثل تحليل الدم، والبصمة الوراثية، وDNA، وغيرها من الوسائل كما سيأتي.
ثالثا – القرينة الكاذبة
…وأحيانا يسمونها وهم أو القرينة المتوهمة ، وهي التي لا تفيد شيئا من العلم ولا من الظن ولا يترتب عليها حكم ، فليست لها دلالة .
…ومثالها ما جاء في قوله تعالى:{ وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}(3).
…فإن وجود الدم على القميص قرينة على القتل في حدّ ذاتها، لكن لما عارضتها قرينة أخرى أقوى منها تدل على عدم القتل وهي عدم تخريق القميص، دّل ذلك على أن القرينة الأولى قرينة كاذبة لا دلالة لها على القتل، ولذلك ساغ التعبير عنها بالكذب في قوله تعالى:{ وجاءوا على قميصه بدم كذب} .(4)
__________
(1) إبراهيم بن محمد الفائز . الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي : ص 68
(2) - رواس قلعة جي، 1996م.معجم لغة الفقهاء، ط1. بيروت: دار النفائس. ص 330.
(3) سورة يوسف آية رقم 18
(4) سورة يوسف آية رقم 18(8/5)
…هذا ونستبعد القرائن الضعيفة والكاذبة من طرق الإثبات فلا تقبل في القضاء ، ويقتصر في الإثبات على القرائن القوية القاطعة التي تفيد ظنا قويا واحتمالا راجحا ، بحيث يثبت في علمنا أن دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه، لأن الأمور الخفية والحقائق الباطنة لم يكلف الشارع بالبحث عن حقيقتها، باعتبارها تكليف بما لا يستطاع، بل يكتفي بدلائلها، ونعتبر هذه الدلائل قائمة مقام هذه الأمور ، فالأمور علل للأحكام ، والأحكام تدور معها وجودا وعدما ، كرؤية آلة القتل بيد إنسان وهو يترصد في غلس دليل على قصده القتل .(1)
والقرائن تعتمد على ذكاء القاضي وفراسته واجتهاده بملاحظة الظروف المقارنة للواقعة(2).
القرائن الحديثة:
__________
(1) إبراهيم بن محمد الفائز . الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي : ص 68
(2) - وهبة الزحيلي. الفقه الإسلامي وأدلته. ج6/ ص783.(8/6)
اعتمد رجال الشرطة المتحرين في قضايا القتل وهتك العرض والسرقة وغيرها من القضايا، في السنوات الأخيرة على العمل بالقرائن، أو بالأحرى الأمارات والعلامات التي تساعدهم في الكشف عن الجناة، فكم من جريمة كشف فيها عن الجاني عند فحص خصلات من شعره بيد المجني عليه، أو رميه لسيجارة في مسرح الجريمة وبها من لعابه المتبقي ما يمكن أن يحلل فيستكشف عن بصمته الوارثية المتمثلة في الدنا؛ ومن هنا يمكننا كباحثين أن نسلط الضوء على هذه القرائن والأمارات التي عرفتها ساحات القضاء واسترشد بها الطبيب الشرعي والخبير، ومنهما قاضي التحقيق فيما يعرف بالاستعراف أو تحقيق الشخصية(1)، فمن القرائن الحديثة المعاصرة التي اكتشفت عن طريق العلم وخاصة في المجال الطبي: البصمة، والبصمة الوراثية (الدنا) الذي يسترشد عليه في الدم واللعاب والمني والشعر والعرق، وتحليل الدم، وسنأخذ كل واحدة على حدة:
البصمة الوراثية ( الدنا):
__________
(1) تحقيق الشخصية أو الاستعراف هو مجموعة العلامات المميزة التي يتميز بها شخص معين عن سواه مدى الحياة، وتكمن أهميتها من الوجهة القضائية العامة في معرفة شخصية الفرد في حالات إثبات الإرث بعد الوفاة أو إثبات البنوة. يحي شريف وآخرون، 1969م. الطب الشرعي والبوليس الجنائي، مطبعة جامعة عين شمس، ج1/ ص167.(8/7)
لقد وجد أن الحمض النووي الديوكسي ريبوزي له تركيبة واحدة في الإنسان والكائنات الراقية (higher organisms) ويتكون جزآه من شريطين ملتفين حول بعضهما ليشبها السلم الملفوف الذي تتكون جوانبه من جزئيات السكر والفوسفات، وتتكون درجاته من مجموعة من القواعد النيتروجينية (nitrogen) ومعنى هذا أن كل شريط يتكون من وحدات متكررة تسمى النيكليوتيدات (nucleotides) التي تتكون كل واحدة منها من جزيء سكر وجزيء فوسفات وقاعدة نيتروجينية، وهناك أربع قواعد نيتروجينية مختلفة وهي: الأدنين (Adenine A) والثيمين (Thymine T) والسيتوزين (Cytosine) والجوانين (Guonine G) وتتابع هذه القواعد النيتروجينية في شريط الحمض النووي الديوكسي ريبوزي هو الذي يحدد التعليمات الوراثية لخلق كائن حي بصفاته الوراثية المعينة.
ويتم الربط بين شريطي الحمض النووي الديوكسي ريبوزي بواسطة روابط ضعيفة بين كل قاعدتين مكونتين زوجًا من القواعد (Base Pairs) ويحدد حجم مجموعة العوامل الوراثية (Genone) بعدد أزواج القواعد، وتحتوي خلايا الإنسان على حوالي 3 بلايين زوج من القواعد(1).
وإن الاختلافات في التركيب الوراثي لمنطقة الانترون ينفرد بها كل شخص تماما وتورث، أي أن الطفل يحصل على نصف هذه الاختلافات من الأم، وعلى النصف الآخر من الأ؛ ليكون مزيجا وراثيا جديدا منفردا يجمع بين خصائص الوالدين(2).
__________
(1) http://www.islamonline.net/iol-arabic/dowalia/scince-22/scince1.asp
(2) وجدي عبد الفتاح، " بصمة الجينات والطب الشرعي"، مجلة العربي، العدد 441، أغسطس 1995، ص85.(8/8)
وعن المنهج الأساسي لتحديد بصمة الدنا بسيط للغاية- كما يقول إيريك لاندر- :" يستخلص الدنا أولا من إحدى عينات الدليل... ثم يقطع الدنا في كل من العينتين إلى ملايين الشظايا باستخدام إنزيم تحديد يبتر عند تتابعات بذاتها. تفرد الشظايا بعد ذلك عن طريق التفريد الكهربائي بالجيل Gel ...ولكي نظهر شظايا الدنا المناظرة لأي موقع على الكروموزوم، لابد أن نستخدم مسبرا مشعا يحمل من الدنا تتابعا قصيرا من هذه المنطقة... نميز هذه المواقع بظهور شرائط أنيقة قاتمة اللون تسمى " الصورة الإشعاعية الذاتية". تشكل الشرائط نموذج دنا العينة للموقع الذي نحن بصدده... وفي عام 1988م أدخلت بصمة الدنا لأول مرة في المحاكم لتستخدم كدليل في قضية فلوريدا ضد تومي أندروز"(1).
وقد اقترحت بعض الجهات تصنيف الدنا لكل المواليد حتى يسهل تعيين هوية كل من يخطف من الأطفال ويعثر عليه(2).
فصائل الدم:
__________
(1) بصمة الدنا: العلم والقانون ومحقق الهوية الأخير، المقال رقم9 من كتاب: الشفرة الوراثية للإنسان – القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري- تحرير: دانييل كيفلس و ليروي هود، الكتاب رقم: 217 من سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1997م، ص 212-213.
(2) المصدر السابق، ص228.(8/9)
تكمن أهمية الاستعانة بالكشف عن فصائل الدم في دراسة البقع الحيوية المكتشفة بمكان الحادث، إلا أن أهميتها تبرز بوجه خاص في قضايا إثبات البنوة أو استبعاد ونفي الأبوة(1). فعلى مبدأ توارث الفصيلة الدموية من الأبوين يمكن تبيان ما إذا كان الطفل المتنازع على بنوته من أبوين وابن هو لأحد زوجين أم للآخر، وفي هذا أيضا يمكن نفي تبعيته لزوجين قاطع إما إيجابيته بالنسبة للزوجين أو لكلا المجموعتين فإنه احتمالي فقط؛ فالفصيلة الدموية تورث كصفة مميزة بنفس طريقة توريث المميزات الشكلية والخلقية التي تحملها الكروموزومات(2).
البصمات:
تكتسي بصمات الأصابع أهمية خاصة في تحريات الاستعراف وتحقيق الشخصية عند حدوث جناية ما، ذلك أن لكل شخص بصماته المتميزة والشخصية التي لا تماثلها أية بصمات أخرى في العالم، فاحتمال تطابق البصمات لا تتجاوز حالة واحدة في كل 6آلاف و400 مليون شخص، وكذلك فإن بصمات الإنسان ثابتة لا تتغير ولا يطرأ عليها أي تبديل مع مرور السنين(3)؛ إلا أنها تتلف بالحروق الشديدة.
والأمر الذي عليه العالم الآن أن تسجل وتخزن بصمات أي مولود جديد حين ولادته؛ خلافا للأمر المعتاد في القديم أن بصمات الجناة هي التي تسجل فقط.
الشعر:
أصبح فحص الشعر والألياف من الأهمية بمكان من الوجهة الطبية الشرعية، وكثيرا ما كان فحص بضع شعرات، الدليل الوحيد للبراءة والاتهام. ووصف الشعر في حالات البنوة المتنازع عليها من الأهمية بمكان، فقد يكون تماثل لون شعر الطفل مع شعر الأب أو الأم هذا مع تشابه الملامح، وفحص الدم لمعرفة الفصائل ما يقطع في أبوة أو بنوة الطفل(4).
البقع الحيوية:
__________
(1) يحي بن لعلى، الخبرة في الطب الشرعي، د.ت، د.ن، ص 145.
(2) يحي شريف، الطب الشرعي، ج1/ ص 103ـ115.
(3) يحي بن لعلى، الخبرة في الطب الشرعي، ص 113.
(4) يحي شريف، الطب الشرعي، ج1/ ص122.(8/10)
وتعني مجموع السوائل التي يفرزها جسم الإنسان مثل البقع الدموية والمنوية، واللعاب، وبقع البول أو البراز، فهذه الإفرازات وغيرها من سوائل البدن تحتوي على مولدات التراص المميزة لفصيلة الدم؛ وهو مما يسمح مثلا بالتعرف على فصيلة الدم انطلاقا من فحص بقعة المني.
وقد يعمد في بعض الحالات إلى الكشف عن بقع اللعاب لتحديد فصيلة الدم بالنسبة للشخص المفرز. وهنا قد يجري البحث على أعقاب السجائر إذا كان المشتبه فيه مدخنا.
وتكتسي هذه البقع الحيوية أهمية قصوى في مجال التعرف على الجاني، وفي قضايا الاغتصاب والقتل، وقضايا تنازع البنوة وغيرها(1).
مشروعية القضاء بالقرائن
هناك دلائل كثيرة في اعتبار القرائن كوسيلة من وسائل النفي والإثبات في القضاء؛ فإن المتتبع لنصوص الوحي القرآنية منها والحديثية ليجد شواهد عديدة لهذه الأمارات والدلائل التي أطلق عليها القانونيين "قرائن"، وسأذكر بعضا منها.
أولا – أدلة القرآن الكريم
أ) قوله تعالى:{ واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم }.(2)
…فتوصل بقدّ القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب، وهذا اللوث في أحد المتنازعين يبين به وجه الحق وأولاهما به ، وهو قرينة قوية على صدق أحدهما.(3)
ب) قوله تعالى { وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } .(4)
__________
(1) يحي بن لعلى، الخبرة الطبية، ص149ـ150.
(2) سورة يوسف آية رقم 25-28
(3) إبراهيم بن محمد الفائز . الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي : ص 67
(4) سورة يوسف آية رقم 18(8/11)
…استدل…الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات والأخذ بها في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها. وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه، حتى روي أنه قال لهم: متى كان هذا الذئب حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص ؟(1)
ثانيا – أدلة السنة النبوية
أ) عن عمر رضي الله عنه أنه قال: { إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف } وهذا نص واضح في اعتماد قرينة الحبل لثبوت جريمة الزنى.
ب) إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها ، وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة ، وهذا ما ذهب إليه مالك.(2)
ج) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بإثبات علم القافة وجعل القيافة دليلا على أدلة ثبوت النسب(3) ، وليست هي إلا مجرد العلامات والأمارات . وقد أخذ الخلفاء الراشدون بهذا النهج أي اعتبار القيافة ، من أدلة ثبوت النسب ، كما أخذ بها مالك وأحمد والشافعي وغيرهم .(4) والأخذ بالقيافة دليل على اعتبار القرائن .(5)
__________
(1) عبد الكريم زيدان . نظام القضاء في الشريعة الإسلامية ص 186
(2) المرجع السابق ص 186
(3) انظر: ابن فرج المالكي.1987م، أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحقيق: قاسم الشماعي الرفاعي، ط1، بيروت: دار القلم، ص 215- 217.
(4) ابن قيم الجوزية . الطرق الحكمية في السياسة الشرعية . ص 12
(5) عبد الكريم زيدان . نظام القضاء في الشريعة الإسلامية ص 186(8/12)
د) بالإضافة إلى القضاء بالقرعة، والقضاء بالفراسة؛ وكثير منها جاء في إثبات النسب، وما هي إلا أمارات ودلائل تظهر الأثر الإيجابي بالاعتماد عليها في حفظ مقاصد الشريعة وكلياتها الخمس، وما مقصد النسب إلا واحدا منها، والقاعدة في الفقه الحنفي تقول أن:" الشارع متشوف إلى إثبات النسب"(1). ويقول ابن قيم الجوزية " والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها"(2).
__________
(1) الكاساني، 1982م. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ط2، بيروت: دار الكتاب العربي، ج6/ ص244
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص 187.(8/13)
فالشارع الحكيم متشوف لإلحاق النسب تحقيقا لمقاصد جمة تعود على الأب والولد والأم. ومما يعود على الأب بالنفع في الحصول على ولد من صلبه، حيث إن الأولاد قرة الأعين، والأكباد التي تمشي على الأرض، ومن المعلوم أن الفطرة الإنسانية تنزع إلى حب الولد لأنه الخليفة والخلف له في الحياة الدنيا والآخرة، وليس معنى هذا أن للزوج أن يستلحق بنفسه أيا كان ، ويقر بولد ليس منه ولا من مائه فهذا من منكرات الأمور وكبائرها، بحيث يدخل الرجل على أهله غريبا يدنس به علاقات النسب والقرابة . والعكس كذلك في أن يجحد الأب ابنه بغرض قذف زوجته وللإضرار بها وبكرامتها؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: { وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ، احتجب الله تعالى منه وفضحه الله على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين } (1). ومما يعود على الأم من مقاصد النسب فحتى تحمي حصانتها، ويبقى عرضها مصونا، فتدفع عن نفسها شبهة الزنا والفاحشة، وإن نسب إليها بسبب الزنا فلأن احتياج الطفل إليها شديد، وهو مما سيرفع به الله بعض الذنب الذي ارتكبته، فهذا المصطفى صلى الله عليه وسلم يؤخر عن الزانية الحامل الحد حتى تضع(2). وليس للزوجة أن تدخل ولدا ليس من ماء زوجها وتدعيه ابنا لها فيثبت نسبه من زوجها لحديث { الولد للفراش(3)
__________
(1) - رواه الحاكم ، في كتاب: الطلاق، وقال عنه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. الحاكم، المستدرك، 2ج/ ص203 ؛ ورواه ابن ماجه في " أبواب الفرائض"، باب: من أنكر ولده، رقم 2774، أنظر: ابن ماجه، سنن ابن ماجه، ج2/ص 124.
(2) - فبعد ثبوت حدّ الزنا على الغامدية، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا نرجمك حتى تضعي ما في بطنك)، رواه مسلم، في كتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، أنظر: مسلم، شرح مسلم بشرح النووي، ج11/ ص 213.
(3) أخرجه البخاري، كتاب: الفرائض، باب: الولد للفراش حرة كانت أو أمة، رقم:6749. أنظر: ابن حجر، فتح الباري، ج12/ص32؛ وأخرجه مسلم، كتاب: الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقي الشبهات. النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، ج10/ ص290(8/14)
} ، فهذا الفعل من أكبر كبائر الزيف والكذب، فيصدق فيها قوله صلى الله عليه وسلم: { أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته } (1)، أما ما يحققه حفظ النسب للولد فلدفع العار عن نفسه بكونه ليس ابن زنا، وما يلحق حق حفظ النسب من حق الولد في النفقة وفي الرضاعة والحضانة وفي الإرث(2).
ثالثا – أفعال الصحابة
وقد ذكرنا آنفا بأن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه رضي الله عنهم حكم برجم المرأة التي ظهر بها حمل ، ولا زوج لها ولا سيد .(3)
كما حكم عمر وعبد الله بن مسعود وعثمان رضي الله عنهم، ولم يعلم لهم مخالف بوجوب الحد على من قيّه رائحة الخمر، أو قاءها، اعتمادا على القرينة الظاهرة، وهو مذهب مالك.(4)
آراء الفقهاء
أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقا من طرق الحكم ، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها كما نجد ذلك في مذهب مالك ، فمن ذلك قول الفقيه المالكي ابن فرحون : "في القضاء بما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات"(5) . ويقرب من مذهب المالكية في التصريح بالأخذ بالقرائن مذهب الحنابلة ، كما نقل ابن القيم الحنبلي وبيّنه في كتابه "الطرق الحكمية". (6)
__________
(1) سبق تخريجه ، فهو جزء من الحديث السابق.
(2) فريدة زوزو، النسل: دراسة مقاصدية في وسائل حفظه على ضوء تحديات الواقع المعاصر، ماليزيا: الجامعة الإسلامية العالمية، ص 205.
(3) ابن قيم الجوزية . الطرق الحكمية في السياسة الشرعية . ص 12
(4) ا ابن فرحون،1995م. تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، ج2/ ص103.
(5) ابن فرحون، ج2/ ص 101.
(6) عبد الكريم زيدان . نظام القضاء في الشريعة الإسلامية ص 187(8/15)
إلا أن فريقا من الفقهاء من المذاهب الأخرى لا يصرحون بالأخذ بالقرائن ولكن نجدهم في الواقع يرتبون أحكاما على أساس اعتبارهم للقرائن ، من ذلك قولهم بانعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا .
ومنها قولهم في إقرار المريض مرض الموت لوارثه بدين عليه إنه لا يقبل هذا الإقرار للتهمة بقرينة مرضه وقرابته من المقر له .
ومنها قولهم في الركاز : إذا كان عليه علامة المسلمين فهو لقطة ، وإن كان عليه علامة الكفار فهو ركاز .(1)
ومن هنا نعتبر أن الفقهاء اعتبروا القرائن طريقة من طرق الإثبات في القضاء .
نوع دلالتها
للإمام ابن فرحون المالكي قول صريح في نوع دلالة القرينة، فقد قال :" والعمل في ذلك على القرائن، فإن قويت حُكم بها، وإن ضعفت لم يُلتفت إليها، وإن توسطت تُوقف فيها، وكشف عنها، وسُلك طريق الاحتياط. هذا كله ما لم يعارض معارض، فإن عارض ذلك شيء نُظر فيه"(2).
قد تكون دلالتها قوية أو ضعيفة على حسب قوة المصاحبة وضعفها ، وقد ترقى إلى درجة القطع أو تهبط إلى درجة الاحتمال البعيد جدا ، بحيث تصبح لا يعبأ بها فهي في حيز التردد ، بل قد تصل إلى حد الكذب كما في دلالة الدم في قميص يوسف على أكل الذئب له . والمرجع في ضبطها واصطيادها إلى قوة الذهن والفطنة واليقظة ، وما يفيضه الله سبحانه وتعالى على عباده من المواهب .(3)
__________
(1) المرجع السابق ص 187
(2) ابن فرحون، ج2/ ص 111.
(3) أحمد إبراهيم بك . 1347 هجرية . طرق القضاء . القاهرة : المطبعة السلفية : ص 43(8/16)
يقول الإمام ابن القيم "والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ، ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية والمقالية كفقهه في كليات الأحكام : أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها ، وحكم بما يعلم الناس بطلانه ، لا يشكون فيه ، اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله" .(1)
شروط القرينة
ويشترط في القرينة التي يجوز الاعتماد عليها الشروط التالية:(2)
ا) أن يوجد أمر ظاهر ومعروف وثابت ليكون أساسا لاعتماد الاستدلال منه ، لوجود صفات وعلامات فيه ، ولتوفر الأمارات عليه .
ب) أن توجد الصلة بين الأمر الظاهر الثابت وبين الأمر الذي يؤخذ منها وهو المجهول في بادئ الأمر ، في عملية الاستنباط ، وذلك باستخراج المعاني من النصوص والوقائع بالتأمل والتفكير الناشئ عن عمق الذهن وقوة القريحة ، وهذه الصلة بين الأمر الظاهر وبين ما يؤخذ منه تختلف من حالة إلى أخرى ، ولكن يشترط أن تكون العلاقة قوية بينهما ، وقائمة على أساس سليم ومنطق قويم ، ولا تعتمد على مجرد الوهم والخيال أو الصلة الوهمية الضعيفة ، لأن المهم أن تكون لدى الإنسان علما بالدعوى يكاد يشابه العلم الحاصل من طريق الشهود وغيرهم ، وهذا يحصل من قوة المقارنة والمصاحبة .(3)
مسائل في القضاء بالقرائن:
- القضاء بالقرائن في مسائل الحدود
__________
(1) ابن قيم الجوزية . الطرق الحكمية في السياسة الشرعية . ص10 .
(2) إبراهيم بن محمد الفائز . الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي : ص 66
(3) المرجع السابق . ص 66(8/17)
نظرا لخطورة مسائل الحدود والعقوبات التي بسببها يتم إتلاف النفوس وإيقاع الأذى والعذاب عليها، يجب التأني والتثبت عند اعتماد القرينة لثبوت الحد، وينبغي على الحاكم أن يسأل المتهم – المرأة الحبلى - مثلا، والذي ظهرت منه رائحة الخمر – عن الجريمة لعله أو لعلها تدعي شبهة، فإن ادعت شبهة إكراه، أو وطئ بشبهة فلا يقام الح.(1) وذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
ولذلك قال بعض العلماء بأن الحمل ليس قرينة قاطعة على الزنا بل هو قرينة تقبل الدليل العكسي، فيجوز إثبات أن الحمل حدث من غير زنا، ويجب درء الحد عن الحامل كلما قامت شبهة في حصول الزنا أو حصوله طوعا. فإذا كان هناك مثلا احتمال بأن الحمل كان نتيجة وطء بإكراه أو بخطأ وجب درء الحد، وإذا كان هناك احتمال بأن الحمل حدث دون إيلاج لبقاء البكارة امتنع الحد، إذ قد تحمل المرأة من غير إيلاج بأن يدخل ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها أو نتيجة وطء خارج الفرج .(2)
ويرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أنه إذا لم يكن دليل على الزنا غير الحمل فادعت المرأة أنها أكرهت أو وطئت بشبهة فلا حد عليها ، فإذا لم تدع إكراها ولا وطأ بشبهة فلا حد عليها أيضا ما لم تعترف بالزنا لأن الحد أصلا لا يجب إلا ببينة أو بإقرار .(3)
وعلى هذا القيد نص بعض الفقهاء ، لأن اعتماد ظهور الحمل ، أو وجود الرائحة لا يؤخذ به على إطلاقه .
ولم يأخذ الحنفية والشافعية بإثبات الزنا بالقرائن، خلافا للمالكية وابن القيم الذين جعلوا الحمل علامة على الزنا(4).
__________
(1) عبد الناصر أبو البصل. مسائل في الفقه المقارن . ص 291
(2) عبد القادر عودة . 1993م . التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي . بيروت : مؤسسة الرسالة : ج1/ 441.
(3) المرجع السابق . ص 441
(4) وهبة الزحيلي. الفقه الإسلامي وأدلته. ج6/ص47.(8/18)
كما ينبغي الاهتمام بوسائل العلم الحديثة ، كمساند لهذه المسألة ، ففي المختبرات الجنائية الحديثة وسائل متعددة تساعد في إظهار الحقيقة لكثير من الجرائم المستعصية .(1)
فرجال الشرطة يؤكدون اليوم على أن هذه القرائن وسائل مهمة وقوية في مساهمتها للكشف عن الجرائم والمجرمين.
ففي ماليزيا وحدها وخلال سنوات 1995م- 2003م من مجموع 3000 جريمة وجنائية، استخدم فيها 14000 تحليل لـDNA، لجرائم متعددة بين قتل واغتصاب، بنسبة 30% لجرائم الاغتصاب ثم قتل الضحية، و40% لجرائم الاغتصاب، و13% لقضايا إثبات الأبوة؛ فكان 30-40% من الجرائم تم الكشف عن فاعليها من خلال هذا التحليل(2).
القضاء بالقرائن في إثبات النسب:
يعتبر النسب مقصد أصيل في الشريعة الإسلامية، في حفظه حق الولد في الانتساب إلى أبيه، فيثبت النسب لزواج صحيح أو فاسد، كما أن ابن الزنا يُنسب لأمه.
ويعد الفراش السبب الحقيقي للنسب لأنه المنشئ له، أما الطرق الأخرى مثل الإقرار والبينة أو الاستلحاق وغيرها فهي أسباب مظهرة له فقط، حيث تدل أصالة على وجود فراش إلا أن النسب لم يتحقق بعد، وبخاصة حال حصول دعوى(3).
وهنا تظهر أهمية القرائن في ثبوت النسب بالدعوى، في عصرنا الحاضر بتوفر تحليل الدم والبصمة الوراثية، وتحليل الخريطة الجينية للإنسان (DNA)، فهل يمكن إثبات نسب ما بهذه القرائن؟
جاء في القرار السابع لمجلس المجمع الفقهي المنعقد في مكة في دورته 16 عام 2002:
__________
(1) عبد الناصر أبو البصل . مسائل في الفقه المقارن . ص 291
(2) - News Street Times. 3 june 2004.P10.
(3) - فريدة زوزو. 2001. النسل: دراسة مقاصدية في وسائل حفظه. ص213.(8/19)
"ونظرا لأن البحوث والدراسات العلمية أقرت أن البصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة، لتسهيل مهمة الطب الشرعي....تبين أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد للوالدين أو نفيهم عنهما... وهي أقوى بكثير من القيافة العادية التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع...ولذا قرر المجلس ما يلي:
إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر، والحيطة والسرية..."(1) .
وفي أيهما أجدى القيافة أم البصمة يقول محمد سليمان الأشقر:" والبصمة الوراثية في نظري مقدمة على القيافة، فإن أمكن استخدام الطريقتين، فالبصمة الوراثية أولى"(2).
وذكر معللا سبب اختياره ما مفاده أن " أن الفقهاء من الشافعية والحنابلة، وكذلك المالكية في بعض الصور قبلوا القيافة طريقا لإثبات النسب شرعا. والقائف إنما يتكلم عن حدس وتخمين وفراسة، ومع ذلك يقبل قوله، فقبول خبير الهندسة الوراثية المبني على شيء محسوس ثبت صدقه – على ما تذكره الأبحاث-وهو بصمة الدنا، أولى بالقبول"(3).
إلى غيرها من التفاصيل المهمة والمفصلة تفصيلا كبيرا في طريقة اعتماد البصمة الوراثية في إثبات أو نفي نسب ما خاصة عند حدوث دعوى التنازع على مجهول النسب، أو اختلاط المواليد في المستشفى، أو حال ضياع الأولاد بسبب كوارث وحروب وغيرها.
والذي عليه كثير من الباحثين أن الأخذ بهذه القرينة في إثبات نسب ما، عند وجود دعوى إثبات النسب وليس في النسب الصحيح الموجود، أي لا يجب استعمالها لغرض التأكد من الأنساب الثابتة لأن في ذلك فتح لباب شر كبير.
__________
(1) - منار الإسلام، ذو الحجة 1422هـ/ مارس 2002م. السنة39، العدد. 446. ص 22.
(2) -محمد سليمان الأشقر، 2001م.أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة ناشرون، ص269.
(3) الأشقر، أبحاث اجتهادية، ص 268.(8/20)
وكحل لهذه المشاكل فإن الباحثين أكدوا على ضرورة تسجيل وإثبات البصمة الجينية لكل مولود عند ولادته، لما لها من أهمية في حياة ذلك المولود عند حدوث أي مشكلة مستقبلية(1).
إعمال القرائن في المحاكم الجزائرية:
سيركز البحث على قضايا إثبات النسب المعروضة في المحاكم والمجالس القضائية الجزائرية لما فيها من صلة وطيدة بموضوع القرائن الذي يعد من وسائل الإثبات المعاصرة التي ثبت الأخذ بها في المحاكم؛ ومن هنا وجب الحديث قليلا عن قانون الأسرة الجزائري فهو المتضمن لقضايا النسب وما شابهها من مسائل ودعاوى.
قانون الأحوال الشخصية الجزائري ـ قانون الأسرة ـ:
عرفت الجمهورية الجزائرية بعد الاستقلال قانونين للأحوال الشخصية؛ أولهما قانون 9جوان 1984م الموافق لـ: 9 رمضان 1404هـ، وثانيهما قانون 27 فبراير 2005م الموافق لـ: 8 محرم 1426هـ، وكلاهما مستمد من الشريعة الإسلامية ، حيث تنص المادة 222 منه على أن : "كل ما لم يرد النص عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية"، إذ يعد القانون الوحيد الذي يجسد الشريعة الإسلامية في الجزائر، خلافا لباقي القوانين التي تستمد من القوانين الغربية الوضعية؛ ومنه يمكن اعتبار الاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية في المحاكم والمجالس القضائية الجزائرية التي تعتمد على "قانون الأسرة " بمثابة "القضاء الشرعي" المعروف في بعض الدول الإسلامية.
__________
(1) - أنظر: ملخصات أبحاث: علي محي الدين القره داغي، ووهبة الزحيلي، ود/ نجم عبد الله، والشيخ عمر بن محمد سبيل، ود/ سعد الدين هلالي. البصمة الوراثية وتأثيرها على النسب إثباتا ونفيا. منار الإسلام، ذو الحجة 1422هـ/ مارس 2002م. السنة39، العدد. 446. ص 20-24. أيضا: البصمة الوراثية وقضايا النسب الشرعي. WWW.Islamonline.net/Arabic/contemporary/01/2000/article 99.(8/21)
وحتى قبل تقنين الأحوال الشخصية ـ على اعتبار أن الجزائر استقلت عام 1962م ـ لم يكن هناك صراع فقهي أو نزاع قانوني، مادامت أحكام الشريعة الإسلامية هي مصدر الأحوال الشخصية، وقد ذهبت المحكمة العليا إلى ضرورة تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية، وبهذا الاجتهاد استبعدت كل القوانين وجعلت مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الأول(1).
المواد القانونية المتعلقة بالنسب وطرق إثباته في قانون الأسرة الجزائري الجديد (فبراير 2005م):
جاء الفصل السابع لقانون الأحوال الشخصية مخصصا لموضوع النسب ، وقد احتوى على ثمانية مواد تتمحور حول طرق إثبات ونفي النسب وتحريم التبني.
وجاء في المادة 40 وهي مادة معدلة عن قانون جوان 1984:"يثبت النسب بالزواج الصحيح أو بالإقرار أو البينة أو بنكاح الشبهة أو بكل زواج تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32و33و34 من هذا القانون.
يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب".
ونصت المادة 41 على أنه: " يثبت الولد لأبيه متى كان الزواج شرعيا وأمكن الاتصال ولم ينفه بالطرق المشروعة".
أما المادة 42 فقد أكدت على مدة الحمل المعتبرة شرعا:" أقل مدة الحمل ستة أشهر وأقصاها عشرة أشهر".
وجاء في المادة 43:" ينسب الولد لأبيه إذا وضع الحمل خلال عشرة أشهر من تاريخ الانفصال أو الوفاة".
وجاء في المادة 44:" يثبت النسب بالإقرار والبنوة ، أو الأبوة أو الأمومة، لمجهول النسب ولو في مرض الموت متى صدقه العقل أو العادة".
وجاء في المادة 45 أن :" الإقرار بالنسب في غير البنوة، والأبوة، والأمومة لا يسري على غير المقر إلا بتصديقه".
يهمنا مما سبق المادة الأولى وهي المادة 40 والتي جاء في نهايتها أنه " يجوز للقاضي اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب".
__________
(1) لوعيل محمد لمين، 2000م. المركز القانوني للمرأة في قانون الأسرة الجزائري، الجزائر: دار هومة، ص9.(8/22)
هذه العبارة هي الجزء المضاف للمادة القديمة من قانون 1984م، ومعنى هذا أن المشرع الجزائري غيّر وعدّل في بعض المواد آخذا في عين الاعتبار المستجدات والوقائع الجديدة التي نُظر إليها بعد النظر في الاجتهادات القضائية، مراعاة لواقع المجتمع الجزائري وما يطرحه من تساؤلات وقضايا، وما شاع استعماله في الميدان القضائي العالمي من الاسترشاد بالقرائن والأمارات الحديثة؛ العلمية منها والطبية، والتي في العادة تستند للخبير أو الطبيب الشرعي.
" وهنا يلاحظ أن الالتجاء إلى هذه الوسيلة من طرف القاضي يجب أن تحدد الشروط الموضوعية التي يجب توفرها حتى يمكن الالتجاء إليها، وفي رأينا فإنه يجب توفر شروط معينة في الخبير وشروط معينة لتحديد الوقائع التي يمكن الاستعانة بالخبرة العلمية لتحديد النسب فيها"(1).
قضايا من المحاكم الجزائرية في إثبات النسب استرشادا بالقرائن:
أكثر دعاوى قضايا إثبات النسب في المحاكم الجزائرية ترجع إما لأن الزواج كان عرفيا، وهنا القضاء الجزائري لا يغض الطرف عن الأولاد وإنما يلحقون بوالدهم متى تحقق قاضي التحقيق من الشهود وصدقهم، وإما أن يكون الابن ولد من زنا قبل زواج الزوجين، خاصة بين الشباب الجامعي، فإن عادة الزواج العرفي التي يعرفها المجتمع المصري والأردني بين شباب الجامعات، يخلو منها المجتمع الجزائري، وهنا يتشدد القضاء الجزائري في هذه الدعاوى تشددا صارما؛ فالقاعدة القانونية واضحة وصريحة ولا تقبل أي جدال، جاء في المادة 40:" يثبت النسب بالزواج الصحيح أو الإقرار أو البينة أو بنكاح الشبهة، أو بكل زواج تم فسخه بعد الدخول طبقا للمواد 32و33و34 من هذا القانون".
__________
(1) غقالي بلقاسم، 2005م. التعديلات الواردة على قانون الأسرة، مجلة المحاماة، لمنظمة المحامين ناحية باتنة، العدد الأول، ص61.(8/23)
وفي حوار مع المحامي الأستاذ "محمد حوحو "، وعند استفساري عن قلة القضايا التي تستخدم فيها القرائن لإثبات النسب قال:" أن أكثر دعاوى إثبات النسب تكون لحالات زواج عرفي- وهو النوع الأول لدعاوى إثبات النسب، وهذا أمرها ميسور حال إيجاد الشهود، وأما إخضاع الابن لتحاليل الدم والدنا فإنه يكون بلا أدنى فائدة لأن الأب غائب في كلتا الحالتين، وحتى ولو ثبت أن المرأة المدعية أمه فقد يكون ابن زنا!"(1).
وفي اليوم نفسه وبالمدينة ذاتها – مدينة "بسكرة" بوابة الصحراء الجزائرية - التقيت الأستاذ المحامي " عبد الله زوزو"، وفي سؤال عن الموضوع ذاته ذكر أن مسألة عدم اللجوء إلى الطرق العلمية لإثبات النسب ترجع إلى عدم وجود مخابر ومراكز هذا النوع من التحاليل إلا في العاصمة الجزائرية، وإلا فإن كثيرا من القضايا يمكن أن يسهل النظر فيها إذا اتبعنا الطرق العلمية.
وفي حوار مع المحامية " دليلة بركاني" بمدينة "باتنة" بالشرق الجزائري، أكدت لي أن أكثر حالات دعاوى إثبات النسب هي من النوع الثاني- طفل ولد قبل العقد الشرعي بين الزوجين- وهنا يحاول الطرفان جهدهما إلحاق الولد بهما إلا أن دعواهما تجابه بالرفض المطلق من قبل القضاة في المجالس القضائية الجزائرية، ومن قبل المحامين أنفسهم الذين يرفضون رفع دعاوى من هذا القبيل؛ لأنها تنافي قواعد الشريعة في إثبات النسب، رغم أن كثيرا من المدعين يحاولون دفع مبالغ طائلة من أجل دعاويهم (2).
__________
(1) حوار مع المحامي محمد حوحو، يوم السبت 24 ديسمبر 2005م. مدينة بسكرة.
(2) حوار مع المحامية دليلة بركاني، يوم الاثنين: 6-02- 2006م. مدينة باتنة.(8/24)
أما المحامي الأستاذ " بن عبد الله عبد المالك " وهو محامي المدعية في قضيتنا الأولى التي سنأخذها بالدراسة، فقد أكد على ضرورة الاعتماد على الطرق العلمية خاصة وأنه وحتى في الزواج العرفي فإن الزوج كثيرا ما يرفض الإقرار ببنوة المولود من صلبه- كما في قضيتنا- وهنا ما على قاضي التحقيق إلا اللجوء إلى الأساليب العلمية من أجل إثبات النسب المتنصل منه(1).
القضية الأولى:
قضية (ب،س) من ولاية باتنة، هذه الفتاة ذات الواحد والعشرين ربيعا، والتي وعيت الدنيا وهي تعيش في كنف عائلة أعطتها لقبها العائلي، وعندما كبرت وأصبحت في سن 18 كشف لها عن حقيقة نسبها، وهي أنها ليست ابنتهم، وإنما هي ابنة شخصان تزوجا عام 1985م عرفيا وعند ولادة البنت منحاها للعائلة التي أعطتها لقبها بغرض إدخالها المدرسة آنذاك، وعرفت البنت والديها عندما تجلت الحقيقة أماها عندما أخبرتها خالتها الأصلية وجدتها لأمها بالسيناريو الذي حدث قبل 18 سنة.
ورفعت البنت دعوى ضد أبويها الأصلين الذين رفضا الاعتراف بها خشية الفضيحة الاجتماعية، رغم أنهما أنجباها وقت أن كان زواجهما عرفيا، أي أنها ولدت في فراش الزوجية، الأمر الذي استدعى من محاميها أن يطلب تطبيق المادة 40 المتعلقة بإجراء التحاليل العلمية للدم والحمض النووي لإثبات النسب من عدمه باعتبار أن العدالة هي المخولة للبث في القضية(2).
وقد جاء في عريضة افتتاح الدعوى:
(ب، س) ضد (ع، ع) و(ر، م).
- حيث أن متبنية المدعيان لديها شبه كبير من المدعى عليهما، وهي مستعدة لعرض نفسها على طبيب أخصائي لإجراء التحاليل المناسبة لإثبات نسبها لوالديها الحقيقيان ( المدعى عليهما)(3).
القضية الثانية:
__________
(1) حوار مع المحامي بن عبد الله عبد المالك، يوم الثلاثاء، 21فبراير 2006م، مدينة باتنة.
(2) من المحاكم، جريدة الشروق ، الخميس 24 نوفمبر 2005م، العدد 1543، ص6.
(3) قضية رقم: 05/ 3354، جلسة: 05/ 10/ 29، 12/ 11/ 2005م.(8/25)
المدعي (ط،ع) ضد المدعى عليها ( س، ر)(1)، الذي يلتمس من المحكمة نفي نسب البنت مارية عنه وإلحاق نسبها بأمها المدعى عليها مع الحكم بالطلاق، وحكم له القاضي يوم 19/04/2005م بحكم نفي النسب بالنظر إلى ملابسات الواقعة.
إلا أن محامي المدعى عليها استأنف القضية بتاريخ 30/07/2005م نظرا إلى أن المحكمة... ولم تأمر بإجراء خبرة طبية تثبت فصيلة دم البنت...
وكان للمجلس كلمته لمراجعة الحكم والتصدي له بتعيين طبيب مختص في المسألة ملتمسة القضاء بما جاء في عريضة الاستئناف(2).
إن المتأمل في هذه القضية، وما أمر به قاضي التحقيق بتعيين الطبيب المختص، جاء تحقيقا وتطبيقا للمادة 40 المعدلة خلافا للمادة نفسها في القانون القديم التي لم يرد فيها ذكر أو إشارة للاستعانة بالخبرة الطبية؛ الأمر الذي جعل القضاة في السابق لا يحبذوا استعمال الخبرة في إثبات النسب، رغم أنها قرينة قاطعة في الإثبات، ولكن لعدم ورودها في القانون لم يُنظر إليها.
وقد وجدت قضية حدثت سنة 1999م جاء في ملفها :"ومتى تبين _ من قضية الحال _ أن قضاة المجلس لما قضوا بتأييد الحكم المستأنف القاضي بتعيين خبرة طبية قصد تحليل الدم للوصول إلى تحديد النسب، خلافا لقواعد إثبات النسب المسطرة شرعا وقانونا طبقا لأحكام المادة 40 وما بعدها من قانون الأسرة، فإنهم بقضائهم كما فعلوا تجاوزوا سلطتهم وعرضوا قرارهم للنقض"(3).
__________
(1) وزارة العدل، مجلس قضاء بسكرة، محكمة بسكرة، جلسة: 19/04/05، رقم الجدول : 60/05، رقم الفهرس: 389/05.
(2) مجلس قضاء بسكرة، الغرفة الشخصية، قضية رقم: 319/ 2005، فهرس رقم: 413/05، قرار في: 30/07/ 2005م.
(3) ملف رقم: 222674 قرار بتاريخ 15/06/1999م، قضية (ع ب) ضد : (م ل)، الاجتهاد القضائي لغرفة الأحوال الشخصية، عدد خاص، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، المحكمة العليا، قسم الوثائق للمحكمة العليا، 2001م، ص88.(8/26)
وقد جاء في مذكرة هذا الملف تعليل الحكم المنقوض والتبرير لرفض تعيين الخبير الطبي:" حيث أن إثبات النسب قد حددته المادة 40 وما بعدها من قانون الأسرة الذي جعل له قواعد إثبات مسطرة وضوابط محددة تفي بكل الحالات التي يمكن أن تحدث، ولم يكن من بين هذه القواعد تحليل الدم الذي ذهب إليه قضاة الموضوع فدّل ذلك على أنهم قد تجاوزوا سلطتهم الحاكمية إلى التشريعية الأمر الذي يتعين معه نقض القرار المطعون فيه وإحالته لنفس المجلس"(1).
تحليل ومناقشة:
بالنظر في القضايا المطروحة – قلتها- فإن القانون الجزائري قد تماشى مع مستجدات العصر وتطوراته في تعديله للمادة 40، والتي أضيف لها جواز اعتماد القرائن العلمية لإثبات نسب ما.
إلا أنه ومع مرور سنة كاملة على تعديل القانون، لم يلجأ القضاة إلى اعتماد القرائن كأدلة إثبات أو نفي مكتفين بالقرائن والأدلة المعروفة، كما في القضية الأولى (ب،س) والتي رفض فيها القاضي في جلسة يوم السبت 25 فبراير 2006م عريضة المحامي المطالبة بإجراء اختبارات الدنا وتحليل الدم، وانتهت الجلسة بنفي النسب عن المدعى عليه!!!!
هل يرجع السبب في رفض العريضة أن القضاة لم يقتنعوا بجدوى القرائن الحديثة، أم أن السبب يرجع إلى قلة مراكز اختبارات الدنا إلى في العاصمة الجزائرية، وأما مراكز تحليل الدم فلا يخلو منها مركز صحي طبي!!!
والسؤال أو الأسئلة التي أختم بها هذه الدراسة:
ألا يمكن اعتماد القرائن أدلة لإثبات أو نفي نسب ما إلا عند انتفاء الفراش، اعتمادا على قاعدة " الولد للفراش" الثابتة في إثبات أو نفي نسب ما؟
وهل معنى هذا أن الولد الناشئ في الفراش وهو ليس من صلب الزوج حقيقة، يجب أن ينسب إليه لأنه ولد على فراشه، أم لأنه لم يستطع أداء اللعان، وقد حدّد القانون الجزائري مدة اللعان بأن لا تتعدى 8 أيام من يوم العلم بالحمل؟ وماذا عن الزوج المسافر خارج البلاد؟
__________
(1) المصدر السابق، ص 91.(8/27)
وهل للقاضي أن يجتهد في تحديد وقت للعان؟
وصلي اللهم وسلم على حبيبنا المصطفى محمد عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم.(8/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
الاختصاص القضائي الشرعي
المكاني
في المحاكم الشرعية
لدولة الإمارات العربية المتحدة
دراسة فقهية مقارنة
بحث مقدم للندوة التي تعقدها جامعة الشارقة بعنوان :
تنظيم القضاء الشرعي و اختصاصاته في العصر الحاضر
بقلم د.نزار محمود قاسم الشيخ
دكتوراه تخصص فقه مقارن
العنوان: الإمارات_ رأس الخيمة _ معهد التكنولوجيا التطبيقية.
هاتف:7232490 050
الفاكس 2462420 07
البريد الاكتروني: nazar4444@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء آية 65].
مقدمة:
الحمد لله المنفرد بالحكم والتدبير, المستبد بالقضاء والتقدير, الذي شرح الأحكام للعباد, وكفهم بتنفيذها عن الظلم والفساد, وأتحف الحكام بالشرائع الإسلامية, وأغناهم بها عن السياسة الكسروية, وعصمهم باتباعهم المنقول, عن تحكيمهم تحقيق العقول, فله الحمد والشكر بكل لسان, ومن كل ملك وجن وإنسان, وصلوات الله التي لا تحصى عدداً, وسلامه الذي لا ينقضي أمدا، على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم عليه وعلى صحابته وآل بيته.
أما بعد: فإن علم أحكام القضاء, هو من الدين بمنزلة الرأس من سائر الأعضاء , وآدابه من أجل الآداب المرعية, ركن من أركان الشريعة، بل هو أسها , ورئيس العلوم الإسلامية بل هو رأسها , ولذلك قيل : القائمون من البشر بحقه هم رسل الله أو ورثتهم من خلقه.(9/1)
وفي الصدر الأول من تاريخ الإسلام كانت السلطة الشرعية في كثير من أحيانها مندمجة بالسلطة القضائية، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء أو من ينوبونهم من الولاة، يتولون أمر القضاء والحكم معاً، ثم لما تباعدت البلاد واتسعت وكثرت المظالم وتنوعت، احتيج إلى استقلال القضاء، واحتيج أيضاً إلى تعدد القضاة الذين يعملون في وقت واحد وفي بلد واحد، مما يعني تفرد كل واحد بعمل يختلف عن عمل الآخر، فتعددت جهات القضاء، وتخصصت وفقاً للزمان والمكان والنوع، من هنا برز التخصيص القضائي، كما سيأتي بيان ذلك، ولهذا التخصيص أهمية عظمى إليك ذكرها.
أ_ أهمية البحث في الاختصاص القضائي المكاني والزماني، ودوافع اختياره:
تظهر أهمية البحث في الاختصاص القضائي المكاني والزماني في أمور ومن أهمها:
1_ إن بحث الاختصاص القضائي هو أس مهم في القضاء الشرعي؛ ومعلَم بارز من أهم معالم القضاء سابقاً ولاحقاً، إذ به يعرف مدى حدود سلطة القاضي في الحكم في الخصومات، وبذلك يعرف القضاة مهماتهم الموكلة لهم؛ فلا يتصدون لقضايا ليست من اختصاصهم، وإلا لم ينفذ حكمهم ولا يقصرون فيما أوكل لهم.
2_ بالاختصاص القضائي يستطيع المدعي والمدعى عليه _مثلاً_ أن يعرف عند أي قاض وفي أي محكمة تفَضُّ خصومتهما، ومتى سيبدأ القاضي بالنظر في الخصومة.
وهذا كله يجعل معرفة الاختصاص القضائي من المهمات الضرورية في حياة المسلم الذي يبحث عن حق أو يدفع عن نفسه ضرراً، فقد يجهل كثير من الناس ويظنون أن كل محكمة يمكن أن تفصل بين خصوماتهم، أو أن كل قضية يمكن رفعها للقاضي الشرعي.
3_الاختصاص القضائي يعني الحدود الزمانية والمكانية والنوعية للقضاء والقضاة، وبمعرفة تلك الحدود تَبِينُ كثير من معالم القضاء، ولأهمية الاختصاص القضائي رأيت بعض قوانين الدولة قد ذكرت الاختصاص المكاني وغيره في بداياتها، كقانون الأحوال الشخصية، وقانون الإجراءات المدنية، وقانون العقوبات.(9/2)
ونظراً لأهمية البحث في الاختصاص القضائي، فإني أحببت المشاركة في المؤتمر الذي تقيمه جامعة الشارقة مشكورة، فالرجاء من الله تعالى أن يكون هذا البحث لبنة في ذلك الجهد المقدم.
4_ومن جانب آ خر فإن هذا البحث هو متابعة للبحوث الفقهية المكانية والزمانية، فقد كنت أعددت موضوعاً بعنوان "مواقيت العبادات الزمنية والمكانية دراسة فقهية مقارنة" ونلت به درجة الدكتوراه، ثم أتبعته بـ "مواقيت الجهاد الزمانية والمكانية"، أسأل المولى عز وجل أن يتممم هذا المشروع في كافة معالم الفقه الإسلامي.
ب_ أهداف البحث ومنهجه:
إبراز الاختصاص القضائي المكاني في المحاكم الشرعية في دولة الإمارات العربية المتحدة، مع المقارنة مع الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي؛ لأنه المعمول به أولاً إذا لم يوجد نص في القانون، كما قررت (المادة /2 ف 3) من قانون الأحوال الشخصية، وقد أعرضت عن المسائل الخلافية القديمة التي ليس لها تطبيق في المحاكم الشرعية.
تأصيل البحث تأصيلاً علمياً، واعتماد المصادر الأصلية.
إذا نقلت النص بالحرف وضعت له إشارة تنصيص، وإلا فلا.
ج_ خطة البحث
اشتمل هذا البحث على مقدمة وتمهيد ومباحث ثلاثة وخاتمة: وإليك تفصيل ذلك.
المقدمة وذكرت فيها أهمية البحث، وأهدافه، ومنهجه، وخطته.
التمهيد: وذكرت فيه تعريف القضاء _ والاختصاص القضائي _ وتحديد محور البحث.
المبحث الأول: وذكرت فيه نشأة الاختصاص القضائي والحكمة منه وأنواعه في الفقه الإسلامي _ وفي قانون دولة الإمارات:
المبحث الثاني: الاختصاص المكاني في الفقه:
المبحث الثالث: الاختصاص المكاني في المحاكم الشرعية في قانون دولة الإمارات العربية المتحدة:
الخاتمة وفيها أهم النتائج والتوصيات
د_ شكر وتقدير:
وحرصاً من جامعة الشارقة الغراء على مواصلة تلك الرسالة العلمية وإحياء علوم الشرع بكافة فروعها, فقد قامت مشكورة بتنظيم مؤتمر حول "القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال".(9/3)
لأجل ما سبق سعيت للمشاركة في هذا المؤتمر, في موضوع يخص المحور الثاني : تنظيم القضاء الشرعي و اختصاصاته في العصر الحاضر :
وسميت الموضوع: «الاختصاص القضائي الشرعي المكاني في المحاكم الشرعية لدولة الإمارات العربية المتحدة دراسة فقهية مقارنة».
فشكراً للجامعة بما فيها من مدرسين وإداريين على ما بذلوا ويبذلون من جهود في إنجاح هذا المؤتمر ونسأل الله تعالى أن يجعل أعمالهم في ميزان حسناتهم, ثم الشكر خاصة إلى أستاذنا الدكتور محمد الزحيلي والدكتور مكي إقلاينة حفظهما الله تعالى وكذا القائمين على إنجاح المؤتمر والله ولي التوفيق.
ثم الشكر أيضاً للقاضي المستشار عبيد بن محمد إبراهيم(1)، والشيخ القاضي محمد الأمين(2) الذين تكرما عليّ بمراجعة البحث وإبداء الملاحظات.
نسأل الله أن يجعل هذا البحث من الأعمال التي لا تنقطع بالوفاة, وأن يكون محل قبول لدى الجامعة، إنه سميع مجيب , رحيم قريب.
تمهيد: تعريف القضاء _ والاختصاص القضائي _ وتحديد محور البحث:
1: تعريف القضاء لغة واصطلاحاً:
القضاء لغة:
__________
(1) القاضي عبيد بن محمد إبراهيم: رئيس محكمة الاستئناف في المحكمة الاتحادية بالشارقة، ثم المنتدب لدائرة التفتيش القضائي بوزارة العدل، مفتش قاضي أول.
(2) القاضي محمد ولد محمد بيب الشنقيطي علامة الفقه المالكي: قاضي في محكمة الاتحادية العليا في الإمارات العربية المتحدة _ أبو ظبي.(9/4)
للقضاء معان عدة، قال أهل اللغة: قَضَيْتُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَعَلَيْهِمَا: حَكَمْتُ، وَقَضَيْتُ وَطَرِي: بَلَغْتُهُ وَنِلْتُهُ، وَقَضَيْتُ الْحَاجَةَ كَذَلِكَ، وَقَضَيْتُ الْحَجَّ وَالدَّيْنَ: أَدَّيْتُهُ؛ قَالَ تَعَالَى { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } أَيْ: أَدَّيْتُمُوهَا، فَالْقَضَاءُ هُنَا بِمَعْنَى الأدَاءِ، وَاسْتَقْضَيْتُهُ طَلَبْتُ قَضَاءَهُ، وَاقْتَضَيْتُ مِنْهُ حَقِّي أَخَذْتُ وَقَاضَيْتُهُ: حَاكَمْتُهُ، وَقَاضَيْتُهُ عَلَى مَالٍ: صَالَحْتُهُ عَلَيْهِ، وَاقْتَضَى الأَمْرُ الْوُجُوبَ: دَلَّ عَلَيْهِ(1).
القضاء في الاصطلاح الشرعي :
للقضاء عدة تعاريف أذكر تعريفها عند المذاهب الفقهية دون الخوض في تفاصيلها:
عرفه الحنفية بأنه : "إلْزَامٌ عَلَى الْغَيْرِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ نُكُولٍ"(2)
وعرفه المالكية بأنه : "صفةٌ حكميةٌ توجبُ لموصوفِها نفوذُ حكمهِ الشرعيِّ ولو بتعديلٍ أو تجريحٍ لا في عمومِ مصالحِ المسلمينَ (3).
وعرفه الشافعية بأنه : "إظْهَارُ حُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْوَاقِعَةِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إمْضَاؤُهُ"(4).
وعرفه الحنابلة بأنه : "( الإِلْزَامُ ) بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ( وَفَصْلُ الْخُصُومَاتِ )"(5).
2: تعريف الاختصاص لغة واصطلاحاً.
تعريف الاختصاص لغة:
التَّخْصِيصُ والاخْتِصَاصُ والخصوصيةُ والتَّخصصُ: تفرُّدُ بعضُ الشيءِ بما لا يشاركُهُ فيهِ الجملةُ، وذلك خلاف العمومِ والتَّعَمُمِ والتَّعميمِ، والخاصةُ ضدُّ العامةِ قال الله تعالى: (واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذينَ ظلمُوا منكمْ خاصةً) أي: بل تَعُمُّكم... (6).
__________
(1) المصباح المنير مادة قضي.
(2) غرر الأحكام لملا خسرو 2/404.
(3) حدود ابن عرفة ص433.
(4) أسنى المطالب لزكريا الأنصاري 4/277.
(5) كشاف القناع للبهوتي 6/285.
(6) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مادة خصص ج1/ص149.(9/5)
تعريف الاختصاص القضائي اصطلاحاً:
عرف الأصولييون التخصيص: بأنه: قصر العام على بعض أجزائه أو أفراده(1)، أي إفراد الشارع حكماً يخص بعض أفراد العام، ولا يتناول هذا الحكم باقي الأفراد.
كقوله تعالى:{ لا تَقْربوهنَّ حتى يَطْهُرْنَ } أي لا تقربوا النساء وهن في الحيض حتى يطهرن، مع أن بعض القربان غير منهي عنه قطعا(2).
ولقد تعددت تعاريف "الاختصاص القضائي" في الكتب الحديثة، ومؤدى تلك التعاريف هو: قصر ولاية القاضي(3)
__________
(1) شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي ص 387.
(2) شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي ص 388.
(3) إن ولاية القاضي إما أن تكون عامة أو خاصة:
فإن كانت ولايته عامة مطلقة التصرف في جميع ما تضمنته فعمله يشتمل على عشرة أحكام : الأول: فصل المنازعات وقطع التشاجر والخصومات , إما صلحا ... أو إجبارا بحكم بات يعتبر فيه الوجوب .
والثاني: استيفاء الحقوق ممن مطل بها وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها من أحد وجهين : إقرار , أو بينة.
والثالث : ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرف بجنون أو صغر والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فَلَس حفظا للأموال على مستحقيها وتصحيحا لأحكام العقود فيها.
والرابع : النظر في الأوقاف بحفظ أصولها وتنمية فروعها والقبض عليها وصرفها في سبيلها... والخامس : تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع ولم يحظره...
والسادس : تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدمن الأولياء ودعين إلى النكاح.
والسابع : إقامة الحدود على مستحقيها.
والثامن : النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والأفنية وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية...
والتاسع : تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم .
والعاشر : التسوية في الحكم بين القوي والضعيف والعدل في القضاء بين المشروف والشريف. وأما إن كانت ولاية القاضي خاصة فهي منعقدة على خصوصها، ومقصورة النظر على ما تضمنته؛ كمن قلد القضاء في بعض ما قدمناه من الأحكام العشرة، أو في الحكم بإقرار دون البينة، أو في الديون، دون المناكح... [وهذا يسمى الاختصاص النوعي كما سيأتي في الأعلى]. الأحكام السلطانية للماوردي ص89فما بعدها.(9/6)
على بعض مسمياتها، كأن يقيده وليُّ الأمر بزمان يحكم فيه, أو مكان يقضي فيه, أو قضية يحكم بها، أو أشخاص يفصل بينهم...
ومن تلك التعاريف:
1_ "الاختصاص في القضاء : هو ما لكل محكمة من المحاكم من سلطة القضاء، تبعاً لمقرها، أو لنوع القضية"(1).
2_ تعريف آخر "تخويل ولي الأمر، أو نائبه لجهة قضائية الحكمَ في قضايا عامة، أو خاصة ومعينة، وفي حدود زمان ومكان معينين، أو هو قدر ما لجهة قضائية ، أو محكمة من ولاية في فصل نزاع من المنازعات"(2).
ج_ تحديد محور البحث: يدور محور البحث على بيان الاختصاص القضائي المكاني فحسب، ويدرس البحث هذا الاختصاص من الناحية الفقهية، ومن الناحية القانونية ويتناول بالدراسة قوانين أربعة وهي: قانون الإجراءات المدنية والجزائية والأحوال الشخصية والعقوبات.
المبحث الأول: نشأة الاختصاص القضائي والحكمة منه وأنواعه في الفقه الإسلامي _ وفي قانون دولة الإمارات:
وإليك بيانه في مطالب أربعة:
المطلب الأول: نشأة الاختصاص القضائي في الشريعة الإسلامية:
1_روى الحاكم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن عليا فقال: "علَّمْهُمُ الشرائعَ واقضِ بينهم"، قال: لا علم لي بالقضاء، فدفع في صدره، فقال: "اللهم اهدهِ للقضاءِ"(3).
__________
(1) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدتور محمد الزحيلي ص43.
(2) الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي مع بيان التطبيق الجاري في المملكة العربية السعودية لناصر بن محمد الغامدي ص41، نقلاً عن التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية للدكتور سعود بن سعد آل دريب.
(3) المستدرك على الصحيحين،رقم 7003 ج4/ص99 ، قال الحاكم رحمه الله تعالى: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".(9/7)
2_ وروى البخاري رحمه الله تعالى في بَاب: بَعْثُ أبي مُوسَى وَمُعَاذٍ بن جبل رضي الله عنهما إلى الْيَمَنِ قبل حَجَّةِ الْوَدَاعِ عن أبي بُرْدَةَ رضي الله عنه أنه قال: بَعَثَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بن جَبَلٍ إلى الْيَمَنِ، قال: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على مِخْلافٍ، قال: وَالْيَمَنُ مِخْلافَانِ(1)، ثُمَّ قال: "يَسِّرَا، ولا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا، ولا تُنَفِّرَا"، فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلى عَمَلِهِ، وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذا سَارَ في أَرْضِهِ، وكان قَرِيبًا من صَاحِبِهِ، أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا، فَسَلَّمَ عليه، فَسَارَ مُعَاذٌ في أَرْضِهِ قَرِيبًا من صَاحِبِهِ أبي مُوسَى، فَجَاءَ يَسِيرُ على بَغْلَتِهِ، حتى انْتَهَى إليه، وإذا هو جَالِسٌ، وقد اجْتَمَعَ إليه الناس، وإذا رَجُلٌ عِنْدَهُ قد جُمِعَتْ يَدَاهُ إلى عُنُقِهِ، فقال له مُعَاذٌ: يا عَبْدَ اللَّهِ بن قَيْسٍ أَيُّمَ هذا؟ قال: هذا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، قال: لا أَنْزِلُ حتى يُقْتَلَ، قال: إنما جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ، فَانْزِلْ، قال: ما أَنْزِلُ حتى يُقْتَلَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُتِلَ...(2).
__________
(1) قال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري ج8/ص61: " المخلاف بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء، هو بلغة أهل اليمن وهو الكورة، والاقليم والرستاق بضم الراء وسكون المهملة بعدها مثناة وآخرها قاف، وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان من عمله الجَنَد بفتح الجيم والنون، وله بها مسجد مشهور إلى اليوم، وكانت جهة أبي موسى السفلى والله أعلم".
(2) صحيح البخاري ج4/ص1578.رقم 4086.(9/8)
دل حديث ابن عباس رضي الله عنهما الأول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث القضاة إلى الأماكن التي صارت تحت حكم الإسلام، والظاهر من هذه التولية القضائية في هذا الحديث أنها كانت عامة، بمعنى أنه يقضي في كل خصومة ترفع إليه وأنه قاض على كل اليمن ولا أحد معه.
من هنا قال الفقهاء يجوز أن يكون التقليد في القضاء عاماً وخاصاً:
قال الماوردي رحمه الله: "ويجوز أن يكون التقليد عاماً ومخصوصاً: فالعام أن يقلده قضاء جميع البلد، والقضاء بين جميع أهله، والقضاء في جميع الأيام، فتشتمل الولاية على الأحوال الثلاث: في جميع البلد، وعلى جميع أهله، وفي جميع الأيام"(1).
وقال ابن رشد رحمه الله تعالى: " اتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق؛ كان حقاً لله أو حقاً للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى"(2).
__________
(1) الحاوي الكبير للماوردي ج16/ص13.
(2) بداية المجتهد ج2/ص345.(9/9)
وأما حديث البخاري فدل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث نائبين له على اليمن معاذاً وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، وكان هذا في أواخر حياته الكريمة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آل بيته(1)، والظاهر أيضاً أنهما كانا قاضيين على ناحيتين من اليمن(2)، كل واحد على نصف من اليمن، كما يفهم من سياق هذا الحديث ومن شواهد أخرى عند غير البخاري (3)، فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحد منهما أي النواحي يستلم فيها قضاءه، فلا يحكم كل منهما إلا في مكانه المخصص له رغم تقارب الأرضين.
__________
(1) تنبيه: "كان بعث أبي موسى إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك لأنه شهد غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم...". فتح الباري ج8/ص62.
(2) أقول لا يستبعد أن يكونا واليين، ولا إشكال لأن من مهمتهما القضاء أيضاً والله أعلم، قال ابن حجر رحمه الله تعالى فتح الباري ج13/ص241: "وأمَّر على السواحل أبا موسى وعلى الجَنَد وما معها معاذ بن جبل وكان كل منهما يقضي في عمله ويسير فيه وكانا ربما التقيا كما تقدم". وقال القاري رحمه الله في عمدة القاري ج24/ص233: "قوله: بعثه أي أرسله إلى اليمن قاضياً ثم أتبعه بمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه".
(3) قال في مجمع الزوائد ج10/ص174:"عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على نصف اليمن ومعاذا على نصف اليمن فأتاه أبو موسى يسلم عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا موسى قل اللهم اهدني وسددني واذكر بهدايتك الهداية وبتسديدك تسديد سهمك" رواه الطبراني وفيه خالد بن نافع الأشعري وثقه ابن حبان وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات".وانظر الكامل في ضعفاء الرجال ج3/ص26 ،رقم.588(9/10)
والظاهر من الحديث أن ولاية القضاء عندهما كانت ولاية عامة يحكم في جميع الحقوق؛ سواء كانت لله تعالى أو للآدميين، لكنها مقيدة بجزء من اليمن، فالفرق بين الحديثين من حيث الولاية أن ولاية القضاء في الحديث الأول عامة، وفي الحديث الثاني مخصصة بالمكان.
وبعد سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم اتسعت تفريعات الاختصاص القضائي زمن الخلفاء الراشدين، ومن ذلك ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه للسائب بن يزيد رضي الله عنه: "اكفني صغار الأمور فكان يقضي في الدرهم ونحوه"(1) .
وهذا يسمى بالاختصاص النوعي كما سيأتي ذكره، لأنه اختص بقضاء الحقوق المالية دون غيرها.
وأقول: يمكن الاستدلال للاختصاص القضائي بقوله تعالى: { وداوودَ وسليمانَ إذْ يحكمانِ في الحرثِ إذْ نَفَشَتْ فيه غنمُ القومِ وكنا لحكمِهم شاهدينَ ففَهمناهَا سليمانَ وكلاً آتينا حكماً وعلماً} [الأنبياء آية 78_79].
فسليمان وداود عليهما السلام آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد ولما رعت غنم القوم الزرع، قضى فيه داود عليه السلام بأن الغنم تكون لصاحب الحرث؛ نظرا إلى تفريط أصحابها فعاقبهم بهذه العقوبة.
__________
(1) أخبار المدينة لأبي زيد النميري ج1/ص368، أخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان ج1/ص106.(9/11)
وحكم فيها سليمان عليه السلام بحكم موافق للصواب: بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث؛ فينتفع بدرها وصوفها، ويقومون على بستان صاحب الحرث حتى يعود إلى حاله الأولى، فإذا عاد إلى حاله ترَادَّا ورجع كل منهما بماله، وكان هذا من كمال فهم سليمان وفطنته عليه السلام، ولهذا قال ففهمناها سليمان أي فهمناه وألهمناه هذه القضية (1)، قال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: "قوله {ففهمناها سليمان} وذلك إما بأن جعل الله له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك وإما بأن ألقى ذلك في روعه أو بان أوحى إليه وخصه به"(2)، فهذا قد يسمى اختصاص قضائي من الله تعالى لسليمان عليه السلام، اختصه الله تعالى بفهم وحل هذه القضية، ويمكن إلحاق هذا الاختصاص بالاختصاص النوعي والمكاني والله أعلم.
مما سبق اتفق الفقهاء على أن ولاية القاضي يمكن أن تتسع فتكون عامة، ويمكن أن تضيق حسب الأمكنة والأزمنة والأشخاص؛ وزيادة أعمال القضاة واتساع رقعة البلد، ومدى ثقة الولاة بالقضاة علماً وذكاءً، وإنما تستفاد حدود ولاية القاضي من ألفاظ تولية ولي الأمر أو رئيس الدولة، وكل هذا مستفاد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم(3).
قال الماوردي رحمه الله: "ويجوز أن يكون التقليد عاماً ومخصوصاً... والمخصوص ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون مخصوصاً في بعض البلد.
والثاني: أن يكون مخصوصاً في بعض أهله.
والثالث: أن يكون مخصوصاً في بعض الأيام..."(4).
__________
(1) تفسير السعدي ج1:ص528
(2) المفردات في غريب القرآن ج1/ص386.
(3) يراجع الحاوي الكبير للماوردي ج16/ص13الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي لناصر الغامدي ص102.
(4) الحاوي الكبير للماوردي ج16/ص13.(9/12)
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولى بالولاية: يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع فقد يدخل في ولاية القضاة في بعض الأمكنة والأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب في مكان وزمان آخر، وبالعكس، وكذلك الحسبة وولاية المال وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية..."(1).
المطلب الثاني: أنواع الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي:
مما سبق ينقسم الاختصاص القضائي إلى أقسام أربعة:
الأول: الاختصاص المكاني: بأن يكون قضاء القاضي مقصوراً على جزء من البلد، لاعلى جميع البلد، أويكون على بلد معين دون غيره.
الثاني: الاختصاص الزماني: بأن يكون التقليد مقصوراً على بعض الأيام دون جميعها، أو يكون قضاء القاضي في جزء من النهار، دون باقيه.
الثالث: الاختصاص بأشخاص الخصوم: وذلك بأن التقليد مقصوراً على بعض أهل البلد دون جميعهم.
الرابع: الاختصاص النوعي أو الموضوعي: وذلك بأن يكون التقليد مقصوراً على نوع معين من القضايا والخصومات، كقضايا المناكحات، أو البيوع...
قال الحصكفي رحمه الله تعالى: "القضاء... يتخصص بزمان ومكان وخصومة"(2).
المطلب الثالث: أنواع الاختصاص القضائي في المحاكم الشرعية في قانون دولة الإمارات:
__________
(1) مجموع الفتاوى ج28/ص68.
(2) الدر المختار (مع حاشية ابن عابدين) 5/419، وينظر الحاوي الكبير للماوردي ج16/ص13، تحفة المحتاج لأدلة المنهاج 10/118، التاج والإكليل للمواق 8/98، القوانين الفقهية ج1/ص196، فقه القضاء والدعوى والإثبات للدكتور محمد الزحيلي ص137فما بعدها، الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي مع بيان التطبيق الجاري في المملكة العربية السعودية لناصر بن محمد الغامدي ص70، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة ص350.(9/13)
تميز قانون دولة الإمارات العربية المتحدة بالنسبة للمحاكم الشرعية وغيرها أنه قائم على الاختصاص القضائي، لاعلى عموم ولاية القاضي، بمعنى أن القانون حدد لكل محكمة مهماتها القضائية من حيث المكان وغيره.
ويقوم اختصاص المحاكم المدنية على وجود فئات متعددة من المحاكم في آن واحد وتتوزع الدعاوى عليها، ويختلف اختصاص كل منها باختلاف طبيعة الدعاوى، مع وجود عدد من المحاكم موزعة على الإمارات والمدن، واختصاص المحاكم المدنية على أنواع أربعة؛ وهي: الاختصاص المحلي أو المكاني، والاختصاص الزماني والاختصاص الدولي ، والاختصاص الموضوعي أو النوعي أو القيمي (1).
المطلب الرابع : الحِكمة والفوائد من التخصيص القضائي:
إن الاختصاص القضائي اليوم هو من أهم الضرويات في مجال القضاء، وهدف الشرع الحنيف من الاختصاص القضائي من حيث الدائرة القضائية والمركز القضائي هو تحقيق المصلحة في حق الخصوم، وخاصة المدعى عليه؛ لأن الأصل براءة ذمته، فيعرف الخصم في أي محكمة دعواه، وحتى لا يتكلف عناء السفر أو دفع النفقات.
ومن جانب آخر يخفف عن القضاة والمحاكم القضايا التي لا تخصهم، فيتسنى للقضاة إتقان عملهم، والتمكن العلمي في تخصصهم، فيضمن بذلك توزيع العمل القضائي، وما سنه الإسلام من هذا التخصيص المكاني هو من أساسيات تخطيط المدن...
المبحث الثاني: الاختصاص المكاني في الفقه:
وإليك بيان هذا الاختصاص في الفروع الآتية:
المطلب الأول: المقصود بالاختصاص المكاني:
المقصود بالاختصاص المكاني (أو المحلي):
إذا أطلق الاختصاص القضائي المكاني فإنه يراد منه عدة معان:
الأول: التحديد الجغرافي: كتحديد الدولة أو المدن أو القرى أو الضواحي، التي يجوز للقاضي النظر في القضايا التي تقع بين ساكنيها، أو الداخلين إليها.
__________
(1) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص43.(9/14)
الثاني: تحديد محل مباشرة القاضي للقضاء؛ أهو في المحكة، أم المسجد، أم داره، أم البوادي، أم غير ذلك مما يحدده ولي الأمر مكاناً للقضاء.
الثالث: تحديد المحكمة التي يجوز للخصوم رفع قضاياهم أمامها،كمحل إقامة المدعى عليه، أو محل العقار، أو محل الزوج، أومحل الزوجة، أو غير ذلك من المعايير التي يجمعها تحديد المحكمة المختصة بنظر النزاع(1).
المطلب الثاني: مشروعية التخصيص المكاني وحُكمه:
روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي بُرْدَةَ رضي الله عنه أنه قال: بَعَثَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بن جَبَلٍ إلى الْيَمَنِ، قال: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على مِخْلافٍ، قال: وَالْيَمَنُ مِخْلافَانِ، ثُمَّ قال: "يَسِّرَا، ولا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا، ولا تُنَفِّرَا"، فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلى عَمَلِهِ، وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذا سَارَ في أَرْضِهِ، وكان قَرِيبًا من صَاحِبِهِ، أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا، فَسَلَّمَ عليه، فَسَارَ مُعَاذٌ في أَرْضِهِ قَرِيبًا من صَاحِبِهِ أبي مُوسَى، فَجَاءَ يَسِيرُ على بَغْلَتِهِ، حتى انْتَهَى إليه، وإذا هو جَالِسٌ، وقد اجْتَمَعَ إليه الناس، وإذا رَجُلٌ عِنْدَهُ قد جُمِعَتْ يَدَاهُ إلى عُنُقِهِ، فقال له مُعَاذٌ: يا عَبْدَ اللَّهِ بن قَيْسٍ أَيُّمَ هذا؟ قال: هذا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، قال: لا أَنْزِلُ حتى يُقْتَلَ، قال: إنما جِيءَ بِهِ لِذَلِكَ، فَانْزِلْ، قال: ما أَنْزِلُ حتى يُقْتَلَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُتِلَ...(2).
__________
(1) الحاوي الكبير للماوردي ج16/ص13, التخصيص القضائي في الفقه الإسلامي ص291.
(2) صحيح البخاري ج4/ص1578.رقم 4086.(9/15)
هذا الحديث تقدم ذكره، وهو من أوضح الأدلة على مشروعية تخصيص القضاء بالمكان، وأنه لايجوز للقاضي أن يتعدى بحكمه المكان المخصص له أن يحكم فيه، كما يفهم من إلتزام أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما بمكان عملهما، وهذا الأمر أخذاه من صيغة خطاب النبي صلى الله عليه لهما.
وهكذا الشأن في كل قاض بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحدد له جهة ومكان عمله، فلا يتعداه؛ لذلك اتفق جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على أنه يجوز تعدد القضاة في البلد الواحد إذا تعين لكل قاض المكان الذي يقضي به، أو أن يخص بنوع من القضاء(1).
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 1/301، منح الجليل 8/281، القوانين الفقهية ج1/ص196، التاج والإكليل 8/98، الأحكام السلطانية للماوردي ص93.المغني لابن قدامة 15/135، 136، الفروع 5/420، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة ص351 .
ملحظ هام: والخلاف بين الفقهاء فيما إذا ولى الإمام قاضيين أو أكثر عملاً واحداً في مكان واحد : فذهب الحنفية في رأي إلى أنه يجوز أن يشترك القاضيان في قضية, وفي رأي آخر قالوا : لا يجوز، وبهذا قال المالكية، وللشافعية والحنابلة في ذلك رأيان : أحدهما - وهو الأصح أو الراجح - جواز ولاية القاضيين وإن لم يخصص الإمام كلاً من القاضيين بمكان أو نوع أو زمان. يراجع الأحكام السلطانية للماوردي ص93، منح الجليل 8/281، القوانين الفقهية ج1/ص196، المغني لابن قدامة 15/135، 136، الفروع 5/420، النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك ص346، 347، الموسوعة الفقهية 33/301، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة ص361.(9/16)
قال الباجي رحمه الله تعالى: " وأما أن يستقضى في البلد الحكام والقضاة ينفرد كل واحد منهم بالنظر في ما يرفع إليه من ذلك فجائز والدليل على ذلك أن هذا إجماع الأمة ; لأنه لم يختلف في ذلك أحد من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا"(1).
ويؤخذ من كلام جمهور الفقهاء أيضاً أن القاضي لا يجوز له أن يخالف الإمام في الاختصاص الذي أسنده إليه وإلا لم يصح قضاؤه.
قال البهوتي رحمه الله تعالى: "( ولا يحكم ) القاضي في غير محله ( ولا يسمع بينة غير عمله وهو ) في الأصل ما يجمع بلدانا أو قرى متفرقة , كالعراق ونواحيه , والمراد هنا ( محل حكمه ) الذي ولي ليحكم فيه سواء كان يجمع بلدانا أو قرى متفرقة أو بلدا معينا أو محلا معينا من البلد كما أوضحه في الحاشية . ( فإن فعل ) أي حكم أو ولي أو سمع بينة في غير عمله ( لغي ) ذلك لأنه لم يصادف ولاية"(2).
المطلب الثالث: اشتراط تعيين المحل أو المكان في صحة الولاية على القضاء:
يستفاد مما سبق أنه إذا عين ولي الأمر قاضياً، وجب عليه أن يخصصه بالمكان، بأن يحكم في دائرة مخصوصة، وأمكنة معينة، هل سيحكم في كامل إقليم الدولة، أم في بعض مدنها، أم في نواح من المدينة... كل ذلك يأخذه القاضي من صيغة التولية، لكي يعلم القاضي محل ولايته، ولا يحكم في غيرها، وإلا لم تصح التولية على القضاء، بل هي شرط لصحتها، وبهذا صرح المالكية والشافعية والحنابلة وظاهر كلام الحنفية .
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 5/183.
(2) كشاف القناع 6/290، مجمع الأنهر 2/738، القوانين الفقهية لابن جزي ص197، حاشية الجمل 5/336، الفروع 6/420.(9/17)
قال في "كشاف القناع" : " ( ومن شروط صحتها ) أي ولاية القضاء ...( تعيين ما يوليه المحكم فيه من الأعمال ) كمصر ونواحيها ( والبلدان ) كالمحلة ونحوها ليعلم محل ولايته فيحكم فيه ولا يحكم في غيره , ولأنه عقد ولاية، يشترط فيه الإيجاب والقبول , فلا بد من معرفة المعقود عليه كالوكالة" (1).
وقال الماوردي رحمه الله تعالى: "فإن قال [أي الإمام]: قلدتك قضاء البصرة أو الكوفة؛ لم يجز للجهل بالعمل، وكذلك لو قال: قلدتك قضاء أي بلد شئت، أو أي بلد رضيك أهله، لم يجز، وكان التقليد فاسداً، للجهل بالعمل"(2).
المطلب الرابع: معايير الاختصاص المكاني فقهاً:
حدد الفقهاء أهم المعايير التي تحكم الاختصاص القضائي المكاني عند حالة التنازع بين المدعي والمدعى عليه بحيث إذا رجع إليها عند النزاع تحدد القاضي المختص بنظر الدعوى، والذي يجوز أن ترفع الدعوى أمامه، ويجوز له أن يحكم بين الخصمين فيها، وأهم هذه المعايير:
1_ معيار الإقامة:
إذا كان المدعي والمدعى عليه يقيمان في موطن واحد : فلا خلاف في تحديد القاضي المختص بنظر النزاع بينهما، وهو قاضي موطنهما الذي يسكنون فيه.
والخلاف بين الفقهاء هو في حالة تعدد القضاة, واستقلال كل منهما بموطن يختص بالقضاء بين أهلها, ولا يتعداها إلى غيرها , فقد اختلف الفقهاء في تحديد القاضي المختص بنظر الدعوى، أهو قاضي موطن المدعي ، أم قاضي موطن المدعى عليه، أم قاضي موطن العقار ؟ وكان خلافهم على أقوال:
__________
(1) كشاف القناع للبهوتي 6/287.
(2) الحاوي الكبير للماوردي ج16/ص13، وينظر الأحكام السلطانية للماوري ص89، حاشية الجمل 5/336، مجمع الأنهر 2/738، تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين 1/301، الأشباه والنظائر لابن نجيم2/401، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/24، منح الجليل 8/281، قواعد الاختصاص القضائي في ضوء القضاء والفقه للدكتور عبد الحميد الشواربي ص12.(9/18)
القول الأول:رفع الدعوى إلى القاضي الذي يختاره المدعي(1):
ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية إلى أن الدعوى ترفع إلى القاضي الذي يختاره المدعي، وهذا قول المالكية إذا تعدد القضاة في نطاق بلد واحد , وكان المتنازعان من أهل هذا البلد .
قال المرداوي رحمه الله تعالى في "الإنصاف": "لو اختلف خصمان فيمن يحتكمان إليه قدم المدعي"(2).
واحتج أصحاب هذا الرأي بأن المدعي هو الذي لا يجبر على الخصومة, بحيث إذا تركها ترك وشأنه, فهو المنشئ للخصومة, فيعطى الخيار: إن شاء أنشأها عند قاضي مكانه هو, وإن شاء أنشأها عند قاضي مكان خصمه , فلأن الحق له في الدعوى جعل الحق له في تعيين القاضي.
القول الثاني: نظر الدعوى يكون للقاضي الذي يختاره المدعى عليه:
وإلى هذا الرأي ذهب محمد بن الحسن رحمه الله تعالى, وهو المفتى به عند الحنفية.
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم ومعه الكنز أيضاً 7/193، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 5/542، دررالحكام في شرح مجلة الأحكام 4/605، حاشية الدسوقي 4/135، منح الجليل لعليش 8/282، أسنى المطالب لزكريا الأنصاري 4/287، تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي 10/119، مغني المحتاج للخطيب الشربيني 6/269، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3/491، كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي 6/292، الموسوعة الفقهية الكويتية 20/278، الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي لناصر الغامدي ص418، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة ص358.
(2) الإنصاف للمرداوي 11/169.(9/19)
واستدلوا لهذا بأن المدعى عليه يدافع عن نفسه, والمدافع يطلب السلامة لنفسه , والأصل براءة ذمته, والظاهر يشهد له, فأخذه إلى من يأباه لريبة ثبتت عنده وتهمة وقعت له ربما يوقعه في ارتباك يحصل له, فيؤدي ذلك إلى إثبات ما ليس في الحقيقة ثابتا في ذمته, فالأولى مراعاة جانبه بالنظر إليه واعتبار اختياره, لأنه يريد الدفع عن نفسه, وخصمه يريد أن يوجب عليه, ومن طلب السلامة أولى بالنظر ممن طلب ضدها (1).
القول الثالث:
وهو ما ذهب إليه المالكية , فقد اتفقوا مع الشافعية وأبي يوسف في أن الاختيار يكون للمدعي في تحديد القاضي المختص بنظر الدعوى في حالة تعدد القضاة في نطاق البلد الواحد، إلا أنهم اختلفوا معهم في تحديده عندما يتعدد القضاة, وتتعدد البلاد , واختلفت آراؤهم في ذلك باختلاف المدعى به، وإليك بيان ذلك في الأحوال الآتية(2) :
الحال الأولى: دعاوى الدين:
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم ومعه الكنز أيضاً 7/193، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 5/542، دررالحكام في شرح مجلة الأحكام 4/605، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة ص356.
(2) تبصرة الحكام لابن فرحون 1/95، البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام، ومعه حلى المعاصم لفكر ابن عاصم لأبي عبد الله محمد التاودي 1/64، شرح ميارة على التحفة (محمد بن أحمد الفاسي) 1/22، الموسوعة الفقهية الكويتية 20/278، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة ص359.(9/20)
ففي دعاوى الدَّين , اتفقوا على أن الدعوى تنظر في المكان الذي يتعلق فيه الطالب بالمطلوب، ومعنى هذا؛ أن مدعي الدين له أن يختار من يشاء من القضاة إذا كان هو وخصمه في بلد واحد, وتعدد قضاته , وكانوا مستقلين بالنظر في جميع أنواع الدعاوى، فإن لم يكونا في بلد واحد فللمدعي أن يتعلق بخصمه في أي مكان يجده, ويطالب بحقه عند قاضي ذلك المكان .
الحال الثانية: دعاوى العين:
وفي دعاوى العين ينظر : إن كان المتخاصمان من بلدين مختلفين, وكلاهما في ولاية قاض واحد, فإن الدعوى ترفع إلى ذلك القاضي في مجلس قضائه, سواء أكان في بلد المدعي أم في بلد المدعى عليه, وحيثما كان المدعى به .
وأما إذا كان كل منهما في ولاية قاض , فعندهم في ذلك قولان :
القول الأول : وهو لابن الماجشون كما نقل عنه ابن حبيب , وفيه ذهب إلى أن الدعوى ينبغي أن ترفع إلى القاضي الموجود في محل الشيء المدعى؛ فإذا رفعت إليه الدعوى فإنه يسمع بينة المدعي , ويضرب لمن عنده الحق المدعى أجلا حتى يأتي , فيدفع عن نفسه , أو يوكل له وكيلا يقوم عنه بالخصومة في ذلك، ونقل فضل بن سلمة أن هذا الرأي ذهب إليه سحنون.(9/21)
القول الثاني : وهو قول مطرف وأصبغ , ويريان أن الدعوى إنما ترفع إلى قاضي موضع المدعى عليه, ولا يلتفت إلى موضع المدعي ولا موضع المدعى به، وهذا هو المشهور في المذهب المالكي , وقد نقله فضل بن سلمة عن ابن القاسم , ونقل بعضهم أن هذا هو عمل أهل المدينة, غير أنهم قالوا : إن من حق المدعي أن يبدأ بقاضي محلته , فيرفع إليه أمره , ويثبت عنده بينته , ثم يكتب قاضيه إلى قاضي محلة المدعى عليه بذلك , فيأخذ المدعي كتاب قاضيه ليقدمه إلى قاضي المدعى عليه , وإن شاء وكل غيره , وأرسله بالكتاب , فإذا قدم المدعي أو وكيله إلى قاضي المدعى عليه سلمه كتاب قاضيه , فإن ثبت عنده , قرأه على المدعى عليه , وسأله المخرج من ذلك إن كان له مخرج , وإلا أنفذ الحكم عليه . أما إذا لم يفعل المدعي ذلك وإنما قدم مباشرة إلى قاضي المدعى عليه , فإن كانت بينته معه , نظرت الدعوى , وطلب من المدعى عليه المخرج . أما إذا أعلمه المدعي أن بينته في مكان الشيء المدعى , كتب إلى قاضي محلة ذلك الشيء , وطلب منه تزويده بالبينة، وفي جميع الأحوال يعطى المدعي أو المدعى عليه المدة الكافية لتحضير الحجج والبينات.
غير أن أصبغ رحمه الله تعالى استثنى من ذلك ما لو وجد المدعي خصمه في محلته أو محلة ذلك الشيء المدعى , وتعلق به في المكان الذي وجده فيه , فإن القاضي الذي ينظر في الدعوى في هذه الحال هو قاضي المكان الذي تعلق به فيه .
تلك الآراء في تحديد القاضي المختص بنظر الدعوى معتبرة عند أصحابها فيما إذا تميز المدعي من المدعى عليه، لكن قد يصدف أن يعرف المدعي من المدعى عليه، إليك بيان هذه الحالة في المعيار الثاني.
2: معيار المسافة والقرعة:(9/22)
قد يكون كل من الطرفين مدعيا ومدعى عليه في آن واحد , وذلك كاختلافهما في قسمة الملك, أو كما إذا اختلفا في قدر ثمن مبيع أو قدر صداق اختلافاً يوجب تحالفهما, ففي هذه الحالة لا يمكن تطبيق المعيار الأول, وإنما ترفع الدعوى إلى أقرب القضاة من المتخاصمين , فإن تساويا في المسافة أقرع بينهما , فمن خرجت له القرعة كان القول له في تعيين القاضي المختص، فإن تساوى القاضيان بالقرب إليهما عملوا بالقرعة، وبهذا قال الشافعية والحنابلة.
قال الخطيب الشربيني رحمه الله تعالى: " فإن تساويا بأن كان كل منهما طالباً ومطلوباً كتحاكمهما في قسمة ملك أو اختلفا في قدر ثمن مبيع أو صداق اختلافاً يوجب تخالفهما تحاكما عند أقرب القاضيين إليهما , فإن استويا في القرب إليهما عمل بالقرعة , ولا يعرض عنهما حتى يصطلحا لئلا يؤدي إلى طول النزاع"(1).
وقال المالكية: إذا جُهل المدعي بحيث ادعى كل واحد من الخصمين أنه المدعي , أو أنه المدعى عليه، فإن القاضي يأمرهما بالانصراف عن مجلسه ومحل حكمه, ثم من رجع منهما قبل الآخر لمجلس القاضي فهو المدعي(2).
*************************************************************************
**************************************
المبحث الثالث: الاختصاص المكاني في المحاكم الشرعية في قانون دولة الإمارات العربية المتحدة:
مقدمة:
إن المعيار في الاختصاص الشرعي في المحاكم الشرعية بنظر القضايا هو بحسب نوع نوع القضايا وليس لمعيار المكان.
__________
(1) مغني المحتاج للخطيب الشربيني 6/269، الإنصاف للمرداوي 11/169، مطالب أولي النهى للرحيباني 6/464.
(2) شرح ميارة على التحفة (محمد بن أحمد الفاسي) 1/23.(9/23)
وتنقسم دولة الإمارات العربية المتحدة إلى سبع إمارات، وهي: أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة والفجيرة، وتتوفر المحاكم في جميع هذه الإمارات، بالإضافة إلى فتح محاكم في بعض المدن التي تتبع كل إمارة ، كمدينة العين التابعة لإمارة أبو ظبي، ومدينة خورفكان والذيد التابعتين لإمارة الشارقة، وهذا يقتضي تحديد كل محكمة للنظر في القضايا ، حتى لا يقع التنازع الإيجابي بين محكمتين بادعاء كل منهما أنها صاحبة الاختصاص، ولا يقع التنازع السلبي بأن تتخلى كل منهما عن النظر في الدعوى، وأنه من اختصاص الأخرى، ويكون هذا الاختصاص محلياً أي في مكان وجود المحكمة(1).
وقد حدد القانون الاختصاصَ المكاني (أو المحلي) بناء على إحدى ثلاثة اعتبارات:
الأول: باعتبار شخص المتداعيين: ويكون الاختصاص المحلي عندئذ إلى المحكمة الموجود في دائرتها موطن أحدهم ، وغالباً ما يكون موطن المدعى عليه، وسيأتي تفصيل هذا فقها وقانوناً.
الثاني: باعتبار موضوع النزاع: أي الشيء المتنازع عليه ، فيكون الاختصاص المحلي في نظر الدعوى إلى المحكمة الموجود في دائرتها هذا الشيء.
الثالث: باعتبار السبب القانوني للدعوى: فيكون الاختصاص المحلي للمحكمة التي تم العقد في دائرتها ، أو جرى تنفيذه، أو المحكمة التي حدثت فيها الواقعة التي نشأ عنها الضرر بأحد المتخاصمين في دائرتها، أو المحكمة التي فتحت التركة في دائرتها(2).
__________
(1) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص62،63. يراجع مبادئ قانون المرافعات المدنية والتجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور أحمد المليحي ص191 فما بعدها.
(2) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص63، يراجع.(9/24)
والاختصاص المحلي يتعلق بالمحكمة الابتدائية فقط، وأما محاكم الاستئناف فاختصاصها ينحصر في الدعاوى التي تنظر فيها جميع محاكم الدرجة الأولى الموجودة في دائرتها، فمحكمة استئناف الشارقة تنظر في جميع الأحكام التي تصدرها محاكم إمارة الشارقة، وكذلك فإن المحكمة الاتحادية العليا تنظر في جميع الأحكام التي تصدرها خمس إمارات وهي : إمارة أبو ظبي، وإمارة الشارقة، وإمارة عجمان، وإمارة أم القيوين ، وإمارة الفجيرة، وأما إمارة دبي وإمارة رأس الخيمة فلها محاكمه المستقلة عن المحاكم الاتحادية، وفي كل منها محاكم خاصة ابتدائية، واستئناف وتمييز(1).
ونعرض لبيان الاختصاص المكاني قانوناً من خلال بيان المواد التي تتحدث عن الاختصاص المكاني في قانون الإجراءات المدنية، وقانون الأحوال الشخصية، وقانون الإجراءات الجزائية، وقانون العقوبات، وإليك ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: الاختصاص المكاني في قانون الإجراءات المدنية وقانون الأحوال الشخصية:
عرض قانون الإجراءات المدنية الاتحادي الاختصاص المحلي للمحاكم في إحدى عشرة مادة (من المادة 31 إلى المادة 41) وقرر قانونا الإجراءات المدنية في المادة (31)، والأحوال الشخصية في المادة (7) مبدأً عاماً للاختصاص المكاني وهو باعتبار موطن المدعى عليه، وهو الأساس لتعيين المحكمة المختصة محلياً لنظر النزاع؛ لأن "الأصل براءة الذمة"، أي براءة ذمة المدعى عليه، وهي قاعدة شرعية قررتها (المادة /37 ) من قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة بقولها " الأصل براءة الذمة"(2).
__________
(1) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص43.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 1/202الأشباه، والنظائر للسيوطي ص52، النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك 327، 328.(9/25)
وفي القانونين ذُكرت عدة استثناءات لهذه القاعدة لتكون المحكمة المختصة محلياً إما محل وجود الشيء، أو محل انعقاد العقد وتنفيذه، أو محل حصول الواقعة، أو محل فتح التركة، أو موطن المدعي... (1)، وسيأتي تفصيل هذا في المطلب الآتي.
لقد عد قانون الإمارات أن المدعي هو الذي يسعى إلى المدعى عليه (2)في موطنه، لأنه هو المطالِب الذي يريد الحصول على حقه، فعليه أن يتبع مكان وجود المدعى عليه، الذي يعد مبدئياً بريئاً فيراعى جانبه، و قرر القانون في (المادة /31 ف1 إجراءات مدنية، والمادة /9ف1 قانون الأحوال الشخصية) أن الاختصاص المحلي ينحصر في الأصل بالمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، فإن لم يكن للمدعى عليه موطن في الدولة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها محل إقامته، أو محل عمله.
__________
(1) قواعد المرافعات للدكتور أحمد محمود ص211، أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص63.
(2) قال ابن عرفة رحمه الله تعالى " المدعي من عريت دعواه من مرجح غير شهادة والمدعى عليه من اقترنت دعواه به " قوله " من عريت دعواه " معناه أن لا يكون معها ما يشهد لها عرفا وهو المرجح لها كما إذا قال في ذمته عشرة دراهم فهذه دعوى لا شاهد لها عرفا على المدعى عليه قوله " غير شهادة " صفة للمرجح وأشار إلى أن المرجح إذا كان شهادة لا يخرج المدعي عن معناه لقوله عليه السلام { البينة على المدعي }، " والمدعى عليه إلخ " معناه الذي اقترنت دعواه بمرجح غير شهادة هذا معناه لأن الضمير من قوله به يعود على المرجح المذكور بصفته كمن ادعى رد وديعة كانت بغير إشهاد لأن العرف صحح قوله في ردها ودعواه ذلك لم يخالف به أصلا.شرح حدود ابن عرفة للرصاع ص470.(9/26)
وأما إذا تعدد المدعى عليهم كان الاختصاص المحلي للمحكمة التي يقع بدائرتها موطن أحدهم، أو محل إقامته، أو محل عمله؛ كما نصت على ذلك (المادة /31 ف4 ، إجراءات مدنية، والمادة /9ف1 قانون الأحوال الشخصية)، وللموطن أحكام أخرى في القانون إليك بيانها في الأمور الآتية(1):
1_ تعريف الموطن وأنواعه(2):
في القانون أربعة أنواع من الموطن إليك ذكرها:
أ_ الموطن الأصلي:
عرف القانون الموطن الأصلي بأنه : "المكان الذي يقيم فيه الشخص عادة" (المادة 81/ف1 معاملات مدنية).
__________
(1) وينظر أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص63، أصول قوانين المرافعات في دولة الإمارات العربية المتحدة (دراسة تأصيلية لقوانين المرافعات... للدكتور محمد نور عبد الهادي شحاته 1/332فما بعدها، الوجيز في الإجراءات المدنية للدكتور محمد نور عبد الهادي شحاته1/488فما بعدها.
ملحظ: ولبيان شروط تطبيق مواد الاختصاص المكاني يراجع: قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة لمحمد محمود ص140 فما بعدها.
(2) يراجع الإجراءات المدنية والتجارية الدولية (دراسة مقارنة) للدكتور عكاشة محمد عبد العال ص 44، فما بعدها، الولاية على المال (الأحكام الموضوعية) للمستشار الدكتور كمال حمدي ص284 فما بعدها، النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك 328، فما بعدها.(9/27)
فالموطن هو محل الإقامة المعتادة للشخص، ويكون في مقره الأصلي، ويشترط أن يكون عنصر الاستقرار ضرورياً لتحديد الموطن، ولا يكفي مجرد إقامة الشخص بصورة في محل ما، ولكن لا يشترط اتصال الإقامة دون إنقطاع، فلو تركه وهو ينوي الرجوع إليه فلا مانع، وكذا لو تخلل الإقامة فترات غيبة متقاربة أو متباعدة فلا تؤثر(1).
و"تختص محاكم الدولة بنظر الدعاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية التي ترفع على المواطنين، والأجانب الذين لهم موطن، أو محل إقامة، أو محل عمل في الدولة" (قانون الأحوال الشخصية المادة /6).
ب_موطن الأعمال:
وبجانب الموطن الأصلي هناك موطن العمل فقد ذكره قانون المعاملات المدنية (المادة 82) بقوله: "يعتبر المكان الذي يباشر فيه الشخص تجارة أو مهنة أو حرفة موطناً بالنسبة إلى إدارة الأعمال المتعلقة بهذه التجارة أو المهنة أو الحرفة".
ج_ الموطن المختار:
وذكره قانون المعاملات المدنية في (المادة /84 ف3) بقوله: "والموطن المختار لتنفيذ عمل قانوني يكون الموطن بالنسبة إلى كل ما يتعلق بهذا العمل بما في ذلك إجراءات التنفيذ الجبري إلا إذا اشترط صراحة قصر هذا الموطن على أعمال دون غيرها".
د_ الموطن القانوني:
__________
(1) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص64، قواعد المرافعات للدكتور أحمد محمود ص211 ، النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك 328، يراجع أصول المحاكمات المدنية للدكتور أحمد خليل ص106 فما بعدها، قواعد المرافعات في دولة الإمارات دراسة دراسة تحليلية وتطبيقية لقانون الإجراءات المدنية والتجارية الاتحادي رقم (11) لسنة 1992، للدكتور أحمد صدقي محمود ص211 ، نظرية الدفوع للدعوى القضائية في الفقه الإسلامي للدكتور محمود محجوب أبو النور ص221.(9/28)
هو موطن من ينوب عن القاصر والمحجور عليه ومن في معناهما، وقد ذكره القانون بقوله:
" 1_موطن القاصر والمحجور عليه والمفقود والغائب فهو موطن من ينوب عن هؤلاء قانوناً.
2_ويكون للقاصر المأذون له بالتجارة موطن خاص بالنسبة للأعمال والتصرفات التي يعتبره القانون أهلاً لمباشرتها". (المادة /83 ف1_2 معاملات مدنية، و المادة 9/ ب قانون الأحوال الشخصية).
2_ تعدد الموطن:
قد يتعدد الموطن لشخص واحد، كما نصت على ذلك (المادة 81/ف2 معاملات مدنية): فيكون له أكثر من موطن واحد، كالتاجر مثلاً، فيكون موطنه محل إقامته الدائم من أجل الدعاوى المتعلقة بشخصه، ويكون مكان تجارته موطناً له بالنسبة لإدارة الأعمال المتعلقة بالتجارة، ومثل ذلك الموظف فله موطنان: موطن سكنه وإقامته، ومكان ممارسة الوظيفة، وكذا الرجل المتزوج بامرأتين في بلدين مختلفين...
3_تعدد المدعى عليهم:
إذا تعدد المدعى عليهم في خصومةٍ ما، وكان موطن كل منهم يقع في دائرة محكمة غير الدوائر التي بها موطن الآخرين، فللمدعي في هذه الحالة الحق في أن يرفع دعواه أمام المحكمة التي يقع في دائرتها موطن أحدهم، كما نصت على ذلك (المادة 31/ف4) والقصد من ذلك هو التيسيير على المدعي حتى لا يضطر إلى رفع متعددة أمام محاكم مختلفة بما يترتب على ذلك من تجزئة الدعوى وزيادة النفقات... (1).
4_ اختيار الموطن:
__________
(1) النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك ص331، يراجع أصول المحكمات المدنية والتجارية... للدكتور أحمد هندي ص115.(9/29)
نصت (المادة / 84 معاملات مدنية) على أنه يحق للشخص أن يختار إلى جانب الموطن الأصلي موطناً مختاراً له، وهوالمكان الذي يتفق فيه مع الأطراف في التصرفات أو الخصوم في المحاكمات، على تعيينه لتنفيذ عمل قانوني معين، لتبليغ الأوراق القضائية المتعلقة بذلك العمل، بشرط أن يكون التعيين كتابياً حتى لايقع فيه نزاع أو إنكار أو اختلاف.
5_ وجود الموطن المختار:
قد يتم الاتفاق على إنشاء الالتزامات كالعقود والشركات والمعاهدات على موطن مختار لتنفيذها فيكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعى عليه أو الموطن المختار للتنفيذ (المادة /41إجراءات مدنية) وهنا أعطى المشرع المدعي حق اختيار أحد الموطنين(1).
6_ الوقت المحدد لتعيين الموطن:
إن العبرة بموطن الشخص أو المكان المحدد لتحديد الاختصاص المحلي هو وقت رفع الدعوى فإن غير الشخص موطن إقامته أو سكنه أو عمله بعد رفع الدعوى فلا يُعتد بذلك ، ولا يؤثر، لأن المحكمة صارت مختصة، وبدأت الدعوى، فلا تُنقل لمحكمة أخرى، حفاظاً على الوقت والحقوق المكتسبة(2).
7_ فقدان الموطن والإقامة والعمل(3):
__________
(1) النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك ص330، أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص65.
(2) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص65.
(3) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص63_64، النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك ص329، أصول المحاكمات الشرعية والحقوقية في دولة الإمارات العربية المتحدة للمستشار فتيحة محمود قرة ص 69.(9/30)
وإذا لم يكن للمدعى عليه موطن داخل الدولة، وليس له محل عمل يأوي إليه، ولا محل عمل يمارس فيه نشاطه، ولم يتيسر تعيين المحكمة المختصة، فقد حدد القانون الاختصاص المحلي بأن يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن المدعي، أو محل إقامته، فإن لم يكن للمدعي أيضاً موطن أومحل إقامة، فيكون الاختصاص لمحكمة العاصمة في أبو ظبي: (المادة / 40 إجراءات مدنية) (المادة 9/ف5 قانون الأحوال الشخصية) وذلك باعتبارها مركز الدولة.
ومحل الإقامة: هو المحل الذي يأوي إليه الشخص بصورة مؤقتة كالإقامة في فندق، أو في سكن مفروش، ومحل العمل: هو الذي يمارس فيه نشاطه داخل الدولة.
المطلب الثاني: استثناءات القاعدة لمحكمة موطن المدعى عليه:(9/31)
إن تحديد الاختصاص المكاني المحلي بحسب موطن المدعى عليه إقامته أو عمله أو مركز نشاطه قد يتعارض مع العدالة أحياناً، وقد يكون تضييقاً وقد يتنافى مع المصلحة العامة، لذلك استثنى القانون عدة حالات يكون الاختصاص المحلي بحسب موطن المدعي، أو المكان المدعى به، أو مكان إنشاء العقد أو تنفيذه، وإليك ذكر الأمثلة الآتية(1):
1_ الدعاوى العينية العقارية ودعاوى الحيازة:
حدد القانون (المادة /32 ف1 إجراءات مدنية) "في الدعاوى العينية العقارية ودعاوى الحيازة يكون الاختصاص للمحكمة التي يقع في دائرتها العقار أو أحد أجزائه إذا كان واقعاً في دوائر محاكم متعددة".
والسبب في الاستثناء أن هذه الدعاوى تتطلب غالباً الكشف عن العقار المتنازع عليه من قبل المحكمة أو بواسطة خبراء فنيين... وكل ذلك يسهل في مكان وجود العقار، وإلا كلف الأطراف وقتاً ومالاً، وتأخر البت في الدعوى.
2_ الدعاوى الشخصية العقارية:
__________
(1) ينظر تفصيل الفروع في: أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص67 فما بعدها، النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) للدكتور عاشور مبروك ص333 فما بعدها، قواعد الاختصاص القضائي في ضوء القضاء والفقه للدكتور عبد الحميد الشواربي ص190 فما بعدها، ، الوجيز في الإجراءات المدنية للدكتور محمد نور عبد الهادي شحاته1/494فما بعدها، يراجع أصول المحاكمات المدنية للدكتور أحمد خليل ص112 فما بعدها، قواعد المرافعات في دولة الإمارات دراسة دراسة تحليلية وتطبيقية لقانون الإجراءات المدنية والتجارية الاتحادي رقم (11) لسنة 1992، للدكتور أحمد صدقي محمود 216 ، يراجع أصول المحكمات المدنية والتجارية... للدكتور أحمد هندي ص117فما بعدها.
