وَأَكْرَمَ كِتَابَهُ وَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَقَالَ : وَدِدْت أَنِّي أَخْلُصُ إلَيْهِ حَتَّى أَغْسِلَ عَنْ قَدَمَيْهِ وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنْ الْمُلْكِ لَذَهَبْت إلَيْهِ . وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ النَّصْرَانِيُّ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهِ : آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَبَعَثَ إلَيْهِ ابْنَهُ وَأَصْحَابَهُ مُهَاجِرِينَ . وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَمَّا مَاتَ . وَلَمَّا سَمِعَ سُورَةَ { كهيعص } بَكَى . وَلَمَّا أَخْبَرُوهُ عَمَّا يَقُولُونَ فِي الْمَسِيحِ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا يَزِيدُ عِيسَى عَلَى هَذَا مِثْلَ هَذَا الْعُودِ . وَقَالَ : إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَكَانَتْ سِيرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنْ النَّصَارَى صَارَ مِنْ أُمَّتِهِ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ . وَكَانَ لَهُ أَجْرَانِ : أَجْرٌ عَلَى إيمَانِهِ بِالْمَسِيحِ وَأَجْرٌ عَلَى إيمَانِهِ بِمُحَمَّدِ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ الْأُمَمِ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِقِتَالِهِ كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ بَلْ يَسُبُّ اللَّهَ وَيَقُولُ : إنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَأَنَّهُ صُلِبَ . وَلَا يُؤْمِنُ بِرُسُلِهِ ؛ بَلْ يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَ وَوَلَدَ وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتَغَوَّطُ وَيَنَامُ : هُوَ اللَّهُ وَابْنُ اللَّهِ . وَأَنَّ اللَّهَ أَوْ ابْنَهُ حَلَّ فِيهِ وَتَدَرَّعَهُ وَيَجْحَدُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَيُحَرِّفُ نُصُوصَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ فَإِنَّ فِي الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبِعَةِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ مَا فِيهَا وَلَا يَدِينُ الْحَقَّ . وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَوْجَبَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا يُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ مِنْ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ الَّذِي مَا زَالَ حَرَامًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبَاحَهُ نَبِيٌّ قَطُّ ؛ بَلْ عُلَمَاءُ النَّصَارَى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَمَا يَمْنَعُ بَعْضَهُمْ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ إلَّا الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ . وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُهُ الْعِنَادُ وَالْعَادَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ لِأَنَّ عَامَّتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِقِيَامَةِ الْأَبْدَانِ ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ النَّعِيمِ السَّمَاعُ وَالشَّمُّ . وَمِنْهُمْ مُتَفَلْسِفَةٌ يُنْكِرُونَ مَعَادَ الْأَجْسَادِ وَأَكْثَرُ عُلَمَائِهِمْ زَنَادِقَةٌ وَهُمْ يُضْمِرُونَ ذَلِكَ وَيَسْخَرُونَ بِعَوَامِّهِمْ ؛ لَا سِيَّمَا بِالنِّسَاءِ والمترهبين مِنْهُمْ : بِضَعْفِ الْعُقُولِ . فَمَنْ هَذَا حَالُهُ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِجِهَادِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي دِينِ اللَّهِ أَوْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ وَهَذَا دِينُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ الْمَسِيحُ لَمْ يَأْمُرْ بِجِهَادِ ؛ لَا سِيَّمَا بِجِهَادِ الْأُمَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَلَا الْحَوَارِيُّونَ بَعْدَهُ . فَيَا أَيُّهَا الْمَلِكُ كَيْفَ تَسْتَحِلُّ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَسَبْيَ الْحَرِيمِ وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ اللَّهِ وَرُسُلِهِ . ثُمَّ أَمَا يَعْلَمُ الْمَلِكُ أَنَّ بِدِيَارِنَا مِنْ النَّصَارَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ وَمُعَامَلَتُنَا فِيهِمْ مَعْرُوفَةٌ فَكَيْفَ يُعَامِلُونَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا يَرْضَى بِهَا ذُو مُرُوءَةٍ وَلَا ذُو دِينٍ لَسْت أَقُولُ عَنْ الْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْته وَلَا إخْوَتِهِ ؛ فَإِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ شَاكِرٌ لِلْمَلِكِ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ كَثِيرًا مُعْتَرِفًا بِمَا فَعَلُوهُ مَعَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَإِنَّمَا أَقُولُ عَنْ عُمُومِ الرَّعِيَّةِ . أَلَيْسَ الْأَسْرَى فِي رَعِيَّةِ الْمَلِكِ أَلَيْسَتْ عُهُودُ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ تُوَصِّي بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ . فَأَيْنَ ذَلِكَ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ إنَّمَا أُخِذُوا غَدْرًا وَالْغَدْرُ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ(2/30)
وَالسِّيَاسَاتِ فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّونَ أَنْ تَسْتَوْلُوا عَلَى مَنْ أَخَذَ غَدْرًا أَفَتَأْمَنُونَ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَابِلَكُمْ الْمُسْلِمُونَ بِبَعْضِ هَذَا وَتَكُونُونَ مَغْدُورِينَ وَاَللَّهُ نَاصِرُهُمْ وَمُعِينُهُمْ ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَالْأُمَّةُ قَدْ امْتَدَّتْ لِلْجِهَادِ . وَاسْتَعَدَّتْ لِلْجَلَّادِ . وَرَغِبَ الصَّالِحُونَ وَأَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ فِي طَاعَتِهِ وَقَدْ تَوَلَّى الثُّغُورَ السَّاحِلِيَّةَ أُمَرَاءُ ذَوُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَقَدْ ظَهَرَ بَعْضُ أَثَرِهِمْ وَهُمْ فِي ازْدِيَادٍ . ثُمَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ الفداوية الَّذِينَ يَغْتَالُونَ الْمُلُوكَ فِي فُرُشِهَا وَعَلَى أَفْرَاسِهَا : مَنْ قَدْ بَلَغَ الْمَلِكُ خَبَرُهُمْ ؛ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَفِيهِمْ الصَّالِحُونَ الَّذِينَ لَا يَرُدُّ اللَّهُ دَعَوَاتِهِمْ وَلَا يُخَيِّبُ طَلَبَاتِهِمْ الَّذِينَ يَغْضَبُ الرَّبُّ لِغَضَبِهِمْ وَيَرْضَى لِرِضَاهُمْ . وَهَؤُلَاءِ التَّتَارُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَانْتِسَابِهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَّا غَضِبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْبَلَاءِ مَا يَعْظُمُ عَنْ الْوَصْفِ . فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِقَوْمِ يُجَاوِرُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَكْثَرِ الْجِهَاتِ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا عَاقِلٌ ؛ لَا مُسْلِمٌ وَلَا مُعَاهَدٌ . هَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا ذَنْبَ لَهُمْ أَصْلًا ؛ بَلْ هُمْ الْمَحْمُودُونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ ؛ فَإِنَّ الَّذِي أَطْبَقَتْ الْعُقَلَاءُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِفَضْلِهِ هُوَ دِينُهُمْ حَتَّى الْفَلَاسِفَةُ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ دِينٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الدِّينِ . فَقَدْ قَامَتْ الْبَرَاهِينُ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ . ثُمَّ هَذِهِ الْبِلَادُ مَا زَالَتْ بِأَيْدِيهِمْ السَّاحِلُ ؛ بَلْ وَقُبْرُصُ أَيْضًا مَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ إلَّا مِنْ أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ وَقَدْ وَعَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَمَا يُؤْمِنُ الْمَلِكُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى الْمَظْلُومِينَ بِبَلْدَتِهِ يَنْتَقِمُ لَهُمْ رَبُّ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ كَمَا يَنْتَقِمُ لِغَيْرِهِمْ وَمَا يُؤَمِّنُهُ أَنْ تَأْخُذَ الْمُسْلِمِينَ حَمِيَّةُ إسْلَامِهِمْ فَيَنَالُوا مِنْهَا مَا نَالُوا مِنْ غَيْرِهَا وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مِنْ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ مَا يَصْلُحُ عَامَلْنَاهُمْ بِالْحُسْنَى وَإِلَّا فَمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ . وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَأَنَا مَا غَرَضِي السَّاعَةَ إلَّا مُخَاطَبَتُكُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَفِعْلِ مَا يَجِبُ . فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَنْ يَثِقُ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ فَلْيَبْحَثْ مَعَهُ عَنْ أُصُولِ الْعِلْمِ وَحَقَائِقِ الْأَدْيَانِ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ ؛ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ ؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنْ تَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ وَتَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ وَتَقُولَ : اللَّهُمَّ أَرِنِي الْحَقَّ حَقًّا وَأَعِنِّي عَلَى اتِّبَاعِهِ . وَأَرِنِي الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَأَعِنِّي عَلَى اجْتِنَابِهِ وَلَا تَجْعَلْهُ مُشْتَبَهًا عَلَيَّ فَأَتَّبِعَ الْهَوَى فَأَضِلَّ . وَقُلْ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَالْكِتَابُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ؛ لَكِنَّ أَنَا مَا أُرِيدَ لِلْمَلِكِ إلَّا مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمَا شَيْئَانِ . ( أَحَدُهُمَا لَهُ خَاصَّةً وَهُوَ مَعْرِفَتُهُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَانْكِشَافِ الْحَقِّ وَزَوَالِ الشُّبْهَةِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ . فَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا . وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْمَسِيحَ وَعَلَّمَهُ الْحَوَارِيِّينَ . ( الثَّانِي لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُسَاعَدَتُهُ لِلْأَسْرَى الَّذِينَ فِي بِلَادِهِ وَإِحْسَانُهُ إلَيْهِمْ وَأَمْرُ رَعِيَّتِهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَالْمُعَاوَنَةُ لَنَا عَلَى خَلَاصِهِمْ ؛ فَإِنَّ فِي الْإِسَاءَةِ إلَيْهِمْ دَرْكًا عَلَى الْمَلِكِ فِي دِينِهِ وَدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَرْكًا مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمُعَاوَنَةِ عَلَى خَلَاصِهِمْ حَسَنَةٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَكَانَ الْمَسِيحُ أَعْظَمَ النَّاسِ(2/31)
تَوْصِيَةً بِذَلِكَ . وَمِنْ الْعَجَبِ كُلَّ الْعَجَبِ أَنْ يَأْسِرَ النَّصَارَى قَوْمًا غَدْرًا أَوْ غَيْرَ غَدْرٍ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ وَالْمَسِيحُ يَقُولُ : " مَنْ لَطَمَك عَلَى خَدِّك الْأَيْمَنِ فَأَدِرْ لَهُ خَدَّك الْأَيْسَرَ وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ قَمِيصَك " وَكُلَّمَا كَثُرَتْ الْأَسْرَى عِنْدَكُمْ كَانَ أَعْظَمَ لِغَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُ السُّكُوتُ عَلَى أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي قُبْرُصَ سِيَّمَا وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى قَوْمٌ فُقَرَاءُ وَضُعَفَاءُ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَسْعَى فِيهِمْ . وَهَذَا أَبُو الْعَبَّاسِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ عِبَادَةٌ وَفَقْرٌ وَفِيهِ مَشْيَخَةٌ وَمَعَ هَذَا فَمَا كَادَ يَحْصُلُ لَهُ فِدَاؤُهُ إلَّا بِالشِّدَّةِ . وَدِينُ الْإِسْلَامِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعِينَ الْفَقِيرَ وَالضَّعِيفَ . فَالْمَلِكُ أَحَقُّ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ لَا سِيَّمَا وَالْمَسِيحُ يُوصِي بِذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ وَيَأْمُرُ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَيْرِ الشَّامِلِ كَالشَّمْسِ وَالْمَطَرِ . وَالْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ إذَا عَاوَنُونَا عَلَى تَخْلِيصِ الْأَسْرَى وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْجُرُ عَلَيْهِ وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ الْهَوَى ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّهُمْ أُسِرُوا بِغَيْرِ حَقٍّ لَا سِيَّمَا مَنْ أُخِذَ غَدْرًا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ الْمَسِيحَ وَلَا أَحَدًا مِنْ الْحَوَارِيِّينَ وَلَا مَنْ اتَّبَعَ الْمَسِيحَ عَلَى دِينِهِ ؛ لَا بِأَسْرِ أَهْلِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَلَا بِقَتْلِهِمْ . وَكَيْفَ وَعَامَّةُ النَّصَارَى يُقِرُّونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ دِينٍ اتَّبَعُوا رَسُولَهُمْ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هُمْ قَاتَلُونَا أَوَّلَ مَرَّةٍ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ فِيمَنْ غَدَرْتُمْ بِهِ وَمَنْ بَدَأْتُمُوهُ بِالْقِتَالِ . وَأَمَّا مَنْ بَدَأَكُمْ مِنْهُمْ فَهُوَ مَعْذُورٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَرَسُولُهُ بَلْ الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمَوَاثِيقَ بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَوِي مَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَدَعَا إلَى عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَقَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَمَنْ قَاتَلَ فِي هَوَى نَفْسِهِ وَطَاعَةِ شَيْطَانِهِ عَلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ . وَمَا زَالَ فِي النَّصَارَى مِنْ الْمُلُوكِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالدِّينِ ؛ فَيَعْرِفُ بَعْضَ الْحَقِّ وَيَنْقَادُ لِكَثِيرِ مِنْهُ وَيَعْرِفُ مِنْ قَدْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَا يَجْهَلُهُ غَيْرُهُ فَيُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً تَكُونُ نَافِعَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . ثُمَّ فِي فِكَاكِ الْأَسِيرِ وَثَوَابِ الْعِتْقِ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِمَنْ طَلَبَهُ فَمَهْمَا عَمِلَ الْمَلِكُ مَعَهُمْ وَجَدَ ثَمَرَتَهُ . وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَقْدَرُ عَلَى الْمُكَافَأَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَمَنْ حَارَبُوهُ فَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لَهُ وَالْمَلِكُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ السَّيْرَ وَبَلَغَهُ أَنَّهُ مَا زَالَ فِي الْمُسْلِمِينَ النَّفَرُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً مِنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَكَيْفَ إذَا كَانُوا أَضْعَافَهُمْ وَقَدْ بَلَغَهُ الْمَلَاحِمُ الْمَشْهُورَةُ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ : مِثْلَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَغْلِبُونَ مِنْ النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعمِائَةِ أَلْفٍ أَكْثَرُهُمْ فَارِسٌ . وَمَا زَالَ الْمُرَابِطُونَ بِالثُّغُورِ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَاشْتِغَالِ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ يَدْخُلُونَ بِلَادَ النَّصَارَى فَكَيْفَ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ وَكَثْرَةِ جُيُوشِهِمْ وَبَأْسِ مُقَدِّمِيهِمْ وَعُلُوِّ هِمَمِهِمْ وَرَغْبَتِهِمْ فِيمَا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْمُطَوَّعَةِ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ حَيْثُ قَالَ : { يُعْطَى الشَّهِيدُ سِتُّ خِصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ . وَيَرَى مَقْعَدَهُ فِي الْجَنَّةِ . وَيُكْسَى حُلَّةَ الْإِيمَانِ . وَيُزَوَّجُ بِاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ . وَيُوقَى فِتْنَةَ الْقَبْرِ . وَيُؤْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(2/32)
} . ثُمَّ إنَّ فِي بِلَادِهِمْ مِنْ النَّصَارَى أَضْعَافَ مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ رُءُوسِ النَّصَارَى مَنْ لَيْسَ فِي الْبَحْرِ مِثْلُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ . وَأَمَّا أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَلَا مَنْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَإِنَّمَا نَسْعَى فِي تَخْلِيصِهِمْ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةً لَهُمْ وَتَقَرُّبًا إلَيْهِ يَوْمَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُصَدِّقِينَ وَلَا يُضَيِّعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَأَبُو الْعَبَّاسِ حَامِلُ هَذَا الْكِتَابِ قَدْ بَثَّ مَحَاسِنَ الْمَلِكِ وَإِخْوَتَهُ عِنْدَنَا وَاسْتَعْطَفَ قُلُوبَنَا إلَيْهِ ؛ فَلِذَلِكَ كَاتَبْت الْمَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْنِي رَغْبَتُهُ فِي الْخَيْرِ وَمَيْلُهُ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَنَا مِنْ نُوَّابِ الْمَسِيحِ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي مُنَاصَحَةِ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ وَطَلَبِ الْخَيْرِ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يُرِيدُونَ لِلْخَلْقِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَدْعُونَهُمْ إلَى اللَّهِ وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ قَدْ بَلَغَهُ بَعْضُ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا طَعْنٌ عَلَى بَعْضِهِمْ أَوْ طَعْنٌ عَلَى دِينِهِمْ ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ كَاذِبًا أَوْ مَا فَهِمَ التَّأْوِيلَ وَكَيْفَ صُورَةُ الْحَالِ . وَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَنْ بَعْضِهِمْ بِنَوْعِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ : فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ؛ بَلْ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ أَقَلُّ مِمَّا فِي غَيْرِهِمْ بِكَثِيرِ وَاَلَّذِي فِيهِمْ مِنْ الْخَيْرِ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِمْ . وَالْمَلِكُ وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ أَنَّ أَكْثَرَ النَّصَارَى خَارِجُونَ عَنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَرَسَائِلِ بُولِصَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقِدِّيسِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ مَا مَعَهُمْ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْخِنْزِيرِ وَتَعْظِيمُ الصَّلِيبِ وَنَوَامِيسُ مُبْتَدَعَةٌ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْتَحِلُّ بَعْضَ مَا حَرَّمَتْهُ الشَّرِيعَةُ النَّصْرَانِيَّةُ . هَذَا فِيمَا يُقِرُّونَ لَهُ . وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِمَا لَا يُقِرُّونَ بِهِ فَكُلُّهُمْ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا عَنْ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَنْزِلُ عِنْدَنَا بِالْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ فِي دِمَشْقَ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ مَلَكَيْنِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إلَّا الْإِسْلَامَ وَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ الْأَعْوَرَ الدَّجَّالَ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْيَهُودُ وَيُسَلِّطُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْيَهُودِ حَتَّى يَقُولَ الشَّجَرُ وَالْحَجَرُ : يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ . وَيَنْتَقِمُ اللَّهُ لِلْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ مَسِيحِ الْهُدَى مِنْ الْيَهُودِ مَا آذَوْهُ وَكَذَّبُوهُ لَمَّا بُعِثَ إلَيْهِمْ } . وَأَمَّا مَا عِنْدَنَا فِي أَمْرِ النَّصَارَى وَمَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ إدَالَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِمْ : فَهَذَا مِمَّا لَا أُخْبِرُ بِهِ الْمَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَضِيقَ صَدْرُهُ ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي أَنْصَحُهُ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْلَفَ إلَى الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَمَالَ إلَيْهِمْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ مَعَهُمْ حَسَنَةً بِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْخَيْرِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } . وَاَلَّذِي أَخْتِمُ بِهِ الْكِتَابَ الْوَصِيَّةَ بِالشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْرَى وَالْمُسَاعَدَةِ لَهُمْ وَالرِّفْقِ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ تَغْيِيرِ دِينِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَوْفَ يَرَى الْمَلِكُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَنَحْنُ نَجْزِي الْمَلِكَ عَلَى ذَلِكَ بِأَضْعَافِ مَا فِي نَفْسِهِ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي قَاصِدٌ لِلْمَلِكِ الْخَيِّرَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَشَرَعَ لَنَا أَنْ نُرِيدَ الْخَيْرَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَنَعْطِفْ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَنَدْعُوهُمْ إلَى اللَّهِ وَإِلَى دِينِهِ وَنَدْفَعُ عَنْهُمْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُعِينَ الْمَلِكَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ الَّتِي هِيَ عِنْدَ اللَّهِ الْمَصْلَحَةُ وَأَنْ يُخَيَّرُ لَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَيَخْتِمُ لَهُ بِخَاتِمَةِ خَيْرٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ(2/33)
. وَلَا سِيَّمَا مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
================
حكم بناء معابد جديدة لأهل الذمة (1)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ فِي الْكَنَائِسِ الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهَا الَّتِي أُغْلِقَتْ بِأَمْرِ وُلَاةِ الْأُمُورِ إذَا ادَّعَى أَهْلُ الذِّمَّةِ أَنَّهَا أُغْلِقَتْ ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ فَتْحَهَا وَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَصَرَهُ فَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُمْ ؟ وَهَلْ تَجِبُ إجَابَتُهُمْ أَمْ لَا ؟ . وَإِذَا قَالُوا : إنَّ هَذِهِ الْكَنَائِسَ كَانَتْ قَدِيمَةً مِنْ زَمَنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ إغْلَاقَهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ . فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ مَقْبُولٌ مِنْهُمْ أَوْ مَرْدُودٌ ؟ . وَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إلَى مَنْ يَقْدَمُ مِنْ بِلَادِ الْحَرْبِ مِنْ رَسُولٍ أَوْ غَيْرِهِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَسْأَلَ وَلِيَّ الْأَمْرِ فِي فَتْحِهَا أَوْ كَاتَبُوا مُلُوكَ الْحَرْبِ لِيَطْلُبُوا ذَلِكَ مِنْ وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ . فَهَلْ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُجَابُوا إلَى ذَلِكَ حَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ إمَّا بِالْعُدْوَانِ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَسْرَى وَالْمَسَاجِدِ وَإِمَّا بِقَطْعِ مَتَاجِرِهِمْ عَنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَإِمَّا بِتَرْكِ مُعَاوَنَتِهِمْ لِوَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا يَعْتَمِدُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ ؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ مَبْسُوطًا مَشْرُوحًا . وَإِذَا كَانَ فِي فَتْحِهَا تَغَيُّرُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ؛ وَحُصُولُ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمْ وَتَغَيُّرُ قُلُوبِ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَعُمُومِ الْجُنْدِ وَالْمُسْلِمِينَ : عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَظُهُورِ عِزِّهِمْ وَفَرَحِهِمْ وَسُرُورِهِمْ بِمَا يُظْهِرُونَهُ وَقْتَ فَتْحِ الْكَنَائِسِ مِنْ الشُّمُوعِ وَالْجُمُوعِ وَالْأَفْرَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا فِيهِ تَغَيُّرُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى إنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ وَأَعَانَ عَلَيْهِ . فَهَلْ لِأَحَدِ أَنْ يُشِيرَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ بِذَلِكَ ؟ . وَمَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هَلْ يَكُونُ نَاصِحًا لِوَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ غَاشًّا ؟ . وَأَيُّ الطُّرُقِ هُوَ الْأَفْضَلُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا سَلَكَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَعْدَائِهِ . بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ وَأَبْسِطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمُكَرَّمِينَ وَعَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 442)(2/34)