.(9/32)
في حالة الدعاوى التي تستند إلى حق شخصي، كالدعوى التي يرفعها مشتري العقار بموجب عقد غير مسجل، ويطلب فيها الحكم بصحة التعاقد وتسجيله في السجل العقاري... في مثل هذه الدعاوى خير القانون المدعي برفع الدعوى إما في المحكمة التي يقع في دائرتها العقار أو في موطن المدعى عليه( المادة /32ف2 إجراءات مدنية) لأن العوى تتعلق بالعقار من جهة، وبالمدعى عليه شخصياً من جهة أخرى.
3_ دعوى التعويض:
إذا وقع ضرر على النفس أو المال، وأراد المتضرر رفع دعوى التعويض عن هذا الضرر، فإن القانون خيره في رفع الدعوى أمام المحكمة التي يقع بدائرتها موطن المدعى عليه، أو محل إقامته أو محل عمله أو أمام المحكمة التي وقع الضرر في دائرتها استثناءً من القاعدة العامة (المادة 31ف2 إجراءات مدنية).
4_ الطلبات العارضة:
المراد بالطلبات العارضة كل طلب يطرأ على الدعوى أثناء سيرها، سواء كان ذلك من جانب المدعي، ويسمى بالطلبات الإضافية، وإن كانت من جانب المدعى عليه سميت بالطلبات المقابلة، وإن كانت من طرف ثالث سميت باختصام الغير ، وكل ذلك يرتبط بالدعوى الأولى التي تسمى الدعوى الأصلية، ويتم تعديل نطاق الخصومة من ناحية الموضوع أو الأشخاص.
وأراد القانون أن يختصر إجراءات الدعاوى، ويسهل الأمر على المتنازعين، فعدَّ قاضي المحكمة الأصلية هو قاضي الفرع للطلبات العارضة، ومنحه هذا الاختصاص ولو لم يكن مختصاً به بحسب الأصل، لكن إن ثبت أن الدعوى الأصلية لم تقم إلا بقصد جلب الطرف الثاني إلى هذه المحكمة لتنظر في دعوى ضمان كطلب عارض، فهنا يجوز للمدعى عليه _ وله الاختيار في ذلك ولا يجب عليه_ أن يتمسك بعدم اختصاص المحكمة للطلبات العارضة (المادة/39 إجراءات مدنية).
5_ إذن المحكمة أو موافقتها:(9/33)
جعل قانون الأحوال الشخصية (المادة /10 ف1_2) الاختصاص المحلي للمحكمة التي يقع في دائرتها موطن أو محل إقامة طالب الإذن، أو مقدم العريضة، وذلك في الحالات التي يوجب القانون على الأشخاص الحصول على إذن المحكمة أو موافقتها، والحالات التي يتطلب القانون فيها رفع الأمر إلى القاضي، فيقدم الطلب إلى المحكمة التي يقع في دائرتها موطن أو محل إقامة الطالب، وذلك بموجب أمر على عريضة ، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
وفي هذه الحالة يحق لكل ذي مصلحة التظلم من هذا الأمر خلال أسبوع من تاريخ إعلانه، وتصدر المحكمة حكمها بالتظلم بتأييده، أو تعديله، أو إلغائه، ويكون هذا الحكم قابلاً للطعن بطرق الطعن المقررة في القانون.
6_ الدعوى المتعلقة بالتركات:
إذا مات الإنسان وترك أموالاً؛ فإن كان الوارث وحيداً فتقام الدعاوى من الدائن على التركة أو من الموصى له بشيء من التركة، أمام المحكمة التي يقع في دائرتها موطن الوارث الوحيد عملاً بالقاعدة العامة، لأن التركة لاتحتاج إلى قسمة ، وتنتقل إلى الوارث بمجرد موت المورث.
وأما إن كان الورثة متعددين، وتعددت مواطنهم؛ فهنا اعتبر القانون أن "الدعاوى المتعلقة بالتركات التي ترفع قبل القسمة من دائن التركة أو من بعض الورثة على بعض تكون من اختصاص المحكمة التي يقع في دائرتها آخر موطن للمتوفى" ( المادة /34 إجراءات مدنية) ثم قال في قانون الأحوال الشخصية (المادة /9ف3) " فإن لم يكن للمتوفى موطن، أو محل إقامة، أو محل عمل في الدولة، كان الاختصاص للمحكمة النتي يقع في دائرتها أحد أعيان التركة".
7_ الدعوى المتعلقة بمسائل الولاية:(9/34)
إن الاختصاص المكاني بمسائل الولاية(1) يختلف اختصاصها بحسب نوع الولاية، وقد حددها قانون الأحوال الشخصية على النحو التالي:
"أ. في مسائل الولاية: بموطن أو محل إقامة الولي أو القاصر، وفي مسائل الوصاية بآخر موطن أومحل إقامة للمتوفى أو القاصر.
ب. في مسائل الحجر: بموطن أو محل إقامة المطلوب الحجر عليه.
ج. في مسائل الغيبة: بآخر موطن، أو محل إقامة، أو محل عمل للغائب.
د. إذا لم يكن لأحد من المذكورين في الفقرات (أ، ب، ج) موطن أو محل إقامة في الدولة، ينعقد الاختصاص للمحكمة الكائن في دائرتها موطن الطالب أو محل إقامته، أو المحكمة التي يوجد في دائرتها مال الشخص المطلوب حمايته.
هـ. على المحكمة التي أصدرت حكماً بالحجر، أو أمرت بسلب الولاية، أو وقفها، أن تحيل الدعوى إلى المحكمة التي يوجد بدائرتها أو محل إقامة القاصر لتعيين من يشرف عليه ولياً كان أو وصياً إذا تغير موطن أو محل إقامة القاصر أو المحجور عليه".
8_ دعاوى النفقة والحضانة والمهر المتعلقة بالزوجة والأقارب:
خير قانون الأحوال الشخصية طالب النفقة وغير النفقة مما يتعلق بالزوجة والأقارب في رفع الدعوى بين عدة جهات، فقال في (المادة /9 ف2): "تختص المحكمة التي يقع في دائرتها موطن، أو محل إقامة، أو محل عمل المدعي، أو محل المدعى عليه ، أو مسكن الزوجية ، بنظر الدعاوى المرفوعة من الأولاد، أو الزوجة، أو الوالدين، أو الحاضنة، حسب الأحوال في المسائل الآتية:
أ_ النفقات، والأجور، وما في حكمها.
__________
(1) الولاية لغة : النصرة , وشرعا : تنفيذ القول على الغير . وقد يكون مصدرها الشرع كولاية الأب والجد , وقد يكون مصدرها تفويض الغير كالوصاية ونظارة الوقف . والولايات متعددة كالولاية في المال , وفي النكاح , وفي الحضانة , وتختلف من تثبت له الولاية من نوع إلى نوع , فقد تكون للرجال فقط . وقد تكون للرجال والنساء... الموسوعة الفقهية 17/300.(9/35)
ب_ الحضانة، والرؤية، والمسائل المتعلقة بهما.
ج_ المهر، والجهاز والهدايا، ومافي حكمها.
د_ التطليق ، والخلع ، والإبراء ، والفسخ ، والفرقة بين الزوجين، بجميع أنواعها".
المطلب الثالث: الاختصاص المكاني في قانون الإجراءات الجزائية:
إن الأصل في تحديد الاختصاص المكاني او المحلي في أغلب التشريعات الإجرائية هو بمكان وقوع الجريمة، فإن لم يكن المكان معلوماً كان الاختصاص بالمكان الذي يقيم فيه المتهم ، أو الذي يقبض عليه فيه، فتعتبر كل محكمة مختصة مكانياً بنظر الدعوى إذا وقع في دائرتها أحد هذه الأماكن الثلاثة(1)، علماً بأنه في سنة 1996م صدر القانون الاتحادي رقم (3) والذي ينص على الآتي:
مادة (1): تختص المحاكم الشرعية دون غيرها بالإضافة إلى ما لديها من الاختصاصات الأخرى بنظر الجرائم الحدود والقصاص والديات والمخدرات والجرائم التي يرتكبها الأحداث، والجرائم التي تتصل بها أو تكون مقدمة لها.
مادة (2): تطبق الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالمواد المذكورة في المواد السابقة.
وقد عرض قانون الإجراءات الجزائية الاختصاص المحلي لمحاكم الجنح والجنايات كما يلي(2):
1_ اختصاص المحاكم الاتحادية بالجريمة:
__________
(1) شرح قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور أحمد أبو خطوة 2/24.
(2) أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور محمد الزحيلي ص65، 66، الوجيز في شرح قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي للدكتور مدحت رمضان ص 221، أصول قوانين المرافعات في دولة الإمارات العربية المتحدة (دراسة تأصيلية لقوانين المرافعات... للدكتور محمد نور عبد الهادي شحاته ص1/335 فما بعدها، يراجع شرح قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور أحمد أبو خطوة 2/25.
.(9/36)
يتعين اختصاص سائر المحاكم الاتحادية بالمكان الذي الذي وقعت فيه الجريمة (المادة /142 إجراءات جزائية) وذلك ليسهل على المحكمة الكشف عن مكان الجريمة؛ وللتعاون مع الشرطة والضابطة والنيابة التي قامت بأعمالها المتعلقة بالجريمة، سواء كان الفاعل مواطناً أو أجنبياً.
2_ حالة الشروع في الجريمة:
في حالة الشروع في الجريمة تعتبر الجريمة قد وقعت في كل محل وقع فيه عمل من أعمال البدء في التنفيذ فتختص المحكمة التي وقع الفعل في دائرتها، وكذلك في الجرائم المستمرة فيثبت الاختصاص لمحكمة كل مكان تقوم فيه حالة الاستمرار، وكذا في جرائم الاعتياد المتكررة، والجرائم المتتابعة، فيثبت الاختصاص لكل محكمة وقع في دائرها أحد الأفعال الداخلة فيها.(المادة 143 إجراءات جزائية).
3_ وقوع الجريمة خارج الدولة:
إذاوقعت جريمة خارج الدولة، وكانت مما يسري عليه أحكام القانون الوطني، كالجرائم التي يقترفها المواطن خارج الدولة، فترفع الدعوى على مرتكبها أمام المحاكم الجزائية في أبو ظبي (المادة 144 إجراءات جزائية).
4_ تنازع الجريمة إلى جهتين من جهات الحكم:
إذا قُدم متهم أو أكثر أو قدم متهم في عدة جرائم مرتبطة بعضها ببعض، إلى جهتين من جهات الحكم، وكانت كل منهما مختصة، فتجمع الدعوى أمام المحكمة التي قدمت إليها الدعوى أولاً، وتصبح هي المختصة حصراً، وتحال جميع الأعمال إليها (المادة 145 إجراءات جزائية).
5_ متى تقضي المحكمة بعدم الاختصاص؟
إذا رفعت دعوى أمام محكمة جزائية، ثم تبين لها في أية حالة كانت عليها الدعوى أنها غير مختصة بنظرها، فإنها تقضي مباشرة بعدم اختصاصها ولو بدون طلب (المادة 146 إجراءات جزائية).
المطلب الرابع: الاختصاص المكاني في قانون العقوبات:
يحكم تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان عدة قواعد؛ تتمثل في مبدأ الإقليمية والاستثناءات التي ترد عليه، وقد وردت تلك القواعد في المادة 16 وما يليها من قانون العقوبات الاتحادي.(9/37)
ويمكن القول بصفة عامة ومؤقتة إن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي الذي يتحقق فيه ركنها المادي أو جزء من هذا الركن، ولما كان الركن المادي للجريمة يقوم على عناصر ثلاثة وهي: الفعل والنتيجة والعلاقة السببية التي ترتبط بين هذا الفعل وتلك الجريمة، فإن الجريمة تعتبر واقعة في مكان وقوع الفعل، ومكان النتيجة ، وكل مكان تتحقق فيه الآثار المباشرة للفعل التي تتكون منها الحلقات السببية التي تربط ما بين الفعل والنتيجة، على أساس أن وقوع أي عنصر من عناصر الركن المادي للجريمة، يمثل خطورة على نظام وأمن الدولة الذي وقعت فيها الجريمة(1).
والذي يبرر انعقاد الاختصاص المكاني للمحكمة التي تقع في دائرتها الجريمة عدة أمور منها: في مكان وقوع الجريمة يسهل جمع الأدلة، وسماع شهود الجريمة، وسهولة حضورهم أمام المحكمة، وضمان تحقيق الردع العام الناشئ عن الحكم بالعقوبة في المكان نفسه الذي ارتكبت فيه الجريمة، فلا شك أن الأثر الرادع للعقوبة إنما يتحقق بصورة أمثل لدى الذين عاصروا الجريمة، أو علموا بأمرها(2).
بعد هذا إليك بيان الاختصاص المكاني في قانون العقوبات من خلال الفقرات الآتية:
1_ مبدأ إقليمية قانون العقوبات(3):
__________
(1) شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (القسم العام)... للدكتور حسن محمد ربيع 1/109.
(2) أصول المحاكمات الجزائية... للدكتور سليمان عبد المنعم والدكتور جلال ثروت ص544.
(3) شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (القسم العام)... للدكتور غنام محمد غنام ص64، 56، ويراجع شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (القسم العام)... للدكتور حسن محمد ربيع 1/102، فما بعدها.(9/38)
يقصد بهذا المبدأ أن قانون العقوبات يطبق على كل جريمة ترتكب في إقليم دولة الإمارات العربية المتحدة ، سواء كان الجاني وطنياً أم أجنبياً، وسواء أكان المجني عليه فيها وطنياً أم أجنبياً وفي ذلك قضت (المادة /16) من قانون العقوبات بأنه: "تسري أحكام هذا القانون على كل من يرتكب جريمة في إقليم الدولة، ويشمل إقليم الدولة أراضيها ، وكل مكان يخضع لسيادتها، بما في ذلك المياه الإقليمية والفضاء الجوي الذي يعلوها.
وتعتبر الجريمة مرتكبة في إقليم الدولة إذا وقع فيها فعل من الأفعال المكونة لها أو إذا تحققت فيها نتيجتها أو كان يراد أن تتحقق فيها".
ويدخل في هذا المبدأ ما لو وقعت بعض الجريمة أو كلها داخل الدولة، وكان الفاعل خارج الدولة، كمن يطلق رصاصة في شارع قريب من (البريمي) عمان فيصيب شخصاً منها، فإنه يرتكب جريمةً ما دام أن النشاط قد حدث على أرض إقليم الدولة... وعلى ذلك نصت (المادة/19) من قانون العقوبات بقولها: "يسري هذا القانون على كل من ارتكب فعلاً خرج الدولة يجعله فاعلاً أو شريكاً في جريمة وقعت كلها أو بعضها داخل الدولة".
2_ الجرائم الواقعة خارج الإقليم ويعاقب عليها القانون:
المبدأ الثاني في قانون العقوبات أنه كل جريمة تعود آثارها على الدولة يعاقب عليها القانون ولو كان الفاعل خارج الدولة، أو كانت الجريمة خارج الدولة.
نصت (المادة /20) من قانون العقوبات أيضاً على أن كل من ارتكب فعلاً خارج الدولة يجعله فاعلاً أو شريكاً في جريمة من الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي أو الداخلي.... وجرائم تزوير العملة...
ثم قال في المادة التالية: "يسري هذا القانون على كل من وجد في الدولة بعد أن ارتكب في الخارج بوصفه فاعلاً أو شريكاً جريمة تخريب أو تعطيل وسائل الاتصال الدولية أو جرائم الاتجار في المخدرات أو في النساء أو الصغار أو الرقيق أو جرائم القرصنة والإرهاب الدولي".(9/39)
3_ سريان أحكام القانون على السفن والطائرات الإماراتية:
لا ينحصر الاختصاص المحلي بأرض دولة الإمارات العربية المتحدة، بل يسري إلى بعض الوسائط الإماراتية وإن كانت خارج حدود دولة الإمارات، وعلى ذلك نصت (المادة /17) من قانون العقوبات بأنه: "تسري أحكام هذا القانون على الجرائم التي ترتكب على ظهر السفن والطائرات الحربية التي تحمل علم الدولة أينما وجدت.
وينطبق الحكم المتقدم على السفن الحكومية غير الحربية التي تملكها الدولة أو تديرها لأغراض حكومية غير تجارية"(1).
4_ اسثناء الجرائم التي تقع على ظهر السفن الأجنبية في الموانئ:
استثنى القانون الجرائم التي تقع على ظهر السفن الأجنبية في إحدى الموانئ في الدولة أو في بحرها الإقليمي، أو الجرائم التي ترتكب على ظهر الطائرات الأجنبية في إقليم الدولة، فهذه الجرائم لا تخضع لأحكام القانون في الدولة، إلا في حالات أربع:
الأولى: أن تمتدآثار الجريمة إلى الدولة.
الثانية: إذا عكرت الجريمة السلم في الدولة، أو أخلت في الآداب العامة، أو أخلت بحسن النظام في الموانئ أو البحر الإقليمي.
الثالثة: أن يطلب ربان السفينة أو قنصل الدولة المعونة من السلطات المحلية.
الرابعة: أن يكون الجاني أو المجني عليه من رعايا الدولة.
الخاتمة
وفيها أهم النتائج والتوصيات:
أوصي نفسي وإخواني المسلمين بتقوى الله تعالى، والإخلاص في العمل.
متابعة البحوث في التخصيص القضائي المكاني والزماني والنوعي، حتى ترتسم حدود القضاء على أفضل وجه.
العمل على إيجاد شبكة إلكترونية بين محاكم الدولة، لتسهيل الأمور القضائية، ومنع تلاعب المدعين.
إعطاء القضاة الأجانب إقامة دائمة في دولة الإمارات العربية المتحدة، حتى ينطلق قراره من منطلق شجاع وواثق وشجاع.
تم البحث ولله الحمد والشكر
__________
(1) يراجع شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (القسم العام)... للدكتور حسن محمد ربيع 1/106 فما بعدها.(9/40)
وكتبه الدكتور نزار محمود الشيخ
رأس الخيمة 28_ 2_ 2006م
المصادر والمراجع
مرتبة أبجدياً بعد القرآن الكريم
القرآن الكريم
الإجراءات المدنية والتجارية الدولية (دراسة مقارنة)... للدكتور عكاشة محمد عبد العال، منشورات الحلبي الحقوقية ، بيروت 2002م.
الأحكام السلطانية لعلي بن محمد الماوردي ، دار الكتب العلمية.
أخبار القضاة، تأليف: محمد بن خلف بن حيان، دار النشر: عالم الكتب – بيروت.
أخبار المدينة (تاريخ المدينة المنورة) ، تأليف: أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1417هـ-1996م، تحقيق: علي محمد دندل وياسين سعد الدين بيان.
الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي لناصر الغامدي، مكتبة الرشد الرياض.
أسنى المطالب لزكريا الأنصاري، دار الكتاب الإسلامي.
الأشباه والنظائر لابن نجيم، دار الكتب العلمية.
الأشباه والنظائر لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، دار الكتب العلمية.
أصول المحاكمات الجزائية... للدكتور سليمان عبد المنعم والدكتور جلال ثروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
أصول المحاكمات الشرعية الجزائية للدكتور أسامة علي الربابعة، دار النفائس الأردن، 1425هـ _ 2005م.
أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة لأستاذنا الدكتور محمد الزحيلي، مركز البحوث والدراسات سنة2004م..
أصول المحاكمات الشرعية والحقوقية في دولة الإمارات العربية المتحدة للمستشار فتيحة محمود
أصول المحاكمات المدنية للدكتور أحمد خليل ، الدار الجامعية.
أصول المحكمات المدنية والتجارية... للدكتور أحمد هندي، الدار الجامعية.
أصول قوانين المرافعات في دولة الإمارات العربية المتحدة (دراسة تأصيلية لقوانين المرافعات... للدكتور محمد نور عبد الهادي شحاته، كلية الشرطة بدبي، 1410هـ _1990م.
الإنصاف لعلي بن سليمان المرداوي، دار إحياء التراث العربي.(9/41)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم زين الدين بن إبراهيم كنز الدقائق، دار الكتاب الإسلامي.
البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام، دار الرشاد الحديثة ، الدار البييضاء، 1412هـ _1991م.
البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام، دار الرشاد الحديثة، الدار البييضاء، 1412هـ _1991م.
التاج والإكليل لمحمد بن يوسف العبدري (المواق)، دار الكتب العلمية.
تبصرة الحكام لإبراهيم بن علي (ابن فرحون) دار الكتب العلمية.
تحفة المحتاج لأدلة المنهاج أحمد بن محمد (ابن حجر الهيتمي) دار إحياء التراث العربي.
تفسير السعدي (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) تأليف: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار النشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - 1421هـ- 2000م، تحقيق: ابن عثيمين.
تنقيح الفتاوى الحامدية محمد أمين (ابن عابدين) دار إحياء التراث العربي.
حاشية الجمل لسليمان بن منصور المصري، دار الفكر.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي، دار إحياء الكتب العربية.
الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح مختصر المزني، تأليف: علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان - 1419 هـ -1999 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض - الشيخ عادل أحمد عبد الموجود
حدود ابن عرفة المكتبة العلمية.
حلى المعاصم لفكر ابن عاصم لأبي عبد الله محمد التاودي، مطبوع مع البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام، دار الرشاد الحديثة، الدار البييضاء، 1412هـ _1991م.
الدر المختار: لعلاء الدين الحصكفي (مطبوع مع حاشية ابن عابدين) دار الكتب العلمية بيروت.
دررالحكام في شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ، دار الجيل.
دقائق أولي النهى(9/42)
رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين دار الكتب العلمية بيروت.
الشرح الكبير لأبي البركات سيدي أحمد الدردير، دار إحياء الكتب العربية.
شرح الكوكب المنير لأبي البقاء الفتوحي، مطبعة السنة المحمدية.
شرح حدود ابن عرفة لمحمد بن قاسم الرصاع، المكتبة العلمية.
شرح حدود ابن عرفة محمد بن قاسم الرصاع، المكتبة العلمية.
شرح قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور أحمد أبو خطوة، الطبعة الأولى 1411هـ _ 1990م.
شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (القسم العام)... للدكتور غنام محمد غنام مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى 2003م.
شرح قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة (القسم العام)... للدكتور غنام محمد غنام، مطبوعات جامعة الإمارات، الطبعة الأولى 2003م.
شرح منتهى الإرادات، لمنصور بن يونس البهوتي، عالم الكتب.
شرح ميارة على التحفة (محمد بن أحمد الفاسي)، دار المعرفة.
صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، دار النشر: دار ابن كثير , اليمامة - بيروت - 1407 - 1987، الطبعة: الثالثة، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، تأليف: بدر الدين محمود بن أحمد العيني، دار النشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت
غرر الأحكام لمحمد بن فرموزا (ملا خسرو) دار إحياء الكتب العربية.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، تأليف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار النشر: دار المعرفة - بيروت، تحقيق: محب الدين الخطيب.
الفروع لابن مفلح المقدسي, دار عالم الكتب.
الفواكه الدواني للشيخ أحمد بن غنيم النفراوي, دار الفكر.
قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية المتحدة قانون اتحادي رقم(35) لسنة 1992م.(9/43)
قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة النصوص القانونية . المذكرة الإيضاحية...لمحمد محمود، جمهوريه مصر العربية 1999م.
قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة قانون اتحادي رقم(11) لسنة 1992م.
قانون الأحوال الشخصية قانون اتحادي رقم(28) لسنة 2005م.
قانون العقوبات لدولة الإمارات العربية المتحدة قانون اتحادي رقم(3) لسنة 1987.
قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة قانون اتحادي رقم (5) لسنة 1985م.
قواعد الاختصاص القضائي في ضوء القضاء والفقه... للدكتور عبد الحميد الشواربي، منشأة المعارف بالسكندرية.
قواعد المرافعات في دولة الإمارات دراسة دراسة تحليلية وتطبيقية لقانون الإجراءات المدنية والتجارية الاتحادي رقم (11) لسنة 1992، للدكتور أحمد صدقي محمود ،الطبعة الأولى 1999م.
القوانين الفقهية: لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي، دار القلم، بيروت، بدون تاريخ للنشر.
الكامل في ضعفاء الرجال، تأليف: عبدالله بن عدي بن عبدالله بن محمد أبو أحمد الجرجاني، دار النشر: دار الفكر - بيروت - 1409 - 1988، الطبعة: الثالثة، تحقيق: يحيى مختار غزاوي.
كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يوسف البهوتي، دار الكتب العلمية.
كنز الدقائق كنز الدقائق _ ومعه البحر الرائق_دار الكتاب الإسلامي.
مبادئ قانون المرافعات المدنية والتجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة للدكتور أحمد المليحي، دار القلم ، دبي 1406هـ _ 1986م.
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، اعبد الرحمن شيخي زاده، دار إحياء التراث العربي.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف: علي بن أبي بكر الهيثمي، دار النشر: دار الريان للتراث/ دار الكتاب العربي - القاهرة , بيروت – 1407(9/44)
مجموع الفتاوى (كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) تأليف: أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار النشر: مكتبة ابن تيمية، الطبعة: الثانية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي.
المستدرك على الصحيحين، تأليف: محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1411هـ - 1990م، الطبعة: الأولى، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأحمد بن محمد الفيومي، المكتبة العلمية.
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى لمصطفى الرحيباني, المكتب الإسلامي.
مغني المحتاج لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية.
المغني لابن قدامة المقدسي, دار إحياء التراث العربي.
المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد (لراغب الأصفهاني)، تأليف: ، دار النشر: دار المعرفة - لبنان، تحقيق: محمد سيد كيلاني
المنتقى شرح الموطأ لسليمان بن خلف الباجي، دار الكتاب الإسلامي.
منح الجليل لعليش منح الجليل شرح على مختصر سيدي خليل: للشيخ محمد عليش دار الفكر.
الموسوعة الفقهية الكويتية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، وزارة الأوقاف الكويتية.
نظرية الدفوع للدعوى القضائية في الفقه الإسلامي للدكتور محمود محجوب أبو النور الدار السودانية للكتب _ الخرطوم.
النظرية العامة لقانون القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة (قوانين المرافعات) دراسة مقارنة بالشريعة الإسلامية، للدكتور عاشور مبروك جامعة الإمارات العربية المتحدة 1992_1993.
الوجيز في الإجراءات المدنية للدكتور محمد نور عبد الهادي شحاته، كلية شرطة دبي ، 1995م.
الوجيز في شرح قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي للدكتور مدحت رمضان مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة.
الولاية على المال (الأحكام الموضوعية) للمستشار الدكتور كمال حمدي، الناشر منشأة المعارف بالسكندرية، عام 2003م.(9/45)
تمت المراجع ولله الحمد
الفهرس
مقدمة: ... 2
تمهيد: تعريف القضاء _ والاختصاص القضائي _ وتحديد محور البحث: ... 4
1: تعريف القضاء لغة واصطلاحاً: ... 4
2: تعريف الاختصاص لغة واصطلاحاً. ... 4
ج_ تحديد محور ... 5
البحث: المبحث الأول: نشأة الاختصاص القضائي والحكمة منه وأنواعه في الفقه الإسلامي _ وفي قانون دولة الإمارات: ... 5
المطلب الأول: نشأة الاختصاص القضائي في الشريعة الإسلامية: ... 5
المطلب الثاني: أنواع الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي: ... 8
المطلب الثالث: أنواع الاختصاص القضائي في المحاكم الشرعية في قانون دولة الإمارات: ... 8
المطلب الرابع : الحِكمة والفوائد من التخصيص القضائي: ... 9
المبحث الثاني: الاختصاص المكاني في الفقه: ... 9
المطلب الأول: المقصود بالاختصاص المكاني: ... 9
المطلب الثاني: مشروعية التخصيص المكاني وحُكمه: ... 9
المطلب الثالث: اشتراط تعيين المحل أو المكان في صحة الولاية على القضاء ... 10
المطلب الرابع: معايير الاختصاص المحلي فقهاً: ... 11
المبحث الثالث: الاختصاص المكاني في المحاكم الشرعية في قانون دولة الإمارات العربية المتحدة: ... 14
المطلب الأول: الاختصاص المكاني في قانون الإجراءات المدنية وقانون الأحوال الشخصية: ... 14
المطلب الثاني: استثناءات القاعدة لمحكمة موطن المدعى عليه: ... 18
المطلب الثالث: الاختصاص المكاني في قانون الإجراءات الجزائية: ... 20
المطلب الرابع: الاختصاص المكاني في قانون العقوبات: ... 21
الخاتمة وفيها أهم النتائج والتوصيات ... 23
المصادر والمراجع ... 24
الفهرس ... 28
تم البحث بحمد الله تعالى(9/46)
الاختصاص المذهبي
في القضاء الشرعي
وتطبيقاته المعاصرة
الدكتور
عبد الله بن إبراهيم الموسى
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء
بحث مقدم لندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر
( الواقع والآمال )
المنعقدة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة
ما بين 4 - 6 أبريل ( نيسان ) م2006
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، أمر بإقامة العدل بين الناس فقال : ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ? [ النحل : 90 ] ، ونهى عن الظلم والطغيان ولو مع الأعداء فقال : ? وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا" اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [ المائدة : 8 ] . والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، المرسي قواعد العدل بقوله : (( فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) (1) .
__________
(1) البخاري ( 6787 ) كتاب الحدود ، باب : إقامة الحدود على الشريف والوضيع ، ومسلم
( 1688 ) كتاب الحدود ، باب : قطع السارق الشريف وغيره ، والنهي عن الشفاعة في الحدود ، واللفظ له .(10/1)
وبعد : فإن موضوع القضاء من أهم المناصب والمسؤوليات في المجتمع الإسلامي ، كيف لا وبه تتحقق العدالة ، ويذاد الظلم والطغيان ، وتزول الشحناء وتسوى الخصومات ، وتجتث العداوات ، وتصان الدماء والأعراض والأموال . وهو الصورة الحقيقية لكل مجتمع وعنوان رقيه وحضارته ، وصدق القائل : إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الجائرة ولو كانت مسلمة . وإن مما يساعد على تحقيق هذا المعنى - العدالة الاجتماعية - نشوء التخصص في القضاء ، ففيه تنظيم الأمور وتحديد المسؤوليات ، فيكون القاضي على بينة ومعرفة في القضايا المعني بها .
وإن هذا البحث الموسوم بـ ( الاختصاص المذهبي في القضاء الشرعي ) محاولة لإبراز هذا الجانب من القضاء الشرعي ، الذي أوجدته الظروف ، من توسع البلاد ، وتشعب أمور الحياة ، فلم يعد بالإمكان أن يتولى قاضٍ واحد شؤون بلدة بأسرها ، كما كان في صدر الإسلام ، فكان لا بد من الاختصاص المكاني والزماني ، والاختصاص بالأشخاص أو بقضايا معينة ، أما الاختصاص المذهبي فهو الاختصاص الذي يدخل في جميعها ؛ لأنه مرجعية القاضي في إصدار الحكم ، على عموم الاختصاصات السابقة .
وإن كانت هذه الدراسة - قاصرة في نظري - إلا أنه أرجو أن تكون محاولة لبيان أهمية هذا الاختصاص وموقعه من القضاء الشرعي .
ولا يسعني إلا أن أشكر عمادة كلية الشريعة بجامعة الشارقة ومن ساهم في تنظيم هذه الندوة ، التي أرجو أن تضيف جديداً إلى الفقه الإسلامي عموماً ، وإلى القضاء الشرعي خصوصاً . فهي ندوة هامة في موضوعها ، سامية في أهدافها وأغراضها ، وهذا شأن جامعة الشارقة التي آلت على نفسها عقد مثل هذه الندوات والمؤتمرات بين الحين والآخر ، اهتماماً بواقع الأمة، وربطاً بين أبنائها ، وتوثيقاً لأواصر الإخاء والمحبة بين الباحثين .
هذا وقد جاء البحث مكوناً من تمهيد وثلاثة مطالب وخاتمة على النحو التالي :(10/2)
التمهيد : في تعريف القضاء والمذهب والاختصاص القضائي والمذهبي ، وأنواع الاختصاص القضائي .
المطلب الأول : في تاريخ الاختصاص المذهبي في القضاء ومسوّغاته .
المطلب الثاني : في التزام القاضي بالمذهب .
المطلب الثالث : في تطبيقات الاختصاص المذهبي المعاصر في قضاء بعض الدول العربية .
الخاتمة : في أبرز النتائج والتوصيات .
فإن أصبت فلله الفضل والمنة ، وإن كانت الأخرى فمن نفسي والشيطان ، وأرجو ألا أعدم الأخ الناصح ، والزميل الناقد ، فهو عمل بشر لا يخلو من النقص والخلل .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
د . عبد الله بن إبراهيم الموسى
الأحساء : 6/2/1427هـ
6/3/2006م
التمهيد
ويتناول النقاط التالية : تعريف القضاء ، تعريف المذهب ، تعريف الاختصاص القضائي والمذهبي ، أنواع الاختصاص القضائي .
1- تعريف القضاء :
القضاء لغة : الحكم ، والجمع أقضية ، والقاضي : القاطع للأمور المحكم لها . ويطلق على عدة معانٍ منها :
الحكم : قال تعالى : ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُو%ا إِلاَّ% إِيَّاهُ ? [ الإسراء : 23 ] .
الصنع والتقرير : قوله تعالى : ? فَقَضَـ!ــهُنَّ سَبْعَ سَمَـ!ـوَ !تٍ فِي يَوْمَيْنِ ? [ فصلت : 12 ] .
الفراغ : تقول : قضيت حاجتي ، أي : فرغت منها .
الأداء : تقول : قضيت ديني ، أي : أديته .
الإهلاك : تقول ضربه فقضى عليه .
وهناك معان أخرى ، اقتصرنا على أبرزها (1) .
شرعاً : فقد عرف فقهاء المذاهب القضاء على النحو التالي :
الحنفية : بأنه الحكم بين الناس بالحق (2) .
المالكية : بأنه الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام (3) .
الشافعية : بأنه إلزام من له الإلزام بحكم الشرع (4) .
__________
(1) ر : لسان العرب ( 15/186 ) ، والمصباح المنير ص ( 262 ) ، مادة ( قضى ) .
(2) بدائع الصنائع ( 7/2 ) .
(3) مواهب الجليل ( 8/64 ) .
(4) حاشية البجيرمي ( 4/345 ) .(10/3)
الحنابلة : قالوا : القضاء هو تبيين الحكم الشرعي والإلزام به ، وفصل الخصومات (1) .
فمحور هذه التعريفات أن القضاء : إخبار عن حكم الله تعالى في القضية ، وإلزام المتخاصمين بموجب هذا الحكم .
2- تعريف المذهب :
لغة : يطلق على المتوَضَأ ، والمرِفق ، والطريقة ، ومكان الذهاب ، والمقصد والمعتقد ، كما يطلق على الأصل ، يقال : لا يدرى له مذهب ، أي : أصل (2) .
وشرعاً : قال الحطاب : « صار - أي المذهب - حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية » (3) .
كما يطلق عند متأخري المالكية على ما به الفتوى ، من باب إطلاق الشيء على جزئه الأهم ، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الحج عرفة )) (4) ؛ لأن ذلك هو الأهم عند الفقيه
المقلد (5) .
3- تعريف الاختصاص القضائي :
الاختصاص لغة : تقول : خصه بالشيء يخصه خصاً وخصوصاً وخصوصية ، واختص فلان بالأمر : انفرد به دون غيره ، ومخِصّ فلان : أي خاص به وله به خصّية ، والخاصة : خلاف العامة .
أما الخصاصة : فهي الجوع والفقر ، وهناك معانٍ أخرى (6) .
وشرعاً : لا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي ، فقد عرفه الأصوليون بأنه : كل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد (7) .
ومن أنواع الاختصاصات :
اختصاصه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء بأمور ، كما جاء في
__________
(1) حاشية الروض المربع ( 7/508 ) .
(2) ر : لسان العرب ( 1/394 ) ، والمصباح المنير ص ( 111 ) ، مادة ( ذهب ) .
(3) مواهب الجليل ( 1/34 ) .
(4) النسائي ( 3018 ) كتاب : مناسك الحج ، باب : فرض الوقوف بعرفة .
(5) مواهب الجليل ( 1/34 ) .
(6) ر : لسان العرب ( 7/37 ، مادة : ( خصص ) .
(7) الوجيز في أصول الفقه ، زيدان ص ( 279 ) .(10/4)
الحديث : (( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة )) (1) .
اختصاصه صلى الله عليه وسلم دون أمته بأمور مثل : إباحة الزواج بأكثر من أربع ، والزواج دون مهر ، ومواصلة الصيام ، ونحوه .
اختصاص بعض الأمكنة والأزمنة بمزيد من الأجر والثواب : كالصلاة في المساجد الثلاثة ، وإجابة الدعاء عند الملتزم والمشعر الحرام ، وهذا في
الأمكنة ، أما في الأزمنة : فمضاعفة الأجر في شهر رمضان ، ويوم عرفة ، وإجابة الدعاء في الثلث الأخير من الليل ونحو ذلك .
فالخلاصة أن معنى الاختصاص عموماً : انفراد الشخص بأمور لا يشاركه فيها غيره.
وهذا لا يعني أن لا يشاركه أحد في الوجود ، إنما من غير اختصاصه ، وإلا فهناك الطبيب المختص بالعيون ، وإخوانه من هذا الاختصاص كثر ، والمختص باللغة الفرنسية ، والمختص بالهندسة الوراثية ، والمختص بأنواع مختلفة من العلم الشرعي . فاختصاصه يعني : تمكنه وتعمقه في هذا الجانب ، وعلى هذا فينبغي ألا ينازعه فيه أحد .
أما الاختصاص القضائي اصطلاحاً : فقد عرفه د . شوكت عليان بما يلي : « إسناد عمل من أعمال الدولة مما يترتب عليه فضّ المنازعات ودفع الخصومات إلى شخص من الأشخاص الذين لهم خبرة بالأحكام الشرعية ، وجعل هذا العمل قاصراً على هذا الشخص يتصرف فيه » (2) .
ويبدو أنه تعريف جامع إلا أنه طويل ، ونقترح تعريف الاختصاص القضائي بأنه : قصر سلطة القاضي على أزمنة وأمكنة وأشخاص وقضايا وأوصاف محددة .
__________
(1) البخاري ( 438 ) كتاب الصلاة ، باب : قول النبي صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً .
(2) السلطة القضائية في الإسلام ص ( 289 ) .(10/5)
أما الاختصاص المذهبي فمعناه : أن يقيّد ولي الأمر القاضي الذي ولاه القضاء ليحكم في الحوادث التي ترفع إليه بمذهب معيّن مطلقاً ، أو بأرجح الأقوال فيه (1) .
4- أنواع الاختصاص القضائي :
كان القاضي في صدر الإسلام يحكم في كل القضايا التي تعرض عليه ، ثم توسعت الدولة الإسلامية ، وتنوعت القضايا ، ونشأت المذاهب الإسلامية ، فكان لا بد من وجود قضاة متعددين في البلد الواحد ، متنوعين في اختصاصاتهم ، لا ينازع أحدهم الآخر ، فكانت اختصاصات تتعلق بالزمان ، وأخرى بالمكان ، وثالثة بالأشخاص ، وغيرها في القيمة ، واختصاص بالمذاهب التي يعتمد عليها القضاة ، نذكر أبرزها بإيجاز على النحو التالي :
الاختصاص الزماني : ومعناه أن تكون ولاية القاضي محددة في أوقات معينة من اليوم ، كأن يقضي أحدهم أول النهار وآخر آخره ، أو يقضي يوماً معيناً من الأسبوع ، أو يحكم مدة أيام محددة تنتهي بانتهائها ولايته ، ويحكم القاضي في هذه الأوقات بجميع القضايا ، فولايته خاصة بالزمن عامة في غيره . قال الماوردي : « وأما القسم الثالث : وهو أن يكون التقليد مقصوراً على بعض الأيام دون جميعها » (2) .
__________
(1) ر : الاختصاص القضائي ص ( 355 ) .
(2) أدب القاضي ( 1/164 ) ، ومغني المحتاج ( 4/379 ) ، والتنظيم القضائي ، د . محمد الزحيلي ص ( 90 ) ، والاختصاص القضائي ص ( 339 ) .(10/6)
الاختصاص المكاني : وهو أن يقلد القاضي قضاء بلدة معينة ، أو ناحية منها ، ويكون اختصاص القاضي هذا شاملاً جميع الحقوق الأخرى ، فيقضي في عامة القضايا ، قال ابن قدامة : « ويجوز أن يولي قاضيا عموم النظر في خصوص العمل ، فيقلده النظر في جميع الأحكام في بلدة بعينه ، فينفذ حكمه فيمن سكنه ومن أتى إليه من غير سلطانه » (1) . فلو كان النزاع قائماً على عقار تكون محكمته المختصة المحكمة التي يقع في دائرتها العقار ، بصرف النظر عن مكان المتخاصمين (2) .
الاختصاص بالأشخاص : وهو أن يكون التقليد مقصوراً على أشخاص دون آخرين ، كأن يقول : قلدتك بالبصرة لتقضي بين العرب دون العجم ، وآخر يقضي بين العجم دون العرب ، أو ليقضي بين النساء دون الرجال (3) ، ولهذا النوع من الاختصاص القضائي فروع كثيرة ، حيث نشأت محاكم خاصة بالعسكريين دون المدنيين ، وأخرى بالأحداث دون الكبار ، وأخرى للموظفين وغيرها للوزراء ، ونحو ذلك ، وقد تكون ولاية القاضي قاصرة على الفصل بين شخصين معينين ، فلا يحكم بين غيرهما ، قال الماوردي : « ويجوز أن يكون القاضي مقصور الولاية على النظر بين خصمين معينين ، فيختص بالنظر بينهما ، ولا ينظر بين غيرهما » (4) .
__________
(1) المغني ( 11/482 ) ، وأدب القاضي للماوردي ( 1/155 ) ، ومغني المحتاج ( 4/379 ) .
(2) ر : التنظيم القضائي ، د . محمد الزحيلي ص ( 89 ) .
(3) ر : أدب القاضي للماوردي ( 1/160 ) ، ونهاية المحتاج ( 8/243 ) .
(4) أدب القاضي ( 1/162 - 163 ) .(10/7)
الاختصاص الموضوعي : فالقاضي إما أن يكون عام النظر في جميع أنواع الخصومات : المعاملات ، المناكحات ، الجنايات ، وغيرها . وإما أن يكون خاص النظر في نوع معين منها . قال ابن قدامة : « ويجوز أن يقلده خصوص النظر في عموم العمل ، فيقول : جعلت إليك الحكم في المداينات خاصةً في جميع ولايتي » (1) . ومثل ذلك قاضي المناكحات والسوق ونحوه (2) .
الاختصاص القيمي : ومعناه أن يقلد السلطان القاضي ليحكم بمقدار معين لا يتجاوزه ، كأن يقول : قلدتك القضاء على أن تحكم بالقضايا التي لا تتجاوز مائة درهم مثلاً ، وأصل ذلك أن عمر رضي الله عنه قال في آخر زمانه ليزيد بن أخت النمر : اكفني بعض الأمور - يعني صغارها - ورُدَّ عني الناس في الدرهم والدرهمين (3) . قال الماوردي : « وإذا قلد النظر في نصاب مقدر بمائتي درهم فنظر فيها بين خصمين جاز أن ينظر بينهما ثانية في هذا القدر
وثالثة » (4) . وقال ابن قدامة : « ويجوز أن يجعل حكمه في المائة فما دونها، فلا ينفذ حكمه في أكثر منها » (5) .
فهذه أبرز أنواع الاختصاص القضائي قديماً وحديثاً ، إضافة إلى أن ثمة اختصاصات أخرى في القضاء الحديث ، كالقضاء الإداري ، والقضاء الاقتصادي ، والقضاء الدستوري، ومحكمة أمن الدولة ، ونحو ذلك . فكلما تنوعت قضايا المجتمع وتعددت أحدثت اختصاصات جديدة في القضاء لم تكن من قبل ، وما ذلك إلا تنظيماً للأمور وتسهيلاً لمهمة القاضي وتيسيراً على الناس .
المطلب الأول
تاريخ الاختصاص المذهبي في القضاء ومسوغاته
أولاً : تاريخه :
__________
(1) المغني ( 11/482 ) .
(2) ر : مغني المحتاج ( 4/379 ) ، ونهاية المحتاج ( 8/243 ) ، والاختصاص القضائي ص
( 190 ) .
(3) ر : تاريخ القضاء في الإسلام ص ( 12 ) .
(4) ر : أدب القضاء ( 1/174 ) .
(5) المغني ( 11/482 ) .(10/8)
كان الذي يتولى القضاء في البلاد في صدر الإسلام قاضٍ واحد ، فقد أرسل صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً واحداً ، معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وعين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما قاضياً على البصرة ، وهكذا استمر الأمر بعد ظهور المذاهب الإسلامية ، فكان قاضٍ واحد من أي مذهب يتولى القضاء في
بلده ، إلى أن ظهر التخصص المذهبي على النحو التالي :
1- في الدولة الفاطمية :
كان القاضي آخر العصر العباسي من علماء المذهب الحنفي ، وفي المغرب والأندلس : كان من علماء المذهب المالكي ، وفي مصر : كان القاضي من علماء الشافعية. ثم جاءت الدولة الفاطمية ( 297هـ ) فقصروا القضاء على مذهب الشيعة الإمامية ، عاملين على إضعاف نشاط القضاء السنّي ، ثم عادوا آخر الأمر وعدّدوا القضاة حسب المذاهب ، ففي عام ( 525هـ ) كان القضاة أربعة : إمامي ، إسماعيلي ، مالكي ،
شافعي (1) .
2- الاختصاص المذهبي في العهد الأيوبي والمملوكي :
اعتمد الأيوبيون المذهب الشافعي في القضاء ، وكذلك فعل مماليكهم من بعدهم ، إلى أن جاء الحنفية والحنابلة من المشرق بعد دخول التتار بغداد ، فوافق ذلك ما في نفوس المماليك على الشافعية ، لما حصل في عهد نجم الدين الأيوبي عندما حكم سلطان العلماء
( العز بن عبد السلام ) - وهو شافعي المذهب - على المماليك ببيعهم ، ومن بينهم نائب السلطة ! حيث ظهر أنهم ما زالوا عبيداً أرقاء من الوجهة الشرعية القضائية ، فحكم عليهم أنهم من جملة مال المسلمين ، ومن أملاك بيت المال . فكل هذا جعلهم يُقنعون ملكهم الظاهر بيبرس ( ت : 676هـ ) بأن يعدد القضاة ، ولا يقصرها على الشافعية ، فجعلهم أربعة : شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي ، وذلك عام ( 664هـ ) (2) .
__________
(1) ر : التنظيم القضائي ( آل دريب ) ص ( 236 ) .
(2) ر : المرجع السابق ( 237 ) .(10/9)
ويذكر المستشار العمروسي أن القضاء في الديار المصرية كان حسب المذاهب الأربعة ، فلكل منها قاضٍ يقضي بحسب نصوص مذهبه تبعاً لمذهب المتقاضيين ، وكان هذا الاتجاه يحقق رغبات المتقاضيين والطمأنينة في النفوس ، وظل الأمر على هذا الحال إلى أن استولى السلطان سليم على مصر عام ( 923هـ ) ، فوحّد القضاء وقصره على مذهب أبي حنيفة ، بحكم أن المذهب الحنفي هو مذهب السيادة العثمانية (1) .
3- الاختصاص المذهبي في ظل الدولة العثمانية :
يذكر صاحب كتاب ( تاريخ القضاء في الإسلام ) : أنه قدم قاضي العسكر التركي
( سيد شلبي ) في العاشر من رجب عام ( 927هـ ) وبيده مرسوم من السلطان العثماني يصفه فيه بأنه أعظم قضاة السلطان وأكبرهم ، ويذكر أن السلطان أبطل القضاة الأربعة بمصر (2) ، وأن القاضي سيد شلبي يتصرف في الأحكام الشرعية على المذاهب الأربعة ، وأن جميع النواب والشهود تبطل قاطبة . واعتبر هذا العمل قصراً للقضاء على مذهب أبي حنيفة بالديار المصرية ، وإن كان العمل لم يتم إلا في أوائل ولاية محمد علي باشا ، حيث أصدر الخليفة فرماناً بتخصيص القضاء والإفتاء بمذهب أبي حنيفة (3) .
__________
(1) ر : التشريع والقضاء في الإسلام ص ( 92 ) ، وتاريخ القضاء في الإسلام ص ( 107 - 108 ).
(2) والقضاة الأربعة الذين كانوا آنذاك :
قاضي قضاة الشافعية : كمال الدين بن الطويل .
قاضي قضاة المالكية : محيي الدين الدميري .
قاضي قضاة الحنفية : علي الطرابلسي .
قاضي قضاة الحنابلة : شهاب الدين التنوخي .
(3) ر : تاريخ القضاء في الإسلام ص ( 107 - 108 ) .(10/10)
ولما كان المذهب الحنفي واسعاً ، كثير المسائل ، يصعب على القاضي معرفة الراجح منه ، كان لا بد من وضع تقنينٍ فقهي يعين القضاة في إصدار الأحكام ، فكانت مجلة الأحكام العدلية ، والتي وضعت من قبل فقهاء الحنفية ، حيث رفعت اللجنة العلمية تقريراً إلى مقام الصدر الأعظم ( عالي باشا ) عام ( 1286هـ ) تبين فيه أهمية المشروع ومدى الحاجة إليه في المجتمع والمحاكم خاصة ، كما بين التقرير الأساس الذي ألفت بموجبه المجلة ، وهو الراجح في المذهب الحنفي ، ما عدا بعض المسائل القليلة التي أخذت من غيره لمناسبتها واقع حال المسلمين ، كالتوسع في باب الشروط المقترنة بعقد البيع ، فقد روعي في ذلك مذهب الحنابلة ، ومذهب ابن شبرمة (1) .
ولقد بين تقرير اللجنة مسوّغ وضع مثل هذه المجلة ، فجاء فيه : « . . . ولا يخفى أن علم الفقه بحر لا ساحل له ، واستنباط درر المسائل اللازمة منه لحل المشكلات يتوقف على مهارة علمية وملكة كلية ، وعلى الخصوص في مذهب الحنفية ، لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة ، ووقع فيه اختلافات كثيرة ، ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية ، بل لم تزل مسائله شتاتاً متشعبة ، فتمييز القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جداً » (2) .
فالمسوغ واضح ، وهو أن المذهب الحنفي مسائله كثيرة ومتشعبة ، ويشق على القاضي تمييز الراجح منها والحكم بموجبه ، والدولة العثمانية واسعة الامتداد ، ومذهبها المذهب الحنفي ، فوضع مثل هذا التقنين أمر لازم .
ثانياً : مسوّغات الاختصاص المذهبي :
__________
(1) ر : المرجع السابق ص ( 67 ) .
(2) شرح المجلة ص ( 10 ) .(10/11)
لقد ظهر لنا من تاريخ الاختصاص المذهبي أن السلطان هو الذي يلزم بالمذهب ، فيكون هذا المذهب مصدر الأحكام الشرعية في البلاد وحده ، والقاضي الملزَم بذلك هو المقلد لا المجتهد ، إذ لا يصح إلزام المجتهد الذي قد يرى الحق خلاف ما ألزم به (1) . والمقلد لا يسعه الخروج عن دائرة مذهبه وتلمس الأحكام من المذاهب الأخرى ، بل يتعذر عليه الاهتداء إلى الراجح في مذهبه - في هذا الزمان غالباً - فضلاً عن الراجح في مذهب غيره . فكل ذلك يؤكد وجوب التزام القاضي بمذهبه ، وعلى هذا فلا بد من تقنين مذهبه ووضع ضوابط عامة له استناداً إلى الراجح من الأقوال ، ولا يصار إلى الخروج منه إلا بما تتعين فيه المصلحة ، كما هو الحال بالنسبة إلى تقييد الدولة العثمانية القضاء بالمذهب الحنفي ، ووضع مجلة الأحكام العدلية ، فالقاضي الحنفي مثلاً ، لا يمكنه الإحاطة بجميع الفتاوى التي أفتى بها علماء المذهب في العصور الماضية (2) . إضافة إلى ذلك فقد ندر
- في زماننا - وجود القاضي المتبحر في العلوم الشرعية في جميع الجهات ، الذي يستطيع أن يأخذ من مذهبه ومذهب غيره ، فهذا كما قالوا : صار أعزّ من الكبريت الأحمر (3) .
إضافة إلى ذلك ، فإن الاختصاص المذهبي يوحد قانون البلاد ، ويحقق انتظام
الأحكام ، كما أنه لا يتيح فرصة للقضاء بالتشهي والتخيّر من المذاهب ، لتحقيق بعض الأغراض الخاصة .
__________
(1) المستصفى ( 2/384 ) .
(2) ولهذا جمع كل من السيوطي الشافعي ( ت : 911هـ ) وابن نجيم الحنفي ( ت : 970هـ ) كثيراً من القواعد الفقهية والمسائل الكلية المندرج تحتها فروع الفقه في كتابيهما : ( الأشباه والنظائر ) ففتحا بذلك باباً يسهل التوصل منه إلى الإحاطة بالمسائل ، ولكن لم يسمح الزمان بعد ذلك بعلماء يحذون حذوهما .
(3) أدب القضاء لابن أبي الدم ص ( 38 ) .(10/12)
وكذلك فإن القاضي عندما يعلم أنه ملزم بمذهب معين ، يعمل على سبر أغواره ، وتتبع أقواله ، واستقصاء مسائله ، وكل ذلك ينهض بالقضاء ، ويخطو به نحو العدالة أكثر .
فهذا كله يؤكد أهمية الاختصاص المذهبي ، وأنه من أبرز أنواع الاختصاص
القضائي .
المطلب الثاني
التزام القاضي بالمذهب ومنهجه في القضاء
أولاً : الالتزام بالمذهب :
ويتناول ذلك مسألتين :
الأولى : الالتزام الذاتي . والثاني : الإلزام من قبل السلطان .
1- التزام القاضي ذاته بالمذهب :
في لزوم اتباع القاضي المقلِّد مذهب إمامه قولان :
الأول : وجوب ذلك ، وهو قول جمهور الفقهاء ( الحنفية والراجح عند المالكية وجمهور الشافعية ووجه عند الحنابلة ) (1) . قال الكاساني : « فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد : فإن عرف أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق عمل بقول من يعتقد قوله حقاً على التقليد ، وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا ، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد من أصحابنا من قال يسعه أن يأخذ بقوله » (2) . فهكذا يبدو الالتزام بالمذهب واضحاً من نصوصهم ، حتى إذا لم يكن إلا فقيه واحد من أصحاب مذهب القاضي يلزمه قوله .
واستدلوا على ذلك : بأن الخروج عن دائرة المذهب تؤدي إلى اتهامه بالميل مع أحد الخصمين (3) .
__________
(1) ر : بدائع الصنائع ( 7/5 ) ، ومواهب الجليل ( 8/33 ) ، ومغني المحتاج ( 4/378 ) ، والفروع ( 11/345 - 346 ) .
(2) بدائع الصنائع ( 7/5 ) .
(3) ر : مواهب الجليل ( 8/73 ) .(10/13)
ويبدو أن المالكية مالوا إلى هذا القول ( لزوم المذهب ) استناداً إلى أصلهم في سدّ الذرائع ، وإلا فالتزام المذهب غير واجب في ذلك ، قال الحطاب نقلاً عن ابن عبد السلام : « إن ولي مقلد لعدم المجتهد ، فهل يلزمه الاقتصار على قول إمامه أو لا يلزمه ذلك ؟ والأصل عدم اللزوم ، وهو الأقرب إلى عادة المتقدمين ، فإنهم ما كانوا يحجرون على العوام باتباع عالم واحد ، ولا يأمرون من سأل أحدهم عن مسألة أن لا يسأل غيره ، لكن الأولى عندي في حق القاضي لزوم طريقة واحدة » (1) .
وتفريعاً على هذا القول ( الالتزام بالمذهب ) إذا قضى القاضي بمذهب غيره وهو يعلم لم ينفذ حكمه ، أما لو كان ناسياً ، فقد ذكر الكاساني أن حكمه ينفذ عند أبي حنيفة خلافاً للصاحبين ، ودليل الإمام : أن النسيان غالب خصوصاً عند تزاحم الحوادث ، فكان معذوراً. ودليلهما في عدم الصحة : أنه مقصر ؛ إذ يجب عليه حفظ مذهب نفسه ، وإذا لم يحفظ فهو مقصر ، والمقصر غير معذور (2) . وللشافعية في هذه المسألة قولان :
عدم الجواز ، وهو قول جمهورهم .
الجواز ، وهو قول الماوردي .
وقد جمع الأذرعي بين القولين فقال :
عدم الجواز : لمن لم ينته إلى رتبة الاجتهاد في مذهب إمامه ، وهو المقلد الصرف الذي لم يتأهل لنظر ولا ترجيح .
الجواز : لمن له أهلية الاجتهاد (3) .
والخلاصة أن أصحاب هذا القول يبطلون حكم القاضي المقلد إذا أصدره استناداً لغير مذهب إمامه ؛ لأن العرف جار بأن تولية المقلد مشروطة بأن يحكم بمذهب مقلده ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فإن المذهب بمنزلة الدليل بالنسبة إلى المجتهد ، فكما أن المجتهد لا يجوز له العدول عن الدليل ، فكذلك لا يجوز للمقلد العدول عن المذهب (4) .
__________
(1) المرجع السابق نفسه .
(2) ر : بدائع الصنائع ( 7/5 ) ، والبحر الرائق ( 6/254 - 255 ) .
(3) ر : نهاية المحتاج ( 8/242 ) .
(4) ر : نظام القضاء في الإسلام ص ( 92 ) .(10/14)
القول الثاني : عدم لزوم القاضي اتباع مذهب مقلده ، وله أن يحكم بما يراه حقاً من غيره ، وهو الأشهر عند الحنابلة ، والمرجوح عند المالكية ، وقول الماوردي من
الشافعية (1) .
قال ابن مفلح : « وأما لزوم التمذهب بمذهب ، وامتناع الانتقال إلى غيره في مسألة ، ففيها وجهان : وفاقاً لمالك والشافعي (2) ، وعدمه أشهر » (3) .
ولقد ذكر ابن قندس في حاشيته على الفروع أقوالاً في المذهب تؤكد هذا المعنى ، وهو عدم الالتزام بالمذهب ، لتقي الدين وابن القيم ، وابن مفلح في أصوله ، وقال : إن هذا مذهب الجمهور ، إلا ابن حمدان فإنه قال بوجوب التزام المذهب ، كما هو مذهب جمهور الفقهاء (4) .
ودليل أصحاب هذا القول : أن القاضي مأمور بالقضاء بالحق ، وقد يكون ذلك في مذهبه أو مذهب غيره ، والتقيد بالمذهب قد يؤدي إلى الحكم بغير الحق أحياناً .
ومن استعراض القولين وأدلتهما ، تبدو رجاحة القول الأول ، وإضافة إلى استدلالهم فإن التزام القاضي بمذهبه أدعى إلى استقرار الأحكام ، ويؤدي إلى تفقه القاضي في مذهبه وتعمقه فيه أكثر ، على أنه مبنى الأحكام عنده ، بخلاف ما لو انتقل من مذهب إلى آخر ، ومن قولٍ إلى غيره في قضاياه وأحكامه .
2- إلزام السلطان القاضي بالمذهب :
هل للسلطان أن يشترط على القاضي عند تقليده القضاء الالتزام بمذهب معين يصدر أحكامه استناداً إليه ، ولا يتجاوز لغيره ؟
يبدو أن في المسألة قولين :
__________
(1) ر : الفروع ( 11/345 ) ، ومواهب الجليل ( 8/73 ) ، ونهاية المحتاج ( 8/242 ) .
(2) وذلك في وجوب لزوم القاضي مذهب إمامه ، وهو قول الحنفية أيضاً كما سلف ذكره ، وقد أغفله ابن مفلح رحمه الله تعالى .
(3) الفروع ( 11/345 ) .
(4) ر : حاشية ابن قندس على الفروع ( 11/346 ) .(10/15)
الأول : عدم جواز ذلك ، وهو قول الشافعية والحنابلة وقول عند المالكية (1) على خلاف بينهم في فساد التولية والشرط . قال الرملي : « ولا يجوز أن يشترط عليه
خلافه (2) ؛ لأنه يعتقد بطلانه ، والله تعالى إنما أمر بالحكم بالحق » (3) ، وقال ابن قدامة: « ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه » (4) .
ودليلهم : أن الله تعالى أمر بالحكم بالحق ، فقال : ? فَا؟حْكُم بَيْنَ ا؟لنَّاسِ بِا؟لْحَقِّ ? [ ص: 26 ] والحق لا يتعين بمذهب .
وأما بالنسبة إلى فساد التولية والشرط ، فقد جزم الشافعية والمالكية في قول بعدم صحة التولية على هذا النحو ، فقالوا : العقد والشرط كلاهما باطل ، ما عدا مسائل معينة أجاز الشافعية تقييد القاضي بعدم الحكم بها ، كأن يقول له : لا تحكم في قتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد (5) .
أما الحنابلة والمالكية في قولهم الثاني ، فقالوا ببطلان الشرط ، وفي فساد الولاية عند الحنابلة وجهان ، بناءً على الشروط الفاسدة في البيع (6) .
القول الثاني : جواز هذا التقييد ، وهو قول الحنفية والقول الثانية للمالكية (7) . قال ابن عابدين : « فأما المقلد ، فإنما ولاه - أي السلطان - ليحكم بمذهب أبي حنيفة ، فلا يملك المخالفة ، فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم » (8) ، أي : ليس له أن يحكم بغير ما قيده به السلطان من مذهب ، فإن حكم بغيره كان معزولاً بالنسبة إلى هذا الحكم .
__________
(1) ر : مغني المحتاج ( 4/378 ) ، والمغني ( 11/483 ) ، والشرح الكبير ( 11/384 ) ، وتبصرة الحكام ( 1/45 ) .
(2) أي : خلاف مذهبه .
(3) نهاية المحتاج ( 8/242 ) .
(4) المغني ( 11/483 ) .
(5) ر : مغني المحتاج ( 4/378 ) ، ومواهب الجليل ( 8/73 ) .
(6) ر : المغني ( 11/483 ) ، ومواهب الجليل ( 8/73 ) .
(7) ر : رد المحتار ( 8/98 ) ، وتبصرة الحكام ( 1/45 ) .
(8) رد المحتار ( 8/98 ) .(10/16)
واستدل بعض المالكية على جواز ذلك بأن الولاة بقرطبة كانوا إذا ولوا رجلاً القضاء شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم (1) ما وجده ، وأن سحنون ولى رجلاً القضاء ، وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق ، فشرط عليه سحنون أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك (2) .
ومن استعراض القولين وأدلتهما تبدو لي رجاحة القول الثاني ، وهو جواز تقييد القاضي بمذهب معين ، وأن هذا الشرط من السلطان صحيح ، فللسلطان أن يلزم الرعية بما يراه مصلحة لها من أقوال المذاهب ويلزم بها (3) ، وكما قالوا : رأي الإمام يحسم الخلاف، وهذا عين ما فعلته الخلافة العثمانية من إلزام القضاة بمذهب الإمام أبي حنيفة ، ووضعت قانوناً فقهياً قائماً عليه ، وهو مجلة الأحكام العدلية .
ثانياً : منهج القاضي المقلد في القضاء :
التقليد : هو قبول قول الغير بلا حجة (4) . وعلى هذا فالقاضي المقلد هو الذي يقضي استناداً لأقوال إمامه ، دون معرفة دليله ، وهو الذي لا يتجاوز حدود مذهبه .
ولقد ذكر المالكية أن المقلد قسمان : محيط بأصول مذهب مقلّده وقواعده ، بحيث تكون نسبته إلى مذهبه كنسبة المجتهد المطلق إلى أصول الشريعة وقواعدها ، فهذا يجوز له التخريج والقياس بشرائطه ، كما جاز للمجتهد المطلق . والقسم الثاني : غير المحيط ، فلا يجوز له التخريج ، لأنه كالعامي بالنسبة إلى حَمَلة الشريعة (5) .
__________
(1) راوي المدونة عن مالك إلى سحنون .
(2) ر : تبصرة الحكام ( 1/45 - 46 ) .
(3) ر : المغني ( 7/450 ) .
(4) ر : المستصفى ( 2/387 ) .
(5) ر : مواهب الجليل ( 8/72 ) .(10/17)
فعلى هذا فالقاضي إذا كان من القسم الثاني ففرضه المشورة والتقليد ، فإذا اختلف عليه العلماء قضى بقول أعلمهم ، وقيل : بقول أكثرهم ، وهذا الأخير جاء عن الفقهاء السبعة ، والأول أصح ، وقيل : يحكم بقول من شاء منهم إذا تحرى الصواب بذلك ولم يقصد الهوى . وأما المشورة : فله أن يكتفي بمشورة واحد من العلماء ، فإن فعل ذلك فالاختيار أن يشاور أعلمهم ، فإن شاور مَنْ دونه في العلم وأخذ بقوله فذلك جائز ، إذا كان هذا من أهل النظر والاجتهاد .
ولقد أكد القاضي أبو بكر ضرورة التزام المقلد فتوى مقلَّده فقط دون التوسع في ذلك فقال : « إن المقلد يقضي بفتوى مقلَّده في عين النازلة ، فإن قاس على قوله فهو
متعدّ » (1) .
ولقد رسم الكاساني منهج القاضي المقلّد بقوله : « فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فإن عرف أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق عمل بقول من يعتقد قوله حقاً على التقليد ، وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا ، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد من أصحابنا : من قال يسعه أن يأخذ ، ونرجو ألا يكون عليه شيء ؛ لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه وليس هناك سواه من أهل الفقه مسّت الضرورة إلى الأخذ بقوله ، قال الله تبارك وتعالى : ? فَا؟سْـ:ـَلُو%ا أَهْلَ ا؟لذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ = 7 ?
[ الأنبياء : 7 ] ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم ذلك لا ينفذ قضاؤه ؛ لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده فلا ينفذ » (2) .
فقد نقلنا عبارته بطولها لنبين ضوابط قضاء المقلد ، الذي لا يحسن الاجتهاد ، ومنهجه في إصدار الأحكام .
المطلب الثالث
تطبيقات الاختصاص المذهبي المعاصر في قضاء بعض الدول العربية
إن قوانين البلاد العربية - عموماً - نوعان :
__________
(1) ر : تبصرة الحكام ( 1/45 ) .
(2) بدائع الصنائع ( 7/5 ) .(10/18)
الأول : قوانين مستقاة من الشريعة الإسلامية ، على اختلاف مذاهبها ، وتشمل المعاملات والجنايات والأحوال الشخصية وغيرها ، كما هو في معظم دول الخليج العربي .
الثاني : قوانين مستقاة من القانون الفرنسي والروماني القديم في كل شؤون الحياة ، ما عدا قانون الأحوال الشخصية فهو من الشريعة الإسلامية ، وهذا حال معظم البلاد
العربية .
نذكر بعض هذه القوانين على سبيل المثال ؛ لنبين الاختصاص المذهبي في كل منها ، وذلك على النحو التالي (1) :
تونس : فقد صدر فيها قانون الأحوال الشخصية بتاريخ 13 أغسطس 1956م ، وهو مأخوذ من مذهب الإمام مالك ، وإن كان ثمة مخالفات صريحة له ، وللفقه الإسلامي عموماً ، كما في الفصل ( 18 ) حيث منع التشريع تعدد الزوجات ، وفرض عقوبةً على من يخالف ذلك ، وهو في حالة الزوجية وقبل فك عصمة الزواج السابق ، وذلك بالسجن لمدة عام ، وغرامة ( 240 ) ألف فرنك ، أو بإحدى العقوبتين (2) .
السعودية : فقد صدر مرسوم 6 صفر لعام 1346هـ وتم بموجبه توحيد القضاء ، ثم صدر قرار هيئة الرقابة القضائية رقم ( 3 ) في 7/1/1347هـ ونصّ على أن تكون الأحكام في جميع المحاكم على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، كما تضمن القرار تعيين المصادر التي يرجع إليها القضاة في أحكامهم على هذا الأساس ( المذهب الحنبلي ) ، كما تضمن إمكانية الرجوع إلى المذاهب الأخرى ، إذا رئي أن في تطبيق المفتى به من مذهب الإمام أحمد ما قد يؤدي إلى مشقة ومخالفة لمصلحة العموم .
__________
(1) أوردنا ذكر الدول حسب الترتيب الهجائي ، دون اعتبارات أخرى .
(2) ر : التشريع والقضاء في الإسلام ص ( 146 - 150 ) .(10/19)
وقد تأكد هذا الاتجاه ( الاختصاص المذهبي ) عندما صدر أمر ملكي بعد سنتين من ذلك حول ما يستدعي اجتماع أعضاء المحكمة ، ونصّ على أن ما ورد في كتب الإمام أحمد يعمل به دون الحاجة إلى اجتماع أعضاء المحكمة ، أما ما لم يرد به نص في كتب المذهب ويستدعي الاجتهاد فيتم ذلك باجتماع الأعضاء المذكورين (1) . هذا وقد جاء في قرار هيئة الرقابة القضائية السالف ذكره تحديد مصادر المذهب الحنبلي ، بذكر أسماء الكتب التي يرجع إليها القاضي في المذهب ، وذلك بحسب أهميتها واعتمادها ، وذلك على النحو التالي :
شرح منتهى الإرادات (2) .
كشاف القناع عن متن الإقناع (3) .
الروض المربع شرح زاد المستقنع (4) .
منار السبيل شرح الدليل (5) .
كما حدد القرار كيفية الرجوع إلى هذه الكتب ، وذلك على النحو التالي :
يؤخذ أولاً بما اتفق عليه الشرحان ( شرح المنتهى وشرح الإقناع ) فإذا انفرد أحدهما بحكم فهو المتبع ، وإذا اختلفا : فالمعتمد الأول ( شرح المنتهى ) .
إذا تعذر الحصول على الشرحين في المحكمة ، يرجع القاضي إلى الروض المربع ومنار السبيل ، فيقضي بما فيهما ، إلى أن يحصل على الشرحين
( المنتهى والإقناع ) فالمعوّل عليهما .
__________
(1) ر : التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية ص ( 291 ) .
(2) المتن للفتوحي ( ت : 972هـ ) والشرح للشيخ منصور البهوتي ( ت : 1051هـ ) .
(3) المتن للحجاوي ( ت : 948هـ ) والشرح للبهوتي .
(4) زاد المستقنع مختصر المقنع للشيخ موسى بن أحمد المقدسي ( ت : 968هـ ) والروض المربع للشيخ منصور البهوتي .
(5) المتن هو دليل الطالب لنيل المطالب للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي ( ت : 1032هـ ) وشرحه: منار السبيل للشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان ( ت : 1353هـ ) .(10/20)
إذا لم يحصل القاضي على الشروح الأربعة ، يرجع إلى كتب المذهب الأخرى : المغني لابن قدامة ( ت : 620هـ ) ، والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ( ت : 682هـ ) ، ويجتهد القاضي في استنباط الحكم ويقضي بالراجح من الأقوال (1) .
وهكذا يلاحظ الاختصاص المذهبي في القضاء السعودي واضحاً ، فهو الالتزام في المذهب الحنبلي ، لا يجاوزه القاضي إلا في مسائل محددة ، كالتي تتعلق بالمساقاة ، وإجارة النخيل ، والمتعلقة بالإرث والأوقاف ، فإنه يحكم فيها على مذهب أهل البلد التي فيها الدعوى ، على اختلاف مذاهبهم (2) .
سوريا : فقد صدر فيها قانون الأحوال الشخصية بتاريخ 17/9/1953م بموجب المرسوم ( 59 ) لعام 1952م ، وهو قانون يعتمد على المذهب الحنفي عموماً، ما عدا بعض الحالات التي أخذها من غيره ، كاعتباره طلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة ، استناداً لقول ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، خلافاً للمعتمد في المذاهب الأربعة . كما صرح المشرع في المادة ( 305 ) من القانون على وجوب الرجوع إلى الراجح في المذهب الحنفي فيما لا نص فيه (3) .
الصومال (4) : وقد نصت المادة ( 50 ) من دستور الدولة الصادر في 21 يونيه عام 1960م على أن الفقه الإسلامي مصدر أساسي لقوانين الدولة ، ويعتبر المذهب الشافعي هو مرجع المحاكم الشرعية في البلاد ، وهو مذهب الدولة السائد (5) .
__________
(1) ر : التنظيم القضائي ( آل دريب ) ص ( 292 ) ، والاختصاص القضائي ص ( 283 ) .
(2) ر : التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية ص ( 293 ) .
(3) ر : التشريع والقضاء في الإسلام ص ( 154 ) .
(4) تعتبر الصومال أول البلاد التي دخلت الإسلام ، وذلك عندما هاجر المسلمون الأول إلى الحبشة وأقاموا فيها ، وبنوا أول مسجد ويعرف بمسجد يوسف ، ونسبة المسلمين في البلاد ( 99.99% ) .
(5) ر : التشريع والقضاء في الإسلام ص ( 156 - 157 ) .(10/21)
العراق : وقد صدر قانون الأحوال الشخصية في البلاد بموجب التشريع رقم
( 18 ) لعام 1959م ، وهو يعتمد في أحكامه - عموماً - على المذهب
الحنفي ، وإن كان ثمة خروج عن حدوده ، بل حدود المذاهب الأربعة أحياناً ، كما جاء في المواد ( 4 ، 5 ، 6 ) من عدم جواز الزواج بأكثر من واحدة إلا بإذن القاضي ، وبشرط أن يكون الزوج ذا كفاية مالية لإعالة أكثر من زوجة ، وأن تكون ثمة مصلحة ، وأن لا يغلب على الظن عدم العدل بين الزوجات
( حسب تقدير القاضي ) ، ومن خالف ذلك عوقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة ، وبغرامة لا تزيد على مائة دينار ، أو بهما جميعاً . كما نصت المادة
( 92 ) من القانون ذاته على وجوب الرجوع إلى المذهب الحنفي في القضايا غير المنصوص عليها (1) ، كما هو نص المادة ( 305 ) من القانون السوري.
الكويت : وهي دولة تعتمد مذهبين في محاكمها :
تعتمد المذهب المالكي في قانون الأحوال الشخصية .
وتعتمد على مجلة الأحكام العدلية ( وهي حنفية ) في المسائل المدنية ، ونص التشريع على أنه في حال خلوّ المجلة من الحكم المطلوب يرجع إلى مذهب الإمام مالك . فالمذهب المالكي - عموماً - هو مرجع المحاكم الشرعية (2) .
لبنان : وهو بلد يحوي المسلمين والمسيحيين والدروز ، والمسلمون فيه عدة طوائف : السنة والشيعة الجعفرية ، والشيعة العلوية ، والإسماعيلية . وقد نص قانون تنظيم المحاكم الشرعية اللبناني في المادة ( 242 ) على وجوب اعتماد قانون حقوق العائلة العثماني في كل نص ، وهو معتمد على المذهب الحنفي كما هو معلوم ، وفي حال عدم وجود نص للحادثة يلزم الرجوع إلى الراجح في المذهب الحنفي ، كما نصت المادة ( 305 ) من القانون السوري ، والمادة
( 92 ) من القانون العراقي . إلا أن ثمة مسائل خالف فيها القانون المذهب الحنفي ، مثلاً :
__________
(1) ر : المرجع السابق ص ( 157 - 159 ) .
(2) ر : الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي ص ( 20 ) .(10/22)
لم يأخذ التشريع اللبناني بتحريم الرضاع من المصاهرة ، واكتفى بتحريم الرضاع من النسب ، كما لو يأخذ بتحريم الزنا للمصاهرة .
المادة ( 28 ) من حقوق العائلة اللبناني تنص على أنه إذا تزوج رجل امرأة وشرطت عليه ألا يتزوج عليها ، وإن تزوج فهي أو المرأة الثانية طالق ، فالعقد صحيح والشرط معتبر .
عدم إيقاع طلاق السكران والمكره (1) .
فمن استعراض قوانين الأحوال الشخصية في بعض البلاد العربية التي سبق ذكرها ، يبدو واضحاً معنى الاختصاص المذهبي في القضاء ، فما من دولة إلا واعتبرت أحد المذاهب الأربعة مرجعاً لقضائها ، فهو المعوّل عليه ، وإن كان ثمة خروج عنه فهو خروج يسير له مسوغاته ، إما لرجحانه ، وإما لمواكبته ظروف البلد ، وإما تقتضيه المصلحة العامة ، فلا يوجد بلد عربي - حسب علمنا - يعتمد تشريعاً مزيجاً من أقوال المذاهب ، وكل ذلك يؤكد أهمية الاختصاص المذهبي في البلاد الإسلامية . فالحنفي في سوريا والعراق ولبنان ، والمالكي في تونس والكويت ، والشافعي في الصومال ، والحنبلي في المملكة العربية السعودية ، وهكذا في سائر البلاد العربية والإسلامية .
الخاتمة
فبعد انتهائنا من هذا البحث ( الاختصاص المذهبي في القضاء الشرعي ) يحسن بنا التذكير بأبرز النقاط التي مرت معنا ، وهي :
أن الاختصاص القضائي نشأ بعد توسع الدولة الإسلامية ، وظهور المذاهب الفقهية ، وتعدد القضاة في البلد الواحد .
أن الاختصاص القضائي أنواع ، أبرزها : الاختصاص المكاني ، والاختصاص الزماني ، والاختصاص بالأشخاص ، والاختصاص الموضوعي ، والاختصاص القيمي ، والاختصاص المذهبي .
أن الاختصاص المذهبي نشأ منذ العصر العباسي ، ولا يزال إلى وقتنا الحالي ، فلم يكن ثمة قضاء في التاريخ الإسلامي إلا وهو قائم على أساس مذهبي .
__________
(1) ر : التشريع والقضاء في الإسلام ص ( 167 - 169 ) .(10/23)
أن أبرز الاختصاص المذهبي ظهر في ظل الدولة العثمانية ، حيث ألزمت محاكم البلاد بالمذهب الحنفي ، ووضعت تقنيناً له : مجلة الأحكام العدلية .
أن الاختصاص المذهبي أمر يمليه الواقع ، وله مسوّغاته : العلمية ، والواقعية .
أن في التزام القاضي بمذهب معين قولين :
الأول : وجوب ذلك ، وهو قول جمهور الفقهاء .
الثاني : عدم وجوبه ، وهو المشهور عند الحنابلة ، وقول عند المالكية والشافعية، والراجح منهما الأول .
أن في إلزام السلطان القاضي بمذهب معين قولين أيضاً :
الأول : عدم جواز ذلك ، وهو قول الشافعية والحنابلة ، وأحد قولي المالكية.
الثاني : جوازه ، وهو قول الحنفية ، والقول الثاني عند المالكية ، والراجح منهما القول الثاني .
أن للقاضي المقلد منهجاً معيناً يسلكه في القضاء ، رسمه له الفقهاء ، إن خالفه لم ينفذه قضاؤه .
أن محاكم البلاد العربية تقوم على الاختصاص المذهبي في قانون الأحوال الشخصية اتفاقاً ، وفيما سوى ذلك من الأحكام ، فإنها تختلف من بلد إلى آخر ، وذلك بحسب اعتمادهم على الفقه الإسلامي ، أو على القوانين الغربية .
أن الاختصاص المذهبي يظهر جلياً في محاكم المملكة العربية السعودية ، والتي تعتمد جميع أحكامها على الفقه الحنبلي .
هذه النتائج ، أما التوصيات فأوجزها فيما يلي :
أن يراعى مذهب القاضي حين تقليده ، بأن يكون موافقاً لقانون البلد الذي سيقضي فيه ، توافقاً مع رأي من قال من الفقهاء : لا ينفذ قضاء من يحكم بغير مذهبه ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية : حتى لا تختلط لديه الأمور ، فيحكم خلاف ما يراه حقاً (1) .
__________
(1) وهذا ما يراعى في دولة الإمارات العربية المتحدة ، وفي إمارة أبو ظبي تحديداً ، حيث يتم تقليد القضاء لقضاة مالكية معظمهم من : المغرب وتونس وموريتانيا والسودان ، توافقاً مع مذهب وقانون البلد ، وهو أمر حسن .(10/24)
أن تعقد مؤتمرات علمية في القضاء الشرعي على مستوى العالم الإسلامي ، للإفادة من خبرات البعض ، ولا سيما في جانب التخصص القضائي المذهبي .
أن يشارك في مثل هذه الندوات والمؤتمرات أصحاب الخبرة من القضاة الشرعيين ، للإفادة من تجاربهم ؛ إذ أنهم يجمعون بين الفقه النظري والواقع العملي .
وأخيراً ، أرجو الله تعالى أن يجنبنا الزلل ، ويتقبل منا العمل ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون هذا البحث لبنة تسد فراغاً في المكتبة الإسلامية الشامخة . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المصادر والمراجع
مرتبة هجائياً
الأحوال الشخصية في التشريع الإسلامي ، د . أحمد الغندور ، نشر : مكتبة الفلاح ، الكويت ، ط / 4 ، 1422هـ - 2001م .
الاختصاص القضائي في الفقه الإسلامي ، د . ناصر بن محمد بن مشري الغامدي ، نشر : مكتبة الرشد ، الرياض ، ط / 1 ، 1420هـ - 2000م .
أدب القاضي ، أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي ( ت: 450هـ ) ، تحقيق : محيي هلال السرحان ، نشر : مطبعة الإرشاد ، بغداد ، 1391هـ - 1971م .
أدب القضاء ، إبراهيم بن عبد الله ، ابن أبي الدم ، شهاب الدين ( ت : 642هـ ) ، تحقيق : محمد عبد القادر أحمد عطا ، نشر : دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط / 1 ، 1407هـ - 1987م .
البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، العلامة زين الدين ، ابن نجيم الحنفي ( ت : 970هـ ) ، مطبعة كراتشي ، باكستان .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، علاء الدين الكاساني ، ملك العلماء ، ( ت : 587هـ ) ، نشر : دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط / 2 ، 1402هـ - 1982م .
تاريخ القضاء في الإسلام ، القاضي محمود محمد عرنوس ، نشر : الكليات
الأزهرية ، مصر ، ط : البابي الحلبي .(10/25)
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ، إبراهيم بن علي بن محمد ، أبو الوفاء ، برهان الدين ، ابن فرحون ( ت : 799هـ ) ، نشر : دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط / 1 ، المطبعة العامرة الشرقية بمصر ، 1301هـ .
التشريع والقضاء في الإسلام ، أنور العمروسي ، نشر : مؤسسة شباب الجامعة ، الإسكندرية ، 1984م .
التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ، أ. د. محمد بن مصطفى الزحيلي ( معاصر ) ، نشر: دار الفكر ، دمشق ، 1402هـ - 1982م .
التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية ، د . سعود بن سعد آل دريب ، نشر : جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، سنة 1419هـ - 1999م .
حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب ( التجريد لنفع العبيد ) ، سليمان بن محمد ابن عمر ( ت : 1221هـ ) ، نشر : دار الفكر ، دمشق ، ط 1415هـ - 1995م.
حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع ، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي ( ت : 1392هـ ) ، ط / 2 ، 1403هـ .
حاشية ابن قندس على الفروع ، أبو بكر بن إبراهيم بن يوسف ، البغلي ( ت : 861هـ ) ، تحقيق : د . عبد الله بن عبد المحسن التركي ، نشر : مؤسسة الرسالة ، ط / 1 ، 1424هـ - 2003م .
رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ، محمد أمين ، ابن عابدين ( ت : 1252هـ ) ، تحقيق : عادل عبد الموجود ، وعلي معوّض ، نشر : دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط / 1 ، 1415هـ - 1994م .
السلطة القضائية في الإسلام ، د . شوكت محمد عليان ، نشر : دار الرشيد ،
الرياض ، ط / 1 ، 1402هـ - 1982م .
سنن النسائي ، أحمد بن شعيب ، أبو عبد الرحمن ( ت : 303هـ ) ، نشر : دار ابن حزم ، بيروت ، ط / 1 ، 1420هـ - 1999م .
الشرح الكبير على متن المقنع ، عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة ، المقدسي ( ت : 682هـ ) ، نشر : دار الفكر ، بيروت ، ط 1414هـ - 1994م(10/26)
( مطبوع مع كتاب المغني ) .
شرح مجلة الأحكام العدلية ، سليم رستم الباز ، دار إحياء التراث ، بيروت ، 1406هـ - 1986م .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، أحمد بن علي ، ابن حجر ( ت : 852هـ ) ، نشر : دار الريان ، القاهرة ، ط / 1 ، 1407هـ - 1987م .
الفروع ، محمد بن مفلح المقدسي ، شمس الدين ( ت : 763هـ ) ، تحقيق : د . عبد الله بن عبد المحسن التركي ، نشر : مؤسسة الرسالة ، ط / 1 ، 1424هـ - 2003م .
لسان العرب ، محمد بن مكرم ، جمال الدين ، ابن منظور ، الإفريقي ( ت : 711هـ ) ، نشر : دار صادر ، بيروت ، ط / 1 ، 1410هـ - 1990م .
المستصفى من علم الأصول ، محمد بن محمد ، حجة الإسلام ، أبو حامد ، الغزالي
( ت : 505هـ ) ، نشر : دار الفكر ، بيروت .
المصباح المنير ، أحمد بن محمد بن علي ، الفيومي ( ت : 770هـ ) ، نشر : المكتبة العصرية ، بيروت ، ط / 1 ، 1417هـ - 1996م .
المغني ، عبد الله بن أحمد ، أبو محمد ، موفق الدين ، ابن قدامة ( ت : 620هـ ) ، نشر : دار الفكر ، بيروت ، ط 1414هـ - 1994م .
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج ، محمد بن أحمد ، شمس الدين الشربيني
( ت : 977هـ ) ، نشر : مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر ، 1377هـ - 1958م .
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، محمد بن عبد الرحمن المغربي ، أبو عبد الله ، الحطاب ( ت : 954هـ ) ، نشر : دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط / 1 ، 1416هـ - 1995م .
نظام القضاء في الإسلام ، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، الرياض 1396هـ ، المستشار جمال صادق المرصفاوي ، نشر : إدارة الثقافة والنشر بالجامعة ، 1401هـ - 1981م .
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، محمد بن أبي العباس ، أحمد بن حمزة ، شمس الدين الرملي ( ت : 1004هـ ) ، نشر : دار الفكر ، بيروت .
الوجيز في أصول الفقه ، د . عبد الكريم زيدان ( معاصر ) ، نشر : مؤسسة(10/27)
الرسالة ، ط / 7 ، 1421هـ - 2000م .(10/28)
الاستئناف
في نظام القضاء الشرعي الأردني
إعداد:
د. آدم نوح علي معابده القضاة
أستاذ الفقه الإسلامي المساعد
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة اليرموك
المملكة الأردنية الهاشمية
بحث مقدم إلى ندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال
جامعة الشارقة
12- 14ربيع الأول 1427 هـ
11/4/2006 – 13/4/2006
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة البحث.
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن للقضاء وظيفة من أجل الوظائف وأسماها، فبه يظهر الحق وتنقطع الخصومات، وبه تحل المشكلات وتنتهي المنازعات، ولذا كانت عناية الشرع به واضحةً جليه، حين طفق يأمر بإقامة العدل بين الناس، على أساس من الحياد والمساواة، وحين نهى الناس عن التحاكم إلى الجبت والطاغوت، والكهنة والدجاجلة الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون. يقول تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } (60 : النساء)
ولقد كانت عناية فقهائنا -جزاهم الله عنا خير الجزاء- واضحة جلية في تنظيم هذا المرفق الضروري من مرافق الدولة وأعمدتها، حين أبانوا في بحوثهم ودراساتهم عن تفاصيل عديدة تتعلق بكيفية إقامة هذا القطاع بشخوصه وأنظمته، فكانت الأبواب الفقهية التي فصّلت في بيان ولاية القضاء، وشروط القاضي وآدابه، وحقوقه وواجباته، وكيفية إدارة المحكمة وسماع الوقائع والنظر في البينات، إلى غير ذلك من الإجراءات التي تضمن وإلى حد كبير صدور الأحكام العادلة وتنفيذها.(11/1)
غير أن هذا النظام اعتراه ما اعترى سائر الأنظمة الإسلامية من تشكيك وتفكيك، نظراً لما طرأ على الأمة الإسلامية من ضعف وانهزام على المستويين السياسي والفكري، حتى نبذ بالكلية في بعض بلاد الإسلام، واكتفي منه بجزء معين في بلاد أخرى... لكن الأمل ما زال يحدو الذين عرفوا دينهم حق المعرفة، وعرفوا أنه يمتلك من الخصائص والمميزات ما يؤهله لأن يكون معيناً لا ينضب لحل مشكلات الواقع والمستقبل، ما زال يحدوهم الأمل في تجلية حقائقه الناصعة وميزاته الفريدة لكل الناس، عسى أن يكون هذا حافزاً لهم للرجوع إلى أصالة الفكر، وسداد التطبيق.
وفي هذا الإطار يأتي مشكوراً جهد جامعة الشارقة لإقامة هذه الندوة المباركة، التي أقدم فيها هذا البحث حول الاستئناف في نظام القضاء الشرعي الأردني، حيث يتميز هذا النظام بأن فيه خصوصية الأخذ بالأنظمة القضائية المعاصرة في التنظيم وإجراءات التقاضي، و الالتزام بالأصول الشرعية في الحكم والتشريع، مما يشكل حلقة وصل فريدة بين الأصالة والمعاصرة في القضاء الشرعي المعاصر.
وقد اشتمل هذا البحث على ثلاثة مباحث رئيسية هي:
المبحث الأول: الاستئناف: مفهومه، وأصوله، ومحله من إجراءات التقاضي.
المبحث الثاني: موقع محاكم الاستئناف من النظام القضائي العامّ في الأردن و وظائفها.
المبحث الثالث: إجراءات محكمة الاستئناف وأنواع القرارات الصادرة عنها.
وفي ختام البحث جاءت النتائج المستخلصة وأهم التوصيات.
هذا وأسأل الله تعالى أن يكون هذا العمل مقبولاً عنده ونافعاً لعباده، وأن يلهمنا الصواب في كل ما نقول ونكتب.
والحمد لله رب العالمين
آدم نوح معابده القضاة
إربد
13- محرم – 1427 هـ
12- شباط – 2006م
المبحث الأول:
الاستئناف: مفهومه، وأصوله، ومحله من إجراءات التقاضي(11/2)
هذا المبحث مخصص لبيان جملة من القضايا الأساسية التي تشكل تمهيداً للمباحث الآتية لاحقاً، ففيه بيان لمفهوم الاستئناف في اللغة والاصطلاح، وبيان للأصول الشرعية التي استمد منها هذا المفهوم، ثم توضيح لمحل هذا الأجراء من إجراءات التقاضي من النظام القضائي العام.
المطلب الأول: مفهوم الاستئناف في اللغة والاصطلاح.
الاستئناف لغة: الابتداء، جاء في لسان العرب " استأنف الشيء إذا ابتدأه"(1) و جاء في القاموس: "الاستئناف و الائتناف: الابتداء"(2)، و المعنى ظاهر.
أما في الاصطلاح فلم يظهر هذا المصطلح في باب القضاء الشرعي(3) أو ما يرجع إليه إلا في وقت متأخر، وذلك تأثراً بالتنظيم القضائي الحديث، المستمد في معظمه من الأنظمة القانونية المعاصرة، ولذا نجد أن معظم التعريفات الواردة لهذا المصطلح هي من وضع القانونيين لا من وضع علماء الفقه الإسلامي، ومن ذلك:
تعريف قانون المرافعات الفرنسي -وهو من أوائل التعريفات القانونية لهذا المصطلح- إذ عرفه بأنّه "طريق طعن عاديّ في الأحكام الصادرة من محاكم الدرجة الأولى، و يُرفع إلى محكمة أعلى درجة هي محاكم الدرجة الثانية لغرض تعديل الحكم أو إلغائه"(4).
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج 9 ص 15.
(2) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، ص 1026.
(3) مع مراعاة وروده في سياقات أخرى وبمدلول مختلف عما نحن بصدده، جاء في الموسوعة الفقهية ج3 ص163-164: "بتتبع استعمالات هذا المصطلح لدى الفقهاء, يمكن الوصول إلى تعريف بأنه: البدء بالماهية الشرعية من أولها, بعد التوقف فيها وقطعها لمعنى خاص... وهو مصطلح يكثر استعماله في أبواب العبادات".
(4) العبودي، عباس، شرح أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية، ص 369.(11/3)
عرّفه بعض القانونيين بأنّه "إعطاء المجال للمحكوم عليه غير القانع بالحكم البدائي أن يراجع محكمة أخرى أعلى من المحكمة التي خسر دعواه فيها، وذلك يقتضي أن تكون المحكمة الثانية راجحة على المحكمة الأولى بصحة الحكم، و هذا الرجحان يكون بزيادة العدد، و بتفوّق الحكام و سعة اختبارهم و تجربتهم"(1).
عرفه الناهي بأنه "طريق من طرق الطعن العاديّة في أحكام محاكم الدرجة الأولى، أمام محكمة درجة ثانية بقصد إصلاح الخطأ الواقع في الحكم و التوصّل إلى إلغاء الحكم المطعون فيه أو تعديله"(2).
عرّفه فتحي والي بأنّه " طريق طعن عاديّ به يطرح الخصم الذي صدر الحكم كليّاً أو جزئيّاً لغير صالحه، القضيّة كلها أو جزءاً منها أمام محكمة أعلى من تلك التي أصدرت الحكم"(3).
عرفه أبو البصل بأنه " عرض القضية مرة ثانية على هيئة قضائية أعلى من الهيئة التي نظرتها لأول مرة، و تكون الهيئة الثانية – محكمة الاستئناف- متمتعة بالخبرة الواسعة و الفهم الدقيق لمسائل القضاء، و تكون أكثر عدداً من الأولى؛ لأن رأي الجماعة –في الغالب- أقوى من رأي الفرد"(4) .
جاء عند العبودي: "من المبادئ الأساسية التي يستند إليها النظام القضائي أن يكون للمحكوم عليه أن يعيد طرح النزاع أمام محكمة أعلى درجة من المحكمة التي أصدرت الحكم، لتعيد بحث النزاع و الفصل من جديد، و حقّ المحكوم عليه هذا يطلق عليه بالاستئناف"(5).
و بتدقيق التعريفات السابقة يظهر لنا ما يلي:
__________
(1) الخوري، فارس، أصول المحاكمات الحقوقيّة، ص 536.
(2) الناهي، صلاح الدين، مبادئ التنظيم القضائي و التقاضي و المرافعات في المملكة الأردنية الهاشمية، ص159.
(3) نقلاً عن: الأعرج، موسى فهد، الموجز شرح قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني، ص 134.
(4) أبو البصل، عبد الناصر، شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص 215
(5) العبودي، مرجع سابق، ص 369، بتصرف يسير.(11/4)
التعريف الفرنسي حصر الاستئناف بغاية المستأنِف منه، و هي فسخ الحكم أو تعديله، و أغفل نتيجة أخرى قد تصدر عن محكمة الاستئناف و هي تصديق الحكم أو تأييده.
في التعريف الثاني والرابع ما يشعر بأن الاستئناف حقّ للمحكوم عليه دون غيره ، مع أنّ المحكوم له أيضاً قد يستأنف إذ رأى أنّ الحكم قد أعطاه أقلّ من حقّه. كما أن من الأحكام الصادرة عن المحاكم الشرعية الابتدائيّة ما يكون تابعاً لتصديق الاستئناف، أي أنّها ترفع تلقائياً لمحكمة الاستئناف دونما طلب من أحد.
التعريف الثالث جعل الهدف من الاستئناف إصلاح الخطأ، وهذا صحيح حال الالتزام بالقيم المثلى، أما في الواقع فالاستئناف حقّ للمتخاصمين بغض النظر عن المحقّ منهما، و عليه فقد يقصد به المستأنِف إثبات خلاف الحقيقة.
التعريف الخامس أغفل الإشارة إلى أن الاستئناف هو طريق طعن عاديّ في الأحكام و القرارات القضائية ، وأطال في إطلاق الأوصاف غير المنضبطة مثل: الخبرة الواسع، و الفهم الدقيق..
يفهم مما جاء عند العبودي أنّ الاستئناف حقّ للمحكوم عليه حصراً، بالرغم من أنّه لا ينحصر بكونه للمحكوم عليه كما أسلفت، ويفهم منه أيضاً جعله الاستئناف حقّاً للمحكوم عليه، مما يعني جواز إسقاطه دائماً، و الحقيقة أنّه قد يكون كذلك، و قد يكون حقّاً عامّاً لا يسقط و لو تراضيا عليه، و كذلك فقد أغفل أنّ الاستئناف في حقيقته طريق طعن عاديّ في الأحكام.
بعد هذه الملاحظات يمكن تعريف الاستئناف بأنه: طريق طعن عاديّ(1) في الأحكام والقرارات القضائية الصادرة من محاكم الدرجة الأولى برفعها إلى محكمة من محاكم الدرجة الثانية لغرض تصديقها، أو فسخها، أو تعديلها، أو إعادة الفصل فيها.
__________
(1) "الطرق العادية للطعن هي المسنونة لإصلاح أي خطأ كان... والطرق غير العادية هي المفتوحة لإصلاح أخطاء معينة فلا تسلك إلا عند تحقق وجودها" الخوري، مرجع سابق ، ص531.(11/5)
هذا ويعتبر حكم محكمة الاستئناف أرجح في الإصابة من الحكم البدائي لعدة أسباب(1) :
أن قضاة الاستئناف أبعد عن الخصوم و أقلّ علاقة بهم من حكام البداية، لأنّ انتشار محاكم البداية و صلتها المباشرة بالمجتمع قد تشوب بعض الأحكام بصفة المحاباة.
أن قضاة الاستئناف أكثر عدداً من حكام البداية، وهذه الميّزة ترجّح الاجتهاد بالعدد.
أن قضاة الاستئناف مفروض لهم الرجحان في الآراء لسعة العلم و الخبرة، لكبر سنّهم، و طول ممارستهم للقضاء.
المطلب الثاني: الأصول الشرعية لاستئناف الأحكام القضائية.
يرى بعض الباحثين أن الاستئناف لم يعرف لفظاً ولا مفهوماً في الفقه الإسلامي، وأنّ القضاء الإسلامي قائم على فكرة التقاضي على درجة واحدة تقطع في الدعوى نهائياً، لأنّ القضاء في الإسلام قائمٌ على اتصاف القاضي بصفة الاجتهاد، والاجتهاد إذا لم يكن فيه مخالفة لنصّ فإنّه لا ينقض بمثله(2). بل إن بعض القانونيين(3) يرون أن هذا هو الأصل في التقاضي عموماً، وأن إيجاد الدرجة الثانية من درجات التقاضي إنما جاء نوعاً من المبالغة في العدل وشدة الحرص عليه.
ولعل هذا مستمد بدرجة أساسية من واقع التنظيم القضائي على مدى التاريخ الإسلامي، حيث "لم ينقل لنا أن القضاء الإسلامي كان على درجتين أو أكثر، فالقضاء كما نعلم كان سهلاً في إجراءاته ... فاتبع أسلوب القضاء ذي الدرجة الواحدة فقط، ويستثنى من ذلك ما استحدثته الدولة العثمانية في أواخر عهدها من أنظمة، كدرجات التقاضي وإنشاء المحاكم النظامية إلى جانب المحاكم الشرعية"(4).
__________
(1) الخوري، مرجع سابق ، ص 49.
(2) انظر: الناهي، مرجع سابق ، ص 159.
(3) انظر: الخوري، مرجع سابق ، ص 48.
(4) أبو البصل، مرجع سابق ، ص204.(11/6)
غير أن هذا بحد ذاته لا يعني منع وجود أكثر من درجة للتقاضي، فثمة شواهد من السنة النبوية ومن فعل الصحابة رضوان الله عليهم تدل على جواز رفع الدعوى مرة أخرى لدى قاض آخر عند وجود ما يوجب ذلك(1).
غير أن هذه الشواهد لا ترقى لتجعل من التقاضي على درجتين أو أكثر أصلاً من أصول القضاء الإسلامي، بل الأصل فيه - على ما نرى - أن يكون على درجة واحدة(2). وهذا الأصل يدعمه أمران(3):
الأول: ما يترتب على إعمال هذا المبدأ من سرعة البتّ في الخصومات و عدم إطالة أمدها، وهذا فيه مصالح ظاهرة للمتخاصمين وللمجتمع وللنظام القضائي ذاته.
والثاني: أنّ الشريعة الإسلامية قد أوجدت من الضوابط ما يقلل احتمالية وقوع الخطأ لدرجة عالية، ابتداء من اعتنائها بمواصفات شخصية القاضي، و إلزامه بمشاورة الفقهاء، و الأخذ بوجوب تعدد القضاة في بعض المواضيع، و غيرها من الإجراءات.
غير أن هذا الأصل يرد عليه أمر آخر ذو أهمية بالغة، وهو وجوب نقض الحكم إذا خالف أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة، أو ثبتت مجانبته الواضحة للحق ومقتضيات العدالة(4). وهذا محل اتفاق بين فقهاء المذاهب الأربعة(5)، على تنوع في عباراتهم، التي اخترت جانباً منها فيما يلي:
__________
(1) انظر: المرجع السابق ص205 -207. الدرعان، عبد الله بن عبد العزيز ، القواعد الإجرائية في المرافعات الشرعية، 132-133.
(2) الفقير، أسامة، أصول المحاكمات الشرعية الجزائية، ص 531، والحمادي، حسن، نظرية حجية الحكم القضائي، ص 70-71.
(3) الفقير، مرجع سابق ، ص 532-533
(4) يقول ابن فرحون: "يحمل القضاء على الصحة ما لم يثبت الجور". تبصرة الحكام، ج1ص83.
(5) داود، احمد، أصول المحاكمات الشرعية، ج 2 ص 763(11/7)
جاء عند الحنفية: "وإذا رفع قضاء القاضي بعد موته, أو عزله إلى قاض يرى خلاف رأيه، فإن كان مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه؛ لإجماع الناس على نفوذ قضاء القاضي في المجتهدات، فلو أبطله القاضي الثاني كان هذا منه قضاء بخلاف الإجماع, وإن كان القضاء الأول خطأ لا يختلف فيه الفقهاء أبطله; لأنه بخلاف الإجماع, أو النص"(1). وجاء أيضاً: "إذا رفع إليه حكم قاض أمضاه إن لم يخالف الكتاب والسنة المشهورة والإجماع، لأنه لا مزية لأحد الاجتهادين على الآخر، وقد ترجح الأول باتصال القضاء به, فلا ينتقض بما هو دونه، ولأنه لو لم ينفذ الأول لما نفذ الثاني أيضاً, وكذا الثالث والرابع إلى ما لا يتناهى، لاحتمال أن يجيء قاض يرى خلاف ذلك فكان نافذا ضرورة، وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه لما كثر اشتغاله قلد القضاء أبا الدرداء، واختصم إليه رجلان فقضى لأحدهما, ثم لقي عمرَ رضي الله تعالى عنه المقضيُ عليه، فسأله عن حاله، فقال قضى علي، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لو كنت أنا مكانه لقضيت لك فقال المقضي عليه وما يمنعك من القضاء قال ليس هنا نص والرأي مشترك"(2).
__________
(1) السرخسي، المبسوط، ج16ص108.
(2) الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، ج4ص188.(11/8)
وجاء عند المالكية: " فصل في نقض القاضي أحكام غيره. ونظره في أحكام غيره يختلف, فأما العالم العدل فلا يتعرض لأحكامه بوجه إلا على وجه التجويز لها إن عرض فيها عارض بوجه خصومة، فأما على وجه الكشف لها والتعقب فلا, وإن سأله الخصم ذلك، إلا أن يظهر له خطأ, وهذا فيما جهل حاله من أحكامه هل وافق الحق أو خالفه؟ فهذا الوجه هو الذي نفى عنه الكشف والتعقب, فإن ظهر له خطأ بين لم يختلف فيه وثبت ذلك عنده فيرده ويفسخه عن المحكوم به عليه, وقد يذكر القاضي في حكمه الوجه الذي بنى عليه حكمه, فيوجد مخالفا لنص أو إجماع فيوجب فسخه, وكذلك إذا قامت بينة على أنها علمت قصده إلى الحكم بغير ما وقع, وأن هذا الحكم وقع منه سهواً أو غلطا فينقضه من بعده كما ينقضه هو. وأما القاضي العدل الجاهل فإن أقضيته تكشف فما كان منها صوابا أمضي وما كان منها خطأ بينا لم يختلف في رده"(1).
وجاء عند الشافعية : "مدار نقض الحكم على تبين الخطأ, والخطأ إما في اجتهاد الحاكم في الحكم الشرعي، حيث تبين النص أو الإجماع أو القياس الجلي بخلافه، ويكون الحكم مرتباً على سبب صحيح, وإما في السبب, حيث يكون الحكم مرتبا على سبب باطل, كشهادة الزور"(2). وجاء أيضاً: "وإذا حكم القاضي باجتهاده ثم بان حكمه خلاف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس جلي أو نقضه هو وغيره، ولا ينقض لمخالفته القياس"(3).
__________
(1) ابن فرحون، مرجع سابق ، ج1ص82.
(2) الزركشي، المنثور في القواعد، ج2ص69.
(3) المحلي، شرح المنهاج، ج4ص305.(11/9)
وجاء عند الحنابلة: "لا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه, إلا ما خالف نص كتاب, أو سنة, أو إجماعاً، وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه, فبان له خطؤه, أو بان له خطأ نفسه, نظرت: فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع, نقض حكمه ... أما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصاً ولا إجماعاً, أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله, لم ينقضه لمخالفته; لأن الصحابة رضي الله عنهم, أجمعوا على ذلك, فإن أبا بكر حكم في مسائل باجتهاد , وخالفه عمر, ولم ينقض أحكامه، وعلي خالف عمر في اجتهاده, فلم ينقض أحكامه, وخالفهما علي, فلم ينقض أحكامهما"(1).
وقد تتبع بعض الباحثين(2) مسألة النقض هذه فوجد أن فقهاءنا رحمهم الله نصوا في كثير من المواطن على أن نقض الحكم هذا قد يكون من قِبَل القاضي نفسه الذي أبرم الحكم، و قد يكون من الإمام، و قد يكون من فعل قاضي القضاة، و قد يكون من مجموعة من القضاة المشهود لهم بالعلم و الكفاءة، و قد يكون لوالي المظالم... وأورد لهذا شواهد كثيرة.
من هنا يظهر أنّ مفهوم نقض الأحكام و الاعتراض عليها، و هو أصل فكرة الاستئناف، له ما يؤيده في الفقه الإسلامي، مع ملاحظة أمرين أساسيين:
الأول: توسع موجبات الاعتراض على الحكم ونقضه في ظل التنظيم القضائي الشرعي المعاصر، ففي الوقت الذي يرى فيه فقهاؤنا –كما هو ظاهر من النصوص السابقة- أن نقض الحكم لا يصح إلا إذا خالف أحكام الشريعة الظاهرة أو المجمع عليها، نرى أن قانون أصول المحكمات الشرعية الأردني مثلاً يرى /المادة 146 أ/ أن مخالفة الوجه الشرعي والقانوني المعمول به كافياً للطعن، ومعلوم أن القوانين التي تحكم بها المحاكم الشرعية –وإن كانت مستمدة من الفقه الإسلامي- إلا أنها تمثل جانباً منه، وهي ليست بالضرورة محل اتفاق بين الفقهاء.
__________
(1) ابن قدامة، المغني، ج10 ص103-104.
(2) الفقير، مرجع سابق ، ص 535-543(11/10)
الثاني: إجراءات التقاضي التي تتبعها المحاكم الشرعية، ومحكمة الاستئناف إحداها –كما سنرى لاحقاً- بعضها مستمد من إجراءات التقاضي العامة في القانون الحديث، وبعضها مستمد من واقع الخبرة والممارسة، وهذه وإن لم تستند إلى نص أو اجتهاد خاص، إلا أنها تقع ضمن باب السياسة الشرعية، وهو الأصل الذي فرع عليه فقهاؤنا الأقدمون إجراءات التقاضي التي كانت تتناسب مع زمانهم، ونصوا على كثير منها في بحوثهم وكتاباتهم(1).
المطلب الثالث: محل الاستئناف من إجراءات التقاضي الشرعي في الأردن.
يرى شراح(2) قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني أن الاستئناف في حقيقته إنما هو أحد الطرق القانونية الممكنة للطعن في الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الشرعية الابتدائية، وقد عُرِّفت هذه الطرق تعريفاً إجمالياً بأنها : "الوسائل القانونية التي أقرها المشرع لمراجعة الأحكام القضائية التي يشوبها الخطأ والعيب، والتي بمقتضاها يتمكن الخصوم من طلب إعادة النظر في هذه الأحكام الصادرة ضدهم بقصد تعديلها أو إلغائها"(3).
وقد تفاوتت القوانين العربية والدولية في تحديد طرق الاعتراض المقبولة لديها، غير أنها في الإجمال ثمانية(4): الاستئناف، والتمييز، واعتراض الغير، وإعادة المحاكمة، والاعتراض على الحكم الغيابي، وتصحيح القرار التمييزي، والطعن لمصلحة القانون، والاشتكاء على الحكام.
__________
(1) يراجع هذا في مظانه من كتب الفقه في أبوب أدب القاضي وما يتعلق بها.
(2) انظر: أبو البصل، مرجع سابق ، ص211 وما بعدها. الداود، مرجع سابق ، ج2ص765 وما بعدها.
(3) العبودي، مرجع سابق ، ص357.
(4) انظر: الخوري، مرجع سابق ، ص531 وما بعدها. الناهي، مرجع سابق ، ص142. العبودي، مرجع سابق ، ص 358 وما بعدها.(11/11)
أما قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني، فلم يأخذ إلا بأربعة(1) منها هي: الاعتراض على الحكم الغيابي، واعتراض الغير، إعادة المحاكمة، والاستئناف. وفيما يلي بيان إجمالي لها:
الطريق الأول: الاعتراض على الحكم الغيابي(2).
حيث بين قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني في المواد 106-114 أن للمحكوم عليه غيابياً أن يعترض على الحكم الغيابي لدى المحكمة التي أصدرته، أو لدى أية محكمة شرعية أخرى، على أن تكون المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي هي صاحبة الاختصاص في النظر في الاعتراض.
على أن يكون تقديم هذا الاعتراض خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تبليغه، فتنظر المحكمة في أسباب الاعتراض، وتصدر حكمها بعد النظر إما بفسخ الحكم الغيابي أو تعديله أو رد الاعتراض.
على أن مجرد تقديم الاعتراض لا يؤثر على الحكم الغيابي ذاته، ولكنه يوقف تنفيذ الحكم المعترض عليه ما لم يكن حكماً معجل التنفيذ ، أو كان متعلقاً بالنفقة.
الطريق الثاني: اعتراض الغير.
يعرف اعتراض الغير على أنه: "طريق غير عادي للطعن في حكم مبرم، سمح به المشرع لشخص لم يكن خصماً أو ممثلاً أو متدخلاً في الدعوى التي انتهت به، وذلك لدفع كل ما يمس بحقوقه في الحكم المعترض عليه"(3).
وقد جاء في قانون أصول المحاكمات الشرعية /م115/ ما نصه: " إذا صدر حكم في دعوى يحق للشخص الذي لم يكن طرفاً فيها وكان الحكم يمس حقوقه أن يعترض عليه اعتراض الغير".
__________
(1) أبو البصل، مرجع سابق ، ص 211 و 226. وقارن مع الداود، أصول المحاكمات الشرعية، ج2 ص765. حيث عدها ثلاثة فقط.
(2) انظر: أبو البصل، مرجع سابق ، ص211 وما بعدها. الداود، مرجع سابق ، ج2ص765 وما بعدها.
(3) صلاح الدين سلحدار، أصول المحاكمات المدنية، ص267.(11/12)
وقد بينت /م116/ من القانون ذاته أن اعتراض الغير إما أن يكون أصلياً، " وهو طلب مستقل (دعوى) يقدم إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المعترض عليه، ويتضمن هذا الطلب اعتراضاً على ذلك الحكم"(1) ، أو يكون هذا الاعتراض طارئاً، وهو الاعتراض الحاصل "إذا أبرز أحد الخصوم في أثناء رؤية الدعوى إعلام حكم سابق ليثبت مدعاه، وأراد الطرف الآخر الاعتراض على ذلك الحكم المبرز"(2).
الطريق الثالث: إعادة المحاكمة(3).
تعرف إعادة المحاكمة بأنها: "طعن غير عادي في حكم مبرم في أحوال استثنائية ولأسباب معينة، بهدف نقض ذلك الحكم وإلغائه كلياً أو تعديله جزئياً ثم إصدار حكم جديد صحيح بدلاً عنه"(4).
وقد جاء في قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني/م 153/ ما نصه: "يجوز لأحد المتخاصمين أو من يقوم مقامه أن يطلب إعادة المحاكمة في الأحكام الصادرة من المحاكم الاستئنافية والأحكام التي تصدر من المحاكم البدائية وذلك في الأحوال الآتية:
أن تصدر المحكمة البدائية أو الاستئناف حكماً في إحدى القضايا مخالفاً لحكم أصدرته سابقاً مع أن ذات وصفة الطرفين اللذين صدر بينهما لم تتغيرا، والدعوى ذات الدعوى السابقة، ولم تظهر بعد صدور الحكم الأول مادة يمكن أن تكون سبباً لصدور حكم آخر مخالف.
ظهور حيلة كان أدخلها خصم طالب الإعادة بعد الحكم: بتزوير الأوراق والمستندات التي اتخذت أساساً للحكم، أو يثبت تزويرها حكماً. وذلك فبل استدعاء طلب إعادة المحاكمة.
__________
(1) أبو البصل، مرجع سابق، ص 226.
(2) أبو البصل، مرجع سابق، ص228.
(3) يقول الدكتور صلاح الدين الناهي: "إن مصطلح (إعادة المحاكمة) هو المصطلح السائد في العراق وسورية والأردن... وقد آثر المصريون استعمال مصطلح (إعادة النظر) ، وأدق من المصطلحين أن يقال استعادة المحاكمة". الناهي، مرجع سابق، ص155/هامش 1.
(4) سلحدار، مرجع سابق، ص258.(11/13)
أن يبرز للمحكمة بعد الحكم أوراقاً ومستندات تصلح لأن تكون أساساً للحكم كان الخصم قد كتمها أو حمل على كتمانها.
الطريق الرابع: الاستئناف.
وهذا الطريق هو ما سبق تعريفه، وما نحن بصدد بيان تفاصيله فيما يأتي من مباحث إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني:
موقع محاكم الاستئناف من النظام القضائي العامّ في الأردن و وظائفها
يتميز الاستئناف عن غيره من طرق الطعن في الأحكام القضائية بأن النظر فيه لا يكون إلا من محاكم متخصصة، وهذه المحاكم لها موقعها من النظام القضائي العام، ولها وظائفها المحددة بموجب القوانين التي شكلت بمقتضاها، وفيما يلي بيان ذلك.
المطلب الأول: موقع محاكم الاستئناف من النظام القضائي العامّ في الأردن(1).
جاء في الدستور الأردني (سنة 1952) في الفصل الخاص بالسلطة القضائية ما يلي:
المادة (98): يعيّن قضاة المحاكم النظامية والشرعية ويعزلون بإرادة ملكية وفق أحكام القوانين.
المادة (99): المحاكم ثلاثة أنواع:
المحاكم النظاميّة.
المحاكم الدينيّة.
المحاكم الخاصّة.
المادة (104): تنقسم المحاكم الدينيّة إلى:
المحاكم الشرعيّة.
مجالس الطوائف الدينيّة الأخرى
المادة (105): للمحاكم الشرعية وحدها حقّ القضاء وفق قوانينها الخاصة في الأمور التالية:
مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين.
قضايا الدية إذا كان الفريقان كلاهما مسلمين، أو كان أحدهما غير مسلم و رضي الفريقان أن يكون حقّ القضاء في ذلك للمحاكم الشرعية.
الأمور المختصّة بالأوقاف الإسلاميّة.
المادة (106) تطبق المحاكم الشرعية في قضائها أحكام الشرع الشريف.
__________
(1) انظر: الظاهر، راتب، مجموعة التشريعات الخاصة بالمحاكم الشرعية، ص 5-31،و محيلان، محمد، القضاء الشرعي الأردني في العهد الهاشمي، ص 47 و ما بعدها، و أبو البصل، مرجع سابق ، ص 110 و 114(11/14)
هذه المواد كما يلاحظ هي التي تنظم عمل المحاكم الشرعية في الأردن، حيث يلاحظ أن القضاء الأردني يقوم على مبدأ الفصل بين المحاكم النظامية والمحاكم الدينية، التي تعتبر المحاكم الشرعية نوعا ًمنها، مع تحديد الموضوعات التي تنظر فيها دون غيرها.
أما تشكيل المحاكم الشرعية ففيه قانون خاص يدعى قانون تشكيل المحاكم الشرعية رقم (19) لسنة 1972، وفيه بيان لكيفية تنظيم هذه المحاكم، حيث نصّت /المادة 21/ منه على ما يلي:
تشكّل في المملكة الأردنية الهاشمية محاكم شرعية ابتدائية في الألوية و الأقضية (أو في أي مكان آخر)، و محكمة استئناف واحدة أو أكثر حسب الحاجة بنظام يقرّه مجلس الوزراء من آن إلى آخر بموافقة الملك.
تؤلّف المحكمة الابتدائية من قاضٍ منفرد، و المحكمة الاستئنافية من رئيس و عدد من الأعضاء، و تنعقد من رئيس و عضوين، و في حالة عدم اشتراك الرئيس تنعقد الجلسة برئاسة القاضي الذي يليه في الدرجة من هيئة المحكمة و تصدر قراراتها بالأكثرية، وتكون أحكامها قطعية.
ثمّ صدر نظام محاكم الاستئناف الشرعيّة سنة 1977م و نصّ على تشكيل محكمة استئناف شرعية في كل من عمان و القدس، ثم عدّل سنة 2002 بإضافة محكمة للاستئناف في إربد.
فأصبح اختصاص محكمة استئناف عمان الشرعية النظر في الدعاوى المستأنفة من قبل المحاكم الابتدائية في كل من محافظات عمان و الزرقاء و مأدبا و الكرك و الطفيلة و معان و العقبة، و اختصاص محكمة استئناف إربد الشرعية النظر في الدعاوى المستأنفة من قبل المحاكم الابتدائية في كل من محافظات إربد و المفرق و جرش وعجلون، و تختصّ محكمة استئناف القدس الشرعية بأعمال محكمة القدس الشرعية الابتدائية التي لا زالت تتبع السيادة الأردنية.(11/15)
و بالتالي يظهر أنّ محاكم الاستئناف الشرعيّة هي جزء رئيسي من مكوّنات النظام القضائي الأردني العامّ، و هي أعلى سلطة قضائية شرعية في المملكة الأردنيّة الهاشمية، و قراراتها قطعيّة في المواضيع التي نصّ الدستور الأردني على أنّها من اختصاص المحاكم الشرعية.
المطلب الثاني: الاختصاص الوظيفي لمحكمة الاستئناف الشرعية الأردنيّة.
يقصد بالوظيفة أو اختصاص الوظيفة في علم أصول المحاكمات: تقيد المحكمة بذاتها برؤية أنواع الدعاوى التي أمرت بسماعها والحكم فيها بموجب القانون(1)، مما يعني أن لكل نوع من المحاكم أنواعاً محددة من الدعاوى التي يصح لها أن تنظر فيها، وهذا ما أريد بيانه في هذا المطلب مما يتعلق بمحاكم الاستئناف الشرعية في الأردن.
الأصل في قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني / م135 و م 137/ أنه يجوز لمحكمة الاستئناف الشرعية النظر في جميع الأحكام الفاصلة التي تصدر عن المحاكم الشرعية الابتدائية، حال توفر شروط الاستئناف المقررة في القانون.
والظاهر أن هذا القانون لم يستثن من هذا الأصل العام شيئاً، بخلاف قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني الذي بين في المادة 177 منه على أن اتفاق الطرفين على أن ترى دعواهما وتفصل في محكمة الدرجة الأولى دون أن يكون لأي منهما الحق في استئناف حكم تلك المحكمة لا يُبقي لأي منهما الحق في الاستئناف، على اعتبار " أن حق الطعن بطريق الاستئناف هو حق مقرر لمصلحة الخصوم، فإذا اتفق الخصوم على ارتضاء حكم محكمة الدرجة الأولى مهما كان وعلى عدم استئنافه سقط حق أي منهما في الاستئناف"(2).
__________
(1) انظر: الخوري، مرجع سابق، ص145. عبابنه، علي إبراهيم. إيضاحات في قانون أصول المحاكمات الشرعية، ص 2.
(2) الأعرج، مرجع سابق، ص135.(11/16)
ووجه الفرق في منحى القانونين –فيما يظهر لي- أن القواعد العامة في الشريعة الإسلامية تأبى هذا الاستثناء، حيث أن الحقوق التي تقضي فيها المحاكم الشرعية ليست حقوقاً شخصية محضة، بل منها ما هو حق محض لله تعالى –كما سيأتي بيانه- ومنها ما هو مشوب في كثير من الأحيان بحق الله تعالى، مما يجعل الاتفاق المسبق على عدم الاستئناف فيه رغم وجود ما يوجبه اتفاقاً يناقض النظام الشرعي العام، وما كان كذلك لا يجوز الاتفاق على خلافه.
إلى جانب الأحكام الفاصلة أجاز القانون لمحكمة الاستئناف الشرعية النظر في بعض القرارات القضائية وإن لم تكن فاصلة في موضوع الدعاوى. كما أنه قسم الاستئناف إلى نوعين: استئناف جبري وهو الذي يتم بحكم القانون ولو لم يرَ طرفا الدعوى ذلك. واستئناف جوازي، أي راجع إلى إرادة واختيار طرفي الدعوى. وفيما يلي بيان لهذا كله:
أولاً: الأحكام التابعة للاستئناف وجوباً.
نصّ قانون أصول المحاكمات الشرعيّة /م138/ على: ترفع المحاكم الابتدائية إلى محكمة الاستئناف الشرعية الأحكام الصادرة على القاصرين، وفاقدي الأهليّة و على الوقف و بيت المال، و أحكام فسخ النكاح، و التفريق، والطلاق و الرضاع المانع للزوجيّة، والإمهال للعنّة، و الجنون، وغير ذلك مما يتعلّق به حقّ الله تعالى، وأحكام الدية؛ لتدقيقها، بعد مضيّ ثلاثين يوماً من صدور الحكم، و يشترط في ذلك أن لا يكون الخصوم قد استأنفوا هذه الأحكام خلال المدة المعيّنة و فصلت محكمة الاستئناف في موضوعها.
وجاء فيه أيضاً /م139/ : الأحكام الخاضعة للتدقيق من قبل محكمة الاستئناف لا تنفذ إلا بعد تصديقها استئنافاً...(11/17)
تبيّن المادة الأولى وشطر المادة الثانية أنّ ثمّة أحكاماً صادرة عن المحاكم الابتدائية يوقف نفاذها على تصديق محكمة الاستئناف لها، و ذلك لتعلّق حقّ الله سبحانه وتعالى بموضوع هذه الدعاوى أو لخطورته، مما يعني أن الأحكام التي تصدر فيه هذه المواضيع تستأنف بقوة القانون، و لو لم يستأنفها أحد من أطراف الدعوى.
غير أن خضوع هذه الأحكام للاستئناف بحكم القانون لا يعني حرمان أطراف الدعوى من التقدم بطلب الاستئناف، وهذا ما أشار إليه ذيل المادة 138، فإبقاء هذا الحق لهم يترتب عليه أثر هام، فعند رفع الدعوى من قِبل الخصوم فإن المحكمة تنظر في كافة الحقوق المترتبة عليها سواء منها ما كان حقاً لله تعالى أو حقاً للعباد، أما إذا رفعت الدعوى بموجب حكم القانون فقط فإن محكمة الاستئناف تنظر في الجزء المتعلّق بحقّ الله سبحانه وتعالى، لأنّ الخصوم لم يطلبوا شيئاً لحق أنفسهم، أمّا حقّ الله سبحانه و تعالى فلا يملك أحدٌ التنازل عنه(1) .
هذا وقد جاءت قرارات محكمة الاستئناف الشرعية مفصّلة ومضيفة على ما جاء في المادة 138 مما يجب أن يرفع إليها لتدقيقه وجوباً(2) , فذكرت جملة من الأحكام منها:
الأحكام الصادرة على القاصرين لغير مصلحتهم(3) .
الحكم بوفاة مفقود، إذا كانت له زوجة، أو ورثة قاصرين(4) .
دعوى عدم المعارضة في الزواج (5).
الحجر للعته و الجنون (6).
الحكم بنسب الصغير (7).
الحكم بقطع النسب (8).
إثبات عقد الزواج (9).
__________
(1) أبو البصل، مرجع سابق ، ص 218
(2) انظر هذه القرارات الصادرة عن محكمة استئناف عمان الشرعية في كتب: عمرو، عبد الفتاح، القرارات القضائية في أصول المحاكمات الشرعية، ص 24-45،و عبابنه، مرجع سابق، ص 210-212
(3) قرار رقم 20085
(4) قرار رقم 16862 و 8057 و 12228 و 19876 و 37396 و 30946 و 200151 و 22509
(5) قرار 5679
(6) قرار رقم 20853
(7) قرار رقم 14242
(8) قرار رقم 26201 و 14242
(9) قرار رقم 34912(11/18)
ردّ الدعوى لعدم ثبوت الزوجيّة (1).
نفقة القاصرين في أموالهم (2).
ثبوت دعوى الرجعة أو ردّها (3).
الحكم الضارّ بالوقف و المؤثّر فيه (4).
الحكم بالتفريق بشتى أنواعه (5).
الحكم على تركة من لا وارث له (6).
و يتبيّن من خلال استعراض هذه الأحكام مدى أهمّيتها، إمّا لتعلّق حقّ الله سبحانه و تعالى بها، أو لخطورة نفاذها و آثارها على الأسرة و المجتمع، و بالتالي يكون في نظرها مرة أخرى من قبل محكمة الاستئناف تدقيقاً مراجعة لهذه الأحكام، و فحص موجباتها، ومدى موافقتها للأصول، حتى تكون بعد القطع بها صحيحة، بعيدة إلى درجة كافية عن الخطأ و التسرّع الذي لا يمكن تداركه بعد صيرورة الحكم قطعيّاً.
و هذا النوع من الاستئناف مما اختص به قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني، وإلى هذا يشير د. الناهي بقوله: "وما ذكرناه من أحوال الاستئناف هو الاستئناف الاختياري الذي يمارس بناءً على الرخصة المقررة في الاستئناف، وهي فرع الرخصة في التقاضي والارتفاع للمحاكم، وإلى جانب ذلك ثمة أحوال ينبغي أن تستأنف الأحكام الصادرة فيها من المحاكم الشرعية استئنافاً حتمياً لتعلق موضوعها بحق من حقوق المصلحة العامة الموسومة في الفقه الإسلامي بحق الله تعالى..."(7).
ثانياً: القرارات القابلة للاستئناف.
جاء في /م137/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية: يجوز استئناف الأحكام الفاصلة في موضوع الدعوى، و قرارات الوظيفة و الصلاحية و مرور الزمن.
__________
(1) قرار رقم 11790 و 12327
(2) قرار رقم 15613 و 18489
(3) قرار رقم 35150 و 40975 و 7851 و 13972
(4) قرار رقم 13748
(5) قرار رقم 14100
(6) قرار رقم 9417 و 10067
(7) الناهي، مرجع سابق، ص165.(11/19)
بيّنت هذه المادة أنّ ثمة أنواعاً من القرارات التي تصدرها المحكمة الابتدائية أثناء السير في الدعوى و قبل فصلها أو إصدار الحكم فيها، والتي يجوز لأحد المتخاصمين أن يستأنفها بشكل مستقل قبل أن يتمّ الفصل في الدعوى (1) ، وهذه القرارات هي: الوظيفة والصلاحية ومرور الزمن.
و قد سبق لي أن بينت في بداية هذا المطلب(2) ما يقصد بالوظيفة حيث بينت أنها مما يتعلق بنوع الدعوى التي يجوز للمحكمة النظر فيها، أما الصلاحية أو اختصاص الصلاحية فيتعلق بشخصية الخصوم، من حيث المحلّ الذي يقيمون فيه، لأنّ المحكمة لها حقّ الحكم ضمن منطقتها القضائية فقط، و ليس لها حقّ القضاء على أشخاص خارجين عن دائرتها، لوقوعهم ضمن صلاحية محكمة أخرى(3).
أما مرور الزمن فهو أحد الدفوع التي يمكن أن يتمسك به المدعى عليه لمنع السير في الدعوى المقامة ضده، حيث يعتبر القانون(4) أن مرور مدة زمنية معينة على بعض الحقوق يمنع من سماعها أمام المحكمة.
و يظهر أثر هذه المادة فيما لو قام أحد الخصوم قبل الإجابة على موضوع الدعوى بدفعها دفعاً شكلياً بحجة أنّ الدعوى ليست من صلاحية المحكمة أو وظيفتها، أو دفع بمرور الزمن على موضوع الدعوى، ثمّ فصلت المحكمة في هذا الموضوع، فإنه يجوز لأحد المتداعيين أن يستأنف هذا القرار، قبل أن تكمل المحكمة الابتدائية السير في الدعوى.
__________
(1) أبو البصل، مرجع سابق ، ص 217
(2) انظر ص من هذا البحث.
(3) الخوري، مرجع سابق ، ص 183، و عبابنه، مرجع سابق ص 2 .
(4) انظر هذا في القانون المدني الأردني في الفصل السادس: انقضاء الحق، الفرع الثالث: مرور الزمن المسقط للدعوى، المواد من 449-464.(11/20)
و قد حصر القانون القرارات التي تصدر عن المحكمة و التي يجوز استئنافها استقلالاً حفاظاً على وقت المحاكمة من جهة، فلا يضيع في استئناف كل قرار يصدر عن المحكمة، طالما كان لأطراف الخصومة أن يستأنفوا الدعوى بعد فصلها، و حفاظاً على جهد المحكمة من جهة أخرى، إذ ما فائدة أن تأخذ المحكمة جهداً و وقتاً في المحاكمة ثمّ يتبيّن أنّها ليست ضمن صلاحيّتها أو وظيفتها.
المطلب الثالث: الوظيفة الاجتهادية لمحكمة الاستئناف.
إذا كان المتبادر للذهن من تسمية محكمة الاستئناف بهذا الاسم اختصاصها بالنظر في الدعاوى المستأنفة، فإن إمعان النظر في نصوص القانون يظهر أن لها وظيفة أخرى ذات أهمية كبيرة، وهي الاجتهاد في تفسير نصوص القوانين التي تعمل بها المحاكم الشرعية الابتدائية، بل والاجتهاد في تفسير مواد القانون التي تعمل هي بمقتضاه، حتى أصبح فهم هذه القوانين وفهم ما عليه العمل في المحاكم لا يستقيم دون الرجوع إلى قراراتها(1).
وقد نظّمت جملة من المواد القانونية هذه الوظيفة، وبينت حدودها، من ذلك /المادة 183/ من قانون الأحوال الشخصية الأردني التي نصت على: ما لا ذكر له في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة.
ومنها أيضاً /المادة 150/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية التي نصت على: إذا رأت محكمة الاستئناف أن المسألة الفقهية أو القانونية التي ينبني عليها الفصل في أي قضية مستأنفة قد سبق صدور أحكام استئنافية بشأنها يخالف بعضها البعض الآخر، أو كان من رأيها العدول عن اتباع مبدأ تقرر في أحكام سابقة، جاز لها أن تصدر قرارها في تلك القضية بما تراه صواباً، وفي هذه الحالة تنعقد المحكمة من خمسة قضاة، ويكمل قاضي القضاة هيئة المحكمة عندئذٍ بطريق الانتداب.
__________
(1) انظر: عبابنه، مرجع سابق، ص1 من المقدمة.(11/21)
وتكتسب هذه الاجتهادات قوة كبيرة من كونها قطعية في حكم القانون، بناءً على ما جاء في المادة 21 من قانون تشكيل المحاكم الشرعية المعدل.
المطلب الرابع: محكمة الاستئناف الشرعية بين القانون و الموضوع.
تصنف المحاكم -عند بعض الباحثين في أصول المحاكمات عموماً- باعتبار وظيفتها إلى محكمة قانون ومحكمة موضوع، وتتميز محكمة القانون بأنها "لا تتعرض لتدقيق ما تم تدقيقه والبت فيه في محكمة الموضوع، من وقائع الدعوى وبنود العقود، ولا لما يدخل في السلطة التقديرية لتلك المحكمة في اتخاذ بعض الإجراءات المتعلقة بموضوع الدعوى"(1).
في حين أن محكمة الموضوع تستمع للدعوى مرافعة أمامها، فتستمع للبيّنات، والدفوع، وتفصل في موضوع الدعوى .
و بناء على هذا التقسيم فإنّ محاكم الاستئناف الشرعية الأردنيّة تقوم بالدورين معاً، بصفتها المحكمة الأعلى في نظام القضاء الشرعي، فقد نصّت /المادة 143/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية على:
تفصل محكمة الاستئناف الشرعية في القضايا المستأنفة تدقيقاً دون حضور الطرفين، إلا إذا قررت المحكمة الاستئنافية سماع الدعوى مرافعة أو طلب أحد الطرفين ذلك، و وافقت المحكمة على الطلب، وعليها في حالة الرفض أن تدرج أسباب الرفض.
و عليه فقد تدقق محكمة الاستئناف في الدعوى دون رؤية أطرافها، أو إعادة استماع بيّناتهم تدقيقاً فتكون محكمة قانون، و قد ترى أنّ ثمّة حاجة لإعادة استماع الدعوى مرافعة، أو يطلب هذا أحد أطراف الدعوى، فتكون محكمة موضوع.
__________
(1) الناهي، مرجع سابق، ص179.(11/22)
أمّا ما ذهب إليه بعض الباحثين من أنّ إطلاق اسم (الاستئناف) على ما يرفع لمحكمة الاستئناف الشرعية فيه من التجاوز في إطلاق الأسماء ما ينبغي الاحتراز عنه، ذلك أنّ عملها يماثل عمل محكمة التمييز في القضاء النظامي... والتي هي محكمة قانون وليست محكمة موضوع، وأنه يجب أن يطلق عليها اسم محكمة التمييز الشرعية(1) . فهو بحاجة إلى تأمل وإعادة نظر، وذلك للأسباب التالية:
إنّ محاكم الاستئناف النظاميّة تنظر في الدعوى تدقيقاً، أو مرافعة حسب الجهة التي استؤنف حكمها، فإذا كان الحكم صادراً عن محاكم الصلح فإن محكمة الاستئناف تنظر في الطعن تدقيقاً دون سماع أي من الأطراف، إلا إذا قررت محكمة الاستئناف رؤية الدعوى مرافعة من تلقاء ذاتها، أو طلب أحد الخصوم ذلك و وافقت المحكمة على طلبه(2) ، و هذا هو ما نصّ عليه قانون أصول المحاكمات الشرعية أيضاً /م143/ كما سبق بيانه، وفي هذا تشابه بين عمل المحكمتين ظاهر.
إنّ محكمة التمييز ليس لها أن تحكم في القضية المرفوعة إليها، بل تبرم الحكم الذي تراه صحيحاً، و تنقض الحكم الذي لا تراه كذلك(3) فهي بالتالي لا تتدخل مطلقاً في موضوع الدعوى، و ليس لها بحال إعادة سماع الدعوى(4).
أمّا محكمة الاستئناف الشرعية فهي تختلف عنها بأن لها رؤية الدعوى مرافعة، و إصدار حكم في موضوعها، أو تعديل حكم المحكمة الابتدائية أو تصديقه من حيث النتيجة، كما نصّت على ذلك /المادة 146/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية.
__________
(1) أبو البصل، مرجع سابق ، ص 216
(2) العبودي، مرجع سابق ، ص 378، و انظر قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني المادة (182).
(3) خوري، مرجع سابق ، ص 547.
(4) الناهي، مرجع سابق ، ص 179(11/23)
كما أنّ لمحكمة الاستئناف إن رأت أن أسباب الحكم متوافرة لديها أن تفصل بموضوع الدعوى و لو على نحو مخالف لحكم المحكمة الابتدائية، كما نصّت على ذلك /المادة 148/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية، بينما لا يحقّ لمحكمة التمييز النظامية أن تفعل هذا.
لهذا كله فإنّ الدعوة لإطلاق اسم التمييز على محاكم الاستئناف الشرعية يحجب كثيراً من اختصاصاتها، ولا يوفّر لها أية ميّزة إضافيّة، فعملها مشابه في حقيقته لعمل محاكم الاستئناف النظامية، إلا أنّها تمتاز عنه بأنّها المحكمة العليا الشرعية.
المبحث الثالث:
إجراءات محكمة الاستئناف وأنواع القرارات الصادرة عنها
بين قانون أصول المحاكمات الشرعية، وكذلك القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف الشرعية الإجراءات اللازم إتباعها للترافع أمام هذه المحكمة، كما بين القانون أنواع القرارات التي تصدرها هذه المحكمة في القضايا المنظورة لديها؛ مما يضمن ضبط عملية التقاضي ويوحد إجراءاته.
المطلب الأول: إجراءات وشروط طلب استئناف الأحكام و القرارات.
بيّنت مواد قانون أصول المحاكمات الشرعية في الفصل الثاني و العشرين منه إجراءات استئناف الأحكام و القرارات الصادرة عن المحاكم الابتدائية كما يلي:
أولاً: مدّة الاستئناف.
و هي المدة التي يحقّ خلالها لأحد أطراف الدعوى التقدّم خلالها باستئنافه على حكم المحكمة الابتدائية و قد بينتها /المادة 163/ والتي نصها:
مدة الاستئناف ثلاثون يوماً تبدأ من تاريخ صدور الحكم، إذا كان الحكم وجاهياً و من تاريخ تبليغ الحكم إلى المستأنف إن كان غيابيّاً، ويسقط من المدة اليوم الذي صدر فيه الحكم، أو جرى فيه التبليغ، كما تسقط أيام العطل الرسمية إذا وقعت في نهاية مدة الاستئناف.
يجوز استئناف الحكم الغيابي قبل تبليغه، و يعتبر ذلك تبليغاً على أن يُشفع الاستئناف بإعلام الحكم المُستأنف.(11/24)
إذا كان الفريق الراغب في الاستئناف قدّم استدعاء يطلب فيه إصدار قرار بتأجيل دفع رسوم الاستئناف فالمدة التي تبدأ من يوم تقديم الاستدعاء و تنتهي في يوم إبلاغه القرار الصادر بشأن استدعائه لا تحسب من المدة المعيّنة للاستئناف.
ثانياً: مكان تقديم الاستئناف.
نصّت على هذا /المادة 140/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية بقولها:
للمستأنف أن يقدّم الاستئناف إلى محكمة الاستئناف الشرعية مباشرة، أو بواسطة أية محكمة أخرى، و بعد استيفاء الرسم في الحالتين ترسل الأوراق إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لتسجيل الاستئناف و تبليغ اللائحة إلى المستأنف عليه، و عند إتمام المعاملة بمقتضاه ترفع القضية و الأوراق المتعلّقة بها إلى محكمة الاستئناف الشرعية.
و توضيح ذلك: لو أن محكمة عمان الشرعية الابتدائية أصدرت حكماً في دعوى ما، جاز لأحد أطراف هذه الدعوى أن يقدّم استئنافه في نفس المحكمة، أو في أية محكمة شرعية أخرى، يدفع فيها رسم الاستئناف، ثم تقوم المحكمة التي استقبلت معاملة الاستئناف بإرسال هذه المعاملة إلى المحكمة التي أصدرت الحكم، لتقوم الأخيرة بضمّ هذا الطلب إلى ملف الدعوى، و لتقوم بتبليغ المستأنف عليه نسخة من لائحة الاستئناف، ثمّ ترفع الدعوى و كامل مستنداتها إلى محكمة الاستئناف الشرعية المختصة.
ثالثاً: شروط تقديم طلب الاستئناف(1) :
تقديم لائحة على نسختين معنونة باسم محكمة الاستئناف الشرعية المختصة تشمل على اسم المستأنف، و اسم المستأنف عليه و توقيعه، وأسباب الاستئناف.
أن تقدم هذه اللائحة في المدة المنصوص عليها قانوناً و التي ذكرتها آنفاً.
__________
(1) أبو البصل، مرجع سابق ، ص 220، و الناهي، مرجع سابق ، ص 166، و عبابنه، مرجع سابق ، والمادتان 141 و145 من قانون أصول المحاكمات الشرعية.(11/25)
أن يدفع الرسم المقرر، و يعتبر تاريخ دفع الرسم هو تاريخ الاستئناف(1)، وقد نصّت /المادة 17/ من نظام رسوم المحاكم الشرعية على أنّ رسم استئناف الدعوى هو نفس رسم رفع الدعوى لدى المحكمة الابتدائية(2) و معلوم أنّ رسم الدعوى لدى المحاكم الابتدائية يختلف باختلاف موضوعها.
لا يجوز للمستأنف أن يضمّن لائحته أموراً واقعية لم تكن مدار بحث في القضية المستأنفة. فلا يقبل مثلاً من المستأنف ذكر سبب أو دفع جديد لم يكن قد ورد ذكره وادعى به أمام المحكمة الابتدائية(3).
وهذا الشرط الأخير هو مما نصت عليه /المادة 145/ من قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني، حيث يقول د. الناهي معلقاً: "وظاهر أن المقصود بحصر النظر في الأسباب المبينة في لائحة الاستئناف ... وعدم جواز تقدم المستأنِف بأسباب أخرى هو الحرص على تنظيم سير المرافعة والحيلولة دون تفرعها وتشعبها دون جدوى، ومع ذلك فإن القانون لم يوصد الباب أمام الأسباب المعقولة التي تتصل بحسن الفصل في الاستئناف، فقد جعل للمحكمة سلطة تقدير قبول الأسباب المعقولة وإباحة إيرادها أثناء المرافعة..."(4).
رابعاً: آثار تقديم طلب الاستئناف(5) .
بعد أن يتقدّم المستأنف بهذا الطلب يترتب عليه أثران :
تأخير تنفيذ الحكم المستأنف الذي أصدرته المحكمة الابتدائية، وهذا ما يسمى بالأثر الموقف.
نقل النظر في الخصومة إلى محكمة الاستئناف، وهذا هو الأثر المسمى بالمعلن، أو أيلولة النظر في الخصومة إلى محكمة الاستئناف.
__________
(1) انظر القرار رقم 30411، راجع عمرو، مرجع سابق ، ص 43
(2) الظاهر، مرجع سابق ، ص 117
(3) انظر القرارين 12192 و13709 من قرارات محكمة الاستئناف الشرعية. نقلاً عن عبابنه، مرجع سابق، ص218.
(4) الناهي، مرجع سابق، ص167.
(5) الناهي، مرجع سابق ، ص 171، وقارن مع أبي البصل، مرجع سابق ، ص 221(11/26)
إلا أنّ قانون أصول المحاكمات الشرعية في /المادة 152/ منه استثنى في من وقف التنفيذ الحكم بنفقة، أو الحكم معجّل التنفيذ.
بعد أن تستلم المحكمة الابتدائية لائحة الاستئناف من المستأنف حسب ما ذكرت آنفاً يُمهل المستأنف عليه مدّة عشرة أيام من تاريخ تبليغه ليقدّم لائحة جوابية على الاستئناف المقدّم ضده، إن رغب، وبعد ذلك تُرفع الدعوى إلى محكمة الاستئناف الشرعية بغض النظر عن إجابته أو عدمها(1).
المطلب الثاني: إجراءات تدقيق الدعوى(2) .
أولاً: بعد وصول ملف الدعوى إلى ديوان محكمة الاستئناف، يقوم كتّابها بتسجيلها في سجل أساس المحكمة، مثبتين فيه اسم القاضي الذي أصدر الحكم، و المحكمة الابتدائية،و أسماء أطراف الدعوى، و موضوعها، و رقم الحكم الصادر عن المحكمة، و تاريخه، و تُعطى رقماً متسلسلاً يسمّى رقم الأساس الاستئنافي.
ثانياً: يسلّم ملف الدعوى إلى رئيس الهيئة ليقوم بقراءاتها – محاضر الجلسات، و ملحقاتها- بشكل منفرد، و تسجيل ملاحظاته حول هذه الدعوى، و تبقى هذه الملاحظات سريّة، ثم تعطى للعضو الذي يليه في الدرجة، ثم الذي يليه، و كلٌ منهم يدوّن ملاحظاته على النحو السابق، لتعاد مرة أخرى لرئيس الهيئة.
__________
(1) المادة (141/2) من قانون أصول المحاكمات الشرعية.
(2) هذه المعلومات مستقاة من مقابلة شخصية مع رئيس ديوان محكمة استئناف إربد الشرعية، في مكتبه في المحكمة يوم الاثنين 26/12/2005م، من الساعة العاشرة و حتى الثانية عشرة ظهراً.(11/27)
ثالثاً: يدعو رئيس المحكمة أعضاء الهيئة لاجتماع في قاعة المداولات، و يعرضون القضايا واحدة واحدة، و يبدي كلٌّ منهم ملاحظاته عليها، حسب ما دوّنه سابقاً، ففي حالة اتفقوا على رأي واحد بالتصديق أو الفسخ أو غير ذلك، تعطى لأحد أعضاء الهيئة وفق ترتيب معيّن بالدور ليقوم بكتابة مسوّدة القرار، و في حالة الاختلاف، يكتب أحد العضوين مسودة القرار، و يعطى للعضو المخالف ليكتب مسودة قرار مخالفته على القرار، ليصير بعد ذلك جزءاً من القرار يعنون بـ(قرار مخالفة)
رابعاً: بعد أن تكتب المسودة، و تعرض مرّة أخرى على أعضاء الهيئة التي نظرت القضية تدقيقاً، تسلّم لرئيس الكتاب، ليقوم بتدوين نتيجة القرار في سجل يسمى (سجل أرقام القرارات الاستئنافية) و يثبت على مسودة القرار رقمه و تاريخه، ثم توزّع على الكتاب ليقوموا بطباعة هذه المسودة، و عرضها على الهيئة مرة أخرى لتدقيقها، و إمضائها للمرة الأولى، ثم تطبع على أربعة نسخ يوقّع عليها أعضاء الهيئة و رئيس المحكمة.
خامساً: تحفظ مسوّدات القرار في سجل خاص و ترسل نسختين من القرار الاستئنافي إلى المحكمة الابتدائية مع ملف الدعوى، لتقوم بحفظ أحدها في ملف الدعوى، و الأخرى في سجل خاصّ، و تبقى لدى المحكمة نسختين من هذه القرار تحفظان في سجّلات خاصة، و يؤشّر على سجل الأساس برقم القرار، و نتيجته.
و بالتالي تكون الدعوى قد انتهت من محكمة الاستئناف الشرعية بجميع مراحلها.
و يلاحظ من هذه الإجراءات ما يلي:
الجهد المبذول في رؤية الدعوى بتدقيقها، فعضو محكمة الاستئناف، يرى الدعوى أربع مرات، مرة عند تدقيقها، و مرة عند مناقشتها، و مرة عند كتابة قرارها، و تدقيقه، و مرة بعد طباعته بصيغته الأخيرة.
أنّ المناقشة للدعاوى بين القضاة أعضاء هيئة المحكمة إنّما يتمّ بعد دراستها بشكل منفرد، و هو ما يجمع ميزتي الصفاء بالدراسة، و إغناء الملاحظات بالمناقشة.(11/28)
أنّ مخالفة أحد الأعضاء للأكثرية لا تحرمه من أن يطّلع القاضي الابتدائي على وجهة نظره، و كذلك فإنه يثري البحث والنقاش بين القضاة، سواء قضاة الاستئناف أو قضاة محكمة البداية.
الدقّة المتحراة في صياغة القرارات، و تدقيق طباعتها، بما يبيّن أهميّة هذه القرارات و أنّها مرجع قانونيّ أعلى في القضاء الشرعي.
المطلب الثالث: أنواع قرارات محكمة الاستئناف.
حدد قانون أصول المحاكمات الشرعية صلاحيات محكمة الاستئناف الشرعية في أنواع القرارات الصادرة عنها بما جاء في /المادة 146/ منه والتي تقول:
إذا ظهر لمحكمة الاستئناف أنّ لائحة الاستئناف قُدّمت ضمن المدة القانونية، و أنها مستوفية للشروط المطلوبة فلها:
أن تؤيّد الحكم المستأنَف، إن كان موافقاً للوجه الشرعي و الأصول القانونية، مع ردّ الأسباب التي أوردها المستأنف.
إذا ظهر لها أنّ في بعض الإجراءات و المعاملات التي قامت بها المحكمة البدائية بعض النواقص الشكلية أو أنّ في القرارات التي أصدرتها مخالفة للأصول مما يمكن أن يُتدارك بالإصلاح و أنّه لا تأثير لتلك الإجراءات و الأخطاء على الحكم المستأنَف من حيث النتيجة و أنه في حد ذاته موافق للشرع و القانون أصدرت قرارها بتأييده، و نبّهت المحكمة البدائية.
إذا كانت النواقص و الأخطاء الواقعة في إجراءات القضية مما لا يمكن تداركه بالإصلاح، أو كان الحكم في حدّ ذاته مخالفاً للوجه الشرعي و القانوني فسخت الحكم أو عدّلته.
و أكمل القانون صلاحيات المحكمة في /المادة 147/ فقال: يردّ الاستئناف إذا لم يقدّم في الميعاد المقرر.(11/29)
و كذلك /المادة 148/ التي نصّت على أنه في حالة فسخ الحكم المستأنَف كلّه أو بعضه كما ورد في /المادة 146/ و كانت القضية صالحة للفصل تكمل محكمة الاستئناف المحاكمة من الجهة التي فسخت الحكم بسببها، و تُتمّ الإجراءات، و من ثم تحكم في أساس القضية، أو تعدّل حكم المحكمة البدائية دون أن تعيد القضية إلى المحكمة المذكورة...
مما سبق يظهر لنا أنّ أنواع قرارات محكمة الاستئناف هي:
التأييد، و هو ما يسمى التصديق.
الفسخ.
الردّ شكلاً.
الردّ موضوعاً.
التعديل.
الفسخ من جهة و التصديق من أخرى.
الفصل من قبل المحكمة و إنهاء الدعوى.
المطلب الرابع: آثار قرارات محكمة الاستئناف الشرعية.
في حال حكمت محكمة الاستئناف الشرعية بتصديق الحكم، أو ردّ الاستئناف شكلاً أو موضوعاً، أو فصلت في موضوع الدعوى، أو عدّلت حكم المحكمة الابتدائية، تكون القضية قد انتهت نهائياً، و صار الحكم فيها قطعيّاً.
أمّا إذا كان الحكم مفسوخاً فإن الدعوى تعود إلى المحكمة الابتدائية لتباشر النظر فيها مرة أخرى، وعندها يبلغ الخصوم بقرار محكمة الاستئناف، خلال أسبوع من عودة الدعوى، و تعطى صورة عن إعلام الحكم المستأنف مظهّراً بصورة عن القرار الاستئنافي عند طلبه(1) .
و أمّا إذا كان القرار بالفسخ فعلى المحكمة أن تستدعي الطرفين خلال عشرة أيام من تاريخ إعادة القضية، و عند السير فيها يتبع القاضي ما جاء بقرار الاستئناف، و يتمّ إجراءات المحاكمة.
و في حالة إصرار القاضي الابتدائي على قراره و استئناف الحكم ثانية تدقق محكمة الاستئناف فيه، و تصدر قرارها إما بتأييد الحكم أو فسخه و في الحالة الأخيرة لمحكمة الاستئناف رؤية القضية مرافعة أو إعادتها للمحكمة ليراها قاض آخر انتداباً(2) .
__________
(1) المادة (151) من قانون أصول المحاكمات الشرعية.
(2) انظر المادة (149) من قانون أصول المحاكمات الشرعية.(11/30)
و حول حالة إصرار القاضي على قراره فقد وضّحت محكمة الاستئناف أن على القاضي قبل أن يصرّ على رأيه السابق المفسوخ بأن يتبع و ينفذ قرار محكمة الاستئناف، ثم يتم إجراءات الدعوى حسب الأصول و بما يقتضيه الفسخ،و له بعد ذلك أن يصرّ على رأيه إذا تراءى له غير ذلك(1) .
و يستفاد من هذا أن إعادة النظر في الدعوى يتمّ ابتداءً من النقطة التي تمّ منها الفسخ، ثمّ إن الفقرة الثانية من /المادة 149/، تبيّن احترام القانون لرأي القاضي و قناعاته، و لا تجبره على اتخاذ قرار خلاف ما يراه صحيحاً، و بالتالي إما أن تفصل في الدعوى محكمة الاستئناف، أو قاضٍ آخر ينتدب لهذه الغاية، و لكن ذلك يكون مع احترام و امتثال قرار محكمة الاستئناف، فيتابع الدعوى حسب ما رأته الأخيرة، ثمّ يفصل في الدعوى بحسب قناعاته.
نتائج البحث والتوصيات.
بعد هذه الوقفة المفصلة مع موضوع الاستئناف في نظام القضاء الشرعي الأردني، يخلص الباحث إلى جملة من النتائج والتوصيات أهمها:
الاستئناف لغة: الابتداء، أما في الاصطلاح فيمكن تعريفه بأنه: طريق طعن عاديّ في الأحكام والقرارات القضائية الصادرة من محاكم الدرجة الأولى برفعها إلى محكمة من محاكم الدرجة الثانية لغرض تصديقها، أو فسخها، أو تعديلها، أو إعادة الفصل فيها.
ثمة شواهد من السنة النبوية ومن فعل الصحابة رضوان الله عليهم تدل على جواز رفع الدعوى مرة أخرى لدى قاض آخر عند وجود ما يوجب ذلك، غير أن هذه الشواهد لا ترقى لتجعل من التقاضي على درجتين أو أكثر أصلاً من أصول القضاء الإسلامي، بل الأصل فيه أن يكون على درجة واحدة.
الأصل السابق يرد عليه أمر ذو أهمية بالغة، وهو وجوب نقض الحكم إذا خالف أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة، أو ثبتت مجانبته الواضحة للحق ومقتضيات العدالة، وهذا محل اتفاق بين فقهاء المذاهب الأربعة.
__________
(1) انظر القرار رقم 20246 و 26224 و 26229 و 37442، راجع عبابنه، مرجع سابق ، ص 221.(11/31)
مفهوم نقض الأحكام و الاعتراض عليها، هو أصل فكرة الاستئناف المعاصرة، وله ما يؤيده في الفقه الإسلامي، مع ملاحظة توسع موجبات الاعتراض على الحكم ونقضه في ظل التنظيم القضائي الشرعي المعاصر.
إجراءات التقاضي التي تتبعها محكمة بعضها مستمد من إجراءات التقاضي العامة في الشريعة و القانون الحديث، وبعضها مستمد من واقع الخبرة والممارسة، وهذه وإن لم تستند إلى نص أو اجتهاد خاص، إلا أنها تقع ضمن باب السياسة الشرعية، وهو الأصل الذي فرع عليه فقهاؤنا الأقدمون إجراءات التقاضي التي كانت تتناسب مع زمانهم.
الاستئناف في حقيقته هو أحد الطرق القانونية الممكنة للطعن في الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الشرعية الابتدائية، والتي أقر القانون أربعاً منها هي: الاعتراض على الحكم الغيابي، واعتراض الغير، وإعادة المحاكمة، والاستئناف.
القضاء الأردني يقوم على مبدأ الفصل بين المحاكم النظامية والمحاكم الدينية، التي تعتبر المحاكم الشرعية نوعا ًمنها، والتي تم تحديد الموضوعات التي تنظر فيها دون غيرها، أما محاكم الاستئناف الشرعيّة فهي أعلى سلطة قضائية شرعية في المملكة الأردنيّة الهاشمية، و قراراتها قطعيّة في المواضيع التي هي من اختصاصها.
الأصل في قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني أنه يجوز لمحكمة الاستئناف الشرعية النظر في جميع الأحكام الفاصلة التي تصدر عن المحاكم الشرعية الابتدائية، حال توفر شروط الاستئناف المقررة في القانون.
قسم القانون الأردني الاستئناف الشرعي إلى نوعين: استئناف جبري وهو الذي يتم بحكم القانون ولو لم يرَ طرفا الدعوى ذلك. واستئناف جوازي، وهو الراجع إلى إرادة واختيار طرفي الدعوى، أما الاستئناف الجبري فيكون للدعاوى التي يتعلّق حقّ الله سبحانه و تعالى بها، أو تلك التي لنفاذها خطورة و آثار كبيرة على الأسرة و المجتمع.(11/32)
من وظائف محكمة الاستئناف: الاجتهاد في تفسير نصوص القوانين التي تعمل بها المحاكم الشرعية الابتدائية، حتى أصبح فهم هذه القوانين وفهم ما عليه العمل في المحاكم لا يستقيم دون الرجوع إلى قراراتها.
بين قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني، وكذلك القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف الشرعية الإجراءات اللازم إتباعها للترافع أمام هذه المحكمة، من حيث المدة والمكان والشروط الشكلية للائحة الاستئناف، والآثار المترتبة على تقديمها.
يلاحظ من إجراءات تدقيق الدعوى داخل محكمة الاستئناف: الجهد المبذول في رؤية الدعوى بتدقيقها، واتباع أسلوب المناقشة للدعاوى بين القضاة أعضاء هيئة المحكمة ، بعد دراستها بشكل منفرد، و هو ما يجمع ميزتي الصفاء بالدراسة، و إغناء الملاحظات بالمناقشة.
أنواع قرارات محكمة الاستئناف هي: التأييد، و هو ما يسمى التصديق، والفسخ، والردّ شكلاً، والردّ موضوعاً ، والتعديل، والفسخ من جهة والتصديق من جهة أخرى، والفصل من قبل المحكمة و إنهاء الدعوى.
في حال حكمت محكمة الاستئناف الشرعية بتصديق الحكم، أو ردّ الاستئناف شكلاً أو موضوعاً، أو فصلت في موضوع الدعوى، أو عدّلت حكم المحكمة الابتدائية، تكون القضية قد انتهت نهائياً، و صار الحكم فيها قطعيّاً، أمّا إذا كان الحكم مفسوخاً فإن الدعوى تعود إلى المحكمة الابتدائية لتباشر النظر فيها مرة أخرى.
يوصي الباحث بإيلاء قانون أصول المحاكمات الشرعية المزيد من البحث والاهتمام، فهو يخدم قطاعاً عريضاً من القضاء الأردني، وما زالت الدراسات التي فيه معدودة ومحدودة.
يوصي الباحث بالاستفادة من تجربة القضاء الشرعي الأردني في المزج بين الأصالة والمعاصرة، وتطويرها بما يخدم السلك القضائي في البلاد الإسلامية.
تم بحمده تعالى
قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الأعرج، موسى فهد. الموجز شرح قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني. عمان: دار الكرمل للنشر، ط1، 1988م.(11/33)
أبو البصل، عبد الناصر موسى. شرح قانون أصول المحاكمات الشرعية ونظام القضاء الشرعي. عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، 1999م.
الحمادي، حسن أحمد. نظرية حجية الحكم القضائي في الشريعة الإسلامية. عمان: الدار العلمية الدولية للنشر والتوزيع ودار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1 2003م.
الخوري، فارس. أصول المحاكمات الحقوقيّة: دروس نظرية وعملية. عمان: الدار العربية للنشر والتوزيع، ط2، 1987م.
داود، أحمد محمد علي. أصول المحاكمات الشرعية. عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، 2004م.
الدرعان، عبد الله بن عبد العزيز. القواعد الإجرائية في المرافعات الشرعية. الرياض: مكتبة التوبة، ط1، 1413هـ.
الزركشي، محمد بن بهادر. المنثور في القواعد. الكويت: وزارة الأوقاف، ط2، 1405هـ.
الزيلعي، عثمان بن علي. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. بيروت: دار المعرفة، ط2، د.ت.
السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل. المبسوط. بيروت: دار المعرفة. د.م.
سلحدار، صلاح الدين. أصول المحاكمات المدنية. حلب: منشورات جامعة حلب، د.ط، 1984م.
الظاهر، راتب عطا الله. مجموعة التشريعات الخاصة بالمحاكم الشرعية.عمان: المطابع المركزية، ط2، 1983م.
عبابنه، علي إبراهيم مصطفى. إيضاحات في قانون أصول المحاكمات الشرعية بقرارات محكمة الاستئناف الشرعية الأردنية. إربد: مطبعة الروزنا، ط1، 1421هـ.
العبودي، عباس. شرح أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية. عمان: دار الثقافة، ط1، 2006م.
عمرو، عبد الفتاح عايش. القرارات القضائية في أصول المحاكمات الشرعية حتى عام 1990م. عمان: دار يمان للنشر والتوزيع، ط1، 1410هـ.
ابن فرحون، برهان الدين إبراهيم بن علي. تبصرة الحكام. بيروت: دار الكتب العلمية (مصورة)، د.م.
الفقير، أسامة علي مصطفى. أصول المحاكمات الشرعية الجزائية. عمان: دار النفائس للنشر والتوزيع، ط1، 2005هـ.(11/34)
ابن قدامة، موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي. المغني. بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.م.
لجان الموسوعة. الموسوعة الفقهية. الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1990م.
لجنة إعداد مشروع القانون المدني الأردني. المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني. عمان: نقابة المحامين الأردنيين، ط2، 1985م.
المحلي، جلال الدين محمد بن أحمد. شرح المنهاج (مع حاشيتي قليوبي وعميرة)، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، د.م.
محيلان، محمد. القضاء الشرعي الأردني في العهد الهاشمي من سنة 1921 إلى سنة 1986: تأسيسه ومراحل تطوره. عمان: مطابع عودة وكويري، ط1، 1406هـ.
ابن منظور، جمال الدين محمد. لسان العرب. بيروت: دار صادر، د.م.
الناهي، صلاح الدين. الوجيز في مبادئ التنظيم القضائي و التقاضي و المرافعات في المملكة الأردنية الهاشمية. عمان: دار المهد للنشر والتوزيع، ط1، 1401 هـ.(11/35)
الإشكاليات الاجتماعية للعولمة ودور القضاء الشرعى فى مواجهتها
إعداد
دكتور / محمد عبد الرحيم البيومى
كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب الغعالمين ، والصلاة والسلام على خير خلق الله وأشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
لقد أيقنت الدول العظمى من خلالها تجاربها الاستعمارية مع الدول النامية أن الاستعمار العسكرى يكبدها خسائر فادحة فى الأرواح والأموال، وعلى أثر ذلك توجهت نحو العالم باستراتيجية جديدة لا تكلفها أى شىء بل تعود عليها بأعلى الأرباح ،فانتهجت الجانب الاقتصادى كأساس لهذه الاستراتيجية الجديدة ،ورأت فى الوقت ذاته أنه لا بد من تهيئة الشعوب لهذا النوع الجديد من أشكال السيطرة والاستعمار فامتدت بعولمتها إلى النواحى السياسية والثقافية والاجتماعية لتجعل الشعوب تقبل طواعية من خلال هذه النواحى ما يفرض عليها من سيطرة اقتصادية،وبوجود هذا النوع من أنواع السيطرة لن تصبح السياسة ،والثقافة والمجتمع عوامل مهيئة ومساعدة،وإنما تصبح عوامل خاضعة ،ومن ثم تكون السيطرة السياسية والثقافية والاجتماعية أيضاً من قبل الدول العظمى تجاه الدول النامية ،وبذلك تكون العولمة قد تغلغلت فى شتى أشكال الحياة ،من أجل هذا نقول إن تبدل عادات المجتمع ،وتغير قيمه الأصيلة يجعل الشعوب تقبل مختلف أنواع التبعية،وبذلك تخضع للغير الذى ينمى فى المجتمع عاداته وقيمه الغربية،وإذا ما نمت فى المجتمع ،وفشت فيه العادات والقيم الغربية كان من الميسور السيطرة عليه واستعماره اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ،ومن ثم ندرك مدى الارتباط الوثيق بين العولمة الاجتماعية ،ومختلف أشكال العولمة الأخرى . فى العولمة فى الجانب الاجتمناعى تعمل على تقويض أركان المجتمع ، وتهدم أركانه ، وتبدل قيمه وعاداته مستخدمة فى سبيل ذلك شعارات براقة ، وعبارات رنانة من دعوة إلى الحرية والمساواة من(12/1)
خلالها يتفلت كل فرد فى المجتمع من رابطه وعقاله مندفعا وراء غرائزه وشهواته ، وإذا كان التوجيه والتربية والتهذيب سبل بها نواجه هذه السلبيات فإن ثمة نغمات شاذة لاتسمع لصوت التهذيب والوجدان فيها من أجل هذا كان القضاء الشرعى بما يطبقه من أحكام الشريعة وما يحويه من وسائل الإلاح والتهذيب عاملا حاسما يحد من نار الفتنة التحرق المجمتع المسلم بالسموم الفاسدة والأفكار الهدامة فى ظل الشعارات الزائفة التى تروج لها من خلالها العولمة والمنظرون لها وهذا ما سنحاول بمشيئة الله تعالى إلقاء الضوء عليه من خلال هذا البحث . والله الموفق وهو الهادى على سواء السبيل.
المبحث الأول
الإشكاليات الاجتماعية للعولمة
…
أولاً : العولمة وهدفها فى الجانب الاجتماعى :(12/2)
العولمة لفظة مستحدثة لم تَشِعْ في العربية إلا في السنوات الأخيرة من الألفية الثانية، وهي إحدى المقابلات العربية لكلمة (Globalization) الإنكليزية ولمثيلاتها في اللغات الأوربية. ومن الباحثين من اختار لفظة (الكونية) أو (الكوكبية) أو الليبرالية الجديدة، ولكن لفظة العولمة أصبحت الأكثر شيوعاً.. وتعني التنشئة الاجتماعية في معناها العام، إعداد الفرد منذ ولادته لأن يكون كائناً اجتماعياً وعضواً في مجتمع معين. فالأسرة هي أول مؤسسة اجتماعية تتولى هذا الإعداد، فهي تستقبل المولود وتحيط به وتروضه على آداب السلوك الاجتماعي وتعلمه لغة قومه وتراثهم الثقافي والاجتماعي من عادات وتقاليد وسنن اجتماعية وتاريخ قومي، وتأخذ بأسباب الحزم للقضاء على ما يبدو من مقاومة لهذا التراث الثقافي والاجتماعي، فترسخ قدسيته في نفسه، وينشأ عضواً صالحاً في المجتمع.ومن المعلوم أن غالبية المجتمعات العربية مجتمعات إسلامية شرقية، وقد حرصت هذه المجتمعات حرصاً شديداً على تكوين الأسرة وحددت لها شروطها ووعينت الواجبات لكل من الآباء والأبناء. غير أن المهم في الأمر أن هذه المجتمعات لم تعترف إلا بالأسرة الناتجة عن طرق مشروعة، أي أن الأسرة لا تتم إلا عن طريق الزواج الواضح المعلن الموثق، وبهذا يقطع الطريق على أية علاقة مشبوهة.ولا يختلف المجتمع العربي عن بقية المجتمعات البشرية في نظرته إلى الأسرة باعتبارها اللبنة الاجتماعية الأولى التي تنشأ فيها الأجيال. غير أن العولمة في جانبها الاجتماعي تسعى إلى أن تذوب الحضارات غير الغربية في النموذج الحضاري الغربي. ففي الجانب الاجتماعي تسعى العولمة إلى تعميم السياسات المتعلقة بالطفل والمرأة والأسرة وكفالة حقوقهم في الظاهر، إلا أنها في الواقع تسعى على إفساد وتفكيك الأسرة والأفراد واختراق وعيهم وإفساد المرأة والمتاجرة بها واستغلالها في الإثارة والإشباع الجنسي ومن ثم إشاعة الفاحشة في المجتمع.(12/3)
والواقع أننا بدأنا نعيش إرهاصات العولمة في عالمنا الثالث، وبضمنه العالم العربي. ففي الماضي كان الطفل يتلقى معلوماته من مصادر معروفة ومحددة، تتمثل في الأشخاص الأكثر قرباً منه وينتمون إلى محيطه الأسري. وكانت تربيته تتم بشكل متناسق مع الأعراف والمعايير الأخلاقية والدينية والاجتماعية والممارسات السلوكية التي كان الطفل يجد سهولة في استيعاب مضامينها ورموزها وتمثلها دون عناء كبير. أما اليوم فإن الأطفال يواجهون عدة جبهات أو قنوات تنشيئية، يصارعون فيها مجموعة متفرقة من التحديات الثقافية والاجتماعية التي تعكس واقع مجتمعاتهم المعاصرة من جراء الكم الهائل من الوسائط الاتصالية الإعلامية التي أصبحت تحل محل المؤسسات التقليدية. وكثيراً ما تحتوي المواد المقدمة في هذه الوسائط الاتصالية والإعلامية على قيم ثقافية ورؤى تقوم على أسس من تمجيد البطولات الخارقة والصراع والعنف والأنانية.(12/4)
لقد بدأ جيل اليوم يفقد الكثير الضروري لتكوين الرؤية السليمة لكل ما يحيط به من مواقف وقيم واتجاهات ومعايير معقدة وغريبة، بل ومتناقضة أحياناً، الأمر الذي جعله يفتقر إلى إمكانات احتواء التوافق الاجتماعي المطلوب. كما بدأ الأباء يستصرخون ضمير العلماء والمصلحين ورجال القانون لمساعدتهم على مواجهة آثار خيبتهم مما يعانيه أبناؤهم من قلق وضياع ورفض وتمرد وتمزق. إن مجموع ما يتلقاه الطفل العربي من المؤثرات الوافدة من خلال المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية يقود إلى انفصام في وجدان الطفل، فتضطرب في داخله الرؤى والرموز، وينشأ لديه ألوان من الصراع في سلوكه الاجتماعي والثقافي. وتقتحم الرؤى والرموز الثقافية الغربية من لغة وأدب وفنون وألعاب واحتفالات وأسلوب حياة ومأكل ومشرب وملبس وعلاقات، حياة الطفل شيئاً فشيئاً، ثم يمضي الأمر إلى أن تغدو الرؤى والرموز الثقافية العربية غريبة في ذهن الطفل، لا يعيشها ولا ينسجم معها، بل يحس تجاهها بشيء من اللَّبس والاضطراب وربما الخجل والحياء، ثم ما يلبث هذا الأمر إلى أن يتحول إلى ظاهرة تشمل فئة واسعة من المجتمع.(1) والحقيقة أن صرخة الآباء تجاه ما آلت إليه أوضاع أبنائهم من جراء ما يتلقونه من إعلام مشوه لهويتهم عبر وسائل الاتصال المعلومة، جاء نتيجة تطور المجتمعات. ومع مرور الزمن اقتطعت هذه المؤسسات جزءاً كبيراً من الوظيفة التقليدية للأسرة، فوسائل الإعلام، ولاسيما في شكلها السمعي والبصري، باتت هي اليوم تشكل بيئة الجيل التقليدية. صحيح أنها بيئة مصنوعة ومكيفة، ولكنها بالتحديد أشد تأثيراً في شعور ولا شعور الطفل معاً من البيئة الطبيعية وأقدر منها على تشكيل ذهنيته وشخصيته وصياغة إرادته وتأطيرها وتوجيهها. إن الانعكاسات التي طرأت على الأسرة والمجتمع بشكل عام بسبب بروز وسائط جديدة كالتلفاز، جعلها في أزمة بسبب هذه التحولات الاجتماعية التي باتت تعزز
__________
(1) www.an-nour.com(12/5)
العديد من الأنماط السلوكية المنحرفة والخارجة عما ترتضيه الأسرة التقليدية العربية ويرتضيه المجتمع لهويته الحضارية. فهي تشتكي من علاقاتها التي أصبحت ممزقة ولا إنسانية إلى حد البرود، والكل يحتفي بهذا الجسم الغريب (التلفزيون) الذي أصبح –باستخدامه السئ- يحبه الكبار والصغار، فلقد خلق فجوة كبيرة في صرح تدبير أمور التربية وأفلت مقاليد التنشئة الاجتماعية من بين أيدي الأباء ليسقط الأبناء بين براثن الوهم والتغريب والأحلام المصطنعة. وهكذا فقد باتت العولمة ترمي بالدرجة الأولى إلى إحداث تغيير في هياكل وبنى المجتمعات النامية ومؤسساتها وتغيير منظومة القيم الاجتماعية والثقافية لشعوبها.
إن الدول الغربية ،وعلى رأسها أمريكا عندما تمتد بعولمتها إلى الناحية الاجتماعية ،إنما تهدف من خلال هذه الناحية إلى تهيئة المجتمعات لاسيما الإسلامية منها إلى تقبل مختلف أنماط التبعية للاستعمار الغربى فى صورته الجديدة المعولمة ،ومن ثم تعمل على تذويب الحضارات غير الغربية بعقائدها وقيمها ،وعادتها وتراثها فى الحضارة الغربية ، يقول الأستاذ الدكتور / محمد عمارة :" إن عولمة القيم والثقافة هى سبيل التأييد لذوبان الحضارات غير الغربية فى النموذج الحضارى الغربى ،فاحتلال العقل،والقيم كان دائماً وأبداً السبيل لتأييد احتلال الأرض ، ونهب الثروة دونما حاجة إلى نفقات القواعد العسكرية ،وتكاليف الجيوش "(1).
ثانياً: وسائل ترويج العولمة الاجتماعية :
(1) عقد المؤتمرات التى تروج لفكرها وتعمل على نشر مبادئها وقيمها :
__________
(1) د/محمد عمارة ،عولمة القيم الغربية ،مقال نشرته صوت الأزهر العدد 35 ص8(12/6)
والواقع يشهد أن هذه المؤتمرات تعمل على تغيير البنية القيمية للمجتمعات،والعمل على غربنتها والتقنين للشذوذ،والزيلة،وتعمل العولمة والقائمين عليها كذلك من خلال هذه المؤتمرات على الانتقال بقراراتها من مرحلة النظرية إلى التطبيق الفعلى الملزم،ولقد رأينا صدى لذلك من كثرة شيوع الجمعيات النسائية التى تتبنى قرارات هذه المؤتمرات وتعمل باستماته على تنفيذها،والغريب أن هذه المؤتمرات الداعية للإباحية والرزيلة والتفكك الأسرى والعدوان على الخصوصيات القومية والقيمية للمجتمعات،تعقد تحت مظلة الأمم المتحدة التى يفترض فيها أنها راعية العدالة ،والحامية بمنظماتها لخصوصيات الأمم وهوية الشعوب ،ولكن حالها فى ظل النظام المعولم الجديد تبدل للنقيض تماماً،ولا أدل على ذلك من مؤتمر "السكان والتنمية" الذى عقد بالقاهرة عام 1994م ،ومؤتمر "بكين" الخاص بالمرأة 1995م ،وما حمله هذان المؤتمران ،وغيرهما من دعوات هامة إلى تبنى النموذج الغربى،فى القيم والعادات الاجتماعية،مع ما يحمله هذا النموذج من شذوذ وإباحية ورزيلة وتفكك أسرى يتنافى مع معتقدات وقيم الشعوب الأخرى ،ثم كانت الدعوة الإلزامية لتطبيق قرارات هذين المؤتمرين بإجهاض القائمين عليها لأى تحفظ قد يساعد المجتمعات على الحفاظ على قيمها وقوانينها ،حيث أعلنوا فى نهاية هذين المؤتمرين :" أن حقوق السيادة لكل أمة محكومة بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان " والتى هى بطبيعة الحال معايير الغربية تجعل الإباحية الجنسية حقاً لكل إنسان يمارسه ،وكيفما يشاء،وفى أى وقت يشاء ومع من يشاء شريطة الرضا والطواعية دون رقيب أو حسيب .(12/7)
يقول الدكتور محمد رأفت عثمان " إن التعدى على مبادىء الشريعة الإسلامية ،وثوابت أحكامها يظهر من بعض الكتابات الفردية التى يفتقد أصحابها الثقافة العلمية والإسلامية على هيئة كتاب أو مقال فى صحيفة،كذلك فإن هذا التعدى أيضاً يظهر فى شكل تجمع يأخذ صورة مؤتمر، يجد فيه أصحاب وصاحبات الآراء النابية الخارجة عن قيم الإسلام مجالاً لنشر آرائهم من خلال هذه المؤتمرات "(1)
(2) الأجهزة الإعلامية المختلفة :
__________
(1) د/محمد رأفت عثمان ،مطاريد الجبل ،مقال في مجلة صوت الأزهر العدد 17 ص8 نوفمبر 1999م .(12/8)
والواقع أن أجهزة الإعلام بمختلف وسائلها مقروءة،ومسموعة ومرئية تعمل وبجد الآن على نشر القيم الغربية ،والتقاليد التى تبغى ترويجها العولمة والقائمين عليها فى المجتمعات التى يريدون إخضاعها للهيمنة والسيطرة،حتى رأينا أن الذين لهم الصدارة فى الحديث فى الأجهزة الإعلامية المختلفة هم اللذين يقومون بالترويج لأنماط الحياة الغربية التى تريد العولمة نشرها بين مختلف الأمم والشعوب ،حتى يسهل الاستحواذ عليهم ،ونرى هذا الترويج لمختلف أنماط العولمة كذلك من خلال كثرة الكتابات الداعية إلى بث النموذج الغربى بقضة وقضيضة فى البلاد الإسلامية وغيرها من البلاد النامية،على زعم أنه فى بث النموذج الغربى فى مختلف أنماط الحياة فرصة للدول والمجتمعات النامية من الخروج من مستنقع الفقر،والجهل والتخلف ،كذلك نرى الترويج للعولمة بنمطها الاجتماعى فى مختلف الأعمال الدرامية فى السينما،والمسرح والتليفزيون حتى رأينا بعض الأعمال الدرامية التى تبث الدعوة إلى الفكر والقيم الاجتماعية الغربية المعولمة لها مجال الصدارة فى التكريم ،والحصول على الجوائز من مختلف الجهات ،وهذه صورة عالمية يروج من خلالها القائمين على أمر العولمة فى أمريكا وأوربا لفكرهم المنحرف وقيمهم الشاذة حتى يتمكنوا من السيطرة على البلدان النامية كى تكون سوقاً مفتوحة أمامهم لا ينافسهم فى كعكتهم تلك أى أحد . ولعل من أكبر الأدلة على ذلك وما أحدثه من تغيير فكرى وقيمى لدى الشعوب الإسلامية ما تبنته كثير من الفضائيات فى 14 فبراي 2006 من دعوة إلى تشجيع العلاقات بين الجنسين خارج نطاق الأسرة فيما يسمى باحتفالية " عيد الحب" ، ثم كان التطبيق النموذجى لهذ الفكر من خلال برنامج " ستار أكاديمى" الذى يدور محور حلقاته حول حياة مجموعة من الشباب والفتيات من مختلف الدول العربية يعشون فى منزل واحد تحت سمع وبصر ذويهم وأوليا أمورهم دون أدنى علاقة تربطهم سوى الصداقة والحرية(12/9)
والمساواة . أضف إلى ذلك الإنترنت وما حمله من من تقارب بين الأمم فى ظل انعدام الرقابة عليه وسوء الاستخدام له من الشباب والفتيات(1)
(3) التغلغل إلى الحياة اليومية فى المجتمعات الإسلامية :
وذلك من خلال تشجيع الأنماط الحياتية التى تتخلى عن تراثنا الدينى ،وقيمنا الاجتماعية.
والنوعية التى تساعد على ذلك ،والتى لها وجود فى الوظائف لدى بعض الشركات الخاصة فى عالم اليوم يجب أن تكون منحلة دينياً،وقيمياً،كذلك نرى كثيراً من الإعلانات التى تطلب للعمل سكرتيرات يتصفن بالجمال المبهر،وذلك مرجعه إلى ما زرعته العولمة فى أذهان أصحاب المال أن التوسل بالعرى ،والنساء له المدخل الكبير فى إتمام الصفقات التجارية وعمليات البيع والشراء.ومن ثم يقول الدكتور محمود حمدى زقزوق عن العولمة ،وتغلغلها فى مختلف أشكال الحياة اليومية " من الواضح أن العولمة أصبحت تحاصر الناس فى كل مكان فى العالم عن يمينهم وشمالهم،ومن أمامهم ومن خلفهم ،ويتمثل ذلك على سبيل المثال لا الحصر فى انتشار المأكولات السريعة مثل الهمبورجر،والكوكاكولا والملبوسات مثل الجينز ،والبرامج والفنون المختلفة الجيد منها والردىء ،ووسائل الترفيه المختلفة ،ولكن الشىء الأهم فى ذلك كله هو ما تحمله العولمة فى طياتها من الترويج لأنماط معينة فى العلاقات الأسرية والاجتماعية والجنسية السائدة فى الغرب ،المصدر الأول للعولمة "(2).
(4) استخدام العولمة شعارات براقة تروج بها لفكرها :
__________
(1) هانز بيتر مارتين ، هارلد شومان فخ العولمة ص227 ط عالم المعرفة
(2) ا-د محمود حمدى زقزوق ،الإسلام في عصر العولمة ،منبر الإسلام ص72،71 العدد 2، 1999م(12/10)
وذلك مثل شعار( تحرير المرأة ) الذى هو فى ظاهره شعاربراق يطوى فى داخله دعوة إلى الإباحية ،والتحلل والشذوذ ونشر العلاقات الجنسية غير السوية،وشعار (المساواة) المطلقة بين الرجل والمرأة الذى يحمل فى باطنه دعوة إلى التفكك الأسرى ،فلا يعلم الزوج أين تعيش زوجته،أو أين سافرت لأنها بموجب هذه المساواة يكون لها الحق فى أن تتحلل من استئذان زوجها فى السفر والخروج من المنزل ،والمبيت خارجه، وتحت هذا الشعار كانت التقنينات الأخيره فى ظل العولمة والتى دعت إلى حق الطفل فى أن ينسب إلى غير والده ومن ثم يقول الدكتور محمد عمارة متحدثاً عن شعارات العولمة البراقة من خلال المؤتمرات النسائية التى تعقدها ،والتى تحمل فى طياتها أسوأ منحدرات الإباحية والشذوذ الجنسى :" لقد تحدثت وثيقة مؤتمر السكان والتنمية عن السلوك الجنسى المسئول وليس عن السلوك الجنسى الشرعى أو الحلال " وذلك من أجل الوقاية من الإصابة بفيرس نقص المناعة البشرية ،فالهدف هو تشجيع التطوير المناسب للنشاط الجنسى المسئول بما يسمح بوجوده علاقات المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين،ويسهم فى تحسين نوعية حياة الأفراد ."
" فالمتعة الجنسية عالية المستوى هى حق للجميع بشرط أن تكون الممارسة الجنسية مسئولة، وقائمة على التراضى والإحترام تحسباً لنوعية الأفراد "(1)
أضف إلى ذلك شعار الحرية التى جعل من المقدسات وغيرها مرتعا خصبا لكل منحرف فى فكره تحت مسمى الإبداع.
(5) المراكز البحثية المشبوهة التى تنتشر فى مختلف البلاد النامية :
__________
(1) د/ محمد عمارة ،عولمة القيم الغربية ،صوت الأزهر ص8(12/11)
وقد كان لهذه المراكز دور بارز فى إرساء قواعد النمط الغربى الاجتماعى فى البيئات الموجودة فيها والمؤتمرات التى تحرص على المشاركة فى أعمالهاولقد حدث هذا فى مناسبات عدة منها المؤتمر الذى نظمه المجلس الأعلى للثقافة ،والذى عقد تحت عنوان " مائة عام على تحرير المرأة " فى الفترة ما بين 23- 28 /10 /1999م
حيث قامت الأستاذة حياة الحضرى ،وهى باحثة بمركز ابن خلدون ،والذى قالت عنه مجلة الهدى النبوى بأنه مركز متخصص فى إجراء البحوث والدراسات ،واللعب على وتر حقوق الأقليات ."(1)فى الجلسة التى عقدت بعنوان " بين الفقه والقانون" وطالبت بإلغاء عقوبة الزنا عن المرأة بإلغاء النص الخاص بعدة المرأة المطلقة اكتفاءاً بالكشف الطبى للتأكد من وجود حمل من عدمه "(2).
ثالثاً : الإشكاليات الاجتماعية للعولمة من خلال مقررات مؤتمراتها الدولية:
مؤتمر السكان والتنمية :
وقدعقد بالقاهرة فى الفترة من 5- 15 سبتمبر 1994م ،والذى جاء فى وثيقته
دعوة الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية ،والمنظمات غير الحكومية المعنية ووكالات التمويل والمؤسسات البحثية إلى إعطاء أولوية للبحوث الحيوية المتعلقة بتغيير الهياكل الأسرية .
__________
(1) مجلة الهدى النبوى ص10 العدد 72 ، ويراجع العولمة والوجه الآخر ص 306
(2) المرجع السابق ص11(12/12)
كذلك نجد الوثيقة تتحدث عن المتعة الجنسية المأمونة والمسؤولة " وليس المتعة الجنسية الحلال المشروعة " ، كذلك نجد مصطلح " الصحة الجنسية" وهو أكثر المصطلحات ذكراً وتكراراً فى هذه الوثيقة ،ويعنى هذا المصطلح أن تتكامل الجوانب الجسدية والعاطفية والعقلية والاجتماعية للوجود الجنسى بأساليب تبرز الشخصية ،وتقوى التفاهم ،والحب وفق نهج إيجابى تجاه النشاط الجنسى البشرى مع اعتبار هذا النشاط الجنسى البشرى حقاً طبعياً وإنسانياً عاماً من حقوق الجسد كالغذاء والماء والهواء ،وغير مقصور على المتزوجين زواجاً شرعياً ،وهو كما تقول الوثيقة " حق لجميع الأفراد والأزواج سواء كان امرأة أو رجلا أو مراهقا أو مراهقة ".
كذلك سعت وثيقة مؤتمر السكان إلى تجريم الزواج المبكر كما فعلت الدول الغربية ،وتبنت بدلا من ذلك الدعوات إلى اعتماد البدائل التى تصرف عن هذا الزواج المبكر من إباحة العلاقات الجنسية الشاذة كبديل عنه ،فكما تقول الوثيقة " إن الهدف هو الحيلولة دون حدوث الزيجات المبكرة ،وعلى الحكومات أن تزيد السن الأدنى عند الزواج حيثما اقتضى الأمر ،ولاسيما بإتاحة بدائل تغنى عن الزواج المبكر "(1).ومن البدهى أن نقول هنا إن بديل الزواج المبكر هو العلاقات المحرمة والتى منها الزنا.كذلك نجد هذه الوثيقة ،وقد أفردت مساحة كبيرة للحديث عن حقوق المراهقين والمراهقات الناشطين جنسياً ،فى المعاشرات الجنسية المحرمة بل وفى الحمل والإجهاض الآمن وتنظيم الأسرة .
مؤتمر بكين :
__________
(1) عولمة القيم الغربية ،صوت الأزهر ص8(12/13)
وقد عقد هذا المؤتمر فى مدينة بكين العاصمة الصينية فى إبريل 1995م ،وقد جاء مؤكداً على قرارات المؤتمر السابق واطلاقا لتطبيق الفكر الاجتماعى المعولم على أرض الواقع . إذ أن وثيقته اعتبرت مرجعية في مصاف اتفاقية (سيداو) من حيث الأهمية والمتابعة مع أن وثائق المؤتمرات عبارة عن توصيات وليست اتفاقاً دولياً، لكن النشاط المحموم في متابعة تنفيذ مقررات هذه الوثيقة ( وثيقة بكين ) يدل على مرجعيتها فانعقد عام 2000م في نيويورك اجتماع دولي سمي ببكين خمسة لمتابعة تنفيذ ما في هذه الوثيقة و في فبراير 2005م انعقد في نيويورك مؤتمر بكين عشره لمتابعة تنفيذ توصيات نفس الوثيقة، وفي كل هذه الاجتماعات يطلب من الدول تقديم تقارير توضح مدى التقدم في تنفيذ هذه التوصيات، وما هي العوائق التي تقف في وجه تنفيذ ما لم ينفذ.(1)
مؤتمر مائة عام على تحرير المرأة :
وقد عقد هذا المؤتمر فى مصر تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة فى الفترة من 23-28/10 1999م وذلك بمناسبة مرور مائة عام على صدور كتاب " تحرير المرأة" لقاسم أمين ،وطرح فى المؤتمر 128 بحثاً ،و207 ورقة عمل على موائد مستديرة ،و44شهادة لأديبات وكاتبات عربيات ،وثلاثة أفلام تسجيلية عن نساء مصريات ،وشاركت فى المؤتمر حوالى ثلاثمائة شخصية عربية من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق وتونس والسعودية والإمارات والبحرين والكويت واليمن ،وكذا شخصيات من الدول الأوربية ومن الولايات المتحدة الأمريكية "(2).
وقد تضمن هذا المؤتمر عدد من القرارات منها :
__________
(1) د ،محمد عبد الرحيم البيومى ، العولة والوجه الآخر ص307 ط درار الوفاء المنصورة، ويراجع www.an-nour.com
(2) يراجع مجلة الأزهر ص8 عدد 6 لعام 1999 م مقال د/سهيلة زين العابدين بعنوان " في غياب علماء الإسلام تحول المؤتمر إلى مهرجان للهجوم على الإسلام "(12/14)
(1) إلغاء العديد من النصوص القرآنية قطعية الدلالة،والتى لا تقبل التأويل مثل النصوص الخاصة بقوامة الرجل، والعدة وتعدد الزوجات، والمواريث. بحجة أنها غير ملائمة للعصر الذى نعيش فيه .
(2) الدعوة إلى إلغاء القوامة بالنسبة للرجل،وأن يسلب منه لقب رب الأسرة ،وأن تشاركه المرأة فى هذا اللقب .
(3) المناداة بإلغاء فترة العدة عند الطلاق أو عند الوفاة،والسماح للزوجة أن تتزوج برجل آخر لأن العلم يستطيع عن طريق الأشعة التليفزيونية والتحليل المعملى أن يبين ما إذا كانت المرأة حامل أو غير حامل ،وبالتالى فليس ثمة حاجة تدعو إلى أن تعتد المرأة عند طلاقها أو وفاة زوجها .
(4) المناداة بإلغاء التشريعات الإسلامية الخاصة بتعدد الزوجات،وإبطال العمل بالنصوص القرآنية التى تدل على ذلك .
(5) الدعوة إلى المساواة بين الذكر والأنثى فى الميراث بدعوى أن نظام المواريث الذى شرعه الله سبحانه وتعالى غير عادل ،وبدعوى أن المرأة تعمل وتحقق عائداً اقتصادياً كالرجل سواء بسواء.
(6) المطالبة بإلغاء عقوبة الزنا عن المرأة المتزوجة،وأن لا تحرم من المهر ،وأثاث الزوجية إذا ارتكبت هذه الجريمة .
(7) المطالبة بإلغاء عقوبة الجلد عن الزانى أو الزانية غير المحصن على اعتبار أن عقوبة الجلد بالنسبة للزانى غير المحصن من الأمور الرجعية التى تهدر الحرية ،والتى تعد إرهاباً للمواطنين يحول بينهم وبين متعهم وما يشتهون .
(8) إلغاء حق تأديب الزوج لزوجته،إن هى أخطأت لأن فى هذا التأديب كما زعم المؤتمر إهدار لكرامة المرأة الإنسانية.
(9) إلغاء إذن الزوج لزوجته عند السفر ،والحمل ،والخروج من البيت،وتصوير التمسك بالإذن فى هذه الحالات ،وغيرها بأنه نوع من القهر الذى يمارسه الرجل ضد المرأة .(12/15)
(10) إلغاء فقدان البكارة كسبب من أسباب الطلاق حيث ثارت بعض السيدات المتحدثات فى هذا المؤتمر للتأكيد على عدم أحقية الرجل فى أن يجد زوجته ليلة الزفاف بكراً ، وإذا وجدها بغير هذه الصفة ،فليس له حق الاعتراض على ذلك .
(11) إعطاء المرأة الحامل مهلة تتعدى الثلاثين يوماً للإفصاح عن الحمل لزوجها.
(12) المطالبة بأحقية الزوجة فى أن تصادق من تشاء من الرجال ،والنساء بدعوى أن الاختلاط بين الرجال والنساء نوع من الحرية يجب ألا تحرم منها المرأة ،فإذا حرمت منها المرأة كان هذا قهراً لها ،وإهداراً لإنسانيتها.
(13) إعطاء المرأة الحق فى الانفراد بإيقاع الطلاق على زوجها.
(14) المناداة بحرية الإجهاض لسبب أو لغير سبب دون أية قيود .
(15) المناداة بإلغاء الختان بالنسبة للنساء ،على اعتبار أنه يجهز على الأحاسيس الجنسية للمرأة ،كما أن فيه سلب لكرامتها الإنسانية .
(16) المطالبة بتوقيع العقوبة على الزوج إذا جامع زوجته بغير رضاها لأن فى وقوع ذلك نوع من الاغتصاب .
(17) المطالبة بإلغاء الحدود،والقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية بدعوى أنها قوانين رجعية لا تواكب العصر .
(18) المطالبة بتحرر المرأة من أى التزامات أسرية،بدعوى أن هذا يعوق تقدمها فى تبوء المكانة اللائقة بها فى المجتمع ،كما أن عمل المرأة فى منزل الزوجية قمة العبودية .
(19) المطالبة بإلغاء النص الذى يخفف العقوبة على الزوج إذا قتل زوجته عند وجودها فى حالة الخيانة مع رجل آخر .(12/16)
(20) المطالبة بتحرير المرأة من الحجاب،على اعتبار- كما يزعمون- أنه ليس أمراً تشريعياً،وا أنه لا يعدو عن كونه ملبس تختار هيئته الجماعة لتتميز به عن غيرها. ولأنه كذلك معوق لعمل المرأة،وتقدمها،كماأن التمسك به يعطى نظرة للمرأة بأنها جسد يجب أن يغطَىَ ويحبس فى البيت،ولأن الحجاب أيضاً عادة من العادات الاجتماعية .كذلك برر هؤلاء المتعالمون إبطال التمسك بالحجاب بزعم أنه لا يعبر تعبيراً حقيقياً عما إذا كانت المحجبة ملتزمة بتعاليم الإسلام أم لا ؟ فهناك محجبات يقمن علاقات مع الشباب ،وثم ما الذى يؤكد أن هذه المحجبة تصلى وتصوم .كما أن الحجاب أيضاً يجعل المرأة المحجبة تحمل هويتين،لأنها بالحجاب تعلن أنها مسلمة فهذه هوية،هى فى الوقت ذاته مواطنة،فأيهما هى ؟ مسلمة أم مواطنة .
(21) المطالبة بخطاب لغوى أنثوى خاص بالمرأة ،وقد اصطلحوا عليه بمسمى ثقافة
" الجلندر" والمشاركات فى هذا المؤتمر يردن من خلال هذا المطلب أن يحرق كتاب الله تعالى ثم تعاد صياغته فى صورة جديدة يكون فيها آيات تخاطب النساء على حدة بها ينفردون عن الرجال ،وقد أفلحوا فى تحقيق ذلك فى الغرب حيث طبعت ترجمات للعهد الجديد ،فيها تؤنث الذات الإلهية،وتخص الأنثى بالخطاب فى نصوصها،والغريب أن هذا المطلب يتناقض مع مطالب المؤتمر بإلغاء الفوارق بين المرأة والرجل ،إلا أننا نجده المطلب الأول والأساسى عند طرح قضية المرأة والأدب ،وكأنه العقبة الكئود التى تقف حجرة عثرة أمام الإبداع الأدبى للمرأة ،ولو رجعنا إلى الوراء مائة عام لوجدنا أن من مظاهر التحرر ،مطالبة النساء بإلغاء نون النسوة،واليوم وبعد مائة عام يطالبن بنون النسوة وتاء التأنيث فى الخطاب الأنثوى !!.(12/17)
(22) المطالبة بحرية المرأة فى الكتابة عن الجنس دون خجل أو حياء (1). على اعتبار أن ذلك يمثل حرية الإبداع التى ترنو إلى تحقيقها العولة فى الجانب الاجتماعى.تقول الدكتورة حنان نجمة من سوريا " إن مما ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار توقيع العقوبة على الزوج إذا جامع زوجته بغير رضاها ،لأنه ارتكب فى هذه الحالة جريمة الاغتصاب كما ينبغى أن يلغى النص المحقق لعقوبة القتل التى يرتكبها الزوج إذا وجد زوجته فى حالة الخيانة الزوجية "(2)
وتقول الدكتورة فاطمة خفاجى وهى تعمل بالمنظمة الدولية لرعاية الطفولة اليونيسيف متحدثة عن إذن الزوج لزوجته بالسفر ،وعن ختان الإناث،وغير ذلك " إن إعطاء الرجل الحق فى منع زوجته من السفر هو نوع من القهر ،كذلك يجب أن ينص فى عقود الزواج على حق المرأة فى الانفراد بإيقاع الطلاق ،والتعليم والعمل كذلك يجب أن يمنع ختان الإناث "(3).
وتقول الأديبة سلوى بكر عن الأحكام والقوانين الإسلامية الشرعية " إن الحدود الشرعية ،وقانون العقوبات الإسلامى هى من الأمور الرجعية التى عفى عليها الزمن "(4).
__________
(1) يراجع أعمال هذا المؤتمر في مجلة صوت الأزهر العدد 7،6 ص8 لعام1999م ،وكذلك منبر الإسلام ص31 ،32 عدد 8، لعام1999م ،وكذلك مجلة الهدى النبوى ص10 عدد 702 لعام 1999م
(2) مجلة الهدى النبوى ص10 عدد 702 لعام 1999م
(3) العولمة والوجه الآخر ص335
(4) المرجع السابق ص 336(12/18)
والوقع أن هذه المقررات السابقة التى تعمل العولمة ومن خلفها قواها على تفعيلها فى أرض الواقع ، والتى اغتر ببريقها ، وشعاراتها كثير من أبناء المسلمين ، ما هى إلا نصوص مبتورة من قوانين الدول الغربية ،عاشت من خلالها فى أوحال الشذوذ والرزيلة ، فأبت إلا أن يشاركهم فيها غيرهم، ممن اتخذوا من تشريعات العفة والطهر والنقاء دينا لهم ، ليشاركوهم مصيرا واحدا من الانهيار القيمى والأخلاقى ، وليسهل السيطرة عليهم واستعمارهم بعد ذلك. وفيما يلى أعرض لبعض ما ورد فى المؤتمرات السابقة من قرارت نبعت من خلال قوانين بعض الدول الغربية.
إكراه الزوجة على المعاشرة الجنسية:
يعتبر إجبارالزوج لزوجته على إتيان الصلة الجنسية الطبيعية سبباً مبيحاً للطلاق فى القانون الفرنسى؛بل إن جانباً من الفقه الفرنسى قد ذهب إلى أن الأصل العام الذى يتعين أن يسود هو " أن الممارسة الجنسية سواء أكانت زوجية أم لا يجب أن تتم برضاء حر(1)
- وقد جرمت كذلك القوانين الأمريكية إجبار الزوج على وقاع زوجته كرها عنها (2)
- وقد كان القانون الألمانى لا يجرم وقاع الزوجة بالإكراه من الزوج ،إلا أنه إثر تزايد الدعوة من الفقه الألمانى ومن الرأى العام المطالب بتطبيق النص الخاص بجريمة الاغتصاب على هذا الفعل ،تدخل بتجريمه بموجب تعديل سنة 1997 (3)
__________
(1) انظر فى ذلك حكم للنقض الفرنسى Cass . crim. 17juill 1984. Bull ,no.260,p.690
(2) راجع المادة 262/2ب من قانون العقوبات الأمريكية لولاية كاليفورنيا الأمريكية المضافة فى سبتمبر 1979
(3) الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى ص34(12/19)
- وقد نص القانون البلجيكى الصادر فى 23 ديسمبر 1980 على تجريم الوقاع بالإكراه بين الزوجين ،وعلق تحريك الدعوى الجنائية على شكوى الزوج المجنى عليه ،وعلى ذلك نصت قوانين كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر واستراليا وكندا (1)
(2) تعدد الزوجات:
فى القانون الألمانى:
- تعاقبت المادة 171 من قانون العقوبات الألمانى على تعدد الزيجات بالحبس مدة تصل إلى ثلاث سنوات أو بالغرامة ،ووفقاً للمادة 13/3 من قانون الزواج الألمانى (Ehe.G) فإن المنع من التعدد يسرى على زيجات الأجانب المعقودة على الأراضى الألمانية ،ولذلك فإنه يجرم للمسلم المتزوج أن يتزوج من أخرى داخل إقليم الدولة الألمانية
فى القانون الفرنسى:
وتعدد الزيجات يعتبر جريمة ماسة بحالة الشخص المدنية فى نظر الشارع الفرنسى (المادة 433-20 من قانون العقوبات لسنة 1994) وقد عاقب الشارع الفرنسى على هذا الفعل بالحبس والغرامة التى تبلغ ثلاثمائة ألف فرانك .وتطبيق هذه المادة على كل من يوجد على الأراضى الفرنسية ولو كانت ديانته تبيح له تعدد الزيجات،فقاعدة الدفع من تعدد الزيجات من النظام العام فى فرنسا .ولذلك قضى بإدانة مواطن جزائرى مسلم تزوج من فرنسية وكان له سبق الزواج من جزائرية مسلمة من الجزائر
هذا وقد انفرد القانون التونسى عن بقية البلدان الإسلامية فى أنه لا يمنع تعدد الزوجات فحسب ،بل يجرمه ويعاقب عليه بالحبس والغرامة ،ويلاحظ أن هذا المنع مطلق فى القانون الفرنسى حتى ولو قامت أسباب موجبة للتعدد(2)
(3)الخيانة الزوجية:
__________
(1) انظر NICOD-PASCHOUD,Annik: le viol, these, faculte de droit de l universite de Lausanne,1983,P.670 نقلا عن الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعىص55
(2) الشيخ أبو زهرة تنظيم الأسرة وتنظيم النسل ص270 ط دار المعارف(12/20)
فى مقابلة أجراها أد/ أشرف شمس الدين مع الفقيه القانونى الألمانى هانز هاينرش ييشك رئيس الجمعية الدولية لقانون العقوبات سابقا بمكتبه بمعهد ماكس بلانك للدراسات الجنائية الدولية فرايبورج الألمانية فى سبتمبر 1989م وبسؤاله عن جريمتى الزنا (الخيانة الزوجية) وتعدد الزيجات فى القانون الألمانى ،قرر أن جريمة خيانة الزوجية لم تعد مجرمة فى القانون الألمانى الحالى،أما تعدد الزيجات فما زال مجرماً بوصفه يتضمن مساساً بنظام الزواج
ومن القوانين التى أصبحت لا تشكل فيها الخيانة الزوجية جريمة ،القانون الإنجليزى والفرنسى والإيطالى والألمانى والبلجيكى واليابانى والدول الاسكندنافية وقوانين الدول الإشتراكية والاتحاد السوفيتى سابقا وعدد كبير من الولايات الأمريكية (1)
(4)الشذوذ الجنسى:
أوصى المؤتمر الدولى التاسع للقانون الجنائى المنعقد بلاهاى ،أنه يجب أن يخرج تجريم السلوك الجنسى الشاذ بين البالغين سواء أكانوا ذكورا أم اناثا من نطاق التحريم (2)، ويقول Hart " إن الشذوذ الجنسى لا يصلح ضارا لغير المشاركين فيه،وإن من شأن تجريم اللواط أنه يتضمن تقييدا للحرية ويبعث على الشقاء"(3)
__________
(1) الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى ص55
(2) د/سمير الجنترورى ،الجرائم ضد العائلة وضد الأخلاق الجنسية ص130 ط النهضة
(3) Hart,law,liberty and morality,p.21-22 ويراجع، الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعىص54(12/21)
ومما يؤ سف له أن القانون المصرى اعتراه قصور تشريعى فى هذا الموضوع إذ لا يثبت أفعال الشذوذ الجنسى وزنا المحارم والاتصال الجنسى بين بالغين بالرضا،بل أن المشرع المصرى لا يعترف لمن بلغ من العمر 18عاما ويقل عن 21عاما بأهلية كاملة للتصرف فى أمواله ،فالفتاة التى تبلغ من العمر 18عاما ليست كاملة الأهلية للتصرف فى مالها(1) ،ولكن الشارع المصرى يعترف لها بأهلية التصرف فى عرضها إذ بلغت هذه السن فما تأتيه من صلات جنسية غير شرعية سواء طبيعية أم شاذة لا صلة عليه (2).وهذه نظرة تستحق المراجعة.
وإذا كانت هذه مرجعية ما تبنته العولمة الاجتماعية فى مؤتمراتها الدولية من قرارات فإنه
قد ترتب على ذلك ظهور وتفشى عدد من العلاقات الجنسية الفاسدة فى المجتمعات الإسلامية وغيرها تحت مسى الزواج منها :
الزواج العرفى :
__________
(1) انظر المرسوم بقانون 119 لسنة 1952 بشأن الولاية على المال
(2) الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى 75(12/22)
فى البداية انتشرت موضة ما يسمى الزواج العرفى، التى تحولت حاليا إلى ما يشبه الموضة القديمة. ويقوم الزواج العرفى على مجرد اتفاق الشاب والفتاة على الزواج سواء أمام أصدقائهم أو أى شاهدين أو حتى بدون شهود، وتتم كتابة ورقة، يوقعها الطرفان تقول أنهما اتفقا على الزواج. ولا يحتاج هذا النوع من الزواج إلى تسجيل رسمى أمام المأذون أو فى المحكمة الشرعية. فهى عبارة عن ورقه تسمح للطرفين بممارسة كافة الحقوق المسموح بها لأى زوجين. وتتميز هذه الورقة بأنها غير مكلفة، ولا تحتاج إلى أى إجراءات للتوثيق. كما أن هذا النوع من الزواج لا يلزم الطرفين بأى أعباء، حيث يقيم الشاب فى بيت أهله، والفتاة فى بيت أهلها، ولا يلتقيان إلا عندما تكون لديهما الرغبة فى اللقاء لإشباع غرائزهما. ويتم اللقاء فى العادة فى بيت أحد الأصدقاء أو الصديقات. واشتهر هذا النوع من الزواج بكثرة فى أوساط الطلاب والطالبات، الذين كان من السهل عليهم جدا كتابة الأوراق، ثم تمزيقها وقت اللزوم. وفى البداية لقى هذا النوع من الزواج اعتراضات كبيرة لما أحدثه من جلبة داخل المجتمع المصرى حيث تحول إلى ظاهرة، ثم تحول إلى ممارسة معترف بها قانونيا.
ولكن هذه الظاهرة الجديدة تحولت بمرور الوقت إلى عادة أصيلة، بل وتخلى الزواج العرفى عن عرشه الذى احتله لفترة، ليحل محله نوع آخر من الزواج الأسهل، والأقل تكلفة من كتابة ورقة ثم تمزيقها. وقد بلغ الحد في هذه الظاهرة إلى أن هناك نماذج مجهزة على الكمبيوتر كصور لعقد الزواج العرفى تباع فى المكتبات أمام بعض الجامعات ومن السهل العثور عليها
زواج الكاسيت :(12/23)
تحول الزواج العرفى بعد فترة إلى موضة قديمة، وحل محله موضة الزواج بشرائط الكاسيت. ومن خلال هذا الزواج لا يحتاج الطرفان إلى كتابة ورقة أو لشهود أو غيره من تلك الأعباء !!! التى رأى الشباب أنها تعوقهم. وأصبح من المعترف به، أن يقوم الشاب والفتاة الراغبان فى الزواج بترديد عبارات بسيطة كأن يقول الشاب لفتاته أريد أن أتزوجك، فترد عليه بالقبول بتزويج نفسها له. ويتم تسجيل هذا الحوار البسيط على شريط كاسيت. وبعدها يمارس كل منهما حقوقه الزوجية كأى زواج عادى.
زواج الوشم :
ومع التطور الذى يشهده العالم، تطورت الأساليب التى يمارسها الشباب فى الزواج، فظهر الزواج بالوشم. واشتهر هذا الزواج عن طريق قيام الشاب والفتاة بالذهاب إلى أحد مراكز الوشم ويقومان باختيار رسم معين يرسمانه على ذراعيهما أو على أى مكان يختارانه من جسميهما. ويكون هذا الوشم بمثابة عقد الزواج. وبموجب هذا الوشم يتحول الشاب والفتاة إلى زوج وزوجة لهما الحق فى ممارسة كافة الحقوق الزوجية.
زواج الطوابع :
أما آخر صيحة من صيحات الزواج المنتشرة هذه الأيام فهى عملية الزواج بالطوابع. ويتم هذا الزواج باتفاق الطرفين على الزواج، ويقومان بشراء طابع بريد عادى. ويقوم الشاب بلصق الطابع على الجبين. وبعد عدة دقائق يعطى الطابع للفتاة التى تقوم بدورها بلصق الطابع على جبينها. وبهذا تنتهى مراسم الزواج. ويتحول بعدها الشاب إلى زوج، والفتاة إلى زوجة. وسط تهنئة وفرحة الأصدقاء الذين يساعدونهما على تحمل تكاليف الزواج عبر توفير مكان لهما ليلتقيا فيه بخصوصية، وليمارسا علاقتهما الزوجية بدفء، بعيدا عن العيون والأنظار. (1)
__________
(1) www.egypty.com، ويراجع السيد يس العولمة والطريق الثالث ص25 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب(12/24)
هذه الأنواع المختلفة من الزواج أصبحت واقعا معروفا فى أوساط الشباب في مختلف البلدان الإسلامية ، ومن الواضح أن الموضة فى تطور، وأن هناك الجديد دائما.0لدرجة ان بعض الاحصائيات القانونية اكدت ان هناك حوالى 14 ألف قضية مرفوعة أمام المحاكم لاثبات البنوة من هذه النوعيات من الزواج .وهذه الإحصائية إنما تتضمن من وجدت الجرأة في نفسها لتعلن عن أمرها وفسادها.
زواج المثل :
وقد أقرت هذا النمط من العلاقة الجنسية التى تجمع بين رجل ورجل ، أو امرأة وامرأة الحكومات الغربية ورتبت عليه حقوق وواجبات وهو في طور اقرار من الهيئات الدينية المسيحية في أوربا حيث نقلت صحيفة التايمز البريطانية في 25 / 7 / 2005 ما نصه " تمنح كنيسة بريطانية عشية اليوم مباركتها للزواج بين رجال الدين الشواذ جنسيا الراغبين في دخول عقد شراكة مدني. إلا أن "الكنيسة البريطانية" ترفض منح هذه الشراكة الزوجية المدنية صفة "العلاقة الزوجية الرسمية" كما أنها ستطالب رجال الدين الشواذ الراغبين بالزواج بالحفاظ على طهارتهم أي علاقة زوجية " بلا ممارسة جنسية".وكان أسقف "نوريتش" قد أشرف على إعداد هذا الحل بالنسبة لرجال الدين الشواذ يذكر أن المجمع الإنجيلي العالمي منقسم حول فكرة زواج رجال الدين الشواذ جنسيا، ووصل إلى حافة الانشقاق بعد انتخاب أول أسقف شاذ جنسيا، ريف روبنسون في الولايات المتحدة.ومن المتوقع أن يجري احتفال رسمي بأول زواج لرجال دين شواذ في ديسمبر/كانون أول القادم. وكان جاك سبونغ، أسقف أبرشية تابعة للكنيسة الأسقفية البروتستانتية وهي أبرشية "نيووراك" في أمريكا، قد أعلن مؤخرا بعد تقاعده أن "نصف الأساقفة الكاثوليك شاذون جنسيا"(1).