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَلَمُوهُمْ فِي إغْلَاقِهَا فَهَذَا كَذِبٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ : مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ . كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ هَدَمَ كُلَّ كَنِيسَةٍ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ ؛ كَأَرْضِ مِصْرَ وَالسَّوَادِ بِالْعِرَاقِ وَبَرِّ الشَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُجْتَهِدًا فِي ذَلِكَ وَمُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَرَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ ؛ بَلْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ وَمُسَاعَدَتُهُ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ . وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَانُوا نَاقِضِينَ الْعَهْدَ وَحَلَّتْ بِذَلِكَ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذِهِ الْكَنَائِسَ قَائِمَةٌ مِنْ عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ أَقَرُّوهُمْ عَلَيْهَا . فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْكَذِبِ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ الْقَاهِرَةَ بُنِيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ بُنِيَتْ بَعْدَ بَغْدَادَ وَبَعْدَ الْبَصْرَةِ ؛ وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطَ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَدَائِنِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُحَدِّثُوا فِيهَا كَنِيسَةً ؛ مِثْلَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا وَأَبْقَوْا لَهُمْ كَنَائِسَهُمْ الْقَدِيمَةَ ؛ بَعْدَ أَنْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي أَرْضِ الصُّلْحِ فَكَيْفَ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ إذَا كَانَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ كَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبَنَى الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً عَلَيْهَا فَإِنَّ لَهُمْ أَخْذَ تِلْكَ الْكَنِيسَةِ ؛ لِئَلَّا تُتْرَكَ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ كَنِيسَةٌ بِغَيْرِ عَهْدٍ ؛ فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي داود بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ وَلَا جِزْيَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ } . وَالْمَدِينَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْقَرْيَةُ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَفِيهَا مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفْرِ ؛ لَا كَنَائِسَ ؛ وَلَا غَيْرَهَا ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَهْدٌ فَيُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ . فَلَوْ كَانَ بِأَرْضِ الْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهَا كَنِيسَةٌ قَبْلَ بِنَائِهَا لَكَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَنْوَةٌ فَكَيْفَ وَهَذِهِ الْكَنَائِسُ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا النَّصَارَى فَإِنَّ الْقَاهِرَةَ بَقِيَ وُلَاةُ أُمُورِهَا نَحْوَ مِائَتَيْ سَنَةٍ عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ رَافِضَةٌ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ : إسْمَاعِيلِيَّةٌ ونصيرية وَقَرَامِطَةٌ بَاطِنِيَّةٌ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ : ظَاهِرُ مَذْهَبِهِمْ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ . وَاتَّفَقَ طَوَائِفُ الْمُسْلِمِينَ : عُلَمَاؤُهُمْ وَمُلُوكُهُمْ وَعَامَّتُهُمْ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا خَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ جَائِزًا ؛ بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ نَسَبَهُمْ كَانَ بَاطِلًا وَأَنَّ جَدَّهُمْ كَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَصَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ . وَشَهِدَ بِذَلِكَ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ القدوري إمَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الإسفرائيني إمَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَمِثْلِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى إمَامِ الْحَنْبَلِيَّةِ وَمِثْلِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ إمَامِ الْمَالِكِيَّةِ . وَصَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الطَّيِّبِ فِيهِمْ كِتَابًا فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَسَمَّاهُ " كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكُ الْأَسْتَارِ " فِي مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ . وَاَلَّذِينَ يُوجَدُونَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ الإسْماعيليَّة والنصيرية وَالدُّرْزِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ . وَهُمْ الَّذِينَ أَعَانُوا التَّتَارَ عَلَى(2/35)
قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ وَزِيرُ هُولَاكُو " النَّصِيرَ الطوسي مِنْ أَئِمَّتِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُلُوكِهِمْ ثُمَّ الرَّافِضَةُ بَعْدَهُمْ . فَالرَّافِضَةُ يُوَالُونَ مَنْ حَارَبَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةَ وَيُوَالُونَ التَّتَارَ وَيُوَالُونَ النَّصَارَى . وَقَدْ كَانَ بِالسَّاحِلِ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبَيْنَ الفرنج مُهَادَنَةٌ حَتَّى صَارَتْ الرَّافِضَةُ تَحْمِلُ إلَى قُبْرُصَ خَيْلَ الْمُسْلِمِينَ وَسِلَاحَهُمْ وَغِلْمَانَ السُّلْطَانِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْجُنْدِ وَالصِّبْيَانِ . وَإِذَا انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّتَارِ أَقَامُوا الْمَآتِمَ وَالْحُزْنَ وَإِذَا انْتَصَرَ التَّتَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ . وَهُمْ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَى التَّتَارِ بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ وَقَتْلِ أَهْلِ بَغْدَادَ . وَوَزِيرِ بَغْدَادَ ابْنِ العلقمي الرَّافِضِي هُوَ الَّذِي خَامَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَاتَبَ التَّتَارَ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ أَرْضَ الْعِرَاقِ بِالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ قِتَالِهِمْ . وَقَدْ عَرَفَ الْعَارِفُونَ بِالْإِسْلَامِ : أَنَّ الرَّافِضَةَ تَمِيلُ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ . وَلَمَّا كَانُوا مُلُوكَ الْقَاهِرَةِ كَانَ وَزِيرُهُمْ مَرَّةً يَهُودِيًّا وَمَرَّةً نَصْرَانِيًّا أَرْمِينِيًّا وَقَوِيَتْ النَّصَارَى بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّصْرَانِيِّ الْأَرْمِينِيِّ وَبَنَوْا كَنَائِسَ كَثِيرَةً بِأَرْضِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أُولَئِكَ الرَّافِضَةِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا يُنَادُونَ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ : مَنْ لَعَنَ وَسَبَّ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِرْدَبٌّ . وَفِي أَيَّامِهِمْ أَخَذَتْ النَّصَارَى سَاحِلَ الشَّامِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى فَتَحَهُ نُورُ الدِّينِ وَصَلَاحُ الدِّينِ . وَفِي أَيَّامِهِمْ جَاءَتْ الفرنج إلَى بلبيس وَغَلَبُوا مِنْ الفرنج ؛ فَإِنَّهُمْ مُنَافِقُونَ وَأَعَانَهُمْ النَّصَارَى وَاَللَّهُ لَا يَنْصُرُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ يُوَالُونَ النَّصَارَى فَبَعَثُوا إلَى نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُونَ النَّجْدَةَ فَأَمَدَّهُمْ بِأَسَدِ الدِّينِ وَابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ . فَلَمَّا جَاءَتْ الْغُزَاةُ الْمُجَاهِدُونَ إلَى دِيَارِ مِصْرَ قَامَتْ الرَّافِضَةُ مَعَ النَّصَارَى فَطَلَبُوا قِتَالَ الْغُزَاةِ الْمُجَاهِدِينَ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ فُصُولٌ يَعْرِفُهَا النَّاسُ حَتَّى قَتَلَ صَلَاحُ الدِّينِ مُقَدِّمَهُمْ شَاوَرَ . وَمِنْ حِينَئِذٍ ظَهَرَتْ بِهَذِهِ الْبِلَادِ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَصَارَ يُقْرَأُ فِيهَا أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيُذْكَرُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ وَيَتَرَضَّى فِيهَا عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ وَإِلَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . فِيهِمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَيَرْصُدُونَهَا وَفِيهِمْ قَوْمٌ زَنَادِقَةٌ دَهْرِيَّةٌ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَخَيْرُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ وَالرَّافِضَةُ شَرُّ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ . فَبِهَذَا السَّبَبِ وَأَمْثَالِهِ كَانَ إحْدَاثُ الْكَنَائِسِ فِي الْقَاهِرَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ كَانَ فِي بَرِّ مِصْرَ كَنَائِسُ قَدِيمَةٌ ؛ لَكِنْ تِلْكَ الْكَنَائِسِ أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ ؛ لِأَنَّ الْفَلَّاحِينَ كَانُوا كُلُّهُمْ نَصَارَى وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْجُنْدُ خَاصَّةً وَأَقَرُّوهُمْ كَمَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ عَلَى خَيْبَرَ لَمَّا فَتَحَهَا ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا فَلَّاحِينَ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ مُشْتَغِلِينَ بِالْجِهَادِ . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْنَوْا عَنْ الْيَهُودِ أَجْلَاهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ خَيْبَرَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي خَيْبَرَ يَهُودِيٌّ . وَهَكَذَا الْقَرْيَةُ الَّتِي يَكُونُ أَهْلُهَا نَصَارَى وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَنَائِسِهِمْ الَّتِي فِيهَا جَازَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ : وَأَمَّا إذَا سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ وَبَنَوْا بِهَا مَسَاجِدَهُمْ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } وَفِي أَثَرٍ آخَرَ : { لَا يَجْتَمِعُ بَيْتُ رَحْمَةٍ وَبَيْتُ عَذَابٍ } . وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ كَثُرُوا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَعَمُرَتْ(2/36)
فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى صَارَ أَهْلُهَا بِقَدْرِ مَا كَانُوا فِي زَمَنِ صَلَاحِ الدِّينِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَصَلَاحِ الدِّينِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَا كَانُوا يُوَالُونَ النَّصَارَى وَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ مِنْهُمْ أَحَدًا فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مُؤَيِّدِينَ مَنْصُورِينَ عَلَى الْأَعْدَاءِ مَعَ قِلَّةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ ؛ وَإِنَّمَا قَوِيَتْ شَوْكَةُ النَّصَارَى وَالتَّتَارِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَادِلِ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ أَعْطَاهُمْ بَعْضَ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ وَحَدَثَ حَوَادِثُ بِسَبَبِ التَّفْرِيطِ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . فَكَانَ وُلَاةُ الْأُمُورِ الَّذِينَ يَهْدِمُونَ كَنَائِسَهُمْ وَيُقِيمُونَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهَارُونَ الرَّشِيدِ وَنَحْوِهِمَا : مُؤَيِّدِينَ مَنْصُورِينَ . وَكَانَ الَّذِينَ هُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ . وَإِنَّمَا كَثُرَتْ الْفِتَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَفَرَّقُوا عَلَى مُلُوكِهِمْ مِنْ حِينِ دَخَلَ النَّصَارَى مَعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ؛ فِي دَوْلَةِ الْمُعِزِّ وَوِزَارَةِ الْفَائِزِ وَتَفَرُّقِ الْبَحْرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } . وَكُلُّ مَنْ عَرَفَ سَيْرَ النَّاسِ وَمُلُوكَهُمْ رَأَى كُلَّ مَنْ كَانَ أَنْصَرَ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمَ جِهَادًا لِأَعْدَائِهِ وَأَقْوَمَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : أَعْظَمَ نُصْرَةً وَطَاعَةً وَحُرْمَةً : مِنْ عَهْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِلَى الْآنَ . وَقَدْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ كَنَائِسَ كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ بَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا عَلَيْهَا فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَدْمَ كَنَائِسِ الْعَنْوَةِ جَائِزٌ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَإِعْرَاضُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ كَانَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ كَمَا أَعْرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إجْلَاءِ الْيَهُودِ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُكَاتِبُوا أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يُخْبِرُوهُمْ بِشَيْءِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَطْلُبُ مِنْ رَسُولِهِمْ أَنْ يُكَلِّفَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ قَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الْمُسْلِمِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ ضَرَرٌ إنْ لَمْ يُجَابُوا إلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ فَتَحُوا سَاحِلَ الشَّامِ وَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَلْزَمُوهُمْ بِلَبْسِ الْغِيَارِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ ؛ بَلْ التَّتَارُ فِي بِلَادِهِمْ خَرَّبُوا جَمِيعَ كَنَائِسِهِمْ وَكَانَ نَوْرُوزُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَلْزَمُوهُمْ بِلَبْسِ الْغِيَارِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ . . . فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَيْهِمْ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ إلَّا كُلُّ خَيْرٍ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَغْنُونَ عَنْهُمْ وَهُمْ إلَى مَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَحْوَجُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَا فِي بِلَادِهِمْ ؛ بَلْ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ(2/37)
وَالْمُسْلِمُونَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَغْنِيَاءُ عَنْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . فَأَمَّا نَصَارَى الْأَنْدَلُسِ فَهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَهُمْ خَوْفًا مِنْ التَّتَارِ . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّتَارِ أَعَزُّ مِنْ النَّصَارَى وَأَكْرَمُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالْمُسْلِمُونَ أَقْدَرُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّصَارَى . وَالنَّصَارَى الَّذِينَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ مِنْ البتاركة وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَرُهْبَانِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ أُولَئِكَ النَّصَارَى وَلَيْسَ عِنْدَ النَّصَارَى مُسْلِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ مَعَ أَنَّ فِكَاكَ الْأَسَارَى مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَبَذْلَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَتَّجِرُونَ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ ؛ لَا لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ مَنَعَهُمْ مُلُوكُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ حِرْصُهُمْ عَلَى الْمَالِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الطَّاعَةِ فَإِنَّهُمْ أَرْغَبُ النَّاسِ فِي الْمَالِ وَلِهَذَا يَتَقَامَرُونَ فِي الْكَنَائِسِ . وَهُمْ طَوَائِفُ مُخْتَلِفُونَ وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَضَادُّ الْأُخْرَى . وَلَا يُشِيرُ عَلَى وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ إظْهَارُ شَعَائِرِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ تَقْوِيَةُ أَمْرِهِمْ - بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ - إلَّا رَجُلٌ مُنَافِقٌ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْبَاطِنِ أَوْ رَجُلٌ لَهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ مِثْلَ أَنْ يَكُونُوا بَرْطَلُوهُ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ أَوْ رَجُلٌ جَاهِلٌ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ لَا يَعْرِفُ السِّيَاسَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تَنْصُرُ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ الدِّينِ ؛ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ عَارِفًا نَاصِحًا لَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ نَصْرَهُ وَثَبَاتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَاجْتِمَاعَ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتَهُمْ لَهُ وَدُعَاءَ النَّاسِ لَهُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِذْلَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلْيَعْتَبِرْ الْمُعْتَبِرُ بِسِيرَةِ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ ثُمَّ الْعَادِلِ ؛ كَيْفَ مَكَّنَهُمْ اللَّهُ وَأَيَّدَهُمْ وَفَتَحَ لَهُمْ الْبِلَادَ وَأَذَلَّ لَهُمْ الْأَعْدَاءَ ؛ لَمَّا قَامُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا قَامُوا بِهِ . وَلْيَعْتَبِرْ بِسِيرَةِ مَنْ وَالَى النَّصَارَى كَيْفَ أَذَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَبَتَهُ . وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجِينَ إلَيْهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . فَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : " إنَّ بِالشَّامِ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَقُومُ خَرَاجُ الشَّامِ إلَّا بِهِ " فَكَتَبَ إلَيْهِ : " لَا تَسْتَعْمِلْهُ " . فَكَتَبَ : " إنَّهُ لَا غِنَى بِنَا عَنْهُ " فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ " لَا تَسْتَعْمِلْهُ " فَكَتَبَ إلَيْهِ " إذَا لَمْ نُوَلِّهْ ضَاعَ الْمَالُ " فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ " . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُشْرِكًا لَحِقَهُ لِيُقَاتِلَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ : إنِّي لَا أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكِ } وَكَمَا أَنَّ اسْتِخْدَامَ الْجُنْدِ الْمُجَاهِدِينَ إنَّمَا يَصْلُحُ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ : فَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُعَاوِنُونَ الْجُنْدَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ إنَّمَا تَصْلُحُ بِهِمْ أَحْوَالُهُمْ إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ وَفِي الْمُسْلِمِينَ كِفَايَةٌ فِي جَمِيعِ مَصَالِحِهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَدَخَلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَرَضَ عَلَيْهِ حِسَابَ الْعِرَاقِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ : " اُدْعُ كَاتِبَك يَقْرَؤُهُ عَلَيَّ " فَقَالَ : " إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ " قَالَ : " وَلِمَ ؟ " قَالَ : " لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ " فَضَرَبَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّرَّةِ فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ثُمَّ قَالَ : لَا تُعِزُّوهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ وَلَا تَأْمَنُوهُمْ بَعْدَ أَنْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ وَلَا تُصَدِّقُوهُمْ بَعْدَ أَنْ أَكْذَبَهُمْ اللَّهُ . وَالْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةٌ مُوَالِيَةٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَادِيَةٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَعْدَاءِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(2/38)
وَقُلُوبُهُمْ الصَّادِقَةُ وَأَدْعِيَتُهُمْ الصَّالِحَةُ هِيَ الْعَسْكَرُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ وَالْجُنْدُ الَّذِي لَا يُخْذَلُ فَإِنَّهُمْ هُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } { هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } . وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْعَزِيزَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهَا بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ كَانَ لَهُ عِزٌّ وَمَنَعَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَقْوَامٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُمْ ضَعْفُ يَقِينٍ وَإِيمَانٍ وَفِيهِمْ مُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ : مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ وَأَمْثَالِهِ وَكَانُوا يَخَافُونَ أَنْ تَكُونَ لِلْكُفَّارِ دَوْلَةٌ فَكَانُوا يُوَالُونَهُمْ ويباطنونهم . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أَيْ نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانٍ { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أَيْ فِي مُعَاوَنَتِهِمْ { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا } أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُوَالُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } . فَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ يُكَاتِبُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَا يَطَّلِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَسْرَارِهِمْ حَتَّى أُخِذَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِ التَّتَارِ وَسَبْي وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ بِمُطَالَعَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ دِينِهِمْ . وَمِنْ الْأَبْيَاتِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : كُلُّ الْعَدَاوَاتِ [ قَدْ ] تُرْجَى مَوَدَّتُهَا إلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاك فِي الدِّينِ وَلِهَذَا وَغَيْرِهِ مُنِعُوا أَنْ يَكُونُوا عَلَى وِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى مَصْلَحَةِ مَنْ يُقَوِّيهِمْ أَوْ يَفْضُلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخِبْرَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ اسْتِعْمَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي الْكِفَايَةِ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالْقَلِيلُ مِنْ الْحَلَالِ يُبَارَكُ فِيهِ وَالْحَرَامُ الْكَثِيرُ يَذْهَبُ وَيَمْحَقُهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
=============(2/39)
إصلاح الكنيسة المهدمة (1)
وَسُئِلَ عَنْ نَصْرَانِيٍّ قِسِّيسٍ بِجَانِبِ دَارِهِ سَاحَةٌ بِهَا كَنِيسَةٌ خَرَابٌ لَا سَقْفَ لَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ خَرَابِهَا . فَاشْتَرَى الْقِسِّيسُ السَّاحَةَ وَعَمَّرَهَا وَأَدْخَلَ الْكَنِيسَةَ فِي الْعِمَارَةِ وَأَصْلَحَ حِيطَانَهَا وَعَمَّرَهَا وَبَقِيَ يَجْمَعُ النَّصَارَى فِيهَا وَأَظْهَرُوا شِعَارَهُمْ وَطَلَبَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ فَتَقَوَّى وَاعْتَضَدَ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَأَظْهَرَ الشَّرَّ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْكَنِيسَةِ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ آثَارُ كَنِيسَةٍ قَدِيمَةٍ بِبَرِّ الشَّامِ فَإِنَّ بَرَّ الشَّامِ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً وَمَلَكُوا تِلْكَ الْكَنَائِسَ ؛ وَجَازَ لَهُمْ تَخْرِيبُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ تَخْرِيبِهَا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُ عَلَى إحْدَاثِ ذَلِكَ وَيَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ أَعَانَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُحْدِثُ لِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ وَيُبَاحُ دَمُهُ وَمَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الشُّرُوطَ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَشَرَطُوا عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ نَقَضَهَا فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ مِنْهَا مَا يُبَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
=============
دفاعه عن الشروط العمرية (2)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 443)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 445)(2/40)
وَقَالَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ فِي شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّتِي شَرَطَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وشارطهم بِمَحْضَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } لِأَنَّ هَذَا صَارَ إجْمَاعًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى مَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَصَرَةٍ وَمَبْسُوطَةٍ . مِنْهَا مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عتبة قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كِتَابًا وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ : أَنْ لَا يُحْدِثُوا فِي مُدُنِهِمْ وَلَا مَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا صَوْمَعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قلاية لِرَاهِبِ وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خُرِّبَ وَلَا يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ وَلَا يَأْوُوا جَاسُوسًا وَلَا يَكْتُمُوا غِشَّ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا يُظْهِرُوا شِرْكًا وَلَا يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَتِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ أَرَادُوهُ وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَقُومُوا لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ : مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شِعْرٍ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ وَلَا يَرْكَبُوا سُرُجًا وَلَا يَتَقَلَّدُوا سَيْفًا وَلَا يَتَّخِذُوا شَيْئًا مِنْ سِلَاحِهِمْ وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَبِيعُوا الْخُمُورَ وَأَنْ يَجُزُّوا مقادم رُءُوسِهِمْ وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُ مَا كَانُوا وَأَنْ يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا صَلِيبًا وَلَا شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَا يَضْرِبُوا بِالنَّاقُوسِ إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي شَيْءٍ فِي حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجُوا شَعَانِينَ وَلَا يَرْفَعُوا مَعَ مَوْتَاهُمْ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يُظْهِرُوا النِّيرَانَ مَعَهُمْ وَلَا يَشْتَرُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَقَدْ آذَانِي " فَهَذَا كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَذَاهُمْ قَدْ يَكُونُ بِحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فَكَيْفَ يُحَرِّمُ أَذَى الْكُفَّارِ مُطْلَقًا ؟ وَأَيُّ ذَنْبٍ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ ؟ . وَلَكِنْ فِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِإِذْنِ وَلَا ضَرْبَ أَبِشَارِّهِمْ وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ . وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ حَقَّهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ . فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظبيان عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ(2/41)