__________
(1) http://www.islamic-aqsa.com/ar/modules.php?name=News&file=article&sid=214(12/25)
وقد انتقل ذلك إلى كثير من البلدان الإسلامية حيث أوردت صحيفة الأسبوع الصدرة في القاهرة بتاريخ 17/12/2005 إعلان زفاف رجلين من بلد عربى على بعضهما في أحد الفنادق الشهيرة في القاهرة بحضور عدد من المثليين من الجنسين قدموا للمشاركة في الحفل من كثير من البلاد العربية.هذا وقد وجدت مقررات مؤتمرات العولمة الاجتماعية سبيلها إلى تطبيق جانب كبير منها على الأصعدة الرسمية في كثير من البلدان الإسلامية ،فكان نتيجة لذلك تجريم الختان ، وتقرير أحقية الزوجة في السفر بغير إذن زوجها ..... وغير ذلك من القرارات التى تبنت الدعوة إليها العولمة الاجتماعية في محافلها العالمية ومؤتمراتها الدولية.
المبحث الثانى
دور القضاء الشرعى فى مواجهة الإشكاليات الاجتماعية للعولمة
المطلب الأول
الإشكاليات الاجتماعية للعولمة بين القضاء عليها والحدمنها(12/26)
إذا ما تصورنا الإشكاليات الاجتماعية السابق ذكرهاعلى أنها نوع من الجريمة فإننا نقرر أن القضاء عليها فى المجتمع الإنسانى من الأمور المستحيلة فى أى عصر،وفى أى جيل ،لاسيماً وقد اجتمع على الإنسان نفسه التى بين جنبيه،والهوى ،والشيطان،فهو أمام أعداء ثلاثة يغالبها فيتغلب عليها حينا بعد صراع ومقاومة شديدة ،أو تغلبه أحياناً فيسلم قياده لها ، فتتجاذبه يمنة ويسرة فى مسالك الغواية والانحراف ،ولا ينفك هذا الصراع قائماً ما وجد الإنسان على وجه البسيطة،وقد قررت الآيات القرآنية جانبا من هذه الحقيقة حيث قال تعالى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ " الأعراف (17:11) . لهذا السبب الرئيس،وهذا الوعد من الله عز وجل بالإمهال لإبليس،والابتلاء والامتحان للبشر،يصدق القول بأن الغرض من كل المحاولات الجادة والمتنوعة ،في مجال القضاء الشرعى هو الحد من هذه الظواهر الفاسدة السابق ذكرها،وليس القضاء عليها كلية،فحيثما أطلقت عبارة "مكافحة الجرائم الاجتماعية" فالهدف منها هو الحد منها ،ومحاصرتها قدر الإمكان وحسب الجهد والطاقة(1)
__________
(1) القثامى،حمود بن ضاوى ،الشريعة الإسلامية وأثرها فى الظاهرة الإجرامية ص20،الطبعة الثانية الدار السعودية للنشر والتوزيع بتصرف
2 الماوردى ،الأحكام السلطانية ص268 ،.ط الحلبى ويراجع د عبد الوهاب أبو سليمان المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمة ص100 أعمال مؤتمر كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات 2005
3 الأحكام السلطانية ص 268، ويراجع0 المستشار د/محمد احمد عابدين دعوى الحسبة ص16 –ط- دار الفكر الجامعى
4 المرجع السابق،269(12/27)
ويعد الحد منها من خلال تصور هذا الإطار معيار للنجاح في مواجهتها وتقويمها.ولا سبيل إلى الحد من هذه الجرائم الاجتماعية التى روجت لها العولمة إلا من خلال تفعيل دور التشريع الإسلامى في مكافحتها ومواجهتها .
المطلب الثانى
مظاهر مكافحة الإشكاليات الاجتماعية للعولمة في التشريع الإسلامى.
(1)الحسبة:
والحسبة " أمر بالمعروف إذا ظهر تركة،ونهى عن المنكر إذا ظهر فعله "(1) وهى وظيفة من وظائف الدولة الإسلامية،وهى بمثابة العين الساهرة على المجتمع للمحافظة فيه على الفضيلة، ،ومحاربة الرزيلة بكافة أشكالها وصورها . وللمحتسب من الصلاحيات الواسعة التى يستطيع بها التنفيذ المباشر،وإعادة الأمور إلى نصابها حالاً " فللناظر في الحسبة سلاطه السلطنة،واستطالة الحماة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة ،لأن الحسبة موضوعة على الرهبة ..."(2) ثم عدت الحسبة " واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم "(3) وصلاحياته واضحة فيما يتعلق " بمنكر ظاهر،وهو منصوب لإزالته،واختصاصها بمعروف بينٍ هو مندوب إلى إقامته "(4) .
__________
(4) 1 الأحكام السلطانية 270
2 زيادة،نقولا،الحسبة والمحتسب فى الإسلام بيروت المطبعة الكاثوليكية 1963م ص34 .نقلا عن د عبد الوهاب أبو سليمات المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمة ص100 أعمال مؤتمر كلية الشريعة والقانون جامعة الإمارات 2005
3 دراسة مقارنة بين نظَام المرافعات السعودي وقانون المرافعات المصري المكتبة القانونبةhttp://law-book.net/(12/28)
ولقدعدد الفقهاء وظائف المحتسب بما يظهر منه أن أوليات أعماله مكافحة الجريمة المتمثلة في كل ما يعد منكراً في الشريعة الإسلامية .كما أنه أصبح مؤكداً برغم تغير صلاحيات الوالى ونواب السلطان حسب مقتضيات العصور ومتطلبات إدارة الدولة،أن المحتسب " أكثر الموظفين نفوذاً بين أولئك الذين لهم اتصال مباشر بالجمهور ،فقد اتسعت سلطاته بحيث لم يبق كثير من مجالات الحياة التى لم يكن له عليها بعض الإشراف ،ومن ثم فقد أصبحت الصفات التى تطلب فيه كثيرة ،فكان يجب أن تكون له معرفة بالشريعة والدين،وأن يكون تقياً عف اللسان ،نقى القلب،صبوراً ،شديداً في الحق ،عارفاً بشؤون الصناع ، وطرق تدليسهم ،وكان ينتظر منه أن يحترم مجالس الناس الخاصة فلا يتلصص عليها ...."(1). ومع أهمية الدور الذى تقوم به الحسبة في مقاومة الخلل الاجتماعى في كل العصور لاسيما فيما نعايشه من إشكاليات خطيرة للعولمة الاجتماعية فإننا نلمح في الآونة الأخيرة تجميدا لها في كثير من البلدان الإسلامية ودليل ذلك على سبيل المثال
ذلك النص الذى أضيف لقانون المرافعات المصري رقم 81 لسنة 96 والذى أصبحت دعوى الحسبة بموجبه غير قائمة وأسندت تلك الدعوى إلى النيابة العامة باعتبارها ممثلة للمجتمع. كما أن نظَام المرافعات السعودي يأخذ في المادة (5) منه بدعوى الحسبة وإن تقيدت بشروط.
(1) أن ترفع تلك الدعوى من ثلاثة من المواطنين.
(2) أن تكون في الدعوى مصلحة عامة.
(3) أن لا يكون في البلد (جهة رسمية ) وبهذه الشروط ضاق الفارق بين نظَام المرافعات السعودي وقانون المرافعات المصري واعتبرت (النيابة العامة) في قانون المرافعات و(أي جهة رسمية) في نظَام المرافعات السعودي هي التي تتولى دعوى الحسبة.(2) والجدير بالذكر أن تجميد قانون الحسبة في مصر جاء إثر ضغط من المنظرين للعولمة بدعوى أنه يقيد حرية الأشخاص ودليل ذلك قضية د كتور نصر حامد أبو زيد ،ودكتوره نوال السعداوى.(12/29)
(2)تفعيل دور القضاء الشرعى فى الواقع الاجتماعى
ويتم ذلك من خلال :
(أ)تنفيذ العقوبات المقررة في الجرائم المنوطة بها
ويأتى تنفيذ العقوبات الشرعية المقررة لمرتكبى المحظورات والمنهيات الشرعية مرحلة من مراحل مواجهة الفساد الاجتماعى الناتج عن ازدياد سطوة العولمة الاجمتاعية في واقع حياة البلادان الإسلامية.وينبغى أن نعى أن الشريعة الإسلامية لا تلجأ إلى العقوبة إلا بعد أن تستنفذ كل وسائل الإصلاح الممكنة منها وغير الممكنة،فإن لم تكن بعضها ولا كلها سبباً في استقامة الفرد ،وإيقاظ ضميره فلا شك أن العقاب يصبح ضرورة حينئذ، علاجا للخلل الذى وقع في حياة الأمة والذى لو ترك لقوض بنيانها القيمى والخلقى ولأدى إلى انهيارها وأذن بزوالها، ومن ثم فليس من سبيل إلا تطبيق العقوبات الشرعية ،ذلك أن :
" النظام العقابى (يعد) من الضرورات الاجتماعية إذ لا يمكن لأى تنظيم اجتماعى أن يستمر بدون وجود تهديد بالعقاب في حالة الانحراف ،وتطبيق أساليب معينة لمواجهة السلوك والانحراف إذا ما وقع فعلاً ..."(1).
تفعيل الحدود الشرعية :
إن من حسن طالع الأمة الإسلامية أن ما يعده الإسلام جرماً كبيراً يضر بأمن الحياة الاجتماعية واستقرارها،أو يمس نقاء المجتمع وطهارته قد عينه وحدده ،بل قرر ما يتصل به من عقوبات حسب تفاوت درجاته ،فالحدود والجنايات معلوم تعدادها ،مقررة عقوبتها لم تترك لاجتهادات البشر ؛ لأن إدراك أبعاد ضررها ،وإعطاء حكم مجرد نزيه بالنسبة لجزاءاتها،بعيداً عن الميول والنزعات البشرية ليس في مقدور البشر، إذ البشر متفاوتون في إدراكهم واتساع مداركهم ، قاصرة عقولهم ،يعترى حكمهم على الأشياء المنفعة والمصلحة التى تختلف باختلاف المان واخلاف المكان بل واختلاف الأشخاص والظروف والأحوال ،فمن ثم اختصت الشريعة الإسلامية
__________
(1) د نبيل السمالوطى ،الدراسة العلمية للسلوك الإجرامى ص65ط دار الشروق جده(12/30)
هذا النوع من الجرائم بعقوبات محددة من قبل خالق البشر سيحانه وتعالى على النحو التالى :
(1) الزنا :
" وهو فعل فاحشة في قبل أو دبر "(1) ،وعقوبته الرجم حتى الموت إن كان الزانى مكلفاً حراً محصناً وإن زنى حر غير محصن جلد مائة ،وغُربَ عاماً ولو أنثى .
(2) القذف :
وهو الرمى بزنا ،أو لواط أو شهادة بأحدهما .... عقوبته المقررة ثمانون جلدة إن كان حرا(2).
(3) السكر :
ويعد كل مسكر خمراً ،يحرم شرب قليله وكثيره من أى نوع كان ،وعقوبته الجلد ثمانين جلده إن كان شاربها حراً .
(4) السرقة :
وهى " أخذ مال محترم لغيره على وجه الاختفاء من مالكه ،أو نائبه بلغ نصاباً وهو ثلاثة دراهم ،أو ربع دينار "(3)وعقوبة من ثبت عليه شرعاً قطع يده اليمنى من مفصل كفه .
(5) الحرابة :
وهى التعرض للناس بسلاح في صحراء أو بنيان،أو بحر لاغتصاب أموالهم مجاهرة . أو أو إشاعة فاحشة أو فساد يقوض بنيان الأمة. وعقوبة المحاربين القتل إن كانوا أراقوا دماً بقتل ، أو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى إن سرقوا مالاً فقط ولم يؤذوا أحداً بقتلأو غير ذلك من العقوبات المقررة فى الحرابةتبعا للجرم الواقع .ويلحق بالحرابة كل فساد يقع في المجتمع مما يهدد أمنه واستقراره سواء في النواحى المادية أو المعنوية ومن ثم يمكن تفعيل هذا الحد في مواجهة أنماط الفساد الاجتماعى التى تهدد كيان المجتمع يقول الإمام ابن كثير"و الإفساد في الأرض يطلق على أنواع الشر(4)" وليس هناك أشر من خطر يتهدد المجتمع في قيمه وثوابته التى نص الشرع الحنيف على حفظها وصيانتها.
(6) الردة:
__________
(1) 2 شرح منتهى الإرادات ج3 ص362،وكذا العلامة أبى البركات الدردير الشرح الصغير على أقرب المسالك لمذهب الإمام مال ج4ص431طدار المعارف
ا العلامة أبى البركات الدردير الشرح الصغير على أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك ج4ص464طدار المعارف
4 الشرح الصغير 470 ح4
(4) الإمام ابن كثيرج1 ص450 ط دار الغد(12/31)
هى " الكفر بعد الإسلام ،وتكون بجحد وحدانية الله،أو صفة ذاتية له أو جحد رسول مجمع عليه،أو ملك،أو أمر معلوم من الدين بالضرورة ،أو إشراك مع الله ،أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم .عقوبة المرتد القتل إن لم يتب بعد استتابته والتضييق عليه "(1)
(7) الجنايات :
وهى " التعدى على البدن بما يوجب قصاصاً أو يوجب مالاً "(2)، والتعدى على النفس بالقتل عمداً يوجب الاقتصاص من القاتل،فإذا قصد الجانى آدمياً معصوم الدم فيقتله بما يغلب على الظن موته به فإنه يقتل به .(3)
والمتأمل فيما سبق من جرائم يراها تمثل اعتاء على الأمن ،وحرية التصرف ،واعتداء على شرف الناس وأعراضهم ، واعتداء على أمن المجتمع بإشاعة الفاحشة فيه، وهو مالا يمكن التهاون فيه ،أو التقليل من خطورته، لأن ضررها يمس المجتمع كافة ،ويعطل مسيرته الأمنية والحضارية بصورة مباشرة ،بالتساوى مع ما يمس المجنى عليه نفسه من أذى بالغ ،وضرر مباشر .
استخدام التعزير فيما لانص فيه :
__________
(1) 2 شرح منتهى الإرادات ج3 ص375ويراجع أبى الحسن الماوردى الحاوى الكبير ج18 ص250ط دار الكتب العلمية
(2) المرجع السابق ص267الحاوى الكبير ج18 300
(3) المرجع السابق ص327 – 328 الحاوى الكبير 18 ص306(12/32)
ويقترن باللخلل والفساد الاجمتاعى وغيره مما ليس له عقوبات محدده كالسابقة ، مالم تعين لهالشريعة الإسلامية عقوبة مقررة " بل تركت للقاضى الحرية في اختيار العقوبة الملائمة ،كما تركت له حق تقدير العقوبة اللازمة ،وتقدير ظرف الجريمة ،وظروف المجرم ،فإن كانت تقتضى التخفيف ،خففت العقوبة ،أو تقتضى التشديد شددت ،ورأى المجنى عليه بذاته لا يعتد به ،فإن عفوه لا يسقط العقوبة ،ولكنه يعتبر ظرفاً قضائياً مخففاً للجريمة "(1).
وهذا القسم يعم كافة أنواع الفساد التى لا تدخل تحت قسم من الأقسام السابقة المنصوص على عقوبتها ،وهى بالغة ما بلغت لا يمكن أن تصل خطورتها إلى ما سبق من جرائم الحدود والقصاص ،فمن ثم لا تبلغ عقوبة وجزاء حدها ،إلا إذا تمخضت نتائجها بخطر يصل إلى مستوى خطورة الجرائم المنصوص على عقوبتها ،أو يتجاوزها ،فحينئذ يكون للحاكم إيصال العقوبة إلى غاية تحقق الغرض منها،ولو بلغت حداً من تلك الحدود أو تجاوزته .فالمدار هنا على إحداث الزجر والردع بالصورة التى يراها القاضى .
المطلب الثالث
التناسب والتوازن في أحكام العقوبة في القضاء الشرعى وأثره في مكافحة الإشكاليات الاجتماعية للعولمة
__________
(1) طلفاح ،خير الله ، النظام الجنائى فى الإسلام ص9 نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمة ص106، ويراجع الإمام ابن تيمية السياسة الشرعية ص96-ط- دار الكتب الحديثة بيروت، ويراجع د محمد سليم العوا أصول النظام الجنائى الإسلامىص259 ط دار المعارف 1983(12/33)
لا يتسع المجال هنا لتعداد خصائص العقوبات في الشريعة الإسلامية فالحديث عنها واسع ومتشعب،غير أنه من المهم جداً في النظام القضائى العقابى في أى تشريع مراعاة التناسب بين الخلل والعقاب المحددله لتتحقق فاعليته ،ويتأكد دوره الإصلاحى والتهذيبى بالنسبة للفرد والمجتمع . وفى الحديث عن هذا الجانب من التشريع الجنائى في القضاء الشرعى الإسلامى لابد من طرح حقيقة مهمة تكمن فى شدة العقوبات التى فرضتها الشريعة الإسلامية على الجرائم المرتكبة ضد النفوس ،والأعراض والأخلاقيات الاجتماعيةالمنحرفة،والأموال ....إلخ،إذا نظر إليها مستقلة ،ومنفصلة عن الجرائم المرتكبة ضد الأفراد والمجتمع . وهذا أمر مسلم لا يستطيع أحد إنكاره.بيد أنه إذا نظر إلى العقوبة مقترنة بالجريمة وإدراك آثارها وأبعادها الاجتماعية يتبين تناسبها مع مخاطرها وأبعادها الاجتماعية تناسباً تاماً ودقيقاً ،وهو ما راعته الشريعة الإسلامية بدقة في قانون الجنايات وأحكام القضاء الشرعى . وقد بذل فقهاء الأمة في كافة العصور جهدهم لبيان فلسفة التشرع الإسلامى في إيقاع العقوبة رابطين بين خطر الجريمة وتناسب العقاب عليها،وممن تطرق لهذا الجانب الإمام ابن القيم حيث يقول :" فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات فى الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض ،فى النفوس ،والأبدان،والأعراض ،والأموال ،كالقتل ،والجراح،والقذف،والسرقة؛ فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن الجنايات غاية الإحكام،وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر،مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجانى من الردع؛فلم يشرع فى الكذب قطع اللسان ولا القتل،ولا فى الزنا الخصاء،ولا فى السرقة إعدام النفس .وإنما شرع لهم فى ذلك ما هو موجب أسمائه ،وصفاته من حكمته،ورحمته،ولطفه،وإحسانه،وعدله لتزول النوائب ،وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ،ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه ؛ فلا يطمع فى استلاب(12/34)
غيره حقه(1)"
ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة فى القلة والكثرة،ودرجات متفاوته فى شدة الضرر وخفته،كتفاوت سائر المعاصى فى الكبر والصغر وما بين ذلك .
ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها فى العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ،ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف،ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح فى الأنساب،ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم ،فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات ،وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم فى معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء كل مذهب ،وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ،ولعظم الاختلاف واشتد الخطب ،فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤونة ذلك ،وأزال عنهم كلفته ،وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً ،ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ،ويليق بها من النكال ،ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها،وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه،ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة،فرحمهم بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة فى الدنيا والآخرة ،وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول : قتل ،وقطع،وجلد،ونفى،وتغريم مال وتعزير .فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات،كالجناية على الأنفس؛ فكانت عقوبته من جنسه،وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهدم القيم عن طريق التشكيك فيما علم من أحكامه بالضرورة ،وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجانى عليه من كل عقوبة؛ إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم،ولا خير يرجى فى بقائه ولا مصلحة؛ فإذا حبس شره وأمسك لسانه ،وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه لم يكن فى بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم ،والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين .وجعله أيضاً عقوبة الجناية(12/35)
على الفروج المحرمة ؛ لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام .أما القطع فجعله عقوبة مثلةو عدلاً ، للسارق؛فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبة الجلد ،ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل ؛فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذى جعله وسيلة إلى أذى الناس،وأخذ أموالهم ،ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله؛ليكف عدوانه،وشر يده التى بطش بها ،ورجله التى سعى بها ،وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله،فكف ضرره وعدوانه،ورحمه بأن أبقى له يداً من شق ورجلاً من شق .
أما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يوجب القتل ولا إبانة طرف ،إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سبباً لأشنع القتلات،ولكن عارضها فى البكر شدة الداعى ،وعدم المعوض،فانتهض ذلك المعارض سبباً لإسقاط القتل ، ولم يكن الجلد وحده كافياً فى الزجر فغلظ بالنفى والتغريب ؛ليذوق من ألم الغربة ،ومفارقة الوطن،ومجانبة الأهل والخلطاء ما يزجره عن المعاودة .(12/36)
وأما الجناية على العقول بالسكر فإن مفسدتها لا تتعدى السكران غالباً،ولهذا لم يحرم السكر فى اول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان فى كل ملة ،وعلى لسان كل نبى ،وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع ، بل ضرب فيها بالأيدى والنعال وأطراف الثياب والجريد وضرب فيها أربعين ،فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا فى ارتكابها غلظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضى الله عنه الذى أُمرنا باتباع سنته وسنته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلها ثمانين بالسوط ونفى فيها،وحلق الرأس ،وهذا كله من فقه السنة ؛فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الشارب فى المرة الرابعة ولم ينسخ ذلك ولم يجعله حداً لابد منه ؛فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام فى المصلحة ،فزيادة أربعين والنفى والحلق أسهل من القتل "(1)
المطلب الرابع
أهداف العقوبات فى القضاء الشرعى وأثرها في مكافحة الإشكاليات الاجتماعية للعولمة
__________
(1) 1 ابن القيم إعلام الموقعين ص95، 97 تح محى الدين عبد الحميد مصر مطبعة السعادة ويراجع ابن حزم المحلى ج11 ص228 ط بيروت، وكذا الإمام الشاطبى الموافقات ج2 8،10 تح د محمد عبد اللهة درازط صبيح وكذ المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمة ص110(12/37)
ورد التعبير الفقهى عن وظيفة العقوبات وأهدافها بعامة ،والحدود بخاصة على لسان الفقهاء بأنها :" موانع قبل الفعل،وزواخر بعده"(1) بمعنى أن إلمام عامة الناس وجمهورهم بالمحظورات المنهى عنها ،وإدراكهم لما يترتب على مباشرتها من عقاب يمنعهم من الإقدام على ارتكابها؛خوفاً من تطبيق العقوبة عليهم ،وما قرره الفقهاء المسلمون قديماً فى التشريع القضائى الإسلامى فى هذا الجانب يؤكده ويركز عليه فقهاء القانون الوضعى .يقول تشيزارى بكاريا :" ويجب على الأفراد أن يخشوا القوانين ولا يخشوا غيرها؛ فإن الخشية التى تستوجبها القوانين أمر مفيد وصحى ،ولكن الخوف الذى ينتاب الأفراد من بعض الأفراد الآخرين هو المميت الذى يشجع على ارتكاب الجرائم "(2). ولعل هذا ما نبه إليه عثمان بن عفان بقوله " يزع الله بالسلطان مالا يزع بالقرآن"وهذا ما يصدقه الواقع الماثل من تطبيق الشريعة الإسلامية فى المملكة العربية السعودية .يحكى الدكتور حمود بن ضاوى القثامى قوله
__________
(1) ابن عابدين ، ، رد المحتار على الدر المختار ج3 ص، وكذا ،157/140 بيروت دار الكتب العلمية
(2) الجرائم والعقوبات ص نقلا عن130 المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص110(12/38)
" كان لص من دولة عربية قدم إلى المملكة العربية السعودية لقصد السرقة ،ولكنه سمع أن السارق تقطع يده ،فأخذ شهوراً قبل أن يقدم على أى عمل ،خوفاً من القطع وأخيراً وبعد ثلاثة أشهر تقريباً قرر أن يقوم بالسرقة فى مدينة بعيدة عن سكنه بجدة ،فأخذ يذهب إلى الطائف ويختار المكان المناسب ويعود إلى جدة فى نفس اليوم حتى لا ينكر عليه أحد ممن يسكن عندهم .ثم وقع اختياره على فيلا بعيدة عن المدينة ليس بها سكان ،ويوجد بها حارس ،هذا الحارس اعتاد كل صباح الذهاب إلى السوق لقضاء بعض أغراضه وفى نفس اليوم الذى قرر فيه السرقة كان فى جدة وذهب صباحاً إلى الطائف وتوجه فوراً إلى الفيلا حيث لم يجد الحارس فكسر الباب وسرق ما يستطيع حمله من المبلغ الذى كان فى شنطة الحارس وبعض الأقمشة وأشياء أخرى " ثم يتابع القضية فيقول " وكنت يومها مديراً لقسم شرطة السلامة بالطائف بالنيابة،وكان الوقت ظهراً قبل نهاية الدوام بقليل حيث حضر الحارث وأخبرنى بالسرقة ،وأضاف أنها حدثت حالاً،حيث لم يتأخر فى السوق ولم يغب كثيراً،ومن حسن الحظ أرسلت المخبر ومن اخترته إلى موقف جدة للسيارات بالطائف ،وهناك تم القبض على السارق والمسروقات حيث وجد صدفة بالموقف يريد السفر إلى جدة،وحال حضور السائق اعترف اعترافاً صريحاً بما حصل كاملاً،وأنه يريد أن يسرق العديد من السرقات حتى يكون لنفسه ثروة ثم يعود إلى بلده ،ولكنه تردد لعلمه بأن السارق تقطع يده ،ولم يسرق إلا بعد تخطيط طويل تأكد 100% أنه سينجح فيه ولكنه لم ينجح "(1) هكذا فإن الرهبة من الشرع وإيقاع العقوبة القضائية الشرعية على وجهها الصحيح تحول بين المجرم ومخططاته لإزعاج الآمنين ،ويتحقق بالفعل أن الحدود والعقوبات " موانع قبل الفعل" فمن عاث فى الأرض فسادا ، مشيعا الفاحشة فى أمته، مهددا قيمها وأخلاقه إذا
__________
(1) الشريعة الإسلامية وأثرها فى الظاهرة الإجرامية ص156نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص111(12/39)
لقى من العقوبة ما يناسب فعله سيكون عبرة لمن هم على شاكلته ليفكروا مرات ومرات قبل أن يقدموا على فسادهم وبغيهم يقول الدكتور محمود نجيب حسنى"لقد رغب التشريع الإسلامى من خلال أحكامه فى تحقيق الردع العام للمجتمع ، والردع الخاص صيانة للمجتمع،بما يكفل للتشريع سطوته ،ليكون أداة فعالةلحماية المصالح الأساسية فى المجتمع"(1) أما أنها " زواجر بعده " فإن تنفيذها فى نفس الوقت يحقق الزجر والردع للآخرين .فتنفيذ العقوبة المفروضة شرعاً لكل جريمة ترتكب فى حق الأفراد أو الجماعة درس وعبرة يعتبر بها الآخرون ممن تسول له نفسه أو تراوده لانتهاك حرمات الأفراد أو الجماعات ،أو العبث بأمن المجتمع وسلامته ،بهذا يؤدى تطبيق العقوبة القضائية الشرعية إلى حماية الآخرين من الانزلاق فى مهاوى الرزيلة .
__________
(1) أد محمود نجيب حسنى مفهوم الدفاع الاجتماعى ص21 مجلة الأمن العام عدد 20 ويراجع أ بهجت عتيبة الفقه الجنائى الإسلامى ص20،21مجلة الأمن العام عدد 20(12/40)
نجد أيضاً عنصر فورية التنفيذ للعقوبات بعد ثبوت الجريمة ثبوتاً شرعياً صحيحاً ،عنصر مهم جداً حيث يحقق معنى الزجر والردع كاملاً لدى الآخرين؛إذ ترتبط العقوبة بالجريمة فى أذهان الناس وفى استحضار كامل لأحداثها . إضافة إلى وجود صفة الإعلان فيهاوهذا أصل فى التشريع الإسلامى ومبدأ من مبادىء أحكام العقوبات فيها ،قد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقه فيمن ثبتت عليه جريمة تستوجب حداً .من ذلك ما رواه الإمام البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال :" أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد فناداه فقال يا رسول الله :إنى زنيب. فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات،فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبى صلى الله عليه وسلم فقال :أبك جنون؟ قال:لا .قال: فهل أحصنت؟ قال:نعم .فقال النبى صلى الله عليه وسلم :اذهبوا فارجموه ..."(1). وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال " ان رجلا اتي النبي صلى الله عليه وسلم فاقر عنده بالزنا فامر به فرجم"(2)، وفى عبارة قاطعة فى شأن كل من تسول له نفسه الاعتداء على الأمن الاجتماعى من الفساق والمفسدين يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروريه عمر رضى الله عنه" قال : اشتدوا على الفساق واجعلوهم يدا يدا ورجلا رجلا ."(3) والمروى عن النبى فى هذا الصدد كثير.
__________
(1) رواه الإمام مسلم فى صحيحه كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا رقم ( 1692 ) وكذا الإمام أحمد ،وأبو داود كنز العمال رقم . 13538
(2) بن جرير كنز العمال13554
(3) رواه عبد بن حميد وابو الشيخ كنز العمال 13443(12/41)
وقد تأكدت سلامة هذا المبدأ نظرياً وتطبيقياً .أما من الناحية النظرية فقد قرر هذه الحقيقة الفيلسوف الإيطالى بكاريا قائلاً " إنه من أكثر الأمور أهمية بأن ترتبط الجريمة بالعقوبة بعضاً ببعض بشكل جوهرى ؛إذ إنه من المرغوب فيه ،كما هو فى نفس الشخص العادى بأن الانطباع المغرى الذى توجده أى جريمة يفيد منها مرتكبها على نحو معين ينبغى أن يستحضر على الفور العقوبة الملازمة لها. إن التأخير الطويل ينتج دائماً أثراً أبعد يفصل بين هاتين الفكرتين :الجريمة والعقوبة "(1) ومن ثم فقد فشلت القوانين الوضعية التى تشددت فى العقاب على الجرائم الجنسية لافتقادها لهيئة وصفة إقامة الحدود فى الشريعة الإسلامية، من ذلك "جريمة الاغتصاب إذا اقترنت بالخطف فتكون العقوبة وفقا للقانون المصرى هى الإعدام ولكن رغم هذه العقوبة المغلظة فلم تحقق الردع الكافى عن ارتكاب هذه الجرائم"(2) وذلك لافتقادها لصفتى الإعلان والفورية ..الخ .
هذا من الناحية النظرية أما من الناحية العملية الواقعية فيقول الدكتور حمود بن ضاوى القثامى من خلال عمله فى مجال الشرطة والأمن بالمملكة العربية السعودية بقوله " إن تجاربى وتعاملى مع المجتمع تثبت أن الجزاء الفورى والصارم هما المطلوبان فى أى قضية يكون لها مساس بالمجتمع " .
يقدم لهذا مثلاً من الواقع الذى عايشه فى طريقة تنفيذ أحكام العقوبات الشرعية بالمملكة العربية السعودية فيما يتصل بعنصر فورية العقوبة فيقول " فأذكر ما انسر له الجميع ،فمثلاً خطفت فتاة من غنمها فى طريق الرياض ،ولحق أهلها الخاطف،فأحضروه لجلالة المغفور له الملك فيصل فى الطائف ،فاعترف بجرمه فأمر به فى الحال بالذهاب إلى مكان الخطف ،ويقتل فوراً هناك .
__________
(1) بكاريا ،تشيزارى،الجرائم والعقوبة ص83نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص113
(2) الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى ص75(12/42)
وفى نفس الأسبوع قتل شخص غريمه عند باب المحكمة الشرعية،فأمر جلالته رحمة الله عليه بإحضار القاتل محل القتل ويقتل،فهذه عين العدالة وما يجب اتباعه فى أهم القضايا التى تمس أمن المجتمع "(1)وكما أنها زواجر للآخرين ،ورادعة لهم فإنها أيضاً ومن باب أولى زاجرة ورادعة للمجرم نفسه من معاودة الجريمة نفسها فضلاً عن ارتكاب غيرها .وضمان عدم العودإلى الجريمة ذاتها ، أو ارتكاب جريمة أخرى غيرها فمن الأهداف الرئيسة من تطبيق أحكام العقوبات القضائية فى الشريعة الإسلامية .منع عود المجرم إلى الإجرام بعد الحكم عليه لأن فى عوده دليل على أنه لم يرتدع من العقوبة الأولى . لذا ينبغى أن نعى أن العبرة ليست بعدد مرات تطبيق الحدود النصية أو العقوبات التعزيرية بل العبرة بالأثر الذى يحدثه لتجريم وتوقيع العقاب الحدى أو التعزيرى وإن قل عدد مرات تطبيقه .فتطبيق عقوبة حد الزنا علنا ولو مرة واحدة قد يفوق فى أثرها تطبيق أية عقوبة أخرى تتم فى غير علانية ،ولو كانت أشد من العقوبة الحدية.والواقع أن العقوبات الشرعية أثبتت فعاليتها وتحقيقها لهذا الغرض بشكل ملحوظ ،فى حين أن القوانين الوضعية قد أخفقت فى تحقيقه :" فالملاحظ أن الجريمة قد زادت معدلاتها وتفاقمت واتخذت صوراً بالغة العنف،شديدة القسوة ( فى بلاد العالم والعالم المتقدم بخاصة) كذلك فإن المجرمين فضلاً عن ازدياد أعدادهم فإن نسبة العائدين منهم قد تضاعفت سنة بعد أخرى حتى بلغت ما يلى :
فى أمريكا 75%من السجناء سبق وأن أفرج عنهم،وعادوا للإجرام .
فى بريطانيا وفرنسا 65%.
فى دول أوربا الغربية واسكندنافيا لا تقل عن 55% .
__________
(1) الشريعة الإسلامية وأثرها فى الظاهرة الإجرامية ص156 3نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص113(12/43)
ولكن فى الدول الإسلامية التى تطبق الشريعة الإسلامية كالمملكة العربية السعودية لا تعرف جرائم (العود) بالشكل الموجود فى دول العالم الأخرى التى يتخصص المجرم فى مهنة الإجرام ،ويواصل إجرامه كلما خرج من قضبان السجون،وربما فى اليوم الأول حين أخلى سبيله "(1)، ويقدم الدكتور القثامى استكمالاً لحديثه مثالاً بحد السرقة فيقول :" إن السارق الذى تقطع يده لا يعود إلى السرقة ،ولم يسبق أن سمعت أو وجدت سارقاً قطعت يده قد عاد إلى السرقة بعد القطع أى قطع يده ،وعلى أى حال نجد عدد من تقطع أيديهم قليل جداً بل هو عدد لا يذكر .فقطع اليد تحد من قدرة اللص على تنفيذ مخططاته الإجرامية كالتسلق والكسر وحمل المسروقات وغير ذلك من الأعمال التى يكون لليد دور فيها ،إذا انعدمت اليد انعدمت هذه القدرة "(2)
فإلى جانب الزجر الذى يحدثه حد القطع قد كان من حكمة الشرع إعاقة الوسيلة التى استخدمها فى تنفيذ الجريمة فيما لو سولت له نفسه الشريرة مستقبلاً العود إليها ، فإذا عاد إليها عاد بصعوبة شديدة وسيكلفه العود إعاقة أخرى حتى لا يجد من الوسائل الذاتية مما يجعل له القدرة على العود إليها .
كما يستهدف التطبيق لأحكام العقوبات الشرعية من أهداف سامية وغايات نبيلة : إصلاح المجرم وتهذيبه ؛ذلك لأن العقوبة الشرعية لها جانبان ، حسى ،و معنوى
أما الحسى:
فإنه يتمثل فى الألم البدنى الموجع الناتج عن تلك العقوبة حسب درجته،فقد تكون آلاماً مؤقته وقد تكون ملازمة له أبد الدهر فيما إذا ارتكب جريمة تستوجب حداً من الحدود الشرعية التى تفرض بتر عضو من أعضائه .
الجانب المعنوى :
__________
(1) ،الشريعة الإسلامية وأثرها فى الظاهرة الإجرامية ص373نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص113
(2) الشريعة الإسلامية وأثرها فى الظاهرة الإجرامية ص154 نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص113(12/44)
هو الأقسى إيلاماً وما يسببه الإعلام والإعلان عن المجرم وجريمته وإنزال العقوبة به من نفور المجتمع منه،والنظر إليه بازدراء واحتقار .إن ارتكاب الجريمة من حيث هو وصمة تلازم صاحبها ،ملازمة الظل ،تظل فى ذاكرة المجتمع حتى يُقوِم المجرم من سلوكه ويبرهن من خلال تعامله استقامته ويقظة ضميره .
وقد أكد القرآن الكريم على الجانب المعنوى فى العقوبات تأكيده على وجوب التنفيذ فسماها مرة (خزياً) كما جاء فى عقوبة المحاربين والمفسدين :
يقول تعالى " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " المائدة (33) .
وفى آية حد السرقة سماها (نكالاً) :
يقول تعالى " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " المائدة (38) .
وبالنسبة لإرتكاب جريمة الزنا :
يقول تعالى " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" النور (2) .(1)
__________
(1) يراجع في هذا الموضوع المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص114وكذ دكتور أشرف شمس الدين الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى ص49 وما بعدها ط دار النهضة العربية(12/45)
إن تحسس المجرم لواقعة وتعرفه على مكانته في المجتمع ،كفيل أن يوقظ ضميره ،فيصلح ما فسد من أمره،ويثوب إليه رشده فيستقيم سلوكه،ويصحح سير حياته ،ويعود إلى صنوف التائبين المهتدين ليصبح عضواً نافعاً لنفسه وأهله ومجتمعه .
المطلب الرابع
التوازن بين ما للمجتمع والفرد في أحكام القضاء الشرعى وأثره في مكافحة العولمة الاجتماعية
لقد وضعت الشريعة الإسلامية لجرائم الحدود عقوبات مقررة ليس للقاضى أن ينقص منها،أو يزيد عليها ،أو يستبدلها بغيرها ،ومن ارتكب جريمة من تلك الجرائم فرضت عليه عقوبتها المقررة،دون أن يؤخذ بنظر رأى المجنى عليه، أو أن يلتفت إلى شخصية الجانى (مما لا اعتبار له في الشرع) وليس لولى الأمر أن يعفو عن الجريمةأو العقوبة بأى حال من الأحوال وهذا ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم حيث رفض شفاعة أسامة بن زيد في المرأة المخزومية قائلا له " أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب ثم قال : “انما اهلك من قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد وايم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها(1)” فدل ذلك على عدم الشفاعة في الحد أو التنازل عنه ،لاسيما إذا ما ظهر الفساد وعم البلاء.
ولا يختلف اثنان في تقدير الخطورة البالغة لكل واحدة من هذه الجرائم التى منها ما تؤدى إلى انتهاك الأعراض أو تسبب في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وتقلق مضاجع الآمنين أو تخل بنظام أمن المجتمع وتعطل مسيرته الأمنية الحضارية .
__________
(1) متفق عليه رياض الصالحين رقم651(12/46)
ويلحق بهذا القسم من الجرائم جرئم القتل بأقسامه العمد وشبه العمد والخطأ ،ولكن في حالة قتل العمد " حرمت العفو لولى الأمر،ولكن أباحته للمجنى عليه أو وليه،فإذا عفا المجنى عليه أو وليه في الجرم العمد سقط القصاص ،وحلت محله الدية ،وفى جرائم الخطأ يسقط العفو الدية ،ويترتب على ما تقدم جواز معاقبة الجانى بعقوبة تقديرية ،وعندما ينظر القاضى إلى شخص المجنى عليه وظروفه الخاصة .
ويظهر مما تقدم أن الشريعة تتجه في جرائم القصاص والدية إلى حماية الجماعة من الجريمة وأنها لا تعنى بشخصية الجانى إلا إذا عفى المجنى عليه أو وليه،وقد منحت الشريعة حق العفو للمجنى عليه أو وليه لأن الجريمة وإن كانت تمس كيان المجتمع إلا أنها تمس المجنى عليه أكثر مما تمس المجتمع ،فإذا عفى المجنى عليه أو وليه،لم يبق ما يدعو إلى إهمال شأن المجرم ،والتشدد في حماية المجتمع "(1) بخلاف جرائم الأعراض والفساد الاجتماعى فإنها ألصق بالمجتمع من القرد.ومن الجرائم ما راعت فيه الشريعة الإسلامية شخصية الجانى وآثار الجريمة ،وتركت للقاضى الحرية في اختيار العقوبة الملائمة ،كما تركت له حق تقدير العقوبة اللازمة كما في جرائم التعزير .
__________
(1) النظام الجنائى فى الإسلام ص8-10،ويراجع المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص117(12/47)
هذا التوازن الكامل بين ما يجب للمجتمع ،وما يجب للمجرم هو أحد الجوانب التى عجزت عنه عقول فقهاء القوانين الوضعية عبر القرون ؛وبدا التضارب بين آرائهم فيما يبتدعه كل واحد منهم من نظريات تميل نحو المجتمع وترجح جانبه،في حين تغفل جانب المجرم إلى حد الإهمال ،ويذهب الاجتهاد بالآخرين في ترجيح جانب المجرم وإعطائه الاعتبار الأكبر والأول على المجتمع ،وهكذا تتعارض الآراء دون التقاء،وما هذا إلا لأن استيعاب جوانب كافة الأطراف في الجريمة ومراعاة كل منها ،والجمع بينها دون حيف ليس في مقدور البشر وطاقتهم .وقد نبه إلى هذا الجانب الكثير من الفقهاء والدارسين في مقارناتهم الفقهية وأشاد به المفكرون المسلمون في دراساتهم،لتبرز هذه الميزة أحكام العقوبات في الشريعة الإسلامية وتطبيقها القضائى حيث عد ذلك من عوامل تفردها وتميزها ،يقول الأستاذ محمد قطب منبها على هذه الحقيقة :" أما الإسلام فله رأى في الجريمة والعقاب ينفرد به بين كل نظم الأرض ،يمسك فيه بميزان العدالة المطلقة- بقدر ما يتحقق في دنيا البشر- فلا يسرف في تقديس حقوق الجماعة ،ولا يسرف في تقديس حقوق الفرد ،ولا يميل مع واحد منهما على حساب الآخر ؛وذلك تبعاً لنظريته المتوازنة التى ينظر بها إلى الناس ،لامن واقعهم الأرضى المحدود ولا من زواياهم المتضاربة بل ينظر إليهم من أعلى ،من السماء ، فيراهم كلهم في لحظة واحدة بنظرة واحدة شاملة،تدرك مساربهم المتشعبة ،وهى كامنة في داخل نفوسهم ،أو هى أعمال صريحة من واقع الحياة ،فحينذاك لا يبدون فرداً وجماعة منفصلين ،متقابلين ،بل يبدون وشائج متصلة وعلاقات متداخلة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ويبدو الكون لا خيراً خالصاً ولا شراً خالصاً وإنما نسيج من هذا وذاك ،ينبع الخير من الشر كما ينبع الشر من الخير ويد النساج الماهر تأخذ من هذا الخيط ومن ذاك ،فتكون منهما نسيج البشرية !(12/48)
وعن هذه النظرية العميقة الشاملة المتوازنة يصدر الإسلام في كل تشريعاته وتوجيهاته في العبادات،والمعاملات،في الاجتماعيات،والاقتصاديات ، وفى تقدير الجريمة والعقاب"(1)
وينبغى أن نعلم أن التشريع الإسلامى في مكافحة المضار والمفاسد النجامعة عن العولمة بأطروحاتها الاجتماعية لايقف عند جانب الحد أو التعزيربل إن المنهج الإسلامى في تصوره النظرى وواقعه العملى لمكافحة الجريمة يعتمد على منع الجريمة قبل وقوعها ،وذلك بالعمل جاهداً على إيجاد المناعة الذاتية ،والحصانة الدينية للأفراد في مراحل النمو المبكر ،حيث يغرس في نفس المسلم حب الفضيلة ويشجع عليها ويثيب فاعلها ثواباً دنيوياً وجزاءً أخروياً .ويبغض إليهم الأعمال القبيحة أيا كان حجمها صغرت أو عظمت ، وسواء ارتكبت سراً أو علانية ،ضد فرد أو جماعة ،ضبط فاعلها أو لم يضبط ،إذ لا مفر من الرقابة الإلهية ،يقول المولى عز وجل " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "
المجادلة (7) . وقد غرس بهذا في يقين أفراده حتمية الجزاء الذى إن نجا منه في الدنيا فلا نجاة في الدار الأخرة ،وعقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة .هذه العقوبة الراسخة في نفس المسلم ،الثابته في حقائق التنزل تجعله يحجم كل الإحجام عن الإقدام على ارتكاب المفاسد والمنكرات .
__________
(1) أ محمد قطب الإنسان بين المادة والحياة ص 77 ط دار إحياء الكتب العربية(12/49)
وإتماماً لهذه المرحلة في المنهج الإسلامى في مكافحة الإشكاليات الاجتماعية للعولمة واستكمالاً لهذا الأسلوب الوقائى فإنه" يمنع الأسباب التى تقود إلى إلى الخلل والفساد،والذرائع الموصلة لها ،يعتمد في البداية على الأسرة الصالحة فهى المعقل الأول ،واللبنة الأساسية في تكوين الفرد المسلم أخلاقياً وسلوكياً فتجنبه وسائل الشر وتحوطه بالرعاية الموجهة إسلامياً ،أما خارج نطاق الأسرة حيث الحياة الاجتماعية الواسعة فقد حظرت أن تشيع في المجتمع وبين الناس وسائل الإغراء المحرمة التى تقود إلى الغواية والانحراف ،وفى نفس الوقت جعلت الاهتمام بأمور الشباب وما يساعدهم على الاستقامة والحياة الفاضلة واجب المجتمع المتمثل في أهل الحل والعقد منهم ،وكل ذى سلطة يستطيع أن يسهم في هذا الاتجاه ،حرم السطو على أموال الآخرين بأى وسيلة من الوسائل ولأى سبب من الأسباب ،فأوجب في المقابل سد حاجة المحتاجين ،وجعل إيجاد فرص العمل لكافة أفراد المجتمع فضلاً عن شبابه – الذى يستقبل الحياة ويتطلع إلى لقمة العيش بطريق شرعى شريف- مسؤلية الأمة،بل المسئولية الأولى لولاة الأمر فيها؛ ليجنبوا الأمة ما يترتب على تعطيل طاقاتهم من أخطار وشرور تحيطهم وتحيط بهم .اتخذ من المجتمع من قمته : حكامه وولاة الأمر فيه – إلى قاعدته من الأفراد – جنوداً تتحد مسئولياتهم في مكافحة كل فساد أو خلل ينشأ في المجتمع ،وكل وسيلة تؤدى إليه"(1)، بل نراه وقد سن تشريعات وقائية من شأنها أن تجنب المجتمع وأفراده ويلات الفساد والانحراف، ومن ثم كان تحريم النظر إلى الأجنبية، وكانت أحكام الخلوة ، وضوابط الملبس ...وغير ذلك مما شرعه الإسلام كتدبير وقائى يعصم من الوصول إلى الرزيلة أو الانغماس فيها ،ثم ياتى بعد ذلك دور العقوبة ملاذماً أخيراً لإصلاح من لم تفد الوسائل السابقة في إصلاحه :
__________
(1) 2يراجع المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص117(12/50)
" فأول هذه الخطوط والأساليب التربية الدينية من خلال طرق صحيحة ،ثم يأتى بعد ذلك استخدام أسلوب الثواب والعقاب الدنيوى،وإعلام الناس بالثواب والعقاب الأخروى ،ثم تنفيذ العقوبات فعلاً إذ لم تجد هذه الخطوط الدفاعية الأولى ،ولولا العقاب لكانت الأوامر والنواهى لا معنى لها أو مجرد عبارات لادلالة واقعية لها ،فالثواب والعقاب هو الذى يجعل للأوامر والنواهى معنى واضحاً ونتائج محددة ...."(1)، وإذ بدا أن هذا المنهج بمبادئه ومراحله يؤدى إلى إصلاح المجرم ،وتقويم سلوكه والحيلولة بينه وبين العود إلى الجريمة ،الأمر الذى ينتهى به إلى أن يكون عضواً ينفع نفسه وينفع مجتمعه ،فإن لتطبيق هذا المنهج كاملاً وبصورة صحيحة سليمة آثاره الشاملة على الحياة الاجتماعية تجلت واقعاً في العناصر التالية :
الحد من الجريمة وحصرها في نطاق ضيق .
انخفاض عدد السجناء .
صيانة المبادىء والقيم .
المحافظة على الثروة البشرية، والمكتسبات الحضارية .
هذه بعض الآثار والنتائج العامة التى تتحقق نتيجة التطبيق الواعى للمنهج الإسلامى في مكافحة الجيمة بصورة عامة والإشكاليات الاجتماعية للعولمة بصورة خاصة.
المطلب الخامس
تطبيق القضاء الشرعى في المملكة العربية السعودية وأثره في مكافحة الجوانب السلبية للعولة الاجتماعية
__________
(1) الدراسات العلمية للسلوك الإجرامى ص23(12/51)
لقد سبق وقررنا أن استئصال الجريمة في المجتمع الإنسانى أمر مستحيل بحكم التكوين الإلهى للإنسان ،والغرائز المتنوعة المركبة فيه،وبرغم هذا فإن تطبيق المنهج الإسلامى في مكافحة الخلل الاجتماعى المعولم له أثره الملموس في تقليل الجرائم الاجتماعية ،وتضييق الخناق عليها ،ومحاصرة مرتكبيها،بوسائل كثيرة وفعالة ،" فالمصلحة العامة لا تقتصر على أن لا ترتكب الجرائم ،ولكن أيضاً أن تكون الجرائم أقل شيوعاً بالقياس مع الضرر الذى تحدثه للمجتمع .."(1)
__________
(1) بكاريا ،تشيزارى،الجرائم والعقوبة ص91 نقلا عن المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمةص117(12/52)
والمملكة العربية السعودية التى تقوم بتطبيق الشريعة الإسلامية والقضاء الشرعى المستمد منها ،يمكن أن تكون نموذجاً للتطبيق السليم الذى يستشهد به في بيان ما يحدثه القضاء الشرعى من أثر فعال فىمكافحة الظواهر السلبية التى تحدثها العولمة الاجتماعية ،حيث أتى هذا التطبيق للقضاء الشرعى فيها في ظروف اجتماعية معقدة في العقدين الأخيرين في نهاية القرن الهجرى الماضى (الرابع عشر) وبداية الذى يليه،حيث أفاء الله عليها ثروة هائلة من صادراتها النفطية،وظفتها في بناء الدولة،والنهوض بمختلف مؤسساتها،واستعانت لإنجاز ذلك بالخبرات العالمية ،فاستقطبت رجال المال والأعمال ، وعاشت هجمة من الفنيين والعمال الوافدين من كل طرف وزاوية من العالم،من أجناس مختلفة وثقافات متباينة ،وديانات متعددة ،ومجتمعات ذات عادات وتقاليد متفاوته،صبت جموعها في المدن والقرى والهجر في الوهاد والنجاد والسهول والجبال ،حلوا بكل جزء فيها ،بواديها وحواضرها،وبلغت جنسياتهم كما جاء في تصريح مدير عام مكافحة المخدرات بالمملكة العربية السعودية 106 جنسية،ففى تصريح له في جريدة البلاد بالعدد 7649 الصادر يوم السبت 18 شعبان 1404 ههجرياً الموافق 19 مايو 1984 م ،إجابة على مدى تأثير العمالة الوافدة في تفاقم مشكلة ظهور المخدرات قال " في الواقع عندى إحصاء يقول :إنه موجود في المملكة (مائة وست جنسيات) هذه الجنسيات المختلفة، متباينة في اللغات والمذاهب والأديان ،وأمام هذه الفئات الوافدة لا يمكن أن نجزم بأن : كل هؤلاء الوافدين مستقيمين ،أو كل الوافدين منحرفين لا –بل منهم- من جاء بأنماط سلوكية مغايرة لديننا وتقاليدنا،ولأخلاق إسلامنا " ولكن برغم كل ما جلبته هذه الأعداد الكبيرة من أنماط سلوكية وأخلاقيةمختلفة،فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية ،ومحاولة التمسك بسلوكياتها ،وأخلاقها ،والحزم في تطبيقها من قبل الدولة كان الوقاية من تكاثر الجرائم(12/53)
واستفحالها في مثل هذه الظروف التى عاشتها البلاد ثراء في المال ،وكثرة من الجنسيات المتباينة ." (1)
وكان لتطبيق الشريعة الإسلامية في هذه الظروف الفريدة التخفيف إلى الحد الأدنى الذى لا يمكن تفاديه من تأثر المواطنين بعادات الأجانب غير المسلمين وسلوكياتهم الغريبة ، التى جاءت معهم, ليس هذا فحسب بل إن إدراك أولئك الأجانب وعلمهم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام القضاء الشرعى لا شك له دور كبير في تقليل ممارساتهم التى لا تتفق والمبادىء الإسلامية ودليل ذلك وجودالإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية للسنوات الماضية التى تقدم للباحثين صورة من الواقع عن انخفاض أو ارتفاع ارتكاب الجرائم ونسبتها في تلك الفترة (2).
مقارنة نسبة الجرائم بين مجموعة من الدول العربية من 1980إلى1983م في ظل تطبيق أحكام القضاء الشرعى
إنه مهما قيل عن انخفاض نسبة الجريمة ومحاصرتها أو قلة نسبة عدد المساجين في المملكة العربية السعودية فستظل هذه هى الحقيقة التى لا غبار عليها إذا ما قورنت بالبلاد العربية والإسلامية التى لا تتخذ من القضاء الشرعى المستمد من هدى السماء قانوناً تحتكم إليه في مشاكلها ،وتقويم مجتمعاتها ،بالرغم من قلة عدد السكان في بعضها مع توافق الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
__________
(1) المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمة124
(2) المرجع السابق ص124 ويراجع اد محمد رأفت عثمان المنع النصى والمنع العقابى ص210 ضمن اعمال مؤتمر الوقاية من الجريمةجامعة الإمارات(12/54)
وسنعرض- بمشيئة الله تعالى- فيما يلى للنشرة الإحصائية العربية للجرائم المسجلةو الصادرة عن الأمانة العامة للمكتب العربى لمكافحة الجريمة ببغداد التابع لمجلس وزراء الداخلية العرب ،والذى يكشف بالأرقام مدى تدنى نسبة الجرائم بالمملكة العربية السعودية عن سائر البلاد العربية وذلك في الفترة الزمنية من عام 1980إلى 1983م .فى ظل وجود القضاء الشرعى وأحكامه:
الجدول الأول
ويمثل هذا الجدول الجرائم المسجلة سنوياً والفاعلون المعلومون المسجلة في الأقطار العربية
بالنسبة إلى (100)ألف نسمة من سكانها
المخلة بالآداب العامة والأعراض
…الجرائم المسجلة…الفاعلون المعلومون
الأقطار ... 1980 1981- 1982 1983
ا ... 1980 1981 - 1982 1983
تونس ... 34.80 ... 35،7 ... 20،88 ... 22،4 ... 56.80 ... 55،87 ... 60،69 ... 62،77
السودان ... 18.80 ... 19.46 ... 12.67 ... 11.89 ... - ... - ... - ... -
الأردن ... 19.10 ... 17.16 ... 21.75 ... 25.15 ... 25.10 ... 18.50 ... - ... 31.31
لبنان ... 5.80 ... 5.33 ... 4.80 ... 8.93 ... 12.30 ... 8.27 ... 1.33 ... 13.47
سورية ... 4.50 ... - ... 7.11 ... - ... 8.20 ... - ... 12.17 ... -
العراق ... 9.70 ... - ... - ... - ... 14.60 ... - ... - ... -
الكويت ... 21.00 ... 51.90 ... - ... 39.12 ... 37.10 ... 64.25 ... - ... 46.98
البحرين ... - ... 78.41 ... 146.25 ... - ... - ... 84.14 ... - ... -
قطر ... 31.80 ... - ... 27.63 ... 48.73 ... 78.6 ... - ... 65.45 ... 120.72
السعودية ... 9.70 ... 11.96 ... 15.78 ... 13.42 ... 15.60 ... 19.16 ... 84.81 ... 22.13
اليمن العربي ... - ... 2.29 ... 2.03 ... 4.64 ... - ... - ... - ... -
الجدول الثانى
…ويمثل هذا الجدول الجرائم المسجلة سنوياً والفاعلون المعلومون المسجلة في الأقطار العربية
بالنسبة إلى (100)ألف نسمة من سكانها(12/55)
المرتكبة ضد حرية الأشخاص وسمعتهم
الأقطار
الجرائم المسجلة
الفاعلون المعلومون
1980
1981
1982
1983
1980
1981
1982
1983
تونس
0.90
-
-
-
1.30
-
-
-
السودان
300.10
19.46
143.76
155.74
-
-
-
-
الأردن
11.80
21.85
26.96
19.85
26.80
21.85
-
18.65
لبنان
21.70
10.97
17.96
32.57
20.30
8.10
1.73
22.47
سورية
9.30
-
9.06
-
11.50
-
13.95
-
العراق
56.30
-
-
-
57.40
-
-
-
الكويت
17.00
17.90
-
29.04
25.80
13.37
-
28.23
البحرين
-
239.65
355.95
-
-
20.70
-
-
قطر
20.50
-
17.09
15.27
49.50
-
34.54
30.18
السعودية
4.40
5.46
10.23
6.58
4.20
5.14
10.75
7.83
الجدول الثالث
إجمالى عدد المسجونين من سعوديين وغير سعوديين
خلال عام 1408 هجري موزعين حسب أسباب السجن والنسبة
ويدل هذه بإحصاءاته على انخفاض عدد السجناء لإدراك أن اى فرد يرتكب جريمة هانت أو عظمت ستلاحقه يد العدالة ،ويطبق بحقه الحكم الشرعى .(1)
أسباب السجن
سجناء سعوديين
سجناء غير سعوديين
المجموع
عدد
%
عدد
%
عدد
%
سرقات
865
9.0
1088
11.1
1953
10.1
قتل
466
4.8
242
2.5
708
3.6
حوادث سيارات
163
1.7
254
2.6
417
2.2
مخدرات
3811
39.6
3514
35.7
7325
37.7
مسكرات
1491
15.5
1006
10.2
2497
12.8
أخلاقيات
1240
12.9
1060
10.8
230
11.8
جوازات
32
0.3
534
5.4
566
2.9
جرائم أخرى
1541
16.2
2135
21.7
3676
18.9
المجموع
9609
100%
9833
100%
19442
100%
__________
(1) تراجع هذه الإحصاءات فى المنهج الإسلامى فى مكافحة الجريمة124وما بعدها(12/56)
وتعطى هذه إحصاءات دلالات واقعية بأن تطبيق القضائى لحكام الشريعة الإسلامية من شأنه أن يحد من أخطار العولمة الاجتماعية، وما تحمله من إشكالات تمثل تهديدا وخطرا على المجتمع، و تعمل على إهدار قيمه وأخلاقه . وبهذا تثبت الشريعة الإسلامية والقائمين على تطبيقاها من رجال القضاء الشرعى أنها السلاح الفعال الذى في ظله يمكن الحد من أطروحات العولمة بما تحمله من أخطار ومفاسد في مختلف توجهاتها.ومن الجدير بالذكر فى هذا المقام أن" دولة جنوب إفريقيا" فى ديسمبر الماضى قد انساقت وراء الدعوات الغربية المعولمة فاعترفت بزواج المثل وما يستتبعه من حقوق نص عليها فى المواثيق الغربية. بيد أن دولة مجاورة لها كنيجريا رأت فى ذلك تهديدا لمنظوتها الأخلاقية فقرر المجلس التنفيذى الفيدرالى فيها تجريم هذه العلاقة والمعقابة عليها بالرجم حيث أن الشريعة الإسلامية مطبقة فى خمس من ولاياتها .بل وأكثر من ذلك قررت عقاب كل من يشارك فى هذا النمط الفاسد من العلاقات الاجتماعية بالحضور ، أو الشهادة ،أو القيام بمراسم هذه العلاقة بالحبس خمس سنوات(1) ومن ثم رأت نيجريا فى تشريعات الإسلام وأحكام قضائه الشرعى- النصية والتعزيرية- سفينة تلتمس فيها نجاتها من هذه الإشكالية التى تعمل العولمة وقواها المنظرة لها على ترسيخها فى المجتمعات البشرية. وننوه فى النهاية أن الشريعة الإسلامية وإن كانت مطبقة بصورة جزئية فى كثير من البلاد الإسلاميه إلا أنها حدت من خلال تعاليمها التربوية ، وتوجيهاتها الأخلاقية وأحكامها العقابية من انجراف المجتمعات الإسلامية فى طوفان الفساد الاجتماعى للعولمة. مقارنة بالدول الأوربية التى اتخذت من هذا الانحلال سنة ومنهاجا لها تحت مسمى الحرية والمساواة...الخ. ودليل ذلك أن" الإحصاءات الرسمية فى فرنسا تشير إلى أن هناك نحو مائة وثلاثين ألف بغى تمارس البغاء فى فرنسا، ويلاحظ أن هذا الرقم
__________
(1) يراجع فى هذا www.almaher-iraq.com(12/57)
لا يخضع فيه الفتيات اللاتى تمارسن صلات جنسية لا يصدق عليها وصف البغاء كأن تأتى هذه الصلات مع عشيق لها ، كما لا يخضع فيها من تمارس البغاء خفية وهو ما يعرف بالدعارة السرية. وتشير الإحصاءات فى بريطانيا إلى أن هناك ما يقرب من خمسين ألف بغى يضاف إليهن من يحترفن البغاء لبعض الوقت" (1) ، وتشير إحصائية أخرى إلى أن " عدد الأطفال غير الشرعيين فيما كان يعرف باسم الاتحاد السوفيتى سابقا فى عام 1988 نصف مليون طفل، ويشير التقرير الذى أعده العالم الفريد كنزى وآخرون عن السلوك الجنسى لدى الرجل والمرأة فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن واحدة من كل عشر سيدات تحمل قبل الزواج ، وأن حالات الحمل هذه ما لم تؤد إلى الزواج السريع ، فإنها تنتهى بالإجهاض الصناعى نسبة 89( أو على الولادة غير الشرعية بنسب 6( وإلى الإجهاض الطبيعى بنسبة 5( . وأشار التقرير السنوى البريطانى عن عام 1962إلى أن عدد الأطفال الذين يولدون من أمهات غير متزوجات قد تضاعف خلال عشر سنوات فى لندن، وأن من بين كل ثمانية مواليد هناك طفل غير شرعى"(2) ومما ينبغى ملاحظته قدم بعض هذه النسب المذكوره فى التقرير السابق قبل الإغراق فى طوفان العولة بمختلف أنماطها فماذا يكون الحال الآن فى تلك البلدان؟!. مما يؤكد معه مدى فاعلية الشريعة الإسلامية -بمختلف وسائلها التربوية- ونظام القضاء فيها، فى الحد من إشكاليات ومفاسد العولمة الاجتماعية، فى واقع الأمر وحقيقة الحياة ولا أدل على ذلك من أن ما يعمل القضاء الشرعى ، على تحقيقه فى الجانب الاجتماعى من حفاظ على القيم والمبادئ ، وحفاظ على منظومة الأسرة من الذوبان فى كينونة العولمة نادى به الغربيون أيضا حينما أسلموا
__________
(1) الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى ص62
(2) صحيفة الأخبار القاهرية فى 26/8م1988، وكذا فضيلة الشيخ عطية صقر الأسرة تحت رعاية الإسلام ج2 ص 271،272ط دار الفكر(12/58)
–يوما- زمامهم لعقولهم وفكرهم ، واستمعوا إلى صوت الفطرة فيهم، قبل ان يصنعوا العولمة بدافع من نهمهم وشهواتهم ففى عام 1959 أى قبل ظهور العولمة " اجتمع ممثلوا الأمم المتحدة وغيرهم من ممثلى الدول الغربية فى مدينة كوبنهاجن فى الفترة من 23 سبتمبر إلى 16 أكتوبر ودعوا إلى توجيه النصح بالتمسك بالرابطة العائلية ، والسلطة الأبوية ،التى لم تزل سائدة فى بلاد الشرق . وقد أكدوا على ضرورة الاحتفاظ بقدر كاف من القيود بين الجنسين حتى لا تنتهى الحرية المتطرفة بينهما إلى الانحلال والتدهور "(1) وهذا ما تعانى منه الدول الغربية اليوم من جراء فكرها الشاذ والمنحرف- حيث " تضمن تقرير كتب الصحة الألمانى عام 1985 تحذير المجتمع الألمانى من أنه ما لم تتوقف الممارسات الجنسية غير المشروعة فإن المجتمع الألمانى سيحيق به الدمار مثلما حدث لأهل قرية سودوم التى انتشرت فيها اللواط
وقد سجلت الدراسات الحديثة فى ألمانيا اتجاها متزايدا إلى التحرر الاجتماعى من الشذوذ الجنسى وهو ما كان أثراً لمرض الإيدز الذى أعاد للأذهان ثانية ما كانت تدعو إليه الأخلاق والتى كانت تسيطر على التشريعات فيما مضى ،من محاربة لهذه الأفعال والعمل على الحد منها
وقد دعا البعض فى امريكا للقول إن اقتران فكرة العدوى بفكرة الشذوذ الجنسى يقدم إمكانية ظهور اتجاه حضارى جديد يناهض سلوك اللواط ويجعل منه كبشا لفداء شبح العدوى ،وإن هذا الاتجاه قد ظهر فى معظم المجلات الأخلاقية فى الولايات المتحدة والتى نشرت صوراً لأسر أمريكية ودون أسفلها " اللوطيين يسممون أطفالنا "(2)
__________
(1) دكتور محمد نيازى حتاته ، مشكلة البغاء فى الواقع وفى نظر القانون ، مجلة الأمن العام إبريل 1963 عدد 3 ص 68
(2) Vass Brit.Journal of Criminology, Vol.27,1987,P.220 نقلا عن الحماية الجنائية للحق فى صيانة العرض فى الشريعة الإسلامية والقانون الوضعى ص77(12/59)
وهذا يجعلنا نزداد يقينا فى أن ما تدعونا إليه شريعتنا ، ومايحافظ عليه واقع نظام القضاء فيها ،من تمسك بالفضيلة وترسيخها فى الحياة الاجتماعية أمر مستكن فى الفطر فإذا ما صفت يوما ستسمعها فطرها أعذب لحن يمكن عزفه عن الفضيلة .شدوه التغنى بالمبادئ والقيم لتكون عنونا لواقع الحياة ودنيا الناس.ولنكن على حذر ممن اكتوا بنار الرزيلة فأبت عليهم خبث نفوسهم إلا أن يحرقوا غيرهم بها.(12/60)
بسم الله الرحمن الرحيم
التأثيرات القضائية والواقعية
لتعديلات قانون الأحوال الشخصية السوري
أنموذج: تعدد الزوجات، الحضانة، المهر، الطلاق
بحث مقدم لندوة:
"القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال"
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الشارقة
11-13 نيسان/أبريل 2006
إعداد:
الدكتور محمود محمد ناصر بركات
كلية الشريعة – جامعة دمشق
التأثيرات القضائية والواقعية
لتعديلات قانون الأحوال الشخصية السوري
أنموذج: تعدد الزوجات، الحضانة، المهر، الطلاق
"فكرة البحث"
في عام 1953م صدر قانون الأحوال الشخصية، المعمول به حالياً في سورية، والذي ألغي بموجبه العمل بقانون حقوق العائلة العثماني الصادر عام 1917م، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لقانون الأحوال الشخصية السوري الصادر عام 1953م أنه اعتمد على مصادر متعددة، ثم جاء في المادة ( 305 ) أن ما لم يرد فيه نص يرجع فيه إلى القول الأرجح في مذهب الحنفية.
وفي 31 /12 /1975م صدر القانون 34 معدِّلاً لقانون الأحوال الشخصية السوري، وقد شمل التعديل ثمان وعشرين مادة، ما بين تعديل، وإضافة، ودمج، واستعاضة، وطال العديد من المسائل ذات تأثير واضح ومباشر في حياة الناس وأسرهم.
وقانون الأحوال الشخصية السوري هو البقية الباقية من القضاء الشرعي في بلادنا، وقد تم تعديل بعض مواده عام 1975م لأسباب توجب هذا التعديل في نظر المشرع، فهل حقق هذا التعديل ما جاء من أجله؟ وهل اقترب بذلك أكثر من تحقيق الأهداف التي سعى القانون الأصل من أجلها، ووردت في مذكرته الإيضاحية؟
وتعديل عام 1975 هو الأكبر على القانون النافذ,إذ تم تعديل مادة واحدة عام2000 ومادة أخرى عام 2003.
في هذا البحث نحاول التركيز على الموضوعات ذات الأهمية التي تناولتها التعديلات المذكورة عام 1975م، ( وهي: تعدد الزوجات، والحضانة، والمهر، والطلاق )، والنظر في الآثار التي ترتبت عليها في المجتمع والواقع القضائي.
شكر:(13/1)
أتقدم بالشكر الجزيل للأساتذة الأفاضل من القضاة الشرعيين وغيرهم الذين قدموا من خبرتهم وعلمهم ماساعد على اظهار البحث بهذا الشكل, وفي مقدمتهم الأستاذ سعدي أبو جيب: المستشار السابق في الغرفة الشرعية في محكمة النقض,والأستاذ كمال المسكي:القاضي الشرعي الثاني بدمشق.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:
فإن قانون الأحوال الشخصية المعمول به في سورية حالياً هو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم ( 59 ) تاريخ17/9/1953,وقد تم تعديل بعض مواده بالقانون رقم ( 34) بتاريخ 31/12/1975, لكن أهم المسائل التي تستدعي التوقف عندها من المواد المعدلة_بحسب رأي بعض القضاة الشرعيين_هي أربعة: تعدد الزوجات,المهر,الطلاق,الحضانة.
وسأقسم بحثي تبعا لذلك إلى أربعة أقسام متتالية حسب النماذج المدروسة.
القسم الأول: ( تعدد الزوجات )
المادة المتعلقة بتعدد الزوجات هي المادة 17 ونصها بعد التعديل:
(( للقاضي أن لا يأذن للمتزوج بأن يتزوج على امرأته إلا إذا كان لديه مسوغ شرعي وكان الزوج قادراً على نفقتهما )).
وملخص الملاحظات على هذا التعديل هو:
1-إن هذه المادة لم تؤد الغرض الذي وضعت من أجله ,وذلك لأن معظم المتزوجين من ثانية يلجؤون إلى معاملة تثبيت الزواج على الرغم من مصاريفها.
2-لا يرفض القضاة في الواقع العملي أي عقد للزواج من زوجة ثانية بسبب انتفاء المسوغ,مع ملاحظة أن معاملة الزواج المعتمدة في القضاء الشرعي السوري خالية من حقل يتطلب إبداء المسوغات للزواج من ثانية,فهو نص مهمل في النتيجة,والقضاة يتساهلون في تطبيق هذه المادة بأمرين:
أ )-لا يبحث القاضي عن المسوغ الشرعي عملياً لأنه يحتاج لإثبات ,ولا يُطالِب به القاضي مَن يرغب بالزواج الثاني.(13/2)
ب)-يعتمد القاضي على تصريح خطي من طالب الزواج من ثانية مؤيد بشاهدين على مقدرته المالية ومرتبه,وبالتالي فالقيدان ( المسوغ الشرعي, والقدرة على النفقة ) ليس لهما أثر في التطبيق العملي للقضاء الشرعي في سورية.
*- وتفصيل ما سبق هو الآتي:
-ذكرت المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون الصادر عام1953 أن القانون اشترط للزواج الثاني القدرة على الإنفاق على الزوجات جميعاً,سداً للذرائع من الأيلولة للتفريق بين الزوجين لعدم الإنفاق(1),وهو ما أخذ به نفس المشروع,وذلك مع بقاء الحكم على حاله من جهة صحة هذين الزواجين إذا وقعا, حفظاً للنتائج في الأنساب وغيرها.
-وقد كررَت الأسبابُ الموجبة لتعديل قانون الأحوال الشخصية عام1975ماتقدم ذكره في المذكرة الإيضاحية السابقة, وأضافت أن اشتراط القدرة على النفقة لم يكن كافياً لمعالجة مشكلة تعدد الزوجات – وهي مشكلة اجتماعية خطيرة كما تقول-لذلك أجاز مشروع القانون المعدل للقاضي أن لا يأذن بالزواج الثاني إذا لم يكن لطالب الزواج الثاني مسوغ شرعي أيضاً.
-على أنه جاء في أول الأسباب الموجبة لتعديل القانون عام 1975 ما نصه: " انطلاقا من أن الأسرة هي طليعة المجتمع الأساسية تكفلت الدولة بحمايتها بنص الدستور وأخذت على عاتقها حماية الزواج وتشجيعه وإزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه...".
- والملاحظ هنا: أن زيادة دور الدولة لحماية الأسرة وتشجيع الزواج وإزالة العقبات تجلت بزيادة شرط إضافي على التعدد, وعدّ الزواج-الثاني-مشكلة اجتماعية خطيرة! وقد يكون مرادهم تشجيع الزواج الأول فحسب!.
__________
(1) يذكر الأستاذ المستشار سعدي أبو جيب أن التفريق لعدم الإنفاق لاوجود له في التطبيق العملي, إذ لم ينته إلى علمه خلال عمله في القضاء الشرعي لسنوات طويلة التقدم بأي دعوى للتفريق لعدم الإنفاق.ا.ه فالتعليل المذكور هنا لا رصيد له من الواقع العملي.(13/3)
وقد تحمس لهذا الموقف بعض الأساتذة فقال:وقد جاء التعديل يلزم به-أي المسوغ-عند إعطاء الإذن,وصدور هذه المادة-17 شخصية معدلة-يفيد الجواز ويترك الأمر للقاضي...وترك الأمر للقاضي فيه كثير من الحكمة , ولاشك بأن قضاتنا سوف يتشددون في منح الإذن لمن لا يتوافر لديه المسوغ المقبول شرعاً,والشرع ينظر إلى مصلحة الطرفين والأسرة والمجتمع فيصونها جميعاً(1).
- وللمرء أن يتساءل:هل من طرق حل مشكلة تعدد الزوجات في المجتمع أن نسعى لمنعها أو التقليل من حصولها ابتداء؟أم أن نسعى إلى إزالة اساءة المسيء في استغلاله لحق التعدد؟
وماذا لو أن الراغب في الزواج الثاني ادعى وجود مسوغ شرعي فصدقه القاضي وأجاز له التعدد ثم تبين كذب الزوج في ادعائه, فهل يفسخ القاضي هذا الزواج؟ في حين أنه لو أقدم عليه من غير ما مسوغ ثم رفع أمره للقاضي لتثبيته على وفق ما هو منصوص عليه قانوناً فإن القاضي لن يمتنع عن ذلك!
- وليس المقام هنا لبسط النقاش حول حكم تعدد الزوجات من الناحية الشرعية وأثر ذلك في المجتمع , إلا أن التذكير واجب بأن الشريعة حين شددت العقوبة على الزنا-وبخاصة للمتزوج- سعت لتيسير البديل عن طريق تسهيل الزواج الثاني أو الثالث...,على أن السعي من جهة القانون للحدّ من التعدد إنما يستقيم إذا كان هذا الفعل فيه مخالفة للنظام العام والآداب,ولا مخالفة في التعدد طالما أنه يتم بعقد شرعي تكتمل فيه شروط وأحكام الشريعة الإسلامية بلا تقصير(2).
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية مع شرح قانوني وإنساني كامل, نجاة قصاب حسن, ص 68.
(2) تعدد الزوجات بين الشريعة الإسلامية والقانون,عبد الرحيم صدقي, ص80,79 وما بعدها.(13/4)
- ولا يقبل منّا أن نسعى نحو التقييد من التعدد بدعوى عدم تحقق العدل المطلوب في آية التعدد,فقد أوضح الشيخ "محمود شلتوت" رحمه الله تعالى أن آية التعدد موجهة إلى الأفراد وليس إلى الحاكم ( رئيس الدولة ) في شأنٍ لا يمكن معرفته إلا من جهة الأفراد أنفسهم يرجعون فيه إلى نفوسهم ويتحاكمون فيه إلى نياتهم وعزائمهم,وليس له من الأمارات الصادقة المطردة أو الغالبة ما يجعل معرفته وتقديره داخلين تحت سلطان الحاكم حتى يُرتب على تلك الأمارات تشريع المنع أو الإباحة أو التقييد.وإذن فالشخص وحده هو المرجع في تقدير خوفه من عدم العدل وهو المطلوب فيما بينه وبين الله تعالى , ولاسبيل ليد القانون عليه ,والحال في ذلك كالحال في سائر التكاليف التي تحاكم الشريعة فيها المؤمن إلى نفسه, كالتيمم أو الإفطار في رمضان إذا خاف المرض أو زيادته بالصوم.على أنه يمكن للقاضي أن يتدخل فيحكم بتعويض إذا ترتب بعد قيام التعدد أضرار بسبب التعسف في استعمال هذا الحق(1)
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ,محمود شلتوت,197إلى217حيث تناول المسألة باستيفاء وتحقيق مفيد, ويذكر الشيخ شلتوت أن للمرأة أن تطلب التطليق للضرر,ص204 ,وتعدد الزوجات,عبد الرحيم صدقي,84,83 ثم استعرض آراء عدد من العلماء المتأخرين ممن عايشوا فترات زمنية متعاقبة أو متماثلة واجتمعت آراؤهم على عدم تجريم أو منع أو تقييد تعدد الزوجات من جهة القضاء, ومن هؤلاء العلماء:محمد أبو زهرة, محمد سلام مدكور,عبد الله دراز,والأستاذ عباس العقاد,عبد الباسط حسن, المرجع المذكور83 إلى 86, الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان,للشيخ الأكبر محمد الخضر حسين ص192 وما بعدها, وجدير بالذكر أن مجمع البحوث الإسلامية في مصر في مؤتمره الثاني ( 1385=1965 ) أصدر توصية هامة بشأن التعدد أكد فيها على أن ممارسة حق التعدد متروك إلى تقدير الأزواج ولا يحتاج في ذلك إلى إذن القاضي ,انظر:تعدد الزوجات من النواحي الدينية= ==والاجتماعية والقانونية,عبد الناصر العطار,339 وانظر أيضا 333 وما بعدها, وهذه التوصية جاءت للرد على محاولة تقييد التعدد في مصر عام1962, وانظر:شرح قانون الأحوال الشخصية السوري, عبد الرحمن الصابوني,1/151-152.(13/5)
. والقضاء إنما يبنى على الظاهر لا على النيات والأمور الخفية.
- ومعلوم أن التشابه بين القوانين المصرية والسورية كبير ومتعدد الأوجه,كما أن المجتمعين متشابهان في أمور عديدة فآثار القوانين فيهما متقاربة,لذلك يبدو أن الدعوة للسعي نحو تقييد تعدد الزوجات إنما جاءتنا بعد هبوب رياحها على مصر مرات عدة كان أولها عام 1926 لكنها لم تنجح إلا في عام 1979,أما في سورية فقد كان أول تعديل تضمن قيداً قانونياً على التعدد ( وهو القدرة على النفقة )(1) هو ماورد في قانون 1953 الذي حل محل حقوق العائلة العثماني الصادر 25/10/1917 ثم كان تعديل عام1975 وأضيف قيد آخر وهو ( وجود مسوغ شرعي ) ولا تزال الدعوات متلاحقة في مجتمعنا السوري لمنع أو تقييد تعدد الزوجات!
*وخلاصة الرأي فيما تقدم:
1- تعدد الزوجات مسألة دينية في المقام الأول, وبالتالي فإن أي محاولة أو سعي لتقييده أو منعه ستثير الرأي العام والديني في بلادنا, فالأولى تجنب ذلك, إذ التعدد ليس بخطيئة دينية ولاجريمة جنائية.
2-إن من حق المرأة –سواء أكانت زوجة أولى أم ثانية- أن تطلب التفريق أو التعويض إذا شعرت بوقوع الضرر عليها وتعذر رفعه أو إصلاحه(2).
__________
(1) وهذا ماتبنته الغرفة الشرعية في محكمة النقض السورية(قرار682,أساس672تاريخ30/10/1978 ) الأحكام القضائية الشرعية, محمود زكي شمس,2 /992. وهو:إن الزواج من ناحية ثانية بحد ذاته يعتبر قرينة على قدرة الزوج المادية لإعالة زوجته.
(2) تعدد الزوجات,صدقي,91-92. وسبقت الإشارة ( هامش3 ) إلى ما ذكره الشيخ شلتوت كذلك.(13/6)
3-إن التعدد في المجتمع السوري ليس بالمشكلة الاجتماعية الخطيرة - كما جاء في الأسباب الموجبة للتعديل-التي تستوجب التدخل للحد منها. والقانون المعدل لا أثر له من الناحية الواقعية الاجتماعية لأنه ترك حكم التعدد على الإباحة. وإذا توافر الشرطان لم يكن للقاضي أن يمنع منه, وإنما يكون دور القاضي فقط في التحقق من كون هذا المسوغ شرعياً أم لا(1).
وبالتالي فإن تعديل ( م17 شخصية ) لا أثر له ولم يحلّ مشكلة اجتماعية كانت موجودة أصلاً فضلاً عن أن تكون خطيرة, بل الملاحظ أن المشاكل الاجتماعية في مجتمعنا في ازدياد, كالبطالة والتشرد, مما دفع معظم القضاة الشرعيين إلى عدم الالتزام بالتعديل إلا من حيث الشكلية فقط. وحال المجتمعات الإسلامية التي منعت أو قيدت أو جرَّمت تعدد الزوجات –مثل تونس-أثبت فشل اتباع الأنظمة المستوردة والدعوات التي لاتناسب مجتمعنا وأحواله الخاصة به(2).
4-على أن تمسك بعض القضاة بعدم الموافقة على التعدد دفع إلى انتشار الزواج العرفي السري ,وواضح أن الزواج الثاني أو الثالث أو الرابع الموثق أصولاً هو أكثر قانونية من الزواج العرفي(3).
__________
(1) شرح قانون الأحوال الشخصية السوري,عبد الرحمن الصابوني,1/152ومابعدها.
(2) ذكر الدكتور عبد الرحمن الصابوني في كتابه ( شرح قانون الأحوال الشخصية1/154 ) أن الدعوة في مشروع تغيير قانون الأحوال الشخصية عام 1975 كانت خطيرة جداً,إذ كانت تدعو لجعل التعدد جريمة تفوق الزنا وتترتب عليها عقوبات مالية وحبس لعدد من الأشخاص كالولي والشاهد على عقد الزواج فضلاً عن الزوجين,وكان الدكتور الصابوني ممن ساهم في إبطال هذا المشروع,ويشير الدكتور الصابوني ( 1/153 ) إلى أن اشتراط وجود مسوغ شرعي أخف بكثير من شرط وجود القدرة على الانفاق وعدمه وقلته وكثرته لأنه يخضع لتقدير القاضي.
(3) الزواج والطلاق وآثارهما,غادة همج,ص 57.(13/7)
5-على جميع الجهات التي تعنى بالمجتمع والأسرة أن تتحمل مسؤوليتها كاملة عن الزواج وتشجيعه ومايترتب عليه تنفيذاً لنص الدستور (م 44/1 )وأولها(( الأسرة هي خلية المجتمع الأساسية وتحميها الدولة...)), وأهمية ذلك لاتقل عن أهمية تحمّل الراغب في الزواج لمسؤولياته. ولايصح أن نُحمّل الحكم الشرعي تقصير المقصرين(1).
6-إن معالجة اساءة الزوج في استعماله لحق التعدد تكون بنشر التوعية والثقافة لفوائد الزواج والتعدد ومافيه من مسؤوليات, وبخاصة أن نسبة الزواج من زوجة واحدة في تناقص وتراجع فضلاً عن الزوجة الثانية أو الثالثة, وكأن تُبصَّر المرأة عند إقدامها على الزواج -للمرة الأولى-بإمكان وقوع التعدد لاحقاً كي لاتفاجأ به إن وقع,ولن تمتنع جميع النساء من أن تكن زوجات, ولو علمن بذلك.
والله تعالى أعلم.
القسم الثاني:( المهر )
المواد التي تم تعديلها ويتعلق موضوعها بالمهر هي: 54-57-60
المادة:54
تم تعديل هذه المادة بإضافة الفقرات 3-4-5 فأصبح نص المادة كاملاً:
(( 1-لاحد لأقل المهر ولاأكثره.
2- كل ما يصلح التزامه شرعاً صلح أن يكون مهراً.
3- يعتبر مهر المرأة ديناً ممتازاً يأتي في الترتيب بعد دين النفقة المستحقة المشار إليه في المادة ( 1120 ) من القانون المدني.
4- لمن يدعي التواطؤ أو الصورية في المهر المسمى إثبات ذلك أصولاً,فإذا أثبت أحدهما ذلك حدد القاضي مهر المثل مالم يثبت المهر المسمى الحقيقي.
5- يعتبر كل دين يرد في وثائق الزواج والطلاق من الديون الثابتة بالكتابة ومشمولاً بالفقرة الأولى من المادة ( 468 ) من أصول المحاكمات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 لعام 1953.ولايعتبر المهر المؤجل مستحق الأداء إلا بانقضاء العدة وفق ما يقرره القاضي في الوثيقة )).
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة,شلتوت,214,تعدد الزوجات,صدقي,89.(13/8)
*أما بالنسبة للفقرة الثالثة المضافة بالتعديل الأخير فقد تم ربطها بالمادة ( 1120 ) من القانون المدني ونصها:
(( 1-يكون للحقوق الآتية امتياز على جميع أموال المدين من منقول وعقار:
أ ) المبالغ المستحقة للخدم والكتبة والعمال وكل أجير آخر من أجرهم ورواتبهم من أي نوع كان عن الستة أشهر الأخيرة.
ب ) المبالغ المستحقة عما تم توريده للمدين ولمن يعوله من مأكل وملبس في الستة الأشهر الأخيرة.
ج ) النفقة المستحقة في ذمة المدين لأفراد أسرته وأقاربه.
2-وتستوفى هذه المبالغ مباشرة بعد المصروفات القضائية والمبالغ المستحقة للخزانة العامة ومصروفات الحفظ والترميم ,أما فيما بينها فستوفى بنسبة كل منها )).
وبناء عليه:
وضعت الفقرة الثالثة مهر المرأة في الترتيب بعد دين النفقة في الفقرة ( ج/1120مدني ) أي بعد المصروفات القضائية ومطالب الخزانة والأجور وثمن المأكل,ولكن قبل الديون العادية الأخرى. فإذا اجتمعت عدة ديون مع دين المهر على شخص واحد-الزوج الحي-فإن المهر يُقدم في الاستيفاء على غيره من الديون العادية ضماناً لحق الزوجة في استيفاء مهرها,كذلك إذا ضاقت التركة –إذا كان الزوج متوفى-أو مايملكه الزوج المدين المطّلق, فإن لم تكف أيضاً يوزع المال على الديون الممتازة المتساوية في الرتبة بنسبة كل دين(1).
وحق الامتياز لهذا الدين-دين المهر-ليس هو الوحيد,فقد تقدم آنفاً في ( م 1120مدني ) الديون التي أعطاها القانون حق الامتياز ,مثل دين النفقة.
__________
(1) شرح قانون الأحوال الشخصية السوري,عبد الرحمن الصابوني,1/287, قانون الأحوال الشخصية...,نجاة قصاب حسن , ص87, التقنين المدني السوري , طعمة واستانبولي9/8889-8890 والوارد هنا يتفق مع الرأي الفقهي الذي ورد تعليقاً على ( م 1120 مدني ).(13/9)
وتم تقديم المهر وجعله ديناً ممتازاً لأهميته ولكونه دينًاً في ذمة الزوج من يوم إجراء عقد الزواج,وتقديم النفقة لكونها يتعلق بها أمر المعيشة فهي من الأمور الضرورية المهمة.وهي نقطة ايجابية تُحسب لهذا التعديل.
- لكن المأخذ على هذا التعديل الأخير ( ف3/54شخصية ) هو أنه فتح ثغرة للتحايل على حقوق الآخرين ,فقد يلجأ الزوج الذي تراكمت عليه الديون إلى التواطؤ مع زوجته للتخلص من هذه الديون, فيتفق معها على زيادة معجل المهر غير المقبوض فتطالب به الزوجة ولو من غير فراق,أو على زيادة مهرها زيادة كبيرة ثم يقوم بتطليقها ويدفع لها مؤجل مهرها الذي أجرى عليه تعديلاً كبيراً,ثم يقوم هذا الزوج بعد فترة الطلاق بالعقد من جديد على مطلقته, وبهذا يحافظا على أموال الزوج بعيداً عن مطالبة الدائنين الآخرين الذين قُدم المهر على ديونهم لكونه ديناً ممتازا.
-على أن القانون أراد أن يحول دون استغلال الفقرة الثالثة المذكورة استغلالاً سيئاً,
فجاء بالفقرة الرابعة لتمنع من ذلك وتعطي كل متضرر حق الاعتراض على ذلك إذا ثبت لديه التواطؤ أو الصورية في المهر ,حيث يرجع الأمر إلى المهر الحقيقي فإن لم يوجد فإلى مهر المثل إن استطاع المدعي إثبات ذلك,لكن هذا الإثبات ليس بالأمر السهل الميسور على جميع الناس(1).
__________
(1) شرح قانون الأحوال الشخصية السوري,عبد الرحمن الصابوني 1/288,شرح قانون الأحوال الشخصية,نجاة حسن 87-88, وذكر الدكتور الصابوني أنه اقترح أثناء إعداد المشروع زيادة ( الصورية في الطلاق ) على ( الصورية في المهر ) فإن ثبت فإن رتبة الامتياز ترفع عن الزيادة التي حدثت تواطؤاً لاعن كامل المهر المسمى في العقد,وذكر أنه اقترح زيادة ( المسمى في العقد ) على التعديل الوارد في الفقرة الثالثة بعد كلمة ( المرأة ).(13/10)
- ودعوى الصورية في المهر المذكور في عقد الزواج قد تكون من أحد الزوجين لاحقاً-بأن كان الزوج مديناً بدين عادي لزوجته مثلاً-,كما يفهم من عموم نص الفقرة ( 4/ 54 شخصية ) وكما ذهب إليه الاجتهاد القضائي فيما إذا تصادق الزوجان على أن المهر المسجل في وثيقة زواجهما غير حقيقي؛ فيمكن لكل منهما إثبات المهر الحقيقي بالبينة الشخصية(1).أما إذا اختلف الزوجان في المهر المسجل في عقد الزواج ولم يدعيا الصورية فإن من المقرر نصاً واجتهاداً أن اثبات مايخالف الدليل الكتابي أو يجاوزه لايمكن أن يتم بالبينة الشخصية, فلا بد من دليل كتابي مُسلّم بصحته من الطرفين(2).
-لكن الواضح هنا هو أن القانون قصد بالفقرة الرابعة:حماية حقوق الدائن للزوج إذا كان غير زوجته وادعى الصورية في المهر المسمى أو التواطؤ من الزوجين على ذلك(3)
__________
(1) قرار632, أساس615, تاريخ16/10/1978- الأحكام القضائية الشرعية , محمود زكي شمس,3 /1667 فقرة1375.
(2) نقض سوري-الغرفة الشرعية-أساس397قرار383 تاريخ6/6/1984,المرشد في قانون الأحوال الشخصية,استانبولي 1/197-198.
(3) نص المادة ( 238مدني ):((لكل دائن أصبح حقه مستحق الأداء ,وصدر من مدينه تصرف ضار به أن يطلب عدم نفاذ هذا التصرف في حقه ,إذا كان التصرف قد أنقص من حقوق المدين أو زاد في التزاماته وترتب عليه إعسار المدين أو الزيادة في إعساره,وذلك متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة التالية)).
والمادة ( 239 ):
(( 1) إذا كان تصرف المدين بعوض ,اشترط لعدم نفاذه في حق الدائن أن يكون منطويا على غش من المدين, وأن يكون من صدر له التصرف على علم بهذا الغش ,ويكفي لاعتبار التصرف منطويا على الغش أن يكون قد صدر من المدين وهو عالم أنه معسر. كما يعتبر من صدر له التصرف عالماً بغش المدين إدا كان قد علم أن هذا المدين معسر. ==
== 2 ) أما إذا كان التصرف تبرعا ,فإنه لاينفذ في حق الدائن ,ولو كان من صدر له التبرع حسن النية ولو ثبت أن المدين لم يرتكب غشا.
3 ) وإذا كان الخلف الذي انتقل إليه الشيء من المدين قد تصرف فيه بعوض إلى خلف آخر , فلا يصح للدائن أن يتمسك بعدم نفاذ التصرف إلا إذا كان الخلف الثاثي يعلم غش المدين وعلم الخلف الأول بهذا الغش إن كان المدين قد تصرف بعوض، أو كان هذا الخلف الثاني يعلم آثار إعسار المدين وقت تصرفه للخلف الأول إن كان المدين قد تصرف له تبرعاً)).
==فهاتان المادتان تضبطان التلاعب بديون الناس بالزيادة أو غيرها، فزيادة المهر تعتبر من أحكام التصرف التبرعي ( م239/2 ) فينفذ إذا كان قبل صدور أي حكم لديون الآخرين.(13/11)
.ويرجح هذا التوجه إطلاق العبارة في (ف4/54) لتشمل الزوجين والغير.
- ومما يستدعي التوقف عنده أن نص الفقرة الرابعة من المادة ( 54 شخصية ) هو:
(( لمن يدعي التواطؤ أوالصورية في المهر المسمى إثبات ذلك أصولاً فإذا ثبت أحدهما حدد القاضي مهر المثل مالم يثبت المهر المسمى الحقيقي )).
وقوله (( المهر المسمى )) يُفهم منه المهر الذي تم تعديله بعد عقد الزواج, ثم جاء في آخر الفقرة (( المهر المسمى الحقيقي )), والملاحظة هي:
1 ) إذا أراد المشرع بالعبارة الأولى المهر الذي تم تعديله, فإن مراده غير واضح من ذلك ولايدل عليه,فقد عرّف الاجتهادُ القضائي المهر المسمى بقوله:
"المهر المسمى هو المهر الذي يذكر وقت العقد-أي عقد الزواج- ولاعبرة لأي اتفاق يتم بين الزوجين أو ذويهما خارج العقد ,وعلى ذلك الفقه والاجتهاد", فالتعديل للمهر أو الاتفاق عليه بعد العقد لايجعله –في نظر الفقه والاجتهاد القضائي-كالمهر المذكور وقت العقد(1).
فكان ينبغي على المشرع أن تكون عبارته في الفقرة الرابعة:لمن يدعي التواطؤ أو الصورية في المهر المسمى بعد العقد, أو في المهر المعدل بعد العقد, وحينها يمكن لآخر أن يدعي التواطؤ من الزوجين أو الصورية في المهر.
وربما يحتج المشرع على عدم صحة هذا الاستنتاج وعلى ضوح قصده من قوله ( المهر المسمى ): بأنه ذكر في آخر الفقرة ( المهر المسمى الحقيقي ), فنقول:
__________
(1) القاعدة 632 قراررقم 2/1986,والقاعدة 633 أساس 256 قرار2/86 إنابة لعام 1986,الزواج والطلاق وآثارهما,غادة همج,ص 489.(13/12)
إن الأصل في كلام المشرع حين صياغته لمواد القانون أن تكون عباراته دالة على مراده بشكل واضح ومحدد لا يسمح للاجتهاد بأن يفسر نصه على غير مراده, وبخاصة أن الأسباب الموجبة لتعديل المادة 54 بينت أنها أعطت المهر مرتبة تأتي بعد دَين النفقة لمالَه من صلة بالحياة الزوجية ومنعا لمزاحمة الدائنين للزوجة فيه, وهذه العلة التي جاء التعديل من أجلها توجد حتى في المهر المعدل بعد عقد الزواج.
فلماذا لم تكن عبارة المشرع تشمل الاثنين –إن كان مراده من "المهر المسمى" المهر المذكور وقت العقد فقط – ,وإن ادعى أن عبارته تشمل الاثنين فلماذا لم يضف إليها مايفيد ذلك حتى لايذهب الاجتهاد إلى تفسيرها وقصرها على المهر المذكور وقت العقد فقط, لأنه أشار في آخر الفقرة فقال:( المسمى الحقيقي ).
على أن الفقرة الرابعة من المادة ( 54شخصية ) يمكن الاستغناء عنها أو اختصارها, لأن المقرر أن المهر المسمى متى ثبت لايُرجع معه إلى مهر المثل,وكان يكفي أن يشير القانون إلى ( م238, 239مدني ) للحكم على تصرف المدين تصرفاً ضارّاً بالغير,كما أن هذه المادة أغفلت كيفية ثبوت الصورية في المهر ,كما أن المهر المذكور في عقد الزواج ثابت بدليل كتابي وهو سند رسمي ( م 5 بينات ) فكيف تسوغ مخالفته إلا بدليل ثابت مثله(1)!على أن عدم إمكان إثبات مايخالف ماهو مذكور في عقد النكاح إلا بدليل خطي مثله هو في حق الزوجين فقط ,إذ يمكن لغيرهما الاعتماد على جميع وسائل الإثبات.
__________
(1) وجاء في الأحكام القضائية الشرعية لشمس3/1631-1632:لايملك الزوج المدين التصرف في ماله تبرعاً بغير رضاء دائنه ولاتصح منه الزيادة في المهر مادامت تمت حقوق دائنه ( الغرفة الشرعية 172قرار222تاريخ12/6/1963 ) وهذا الاجتهاد يغني عن ( ف2/54شخصية ) وهذا الاجتهاد يتفق مع ( ف2/239 مدني ).(13/13)
-وقوة الأسناد والمحاضر والعقود الرسمية تعتبر من النظام العام(1).
- من الجائز إنشاء العقد وتجديده أكثر من مرة(2),فإذا جدد الزوج عقد زواجه مرة ثانية وسمّى مهراً كبيراً وقت العقد ؛فبناءً على ماتقدم من أنه يعد مهراً مسمى بسبب ذكره وقت العقد ,فكيف يتسنى بسهولة إثبات المتضررين من ذلك للصورية أو التواطؤ بين الزوجين؟ وقد أقرت محكمة النقض أن العقد [الثاني] بزيادة المهر لايجعل أحدهما صورياً مادام الاثنان علنيين(3).
- يلاحظ مما تقدم:أن الفقرة الثالثة من ( م54 شخصية ) قد أعطت المهر هذا الامتياز لدوافع إنسانية ,لكن المشرع أوجد ثغرات لم يُوفق تماماً لسدها في الفقرة الرابعة التالية لها.
_أما الفقرة الخامسة المزيدة على ( م 54 شخصية ) فقد جاء فيها:
(( يعتبر كل دين يرد في وثائق الزواج أو الطلاق من الديون الثابتة بالكتابة ومشمولاً بالفقرة الأولى من المادة 468 من قانون أصول المحاكمات...ولايعتبر المهر المؤجل مستحق الأداء إلا بانقضاء العدة وفق ما يقرره القاضي في الوثيقة )).
والمادة ( 468 محاكمات ) هي عن تحصيل الديون الثابتة بالكتابة,ونصها:
(( 1- للدائن بدين من النقود إذا كان دينه ثابتاً بسند عادي أو ورقة من الأوراق التجارية القابلة للتظهير أن يراجع دائرة التنفيذ وطلب تحصيل منه.
__________
(1) قانون البينات ,جورج كرم,105 نقلاً عن مجلة نقابة المحامين 97/1960.
(2) نقض سوري أساس 282 قرار 297 تاريخ 4/9/1964 ) قانون الأحوال الشخصية لاستانبولي1/143.
(3) نقض سوري-الغرفة الشرعية أساس 336 قرار 436 تاريخ7/1/1965-القاعدة 72 ) المرشد في قانون الأحوال الشخصية لاستانبولي1/233.(13/14)
2- لا يجوز سلوك هذه الطريقة إلا إذا كان للمدين موطن أصلي أو مختار أو سكن بذات المنطقة التي يشملها الاختصاص المكاني لدائرة التنفيذ, أو كان لأحد المدينين المتعددين سكن فيها أو كان السند محرراً في هذه المنطقة أو مشروطا دفعه فيها وكان الدين حالّ الأداء معين المقدار )).
- والشطر الأول من الفقرة الخامسة المعدلة ( م 54 شخصية ) قد عطف على (م468 محاكمات ) ومعنى الفقرة الخامسة-هذه- أن مهر المرأة المقدم غير المقبوض الثابت في وثيقة الزواج أو مهرها المؤخر الثابت في وثيقة الطلاق ونفقة العدة التي يفرضها الزوج على نفسه, وكل ما أشبه ذلك كبدل الخلع الوارد في وثيقة المخالعة مما تُلزم به المرأة نفسها افتداءً له في مقابل الطلاق, لا يحتاج إلى إقامة دعوى لتحصيله وإنما يكفي إبراز الوثيقة أمام دائرة التنفيذ فيخطر طالب التحصيل الطرف الآخر بالدفع,وبمرور خمسة أيام على الملزَم بالدفع أن يدفع أو أن يبرز ما يثبت أنه سدد المبلغ,وعند المنازعة على ذلك يجب اتباع القواعد الواردة في تحصيل الديون الثابتة بالكتابة في قانون أصول المحاكمات.
وقد أعطي الزوجان هذا الحق ولو كان أحدهما يقيم في غير المدينة التي يقيم فيها الآخر.
وفي هذا النص تيسير كبير على الناس وعلى القضاء,إذ ألغى ماكان متبعاً من ضرورة الرجوع إلى القضاء لأخذ حكم بكل ما هو من المهر أو الديون الواردة في وثائق الزواج أو الطلاق, ولكن هذا لايمنع من طلبها أمام القضاء, والخيار للمدعي(1).
- والتعليق على الشطر الأول من الفقرة الخامسة المعدلة سيأتي قريباً: ( بعد ذكر بعض المواد والاجتهادات ).
نصت ( م 273 أصول محاكمات ) فقالت: (( التنفيذ الجبري لا يكون إلا لسند تنفيذي. والأسناد التنفيذية هي الأحكام والقرارات والعقود الرسمية والأوراق الأخرى التي يعطيها القانون قوة التنفيذ )).
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية, نجاة حسن, ص 88 .(13/15)
وجاء في الفقرة الأولى ( م 6 بينات ): (( تكون الأسناد الرسمية حجة على الناس كافة بما دوّن فيها من أفعال مادية قام بها الموظف العام في حدود مهمته,أو واقعة من ذي الشأن في حضوره,وذلك مالم يتبين تزويرها بالطرق المقررة قانوناً )).
وجاء في الرأي الفقهي الوارد عام ( 273 محاكمات ) أن الأسناد التنفيذية كما عددتها المادة هي أربعة، منها العقود الرسمية القابلة للتنفيذ الجبري، ومنها: وثائق المحكمة الشرعية وعقود الزواج( (1) )...
في حين ذهبت محكمة النقض إلى أن المشرع اعتبر صكوك الزواج من الأدلة الخطية ولم يدخلها في زمرة الأسناد الرسمية الصالحة التنفيذ ( (2) ).
- وجاء في الاجتهاد القضائي لمحكمة استئناف دمشق أن المهر المدون في عقد الزواج يخرج عن دائرة العقود الرسمية ويعتبر ديناً ثابتاً بالكتابة ( (3) ).
*-والاجتهادات القضائية الشرعية كانت على النحو الآتي:
- منها من اعتبر صك الزواج من الوثائق الرسمية ويستند عليه في أمر المهر( (4) ).
ومنها من اعتبر: صكوك الزواج من الأدلة الخطية لا الرسمية الصالحة للتنفيذ( (5) ).
__________
(1) تقنين أصول المحاكمات السوري، طعمة واستانبولي: 4 / 276 – 277، وما تقدم ذكره آنفاً صادر كذلك عن محكمة استئناف دمشق رقم ( 42 و 41 ) لعام 1969م.
(2) المرجع السابق: 4 / 277 – 289 ( نقض سوري رقم 2536 تاريخ 10 /5 / 1980 )
(3) المرجع السابق: 4 / 293 – 294 ( استئناف دمشق رقم 72 أساس 288 تاريخ 7 / 2 /1991.
(4) نقض سوري – الغرفة الشرعية - أساس 161 قرار 155 تاريخ 27 / 5 / 1962 ) المرشد في قانون الأحوال الشخصية، استانبولي 1 / 227.
(5) نقض 10 – 5 – 1980:أساس 1992 قرار 1979 لعام 1994م) قانون الأحوال الشخصية، استانبولي: 1/59 ، الزواج والطلاق وآثارهما ، غادة همج: 491.(13/16)
ومنها من قال: اعتبر المشروع صكوك الزواج من الوثائق الرسمية ( لا يطعن فيها إلا بالتزوير ) والأدلة الخطية، ولم يدخلها في زمرة الأسناد الرسمية الصالحة للتنفيذ( (1) ).
ويتبين أن الاجتهادات القضائية الشرعية استقرت على أن صك الزواج يعد من الوثائق الرسمية والأدلة الخطية إلا أنه ليس من الأستاذ الصالحة للتنفيذ.
ويلاحظ على ما تقدم:
لقد تسبب الشطر الأول من الفقرة الخامسة المعدلة ( 54 شخصية ) بإحداث اضطراب وظهور تناقض، وذلك لأن الأصل اعتبار صك الزواج من الأسناد الرسمية الصالحة للتنفيذ الجبري كما ورد في ( م 273 محاكمات )، لكن ( فقرة 5/54 شخصية ) قد حولته من سند رسمي إلى سند عادي، ومع ذلك لم تفقده حجيته، وكان الأجدر بالمشرع عندما جعل دين المهر ديناً ممتازاً أن لا يضعف الوثيقة ( صك الزواج ) التي ورد فيها ذكر المهر.
إن الفقرة الخامسة قد ربطت صك الزواج والطلاق بالفقرة الأولى من ( م 468 أصول محاكمات )- بعد أن جعلته سنداً عادياً -وعند مراجعة الفقرة الأولى منها نجد أنها تنص على ما إذا كان الدين من النقود، ولا أهمية هنا لنوع الدين بالنقود أو مقداره أو طبيعته، ولكن ما هو الحكم في ما إذا كان المهر ليس نقوداً أو ليس قيمة لنقود، كأن يكون عشرة خراف مثلاً، فهذا يستلزم أن لا يخضع لتحصيل الديون الثابتة بالكتابة (( وهذا أمر ما كان ينبغي على المشرع أن يفوته, لأنه إذا قام نزاع حول هذه الالتزامات- من غير النقود- فلا يجوز تنفيذ الالتزامات بدون حكم( (2).
أما الشطر الثاني من الفقرة الخامسة المعدلة فنصه (( ولا يعتبر المهر المؤجل مستحق الأداء إلا بانقضاء العدة وفق ما يقرره القاضي في الوثيقة )).
__________
(1) نقض سوري أساس 1471 قرار 1418 تاريخ 28 / 11 / 1995 ) قانون الأحوال الشخصية، استانبولي: 1 /75.
(2) تقنين أصول المحاكمات السوري، طعمة واستانبولي 5/27: الرأي الفقهي حول ( م 468 محاكمات ).(13/17)
وهذا التعديل دل على أن المهر المؤجل يستحق بانقضاء العدة، وأقل مدتها ثلاثة أشهر، فالقاعدة الشرعية تنص على أن القول قولَ الزوجة مع يمينها حين تدعي انقضاء العدة( (1).
وقد ذكرت ( م 56 شخصية ) موعد استحقاق المهر المؤجل، ونصها:
(( التأجيل في المهر ينصرف إلى حين البينونة أو الوفاة، ما لم ينص في العقد على أجل آخر )) والبينونة هي الفراق بطلاق انتهت عدته أو بمخالعة,وبذلك تكون الزوجية قد انتهت وعندها يستحق المهر المؤجل، أما في الطلاق الرجعي وقبل انتهاء العدة فلا يستحق المهر لإمكان وقوع المراجعة( (2).
والأصل أن مؤجل المهر يصبح ديناً متعلقاً بذمة الزوج من وقت إجراء عقد الزواج، كما أن مؤجل المهر تستحقه الزوجة مهما كانت الأسباب الداعية للطلاق(3).
والملاحظ على ما تقدم:
إن الشطر الثاني من التعديل للفقرة الخامسة ( م 54 شخصية ) لم يعط أي فائدة جديدة، بل ربما أحدث إرباكاً في الاجتهاد القضائي.
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن ص 88.
(2) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن: ص 89.
(3) قانون الأحوال الشخصية، استانبولي: 1/ 327. ( نقض سوري أساس 629 قرار / 701 تاريخ 4 / 11 / 1982م ).(13/18)
وذلك لأن المادة ( 56 شخصية ) نصت على أن استحقاق المؤجل يكون إما: بالوفاة، وهنا لا داعي لطلب الانتظار إلى انتهاء العدة، بل للمرأة إذا توفي زوجها أو لورثتها إن كانت المتوفاة هي الزوجة أن يطالبوا بمؤخر مهرها قبل قسمة التركة، مع أن التعديل شمل حالة الوفاة كما شمل الطلاق !! وإما بالطلاق، وقد يكون بائناً وقد يكون رجعياً، والمادة ( 56 شخصية ) لم تفرق بينهما بل قالت ( حين البينونة ) ففهم عدد من شراح القانون، وكذلك ذهب الاجتهاد القضائي، إلى أن كلمة ( البينونة ) لا تفريق فيها بين الطلاق الرجعي والبائن، فلا تستحق المطلقة مهرها المؤجل إلا بانتهاء عدة الطلاق- رجعياً كان أم بائناً( (1) ).
ثم جاء التعديل في الشطر الثاني من الفقرة الخامسة ( م 54 شخصية ) ليزيد في تأكيد الفهم العام المذكور-آنفاً-ً من كلمة ( البينونة ) من عدم التفريق بين الرجعي والبائن.
كان يمكن أن يكون التعديل المذكور أكثر فائدةً فيما لو أنه نص صراحة على ثلاثة أمور:
أن تكون عبارته المعدلة تنص صراحة على الطلاق الرجعي، فيكون نصها: ( ولا يعتبر المهر... بانقضاء العدة في الطلاق الرجعي).
أن ينص صراحة على استحقاق المرأة لمؤجل مهرها بمجرد الطلاق إذا كان الطلاق بائناً دون حاجة إلى انتظار انتهاء العدة( (2) )، لأمور:
1)- إن الزوجية تنتهي بمجرد وقوع الطلاق إذا كان بائناً وليس للزوج أن يراجعها في أثناء العدة.
2)- إن صيغة المادة ( 56 شخصية ) توحي بذلك بقولها ( حين البينونة ) لكنها لم تصرح به مما دفع شراح القانون والاجتهاد القضائي لعدم تفسيرها بذلك، بل حمّلوها ما لا تتحمل.
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن: ص 89، الزواج والطلاق وآثارهما، غادة همج 487 ,
( أساس 87 قرار 20 تاريخ 23 / 1 / 1954 )، الأحكام القضائية الشرعية، شمس ج / 3 /1638 ( شرعية 323 ق 320 تاريخ 3 / 10 / 1964 ).
(2) شرح قانون الأحوال الشخصية , صابوني: 1/289.(13/19)
3)- إن تأخير استحقاق المرأة لمؤخر مهرها إذا كانت مطلقة طلاقاً بائناً فيه إضرار بها، فالغالب أن تكون الزوجة أثناء عدة الطلاق كسيرة الخاطر وتحتاج لأن تواسي نفسها أو توسع على نفسها في النفقة، ومؤجل مهرها يحقق لها ذلك ويجعلها تشعر بانتهاء صلتها بالزوج السابق وربما تسعى للبحث عن زواج جديد ناجح ، ولعل هذا ما دفع بعض الاجتهادات القضائية لأن تلمح بأن المهر المؤجل يستحق بمجرد حدوث البينونة( (1) )، وكما نصت ( م 56) حين البينونة وحدوثها يكون بمجرد إيقاع الطلاق البائن، دون الحاجة لانتظار انتهاء عدته.
ولذلك أقترح مبدئياً أن يكون نص الشطر الثاني من الفقرة الخامسة ( م 54 شخصية ): ( ولا يعتبر المهر.. بانقضاء العدة في الطلاق الرجعي أو بمجرد إيقاع الطلاق في الطلاق البائن ).
جـ- أن ينص صراحة كذلك على عدم اشتراط انتظار انقضاء عدة الوفاة حتى تستحق المرأة مؤجل مهرها، ولا يصح أن يقال: إن التعديل ( فقرة: 5/54 شخصية ) إنما عنى انتهاء الزوجية بالطلاق لا بالوفاة، لأن التعديل قد عمم في حكمه، وبالتالي يفهم منه أنه شمل جميع أنواع العدة ( وفاة، طلاق بائن، طلاق رجعي )، كما لا يصح أن يقال:
إن ( م / 56 شخصية )- وهي ترتبط بموضوع التعديل في الفقرة الخامسة ذاته من ( م 54 شخصية ) -إنما يفهم منها أن المهر المؤجل يستحق بمجرد الوفاة، لأن نصها ( إلى حين البينونة أو الوفاة ) فإما أن يكون المراد منها: إلى حين حدوث الوفاة أو وقوع الطلاق البائن أو انتهاء العدة من الطلاق الرجعي، وإما أن يكون المراد منها:
إلى حين انتهاء العدة مهما كان سبب انتهاء الحياة الزوجية.
__________
(1) الزواج والطلاق وآثارهما،غادة همج: ص 487 ( أساس 220 قرار 210 تاريخ 17/ 5 / 1966), الأحكام القضائية الشرعية ,شمس ج / 3 / 1636 ( ش 526 قرار 519 تاريخ 16 / 12 / 1960).(13/20)
ويمكن حينها أن يقال حول الإضرار بتأخير استحقاق المؤخر لمن توفي عنها زوجها ما قد قيل عن المطلقة طلاقاً بائناً.
وختاماً: اقترح على المشرّع الأخذ بأحد أمرين للخروج من الاضطرابات المذكورة في المسائل المتقدمة والمساهمة في خدمة المجتمع:
حذف الشطر الثاني من الفقرة الخامسة من المادة ( 54 شخصية )، وإلا فليكن نصه:
( ولا يعتبر المهر... بانقضاء العدة في الطلاق الرجعي، أو بمجرد وقوع الطلاق البائن أو بمجرد حدوث الوفاة ).
تعديل ( م / 56 شخصية ) ليكون نصها: ( التأجيل في المهر ينصرف إلى حين وقوع الطلاق البائن أو حدوث الوفاة أو انتهاء عدة الطلاق الرجعي ما لم ينص في العقد على أجل آخر).
والله تعالى أعلم.
م 57
ونصها بعد التعديل:
(( لا يعتد بأي زيادة أو إنقاص من المهر أو إبراء منه إذا وقعت أثناء قيام الزوجية أو في عدة الطلاق، وتعتبر باطلة ما لم تجر أمام القاضي، ويلتحق أي من هذه التصرفات الجارية أمام القاضي بأصل العقد إذا قبل به الزوج الآخر )) ( (1) ).
وقد جاء هذا التعديل ليحد من أثر ضروب الإكراه الأدبي وغيره التي قد يتعرض لها أحد الزوجين أثناء الحياة الزوجية مما يدفعه لزيادة أو إنقاص المهر أو الإبراء منه، لذلك اشترط أن يكون التعبير عن إرادة أحد الزوجين في أي من هذه الأمور أمام القاضي لدرء شبهة الإكراه، وهذا ما ذُُكر في الأسباب الموجبة لتعديل القانون عام 1975م، ولا ينكر أن هذا التعديل حقق بعضاً مما وضع من أجله( (2) ).
-إلا أن الملاحظات الواردة عليه:
__________
(1) ونص المادة قبل التعديل: ( للزوج الزيادة في المهر بعد العقد وللمرأة الحط منه إذا كانا كاملي أهلية التصرف ويلتحق ذلك بأصل العقد إذا قبل الآخر ).
(2) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن: ص 89.(13/21)
لم يأت هذا التشريع الجديد بتعديل جوهري في هذا الموضوع- من حيث المبدأ- بل جاء مؤكداً لحق الزوجة في أن تتصرف في مهرها، لأنه حق خالص لها، على أن يتم هذا التصرف بالتراضي أمام القاضي، أما إذا حصل اتفاق بين الزوجين خارج المحكمة فيعد باطلاً، وهذا هو الشيء الجديد الذي سكت عنه التشريع. وقد أغفل نص المادة الجديد دور القاضي تجاه الزوجين إذا حضرا أمامه لتعديل المهر بزيادة أو غيرها، فهل يكون عمله هو الشهادة على تصرفهم ليقوم بإثباته في صك النكاح ؟ أم أنه فقط ليتأكد من عدم إكراه أحدهما للآخر كما جاء في الأسباب الموجبة للتعديل؟ أم أن له أن يجيز أو يمنع بحسب ما يقدّر من كونه مصلحة أو مفسدة للزوجين ؟
لم يوضح التعديل الجديد أمراً ضرورياً وهو اكتمال أهلية كلٍ من الزوجين أثناء تعديل المهر ولو تم بحضرة القاضي، فقد تكون الزوجة في سن الزوجية القانوني ولكنها دون سن الأهلية المالية فلا يعتبر حينئذ إنقاصها لمهرها صحيحاً وكذلك إبراء الزوج منه,لأنهما من التصرفات الضارة بها.(13/22)
ويؤخذ على هذا التعديل الجديد أيضاً أنه لم يوضح العدة التي يصح فيها إجراء التعديل للمهر، وبالتالي يُفهم منه شموله لعدة الطلاق الرجعي والبائن، في حين أن الطلاق البائن يقطع العلاقة بين الزوجين وتكون المرأة مستحقة لمهرها شرعاً بمجرد وقوع الطلاق هناك إذ لامجال لزيادة المهر أو إنقاصه، فينبغي أن يقصر القانون ذلك- صراحة-على عدة الطلاق الرجعي( (1) ).
وهذا التعديل الجديد يطعن صراحة في أهلية كل من الزوجين، حيث أوقف إجازة تصرفهما بالمهر على الحضور أمام القاضي، والأصل أن الإنسان إذا كان كامل الأهلية له أن يتصرف بحقوقه- ومنها المهر- كما يشاء من غير تعقيب أو إجازة من أحد، ما لم يثبت طروء عارض من عوارض الأهلية عليه أو ارتكابه لأمر ممنوع، والأصل كذلك أن العقد شريعة المتعاقدين، ومن حق كل زوج وزوجة أن يعترض على ما يخالف إرادته الصحيحة وعلى كل تعديل يفرض وصاية عليه ويعامله معاملة القاصرين.
__________
(1) شرح قانون الأحوال الشخصية ,صابوني: 1/289 – 290، واقترح الدكتور الصابوني تكلمة لهذا النص أنه يجوز للزوجة الرجوع فيما أبرأته من مهرها أو أنقصت له منه إذا أقدم على طلاقها بعد هذا الإبراء أو التصرف ,وسنده في هذا الاقتراح هو أن الإبراء أو الإنقاص هبة من الزوجة لزوجها وسبب هذا العقد قد بطل لأن سبب هبة الزوجة لزوجها هو استدامة الحياة الزوجية,وأشار إلى وجود نص في كتاب القواعد لابن رجب الحنبلي يجيز للزوجة أن ترجع فيما وهبته لزوجها سواء أكان من المهر أو غيره إذا طلقها.(13/23)
وقد يستقيم التعليل الوارد في الأسباب الموجبة للتعديل- وهو درء الإكراه- بالنسبة لمن بلغ سن الزوجية القانوني ولكنه لم يبلغ سن الأهلية المالية، وهذا فيه مطعن آخر أيضاً، وهو أن الفروج أخطر وأهم من الأموال، ومع ذلك أجاز القانون التصرفات الصادرة ممن هذا حاله- أي من لم يبلغ سن الأهلية المالية- وجعل للزوجة,ولو كانت دون سن الزواج القانوني,حق المطالبة بجميع حقوقها المتعلقة والمترتبة على الحقوق الزوجية إذا كان القاضي قد أذن لها بالزواج، أو رفع إليه عقد زواج لتثبيته وفق الطرق المقررة قانوناً، فكيف لا نجيز لهذه الزوجة أن تتصرف بما هو أدنى وأقل شأناً ونجيز لها ما يتعلق بما هو أخطر شأناً !!
إن تعليل تعديل ( م 57 ) بدرء شبهة الإكراه أمر طيب، لكن طريقة علاجه كما نص القانون طريقة غير ناجعة في الواقع، إذا إن كثيراً من الأزواج والزوجات يقومون بترغيب أو ترهيب الزوج الآخر بشتى أنواع الإكراه قبل الحضور أمام القاضي ليُظهروا رضاهم أمامه أو يتوعدونهم إن لم يتظاهروا برضاهم أمام القاضي، وقد لا يستثبت القاضي الذي حضر إليه الزوجان لتعديل المهر من إرادتهما ورضاهما الباطني إلا مشافهة منهما، إذ لا يمكنه أن يطلب منهما وسيلة إثبات على رضاهم وعدم وقوع الإكراه عليهم.
لذلك أقترح أن ينص المشرع على مادة تتضمن إمكان إثبات وقوع أحد الزوجين تحت الإكراه من الآخر وطرق الإثبات المطلوبة لذلك.
6- كان الأولى أن ينص المشرع صراحة على وصف القاضي الذي يشترط الحضور أمامه حتى يصح تعديل المهر، وهل المراد به: القاضي المدني مثلاً، أم الشرعي.. إلا أنه يمكن الاعتماد على المادة ( 536 / ج من أصول المحاكمات ) التي ذكرت القضايا التي تختص بها المحكمة الشرعية، ومنها: المهر والجهاز.(13/24)
7-نص التعديل الجديد للمادة ( 57 شخصية ) على اشتراط كون زيادة أو نقص المهر أو الإبراء منه أمام القاضي، ولم تنص على حالة وفاء دين المهر من الزوج لزوجته، وعند الرجوع إلى المادة ( 32 مدني ) نجد أنها نصت في الفقرة الأولى منها على صحة الوفاء من المدين للدين الذي عليه، فإذا قام الزوج بدفع المهر لزوجته- مهما كان حالها- أو لم يدفعه لها ووقعت له برضاها أو مكرهة على ورقة ( دليل خطي ) أنها قد استوفت مهرها كاملاً، فإن من حق الزوج أن يعتمد عليها ويحتج بها أمام القاضي، وإن لم يكن الوفاء قد تم بحضرة القاضي.
8-إن التعديل الجديد للمادة ( 57 شخصية ) وارد على ما إذا كان المهر مدوناً في عقد النكاح ولم يقبض من الزوجة، على أن المرأة لو قبضت مهرها جزئياً أو كلياً- بالغاً ما بلغ- ثم وهبته لزوجها أو لغيره كان تصرفها صحيحاً.
جاء في أحكام محكمة النقض " المهر ملك للزوجة لها أن تتصرف به دون إذن من زوجها ويجوز لها بيعه أو رهنه وإجارته وهبته بلا عوض طبقاً للمادة 97 أحوال لقدري باشا المعمول بالمادة 30 أحوال " ( (1) ).
9-قد يكون بين الزوجين شراكة مالية أو تجارة أو غيرها، وقد يحوز أحدهما على الكثير من أموال الآخر أو يشرف على إدارتها دون أن يعتبر ذلك تصرفاً يتوقف على إذن القاضي أو الحضور أمامه وإن احتمل وجود إكراه أحدهما للآخر في هذا التعامل المادي، والقياس على التعديل الجديد يستلزم اشتراط موافقة القاضي على كل تعامل مالي أو دين مالي يترتب لأحدهما على الآخر لعلة درء إكراه أحدهما للآخر،مع أن هذا غير منصوص عليه قانوناً.
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، استانبولي: 1 / 316 ( نقض سوري أساس 21 قرار 202 تاريخ 23 / 12 / 1967 ) ونص ( م 305 أحوال ) (( كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون يرجع فيه إلى القول الأرجح في المذهب الحنفي )) وهنا اعتمد على قدري باشا.(13/25)
وكذلك فإن الزوجة قد تهب لزوجها أشياءها الجهازية والتي تكون قيمتها في كثير من الأحيان زائدة على مقدار المهر المسمى في عقد الزواج ولا تشترط لصحة تصرفها الحضور أمام القاضي !!
وقد نصت محكمة النقض – الغرفة الشرعية على ما يأتي:
"إن الزوجة التي تقدم لزوجها أشياءها الجهازية وحليها ليقوم ببيعها أو التصرف بها برضاها وموافقتها إنما تكون قد مارست عملاً مدنياً صرفاً " ( (1) ).
10- ولا يخفى كذلك من المقارنة بين نص المادة قبل التعديل وبعده ضعف البنية التركيبية اللغوية للمادة الجديدة، ولعل ذلك مما ساهم في إيجاد الثغرات القانونية التي تقدم بيانها واختلاف الآراء الفقهية القضائية حول تفسيرهم للنص الجديد.
لذلك أرى أن يراجع المشرع صياغة هذا التعديل ليكون أقرب لتحقيق الغاية المرجوة التي سعى من أجلها.
والله تعالى أعلم.
م 60
نص المادة المعدل:
((1– المهر حق للزوجة ولا تبرأ ذمة الزوج منه إلا بدفعه إليها بالذات إن كانت كاملة الأهلية ما لم توكل في وثيقة العقد وكيلاً خاصاً بقبضه.
2 – لا تسري على المهر المعجل أحكام التقادم ولو حرر به سند ما دامت الزوجية قائمة)) ( (2) ).
- التعليق على الفقرة الأولى من ( م 60 ):
1 – المهر حق للزوجة فإذا كانت كاملة الأهلية وقبضت مهرها بنفسها أو بواسطة وكيلها برئت ذمة الزوج من المهر ولا يحق لأحد أن يطالبه به.
__________
(1) نقض سوري – غ ش - أساس 321 قرار272/ تاريخ 21 / 7 / 1984.
(2) كانت قبل التعديل ( ينفذ على البكر ولو كانت كاملة الأهلية قبض وليها لمهرها إن كان أباً أو جداً عصبياً ما لم تنه عن الدفع إليه ).(13/26)
2– وإن دفع الزوج المهر إلى أبي الزوجة أو إلى جدها بغير توكيل صريح من الزوجة، فإن كانت ثيباً فلا تبرأ ذمة الزوج، أما إن كانت بكراً فتبرأ ذمة الزوج بدفع المهر إلى أبيها أو جدها إلا إذا نهته، فإن دفع كان مسؤولاً ويحق لها الرجوع عليه ولا تبرأ ذمته من المهر، لأن دفع المهر إلى أبي الزوجة أو جدها دون نهي صريح من الزوجة يعتبر إذناً دلالة – والبكر يغلب عليها الحياء ويعتبر سكوتها تعبيراً عن رضاها– أما غير الأب أو الجد من الأولياء فلا بد من إذن صريح بالقبض، إذ لا يكفي الإذن بالدلالة(1).
أما من لم تكن قد أكملت سن الرشد فيجوز لوليها قبض مالها ( ووليها المالي هو أبوها ثم وصيه ثم جدها الصحيح ثم وصيه ثم القاضي ثم وصيه ) لكنها تستطيع أن تطالبه كسائر أمواال القاصرين التي يقبضها الولي بحكم ولايته على المال وبموافقة القاضي الشرعي، كما يجوز لها أن تقبضه بنفسها رغم كونها قاصرة، لأنه من التصرفات النافعة لها نفعاً محضاً( (2) ).
والنص بصيغته القديمة ينتقص من حقوق المرأة، ذلك أن العادة جرت بأن يقوم بعض أهل الزوجة كاملة الأهلية بقبض مهرها بدعوى أنهم وكلاء عنها ولا يؤدونه إليها على الرغم من أنها صاحبة الحق به شرعاً، والعادة أن البنت تخجل من النهي أو لا تكون قد عرفت بقبض الأب قبل النهي. وقد كان هذا يضر بها ضرراً بليغاً لا سيما حين تريد أن تطلب التفريق وتُلزم برد ما لم تقبضه بالذات ولا تملكه لأن وليها قبضه وتصرف به. فجاء التعديل الجديد للمادة ليؤكد على حق الزوجة بقبض مهرها بالذات أو بتوكيل من تشاء بالقبض وكالة خاصة(3).
__________
(1) السباعي: 188 – 189، شرح قانون الأحوال الشخصية، صابوني: 291 – 292.
(2) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن: ص 91، شرح قانون الأحوال الشخصية، صابوني: 1/291.
(3) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن: ص 91 – 92، وانظر الأسباب الموجبة لتعديل هذه المادة عام 1975م.(13/27)
أما القانون الجديد المعدل فقد اشترط الإذن الصريح من الفتاة- أي توكيل لهذا القبض- وبهذا فقد جعل الحكم في البكر والثيب واحداً وهو أن حق القبض للمهر هو للزوجة بالذات، فتقبضه بنفسها إن كانت كاملة الأهلية، وللزوجة- كاملة الأهلية كذلك- أن توكل غيرها- من أب وجد وأخ وغيرهم- بقبض مهرها، بأن تنص على ذلك في وثيقة عقد الزواج وتوقع عليه.
والنص الجديد جعل الزوجة- كاملة الأهلية- مخيرة بين أن تقبض مهرها بنفسها وبين أن توكل وكيلاً خاصاً بذلك وتذكر ذلك في صك النكاح، إلا أن هذا التعديل الجديد قد ضيق على المرأة التخيير الموسع المريح، لأنه نص على أن للمرأة أن توكل غيرها في عقد النكاح، وكان الأفضل أن يقول: ( ما لم توكل في وثيقة رسمية وكيلاً خاصاً بقبضه ) فقد يكون الأفضل للمرأة أن توكل غيرها بقبض مهرها بوكالة خاصة أو عامة عند الكاتب بالعدل، دون ضرورة لإلزام المخطوبة بالحضور إلى القاضي الشرعي وقت إجراء عقد الزواج - إن كانت قد وكلت والدها أوغيره بتزويجها-، أو لإلزامها بالحضور إلى القاضي الشرعي بعد انعقاد الزواج لتقوم بتثبيت توكيلها لغيرها بقبض المهر نيابة عنها.
بالنسبة للنص القديم كان يمكن للزوجة غير كاملة الأهلية المالية أن تقبض مهرها، لأنه من التصرفات النافعة لها نفعاً محضاً، أما في النص الجديد فصحيح أنه أكد على كون حق قبض المهر هو للمرأة- ثيباً كانت أم بكراً- لكنه قيد صحة قبضها لمهرها وبراءة الزوج منه فيما إذا كانت الزوجة كاملة الأهلية، وكان على النص الجديد أن لا يقيد بذلك. وهو ينص صراحة على أنه قد جعل التشريع الجديد لحفظ حقوق المرأة وعدم تصرف غيرها بحقها من غير إذنها.(13/28)
والنص الجديد كذلك لا يجعل قبض الزوجة لمهرها- إن كانت قاصرة- صحيحاً، بل يقبض وليها المالي ( الأب أو وصية أو الجد... ) مع أن القانون أجاز لها أن تتزوج إذا ادعت البلوغ وكان جسمها يحتمل ذلك بعد بلوغها الثالثة عشرة من عمرها ( م 18 شخصية ) مع أن أهلية الزواج – للفتاة- في الأصل بتمام السابعة عشرة ( م 16 شخصية ) وأهلية المساءلة الجنائية بتمام الثامنة عشرة.
فالمشرع أجاز لها أن تتزوج ولو كانت دون الثامنة عشرة ولم يجز لها أن تقبض مهرها إذا كانت دون الثامنة عشرة، وأمر الأبضاع أخطر من الأموال، والمهر متفرع عن جواز زواجها!! والاجتهاد المستقر لمحكمة النقض- الغرفة الشرعية -على أن الزوجة بمجرد زواجها تصبح كاملة الأهلية بكل حقوقها الزوجية( (1) ). وكذلك فيما إذا تزوجت القاصرة بزواج عرفي وثبت للقاضي زواجها.
- إن استعمال النص الجديد لعبارة ( إن كانت كاملة الأهلية ) فيه انقاص من مكانة المرأة وأهليتها، وكان الأفضل أن يستعمل ( إذا ) لأنه تفيد غلبة تحقق ما يأتي بعدها، في حين أن لفظ ( إن ) للتقليل الموحي ببعد وقوع ما يأتي بعدها.
والله تعالى أعلم.
- أما الفقرة الثانية من ( م 60 شخصية):
فقد نصت على منع سريان أحكام التقادم على المهر المعجل غير المقبوض ولو حُرر به سند، والغاية منها عدم تضييع حق المرأة بطلبه إذا تراخت في هذا الطلب نتيجة الوفاق الزواجي( (2)
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية , استانبولي: 1/171 ( نقض سوري أساس 225 قرار / 237 / تاريخ 20 / 6 /1964م.
(2) قانون الأحوال الشخصية, نجاة قصاب حسن: ص 92، شرح قانون الأحوال الشخصية, صابوني:
1 /293، وتجدر الإشارة إلى أن المجلة قد حددت التقادم للديون بخمس عشرة سنة م ( 1660 مجلة ) ولم تعتبر القرابة الزوجية مانعاً أدبياً يوقف مرور الزمن ( نقض أساس 450 قرار 448 تاريخ 16/10/1967م ) قانون الأحوال الشخصية ,استانبولي: 1/ 291.(13/29)
)، وذلك لأن المهر يجب للزوجة بمجرد العقد الصحيح، كما جاء في ( م 53 شخصية ).
وعلى الرغم من أهمية الموضوع الذي تعرضت له ( فقرة 2/60 شخصية معدلة ) إلا أنه لم تكن هناك حاجة لذكره أصلاً، لعدة أمور:
جاء في الأسباب الموجبة لتعديل هذه المادة ما نصه (( وبما أنه يغلب وجود المانع الأدبي الذي يمنع الزوجة من مطالبة زوجها بالمهر- إذا ما وجب دفعه أثناء الحياة الزوجية- ومنعاً للبس ودرءاً لأي اجتهاد معاكس فقد نص المشرع على عدم سريان التقادم بشأنه أثناء قيام الزوجية )) فالظاهر أنه لم تكن هناك من حاجة لإيراد ( الفقرة 2/60 شخصية ) في التعديل، لأمور:
بما أنه قد ثبت في الأسباب الموجبة تغليب وجود المانع الأدبي بين الزوجين، وقد نصت ( م 57 / أ بينات ) صراحة فقالت (( تعتبر مانعاً أدبياً القرابة بين الزوجين )).
وجاء في القانون المدني ( م 379 / 1 ) ما نصه:
(( لا يسري التقادم كلما وجد مانع يتعذر معه على الدائن أن يطالب بحقه ولو كان المانع أدبياً)).
فقانون البينات نص على أن القرابة بين الزوجين مانع أدبي، والقانون المدني نص على عدم سريان التقادم عند وجود مانع أدبي، فلم يكن من داع لإجراء التعديل على ( م 60 شخصية ) وذكر الفقرة الثانية منها.
جـ- درج الرأي القضائي الوارد على ( م 379 مدني ) على وقف التقادم بين الزوجين( (1) ).
__________
(1) شرح القانون المدني السوري، استانبولي: 4 /3060.(13/30)
بل إن محكمة النقض نصت على أبعد من ذلك فقالت:"تعامل الأزواج بالسندات- الذي يمنع من اعتبار القرابة سبباً لمخالفة قواعد الإثبات في قانون البينات- لا يمنع وقف التقادم المنصوص عليه في المادة 379 مدني على السند المحرر بين الزوجين " ( (1) ).
فلا داعي إذاً من تخوف المشرع- كما ذكر في الأسباب الموجبة للتعديل- من أي اجتهاد معاكس، إذ ثبت مما تقدم أن التعديل الوارد على ( 60 / ف 2 شخصية ) إنما هو تأكيد لأمر مستقر قانوناً، فلا داعي له. إلا إذا أراد المشرع التأكيد على إلغاء العمل بالمجلة في هذا الشأن( (2) )، وكان يمكنه الإحالة إلى ما ورد في قانون البينات والقانون المدني.
القسم الثالث: ( الطلاق )
المواد المتعلقة بموضوع الطلاق بشكل مباشر وشملها التعديل هي:87- 88- 117.
أما المادة ( 87 ) بعد التعديل فقد دمجت بين المادتين ( 87, 88 ) السابقتين على التعديل,لذلك لاداعي للتوقف عندها ,إذ إنها تغيرت من حيث الشكل فقط وبقيت بحرفيتها.
أما المادة ( 88 ) بعد التعديل فهي مادة جديدة تم اثباتها مكان ( م 88 سابقة ), ونصها:
(( 1-إذا قدمت للمحكمة معاملة طلاق أو معاملة مخالعة أجلّها القاضي شهراً آملاً بالصلح.
__________
(1) نقض مدني سوري 366 أساس 348 تاريخ 28 / 5 / 1968 ) شرح القانون المدني، استانبولي: 4 / 3065 – 3066. وتأكد ب( نقض سوري 47 أساس 452 تاريخ 28 / 1 / 1979) شرح القانون المدني، استانبولي: 4 / 3078 وما بعدها.
(2) قانون الأحوال الشخصية، نجاة قصاب حسن: ص 92، شرح قانون الأحوال الشخصية، صابوني: 1/293، وتجدر الإشارة إلى أن المجلة قد حددت التقادم للديون بخمس عشرة سنة م ( 1660 مجلة ) ولم تعتبر القرابة الزوجية مانعاً أدبياً يوقف مرور الزمن ( نقض أساس 450 قرار 448 تاريخ 16/10/1967م ) قانون الأحوال الشخصية، استانبولي: 1/ 291.(13/31)
2- إذا أصر الزوج بعد انقضاء المهلة على الطلاق أو أصر الطرفان على المخالعة دعا القاضي الطرفين واستمع إلى خلافهما وسعى إلى إزالته ودوام الحياة الزوجية , واستعان على ذلك بمن يراهم من أهل الزوجين وغيرهم ممن يقدرون على إزالة الخلاف.
3- وإذا لم تفلح هذه المساعي سمح القاضي بتسجيل الطلاق أو المخالعة واعتبر الطلاق نافذاً من تاريخ إيقاعه.
4- تشطب المعاملة بمرور ثلاثة أشهر اعتباراً من تاريخ الطلب إذا لم يراجع بشأنها أي من الطرفين )).
-هذه المادة محدثة,وفكرتها طيبة وكذلك القصد منها,وهو أن لا يكون بعد صدورها طلاق أمام القاضي قائم على التسرع,وأن يحمل الأزواج على التبصر فيما يقدمون عليه من تحطيم للرابطة العائلية,لاسيما حين يكون هناك أولاد يتضررون من الطلاق(1). فهذه المادة أعطت القاضي صلاحيات واسعة للإصلاح من الناحية النظرية.
-وهذه المادة تتعلق باجراءات إحدى حالتي الطلاق المعتاد بين الناس, إذ الطلاق يقع بمجرد النطق به, وقد نصت ( م 87 شخصية ) فقالت((يقع الطلاق باللفظ والكتابة)).
إلا أنه لابد من تسجيل للطلاق حتى تترتب عليه آثاره القانونية ,كما سبق تسجيل الزواج من قبل,وهذا التسجيل إما أن يكون بعد وقوع الطلاق وإما أن يكون بطلب من الزوج قبل إيقاعه(2).
وقد نصِ الاجتهاد القضائي على ما يأتي:
"يشترط لتطبيق الاجراءات المنصوص عنها في المادة 88 أحوال شخصية أن لا يكون الزوج الذي يتمتع بحق الطلاق قد أوقعه فعلاً, وذلك رغبة من واضع القانون في إفساح المجال أمام الزوج للتبصر في النتائج المترتبة على الطلاق,أما إذا أوقعه فيصبح تثبيته واجباً لأنه من النظام العام ويتعلق به حق لله تعالى"(3).
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية,نجاة قصاب حسن,109, 110,شرح قانون الأحوال الشخصية للصابوني 2/48.
(2) شرح قانون الأحوال الشخصية للصابوني 2/48.
(3) قرار 254 أساس 243 تاريخ 7/5/1978 ) الاجتهادات القضائية لشمس 2/1118.(13/32)
وجاء في آخر:
"... و لا حاجة لمنح الزوجة مهلة للصلح التي أتت على ذكرها المادة 88 من قانون الأحوال الشخصية لأن ذلك يطبق حين يقدم الزوج معاملة الطلاق إلى القاضي الشرعي بصفته الولائية وأما فيما عدا ذلك فلا يحتاج إلى هذه المهلة المفروضة للتروي واحتمال الصلح لعدم الجدوى وعلى ذلك استقر الاجتهاد" (1).
فإذا ثبت الطلاق لدى القاضي كان عليه أن يحكم به ويسجله ولو بدون طلب وادعاء لأنه من النظام العام (2).
- إلا أن هذا النص المستحدث ( م 88 ) معطل من الناحية العملية لأمور:
1- لا تقوم المحاكم عملياً بدعوة أحد من أهل الطرفين أو سواهم للمداخلة,ولعل ذلك لعدم وضوح الإجراءات الواجبة الاتباع في هذا الشأن ,وحبذا لو أصدرت وزارة العدل قراراً تنفيذيا يوضح الإجراءات ومنها دعوة الزوجين لسؤالهما عن الأهل والأصدقاء الصالحين للمداخلة لدعوتهم وإجراء محاولة المصالحة بينهما خلال الشهر المحدد لذلك(3),أما الآن فهذا الشهر متروك بلا مداخلة القضاء ولا رقابة منه.
2- إن كثرة الأعباء الملقاة على كاهل القضاة وكثرة الدعاوى لديهم حالت دون تطبيق القضاة الشرعيين لهذه المادة من الناحية العملية إلا من حيث مرور المدة الزمنية الإجبارية-وهي شهر- لقبول تسجيل الطلاق أو المخالعة.
3-إن من الخطأ القول بأن القانون قد منع الطلاق منعاً مطلقاً بهذه المادة ,لأن الطلاق حق شرعي لايلغى,كما أنه الحل المناسب في بعض الحالات(4).
__________
(1) قرار 594 أساس 327 تاريخ 6/11/1988 )الاجتهادات القضائية لشمس 2/1132.
(2) الغرفة الشرعية 156 قرار 152 تاريخ 1963 ) الاجتهادات القضائية لشمس2/1091.
(3) قانون الأحوال الشخصية لنجاة قصاب حسن,ص 107.
(4) قانون الأحوال الشخصية لنجاة قصاب حسن ص108.(13/33)
4-ساهمت هذه المادة في التقليل من ايقاع الطلاق والخلع أمام القاضي, إلا أنها لم تقلل من وقوعهما خارج المحكمة,إذ يلجأ كثير من الأزواج إلى إيقاع الطلاق خارج المحكمة أو أثناء سير الدعوى ثم يتقدمون بطلب لتثبيته, فيصدر القاضي الشرعي حكماً بذلك وليس له أن يمتنع لأن الطلاق من النظام العام.
- وفي الواقع:إن الناس يلجؤون إلى حكم ( م 88 شخصية معدلة ) لجهة الطلاق فقط,لأن وثيقة الطلاق التي تصدر بالنسبة لها تكون نافذة قابلة للتسجيل في السجل المدني على قيد الزوجين فوراً,بينما لايلجؤون إلى نفس المادة بالنسبة للمخالعة, لأن المخالعة تكون بالتراضي, وإذا حصل التراضي بينهما خارج المحكمة وأرادا تثبيتها لديها تقدموا بدعوى لذلك دون الحاجة لمدة الشهر المنصوص عليها في القانون,وبإمكانهما أن يسقطا حقهما من الطعن بالحكم- بالنسبة للمخالعة-التي تمت بالترضي وصدر الحكم بتثبيتها.
- وأكرر التأكيد على أن هذه المادة من أحسن المكاسب التي أهداها تعديل قانون الأحوال الشخصية إذا أحسنّا استعمالها وتطبيقها,فهي دعت للسعي للإصلاح ,ثم نصت على شطب المعاملة بعد مرور ثلاثة أشهر إذا لم يراجع بشأنها أي من الطرفين ,وفي هذا حث للنفس الإنسانية على أن تهمل الدعوى بتسجيل الطلاق أو المخالعة والسعي للصلح بدل متابعة هذه الدعوى.
-على أن مبدأ السعي للإصلاح بين الزوجين مقرر في الشريعة الإسلامية بأكثر من آية,إذ حث القرآن الكريم عليه بمجرد الخوف من الشقاق بين الزوجين,وحث المرأة على أن تكون ساعية لاستمرار التوافق والتراضي مع زوجها, وأمرها أنها متى خافت من زوجها نشوزاً أو إعراضاً عنها أن تسعى لإيجاد أسباب الصلح وانجاحه.
أما المادة ( 117 ) بعد التعديل فنصها:(13/34)
(( إذا طلّق الرجل زوجته وتبين للقاضي أن الزوج متعسف في طلاقها دون ما سبب معقول وأن الزوجة سيصيبها بذلك بؤس وفاقة جاز للقاضي أن يحكم لها على مطلقها بحسب حالة(1) ودرجة تعسفه بتعويض لا يتجاوز مبلغ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها فوق نفقة العدة وللقاضي أن يجعل دفع هذا التعويض جملة أو شهرياً بحسب مقتضى الحال )).
والمشرع قد عدّل من هذه المادة قوله في النص السابق ( مبلغ نفقة سنة ) فقط واستبدل بها قوله ( مبلغ ثلاث سنوات ) وهو بالتالي رفع سقف تعويض الطلاق.
وقد جاء في الأسباب الموجبة للتعديل أنه تبين بالتطبيق وفي حالات كثيرة أن جعل الحد الأعلى للتعويض بسنة لايتناسب ومقدار مايلحق بالزوجة من الضرر في بعض الأحيان ,لذلك رفع سقف التعويض إلى ثلاث سنوات.
وغاية هذا التعديل نبيلة ,وهي محاولة إنصاف المطلقة تعسفاً مما وقع عليها من ظلم,لكن مقتضى الحال يوجب علينا أن نتوقف وقفة مجملة مع المادة ( 117 ) كاملة:
- إن هذه المادة أعطت صلاحية أوسع للقاضي في تقدير التعويض الجابر المناسب, والقاضي مخيّر في الحكم بتعويض من عدمه إذا تبين له أن الزوجة سيصيبها بؤس وفاقة بسبب هذا الطلاق,إلا أن الملاحظ على هذه المادة ما يأتي:
1]-لقد جعلت المادة الحكم بالتعويض أوعدمه أمراً اختيارياً للقاضي, وكان ينبغي على المشرع أن يُلزم القاضي بالتعويض المادي متى وجدت العلة التي من أجلها وضعت المادة المذكورة,إذ الحكم يدور مع علته.
__________
(1) بعض الكتب تثبت كلمة ( حاله ) بالهاء بدل التاء الربوطة, وهو مخالف لما ورد في الجريدة الرسمية.ولعله خطأ مادي ورد في الجريدة الرسمية يتعين تعديله, لأن مقدار التعويض مربوط بالحالة المادية للمطلق, وبدرجة تعسفه.(13/35)
2]-إذا وجدت العلة –التي من أجلها وضعت المادة-في المطلقة طلاقًا غير تعسفي فلا يحكم لها القاضي بالتعويض المادي المناسب ليخفف عنها من وطأة البؤس والفاقة!!وقد يجاب عن ذلك بأن المشرع قد شرط للحكم بالتعويض إذا أراده القاضي شرطين هما:
أ )-وقوع الطلاق تعسفياً: بأن يكون من غير سبب معقول مشروع,والملاحظ عليه:
1. إن هذا الطلاق التعسفي ظلم,إلا أن عقابه دياني لا قضائي,وليس للقانون من رقابة على ذمم الناس ونياتهم,والطلاق حق مشروع للزوج لا يشترط لصحة استعماله –من الناحية القضائية-وجود مسوغ معقول,إذ هو بذاته حق ممنوح له, ولا خلاف في أن قصد المشرع هو حماية الزوجة- وهي الجانب الضعيف- من الظلم الذي يقع عليها من الطلاق التعسفي,لكن الطريق الصحيح لذلك لا يكون بالتضييق على الحقوق الممنوحة للآخرين.
2 . معالجة المشرع هنا معالجة لآثار الطلاق التعسفي لا لسببه, فإقرار المشرع بأن التطليق حق للزوج منعَه من حرمانه له لذلك سعى إلى معالجة آثاره إذا وقع تعسفياً.
3. وَإضافة لذلك:فالأصل أن حق إنشاء عقد الزواج ابتداءً هو للزوج, فلماذا لا يكن له حق انهائه كذلك من غير تضييق؟
على أن الرجل إذا تزوج امرأة بنيّة الإضرار بها وظلمها فإن القاضي لن يحاسبه على نيته هذه,بل حسابه على الله تعالى,إضافة إلى أن الزواج قد يكون أشد وطأة على المرأة,لوجوب الطاعة عليها ومتابعة زوجها...في حين أن الطلاق هو انفكاك لسلطة الزوج على زوجته وبالتالي قد تكون فيه النجاة لها من الظلم الذي كان سيقع عليها.
4. إذا طلبت المرأة المخالعة من زوجها ففاوضها على مبلغ كبير فرضيت-ولو مرغمة لتفتدي نفسها-فإن الخلع صحيح,ولايحاسب الزوج عن أثر ذلك في المرأة,بل يطالبها ببدل الخلع ليقبضه!(13/36)
5. وإذا ذهبنا إلى جواز تفويض الزوج لزوجته حق تطليق نفسها منه, فطلقت نفسها منه من غير ما سبب معقول فإن القضاء لايحكم بكون هذا الطلاق تعسفياً يوجب عليها تعويضاً مالياً لزوجها,بل نعلل بالقول:
إن المرأة اشترطت على زوجها أن يفوضها في حق من حقوقه-وهوإيقاع الطلاق-ورضي الزوج بذلك. فالمادة ( 117 ) تحاسب صاحب الحق الأصلي إن استعمله- ولو تعسفاً- ولا تحاسب وكيلته إذا ما استعملته من غير سبب مشروع.
ب )-توقع إصابة المطلقة تعسفاً بالبؤس والفاقة:والملاحظات على هذا الشرط:
1.إن القانون لم يحدد المراد من البؤس والفاقة ودرجتهما,وهل المعتبر هو حال أدنى الناس معيشة أم من فوقه؟ والأمر غير منضبط,فما يكون فاقة بالنسبة لبعض الناس قد يكون كفاية لآخرين,مع أن المشرع جعل العبرة لمقدار النفقة هي حال أمثال الزوجة المطلقة.
2.لم يحدد القانون المراد من التعويض في الطلاق التعسفي:هل هو الرجعي أم البائن,ومن نافلة القول أن مراده الطلاق البائن.والأصل أن الطلاق البائن تنتهي به رابطة الزوجية بمجرد وقوعه,وكان الأجدر بالمشرع أن يذكر هنا استحقاق المرأة المطلقة طلاقاً بائناً لمهرها بمجرد وقوع هذا الطلاق لا بانتهاء العدة, كما تقدم في المادة ( 54/5 شخصية معدلة ),وذلك عوضاً عن إلزام الزوج المطلق بالتصدق على مطلقته(1).
__________
(1) استقر الاجتهاد على أن المطالبة بالتعويض عن الطلاق التعسفي لاتكون إلا بعد انتهاء العدة الشرعية للمطلقة.( نقض سوري-الغرفة الشرعية أساس 328 قرار 426 تاريخ 31/5/1982 ) قانون الأحوال الشخصية لاستانبولي 1/663 وما بعدها.وتجدر الإشارة إلى أن مهر المرأة لادخل له في اعتبار المرأةبؤس من عدمه,فهي تقبض مهرها كاملاً وتكون لها النفقة أيام العدة –ولايحسب ذلك في غناها-ثم تأخذ التعويض عن الطلاق التعسفي إذا وجدت شروطه!(13/37)
3]-رفع تعديل المادة ( 117 ) سقف التعويض المادي إلى ثلاث سنوات,وهو توسيع على المطلقة تعسفاً,لكنه ساهم كثيراً في ظلم المرأة –وهو ما حاول المشرع المنع منه-,إذ قد دفع الأزواج بهذا التعديل إلى الإمساك بزوجاتهم والإضرار بهن دون تطليق حتى يضطروهن إلى المخالعة,فتكون المرأة هي المؤدية للمال الذي تحتاج إليه لرفع فاقتها,فهذا التعديل قد أدى إلى عكس الغرض الذي وجد من أجله.
4]-إن رفع المشرع لسقف التعويض المادي لم يحل المشكلة بشكل كامل,إذ لو حكم القاضي لها بمقدار نفقة ثلاث سنوات وافترضنا أنها تكفيها لتعيل نفسها ثم عادت معوزة بائسة فإن العلة التي من أجلها وضع المشرع قد تكرر وجودها, ومع ذلك فإنه لايُحكم للمطلقة بتعويض جديد على مطلقها.
وقد يكون قصدُ المشرع من وضع حد أعلى للتعويض هو حماية الأزواج من فرض مبالغ كبيرة عليهم,إلا أن تحديد سقف التعويض "بسنة أو ثلاث" لم يؤد الغرض منه كاملاً بل أدى إلى العكس من ذلك:
إذ لو فرض القاضي للمطلقة طلاقاً تعسفياً تعويضاً مادياً بمقدار نفقة ثلاث سنوات مثلاً ثم اغتنت أو تزوجت تلك المطلقة فإنها لاترد هذا التعويض أو ما تبقى منه على الزوج السابق,وهذا ظلم للزوج الذي فُرض عليه التعويض كي لا تُظلم المرأة فتحول الظلم عليه.
5]- وعطفاً على ما تقدم في الفقرة ( 5/أ- السابقة ):فإن المرأة إذا طلقت نفسها من زوجها من غير سبب معقول وكان بائساً فقيراً فلا يُحكم عليها بشيء مع أنها تكون قد زادت في بؤسه وفاقته,لأنه سيبحث عن زوجة جديدة بعقد ومهر جديدين وهو ما لا يستطيعه, فمقتضى القياس على ( م 117شخصية ) أن نحكم عليها بتعويض لتوافر الشرطين: عدم وجود مسوغ, وتوقع إصابته ببؤس وفاقة,والفوارق بين الزوجين وواجباتهما لا تأثير لها في مثل هذه الحالة.(13/38)
6]- إن ظاهر نص المادة ( 117 ) يدل على ماإذا كان الطلاق قد وقع فعلاً قبل الحضور إلى المحكمة أو أثناء سير الدعوى ,ولم يتعرض لحالة تقديم الزوج معاملة لإيقاع الطلاق,كما هو مذكور في ( م 88 شخصية معدلة ) التي لم تنص على صلاحية منع القاضي لطالب تسجيل الطلاق من إيقاعه ولو كان متعسفاً فيه,مما يؤكد على أنه حق له,وإنما يسجله القاضي إذا أصرّ عليه الزوج ثم ينظر في الحكم عليه بتعويض مادي.
7]- بيّن مشروع قانون الأحوال الشخصية أنه أوجب التعويض عن الطلاق التعسفي للمرأة الفقيرة,أخذاً من استحباب المتعة للمطلقة ومن أن للحاكم أن يأمر بالمندوب أو المباح إن كان فيه مصلحة شرعية فيصير واجباً عند فقهاء الحنفية,إلا أن الفقهاء المسلمين قالوا بالمتعة للمطلقة على كل مطلِّق طلق زوجته,غنية كانت أم فقيرة,لسبب أو بدون سبب(1).
- لهذه الأسباب وغيرها:
اقترح على المشرع مراجعة المادة ( 117 شخصية ) بكاملها,والأجدر أن تندب المحكمة الأزواج لتقديم متعة لكل مطلقة ,وأن تقدم الدولة للمطلقة الفقيرة طلاقاً تعسفياً معونة مالية ورعاية اجتماعية وتعمل على وعظ الأزواج وتخويفهم من عواقب الظلم عند الله تعالى للتقليل من وقوع الطلاق التعسفي.…
والله تعالى أعلم.
القسم الرابع:( الحضانة )
المواد المتعلقة بموضوع الحضانة وتناولها التعديل ولها تأثير في الواقع هي:139-142-146-147-148-170.
المادة: ( 139 )
أضاف التعديل عليها الفقرتان ( 2, 3 ) فأصبح نصها بعد التعديل:
((1- حق الحضانة للأم فلأمها وإن علت فلأم الأب وإن علت فللأخت الشقيقة فللأخت لأم فللأخت لأب فلبنت الشقيقة فبنت الأخت لأم فبنت الأخت لأب فللخالات فللعمات بهذا الترتيب ثم للعصبات من الذكور على ترتيب الإرث.
2- لا يسقط حق الحاضنة بحضانة أولادها بسبب عملها إذا كانت تؤمن رعايتهم والعناية بهم بطريقة مقبولة.
__________
(1) شرح قانون الأحوال الشخصية للصابوني, 2/53.(13/39)
3- للحاضن أماً كان أو جدة أن تطلب من القاضي تسليمها الصغير وعلى القاضي أن يقرر هذا التسليم دون قضاء خصومة بعد التأكد من قرابتهما بوثيقة من أمانة السجل المدني ويقرر أيضاً للصغير نفقة موقتة على من يراه مكلفاً بها ويجري تنفيذ قرار القاضي من قِبل دائرة التنفيذ المختصة ولمن يعارض في التسليم أو في النفقة وجوباً أو مقداراً أن يتقدم إلى المحكمة المختصة بالادعاء للتظلم من هذا القرار وتخضع الدعوى لإجراءات وطرق الطعن في الأحكام الشرعية ولا يؤثر رفع هذه الدعوى على تنفيذ القرار المذكور إلا حين صدور حكم مبرم )).
أما الفقرة الثانية فقد زيدت بهذا التعديل للقانون, وجاء في الأسباب الموجبة لإضافتها:
"إن العمل لم يعد بالنسبة لشعبنا الذي يكافح من أجل تنمية ثروات الوطن مجرد حق للمواطن بل أصبح كذلك واجباً عليه لم يفرق المشرّع فيه بالأصل بين الرجل والمرأة, لذلك تضمن المشروع نصاً صريحاً بأن عمل الحاضنة لا يحجب عنها حقها في الحضانة ,إلا أن النص كفل في ذات الوقت رعاية المحضون فأوجب على الحاضنة التي تعمل تأمين استمرار هذه الرعاية بوسيلة مقبولة".
ولا يخفى من هذا التعليل الحماس الشديد لواضع مشروع القانون تجاه العمل والدعوة إليه, وأنه لم يفرق في حق العمل ووجوبه بين الرجل والمرأة.
ومكانة العمل دينياً واجتماعياً لا تخفى على أحد ,إلا أن مبحث الحضانة من أهم مباحث الأحوال الشخصية,لأن الحاضن تقوم بأهم وأخطر عمل وهو إنشاء الإنسان وتربيته وتهيئته ليكون فرداً صالحاً في المجتمع وهو الثروة الأهم في المجتمع, وأغلب اللائي يخرجن للعمل إنما يهدفن إلى تحصيل أسباب السعادة لأولادهن,فالعمل وسيلة-وأصبحت واجبة كما سبق في الأسباب الموجبة للتعديل- والتربية الصالحة غاية حساسة جداً تتأثر بالانشغال عنها ولو قليلاً.(13/40)
- ولا ننكر ضرورة خروج الحاضن للعمل في بعض الحالات ,إلا أن العمل والاستراحة منه لهما أثر سلبي في حق الطفل في الحضانة.
- وقد حاول القانون الجديد أن لا يهدر حق المحضون في الرعاية, فاشترط على الحاضن التي ترغب بالخروج للعمل مع احتفاظها بحق الحضانة أن تؤمّن استمرار الرعاية للمحضون أثناء غيابها بوسيلة مقبولة,وعلى ذلك ملاحظتان:
1- إن صيغة التعليل الوارد لإيجاد الفقرة الثانية من هذه المادة توحي باهتمام المشرع بحق الحاضن في الخروج للعمل أكثر من الاهتمام بحق المحضون, وفي هذا هضم لشيء من حقوق المحضون وكأن مهمة الحَضن ليست بعمل, لذلك لم تحظ باهتمام المشرع بالعمل, أما إن كان القصد هو تحصيل المال للإنفاق عليه فيمكن للقاضي أن يفرض نفقته على المسؤول عنه أو حتى على الجهات الممثلة للمجتمع مقابل أن تتفرغ الحاضن لأداء مهمتها تجاه المجتمع على النحو الكامل.
2- في سبيل الحفاظ على حق المحضون قَبل القانون من الحاضن العامل أن توجد البديل أثناء غيابها,وفي الغالب تقوم الحاضن بوضع المحضون عند جارتها أو في دور الحضانة وغير ذلك ,وقد يكون البديل غريباً عن المحضون أو لا تتوافر فيه الصفات التي بسبب توافرها في الحاضن منحه القانون حق الحضانة,"وهي البلوغ والعقل والقدرة على صيانة الولد صحة وخلقاً" (م 137 شخصية),وكان الأجدر بالقانون أن ينزع حق الحضانة ممن كانت مضطرة للخروج للعمل أو قدمت حق العمل على الحضانة ووضعه عند من يليها في الدرجة من الأقرباء الذين يتفرغون للتربية ,والأعمال الخطيرة تتطلب التفرغ لأدائها بشكل صحيح وبخاصة في عصر أضحت فيه التربية أكثر تعقيداً.وسيأتي بعض البيان كذلك عند الحديث عن (م 146 معدلة) التي رفعت سن الحضانة.(13/41)
- وإذا تصفحنا عدداً من الاجتهادات القضائية والفقهية السابقة على تعديل هذه المادة نلحظ أنها كانت تميل للتشدد أكثر لصالح المحضون ,فكانت تعد غياب الأم عن البيت لأربع أو سبع ساعات للعمل سبباً لنزع حق الحضانة منها إلا إذا كان عملها يسمح بأن تصطحبه معها وأن يكون تحت إشرافها أثناء العمل(1).
- ولقد قررت محكمة النقض ما يأتي:
"الحضانة ليست حقاً للحاضن فقط وإنما هي حق للمحضون أيضاً كما هو عليه الاجتهاد"(2).
والحضانة حق للمجتمع ومسائلها من النظام العام(3).
لذا فإني أدعو المشرع للاهتمام بحق المحضون,لأن الحضانة حق للحاضن وواجب عليه.
-وأخيراً: نبهت محكمة النقض إلى أن حق الحضانة إذا نزع ممن لم تكن أهلاً له ثم زال سبب نزع الحق منها فإنه يمكن أن يعود هذا الحق إليها.ونص القرار:
"إسقاط الحضانة ليس له صفة الدوام,فمتى زال السبب الموجب له عاد حق الحاضنة بالحضانة إلى الوجود طبقاً للقاعدة الفقهية:إذا زال المانع عاد الممنوع"(4).
أما الفقرة الثالثة المضافة أيضاً:فقد جاء تعليل إضافتها في الأسباب الموجبة، ونصه:
__________
(1) للاطلاع على عدد من الاجتهادات القضائية بهذا الخصوص يرجى مراجعة:المرشد في قانون الأحوال الشخصية لاستانبولي 1/652-655 ومابعدها,والأحكام القضائية لشمس 2/739-760.واظر :شرح قانون الأحوال الشخصية للصابوني 2/234 ومابعدها.
(2) نقض سوري –الغرفة الشرعية أساس 288 قرار 255 تاريخ 23/5/1984 ) المرشد في قانون الأحوال الشخصية لاستانبولي 1/652.
(3) الغرفة الشرعية-70-قرار 70 تاريخ 4/3/1963 ) الأحكام القضائية لشمس 2/735-736.
(4) قرار 417 القضية 287 بتاريخ 3/5/1986) الأحكام القضائية الشرعية لشمس 2/786, ونص المادة (141 شخصية ):((يعود حق الحضانة إذا زال سببه)).(13/42)
" تداركاً لبقاء الصغير بلا حاضن ولا نفقة أثناء المنازعة في حق الحضانة وهو أمر لم تعالجه النصوص النافذة، فقد أجاز المشروع اتخاذ تدبير مؤقت لهاتين الحالتين بأن نص على أن للحاضنة أماً كانت أو جدة لأم أن تطلب من القاضي تسليمها الصغير مؤقتاً دون قضاء خصومة مع تقدير نفقة مؤقتة لها وأبقى باب التظلم من هذا التدبير مفتوحاً أمام من يدعي الإضرار به ".
والفقرة الثالثة هذه ساوت بين ما درج عليه القضاة من تسليم الرضيع إلى حاضنته المرضعة فوراً وبين تسليم كل ولد محضون إلى حاضنته ولو كان أكبر من سن الرضاع طالما أنه لم يتجاوز سن الحضانة. وقد كان استلام الحاضنة يتطلب من قبلُ دعوى قد تستغرق شهوراً عديدة، فجاءت الفقرة الثالثة المزيدة لتسهل على الأم والجدة لأم وحدهما من الحاضنات استلام الولد فوراً بقرار يتخذه القاضي بشرح على العريضة عن طريق دائرة التنفيذ مع تقرير نفقة مؤقتة للطفل، وتكون المعارضة بدعوى تقدم بالتظلم من هذا القرار(1).
فالمرأة إذا طالبت بالحضانة: بُلغ واضع اليد بإخطار تنفيذ، ويحق له خلال خمسة أيام أن يبدي وجهة نظره لرئيس التنفيذ، فإن رئيس التنفيذ يحيله إلى المحكمة المختصة ليثبت بوثيقة من السجل المدني أو شهود أن هذه الحاضنة متزوجة من غريب أو أنها قد زورت بعض الأوراق أو غير ذلك من الأسباب العاجلة، فإن القاضي يأمر حينها بوقف التنفيذ، وهذا هو المطبق عملياً من القضاة الشرعيين.
والمشرع لم يوفّق بزيادة عبارة ( إلا حين صدور حكم مبرم )، لأن على القاضي بمجرد ثبوت عدم أهلية الحاضن لاستلام المحضون أن يسارع فوراً إلى وقف قرار التسليم ولا مسوغ لانتظار صدور حكم مبرم حتى يُعمل آثار وقف التنفيذ.
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة حسن: ص 141.(13/43)
وما تقدم هو فيما إذا لم يسلّم واضع اليد المحضون إلى الحاضن، أما إن كان قد سلّمه فعليه بعد أن يرفع الدعوى بالطعن في حضانة الحاضن أن ينتظر إلى أن يصدر حكم مبرم بإعادة الوضع إلى ما كان عليه. وفي هذا إضرار بالمحضون وبحق الحاضن الصالح للحضانة بتأخير التسليم إليه.
لكن هذه المادة أجحفت في حق حضانة الأب للولد؛ لأنه لا زال يحتاج لإقامة خصومة ليتولى حضانة ولده، وقد تستغرق أشهراً أو سنوات وقد تمتد حتى يكبر الولد ويستغني عن الحضانة ويصل إلى سن التخيير، فيكون الأب قد حُرم من ابنه !
م 142
ونصها بعد التعديل ((أجرة الحضانة على المكلف بنفقة الصغير وتقدر بحسب حال المكلف بها)).
كان النص قبل تعديل عام 1975 يحصر أجرة الحضانة بما لا يزيد عن نصف النفقة المقدرة فصارت مطلقة عن هذا الحد.
وجاء في الأسباب الموجبة للتعديل أن تحديد النفقة بما لا يزيد عن نصف مقدار نفقة الصغير لم يعد ملائماً في كثير من الحالات التي تكون فيها مصلحة للصغير بزيادة أجرة حضانته إذا سمحت ظروف المكلف بها بذلك، فوسع التعديل مقدار النفقة، وهو أمر حسن فيه فائدة للمحضون، فقد تكون المحضون فتاة بحمى منغولية مثلاً، ثم تصل إلى سن البلوغ فتحتاج إلى رعاية ونفقات أكثر لما تترتب عليها من واجبات جديدة للتنظيف وغيره.
م 146 + 147
نص المادة (146 ) بعد التعديل: (( تنتهي مدة الحضانة بإكمال الغلام التاسعة من عمره والبنت الحادية عشرة )).
جاء في الأسباب الموجبة للتعديل: " استناداً إلى توصية اللجنة المشتركة برفع سن الحضانة. ونظراً لتزايد حاجة الصغير إلى حضانة النساء في وقت تطورت فيه الحالات التي لا يستغني فيها الصغير عن تلك الحضانة، لذلك نص المشروع على رفع سن الحضانة وجعلها تسع سنوات للذكر وإحدى عشرة للأنثى".
ونص المادة (147) بعد التعديل:(13/44)
((1- إذا كان الولي غير الأب فللقاضي وضع الولد ذكراً أو أنثى عند الأصلح من الأم أو الولي حتى تتزوج البنت أو يبلغ الصبي سن الرشد .
2- وفي حال ضم الولد إلى الأم أو من تقوم مقامها تلزم بالنفقة مادامت قادرة على ذلك.
3- إذا ثبت أن الولي ولو أباً ,غير مأمون على الصغير أو الصغيرة , يسلمان إلى من يليه في الولاية وذلك دون إخلال بحكم الفقرة الأولى من هذه المادة )).
وهذه المادة مستحدثة وجاءت عوضاً عن مادة سابقة.
-كان سن الحضانة في ( م 146 ) قبل التعديل سبع سنوات للغلام وتسع للبنت, وكانت (م147 ) قبل التعديل تجيز للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير إلى تمام تسع سنين والصغيرة إلى إحدى عشرة.
فالملاحظ أن ( م 146) بعد التعديل أقرت ماكان جائزاً للقاضي في ( م147 ) قبل التعديل فأصبح سن الحضانة سبع وتسع سنوات مع ترك الفقرة الأولى من ( م 147) الأمر قابلاً للزيادة أيضا ,ثم تم رفع سن الحضانة فعدلت ( م 146 ) عام 2003 بالقانون رقم 18 مرة ثانية ,ورفع سن الحضانة للغلام إلى ثلاث عشرة سنة والبنت إلى خمس عشرة سنة!!
*-والملاحظ على المادتين (146-147) معدلتين ما يأتي:
1- إن رفع سن الحضانة بهذا الشكل حرم الأب من تربية أولاده ,وبخاصة البنات, إذ أصبح سن الحضانة ينتهي مع دخول البنت سن الزواج, وكثيراً ما تلجأ الأمهات إلى تزويج بناتهن مبكراً لحرمان أبيهن من رعايتهن أو الأشراف على تربيتهن وسلوكهن,مما قد يؤدي إلى إخلال في تربيتهن .
2- كان المشروع لتعديل المادة (146)عام 2003 أن يرفع سن الحضانة سنتين لكلٍ,فصدر القانون مخالفاً له ورفع سن الحضانة أربع سنوات لكلٍ!(13/45)
وقد بررت الأسباب الموجبة لرفع سن الحضانة رفع سن الحضانة بتزايد حاجة الصغير إلى حضانة النساء...ثم زيد سن الحضانة أربع سنوات دفعة واحدة وما أظن أن حاجة الصغير لحضانة النساء قد زادت عما كانت عليه من عام (1975-2003) إلى ضعفي ما كان قبل عام 1975. وكان للمشرع في سعيه لرعاية حاجة الصغير المتزايدة للحضانة والرعاية أن يجعل من غياب الحاضن عن منزلها للعمل سبباً موجبا لنزع حق الحضانة منها ,لا أن يرفع سن الحضانة, لأن حاجة المحضون في السنوات الأولى من عمره للرعاية أوكد منها فيما بعد,كما أنه لا فائدة من تمديد سن الحضانة إذا كانت الحاضن لن توفيه حقه بنفسها لاضطرارها للخروج للعمل ,فهل سيزيد المشرع في سن الحضانة أكثر إذا لم تكف رعايته على السن المقرر حاليا؟ ( راجع فقرة 2 مادة 139 شخصية معدلة).
3- إن الفقرة الأولى من المادة (147) كانت تغني عن تعديل (146) عام (2003) ,وبما أنه قد تم تعديلها بما يتناسب مع حاجة المحضون للحضانة –كما ذكر المشروع-فلم يبق من مبرر لبقاء الفقرة الأولى من (م 147) فبقاء الطفل للبلوغ عند أمه أو للزواج بالنسبة للفتاة لا يختلف كثيراً عما عليه القانون حين أعطى الخيار للقاضي بضم الطفل لأمه إذا لم الأب ولياً له.
أما الفقرة الثانية من ( م 147 ) فجاءت قيداً ضرورياً للحد من مطالبة الأم أو غيرها بعودة الطفل إليها، فالطفل إليها، فإذا أعطيت الأم أو من يقوم مقامها من الحاضنات رعاية الولد بعد انتهاء سن الحضانة لم يكلف الأب أو الولي بالنفقة إذا كانت الحاضنة قادرة على الإنفاق، فالغنم بالغرم، أما إذا لم تكن قادرة على النفقة فتجب النفقة هذه على من تجب عليه أصلاً. وفي جميع الأحوال يبقى الأمر بيد القاضي ليقرر من هو الأصلح والأقدر على تربية المحضون(1).
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة حسن: ص 145، شرح قانون الأحوال الشخصية, صابوني 2 / 257 .(13/46)
وهذا هو المفهوم من النص، وقد كان الاقتراح قبل ذلك لا يتعلق بالنفقة وإنما بأجرة الحضانة، ولعل المشرع يعيد النظر في هذه الصياغة، لأنه لا معنى لتكليف الأم بالنفقة إذا كان الأب أو الولي قادرين عليها(1).
أما الفقرة الثالثة من ( م 147 ) فأجازت للقاضي أن يضع الولد عند الأم أو من يقوم مقامها بدل أن يضعه عند الولي إذا لم يكن أباً، فإذا كان الولي مثلاً جداً غير حسن السيرة أو كان في بيته أولاد لا يؤتمنون على الصغيرة فللقاضي أن يعهد بالصغيرة إلى أمها وفق أحكام الفقرتين السابقتين(2).
والفقرة الثالثة قالت: ( إذا ثبت أن الولي ولو أباً ) ولا داعي لهذه الإضافة ( ولو أباً ) وكان يكفيه أن ينص ( إذا ثبت أن الولي.. ) فتعم الأب وغيره، على أن الفقرة الأولى من نفس المادة ( 147 ) تفترض أن الأب أصلح دائماً، فما كان ينبغي على الفقرة الثالثة أن تناقض ما ذكرته في الفقرة الأولى، وكان يكفي أن تكون الفقرة الأولى كما يلي:
للقاضي وضع الولد ذكراً أو أنثى عند الأصلح ... .
م 148
ونصها بعد التعديل:
(( 1- ليس للأم أن تسافر بولدها أثناء الزوجية إلا بإذن أبيه.
2- للأم الحاضنة أن تسافر بالمحضون بعد انقضاء عدتها دون إذن الولي إلى بلدتها التي جرى فيها عقد نكاحها.
3- ولها أن تسافر به داخل القطر إلى البلدة التي تقيم فيها أو إلى البلدة التي تعمل فيها لدى أي جهة من الجهات العامة شريطة أن يكون أحد أقاربها المحارم مقيماً في تلك البلدة.
تملك الجدة لأم نفس الحق المعطى بالفقرتين ( 2, 3 ) السابقتين .
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة حسن: ص 145.
(2) قانون الأحوال الشخصية، نجاة حسن: 145 – 146.(13/47)
لكل من الأبوين رؤية أولاده الموجودين لدى الآخر دورياً في مكان وجود المحضون وعند المعارضة في ذلك فللقاضي أن يأمر بتأمين هذا الحق وتعيين طريقة تنفيذه فوراً دون حاجة إلى حكم من محاكم الأساس وعلى من يعارض في الإراءة أو في طريقتها أن يراجع المحكمة وتطبق على من يخالف أمر القاضي أحكام المادة( 482 من قانون العقوبات ).
ونص الأسباب الموجبة لتعديل هذه المادة هو: (( تلافياً للغموض الذي يسود النصوص المتعلقة بسفر الصغير مع حاضنته أماً كانت أو جدة لأم، ومنعاً لتعسف الولي في منع الحاضنة من السفر، وفي تذليل بعض القيود التي ما زالت موجودة في النص النافذة بهذا الشأن، فقد تضمن المشروع تنظيماً جديداً لأمر سفر الصغير مع أمه بعد انقضاء الحياة الزوجية إذا كان السفر لإقامة الحاضنة في بلدتها أو في البلدة التي تعمل فيها لدى إحدى الجهات العامة شريطة أن يكون أحد أقربائها المحارم مقيماً في تلك البلدة. كما نظر المشروع إجراءات حق الإراءة وبسّطها إذ جعلها بدون قضاء خصومة مع بقاء حق التظلم للمتضرر أمام المحكمة )).
-أما الفقرة الأولى: فهي مثبتة حرفياً كما كانت قبل التعديل.
-أما الفقرة الثانية: فطرأ عليها تغيير بسيط,فقد كان نصها ((ولها أن تسافر به بعد انقضاء العدة دون إذن الأب...)) فالعبارة السابقة نصت على ذكر الأب بينما العبارة المعدلة عممت لتشمل كل ولي.
-أما الفقرة الثالثة:فمستحدثة بالكامل ومنحت الأم حق السفر بالمحضون بدون إذن الولي إلى أي بلد في القطر تقيم فيه أو تضطرها ظروف العمل إلى الانتقال إليه إن كانت موظفة لدى إحدى الجهات العامة,شريطة أن يكون لها في هذا البلد قريب محرم(1).
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة حسن: ص147.(13/48)
وقد عللت الأسباب الموجبة للتعديل فقالت:"تلافياً للغموض الذي يسود النصوص المتعلقة بسفر الصغير مع حاضنته أماً كانت أو جدة لأم ,ومنعاً لتعسف الولي في منع الحاضنة من السفر ,وفي تذليل بعض القيود التي مازالت موجودة في النص النافذة بهذا الشأن..."
-واضح أن هذا الفقرة الجديدة قد وسعت وسهلت من حركة الحاضن, وجاء ذلك تماشياً مع توجه المشرع من اعتبار خروج المرأة الحاضن للعمل سبباً غير مسقط لحضانتها,وسفرها هذا مشروط بشرط مهم وهو وجود قريب محرم لها في البلد الذي ستسافر إليه, لكن هذا التعديل قد يتخذ سبباً للإضرار بالمحضون أو أبيه,لذلك اقترح أن يضيف المشرع هذه القيود على المادة المعدلة حتى يمكنها أن تسافر دون استئذان الولي, وهي:
1-أن يحضر القريب المحرم إلى القاضي ويتعهد بقبول إقامة قريبته ومحضونها لحين تأمين مسكن مناسب لها.
2-وأن يتعهد كذلك بالإنفاق عليهما لحين وصول نتفقة ولي المحضون إليها.
3-أن يرافقها المحرم في أثناء سفرها من وإلى البلد الذي ستسافر إليه إذا كانت البلدة الجديدة تبعد أكثر من مسافة القصر.
-أما الفقرة الرابعة فهي مستحدثة كذلك,ولاحاجة لها لأنها تكرير للفقرة الثالثة,وكان يغني عنها أن تكون عبارة الفقرة الثانية على النحو الآتي:
للأم الحاضنة أو الجدة لأم الحاضنة....
وأن تكون عبارة الفقرة الثالثة على النحو الآتي:
ولهما أن تسافرا ...
-أما الفقرة الخامسة فهي مستحدثة كذلك, وأحدثت حكماً جديداً وجيداً فيما يتعلق بالإراءة, إذا لم تعد حاجة إلى دعوى لتأمين الإراءة وإنما صار يكفي التقدم باستدعاء إلى القاضي ليقرر هذه الإراءة, وأعطي القاضي حقاً واسعاً وشديد المرونة في تأمين الإراءة على أن تكون الإراءة في مكان وجود المحضون فلا تجبر الحاضنة أو الولي على السفر بالمحضون إلى بلد الآخر...
أما من يخالف أمر القاضي أو لاينفذه فيحال إلى المحكمة الجزائية... ويخضع للمادة(482 عقوبات).
ونص(م 482 عقوبات):(13/49)
(( الأب والأم وكل شخص آخر لا يمتثل أمر القاضي فيرفض أو يؤخر إحضار قاصر لم يتم الثامنة عشرة من عمره يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبالغرامة مائة ليرة )).
ونصت المادة التالية عليها على تخفيض العقوبة على المخالف بشروط(1).
م 170
أضاف التعديل فقرة جديدة هي الفقرة الرابعة,ونصها:
((4- يعتبر امتناع الولي عن اتمام تعليم الصغير حتى نهاية المرحلة الإلزامية سبباً لإسقاط ولايته وتعتبر معارضة الحاضنة أو تقصيرها في تنفيذ ذلك سبباً مسقطاً لحضانتها)).
وجاء في الأسباب الموجبة للتعديل "نظراً لما نص عليه الدستور من كفالة حق التعليم للجميع ..."
وهذا التعديل مهم جداً, لأن النص السابق قصر العقوبة على الولي فيما إذا قصّر دون المرأة,مع أن السنوات الأولى من عمر الطفل مهمة جداً للطفل, وبخاصة تتزايد الحاجة في زماننا للتعلم الذي أصبح من مقومات الحياة المهمة.
مع الإشارة إلى أن التعليم الإلزامي في سورية بعد تعديله يمتد إلى الصف التاسع.
الخاتمة
تبين مما سبق أن واضع القانون السوري قد سعى في تعديله للقانون إلى غايات نص عليها في الأسباب الموجبة للتعديل وحاول الوصول إليها.
وقد وُفق المشرع إلى ذلك في عدد من المواد، ولم يوفق في باقي المواد المعدلة للوصول إلى ما سعى إليه في رأي عدد من شرّاح القانون والمعلقين عليه، وسنلخص ما لاحظناه على تلك المواد، مع دعوة واضع قانون الأحوال الشخصية إلى مراجعة التعديلات السابقة ليتحقق هل أصابت الهدف الذي قصدت إليه أم أنه يحتاج لإعادة النظر في بعض المواد: إلغاء أو تطويراً بما يتناسب مع واقعنا الجديد انطلاقاً من المذاهب الفقهية المعتمدة ومراجعه التي اعتمد عليها، وسنلخص أهم التعديلات ولاحظاتنا عليها.
__________
(1) قانون الأحوال الشخصية، نجاة حسن: ص148, 149.(13/50)
ففي موضوع: تعدد الزوجات، رأى المشرع أن التعدد في المجتمع السوري مشكلة اجتماعية خطيرة لذلك وضع شرطاً إضافياً لجوازه(وجود مسوغ شرعي) لكنه ترك حكم التعدد على الإباحة, ونرى أن هذا الشرط غير ذي جدوى واقعية, إذ يلجأ معظم الناس لمعاملة تثبيت الزواج العرفي المتعدد, فضلاً عن أن المبرر لهذا التعديل غير دقيق لأن الزواج ليس مشكلة اجتماعية في المجتمع السوري .
وفي موضوع:المهر، جعل المشرع السوري المهر ديناً ممتازاً, لدوافع إنسانية ,لكن هذا التعديل على أهميته أصبح يستغل للتهرب من الديون الأخرى من خلال الزيادة الصورية للمهر مما يفوت توقيع الحجز على أموال الزوج من قبل الدائنين,مما يستوجب تعديل النص على نحو يمنع إمكانية استغلال البعد الإنساني من هذا التعديل.
كما ألغى اشتراط التقدم بدعوى بالنسبة للديون المذكورة في وثيقة النكاح أو الطلاق,وفي هذا تيسير كبير على الناس وعلى القضاء لكنه بذلك حوله من سند رسمي إلى سند عادي، ومع ذلك لم يفقده حجيته، وكان الأجدر بالمشرع عندما جعل دين المهر ديناً ممتازاً لا أن يضعف الوثيقة ( صك الزواج ) التي ورد فيها ذكر المهر.
كما أن المشرع حافظ على حق المرأة في المهر من أن يقبضه غيرها بغير إذنها ,فاشتراط كون أي تعديل أوإبراء من المهر أن يكون أمام القاضي,لكنه لم يفرق بين الثيب والبكر,إذا كانت كاملة الأهلية, لكن في هذا التعديل بعض الثغرات , إذ يجوز أن تقبض مهرها كاملأ خارج المحكمة بينما لايصح أي تعديل فيه مهما كان صغيراً ولو بزيادته ! كما أن لها أن تهب جميع أشياءها الجهازية مهما كانت قيمتها خارج المحكمة...
وفي موضوع: الطلاق, فقد قصد المشرع إلى التقليل من وقوع الطلاق وعدد الفرص للعدول عنه أو الصلح, وذلك بتأجيل معاملة الطلاق أو الخلع لمدة شهر وإسقاطها بعد ثلاثة أشهر إذا لم تتابع, وفي حال مرور شهر مع الإصرار عليها يقوم القاضي بمساعي الإصلاح فإن تعذر أخذت الدعوى مجراها.(13/51)
لكن المشرع لم ينص على آلية السعي للإصلاح مما فتح المجال للقضاة لإغفال تطبيقه لاسيما مع كثرة الدعاوى ومشاغل القضاة, فالنص مهمل في الواقع إلا بالنسبة للشهر.
كما أن المشرع رفع سقف التعويض المادي عن الطلاق التعسفي إلى مقدار نفقة ثلاث سنوات وجعل الأمر اختيارياً للقاضي, مما أضر بالزوجات أكثر حيث لجأ الأزواج إلى الإمساك بهن إضراراً وإلجاءً لهن للمخالعة, فضلاً عن تناقض ذلك مع اعتبار القانون الطلاق حقاً مقرراً للزوج من غير تقييد.
وفي موضوع: الحضانة, لم يعتبر المشرع خروج الحاضنة للعمل مسقطاً لحقها بالحضانة, لكنه اشترط تأمين حاضن بديل أثناء الخروج للعمل, لكن ذلك ليس من مصلحة المحضون إذا استطاع الولي تأمين حاضن متفرغ لرعاية المحضون.
كما سهل المشرع إجراءات استلام المحضون بالنسبة للأم أو الجدة لأم فلم يشترط الدعوى بذلك واكتفى بعريضة يوقع عليها القاضي,لكن المشرع اشترط صدور حكم مبرم لاسترداد المحضون إذا تبين عدم أهلية الحاضن, وهذا يفوت المصلحة التي من أجلها ألغي اشتراط الدعوى لاستلام المحضون إذ يبقى المحضون عند حاضن غير أهل طيلة فترة الدعوى التي قد تطول لأشهر عديدة.
كما أن المشرع أحسن إذ جعل تقدير أجرة الحضانة حسب الحاجة دون تقييد كما كان سابقاً, لتغير تكاليف الحياة تبعاً لاختلاف الزمان والمكان.
وفيما يتعلق بسن الحضانة فقد رفعه المشرع بتعديلين ليصل إلى 13 للغلام و 15 للبنت بدعوى زيادة حاجة المحضون لفترة أطول من الرعاية بسبب تعقد الحياة,لكنه بذلك حرم والد المحضون من رعاية أولاده وربما للأبد فيما لو تزوجت البنت وكان يغني عن هذا التعديل الاكتفاء بالفقرة الأولى من ( م 147) التي تخول القاضي في تقدير ماهو أنفع للمحضون.(13/52)
كما سمح المشرع للحاضن بالسفر للعمل في بلدة أخرى داخل القطر مع المحضون دون استئذان الولي بشرط أن يكون لها قريب محرم في ذلك البلد, وفي هذا توسيع لحركة الحاضن بما فيه مصلحة لها, واقترح أن يضيف المشرع هذه القيود على المادة المعدلة حتى يمكنها أن تسافر دون استئذان الولي, وهي:-أن يحضر القريب المحرم إلى القاضي ويتعهد بقبول إقامة قريبته ومحضونها لحين تأمين مسكن مناسب لها.وأن يتعهد كذلك بالإنفاق عليهما لحين وصول تفقة ولي المحضون إليها.وأن يرافقها المحرم في أثناء سفرها من وإلى البلد الذي ستسافر إليه إذا كانت البلدة الجديدة بعيدة.
وأحدث المشرع حكماً جديداً وجيداً فيما يتعلق بالإراءة, إذ لم تعد الإراءة بحاجة إلى دعوى وإنما صار يكفي التقدم باستدعاء إلى القاضي ليقررها, وأعطي القاضي حقاً واسعاً وشديد المرونة في تأمينها
كما أدخل المشرع تعديلاً مهماً إذ اعتبر امتناع الحاضن عن تعليم المحضون سبباً مسقطاً لحقها في الحضانة وكان العقاب مقصوراً في السابق على الولي المقصِّر في التعليم فقط,وهذا مهم جداً في زماننا لأهمية التعلم وضرورته .
ما تقدم هو أهم التعديلات الواردة على قانون الأحوال الشخصية الوري النافذ منذ عام 1975 إلى يومنا هذا، وقد سجلنا ملاحظاتنا على هذه التعديلات في ضوء الأسباب الموجبة لها وما يترتب عليها من أثر في الواقع العملي والقضائي.
والله من وراء القصد.
والحمد لله أولاً وآخراً
الدكتورمحمود بركات
كلية الشريعة – جامعة دمشق
Barakat_m2001@yahoo.com
قائمة المصادر والمراجع (1)
1-الأحكام القضائية الشرعية في ظل قانون الأحوال الشخصية,المحامي محمود زكي شمس,مطبعة الداودي ,دمشق,ط1 (1425-2004).
2-الإسلام عقيدة وشريعة, الشيخ الأكبر محمود شلتوت, ط6, (1972), دار الشروق, بيروت, القاهرة.
__________
(1) أذكر هنا المعلومات المدونة على المراجع دون الحاجة للإشارة إلى المعلومات غير المذكورة عليها.(13/53)
3-التشريع الجنائي الإسلامي,الأستاذ عبد القادر عودة,دار الكتاب العربي,بيروت.
4-تعدد الزوجات بين الشريعة الإسلامية والقانون:جريمة جنائية أم ظاهرة اجتماعية,د.عبد الرحيم صدقي,مكتبة نهضة الشرق,جامعة القاهرة,(1986).
5- تعدد الزوجات من النواحي الدينية والاجتماعية والقانونية,د.عبد الناصر العطار,سلسلة البحوث الإسلامية (مجمع البحوث الإسلامية –الأزهر), السنة الرابعة, الكتاب السابع والأربعون, (صفر1392 =1972) , طبع الشركة المصرية.
6-تقنين أصول المحاكمات السوري في المواد المدنية والتجارية,شفيق طعمة وأديب استانبولي,ط1, (1994),المكتبة القانونية,حرستا-دمشق.
7-التقنين المدني السوري, شفيق طعمة وأديب استانبولي,ط1,(1988),دار الأنوار, دمشق.
8-الزواج والطلاق وآثارهما لدى الإسلام والمسيحية واليهودية,إعداد وتنسيق المحامية غادة همج,تقديم محمد عدنان شربجي,المكتبة القانونية,دمشق,ط1,(2001).
9-شرح قانون الأحوال الشخصية, د.مصطفى السباعي, دار النيربين, دار الوراق, بيروت, الرياض, ط9, (1422=2001).
10- شرح قانون الأحوال الشخصية السوري, د.عبد الرحمن الصابوني, المطبعة الجديدة, دمشق,كتاب جامعي لكلية الشريعة بدمشق,(1404=1984).
11-شرح القانون المدني السوري,محمد أديب استانبولي,تقديم خليل العكة,ط1,(2000).
12-الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان,الشيخ الأكبر محمد الخضر حسين,المطبعة التعاونية,دمشق,(1391=1971).
13- قانون الأحوال الشخصية,تنسيق وتحقيق محمد أديب استانبولي,تقديم المستشار سعدي أبو جيب,(2000),يطلب من مكتبة الفارابي ,دمشق.
14- قانون الأحوال الشخصية مع شرح قانوني وإنساني كامل,الأستاذ نجاة قصاب حسن,ط2,(1985),كتاب العائلة,رقم 1.
15-قانون البينات في المواد المدنية والتجارية والشرعية,الأستاذ جورج كرم,مطبعة الشرق لحلوح.(13/54)
16-المرجع في قضاء الأحوال الشخصية ,المستشار أحمد الداغستاني,ط1,(1983),دار الأنوار للطباعة,دمشق.
17-المرشد في قانون الأحوال الشخصية,أديب استانبولي,ط1,(1985),دار الأنوار,دمشق.(13/55)
بسم الله الرحمن الرحيم
التحكيم والتوفيق كمطور للقضاء الشرعى فى العصر الحاضر
د.الحاج الدوش الاستاذ المشارك بكلية الشريعه
والقانون ورئيس قسم الفقه المقارن
تمهيد
لا شك ان الحاجة الى إشاعة روح الاجتهاد فى الفقه الاسلامى هى إحدى ثمرات العقل المسلم التى تفتح آفاقا جديده لتطبيق احكام الشريعة الاسلاميه فى كل المجالات –وحيث ان القضاء هو أحد المحاور التى ترمز فى تحقيق الطمأنينة وتحقيق العدالة بن أفراد المجتمع بصورته الحاليه فى عالم اليوم ذلك المجتمع الذى لا يمكن حصره فى داخل أقليم محدد جغرافياً فى ظل تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية فأن التحكيم والتوفيق يعتبران من ضمن الاجراءت البديلة للقضاء فى قصل المنازعات وفى احيان اخرى فهو رافد اصيل يدعم القضاء فأن هذا البحث يهدف الى الوقوف حول طبيعة التحكيم والتوفيق من الناحية العملية التطبيقية على واقع الامة الاسلامية وتطبيقة فى واقع معاش بغية الوصول الى تطوير القضاء الشرعى فى العهد الحاضر سيما بعد ان اتجهت كل الشعوب المسلمة الى تطبيق التحكيم فىالمعاملات التجارية بصوره كبيره دون الاعتزار بالتحكيم والتوفيق فى المسائل المدنية ألاخرى والجنايات والاحوال الشخصية وفقه الاسره والفقه الدستورى ونجده ..................الخ
وتكون الحاجة الى هذا البحث فى ظل ركود وظيفة المجتمع فى رأب الصدع وحل بعض المشكلات الصغيرة فى واقع الحياه بعد تمدد بعض الثقافات الاخرى على المجتمع الاسلامى
هذا البحث ينشد الاجابة عن الاسئلة الاتية
هل يمكن النهوض بالقضاء الشرعى من واقع التحكيم والتوفيق ؟
هل تطبيق التحكيم والتوفيق يساعد على إحياء الاجتهاد الفقهى وتطبيق الشريعة الاسلامية فى ظل ثقافة العولمة ولغة العصر الحاضر ؟
مفهوم القضاء فى الفقه الاسلامى(14/1)
القضاء فى اللغة : (1)هو مصدر للفعل قضى يقضى قضاءاً اى حكم والقضاء هو امضاء الشى واحكامه كلمة القضاء بمعنى الابلاغ وبمعنى الصنع والتقدير قال تعالى (فقضاهن سبع سماوات فى يومين )(2)ويأتى بمعنى الاداء تقول قضيت دينى وقضى زيد دينه اى وفاه ويأتى بمعنى العلم نحو قضيت لك بكذا اى اعلمتك والقضاء عمل القاضى فيقال قضى قضياً اى حكم وفصل
واصل كلمة القضاء قضاى لأنه من قضيت إلا ان الياء لما جاءت بعد الالف ابدلت همزه وجمع قضاء واقضية بالمد ككساء واكسية فيقال استقضى فلاناً اى صيره قاضياً والقاضى هو القاطع للامور المحكم بها
ومن معانى القضاء التحديد قال تعالى (هو الذى خلقكم من طين ثم قضى اجلاً )(3) اى حدد موعداً لموتكم وياتى القضاء بمعنى امر واراد قال تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا ايآه وبالوالدين احسانا )(4)وقال تعالى(واذا قضى ربك امراً فأنما يقول له كن فيكون )(5)وياتى القضاء بمعنى احكم قال تعالى (قالوا لن نوثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما انت قاض انما تقضى هذه الحياة الدنيا)(6)والمحلاظ من تعريفات القضاء انها كلها ترجع الى مفهوم واحد وهو امضاء الشى او إحكامه او تقديره وضبطه كما ان القضاء والحكم من المتقابلات اللفظيه فيقال القضاء ويقصد به الحكم ويطلق الحكم ويراد به القضاء
القضاء فى الاصطلاح :
تفاوتت تعريفات القضاء عند فقهاء مذاهب الفقه الاسلامى على معانى اصطلاحية كثيرة
فالحنفية يعرفون القضاء بأنه (هو الفصل فى الخصومات وقطع المنازعات على وجه مخصوص)(7)
وعرفه بعضهم بأنه (القضاء قول ملزم يصدر فى ولاية عامة )(8)
والمالكية يعرفون القضاء بأنه (هو الاخبار عن حكم شرعى على سبيل الالزام )(9)
وعرفه بعضهم بأنه (صفه حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعى ولو بتعديل او ترجيح لا فى عموم صالح المسلمين )(10)(14/2)
ويذهب الشافعية فى تعريفهم للقضاء بأنة (الالزام من له ولاية الالزام بحكم الشرع فى الوقائع الخاصة )(11)
ويذهب الحنابلة الى القول ان القضاء هو (الالزام بالحكم الشرعى وفصل الخصومات والحكم انشاء لذلك الالزام ان فان كان فيه الالزام او اباحة الاطلاق ان كان فى الحكم الاباحة )(12)وذهب بعض الفقهاء المعاصرين الى تعاريف كثيرة نوجز منها ما يلي :-
يقول الشيخ على قراعه بأن القضاء هو(فصل الخصومات بأظهار حكم الشارع فيها على سبيل الالزام )(13)
عرفه الدكتور محمد الزحيلى بأنه هو سلطة الفصل بين المتخاصمين وحماية الحقوق العامة بالاحكام الشرعية (14).
مقارنة وترجيح يتضح من تعريف القضاء فى الفقه الاسلامى انه متقارب مع المقصود بالقضاء فى اللغة ً ويتضح من تعريفات الفقهاء القدامى والجدد حول القضاء فى مفهوم الفقه الاسلامى أنه جاء على اجتهادات متفاوتة تستند الى افكار القضاء فى الفقه من ضرورة ان يكون القضاء مستمداً قوتة من الولاية العامة وان يكون القضاء ملزما بقوة السلطان وضمان تنفيذه جبراً . كما أن هناك أمور أحدثت التفاوت بين التعاريف وهى الزامية القضاء فى الحقوق العامة والخاصة والتباين حولها فبينما ترى بعض التعريفات ضرورة ذكرها يرى بعضها عدم ذلك ، ولكن مهما يكن من خلاف بين الفقهاء فأن القواسم المشتركة فى الفقه هى :-
1-أن القضاء يهدف الى قطع النزاعات بين المتنازعين سواء كانوا خصوماً لدد او غير ذلك سواء تعلق الحق بعموم مصالح المسلمين العامة ام بخصوصها
2-ان شرط استناد القاضى لولاية عامة او خاصة هو أمر فقهى موضوع إجتهاد حيث اشترطه البعض واسقطه البعض الاخر ولكنة الثابت هو ان تكون للقاضى ولاية على المتنازعين بالقدر اللازم لانفاذ حكمه واحترامه وتقديسه(14/3)
3-التعريف الراجع لدينا هو أن مفهوم القضاء فى الفقه الاسلامى هو( القطع فى المنازعة بحكم الشارع من جهة الاختصاص )وخرج بقولنا (منازعة )مفهوم الخصومة اذ ليس كل من ولج باب القضاء هو خصم لصاحبة لان سبب دخول باب القضاء هى الحقوق وليس الشخوص فتتعلق الخصومة عادة بالشخصية ولذا لا يجوز تعريف القضاء بالنظر الى اشخاص اطراف النزاع إذ قد يتصور وجود نزاع بدون خصومة كالهبه ونحوها .
وخرج بقولنا (الشارع ) كل قضاء ليس له مستند شرعى من نص شرعى او ولاية قضاء او ولاية عامة او خاصة . فكل ما قطع منازعة واستند الى أحكام الشرع فهو قضاء .اما عبارة جهة الاختصاص فتشمل القضاة وغيرهم ممن اسند اليهم مهمة الفصل فى النزاعات على سبيل التفويض
ولم يرد فى التعريف عنصر الالزام لما فى الالزام بالحكم من نظرات فقهية مختلفة وحيث ان الالزام
له مستقطات كثيرة تنقص من صفه العموم والتجرد التى تشترط فى كل تعريف صحيح و سليم من الناحية البنيوية
هل يعرف القضاء الاسلامى التخصص الدقيق(14/4)
يثور مشكل هنا حول وجود تخصص معين للقاضى فى الاسلام بحيث تكون هناك محاكم مدنية واخرى تجارية وثالثة شرعية والواقع ان اول من تولى القضاء فى الاسلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قاضى ينفرد بأنه مصدر للتشريعات التى يوحيها اليه الله سبحانة وتعالى ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يعين بعض اصحابة كقضاة سواء فى دوائر اختصاص جغرافية محددة كبعثتة لمعاذ بن جبل الى اليمن او ان يحيل بعض القضايا لأصحابة ، واستمر الحال فى الخلافة الراشدة زمن ابو بكر حيث اتسعت رقعة الدولة ولم يكن كما هو الحال فى عهده صلى الله عليه وسلم حيث كانت الدولة بسيطة وكل يعرف حقةومستحقة ويزيد سهولة القضاء فى ذلك الزمن حداثة الاسلام وما عمر بالقلوب من ايمان . وفى عهد سيدنا عمر رضى الله عنه ظهر القاضى المتخصص وذلك لأتساع رقعة الاسلام واختلاط العرب بغيرهم من الامم وكثرت مهام الولاة حيث اوجد عمر قواعد للأختصاص المكانى local jurisdiction ولم تعرف سلطة القضاء فى عهد الخلفاء الراشدين التخصص النوعى . سواء كان حدوداً او تعازير ولا يوجد قاضى شرعى واخر متخصص فى التعويضات (15) ومن هنا يتضح ان تقسيم القضاء الى قضاء مدنى وشرعى وتجارى . وهى مسألة اجتهادية تندرج تحت المصالح المرسلة فى الفقه الاسلامى ويؤيد ذلك أن ولى ألامر فى الدولة الاسلامية هو مرجع الولاية العامة التى تستمد منه كل الولايات سلطاتها ومن بينها ولاية القضاء وبالتالى فأن استخدام ولى الامر (رئيس الدولة )لقواعد التكليف الادارى والتنظيمى هى من باب سلطته التقديرية ، حيث يجوز له حسب تقديره ان يعين القضاة ويضع شروطهم واختصاصاتهم النوعية والمكانية والزمانية ولولى الامر ان يولى قاضياً مطلقاً له الحق فى أن ينظر فى كل شى، ويحكم فى كل انواع الحقوق سواء كانت حقاً لله تعالى او حقاً لاآدمى لانه نائب عن ولى الامر فى باب القضاة نيابة عامة وولاية عامة ولعله من المعقول ان لولى الامر ان(14/5)
يفوض كل شئونه لأحد القضاة او بعضها لأن من ملك الكل ملك الجزء
وقد اجاز الفقهاء رحمهم الله تخصيص القضاة موضعياً اى نوعياً كما اجازوا تخصيصة مكانياً حسب التوزيع الجغرافى وقال كثير من الفقهاء (ويجوز ان يوليه عموم النظر فى عموم العمل بأن يوليه القضاء او العمل او ان يولية خاصة فيهما أى القضاة والعمل ) (16) قال بن قدامة " أنه يجوز لولى الامر أن يولى القاضى خاصة فى نوع معين من القضايا يحدد فى مرسوم التولية ." وهذا المعيار هو الاكثر وضوحاً وشيوعاً فى التدليل على تخصيص القضاء الاسلام
وقد اجاز القضاء ايضاً انه لولى الامر ان يقيد القاضى فى قضائة بقدر معين من المال بحيث لا ينظر فيما زاد عليه وهو بذلك يخرج ما عداه عن اختصاصه ومن سبيل الاختصاص الموضوعى تخصص قاضى بالمسائل المدنية واخر المدينة أن حكمه ينفذ فيما فوض اليه ولاينفذ فيما عداه
(17)وتخصيص القضاة موضوعياًً :-المقصود به ان ولاية القضاء يجوز تبعيضها فيزداد القاضى علماً فيما خصص له ولا يجب ان يكون عالماً إلا بما خصص فيه ويدخل تخصيص القضاء تحت باب السياسة الشرعية فى الفقه الاسلامى إذ ان تنظيم دواوين الدولة من قضاء وشرطة وجهة وديوان للمظالم هى من ضمن أوليات ولى أمر فى الدولة الاسلامية وقد نشطت اجتهادات أئمة المسلمين على مر العصور التاريخية فقد أسس عمر بن عبد العزيز الدواوين وجعلها منتظمة واسس ديوان القضاء والمظالم وبيت المال . ويبدو فى عالم اليوم الحاجة ماسه لتنظيم شئون القضاء فى الدولة المسلمة على ضوء الاجتهاد الفعال الذى يحقق المصالح العامة للمسلمين
ما المقصود بالقضاء الشرعى :-(14/6)
القضاء وقد تقدم بنا معناه اما كلمة شرعى فهى منسوبة الى شرع والشرع كلمة عربية جاءت من اللغة بمعنى البيان والاظهار، ويقال شرع الله كذا والشريعة فى اللغة هى الطريقة المستقيمة وشرعة الماء أى مورد الماء الذى يقصد للشرب، وشرع اى نهج وأوضح وبين المسائل، وشرع لهم يشرع شرعاً اى سن (18)
والشريعة فى الاصطلاح العام :- هى ما شرع الله لعباده من الدين على لسان رسول من الرسل وفى الاصطلاح الخاص ما شرع الله لعبادة من الدين على لسان رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم ) بطريقة الوحى سواء منها ما يتعلق بالعقيدة ام بالاخلاق ام بأفعال المكلفين قطعي الدلالة أم ظنى الدلالة (19)
والتداخل بين التعريفين اللغوى والاصطلاحى ظاهر فى الاحكام الدينيه فسميت الشريعه لاستقامتها وشبهها بمورد الماء لان بها حياة النفوس والعقول كما ان فى مورد الماء حياة للابدان وعلى ذلك يكون به الترادف ظاهر للشرع والشريعة والشرعة . ولذلك ان الشريعة والدين والملة مترادفة فى المعنى ايضاً فتسمى شريعة بأعتبار وضوحها وبيانها واستقامتها وتسمى ديناً بأعتبار الخضوع لها وعبادة الله بها وتسمى ملة باعتبار املائها على الناس لتنظيم حياتهم وشئونهم (20)
وتشمل الشريعة الاسلامية ثلاث أنواع من القواعد هى:
النوع الاول : قواعد العقيدة الدينية وتشمل الايمان بالله تعالى وصفاته والايمان بمعتقدات غيبية فى معظمها كالملائكة واليوم الاخر
النوع الثانى: قواعد الاخلاق وهى تتناول كيفية تهذيب النفس واصطلاحها والارتقاء بها فى مدارج الكمال وضرورة تمسك المسلم بالمثل العليا كالصدق والامانة والوفاء بالعهد(14/7)
النوع الثالث: قواعد السلوك العملية وتشمل جانبين العبادات و هى تمثل صلة الانسان بربه والمعاملات ويندرج تحتها علاقة الفرد بغيرة فرداً او دولة اسلامية بغيرها فى حالتىالسلام والحرب وهذا القسم هو ما اصطلح عليه بالفقه الاسلامى وعبر عنه بعض الكتاب بأنه هو القانون الاسلامى (21) ومن خصائص الفقه الاسلامى ارتباطه بالعقيدة الاسلامية ومشدوداً بها ومن هنا كانت له قداسة دينية وارتباط روحى كما ان لهذا الفقه اصولاً ثابتة وقواعد كليه ونصوص عامة أحاطت بما ينظم مسيرة الحياة الانسانيه ويضمن لها الصلاح والاستقامة افراداً وجماعات فى كل شئونهم الدنيوية والدينية وهذه القيمة هى ما هدفت لها كل الشرائع السماوية منذ بدءها وانتهاءاً برسالة الاسلامية وشريعته الخاتمة التى جاءت من المرونة ما يجعلها قابلة للتطور ومطالب الحياة وكل جديد فى أحوال الناس وأحوال الامم مع اختلاف الازمنة والامكنة ووسيلة هذا التطور وملاحقة الواقعات فى هذا الفقه هى الاجتهاد القائم على الادراك العميق لاسرار الشريعة ومراميها وان ما جاءت به من أحكام تهدف الى اقامة العدل والقسط بين الناس وازالة المظالم والمفاسد فى جميع شئون الحياة التى يبنى عليها نظام المجتمع فى الجوانب الاقتصادية والسياسية والقضائية والاجتماعية ولا ينبغى فهم الشريعة او الفقه الاسلامى وتفسير نصوصه وتطبيق أحكامه بصورة جامدة ثابتة على موقف واحد دائم يتخذه المسلم فى الفتوى فى القضاء او التعليم وان تغير المكان والزمان والعرف والحال بل يجب فى ذلك مراعاة مقاصد الشريعة الكلية ولأهدافها العامة عند الحكم على الامور الجزئية ، و من هنا بقول بن القيم ((ان الفتوى تتغير وتختلف بأختلاف الازمنة والامكنة والاحوال والعوائد والنيات (22)(14/8)
فهل المقصود بالقضاء الشرعى هو القضاء المتعلق بالقسم الثالث من أقسام الشريعة الاسلامية ام المقصود به كل اقسام الشريعة الاسلامية ؟ان للاجابة على هذا السؤال فى تقديرنا أصول تاريخية ترجع الى تطبيق الشريعة فى العالم الاسلامى منذ عهد النبى صلى الله عليه وحتى الخلافة العثمانية مروراً بالغزو الصليبى و الاستعمار فى القرنين التاسع عشر والعشرين فالواقع ان تطبيق الشريعة الاسلامية فى هذه الحقب التاريخية ، يتباين حيث كانت الشريعة الاسلامية مطبقة بالكامل فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة وصارت عملية التطبيق تتناقض بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتى جاء آخر تطبيق للشريعة الاسلامية متبوراً ومقصوراً على جزء من الشريعة الاسلامية وهو جانب المعاملات الخاصة بالمسلمين وقد تم اقصاء الشريعة الاسلامية فى جانب الاحوال الشخصية فقط وهى بأيجار (مسائل الزواج والطلاق –والولاية على القصر والنساء والوقف والوصيه والمواريث وفقهها دون بقية أحكام الشريعة الاسلامية من عقيدة وأخلاقة وحدود وجنايات وساسة شرعية .....الخ )وقد أصطلح على تسمية القضاء الذى يهتم بهذه المسائل بالقضاء الشرعى وغير ذلك من الاقضية فى الجنايات والمعاملات المالية والشركات والقضاء الادارى والدستورى سمى بالقضاء المدنى وصار المستعمر فى البلاد الاسلامية يقلل من أهمية القضاء الشرعى بنعتة بنعوت التخلف عن ركب الحضارة الإنسانية فيما يختص بمضمون القضاء او الاجراءات التى تطبق فيه .وقد تأسس على ضو هذا النعت مصطلح القضاء الشرعى كما ان هنالك مشكل بنيوى فى الفهم الصحيح للمصطلح القضاء الشرعى إذ قد يفهم البعض ان الشرع هنا تعنى مشروع (LEGAL) ولا ينصب الفهم الى المصدر الذى يستمد منه القضاء شرعيته(14/9)
وفى تقديرنا انه يجب تصحيح هذه التسمية فى الدول الاسلامية لكى يكون تحت اسم القضاء فقط دون ان يلحق به لفظ شرعى لأن كل انواع القضاء هى شرعية، وعلى ذلك فالقضاء فى الاسلام هو ذلك القضاء الذى يكون فى الجنايات والحدود والاحوال الشخصية وكل الاقضية الاخرى وكل ما يتعلق بالشريعة الاسلامية بتقسيماتها المختلفة لان قصور مصطلح القضاء الشرعى على مسائل الاحوال الشخصية وفق الاسرة والمواريث بالصورة التى ارساها المستعمر وافرزها تطبيق القوانين غير الاسلامية فى بلاد الاسلام لا يسنده دليل شرعى من الكتاب او السنه كما انها لم تصادف صحيح الاجتهاد من المسلمين بل هى اجتهاد من اعداء تطبيق الشريعة الاسلامية غير جدير بالتأييد .