عَنْهُمَا - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ وَلَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ ذَكَرَهَا أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَغَيْرِهَا فِي كُتُبِهِمْ وَاعْتَمَدُوهَا ؛ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَكُنَاهُمْ وَرُكُوبِهِمْ : بِأَنْ يَلْبِسُوا أَثْوَابًا تُخَالِفُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ : كَالْعَسَلِيِّ وَالْأَزْرَقِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَدْكَنِ وَيَشُدُّوا الْخِرَقَ فِي قَلَانِسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ وَالزَّنَانِيرِ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ . وَقَدْ أَطْلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِاللَّبْسِ وَشَدِّ الزَّنَانِيرِ جَمِيعًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا يَجِبُ إذَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا غَيْرِهَا : مِنْ عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ حَيْثُ مَا كَانُوا وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَا زَالَ يُجَدِّدُهَا عَلَيْهِمْ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَدَّدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خِلَافَتِهِ وَبَالَغَ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْقِيَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَيَّزَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَجَدَّدَهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ وَجَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَرُوا بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ الَّتِي يَنْبَغِي هَدْمُهَا كَالْكَنَائِسِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كُلِّهَا فَفِي وُجُوبِ هَدْمِهَا قَوْلَانِ : وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ هَدْمِ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ إذَا فُتِحَتْ . وَلَوْ أَقَرَّتْ بِأَيْدِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ الْوَطَنِ كَمَا أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَنَائِسَ بِالشَّامِ وَمِصْرَ ثُمَّ ظَهَرَتْ شَعَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَعْدُ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ بِحَيْثُ بُنِيَتْ فِيهَا الْمَسَاجِدُ : فَلَا يَجْتَمِعُ شَعَائِرُ الْكُفْرِ مَعَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } وَلِهَذَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنْ لَا يُظْهِرُوا شَعَائِرَ دِينِهِمْ . وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْبَسَ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بَلْ لَوْ وَقَفَهَا ذِمِّيٌّ وَتَحَاكَمَ إلَيْنَا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ . فَكَيْفَ بِحَبْسِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعَابِدِ الْكُفَّارِ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا بِالرَّحْمَنِ وَيُسَبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهَا أَقْبَحَ سَبٍّ . وَكَانَ مِنْ سَبَبِ إحْدَاثِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ وَهَذِهِ الْأَحْبَاسِ عَلَيْهَا شَيْئَانِ . " أَحَدُهُمَا " : أَنَّ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ - الَّذِينَ كَانَ ظَاهِرُهُمْ الرَّفْضَ وَبَاطِنُهُمْ النِّفَاقَ - يستوزرون تَارَةً يَهُودِيًّا وَتَارَةً نَصْرَانِيًّا وَاجْتَلَبَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا وَبَنَى كَنَائِسَ كَثِيرَةً . " وَالثَّانِي " : اسْتِيلَاءُ الْكُتَّابِ مِنْ النَّصَارَى عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُدَلِّسُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا يَشَاءُونَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ . وَقَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعْلَمُونَ أَنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ فِي نِعَمٍ عَظِيمَةٍ وَمِنَنٍ جَسِيمَةٍ وَآلَاءٍ مُتَكَاثِرَةٍ وَأَيَادٍ مُتَظَاهِرَةٍ . لَمْ تَكُنْ تَخْطُرُ لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ بِبَالِ وَلَا تَدُورُ لَهُمْ فِي خَيَالٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى . إلَى أَنْ قَالَ : وَالْحَقُّ دَائِمًا فِي انْتِصَارٍ وَعُلُوٍّ وَازْدِيَادٍ وَالْبَاطِلُ فِي انْخِفَاضٍ وَسَفَالٍ وَنَفَادٍ . وَقَدْ أَخْضَعَ اللَّهُ رِقَابَ الْخُصُومِ وَأَذَلَّهُمْ غَايَةَ الذُّلِّ وَطَلَبَ أَكَابِرُهُمْ مِنْ السِّلْمِ وَالِانْقِيَادِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ . وَنَحْنُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - قَدْ اشْتَرَطْنَا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ مَا فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةُ وَانْقِمَاعُ الْبَاطِلِ وَالْبِدْعَةِ وَقَدْ دَخَلُوا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَامْتَنَعْنَا حَتَّى يَظْهَرُوا ذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ . فَلَمْ نَثِقْ لَهُمْ بِقَوْلِ وَلَا عَهْدٍ وَلَمْ نُجِبْهُمْ إلَى مَطْلُوبِهِمْ .(2/42)
حَتَّى يَصِيرَ الْمَشْرُوطُ مَعْمُولًا وَالْمَذْكُورُ مَفْعُولًا وَيَظْهَرُ مِنْ عِزِّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو سَيِّئَاتِهِمْ . وَقَدْ أَمَدَّ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي فِيهَا عِزُّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَقَمَعَ الْكُفْرَ وَالْبِدْعَةَ : بِأُمُورِ يَطُولُ وَصْفُهَا فِي كِتَابٍ . وَكَذَلِكَ جَرَى مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَقَمَعَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ اسْتَطَالُوا وَحَصَلَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَأَعَانَهُمْ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ ذُلٌّ كَبِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَلَطَفَ اللَّهُ بِاسْتِعْمَالِنَا فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَجَرَى فِي ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ عِزُّ الْمُسْلِمِينَ . وَتَأْلِيفُ قُلُوبِهِمْ وَقِيَامُهُمْ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذَلَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَوَصْفُ هَذَا يَطُولُ . وَقَدْ أَرْسَلْت إلَيْكُمْ كِتَابًا أَطْلُبُ مَا صَنَّفْته فِي أَمْرِ الْكَنَائِسِ وَهِيَ كَرَارِيسُ بِخَطِّي قِطَعُ النِّصْفِ الْبَلَدِيِّ . فَتُرْسِلُونَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ المزي فَإِنَّهُ يُقَلِّبُ الْكُتُبَ وَيُخْرِجُ الْمَطْلُوبَ . وَتُرْسِلُونَ أَيْضًا مِنْ تَعْلِيقِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى الَّذِي بِخَطِّ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ إنْ أَمْكَنَ الْجَمِيعُ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ مُجَلَّدًا وَإِلَّا فَمَنْ أَوَّلُهُ مُجَلَّدًا أَوْ مُجَلَّدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً . وَذَكَرَ كُتُبًا يَطْلُبُهَا مِنْهُمْ .
================
إلزام أهل الذمة بلباس غير اللباس المعروف بالشروط العمرية (1)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ : فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُلْزِمُوا بِلِبَاسِ غَيْرِ لِبَاسِهِمْ الْمُعْتَادِ وَزِيٍّ غَيْرِ زِيِّهِمْ الْمَأْلُوفِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَلْزَمَهُمْ بِتَغْيِيرِ عَمَائِمِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ خِلَافَ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ فَحَصَلَ بِذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الطَّرَقَاتِ وَالْفَلَوَاتِ وَتَجَرَّأَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ السُّفَهَاءُ وَالرَّعَاعُ وَآذَوْهُمْ غَايَةَ الْأَذَى وَطَمِعَ بِذَلِكَ فِي إهَانَتِهِمْ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ . فَهَلْ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ رَدُّهُمْ إلَى زِيِّهِمْ الْأَوَّلِ وَإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ حُصُولِ التَّمْيِيزِ بِعَلَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهَا ؟ وَهَلْ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ أَمْ لَا ؟ .
الْجَوَابُ
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : فَأَجَابَهُمْ مِنْ مَنْعِ التَّوْفِيقِ وَصَدٍّ عَنْ الطَّرِيقِ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ إعَادَتَهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ . قَالَ شَيْخُنَا : فَجَاءَتْنِي الْفَتْوَى . فَقُلْت : لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ وَيَجِبُ إبْقَاؤُهُمْ عَلَى الزِّيِّ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . فَذَهَبُوا ثُمَّ غَيَّرُوا الْفُتْيَا ثُمَّ جَاءُوا بِهَا فِي قَالَبٍ آخَرَ فَقُلْت : لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ . فَذَهَبُوا ثُمَّ أَتَوْا بِهَا فِي قَالِبٍ آخَرَ فَقُلْت : هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُعَيَّنَةُ وَإِنْ خَرَجَتْ فِي عِدَّةِ قَوَالِبَ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : ثُمَّ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى السُّلْطَانِ وَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِكَلَامِ عَجِبَ مِنْهُ الْحَاضِرُونَ فَأَطْبَقَ الْقَوْمُ عَلَى إبْقَائِهِمْ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
===============
قتل الراهب وأخذ الجزية منه (2)
وَسُئِلَ عَنْ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ يُشَارِكُونَ النَّاسَ فِي غَالِبِ الدُّنْيَا : فَيَتَّجِرُونَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَزَارِعَ وَأَبْرَاجَ الْحَمَامِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا سَائِرُ النَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ الْآنَ . وَإِنَّمَا تَرَهَّبَ أَحَدُهُمْ فِي اللِّبَاسِ وَتَرَكَ النِّكَاحَ وَأَكَلَ اللَّحْمَ وَالتَّعَبُّدَ بِالنَّجَاسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَدْ صَارَ مَنْ يُرِيدُ إسْقَاطَ الْجِزْيَةِ مِنْ النَّصَارَى يَتَرَهَّبُ هَذَا التَّرَهُّبَ لِسُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ وَيَأْخُذُونَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَحْبُوسَةِ وَالْمَنْذُورَةِ مَا يَأْخُذُونَ . فَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ إسْكَانُهُمْ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَفْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 446)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 447)(2/43)
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ . الرُّهْبَانُ الَّذِينَ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِهِمْ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ : هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ عَنْ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا بَعَثَهُ أَمِيرًا عَلَى فَتْحِ الشَّامِ فَقَالَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ : وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَذَرُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا قَدْ فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبُوا مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } . وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ مُنْقَطِعُونَ عَنْ النَّاسِ مَحْبُوسُونَ فِي الصَّوَامِعِ يُسَمَّى أَحَدُهُمْ حَبِيسًا لَا يُعَاوِنُونَ أَهْلَ دِينِهِمْ عَلَى أَمْرٍ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا وَلَا يُخَالِطُونَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ ؛ وَلَكِنْ يَكْتَفِي أَحَدُهُمْ بِقَدْرِ مَا يَتَبَلَّغُ بِهِ . فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِهِمْ كَتَنَازُعِهِمْ فِي قَتْلِ مَنْ لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ لَا بِيَدِهِ وَلَا لِسَانِهِ ؛ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَنَحْوِهِ ؛ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ الْمُعَاوِنِينَ لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِلَّا كَانَ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ مُجَرَّدُ الْكُفْرِ هُوَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَخْذُ الْجِزْيَةِ . وَأَمَّا الرَّاهِبُ الَّذِي يُعَاوِنُ أَهْلَ دِينِهِ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ رَأْيٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِي الْقِتَالِ أَوْ نَوْعٍ مِنْ التَّحْضِيضِ : فَهَذَا يُقْتَلُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَإِنْ كَانَ حَبِيسًا مُنْفَرِدًا فِي مُتَعَبَّدِهِ . فَكَيْفَ بِمَنْ هُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى فِي مَعَايِشِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ النَّاسَ وَاكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ ؛ وَاِتِّخَاذِ الدِّيَارَاتِ الْجَامِعَاتِ لِغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا تَمَيَّزُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِمَا يُغَلِّظُ كُفْرَهُمْ وَيَجْعَلُهُمْ أَئِمَّةً فِي الْكُفْرِ مِثْلَ التَّعَبُّدِ بِالنَّجَاسَاتِ وَتَرْكِ النِّكَاحِ وَاللَّحْمِ وَاللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارُ الْكُفْرِ لَا سِيَّمَا وَهُمْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ دِينَ النَّصَارَى بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي صَنَّفَ الْفُضَلَاءُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٍ وَمِنْ الْعِبَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَقَبُولِ نُذُورِهِمْ وَأَوْقَافِهِمْ . وَالرَّاهِبُ عِنْدَهُمْ شَرْطُهُ تَرْكُ النِّكَاحِ فَقَطْ وَهُمْ مَعَ هَذَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ بتركا وبطرقا وَقِسِّيسًا وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ ؛ وَلَهُمْ أَنْ يَكْتَسِبُوا الْأَمْوَالَ كَمَا لِغَيْرِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ . فَهَؤُلَاءِ لَا يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّصَارَى بِالْقَتْلِ عِنْدَ الْمُحَارَبَةِ وَبِأَخْذِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْمُسَالَمَةِ وَأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ قَالَ : { إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . فَهَلْ يَقُولُ عَالِمٌ : إنَّ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَوَامَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَرْضَوْنَ بِأَنْ يَتَّخِذُوا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ : لَا يُقَاتَلُونَ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ؛ مَعَ كَوْنِهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَامَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ ضَرَرًا فِي الدِّينِ وَأَقَلُّ أَمْوَالًا . لَا يَقُولُهُ مَنْ يَدْرِي مَا يَقُولُ . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِمَا فِي لَفْظِ الرَّاهِبِ مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَثَرَ الْوَارِدَ مُقَيَّدٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ يُبَيِّنُ الْمَرْفُوعَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ اتَّفَقَ(2/44)
الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ . فَهَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفُونَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَنْتَزِعُ مِنْهُمْ وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُتْرَكَ شَيْءٌ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فَتَحُوهَا عَنْوَةً وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ : مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ : مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّ أَرْضَ مِصْرَ كَانَتْ خراجية وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ؛ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنَعَتْ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِرْهَمَهَا وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ } لَكِنْ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا كَثُرُوا نَقَلُوا أَرْضَ السَّوَادِ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ مِنْ الْمُخَارَجَةِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ وَلِذَلِكَ نَقَلُوا مِصْرَ إلَى أَنْ اسْتَغَلُّوهَا هُمْ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْيَوْمَ وَلِذَلِكَ رُفِعَ عَنْهَا الْخَرَاجُ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تُجْعَلَ حَبْسًا عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ يَسْتَغِلُّونَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ . فَعُلِمَ أَنَّ انْتِزَاعَ هَذِهِ الْأَرْضِينَ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا بِكَثْرَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ فِي الدَّوْلَةِ الرافضية وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَبِسَبَبِ كَثْرَةِ الْكُتَّابِ وَالدَّوَاوِينِ مِنْهُمْ وَمِنْ الْمُنَافِقِينَ : يَتَصَرَّفُونَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمِثْلِ هَذَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ عَمَلِ الدَّوَاوِينِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلِهَذَا يُوجَدُ لِمَعَابِدِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ الْأَحْبَاسِ مَا لَا يُوجَدُ لِمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِنِهِمْ : لِلْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ ؛ مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ خراجية بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَمَنْ لَبِسُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِذَا عَرَفَ وُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْحَالَ عَمِلُوا فِي ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
============
أخذ الجزية من اليهود (1)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ مَعَهُ كِتَابٌ يَدَّعِي أَنَّهُ خَطُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَمْتَنِعُ بِهِ عَنْ الْجِزْيَةِ وَلَهُ مُدَّةٌ لَمْ يُعْطَهَا .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : كَلُّ كِتَابٍ تَدَّعِيهِ الْيَهُودُ بِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَذِبٌ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ مَعَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ الْمَاضِيَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
============
إراقة خمور أهل الذمة (2)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا اتَّخَذُوا خُمُورًا . هَلْ يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ إرَاقَتُهَا عَلَيْهِمْ وَكَسْرُ أَوَانِيهِمْ وَهَجْمُ بُيُوتِهِمْ لِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ هَجْمُ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ إذَا عُلِمَ أَوْ ظُنَّ أَنَّ بِهَا خَمْرًا ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِتُرَاقَ وَتُكْسَرَ الْأَوَانِي وَيُتَجَسَّسَ عَلَى مَوَاضِعِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْفَاعِلِ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ إذَا كَانَ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ بِذَلِكَ ؟ أَمْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ دُونَ الْإِكْرَاهِ ؟ . وَإِذَا خَشِيَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وُقُوعُ مَحْذُورٍ بِهِ فَهَلْ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 448)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 449)(2/45)
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَقَرُّوا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْمُسْلِمَ خَمْرًا وَلَا يَهْدُونَهَا إلَيْهِ وَلَا يُعَاوِنُوهُ عَلَيْهَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْصِرُوهَا لِمُسْلِمِ وَلَا يَحْمِلُوهَا لَهُ وَلَا يَبِيعُوهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا هُوَ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ الَّتِي تُرْدِعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ . وَهَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ وَتُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِجَاهِ أَحَدٍ مِمَّنْ يَخْدِمُونَهُ أَوْ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْهُمْ . أَوْ غَيْرِهِمَا عَلَى إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ ؛ بَلْ كَمَا تَجِبُ عُقُوبَتُهُمْ تَجِبُ عُقُوبَةُ مَنْ يُعِينُهُمْ بِجَاهِهِ أَوْ غَيْرِ جَاهِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَإِذَا شَرِبَ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ . فَهَلْ يُحَدُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ لِلْفُقَهَاءِ . قِيلَ : يُحَدُّ . وَقِيلَ : لَا يُحَدُّ . وَقِيلَ يُحَدُّ إنْ سَكِرَ . وَهَذَا إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا مَا يَخْتَفُونَ بِهِ فِي بُيُوتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْمُسْلِمِينَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ . وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ عَنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ أَوْ مُعَاوَنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا أَوْ بَيْعِهَا وَهَدْيِهَا لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا بِإِرَاقَتِهَا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ ؛ مَعَ مَا يُعَاقَبُونَ بِهِ ؛ إمَّا بِمَا يُعَاقَبُ بِهِ نَاقِضُ الْعَهْدِ وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ .
==============
حكم بيع أهل الذمة الخمر للمسلمين (1)
وَسُئِلَ عَنْ الْيَهُودِ بِمِصْرِ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَبِيعُوهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَمَتَى فَعَلُوا ذَلِكَ حَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . فَمَاذَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ ؟ وَهَلْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ أَمْ لَا ؟ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تُرْدِعُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُمْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَحَلَّ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ الْمُحَارِبِينَ الْكُفَّارِ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ الَّتِي قَبَضُوهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرُدُّهَا إلَى مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْخَمْرَ فَإِنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَمْنُوعِينَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَشِرَائِهَا وَبَيْعِهَا فَاشْتَرَوْهَا كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ بَاعَ خَمْرًا لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ . فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَخَذَ الْخَمْرَ فَشَرِبَهَا لَمْ يُجْمَعْ لَهُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ؛ بَلْ يُؤْخَذُ هَذَا الْمَالُ فَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قِيلَ فِي مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ إذَا كَانَ الْعَاصِي قَدْ اسْتَوْفَى الْعِوَضَ . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاع ذِمِّيٌّ لِذِمِّيِّ خَمْرًا سِرًّا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا تَقَابَضَا جَازَ أَنْ يُعَامِلَهُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ أَثْمَانَهَا ؛ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَرِّبَ الْمَكَانَ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْخَمْرُ كَالْحَانُوتِ وَالدَّارِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَيْثُ أَخْرَبَ حَانُوتَ رُوَيْشِدٍ الثَّقَفِيِّ وَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ فُوَيْسِقٌ لَسْت بِرُوَيْشِدِ وَكَمَا أَحْرَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَرْيَةً كَانَ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
=============
حكم شتم الكتابي لمسلم (2)
وَسُئِلَ عَنْ يَهُودِيٍّ قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ الْكِلَابُ أَبْنَاءُ الْكِلَابِ يَتَعَصَّبُونَ عَلَيْنَا وَكَانَ قَدْ خَاصَمَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 450)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 451)(2/46)
فَأَجَابَ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ أَرَادَ بِشَتْمِهِ طَائِفَةً مُعَيَّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَزْجُرُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ وَيَجِبُ قَتْلُهُ .
=============
تحريم الحيل (1)
وَدَلَائِلُ تَحْرِيمِ الْحِيَلِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاعْتِبَارِ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَا مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ دَلِيلًا فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُهَا كَيَمِينِ أَيُّوبَ وَحَدِيثِ تَمْرِ خَيْبَرَ وَمَعَارِيضِ السَّلَفِ ، وَذَكَرْنَا جَوَابَ ذَلِكَ . وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ : " مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ " وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يُبْطِلُ الْبَيْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ . وَقَدْ رَوَى أَحْمَد وَأَبُو داود بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرَاجَعُوا دِينَكُمْ } . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَآ فَإِنَّهُمَا يُبْطِلَانِ الْبَيْعَ الثَّانِيَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ : فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا . وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ . وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدِّرْهَمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا . فَهَذَا يُسَمَّى : " التَّوَرُّقَ " . فَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ ؛ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ أَوْ الْقِنْيَةُ فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِينَ لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا . وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَّا الْغَرَرُ : فَأَشَدُّ النَّاسِ فِيهِ قَوْلًا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ مِثْلَ الْحَبِّ وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانِ : كَالْبَاقِلَاءِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ عِنْدَهُ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ أَخْضَرَ فَخَرَجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي سَعِيدٍ الإصطخري ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلِهِ . فَقَالَ : إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْته مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا ، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ . وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ وَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ . حَتَّى مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَغَيْرِ صِفَةٍ مُتَأَوِّلًا أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ حَتَّى اشْتَرَطَ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ - كَدَيْنِ السَّلَمِ - مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ . وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ . وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ ؛ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : مَا اشْتَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 456)(2/47)
وَدَيْنًا ؛ وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يُجَوِّزُ مِثْلَهُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا أَوْ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ أُخَرُ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوَهُ فِي الْقَشِرَيْنِ وَيُجَوِّزُ إجَارَةَ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْرِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ . وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ يَرَى وَقْفَ الْعُقُودِ ؛ لَكِنَّهُ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا . وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوِكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْوِكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَاطِلَةً فَمَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا . فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ لَكِنَّ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةَ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَالِكٌ : فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا . فَيُجَوِّزُ بَيْعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ أَوْ يَقِلّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ حَتَّى يُجَوِّزَ بَيْعَ المقاثي جُمْلَةً وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَحْمَد قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا أَوْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ كَأَبِي الْخَطَّابِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ . فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يُجَوِّزُ فِي الْمَبِيعِ كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ : وَيُجَوِّزُ - عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ - فِي فِدْيَةِ الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَا يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَهْرِ كَقَوْلِ مَالِكٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي مَذْهَبِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَنَحْوِهِ إلَّا إذَا قُلِعَ . وَقَالَ : هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ كَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ : أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِ إلَّا لَقْطَةً لَقْطَةً وَلَا يُبَاعُ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إلَّا مَا ظَهَرَ دُونَ مَا بَطَنَ وَلَا تُبَاعُ الرُّطَبَةُ إلَّا جِزَّةً جِزَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ ، وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَأَكْثَرُهُمْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مُغَيَّبٍ كَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ : إذَا كَانَ مِمَّا يَقْصِدُ فُرُوعَهُ وَأُصُولَهُ كَالْبَصَلِ الْمَبِيعِ أَخْضَرَ وَالْكُرَّاثِ وَالْفُجْلِ أَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ فُرُوعَهُ . فَالْأَوْلَى جَوَازُ بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظَاهِرٌ . فَأَشْبَهَ الشَّجَرَ وَالْحِيطَانَ وَيَدْخُلُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْمَبِيعِ تَبَعًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أُصُولَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الْأَقَلِّ التَّابِعُ . وَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ . فَإِنَّ أَبَا داود قَالَ . قُلْت لِأَحْمَدَ : بَيْعُ الْجَزَرِ فِي الْأَرْضِ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مَا قُلِعَ مِنْهُ . هَذَا الْغَرَرُ شَيْءٌ لَيْسَ يَرَاهُ . كَيْفَ يَشْتَرِيهِ ؟ فَعَلَّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ . فَقَدْ يُقَالُ : إنْ لَمْ يُرَ كُلَّهُ لَمْ يُبَعْ . وَقَدْ يُقَالُ : رُؤْيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ تَكْفِي إذَا دَلَّتْ عَلَى الْبَاقِي كَرُؤْيَةِ وَجْهِ الْعَبْدِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي المقاثي إذَا بِيعَتْ بِأُصُولِهَا . كَمَا هُوَ الْعَادَةُ غَالِبًا ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ أُصُولِ الْخَضْرَاوَات . كَبَيْعِ الشَّجَرِ وَإِذَا بَاعَ الشَّجَرَةَ وَعَلَيْهَا الثَّمَرُ(2/48)
لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ جَازَ ، فَكَذَلِكَ هَذَا . وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ : لَا يَجُوزُ بِحَالِ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ وَمَنْصُوصُهُ . وَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَمَّا يَعْتَادُهُ النَّاسُ وَلَيْسَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً فِي الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ أَنْ يُبَاعَ دُونَ عُرُوقِهِ . وَالْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ ؛ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ فِي الشَّجَرِ الَّذِي عَلَيْهِ ثَمَرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ مَقْصُودَهُ الْأَعْظَمُ جَازَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الثَّمَرَةَ فَاشْتَرَى الْأَصْلَ مَعَهَا حِيلَةً : لَمْ يَجُزْ . وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ هِيَ الْمَقْصُودَ : جَازَ دُخُولُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعَهَا تَبَعًا . وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الثَّمَرَ وَالزَّرْعَ فَاشْتَرَى الْأَرْضَ لِذَلِكَ : لَمْ يَجُزْ . وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ المقاثي وَالْمَبَاطِخِ إنَّمَا هُوَ الْخَضْرَاوَات دُونَ الْأُصُولِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا إلَّا قِيمَةٌ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُضَرِ . وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : كَمَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ بِنَاءً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَوْلِنَا : لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَمْ يَرَهُ . فَإِذَا صَحَّحْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ فَهَذَا مِنْ الْغَائِبِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ إلْحَاقًا لَهَا بِلُبِّ الْجَوْزِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الْخِبْرَةِ يَسْتَدِلُّونَ بِرُؤْيَةِ وَرِقِ هَذِهِ الْمَدْفُونَاتِ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ أَجْوَدَ مِمَّا يَعْلَمُونَ الْعَبْدَ بِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ . وَالْمَرْجِعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَى الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا يُعْرَفُ غَيْرُهَا مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَوْلَى . الثَّانِي : أَنَّ هَذَا مِمَّا تَمَسُّ حَاجَةُ النَّاسِ إلَى بَيْعِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُبَعْ حَتَّى يُقْلَعَ حَصَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ مُبَاشَرَةُ الْقَلْعِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ . وَإِنْ قَلَعُوهُ جُمْلَةً فَسَدَ بِالْقَلْعِ . فَبَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَقَاءِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَنَحْوِهِمَا فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ . وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ يُجَوِّزُونَ الْعَرَايَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ لِحَاجَةِ الْمُشْتَرِي إلَى أَكْلِ الرُّطَبِ أَوْ الْبَائِعِ إلَى أَكْلِ التَّمْرِ ، فَحَاجَةُ الْبَائِعِ هُنَا أَوْكَدُ بِكَثِيرِ . وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ : جَوَازُ بَيْعِ المقاثي بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا . وَإِنْ اشْتَمَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْعٍ مَعْدُومٍ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا كَمَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِ نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ : أَنْ يُبَاعَ جَمِيعُ ثَمَرِهَا . وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا لَمْ يَصْلُحْ بَعْدُ . وَغَايَةُ مَا اعْتَذَرُوا بِهِ عَنْ خُرُوجِ هَذَا مِنْ الْقِيَاسِ أَنْ قَالُوا : إنَّهُ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ الْبَيْعِ لِذَلِكَ مِنْ نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ الْبُسْرَةَ بِالْعَقْدِ اخْتَلَطَتْ بِغَيْرِهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا . وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي المقثاة . وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلْمَوْجُودِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ . وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ وَيَسْتَحِقُّ إبْقَاءَهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ بِالْعَقْدِ لَمَّا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ تَوْفِيَةُ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ ؛ لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ .
=============
حكم شراء الأرض الخراجية (1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 482)(2/49)
وَقَالَ : فَصْلٌ : الَّذِي يُكْرَهُ مِنْ شِرَاءِ الْأَرْضِ الخراجية إنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهَا فَيَرْفَعُ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَذَلِكَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانُوا أَحْيَانًا يَقْطَعُونَ بَعْضَهَا لِبَعْضِ الْمُحَارِبِينَ إقْطَاعَ تَمْلِيكٍ ؛ لَا إقْطَاعَ اسْتِغْلَالٍ كَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ ، فَهَذَا الِانْتِفَاعُ وَالْإِقْطَاعُ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْخُلَفَاءُ أَخَذُوهُ مِنْ الْغُزَاةِ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ دَائِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قُطِعَتْ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ صَارَ ظُلْمًا لَهُمْ ؛ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَنَى فِي مِنًى وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ . فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَرَاجِ مَا عَلَى الْبَائِعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ إيَّاهَا بِلَا حَقٍّ وَكَمَا لَوْ وَرِثَهَا ؛ فَإِنَّ الْإِرْثَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ : أَنَّ الْوَارِثَ أَحَقُّ بِهَا بِالْخَرَاجِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إعْطَاءَهَا لِمَنْ أَعْطَيْته بِالْخَرَاجِ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْمُقَسَّطِ الدَّائِمِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إجَارَةٌ بِالْأُجْرَةِ الْمُقَسَّطَةِ الْمُؤَبَّدَةِ الْمُدَّةِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُنَا وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَكِلَا الْقَائِلِينَ خَرَجَ فِي قَوْلِهِ عَنْ قِيَاسِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهَا مُعَامَلَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا ذَاتُ شَبَهٍ مِنْ الْبَيْعِ وَمِنْ الْإِجَارَةِ تُشْبِهُ فِي خُرُوجِهَا عَنْهُمَا الْمُصَالَحَةَ عَلَى مَنَافِعِ مَكَانِهِ لِلِاسْتِطْرَاقِ أَوْ إلْقَاءِ الزُّبَالَةِ أَوْ وَضْعِ الْجِذْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِعِوَضٍ نَاجِزٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الْعَيْنَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهَا وَإِنَّمَا مَلَكَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ مُؤَبَّدَةً . وَكَذَلِكَ وَضْعُ الْخَرَاجِ لَوْ كَانَ إجَارَةً مَحْضَةً وَكَانَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ قَدْ تَرَكُوا الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَكْرُوهَا ؛ لَكَانَ يَنْبَغِي إكْرَاءُ الْمَسَاكِنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا لِلْمُسْلِمِينَ إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً . وَلَكَانَ قَدْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ يُسَاوِي أَضْعَافَ الْخَرَاجِ . وَلَكَانَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ الْآخِذُ إلَّا مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الشَّجَرِ الْقَائِمَةِ مِنْ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا غِرَاسٌ . وَلَكَانَ دَفَعَهَا مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً - كَمَا فَعَلَ الْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ فِي أَرْضِ السَّوَادِ - أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ ؛ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ إلَّا أَنَّ مُلَّاكَ خَيْبَرَ مُعَيَّنُونَ وَمُلَّاكَ أَرْضِ الْعَنْوَةِ الْعُمْرَى مُطْلَقُونَ وَإِلَّا فَيَجُوزُ كَذَلِكَ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَجُوزُ لَهُ فِي الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ أَنْ يُعَامَلَ مُسَاقَاةً وَمُزَارَعَةً . وَأَمَّا بَيْعُهَا : فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَاعَ الْمَسَاكِنَ أَيْضًا . وَلَا بَيْعَ يَكُونُ الثَّمَنُ مُؤَبَّدًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَالْمُسْتَخْرَجُ أَصْلٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَلَا يُقَاسُ بِغَيْرِهِ - فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنَعَتْ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا وَمَنَعَتْ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا } . وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ عَلَى فِعْلِهِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْخَرَاجِ فِي قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } فَإِنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ أَضَافَ الْقُرَى إلَيْهِمْ فَعُلِمَ اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ أَخَذَهُ ذِمِّيٌّ مِنْ الذِّمِّيِّ الْأَوَّلِ بِالْخَرَاجِ وَعَاوَضَهُ عَلَى ذَلِكَ عِوَضًا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَصْلًا فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ : إنَّهُ وَقْفٌ فَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ بِهَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا ؛ بَلْ مُسْتَحَقُّ أَهْلِ الْوَقْفِ بَاقٍ كَمَا كَانَ وَبَيْعُ الْوَقْفِ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِإِزَالَةِ حَقِّ أَهْلِ الْوَقْفِ . وَهَذَا لَا يَزُولُ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إجَارَةِ أَرْضِ الْوَقْفِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : أكريتك هَذِهِ الْأَرْضَ بِمَا عَلَيَّ مِنْ الْخَرَاجِ وَبِالزِّيَادَةِ الَّتِي تُعَجِّلُهَا إلَيَّ ؛ وَلِهَذَا يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَةِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ؛ وَالْوَقْفُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ فَإِذَا جَازَ انْتِقَالُهُ بِالْإِرْثِ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ - وَالْهِبَةُ مِثْلُهُ - فَكَذَلِكَ الْمُعَاوَضَةُ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ(2/50)
بَيْعًا أَوْ إجَارَةً . وَلِهَذَا جَوَّزَ أَحْمَد إصْدَاقَ الْأَرْضِ الخراجية وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَأُجْرَةً . وَمَا كَانَ ثَمَنًا كَانَ مُثَمَّنًا . فَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ . يَبْقَى إذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ : هَلْ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصَّغَارِ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْجِهَادِ بِالْحِرَاثَةِ . فَهَذِهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ - غَيْرُ كَوْنِهِ وَقْفًا - تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ الْيَهُودَ عَلَى خَيْبَرَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُعَمِّرُونَهَا } فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الخراجية إذَا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ كَانَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا بِالْخَرَاجِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَبْقَوْا فُقَرَاءَ مَحَاوِيجَ وَالْكُفَّارُ يَسْتَغِلُّونَ الْأَرْضَ بِالْخَرَاجِ الْيَسِيرِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا زَمَنَ عُمَرَ قَلِيلًا وَأَهْلُ الذِّمَّةِ كَثِيرًا . وَقَدْ يُعْكَسُ الْأَمْرُ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَهُمْ عَلَى خَيْبَرَ ثُمَّ عَمَّرَهَا الْمُسْلِمُونَ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَتَضَرَّرُوا بِبَقَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ فَكَانَ الْمَعْنَى ضَرَرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَاكْتِفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَى الْأَرْضِ الخراجية ؛ وَتَضَرَّرُوا بِبَقَائِهَا فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرَأَى مَنْ احْتَاجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاوِضَ الذِّمِّيَّ عَنْهَا وَيَقُومَ مَقَامَهُ فِيهَا . فَإِنْ كَانَ الْمُؤَدَّى أُجْرَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِاسْتِئْجَارِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَتِهَا وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا فَهُوَ أَحَقُّ بِاشْتِرَائِهَا وَإِنْ كَانَ عِوَضًا ثَالِثًا فَهُوَ بِهِ أَحَقُّ أَيْضًا . وَمَتَى كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَبْقَ صَغَارٌ وَلَا جِزْيَةٌ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ صَغَارٌ وَجِزْيَةٌ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ الَّذِي هُوَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى بِيَدِهِ مُؤَدِّيًا لِخَرَاجِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ جِزْيَةُ جُمْجُمَتِهِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . وَإِذَا جَازَ أَنْ تَبْقَى بِيَدِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى مُسْلِمٍ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ بِحَالِ فَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ كَوْنَهَا صَغَارًا لَمْ يُجَامِعْ الْإِسْلَامَ كَجِزْيَةِ الرَّأْسِ . وَلَا يُقَالُ : هِيَ كَالرِّقِّ تَمْنَعُهُ الْإِسْلَامَ ابْتِدَاءً وَلَا تَمْنَعُ دَوَامَهُ لِأَنَّ الرِّقَّ قَهَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ لَمْ نعاوضهم عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرَّأْسِ لَا نُمَكِّنُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ بِالْأَرْضِ الْإِسْلَامِيَّةِ إلَّا بِهَا فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الرِّقِّ لِثُبُوتِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُسْتَرَقِّ . وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِرِضَى الْمُخَارَجِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ الْأَرْضَ مِنَّا لَمْ نَدْفَعْهَا إلَيْهِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا أَهْلَ خَيْبَرَ سَوَاءٌ : هُنَاكَ كَانَ الْعِوَضُ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ وَهُنَا الْعِوَضُ مُسَمًّى مَعْلُومٌ . وَهُنَاكَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إلَّا إذَا زَرَعُوا وَهُنَا يَسْتَحِقُّ إذَا أَمْكَنَهُمْ الزَّرْعُ . فَنَظِيرُهُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُزَارَعَةِ يُعَامِلُ غَيْرَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْجُزْءِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ؛ إذْ أَنَّ الْمَضَارِبَ يَدْفَعُ الْمَالَ مُضَارَبَةً لَكِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَوَانِعُ مِنْ كَوْنِهَا وَقْفًا يُنْظَرُ فِيهَا . أَمَّا جِهَةُ الْوَقْفِ فَلَا يَتَوَجَّهُ كَوْنُهَا مَانِعًا عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا . وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَاثَةِ عَنْ الْجِهَادِ فَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأرضين ؛ عَشْرِيِّهَا وخراجيها وَذَاكَ شَيْءٌ آخَرُ .