إذ لا انفصام لعروة الاسلام ولا يجوز إطلاق القضاء الشرعى على جزء يسير من الشريعة الاسلامية وعلى سبيل المقارنة فأن واقع الدول اليوم فى العالم ينقسم حول مدارس القانون المختلفة مثل المدرسة الانجلو سكسونية والمدرسة الانجلو امريكية والمدرسة اللاتينية . ولعله من أول المسلمات به فى فقه هذه المدارس انه لا يجوز تطبيق جزء من احكام المدرسة دون بقية أحكامها اذ يصفون ذلك بالفساد وعدم المواكبة والموائمة وعلى ذلك فأن اخذ كل احكام المدرسة الاسلامية فى التطبيق القضائى هو من باب أولى فكل مدارس القانون أمام فكرة القانون سواء هكذا دأب فقهاء القانون فى العالم فما لهم كيف يحكمون عندما يدور الحديث عن الشريعة الاسلامية ؟
مفهوم التحكيم والتوفيق :-
التحكيم فى اللغة هو من حكم يحكم وحاكمة للحاكم دعاه ، وحكمة فى الامر تحكيماً أى امر ان يحكم فأحتكم وجاز فيه، وحكمة أى فوض اليه الحكم، ويقال حكمنا فلاناً بيننا أى أجزنا حكمه .
والمحكمين بفتح الكاف هم من يستعان بهم فى التحكيم، والمحكمين بكسر الكاف هم اطراف النزاع( 23)(14/10)
وفى الاصلاح هو تولية الخصمين خصماً حكم بينهما (24) وقيل هو اختيار ذوى الشان شخصياً او اكثر فيما تنازعاً فيه دون ان يكون للمحكم ولاية القضاء بينهما(25)
وعرفته مجلة الاحكام العدلية فى الماده 1790 بقولها ان التحكيم عبارة عن اتخاذ الحكمين حاكماً برضاهما يفصل خصوماتهما ودعواهما
وعرفه بعض الكتاب بأنه هو (اختيار الخصمين حاكماً يفصل فيما وقع بينهما من نزاع دون التقيد بالقواعد التى ينبغى اتباعها امام قضاء الدولة (26)
وعرف التحكيم فى القانون النموذجى للتحكيم التجارى الدولى بأنه هو اتفاق بين الطرفين على ان يحيلا الى التحكيم جميع او بعض المنازعات المحدده التى نشأت او قد تنشأ بينهما بشأن علاقه قانونية محدده تعاقدية كانت او غير تعاقدية
ومن التعاريف السابقة يتضح بجلاء ان التحكيم هو نظام عدلى محدد لحل النزاعات بين الخصوم فى داخل الدولة عن طريق آخر غير طريق القضاء فى الدولة ذلك ان التحكيم يتم برغبة طرفى النزاع الواضحة فى ان تحل منازعاتهم بطرق غير القضاء
وان الفقه الاسلامى يعرف التحكيم كوسيلة من وسائل حل النزاعات قال تعالى ("وان خفتم شقاق بينهما فأبعثوا حكماً من أهله وحكما" من أهلها ان يردا إصلاحاً يوفق الله بينهما ان الله كان عليماً خبيرا ")(27)(14/11)
وفى هذه الايه إقرار واضح من الحق عز وجل بأن التحكيم وسيلة من وسائل البعد عن الشقاق بين الخصوم فألاية تقترح الحل فيما اذا كان المكلفين يخشون شقاق الخصوم فعليهم بالابتعاد عنه باللجوء الى التحكيم وهو ان يحل النزاع بطريق آخر غير القضاء لان أهل الزوج او الزوجة ليسو بالضرورة قضاة . وفى هذه الاية دلالة واضحة فيما اذا كان المكلفين يعلمون الشقاق جاء فى تفسير الجلالين ((وان خفتم )) اى علمتم شقاق بين الزوجين فأ اليها برضهما رجلاً عدلاً من اهله اى اقاربه وحكم من اهلها اى اقاربها ويوكل الزوج حكمه فى طلاق وقبول عوض عليه وتوكل هى حكمها فى الاقتلاع او يفرقان ان رأياه ان يريدا اى الحكمان اصلاحاً يوفق الله بين الزوجين اى يقدرهما على ما هو الطاعه من اصلاح او فراق))(28)(14/12)
فيها دلالة واضحة ايضاً على ان فصل الخصومات عموماً يكون بواسطة ولاة الامور الذين انعقدت لهم ولاية القضاء قال تعالى (ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل )(27) وان مفهوم الامر الصادر للمكلفين فى الفقه الاسلامى هو للكافة على السواء وما كان أمر خاصاً ذو طبيعة خاصة فان التكليف فيه يكون بشقين الاول للعامة ويشترك فيه اصحاب الطبيعة الخاصة كالقضاة وولاة الامور والثانى لاصحاب الطبيعة الخاصة دون غيرهم بالاضافة لتكليفهم لما سبق. ومما سبق يستشف ان التحكيم فى الفقه الاسلامى ذو طبيعة خاصة ويأخذ شكلاً محددًا ومميزا عن القضاء وقد يلجأ اليه غير القضاة من المتخاصمين سواء وصل النزاع الى قضاء الدولة المنظم أم لم يصله، فالتحكيم نظام شامل ونظرية مستقلة عن القضاء بل نجد ان الصلح والتصالح والتفادى بين الخصوم هو جوهر الخطاب الموجة للمكلفين بالقضاء من الامة ولعموم المسلمين قال تعالى ("والصلح خير ")(28) وجوهر نظرية التحكيم فى الفقه الاسلامى تقوم على هذه المبادى السمحة الشاملة التى تهدف الى وضع حد للتنازع فى ثوب من تقوى الله(14/13)
اما التوفيق فهو تقريب وجهات النظر بين الاطراف المتنازعة للوصول الى نتيجة وحل ،لذا التوفيق يندرج تحت معنى الصلح وتنطبق عليه شروط الصلح واثاره ويتم التوفيق عادة لهدف الوصول الى حل ودى بين المتنازعين ويتم اختيار الموفقين بأرادة حره من اطراف النزاع او بأقتراح من جهة قضائية او جهة تحكيمية او اى جهه اخرى لها مصحلة فى حل النزاع لذا يقال ان التوفيق يعنى المصالحة دون الاجراءات القضائية او الاجراءات التى يفترضها التحكيم من سماع للبينات واستجلاب للشهود....... وخلافه والتحكيم يشبه الحكم الرضائى . وقد اصبح التوفيق احدى الوسائل المهمة لحل المنازعات فى كثير من الدول فعلى سبيل المثال فقد نصت عليه اتفاقية رؤوس الاموال العربية فى الدول العربية المنعقدة فى عمان 1980م فى اطار جامعة الدول العربية فنص عليه قانون الاجراءات المدنية السودانى لسنة 1983 م قبل ان يتم الغاءه فى 2005م بموجب قانون التحكيم لسنة 2005م حيث جاء فى المادة 139 فقرة 1،2
يحال الامر للتوفيق اما بواسطة القاضى او بناء على طلب الاطراف
اذا رأى القاضى ان الدعوى لسبب موضوعها او علاقة اطرافها صالحة للتوفيق فجوز له ان يقوم بالتوفيق بين الاطراف بنفسه او يعين لهذا الغرض موفقين )
وتنص الماده (31) من قانون التحكيم السودانى 2005م (1- تراعى هيئة التحكيم فى النزاع شروط العقد محل النزاع والاعراف الجاريه فى نوع المعامله . واذا اتفق طرفى النزاع على تفويض هيئهالتحكيم بالصلح جازلها ان تفصل فى النزاع وفقاً لقواعد العداله والانصاف .
2- يجوز الفصل فى النزع ودياً بأتفاق الطرفين واذا اتفقا خلال سير الاجراءات على تسوية تنهى النزاع كان لهما ان يطلبا اثبات شروط التسويه وعلى الهيئه اصدار قرار بمحتويات التسويه ويكون قرارها نهائياً ).(14/14)
والمعلوم ان التوفيق بعد ان تنتهى اجراءته يقوم الموفقون بأصدار حكم لا يصير هذا الحكم صحيحاً الا بعد ان يودع المحكمة ويقوم القاضى بتسجيل ما توصل اليه الاطراف كحكم قضائى ينهى النزاع ويكسب التوفيق والقوة التنفيذية القضائية .
لذا فالتوفيق يندرج تحت معنى الصلح ويأتى فى معنى ومفهوم التحكيم والوساطة بأعتبارها موروث انسانى تكون عبر الزمن وفقاً لحاجة الانسان المتجددة للعيش فى سلم اجتماعى بعيداً عن حمى النزاعات والصراعات ولا يخفى ان الشعوب تتشابه فى مشكلاتها وتقاليدها ودياناتها وكانت العرب تعرف هذه النظم لحل النزاعات حيث كان لهم حكامهم الذين عرفوا برجاحة العقل وسعة الادراك والابتعاد عن الدنايا والتمتع بالحلم والصبر والتواضع والنخوه وكانوا يحكمون فى حل نزاعات العرب فقد حكم سفيان بن حرب بن امية وابى جهل بن هشام وهرم بن قطبة بن سنان الفزارى فى نزاع كان بين الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب وعلاثه بن عوف بن الاحوص حول رئاسة القبيله فحكم فيه بالتسوية على عادة العرب الذين كانوا يحكمون بالسوية فى كل نزاع يرون فيه ان الحكم لأحد الطرفين يأجج العداوه بينهم وكان العرب يلجاؤن الى فض منازعاتهم بعرضها على من لهم علم باعراف القوم وتقاليدهم وامثالهم ، فلم تكن للعرب نائره إلا عرضوها على عمار بن الظرب العدوانى وكان العرب يحتكمون الى اكثم بن صيفى وهاشم بن عبد مناف وعبد المطلب بن هاشم جد النبى صلى الله عليه وسلم وقد تحاكمت قريش وخزاعة الى يعمر بن عوف فى ولاية البيت الحرام وتعهده وكانت العرب تحتكم الى النساء مثل صحر بنت نعمان فى مجال الانساب وهند بنت الحسن الايادى وفوق ذلك تحاكمت قريش الى النبى صلى الله عليه وسلم فى واقعة الحجر الاسود قبل البعثة (29)
انواع التحكيم :-(14/15)
للتحكيم انواع كثيرة يتم التوصل اليها من نظرات مختلفة فمن حيث حرية أرادة المتنازعين فى إختيار التحكيم ينقسم الى تحكيم إجبارى وتحكيم اختيارى وبالنظر الى المكان الذى ينعقد فيه التحكيم والقوانين التى تطبق فيه الى تحكيم وطنى داخلى وتحكيم دولى أجنبى . وسنتاولها على التوالى
اولاً التحكيم الاختيارى
ويعنى هذا النوع ان طرفى النزاع اتجهت ارادتهما بأختيارهما الى التحكيم بدلاً عن القضاء العادى وبالتالى فهم يختارون المحكمين والقانون الواجب التطبيق فى اجراءات التحكيم وفى مضمون النزاع دون الرجوع الى جهة اخرى او شخص اخر سواهما . وقد يكون التحكيم الاختيارى بواسطة مؤسسة او مركز تحكيمى بأن يطلب الاطراف من مركز التحكيم او المؤسسة التحكيمية اجراء التحكيم وتتولى المؤسسة بعد ذلك أختيار المحكمين او الموفقين حسبما ترى وليس للاطرف دور فى إختيار هؤلاء المحكمين او الموفقين ويسمى التحكيم فى هذه الحالة بالتحكيم المؤسسى وقد يكون التحكيم الاختيارى عن طريق التحكيم بأن يتفق الاطراف على اختيار المحكمين مباشرة دون تفويض مؤسسة تحكيمية فى ذلك وهو ما يسمى بالتحكيم الحر . والتحكيم التعاقدى(30) وقد يكون التحكيم الاختيارى مقيد وذلك اذا الزم الطرفان المحكم على تطبيق نصوص القانون فى حل النزاع وقد يكون التحكيم الاختيارى بطريق مطلق وهنا يكون للمحكم مطلق الحرية فى الفصل والنزاع ويجدر بالذكر ان أغلب منازعات التجارة الدولية فى العالم تتم عن طريق التحكيم المؤسس وذلك لعدم وجود قدر من الثقه بين الخصوم فى التحكيم الحر لاسباب قد تتعلق بمسائل الخبرة والحياد ولما لمراكز التحكيم الدائمة من ميزات تتمثل فى وجود قوائم بأسماء محكمين مؤهلين متخصصين فى مجالات متعددة بالاضافة الى لوائحها التى تساعد فى تكملة القصور الناتج من اتفاق الطريفين بشأن اجراءات التحكيم والقانون الواجب التطبيق وغيرها على الرغم من ان التحكيم الحر يتميز بقلة النفقات(14/16)
المالية
ثانياً :- التحكيم الاجبارى :- سبق ان عرفنا ان الاصل فى التحكيم هو حرية ارادة اطراف النزاع إلا ان المشروع فى بعض الاحيان ينص على سلب الاطراف حريتهم فى الذهاب الى لتحكيم بأن يوجب عليهم الالتجاء الى التحكيم وبطريق محدد وواضح بدلاً عن القضاء العادى وهو ما يعرف بالتحكيم الاجبارى وهو يتمثل فى صورتين
الاولى :- ان يفرض المشروع اللجوء الى التحكيم لحل النزاع ويترك للاطراف حرية محدده فى اختيار الموفقين او المحكمين وتحديد اجارءات التحكيم والقوانين التى يريدون تطبيقها على النزاع ومثال ذلك ما ينادى به قانون تشجيع الاستثمار 1999 تعديل 2000-2001 حيث نادت الماده 32 من هذا القانون على حل منازعات الاستثمار عن طريق التحكيم او التوفيق على النحو الاتى :-
(أ) ذكرت الماده 32 (1انه فيما عدا النزاعات التى تحكمها الاتفاقات الوارده فى البند (2 اذا نشأ اى نزاع قانونى متعلق بالاستثمار يعرض للتوفيق او التحكيم
(ب) المادة 32 ( 2 ) جاء فيها بأن تسرى احكام الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الاموال العربية فى الدول العربية 1980 واتفاقية تسوية بين الدول ورعايا الدول الاخرى 1965م والاتفاقات العامة للتعاون الفنى وأى اتفاقية أخرى يكون السودان طرف فيها وذلك على اى نزاع قانونى ينشأ مباشرة عن اى من تلك الاتفاقيات.
فهذه النصوص القانونية ترتبط بمسائل شرعيه فى القضاء و الفقه الاسلامى فى كثير من جوانبها سيما يرتبط بالربا والفائده وغيرها من الشكلات التى تؤثر فى تطبيق الشريعه الاسلاميه فى واقع اليوم ومن هنا تأتى أهمية التحكيم والتوفيق فى تطوير ودعم تطبيق الشريعة الاسلامية عبر المحكم والموفق الاسلامى العالم المجتهد(14/17)
سيما فى ظل العولمة الاقتصادية و القانونية التى تسعى جاهده لتطبيق قانون واحد فى العالم ووسيلتها فى ذلك الاتفاقات والمعاهدات الدوليه ولذا يبقى التحكيم كواحدة من الوسائل التى يمكن فيها الحل لتلافى مشكلات تطبيق الشريعة الاسلامية سيما فى هذه المجالات الدولية.
الصورة الثانيه وهى حالة ما اذا تدخل المشرع وفرض تنظيم الزامى لإجراءات التحكيم فلا يكون لارادة الخصوم اى دور فى التحكيم سواء كان هذا التحكيم الاجبارى عبر مؤسسة او كان تحكيماً حراً سواء كان التحكيم فى هذه الحاله مقيداً او حراً ومثال هذه الصوره ما نص عليه قانون العمل عن طريق التحكيم وحددت المواد من 113-123منه كيفية تشكيل هيئة التحكيم وإجراءات نظر النزاع والقانون الواجب التطبيق ومكافأة اعضاء هيئة التحكيم
وكذلك خظرت لائحه النائب العام فى السودان سنة 1981 (ملحوظه السودان هنا كمثال فقط لواقع القضاء الشرعى فى العالم )جميع الاطراف من اللجو الى المحكمة وهذا يعنى تسوية النزاعات بطريقة وديه عن طريق التحكيم ومهما يكن من امر فاننا نرى ان شمولية مفهوم القضاء الشرعى فأن كل هذه الحالات تدخل فى تطوير اوتأخير مسيرة القضاء فى الدول الاسلامية
ثالثاً: التحكيم من حيث المحل (31 ) ويقصد بالمحل هنا طبيعة المنازعات ووجنسيتها ومكانها والنصوص القانونية الموضوعية والاجرائية الواجب التطبيق فيها ومن خلال هذه النظرات جاء تقسيم التحكيم الى نوعين
1/ تحكيم (وطنى) داخلى وهو التحكيم الذى تكون فيه جميع عناصر التحكيم تنتمى الى دولة واحدة(14/18)
2/ تحكيم دولى خارجى اجنبى وهو ما اختل فيه وصف ما سبق ولكن تكمن الصعوبه هنا فى تحديد معيار الدوليه للتحكيم هل من حيث القانون الواجب التطبيق على إجراءات النزاع سواء كان قانون وطنى ام اجنبى او اتفاقيه دوليه ؟ ام من حيث صدور حكم التحكيم ام من المكان الذى انعقدت فيه إجراءات التحكيم او التوفيق ام من حيث طبيعة النزاع ام العبره بجنسيه او ديانه الخصوم سيما فى المسائل المتعلقة بالاحوال الشخصية والمعاملات التى ترجع الى العقيده والدين كالربا والاحوال المحرمة فى الدين ام العبره بالمحكمه التى تختص أصلاً بنظر النزاع ابتداً ام العبره بالمحكمه التى تتخذ الحكم وتلتزم به الاطراف ام بالمكان الذى يكون فيه تنفيذ الحكم حائزاً ؟(14/19)
ومهما يكن من امر فأن اعمال مثل هذه المشكلات واثارة أمام القضاء الشرعى فأنها من الاهميه بمكان سيما وان دول العالم لم يتصل حتى الان الى ضابط محدد لمفهوم الدوليه فى التحكيم ولكن الشريعه الاسلاميه قد سبقت القوانين الوضعيه اذ ان الخطاب للمكلفين فى الشريعه الاسلاميه لم يكن موجهاً الىحدود جغرافيه محدده حتى تقف أحكامها عاجزه كما هو الحال فى القضاء الوضعى وإنما جاءت أحكام الشريعة الاسلاميه موجهه الى المسلم اينما كان سواء وجد فى دوله غير ذلك فالعبره فى كثير من الاحكام بشخصية ومن هنا نجد ان الشعوبيه التى تكلم عنها سلف هذه الامه هى ما اصطلح عليها الان بالعولمه وبالتالى فأن الشريعه الاسلاميه هى عالمة فى توجهها وفى احكامها لأنها تخاطب الانسان بغض النظر عن حدود الدوله او الاقليم الذى يوجد فيه مع العلم بأن الفقه القانونى الدولة قد اتفق على ان للدولة الحق فى عدم تنفيذ حكم التحكيم اذا كان تنفيذه يودى الى المساس بالنظام العام وهو ما يتوفر فى حالات مخالفه فى الدول سياسيه كانت او اقتصاديه او اجتماعيه ( 32 )انظر التحكيم التجارى الدولى ا.د. محمود مختار بربرى –ص41 دار النهضه العربيه الطبعه الثانيه 1999م
مما سبق فالخلاصة ان التحكيم والتوفيق هما وسائل فض النزاعات وقطع الخصومات تشاركان القضاء فى ذلك ولها مميزات بالمقارنة مع القضاء تكمن فى الاتى :-
1/ سرعة البت فى النزاع اذا ما قورن ذلك بواقع القضاء العادى الذى يستغرق النزاع فيه زمناً طويلاً وذلك لان التحكيم لا يحتاج الى وقت طويل إذا ما قورن بأجراءات التقاضى العادية ومواعيدها وان هيئة التحكيم او التوفيق هى فى العادة هيئة متفرغة فى الفصل فى النزاع فى وقت محدد مما ييسر حسمه فى وقت وجيز خلافاً للقضاء العادى الذى يمتاز ببطء الاجراءات وهذا التباطؤ لا يتلائم مع حركة تنفيذ الالتزامات الشخصية والتعهدات سيما فى هذا الزمن الذى نشطت فيه وسائل الاتصال المختلفة .(14/20)
2/ عدم التقيد بأجراءات المحاكم المرهقة التى قد تصل الى سنوات عديدة بسبب كثرة الطعون والاستئنافات المزدوجة فى النزاع الواحد
3/حرية اختيار المتنازعين للمحكمين او الموفقين تعطى اطراف النزاع نوع من الرضا لا يتوفر فى القضاء ذلك ان الاطراف حينما لجأوا الى التحكيم او التوفيق قد اغلقوا حجتهم بعد ما رفضوا قضاء الدولة
4/ يتشابه القضاء مع التحكيم والتوفيق فى ان كل منهما يوصل الى حكم نهائى بات بيد ان نفقات التحكيم والتوفيق اقل نسبياً من نفقات التقاضى ويرجع ذلك الى قصر مدة التحكيم وقلة الجهد المبذول فيه .
5/ يوفر التحكيم والتوفيق فرصه لأختيار ذوى الكفاءه العاليه والخبره والمقدره على حل النزاع بعكس النزاع
6/التحكيم والتوفيق قد لا يحتاج اطرافهما الى تسبيب الحكم الصادر فيهما سيما اذا تراضيا على ذلك بخلاف القضاء الذى يشترط ذلك بالضرورة
7/ التحكيم والتوفيق يبقيان على علاقة المتنازعين ويؤديان الى صيانتها ورعايتها وتطورها فى جو يودى الى تقويتها وانسجامها مع رغبة المجتمع بعكس القضاء الذى قد يترك اثراً سالباً على هذه العلاقات فى الغالب الاعم وقد يصل الى توطين العداوه فى النفوس بصورة تؤدى الى شبهة الانتقاص من وظيفة القضاء الاجتماعيه فى حفظ المجتمع وتطويره
متي يتم عرض النزاعات علي التحكيم او التوفيق
ان المتنازعين بلا شك لا يلجأون الي القضاء و الطرق الجبرية الا اذا عجزوا من التوفيق او التحكيم او الصلح وفى وقتها يتعين اقامة الدعوى امام القضاء ويكون التحكيم دورا ثانويا ،وعلي كل حال يمكننا ايجاز الصور التي يعرض فيها النزاع علي التوفيق او التحكيم في أحدي الصور الاتية :(14/21)
الصورة الاولي : علي فرض وجود النزاع امام القضاء المختص نوعيا وقيميا واقليميا ثم يجئ اتفاق المتنازعين في وقت لاحق علي احالة هذا النزاع الى التحكيم او التوفيق وفي هذه الحالة يتم التحكيم او التوفيق عبر المحكمة وتحت رقابتها واشرافها ولا تملك المحكمة في هذه الحالة الا الاجابة لطلب الاطرف متي ما تحققت من ان الاحالة للتوفيق او التحكيم قد جاءت بناء علي رضاء الاطراف .
الصورة الثانية : وتتمثل هذه الحالة اذا اتفق الاطراف علي احالة كل نزاعاتهم المستقلية الي التوفيق او التحكيم وفى هذه الصورة يكون لكل خصم بعد نشؤ النزاع الحق فى مخاطبة المحكمة لاستصدار أمر باحالة النزاع الي التحكيم او التوفيق وتخضع هنا الاجراءات لرقابة المحكمة .
الصورة الثالثة : وفيها يتفق الاطراف علي اخضاع نزاعاتهم المستقلبة كلها الي التحكيم او التوفيق خارج ردهات القضاء علي ان يعرض القرار النهائي علي المحكمة لاسياغ روح القضاء و القوة التنفيذية عليه.،
و الملاحظ من مجمل هذه الصور يتضح ان التوفيق و التحكيم يخضعان الي رقابة القضاء من حيث مسيرة أجراءاتهما حتي الوصول الي القرار ومن ثم ايداعة للقضاء بغرض التنفيذ و الالتزام به و الالزام به جبراً ومن هنا يمكننا القول ان التحكيم و التوفيق هما مكملان للقضاء الشرعي او القضاء المدني او التجاري حسب اختلاف مسمياتة في الدول الاسلامية المختلفة (33)
ويلاحظ ان التحكيم لا يتم الا بوجود اتفاق او عقد او شرط بين المتنازعين يتم بموجبة تحويل النزاع الي التحكيم او التوفيق بدلا عن القضاء وعلى ذلك هل يقال ان التحكيم هو استثناء من القضاء كاصل؟ ام العكس هو الصحيح؟(14/22)
ثار خلاف عريض بين المدارس القانونية المختلفة بما فيها الفقه الاسلامي حول مشروعية شرط احالة النزاع من دائرة القضاء الي دائرة التحكيم او التوفيق بأعتبار ان شرط التحكيم او التوفيق فى محوره هو شرط يرد على عقد قائم اصلاً او عقد مستقل جديد بين اطرافه ولأغراض هذه الدراسة نورد منه مايلي (35)
يري البعض ان شرط التحكيم او التوفيق لا يخرج عن كونه عقدا من العقود وعلي ذلك فالحكميين لسوا قضاه في الدولة ولكنهم ملزمون فقط بتنفيذ هذا العقد الي حيز الواقع كما ان اتجاه ارادة الاطراف للتحكيم يجعله عمل ارادي ينظمه العقد وان قوة تنفيذ الحكم الصادر علي ضوء ذلك يستمدها المحكمون او الموفقون من الاتفاق نفسة وعلي ذلك فالتوفيق او التحكيم لايخضعان الي رقابة القضاء و الحكم الصادر فيهما ملزم ولا يجوز الطعن فيه وهذا هو رأي المذهب اللاتيني و الفقه الفرنسي حتى عام 1949م وهو رأي الفقه المصري حتى 1999م حيث استبدل بعدها الي الرأي الثاني .
يري بعض الفقهاء من المدارس القانونية ان التحكيم و التوفيق هما جزء من القضاء بأعتبار ان حسم النزاعات في الدولة هو اختصاص لجهه واحدة هي القضاء فقط فكل من يحسم النزاعات هو قاض ويصفون التحكيم و التوفيق بأنهما هما القضاء البدائي في الدولة قبل ظهور القضاء بثوبة الجديد في عالم اليوم وعلي ذلك فهم يرون ان القضاء هو استثناء من التحكيم و التوفيق . ولا يفرقون بين اللجوء الي القضاء المنتظم في الدولة المتمثل او في السلطة القضائية او اللجوء الي التحكيم والتوفيق فالاول هو قضاء العدالة العامة و الثاني هو قضاء العدالة الخاصة . وذهب لذلك القانون المصري و القضاء الفرنسي مؤخرا و القانون البلجيكي و الاردني.(14/23)
ذهب فريق ثالث الي ان التحكيم و التوفيق هما جزء من القضاء وهما في نفس الوقت يستندان الي فكرة العقد ونظريته فهو نظام مختلط فهو في اوله اتفاق وفي وسطه اجراء وفي آخره حكم وهذا الراي الراجح عالميا في هذا الزمان .
4- وقد ذهبت الشريعة الاسلاميه مذهبا واضحا اذ ان التحكيم والتوفيق يعتبران في الشريعة نظام مستقل متكامل باعتبارهما احدى الوسائل و الاليات التي تحل بها النزاعات وقد دلت عليه الايات الكريمة قال تعالي ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (36)وقوله تعالي ( وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما )(37) فجاءت الدلالة علي التحكيم و التوفيق واضحة لا لبس فيها وقد تقوم بنا ذلك وبالرغم من ذلك فان الشروط التي تلازم العقود في الشريعة الاسلامية هي محل ندب واستحسان ويحث الشارع علي الوفاء بها وقد اقرت الشريعة الاسلامية حرية التعاقد سواء تعلقت بنزاع او خلافه سواء وصل ذلك النزاع أمام القضاء ام لم يصل بعد، بشرط الا تتعارض هذه الشروط مع مقتضيات العقد و الا تخالف او تتعارض مع قواعد الشريعة واصولها و كلياتها ومقاصدها العامة . وقد جاءت نصوص شرعية كثيرة تدل علي الوفاء بالشروط و العقود قال تعالي ( يايها الذين آمنو افوا بالعقود ) (38) وقال تعالي (و أوفوا بالعهد ان العهد كان مسئولا ) (39) وقال (صلى الله عليه وسلم ) (المسلمون عند شروطهم الا شرطا احل حراما او حلل حراما) (40) وقال علية الصلاة و السلام (ما كان من شرط ليس في كتب الله فهو باطل وان كان مائة شرط ) (41) وعلي ذلك فأننا نري انه يجوز اشتراط حل النزاعات المستقبيلة او الحالية بين المسلمين في كل النزاعات التي تكون بينهم سواء وصلوا الي القضاء أم لا مع مراعاة القاعدة الفقهية (ما ثبت بالشرع مقدم علي ما وجب بالشرط) (42) وبناء على ذلك نجد(14/24)
ان هذه النصوص فرقت بين نوعين من الشروط العقديه :-
الاولى :- هى الشروط غير المباحه والثانيه:- هى الشروط المباحه التى لا تتعارض مع الشريعه الاسلاميه ويجب الوفاء بها ولكن هذه النصوص لم تبين الحد الفاصل بين هذين النوعين مما ادى الى اختلاف الاجتهادات الفقهيه فى هذه المسأله ومع هذا الاختلاف الان هناك اجماعاً بين الفقهاء المسلمين على ان الشروط المشروعه يجب الوفاء بها فمن الفقهاء من ابطل كل شرط لم ينص عليه القرآن الكريم ولا يكون الشرط مباحاً عندهم إلا اذا ورد فيه نص خاص وهذا هو راى الظاهريه الذين استندوا على ظاهر الحديث ((كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل )). وذهب الشافعيه والحنفيه الى ان الاصل عندهم هو حفظ الشروط ولكنهم استثنوا بعض انواع الشروط و توسعوا فى ذلك الاستثناء.
وقد قسم فقهاء الحنفية والشافعية الشروط المشروعة المستثناه من مبدا الخطر الى انواع فصلوها على النحو الاتى :- (43) الشروط التى يقتضيها العقد وهذه الشروط ثابته فى مضمونها وان لم يشترطها أحد الاطراف لأنها هى التى تثبت العقد ولا تزيد عليه
الشروط المؤكده او الملائمه لمقتضى العقدوهى الشروط التى تثبت شىً زائدا على ما يوجبه العقد او تنقص منه وتأتى هذه الشروط بناءاً على رغبة احد الاطراف او كليهما . ويشترط لصحة هذه الشروط الا تكون مجهولة او تخفى غرض او مقامرة وإلا اعتبرت فاسدة كما يجب إلا تتضمن هذه الشروط منفعة زائده لا يقتضيها العقد والا اعتبرت باطله لانها تخفى ربا(14/25)
ويدخل شرط التحكيم السابق للنزاع فى مثل هذا النوع من الشروط التى تلائم العقد اذ يضمن شرط التحكيم للمتعاقدين اللجوء الى التحكيم او التوفيق فى اى نزاع قد ينشأ من طريق العقد مما يعنى فعالية الحق مستقبلاً بأن يعرض النزاع على خبراء متخصصين للفصل فيه بدلاً من خضوع الاطراف لقوانين قد يجهلونها سيما فى عالم اليوم الذى تداخلت فيه مصالح المسلمين مع دول العالم المختلفه والحال أنه من الصعوبه الالمام بكل قوانين تلك البلاد وهذه القوانين بالضروره لا تأخذ فى الاعتبار الاعراف والعادات والخصوصيات التى جاءت بها الشريعه الاسلاميه ، لذا فأن شرط التحكيم السابق للنزاع يعتبر مصلحه مرجوه ومعتبره يستمد مشروعيته من التحكيم فى الاسلام
الشروط التى ورد بها نص خاص فى الشريعه الاسلاميه كأشتراط تأجيل الثمن واشتراط الخيار لكل من اطراف العقد والثابت فى الشريعه الاسلامية انما ثبت بالقياس الصحيح يعتبر ما ورد به الشرع.
الشروط التى جرى عليها عرف الناس بشرط الا تعارض نصاً شرعياً فقد جرت الاعراف فى زماننا هذا على اشتراط التحكيم والتوفيق فى حل النزاعات عند كتابة معظم عقود التجارة الدولية والداخلية وبقية المعاملات ولا يوجد ما يمنع مثل هذه الاشتراطات فى عقود الاحوال الشخصية وبقية العقود سيما فى ظل العولمه الاقتصاديه . وبالتالى يجوز اعتبار الشرط السابق للنزاع فى الشريعه الاسلاميه على راى الاحناف والشافعيه
ويتميز الحنفيه على الشافعيه باقرارهم صحة الشروط العرفيه وبالتالى يوسعون من الاستثناء والحظر اما الشافعيه فلم يجعلوا الباب مفتوحاً امام من يجرى به التعامل بين الناس فهم لا يقرون الشروط العرفيه كما ذهب الحنفيه ولكنهم اقروا الشروط التى تدعو اليها الحاجة والتى قد تشترط لمصلحة العقد وتعتبر ملائمه للعقد(14/26)
وذهب المالكيه والحنابله الى عكس ما ذهب اليه الاحناف الشافعيه فالأصل عندهم هو اباحة الشروط ما عدا التى تنافى مقتضى العقد او تناقض الشرع وبالتالى يكون صحة هذه الشروط هو الاصل والاستثناء عندهم هو فسادها (44)
ومما سبق نستشف صحة الشرط باحالة النزاع للتحكيم والتوفيق قبل وجود النزاع وصحة الاتفاق على إحالة النزاع الى التحكيم بعد نشوئه . من واقع الفقه الاسلامى
وقد جوزت القوانين فى اغلب الدول العربية الحالية الشروط التي يمكن ادراجها في العقود من حيث حل مشكلات العقد الحالية و المستقبلية بواسطة آلية التحكيم و التوفيق وتناولت تلك القوانين سلطة القضاء في الاشراف الكلي او الجزئي للتحكيم وشرط و مشارطه التحكيم أبتداء وكيفية سير الاجراءات امام المحاكم المختصة وكيفية خضوع التحكيم و أحكامه للرقابة القضائية الكاملة من حيث الطعن فيه بالاستئناف او النقص . وقد أدي ظهور شرط التحكيم او التوفيق في قوانين هذه البلاد الاسلامية بعد التطور الذي شهدته المعاملات التجارية وازدهار الاقتصاد في القرون الاخيرة في الدول الاسلامية وغيرها .(45)
قابلية النزاعات للتحكيم و التوفيق في الشريعة الاسلامية :-
لقد تناول فقهاء الشريعة الاسلامية هذا الموضوع واختلفوا فيما يجوز التحكيم و التوفيق فيه ومالا يجوز الي عدة آراء:(46)
حيث ذهب رأي الي ان التحكيم يجوز في سائر الامور التي يجوز فيها الاجتهاد من نكاح وبيوع وغيرها ولا يجوز في الحدود الواجبة حقا لله تعالي وذلك لان الحدود لا يجوز فيها الصلح وان التحكيم و التوفيق في معني الصلح . وهذا رأي الحنفية
وذهب الشافعية الي القول بان التحكيم يجوز في كل أمر الا في الحد بخلاف حد القذف وحق الله الذي لا طالب لة معين كالزكاه اذا كان غير محصورين .(14/27)
وذهب فريق اخر الي القول بان التحكيم يجوز في جميع الاحكام (الحدود و القصاص و النكاح و اللعان وغيرها) وذلك بحجة ان من يقوم بالتحكيم المحكم هو كالحاكم تماما فهو ينفذ حكمة في جميع الاحكام وهذا هو رأي الحنابلة رحمهم الله.
ومهما يكن من أمر فاننا نري ان هذه المسأله هى من النوازل فى هذا الزمان التى تحتاج الى اجتهاد فاعل من الفقهاء والمجمع عليه فى هذه الحاله ان الفقه الاسلامي متفق علي ان الحق الخاص بالعبد يجوز فيه التوفيق و التحكيم و بالرجوع الي موضوعات القضاء الشرعي حسب المصطلح الذي وضعه الاستعمار واستعمله فى بلاد المسلمين (مع ملاحظة رأينا حوله) في الدول الاسلامية و العربية منها علي وجه الخصوص يندرج تحت ما يسمي بالاحوال الشخصية من زواج وطلاق ونفقة اقارب و مواريث وولاية عامة وخاصة وهذه في اغلبها حقوق خاصة للعباد يجوز التوفيق و التحكيم فيها لصلاحية التوفيق حولها ذلك ان فقه و مسائل الاحوال الشخصية يقوم فى الاساس على رأب الصدع فى البناء الاجتماعى وتقوية المجتمع باشاعة الفضيله والاخلاق الحميدة بين المتنازعين وان التوفيق والتحكيم كما رأينا يهدفان في الاساس الي حل النزاع بصورة ودية تبعث علي الوئام و ادامة المودة و الرحمة وتقوية العلاقة بين المتخاصمين وتوطين الحلول المرضية للنزاع التى تتقبلها العقول السليمة فى جو من مرآعاة الكليات والمقاصد العامة للشريعه الاسلاميه وهذا مطلب شرعي في قضايا الاحوال الشخصيه وفقه الاسره بالذات ولعل البناء الاجتماعي هو أوجب واجبات ولي ألامر في الدولة و الدولة مسئولة في عالم اليوم عن الرعاية الاجتماعية لكل من خرج من سياج المجتمع. وفى تقديرنا ان لضياع القيم الاجتماعيه وبعد الاسر الاسلاميه والمجتمع المسلم عن التحكيم والوفيق عبر المشائخ والفقهاء وسادة القوم اصحاب الوجاهه والقبول الاجتماعى اثر كبير فى ضعف القضاء الشرعى فى البلاد الاسلاميه فى هذا العصر سيما بعد ان(14/28)
اهملت هذه المؤسسات الاجتماعيه وعطل دورها بفعل التقدم المالى المزعوم وعدم قبول بعض افراد المجتمع الإمتثال بأراء هذه المؤسسات الاجتماعية التى تقوم بوظائفها التحكيمية والتوفيقية فى حل بعض مشكلات المجتمع الصغير والاستعاضه عنها بأجراءات المحاكم والقضاء المنظم التى تكون من القسوه وعدم المرونه فى ما يضيع معه كثير من الاخلاق الحميده والفاضله فى بعض الحالات وذلك لأن القضاء فى الغالب يوجج نفسية المتنازعين ويجعلهما على حافة الشقاق والنفور الاجتماعى ويودى الى اللدد فى الخصومة بين المتنازعين والمراد باللدد هو الاشتداد فى الخصومه ويقولون رجل الد اى شديد الخصومه وقال تعالى (وهو الد الخصام)(47) واللاد هو الشديد الخصومه والمعنى اشد المخاصمين خصومة ويدعو الدين الاسلام الى عدم اللدد فى الخصومه فقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسم قال ( ان ابغض الرجال الى الله الالد خصومة)(48) يقول المارودى المراد باللدد فى الخصومه احد امرين
شدة الخصومة وهو قول البصرين(14/29)
الالتواء عن الحق ومنه لدود الفم الى أحد جانبى الفم قال تعالى(وتنذر به قوماً لداً) (49)وهو قول البغدادين اذا حصل من الخصم لدد تجاه القاض واذا عاد الى اللدد جاز للقاضى حبسه بعد ذلك (50)ولابد للقاضى ان يكون محفوفاً بحاسة العداله فهى لب الضمير البشرى فعدالة القض بالقضاء بالقدر الذى يؤدى الى تهدئة نفوس المتنازعين سواء مثلوا أمام القاضى أم لم يمثلوا بعد وذلك بأخذ الاسباب التى من شأنها البعد عن كل ما يوجج الصراع ويثير اللد بالخصومه فأن وجب واجبات ولى الامر البحث عن كل ما يؤثر فى القضاء سلباًومن هنا تأتى الدعوة الى منظمات للعمل المدنى الطوعى الذى يدعم القضاء . انشاء منظمات او مراكز للاستشارات العائليه التى تؤدى الى حل كثير من المشكلات قبل ولوجها الى المحاكم او تلك التى ولجت اليها يجوز ايضاً تحويلها الى هذا المركز او تلك الجهه وفى تقديرنا يجب ان تتكون هذه الهيئة من كبار الفقهاء والعلماء
سيما فى مسائل الاحوال الشخصيه وان تضم خبراء نفسيين وخبراء فى علم الاجتماع وعلم السلوك ورجال قانون واعيان مجتمع لديهم درجه من القبول والحضور وسط المجتمع الذى تؤسس فيه هذه الجهه او ذلك المركز سيما بعد ان ضعفت العلاقات الاجتماعية وروح الانتماء فى بعض المجتمعات(14/30)
وفي تقديرنا ان أنشاء منظمة او جهة غير قضائية تاخذ طابع العمل المدني في المجتمع وتهدف الي التوفيق بين المتنازعين فى مسائل الاحوال الشخية من ازواج وابناء واقارب وذوى رحم وخلافهم من اصحاب المشاكل المتعلقة بالاحوال الشخصية هو من واجبات الدولة المسلمة في واقع المجتمعات المسلمة اليوم سيما بعد تفكك مؤسسة القبيلة في بعض المجتمعات الاسلامية و العربية و التي كانت تقوم بمثل هذا الدور وسيما وان افراد تلك المجتمعات الجديدة قد فقدت الارتباط النفسي و الاحترام الادبي بين رب الاسرة وافرادها من جهة وبين شيخ القبيلة ورب الاسرة من جهة أخري وقد صدق الله سبحانه وتعالي القائل (ياايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ) (51).وفى تفعيل هذه المؤسسه التوفيقيه تطوير للقضاء الاسلامى فالقضاء هم دعاة يبحثون عن المجتمع اولاً نشر احكام الشريعه ثانياً واذا تعطلت وظيفة القضاء فى هذا الجانب ففى ذلك إضرار بوظيفة القضاء الذى جعلت طريقة هيلكة وإنشاء النظم القضائيه فى بعض الدول التى جعلت من القاضى مجرد موظف لا هم له إلا ما وقع فى يده وهذا ينافى مسلك السلف من قضاة هذه الامة
المشاكل التي تواجة التحكيم و التوفيق في القضاء:
رغم اهمية التحكيم و التوفيق في حل النزاعات بصفة عامة وصلاحيته المنشودة لحل النزاعات في الاقضية عموما الا ان هناك عقبات ومعوقات ومشاكل تعترض فكرة التحكيم سيما في الشريعة الاسلامية ومنها ما يلى .
اولا : مشكلات فقهية واجتهادية :-(14/31)
يري بعض رجالات القضاء في الوطن العربي ان التحكيم لا يصلح في مجالات شئون الاسره كالطلاق و الميراث و الولاية وغيرها(52) ويرجع ذلك الي ضعف الدراسات المتخصصة وضعف الاجتهادات الفقهية في مجالات التحكيم في وسائل القضاء الشرعي وزيوع التحكيم واحكامة في مجالات التجارة الدولية و الاقليمية سيما في ظل نشاط مراكز التحكيم التجاري المختلفة في عالم اليوم وعدم وجود مثلها في أطار المعاملات الاسلامية بالذات سيما في التحكيم في مجالات القانون الجنائي و الاحوال الشخصية و الحقوق المدنية الاخري .
وقد راينا في هذا البحث ان التحكيم في الفقه الاسلامي مفهوم عام يصلح كأساس لحل المشكلات المختلفة في مجالات الاحوال الشرعية والتجارة وغيرها. ونحن نرىان فكرة النظام العام التى يوسس عليها فقهاء القانون الوضعى كثير من احكامه تعدل الشريعة الاسلامية بكل اقسامها إذ ان الشريعة الاسلامية نظام حياه متكامل لا يتصور استقامة النظام فى الدولة إلا بتطبيق كل احكام الشريعة .
ثانيا : مشكلات في عقبات واجراءات التحكيم والتوفيق :
المعلوم ان مجرد احالة النزاع الي التحكيم او التوفيق يسلب القضاء اختصاصه لبعض الوقت لحين الوصول الي قرار نهائي لحل النزاع ولكن في ظل هذه الاجراءات هناك مشاكل فقهية وعملية يجب الوقوف عليها :(14/32)
فالقاعدة العامة تنادي بعدم المساس بالاحكام الصادرة في القضاء عموما وذلك لضرورة استقرار الحقوق و المراكز القانونية وهذا الاستقرار لا يتحقق الا اذا اكتسب الحكم المعني حصانة تحول دون التدخل فيه بالالغاء او التعديل ولكن هذه الاحكام هي صادرة من بشر ليسو معصومين وياتيهم النقصان من بين ايديهم ومن خلفهم ومن ناحية اخري فان الوصول الي القرار الصحيح و الاكثر صحة يقتضي ان تتفاوت جودة الاحكام ودقتها قال تعالي : ( و داؤود وسليمان اذ يحكمان في الحدث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكل اتينا علما وحكما (53) فمفهوم الاية دل علي ان الفقه الاسلامي يبحث عن اجود الاحكام واحسنها بغية الوصول الي العدالة واعطاء كل ذى حق حقه .
ومن هنا جاءت فكرة الطعن في الاحكام القضائية عموما فى فقه المرافعات للتوفيق بين مصحلة الفرد في اللجوء الي المحكمة التي فصلت في النزاع لتراجع قرارها او الي محكمة اخري اعلي درجة من المحكمة التي فصلت فيه بغرض الغائه او تعديله وبين مصلحة الدولة في العمل علي استقرار الحقوق و المراكز القانونية باعتبار ان الحكم الذي يصدر هو عنوان الحقيقة .
* وتتشابه الدول العربية و الاسلامية في طرق الطعن في الاحكام القضائية علي ضوء هذا التقسيم : ـ
1/ طرق طعن عادية وهي الحالات التي يجيز فيها القانون الطعن بصفة مطلقة امام المحاكم بدون تقييد لحق الطعن بشروط معينة هي علي سبيل المثال الاستئناف و الطعن بالنقص و المراجعة في السودان كما هي المعارضة و الاستئناف فى القانون المصرى والاستئناف فى القانون الاماراتى ، وتتميز طرق الطعن العادية بانها تحيل الدعوى برمتها الي المحكمة المختصة بنظر الطعن كما تتميز باثرها في وقف تنفيذ الحكم مؤقتا ما لم يكن مشمولا بالنفاذ العاجل .(14/33)
2/ طرق طعن غير عادية : ـ وهي حالات تنص عليها القوانين الإجرائية في المرافعات المختلفة وهي طرق محددة للطعن في حال تحقق شروط معينة .
عادة ما ينص عليها القانون علي وجه التحديد نوجز منها ما يلي لاغراض هذا البحث : ـ
اعتراض الغير : وهي حالة تجيزها بعض القوانين في حالة ما اذا ارتبط حق الغير بالحكم الصادر فهنا يجوز القانون للغير ان يطعن في الحكم بشرط ان يكفي فقط للاشارة الي ان مصلحته تقررت من هذا النزاع بالرغم من انه ليس طرفا فيه.
الاستئناف : ويعرف الاستئناف بتعاريف كثيرة ناخذ منها التعريف القائل بان الاستئناف هو تجديد النزاع امام محكمة الاستئناف . والمعلوم ان محكمة الاستئناف هي محكمة اعلي من المحكمة التي اصدرت الحكم المطعون فيه و الهدف من الاستئناف دائما هو تعديل او الغاء او ابطال الحكم .
النقض : هو نوع من الرقابة القضائية تقوم به المحكمة العليا او ما يعرف بمحكمة النقض او محكمة التميز علي اختلاف مسمياتها علي الاحكام القضائية الصادرة من حيث مطابقتها للقانون او تفسير او تطبيقه ويقتصر دور المحكمة هنا علي الفصل في قانونية الاحكام حيث مطابقتها للقانون فقط دون الخوض في الوقائع ولذا يطلق علي محاكم النقض بانها محاكم قانون باعتبارها حارسا ومفسرا للقانون .
المحاكم الدستورية : وهي محاكم تهدف الي مراقبة عدم خرق القوانين للدستور للدولة ويجوز في بعض الحالات الطعن امامها في بعض الاحكام في الدولة بهدف التحقق من دستورية الاحكام القضائية ويكون الطعن امام المحكمة الدستورية فى اطر ضيقة ومحدوده(14/34)
ومهما يكن من امر وعلى اختلاف مسوغات الطعن فى الاحكام القضائية واختلاف الحجج التى تبرر ذلك فان الجدل القانوني منعقد دوليا حول خضوع القرارات الصادرة في التحكيم و التوفيق الي الطعن فيها سواء في قرارها النهائي او خضوع القرارات التي تصدر عن هيئة التحكيم اثناء سير التحكيم او التوفيق وجوهر الخلاف هو خضوع القرارات التحكيمية الي طرق العطن العادية و الغير عادية في الدولة او عدم خضوعها لهذه السلسلة الطويلة من الطعون في الدولة وفي ذلك ظهرت اتجاهات ثلاث (54)
الاتجاه الاول : ـ رفض جواز الطعن في قرارات هيئة التحكيم و التوفيق:
يري هذا الاتجاه انه لا يجوز الطعن في قرارات هيئة التحكيم و التوفيق باي من طرق الطعن القضائية يرون انه يمكن اقامة دعوى ابطال امام القضاء للقرارات الصادرة عن هيئة التحكيم او التوفيق في حالات محددة وسار علي ذلك القانون المصري بموجب القانون رقم 27 لسنة 1994م وهو يشابه الوضع في قانون الاجراءات المدنية و التجارية لدولة الامارات العربية المتحدة (55) وما بعدها وهو نفس اتجاه القانون العماني .
وحجة هذا الرأي ان الطعن بالطرق المتقدم ذكرها يضر بميزات التحكيم سيما ميزة السرعة في الإجراءات من خلال تاخير الحجية التي يفترض ان يكتسبها القرار التحكيمي بمجرد صدوره كما انهم يرون ان التحكيم هو اتفاق ورضاء بين الاطراف علي خروج الاطراف من طرق التقاضي المعهودة في الدولة وارتبط رضاهم هذا بقناعة موادها ان المحكمين او الموفقين هم الذين سيحققون العدالة لهم وان الطعن امام القضاء يخالف هذه القناعة وذلك الرضا وتتنفي بذلك فكرة الحرية التي يكفلها نظام التحكيم و التوفيق .
الاتجاه الثاني : ـ التوسع في طرق الطعن في القرار التحكيمي(14/35)
هذا الاتجاه يجيز الطعن بكافة انواع وطرق الطعون امام القضاء في الدولة في القرارت الصادرة عن هيئات التحكيم و التوفيق وهذا مذهب القانون السوداني بموجب قانون الاجراءات المدنية السوداني لسنة 1983م المادة 149 منه وهو مذهب القانون اللبناني فقد جوزت المواد (798 –808) من قانون اصول المحاكمات اللبناني الطعن في قرارات التحكيم بطرق الاستئناف والمادة المحاكم واعتراض الغير ولم يستثني الا الاعتراض و التمييز ( النقض )
ويري هذا الرأي ان التحكيم شانه شان القضاء العادي يخضع لكل طرق الطعن الموجودة داخل الدولة كما ان عدم جواز الطعن في احكام التحكيم يخلق وضعا صعبا في نفسية الاطراف من ناحية قفل باب الامل في امكانية تغيير الحكم اذا شابته شائية ، كما يرون ان مجرد وجود الطعن يجعل المحكم يبذل قصاري جهده في التحكيم سيما اذا علم ان عليه رقابة من القضاء بالاضافة لذلك يري ايضا هذا الراي ان التحكيم هو استثناء من ولاية القضاء في الدولة وذلك يعني ان كثير من المحكمين قد لا يعرفون اسس القانون في الدولة ولذا فان الطعن يقوم ويصحح كل الاخطاء التي تتعلق بالنظام العام وقواعده في الدولة ويردون علي اصحاب الراي الاول بان سرعة البت في النزاعات عبر الية التحكيم يجب الا يكون هو الهدف الاساسي لان الغرض الأساسي هو تحقيق العدالة واحقاق الحقوق عن طريق الأناة و المهلة وهي غاية لا يجوز التضحية بها في سبيل السرعة .(14/36)
الاتجاه الثالث : ـ جواز الطعن في قرارات التحكيم و التوفيق بطرق محددة: يجيز هذا الرأي الطعن في القرارات الصادر في التحكيم و التوفيق في حالات محددة وبسيطة مقارنة بطرق الطعن المحددة في القضاء الموجودة في الدولة ومثال ذلك القانون السوداني حيث نص قانون التحكيم لسنة 2000م في المادة 41 علي حالات محددة يجوز فيها الطعن في القرارات التحكيمية بالاضافة الي جواز اقامة دعوى بطلاق للقرار التحكيمي بموجب المادة 40 من ذات القانون وهي والي ذلك ذهب قانون المرافعات الكويتي رقم 38 لسنة 1980م علي جواز استئناف حكم المحكمة بشرط اتفاق الخصوم علي ذلك قبل صدوره وبشرط الا توجد حالة من الحالات التي تمنع الاستئناف بصددها كما لو كان التحكيم بالصلح او ما يعرف بنظام( التحكيم المطلق ) ونجد ان المادة 18 من نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/46 بتاريخ 12/7/1407هـ تجيز للخصوم تقديم اعتراضاتهم علي ما يصدر عن المحكمين الي الجهة التي اودع لديها الحكم التحكيمي ( المحكمة) وهي الجهة المختصة اصلا بنظر النزاع . ويلاحظ بالرغم من ان المشرع السعودي لم يحدد اسباب معينة للاعتراض الا انه يفهم منها انها مسائل محددة .(14/37)
ومهما يكن من حال فان مسالة خضوع قرارات التحكيم و التوفيق الي رقابة القضاء او عدم ذلك فانه منوط به تحقيق المصالح المرجوة من التحكيم وتفويت المفاسد التي تلازم ذلك اما كونه يطلق العنان لطرق الطعن في الصورة واسعة كما هو الحال في السودان قبل صدور قانون التحكيم لسنة 205م فان فيه ضياع للحقوق وتفويت لاغراض التحكيم الذي يكون سببا في تطويل امد النزاع فقد جاء في احدي السوابق السودانية التي صدر قرار تحكيمى فيها بألزام أحد الاطراف بسداد مبالغ من الاموال ولكن للاسف صار هذا القرار التحكيمي فريسة للقضاء ودرجاته من محاكم ابتدائة ومحاكم استئناف ثم المحكمة العليا ثم دائرة المراجعة بالمحكمة العليا ثم اخير استقر الحكم براي المحكمة الدستورية بعد ما يقارب زهاء الاحد عشر عاما .
بالرغم من ان موضوع النزاع كان عبارة عن فوائد ربوية تتعلق بديون لشركة انجليزية علي شركة سودانية قبل تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية في السودان عام 1983 (56)
ولأغراض هذا البحث نشير الي ان الطعن في قرارات التحكيم والتوفيق يؤثر سلبا او ايجابا على مسيرة القضاء الشرعي وعلى ادنى الفروض في مجال التجارة والمعاملات الوطنية على السواء وهذا يجعل باب الاجتهاد مفتوحا بالحاح لخلق نوع من التوازن في هذا الاتجاه من علماء وفقهاء الاسلامي في هذا الزمان ولأغراض الوقوف على المشكلات التي تعترض سير التحكيم والتوفيق نستعرض ما يلي:(14/38)
الطعن في احالة النزاع الي التحكيم او التوفيق وهذا يعني من الممكن حدوث خلاف بين الاطراف حول صحة احالة النزاع ابتداء للتحكيم او التوفيق سيما فيما يختص بالمنازعات المستقبلية و الزام الشروط المنصوص عليها فى العقد بايداع النزاع للتحكيم و التوفيق حيث ان الطعن في هذا القرار يشكل احدي المعوقات التي من شأنها اعادة النزاع الي القنوات القضائية مرة اخري (57) وهذا يطيل من اجل النزاع سيما اذا قدمت طعون لمحاكم الاستئناف ومحكمة النقض و بالتالى يفقد التحكيم ميزة سرعة الفصل في النزاع .
2- الطعن في اجراءات سير التحكيم او التوفيق امام الجهات القضائية بعد احالة النزاع الي التحكيم او التوفيق ومؤدي ذلك ان اجراءات التحكيم وهي تختلف عن القضاء من حيث بساطتها وسهولتها قد تكون هدفا لاحد المتنازعين بالطعن فيها سيما اذا لم يقبل باحدى الاجراءات و الحال انه يقبل باحالة النزاع الي التحكيم والتوفيق؟.وهذا الطعن ايضاً فى تقديرنا يعيد التحكيم او التوفيق مرة اخرى الى القنوات القضائية التقليدية وبالتالى ندخل فى جدلية تفويت مزايا التحكيم والتوفيق مقارنة بالقضاء التقليدى الامر الذى سيؤدى فى النهاية الى تعطيل اجراءات التحكيم لحين البت فى هذا الطعن والاعتراضات والفصل فيها بصورة نهائية .(14/39)
3-المعوقات التى يلاقيها التحكيم والتوفيق بعد ايداع قرار لجنة التحكيم والتوفيق النهائى حيث جوزت بعض القوانين فى الدول المختلفة ان يتم الطعن امام محاكم الاستئناف او النقض ومن هنا تكمن الجدلية الفقهية حول الرقابة القضائية بالتحكيم او التوفيق وهذا الطعن بدورة يجعل النزاع يبدأ امام الجهات الاستئنافية وفقاً للاختصاص القضائى فى الدولة ومعه يفقد التحكيم مضمونة ولا يعطى النتيجة المرجوة منه فى هذه الظروف .وعلى كل حال فأن هذه العقبات والمشكلات يمكن تفاديها فى معرض الاجابة على هذا السؤال هل هناك طريقة محددة يمكن للفقه القضائى والتشريعى فى الدولة يتم بموجبها ابعاد سلطات القضاء التقليدى من اجراءات التحكيم فى مراحل الطعن والاستئناف امام محاكم الاستئناف والنقض حتى يكون التحكيم والتوفيق بالخصائص والمميزات الفاعله وعلى رأسها سرعة البت فى النزاع ؟
هناك بعض الدول ترى انه لا يجوز الطعن فى قرارات التحكيم امام القضاء وبعضها يرى جواز ذلك(14/40)
بالخصائص والمميزات الفاعلة وعلى رأسها سرعة البت فى النزاع و الواقع ان المشروع فى كل دول العالم سلك مسلك تطبيق مجال السلطة الاستئنافية فى قرارت التحيكم والتوفيق بصفة عامة وهذا السلوك لا يعنى انها ء رقابة القضاء على التحكيم ولكن يسلب القضاء حرية الكاملة فى بعض كل اجراءات التحكيم مع ابقاء على حق الجهات الاستئنافية فى بعض القرارات (58) ويرى البروفسير محمد الشيخ عمر انه لاسبيل الى فعالية التحكيم الا بتحرير قرارات التحكيم من الهيئة القضائية فى المرحلة الاستئنافية كما تم تحريرها فى المرحلة الابتدائية هذا لا يعنى التحرير المطلق وانما يقصد به الغاء الهيمنة التقليدية الحالية فى عصرنا هذا وفى تقديرنا ان الحل يكمن فى ايجاد نوع من التخصص النوعى فى محاكم الاستئناف و النقض فى الدول الاسلامية والعربية بتخصيص دائرة من قضاة محكمة النقض واخرى من قضاة محكمة الاستئناف او الاكتفاء بأحداها الهدف منها البت فى الطعون المقدمة ضد قرارات واجراءات التحكيم والتوفيق لحل المشكلات التى رأينا وفى ذلك إحياء لإجتهاد محدد يراعى طبيعة التحكيم والتوفيق كأحد وسائل حل وفض النزاعات والبت فى الخصومات إذ ليس فى الدساتير المختلفة او المدارس القانونية العالمية او الشريعة الاسلامية ما يمنع من إقامة هذه الدوائر المتخصصة فى التحكيم والتوفيق فى محاكم الاستئناف او محاكم النقض او التمييز حسب الحال إذ ان احياء الاجتهاد التنظيمى هو احد معاول البناء فى القضاء الاسلامى .
وكما تقدم بنا نرى قصور القضاء العالمى فى هذا الاتجاه حيث انه توجد مؤسسات للتحكيم التجارى المختلفة مثل مركز نيويوك للتحكيم ومركز تحكيم غرفة باريس ومركز غرفة التحكيم العربيه ومركز تحكيم دبى ومركز تحكيم القاهره ومركز تحكيم عين شمس .............الخ(14/41)
والملاحظ ان هذه المراكز التحكيميه بالرغم ما تقدمه من خدمات لها وزنها فى مجال التحكيم التجارى الداخلى والدولى فأنها وعلى غير المتصور قد تقاعست بالكامل عن إحياء التحكيم فى مسائل الاحوال الشخصيه وفقه الاسره والمسائل الجنائيه المتعلقه بالحقوق الخاصه ومسائل القانون المدنى الاخرى
وقد انحصر عملها فى التحكيم التجارى الداخلى والدولى ولكن تعوزها المقدرة على حل مشكلات الطعن فى القرارات الصادرة عنها إذ انه فى كثير من الحالات يثور جدل فقهى عريض حول استئناف قرار هيئات التحكيم الدولية وان اقتراح دائرة للطعون التى تتعلق بالتحكيم يسهم فى حل مشكلات التحكيم عالمياً حيث يبقى على عنصر السرعة فى بت المنازعات وكل مميزات التحكيم الاخرى سيما اذا نشطت مؤسسات التحكيم والتوفيق فى حل مسائل الاحوال الشخصية وكل الاقضية الاخرى
الهوامش :-
(1)انظر لسان العرب لاب منظور ج15 ص 30-31 – مختار الصحاح للرازى ص 540
(2) الايه 2 سورة فصلت
(3) الايه 2 سورة الانعام
(4) الايه 23 سورة الاسراء
(5) الايه 117 سورة البقره
(6) الايه 72 سورة طه-تفسير الفخر للرازى ج4 ص28
(7) حاشية بن عابدين رد المختار ج5 ص352
(8) الاختيار لتعليل المحتار لابن مردود الموصلى ج 3 ص 83
(9) تبصرة الحكام فى اصول الاقضية ومناهج الاحكام لابن فرحون ج 1 ص12
(10) مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب ج 6 ص 96
(11)نهاية المحتاج للرملى ج 8 ص 211 ومابعدها
(12) كشاف القناع للشيخ منصور بن يوسف البهوتى ج 6 ص 285
(13) الاصول القضائية للشيخ على قراعة ص 276
(14) التنظيم القضائى د. محمد الزحيلى ص 37(14/42)
(15) انظر تاريخ القضاء فى الاسلام (د. عبد المنعم البهى مطبعة لجنة البيان العربى القاهرة 1965م-السلطة القضائية فى الاسلام –شوكت محمد عليان رسالة دكتوراه جامعة الازهر 1393هـ -دار النشر والتوزيع –الرياض ) -انظر النظام القضائى الاسلامى مقارنا بالنظم الوضعية وتطبيقاتها –المملكة العربية العودية عبد العزيز القاسم –طبعة اولى 1393هـ ص 289 –القضاء فى الاسلام د.محمد سلام مدكور دار النهضة العربية بدون تاريخ ص 23
(16) المغنى على مختصر الخرقى مكتبة الجمهورية ومكتبة الكليات الازهرية ج 3 ص 608 كشاف القناع عن من الاقناع للبهوتى عالم الكتب بيروت 1403هـ 1983م ج3 ص 234 -الاسلام عقيدة وشريعة للشيخ الامام محمود شلتوت ص 6 دارالشروق للنشر والتوزيع 1972م ص 22 ، انظر الضرر كأساس للمسؤلية المدنية طى المجتمع المعاصر –محمد ناصر رفاعى دار النهضة (العربية ص 212
(17) بدائع الصنائع للكاسانى دار الكتب العلمية –بيروت طبعة 2 1406هـ ج7 ص 347- الشرح الكبير للدردير ج4 ص 202 طبعة عيسى البابى الحلبى بدون تاريخ –مغنى المحتاج للشربينى طبعة مصطفى البابى 1377 هـ ج3 ص 213 - المغنى ج3 ص 309
(18)-مختار الصحاح باب العين فصل الشين –الجامع لاحكام القران للقرطبى ج 11 ص 1018-18-
(19)-الفقه المقارن د. عبد الفتاح كباره ص 17 دار النفائس 1997
(20)--المدخل لدراسة الشريعة الاسلامية د. عبد الكريم زيدان ص 17 وما بعدها مؤسسة الرسالة بيروت طبعة ثامنة 1985
(21)-علم القانون والفقه الاسلامى (نظرية القانون والمعاملات الشرعية د. سمير عالية ص (4) المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع بيروت طبعة أولى 1991م)
(22)- ابن قيم الجوزيه-اعلام الموقفين ج3ص 14-15****
(23)- انظر القاموس المحيط ج4ص 98-لسان العرب لابن منظور طبعة دار العلم للجمع بيروت ج12 ص 42
(24)-انظر الدر المختار حاشية رد المختار لابن عابدين طبعة البابى الحلبى جـ5 ص 8(14/43)
(25)-المغنى لابن قدامة مكتبة الرياض الحديثة جـ 1 ص 34 ، ج9 ص 107
(26)- الاسس العامة للتكيم التجارى د. رضوان ابو زيد ص 19 دار الفكر العربى 1980م
(27)- الاية 35 سورة النساء
(28)- تفسير الجلالين للعلامة جلال الدين السيوطى وجلال الدين المحلى ص 84 مكتبة الصفا 2004-- 1425هـ
(29)- الاية 58 سورة النساء
(30)- الاية 128 سورة النساء
(31)-التحكيم فى الشريعة الاسلامية د.اسماعيل الاسطل مكتبة النهضة العربية بدون تاريخ صـ29
(32)- اتفاق التحكيم وفقاً لقانون التحكيم فى المواد التجارية والمدنية 1984 د. ناريمان عبد القادر ص 47
(33)- أنظر التحكيم الداخلى والدولى د. ابراهيم محمد أحمد مطابع السودان للعمله ط ا صفحة 34
- انظر المادة 1 من نظام التحكيم السعودى المادة 233 من قانون المرفعات البحريني ، المادة 173 من قانون المرافعات الكويتي المادة 198 من قانون المرافعات القطري ، المادة 762 من قانون المرافعات اللبناني ، المادة 506 من قانون المرافعات السوري ، المادة 501 من قانون المرافعات المصري ، المادة 739 من قانون المرافعات الليبي ، المادة 252 من قانون المرافعات العراقي المادة 244 من قانون المرافعات الجزائري المادة 309 من قانون المسطرة المدنية المغربي و المواد من 139 – 153 من قانون الاجراءات المدنية السودانية 1983م( ومجمل هذه القوانين .تستنكف الحديث عن التحكيم فى مسائل الاحوال الشخصية وموضوعات القضاء الشرعى لا لشى إلا ان هذه القوانين معظمها مستمدة من خارج المصدر التشريعى لهذه البلاد وفى اغلبها اخذ من قوانين المستعمروالقوانين الغربية وانحصر جلها فى القضاء التجارى والعقود المدنية والدولية ).(14/44)
(35)انظر التحكيم التجاري طبيعتة القانونية و انواعه ومزاياه ورقة بحثية قدمها د. الحاج الدوش في سلسلة ورش عمل التحكيم التجاري في الوطن العربي – الشارقة – دولة الامارات العربية المتحدة فبراير 2004 ، انظر – مصطفي محمد الحمال وعكاشة محمد عبد العال التحكيم في العلاقات الدولية و الداخلية 1989 بيروت لبنان ص24 انظر الاسس العامة للتحكيم التجاري الدولي د. ابو زيد رضوان ص30 .
(36) الايه 65 سورة النساء
(37)الايه 35 سورة النساء
(38)الايه 1 سورة المائدة
(39) الاية 34 سورة الاسراء
(40)صحيح البخارى ج3 ص 114 مطبعة الحلبى بمصر
(41) سبل السلام للصنعانى ج1ص10-صحيح مسلم بشرح النووى ج1ص146
(42)الاشباه والنظائر للسيوطى ص102 مطبعة مصطفى محمد 1936
(43) مصادر الحق فى الفقه الاسلامى د.عبد الرازق السنهورى ص 106 الجزء الاول المجمع العلمى العربى الاسلامى 1953-1954م.
44- مصادر الحق المرجع السابق نفس الصفحات
45- انظر هامش (24)من هذا البحث
(46) انظر التحكيم وفقا للشريعة الاسلامية المستشار حسين مصطفي – مجلة التحكيم العربي ص100 – د. عبد الحميد الاحدب – التحكيم أحكامة و مصادرة مؤسسة نوفل بيروت الجزء الأول ص63-64 (47) سورة البقره الايه (204)
(48) صحيح البخارى كتاب المظالم حديث رقم 02277
(49) سورة مريم الايه 97
(50) ادب القاضى للمارودى ج1ص 251
(51)الايه 13سورة الحجرات
(52)د. احمد السيد الصاوى التحكيم طبعة 2002ص 33 انظر بحث المستشار عمر بن الخطاب سعد البغدادى فى ورش عمل التحكيم فى الوطن العربى الشارقة فبراير 2004م المنظمة العربية للتنميه الاداريه انظر الماده 551من القانون المدنى المصرى التى تمنع التحكيم فى بعض الحالات (الحاله الشخصيه والنظام العام)
(53) الاية 78 – 79 سورة الانبياء
(54) ابراهيم محمد احمد التحكيم الدولى مرجع سابق –اتفاق التحكيم ص 75 - د. ناريمان مرجع سابق ص 45 وما بعدها(14/45)
(55) انظر الوجيز فى الاجراءات المدينة شرح القوانين الخاصة للتنظيم القضائى لدولة الامارات –محمد نور عبد الهادى شحاته –كلية شرطة دبى 1995ص 17
(56) انظر سابقة شركة ابا المعتصم واخرين ضد شركة هايتون انكوربريشن البريطانية احكام المحكمة الدستورية – الخرطوم 2003م
(57) انظر معوقات التحكيم و التغلب عليها . أ.د . محمد الشيخ عمر بحث بمجلة العدل السودانية العدد الخامس عشر – السنة السابعة اغسطس 2005 ص 198.
( 58) ا نظر دكتور عبد المنعم خلاب مشكلات التحكيم فى التجاره الخارجيه والنقل البحرى مجلة روح القوانين العدد الثانى جامعة طنطا 1990 ص 190(14/46)
التسوية بين الخصوم في مجلس القضاء
( دراسة مقارنة بين المذاهب الفقهية وماعلية العمل
في قانون دولة الإمارات العربية المتحدة )
إعداد :
د. أسماء أحمد العويس
أستاذ الفقه وأصوله المساعد
بكلية الدراسات الإسلامية والعربية – دبي
2006م – 1427هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
الحمد لله ، خلق الإنسان علمه البيان ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ، وبعد :
فلما كان الإنسان في مختلف مراحل حياته وفي شتى بقاع الأرض لا يستقيم له حال ، ولا يستقر له بال إلا بإشباع رغبته وقضاء حاجته وهو بلا شك لا يقوى على صنعة ذلك كله بمفرده فهو بحاجة إلى غيره ، ولما كانت نفوس البشر متباينة متغايرة وفق أهواء ورغبات كل منها كان التجاهد والتذاكر بالحقوق واقعاً ، والعدوان قائماً ، والظلم والاستبداد شائعاً منتشرًا ولما كان القضاء هو السبيل إلى نصرة الضعيف وكبح جماع القوي والأخذ على يديه وإحقاق الحق ولما كان القاضي هو الذي تتسم على يديه إثبات الحقوق لأصحابها ، إذ هو الدرع والواقي لهذه الحقوق والأداة الفعالة في تحقيق العدل.
طلب الشرع أن يتحلى بآداب متنوعة أثناء نظر الدعوى ، وهذه الآداب كثيرة جدًا ، وبعضها واجب يجب على القاضي الالتزام بها ، وعدم الخروج عنها ، وإلا كان آثماً أمام الله تعالى ، وتعرض للمسؤولية في الدنيا إما بعزله من القضاء ، أو برد حكمه ونقضه ، وبعضها مندوبات وسنن يحسن به التقيد بها ، لضمان حسن سير الدعوى ، وتحقيق العدالة ، وتأمين حياد القاضي وتجرده منها موضوع الدراسة وهي : " التسوية بين الخصوم في مجلس القضاء دراسة مقارنة بين المذاهب الفقهية وما عليه العمل في قانون دولة الإمارات العربية المتحدة ".
أهمية الدراسة :(15/1)
إنني أعتبر هذ…ا المحور من أهم المحاور التي تتناول موضوع القضاء وهو الجزء الخاص بالقاضي لأنه ميزان العدل يتوقف عليه فإذا حرص القاضي على إتيان الآداب والواجبات والسنن الشرعية كان أدعى إلى الحياد والعدالة ما أمكن وهذا كله في مصلحة الرعية ، فطالما تحقق العدل بين الناس ساد الاستقرار والمحبة والأمن لأن مراقبة الله تعالى والخوف منه لأحسن ضابط للإنسان ، يحفظه من الزيغ والانحراف أبدًا وإذا كان الشرع اهتم بهذه الآداب والسنن والواجبات فكذلك القانون المدني لدولة الإمارات لم يغفل عن هذا الجانب الذي يحقق العدالة والأمن والاستقرار للدولة.
منهج البحث :
أما منهج البحث فقد سلكت طريقة موضوعية مقارنة ، لأنني أعتمد أولاً في العرض والاستدلال على نصوص القرآن الكريم ، ثم على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحاولت ما وسعتني المحاولة تحقيق أسانيد الأحاديث وعزوها إلى أمهات كتب الحديث ، ثم استعرضت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والفقهاء ، وبدأت بالكلام عما اتفق عليه الفقهاء من الأحكام المقرونة بالأدلة والحجج ، ثم انتقلت إلى دراسة الأحكام التي اختلفوا فيها عن طريق عرض أقوالهم وأدلتهم وجانباً من المناقشة التي دارت بينهم ثم رجحت ما قويت حجته وظهر دليله.
وأيضاً اعتمدت فيه على المقارنة بين المذاهب الفقهية والمقارنة مع الأنظمة الوضعية ، وخاصةً قانون الإجراءات المدنية ، لدولة الإمارات العربية المتحدة ، وهو قانون اتحادي برقم 11 لسنة 1992م.
فمن هذا المنطلق تناولت الموضوع بالبحث والدراسة وفق خطة منهجية بدأتها :
بمقدمة ، وأربعة مباحث ، وخاتمة.
المقدمة وتتضمن : أهمية الموضوع ومنهجه وخطة البحث.
المبحث الأول : ما يلزم القاضي من آداب أثناء نظر الدعوى
المطلب الأول : الآداب العامة للقاضي أثناء نظر الدعوى
المطلب الثاني : اعتدال حال القاضي أثناء نظر الدعوى(15/2)
المبحث الثاني : المساواة بين الخصوم في المجلس عند اختلاف الصفة
المطلب الأول : مساواة المسلم بغير المسلم
المطلب الثاني : تقديم المرأة على الرجل والمسافر على المقيم
المبحث الثالث : ما يمنع منه القاضي سدًا لذريعة عدم التسوية بين الخصوم
المطلب الأول :عمله بالتجارة وحضوره للولائم
المطلب الثاني : قضاء القاضي بعلمه
المطلب الثاني : قبول الهدية
المبحث الرابع : الإجراءات التي يتبعها القاضي مع الخصوم لتحقيق مبدأ المساواة
المطلب الأول : علنية المحاكمة
المطلب الثاني : المواجهة بين الخصوم
المطلب الثالث : حرية الدفاع والمناقشة
الخاتمة
المبحث الأول
ما يلزم القاضي من آداب أثناء نظر الدعوى
يحتوي هذا المبحث على مطلبين
المطلب الأول :
……الآداب العامة للقاضي أثناء نظر الدعوى
المطلب الثاني :
……اعتدال حال القاضي أثناء نظر الدعوى
" المطلب الأول "
الآداب العامة التي يلتزم بها القاضي أثناء نظر الدعوى.
ساوى الشرع الإسلامي بين الناس في سماع خصوماتهم ولم يحرم أحدًا من الحق في طلب حقه بواسطة القاضي ، فأوجب سماع الدعوى من أي مدع على أي إنسان؟ سواء كان المدعَى عليه جليلاً أو حقيرًا ؛ فللسوقة العامي أن يدّعي على السلطان القاهر.(1)
وأما مظاهر احترام هذا المبدأ في الأحكام القضائية فتظهر في النقاط التالية :
أن ينصف الخصمين في المدخل عليه(2) حتى لا يتهم بالجور.
أن ينصفهما في الاستماع منهما ، وأن ينصت لكل واحد منهما حتى تنفذ حجته(3) ، فقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رجل قد فقئت عينه ، فقال له عمر ، تحضر خصمك ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، أما بك من الغضب إلا ما أرى ، فقال له عمر : فلعلك فقأت عيني خصمك معاً ، فحضر خصمه وقد فقئت عيناه معاً ، فقال رضي الله عنه : إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء ".(4)
أن يسوي بينهما في حسن الإقبال عليهما ، فلا يخص واحد منهما بإقبالٍ دون الآخر.(5)(15/3)
ألا يميل إلى أحدهما بالسلام فيخصه به ، ولا بالترحيب.(6)
لا يسأل أحدهما عن حاله ولا عن خبره ولا عن شيء من أمورهما في مجلسهما ذلك.(7)
لا يرفع صوته على أحدهما دون الآخر ، ولا ينهر أحدهما دون الآخر(8) إلا أن يكون أحدهما مستحقاً بذنبٍ أو سوء أدب.
__________________________________________________________________
أدب القضاء " ابن أبي الدم " ق 15 ، منتهى الإرادات ، القسم الثاني ، صـ 579.
الأم ج6 صـ231 ، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/46 ، المغنى لابن قدامه 10/119.
الأم للشافعي 6/231.
المحلى لابن حزم 8/436.
الأم 6/231 ، تبصرة الحكام 1/46.
تبصرة الحكام 1/46.
المصدر السابق.
بدائع الصنائع للكاساني 7/9 ، البحر الرائق لابن نجيم 6/307 ، الأم للشافعي 6/231.
لا يكلم أحدهما بلسان لا يعرفه الآخر.(1)
لا يضيف أحدهما دون الآخر.(2) قال الماوردي :" وهذا صحيح. إذا أمسى الخصمان عند القاضي ، أو كانا غريبين ، لم يجز أن يضيف أحدهما دون الآخر ، لما فيه من ظهور الممايلة "(3) والدليل على ذلك : ما روي عن الحسن البصري أنه قال : " جاء رجل فنزل علىعلي فأضافه فلما قال له : إني أريد أن أخاصم قال له علي : تحول ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه "(4) فلذلك لم يجز أن يضيف أحدهما ، وقيل له : إما تضيفهما معاً ، أو تصرفهما معاً(5) لأن المساواة بينهما في ذلك تبعد عنه تهمة الميل لأحدهما.(6)
ألا يزور أحدهما دون الآخر ، حتى وإن كان مريضاً.(7)
أن يسوي بينهما في النظر إلا أن يتعدى أحدهما ، فلا بأس أن يسوء نظره إليه تأديباً له.(8)
أن يسوي بينهما في الخلوة ، فلا يخلو بأحدهما في منزله.(9)
أن يسوي بينهما في الإشارة.(10)
أن يستوي عنده الشريف والوضيع ، والحاكم والمحكوم.(11)
ألا يزيد لأحدهما في جلوسه على الآخر شيئاً ، كوسادة ونحوها.(12)(15/4)
__________________________________________________________________
بدائع الصنائع 7/9.
بدائع الصنائع 7/9 ، البحر الرائق 6/307 ، الأم للشافعي 6/231 ، المغنى 9/82.
الحاوي الكبير 20/351.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/137.
الحاوي الكبير 20/351.
المبسوط 16/76 ، شرح فتح القدير 5/469.
الأم 6/231.
البدائع 7/9 ، تبصرة الحكام 1/46.
البدائع 7/9 .
المصدر السابق.
البحر الرائق 6/306 ، بدائع الصنائع 7/9.
البدائع 7/9 .
بل إن معاني المساواة زادت عن الحد الظاهر إلى الباطن ، فنص العلماء على أن القاضي يدني الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه.(1) ثم نبين آخر مظهر للمساواة وهو المساواة بينهما في المجلس.(2)
الأدلة على وجوب العدل والمساوة بين الخصوم في معاملتهم :
أولاً من القرآن الكريم : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا }.(3)
وجه الدلالة :
قيل في معنى الآية والإعراض المذكورة في الآية الكريمة : هما الرجلا يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر(4) وهذا منهي عنه شرعاً لأن فيه إعانة أحد الخصمين ، ومكسرة الآخر ، والقاضي مأمور بالتسوية بينهما.(5)
ثانياً من السنة : عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ".(6) وروي عنها أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فلا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر ".(7)
وجه الدلالة :
في هذين الحديثين دليل صريح على وجوب التسوية بين الخصوم في كل ما يمكن العدل فيه.(15/5)
من الأثر : ورد في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
__________________________________________________________________
المبسوط 16/66 ، تبصرة الحكام 1/46.
المصادر السابقة.
سورة النساء : الآية 135.
تفسير الطبري 9/307.
المغنى لابن قدامه 9/80.
أخرجه الدارقطني في السنن ، ج4 ، صـ 205 ، البيهقي في السنن الكبرى 10/135.
السنن الكبرى للبيهقي ج10 صـ135 ، ورواه الطبراني في الكبير – انظر كنز العمال 3/308.
قوله : " آس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ".(1)
وورد عن الشعبي أنه قال : " كان بين عمر رضي الله عنه ، وأبي بن كعب رضي الله عنه حائط يدعيان جميعاً ، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فأتياه فضربا الباب ، فسمع زيد صوت عمر رضي الله عنه ، فاستقبل فقال ، ألا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين ، فقال : في بيته يؤتى الحكم ، فوسع له زيد عن صدر فراشه ، فقال : ههنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : جرت في أول القضاء ، ولكن أجلس مع خصمي فجلسا ، فادعى أُبي وأنكر عمر ، فقال زيد لأُبي : اعف أمير المؤمنين من اليمين ، وما كنت لأسألها لأحد غيره ، فحلف عمر ، ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء ".(2)
من المعقول :
قال ابن القيم : وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان : إحداهما : طمعه في أن تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه ، والثانية : أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر حجته ".(3)
__________________________________________________________________
سنن الدارقطني 4/206 ، السنن الكبرى للبيهقي 10/150.(15/6)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/136 ، قال السرخس في المبسوط معلقاً على الأثر : وهو يدل على أن الخصومات كانت تقع بين كبار الصحابة رضوان الله عليهم ، ولا يظن بهم إلا الجميل ، فيحمل على أن الأمر قد يشتبه عليهم ، فيختصمون كي يظهر الحق ولا يظن بهم إلا هكذا " المبسوط 16/73 ".
اعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية 1/89.
" المطلب الثاني "
اعتدال حال القاضي أثناء نظر الدعوى
اتفق الفقهاء(1) على أنه ينبغي للقاضي إذا أراد الجلوس للقضاء أن يخرج وهو على أعدل الأحوال ، لا جائع ولا عطشان ، ولا كسلان ، ولا غضبان .... إلخ.
والدليل على ذلك ما رواه أبو بكرة ( نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي ) أنه كتب إلى ابنه وهو في سجستان بأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ".(2)
وجه الدلالة :
دل النص على المنع من القضاء في حالة الغضب ، وذلك لما يحصل بسببه من التشويش الموجب لاختلال النظر وعدم استيفائه على الوجه الصحيح ، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تشويش الفكر كالجوع والعطش ، وهو قياس مظنه على مظنه فإن كل واحد من الجوع والعطش مشوش للفكر ، ولو قضى مع الغضب والجوع : لنفذ إذا صادف الحق ، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على ذلك وكان الغضب إنما خص لشدة استيلائه على النفس ، وصعوبة مقاومته(3) قال ابن حجر : وقول الشيخ : وهو قياس مظنه على مظنه صحيح ، وهو استنباط معنى دل عليه النص فإنه لما نهى عن الحكم حالة الغضب فهم منهم أن الحكم لا يكون إلا في حالة استقامة الفكر فكانت علة النهي المعنى المشترك وهو تغير الفكر ، والوصف بالغضب يسمى علة بمعنى أنه مشتمل عليه فألحق به ما في معناه كالجائع.(4)
وإذا نظرنا إلى حال القضاة في العصور الزاهرة نجدهم أنهم كانوا يتجنبون القضاء بين الناس
__________________________________________________________________(15/7)
المبسوط 16/78 ، تبصرة الحكام 1/35 ، شرح الخرشي 7/151 ، نهاية المحتاج 8/94 ، المحلى 9/365..
أخرجه البخاري في صحيحه / كتاب الأحكام / باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان برقم 7158 ، مسلم في صحيحه / كتاب الأقضية / باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان برقم 1717..
أحكام الإحكام عمدة الأحكام 360.
انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 15/35.
، والنظر في خصوماتهم في مثل تلك الأحوال ، بل كانوا إذا شعر أحدهم بتغير نفسه إلى ما قد يؤدي إلى تعكيرها وتشويشها ، امتنع عن القضاء حتى يعود إلى نفسه اطمئنانها وإلى قلبه وذهنه صفاؤهما.(1)
والدليل على ذلك ما يلي :
أ. روى البيهقي بسنده عن القاضي شُريح رحمه الله أنه كان إذا غضب أو جاع قام فلم يقض بين أحد ".(2)
وقال ابن القيم وما أحسن ما قال : " ومن قصر النهي على الغضب وحده دون الهم المزعج والخوف المقلق والجوع والظمأ الشديد وشغل القلب المانع من الفهم ، فقد قل فقهه وفهمه ، والتعويل في الحكم على قصد المتكلم ، والألفاظ لم تقصد لنفسها ، وإنما هي مقصودة للمعاني المتوسل بها إلى معرفة مراد المتكلم ، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ، ومن عموم المعنى الذي قصده تارةً ، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى ، وقد يكون من اللفظ أقوى ، وقد يتقاربان".(3)
وأضاف الفقهاء ألا يقضي القاضي في حالة توافر هذه الحالات أو أحدها : النوم ، والنعاس(4) ، والجزع(5) والحزن والهم(6) وإذا كان حاقناً(7) ، وفي حال الفرح الشديد والبرد الشديد والحر الشديد(8) والمرض المؤلم والخوف المزعج(9) ،وإن كان شاباً فيقضي وطره من أهله ثم يجلس للقضاء ، وأن لا يتطوع بالصوم في اليوم الذي يريد الجلوس فيه.(10) فإذا وجد من ذلك شيئاً فليقم عن مجلسه ، أو يدفع الناس عنه.(11)
__________________________________________________________________
نظرية الدعوى صـ 459.
السنن الكبرى للبيهقي 10/106.
اعلام الموقعين 1/166.(15/8)
المدونة الكبرى 4/13.
المبسوط 16/64.
البحر الرائق 6/303 ، المبسوط 16/64.
أحقن الرجل بوله إذا حبسه ، والحاقن الذي حبس بوله " النهاية لابن الأثير 1/407 ، وجاء في لسان العرب 13/126 ، والحاقن : الذي له بول شديد.
البحر الرائق 6/303.
قليوبي وعميرة 4/303.
البحر الرائق 6/303.
تبصرة الحكام 1/41 ، البحر الرائق 6/303.
ومع اتفاق الفقهاء على خلو حال القاضي أثناء نظر الدعوى من العوارض السابقة إلا أنهم اختلفوا فيما إذا حكم القاضي وهو غضبان أو كانت تعتريه أحد العوارض السابقة على :
القول الأول :
وهو لجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية حيث ذهب الحنفية إلى أن انتفاء هذه العوارض السابق ذكرها عن القاضي أثناء نظره للقضية هي من الآداب فإن جرى الحكم مع وجودها فلا يؤثر مثلها في الحكم ، لأن الحكم صحيح.(1) أما المالكية والشافعية فيرون نفاذ الحكم وصحته في هذه الحالة مع الكراهية.(2)
القول الثاني :
وهو للحنابلة ورواية للمالكية ، أن القضاء يحرم في هذه الحالة ولا ينفذ إلا إذا وافق الحق.(3)
الأدلة :
استدل الجمهور على أن قضاء الغضبان نافذ ، وكذا كل ما كان في حكمه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قض للزبير على الأنصاري مع غضبه.(4)
أ- فقد روي أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقي نخل له ، وكانت أرض الزبير أقرب إلى الماء من أرض خصمه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق أرضك " ، ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " فقال الرجل : لأجل أنه ابن عمتك ، فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : " اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ".(5)
وجه الدلالة :
نوقش : لا حجة في هذا الحديث على رفع الكراهة عن غيره صلى الله عليه وسلم ، فهذا الغضب منه صلى الله عليه وسلم غير مؤثر في الحكم ، ولا يعارض نهيه صلى الله عليه وسلم(15/9)
__________________________________________________________________
تحفقة الفقهاء 3/373.
الاقناع للشربيني 2/620 ، قال الشافعي رحمة الله في الأم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أن لا يقضي الرجل وهو غضبان و كان معقولاُ في الغضب كتغير العقل و الفهم فأي حالة جاءت عليه يعلم هو من نفسه تغير عقله أو فهمه إمتنع من القضاء فيها فإذا إشتكى أو جاع أو إهتم أو حزن أو بطر فرحاُ تغير لذلك فهمه أو خلقة لم أحب له أن يقضي و إن كان ذلك لا يغير عقله و لا فهمه ولا خلقه قضى ، أنظر الأم 199، مواهب الجليل 3/402.
كشف القناع 3/389.
مواهب الجليل 3/402.
أخرجه البخاري في صحيحه " بحاشية السندي " 2/35 ، وسنن أبي داود المطبوع مع معالم السنن للخطابي 4/181 ، السنن الكبرى للبيهقي 10/106.
عن القضاء حالة الغضب من وجوه :-
أن القاضي هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتخيل في حقه الجور في الحكم ، حتى مع الغضب.
أن الغضب لم يبلغ الحد الذي ينهى معه عن الحكم.
أن الغضب كان لأجل القضية وليس لأمر خارج عنها وبذلك كان غير متعارض مع النهي الوارد عن القضاء حالة الغضب.(1)
ب. روى البخاري في صحيحه عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ".(2)
وجه الدلالة :(15/10)
في هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء في حال الغضب والنهي يحمل على الكراهة ، ويشهد لذلك ما قاله الصنعاني في سبل السلام : " وإنما حملوه على الكراهة نظرًا إلى العلة المستنبطة المناسبة لذلك ، وهي أنه لما رتب النهي على الغضب ، والغضب بنفسه ، لا مناسبة فيه لمنع الحكم ، وإنما ذلك لما هو مظنه لحصوله ، وهو تشويش الفكر ومشغلة القلب عن استيفاء ما يجب من النظر ، وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ عن الصواب ، ولكنه غير مضطرد مع كل غضب ، ومع كل إنسان ، فإن أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل فلا كلام في تحريمه ، وإن لم يفض إلى هذا الحد ، فأقل أحواله الكراهة ".(3)
أدلة القول الثاني :
استدل الحنابلة ومن وافقهم على أنه يحرم القضاء في حال الغضب ، إلا إذا وافق الحق بالسنة. وهو ما رواه أبو بكرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ".(4)
وجه الدلالة :
قال الصنعاني : لا يخفى أن الظاهر في النهي التحريم وأن جعل العلة المستنبطة صارفة إلى
__________________________________________________________________
أصول المحاكمات الشرعية صـ 428.
سبق ذكره وتخريجه صـ10 .
سبل السلام 4/163، 164.
سبق تخريجه.
الكراهة بعيد.(1)
وقالوا أيضاً : مقتضى النهي فساد المنهي عنه. وقد رجح الصنعاني هذا الرأي فقال : " ثم الظاهر(2) أيضاً عدم نفوذ الحكم مع الغضب ، إذا النهي يقتضي الفساد ، والتفرقة بين النهي للذات والنهي للوصف كما يقول الجمهور غير واضح ".(3)
الراجح :(15/11)
أرى بإذن الله تعالى رجحان ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وأصحاب القول الأول : من أن القاضي لو حكم في حال الغضب صح حكمه إن صادف الحكم مع الكراهة ، وذلك لأن النهي الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ليس لذات الغضب ، وإنما لوصفٍ قد يؤدي إليه ، وهو تشويش الفكر الذي قد يؤدي إلى الظلم ، فإن صادف الحكم الصواب تبين أن ذلك الوصف لم يتحقق.
وأيضاً : أن إثبات مثل هذه العوارض أثناء الحكم أو أثناء النظر أمر عسير جدًا ، فكيف يعلم الخصمان أن القاضي جائع أوعطش أو حاقن أو أنه شارد الذهن لحزنٍ أو همٍ أصابه ، فكل ذلك لا يعلمه إلا القاضي من نفسه ، ولذلك كان القول قول الجمهور من أن قضاءه ينفذ ، إلا أنه يأثم بذلك ، لأنه خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيؤاخذ بذلك ديانة ولا يفسد حكمه ، فإن ثبت أنه قضى على هذه الحال كأن يقر هو بذلك ، فالقول قول الحنابلة وبعض المالكية أنه لا ينفذ إلا إذا وافق الحق. والله أعلى وأعلم.
أما عن موقف القانون الوضعي من هذه الآداب التي يراعيها القاضي أثناء نظره للدعوى فلا يوجد في التشريع الوضعي مثيل ذلك المقرر في الفقه الإسلامي مما يلزم القاضي بتجنب القضاء في مثل تلك الظروف والأحوال ، مع أن ما قرره الفقهاء المسلمون في هذا الصدد يعتبر وسيلة مجدية لتحقيق نزاهة القاضي التي استهدفها التشريع الوضعي في كثيرٍ من نصوصه.(4)
__________________________________________________________________
سبل السلام 4/163 ، 164.
المغنى لابن قدامه 10/99.
سبل السلام 4/163 ، 164.
نظرية الدعوى صـ 461.
المبحث الثاني
المساواة بين الخصوم في المجلس عند اختلاف الصفة
يحتوي هذا المبحث على مطلبين
المطلب الأول :
……مساواة المسلم بغير المسلم
المطلب الثاني :
……تقديم المرأة على الرجل والمسافر على المقيم
" المطلب الأول "
مساواة المسلم بغير المسلم(15/12)
اتفق الفقهاء على وجوب التسوية بين الخصمين في مجلس القضاء إذا كانوا مسلمين ، لا فرق في ذلك بين الخليفة والرعية ، الكبير والصغير ، الشريف والدني ؛ إلا أن خلافاً حصل بين العلماء في المساواة بين الخصمين إذا كان أحد الخصمين ذمياً والآخر مسلماً ، فهل يسوى بينهما في المجلس ، وجاء خلافهم على قولين :
القول الأول :
ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية(1) والمالكية(2) والحنابلة(3) إلى وجوب التسوية بين الخصمين في مجلس القضاء ، فإن أبى ذلك المسلم وهو الطالب ، فلا يحكم له ولا ينظر في أمره حتى يتساويا في المجلس ويرضى بالحق ، وإن كان هو المطلوب قال القاضي للمسلم : إما تساويه في المجلس وإلا نظرت له ولم ألتفت إليك ولم أسمع منك ، فإن فعل نظر له ، وأضاف الحنفية وقالوا : إلا أنه لا يجب عليه التسوية بينهما بالقلب.(4)
القول الثاني :
وذهب الشافعية إلى عدم التسوية بين المسلم والكافر في مجلس القضاء ، بل يرفع موقف المسلم على موقف الكافر.(5)
__________________________________________________________________
البحر الرائق 6/306 ، المبسوط 16/61.
تبصرة الحكام 1/46.
المغنى 9/82.
البحر الرائق 6/306.
هذا لا يعني أن يظلم الذمي لحساب المسلم ، وإنما المقصود - والله أعلم : أن الميل القلبي عند القاضي لابد وأن يكون للمسلم فطرةً ، فإن أوجبنا عليه أن يسوي فيما لا يملكه ، كان الإيجاب في غير محله ، ولذا قالوا : لا يجب عليه التسوية بالقلب بينهما.
الحاوي الكبير 20/346.
الأدلة والمناقشة :
استدل جمهور الفقهاء على وجوب التسوية بين الخصمين في مجلس القضاء وسواء كانا مسلمين أو مسلم وغير مسلم بالكتاب ، والسنة ، والأثر ، والمعقول.
أولاً : دليل الكتاب : قال تعالى :{ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به }.(1)(15/13)
وجه الدلالة : ذُكر في تفسير هذه الآية : أي وأن تحكموا بالإنصاف والتسوية إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم – سواء مسلم أوغير مسلم – والآية خطاب لكل من ولي من أمر المسلمين شيئاً ، وعلى رأسهم القاضي بعد الإمام الأعظم.
ثانياً : دليل السنة :
أ. بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم.(2)
وجه الدلالة : يفيد هذا الحديث بعمومه أنه لا فرق بين المسلم وغيره في مجلس القضاء ولو كان هناك فرق لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل على المساواة. ولذا قال ابن نجيم في البحر الرائق : " إن النصوص الواردة بالمساواة عامة بلا مخصص ".(3)
ب. ما أخرجه أبو يعلى والدراقطني والطبراني في الكبير عن أم سلمة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من ابتلي بالقضاء بين الناس فليعدل بلفظه ولحظه وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر ".(4)
وجه الدلالة : يتبين من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر من يلي القضاء بأن يعدل بين الناس ، وكلمة الناس عام تشمل المسلم وغير المسلم فتكون التسوية واجبة بين الخصوم مطلقاً لعموم الحديث.
__________________________________________________________________
سورة النساء ، الآية : 58.
أخرجه أبو داود في السنن / كتاب الأقضية ، باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي ، برقم 3588 ، المستدرك للحاكم 4/106 برقم 7029.
البحر الرائق 6/306.
أخرجه الدارقطني في سننه / كتاب الأقضية والأحكام وغير ذلك ، حديث رقم 4420 وإسناده ضعيف لضعف عباد بن كثير.
ثالثاً : دليل الأثر :
ورد في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما : " وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك".(1)
وجه الدلالة :(15/14)
…في هذا الأثر يأمر عمر رضي الله عنه قاضيه وعامله بالتسوية بين الناس في مجلس قضائه حتى يستقر الحق في نصابه ، ومثل هذا القول من عمر لا يكون إلا بتوقيف وليس من قبل الرأي والاجتهاد وخصوصاً وأن الفتوحات قد انتشرت في عهد عمر بن الخطاب واختلط المسلمون بغيرهم. فما ينبغي أن يطمع المسلم لشرف دينه في حيف القاضي في إجلاسه متقدماً ، وما ينبغي أن ييأس الذي لخساسة دينه من عدل القاضي في إجلاسه متأخرًا ".
رابعاً : دليل المعقول :
إن التسوية بين الخصمين خصوصاً إذا كان أحدهما غير مسلم تدعو إلى العدالة ، وإلى بيان فضائل الإسلام ، وما فيه من مزايا فاضلة ، وسجايا حميدة. ومن قرأ قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً }.(2) وقوله جل شأنه : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم .... }(3) ، ومن قرأ أسباب نزول هذه الآيات علم أن الإسلام في جانب الحق أياً كان ، بغض النظر عن كون صاحبه مسلماً أو غير مسلم.(4)
وأيضاً : فإن مقصد القضاء إرجاع الحقوق لأصحابها ، ووسيلة ذلك الحجج والبراهين ، ومنع الفقهاء كل ما يؤدي إلى منع الخصم من طرح حجته سواء منعه من الكلام ، أو إيذائه بكلام أو نظرة أو صياح أو غيرها ، فكيف يمكن للخصم أن يطرح حجته بطلاقة دون وجل أو خوف ، وهو يرى خصمه متقدماً عليه ، فسيعلم عندها أن القضاء متحيز من بداية التحاكم ، وأنه سيؤدي إلى الظلم في نهايته ، والظلم ممنوع حتى لو كان المظلوم ذمياً.(5)
__________________________________________________________________
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى كتاب آداب القاضي / باب إنصاف الخصمين 15/137.
سورة النساء 105
سورة النساء 107
الوجيز في الدعوى والإثبات صـ 25.
أصول المحاكمات صـ 450.
أدلة القول الثاني :
استدل أصحاب القول الثاني على أنه ينبغي تمييز المسلم عن الكافر في الجلوس بالسنة ، والمعقول.(15/15)
ما روي عن عليٍ ابن أبي طالب رضي الله عنه درعاً له عند يهودي التقطها فعرفها. فقال : درعي سقطت عن جمل لي أورق. فقال اليهودي : درعي وفي يدي ، ثم قال اليهودي : بيني وبينك قاضي المسلمين. فأتوا شريحاً فلما رأى علياً قد أقبل تحرف عن موضعه وجلس علي فيه ، ثم قال علي لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تساورهم في المجلس ".(1)
وجه الدلالة :
…إن علياً رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في شأن أهل الذمة : " لا تساوروهم في المجلس " وهو عام في القضاء وغيره ، بدليل أنه رضي الله عنه لم يساو خصمه في الجلوس كما هو ظاهر في الرواية ، فدل هذا على عدم وجوب التسوية.
نوقش هذا الحديث من وجهين :
الأول : أكد الإمام أحمد هذا الحديث بأنه منكر ، وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال : لا يصح ، تفرد به أبو سمية ، وقال عنه ابن الصلاح في الكلام عن أحاديث الوسيط لم أجد له إسناداُ يثبت، فقال إبن عساكر في الكلام على أحاديث المهذب : إسناده مجهول.(2)
وذكر الشوكاني نحو هذا وزاد عليه قوله : " ورواه البيهقي من وجهٍ آخر – أي غير الوجه الذي رواه الحاكم وابن الجوزي ، من طريق جابر عن الشعبي وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي ، وهما ضعيفان ".(3)
قال الماوردي : " ولولا ضعف في إسناد هذا الحديث لقدم المسلم على الذمي وجهاً واحدًا ".(4)
__________________________________________________________________
سبل السلام 4/125
تلخيص الجبير 4/193.
نيل الأوطار 8/285.
الحاوي الكبير 20/346.
الثاني : وعلى فرض صحة الحديث فإنه لا يدل على عدم التسوية ، بل العكس ، فإن القاضي شريح سمع الدعوى ، وطلب كلام المدعى عليه ، ثم بعد ذلك سأل المدعي عن البينة ، ثم نفاها الخليفة فحكم بالدرع لليهودي ، فأي تسوية أعظم من هذا.(1)(15/16)
وأيضاً : أنه مع افتراض الصحة ، فهو يحوي نصاً عاماً قد يشمل مجلس القضاء وقد لا يشمله ، وقد خصص بفهم سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فهو اجتهاد منه ، إلا أن هذا الاجتهاد معارض بأدلة أخرى ، ولابد من التوفيق بينهما ، ولضعف الأثر المنقول فلا حاجة للتوفيق.(2)
من المعقول : قالوا : أن الكافر جنى على نفسه بكفره ، فأخره ذلك عن المسلم.(3)
الراجح :
بعد هذا العرض لهذه المسألة يتضح لي رجحان مذهب جمهور الفقهاء القاضي بوجوب التسوية بين الخصمين في مجلس القضاء إذا كان أحدهما مسلم والآخر غير مسلم ، وذلك للآتي:
قوة أدلتهم.
خلوها من المعارض من كل وجه.
رد دليل المخالف ردًا قوياً.
إن مجلس القضاء جاء بخصوصية منصوص عليها ، والمقصد من هذه الخصوصية ضمان العدل واتباع الحق ، ولا يكون ذلك بعدم المساواة بين المسلم والذمي في المجلس ، فمن خصوصية مجلس القضاء أن يتساوى فيه من ليسوا بسواء خارجه.
__________________________________________________________________
الوجيز في الدعوى والإثبات صـ 26.
أصول المحاكمات صـ 449.
قواعد الأحكام 1/72 ، المغنى لابن قدامه 9/82.
المبسوط 16/61 ، البحر الرائق 6/306.
…" المطلب الثاني "
تقديم المرأة على الرجل والمسافر على المقيم
فإذا وجد الناس على باب مجلس القضاء وجب العدل بينهم في الترتيب الذي يتبعه القاضي في النظر بينهم ، فجعلوا الأولوية في ذلك للسابق منهم ، لأنه صاحب الحق بسبقه ، فهو كما لو سبق إلى موضع مباح إلا أنهم قالوا بتقديم المسافر المتهيء للسفر ، الذي يصيبه الضرر من انتظار دوره ، ولكن إذا كان المسافرون كثيرًا ، بحيث يتضرر المقيمون من تقديمهم ، فلا يقدمون ، ووجب تقديم السابق عليهم ، لأن الضرر لا يزال بالضرر المماثل له أو الأشد منه.(1)(15/17)
وتقدم المرأة إذا كانت تتعرض للضرر من غيابها عن بيت زوجها هذا إذا اضطرت المرأة للحضور مع الرجال ، كأن تكون الخصومة بينها وبين رجل ، وإلا فيجب الفصل بين الرجال والنساء في المكان أو الزمان ، وفي هذا يقول السرخسي : " ينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة ، والرجال على حدة ، لأن الناس يزدحمون في مجلسه ، وفي إختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة و القبح ما لا يخفى ولكن هذا في خصومة تكون بين النساء فأما الخصومة التي تكون بين الرجال والنساء لا يجد بدًا من أن يقدمهن مع الرجال ".(2)
وكذلك المريض الذي يتضرر من المكوث إذا كان مدعى عليه فإن كان مدعياً ، فلا يقدم ، لأنه غير مجبر على الانتظار.(3)
وإذا تساوى المتخاصمون في القدوم أقرع بينهم ، فمن خرجت له القرعة قُدم ، إذ لا سبيل إلى غير ذلك.(4)
__________________________________________________________________
المبسوط 16/80 ، حاشية العدوي 3/153 ، مغنى المحتاج 4/412 ، المغنى لابن قدامة 9/83،84.
المبسوط 16/80 ، بدائع الكاساني 7/13 ، الخرشي على مختصر خليل 7/153.
مغنى المحتاج 4/412.
فتح المعين وإعانة الطالبين 4/217، مغنى المحتاج 4/412 ، منتهى الإرادات القسم الثاني ص 580.