=============
حكم المكس (1)
وَسُئِلَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ مَدِينَةٍ لَا يُذْبَحُ فِيهَا شَاةٌ إلَّا وَيَأْخُذُ الْمُكَّاسُ سِقْطَهَا وَرَأْسَهَا وكوارعها مَكْسًا ثُمَّ يَضَعُ ذَلِكَ وَيَبِيعُهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي الْمَدِينَةِ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ شِرَاءِ ذَلِكَ وَأَكْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ يُبَاعُ فِي الْمَدِينَةِ رُءُوسٌ وكوارع وَأَسْقَاطٌ إلَّا عَلَى هَذَا الْحُكْمِ وَلَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ . فَهَلْ يَحْرُمُ شِرَاءُ ذَلِكَ وَأَكْلُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 12)(2/51)
فَأَجَابَ : هَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا يَأْخُذُهُ الْمُلُوكُ مِنْ الْكُلَفِ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا عَلَى النَّاسِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ أَصْحَابِ الْغَنَمِ الَّذِينَ يَبِيعُونَهَا لِلْقَصَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْسِبُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ السَّوَاقِطِ فَيُسْقِطُ مِنْ الثَّمَنِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَهَكَذَا جَمِيعُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْكُلَفِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذِهِ الْكُلَفُ دَخَلَهَا التَّأْوِيلُ وَالشُّبْهَةُ . وَمِنْهَا مَا هُوَ ظُلْمٌ مَحْضٌ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهِ وَرَدُّهُ إلَيْهِمْ فَوَجَبَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَوِلَايَةُ بَيْعِهَا وَصَرْفِهَا لَهُمْ . فَالْمُشْتَرِي لِذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا أَعْطَاهُمْ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاءِ الْمَغْصُوبِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا تَأْوِيلَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ وِلَايَةُ بَيْعِهِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا يَفْسُقُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ . وَفِي الْمَنْعِ مِنْ شِرَائِهَا إضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَإِفْسَادٌ لِلْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَظْلُومِ . وَالْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ ظَالِمَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَهُ إنْ شَاءَ وَبِنَظِيرِ مَالِهِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْ هَذَا مِنْ التَّوَرُّعِ عَنْ الشُّبُهَاتِ وَلَا نَحْكُمُ بِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ وَمَنْ اشْتَرَاهَا وَأَكَلَهَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا لَا تَأْوِيلَ فِيهِ . فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ أَفْتَوْا طَائِفَةً مِنْ الْمُلُوكِ بِجَوَازِ وَضْعِ أَصْلِ هَذِهِ الْوَظَائِفِ . كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي الجويني فِي كِتَابِهِ " غِيَاثِ الْأُمَمِ " وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ . وَمَا قُبِضَ بِتَأْوِيلٍ فَإِنَّهُ يَسُوغُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِمَّنْ قَبَضَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُحَرَّمٌ كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاعَ خَمْرًا وَأَخَذَ ثَمَنَهُ جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا . وَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ أَخَذَ خَمْرًا فِي الْجِزْيَةِ وَبَاعَ الْخَمْرَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ . وَقَالَ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا . وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ . وَهَكَذَا مَنْ عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا فِي مَذْهَبِهِ وَقَبَضَ الْمَالَ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَى جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْوَظَائِفَ قَدْ فَعَلَهَا مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا ؛ لِإِفْتَاءِ بَعْضِ النَّاسِ لَهُ بِذَلِكَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ اعْتِقَادَ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ وَصَرْفَهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ جَائِزٌ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ الْمَالَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ أَصْلِ الْقَبْضِ . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ فِيمَا فَعَلُوهُ تَأْوِيلًا سَائِغًا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا قَبَضُوهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَجُوزُ مَا فَعَلُوهُ مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ الزَّكَاةِ قِيمَتَهَا فَيَشْتَرِي مِنْهَا وَمِثْلَ أَنْ يُصَادِرَ بَعْضَ الْعُمَّالِ مُصَادَرَةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا أَوْ مِثْلَ أَنْ يَرَى الْجِهَادَ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ الْوَظَائِفِ هُوَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُهُ وَصَرْفُهُ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ خَطَأً وَلَكِنَّهَا مِمَّا قَدْ سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . فَإِذَا كَانَ قَبَضَ وَلِيُّ الْأَمْرِ الْمَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَازَ شِرَاؤُهُ مِنْهُ وَجَازَ شِرَاؤُهُ مِنْ نَائِبِهِ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يُسَوِّغُ قَبْضَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَظْلِمْ صَاحِبَهُ فَإِنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِهِ مِمَّنْ قَبَضَهُ قَبْضًا يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ . وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَشِرَاؤُهُ حَلَالٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلَيْسَ مِنْ الشُّبُهَاتِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْكُفَّارِ مَا قَبَضُوا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا - وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ - فَلِأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُسْلِمِ مَا قَبَضَهُ بِعَقْدٍ يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ - وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ مُحَرَّمًا - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ تَأْوِيلُهُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ(2/52)
الْإِسْلَامِ بَاطِلٌ قَطْعًا بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْمُسْلِمِ . وَلِهَذَا إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا وَقَدْ قَبَضُوا أَمْوَالًا بِعُقُودٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا : كَالرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ . كَمَا لَا تَحْرُمُ مُعَامَلَتُهُمْ فِيهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } . وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا قَبَضُوهُ . وَهَكَذَا مَنْ كَانَ قَدْ عَامَلَ مُعَامَلَاتٍ رِبَوِيَّةً يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ وَكَانَتْ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا قَبَضَهُ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُلُوكُ ظُلْمًا مَحْضًا : إذَا اخْتَلَطَ بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ فَمَا عُرِفَ أَنَّهُ قُبِضَ ظُلْمًا وَلَمْ يُعْرَفْ صَاحِبُهُ : صُرِفَ فِي الْمَصَالِحِ وَمَا قُبِضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ حَلَالُهُ بِحَرَامِهِ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ حَرَامٌ ؛ فَإِنَّ الِاخْتِلَاطَ إذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ الْمَالُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ وَصَاحِبُهُ يَسْتَحِقُّ عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . فَمَنْ قَبَضَ ثَمَنَ مَبِيعٍ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
=============
هل أكل الحلال اليوم متعذر ؟(1)
وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَمَنْ عَمَّتْ بَرَكَاتُهُ أَهْلَ الْعِرَاقَيْنِ وَالشَّامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تيمية الحراني ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ مَتَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَاتِهِ كَانَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ . عَنْ رَجُلٍ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ قَالَ : أَكْلُ الْحَلَالِ مُتَعَذَّرٌ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ . فَقِيلَ لَهُ : لِمَ ذَلِكَ ؟ فَذَكَرَ : إنَّ وَقْعَةَ الْمَنْصُورَةِ لَمْ تُقَسَّمْ الْغَنَائِمُ فِيهَا وَاخْتَلَطَتْ الْأَمْوَالُ بِالْمُعَامَلَاتِ بِهَا . فَقِيلَ لَهُ : إنَّ الرَّجُلَ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُبَاحَةِ وَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ حَلَالٌ . فَذَكَرَ إنَّ الدِّرْهَمَ فِي نَفْسِهِ حَرَامٌ . فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ قَبِلَ الدِّرْهَمُ التَّغَيُّرَ أَوَّلًا فَصَارَ حَرَامًا بِالسَّبَبِ الْمَمْنُوعِ وَلَمْ يَقْبَلْ التَّغَيُّرَ فَيَكُونُ حَلَالًا بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ ؟ ؟
الْجَوَابُ
" الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا عَامَلَ مُعَامَلَةً يَعْتَقِدُ هُوَ جَوَازَهَا وَقَبَضَ الْمَالَ جَازَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ . وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ جَوَازَ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ عُمَّالِهِ يَأْخُذُ خَمْرًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الْجِزْيَةِ فَقَالَ قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } . ثُمَّ قَالَ عُمَرُ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ أَثْمَانَهَا . فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعُوا بِهَا الْخَمْرَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ الْكُفَّارَ إذَا تَعَامَلُوا بَيْنَهُمْ بِمُعَامَلَاتٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهَا وَتَقَابَضُوا الْأَمْوَالَ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالُ لَهُمْ حَلَالًا وَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا أَقْرَرْنَاهَا فِي أَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ فِي الذِّمَمِ مِنْ الرِّبَا وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ذَلِكَ .
================
قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (2)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 39)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 74)(2/53)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ : " قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ " وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ وَيَعْلَمُهُ أَوْ لَا يَعْتَقِدُ الْفَسَادَ . فَالْأَوَّلُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ؛ حَيْثُ قَبَضَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ؛ لَكِنَّهُ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَكَوْنِ الْقَبْضَ عَنْ التَّرَاضِي هَلْ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَا يَتَصَرَّفُ ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي الْمِلْكِ . هَلْ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ؟ . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَاقِدُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ الْعَقْدِ : مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا يَتَعَاقَدُونَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ مِثْلُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا وَالْخِنْزِيرِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَاكُمِ إلَيْنَا أُمْضِيَتْ لَهُمْ وَيَمْلِكُونَ مَا قَبَضُوهُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ . وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا قَبْلَ الْقَبْضِ فُسِخَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ بَدَلُهُ إنْ كَانَ فَائِتًا . وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَعَ مَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ رُءُوسَ الْأَمْوَالِ . فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ أَمَّا إذَا طَرَأَ الْإِسْلَامُ وَبَيْنَهُمَا عَقْدُ رِبًا فَيَنْفَسِخُ وَإِذَا انْفَسَخَ مِنْ حِينِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ مَا أَعْطَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ الرِّبَوِيَّةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَذَلِكَ الْعَقْدُ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْقَبْضَ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ لَكُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ رَدَّهُ وَحَاسَبْنَاهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ . وَهَكَذَا كُلُّ عَقْدٍ اعْتَقَدَ الْمُسْلِمُ صِحَّتَهُ بِتَأْوِيلٍ مِنْ اجْتِهَادٍ أَوْ تَقْرِيرٍ : مِثْلُ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُبِيحُهَا مُجَوِّزُو الْحِيَلِ . وَمِثْلُ بَيْعِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ . وَمِثْلُ بُيُوعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ بَعْضَهَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ إذَا حَصَلَ فِيهَا التَّقَابُضُ مَعَ اعْتِقَادِ الصِّحَّةِ لَمْ تُنْقَضْ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لَا بِحُكْمِ وَلَا بِرُجُوعٍ عَنْ ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ . وَأَمَّا إذَا تَحَاكَمَ الْمُتَعَاقِدَانِ إلَى مَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَهَا قَبْلَ التَّقَابُضِ أَوْ اسْتَفْتَيَاهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُمَا الْخَطَأُ فَرَجَعَ عَنْ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ فَمَا كَانَ قَدْ قُبِضَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ أُمْضِيَ . وَإِذَا كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الذِّمَّةِ رَأْسُ الْمَالِ وَزِيَادَةٌ رِبَوِيَّةٌ : أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ وَرَجَعَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ . وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَابِضِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَوْلَى لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ بَاطِلٌ قَطْعًا .
=============
حكم بيوع العينة (1)
وَسُئِلَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ " الْعِينَةِ " : هَلْ هِيَ جَائِزَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا بَعْضَ مَنْ رَأَى جَوَازَهَا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِدِينِهِ وَيَتَّبِعَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ وَمَنْ تَابَ مِنْ " مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ " الْمَذْكُورَةِ : هَلْ يَحِلُّ لَهُ مَا رَبِحَهُ بِطَرِيقِهَا ؟ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الرِّبْحِ وَرَدِّهِ إلَى أَرْبَابِهِ إنْ قَدَرَ أَوْ التَّصَدُّقُ بِذَلِكَ ؟ فَإِنْ عَادَ إلَيْهَا مُقَلِّدًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهَا : هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ مَا تَقُولُونَ فِي " مَسْأَلَةِ الثُّلَاثِيَّةِ " ؟ وَ " مَسْأَلَةِ التَّوَرُّقِ " ؟
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 92)(2/54)
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُ الطَّالِبِ أَخْذَ دَرَاهِمَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إلَى أَجَلٍ وَالْمُعْطِي يَقْصِدُ إعْطَاءَهُ ذَلِكَ . فَهَذَا رِبًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِنْ تَحَيَّلَا عَلَى ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ؛ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ قَدْ قَصَدَا الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَحْرِيمِهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ الرِّبَا الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَأْتِيه عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَقُولُ لَهُ : إمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَإِنْ قَضَاهُ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ الْمَالَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ إذَا تَابُوا أَنْ لَا يُطَالِبُوا إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ وَأَهْلُ الْحِيَلِ يَقْصِدُونَ مَا تَقْصِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ لَكِنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَلَهُمْ طُرُقٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعُهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ نَقْدًا كَمَا قَالَتْ أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ لِعَائِشَةَ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ وَابْتَعْته بِسِتِّمِائَةِ نَقْدًا . فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ : بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي فَقَرَأَتْ عَائِشَةُ : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } . وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : رَجُلٌ بَاعَ حَرِيرَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ : هَذَا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَاعُوا بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ . وَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْمُعَامَلَةِ الرِّبَوِيَّةِ ثُمَّ أَتَيَا إلَى صَاحِبِ حَانُوتٍ يَطْلُبَانِ مِنْهُ مَتَاعًا بِقَدْرِ الْمَالِ فَاشْتَرَاهُ الْمُعْطِي ثُمَّ بَاعَهُ الْآخِذُ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى صَاحِبِ الْحَانُوتِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَيَكُونُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا بِجُعْلِ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ إذَا ضَمَّا إلَى الْقَرْضِ مُحَابَاةً فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةً وَيَبِيعَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ أَوْ يُؤَجِّرُهُ حَانُوتًا يُسَاوِي كُرَاهُ مِائَةً بِخَمْسِينَ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ الرِّبَا وَمِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَفَ - وَهُوَ الْقَرْضُ - مَعَ الْبَيْعِ . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الشِّرَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ مَنْ يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ يَقْصِدُ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهَا إمَّا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَإِمَّا فِي غَيْرِهِ فَهَذِهِ هِيَ التِّجَارَةُ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ . وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودُهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ دَرَاهِمَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا . وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ قَرْضًا أَوْ سَلَمًا فَيَشْتَرِي سِلْعَةً لِيَبِيعَهَا وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا فَهَذَا هُوَ " التَّوَرُّقُ " وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : التَّوَرُّقُ أخية الرِّبَا(2/55)
. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَقْدِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدِ ثُمَّ بِعْت بِنَسِيئَةِ فَتِلْكَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ . وَمَعْنَى كَلَامِهِ إذَا اسْتَقَمْت ؛ إذَا قُوِّمَتْ . يَعْنِي : إذَا قُوِّمَتْ السِّلْعَةُ بِنَقْدِ وَابْتَعْتهَا إلَى أَجَلٍ فَإِنَّمَا مَقْصُودُك دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ هَكَذَا " التَّوَرُّقُ " يُقَوِّمُ السِّلْعَةَ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : أُرِيدُ أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَمْ تَرْبَحُ ؟ فَيَقُولُ : مِائَتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . أَوْ يَقُولُ : عِنْدِي هَذَا الْمَالُ يُسَاوِي أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ يُحْضِرَانِ مَنْ يُقَوِّمُهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَجَلٍ فَهَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ . وَمَا اكْتَسَبَهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ كَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَغَيْرِهَا وَكَانَ مُتَأَوِّلًا فِي ذَلِكَ وَمُعْتَقِدًا جَوَازَهُ لِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ أَوْ تَشَبُّهٍ بِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ لِأَنَّهُ أَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأَمْوَالُ الَّتِي كَسَبُوهَا وَقَبَضُوهَا لَيْسَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي أَفْتَاهُمْ أَخْطَأَ . فَإِنَّهُمْ قَبَضُوهَا بِتَأْوِيلِ فَلَيْسُوا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا اكْتَسَبَهُ الْكُفَّارُ بِتَأْوِيلٍ بَاطِلٍ . فَإِنَّ الْكُفَّارَ إذَا تَبَايَعُوا بَيْنَهُمْ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ ذَلِكَ وَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَعَامَلُوا بِرِبًا صَرِيحٍ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهُ وَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمُوا ثُمَّ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا : أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ وَجَازَ لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ لَهُمْ فِي الذِّمَمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ مَا قَبَضُوهُ . وَكَانَ بَعْضُ نُوَّابِ عُمَرَ بِالْعِرَاقِ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ خَمْرًا ثُمَّ يَبِيعُهَا لَهُمْ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَثْمَانَهَا . فَنَهَاهُمْ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَقَالَ وَلَوْ أَبِيعُهَا الْكُفَّارَ . فَإِذَا بَاعُوهَا هُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ وَقَبَضُوا أَثْمَانَهَا جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمَ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ } . بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ : أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُحَارِبِينَ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُحَارَبَةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَاهَدُوا فَإِنَّهَا تُقَرُّ بِأَيْدِيهِمْ كَمَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَالَ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ذَلِكَ وَقَدْ أَسْلَمُوا وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّمَا غَفَرَ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ صَارُوا مُكْتَسِبِينَ لَهَا بِمَا لَا يَأْثَمُونَ بِهِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ : فَالْمُسْلِمُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي يَعْتَقِدُ جَوَازَ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُؤَاجَرَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يُفْتِي فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا أُقْبِضَ بِهَا أَمْوَالٌ وَتَبَيَّنَ لِأَصْحَابِهَا فِيمَا بَعْدُ أَنْ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ : لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا قَبَضُوهُ بِالتَّأْوِيلِ كَمَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا اكْتَسَبُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ بِالتَّأْوِيلِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ فِيهِ ؛ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُعَامِلَ الذِّمِّيَّ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنْ عَلَيْهِمْ إذَا سَمِعُوا الْعِلْمَ أَنْ(2/56)
يَتُوبُوا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَلَا يَصْلُحَ أَنْ يُقَلِّدَ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ يُفْتِي بِالْجَوَازِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ وَالْآثَارِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي تَحْرِيمِهَا وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ شَاهِدَةٌ بِتَحْرِيمِهَا . وَالْمَفَاسِدُ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا مَوْجُودَةٌ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَعَ زِيَادَةِ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ وَتَعَبٍ وَعَذَابٍ . فَإِنَّهُمْ يُكَلِّفُونَ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَالصِّفَةِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا الْبَيْعُ لَيْسَ مَقْصُودًا لَهُمْ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَخْذُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ فَيَطُولُ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِهَا فَيَحْصُلُ لَهُمْ الرِّبَا فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الرِّبَا الْمُعَذَّبِينَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَقُلُوبُهُمْ تَشْهَدُ بِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَلْبِيسٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني : يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ صَنَّفْت كِتَابًا كَبِيرًا فِي هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
============
شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ (1)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ وَلِيَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَذْهَبُهُ لَا يُجَوِّزُ " شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ " فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ ؟ .
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 250)(2/57)
فَأَجَابَ : لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا مِنْ نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لَا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى " مُوَطَّئِهِ " فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ . وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الِاخْتِلَافِ فَقَالَ أَحْمَد : لَا تُسَمِّهِ " كِتَابَ الِاخْتِلَافِ " وَلَكِنْ سَمِّهِ " كِتَابَ السُّنَّةِ " . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُمْ رَجُلٌ كَانَ ضَالًّا وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ سَعَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ : لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لَا تُنْكَرُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛ وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَا إنْكَارَ عَلَيْهِ . وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ : مِثْلَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي بَيْعِ الباقلا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ وَفِي بَيْعِ المقاثي جُمْلَةً وَاحِدَةً وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالنِّسَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَالْقَهْقَهَةِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَتَنْجِيسِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ أَوْ الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ وَبَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرْكِ ذَلِكَ . وَالتَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ الِاكْتِفَاءِ بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ وَقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ وَالْمُسَاقَاةُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ جِنْسِ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ ؛ بَلْ الْمَانِعُونَ مِنْ هَذِهِ الْمُشَارَكَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَانِعِينَ مِنْ مُشَارَكَةِ الْأَبْدَانِ وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَإِلَى الْيَوْمِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ يَتَعَامَلُونَ بِالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ وَلَوْ مُنِعَ النَّاسُ مِثْلَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ لَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي لَا يَتِمُّ دِينُهُمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ إلَّا بِهَا . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُفْتِي بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ لَا تَجُوزُ ثُمَّ يُفَرِّعُ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهَا وَيَقُولُ : إنَّ النَّاسَ لَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِي فِي الْمَنْعِ ؛ وَلِهَذَا صَارَ صَاحِبَاهُ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهَا كَمَا اخْتَارَ ذَلِكَ مَنْ اخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
==============
بعض نواقض عقد الذمة (1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 7 / ص 437)(2/58)
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمٍ لَهُمْ عِنْدَ رَاهِبٍ فِي دَيْرٍ وَدِيعَةٌ وَادَّعَى عَدَمَهَا مَعَ مَا كَانَ فِي الدَّيْرِ ثُمَّ ظَهَرَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ مَا عَدِمَ مِنْ الدَّيْرِ قَدْ بَاعَهُ . فَهَلْ يُلْزَمُ بِالْمَالِ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ ؟ وَدَيْرُ هَذَا الرَّاهِبِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَلَهُ أَخٌ حَرَامِيٌّ فِي الْبَحْرِ يَأْوِي إلَيْهِ وَالْحَرَامِيَّةُ أَيْضًا . فَمَا يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ فِيهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَخَرَابُ دَيْرِهِ ؟ وَكَانَ أَهْلُ الْمَالِ طَلَبُوا مَالَهُمْ مِنْهُ فَلَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُمْ وَلَهُمْ شُهُودٌ نَصَارَى يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لِلْمُودِعِ لَمْ يَذْهَبْ فَادَّعَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ ذَهَبَتْ دُونَ مَالِهِ فَهُنَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ فَإِنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ادَّعَى أَنَّهَا ذَهَبَتْ دُونَ مَالِهِ . وَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ذَهَبَ جَمِيعُ الْمَالِ ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُهُ فَهُنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ أَوْكَدُ . فَإِذَا ادَّعَى الْمُودِعُ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ طَلَبَ الْوَدِيعَةَ مِنْهُ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ خَانَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَمْ تَتْلَفْ : كَانَ قَبُولُ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ أَقْوَى وَأَوْكَدَ ؛ بَلْ يَسْتَحِقُّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الَّذِي يَرْدَعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ الْكَذِبِ . وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقَبُولُ شَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ هُنَا أَوْكَدُ . وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِظُهُورِ رُجْحَانِ قَوْلِ الْمُدَّعِي فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُؤْوِي أَهْلَ الْحَرْبِ أَوْ يُعَاوِنُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ وَالْوَاجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ أَلَّا يَتْرُكُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ ضَرَرُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ يُنْقَلُ إلَيْهِمْ أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَحَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ .
============
تحويل البيعة لمسجد (1)
وَسُئِلَ عَنْ بَيْعَةٍ بِقَرْيَةِ وَلَهَا وَقْفٌ وَانْقَرَضَ النَّصَارَى بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ وَأَسْلَمَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ . فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ؟
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : نَعَمْ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا تِلْكَ أَحَدٌ جَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ بِبَرِّ الشَّامِ فَإِنَّهُ فَتْحُ عَنْوَةٍ .