مبدأ المساواة بين الخصوم عن أهل القانون
اعتبرت التشريعات الوضعية المساواة بين الخصوم وحياد القاضي من الأصول العامة في التقاضي.ولهذا المبدأ مظاهر في التشريعات المعاصرة تدل عليه :
عدم جواز الجمع بين صفتي الحكم و الخصم : ويقتضي ذلك عدم إتاحة الفرصة للقاضي في أن ينظر في أية دعوة يكون له فيها مصلحة شخصية.كما ورد هذا في المادة 114 من قانون الاجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة
عدم جواز قضاء القاضي بعلمه ، سدًا لذريعة ميله إلى أحد الخصوم ، وسدًا لذريعة اتهامه من قبل أحد الخصوم بالمحاباة للطرف الآخر.(1)(15/18)
وجوب المساواة بين الخصوم أمام القضاء ، ويقتضي ذلك وحدة النظر إلى الخصوم ، ووحدة المعاملة ، ما داموا في نفس الظروف ، فلا يولي أحدهم رعاية خاصة ، إلا بناءًا على اعتبارات إنسانية لا ترقى إليه بسببها الشكوك ، فلا يعبس في وجه خصم ، ويبش في وجه الآخر ، ولا يأذن لأحدهما بالجلوس دون الآخر ، كما يقتضي أن يمتنع عن جميع مظاهر المجاملة لبعضهم ، ومنحهم جميعاً فرصاً متكافئة.(2) ولا يفهم من هذا أن حياد القاضي يقتضي أن يكون سلبياً في سير الخصومة ، فإن حياده لا يتعارض مع سلوكه الإيجابي في توجيه سير الخصومة لتحقيق العدالة.(3)
فرض بعض الواجبات على القضاة ، وحظر بعض الأعمال والتصرفات عليهم خارج مجلس القضاء ، فقد نصت المادة 74 من قانون السلطة القضائية رقم 43 لسنة 1965 على أنه : " لا يجوز الجمع بين وظيفة القضاء ، ومزاولة التجارة ، أو أية وظيفة أو أي عمل لا يتفق واستقلال القضاء وكرامته ، ويجوز لمجلس القضاء أن يقرر منع القاضي من مباشرة أي عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها ".
__________________________________________________________________
أصول المرافعات أحمد مسلم ، صـ 374،375.
شرح قانون المرافعات المدنية العراقي – ضياء شيت خطاب ، صـ 288 ، أصول المرافعات 374، 375.
أصول المرافعات 374 ، 375.
المبحث الثالث
ما يُمنع منه القاضي سدًا لذريعة عدم التسوية بين الخصوم
يحتوي هذا المبحث على ثلاثة مطالب
المطلب الأول :
……عمله بالتجارة وحضوره للولائم
المطلب الثاني :
……قضاء القاضي بعلمه
المطلب الثالث :
……قبوله للهدية
توطئة :
القاضي ممنوع من كل تصرف يؤدي إلى خرق مبدأ المساواة أو خدشه ، وقد احتاط الفقهاء لذلك ، فسدوا جميع ما يمكن أن يؤدي إلى خرقه من الذرائع ، ومن ذلك :(15/19)
أ- منع القاضي من النظر في الخصومة له فيها أو لمن يخصه من أقاربه مصلحة من المصالح(1) لأن عاطفته نحو نفسه أوأقاربه قد تجره إلى ظلم الخصم الآخر.
جاء في المادة 114 من قانون الإجراءات المدنية مايلي :
يكون القاضي غير صالح لنظر الدعوى ممنوعاً من سماعها ولو لم يرده أحد من الخصوم في الأحوال التالية :
* إذا كان زوجاً لأحد الخصوم أو كان قريباً أو صهراً له إلى الدرجة الرابعة .
* إذا كان له ولزوجته خصومة قائمة مع أحد الخصوم أو مع زوجته .
* إذا كان وكيلاً لأحد الخصوم في أعماله الخاصة أو وصياً أو قيماً عليه أو مظنونة وراثته له أو كان زوجاً لوصي أحد الخصوم أو القيم عليه أو كانت له صلة قرابة أو مصاهرة للدرجة الرابعة بهذا الوصي أو القيم أو بأحد أعضاء مجلس إدارة الشركة المختصة أو أحد مديريها وكان لهذا العضو أو المدير مصلحة شخصية في الدعوى .
* إذا كان له أو لزوجته أو لأحد أقاربه أو اصهاره على عمود النسب أو لمن يكون هو وكيلاً عنه أو وصياً أو قيماً عليه مصلحة في الدعوى القائمة .
* إذا كان بينه وبين أحد قضاة الدائرة صلة قرابة أو مصاهرة للدرجة الرابعة وفي هذه الحالة يتنحى القاضي الأحداث .
* إذا كان بينه وبين ممثل النيابة العامة أو المدافع عن أحد الخصوم صلة قرابة أو مصاهرة للدرجة الثانية .
ويقع باطلاً عمل القاضي أو قضاؤه في الأحوال السابقة ولو تم باتفاق الخصوم . (2)
__________________________________________________________________
قانون الإجراءات المدنية ص 35
نهاية المحتاج 8/96.
" المطلب الأول "
عمله بالتجارة وحضوره للولائم
ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية(1) والحنابلة(2) إلى أنه يكره للقاضي المتاجرة بنفسه مطلقاً ، فلا ينبغي أن يتولى البيع والشراء بنفسه ، وإنما يوكل غيره ، واستدلوا على ذلك بالأثر والمعقول.
من الأثر :(15/20)
أ. ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لشريح : " لا تسار ولا تضار ولا تبع ولا تبتع ما دمت على القضاء ".(3)
ب. وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال : " تجارة الولاة لهم مفسدة وللرعية مهلكة ".(4)
وروي عنه أنه قال : " تجارة الولاة من أشراط الساعة ".(5)
يتضح من هذين الأثرين أنه لا يجوز للقاضي أن يعمل بنفسه في التجارة ومثل هذا القول من عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكون إلا بتوقيف ، ومن عمر بن عبد العزيز بمرجح ظهر له.
من المعقول :
لو اشتغل القاضي بالتجارة لكان معروفاً بين الناس ، فيكون مظنة أن يحابوه في معاملاتهم معه ، فيكون ما يأخذه – محاباة – في معنى الرشوة.
إن اشتغاله بالتجارة يشغله عن النظر في أمور الناس وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام.(6)
__________________________________________________________________
الأم 6/201 ، طبعة مصورة عن مطبعة بولاق 1321هـ.
المغنى لابن قدامه 9/79.
أخرجه عبدالرزاق في مصنفه كتاب الأقضية و الأحكام باب لا يقضي القاضي بعلمة برقم 424751
المصدر السابق
المصدر السابق
الأم 6/201 ، المغني 9/79
وأما الحنفية(1) والمالكية(2) فقد كرهوا للقاضي العمل بالتجارة في مجلس القضاء فقط ، وأما في غير مجلس القضاء فيجوز ذلك ، واحتجوا لما ذهبوا إليه بالسنة والأثر ، والمعقول.
من السنة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم باشر الشراء بنفسه.(3)
من الأثر : أن الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يباشرون ذلك بأنفسهم ، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه ، بعدما استخلف حمل متاعاً من متاع أهله إلى السوق ، ليبيعه.(4)(15/21)
جاء في المبسوط : وينبغي له أن لا يشتري شيئاً ولا يبتع في مجلس القضاء لنفسه لأنه جلس للقضاء فلا يخلط به ما ليس من القضاء ومعاملته لنفسه في شيء ولأن الإنسان فيما يبيع ويشتري بما كسب عادة وذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ويضع من جاهه بين الناس و لا بأس أن يفعل ذلك في مجلس القضاء ليتم أو ميت مديون فإن ذلك من عمل القضاة وإنما جلس لأجله ومباشرة ذلك في مجلس القضاء يكون أبعد عن التهمة منه إذا باشره في غير مجلس القضاء ولا بأس بأن يبيع ويشتري لنفسه في غير مجلس القضاء.(5)
والراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أنه يكره للقاضي مطلقاً العمل بالتجارة لأن المصلحة والاحتياط للعدل يقتضيان إبعاد القاضي عن الشبهات.
والعادة أن الناس يسامحون في المعاملة مع القضاء بين أيديهم خوفاً منهم أو طمعاً فيهم فيكون من هذا الوجه في معنى من يأكل بدينه.(7) كما كره الفقهاء للقاضي أن يستعير أو يقترض ممن لم يكن قبل القضاء يستعير أو يستقرض منه.(8)
__________________________________________________________________
المبسوط 16/77.
شرح الخرشي وحاشية العدوي 7/150.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يشتري مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه. " اخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب البيوع ، باب بيع المزايدة برقم 2141 ".
المبسوط 16/77.
المبسوط 16/77.
المصدر الصابق .
المصدر السابق.
تبصرة الحكام 1/24 ، جواهر العقود 2/357.
حضور القاضي للولائم
اتفق الفقهاء على أنه يحرم على القاضي حضور الوليمة إذا كان الداعي خصماً وأما إذا كان الداعي غير خصم فذهب الحنفية(1) والمالكية(2) أنه ينبغي على القاضي أن يتجنب الولائم واستثنوا من هذا وليمة النكاح فأجازوا للقاضي حضورها ، إلا أنهم كرهوا له الأكل فيها وإن حضرها.(15/22)
وذهب الشافعية(3) والحنابلة(4) إلى أنه يجوز للقاضي حضور الولائم إذا كان الداعي لها ليس خصماً في دعوى ، اللهم إلا إذا كثرت الولائم وازدحمت ، فينبغي تركها جميعاً ، لأن ذلك يشغله عن الحكم ، لكنه يعتذر إلى أصحابها ، ولا يجيب بعضاً دون بعض.
واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضر الولائم ويأمر بحضورها ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من لم يجب فقد عصى الله ورسوله ".(5)
__________________________________________________________________
المبسوط 16/82.
القوانين الفقهية صـ 285 ، شرح الخرشي 7/150.
المهذب 2/292 ، مغنى المحتاج 4/392 ، الأم 6/204.
المغنى لابن قدامه 9/79،80.
أخرجه مسلم في صحيحه باب موعظة الإمام للخصوم 6/2622.
" المطلب الثاني "
قضاء القاضي بعلمه
اختلف الفقهاء في جواز الحكم بعلم القاضي فيما علمه خارج القضاء ، سواء أكان الموضوع حدًا ، أم قصاصاً ، أم حقاً مالياً ، أم حقاً غير مالي ، سواء علمه قبل توليه القضاء أم بعده ، على ثلاثة أقوال :
القول الأول: أن القضاء بعلم القاضي غير جائز مطلقاً ، مهما كان نوع الحق وموضوع الدعوى وكيفما كان حصول علمه به ، قال به من الصحابة أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومن التابعين شريح والشعبي والأوزاعي وإسحاق وأهل الحجاز.(1)
رواية للحنفية وهي المفتى بها في المذهب(2) والمالكية(3) والشافعية في رواية أخرى(4) والحنابلة في ظاهر المذهب(5)
__________________________________________________________________
نيل الأوطار 8/401
حاشية ابن عابدين : 8/133 ، مجمع الأنهر 2/169.
الشرح الصغير : 4/230 وبداية المجتهد : 4/317 وعقد الجواهر 3/1018
المهذب : 3/399 ، التكملة الثالثة للمجموع 22/76.
المغني المطبوع على هامش الشرح الكبير : 11/400 والكافي لابن قدامه 4/464 ،
القول الثاني :(15/23)
…أن القضاء بعلم القاضي جائز مطلقاً سواء علمه قبل توليه القضاء أم بعده وسواء علمه في مكان ولايته أو خارجها ، ذهب إلى ذلك بعض أهل العراق مثل أبو يوسف ومن تبعه(1) وابن الماجشون من المالكية(2) والشافعية في رواية ثانية وهي الصحيح من المذهب(3) وأحمد.(4)
القول الثالث :
…أن القضاء بعلم القاضي مقبول فيما إذا علم به بعد توليه القضاء ، وفي مكان ولايته وكان القاضي مستمرًا في الحكم منذ عمله حتى عرض الواقعة على القضاء دون أن يفرق بينهما عزل فإذا علم القاضي بوااقعة في زمان ومكان ولايته فإنه يحكم بعلمه وإلا فلا ، ذهب إلى ذلك الإمام أبو حنيفة والمتقدمون من الحنفية(5) ووافقهم بعض المالكية في رواية.(6)
الأدلة :
…استدل أصحاب القول على أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً بالكتاب والسنة والإجماع والأثر
أولاً من القرآن : قال تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }.(7)
وجه الدلالة :
هذه الآية تدل على أن القاضي لا يحكم بعلمه لأنه لو جاز له الحكم لكان شاهدًا. والآية نصت على منع القضاة من إقامة حد القذف إلا أن يتوافر لديهم أربعة شهود.
__________________________________________________________________
حاشية ابن عابدين 8/133.
نقل هذا القول عنه الشوكاني في نيل الأوطار 8/401.
لي القضاء أو بعد ما ولي فقيد ذلك بكون القاضي عدلاً إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء ما ليس بعدل. " انظر المهذب : 3/399 ، وتحفة المحتاج : 4/368 ، والتكملة الثالثة للمجموع : 22/76 ".
انظر المغني على الشرح الكبير : 11/400 ، والكافي : 4/464.
حاشية ابن عابدين : 8/133.
عقد الجواهر الثمينة : 3/1018.
النور ، الآية : 4.
ثانياً من السنة :(15/24)
أ. عن عائشة رضي الله عنها : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أبا جهمٍ بن حذيفة مصدقاً فلاجه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجّه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : القود يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكم كذا وكذا ، فلم يرضوا ، فقال : لكم كذا وكذا ، فلم يرضوا ، فقال : لكم كذا وكذا ، فرضوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم ، فقالوا : نعم ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرفضوا ، أرضيتم ، قالوا : لا ، فهم المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم ، فكفوا ثم دعاهم فزادهم فقال : أرضيتم ، فقالوا : نعم ، فقال إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا : نعم ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أرضيتم؟ قالوا : نعم.(1)
وجه الدلالة :
…هذا بيّن ، لأنه لم يأخذ منهم بما علم منهم ولا قضى بذلك عليهم وقد علم رضاهم فدل على أن القاضي لا يحكم بعلمه.(2)
نوقش حديث عائشة بأنه ليس فيه إلا مجرد وقوع الإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع به الرضا من الطالبين للقود وإن كان الاحتجاج بعدم القضاء منه صلى الله عليه وسلم بما رضوا به المرة الأولى فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليه.(3)
ب- عن جابرٍ قال : أتى رجُل بالجعرانة منصرفهُ من حنين وفي ثوب بلال فضّه ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس ، فقال : يا محمد اعدل ، فقال : " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل " ، فقال عُمَرُ : دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق ، فقال : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز
__________________________________________________________________(15/25)
أخرجه أبو داود في السنن كتاب الديات / باب العامل يصاب على يديه خطأ برقم 4523 " اللفظ له ".
الاستذكار : 6/97.
نيل الأوطار : 8/402.
حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرّميّه ".(1)
وجه الدلالة :
…أن النبي صلى الله عليه وسلم منع أصحابه من قتل صاحب هذه المقالة بناءً على علمه أن هذا الرجل من الصحابة ، وبناءًا على ما علمه من مقالة الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
مناقشة حديث جابر :
…هذا الحديث لا يدل على أن القاضي لا يحكم بعلمه بل غاية ما فيه الإقلاع عن القتل لمن كان في الظاهر من الصحابة لئلا يقول الناس تلك المقالة والإخبار للحاضرين بما يكون من أمر الخوارج وترك أخذهم بذلك لتلك العلة.(2)
د. ذكر المتلاعنان عند ابن عباس ، فقال ابن شداد : أهما اللذان قال النبي صلى الله عليه وسلم :
__________________________________________________________________
أخرجه البخاري في صحيحه " مختصرًا " في كتاب فرض الخمس ، باب إذا بعث الإمام رسولاً في حاجة برقم 3138 ، مسلم في صحيحه ، كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ، برقم 1063.
نيل الأوطار : 8/402.
قال الألباني ضعيف وقال شعيب : صحيح لغيره وهذا إسناد حسن ، انظر مسند أحمد بن حنبل حديث برقم 22235.
هذا جزء من حديث مطول أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرهن ، باب : إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه برقم 2515 ، 2516.
لو كنت راجماً أحد بغير بينة لرجمتهما؟ فقال ابن عباس : لا تلك امرأة أعلنت(1)
ظاهر هذا الحديث يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قد علم بوقوع الزنا منها ولم يحكم بعلمه.(2)
نوقش حديث مسلم : هذا الحديث خارج عن محل النزاع بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن وهو أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم وإنما النزاع في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه.(3)
أجيب :(15/26)
…بما وجهه رجل لابن عباس بعد ذكر قضية اللعان المشهورة قال : أهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : " لو كنت راجماً أحدًا بغير بينةٍ رجمت هذه؟ فقال ابن عباس : لا ، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.(4)
ثالثاً / الإجماع :
نقل ابن العربي الإجماع على أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً.
نوقش :
بأن هذا الإجماع منقوض بقول الحافظ في الفتح " كذا قال فجرى على عادته – يقصد ابن العربي – في التهويل والاقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف.(5)
رابعاً / دليل الأثر :
أ. روي عن عمر رضي الله عنه قال : لولا أن يقول الناس : زاد عمر آية في كتاب الله لكتبت آية الرجم.(6)
__________________________________________________________________
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب اللعان ، برقم 13/1497.
نيل الأوطار : 8/403.
نيل الأوطار : 8/403.
صحيح مسلم / كتاب اللعان ، حديث رقم 1497.
فتح الباري 15/65.
أورده الشوكاني في نيل الأوطار 8/400 وعزاه للبخاري.
وجه الدلالة :
هذا الأثر عن عمر يفيد بأنه لا يجوز أن يقضي القاضي بعلمه وهذا الكلام من عمر ليس من باب الاجتهاد ولكنه بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم.قطعاً للذرائع لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدّعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء.(1)
ج. روي عن أبي بكرٍ الصديق أنه قال : لو رأيت حدًا على رجلٍ لم أحده حتى تقوم البينة.(2) ولأنه مندوب إلى ستره ودرءه فلم يجز الحكم فيه بعلمه.(3)
__________________________________________________________________
نيل الأوطار : 8/400.
السنن الكبرى للبيهقي ، كتاب آداب القاضي ، باب من قال ليس للقاضي يقضي بعلمه : 15/154.
التكملة الثالثة للمجموع : 22/76.(15/27)
جاء في الفتح : ولأن الذين منعوا ذلك مطلقاً اعتلوا بأنه غير معصوم فيجوز أن تلحقه التهمة إذا قضى بعلمه أن يكون حكم لصديقه على عدوه(1) ، أو يمنع من القضاء بعلمه سدًا للذرائع على قضاة السوء أن يحكم أحدهم بما شاء ويحيله على علمه.(2)
استدل أصحاب القول الثاني على جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقاً بالكتاب والسنة والأثر والمعقول.
أولاً : دليل الكتاب :
قوله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "(3) يفيد عموم هذه الآيات أن القاضي يحكم بين الناس بالعدل والقسط ، فلو كان في علمه ما ينصف المظلوم وجب عليه تأديته وإلا لأدى ذلك إلى نصرة الظالم.
ثانياً : دليل السنة :
أ. أن عائشة رضي الله عنها قال : جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت : يا رسول الله ، والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يّذِلّوا من أهل خبائك ، وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباءٍ أحبَّ إليَّ أن يعزوا من أهل خبائك ، ثم قالت : إن أبا سفيان رجل مسيك
__________________________________________________________________
المغني : 11/402.
الكافي : 4/464.
المهذب : 3/399.
التكملة الثالثة للمجموع : 22/79.
فتح الباري : 15/37.
الفتح : 15/38.
سورة النساء ،الآية : 26.
فهل علي من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال لها : لا حرج عليك أن تطعميهم من معروف.(1)
وجه الدلالة :
إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لهذه بأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف بناءًا على علمه بشح أبي سفيان ، فلو لم يكن القضاء جائزًا بعلم القاضي لما حكم لها إلا بعد سماع البينة التي تثبت صحة دعواها ، أو إقرار المدعى عليه ، لكنه حكم من غير ذلك ، فكان ذلك دليلاً على صحة قضاء القاضي بعلمه.
نوقش : أنه لا دلالة في هذا الحديث على المطلوب لأنه خرج مخرج الفتيا وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي.(2)(15/28)
رُدّ : إن محل الدليل إنما هو عمله بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب.
أجيب : بأن الذي يحتاج إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا الإفتاء فإنه يصح للمجهول ، فإذا ثبت أن ذلك من قبيل الإفتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة.(3)
وقد تعقب الحافظ هذا الكلام فقال : هذا بعيد ، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ ، واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه ، فلابد من سبق علم(4).
ويجاب عن هذا بأن الأمر لا يستلزم الحكم لأن المفتي يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم في شيء.(5)
__________________________________________________________________
فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 15/37.
نيل الأوطار : 8/401.
المصدر نفسه.
فتح الباري : 15/37.
نيل الأوطار : 8/401.
ب. ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم عن أبي هريرة قال : جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المدعي : أقم البينة فلم يقمها فقال للآخر : إحلف فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد فعلت ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله ".(1) وفي رواية للحاكم : بل هو عندك ادفع إليه حقه.(2)
وجه الدلالة :
هذا الحديث فيه أنه صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين فبالأولى جواز القضاء بالعلم قبل وقوعه.(3)
ونوقش : بأن هذا الحديث فيه عطار بن السائب ، وقد ضعفه علماء الجرح والتعديل ، ولو سلم صحته فلا دلالة فيه على المدعى ، لأنه قد ثبت في بعض الروايات أن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المدعى عليه كاذب في يمينه ، فلذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بدفع الحق الذي عنده للمدعي ، وما كان في ذلك قضاء بعلمه ، بل بما علمه من جبريل.
ثانياً: دليل الأثر :
أ. أن رجلاً من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب ، أنه ظلمه حدا(15/29)
في موضوع كذا وكذا ، فقال عمر : إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غِلمانُ فإذا قدمت مكه ، فأتني بأبي سفيان ، فلما قدم مكه ، أتاه المخزومي بأبي سفيان فقال له عمر : يا أبا سفيان : انهض بنا إلى موضوع كذا ، فنهضوا ، ونظر عُمر فقال : يا أبا سفيان ، خذ هذا الحجر من هنا فضعه هاهنا فقال : والله لا أفعل ذلك ، فقال عمر : والله لتفعلن فقال : لا والله لا أفعل فقال والله لتفعل فقال : لا أفعل ، فعلاهُ عمر بالدرّة وقال خُذهُ – لا أمّ لك – وضعه هاهنا فإنك قديم الظلم ، فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر ، ثم إن عُمر استقبل القبلة ، وقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلّبت على أبا سفيان على رأيه ، فأذللته لي
__________________________________________________________________
نيل الأوطار : 8/404.
نيل الأوطار : 8/404.
نيل الأوطار : 8/404.
بالإسلام : قال : فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال : اللهم لك الحمد ، الذي لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لِعُمَرَ.(1)
وجه الدلالة :
إن هذا الخبر قضاء عُمر بعمله فيما قد علمه قبل ولايته(2) نوقش أثر عمر بأنه كان إنكارًا لمنكرٍ رآه لا حكم بدليل أنه ما وجدت منهما دعوى وإنكار بشروطهما ودليل ذلك ما سبق روايته عنه ، ثم لو كان حكماً كان معارضاً بما سبق روايته عنه ويفارق الحكم بالشاهدين بأنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف محل النزاع.(3)
ثالثاً : دليل المعقول من وجوه :
الأول : أنه مستيقن قاطع لعلمه ما يقضي به إذا علمه علم يقين وليس الشهادة عنده كذلك لأنها قد تكون كاذبة وواهمة وعلمه بالشيء أوكد لأنه ينتفي عنه في علمه الشك والارتياب(4)
الثاني : أنهم قد أجمعوا أن له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه ، فكذلك ما علم صحته.(5)
__________________________________________________________________
الاستذكار : 6/98.
المرجع السابق.
المغني : 11/403.(15/30)
سنن ابن ماجه كتاب الفتن ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، برقم 4007 ، وقال عنه صحيح ، وجامع الترمذي كتاب الفتن برقم 2191.
الاستذكار : 6/97.
المرجع السابق.
الثالث : ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى.(1)
أدلة القول الثالث :
استدل أصحاب القول الثالث على أن القضاء بعلم القاضي مقبول فيما إذا علم به بعد توليته القضاء ، وفي مكان ولايته ، وكان القاضي مستمرًا في الحكم منذ عمله حتى عرض الواقعة على القضاء دون أن يفرق بينهما عزل بما استدل به أصحاب القول الثاني ، ثم قيدوها بأدلة المنع التي مع أصحاب القول الأول وعللوا ذلك بأن الذي علمه الحاكم قبل القضاء كان على طريق الشهادة فلو حكم به لحكم بشهادة نفسه فصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره ، وأيضاً يكون كالحاكم بشاهد واحد.
الراجح :
بعد هذا العرض المبسط لتلك الخلافية يتضح لي رجحان قول القائلين بأن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً ، وذلك للآتي :
قوة أدلتهم.
رد ما ورد عليها من اعتراضات.
رد دليل المخالف ردًا قوياً.
إن الواقع يؤيد المنع سدًا للذرائع ، ولأن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة. وصدق الشافعي إذ قال : " لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه ".
وقال ابن حجر معلقاً على كلام الإمام : " وإذا كان هذا في الزمان الأول فما الظن بالمتأخر
__________________________________________________________________
المهذب : 3/400 ، وبدايات المجتهد : 4/318.
فتح الباري 15/38 ، حاشية الحموي على الأشباه 1/353 ، المبسوط 16/105.
، فيتعين حسم مادة تجويز القضاء بالعلم في هذه الأزمان المتأخرة لكثرة من يتولى الحكم ممن لا يؤمن على ذلك ".(1)(15/31)
وأيضاً الاستناد إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين ، فإن الضرر المترتب علىمنع القضاء بعلم الحاكم ضرر خالص على المتقاضين فقط ، أما الضرر الناشئ عن جوازه فيقع على الناس جميعاً ، ويصبح كل فرد مهددًا بالحكم عليه من القاضي ، استنادًا إلى علمه الشخصي المزعوم ، وتفقد الثقة بالقضاة ، ويصبح القضاء سيفاً مسلطاً على الناس ، ولذلك يرتكب الضرر الخاص لرفع الضرر العام ، ويقدم أخف الضررين.
غير أنه يقصد بالعلم الذي يمنع القاضي من الاعتماد عليه في حكمه العلم السابق للقضية ، وأما العلم الذي يستفيده القاضي من دراسة وقائع القضية كما لو استنتج شيئاً بعد رؤية محل النزاع ومعاينته له ، فهو جائز ، إذ لا ترد عليه التهمة في مثل ذلك. والله أعلم.
الإثبات بعلم القاضي في القانون :
في القوانين المعاصرة خولت القضاة سلطة تقديرية واسعة في الإثبات فمنحت القاضي سلطة مطلقة في تقدير وسائل الإثبات وأعطته حرية تكوين القناعة من الوقائع المعروضة عليه ، ومع ذلك منعت القضاء بعلم الحاكم ، ونصت صراحةً على المنع ، مثل قانون الإثبات في الإمارات فنص في المادة الأولى ف3 على عدم الحكم بعلم القاضي ، أما قانون المعاملات المدنية والتجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة فقد حدد طرق الإثبات حصرًا بستة ، م/112 ، ولم يذكر علم القاضي.
فقد نصت المادة 6 من قانون الإمارات على أنه : " إذا لم يجد القاضي نصاً في هذا القانون حكم بمقتضى الشريعة الإسلامية على أن يراعي تخير أنسب الحلول من مذهبي الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل ، فإذا لم يجد فمن المذاهب الأخرى حسبما تقتضيه المصلحة.(2)
__________________________________________________________________
فتح الباري 15/64.
فقه القضاء والدعوة والإثبات ، صـ 309.
" المطلب الثالث "
قبول الهدية(15/32)
الأصل أن قبول الهدية في الشرع مندوب إليه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم الشيء الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الأسكفة " وقال صلى الله عليه وسلم : " الهدية تذهب وجر الصدر ". وقال أيضاً : " تهادوا تحابوا ".(1)
ولكن هذا في حق من لم يتعين لعمل من أعمال المسلمين ، فأما من تعين لذلك ، كالقضاة والولاة فعليه التحرز من قبول الهدية خصوصاً ممن كان لا يهدى إليه قبل ذلك ، لأنه نوع من الرشوة والسحت.
والدليل على ذلك ما رواه الشيخان عن أبي حميد الساعدي قال : " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتيبة ، فلما جاء حاسبه قال : هذا مالكم وهذا هدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى يأتيك هديتك إن كنت صادقاً ، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول : هذا ما لكم وهذا هدية أهديت لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً ، والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حق إلا لقى الله تعالى يحمله يوم القيامة ، فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاةً يتعر ، ثم رفع يده حتى رؤي بياض إبطيه ، ثم قال : اللهم هل بلغت ، بصر عيني وسمع أذني ".(2) وقد وردت أخبار كثيرة بتحريم هدايا العمال منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " هدايا العمال غلول "(3) فهذا يدل على تحريم قبول مطلق الهدية على الحاكم وغيره.
__________________________________________________________________
المبسوط 16/82 ، تبصرة الحكام 1/22،23 ، نهاية المحتاج 8/95 ، المغني لابن قدامة 9/77 ، نيل الأوطار 8/375.
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام باب هدايا العمال برقم 7174.(15/33)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ، كتاب آداب القاضي ، باب لا يقبل منه هدية 15/143.
قال الشوكاني : والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة ، لأن المهدي إذا لم يكن معتادًا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض ، وهو إما التقوي به على باطله ، أو التوصل إلى حقه والكل حرام. وأقل الأحوال أن يكون طالباً لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه ، ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له حق عليه ويخاف من لا يخافه قبل ذلك ، وهذا الأغراض كلها تؤول إلى ما آلت إليه الرشوة ، فيحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدي إليه بعد توليه للقضاء ، فإن للإحسان تأثيرًا في طبع الإنسان ، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليه ، فربما مالت نفسه إلى المهدى إليه ميلاً يؤثر على الحق عندعروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره ، والقاضي لا يشعر بذلك ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه ، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا ، ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدى إليَّ من قبل الدخول فيه بل من الأقارب فضلاً عن سائر الناس ، فكان لذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه ، أسأل الله أن يجعله خالصاً لوجهه ".(1)
جاء في المادة 115 من قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة الفقرة الثالثة : إذا كان أحد الخصوم يعمل عنده أو كان قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته أو كان قد تلقى منه هدية قبل رفع الدعوى أو بعده (2)
__________________________________________________________________
نيل الأوطار : 8/375.
قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة ص 36 .
المبحث الرابع
الإجراءات التي يتبعها القاضي مع الخصوم
لتحقيق مبدأ المساواة(15/34)
يحتوي هذا المبحث على ثلاثة مطالب
المطلب الأول :
……علانية المحاكمة
المطلب الثاني :
……المواجهة بين الخصوم
المطلب الثالث :
……حرية الدفاع والمناقشة
المطلب الأول "
علنية المحاكمة
إذا نظرنا إلى الواقع العملي الذي كان عليه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وهو العلانية في المسجد ، أو في مكان عام لا يمنع أحد من دخوله ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقضي بين الخصوم في معتكفه ، وكان الخلفاء الراشدون يجلسون في المساجد لفصل الخصومات ، بل روي عن بعض القضاة أنهم كانوا يقضون في الطريق العام من غير مضايقة المارة.(1)
ورد في شروط مجلس القضاء أن يكون مأذوناً فيه للناس على العموم(2) وهذا يشمل ما إذا كان الداخل طرفاً في الخصومة أو لم يكن ، ونص الفقهاء على أنه يأذن للناس على العموم ولا يمنع أحدًا ، لأن لكل أحد حقاً في مجلسه.(3)
وأنه يجب ألا يكون على بابه حاجب أو بواب(4) لمنع الناس من الدخول ، وهذا إن كان لمجرد المنع ، ويجوز إذا كان المنع لأجل الترتيب ، وعدم تشويش القاضي. وأنه يجب في المجلس أن يكون في أشهر الأماكن ومجامع الناس(5) وأنه يجوز القضاء في المسجد.
كل ذلك يؤكد أنه لا سرية في المحاكمات الشرعية. بل ورد عن الفقهاء أحكام تدل على أنه لا يكتفى بعدم سرية المحاكمة بل لابد من علانيتها ، منها :
أ. أن القاضي لا يجلس وحده ، سواء أقضى في مجلسه أم في داره(6) ، وذلك لأن جلوسه
__________________________________________________________________
القواعد الإجرائية في المرافعات الشرعية صـ 67.
البحر الرائق لابن نجيم 6/302 ، مجمع الأنهر / داماد أفندي : 2/157.
المصدرين السابقين.
تبيين الحقائق للزيلعي 4/178 ، الأم للشافعي 6/214.
مجمع الأنهر 2/157 ، تبصرة الحكام 1/38 ، مغني المحتاج 6/285.(15/35)
وهذا إن لم يقيده ويخصصه الإمام بمكانٍ معين ، فعندها لا يصح قضاؤه في بيته ولا في أي مكان خارج المخصص.
وحده تهمة ، ونصوا على أنه يجلس معه في داره من يجلس معه في المجلس.(1)
ومفهوم علانية المحاكمة أصبح يعني في العصر الحاضر : أن يتم نظر الدعوى المرافعة فيها في جلسات مفتوحة للجميع ، يكون لكل شخص الحق في حضورها ، وأن يصدر الحكم في جلسة علنية ، وأن يسمح بنشر ما يحدث في الجلسات من مناقشة ، وأن يسمح بنشر الأحكام التي تصدر.(2)
وقد صرح بعض المحدثين بأن الأصل في القضاء الإسلامي هو العلانية ، حتى تكون الدعوى معلومة ، فيدخل في الخصومة من يجد أنها تتعدى إليه ، أو له بها علاقة ، وحتى يحصل الاطمئنان لدى الخصوم ، والردع والزجر لدى الحاضرين.(3)
قال ابن فرحون في مقام ذكره لما ينبغي للقاضي أن يفعله في سيرته في الأحكام ما نصه : ( ومنها أنهم قالوا : لا يقضي إلا بحضرة أهل العلم ومشورتهم ، لأن الله تعالى يقول لنبيه : { وشاورهم في الأمر}(4) ، وقال الحسن البصري رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغنياً عن مشاورتهم ، ولكنه أراد أن تصير سنة للحكام ، قال أشهب : إلا أن يخاف المضرة من جلوسهم ، ويشتغل قلبه بهم وبالحذر منهم ، حتى يكون ذلك نقصاناً في فهمه ، فأحب إلى أن لا يجلسوا إليه ".(5)
وقال ابن قدامة : " قال أصحابنا : يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب حتى إذا حدثت حادثة يفتقر إلى أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها ، فإنه أسرع لاجتهاده ".(6)
__________________________________________________________________
الفتاوى الهندية 3/320 ، درر الحكام 4/623.
التنظيم القضائي الإسلامي / حامد أبو طالب : صـ 49.
القضاء في الإسلام / محمد سلام مدكور : صـ 49.
سورة آل عمران ، الآية : 159.
تبصرة الحكام ، ج1 ، صـ 9.
المغني لابن قدامة : 9/52.(15/36)
يتضح من العبارات السابقة للعلماء أنهم جعلوا هذا الأمر مستحباً ، وليس واجباً إلا أنه ورد عند المالكية ما يشير إلى الوجوب وهو ما قاله الشيخ عليش : " وينبغي للقاضي أن يحضر العلماء مجلس القضاء في معضلة أو يشاورهم .... وإن كان بليد بلادة لا يمكنه معها ضبط قول الخصمين ، وتصور الحقيقة ، لم يختلف في وجوب حضورهم ".(1)
وهذا النوع من العلانية والمراقبة أجدى نفعاً من مراقبة العوام ، فإن اللحن من الحجج والالتواء في الاستنتاج غدا في أيامنا هذه أيسر طرقاً ، وأوسع مجالاً ، وأكثر وسائل من أي وقت مضى ، خصوصاً بعد ما أصبحت مهنة المحاماة من أربح المهن ولم يعد الهدف المقصود بها إظهار الحق وإزهاق الباطل ، وإنما جمع الأموال وكسب الشهرة ، ولو أدى ذلك إلى عكس المقصود بالقضاء ، وهو حماية الحقوق وردها إلى أهلها.
وإن إتاحة الفرصة للعلماء من الأمة لمراقبة القضاة والمحامين أفضل من مراقبة الناس عامة ، فهم أقدر من غيرهم على اكتشاف انحرافهم وفنونهم في الالتواء والتأويل.(2)
وقد نصت مجلة الأحكام العدلية على ضمان مبدأ العلانية حيث ورد في المادة (1815) : " يجري القاضي المحاكمة علناً ، ولكن لا يفشي الوجه الذي سيحكم به قبل الحكم ".(3)
ثم علق شارحها وقال : " يجري القاضي المحاكمة بين الخصمين علناً ، أي أنه لا يمنع الأشخاص الذين يحضرون المحاكمة لسماعها من الحضور ".(4)
ولكن لكل قاعدة استثناء ، فقد تكون بعض الأمور تحتاج حتماً للسرية ، ومنع اطلاع الآخرين عليها ، كالمحافظة على النظام العام في أسرار الدولة ، أو لمراعاة الآداب الاجتماعية لمنع انتشار الأفعال المخلة بالآداب ، ومنع سماعها ، أو للحفاظ على حرمة الأسرة في أسرار الحياة الزوجية ، والعلاقة بين الأسرة ، لذلك سمح القانون للمحكمة أن تكون الجلسة سرية إن
__________________________________________________________________
منح الجليل : 4/159.(15/37)
نظرية الدعوى صـ 452 ، أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات : صـ 105
درر الحكام / علي حيدر : 4/623.
المصدر نفسه .
رأت ذلك من تلقاء نفسها ، أو بناء على طلب أحد الخصوم محافظةً على النظام العام ، أو مراعاةً للأدب أو حرمة الأسرة ( المادة /76 إجراءات مدنية ) ، وقد تنظر المحكمة الدعوى في غرفة المداولة ، أحياناً ، أو في قاعة المحكمة بعد إخراج المستمعين ، فإن نظرتها في جلسة علنية كان الحكم باطلاً ، وإن كانت الجلسة سرية فيجب النطق بالحكم في جميع الأحوال علانيةً ، كما نص قانون الإجراءات الجزائية على علنية المحاكمة إلا لأسباب استثنائية.(1)
إلا أن ذلك لا يعني السرية التامة ، وإنما المقصود مه منع العوام من الدخول دون أهل الاستشارة من العلماء ، وكذلك الشهود على ما يحصل في المحكمة ، وكذلك لا يمنع من تدوين وتسجيل ما فيها لحين الحاجة.(2)
__________________________________________________________________
أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة ، صـ 105.، قانون الاجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة ص 25
نظرية الدعوى بين الشريعة وقانون المرافعات ، صـ 452.
" المطلب الثاني "
المواجهة بين الخصوم
أشار المالكية إلى أن القاضي لا يصح له النظر في الدعوى مع غياب أحد الخصوم ، فلا ينبغي أن يدخل عليه أحدهما دون صاحبه ، لا في مجلس قضاءه ولا في خلوته ، ولا ينبغي أن يجيب أحدهما في غيبة الآخر.(1)(15/38)
غير أنه إذا ظهر اللدد والتعنت من أحد الخصوم في غيابه جاز للقاضي النظر في الخصومة ، وإن ظل غائباً ، كما يجوز للقاضي أن يطّلع على الخصومة إذا عرضها عليه المدعي ، وإن كان خصمه غائباً ، ليعرف وجهها ، فإن وجدها صالحة للنظر فيها استدعى الخصم ، وإن وجدها باطلة ردها ، واستراح من عناء النظر فيها ، وذلك كأن يستبين من أقوال المدعي أنه يطلب ما هو محرم شرعاً كثمن خمرٍ أو خنزيرٍ ونحو ذلك ، فيردها.(2)
والواقع أن هذا المبدأ - وهو المواجهة بين الخصوم – من مقتضيات مبدأ المساواة بين الخصوم ، لأن في السماع من أحدهما في غيبة الآخر تفضيلاً له عليه ، وحرماناً للآخر من سماع أقوال خصمه والرد عليها والدفاع عن رأيه ، غير أنه في كل مرة يتعنت أحد الخصمين يحرم من مقتضيات هذا المبدأ ، فيسمع من خصمه في غيابه ، إذ لا يجوز أن يكون هذا المبدأ سلاح يستعمله أهل الباطل لأكل أموال الناس وحقوقهم.(3)
جاء في المادة
__________________________________________________________________
القوانين الفقهية لابن حزم : صـ 285 ، تبصرة الحكام : 1/42 ، منح الجليل : 4/161.
تبصرة الحكام : 1/42.
نظرية الدعوى : صـ 454.
" المطلب الثالث "
حرية الدفاع والمناقشة واستحضار الحجج
نص الفقهاء على أنه ينبغي على القاضي أن يعطي كلاً من الخصمين الوقت الكافي لتحضير حججه أو دفوعه ، أو إكمالها ، فإذا ادعى المدعي أن معه بينة ، ولكنها غير حاضرة ، فطلب المهلة لإحضارها صح طلبه ، ووجب تلبيته ، وكذلك المدعى عليه إذا طلب إمهاله ليأتي بالوجه الذي يرويه على بينة خصمه ، فيعطيه القاضي من الوقت ما يكفي لذلك ، حسب اجتهاده وتقديره.(1)(15/39)
ولكن لا ينبغي أن يفهم من هذا المبدأ إعطاء الفرصة للمدعى عليه في التهرب من إجابة دعوى المدعي ، كأن يسكت أو يصرّ على عدم الإقرار والإنكار معاً ، إذ لا يمكن بذلك معرفة وجه الحق والحكم به ، ولذلك قال بعض الفقهاء : إن المدعى عليه إن لم يجب على دعوى المدعي بإقرارٍ أو إنكارٍ حبس وأُدب ، فإن أصرّ على عدم الجواب حكم عليه بالحق ، لأن الإصرار على ذلك في قوة الإقرار.(2)
وأما عن رأي علماء المرافعات في هذا المبدأ فذهبوا إلى أنه يقتضي تمكين المدعي من بسط ادعاءاته وتدعيمها بما لديه من أدلة ، وتمكين المدعى عليه من شرح دفاعه ، وتدعيمه بما لديه من أدلة أيضاً ، وللمحكمة سلطة واسعة في تقدير اللازم لتطبيق هذا المبدأ.(3)
وجاء في أصول المحاكمات الشرعية لدولة الإمارات العربية المتحدة : يثبت لكل خصم حق الدفاع عما أورده الآخر لدحض أقواله ، وإبطال بياناته ، ويجب على المحكمة أن تستمع إلى
__________________________________________________________________
المبسوط للسرخس : 16/63 ، تبصرة الحكام : 1/47 ، المغني لابن قدامة : 6/89 ، نظرية الدعوى : صـ 455.
الشرح الكبير : 4/151.
أصول المرافعات لأحمد مسلم : صـ 377.
مرافعة الخصوم كاملةً ، ليكون المدعى عليه آخر من يتكلم في الدعوى المدنية المحضة ، فإن كانت النيابة ممثلة في الدعوى كانت آخر من يتكلم ، ويجب على المحكمة أن تستمع إلى أقوال الخصوم ، ودفاعهم ، وكل ما يريدون قوله حال المرافعة ، ولا يجوز مقاطعتهم إلا إذا خرجوا عن الموضوع أو مقتضيات الدفاع فيقاطعهم القاضي.(1)
وجاء في المادة 73 من قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية مايلي :(15/40)
يجوز للمحكمة أن تسمح للخصوم أثناء سير الدعوى بتقديم مستندات أو دفوع أو وسائل إثبات جديدة أو تعديل طلباتهم أو تقديم طلبات عارضة وتبلغ مذكرات الخصوم بايداعها قلم الكتاب أو بطريق تبادلها مع التأشير على النسخة الأصلية من الخصم بما يفيد ذلك . .(2)
__________________________________________________________________
أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات : صـ 106.
(2) قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة ص 24
مصادر البحث
أولاً : القرآن الكريم
ثانياً : مصادر التفسير
1. جامع البيان عن تأويل القرآن ( تفسير القرطبي ) لمحمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ ، مطبعة دار المعارف بمصر ، تحقيق محمود شاكر.
ثالثاً : مصادر الحديث
السنن الكبرى للبيهقي ، الطبعة الأولى 1416هـ - 1996م ، دار الفكر ، بيروت.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، الطبعة الأولى ، 1420هـ - 2000م ، دار الفكر ، بيروت.
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني المتوفى 1255م ، الناشر مكتبة التوفيقية ، مصر.
إحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـ ، دار بيت الأفكار الدولية ، لبنان ، 2005م.
سنن الدارقطني لعلي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385هـ ، دار المحاسن للطباعة بالقاهرة ، صـ 1386هـ - 1966م ، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب محمد شمس الحق وطبعه دارا لكتب العلمية ، بيروت ، 1417هـ - 1996م؟
صحيح البخاري لمحمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256هـ ، الناشر بيت الأفكار الدولية ، بيروت ، 1419هـ - 1988م.
صحيح مسلم بشرح النووي لمسلم بن الحجاج القشيري ، 261هـ - والشرح ليحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ ، طبعة دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1407هـ - 1987م.(15/41)
الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار لابن عب البر المتوفى سنة 463هـ ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1421هـ - 2001م.
سنن أبي داود لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى 275هـ ، طبعة بيت الأفكار الدولية ، بيروت ، 2005م.
عون المعبود شرح سنن أبي داود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي ، طبعة دار الكتب العلمية ، 1410هـ - 1990م.
المستدرك على الصحيحين لابي عبد الله الحاكم النيسابوري ، وبذيله التعليق على المستدرك الذهبي ، الطبعة الأولى ، 1417هـ - 1997م ، دار الحرمين ، مصر.
سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام ، محمد بن إسماعيل الصنعاني ، دارالحديث ، القاهرة.
مسند الإمام أحمد بن حنبل لأبي عبد الله الشيباني المتوفى سنة 241هـ ، الطبعة الأولى ، 1412هـ - 1991م ، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت.
رابعاً : مصادر الفقه
أ. الفقه الحنفي :
مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر ، لشيخي زاده ، المطبعة العثمانية ، 1327هـ.
المبسوط لشمس الدين السرخس ، تصنيف الشيخ خليل الميسي ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، 1406هـ - 1986م.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، لابن نجيم الحنفي ، دار المعرفة ، بيروت.
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، لعثمان بن علي الزيلعي ، وبهامشه حاشية الشيخ السلمي ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، الطبعة الثانية ، أعيد طبعه بالأوفست ، الطبعة الأولى ، 1313هـ بالمطبعة الأميرية الكبرى ببولاق ، مصر.
الفتاوى الهندية لجماعة من علماء الهند ، وبهامشه فتاوى قاضي خان للإمام فخر الدين الأوزجندي الحنفي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الثالثة ، 1400هـ - 1980م.
رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، " ويليه تكملة ابن عابدين لنجل المؤلف " ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، مصر ، الطبعة الثانية ، 1386هـ - 1966م.(15/42)
بدائع الصنائع لعلاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني ، المتوفى سنة 587هـ ، مطبعة الجمالية بالقاهرة ، 1328هـ - 1910م ، وطبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1418هـ - 1997م.
شرح فتح القدير للكمال ابن الهمام ، مطبعة مصطفى محمد بمصر ، 1356هـ.
تحفة الفقهاء لمحمد بن أحمد السمرقندي ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، 1405هـ.
ب. الفقه المالكي :
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم ابن علي ابن فرحون المدني ، مطبعة مصطفى الحلبي ، مصر ، 1378هـ ، 1958م.
عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لعبد الله بن نجم ابن شاس ، المتوفى سنة 616هـ ، الطبعة الأولى ، 1423هـ - 2003م ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت.
شرح الخرشي على مختصر خليل ، أبو عبد الله محمد الخرشي المتوفى 1101هـ ، المطبعة الأميرية الكبرى ، الطبعة الثانية ، 1317هـ.
مواهب الجليل شرح مختصر خليل لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب ، وبهامشه التاج والإكليل لمختصر خليل للموق ، دار الفكر ، القاهرة ، الطبعة الثالثة ، 1412هـ - 1992م.
منح الجليل على مختصر خليل ، لأبي عبد الله أحمد عليش ، المتوفى سنة 1299هـ ، المطبعة العامرة بالقاهرة ، 1294هـ.
قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي ، المتوفى سنة 660هـ ، دار المعرفة ، بيروت.
القوانين الفقهية " قوانين الأحكام الشرعية ، لمحمد بن أحمد بن محمد بن جزي الكلبي المتوفى سنة 741هـ ، مطبعة النهضة بتونس ، 1344هـ - 1926م.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد الحفيد ، مكتبة الكليات الأزهرية ، 1966م ، وطبعة دار المعرفة ، بيروت ، 1420هـ - 2000م.
الشرح الصغير على أقرب المسالك ، لأحمد بن محمد بن أحمد الدردير ، طبعة دار المعارف ، القاهرة.
ج. الفقه الشافعي :
الأم ، لمحمد بن إدريس الشافعي ، تحقيق محمد زهر النجار ، دار المعرفة ، بيروت ، 1990م.(15/43)
الحاوي الكبير ، للإمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبب الماوردي ، المتوفى سنة 450هـ ، طبعة 1414هـ - 1994مك ، دار الفكر ، بيروت.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، شمس الدين محمد ابن أحمد الرملي المتوفى 1004هـ ، المطبعة البهية المصرية ، 1304.
قليوبي وعميرة ، شهاب الدين القليوبي والشيخ عميرة حاشيتان ، على شرح المحلي على المنهاج ، دار إحياء الكتب العربية.
مغني المحتاج ، للخطيب الشربيني ، طبعة مصطفى الحلبي ، القاهرة ، 1958م.
المهذب في فقه الإمام الشافعي ، لإبراهيم ابن علي بن يوسف الشيرازي ، المتوفى سنة 476هـ ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1416هـ - 1995م.
د. الفقه الحنبلي :
شرح منتهى الإرادات ، لمنصور ابن يونس البهوتي ، الطبعة الثانية ، عالم الكتب ، بيروت ، 1416هـ - 1996م.
المغني ، لابن قدامة ، طبعة دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1405هـ.
كشاف القناع عن متن الإقناع ، لمنصور ابن يونس ابن إدريس البهوتي ، طبعة دار الفكر ، بيروت ، 1402هـ - 1982م.
إعلام الموقعين عن رب العالمين ، لمحمد بن أبي بكر الزرعي الشهير بابن القيم ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل ، تأليف : عبد الله بن قدامه المقديسي ، الطبعة الخامسة ، 1408هـ - 1988م ، المكتب الإسلامي ، بيروت.
و. الفقه الظاهري :
المحلى بالآثار ، أبو محمد علي بن حزم الأندلسي ، المتوفى سنة 456هـ ، مطبعة المنيرية ، 1350هـ.
خامساً : المراجع العامة
نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات المدنية الإسلامية ، أ.د. محمد نعيم ياسين ، الطبعة الثانية ، 1420هـ - 2000م ، دار النفائس للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن.
القواعد الإجرائية في المرافعات الشرعية ، د. عبد الله بن عبد العزيز الدرعان ، الطبعة الأولى ، 1413هـ - 1993م ، مكتبة التوبة ، الرياض.(15/44)
أصول المحاكمات الشرعية في قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة ، د. محمد الزحيلي ، مركز البحوث والدراسات ، جامعة الشارقة ، 2004م.
فقه القضاء والدعوة والإثبات ، د. محمد الزحيلي ، طبعة 1422هـ - 2002م.
الوجيز في الدعوى والإثبات ،
أصول المحاكمات الشرعية الجزائية ، د. أسامة على مصطفى الفقير الربابعة ، دار النفائس للطباعة والنشر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1425هـ - 2005م.
أصول المرافعات ، الدكتور أحمد مسلم ، مطابع دار الفكر العربي بمصر ، سنة 1969م.
شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية العراقي ، ضياء شيث خطاب ، مطبعة العاني ببغداد ، سنة 1969م.
قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات ، المحامي محمد محمود ، دار النسر الذهبي ، القاهرة ، 1999م.
قواعد المرافعات في دولة الإمارات ، دكتور أحمد صدفي محمود ، مطبعة البيان التجارية ، دبي ، 1999م.
القضاء في الإسلام ، لمحمد سلام مدكور ، نشر دار النهضة العربية.
التنظيم القضائي ، لحامد أبو طالب ، مطبعة السعادة ، الطبعة الأولى ، 1402هـ - 1982م.
قانون الإجراءات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة ، قانون اتحادي رقم 11 لسنة 1992م – اكسبرس للطباعة(15/45)
الجهات القضائية واختصاصاتها
في المملكة العربية السعودية
ندوة " القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والآمال"
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الشارقة- 4-6/4/2006م
إعداد
د : عبدالله بن محمد نوري الديرشوي
الأستاذ المشارك للفقه وأصوله- جامعة الملك فيصل - الأحساء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خير خلقه سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الدين. وبعد
فإن العدل مطلب عزيز, وغاية نبيلة, به قامت السماوات والأرض, وعلى أسسه صلح ويصلح أمر الأمم أفرادٍ وجماعاتٍ، وبمقدار تحقيقه يكون دوام الملك وبقاء الحضارات.
ولقد سعى المسلمون جهدهم منذ فجر دعوتهم إلى إرساء قواعد العدالة, ووضع أسسها ودعائمها, بالشكل الذي يكفل لها النزاهة والاستقامة, ويجعلها في حصن حصين, لا تخضع لنفوذ ذوي الجاه والسلطان, ولا تتأثر بأساليب المخادعين والطامعين أصحاب النفوس المريضة, وذلك من خلال حسن اختيار القضاة, ومنحهم سلطة في الحكم تعلو على كافة السلطات, وتطال جميع الشخصيات مهما كانت مراتبها، وصفتها.
وقد قدم قضاة المسلمين وحكامهم لفترات طويلة من تاريخ الدولة الإسلامية أروع الأمثلة العملية في استقلال القضاء, ونزاهته وتحقيقه للمساواة بين المتخاصمين, بغض النظر عن انتمائهم الديني, أو العرقي, أو ما يتمتع به بعضهم من جاه أو سلطان.(16/1)
واستجابة لمبدأ مراعاة التخصص, وسعياً إلى تحقيق الاستقلال والنزاهة في القضاء, والعدالة في الحكم, , فإن ولاة المسلمين- منذ العصر الأول- قاموا بالفصل بين منصبي الولاية والقضاء, ثم ما لبثوا أن جعلوا القضاء نفسه على مراتب, فخصصوا قسماً منه بالقضايا التي يكون الحكام طرفاً فيها وسموه ولاية المظالم, وولوه أكثر القضاة هيبة, وأقواهم شخصية، وأوفرهم علماً، ثم جعلوا دونه ولاية القضاء العامة, ثم دونهما ولاية الحسبة. ثم جعلوا القضاء على أنواع بحسب الاختصاص, فأوجدوا قاضي الجند, وقاضي العقار, وقاضي المناكح, وقاضي السوق ... كما أوجدوا منصب قاضي القضاة, أو قاضي الجماعة, ليتولى الإشراف على أعمال القضاة, ويتفقد أحوالهم, ويراعي أمورهم وسيرتهم في الناس.(1)
وصرح أهل العلم منذ القديم بأن من حق الحاكم أن يستدعي جماعة من الفقهاء للنظر في حكم صادر من قاض, إذا رفعت في حقه الشكوى من قبل أحد أطراف النزاع بالتظلم من حكمه.(2) وهو ما يعرف اليوم بمحكمة التمييز.
__________
(1) انظر: ابن قدامة؛ المغني:10/135-136؛ ابن فرحون؛ تبصرة الحكام:1/68؛ 16-18؛سعود بن سعد آل دريب؛ التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية: 529-534؛ القضاء في المملكة العربية السعودية: 49-50.
(2) ابن فرحون؛ تبصرة الحكام: 1/70-71.(16/2)
هذا وقد تطور القضاء ولازال يتطور عبر العصور من الناحية الشكلية, تبعاً لتطور العمران, شأنه في ذلك شأن غيره من المؤسسات والإدارات العاملة في الدولة. وفي الصفحات القادمة سنلقي الضوء على ما آل إليه وضع القضاء في المملكة, من حيث درجات المحاكم وتخصصاتها, وغني عن البيان أن المملكة تعد من بين الدول القلائل – إن لم تكن الدولة الوحيدة- التي صمدت في وجه الغزو الفكري القانوني, واستمر قضاتها في الحكم بمقتضى الشريعة في كافة جوانب الحياة, وفي جميع أنواع النزاعات, ولم يشعر قضاتها يوماً أن الشريعة ناقصة أو عاجزة لا تستطيع مواكبة تطورات الحياة, وأن عليهم الاستعانة بالقوانين الوضعية, معاذ الله أن يكون ذلك من مسلم فضلاً عن قاض.
وختاماً أسأل الله الجليل أن يعيد الجميع إلى تحكيم شرعه المبين، واتِّباع هدي سيد خلقه الأمين, وأن يجزي القائمين على هذه الندوة المباركة خير الجزاء, وأن يبارك في جهودهم وينفع بها, وأن يجعل سعينا وسعيهم خالصاً لوجهه الكريم, إنه خير مسؤول.
- مقدمات بين يدي موضوع البحث:(16/3)
1- الالتزام بتطبيق الشريعة الإسلامية: نصت (المادة7) من نظام الحكم في المملكة على أن الحكم :" يستمد سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة" وهذا العموم يفيد وجوب إخضاع نظام القضاء, وغيره من الأنظمة لنصوص الشرع. ولكن ومع ذلك فإن نظام القضاء, ونظام المرافعات الشرعية استفتحا موادهما بالتأكيد على هذا الأمر فقد جاء في( المادة1) من نظام القضاء: " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية, وليس لأحد التدخل في القضاء". وجاء في ( المادة1) من نظام المرافعات الشرعية:" تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكامَ الشريعة الإسلامية؛ وفقاً لما دل عليه الكتاب والسنة، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة، وتتقيد في إجراءات نظرها بما ورد في هذا النظام".
وعليه فإن تحكيم الشرع لا يقتصر على الجانب المتعلق بالأحوال الشخصية, أو الأحوال الشخصية والقانون المدني فحسب,كما هو الحال في معظم البلدان الإسلامية,بل يعم جميع الجوانب.
2- استقلالية القضاء: يتمتع القضاء في المملكة بالاستقلال التام في عمله، وليس عليه من سلطان إلا سلطان الشريعة (المادة1) وهو يتمتع بحصانة تحفظ له مقامه وكرامته، ولا يجوز عزله إلا في حالات محدودة نص عليها النظام (المادة2) كما لا يجوز نقله إلى وظيفة أخرى إلا برضاه, أو بسبب ترقيته (المادة3 ).(16/4)
3- لا يوجد قانون مكتوب يُلْزِمُ القضاةَ: لا تلزم الأنظمة القاضي بأقوال مذهب أو مجتهد بعينه لدى إصداره للحكم، ولا سلطان عليه إلا لنصوص الكتاب والسنة ( المادة1من نظامي القضاء والمرافعات الشرعية) والأمر متروك لاجتهاده وقناعاته لاختيار ما يراه الأصوب والأقرب إلى نصوص الشريعة, مع الاستنارة باجتهادات فقهاء المسلمين, ولا يوجد قانون مكتوب يلزم القاضي التقيد به أو الرجوع إليه في حكمه.
ومسألة تقنين الفقه, وتدوين الراجح من الآراء, وإلزام القضاة به, لا تزال بين أخذ ورد في وسط أهل العلم من المتخصصين والمهتمين بالقضاء, والذي يظهر أن أكثرهم وإلى وقتنا هذا لا يرون مشروعيته، ولا يقتنعون بجدواه, وهو الرأي الذي تبنته هيئة كبار العلماء في المملكة بالأغلبية منذ زمن طويل, ولم يصدر عنهم ما يفيد تغيير موقفهم ذاك من مسألة التقنين.(1)
__________
(1) القرار رقم: 8 بعنوان:تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به. مجلة البحوث الإسلامية؛ العدد : 31 سنة 1411هـ ، صفحة: 58 - 65 .(16/5)
4- يعين القضاة من حملة الشريعة حصراً: نصت المادة (37 الفقرة د ) من نظام القضاء على أنه يشترط فيمن يولى القضاء :" أن يكون حاصلاً على شهادة إحدى كليات الشريعة بالمملكة العربية السعودية, أو شهادة أخرى معادلة لها, بشرط أن ينجح في الحالة الأخيرة في امتحان خاص تعده وزارة العدل, ويجوز في حالة الضرورة تعيين من اشتهر بالعلم والمعرفة من غير الحاصلين على الشهادة المطلوبة". وهذه نتيجة طبيعية تنسجم مع تحكيم الشريعة, بخلاف كثير من الدول الإسلامية التي لا تسمح لحملة الإجازة في الشريعة بتولي منصب القضاء مطلقاً, بل لا يُسمح لهم بذلك حتى في الجانب المتعلق بالأحوال الشخصية, الذي يفترض فيه استمداده من أحكام الشريعة الإسلامية, وأنهم الأعلم به، وأصحاب التخصص فيه. ولا يخفى ما في هذا الاستبعاد من ظلم للشريعة وحملتها, و مجانبة للصواب، وأن على الجميع السعي في تصحيح هذا الخلل ما أمكن.
5- علنية الجلسات والمرافعات: يأخذ القضاء في المملكة بمبدأ علنية الجلسات والمرافعات أمام القضاء لما في ذلك من آثار إيجابية على نفوس من يمثلون أمام المحكمة, حيث يبعث في نفوسهم الطمأنينة والارتياح لسير العدالة ونزاهتها, ويمنحه المزيد من الثقة بالحكم.(1) جاء في المادة (33) من نظام القضاء :" جلسات المحاكم علنية إلا إذا رأت المحكمة جعلها سرية, مراعاة للآداب, أو حرمة للأسرة, أو محافظة على النظام العام, ويكون النطق بالحكم في جميع الأحوال في جلسة علنية".
الجهات القضائية واختصاصاتها
__________
(1) وزارة العدل؛ القضاء في المملكة: 204- 205.(16/6)
تأخذ المملكة بنظام تعدد الجهات القضائية، فهناك أولاً جهة القضاء الرئيسة والأساسية في المملكة، وهي القضاء الشرعي, الذي ينضوي تحت لواء وزارة العدل, وهيكلها الإداري. وهناك ديوان المظالم الذي يتولى النظر في القضايا التي تكون الجهات الإدارية في الدولة طرفاً فيها، وترتبط بالملك مباشرة. وهناك أيضاً لجان وهيئات قضائية مخصوصة, تتمتع بصفة قضائية داخل مؤسساتها, ويعهد إليها بمهمة الفصل في المنازعات داخل تلك المؤسسات، وتكون قراراتها ملزمة لأطراف النزاع. وفيما يلي نستعرض تنظيم هذه الجهات واختصاصاتها بشيء من التفصيل.
أولاً: القضاء العادي :
يعد القضاء العادي المؤسسة الطبيعية التي تتولى النظر في جميع المنازعات المدنية والتجارية ومسائل الأحوال الشخصية والقضايا الجنائية إلا ما استثني من ذلك بنظام( المادة 26) من نظام القضاء. وتتكون هذه المحاكم داخل مؤسسة القضاء العادي من أنواع متعددة وذات اختصاصات متنوعة وعلى النحو الآتي:
1- أنواع المحاكم وترتيبها: تتكون المحاكم الشرعية وفق ما نصت عليها (المادة 5 من نظام القضاء) وبدءاً من الأدنى إلى الأعلى مما يأتي:
أ- المحاكم الجزئية.
ب - المحاكم العامة.
ج - محكمة التمييز.
د - مجلس القضاء الأعلى.
2- الهيكل التنظيمي للمحاكم وكيفية صدور أحكامها: يختلف الهيكل التنظيمي للمحاكم التي أسلفنا ذكرها، كما تختلف طريقة كل واحد منها في إصدار أحكامها تبعاً لأهمية وخطورة المسائل التي وُكِّلَ إليها أمرها. وفيما يلي بيان ذلك بإيجاز:
أ- المحاكم الجزئية: وتتألف من قاض أو أكثر ( المادة 24من نظام القضاء). وتصدر أحكامها من قاض فرد ( المادة 25 من نظام القضاء).
ب- المحاكم العامة: وتتألف من قاض أو أكثر ( المادة 22 من نظام القضاء). وتصدر أحكامها من قاض فرد، ويستثنى من ذلك قضايا القتل والرجم والقطع, وغيرها من القضايا التي يحددها النظام, فتصدر من ثلاثة قضاة( المادة 23 من نظام القضاء).(16/7)
ج- محكمة التمييز: وتتألف من رئيس وعدد كاف من القضاة, يمثلون هيئتها العامة ( المادة 15من نظام القضاء ). ويكون مقرها مدينة الرياض(1) ويجوز بقرار من هيئتها العامة أن تعقد بعض دوائر المحكمة جلساتها كلها, أو بعضها في مدن أخرى, أو أن تقام لها فروعٌ في مدن أخرى, إذا اقتضت المصلحة ذلك ( المادة 12من نظام القضاء).
ويوجد في هذه المحكمة ثلاث دوائر: دائرة للنظر في القضايا الجزائية. وأخرى للنظر في قضايا الأحوال الشخصية. وثالثة للنظر في القضايا الأخرى. ويجوز أن تعدد هذه الدوائر بقدر الحاجة، ويرأس كل دائرة الرئيس أو أحد نوابه ( المادة 10 من نظام القضاء).
__________
(1) يشار هنا إلى أنه يوجد في الوقت الحالي هيئتان منفصلتان للتمييز: إحداهما في مكة المكرمة. والأخرى في الرياض, ولكل منهما رئيسها، وترتبطان برئاسة القضاء. وقد انتقد بعضهم ذلك لما قد ينتج عنه من اختلاف في الاجتهادات الصادرة من الهيئتين، الأمر الذي يتنافى مع وحدة القضاء في البلد الواحد. ويبدو أن نظام القضاء قد تنبه لهذا فنص على أن الهيئة تكون واحدة ومقرها الرياض كما أسلفنا ( م12) إلاَّ أن الوضع لا يزال على ما كان عليه قبل صدور النظام. انظر: عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ؛ لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية: 165-166؛ سعود بن سعد آل دريب؛ التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية: 431-432. وأما وزارة العدل في المملكة فتذهب إلى أن تمييز مكة فرع, وأن النية معقودة على إحداث فرع ثان في أبها بالمنطقة الجنوبية وقد أوشك على الانتهاء منه. وأن ذلك إنما تم بالاستناد إلى المادة 12 السالفة والتي منحت الهيئة العامة للمحكمة أن تقيم لها فروعاً حيث رأت في ذلك المصلحة. انظر: وزارة العدل؛ القضاءفي المملكة العربية السعودية:126-127.(16/8)
وتصدر قرارات المحكمة من ثلاثة قضاة باستثناء قضايا القتل والرجم والقطع فتصدر من خمسة قضاة. (المادة 13من نظام القضاء).
وتعقد الهيئة العامة برئاسة رئيس المحكمة أو الأقدم من نوابه في حالة غيابه, ويكون انعقادها بناءً على دعوة من الرئيس أو نائبه وفقاً لحاجة العمل, أو بناءً على طلب يتقدم به ثلاثة من قضاة المحكمة على الأقل ( المادة 17من نظام القضاء). ولا يكون انعقاد الهيئة العامة صحيحاً إلا إذا حضره ثلثا قضاة المحكمة. فإن لم يحضر هذا النصاب, أعيدت الدعوة, ويكون الانعقاد صحيحاً هذه المرة إذا حضر الجلسة نصف قضاة المحكمة ( المادة 18من نظام القضاء).
وتصدر قرارات الهيئة العامة بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين, وإذا تساوت الآراء يرجح الجانب الذي فيه الرئيس (المادة 19من نظام القضاء) ويستثنى من ذلك حالة العدول عن اجتهاد سابق في إحدى الدوائر, فإن الحكم يحال إلى الهيئة العامة, ويجب موافقة الثلثين (المادة 14من نظام القضاء).
ويعتبر قرار الهيئة العامة نهائياً بموافقة وزير العدل عليه, فإن لم يوافق عليه أعاده إليها لتتداول فيه مرة أخرى, فإذا لم تسفر المداولة عن الوصول إلى قرار يوافق عليه وزير العدل, عرض الأمر على مجلس القضاء الأعلى للفصل فيه, ويعتبر قراره فيه نهائياً ( المادة 20 من نظام القضاء).
د- مجلس القضاء الأعلى: يتألف مجلس القضاء الأعلى من أحد عشر عضواً, ويكون له هيئتان:
أ- هيئة دائمة وتتألف من خمسة أعضاء متفرغين بدرجة رئيس محكمة تمييز يعينون بأمر ملكي، ويرأسها أحد الأعضاء بأمر ملكي .(16/9)
ب- هيئة عامة وتتألف من أحد عشر عضواً هم أعضاء الهيئة الدائمة مضافاً إليهم خمسة أعضاء غير متفرغين وهم: رئيس محكمة التمييز أو نائبه, ووكيل وزارة العدل, وثلاثة من أقدم رؤساء المحاكم العامة في المدن الآتية: (مكة المكرمة، المدينة المنورة، الرياض، جدة، الدمام، جازان) ويرأس هذه الهيئة رئيس مجلس القضاء الأعلى ( المادة 6 من نظام القضاء).
ويكون انعقاد المجلس بهيئته الدائمة صحيحاً بحضور أغلبية أعضائها, إلا عند مراجعته للأحكام الصادرة بالقتل أو القطع أو الرجم، فينعقد بحضور جميع الأعضاء. وفى حالة غياب أحدهم, يحل من يرشحه وزير العدل من أعضاء المجلس غير المتفرغين.
أما انعقاده بهيئته العامة فلا يكون صحيحاً إلا بحضور جميع الأعضاء. وفى حالة غياب أحدهم, أو نظر المجلس مسألة تتعلق به أو له فيها مصلحة مباشرة, يحل محله من يرشحه وزير العدل من أعضاء محكمة التمييز.
وتصدر قرارات المجلس في حالتي انعقاده بهيئته بالأغلبية المطلقة لأعضاء الهيئة. ( المادة 9 من نظام القضاء).
3- الاختصاص النوعي للمحاكم:
ونعني به القضايا التي تدخل في اختصاص كل طبقة من طبقات المحاكم التي أسلفناها وهي:
أ- المحاكم الجزئية: حددت المادة (31 ) من نظام المرافعات الشرعية ولوائحه التنفيذية القضايا التي تنظر فيها المحاكم الجزئية وهي:
أ - دعوى منع التعرض للحيازة ودعوى استردادها.
ب- الدعاوى التي لا تزيد قيمتها على عشرة آلاف ريال.
ج - الدعوى المتعلقة بعقد إيجار لا تزيد الأجرة فيه على ألف ريال في الشهر بشرط ألا تتضمن المطالبة بما يزيد على عشرة آلاف ريال .
د - الدعوى المتعلقة بعقد عمل لا تزيد الأجرة أو الراتب فيه على ألف ريال في الشهر بشرط ألا تتضمن المطالبة بما يزيد على عشرة آلاف ريال .(16/10)
ويجوز عند الاقتضاء تعديل المبالغ المذكورة في الفقرات ( ب ، ج ، د ) من هذه المادة ، وذلك بقرار من مجلس القضاء الأعلى بهيئته العامة بناء على اقتراح من وزير العدل ". وقد عدلت هذه المبالغ بالفعل إلى عشرين ألف ريال فما دون بتاريخ 23/6/ 1422هـ ( اللائحة التنفيذية 31/11)
ب– المحاكم العامة: حددت المادة (32 ) من نظام المرافعات الشرعية ولوائحه التنفيذية القضايا التي تنظر فيها هذه المحاكم وهي:" من غير إخلال بما يقضي به ديوان المظالم، تختص المحاكم العامة بجميع الدعاوى الخارجة عن اختصاص المحاكم الجزئية، ولها على وجه الخصوص النظر في الأمور الآتية :
1. جميع الدعاوى العينية المتعلقة بالعقار.
2. إصدار حجج الاستحكام، وإثبات الوقف، وسماع الإقرار به، وإثبات الزواج، والوصية، والطلاق، والخلع، والنسب، والوفاة، وحصر الورثة.
3. إقامة الأوصياء، والأولياء، والنظار، والإذن لهم في التصرفات التي تستوجب إذن القاضي، و عزلهم عند الاقتضاء.
4. فرض النفقة وإسقاطها.
5. تزويج من لا ولي لها من النساء.
6. الحجر على السفهاء والمفلسين".
كما نصت اللائحة التنفيذية في الفقرة( 18) من المادة (32) على أن كل ما لم ينص عليه من سائر الإنهاءات, فهو من اختصاص المحاكم العامة لعموم ولايتها ".
والبلد الذي ليس فيه محكمة جزئية, تتولى المحكمة العامة النظر في جميع الدعاوى والقضايا الداخلة في اختصاصها.
ج– محكمة التمييز: حددت المادة (16 ) من نظام المرافعات الشرعية ولوائحه التنفيذية اختصاص الهيئة العامة للمحكمة بما يأتي:"
1. ترتيب وتأليف الدوائر اللازمة وتحديد اختصاصها.( أي الدوائر المشار إليها في المادة 10 من نظام القضاء وهي: دائرة للنظر في القضايا الجزائية. وأخرى للنظر في قضايا الأحوال الشخصية. وثالثة للنظر في القضايا الأخرى, ويجوز أن تعدد هذه الدوائر بقدر الحاجة).(16/11)
2. المسائل التي ينص هذا النظام أو غيره من الأنظمة على نظرها من قبل الهيئة العامة. وقد بينتها المادة (179) من نظام المرافعات الشرعية وهي: أن الأصل في جميع الأحكام أنها قابلة للتمييز, باستثناء الأحكام في الدعاوى اليسيرة التي يحددها مجلس القضاء الأعلى بقرار يصدر من هيئته العامة, بناء على اقتراح من وزير العدل. على أنه إذا كان المحكوم عليه ناظر وقف، أو وصياً، أو ولياً، أو مأمور بيت مال، أو ممثل جهة حكومية ونحوه، أو كان المحكوم عليه غائباً فعلى المحكمة أن ترفع الحكم إلى محكمة التمييز لتدقيقه مهما كان موضوع الحكم.
د- مجلس القضاء الأعلى:
نصت المواد (7 و8 ) من نظام القضاء على اختصاصات مجلس القضاء الأعلى وهي:
الإشراف على المحاكم في الحدود المبينة في هذا النظام.
النظر في المسائل الشرعية التي يرى وزير العدل ضرورة تقرير مبادئ عامة شرعية فيها.
النظر في المسائل التي يرى ولي الأمر ضرورة النظر فيها من قبل المجلس.
إبداء الرأي في المسائل المتعلقة بالقضاء بناءً على طلب وزير العدل .
مراجعة الأحكام الصادرة بالقتل أو القطع أو الرجم .
يضاف إلى ذلك ما سبق أن أشرنا إليه في فقرة أنواع المحاكم وترتيبها ولدى الحديث عن محكمة التمييز وهي:
- سلطة الترجيح عند اختلاف الرأي في الهيئة العامة لمحكمة التميز.( المادة 14من نظام القضاء).
- حسم الخلاف الذي قد يثور بين الهيئة العامة لمحكمة التمييز, ووزير العدل.(المادة 20 منه).
- المحاكم المتخصصة: وهي محاكم تابعة كسابقتها لوزارة العدل, وداخلة ضمن هيكلها التنظيمي, غير أنها تُنْشَأ على سبيل الاستثناء، وتكون متخصصة في موضوع معين، ويتولى منصب القضاء فيها قضاة المحاكم العامة أنفسهم. وقد نصت المادة (26 من نظام القضاء). على أنه "يجوز إنشاء محاكم متخصصة بأمر ملكي بناءً على اقتراح مجلس القضاء الأعلى".(16/12)
ويوجد في المملكة من هذا النوع محكمتان: محكمة الأحداث, ومحكمة الضمان والأنكحة.
أ- محكمة الأحداث: المقصود بالحدث من كان فوق السابعة من عمره، ودون الثامنة عشر. وتتكون هذه المحكمة من قاضٍ واحدٍ, وتختص بالنظر في الجنايات والحدود والجنح التي ارتكبها الحدث وهو دون البلوغ( الخامسة عشر) أو أنه فوق الخامسة عشر ودون الثامنة عشر وكانت تلك المخالفات مما ليس فيها قتل ولا رجم ولا قطع, كتعاطي المسكرات أو المخدرات, أو القذف. وأما ما كان فيه إتلاف( كالقتل والقطع والرجم) وقد أتم الحدث الخامسة عشر من عمره فتنظر فيها المحاكم العامة المختصة, وتصدر أحكامها من ثلاث قضاة (المادة23 من نظام القضاء).
وتتم محاكمة الحدث ومجازاته داخل دور الملاحظة الخاصة بهم. وتكون هذه الدور تحت إشراف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية, ممثلة في وكالة الرعاية الاجتماعية. ويشار هنا إلى أنه لا بد من تمييز الحكم لدى هيئة التمييز للنظر في مدى مناسبة العقوبة لسنه وجنايته.(1)
ب- محكمة الضمان والأنكحة: نظراً لحاجة الناس إلى أنواع من الإثباتات القضائية أكثر من غيرها فقد أنشئت محكمة تختص بإثبات حالات الضمان الاجتماعي، وكذا وقائع النكاح, بحيث تتولى إجراءه, والتحقق من مقتضياته, والنظر في ولاية النكاح, وإثبات الطلاق من المقر به, والتحقق من حاجة طالب المساعدة في النكاح ونحو ذلك. ويندرج تحت تشكيل هذه المحكمة عدد من الأقسام الإدارية التي تشكل صورة الهيكل الإداري له.(2)
__________
(1) وزارة العدل؛ القضاء في المملكة: 132- 134؛ عبد الرحمن الغزي, قضاء الأحداث في المملكة, مقال نشر بمجلة العدل: العدد الثاني, ربيع الآخر 1420هـ صفحة:215- 220؛ آل دريب, التنظيم القضائي في المملكة: 441- 443. وقد أفادني بعض القضاة أن هذه المحكمة قد ألغيت أخيراً.
(2) وزارة العدل؛ القضاء في المملكة: 134- 135؛ آل دريب, التنظيم القضائي في المملكة: 443- 444.(16/13)
وتتجه وزارة العدل نحو افتتاح المزيد من هذه المحاكم المتخصصة كالمحاكم المرورية والمحاكم التجارية .. .
ثانياً: ديوان المظالم :
يعد ديوان المظالم جهة قضائية مستقلة, لا تتبع وزارة العدل, ولا تدخل في هيكلها الإداري, و ينظر إليها على أنها استثناءٌ من هيكل القضاء العام, لاختلافها عنه في الاختصاص. وهو كما عرفته المادة (1) من نظام ديوان المظالم:" هيئة قضاء إداري مستقلة ترتبط مباشرة بجلالة الملك". أي أنه يتولى النظر في القضايا التي تكون الجهات الإدارية في الدولة طرفاً فيها، والغرض من هذا النوع من القضاء هو تحقيق العدالة من خلال الموازنة بين المصالح العامة في الدولة من جهة, وحماية حقوق وحريات الأفراد في مواجهة تلك المؤسسات والجهات الحكومية التي يتبعونها أو يرتبطون بها في قضايا مالية أو إدارية أو عملية من جهة أخرى(1).
1- الهيكل التنظيمي للديوان وكيفية صدور أحكامه:
نصت المادة (1) من نظام ديوان المظالم على أن الديوان يرتبط مباشرة بجلالة الملك، وعلى أن المقر الرئيسي له هو مدينة الرياض, ويجوز بقرار من رئيس الديوان إنشاء فروع له حسب الحاجة. وقد أقيمت له بالفعل فروع أربعة في كلٍ من الرياض وجدة والدمام وأبها.
ونصت المادة (2) على أن الديوان يتألف" من رئيس بمرتبة وزير، ونائب رئيس أو أكثر ، وعدد من النواب المساعدين والأعضاء ذوي التخصص في الشريعة والأنظمة". كما وضع لكل فرع تشكيل إداري متكامل، يرتبط برئاسة الديوان، وينضوي تحت لوائه عدد من المستشارين المتخصصين في مجال الشريعة والأنظمة, الذين يشكلون الدوائر القضائية بأنواعها المختلفة داخل كل فرع من فروع الديوان, ويمكن تقسيم هذه الدوائر بالنظر إلى هيكلها التنظيمي لثلاث مجموعات:
__________
(1) آل دريب؛ التنظيم القضائي في المملكة: 482؛ وزارة العدل؛ القضاء في المملكة: 149.(16/14)
أ- الدوائر الإدارية, والدوائر الجزائية, والدوائر التأديبية, والدوائر التجارية. وتتكون كل واحدة من هذه الدوائر الأربعة من ثلاثة أعضاء, وتكون مداولاتها سراً, ويصدر قرارها بالأغلبية, وينسب الحكم إلى الدائرة (المادة 30 من نظام الإجراءات والمرافعات بديوان المظالم).
ب - الدوائر الفرعية وتتكون من عضو واحد. (المادة 14 من نظام المرافعات).
ج - هيئة التدقيق ( وتتكون من عدد كاف من الأعضاء, ويرأسها رئيس الديوان نفسه, ويندرج تحتها عدة دوائر, كل واحدة منها تتكون من ثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الديوان, ويختار رئيس الدائرة من بينهم, وقد تتكون الدائرة من عضو واحد للدعاوى اليسيرة التي يراها رئيس الديوان (المادة 39 من نظام المرافعات).(1)
2- اختصاصات ديوان المظالم:
حددت المادة (8) من نظام ديوان المظالم اختصاصاته بما يلي:"
(أ) الدعاوى المتعلقة بالحقوق المقررة في نظم الخدمة المدنية والتقاعد لموظفي ومستخدمي الحكومة والأجهزة ذوات الشخصية المعنوية العامة.
(ب) الدعاوى المقدمة من ذوي الشأن بالطعن في القرارات الإدارية.
(ج) دعاوى التعويض الموجهة من ذوي الشأن إلى الحكومة والأشخاص ذوي الشخصية العامة المستقلة بسبب أعمالها.
(د) الدعاوى المقدمة من ذوي الشأن في المنازعات المتعلقة بالعقود التي تكون الحكومة أو أحد الأشخاص المعنوية طرفاً فيها.
(هـ) الدعاوى التأديبية التي ترفع من هيئة الرقابة والتحقيق.
(و) الدعاوى الجزائية الموجهة ضد المتهمين بارتكاب جرائم التزوير المنصوص عليها نظاماً، والجرائم المنصوص عليها في نظام مكافحة الرشوة .. وكذلك الدعاوى الجزائية الموجهة ضد المتهمين بارتكاب الجرائم والمخالفات المنصوص عليها في الأنظمة إذا صدر أمر من رئيس مجلس الوزراء إلى الديوان بنظرها.
(ز) طلبات تنفيذ الأحكام الأجنبية.
__________
(1) علي شفيق، الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في المملكة:54- 59 ؛ وزارة العدل، القضاء في المملكة: 153.(16/15)
(ح) الدعاوى التي من اختصاص الديوان بموجب نصوص نظامية خاصة".
هذه هي مجمل اختصاصات الديوان, وقد تم توزيعها على الدوائر والهيئات التي يتكون منها الديوان - والتي أشرنا إليها في الفقرة السابقة - على النحو الآتي:
أ- الدوائر الإدارية: وهي صاحبة الاختصاص العام, وتختص بالفصل في جميع المسائل المنصوص عليها في المادة السابقة (8) من النظام باستثناء ما يدخل في اختصاص الدوائر الأخرى.
ب- الدوائر الجزائية: وتختص بالفصل في الدعاوى ذات الصبغة الجنائية كجرائم التزوير والرشوة والاختلاس.
ج- الدوائر التأديبية: وتختص بالفصل في الدعاوى التي ترفع من هيئة الرقابة والتحقيق عن المخالفات المالية والإدارية.
د- الدوائر التجارية: وتختص بالفصل في المنازعات التجارية المنصوص عليها في النظم والقرارات بما فيها المنازعات المتفرعة عن تطبيق نظام الشركات التجارية.
هـ - الدوائر الفرعية: وتختص بالفصل في الدعاوى المتعلقة بالحقوق المقررة في نظم الخدمة المدنية والتقاعد. كما تختص بالفصل في طلبات تنفيذ الأحكام الأجنبية.(16/16)
و- هيئة ودوائر التدقيق: وتقوم بتدقيق الأحكام والقرارات التي تصدرها مختلف الدوائر مما يحيله إليها رئيس الديوان. ولها أن تعيد النظر في أحكام تلك الدوائر.(1) جاء في المادة (36 من نظام المرافعات):" يترتب على قبول طلب التدقيق, أن تقوم دائرة التدقيق المختصة بتأييد الحكم أو نقضه. وإذا نقضته فلها أن تعيده إلى الدائرة التي أصدرته, أو تتصدى لنظر القضية، وإذا أعادته إلى الدائرة التي أصدرته, وأصرت تلك الدائرة على حكمها, فعلى دائرة التدقيق أن تتصدى لنظر القضية إن لم تقتنع بوجهة نظر تلك الدائرة. وفي جميع الأحوال التي تتصدى فيها دائرة التدقيق لنظر القضية يجب أن يتم الفصل فيها بعد سماع أقوال الخصوم. ويكون حكم دائرة التدقيق في جميع الأحوال نهائياً ".
3- المركز القضائي لديوان المظالم:
ذكرنا في مقدمة الحديث عن الديوان بأن المادة (1) من النظام عرفته بأنه:" هيئة قضاء إداري مستقلة ترتبط مباشرة بجلالة الملك". وعليه فإن الذي يقابله ما يسمى بمجلس الدولة, في كل من سورية ومصر.
إلا أن بعض الباحثين انتقد هذا التعريف للديوان، وقالوا: بأنه لا يتفق مع اختصاصاته، التي اتسعت لتشمل ما لا يمكن عده في القضايا الإدارية كما هو الحال في جرائم التزوير والرشوة والاختلاس التي هي من المسائل الجزائية بالاتفاق, وقد أسند إليه النظر فيها, بخلاف مجلس الدولة في تلك الدول الأخرى فإنه لا ينظر إلا في القضايا الإدارية البحتة.
__________
(1) علي شفيق، الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في المملكة العربية السعودية:54- 59.(16/17)
قالوا: ولعل هذا التعريف نابع من تأثر واضعيه بما عليه بعض التنظيمات والمؤسسات في البلدان الأخرى, وعن تقليد لمجالس الدولة فيها. وإلا فإن الأنسب والأقرب لديوان المظالم هو أن يعد استمراراً لقضاء المظالم الذي كان تقليداً إسلامياً قديماً(1) حيث كان يتولى النظر في أمور كثيرة منها ما يمكن عدها في الأمور الإدارية, ومنها ما يمكن عدها من مهام القضاء العادي, ومنها ما يمكن عدها في المسائل الدينية, فمن الأول: نظرها في تعدي الولاة على الأفراد, وجور الجباة.. ومن الثاني: النظر في الوقوف الخاصة إذا تظلم أهلها, ورد ما اغتصبه ولاة الجور وذوو النفوذ.. ومن الثالث: مراعاة الجمع والأعياد والحج والجهاد وقمع الظلم عموماً(2).
ولا يعني هذا أن ديوان المظالم في المملكة كقضاء المظالم قديماً, بل القصد أنه يعد امتداداً له في التسمية, وفي سعة الاختصاص, وتجاوزه حدود القضايا الإدارية.
ولعل الذي دفع القائمين على صياغة النظام إلى هذا التعريف هو أن جرائم الرشوة والتزوير والاختلاس كلها ذات علاقة بموظفي الدولة، ومن ثم نظروا إليها على أنها أيضاً إدارية.(3)
ثالثاً: اللجان والهيئات القضائية الأخرى:
وهي هيئات ولجان مخصوصة لها صفة المؤسسة القضائية المستقلة, ولا تتبع وزارة العدل, بل تتبع جهات أخرى متعددة – كما سنرى- وتقوم بالنظر في المنازعات التي تحدث بين الأطراف داخل الجهة أو المؤسسة التي تتبعها, وتوقع العقوبات في المخالف لأنظمتها.
وفيما يلي نستعرض نماذج من هذه اللجان والهيئات:
__________
(1) آل الشيخ؛ لمحات حول القضاء في المملكة: 175؛ آل دريب؛ التنظيم القضائي في المملكة: 492.
(2) انظر بتوسع: حمدي عبد المنعم، ديوان المظالم: 122- 138؛ فؤاد أحمد, الوسيط في التنظيم القضائي: 71- 73.
(3) آل دريب؛ التنظيم القضائي في المملكة: 492- 493.(16/18)
هيئات تسوية الخلافات العمالية(1): وتتكون من نوعين من الهيئات هما:
الهيئات الابتدائية لتسوية الخلافات: وتتألف هذه الهيئات بقرار من وزير العمل والشؤون الاجتماعية في كل مكتب عمل يحدده الوزير, وتشتمل على دائرة أو أكثر, ومن عضو واحد, وتفصل كل دائرة من هذه الدوائر فيما يطرح عليها من قضايا ( المادة 212) من نظام العمل والعمال.
ويعين أعضاء الهيئة من حملة الإجازة في الشريعة أو الحقوق(المادة211)(2) .
وتختص بما يلي على ما نصت عليه (المادة214):
- بالفصل نهائياً في الآتي:
أ- الخلافات العمالية أياً كان نوعها،التي لا تتجاوز قيمتها عشرة آلاف ريال(3).
ب- الاعتراض على الجزاء الذي يوقعه صاحب العمل على العامل.
ج- فرض العقوبات المنصوص عليها في هذا النظام على المخالفة التي لا تتجاوز عقوبتها المقررة خمسة آلاف ريال، وكذا ما لا يتجاوز مجموعها خمسة آلاف ريال.
- بالفصل ابتدائياً في الآتي:
أ- الخلافات العمالية التي تتجاوز قيمتها عشرة آلاف ريال.
ب- خلافات التعويض عن إصابات العمل ، مهما بلغت قيمة التعويض.
ج- خلافات الفصل عن العمل.
د- فرض العقوبات المنصوص عليها في هذا النظام على المخالفة التي تتجاوز عقوبتها المقررة خمسة آلاف ريال, وكذا ما يتجاوز مجموعها خمسة آلاف ريال.
هـ - فرض العقوبات على المخالفات المعاقب عليها بالغرامة مع عقوبة تبعية.
__________
(1) هذا هو النظام الجديد للعمل والعمال والذي اعتمد ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 25رمضان 1426هـ وسيدخل حيز التطبيق بعد مرور ستة أشهر على نشره أي اعتباراً من 25صفر 1427هـ . وهو ناسخ لسابقه في ما يتعارض معه.
(2) كانت المادة (173) من النظام السابق تنص على أن اثنين من أعضاء اللجنة الابتدائية الثلاثة يجب أن يكونا من حملة الإجازة في الشريعة, ويرأسها أحدهما.
(3) كانت المادة (174) من النظام السابق تنص على أن لا يتجاوز المبلغ ثلاثة آلاف ريال.(16/19)
الهيئة العليا لتسوية الخلافات: وتتكون من عدة دوائر, لا تقل الدائرة الواحدة عن ثلاثة أعضاء، ويصدر قرار من مجلس الوزراء - بناءً على ترشيح الوزير - بتسمية رئيس الهيئة وأعضائها, ويجب أن يكونوا جميعاً من حملة الإجازة في الشريعة أو الحقوق ممن لديهم الخبرة في مجال الخلافات العمالية، ويحدد عدد دوائر الهيئة العليا ومناطق عملها بقرار من وزير العمل والشؤون الاجتماعية بناءً على اقتراح رئيس الهيئة (المادة 215).
وتختص كل دائرة من دوائر الهيئة العليا بالفصل نهائياً، وبالدرجة القطعية ، في جميع قرارات دوائر الهيئات الابتدائية التي ترفع للاستئناف أمامها ( المادة 216 ).
اللجنة الطبية الشرعية: تتشكل اللجنة الطبية الشرعية من :
قاض يعينه وزير العدل, ويكزن رئيساً لللجنة.
ب- مستشار نظامي يعينه وزير الصحة عضواً.
ج- عضو هيئة تدريس من إحدى كليات الطب في المملكة يعينه وزير التعليم العالي عضواً.
د- طبيبان من ذوي الخبرة يعينهما وزير الصحة أعضاء.
ويكون مقرها وزارة الصحة بالرياض, وتكون تابعة لها, ويجوز إنشاء لجان أخرى فرعية في المناطق التي يصدر بتحديدها قرار من وزير الصحة. ويكون مدة العضوية ثلاث سنوات قابلة للتجديد (المادة34 من نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان).
وتختص بما يلي:
النظر في الأخطاء الطبية المهنية التي ترفع بها مطالب بالحق الخاص( دية- تعويض- أرش).
ب- النظر في الأخطاء الطبية المهنية التي ينتج عنها وفاة, أو تلف عضو من أعضاء الجسم أو فقد منفعة, أو بعضها حتى ولو لم يكن هناك دعوى بالحق الخاص.
وتنعقد اللجنة بحضور الأعضاء, وتصدر قراراتها بالأغلبية على أن يكون القاضي من بينهم (المادة 35 من النظام السابق).(16/20)
ويجوز التظلم من قرارات اللجنة أمام دوائر التدقيق في ديوان المظالم خلال ستين يوماً من تاريخ إبلاغ قرار اللجنة.(1)
الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( الحسبة):
يطلق اسم الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة على ما كان يعرف في الدولة الإسلامية قديماً بولاية الحسبة(2). وهي هيئة مستقلة ترتبط مباشرةً برئيس مجلس الوزراء، وتتبعها جميع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المادة 1 من نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). ويكون الرئيس العام للهيئة بمرتبة وزير يعين وتنتهي خدماته بأمر ملكي... (المادة 2 من النظام). ويكون في كل منطقة هيئة فرعية يصدر بتشكيلها قرار من الرئيس العام للهيئة, ويلحق بها العدد الكافي من الأعضاء والموظفين والإداريين والمستخدمين ، ويفتتح بها العدد الكافي من المراكز في كل مدينة وقرية (المادة 3 من النظام).
وتختص الهيئة بما يلي:
حسب (المادة 4 من النظام) فإن للرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف أن يشكل من بين أعضاء الهيئة ومن المحققين الشرعيين لجاناً تتولى النظر في:
أ- التحقيق في القضايا، والمخالفات المحرمة الخاصة بالقضايا التي ستحال للمحاكم الشرعية.
__________
(1) آل دريب, التنظيم القضائي في المملكة: 479- 480؛ علي شفيق، الرقابة القضائية: 72.
(2) الحسبة على ما عرفها العلماء هي: أمر بمعروف ظهر تركه, ونهي عن منكر ظهر فعله. والولاية التي كانت تتولى القيام بهذه المهمة بصفة رسمية كانت تسمى ولاية الحسبة لكن مع ملاحظة أن صلاحيات ولاية الحسبة كانت أوسع بكثير من صلاحيات الهيئة.الماوردي، الأحكام السلطانية: 299؛ ابن القيم، الطرق الحكمية:349.(16/21)
ب- القضايا الأخلاقية ، وقضايا التهم, وكذا تحديد نوع العقوبة وهي: أخذ التعهد، والتوبيخ، والتأديب بالجلد (وبحد أعلى خمسة عشر سوطاً) أو عقوبة الحبس ( لمدة أقصاها ثلاثة أيام).(1)
ولا يكون الجلد والسجن إلا بموافقة الأمير, أو رفع الأمر إلى المحكمة العامة للنظر في القضية.
وقد عددت(الفقرة 3 من المادة 1 من اللائحة التنفيذية) القضايا الأخلاقية والمخالفات التي تتولاها الهيئة وهي: "مراقبة الأسواق العامة, والطرقات, والحدائق، وغير ذلك من الأماكن العامة, والحيلولة دون وقوع المنكرات الشرعية: كالاختلاط والتبرج المحرمين شرعاً، وتعرض الرجال للنساء بالقول أو الفعل، والجهر بالألفاظ المخلة بالحياء, أو المنافية للآداب، وأعمال السحر والشعوذة".
وفي سبيل قيام الهيئة بمهامها منحت لها صلاحيات الضبط والقبض والتفتيش والتحقيق، وفق ضوابط وقيود محددة. جاء في ( المادة 2من اللائحة التنفيذية) :" يجب على أعضاء الهيئة ضبط كل ما يشهدونه من المنكرات الشرعية المنصوص عليها في اللائحة، والقبض على مرتكبيها، وكذا ضبط كل معصية شرعية أخرى تشاهد في حالة تلبس بارتكابها..." و يجب إحالة المقبوض عليهم والمضبوطات مع محضر الضبط والقبض إلى الجهة المختصة بإكمال التحقيق ( المادة 38 من اللائحة التنفيذية) وأعضاء الهيئة في أعمالهم الميدانية مزودون بعدد من رجال الشرطة ليتمكنوا من ممارسة صلاحياتهم ( المادة17 من النظام).
__________
(1) أفادني بعض الإخوة العاملين في الهيئة أنهم لم يعودوا يقومون بالجلد, والسجن, كما كانت تنص الفقرة ج من المادة 4 من نظام الهيئة, بل يقترحون ذلك, ويرفعونه للأمير, ثم تقوم السلطة التنفيذية ( الشرطة ) بتنفيذ العقوبة بعد موافقة الأمير.(16/22)
وهناك هيئات ولجان أخرى كثيرة منها: هيئة حسم المنازعات التجارية, واللجان الجمركية, وديوان المحاكمات العسكرية... اكتفينا بذكر نماذج إذ ليس الغرض الاستقصاء, وإنما عرض نماذج نتعرف من خلالها على النظام السائد, والواقع القائم.
ويظهر أن المسؤولين في المملكة يتجهون إلى جعل هذه اللجان والهيئات تحت مظلة ديوان المظالم أو القضاء العادي, تجنباً لتعدد الجهات القضائية.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين
الخاتمة : في ختام هذا البحث أعود لأذكر بأهم الأفكار والنتائج التي خلص إليها الباحث وهي:
تنص الأنظمة واللوائح المختلفة في المملكة على أن الشريعة الإسلامية هي الحكمة على الحكم والقضاء وجميع أنظمة الدولة. ومن ثَمَّ فإن قضاة المحاكم وديوان المظالم واللجان والهيئات القضائية الأخرى من حملة الإجازة في الشريعة.
لا يوجد قانون مكتوب يلتزم به القضاة, ولا سلطان عليهم إلا للكتاب والسنة, وهو محل أخذ ورد, وتعلو الأصوات بين الفينة والأخرى مطالبة بالتقنين, لكثرة القضايا وتنوعها, ولضعف المستويات العلمية؛ إذ هي ليست بالقدر الذي يؤهلهم للاجتهاد.
تأخذ المملكة بنظام تعدد الجهات القضائية؛ فهناك القضاء العادي والمتخصص وديوان المظالم واللجان والهيئات القضائية الأخرى.
يعد القضاء العادي المؤسسة الطبيعية التي تتولى النظر في جميع المنازعات المدنية والتجارية ومسائل الأحوال الشخصية والقضايا الجنائية إلا ما استثني بنظام. ومحاكمه من الأدنى المحاكم الجزئية ثم العامة ثم التمييز ثم مجلس القضاء الأعلى. ويلا حظ أن القضاء احتاط كثيراً في مسائل الحكم بالقتل والقطع والرجم, فاشترط لها ثلاث قضاة, ثم اشترط نظر خمسة في محكمة التمييز ثم يراجع الحكم مجلس القضاء الأعلى بكامل هيئته الدائمة.(16/23)
يعد ديوان المظالم جهة قضاء إداري مستقلة مرتبطة بالملك مباشرة. ويتكون من دوائر مختلفة وهيئة ودوائر تدقيق تقوم بتدقيق الأحكام والقرارات التي تصدرها تلك الدوائر والتي يحيله إليها رئيس الديوان. ولها أن تعيد النظر في تلك الأحكام. ويعد الديوان استمراراً لقضاء المظالم الذي كان يسود الدولة الإسلامية قديماً وإن كان دونه في سعة النظر والاختصاص.
هناك هيئات ولجان مخصوصة لها صفة المؤسسة القضائية المستقلة, ولا تتبع وزارة العدل, بل تتبع جهاتها ومؤسساتها, وتقوم بالنظر في المنازعات التي تحصل بين الأفراد داخلها, وتوقع العقوبات في المخالف لأنظمتها.لكنها في طريقها إلى الإلحاق بمؤسسة القضاء العادي, أو ديوان المظالم.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
ثبت المراجع
أحمد, فؤاد عبد المنعم (معاصر). الوسيط في التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي مع التطبيق الجاري في المملكة السعودية ومصر والكويت. الناشر: مؤسسة شباب الجامعة. الاسكندرية.
آل دريب, سعود بن سعد ( معاصر). التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية. طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 1419هـ 1999م. الرياض.
آل الشيخ, عبد العزيز بن عبد الله بن حسن (ت 1410هـ). لمحات حول القضاء في المملكة العربية السعودية.طبعة ثانية. 1421هـ. عالم الفوائد. الرياض.
شفيق, علي ( معاصر).الرقابة القضائية على أعمال الإدارة في المملكة العربية السعودية. طبعة مركز البحوث. معهد الإدارة العامة. 1422هـ 2002م. الرياض.
عبد المنعم, حمدي(معاصر). ديوان المظالم. طبعة ثانية. 1408هـ . دار الجيل. بيروت.
ابن فرحون, إبراهيم بن علي بن محمد( ت 799هـ ).تبصرة الحكام. طبعة خاصة.1423هـ . دار عالم الكتب. الرياض.
ابن قدامة,عبد الله بن أحمد(ت 620هـ).المغني.طبعة أولى 1405هـ دار الفكر.بيروت.
ابن قيم الجوزية,محمد بن أبي بكر(ت751هـ).الطرق الحكمية.مطبعة المدني. القاهرة.(16/24)
الماوردي, علي بن محمد بن حبيب ( ت 450هـ ). الأحكام السلطانية. طبعة أولى. 1405هـ دار الكتب العلمية. بيروت.
10- وزارة العدل في المملكة العربية السعودية. القضاء في المملكة العربية السعودية.طبعة أولى 1419هـ. مطبوعات الوزارة.
11- وزارة العدل في المملكة العربية السعودية. مجلة العدل. مجلة فصلية علمية محكمة.
12-هيئة الخبراء بمجلس الوزراء, مجموعة الأنظمة السعودية. الرياض 1423هـ
النظام الأساسي للحكم.
نظام القضاء.
نظام المرافعات الشرعية ولوائحه التنفيذية.
نظام ديوان المظالم وقواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم.
نظام العمل والعمال.
نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان.
نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و لائحته التنفيذية.(16/25)
…
القضاء الشرعي المعاصر :
خلفيته العقدية وموقف العلمانية منه
الدكتور خالد إبراهيم أحمد حسب الله
…
كلية الشريعة والقانون ـ جامعة الإمارات العربية المتحدة
…
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد : ـ
أهمية القضاء الشرعي :د. خالد إبراهيم حسب الله
الإنسان كائن اجتماعي ومدني بطبعه ، مما يعني أنه لا يمكنه العيش وحده منعزلا عن بني جنسه ، بل لا بد أن يعيش وسط جماعة يتعاونون ويتعاملون ويتكاملون فيما بينهم ، حتى تستقيم الحياة ، ويأخذ كل فرد في هذه الجماعة ما يحتاجه ويعطي الآخرين ماهم في حاجة إليه ، لعجز كل منهم عن الوفاء بحاجاته بنفسه وهنا تبرز مشكلة كبيرة تتمثل في كيفية تنظيم التعاون والتعامل بين أفراد المجتمع الواحد . هذا التعاون الذي لا يمكن أن يترك لرغبات الناس ودوافعهم الذاتية ومصالحهم الشخصية ، لأن كل إنسان محب لذاته ، فضلا عن أن الإنسان يقف في هذه الحياة بمقتضى الخلق والتكوين ـ لحكمة إلهية سامية ـ بين قوتين : تدفعه إحداهما إلى الشر بما ركب فيه من شهوة وغضب ، وقد يشتط في سبيل ذلك حتى يستبيح انتهاك الأعراض، وسفك الدماء وسلب الحقوق . وتدفعه الأخرى ـ بما ركب فيه من عقل ـ إلى الخير ، فتدعوه إلى العدل والمساواة والعطف والرحمة ، والأخذ بيد الضعيف وإغاثة الملهوف وتوجيه المجتمع بقدر ما يستطيع إلى وسائل الخير والفلاح .
يقف الإنسان بين هاتين القوتين ، ولكنه ببريق الدنيا وزخرفها وشهواتها ومغرياتها ، يلبي أو يميل إلى جانب الشر ... وعلى هذا لو ترك الإنسان ونفسه تتجاذبه القوتان ، لما استطاع أن يحقق التوازن بينهما ، ولغلب شره خيره ، وفساده صلاحه (1) .
__________
(1) 1 من توجيهات الإسلام . الشيخ / محمود شلتوت صـ 13 ، ط دار الشروق 1983م .(17/1)
وبذلك تتحول المجتمعات إلى ركام مادي تتهاوى فيه القيم الأخلاقية وتنهار العلاقات الإنسانية ، وتشيع الأنانية وحب الذات ويصبح المجتمع حينئذ غابة كبرى القوي فيها يأكل الضعيف ، ويطغى الكبير على الصغير .
ولتلافي هذه المخاطر والسلبيات لا بد ( لأي مجتمع من قانون يضبط علاقاته ، ويعاقب من انحرف عن قواعده سواء أكان مما نزل من السماء ، أم مما خرج من الأرض ، فالضمائر والدوافع الذاتية لا تكفي وحدها لعموم الخلق ، والمحافظة على سلامة الجماعة ، وصيانة كيانها المادي والمعنوي ، وإقامة القسط بين الناس )(1) .