=============
بيع المجهول(2)
وَسُئِلَ عَمَّنْ وَهَبَ أَوْ أَبَاحَ لِرَجُلِ شَيْئًا مَجْهُولًا : هَلْ يَصِحُّ ؟ كَمَا لَوْ أَبَاحَهُ ثَمَرَ شَجَرَةٍ فِي قَابِلَ ؟ وَلَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ هَلْ يَصِحُّ ؟
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 8 / ص 55)
(2) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 8 / ص 71)(2/59)
فَأَجَابَ : تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هِبَةِ الْمَجْهُولِ : فَجَوَّزَهُ مَالِكٍ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَهَبَ غَيْرَهُ مَا وَرِثَهُ مِنْ فُلَانٍ ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَثُلُثٌ هُوَ أَمْ رُبُعٌ ؟ وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَهُ حِصَّةً مِنْ دَارٍ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ هِبَةُ الْمَعْدُومِ كَأَنْ يَهَبَهُ ثَمَرَ شَجَرِهِ هَذَا الْعَامَ أَوْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ ؛ وَلَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيِّ . وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ يُجَوِّزُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَجْهُولِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْهُ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيِّ . وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيِّ . فَإِنَّ الشَّافِعِيِّ يَشْتَرِطُ الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْعُقُودِ حَتَّى عِوَضِ الْخُلْعِ وَالصَّدَاقِ وَفِيمَا شَرَطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُوَسِّعُونَ فِي ذَلِكَ . وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي هَذَا أَرْجَحُ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَصْلِ آخَرَ وَهُوَ : أَنَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ : تَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ . فَالْقَبْضُ - مُوجَبُ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ - لَيْسَ شَرْطًا فِي لُزُومِهِ . وَالتَّبَرُّعَاتُ : كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَةِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ ؛ وَعِنْدَ مَالِكٍ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ . وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ كَالنِّزَاعِ فِي الْمُعَيَّنِ : هَلْ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ ؟ وَفِيهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ . وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْعَارِيَةِ . وَمَا زَالَ السَّلَفُ يُعِيرُونَ الشَّجَرَةَ وَيَمْنَحُونَ المنايح ؛ وَكَذَلِكَ هِبَةُ الثَّمَرِ وَاللَّبَنِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ لَازِمًا وَلَكِنْ هَذَا يُشْبِهُ الْعَارِيَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَالْمَنْفَعَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ كَالْمَنَافِعِ ؛ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ بِجُزْءِ مِنْ هَذَا : كَالْمُسَاقَاةِ . وَأَمَّا إبَاحَةُ ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَا أَبَاحَهُ مَعْدُومًا أَوْ مَوْجُودًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا ؛ لَكِنْ لَا تَكُونُ الْإِبَاحَةُ عَقْدًا لَازِمًا كَالْعَارِيَةِ عِنْدَ مَنْ لَا يَجْعَلُ الْعَارِيَةَ عَقْدًا لَازِمًا ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا مَالِكٍ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَازِمًا إذَا كَانَ مَحْدُودًا بِشَرْطِ أَوْ عُرْفٍ وَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ .
============
مقدار ما يطعم أهل الذمة المسلمين بالضيافة(1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 272)(2/60)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَفَّارَةُ الْيَمِينِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَالَ تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } فَمَتَى كَانَ وَاجِدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِحْدَى الثَّلَاثِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَإِذَا اخْتَارَ أَنْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ فَلَهُ ذَلِكَ . " وَمِقْدَارُ مَا يُطْعِمُ " مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ : هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ ؟ أَوْ بِالْعُرْفِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ " مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ " وَهَؤُلَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَشَعِيرٍ أَوْ رُبْعَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ؛ وَهُوَ مُدٌّ كَقَوْلِ أَحْمَد وَطَائِفَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ يُجْزِئُ فِي الْجَمِيعِ مُدٌّ مِنْ الْجَمِيعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ . " وَالْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالشَّرْعِ ؛ فَيُطْعِمُ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُونَ أَهْلِيهِمْ قَدْرًا وَنَوْعًا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ : كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُدَّ يُجْزِئُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ مَالِكٌ : وَأَمَّا الْبُلْدَانُ فَإِنَّ لَهُمْ عَيْشًا غَيْرَ عَيْشِنَا فَأَرَى أَنْ يُكَفِّرُوا بِالْوَسَطِ مِنْ عَيْشِهِمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } وَهُوَ مَذْهَبُ داود وَأَصْحَابِهِ مُطْلَقًا . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هَذَا الْقَوْلُ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ الْأَوْسَطُ خُبْزٌ وَلَبَنٌ خُبْزٌ وَسَمْنٌ خُبْزٌ وَتَمْرٌ . وَالْأَعْلَى خُبْزٌ وَلَحْمٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْآثَارَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأُصُولِهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ وَهَذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّارِعُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } فَإِنَّ أَحْمَد لَا يُقَدِّرُ طَعَامَ الْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ وَلَا الْمَمْلُوكِ ؛ وَلَا يُقَدِّرُ أُجْرَةَ الْأَجِيرِ الْمُسْتَأْجَرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْوَاجِبَةَ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا يُقَدِّرُ الضِّيَافَةَ الْمَشْرُوطَةَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ : هَذَا مَعَ أَنَّ هَذِهِ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْطِ فَكَيْفَ يُقَدِّرُ طَعَامًا وَاجِبًا بِالشَّرْعِ ؟ بَلْ وَلَا يُقَدِّرُ الْجِزْيَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَلَا الْخَرَاجَ ؛ وَلَا يُقَدِّرُ أَيْضًا الْأَطْعِمَةَ الْوَاجِبَةَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وَجَبَتْ بِشَرْعِ أَوْ شَرْطٍ وَلَا غَيْرَ الْأَطْعِمَةِ مِمَّا وَجَبَتْ مُطْلَقًا . فَطَعَامُ الْكَفَّارَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يُقَدَّرَ . و " الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ " فَمَا لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ أَوْ اللُّغَةِ رَجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِمَا . وَمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِيهِمَا رَجَعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَدِّرُ لِلْعُقُودِ أَلْفَاظًا بَلْ أَصْلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ مَالِكٍ كَمَا أَنَّ قِيَاسَ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُهُ أَيْضًا كَمَا قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي " الْأُدْمِ " هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ كَانَ يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِأُدُمِ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ بِأُدُمِ . وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُطْعِمُ بِلَا أُدْمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الْمَسَاكِينَ عَلَى أَهْلِهِ بَلْ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ . وَعَلَى هَذَا فَمِنْ الْبِلَادِ مَنْ يَكُونُ أَوْسَطُ طَعَامِ أَهْلِهِ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ كَمَا يُقَالُ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِذَا صَنَعَ خُبْزًا جَاءَ نَحْوَ رِطْلَيْنِ بِالْعِرَاقِيِّ وَهُوَ بِالدِّمَشْقِيِّ خَمْسَةُ أَوَاقٍ وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ(2/61)
فَإِنْ جَعَلَ بَعْضَهُ أُدْمًا كَمَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ كَانَ الْخُبْزُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوَاقٍ وَهَذَا لَا يَكْفِي أَكْثَرَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : يُطْعِمُ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا : إمَّا مُدَّانِ أَوْ مُدٌّ وَنِصْفٌ عَلَى قَدْرِ طَعَامِهِمْ فَيُطْعِمُ مِنْ الْخُبْزِ إمَّا نِصْفَ رِطْلٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَإِمَّا ثُلُثَا رِطْلٍ وَإِمَّا رِطْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُ . إمَّا مَعَ الْأُدْمِ عَلَى قَدْرِ عَادَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ ؛ فَإِنَّ عَادَةَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِالرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ وَالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَتَخْتَلِفُ بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا حُسِبَ مَا يُوجِبُهُ أَبُو حَنِيفَةَ خُبْزًا كَانَ رِطْلًا وَثُلُثًا بِالدِّمَشْقِيِّ ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ نِصْفَ صَاعٍ عِنْدَهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ . وَأَمَّا مَا يُوجِبُهُ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُوجِبُ صَاعًا ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ الشَّافِعِيُّ سِتَّ مَرَّاتٍ وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يُوجِبُهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فَقَدْ يُجْزِئُ فِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَفِي بَلَدٍ مَا أَوْجَبَهُ أَحْمَد وَفِي بَلَدٍ آخَرَ مَا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } . وَإِذَا جَمَعَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا وَأُدْمًا مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الدَّلِيلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ ؛ لَمْ يُوجِبْ التَّمْلِيكَ وَهَذَا إطْعَامٌ حَقِيقَةً . وَمَنْ أَوْجَبَ " التَّمْلِيكَ " احْتَجَّ بِحُجَّتَيْنِ " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الطَّعَامَ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَلَا يُعْلَمُ إذَا أَكَلُوا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْكُلُ قَدْرَ حَقِّهِ . و " الثَّانِيَةُ " أَنَّهُ بِالتَّمْلِيكِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعَ الْإِطْعَامِ . وَجَوَابُ الْأُولَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ فَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ إذَا أَشْبَعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَدَاءً وَعَشَاءً وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حَقِّهِ وَأَكْثَرُ . وَأَمَّا التَّصَرُّفُ بِمَا شَاءَ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ إنَّمَا أَوْجَبَ فِيهَا التَّمْلِيكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِاللَّامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } وَلِهَذَا حَيْثُ ذَكَرَ اللَّهُ التَّصَرُّفَ بِحَرْفِ الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ : { وَفِي الرِّقَابِ } { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلْمُعْتَقِ وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا سِلَاحًا يُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْإِطْعَامُ أَوْلَى مِنْ التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ الْمُمَلَّكَ قَدْ يَبِيعُ مَا أَعْطَيْته وَلَا يَأْكُلُهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكْنِزُهُ فَإِذَا أَطْعَمَ الطَّعَامَ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ قَطْعًا . وَغَايَةُ مَا يُقَالُ : أَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ يُسَمَّى إطْعَامًا كَمَا يُقَالُ ؛ { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدْسَ } وَفِي الْحَدِيثِ : { مَا أَطْعَمَ اللَّهُ نَبِيًّا طُعْمَةً إلَّا كَانَتْ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ } لَكِنْ يُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْعَامَ الْمَعْرُوفَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُقَالُ إذَا ذُكِرَ الْمُطْعِمُ فَيُقَالُ : أَطْعَمَهُ كَذَا . فَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَقِيلَ : أَطْعِمْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ . فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِطْعَامِ لَكِنْ لَمَّا كَانُوا يَأْكُلُونَ مَا يَأْخُذُونَهُ سُمِّيَ التَّمْلِيكُ لِلطَّعَامِ إطْعَامًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِطْعَامُ . أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مَصْرِفًا غَيْرَ الْأَكْلِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى إطْعَامًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
================
تحريم ظلم أهل الذمة (1)
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 9 / ص 278)(2/62)
فَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَيَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ نَصْرُهُ وَالْجِهَادُ عَلَيْهِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا حُكْمُ الْحَاكِمِ فَذَاكَ يُقَالُ لَهُ قَضَاءُ الْقَاضِي ؛ لَيْسَ هُوَ الشَّرْعَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتُهُ ؛ بَلْ الْقَاضِي الْعَالِمُ الْعَادِلُ يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ تَارَةً وَلَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ لِشَخْصِ بِخِلَافِ الْحَقِّ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ سَيِّدَ الْأَوَّلِينَ والآخرين كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَهَذَا سَيِّدُ الْحُكَّامِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ يَقُولُ إذَا حَكَمْت لِشَخْصِ بِشَيْءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَلَا يَأْخُذُهُ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ لِزَيْدِ بِمَالِ عَمْرٍو وَكَانَ مُجْتَهِدًا مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ . وَأَمَّا فِي " الْعُقُودِ والفسوخ " مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِنِكَاحِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ فَسْخِ بَيْعٍ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَنْفُذُ أَيْضًا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ ؛ وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا عَادِلًا وَقَدْ حَكَمَ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ . و " الْقُضَاةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ . وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ } فَالْقَاضِي الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إذَا حَكَمَ لِلْإِنْسَانِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِي الدِّينِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ وَإِلَّا سَكَتَ . مِثْلُ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَأَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ يُؤْذَى وَيُعَاقَبُ أَوْ يُحْبَسُ : فَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَّبِعَهُ وَلَا لِوَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يُنَفِّذَهُ وَمَنْ نَفَّذَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ وَنَصَرَهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ إنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ وَخَالَفَهَا اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ وَكَذَلِكَ إنْ أَلْزَمَ بِمِثْلِ هَذَا جَهْلًا وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا عُفِيَ عَنْهُ . وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى وُلَاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِذَا تَنَازَعَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ الْمُنَازِعُ مِنْ آحَادِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُلْزِمُوهُ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا لَهُ الْحَقَّ كَمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ لِلْجَاهِلِ الْمُتَعَلِّمُ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَظَهَرَ وَعَانَدَهُ بَعْدَ هَذَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : إنَّ الَّذِي قُلْته هُوَ قَوْلِي أَوْ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَقَدْ قُلْته اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا : فَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ خَطَأً مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ عُوقِبَ هَذَا لَعُوقِبَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ أَقْوَالٌ اجْتَهَدَ فِيهَا أَوْ قَلَّدَ فِيهَا وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهَا ؛ فَلَوْ عَاقَبَ اللَّهُ الْمُخْطِئَ لَعَاقَبَ جَمِيعَ الْخَلْقِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } {(2/63)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَلَمَّا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت } وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الدُّعَاءِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } فَالْمُفْتِي وَالْجُنْدِيُّ وَالْعَامِّيُّ إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّيْءِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ اجْتِهَادًا أَوْ تَقْلِيدًا قَاصِدِينَ لِاتِّبَاعِ الرَّسُولِ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَخْطَئُوا خَطَأً مُجْمَعًا عَلَيْهِ . وَإِذَا قَالُوا إنَّا قُلْنَا الْحَقَّ وَاحْتَجُّوا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَلَا يَحْكُمَ بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ دُونَ قَوْلِهِمْ بَلْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا يُغَطَّى بَلْ يَظْهَرُ فَإِنْ ظَهَرَ رَجَعَ الْجَمِيعُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ سَكَتَ هَذَا عَنْ هَذَا وَسَكَتَ هَذَا عَنْ هَذَا ؛ كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ يَتَنَازَعُ فِيهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ مَذْهَبٍ أَنْ يَتَّبِعَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا فَإِنَّ هَذَا يَنْقَلِبُ فَقَدْ يَصِيرُ الْآخَرُ حَاكِمًا فَيَحْكُمُ بِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ الصَّوَابُ . فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُهُ ؛ بِخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ حَقٌّ وَهُدًى وَبَيَانٌ لَيْسَ فِيهِ خَطَأٌ قَطُّ وَلَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَعَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ فَإِذَا تَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَنَعُوهُمْ الْعُدْوَانَ ؛ وَهُمْ قَدْ أُلْزِمُوا بِمَنْعِ ظُلْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ وَأَنْ يَكُونَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي بِلَادِهِمْ إذَا قَامَ بِالشُّرُوطِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهِمْ لَا يُلْزِمُهُ أَحَدٌ بِتَرْكِ دِينِهِ ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ دِينَهُ يُوجِبُ الْعَذَابَ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يُمَكِّنُوا طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ اعْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ وَحُكْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بُقُولِهِ وَمَذْهَبِهِ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ تَغَيُّرَ الدُّوَلِ وَانْتِقَاضِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْعِبَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا . وَهَذَا إذَا كَانَ الْحُكَّامُ قَدْ حَكَمُوا فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا اجْتِهَادٌ وَنِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدْ حَكَمُوا بِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّتِهِمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؛ وَلَا فِيهِ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَوْلُهُمْ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ فَكَيْفَ يَحِلُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُلْزِمَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِ هَذَا الْقَوْلِ وَيَنْفُذُ فِيهِ هَذَا الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَأَنْ يُقَالَ : الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَا يُقَالُ وَلَا يُفْتَى بِهِ بَلْ يُعَاقَبُ وَيُؤْذَى مَنْ أَفْتَى بِهِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَغَيْرُهُمْ وَيُؤْذَى الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِكَوْنِهِمْ اتَّبَعُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَهُمْ يَعْذِرُونَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يُلْزِمُونَ بِاتِّبَاعِهِمْ وَلَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُعَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ بَلْ يُحْكَمُ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَيُلْزَمُ مَنْ عَرَفَ مَا عَرَفَهُ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلِمَهُ مِنْ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(2/64)
وَسَلَّمَ لِأَجْلِ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ وَاَللَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْ مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِي هَذَا لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ فَإِنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ شَرْعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَظْلِمُوا أَحَدًا فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عِرْضٍ وَلَا لِأَحَدِ عَلَيْهِمْ دَعْوَى ؛ بَلْ هُمْ قَالُوا نَحْنُ نَتَّبِعُ مَا عَرَفْنَاهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَعْبُدُهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُهُ وَشَرَعَهُ مِنْ الدِّينِ فَمَا دَعَانَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَنَا بِهِ أَطَعْنَاهُ وَمَا جَعَلَهُ الرَّسُولُ دِينًا وَقُرْبَةً وَطَاعَةً وَحَسَنَةً وَعَمَلًا صَالِحًا وَخَيْرًا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ قُرْبَةً وَطَاعَةً وَفَعَلْنَاهُ وَأَحْبَبْنَا مَنْ يَفْعَلُ بِهِ وَدَعَوْنَا إلَيْهِ وَمَا نَهَانَا عَنْهُ الرَّسُولُ انْتَهَيْنَا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُنَا يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ فَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ الرَّسُولَ لَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ مَنْ خَالَفَهُ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَأَهْلَ الْبِدَعِ يَتَعَبَّدُونَ تَعَبُّدَاتٍ كَثِيرَةً يَرَوْنَهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً وَقَدْ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ قَالَ أَنَا أُطِيعُ الرَّسُولَ وَلَا أَتَعَبَّدُ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ بَلْ أَنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُعَارَضَ بَلْ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا مَعَ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ حُكْمِ أَحَدٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ هَذَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ طَاعَةٌ أَوْ قُرْبَةٌ أَوْ لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَسَاجِدِ وَالْقُبُورِ وَقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْرَعُ أَوْ لَا يُشْرَعُ لَيْسَ لِلْحُكَّامِ فِي هَذَا مَدْخَلٌ إلَّا كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْكَلَامُ فِي هَذَا لِجَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى عَالِمٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ قَبُولُهَا أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَرْجِعْ بَلْ أَصَرَّ عَلَى إظْهَارِ مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالدُّعَاءَ إلَى ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَيُعَاقَبَ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَقُولُهُ إذَا كَانَ يَقُولُ إنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا قَالَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَهَذَا إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْمُنَازِعُ لَهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ وَالْحُكْمُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْكِبَارُ لَوْ قَالُوا بِمِثْلِ قَوْلِ الْحُكَّامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إلْزَامُ النَّاسِ بِذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ لَا بِمُجَرَّدِ حُكْمِهِمْ .