والقانون المنظم لحياة البشر ـ بطبيعة الحال ـ يلزمه جهات قضائية تقوم بتنفيذه وتشرف على سريانه في حياة المجتمع ، وتحميه من عبث العابثين . ومن هنا تكون للقضاء أهميته في حضارة الشعوب وتقدمها وأصالة حياتها وحسن جوارها وطيب تعايشها الاجتماعي ، وهو معيار ذلك والدليل على اعتباره . ذلك أن القضاء ميزان الادعاء ، ونبراس العدل وملاذ المظلوم والسد المانع لأنواع المظالم والغصوب والتعديات . وبقدر ما يكون للقضاء من هيبة وسلطة ونفاذ في أي مجتمع ما فإن لذلك المجتمع نصيبه الموازي لذلك القدر من السعادة والرخاء / وتوافر مسالك الحياة الأفضل لكافة أفراده ، كما أن له نصيب من الاحترام والتقدير والثقة والاطمئنان إلى التعامل معه من المجتمعات الأخرى(2).
ولكن أي قضاء هذا الذي يساهم في بناء الحضارة ويساعد على تقدم الشعوب ويعين على أصالة الحياة وطيب التعايش الاجتماعي ؟
وأي قانون يا ترى يكون نبراسا للعدل وملاذا للمظلوم وسدا مانعا لأنواع الظلم والغصوب والتعديات ؟
__________
(1) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده . د/ يوسف القرضاوي صـ 157 ، ط مكتبة وهبة 1414ه ـ 1993م
(2) القضاء في الإسلام . الشيخ عبد الله بن سلمان بن منيع . مجلة البحوث الإسلامية بالسعودية عدد رقم 8 صـ 173 الصادر في نوفمبر 1983م .(17/2)
هل يمكن أن يكون هذا القانون هو القانون الوضعي الخارج من الأرض والصادر عن عقول البشر أو بعضهم ؟
في الواقع إن هذا الفرض لا يغني من الحق شيئا ، ولا يستطيع أصحابه أن يصلوا به إلى الحكمة المقصودة من خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض يعمرها وينميها ، وينشر فيها روح الأمن والطمأنينة والاستقرار . وقد جربته الإنسانية حينا من الدهر ولا تزال تتقلب في جمره بين حرب
حامية تأكل الأخضر واليابس ، وتدمر الجهود التي تبذل في بناء الحضارات وإقامة المنشآت ، وبين حرب باردة تملأ القلوب خوفا وهلعا ، وهي في الحربين لا تعرف إنصاف مظلوم من ظالم ، ولا تترفع عن استعباد الضعفاء وسلب الحقوق والحريات ، وهي في الحربين لا تتسم روحا من نسمات الروحية الفاضة التي تعصم الإنسان من التبذل في نفسه ، وتقيه الارتكاس في حمأة الإباحية الضالة والمادية المظلمة (1).
إن اعتماد أمم الحضارة اليوم على العقل في سن القوانين المنظمة لحياة البشر وجعله مقياسا للفضيلة والرذيلة ، واتخاذه معيارا يحدد الخير من الشر ، وتنصيبه قيما على حياة الناس بعيدا عن هدى السماء وقانونها اعتماد غير صحيح وأمر لا يمكننا قبوله لعدة أسباب منها : ـ
1 ـ إن العقول متفاوتة في إدراكها وحكمها على الأشياء وفي مقاييس الخير والشر ، فيستحسن بعضها مالا يستحسنه الآخر ، ويستقبح بعضها مالا يستقبحه الآخر ، وقد رأينا في عصرنا ألوانا للفكرة العقلية أوقعت الشعوب في الحيرة والاضطراب ، رأينا شيوعية ورأسمالية ، وديمقراطية وديكتاتورية ... إلى غير ذلك من أنواع البرق ذي الألوان الخاطفة ، وكلها يلبس الحق بالباطل ويحاول أن يغتصب ما استطاع أن يغتصب .
__________
(1) 2 ـ من توجيهات الإسلام . الشيخ شلتوت صـ 14 .(17/3)
2 ـ العقول عرضة لأن تطغى عليها في تفكيرها وتقديرها الشهوات والأهواء والتأثر بالشخصيات والعنصريات والإقليميات ... الخ ، وكم رأينا قوانين وضعت على أساس الفكرة العقلية ، وقيل إنها وضعت لحفظ السلام ولصيانة حقوق الإنسان ، ولكنها لم تلبث أن تبين أن باعثها في الواقع لم يكن سوى تحقيق رغبة شخصية أو نزعة عنصرية ، أو أهداف عصبية ، غير أنها ألبست ـ تغريرا بالناس وخداعا لهم ـ ثوب المصلحة العامة .
3 ـ ولأن العقول محدودة الإدراك ، ليس في استطاعتها أن تكتنه كل مقتضيات الغد وحوادث المستقبل ، على حسب ما دبر العليم الخبير في خلقه .
وكم رأينا من قوانين تسن وتقام لسنها الحفلات ثم لا تلبث أن يظهر ضعفها ويتجلى قصورها ، فيسن غيرها ثم لا تلبث هذه أيضا حتى تصاب بما أصيب به سابقتها وهكذا دواليك .
وبذلك تظل الأمة حائرة بين تقنين وتقنين ، وتبديل وتبديل وتلك رجات تعوق ـ دون شك ـ عن السير في طريق التقدم والكمال .
4 ـ أضف إلى ذلك أيضا أن التشريعات والقوانين التي ينظمها العقل لا تصلح لإقامة نظام المجتمع على أساس من العدل لتأثر العقل بهوى صاحبه من ناحية ، ولافتقاد هذه التشريعات وتلكم القوانين إلى ما يسمى بعنصر الإلزام والاحترام الذاتي أو المراقبة الذاتية التي تجعل الناس يلتزمون بهذه القوانين دونما خوف أو عقاب . يتضح مما سبق أن الاكتفاء بالعقل في وضع قوانين المجتمع ، والاعتماد عليه في سن تشريعات تنظم حياة البشر إنما هو في الحقيقة ( اعتماد على شفا جرف هار ، اعتماد يؤدي بالعالم إلى الخراب والدمار ، وإذن . فلا بد من تلمس مدد آخر يملك على الإنسان بمصدره . باطنه وظاهره وخلوته قبل جلوته )(1).
__________
(1) راجع من توجيهات الإسلام صـ 15 ، 16 .(17/4)
ومن ثم فإن المدد الآخر المشار إليه آنفا يتمثل في جملة التشريعات الربانية والقوانين الإسلامية التي يرعاها القضاء الشرعي وينطلق منها في أحكامه بين البشر وإقامة العدل في واقع حياة الأمة ، مما يؤهله للقيام بالدور الحضاري المنوط به ، والعمل على نهضة وصلاح المجتمع ، وهنا تكمن أهمية القضاء الشرعي ، وتبرز الحاجة الماسة إليه .
ولم لا ؟ وحاجة البشر إلى تشريع رباني ـ سالم من قصور البشر وأهوائهم حاجة أساسية ، لا يحققها إلا التشريع الإسلامي ، فهو الذي يحمل هداية الله الأخيرة للبشر .. وهذا التوجيه الإلهي يجنب البشرية الضلال في الفكر والغي في السلوك ، فكثيرا ما زينت للبشر عقولهم القاصرة : جرائم بشعة وغوايات شنيعة حتى وجدنا أهل إسبارطة قديما يقتلون الأطفال الضعاف البنية ، والعرب في الجاهلية يئدون البنات .. ووجدنا في عصرنا من يجيز زواج الرجال بالرجال وتصدر بذلك قوانين يباركها بعض رجال الدين في الغرب المتقدم المتحضر(1) .
__________
(1) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده . د/ القرضاوي صـ 159 ـ 160 .(17/5)
إننا باحتكامنا إلى التشريعات الإسلامية واعتمادنا على القانون السماوي بدلا من القانون الوضعي نرسي دعامة من دعامات المجتمع المسلم ، ونضع أساسا لمجتمع فاضل يسير أموره وينظم حياته قانون مصدره الله هو الذي يبين الصراط المستقيم ، ويوضح معنى الخير والشر ، والصواب والخطأ ، حتى لا تضل البشرية ولا تزيغ ، وحتى تكون صلتها به سبحانه ، وحتى يكون استعدادها لتشريعها الذي ينظم مجتمعها ، ويحدد العلاقات العامة بين الأفراد والجماعات ، وبين الدولة والأفراد من لدن الحكيم الخبير الذي بعث النبيين هداة ومرشدين لينيروا الطريق للأمم في سيرها .. والمجتمع الذي تنظمه عقيدة صالحة ينبثق عنها تشريع ينظم علاقات الناس ، وأخلاق وقيم تنبني عليها أعراضهم وعاداتهم هو المجتمع الذي يضمن له الوحدة والتماسك ، ويسوده العدل والنظام ، وتتكافل جماعاته وأفراده وتحكمه الطمأنينة والسلام (1) .
وتلك ضرورة أخلاقية واجتماعية يتضح من خلالها مدى أهمية القضاء الشرعي في حياتنا المعاصرة. ولا يقتصر الأمر على هذا الجانب فقط حيث إن القضاء الشرعي ذو نسب بالنسق العقدي في الإسلام ، وله صلة وثيقة بمقتضيات توحيد الألوهية ، وهذا ما سنحاول الكشف عنه من خلال الفصل القادم بإذن الله تعالى .
ـ الفصل الأول : ـ
الخلفية العقدية للقضاء الشرعي المعاصر .
__________
(1) المجتمع المتكافل في الإسلام . د/ عبد العزيز الخياط صـ 12ـ 13 ، ط مؤسسة الرسالة ببيروت 1401ه ـ 1981م .(17/6)
لكل مجتمع من المجتمعات خصائص تميزه عن غيره ، ومقومات أساسية تقوم عليا حياة أفراده ، ومجتمعنا الإسلامي ينبغي أن يكون مصبوغا بالصبغة الإسلامية التي وصفها ربنا عز وجل بقوله : [ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ] البقرة : آية رقم 138، هذه الصبغة تميز مجتمع المسلمين عن مجتمعات غير المسلمين ، وتطبع المسلمين بطابع خاص يفترقون به عما عداهم [ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين] الأنعام : آية رقم 55 . فالتصور الإسلامي عن الله والكون والحياة والإنسان والعالم الآخر يخالف سبيل المجرمين وتصوراتهم ومناهج حياتهم كلها ، وبذلك يتميز أولياء الرحمن عن أتباع الشيطان .
ويعد القضاء الشرعي الذي يعني الرجوع إلى قوانين الشريعة والاحتكام إلى منهج الله ـ ملمحا من ملامح الصبغة الإسلامية للمجتمع المسلم ، ومقوما من مقوماته لا غنى لأفراد هذا المجتمع عنه ما داموا يؤمنون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وبالقرآن قانونا ودستورا .
وإذا كان من حق كل مجتمع أن يحكم بالتشريع الذي يؤمن بعدالته وتفوقه وسموه على غيره من التشريعات ، فإن ذلك بالنسبة للمجتمع المسلم يعتبر واجبا وفرضا عليه ، وليس مجرد حق له (1) .
وبهذه الفرضية لا يكون المسلم مسلما إلا إذا اختار الالتزام بشريعة الإسلام ، وأيقن أن ما ثبت عن الله تعالى أو عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو المصلحة بعينها ، والرحمة كلها والعدل كله(2) .
__________
(1) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده . د/ يوسف القرضاوي صـ 171 .
(2) حوار لا مواجهة . د/ أحمد كمال أبو المجد صـ 90 .(17/7)
فالمسلمون ليس لهم خيار في الالتزام بالقوانين الإسلامية والاحتكام إلى شرع الله تعالى في تنظيم حياتهم وتسيير أمورهم كلها . فإيماننا بالله عز وجل يفرض علينا الإقرار بأن ( الدين هو موجه الحياة ، وأن الحاكمية فيه لله رب العالمين ، إذ أن معنى الألوهية لله أن تكون الحاكمية لله فلا أحبار ولا رهبان ، يشرعون للناس مالم يأذن به الله ، ولا حزب ولا أحزاب يضعون من التوجيهات والتشريعات ما لم يأمر به الله ، ولا سيادة للشعب ، وإنما هي لله سبحانه وتعالى ، والشعب له السلطان في اختيار من ينفذ شرع الله ، ولا طبقة تحكم وطبقة تحكم ، ولا شخصيات مقدسة فوق القانون ولا محاكم تختص بطبقة من الحكام دون آخرين ، ولا تشريعات تفرق بين جنس وجنس ولون ولون .. والقادة والأحزاب والحكام والشعوب ، كلها تخضع للنظام الذي أنزله الله سبحانه وتعالى )(1) .
وقديما بحث علماء أصول الفقه هذه القضية عندما تكلموا في مقدماتهم الأصولية عن الحكم الشرعي والحاكم والمحكوم به ، والمحكوم عليه .
فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يقول في مقدمات كتابه الشهير { المستصفى من علم الأصول } عن الحكم الذي هو أول مباحث العلم ، وهو عبارة عن خطاب الشرع ، ولا حكم قبل ورود الشرع ، وله تعلق بالحاكم وهو الشارع ، وبالمحكوم عليه وهو المكلف ، وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف .. ثم يقول : ( وفي البحث عن الحاكم يتبين ألا حكم إلا لله وألا حكم للرسول ، ولا للسيد على العبد ولا لمخلوق على مخلوق ، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره ) (2) .
__________
(1) المجتمع المتكافل في الإسلام . د/ عبدا لعزيز الخياط صـ 14 .
(2) المستصفى جـ1 ، صـ8 ، ط دار صادر بيروت .(17/8)
ثم يعود إلى الحديث عن الحاكم وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلفين فيقول : ( أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر ، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ، ولا مالك إلا الخالق ، فلا حكم ولا أمر إلا له . أما النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم ، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم ، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب إذ ليس ، أحدهما أولى من الآخر ، فإذن الواجب طاعة الله تعالى ، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته ) (1) .
[ سيادة القوانين الإسلامية لا يعني الجمود والانغلاق ]
هل يعني احتكام المسلمين إلى القوانين الإسلامية وأن تكون الحاكمية في مجتمعاتهم لله وحده تحجر النظم وتقييد التشريعات وتضييق فرص الاجتهاد وسريان الحجر على العقول البشرية وسلب الحرية الإنسانية ؟
إن تطبيق مبدأ حاكمية الله في المجتمع المسلم لا يعني ـ لا من قريب ولا من بعيد ـ أي شيء مما ذكر ، وإنما يعني ( أن يكون الأساس الذي يقوم عليه التشريع ، والأرضية التي ينبثق عنها الحكم ، أرضية ثابتة لا تضل هي من عند الله الخبير العليم الذي يعلم البشر واتجاهاتهم ودخائل نفوسهم ، فوضع لهم الأسس التي تنظم حياتهم ، وترك لهم استنباط الأحكام للفروع والجزئيات . بما يحقق المصلحة والسعادة ، ويضمن العدالة والطمأنينة ) (2) .
__________
(1) المستصفى جـ 1، صـ 83 ، وقارن : التطرف العلماني في مواجهة الإسلام د/ القرضاوي صـ 90 ـ 91 ، ط أندلسية للنشر والتوزيع 1421ه ـ 2000 م .
(2) المجتمع المتكافل في الإسلام . د/ عبد العزيز الخياط صـ 15 .(17/9)
إن القوانين الوضعية هي التي تحرم الناس من تحقيق العدالة التامة في المجتمع لغلبة الأهواء والمصالح على واضعيها والقائمين عليها ، أما حكم الله تعالى وحكم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالإيمان به رسوخ في العلم والتسليم لع عز ، والاستقامة على أمره مدخل لكل خير (1) .
ولهذا لا ينبغي أن ينكر أحد على المجتمعات الإسلامية اليوم تناديها بتحكيم التشريع الإسلامي فهو التشريع الفذ الذي يعبر عن عقائدها وقيمها وآدابها وعن نظرته إلى الكون وخالقه ، والإنسان ومصيره ، والحياة ورسالتها ، بخلاف القوانين الوضعية الأخرى التي قد تحل ما يحرمه الإسلام مثل الخمر والفجور والربا ، أو تحرم ما يحله مثل الطلاق وتعدد الزوجات ، أو تلغي ما يوجبه ويفرضه مثل إيتاء الزكاة وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو تبدل أحكام الله ورسوله بأحكام أخرى مستوردة من الغرب أو الشرق (2) .
إن القضاء الشرعي في مجتمعاتنا باعتماده على المرجعية الإلهية واستمداده من قوانين الشريعة الإسلامية يكتسب شرعيته من جهتين : إحداهما : التزامه بالحقائق الإسلامية والمرجعية الربانية ، والأخرى : القبول الشعبي ورضا الناس به .
بينما القوانين الوضعية تتمتع فقط بالقبول الشعبي ـ الذي هو ثمرة من ثمرات الديمقراطية ـ ، دون أن تتمتع بأي التزام بحقائق فكرية ، فأي شيء يقتنع به الشعب ولو كان باطلا أو ظلما ـ يجب تنفيذه كقانون أو برنامج أو سياسة كتلك القوانين الصادرة بحق الشعب الفلسطيني من الكنيست الإسرائيلي ، أو قوانين إباحة الشذوذ الجنسي الصادرة من مجلس العموم البريطاني .
__________
(1) حوار لا مواجهة . د/ أحمد كمال أبو المجد صـ 90 .
(2) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده . د / القرضاوي ، صـ171 ـ 172 .(17/10)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض هذه القوانين الوضعية التي يحتكم الناس إليها قد تكون متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية ، فهل يكفي ذلك في الرجوع إليها ، والاعتماد عليها من قبل القضاء الشرعي ؟
في الحقيقة لا يكفي أن تكون القوانين الوضعية متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية . لأن مجرد هذا الاتفاق ـ بالمصادفة ـ لا يمنحها الصيغة الإسلامية ولا يضفي عليها الشرعية الإسلامية
إنما الواجب أن ترد إلى الشريعة وتنطلق منها، بحيث ترتبط بالفلسفة العامة للإسلام وبالمقاصد الكلية للشريعة ، وتستند إلى الأدلة الشرعية الجزئية في مختلف مواد الأحكام في شتى القوانين وفق الأصول المرعية عند فقهاء المسلمين جميعا .
وبهذا يكون لهذه القوانين شرعيتها وقدسيتها لدى الفرد المسلم والمجتمع المسلم وينقاد لها طواعية واختيارا ، لأنه يتعبد لله تبارك وتعالى بقبولها والخضوع لها . فخضوعه لها ليس خضوعا لبرلمان وضعها ولا لحكومة قررتها ، بل هو طاعة لله الذي شرعها لخير عباده(1) .
ـ الحاكمية الإلهية لا تعني دولة ثيوقراطية : ـ
الحاكمية الربانية التي يحتكم إليها القضاء الشرعي لا تعني تحويل الدولة إلى دولة كهنوتية بابوية كما كان الحال عليه في القرون الوسطى في الغرب قبل قيام عصر النهضة ، ولا تعني هذه الحاكمية ( أن الله تعالى هو الذي يولى العلماء والأمراء يحكمون باسمه ، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب ، ومفهومها أن الله سبحانه هو المشرع لخلقه وهو الذي يأمرهم وينهاهم ويحل لهم ويحرم عليهم .. أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة هي التي تختار حكامها وهي التي تحاسبهم وتراقبهم بل وتعزلهم . والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل .. فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية ) (2) .
__________
(1) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده . د/ القرضاوي صـ 173 .
(2) التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . د/ القرضاوي صـ 91 .(17/11)
إذن فنحن لا نعني بتوجيه الدين وحاكميته لكل مناحي الحياة ومنها القضاء الشرعي ـ أقول لا نعني بهذه الحاكمية المعنى المنحرف الذي ساد القرون الوسطى في أوربا ، فثمت فرق هائل كبير بين مفهوم الدين الكهنوتي عند الغرب ، ومفهوم الدين الإسلامي في المجتمع المسلم ، فالدين في الإسلام عقيدة ونظام ، دولة وتشريع ، سلام وجهاد ، توجيه وقانون ، فكر وحضارة ، ينتظم جميع شئون الحياة من صلاة وزكاة وصيام وحج وعقوبات وتعازير ، وقضاء وحكم وشهادات ، ووصايا وميراث ، وبيوع وزراعة ومساقاة ، وشركات وتشريعات لكل أمر يهم الناس وكلها تقوم على أساس توجيه العقيدة الإسلامية فليس الدين كهنوتيا يقتصر علي ناحية العبادة ويترك الناس على هواهم من غير ضابط ولا مرتكز يقيمون عليه تشريعاتهم وينظمون حياتهم (1) .
وها هو الشهيد السيد قطب ـ المتهم بالمغالاة في مفهوم الحاكمية ـ يقرر ذلك أيضا في كل وضوح بقوله : ( ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعينهم ـ هم رجال الدين ـ كما كان الأمر في سلطان الكنيسة . ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال فيما يعرف باسم الثيوقراطية أو الحكم الإلهي المقدس ، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة ) (2) .
ـ حاكمية الله لا تلغي حاكمية البشر : ـ
ينبغي أن نعلم بداية أن هناك ثلاثة أنواع من الحاكمية هي :
1 ـ حاكمية قدرية ، 2 ـ حاكمية تشريعية ، وكلاهما لله تعالى ، 3 ـ حاكمية بشرية .
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأنواع وهو يتحدث عن الحكم حيث ينقسم الحكم في القرآن الكريم إلى نوعين: ـ (3)
__________
(1) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الأوربي . د/ محمد البهي صـ 230
(2) 1 )معالم في الطريق صـ 68 . ط دار الشروق 1412ه ـ 1992م .
(3) راجع: تاريخ الحكم في الإسلام . د/ محمود عكاشة صـ 99 ـ 100 ، ط مؤسسة المختار بالقاهرة
1422ه ـ 2002م .(17/12)
ـ النوع الأول : حكم إلهي مطلق : ـ
هذا الحكم يختص الله تعالى به بنفسه [ إن الحكم إلا لله ] الأنعام : 57 ، يحكم كيف يشاء فيما يشاء [ والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ] الرعد 41 . وهذا الحكم ينقسم إلى قسمين : ـ
حكم عام { الحاكمية القدرية } : يدخل فيه الحكم في الدنيا والآخرة ويمتد من عرش الرحمن إلى منتهى خلقه ، ويعني القضاء والقدر في الدنيا .
حكم شرعي : وهو المحدد بمقدار معين ومعلق بزمن ومكان وشروط ، وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من البشر .
ـ النوع الثاني : حكم بشري : ـ
وهو الحكم الصادر عن البشر ، وهو حكم يختلف من الناطق به إلى الموجه إليه ، فتلك الأحكام البشرية عارضة تحتمل وجوها كثيرة من ناحية القبول والرفض ، ومن ناحية الصلاحية والصحة ، ولا ترقى إلى منزلة حكم الله تعالى الواجب على عباده.
وبالنسبة للحاكمية القدرية ـ وهي أحد نوعي الحكم الإلهي المطلق ـ فلا يتعلق حديثنا بها وهي في الوقت نفسه من قبيل الأفعال الاضطرارية التي يخضع لها كل الناس مؤمنهم وكافرهم ولا يشذ عن الخضوع لها واحد منهم .
والكلام هنا منصب على الحاكمية الشرعية الإلهية والحاكمية البشرية : فهل يعني قولنا : لا حاكمية ـ يرجع إليها القضاء الشرعي ـ إلا لله إلغاء أو تعطيل للحاكمية البشرية ؟
إن هذه القضية شبيهة بقولنا : إن المال في الإسلام هو مال الله . فهل يعني ذلك أنه أحد من البشر يملك المال في الإسلام ؟ بالطبع لا ، وإنما يكون المقصود من ذلك أنه لا يملك أحد من البشر المال في الإسلام إلا في إطار القواعد والأهداف التي وضعها الله تعالى لتمليك المال ، فضلا عن أن ملك الله للمال ملك حقيقي ودائم بينما ملك غيره من خلقه لهذا المال ملك إضافي وزائل .(17/13)
وهذا تقريبا نفس المعنى المقصود من حاكمية الله تعالى. فقولنا : لا حاكمية إلا لله يعني أن الحاكمية التشريعية يجب أن تكون لله وحده ، وليست لأحد من خلقه وأن هذه الحاكمية لا يحدها ولا يقيدها شيء فهي من دلائل وحدانية الألوهية التي تقتضي ألا يكون لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع .
وهذه الحاكمية بهذا المعنى تعني : أنه لا يحق لأحد أن يحكم بشكل مستقل في أي أمر من الأمور دون الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتمادا على أفكار أو قوانين مستوردة ، أو موقف جماعي ، أو هوى شخصي . وليس المقصود قطعا منع الناس من إعمال العقل والتشريع في إطار القرآن والسنة والضوابط الأصولية للدين (1) .
__________
(1) حقيقة العلمانية والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين . أ / محمد إبراهيم مبروك ، جـ2 ، صـ87ـ88 ، ط مكتبة الإشعاع الفنية 2002م بتصرف .(17/14)
وهذا يعني أن الحاكمية التشريعية لا تنفي أن تكون للبشر مساحة غير قليلة من التشريع أذن به الله لهم ، وإنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله ، ذلك مثل التشريع الدين المحض ، كالتشريع في أمر العبادات .. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام كأن يحلوا ما حرم الله أو يحرموا ما أحل الله .. وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة كالقوانين التي تقر المنكرات ، أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، أو تعطل الفرائض المحتمة ، وتلغي العقوبات اللازمة ، أو تتعدى حدود الله المعلومة ..أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم في الشئون الدنيوية ، أعني الشئون الفنية التي تتعلق بالكيفيات والآليات والوسائل التي تتغير وتتطور باستمرار ، ولم يجئ الوحي الإلهي ليحكم فيها ، بل تركها لعقول الناس وبحوثهم ومعارفهم ، يتصرفون فيها . بما هو أنفع لهم وأوفق بتحقيق مصالحهم ودرء الشرور والمفاسد عنهم .. ومن ثم يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية وقواعدها العامة . وكلها تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد ورعاية حاجات الناس أفرادا وجماعات (1) .
ـ الحاكمية التشريعية من مقتضيات توحيد الألوهية : ـ
من مستلزمات التصور الإسلامي أن الله سبحانه هو الخالق للكون والمبدع لما فيه من كائنات ، فهو رب الناس وملك الناس وإله الناس ، وهو رب العالمين جميعا ، وأنه جل شأنه مالك الملك وحده يؤتيه من يشاء وينزعه عمن يشاء ، فهو السيد المطلق وحده ، والخلق كلهم عبيده ، وهم سواء في درجة العبودية لله ، كما أنهم سواء في نسبتهم إلى هذا الخالق العظيم .
__________
(1) التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . د/ القرضاوي ، صـ94ـ 95 .(17/15)
وبما أن الله هو الخالق المالك لكل ما في الكون فهو وحده المتصرف في أمور هذا الكون [ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ] الأعراف ، آية رقم : 54 ، وهو وحده الذي يعلم ما يصلح عباده وما يفسدهم وما يسعدهم وما يشقيهم [ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ] . الملك ، آية رقم : 14 ، وما دام الأمر كذلك فالتشريع حق لله وحده يختص به دون سائر خلقه ، وهذا من دلائل توحيد الألوهية ومن مقتضيات وحدانية الخالق جل شأنه .
وقد قرر القرآن الكريم ذلك في صراحة ووضوح في أكثر من آية من آيات الذكر الحكيم ، يقول تعالى : [ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون ] المائدة ، آية رقم : 50 . والحكم هنا يعني الحكم التشريعي الذي هو حق الله تعالى المطلق على عباده ، يقول ابن كثير : [ أفحكم الجاهلية يبغون ] أي يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون .. ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين : ، وحكم الجاهلية يعني سنة الجاهلية في القضاء(1) .
وفي قوله تعالى: [ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ] الشورى ، آية رقم : 10 ، إشارة إلى أنه مهما اختلفتم فيه من الأمور ، وهذا عامّ في جميع الأشياء فحكمه إلى الله أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو كقوله جل شأنه : [ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ] النساء ، آية رقم : 59 .
وليس للمؤمن أن يتأبى أو يتمرد على حكم الله ، ولا أن يجادل أو ينازع في قضاء قضاه الله تعالى : [ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ] الأحزاب ، آية رقم : 36 .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم / الإمام ابن كثير جـ2 ، صـ67 ، ط دار المعرفة بيروت 1982م .(17/16)
فالإقرار بحاكمية الله والتسليم لشريعة الله من شيم المسلم ومن تمام الإيمان ، ومن نازع في شيء من ذلك فليراجع إيمانه بخالقه وعهده مع مولاه : [ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ] النساء ، آية رقم
: 65 . وديدن المؤمن دائما وأبدا السمع والطاعة لكل ما ورد عن الله في أي أمر من الأمور [ إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولائك هم المفلحون ] النور ، آية رقم : 51 . أما المنافقون الذين في قلوبهم مرض فشيمتهم الأعراض والاستهزاء بقوانين الله وشريعة الإسلام [ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ] النور ، آية رقم : 48 . ، [ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقون يصدون عنك صدودا ] . النساء ، آية رقم : 61
ـ التحاكم للقوانين الإسلامية من تمام العبودية : ـ
إذا كان الاحتكام إلى منهج الله وسيادة الحاكمية الإلهية حقا من حقوق الله وأمرا يستلزمه توحيد الألوهية ، كما أشرنا ، فإن ذلك في الوقت نفسه يمثل واجبا على كل مسلم تجاه خالقه ومولاه ، والتفريط في هذا الواجب ينقض معنى من معاني توحيد الألوهية وبالتالي يؤثر سلبا على إيمان المؤمن بالله رب العالمين .
وإذا كان تسليم المسلم لمنهج الله واحتكامه إلى شرع الله عبادة لله ، فإن الخضوع لغير الله والأخذ عن غير الله ، والاستمداد من قوانين غير إسلامية ، وتحكيم فلسفات ومناهج وتصورات لتسيير الحياة بعيدا عن تصور الإسلام يمثل عبودية لغير الله عز وجل تتنافى مع صحيح الإيمان وكمال الإسلام وإخلاص التوحيد .(17/17)
فالعبودية الحقة تعني الخضوع المطلق لله والتسليم الكامل لجميع أحكامه التي أنزلها في كتابه أو بينها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سنته ، لذا كان الخضوع للتشريعات الإسلامية في كل شئون الحياة من أعظم العبادات ، وهذا بدوره يقتضي عدة أمور لتحقق الخضوع التام والعبودية الحقة منها : ـ
1 ـ ألا يخضع الإنسان لله في نواح حياتية ، ويرفض شرعه في نواح أخرى ، كأن يخضع لله في جانب الشرائع التعبدية المحضة كالصوم والصلاة والزكاة والحج مثلا ، ويرفض أمر الله في بقية شئون الحياة ، ويتلقى أنظمة الحياة وقوانينها من عند غير الله ، سواء مما يضعه له عقله أو عقول الآخرين من البشر(1) .
ومن ثم أنكر القرآن الكريم أبلغ الإنكار على بني إسرائيل في تجزئتهم للدين وأخذهم لبعض أحكام كتابهم وإعراضهم عن البعض الآخر ، فقال تعالى مقرعا لهم : [ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرن بعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ] البقرة ، آية رقم 85 ،
وكما لا يقبل من المسلم أن يرفض شيئا ـ مهما قل ـ من القرآن الكريم ، ويعتبر بذلك كافرا ، فكذلك لا يقبل منه أن يرفض أي حكم قطعي ثابت من أحكام الشريعة مما علم من الدين بالضرورة ، ورفضه لهذا يعتبر كفرا بالإسلام يخرجه من الملة ويعزله عن الأمة(2) .
__________
(1) انظر : كتاب الفكر الإسلامي . تأليف لجنة من الأساتذة صـ146 ، ط جامعة الإمارات العربية المتحدة 2003م .
(2) ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده . د/ القرضاوي صـ 174 .(17/18)
2 ـ ألا يتخذ الإنسان له مناهج وأنظمة حسب ما يملي عليه هواه ومزاجه وعقله القاصر ، ويتبعها مع مضادتها ومخالفتها لمنهج الله ، إن من يفعل ذلك يكون ـ كما عبر القرآن ـ متخذا الهوى إلها من دون الله ، وقد حذرنا الله من ذلك قائلا : [ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ] الجاثية ، آية رقم 23 "(1) " .
3 ـ وحتى تتحقق الهوية الإسلامية لأي مجتمع مسلم لا بد أن تكون الدولة محكومة بأمر الله ، والقوانين إنما تستنبط للناس عن قواعد الإسلام ، والأفكار عن الحياة جميعا إنما تستمد من عقيدة الإسلام ، سواء تلك المتعلقة بالفرد في حياته الخاصة أو العامة ، أو المتعلقة بالمجتمع والدولة . والأمة التي لا لون لمجتمعها ، ولا عقيدة تقوم عليها أفكارها .. أمة ضائعة فاقدة الأفكار فاقدة لطريقة التفكير ولذلك تظل عالة على غيرها تابعة لسواها والتبعية لغير الله وشرعه ذل وضياع وهوان ، وفي الوقت نفسه تمثل هذه التبعية لونا من ألوان الاستدراك على الله والتعالم من العباد على ربهم ، واتهامهم له سبحانه بقصور العلم والحكمة أو بقصور جودته ورحمته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا (2) .
__________
(1) كتاب الفكر الإسلامي صـ 146 ،
(2) راجع المجتمع المتكافل في الإسلام ، صـ16 ، وملامح المجتمع المسلم الذي نشده صـ174(17/19)
ويمكننا أخيرا أن نوضح العلاقة بين عبادة الله وبين التقنين والتشريع وأنهما صنوان لا ينفصلان عن بعضهما البعض ، بتفسير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قول الله تعالى عن أهل الكتاب : [ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ] التوبة ، آية رقم : 31 ، حيث بين صلى الله عليه وسلم أن قيام الأحبار والرهبان بوضع الشرائع والقوانين خلافا لمنهج الله الذي شرعه ، إنما هو قيام بدور الألوهية وتعد على حق من حقوق الله عز وجل ، وإن طاعتهم في ذلك صرف للعبودية لهؤلاء بدلا عن الله تعالى . وتفسير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذه الآية الكريمة على هذا النحو ( نص قاطع على أن الإتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابا لبعض .. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله (1) .
ـ الفصل الثاني : ـ
العلمانية وموقفها من القضاء الشرعي .
__________
(1) معالم في الطريق . الشهيد سيد قطب صـ70 .(17/20)
الحرب ضد الإسلام حرب ضروس منذ ظهورها وحتى اليوم ، وستظل هذه الحرب قائمة ـ شأن الصراع بين الحق والباطل ـ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، مصداق ذلك قول ربنا جل شأنه : [ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ] البقرة ، آية رقم : 217 ، وأخذت هذه الحرب الطابع العسكري تارة ، بينما غلب عليها الطابع الفكري تارة أخرى . وتمثل العلمانية حلقة من حلقات هذا الصراع ، وتعد من أشرس المعارك الفكرية الموجهة ضد المجتمعات الإسلامية في عصرنا الراهن . فما هي العلمانية ؟ وكيف نشأت ؟ وهل نحن بحاجة إليها في مجتمعاتنا الإسلامية ؟ وما موقفها من الشريعة والقوانين الإسلامية ؟ وما دورها في انحسار القضاء الشرعي داخل ديار المسلمين ؟ وكيف ساعدت على علمنة القانون والتشريعات ؟ وهل ارتقت العلمانية بالمجتمعات التي زحزحت الشريعة فيها عن توجيه الحياة وتنظيمها كما يدعي العلمانيون ؟ وما هي وسائل العلمانية في إسقاط مرجعية الشريعة وحاكميتها ؟ ولماذا يصر العلمانيون على رفض تحكيم الشريعة وغلبة أو سيادة القضاء الشرعي ؟
ـ أسئلة عديدة . نحاول بعون من الله وتوفيق أن نجيب عليها من خلال مباحث هذا الفصل بادئين بتعريفها .
ـ تعريف العلمانية : ـ
يعود استعمال لفظة علمانية إلى أواسط القرن التاسع عشر ، ويرجح أن استعمالها في اللغة العربية لم يرد بكثافة حتى أوائل القرن العشرين .. وردت لفظة علمانية أول الأمر في معجم
{ محيط المحيط } للمعلم { بطرس البستاني 1819 ـ 1883 } المطبوع في بيروت سنة 1870 ، وتبنى اللفظة كذلك الطبيب خليل سعادة { 1857 ـ 1934 } في معجمه الطبي {الإنكليزي ـ العربي } المطبوع في القاهرة عام 1911 م .(17/21)
والعلمانية لغة : مبدأ فلسفي يدعوا إلى الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني ، وهو يعني استطرادا إضفاء الطابع اللاديني على المؤسسات السياسية والتربوية في بلد ما . يقول {ارنست رونان : 1823 ـ 1892 } : ( العلمانية هي وقوف الدولة موقفا محايدا حيال جميع الديانات ) .
والعلمانية تفترض أمرين : فلا تعود الدولة تمارس أي سلطة دينية . ولا يعود الدين يمارس أي سلطة دنيوية (1) .
وتقول دائرة المعارف البريطانية في شرحها لمعنى مصطلح العلمانية : هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها . وذلك أنه كان للناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر ، ومن أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت secularism تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية البشرية وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة الغربية ، وظل الاتجاه إلى ـ secularism ـ يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية (2) .
ويقول معجم أكسفورد شرحا لكلمة (secular ) : ـ
1 ـ دنيوي أو مادي ليس دينيا ولا روحيا : مثل التربية اللادينية ، الفن أو الموسيقى اللادينية ، السلطة اللادينية ، الحكومة المناقضة للكنيسة .
2 ـ الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق والتربية (3) .
ويقول المعجم الدولي الثالث الجديد في شرح نفس اللقطة : ـ
__________
(1) الاتجاهات العلمانية في العالم العربي . أ/ عبدا لله نعمان صـ13
(2) مذاهب فكرية معاصرة . أ/ محمد قطب صـ445 ، ط دار الشروق بالقاهرة .
(3) العلمانية نشأتها وتطورها وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصرة . د/ سفر الحوالي صـ22ـ23 . ط جامعة أم القرى بمكة المكرمة 1402ه ـ 1982م .(17/22)
اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة ، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصودا ، فهي تعني مثلا { السياسة اللادينية البحتة في الحكومة } .
وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين (1) .
ويوضح لنا الدكتور البهي معنى العلمانية بقوله : العلمانية تنسب على غير قياس إلى العالم أو العالمية هي : نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الإيمان الديني والعبادة الدينية .. هي اعتقاد بأن الدين والشئون الاكليريكية { اللاهوتية والكنسية } والرهبنة لا ينبغي أن تدخل في أعمال الدولة ، وبالأخص في التعليم العام . والتحول إلى العلمانية هو التحول من الملكية الدينية إلى الملكية المدنية ، أو من الاستعمال الديني إلى الاستعمال المدني .. هذا التحول هو التخلص من سلطة الرهبنة والعهد الرهبني .. هو التحول إلى الانتماء المدني (2) .
ويعرف سيادته العلماني بقوله : هو ما يتعلق بالحياة الدنيوية المؤقتة وليست له قداسة ، مقابل الشئون الكنسية .. ومنه الموسيقى الدنيوية .. مقابل الموسيقى الدينية أو الكنيسة ، والمدرسة الدنيوية أو المدنية .. مقابل المدرسة الإكليريكية .
__________
(1) المرجع السابق صـ23 .
(2) الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة . صـ 14 ، ط مكتبة وهبة بالقاهرة 1401ه ـ 1981 م .(17/23)
وهنا إذن : ثنائية في المجتمع الأوربي .. هنا دولة وكنيسة ، هنا مدني وديني ، هنا حياة دنيوية غير مقدسة وحياة أخرى كنسية لها قداستها ، هنا دولة لها سلطة وتريد أن تتوسع في سلطتها وهنا كنيسة لها سلطة كذلك وتريد أن تحافظ على الأقل على سلطتها في مواجهة سلطة الدولة ، وهنا حياة مدنية أو دنيوية تخضع للتغير أو للتطور وهنا حياة دينية كنسية في منأى عن التغير والتطور (1) .
يتضح مما سبق أن العلمانية نسبة إلى العالم ـ بمعنى الدنيا ـ أو العالمية ، وإن كانت نسبة على غير قياس لأنها جاءت بزيادة الألف والنون كما قالوا : نوراني وروحاني . ولكنها ليست نسبة إلى العلم على الرغم من أن المواقف المتشددة التي اتخذتها السلطات الكنسية ضد العلماء والتي بلغت حد التحريف ، كان لها تأثير كبير أو دور حاسم في نشوء العلمانية في أوربا .. والواقع أن النسبة إلى العالم ـ أو الدينا بعبارة أدق ـ جاء أو غلب من خلال المبدأ الذي صرح به أصحاب المعجم الدولي الثالث والقائل : ( بأن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة ) أو من خلال ما أسموه : { السياسة اللادينية في الحكومة } ويمكن ترجمة هذا المبدأ بأنه إبعاد الكنيسة عن شئون السياسة والحكم أي عن السلطة الزمنية كما دعيت . علما بأن هذا المبدأ قد عرف في الفكر الإسلامي ـ على نطاق واسع ـ بفصل الدين عن الدولة .
وقد أسهم هذا الفصل ـ أو هذا الإبعاد ـ في تحديد معنى الدين حيث قصره الأوربيون على التوجيه الروحي للأفراد .. كما حدد عندهم معنى الدولة أو الحكومة فصارت تعني تنظيم العلاقات بين الأفراد (2) .
__________
(1) المرجع السابق صـ 14 .
(2) القومية والعلمانية مدخل علمي . د/ عدنان زرزور صـ118 ـ 119 ، ط مؤسسة الرسالة 1992م(17/24)
والإدعاء بأن العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة لا يعبر ـ في الحقيقة ـ عهد المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة . ولو قيل إنها { فصل الدين عن الحياة } لكان أصوب ، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو : إقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أو الفرد (1) .
والعلمانية بهذا المفهوم الذي يعزل الدين عن الحياة بالكلية سواء على مستوى الأفراد أوالجماعات لا تجعل للدين سلطانا في توجيه الإنسان أو تثقيفه أو تربيته أو التشريع له . وإنما ينطلق الإنسان ـ في ظل المفهوم العلماني ـ في مسيرة الحياة بوحي عقله وغرائزه أو دوافعه النفسية فحسب . وبعبارة أخرى : تعني العلمانية : عزل الله تعالى عن حكم خلقه . فليس له عليهم سلطان ، كأنما هم آلهة أنفسهم فهم يفعلون ما يشاؤن ويحكمون ما يريدون ولا يسألون عما يفعلون (2) .
ـ تقسيم العلمانية : ـ
الحكم السابق على العلمانية بأنها عزلت الدين عن الحياة وعزلت الله عن حكم خلقه حكم صادق ولا يتأثر كثيرا بتقسيم بعض الباحثين للعلمانية إلى نوعين : ـ
1 ـ علمانية معتدلة { أو محايدة } . 2 ـ علمانية متطرفة { أو ملحدة ومعاندة } .
فالأولى هي التي تدعو إلى فك الارتباط والتداخل بين الدين والدولة ، ومن ثم منع رجال الدين من التدخل في شئون الدولة والمجتمع ، على أن تكون الدولة محايدة تجاه جميع الأديان والمذاهب وأن تضمن لكل مواطن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من دون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين أو العقيدة .
__________
(1) العلمانية / سفر الحوالي صـ23 ـ 24 .
(2) التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . د / القرضاوي صـ15 ـ 16 .(17/25)
والعلمانية الأخرى هي العلمانية الملحدة التي تبلورت في القرن التاسع عشر بعد ظهور الفلسفة المادية من مدرسة هيجل { 1770 ـ 1831 } ، ويعتبر فيور باخ أبرز مؤسسيها وهي تستهدف إلغاء الدين وليس مجرد الفصل بينه وبين الدولة (1) .
والزعم بأن العلمانية المعتدلة يمكن أن تكون محايدة تجاه الدين زعم غير صحيح لسبب بسيط ، يجعل هذه العلمانية لا يمكن أبدا أن تكون محايدة مع الدين ، لأن عزل العلمانية للدين وفصله عن حياة المجتمع وتفريغ حياة الإنسان من الدين ليس موقفا حياديا / إنه موقف ضد الدين . إنه يقوم على اتهام الدين بأنه ضرر بالحياة وخطر عليها ، فيجب إبعاده عن توجيه الحياة والتأثير فيها ، ويجب أن تبني الحياة في تشريعها وفي تعليمها وفي ثقافتها وفي إعلامها وفي تقاليدها على غير الدين ، ومثل هذا الموقف لا يعتبر حياديا ، بل هو حكم يدين الدين ويجرمه ويقض بعزلته .
كل ما يقال : ( إن هذه العلمانية أخف وطأة من العلمانية الملحدة ، فهذه لا توالي الدين كما لاتعاديه بصراحة وعنف ) (2) .
ـ أسباب نشأة العلمانية : ـ
العلمانية نبتة غربية ، نشأت وترعرعت في البيئة الغربية ، أفرزتها وأنبتتها ظروف وملابسات خاصة بالناس هناك في الغرب ، لا نظير لها عند غيرهم خصوصا المجتمعات الإسلامية ، ويمكننا الكشف عن أهم هذه العوامل التي أدت إلى نشأة العلمانية في الغرب من خلال النقاط التالية : ـ
1 ـ الدين المحرف : ـ
__________
(1) الاتجاهات العلمانية في العالم العربي / عبد الله نعمان صـ15 .
(2) التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . صـ 17 .(17/26)
كان للدين الذي قدمته الكنيسة للناس هناك في الغرب دور كبير في ظهور العلمانية ، ومن المعلوم أن هذا الدين قد لعبت به أيدي لبشر محرفة الكثير من نصوصه وحقائقه ، وبالتالي قدمت الكنيسة تصورا عن الله تعالى متناقضا اختلط فيه اللاهوتي بالناسوتي وما هو إلهي بما هو بشري مما جعل العقل الغربي يشعر بالتناقض إزاء هذه الصورة البشرية للإله والصورة الإبداعية التي يتجلى من خلالها الكون .
أضف إلى ذلك خلو الديانة المسيحية من التشريعات المفصلة لشؤون الحياة والمنظمة للمعاملات الحياتية والضابطة للعلاقات بين الناس ، مع تركيزها على الجانب الروحي والأخلاقي في الغالب الأعم .
بالإضافة إلى تضمن المسيحية لمبدأ هام تؤمن به هيأ الأذهان هناك لإمكانية الفصل بين الدين والدولة وهو المبدأ القائل : أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، حيث يختص القيصر بتنظيم أمور الحياة الدنيا ، بينما يكون الدين وأمر الروح من اختصاص الله .
2 ـ الصراع بين الكنيسة والعلم .
فرضت الكنيسة وصايتها على الناس وأحكمت قبضتها حتى على العقول وطرائق التفكير ، ومنعت التسليم بالنظريات العلمية الجديدة التي لا تتفق مع معطيات الكتاب المقدس بما انطوى عليه من آراء غير علمية وحقائق غير منطقية ، واضطهدت المفكرين وحاربت العلماء وأنشأت ما يسمى بمحاكم التفتيش ووصل الأمر برجال الكنيسة إلى حرق العلماء وهم أحياء وقتل وسجن الآخرين لمجرد أنهم اكتشفوا مثلا أن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس وغير ذلك من نظريات تصطدم مع ما ذكر في الكتاب المقدس .
3 ـ فساد السلطة الكهنوتية : ـ(17/27)
اعتقد رجال الكنيسة أنهم يحكمون الناس باسم الإله وبالتالي فهم يتحكمون في مصائر الخلق من خلال ما يسمى بصكوك الغفران ، كما يتحكمون في الملوك وتنصيبهم على عروشهم فيولون من يشاءون ويعزلون من يكرهون وخولت هذه السلطة لرجال الدين المسيحي أن يفرضوا ضرائب وإتاوات على الناس بل وعلى الملوك أيضا . وانتشر بينهم حب المال وكثير من الرذائل الأخلاقية التي تتنافى مع وظيفته وطبيعة المهمة التي يقومون بها . هذه الأسباب وغيرها ساعد على ظهور العلمانية انتصارا للعلم من ناحية وتخلصا من ظلم رجال الدين واضطهاد الكنيسة من ناحية أخرى وكان التركيز ـ من خلال العلمانية ـ منصبا على ضرورة الفصل بين الدين والدولة بحيث يقتصر الدين على مجرد الحالة الشعورية والتعبدية بين العبد وربه بينما تقوم الدولة من خلال العقل والعلم بعيدا عن أي توجيه ديني بتسييس وتنظيم كل شئون الحياة .
ـ لو وجد الإسلام في أوربا ما قامت العلمانية : ـ
بطبيعة الحال لا يوجد أي مبرر لوجود العلمانية في مجتمعاتنا لعدم وجود سبب منطقي واحد يدعو لاستيرادها من الغرب وتصديرها إلى ديارنا ومجالات حياتنا فلا عقيدتنا متناقضة ولا توجد عندنا سلطة كهنوتية أو طبقة رجال دين بالمعنى المسيحي ، ولا تنقصنا الشريعة ولا المناهج المنظمة لكل أمور الحياة الإنسانية ولا صراع بين حقائق وحينا المعصوم وبين مكتشفات ونظريات العلم الحديث وبالتالي فلا معاداة للعلم ولا العلماء بل العكس هو الصحيح تماما ، وليس عندنا جمود في النصوص الدينية ولا تحريف يخلط ما هو إنساني بما هو رباني.
ومن هنا فلو جاء حاكم وطالب بتطبيق العلمانية في مجتمع إسلامي فإن ذلك يكون لعدم أهليته للحكم وللهرب من المسؤولية التي يلقيها الإسلام على الحاكم كحاكم في طلب الاستقامة في السلوك وأداء الحكم والعدل والشورى المتبادلة والرعاية وليس التسلط .(17/28)
وإن جاء الطلب من مفكر فذلك لقصور في معرفة الإسلام وخداع نفسه وغيره بعرض قضايا يدرك أطرافها فقط جوهرها وغايتها .
وإن طلب من سياسي فهو للتلاعب بالفكر غير الناضج والتمويه في حلبة المنافسة السياسية .
وإن طلب من فتى وفتاة فهو للتحلل من التزام الإيمان : في التوجيه والسلوك والانطلاق في شهوة البطن والفرج والملبس(1) .
ويذهب الدكتور البهي رحمه الله إلى ما هو أبعد من ذلك فيقرر أنه : لو كان الإسلام في أوربا ما نشأت العلمانية في الفكر الأوربي ، ولما وصل تفكير بعض المفكرين في أوربا إلى التطرف في المادية والجنوح إلى شحن النفوس بالأحقاد ودفعها إلى الانقلاب الدموي لحل بعض المشاكل الاجتماعية .
ويبرر ذلك بأنه ليس في الإسلام جمود طالما كان الاجتهاد مبدأ أساسيا فيه .. وليس في عقائد الإسلام تعقيد لأنه يفصل بين مستوى الله ومستوى الإنسان فصلا تاما ، فلا يختلط الإنسان في خطئه وصوابه بالله في قدسيته وحكمته . وليس في الإسلام أي باعث على التخلف طالما لا يرى شرا في الدنيا ولا في الحياة المادية من أكل وشرب وزواج ونسل وزينة ، وإنما يرى الشر فقط في الإسراف وفي الغلو في الاستمتاع بما في الحياة المادية ، وطالما يرى أيضا أن الإنسان يحمل وزر نفسه وخطيئته وحدها (2) .
ـ كيف زحزح القضاء الشرعي عن السيادة ؟
روى الإمام أحمد أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لينقضن الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة ) (3) .
__________
(1) الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة . د/ البهي صـ 57 .
(2) الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة . د/ البهي صـ 57 .
(3) مسند الإمام أحمد جـ5 ، صـ251 .(17/29)
ولقد بدأ الانحراف في تصرفات الحكام المسلمين قديما ، غير أن النقض الواعي لهذه العروة لم يظهر إلا في العصر الحديث حين بلغ المسلمون قرارة الضعف وغاية التدهور ، كان الإسلام طيلة القرون السابقة أعمق في النفوس من أن يستبدل به أي منهج آخر ، وكانت الجاهلية أحقر من أن تطاوله أو تطمع في أبنائه .
غير أن الحال في العصر الحديث قد انعكس تماما فلم يبق من الإسلام ـ واقعيا ـ إلا تلك التصورات الخاطئة التي سلف الحديث عنها ، وفي الوقت نفسه كانت الجاهلي الأوربية المنتفشة تتولى قيادة الفكر البشري وتوجيه الحضارة الإنسانية ، ونتيجة لهذا الوضع المزدوج تسربت العلمانية إلى العالم الإسلامي وانتقضت تلك العروة الكبرى .
لقد سادت الشريعة الإسلامية في مصر وغيرها من أقطار العالم الإسلامي خلال أربعة عشر قرنا كانت فيها محور ذاتية الأمة وأساس وحدتها وحضارتها وسيادتها ، وبقيت كذلك ما دامت الدول الإسلامية كاملة السيادة على أرضها وعلى جميع سكانها . وعندما بدأت عصور الاضمحلال والضعف ، وبدأت هجمات الاستعمار ترسي سفنها على شواطئنا ، وتجد في ضعفنا فرصة لكي تكون لها قواعد على أرضنا تمثلت في { الامتيازات الأجنبية } التي قيدت سلطة الدولة العثمانية بمقتضى معاهدات فرضت بالخديعة تارة والقوة تارة أخرى(1) .
ومنذ دخل الاستعمار العالم الإسلامي في العصر الحديث ، وسيطر بالاحتلال على البلاد الإسلامية ، كان أول مسعاه أن يبدل هذا النظام القانون الإسلامي بالقانون الوضعي الغربي ، وقد جاءت مؤامرته هذه ـ في أول الأمر ـ تحت اسم محاولة إيجاد نظام قانون لمعاملة الأجانب في علاقاتهم بأهل البلاد (2) .
ولقد تفتق ذهن المستعمر ـ حينئذ ـ فوجد حلا لمعاملة هؤلاء الأجانب قانونيا متمثلا في إقامة
__________
(1) لعلمانية / سفر الحوالي صـ561
(2) سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية . أ / أنور الجندي صـ102 ، ط دار الجيل 1985 .(17/30)
{ المحاكم القنصلية } بحيث تطبق كل محكمة قانون الدولة التي تتبعها .. ثم تطور هذا النظام بإنشاء المحاكم المختلطة عام 1875م ، وهي مشتركة بين قضاة أجانب وقضاة مصريين اختصاصها الفصل في المنازعات في المواد المدنية والتجارية فيما بين المصريين والأجانب ، وفيما بين الأجانب المختلفي الجنسية ، وظلت حتى ألغيت بعد معاهدة 1936 م (1) .
لقد كانت القيود المفروضة على التشريع والقضاء ببلادنا من أبشع صور العدوان الاستعماري على سيادة وحرية هذه البلاد التي تعددت فيها المحاكم والتشريعات ما بين محاكم قنصلية أو مختلطة خاصة بالأجانب ، ومحاكم أهلية خاصة بالمواطنين وكان أكثر الناس ثورة على الوصاية الأجنبية على تشريعاتنا وقضائنا هم رجال القضاء ورجال القانون والمحاماة في المحاكم { الأهلية } ويكفي أن هذا الوصف في ذاته كان يستعمل للحط من قيمتهم وقيمة محاكمهم والمتقاضين أمامها من الأهالي ، بل وقيمة الدولة المصرية الناشئة العاجزة عن رفض قوانينها على أصحاب الامتيازات والحمايات المقيمين على أرضها ، العاجز قضاؤها عن حماية رعاياها من عبث هؤلاء الأجانب واعتداءاتهم . وكانوا يرون الدولة المصرية مضطرة إلى أن تستورد بعض الخواجات ليضعوا لها قوانين يستوردونها من بلادهم ، وتفرض هذه القوانين المستوردة على المشرع المصري ، لكي يرضى بذلك الدول صاحبة الامتيازات فتمنحنا شهادة بالتمدين والتحضر نستخدمها في استعطافهم من أجل أن يتنازلوا عن امتيازاتهم (2) .
__________
(1) المرجع السابق صـ102 .
(2) سيادة الشريعة الإسلامية في مصر صـ33 .(17/31)
في ضوء ما سبق يمكننا أن نقول : إن ضعف المسلمين وهزيمتهم النفسية وفساد كثير من أوضاع البلاد الإسلامية ، بالإضافة إلى العدوان المباشر من الاستعمار الأجنبي ومحاولة الهيمنة الفكرية وطمس الهوية الإسلامية وفرض القوانين المستوردة والتضييق على القضاء والتشريع والمشرعين في بلادنا ، كل ذلك أدى إلى زحزحة القضاء الشرعي عن السيادة في المجتمعات الإسلامية وبروز أشكال أخرى وضعية حلت بدلا منه .
ـ علمنة القوانين : ـ
بعد الخطوة الأولى التي تم خلالها زحزحة القضاء الشرعي عن السيادة في المجتمعات الإسلامية ، جاء دور الخطوة الثانية المتمثلة في فرض النظام العلماني على الناحية القانونية .
وكان أول مظهر لعلمنة القانون في تركيا عام 1857م ، ثم تلاه في مصر عام 1875م صدور بعض القوانين مستمدة من غير الشريعة الإسلامية . ثم تلاه في مصر عام 1875م صدور بعض القوانين مستمدة من غير الشريعة الإسلامية ثم تلاه في عام 1883م إنشاء المحاكم الأهلية تحكم بالقانون بعيدا عن الشريعة الإسلامية وفي تركيا ومع إلغاء الخلافة تم عام
( 1924 ) :
1 ـ إصدار قانون مدني مستمد من القانون السويسري .
2 ـ إصدار قانون جنائي مستمد من القانون الإيطالي .
3 ـ إصدار قانون تجاري مستمد من القانون الألماني .
ومع معاهدة إلغاء الامتيازات الأجنبية عام 1937 اشترط المؤتمرون أن تستمد مصر تشريعها من التشريع الغربي ( بعيدا عن الشريعة الإسلامية طبعا ) ومع زوال المحاكم المختلطة صدر القانون المدني عام 1948 ناصا في مادته الأولى على مصادر القانون جاعلا في مقدمتها التشريع الوضعي ، ثم العرف الوضعي . ووضع في الدرجة الثالثة مبادئ الشريعة الإسلامية والقانون الطبيعي فجعل مكان الشريعة الدرجة الثالثة ، وجعل القانون الطبيعي مشاركا لها .(17/32)
وتبعتها في ذلك أكثر الدول العربية بعد استقلالها ، وصار القانون المدني المصري أساسا لكثير من القوانين في البلاد العربية (1) .
هذه الروح العلمانية حاول الاستعمار بثها ونشرها في شتى مجالات الحياة داخل الأقطار الإسلامية ، ولا يخفى علينا العلاقة الوثيقة التي تربط بين الاستعمار والعلمانية وأخواتها من الاستشراق والتنصير .
فمصالح الغرب وأطماع الاحتلال الأوربي في البلاد الإسلامية شرقا وغربا ساعدت على قيام هذا التحالف بين الاستعمار والعلمانية . فقبول البلاد الإسلامية للعلمانية من شأنه ـ كما يقول الدكتور البهي:(2) أن يسهل للغرب طريق الحركة في سبيل الاستغلال الاقتصادي ، سواء أكان من مصادر الثروة الطبيعية أم من دائرة الطاقة البشرية .
ومن مظاهر هذا التحالف ما مارسه الاستعمار الغربي في الأمس البعيد في البلاد الإسلامية التي احتلها من محاولات فصل الدين عن الدولة في تدرج وفي إحكام وفي غيبة من الوعي الإسلامي . ولم يفلت أي بلد إسلامي ـ أو أكثريته إسلامية ـ في آسيا وأفريقيا من الاستعمار الغربي وممارسته العلمانية وإضعاف الإسلام فيها ، فالإسلام في غالبية هذه البلاد أبعد : في سياسة الحكم .. وفي سياسة التوجيه والتعليم .. وفي سياسة التشريع والقضاء .. وفي سياسة المال والاقتصاد .. ولم يبق من الإسلام في المجال العملي للحياة الإسلامية إلا الأحوال الشخصية . أي أحوال الزواج والطلاق والنفقة والحضانة والعدة ,, الخ موضاعتها (3).
__________
(1) الاتجاهات الفكرية المعاصرة . د / على جريشة صـ113 ـ 114 ، ط دار الوفاء 1409ه ـ 1988م .
(2) الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة صـ52 .
(3) الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة . د/ البهي صـ53 .(17/33)
وهكذا بدأت المحاولة . بروح التغريب والاستعمار والسيطرة على العالم الإسلامي والبلاد العربية وتحويلها عن شريعتها القرآنية الربانية التي جاء بها الوحي من رب السماوات والأرض ، والتي هي عماد المجتمع الإسلامي ودعامته ، وتجمعت هذه القوى ( الاستعمارية والعلمانية ) لفرض القانون الوضعي الذي يحجب كثيرا من القيم الأساسية والضوابط والحدود التي نظمت بها الشريعة الإسلامية المجتمع وحفظته من الأخطار ، ولقد عهد القانون الوضعي ( العلماني ) إلى تغريب هذا المجتمع في مجالات كثيرة وخاصة في مجال الأسرة وعلاقات الرجل والمرأة ، والتعامل الاقتصادي ( الربا ) والاجتماعي ( الزنا ) (1) .
ـ الروح العلمانية في الدساتير العربية : ـ
لو وقف الأمر عند هذه الفئة من الاستعماريين والعلمانيين الغربيين لهان الأمر ، ولتوقعنا أن تزول هذه الازدواجية في محاكمنا وتشريعاتنا وساحات القضاء لدينا ما بين قانون شرعي وآخر وضعي . بزوال الاحتلال واندثار الاستعمار ورحيله عن معظم الأقطار الإسلامية التي احتلها.
ولكن الواقع أن الامتيازات الأجنبية ومحاكمها المختلطة والروح العلمانية التي حاول الاستعمار بثها في مجالات حياتنا المختلفة ، قد تركت أثرها على طائفة مختلطة الثقافة والفكر والتربية من أبناء جلدتنا فساروا في نفس الاتجاه وترسموا طريق أساتذتهم من الأجانب ، لذلك لا يزال شيطان العلمانية يؤدي دوره في علمنة الدساتير والقوانين وغيرها حتى في البلاد التي أعلنت التزامها بالشريعة الإسلامية وأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام .
__________
(1) سموم الاستشراق والمستشرقين . أ / أنور الجندي صـ 106 .(17/34)
إن الدساتير العربية تشير عموما إلى الإسلام كمصدر أساسي للتشريع ، بما في ذلك الدول التي تدين بالاشتراكية وتدعوا إلى التقدمية . وإذا كان دين الدولة الإسلام ، فالدولة في نظر بعض رجال القانون ليست ملزمة بتطبيق الشريعة الإسلامية ، بل ليس الأمر في نظر أحدهم إلا مسألة { نسبية وكيفية } ولنعاين على سبيل المثال الدساتير المصرية والسورية .
بعد أن عرفت مصر النهضة وعاد مبعوثوها من الخارج يتحدثون عن العلمانية ، لم يدع أحد منهم إلى فصل الدين عن الدولة ، وإنما بدأت البلاد تعرف نوعا من فصل بين رجال الدين والحكم .. ورأينا القانون المدني المصري يخلط بين الفقه والشريعة ، فقال أحيانا بإمكانية اللجوء إلى العرف إذا لم تف مواد القانون بالمطلوب ، حتى إذا لم يجد المشرع في العرف ما يبتغي يلجأ إلى مبادئ (1) .
ونجد في خطاب مصطفى النحاس في مجلس النواب المصري ( 21 / شباط / 1937 ) نبرات علمانية ملفتة وجريئة ، إذا اعتبر أن الدين يتدخل في شئون لا تعنيه وأنكر وجود سلطة روحية في الإسلام معتبرا أنه بعد ظهور آخر الأنبياء لم يعد هناك وسيط بين الله وعبيده(2).. وجاء دستور 1971 ينص على أن مبادئ الشريعة مصدر رئيسي للتشريع دون أن تكون هذه المبادئ المصدر الأوحد ضمنا .. ونلاحظ أن نص الدستور يقول { مبادئ } الشريعة ، وهذه صيغة لا تلزم المشرع بشيء محدد ، إذ لا خلاف على المبادئ العامة كالعدالة والحرية . أما النص الذي يحدد دين الدولة فهو نص شكلي في رأي بعض كبار رجال القانون المصريين باعتبار أن الدولة كائن معنوي لا يتدين لأن التدين ظاهرة تخص الأشخاص الطبيعيين(3) .
__________
(1) الاتجاهات العلمانية في العالم العربي صـ45 ـ 46 ،
(2) انظر جريدة المصري القاهرة ، 22 / شباط / 1937م نقلا عن الاتجاهات العلمانية صـ46 .
(3) الاتجاهات العلمانية صـ46 ـ 47 .(17/35)
أما الدستور السوري ( 1973 ) فلا يعتبر الإسلام دين الدولة وهو بذلك يشكل خطوة جريئة نحو العلمنة .(1)
ويعلق شبلي العيسمي على ذلك بقوله : ( إن اشتمال الدساتير في الأقطار العربية على النصوص الدينية المذكورة لم يَحل دون إصدار القوانين الوضعية والعصرية وذات المضمون العلماني ) (2) .
ـ سيادة الشريعة في نظر العلمانيين : ـ
إن الشريعة هي العدو الأول للعلمانيين في البلاد الإسلامية ، لأنها هي التي تنقل الإسلام من عالم النظريات والمثاليات إلى دنيا الواقع والتنفيذ ، وهي التي تهيئ للمجتمع سياجا من القوانين يحميه من عدوان العادين ، وهي التي تردع من لم يرتدع بوازع الإيمان كما قال الخليفة الثالث : ( إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن .. إن العلمانية تقبل القانون الوضعي الذي ليس له في أرضنا تاريخ ولا جذور ولا قبول عام ، وترفض الشريعة التي تدين أغلبية الأمة بربانيتها وعدالتها وكمالها وخلودها ، وتحس بالإثم والقلق إذا أعرضت عن أحكامها وترى أنها مهددة بعقاب الله في الدنيا والآخرة (3) .
فها هو كمال أتاتورك يعلن رفضه لسيادة الشريعة أو الاحتكام إليها قائلا : ( نحن لا نريد شرعا فيه قال وقالوا ، ولكن شرعا فيه قلنا ونقول ) (4) .
ويصف أحد الكتاب الغربيين جلسة في مجلس النواب فيقول إن مصطفى كمال وقف قائلا :
( إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد . ثم اقتفاه وزير العدل شارحا ومفسرا :
__________
(1) المرجع السابق صـ47 .
(2) العلمانية والدولة الدينية نقلا عن الاتجاهات العلمانية صـ47 .
(3) التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . د/ القرضاوي صـ48 .
(4) العلمانية / سفر الحوالي صـ571 .(17/36)
إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيره من قبله ، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة ، فالآن فلا يهمنا أصلا ماذا قالوا في الماضي بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن (1) .
وتعد علمانية أتاتورك هذه أم العلمانيات في البلاد الإسلامية ، تطرد التشريع الإسلامي في كل المجالات حتى في الأحوال الشخصية ، لهذا حرمت الطلاق وتعدد الزوجات وسوت بين الأبناء والبنات في الميراث مخالفة بذلك قطعيات الشريعة وما علم من الدين بالضرورة (2) .
ـ وأشباه وأشياع أتاتورك كثيرون ويصعب الإحاطة بهم في مقام كهذا ، ويكفينا أن نذكر نموذجا آخر من هؤلاء العلمانيين الرافضين لتفعيل دور القضاء الشرعي والمصّرين على تنحية الشريعة عن مجالات الحياة المختلفة وحصرها فقط في العلاقة الشعورية والتنسكية بين العبد وربه .
ومن هؤلاء الدكتور فرج فوده الذي يرفض رفضا مطلقا أن تكون المرجعية والحاكمية في المجتمع للشريعة الإسلامية فيقول : ( إن الإسلام دين وليس دولة ، وإن الدولة الإسلامية على مدى التاريخ الإسلامي كله كانت عبئا على الإسلام وانتقاصا منه وليست إليه ) (3) .
وهو القائل أيضا : ( ببساطة أنا ضد تطبيق الشريعة الإسلامية فورا أو حتى خطوة خطوة .. لأنني أرى أن تطبيق الشريعة لا يحمل في مضمونه إلا مدخلا لدولة لدينية .. من يقبل بالدولة الدينية يقبل بتطبيق الشريعة ومن يرفض الدولة الدينية يرفض تطبيق الشريعة . وعموما هناك قاعدة إسلامية تقول : يجوز ارتكاب المعصية اتقاء للفتنة ، لذلك أنا أقول إذا كان عدم تطبيق الشريعة معصية فلتكن معصية نسعد بارتكابها اتقاء لما هو أسوأ وهو الفتنة الطائفية (4) .
__________
(1) المرجع السابق صـ571 ـ 572 .
(2) التطرف العلماني صـ47 .
(3) تهافت العلمانية . د/ صلاح الصاوي صـ16 ، والآفاق الدولية للإعلام 1992م .
(4) المرجع السابق صـ16 .(17/37)
هذا القول أقرب إلى الهراء منه إلى العلم الصحيح ، وهو هنا يخلط الحق بالباطل ، فلا رابط بين تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الدينية ( الثيوقراطية ) بالمعنى المسيحي ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ ، كما أن رفض القبول بمرجعية الشريعة وحكمية القرآن والسنة وسيادة القضاء الشرعي ليس معصية عادية فحسب بل هو خروج على الثوابت المحكمة في دين الله عز وجل يصطدم مع مقررات العقيدة الإسلامية كما وضحنا في الفصل الأول .
[ أسباب رفض تحكيم الشريعة ]
إذا تساءلنا عن الدوافع التي أدت بالعلمانيين إلى رفض تحكيم الشريعة وعدم قبول مرجعيتها فسوف نجد أنها تتمثل في عدة أسباب منها : ـ
1 ـ التشريعات الإسلامية تجاوزتها ظروف الزمان والمكان :
يزعم العلمانيون عدم صلاحية الشريعة لحكم العصر وذلك لأن النصوص الدينية ثابتة والحياة الدنيا متغيرة ولا سبيل لتحكيم الثابت على المتغير .
والعلمانية بذلك تعطل عمل الشريعة بحجة انتهاء مدة صلاحيتها ، وتعطي للإنسان من خلال عقله المحدود القاصر الحق في أن يشرع ويضع القوانين المسيرة لأمور الناس وحياة المجتمع .
وهي بهذا تجعل الإنسان ندا لله الذي خلقه ، بل هي بهذا تعلي كلمة الإنسان على كلمة الله جل جلاله ، فهي تمنحه من السلطة والاختصاص ما تسبه من الله سبحانه ، وبهذا يصبح الإنسان
{ ربا } يحكم بما يريد ويأمر بما يشاء .. إنها في قرارة نفسها لا تقدر الله حق قدره ، حين تستبعد أن يحيط علم الله تعالى شأنه بما يحدث للبشر برغم تغير الزمان وتبدل المكان ، وتطور الإنسان ، وأن يشرع لهم من الأحكام ويضع لهم من القواعد ما يصلح لهم ويصلحهم ويرقى بهم أفرادا وجماعات ، وإن مضى عليه أربعة عشر قرنا من الزمان (1) .
__________
(1) التطرف العلماني . د/ القرضاوي صـ47 ـ 48 ، وانظر تفاصيل رد سيادته على هذه الحجة صـ72 ، وما بعدها .(17/38)
2 ـ حجة التاريخ على خطأ التطبيقات لإسلامية : ـ يرتكز العلمانيون هنا في رفضهم لمرجعية الشريعة الإسلامية على حجة تاريخية مفادها : أن نماذج التطبيقات الإسلامية على مر العصور قديما وحديثا ليست إلا دليلا على عدم صلاحية الشريعة إقامة المجتمع المنشود .
يقول الدكتور فرج فودة : ( حجتنا الثانية هي حجة التاريخ ، والتاريخ ذو شجون ، ألف وثلاثمائة سنة ، واحد بالمائة فيهم يناصر الدولة الدينية و 99% يناصر الدولة المدنية وهي التي ندعوا إليها (1) .
والدكتور فؤاد زكريا أيضا يقول : ( إن التجارب المعاصرة في تطبيق الشريعة كانت كلها فاشلة، بل إنها أسفرت آخر الأمر عن نظم في الحكومة مضادة لما تدعو إليه جميع الشرائع السماوية لا الإسلام وحده من خير وعدل ) (2) .
ويمكن الرد على ذلك من خلال عد نقاط على النحو التالي : (3)
أ ـ إن تحكيم الشريعة قيمة في حد ذاته ، فهو معقد التفرقة بين الإيمان والكفر ، ونحن نتمسك به ونعض عليه بالنواجز بهذا الاعتبار ، ثم نجتهد بعد ذلك في إحكام الضوابط التي تكفل له حسن التطبيق وتنأى به عن الخلل والافتراق .
ب ـ إن الاحتجاج على الإسلام بممارسات بعض الإسلاميين على مدار التاريخ يمثل خطأ منهجيا يجب أن يتحاشاه الباحثون ، فالإسلام شيء وأخطاء بعض المنتسبين إليه شيء آخر ، والخلط بينهما على هذا النحو تزييف ومغالطة .
ج ـ إن اختزال تاريخ العدل فبالإسلام في 1 % من التاريخ الإسلامي ظلم بيّن لهذا التاريخ ، بل مكابرة لما عرف من تاريخ المسامين بالضرورة .
3 ـ الزعم بأن تطبيق الشريعة يعني قيام دولة كهنوتية : ـ
__________
(1) تهافت العلمانية . د/ صلاح الصاوي صـ28 .
(2) الحقيقة والوهم صـ173 ـ 174 .
(3) تهافت العلمانية ، صـ30 ـ 31 .(17/39)
تذرع العلمانيون بالخوف من قيام دولة دينية نتيجة للاحتكام إلى الشريعة فسارعوا إلى رفض مرجعيتها وعدم قبول سيادتها . وقد سبق أن ناقشنا ذلك من قبل وقررنا أن الدولة الدينية بالمفهوم الكنسي لا وجود لها في الإسلام . وهكذا يقف العلمانيون من قضية تحكيم الشريعة موقف العداء السافر ، وما ذكرناه عبر الصفحات الماضية غيض من فيض طافت به كتبهم ومقالاتهم ولهجت به ألسنتهم مدّعين أنهم بالعلمانية سيحررون الإنسان ويسعدون المجتمعات البشرية ويأخذون بناصيتها نحو المساواة والعدالة .
ونسى هؤلاء جميعا ( أن مبدأ الشرعية وسيادة الشريعة هما القاعدة المتينة الصالحة لإقامة مجتمع تسوده المساواة والعدالة، فما دامت السيادة لمبادئ شريعتنا مستمدة من المصادر السماوية الأصيلة ، فإنه لا يجوز لبشر أن يدعي لنفسه السيادة على غيره ، ولا يحق له أن يمارس ما يتصل بالسيادة من تشريع إلا في حدود مبادئ الشريعة العادلة وأحكامها الثابتة التي لها وحدها السيادة في المجتمع ، ويصبح ادعاء السيادة لفرد أو جماعة أو طبقة من طبقات المجتمع صورة من صور التأله ، وطريقا لاستعباد الناس وفرض عبودية البشر للبشر التي جاء الإسلام لإخراج الناس منها ، وتأكيد مساواتهم جميعا في العبودية لله الواحد القهار وخضوعهم لشريعته (1) .
__________
(1) سيادة الشريعة الإسلامية في مصر . د/ توفيق الشاوي ، صـ10 ـ 11 .(17/40)
إن أي محاولة لا تقيم لغير المنهج العلماني والقانون الوضعي أي وزن أو اعتبار ـ كما يعمل على ذلك العلمانيون ـ لا تعدو أن تكون في حقيقتها وفيما تهدف إليه عدوانا صارخا على الإنسان وتجاهلا لحقيقته وزراية خطيرة لمعنى الإنسانية فيه وإيذاء شديدا له .. ذلك أن أي دعوة تتخطى حدود الله وتتجاوز شريعته وتعادي منهجه الرباني المحكم العظيم ، إنما تهبط بالإنسان من آفاق السمو والطهر والكرامة إلى حضيض الضعة والدنس والمهانة ، إنها تدفعه في طريق التخلف والانهزام وتجعله سادرا في الضلال ، غارقا في الظلام ، من حيث تزعم أنها تحرره وتفتح له منافذ النور وتقوده في معركة انتصار كبير(1) .
{ المصادر والمراجع }
أولا القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة .
ثانيا المراجع العربية وهي :
( 1 ) الاتجاهات العلمانية في العالم العربي . أ / عبد الله نعمان .
( 2 ) الاتجاهات الفكرية المعاصرة د / على جريشة ، ط دار الوفاء 1409هـ ـ 1988م .
( 3 ) الإسلام في حل مشاكل المجتمعات الإسلامية المعاصرة . د / محمد البهي ، ط مكتبة وهبة 1981م .
( 4 ) تاريخ الحكم في الإسلام . د/ محمود عكاشة ، ط مؤسسة المختار بالقاهرة 1422هـ ـ 2002م .
( 5 ) تفسير القرآن العظيم الإمام ابن كثير ، ط دار المعرفة بيروت 1982م .
( 6 ) تهافت العلمانية . د/ صلاح الصاوي ، ط دار الآفاق الدولية للإعلام1992م
( 7 ) التطرف العلماني في مواجهة الإسلام . د/ يوسف القرضاوي ، ط أندلسية للنشر والتوزيع 1421هـ ـ 2000م .
( 8 ) حقيقة العلمانية والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين . أ / محمود إبراهيم المبروك ، ط مكتبة الإشعاع الفنية 2002م .
( 9 ) حوار لا مواجهة . د / أحمد كمال أبو المجد .
__________
(1) لمحات في الثقافة الإسلامية . أ / عمر عودة الخطيب صـ341 بتصرف يسير ، ط مؤسسة الرسالة 1399ه ـ 1979م .(17/41)
( 10 ) سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية . أ / أنور الجندي ، ط دار الجيل 1985م .
( 11 ) سيادة الشريعة الإسلامية في مصر . د/ توفيق الشاوي ، ط الزهراء للإعلام العربي 1987م .
( 12 ) العلمانية نشأتها وتطورها وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصرة . د/ سفر الحوالي ، ط جامعة أم القرى بمكة المكرمة 1402هـ ـ 1982م .
( 13 ) الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي . د/ محمد البهي .
( 14 ) الفكر الإسلامي لجنة من الأساتذة ، ط جامعة الإمارات العربية المتحدة 2003م .
( 15 ) القومية والعلمانية مدخل علمي . د/ عدنان زرزور ، ط مؤسسة الرسالة 1992م .
( 16 ) لمحات في الثقافة الإسلامية . أ/ عمر عودة الخطيب ، ط مؤسسة الرسالة 1399هـ ـ 1979 م .
( 17 ) مذاهب فكرية معاصرة . أ/ محمد القطب ، ط دار الشروق بالقاهرة .
( 18 ) معالم في الطريق . الشهيد سيد قطب ، ط دار الشروق
1412هـ ـ 1992م .
( 19 ) ملامح المجتمعات المسلم الذي ننشده . د/ يوسف القرضاوي ، ط مكتبة وهبة 1414هـ ـ 1993م.
( 20 ) من توجيهات الإسلام الإمام / محمود شلتوت ، ط دار الشروق 1983م .
( 21 ) المجتمع المتكافل في الإسلام . د/ عبد العزيز الخياط ، ط مؤسسة الرسالة بيروت 1401 هـ ـ 1981م .
( 22 ) المستصفى من علم الأصول . الإمام الغزالي ، ط دار صادر بيروت .
ـ ثالثا: الدوريات العلمية : ـ
ـ مجلة البحوث الإسلامية عدد رقم 8 في نوفمبر 1983م ، مقال بعنوان {القضاء في الإسلام } ، للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع .(17/42)
---
From: abdelgadir eldabi [mailto:dabilaw@yahoo.com]
Sent: Thu 2/2/2006 8:55 PM
To: Mekki Klaina
Subject: بحث المشاركة في ندوة القضاء الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء الشرعي في السودان ودواعي إلغائه توحيداً للقضاء
1.مقدمة :
الحمد لله الذي أكمل بنبيه محمد صلي الله عليه وسلم دينه القويم ، وهدي به من شاء إلى صراطه المستقيم ، وأسس شرعه المطهر علي أحسن الطرق واجمل القواعد ، وشيده علي دعائم من التقوى والعدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ، فكان بذلك خاتم الشرائع الإلهية لقيامه علي أسس كلية لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً وتضمنت نظمه العامة ومبادئه الرفيعة العالية أمارة خلوده ودليل بقائه ، وبهذه الأسس والقواعد فتح الباب أمام من وهبوا صفاء الذهن والقريحة أن يستنبطوا ما شاؤا من أحكام الحوادث التي تتجدد بتجدد الأزمان والبيئات ، وان يضعوا من النظم والقوانين ما يحقق للناس المصلحة فحيثما وجدت المصلحة فتم شرع الله .
إننا نعيش في مرحلة من مراحل الحياة عرفت بمخترعاتها الحديثة المبتكرة المتنوعة ، وكثر ما جد من الحوادث الاجتماعية والاقتصادية وضروب المعاملات المختلفة ، لذلك لابد من مواجهة هذه الحياة بسن تشريع وتقنين مستمد أحكامه من تلك الأسس الخالدة ، أسس المصلحة التي جاء الدين لرعايتها وتحقيقها للبشرية .
ونشير إلى أن هذا البحث سيقتصر علي التنظيم القضائي منذ بداية الحكم الثنائي بالسودان إلى 2005مولكننا سنتكلم عن القانون الواجب التطبيق علي مسائل الاحوال الشخصية منذ بداية دولة الفونج .
هذا وإذا كان القضاء ضرورة اجتماعية للشعوب والجماعات ، فمن الضروري ان توضع له النظم التي تكفل سيره علي الوجه الأكمل حتى يؤدي الغاية المقصودة منه من إيصال الحقوق إلى أصحابها ميسرة سهلة ، وإنصاف المظلومين ورفع الغبن عن المغبونين .
فصل تمهيدي
2 2.أهمية القضاءوضماناته :(18/1)
القضاء ولاية جليلة القدر عظيمة الشأن ، دل علي تشريفه وتعظيمه ما جاء في القرآن الكريم ، وفي السنة النبوية الشريفة ، وفي أقوال الصحابة .
قال تعالي : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم " .
وقال جل وعلا : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "
وقال وقوله الحق : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، وان تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً ، وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين .
وقال تعالي : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما "
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " والله إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه " .
وقال أيضاً : " عدل ساعة في حكومة ( أي في حكم ) خير من عبادة ستين سنة " .
وقال عبد الله بن مسعود : " لان أقضي يوماً بالحق أحب إلى من عبادة سبعين سنة " .
وقال عمر بن الخطاب موجهاً كلامه للقضاة : " إن جلستم للفصل في منازعات الناس ، فتبينوا وثبتوا ن فان أصابكم أدني شك ولو بمثقال شعرة فكفوا عن الحد ، والله ولي من لا ولي له " .(18/2)
ولهذا نجد أن القضاء ضروري للمجتمع الإنساني لا تستقيم حياته بدونه حتى في أبسط مراحل تطوره ، لان الإنسان مدني بطبيعته لا يستغني عن الاجتماع بغيره ، فهو في حاجة إلى أن يعيش مع بني جنسه يتبادل معهم أنواع المنافع التي لا يمكن الاستقلال بها ، واحتكاكه بغيره مع أنانيته المطبوع عليها تولد المنازعات والمشاحنات والخصومات فاقتضت طبيعة الوجود خلق هذا النظام ليحول دون استبداد القوي بالضعيف ، وليكون عوناً للمظلوم علي الوصول إلى حقه ، وبذلك تصان الحقوق وتحفظ الأرواح والأموال والأعراض وتسود الطمأنينة بين أعضاء الجماعة البشرية ولا يكفي أن تتكفل القوانين ببيان ما لكل إنسان من الحقوق بل يجب أن تتكفل بصيانة الحق لصاحبه وتمكينه من الحصول عليه بطريقة نظامية مشروعة ، لأن الإنسان إذا ترك وشأنه في الوصول إلى حقه وأخذه بيده تعم الفوضى ويسود الاستبداد .
والناس قديماً كانوا يسيرون علي طريقة التحكيم لفض ما يقع بينهم من خلاف أو نزاع وكانت طريقته نافعة حين كان الناس في بداوتهم الأولى تسيطر عليهم التقاليد والعادات وتلزمهم إلزاماً أدبياً ، غير أن الإنسان كلما تقدم به الزمن شعر بضعف هذا السلطان علي نفسه فكان في استطاعته ألا يخضع لحكم المحكمين وأن يؤثر أخذ حقه بنفسه ويختار هذا السبيل علي أن يلتجئ إلى التحكيم وهو سبيل أقرب إلى الانتقام منه إلى التماس العدل بالطرائق المسنونة .
ولما ارتقي الإنسان وتعددت اوجه النزاع بين أفراده وخطي في سبيل الحضارة خطوات واسعة واشتبكت المصالح رأي أن يضع نظاماً كفيلاً لفض الخصومات علي أساس معروف فكان ذلك النظام هو القضاء .
3 3.ضمانات القضاء :
لقد وضع للقضاء من الضمانات والقواعد ما يحقق الغاية المرجوة منه ، ومن هذه القواعد :
1. جميع الأفراد الذين يعيشون داخل الدولة يجب أن يكونوا خاضعين لسلطتها القضائية ولا يستثني أحد من الخضوع لها .(18/3)
2. أن يكون النظام القضائي سهل المنال لعادات البلاد واخلاق أهلها وعقائدهم الدينية التي تعد أكبر عامل في تكوين كل شأن من شئون حياتهم .
3. أن يسمح النظام القضائي بالطعن في الأحكام ، أي التقاضي علي درجتين ابتدائية واستئنافية ، لان الإنسان عرضة للخطأ ، كما إن هناك أموراً يكون التقاضي فيها علي درجة واحدة ، وقد عرف القضاء الإسلامي شيئاً من هذا ، فقد جاء في معين الحكام للطرابلسي أن حكم القاضي لا يستقر في أربع مواضع وينقض وذلك إذا وقع علي خلاف الإجماع أو القواعد أو النص الجلي أو القياس .
ونقض الحكم الخاطئ يكون بمعرفة القاضي نفسه إذا لجأ إليه الخصوم مرة أخرى أو بمعرفة قاضي غيره أو بمعرفة قاضي القضاة ، وهذه الحالة من نقض الأحكام تشبه في الفقه المعاصر ما يعرف بالأحكام المعدومة ، وهي الأحكام التي يكون فيها العيب جوهرياً يجعلها والعدم سواء ، ومن ثم يجيز الفقه القانوني المعاصر إهدار حجية الأحكام المعدومة وعدم الاعتداد بها كما فعل الفقه الإسلامي حسب ما ذكر في معين الحكام .
أما في غير هذه الحالات فإن الإجماع في الفقه الإسلامي علي أن قضاء القاضي لا ينقض وهو ما يعرف اليوم بحجية الأمر المقضي ، ولا ينال هذا مما جاء في كتاب سيدنا عمر بن الخطاب لأبى موسى الاشعري : " لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم راجعت فيه رأيك فهديت فيه رشدك أن تراجع فيه الحق " ذلك ان المقصود بهذه القاعدة أن يقضي القاضي بما يراه حقاً في المنازعات المستقبلية ، لا في القضية السابق القضاء فيها .
وعلي كل حال ليس هناك ما يمنع في الفقه الإسلامي من السير علي المنهاج الذي سارت عليه المحاكم في هذا العصر مادام في هذا النظام تحقيق العدالة علي الوجه الأكمل .(18/4)
4. أن تكون القاعدة العامة في التقاضي بدون أجر لأن القضاء بين الناس من واجبات الدولة ، ولكن حالة الحكومة المالية الآن تحول دون القيام بهذا الواجب بالمجان فاضطرت إلى فرض الرسوم علي ذوى الخصومات وأعفت غير القادرين متى ثبت عدم مقدرتهم علي دفعها .
5. ولخطورة مركز القاضي في الدولة يجب أن يكون محاطاً بضمانات تكفل له استقلال رأيه عند إصدار حكمه ، ولا يتأثر بأي عامل خارجي حتى لا يكون آلة في يد الحكومة تسيره كما تشاء ولا إمعة يخضع لرأي رؤسائه وإن كان مخالفاً لرأيه لما في ذلك من فقدان شخصيته وتضييع كرامته ، بل الواجب عليه هو إحقاق الحق وإزهاق الباطل لا يرجع في ذلك إلا إلى ضميره وذمته وداعي العدل الذي يناديه .
4. تعريف القضاء وحكمته :
القضاء لغة [1] هو الحكم والجمع أقضيه وقوله تعالي : " وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً " سورة الحج آية 66 ، أي حكم ، وقال سبحانه : " فأقضي ما أنت قاض " أي أحكم بما شئت فإننا عرفنا الحق فاتبعناه ، وقد يكون بمعني الأداء والإنهاء تقول : قضي دينه ومنه قوله تعالي : " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب " وقوله سبحانه وتعالي : " فقضاهن سبع سموات " .
وقد يكون بمعني الفراغ وبمعني القتل " قضي عليه " أو قضي نحبه .
والقضاء شرعاً [2]هو قطع الخصومة أو قول ملزم صدر عن ولاية عامة وهو إخبار عن حكم شرعي علي سبيل الإلزام . وفي العرف الشرعي هو الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي ، وقطعا للنزاع وفقاً للإحكام الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة.
والقضاء قانوناً هو فض المنازعات بين الناس علي نحو ملزم .
والمراد بالقضية [3] ، الحادثة التي يقع فيها التخاصم كدعوى بيع مثلاً ، فركنها هو اللفظ الدال عليها .
وأما حكمة القضاء هي رفع التهارج ورد النوائب وقمع المظالم ونصر المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الفصل الأول(18/5)
5. التنظيم القضائي في عهد الحكم الثنائي 1898-1956م :
مقدمة :
حينما احتل الإنجليز السودان ، وهذه الفترة تسمي بالحكم الثنائي اسماً والإنجليزي فعلاً ، وجدوا الفرصة سانحة لتطبيق نظمهم القانونية ، ولكنهم واجهتهم العقبة الكؤود التي لم يستطيعوا التغلب عليها ، وهي تمسك السودان بدينه الإسلامي فكان أن أنشأوا قضاءً شرعياً علي غرار مثيله في مصر .
ومحور البحث يدور عن القضاء الشرعي ونتناوله علي النحو الآتي :
إنشاء المحاكم الشرعية :
لقد أنشئت المحاكم الشرعية بمقتضي قانون المحاكم الشرعية الذي أصدره الحاكم في 1902م ، ومنذ بدء وجود القضاء الشرعي في السودان ووضعه مستقر ، ولم يتغير هذا الوضع بانفصاله واستقلاله عن القضاء المدني 1966م فقد عدل الدستور المؤقت بالتعديل رقم 4 لسنة 1966، فقد نصت المادة 89/1 : علي أن يتولي إدارة القضاء في السودان قسمان منفصلان ومستقلان يسميان الهيئة القضائية ، كما نصت المادة 90 قبل التعديل :
علي أن : " الهيئة القضائية تتكون من قسمين القسم المدني والقسم الشرعي علي أن يكون رئيس القضاء وقاضي القضاة علي التوالي رئيسيهما ورأسيهما القضائيين ، ولكنها أصبحت بعد التعديل تنص علي أن : الهيئة القضائية تتكون من قسم للقضاء المدني وقسم للقضاء الشرعي وكل من القسمين مستقل ومنفصل عن الآخر .
الواضح من هذه النصوص إن القضاء الشرعي كان في الواقع شبه مستقل منذ إنشائه ، ولم يحدث له الخلط بين الإدارة والقضاء الذي أوجده الإنجليز بالنسبة للقضاء المدني فمن المميزات الواضحة في عهد الاستعمار الإنجليزي خلطه بين السلطات الإدارية الحكومية والقضاء .
ومن أهم مظاهر الخلط بين الإدارة والقضاء ، إن السكرتير القضائي كان قاضياً في المحكمة العليا وله رياستها " م 17 من قانون القضاء المدني " وكذلك كل وكيل مدير ومفتش ومساعد مفتش ومأمور يكون بحكم وظيفته عضواً في محكمة المديرية " م 24 " .(18/6)
فهذه الأمثلة وغيرها توضح الخلط الواضح بين العمل الإداري والسياسي والقضائي ، بالنسبة للقضاء المدني .
أما القضاء الشرعي فكان تدخل الإنجليز في شئونه قاصراً علي سلطة التعيين للحاكم العام ورئيس القضاء ، وسلطة الحاكم العام في الموافقة علي اللوائح التي يصدرها قاضي القضاة بمقتضى المادة الثامنة من قانون المحاكم الشرعية السودانية .
وطبقاً لما ذكر يكون القضاء الشرعي قد مر بعدة مراحل : المرحلة الأولى فترة قانون المحاكم الشرعية 1902 م . والثانية فترة قانون المحاكم الشرعية 1967 .[4]
أولاً : قانون المحاكم الشرعية السودانية 1902م :
لقد أصدر الحاكم العام قانون المحاكم الشرعية في مايو 1902م بناء علي السلطة التشريعية التي كانت تخولها له المادة الرابعة من اتفاقية 1899 المعقودة بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية .
ونتعرض لهذا القانون من ناحية تشكيل المحاكم الشرعية واختصاصاتها .
المحاكم الشرعية :
تناولت المواد من 2 – 5 من قانون المحاكم الشرعية تشكيل هذه المحاكم ، والتي تتكون من محكمة الاستئناف الشرعية العليا ، والمحاكم العليا والمحاكم الجزئية ، وهي ما يسميها القانون محاكم درجة أولى ومحاكم درجة ثانية وذلك علي التفصيل الآتي :
1. محكمة الاستئناف الشرعية العليا :
تتناول هذه المحكمة من حيث تكوينها وسلطاتها واختصاصاتها القضائية والإدارية :
أ . تكوين المحكمة :
طبقاً لنص المادة 3 من قانون محكمة الاستئناف الشرعية العليا فإنها تتكون من قاضي القضاة وستة قضاه يكونون أعضاءها .
وبالنسبة للشروط التي يجب توافرها فيمن يتولي منصب قاضي القضاة أو عضوية المحكمة ، فهي لا تختلف عن الشروط التي تتطلبها المادة الرابعة من قانون محكمة الاستئناف المدنية العليا وهي ان يكون سودانياً ، وان لا تقل سنه عن أربعين سنة ، وان يكون باشر العمل لمدة لا تقل عن خمس عشرة سنة في مجال الشريعة الإسلامية .(18/7)
وقد أشارت هذه المحكمة إلى تشكيل دوائر المحكمة ، حيث نصت المادة 5/2 بأن تباشر المحكمة سلطاتها واختصاصاتها القضائية والاستئنافية في شكل دوائر حسب التنظيم الذي تراه مناسباً ، ويكون النصاب لتشكيل الدوائر تشكيلاً مكوناً من قاضي القضاة أو من ينوب عنه وأربعة أعضاء وذلك عند جلوسها لمباشرة سلطاتها الإدارية " م 6/1 " .
أما عند مباشرة المحكمة لسلطاتها القضائية الاستئنافية فيكون النصاب لتشكيل الدائرة تشكيلاً صحيحاً مكوناً من ثلاثة أعضاء بما فيهم قاضي القضاة أو من ينوب عنه " م 6/2 " .
وأشار القانون بأنه يجوز للمحكمة عندما لا يتوافر العدد الكافي من أعضائها أن تنتدب مفتشاً واحداً أو قاضي محكمة عليا واحداً للجلوس في دائرة كأحد الأعضاء وذلك عند مباشرتها لسلطاتها القضائية الاستئنافية " م 6/3 " .
ونص القانون أن كل دائرة لا يرأسها قاضي القضاة أو نائبه يرأسها من أعضاء المحكمة المكونين لها أقدمهم تعييناً " م 6/4 " وأخيراً تصدر أحكام وقرارات كل دائرة بالأغلبية المطلقة " م6/5 " .
ب . السلطات والاختصاصات القضائية :
حددت المادة السادسة من قانون هذه المحكمة اختصاصاتها القضائية بقولها :
تختص المحاكم الشرعية السودانية بالحكم في :
أولاً : في أي مسألة تتعلق بالزواج والطلاق وإقامة الأوصياء علي القصر ، والعلاقات العائلية وذلك بشرط أن يكون الزواج الذي تتعلق به هذه المسائل قد انعقد طبقاً لقواعد الشريعة الإسلامية ، وان يكون الخصوم مسلمين .
ثانياً : في أي مسألة تتعلق بالوقف والهبة والميراث والوصية والحجر أو الوصاية علي المحجور عليه أو المفقود بشرط أن يكون الواقف أو الواهب أو المورث أو الموصي أو المحجور عليه مسلماً .(18/8)
ثالثاً : في أي مسألة سوي ما ذكر بالفقرتين السابقتين بشرط ان يقدم جميع الخصوم ، مسلمين كانوا أو غير مسلمين ، طلباً رسمياً موقعاً منهم يطلبون فيه من المحكمة النظر في المسألة وانهم يقبلون تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية .
ج. السلطات والاختصاصات الإدارية للمحكمة :
أشار قانون هذه المحكمة لبعض السلطات والاختصاصات الإدارية التي يمكن أن تباشرها هذه المحكمة وقد ذكرت المادة بعض هذه المسائل علي سبيل التخصيص وهي :
1. واجبات وسلطات قضاة المحاكم الشرعية .
2. تعيين موظفي المحاكم الشرعية وتحديد واجباتهم وسلطاتهم .
3. تعيين أعضاء بالمحاكم الأهلية للنظر والفصل في القضايا والمسائل الشرعية وتنظيم مراقبة أعمالهم وتأديبهم وفصلهم والنظر في الاستئنافات التي تقدم ضد الأحكام الشرعية التي تصدرها تلك المحاكم .
4. تحديد اختصاصات المأذونين ووظائفهم وكل ما يتعلق بهم .
5. إنشاء المساجد وتعميرها والإشراف عليها وتعيين موظفيها وتأديبهم وفصلهم .
6. وضع جدول يحدد الرسوم التي تدفع فيما يتعلق بالقضايا والمسائل التي تنظرها المحاكم الشرعية .
2. المحاكم الشرعية الفرعية :
أشار القانون لهذه المحاكم بعد نصها علي محكمة الاستئناف الشرعية العليا وهذه المحاكم هي :
1. محاكم عليا :
وتشكل كل محكمة من قاضي محكمة عليا منفرداً .
2. محاكم قضاة درجة أولي :
وتشكل كل محكمة من قاضي درجة أولي منفرداً .
3.محاكم قضاة درجة ثانية :
وتشكل كل محكمة منها من قاضي درجة ثانية منفرداً.
4.محكمة الاختصاص :
لما كان وجود القضائيين المدني والشرعي يحتمل معه حدوث تنازع في الاختصاص بينهما فان المادة السابعة من قانون المحاكم الشرعية السودانية لسنة 1902 كانت تنص علي مجلس اختصاص للفصل في هذا التنازع حيث تقول :(18/9)
المسائل التي يحصل فيها تنازع في الاختصاص بين المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية تحال الي مجلس مؤلف من السكرتير القضائي رئيساً له او مندوب يعين من قبله ، ومن قاضي القضاة أو موظف شرعي ، والنائب القضائي أو قاضي مدني ينتدبه النائب القضائي .
وقد عدل تشكيل هذه المحكمة بموجب المادة 80 من قانون الحكم الذاتي ، حيث أصبحت هذه المحكمة تتكون من رئيس القضاء رئيساً ومن قاضي القضاة وقاضيين من قضاة المحكمة المدنية العليا وقاضي واحد من قضاة المحكمة الشرعية العليا .
وجاء الدستور المؤقت 1966م وعدل في المواد المذكورة أعلاه وذلك فيما يختص برئاسة المحكمة ، فبعد أن كانت هذه الرئاسة لرئيس القضاء ، وكان قاضي القضاة عضواً بها فجاء التعديل الجديد وجعل الرئاسة دورية بينهما ، فتنص المادة 99/1 ومن الدستور المعدل 1966 علي أنه : في حالة تنازع الاختصاص بين قسم القضاء المدني وقسم القضاء الشرعي يحال النزاع لاتخاذ قرار بشأنه إلى محكمة اختصاص تتكون من رئيس محكمة الاستئناف المدنية العليا ورئيس محكمة الاستئناف الشرعية العليا وعضو من كل من هاتين المحكمتين علي أن تكون الرئاسة دورية بين رئيس المحكمتين .
وقد كان تشكيل المحكمة قبل هذا التعديل يجعل أعضاءها خمسة .
ولما كان عدد أعضاء المحكمة قد اصبح بعد التعديل أربعة بدلاً من خمسة فقد نصت المادة 99/2 علي أن : تجيز المحكمة قراراتها بأغلبية الأصوات وفي حالة تعادل الأصوات يكون لرئيس الدورة صوت مرجح .
ثانياً : قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 :
صدر هذا القانون بالأمر المؤقت رقم 16 لسنة 1967 عملاً بأحكام المادة 67 من دستور السودان المؤقت المعدل سنة 1964م .
ويشترك القانون في بيان أنواع المحاكم الشرعية وتحديد اختصاصها ، ولكن القانون الجديد قد عدل الاختصاصات الواردة في القانون القديم وزاد عليها اختصاصات جديدة وهي علي النحو الآتي :
1. اختصاصات المحاكم الشرعية المعدلة :(18/10)
لقد نصت المادة (5) من هذا القانون علي هذه الاختصاصات المعدلة وهي كالآتي :
أ . كان البند (1) من المادة (6) من القانون الملغي ينص علي اختصاص المحاكم الشرعية بمسائل الزواج والطلاق واقامة الأوصياء علي القصر ، والعلاقات العائلية ، ولكن النص الجديد يضع عبارة أعم بقوله : " جميع المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية " .
ب . ان نص البند (1) السابق ذكره كان يشترط ان يكون الزواج الذي تتعلق به هذه المسائل قد انعقد طبقاً لقواعد الشريعة الإسلامية أو أن يكون الخصوم مسلمين ، ولكن النص الجديد زاد علي ذلك قوله : " أو كان أحدهما كتابياً " .
ج. كان البند (ب) من المادة السادسة من القانون الملغي ينص علي الوقف والهبة والميراث والوصية والحجر ولكن النص الجديد زاد علي ذلك : " المسائل المتعلقة بالمساجد " .
د. لقد نصت المادة (38) من قانون القضاء المدني علي انه يجوز للمحاكم المدنية النظر في مسائل الاحوال الشخصية بشرط موافقة الخصوم جميعاً ، وبعد صدور قانون المحاكم الشرعية فانه قد أضاف قيداً آخر علي " شرط موافقة الخصوم جميعاً هو " موافقة محكمة الاستئناف الشرعية العليا " .
2. الاختصاصات الجديدة للمحاكم الشرعية :
لقد منح قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 هذه المحاكم سلطات واختصاصات جديدة ، كانت قاصرة قبل صدوره علي المحاكم المدنية أو رئيس القضاء ، وذلك تحقيقاً لاستقلال القضاء الشرعي عن القضاء المدني من الناحية العملية .
وهذه السلطات هي :
أولاً : للمحاكم الشرعية اتخاذ الإجراءات التحفظية :
تنص المادة 7/1 من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 علي أنه : " يجوز لأية محكمة شرعية اتخاذ أية إجراءات تحفظية تراها لازمة في أية قضية أمامها بالطريقة المنصوص عليها في قانون القضاء المدني ووفقاً لما تحدده محكمة الاستئناف الشرعية العليا بمقتضي لوائح تصدرها .(18/11)
وهذا مظهر من مظاهر استقلال القضاء الشرعي عن القضاء المدني . فالإجراءات التحفظية منصوص عليها في قانون القضاء المدني ، وفيه نصوص تتكلم عن القبض وتوقيع الحجز قبل الحكم " م 131 – 148 " .
وهنالك نصوص تجيز لأي شخص يصدر ضده قرار بإجراءات تحفظية من محكمة شرعية أن يرفع استئنافاً إلى المحكمة الشرعية المختصة الأعلى منها درجة ، كما تجيز له استئناف قرار المحكمة الأعلى درجة أمام محكمة الاستئناف الشرعية العليا التي يكون قرارها نهائياً " م 136/2 " .
ثانياً : تنفيذ الأحكام :
تنص المادة 8/1 من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967 علي أن : تختص المحاكم الشرعية بتنفيذ أحكامها وقراراتها وأوامرها بالطريقة المنصوص عليها في قانون القضاء المدني وفقاً لما تقرره محكمة الاستئناف الشرعية العليا بمقتضي لوائح تصدرها .
وتنص المادة 8/2 علي أنه : " يجوز لأي شخص يصدر ضده قرار تنفيذ من محكمة شرعية بمقتضي البند السابق أن يرفع إشكالاً في التنفيذ إلى المحكمة الشرعية العليا التي يكون قرارها نهائياً .
وقد أصدرت محكمة الاستئناف الشرعية العليا لائحة الأحكام والأوامر .
ثالثاً : للمحاكم الشرعية توقيع عقوبات جنائية :
تنص المادة 9 من قانون المحاكم الشرعية لسنة 1967م بأنه يجوز لأية محكمة ان تصدر أمراً بإعتقال أي شخص وأن تحكم عليه بعقوبة السجن لمدة لا تتجاوز سبعة أيام ، وذلك إذا تبين للمحكمة أن هذا الشخص قد أتي بأحد الأمور الآتية :
1. إختفي لتفادي إعلانه بتكليف بالحضور أو بإخطار أو أمر أصدرته المحكمة .
2. حال متعمداً بأية طريقة دون وصول إعلان بتكليفه بالحضور أو إخطار أو أمر موجه إليه أو لغيره من المحكمة .
3. تخلف عن الحضور تلبية لأمر صادر من المحكمة .
4. امتنع عن تقديم أي محرر أو إخطار أو بيان إلى المحكمة .
5. قدم بياناً كاذباً .
6. أعترض أو قاوم أحد قضاة المحكمة أو موظفيها .
7. اعترض بيع المال للبيع بمقتضى سلطة المحكمة .(18/12)