==============
نواقض عهد الذمة (1)
__________
(1) - الصارم المسلول - (ج 1 / ص 9)(2/65)
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وعلى اله وصحبه وسلم قال شيخنا وسيدنا الامام العلامة القدوة الزاهد العابد الورع الكامل شيخ الاسلام مفتي الفرق ناصر السنة قامع البدعة سيد الفقهاء والحفاظ تقي الدين ابو العباس احمد بن شيخنا الامام العلامة مفتي المسلمين شهاب الدين ابي المحاسن عبد الحليم بن الامام العلامة شيخ الاسلام مجد الدين ابي البركات عبد السلام بن عبد الله بن ابي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني جزاه الله عن نصر دينه ونصر سنة نبيه عليه السلام خيرا الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين امنو لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لايخلف الميعاد واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد واشهد ان محمدا عبده ورسوله افضل المرسلين واكرم العباد ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره اهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره الا ذكر معه كما في الاذان والتشهد والخطب والمجامع والاعياد وكبت محاده واهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الاحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والاخرة وجعل هوانه بالمرصاد واختصه على اخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى اله افضل الصلوات واعلاها واكملها وانماها كما يحب سبحانه ان يصلى عليه وكما امر وكما ينبغي ان يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته افضل تحية واحسنها واولاها وابركها واطيبها وازكاها صلاة وسلاما دائمين الى يوم التناد باقيين بعد ذلك ابدا رزقا من الله ما له من نفاد اما بعد فان الله تعالى هدانا بنبيه محمد واخرجنا به من الظلمات الى النور واتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والاخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والالسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع الى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث ادنى ماله من الحق علينا بله ما اوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وايثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وان كان الله قد اغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الاعمال كما سبق في ام الكتاب ان اذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل ونقل ما حضرني في ذلك من الاقاويل وارداف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب ان يكون عليه التعويل فاما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وانما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الائمة والامة القيام بما امكن منه والله هو الهادي الى سواء السبيل وقد رتبته على اربع مسائل المسالة الاولى في ان الساب يقتل سواء كان مسلما او كافرا المسالة الثانية انه يتعين قتله وان كان ذميا فلا يجوز المن عليه ولا مفاداته المسالة الثالثة في حكمه اذا تاب المسالة الرابعة في بيان السب وما ليس بسب والفرق بينه وبين الكفر المسألة الاولى ان من سب النبي من مسلم او كافر فانه يجب قتله
هذا مذهب عليه عامة أهل العلم قال ابن المنذر : [ أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي صلى الله عليه و سلم القتل ] و ممن قاله مالك و الليث و أحمد و إسحاق و هو مذهب الشافعي قال : و حكي عن النعمان لا يقتل يعني الذي هم عليه من الشرك : أعظم و قد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من سب النبي صلى الله عليه و سلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد و هذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة و التابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يجب قتله إذا كان مسلما و كذلك قيده القاضي عياض فقال : أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين و سابه و كذلك حكي عن غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره
و قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام : [ أجمع المسلمون على أن من سب رسوله الله صلى الله عليه و سلم أو دفع شيئا مما أنزل الله عز و جل أو قتل نبيا من أنبياء الله عز و جل : أنه كافر بذلك و إن مقرا بكل ما أنزل الله
قال الخطابي : [ لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله ]
و قال محمد بن سحنون : [ أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم و المتنقص له كافر و الوعيد جار عليه بعذاب الله له و حكمه عند الأمة القتل و من شك في كفره و عذابه كفر ] و تحرير القول فيه : إن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر و يقتل بغير خلاف و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم و قد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه و غيره و إن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك و أهل المدينة و سيأتي حكاية ألفاظهم و هو مذهب أحمد و فقهاء الحديث(2/66)
و قد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو تنقصه ـ مسلما كان أو كافراـ فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب ] قال : و سمعت أبا عبد الله يقول : [ كل من نقض العهد و أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة و كذلك قال أبو الصفراء : سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم ماذا عليه ؟ قال : إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم مسلما كان أو كافرا ] رواهما الخلال
و قال في رواية عبد الله و أبي طالب و قد سئل عن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال :
يقتل قيل له : فيه أحاديث ؟ قال : نعم أحاديث منها : حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و حديث حصين أن ابن عمر قال : [ من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ] و كان عمر بن عبد العزيز يقول : يقتل و ذلك أنه من شتم النبي صلى الله عليه و سلم فهو مرتد عن الإسلام و لا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه و سلم زاد عبد الله : سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم يستتاب ؟ قال : قد وجب عليه القتل و لا يستتاب لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يستتبه رواهما أبو بكر في [ الشافي ] و في رواية أبي طالب : سئل أحمد عمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل قد نقض العهد
و قال حرب : سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقتل إذا شتم النبي صلى الله عليه و سلم رواهما الخلال و قد نص على هذا في غير هذه الجوابات
فأقواله كلها نص في وجوب قتله و في أنه قد نقض العهد و ليس عنه في هذا اختلاف
و كذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم و متأخرهم لم يختلفوا في ذلك إلا أن القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها و فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال و هي :
الإعانة على قتال المسلمين و قتل المسلم أو المسلمة و قطع الطريق عليهم و أن يؤوي للمشركين جاسوسا و أن يعين عليهم بدلالة مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين و أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح و أن يفتن مسلما عن دينه
قال : فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فإن خالف انتقض عهده و ذكر نصوص أحمد في بعضها مثل نصه في الزنا بالمسلمة و في التجسس للمشركين و قتل المسلم و إن كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لا ينتقض عهده بل يحد حد القذف قال : فتخرج المسألة على روايتين ثم قال : [ و في معنى هذه الأشياء ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ] فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فإن أتوا واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن و كذلك قال في [ الخلاف ] بعد ما ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال و الأقوال
قال : [ و فيه رواية أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية و جري أحكامنا عليهم ]
ثم ذكر نصه على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب قال : [ فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه ]
و تبع القاضي جماعة من أصحابه و من بعدهم ـ مثل الشريف أبي جعفر و آبن عقيل و أبي الخطاب و الحلواني ـ فذكروا أنه لا خلاف في أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية و التزام أحكام الملة انتقض عهدهم و ذكروا في جميع هذه الأفعال و الأقوال التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول و ما مثله روايتين أحداهما : ينتقض العهد بذلك و الأخرى : لا ينتقض عهده و تقام في حدود ذلك مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك
ثم إن القاضي و الأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف
و أما أبو الخطاب و من تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في افتقاد العهد بالقذف روايتين :
ثم إن هؤلاء كلهم و سائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه و سلم في موضع آخر و ذكروا أن سابه يقتل و إن كاب ذميا و أن عهده ينتقض و ذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب إلا أن الحلواني قال : [ و يحتمل أن لا يقتل من سب الله و رسوله إذا كان ذميا ]
و سلك القاضي أبو الحسين في نواقص العهد طريقة ثانية توافق قولهم هذا فقال : [ أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين و آحادهم في مال أو نفس فإنها تنقض العهد في أصح الروايتين ] و أما ما فيه إدخال غضاضة و نقص على الإسلام ـ و هي ذكر الله و كتابه و دينه و رسوله بما لا ينبغي ـ فإنه ينقض العهد نص عليه و لم يخرج في هذه رواية أخرى كما ذكرها أولئك في أحد الموضعين و هذا أقرب من تلك الطريقة و على الرواية التي تقول [ لا ينقض العهد بذلك ] فإنما [ ذلك ] إذا لم يكن مشروطا عليه في العقد فأما إن كان مشروطا ففيه وجهان أحدهما : ينتقض قاله الخرقي
و قال أبو الحسن الأمدي : [ و هو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه ](2/67)
صحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم و الثاني : لا ينتقض قاله القاضي و غيره صرح أبو الحسن بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما إذا أظهروا دينهم و خالفوا هيئتهم من غير إضرار كإظهار الأصوات بكتابهم و التشبه بالمسلمين مع أن هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركها بخوصها
و هاتان الطريقتان ضعيفتان و الذي عليه عامة المتقدمين من أصحابنا و من تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها فقد نص في مسائل سب الله و رسوله على انتقاض العهد في غير موضع و على أنه يقتل و كذلك فيمن جس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده و قتله في غير موضع و كذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما و قطع الطريق أولى و قد نص أحمد على أن قذف المسلم و سحره لا يكون نقضا لعهد في غير موضع هذا هو الواجب لأن تخريج حكم المسألتين إلى الأخرى و جعل المسألتين على روايتين ـ مع و جود الفرق بينهما نصا و استدلالا أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق ـ غير جائز و هذا كذلك
و كذلك قد وافقنا على انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه و سلم جماعة لم يوافقوا على الإنتقاض ببعض هذه الأمور و أما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه أن عهده ينتقض بسب النبي صلى الله عليه و سلم و أنه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر و الخطابي و غيرهما
و المنصوص عنه في [ الأم ] أنه قال : [ إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب و ذكر الشروط إلى أن قال : و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين و جميع المسلمين و نقض ما أعطي عليه الأمان و حل لأمير المؤمنين ماله و دمه كما تحل أموال أهل الحرب و دماؤهم و على أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنا أو آسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورة المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و إن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم ] أ ه
ثم قال : [ فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فبها و إن لم يرضها فلا عقد له و لا جزية ]
ثم قال : [ و أيهم فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذاك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد ]
و إن فعل مما و صفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم و لكنه قال : [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يقول فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه و لا يقتل ]
قال : [ فإن فعل أو قال ما وصفنا و شرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول : [ أسلم أو أعطي جزية ] قتل و أخذ ماله فيئا ]
و نص في [ الأم ] أيضا أن العهد لا ينتقض بقطع الطريق و لا بقتل المسلم و لا بالزنا بالمسلمة و لا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد و يعاقب عقوبة منكلة فيما فيه العقوبة و لا يقتل إلا أن يجب عليه القتل
قال : [ و لا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار و الامتناع بذلك ]
قال : و لو قال : [ أؤدي الجزية و لا أقر بحكم ] نبذ إليه و لم يقاتل على ذلك مكانه و قيل : قد تقدم لك أمان بأدائك للجزية و إقرارك بها و قد أجلناك في أن تخرج من بلاد الإسلام ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قتل إن قدر عليه
فعلى كلامه المأثور عنه يفرق بين ما فيه غضاضة على الإسلام و بين الضرر بالفعل أو يقال : يقتل الذمي بسبه و إن لم ينقض عهده كما سيأتي إن شاء الله تعالى
و أما أصحابه فذكروا ـ فيما إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء ـ وجهين : أحدهما : ينقض عهده بذلك سواء شرط عليهم تركه أو لم يشرط بمنزلة ما إذا قاتلوا المسلمين و امتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من أصحابنا و هذه طريقة أبي إسحاق المروزي
و منهم من خص سب رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده أنه يوجب القتل
و الثاني : أن السب كالأفعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم و الزنا بالمسلمة و الجس و ما ذكر معه و ذكروا في تلك الأمور وجهين : أحدهما : أنه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بفعلها وجهان و الثاني : لم ينتقض العهد بفعلها مطلقا
و منهم من حكى هذه الوجوه أقوالا و هي أقوال مشار إليها فيجوز أن تسمى أقوالا و وجوها هذه طريقة العراقيين وقد صرحوا بأن المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره أصحابنا
و أما الخراسانيون فقالوا : المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها قالوا : لأن الترك موجب لنفس العقد و لذلك ذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجه أحدها : ينتقض بفعلها و الثاني : لا ينتقض و الثالث : إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض و إلا فلا(2/68)
و منهم من قال : إن شرط نقض وجها واحدا و إن لم يشرط فوجهان و حسبوا أن مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكاية عنهم : إن لم يجر شرط لم ينتقض العهد و إن جرى فوجهان و يلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنه إن لم يجر شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها وجها واحدا و إن صرح بشرط تركها انتقض و هذا غلط عليهم و الذي نصروه في كتب الخلاف أن سب النبي صلى الله عليه و سلم ينقض العهد و يوجب القتل كما ذكرناه عن الشافعي نفسه و أما أبو حنيفة و أصحابه فقالوا : لا ينتقض العهد بالسب و لا يقتل الذمي بذلك لكن يعزر على إظهار ذلك كما يعزر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها من إظهار أصواتهم بكتابهم و نحو ذلك و حكاه الطحاوي عن الثوري و من أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل و الجماع في غير القبل إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله و كذلك له أن يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك و يحملون ما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك و يسمونه القتل سياسة و كان حاصله أن له أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار و شرع القتل في جنسها و لهذا أفتى أكثرهم بقتل من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة و إن أسلم بعد أخذه و قالوا : يقتل سياسة و هذا متوجه على أصولهم
و الدلائل على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله و وجوب قتله و قتل المسلم إذا أتى ذلك : الكتاب و السنة و إجماع الصحابة و التابعين و الاعتبار
أما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع :
أحدها : قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } [ التوبة : 29 ]
فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية و هم صاغرون و لا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية و معلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها و التزامها إلى حين تسليمها و إقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء و وجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا و امتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد و إذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا و شتم ربنا على رؤوس الملأ منا و طعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير و هذا فعل متعزز مراغم بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا و الإهانة
قال أهل اللغة : الصغار الذل و الضيم يقال : صغر الرجل ـ بالكسر ـ يصغر ـ بالفتح ـ صغرا و صغرا و الصاغر : الراضي بالضيم و لا يخفى على المتأمل أن إظهار السب و الشتم لدين الأمة التي اكتسبت شرف الدنيا و الآخرة ليس فعل راض بالذل و الهوان و هذا ظاهر لا خفاء به
و إذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين و ليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به و كل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه
و أيضا فإنا لو كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها و لو عقد لهم عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة
و لا يقال فيهم : فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان و شبهة الأمان كحقيقته فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا و إن لم يقصده المسلم
لأنا نقول : لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا و سب نبينا و هم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا ـ مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة ـ دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها
و أيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل عمر و قد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه
و أيضا فإنا سنذكر شروط عمر و أنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه و ماله
الموضع الثاني : قوله تعالى : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ـ إلى قوله ـ و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ]
نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما و معلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة و الوقيعة في ربنا و نبينا و كتابنا و ديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا و أموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا و لا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله و رسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما ؟(2/69)
يوضح ذلك قوله تعالى : { كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة } [ التوبة : 8 ] أي كيف يكون لهم عهد و لو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم و بينهم و لا العهد الذي بينكم و بينهم ؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا و بينه من العهد لم يكن له عهد و من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا و بينه فإنه إذا كان مع وجود العهد و الذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة و القدرة ؟ و هذا بخلاف من لم يظهره لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر
و هذه الآية و إن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى
الموضع الثالث : قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] و هذه الآية تدل من وجوه
أحدها : أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة و إنما ذكر الطعن في الدين و أفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر و بيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال و لهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح و بيان سبب القتال فإن الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا و أما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة و حمية و رياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و بقوله تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة أتخشونهم ؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم } [ التوبة : 13 ـ 14 ]
فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن و يعاهد و أما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله و هذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله و رسوله و طعن في الدين و إن أمسك عن غيره و إذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال و إن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة و إلا كان ذكره ضائعا
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما
فإن قيل : هذا يفيد أن من نكث عهده و طعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحداهما
قلنا : لا ريب أنه لا بد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم و إلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال : [ من زنى و أكل جلد ] ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال : يقتل هذا لأنه مرتد زان و قد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع و لكل وصف تأثير في البعض كما قال : { و الذين لا يدعون مع الله ألها آخر } [ الفرقان : 68 ] الآية و قد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا و بيانا للموجب كما يقال : كفروا بالله و برسوله و عصى الله و رسوله و قد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال : { إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] الآية و هذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال إن نقض العهد هو المبيح للقتال و الطعن في الدين مؤكد له و موجب له
فنقول : إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا و بينه عهد و يوجبه فأن يوجب قتال من بيننا و بينه ذمة و هو ملتزم للصغار أولى و سيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا و الذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل و إن لم يؤذنا فحاله أشد و أهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك
الوجه الثاني : أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه و طعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك و يؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته و إذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده و طعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية و هذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا و بينه
لكن نقول : ليس إظهار كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر و الخنزير و نحو ذلك فنقول : قد وجد منه شيئان : ما منعه منه العهد و طعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط و القرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده و طعن في الدين و لا يمكن أن يقال [ لم ينكث ] لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل و هو نقض قواه و نكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى لكن قد بقي من قواه ما يستمسك الحبل به و قد يهن بالكلية(2/70)
و هذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا و قد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن بعض الشروط في البيع و النكاح و نحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا و قد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن و الضمين هذا عند من يفرق في المخالفة و أما من قال [ ينتقض العهد بجميع المخالفات ] فلأمر ظاهر على قوله و على التقديرين قد اقتضى العقد : أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا و أنهم متى أظهروه فقد نكثوا و طعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا و معنى و مثل هذا العموم يبلغ درجة النص الوجه الثالث : أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين و أوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله { أئمة الكفر } إما أن يعني به الذين نكثوا أو أطعنوا أو بعضهم و الثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذ العلة يجب طردها إلا لمانع و لا مانع و لأنه علل ذلك ثانيا بأنهم بلا أيمان لهم و ذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين و لأن النكث و الطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال و قد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه و ذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فليزم أن الجميع أئمة كفر و إمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه و إنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك و هو مناسب لأن الطعن في الدين [ لأن ] يعيبه و يذمه و يدعو إلى خلاف و هذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر
فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتاله لقوله تعالى : { فقاتلوا أئمة الكفر } و لا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين و خالف و اليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون و هو كذلك فالنبي صلى الله عليه و سلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية و إنما عاقدهم عقدا و نسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم و هذا لأن اليمين يقال : إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منها يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا و يقال سميت يمينا لأن اليمين هي القوة و الشدة كما قال الله تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد و بين ربه و إن كان نذرا و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ النذر حلفة ] و قوله : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] و قول جماعة من الصحابة للذي نذر اللجاج و الغضب :
كفر يمينك و للعهد الذي بين المخلوقين و منه قوله تعالى : { و لا تنفضوا الأيمان بعد توكيده } [ النحل : 91 ] و النهي عن نقض العهود و إن لم يكن فيها قسم و قال تعالى : { و من أوفى بما عاهد عليه الله } [ الفتح : 10 ] و إنما لفظ العهد [ بايعناك على أن لا نفر ] و ليس فيه قسم و قد سماهم معاهدين لله و قال تعالى : { و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام } [ النساء : 1 ] قالوا : معناه يتعاهدون و يتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله و كفالته و شهادته فثبت أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي أن لا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له و فيجب قتله بنص الآية و بهذا يظهر الفرق بينه و بين الناكث الذي ليس بإمام و هو من خالف شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين
الوجه الرابع : أنه قال تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بداوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] فجعل همهم بإخراج الرسول الله صلى الله عليه و سلم من المحضضات على قتالهم و ما ذاك إلا لما فيه من الأذى و سبه أغلظ من الهم بإخراجه بدليل أنه صلى الله عليه و سلم عفا عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه و لم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده و فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول و بدأ بالأذى فيجب قتاله
الوجه الخامس : قوله تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم و يتوب الله على من يشاء و الله عليم حكيم } [ التوبة : 14 ـ 15 ](2/71)
أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين و ضمن لنا ـ إن فعلنا ذلك ـ أن يعذبهم بأيدينا و يخزيهم و ينصرنا عليهم و يشفي صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم و طعنهم و أن يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالنا ترتيب الجزاء على الشرط و التقدير : إن تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله و إلا فالكفار يدالون علينا المرة و ندال عليهم الآخرى و إن كانت العاقبة للمتقين و هذا تصديق ما جاء في الحديث [ ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو ] و التعذيب بأيدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل و الساب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل و إنما ذكر سبحانه النصر عليهم و أنه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فأما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى فيه { يعذبه الله و يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } على أن قوله { من يشاء } يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه و إنما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك و عند التمييز فبعضهم دون بعضهم مباشر و لا يلزم من التوبة على الرده التوبة على المباشر ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء و لم يهدر دم الذين سمعوه و أهدر دم بني بكر و لم يهدر الذين أعاروهم السلاح
الوجه السادس : أن قوله تعالى : { و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 15 ] دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث و الطعن و ذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول و أن ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع : [ عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم و الغم ]
لا ريب أن من أظهر الرسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل الذمة و شتمه فإنه يغيظ المؤمنين و يؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم و أخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله و الحمية له و لرسوله و هذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا الله و الشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين و ذهاب غيظ قلوبهم و هذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه :
أحدها : أن تعزيزه و تأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم و هذا باطل
الثاني : أن شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فإن لا تشفى صدورهم إلا بقتل الساب [ أولى و أحرى ]
الثالث : أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء و الأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل و القتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا
الرابع : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما فتحت مكة و أراد أن يشفي صدور خزاعة ـ و هم القوم المؤمنون ـ من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانة لسائر الناس فلو كان الشفاء صدورهم و ذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا و طعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس الموضع الرابع : قوله سبحانه : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم } [ التوبة : 62 ] فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه و سلم محاددة لله و لرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } الآية [ التوبة : 61 ] ثم قال : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم لأن يمكن حينئذ أن يقال : قد علموا أن للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا و إنما آذوا فلا يكون في الآية و عيد لهم فعلم أن هذا الفعل لا بد أن يندرج في عموم المحادة ليكون و عيد المحاد و عيدا له و يلتئم الكلام
و يدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح [ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان في ظل حجرة من حجره و عنده نفر من المسلمين فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه فقال : علام تشتمني أنت و فلان و فلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله و اعتذروا إليه ] فأنزل الله تعالى : { يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفوا له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } [ المجادلة : 18 ] ثم قال بعد ذلك : { إن الذين يحادون الله و رسوله } فعلم أن هذا داخل في المحادة
و في رواية أخرى صحيحة أنه نزل قوله { يحلفون لكم لترضوا عنهم } [ التوبة : 96 ]
و قد قال : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] ثم قال عقبه : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فثبت أن هؤلاء الشاتمين محادون و سيأتي ـ إن شاء الله ـ زيادة في ذلك(2/72)
و إذا كان الأذى محادة لله و رسوله فقد قال تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز } [ المجادلة : 21 ] و الأذل : أبلغ من الذليل و لا يكون أذل حتى يخاف على نفسه و ماله إن أظهر المحادة لأنه إن كان دمه و ماله معصما لا يستباح فليس بأذل يدل عليه قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد فعلم أن من له عهد و حبل لا ذلة عليه و إن كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة و قد جعل المخادعين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية و هذا ظاهر فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أراده بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره و منعه بأذل فثبت أن المحاد لله و لرسوله لا يكون له عهد يعصمه و المؤذي للنبي صلى الله عليه و سلم محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه و هو المقصود
و أيضا فإنه قال تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله كتبوا كما كتب الذين من قبلهم } [ المجادلة : 5 ] و الكبت : إذلال و الخزي و الصرع قال الخليل : الكبت هو الصرع على الوجه و قال النضر بن شميل و ابن قتيبة : هو الغيظ و الحزن و هو في الأشقاق الأكبر من كبده كأن الغيظ و الحزن أصاب كبده كما يقال : أحرق الحزن و العداوة كبده و قال أهل التفسير : كتبوا أهلكوا و أخزوا و حزنوا فثبت أن المحادة أن مكبوت مخزى ممتل غيظا و حزنا هالك و هذا إنما يتم إذا خاف إن أظهر المحاداة أن يقتل و إلا فمن أمكنه إظهار المحادة و هو آمن على دمه و ماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان و لأنه قال : { كتبوا كما كتب الذين من قبلهم } و الذين من قبلهم ممن حاد الرسل و حاد رسول الله إنما كتبه الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين و الكبت و إن كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه : { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم } [ آل عمران : 127 ] لكن قوله تعالى : { كما كبت الذين الذين من قبلهم } يعني محادي الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى بيبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك و أيضا فقوله تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي } [ المجادلة 21 ] عقب قوله : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين } دليل على أن المحادة مغالبة و معاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا و الآخر مغلوبا و إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم أن المحاد ليس بمسالم و الغلبة للرسل بالحجة و القهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه و من لم يؤمر بالحرب ملك عدوه و هذا أحسن من قول من قال : [ إن الغلبة للمحارب بالنصر و لغير المحارب بالحجة فعلم أن هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون ]
و أيضا فإن المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد و الفصل و البينونة و كذلك المشاقة من الشق و هو لهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة و المفاصلة و لهذا يقال : إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المحادين و المتشاقين في حد و شق من الآخر و ذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله و لرسوله
و أيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فإن الله سبحانه قال : { فاضربوا فوق الأعناق و اضربوا منهم كل بنان و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله و رسوله فإن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 13 ] فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم و محادتهم فكل من حاد و شاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة
و أيضا فإنه تعالى قال : { و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله } [ الحشر : 4 ] و التعذيب هنا ـ و الله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الإجلاء و أخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله تعالى و رسوله و من أظهر المحادة فقد شاق الله و رسوله بخلاف من كتمها فإنه ليس بمحاد و لا مشاق
و هذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال : هو محاد و إن لم يكن مشاقا و لهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكتوبا كما كبت من قبله و أن يكون في الأذلين و جعل جزاء المشاق القتل و التعذيب في الدنيا و لن يكونا مكبوتا كما كبت من قبله في الأذلين إلا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة أعم و لهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } الآية [ المجادلة : 22 ] إنها نزلت فيمن قتل [ من ] المسلمين أقاربه في الجهاد و فيمن أراد أن يقتل [ من ] تعرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالأذى من كافر أو منافق قريب له فعلم أن المحاد يعم المشاق و غيره(2/73)
و يدل على ذلك أنه قال سبحانه : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم و لا منهم } الآيات إلى قوله { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } و إنما نزلت في المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم و كان أولئك اليهود أهل عهد من النبي صلى الله عليه و سلم ثم إن الله سبحانه بين أن المؤمنين لا يوادون من حاد الله و رسوله و لا بد أن يدخل في ذلك عدم المودة لليهود و إن كانوا أهل ذمة لأنه سبب النزول و ذلك يقتضي أن أهل الكتاب محادون لله و رسوله و إن كانوا معاهدين و يدل على ذلك أن الله قطع الموالاة بين المسلم و الكافر و إن كان له عهد و ذمة و على هذا التقدير يقال : عوهدوا على أن يظهروا المحادة و لا يعلنوا بها بالإجماع كما تقدم و كما سيأتي فإذا أظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة و هؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل و نحوه و عذاب الآخرة فإن قيل : إذا كان كل يهودي محادا لله و رسوله فمن المعلوم أن العهد يثبت لهم مع التهود و ذلك ينفض ما قدمتم من أن المحاد لا عهد له
قيل : من سلك هذه الطريقة قال : المحاد لا عهد له مع إظهار المحادة فأما إذا لم يظهر لنا المحادة فقد أعطيناه العهد و قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] يقتضي أن الذلة تلزمه فلا تزول إلا بحبل من الله و حبل من الناس و حبل المسلمين معه على أن لا يظهر المحادة بالإتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه أن يكون أذل فعل ما لم يعاهد عليه أو يقول صاحب هذا المسلك : الذلة لازمة لهم كل حال كما أطلقت في سورة البقرة و قوله تعالى : { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله } يجوز أن يكون تفسيرا للذلة أي ضربت عليهم أنهم أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا إلا بحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة و إنما يرفع بعض موجباتها و هو القتل فإن من كان لا يعصم دمه إلا بعهد فهو ذليل و إن عصم دمه بالعهد لكن هذا التقدير تضعف الدلالة الأولى من المحدة و الطريقة الأولى أجود كما تقدم و في زيادة تقريرها طول
الموضع الخامس : قوله سبحانه : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة } [ الأحزاب : 57 ] و هذه الآية توجب قتل من آذى الله و رسوله كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره و العهد لا يعصم من ذلك لأنا لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله و رسوله
و يوضح ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشراف فإنه قد آذى الله و رسوله ] فندب المسلمين إلى يهودي كان معاهدا لأجل أنه آذى الله و رسوله فدل ذلك على أنه لا يوصف كل ذمي بأنه يؤذي الله و رسوله و إلا لم يكن فرق بينه و بين غيره و لا غيره و لا يصح أن يقال : اليهود ملعونون في الدنيا و الآخرة مع إقرارهم على ما يوجب ذلك لأنا لم نقرهم على إظهار أذى الله و رسوله و إنما أقررناهم على أن يفعلوا بينهم كما هو من دينهم و أما الآيات الدالات على كفر الشاتم و قتله أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدا و إن كان مظهرا للإسلام ـ فكثيرة مع أن هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد منها قوله تعالى : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل : أذن خير لكم } إلى قوله : { و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } [ التوبة : 61 ] إلى قوله : { ألم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله } فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله و لرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلا فيه و لولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفا إذ أمكن أن يقال : إنه ليس بمحاد و دل ذلك على أن الإيذاء و المحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالدا فيها و لم يقل [ هي جزاؤه ] و بين الكلامين فرق بل المحادة هي المعاداة و المشاقة و ذلك كفر و محاربة فهو أغلظ من مجرد الكفر فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه و سلم كافرا عدوا لله و رسوله محاربا لله و رسوله لأن المحادة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كل واحد منهما في حد كما قيل [ المشاقة : أن يصير كل منهما في شق و المعاداة : أن يصير كل منهما في عداوة ]
[ إذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه ]
و في الحديث أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ من يكفيني عدوي ] و هذا ظاهر قد تقدم تقريره و حينئذ فيكون كافرا حلال الدم لقوله تعالى : { إن الذين يحادون الله و رسوله أولئك في الأذلين } [ المجادلة : 20 ] و لو كان مؤمنا معصوما لم يكن أذل لقوله تعالى : { و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] و قوله تعالى : { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } [ المجادلة : 5 ] و المؤمن لا يكبت كما كبت مكذبوا الرسل قط و لأنه قد قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } الآية [ المجادلة : 22 ] فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه ؟ و قد قيل : إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي صلى الله عليه و سلم فأراد الصديق قتله
أو أن ابن أبي تنقص النبي صلى الله عليه و سلم فستأذن ابنه النبي صلى الله عليه و سلم في قتله لذلك فثبت أن المحاد كافر حلال الدم(2/74)
و أيضا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين و بين المحادين لله و رسوله و المعادين لله و رسوله فقال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم } الآية [ المجادلة : 22 ] و قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] فعلم أنهم ليسوا من المؤمنين
و أيضا فإنه قال سبحانه : { و لولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب } [ الحشر : 4 ] فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا و لعذاب النار في الآخرة مشاقة الله و رسوله و المؤذي للنبي صلى الله عليه و سلم مشاق لله و رسوله كما تقدم و العذاب هنا هو الإهلاك بعذاب من عنده أو بأيدينا و إلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال و فراق الأوطان
و قال سبحانه : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فأضربوا فوق الأعناق و آضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله } [ الأنفال : 12 ، 13 ] فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم و الأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله و رسوله فكل من شاق الله و رسوله يستوجب ذلك قال مجاهد : [ هو أذن ] يقولون : سنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا
و قال الوالبي عن ابن عباس : [ يعني أنه يسمع من كل أحد ]
قال بعض أهل التفسير : [ كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و يقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فإنما محمد أذن سامعة ] فأنزل الله هذه الآية [ التوبة : 61 ]
و قال ابن اسحاق : كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه : [ من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ] ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا عليه فأنزل الله هذه الآية [ التوبة : 61 ]
و قولهم [ أذن ] قالوا : ليتبينوا أن كلامهم مقبول عنده فأخبر الله أنه لا يصدق إلا المؤمنين و إنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير لا لأنه صدقهم
قال سفيان بن عيينة : [ أذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخبر و من القول و لا يؤاخذكم بما في قلوبكم و يدع سرائركم إلى الله تعالى و ربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء و استخفاف ] فإن قيل : فقد روى نعيم بن حماد [ قال ] [ حدثنا محمد بن ثورعن يونس عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم لا تجعل لفاجر و لفاسق عندي يدا و لا نعمة فإني وجدت فيما أوحيته { لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله } ]
قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو أحمد العسكري و ظاهر هذا أن كل فاسق لا يبغي مودته فهو محاد لله و رسوله مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدم
=============
قتل من يسب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة (1)
ثم ذكر حصارهم و إجلاءهم إلى أذرعات و هم بنو قينقاع الذين كانوا بالمدينة
فقد ذكر ابن كعب مثل ما في الصحيفة و بين أنه عاهد جميع اليهود و هذا مما لا نعلم فيه ترددا بين أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه و سلم و من تأمل الأحاديث المأثورة و السيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة و إنما ذكرنا هذا لأن بعض المصنفين في الخلاف قال : [ يحتمل أن هذه المرأة ما كانت ذمية ]
و قائل هذا ممن ليس له بالسنة كثير علم و إنما يعلم منها في الغالب ما يعلمه العامة ثم إنه أبطل هذا الاحتمال فقال : [ لو لم تكن ذمية لم يكن للإهدار معنى فإذا نقل السب و الإهدار تعلق الجم بالزنا و القطع بالسرقة ] و هذا صحيح و ذلك أن في نفس الحديث ما يبين أنها كانت ذمية من وجهين : أحدهما أنه قال : إن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فخنقها رجل فأبطل دمها فرتب علي رضي الله عنه إبطال الدم على الشتم بحرف الفاء فعلم أنه هو الموجب لإبطال دمها لأن تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية و إن كان ذلك في اللفظ الصحابي كما لو قال : [ زنا ماعز فرجم ] و نحو ذلك إذ لا فرق فيما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم من أمر و نهي و حكم و تعليل في الاحتجاج به أن يحكي لفظ النبي صلى الله عليه و سلم أو يحكى بلفظه معنى [ كلام ] النبي صلى الله عليه و سلم فإذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أو نهانا عن كذا أو حكم بكذا أو فعل كذا لأجل كذا كان حجة لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد أن يعلم الذي يجوز له معه أن ينقله و تطرق الخطأ إلى مثل ذلك لا يلتفت إليه كتطرق النسيان و السهو في الرواية و هذا يقرر في موضعه
و مما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر له أنها قتلت نشذ الناس في أمرها فلما ذكر له ذنبها أبطل دمها و هو صلى الله عليه و سلم إذا حكم بأمر عقب حكاية حكيت له دل ذلك على أن ذلك المحكي هو الموجب لذلك الحكم لأنه حكم حادث فلا بد له من سبب حادث و لا سبب إلا ما حكي له و هو مناسب فتجب الإضافة إليه
__________
(1) - الصارم المسلول - (ج 1 / ص 70)(2/75)
الوجه الثاني : أن نشد النبي صلى الله عليه و سلم الناس في أمرها ثم إبطال دليل دمها على أنها كانت معصومة و أن دمها كان قد انعقد سبب ضمانه و كان مضمونا لو لم يبطله النبي صلى الله عليه و سلم لأنها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها و لم يحتج أن يبطل دمها و يهدره لأن الإبطال و الإهدار لا يكون إلا لدم قد انعقد له سبب الضمان ألا ترى أنه لما رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه أنكر قتلها و نهى عن قتل النساء و لم يهدره فإنه إذا كان في نفسه باطلا هدرا و المسلمون يعلمون أن دم الحربية غير مضمون بل هو هدر لم يكن لإبطاله و إهداره وجه و هذا و لله الحمد ظاهر
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهد المعاهدين اليهود عهدا بغير ضرب جزية عليهم ثم إنه أهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية و الزموا أحكام العلة لأجل ذلك أولى و أحرى و لو لم يكن قتلها جائزا ليبين للرجل قبح ما فعل فإنه قد قال صلى الله عليه و سلم : [ من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة ] و لأوجب ضمانها أو الكفارة [ كفارة قتل المعصوم ] فلما أهدر دمها علم أنه كان مباحا الحديث الثاني : ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم و تقع فيه فينهاها فلا تنتهي و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها و اتكأ عليها فقتلها فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فجمع الناس فقال : [ أنشد رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام ] قال : فقام الأعمى يتخطى الناس و هو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك و تقع فيك فأنهاها فلا تنتهي و أزجرها فلا تنزجر و لي منها ابنان مثل اللؤلؤتين و كانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك و تقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها و اتكأت عليه حتى قتلها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا اشهدوا أن دمها هدر ] رواه أبو داود النسائي
و المغول ـ بالغين المعجمة ـ قال الخطابي : شبيه المشمل نصلة دقيق ماض و كذلك قال غيره : هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط و المشمل : السيف القصير سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل أي يغطيه بثوبه و اشتقاق المغول من غاله الشيء و اغتياله إذا أخذه من حيث لم يدر و هذا الحديث مما استدل به الإمام أحمد و في رواية عبد الله قال : حدثنا روح حدثنا عثمان الشحام حدثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه و سلم فقتلها فسأله عنها فقال : يل رسول الله إنها كانت تشتمك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن دم فلانة هدر ]
فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى و يدل عليه كلام الإمام أحمد لأنه قيل له في رواية عبد الله : في قتل الذمي إذا سب أحاديث ؟ قال : نعم منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال : سمعها تشتم النبي صلى الله عليه و سلم ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين و يكون قد خنقها و بعج بطنها بالمغول : أو يكون كيفية القتل غير محفوظ في إحدى الروايتين و يؤيد ذلك أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المرأة تحسن إليه و تكرر الشتم و كلاهما قتلها وحدة و كلاهما نشد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها الناس بعيد في العادة و على هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية و هذا قول القاضي أبي يعلى و غيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي و نقضه العهد و جعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة
و يمكن أن تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي : [ فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل و ذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه و سلم ارتداد عن الدين و هذا دليل على أنه أعتقد أنها مسلمة و ليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر أنها كافرة و كان العهد لها بملك المسلم إياها فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة و هم أشد في ذلك من المعاهدين أو بتزوج المسلم بها فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة في العصمة لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم الإ عن ردة و اختيار دين غير الإسلام و لو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك أياما طويلة و لم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما إن كان يطوها فإن وطء المرتدة لا يجوز و الأصل عدم تغير حالها و أنها كانت باقية على دينها و مع ذلك إن الرجل لم يقل كفرت و لا ارتدت و إنما ذكر مجرد السب و الشتم فعلم أنه لم يصدر منها قدر زائد على السب و الشتم من انتقال من دين أو نحو ذلك(2/76)
و هذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكة له و على التقديرين فلو لم يكن قتلها حائزا لبين النبي صلى الله عليه و سلم له أن قتلها كان محرما و أن دمها كان معصوما و لأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم و الدية إن لم تكن مملوكة له فلما قال : [ اشهدوا أن دمها هدر ] ـ و الهدر الذي لا يضمن بقود و لا دية و لا كفارة ـ علم أنه كان مباحا مع كونها ذمية فعلم أن السب أباح دمها لا سيما و النبي صلى الله عليه و سلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السب فعلم أنه الموجب لذلك و القصة ظاهرة الدلالة في ذلك الحديث الثالث : ما احتج به الشافعي : على أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم قتل و برئت منه الذمة و هو قصة كعب بن الأشرف اليهودي
قال الخطابي : قال الشافعي : [ يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه و سلم و تبرأ منه الذمة ] و احتج في ذلك بخبر ابن الأشرف و قال الشافعي في الأم : [ لم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم و لا قربه أحد من مشركي أهل الكتاب إلا يهود أهل المدينة و كانوا حلفاء الأنصار و لم تكن الأنصار أجمعت أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إسلاما فوادعت يهود رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر و لا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته و التحريض عليه فقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم ]
و القصة مشهورة مسفيضة و قد رواها عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فقام محمد بن مسلمة فقال : أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم قال : فإذن لي أن أقول شيئا قال : قل قال : فأتاه و ذكره ما بينهم قال : إن هذا الرجل قد أراد الصدفة و عنانا فلما سمعه قال : و أيضا و الله لتملنه قال : إنا قد تبعناه الآن و نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال : و قد أردت أن تسلفني سلفا قال : فما ترهنوني ؟ نساءكم قال : أنت أجمل العرب ؟ أنرهنك نساءنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهنت في و سقين من تمر و لمن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال : نعم و واعده أن يأتيه بالحرب و أتى أبا عبس بن جبر و عباد بن بشر فجاؤا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان : قال غير عمرو : قالت له امرأته : إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال : إنما هذا محمد و رضيعه أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد : إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل نزل و هو متوشح قالوا : نجد منك ريح الطيب قال : نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال : أفتأذن لي أن أشم منه ؟ قال : نعم فشم ثم قال : أتأذن لي أن أدعو ؟ قال : فاستمكن منه ثم قال : دونكم فقتلوه متفق عليه
و روى ابن أبي أويس عن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يعين عليه و لا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعادة النبي صلى الله عليه و سلم فكان أول ما خزع خزع عنه قوله :
( أذاهب أنت لم تحلل بمرفثة ... و تارك أنت أم الفضل بالحرم ؟ )
في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قتله و هذا محفوظ عن أبي أويس رواه الخطابي و غيره و قال : قوله [ خزع ] معناه قطع عهده و في رواية غير الخطابي [ فخزع منه هجاؤه له بقتله ] و الخزع : القطع يقال : خزع فلان عن أصحابه يخزع خزعا أي انقطع و تخلف و منه سميت خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم و أقاموا بمكة فعلى اللفظ الأول يكون التقدير أن قوله خزعة عن النبي صلى الله عليه و سلم أي أول غضاضة عنه بنقض العهد و على الثاني قيل : معناه قطع هجاء للنبي صلى الله عليه و سلم منه بمعنى أنه نقض عهده و ذمته و قيل : معناه خزع من النبي صلى الله عليه و سلم هجاء : أي نال منه و شعث منه و وضع منه
و ذكر أهل المغازي و التفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي صلى الله عليه و سلم في جملة من وادعه من يهود المدينة و كان عربيا من بني طي و كانت أمه من بني النضير قالوا : فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه و ذهب إلى مكة و رثاهم لقريش و فضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
ثم رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و شبب بنساء المسلمين حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله و رسوله ؟ ] و ذكر قصة مبسوطة(2/77)
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر و ذكر القصة إلى قتله قال : ففزعت يهود و من معها من المشركين فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم حين أصبحوا فقالوا : قد طرق صاحبنا الليلة و هو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم و لا حدث علمناه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود و خافت و ذلت من يوم قتل ابن الأشرف و الاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين :
أحدهما : أنه كان معاهدا مهادنا و هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي و السير و هم عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة
و مما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود : بني قينقاع و النضير و قريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف من بني النضير و أمرهم ظاهر في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه و سلم و إنما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري و كان ذلك بعد مقتل كعب ابن الأشرف و قد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدا للنبي صلى الله عليه و سلم ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم جعله ناقضا للعهد بهجائه و أذاه بلسانه خاصة
و الدليل على أنه إنما نقض العهد بذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب ابن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فعلل ندب الناس له بأذاه و الأذى المطلق هو باللسان كما قال تعالى : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا } [ آل عمران : 186 ] و قال تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] و قال : { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } [ التوبة : 61 ] و قال : { لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } الآية [ الأحزاب : 69 ] و قال : { و لا مستأذنين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } إلى قوله : { و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } الآية [ الأحزاب : 53 ] ثم ذكر الصلاة عليه و التسليم خبرا و أمرا و ذلك من أعمال اللسان ثم قال : { إن الذين يؤذون الله و رسوله } إلى قوله : { و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات } [ الأحزاب : 58 ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تبارك و تعالى : [ يؤذيني ابن آدم يسب الدهر و أنا الدهر ] و هذا كثير
و قد تقدم أن الآذى اسم لقليل الشر و خفيف المكروه بخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لا يضر المؤذي في الحقيقة
و أيضا فإنه جعل مطلق أذى الله تعالى و رسوله موجبا لقتل رجل معاهد و معلوم أن سب الله و سب رسوله أذى لله و لرسوله و إذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم و لا سيما إذا كان مناسبا و ذلك يدل على أن الله و رسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين و هذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله و رسوله و السب من أذى الله و رسوله باتفاق المسلمين بل هو أخص أنواع الأذى
و أيضا فقد قدمنا في حديث جابر أن أول ما نقض به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ عندما هجاه بهذه القصيدة ـ ندب إلى قتله و هذا وحده دليل على أنه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة
و ما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك و يؤيده و إن كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه بالمغازي و استعلام كثير من تفاصيلها من جهته و لم نذكر عنه إلا ما أسندناه عن غيره
فقوله : [ لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل و لكنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] نص في أنه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء و نحوه و أن من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف و حديث لجابر المسند من الطريقين يوافق هذا و عليه العمدة في الاحتجاج و أيضا فإنه لما ذهب إلى مكة و رجع إلى المدينة لم يندب النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله و الحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم أن ذلك الهجاء و الأذى الذي كان بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده و لقتله و إذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن الذي يعطي الجزية و يلتزم أحكام الملة ؟
فإن قيل : إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب و الهجاء(2/78)
فروى الإمام أحمد قال : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما قدم كعب ابن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا و نحن أهل الحجيج و أهل السدانة و أهل السقاية قال : أنتم خير قال : فنزلت فيهم : { إن شانئك هو الأبتر } [ الكوثر : 3 ] قال : و أنزلت فيه : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } إلى قوله { نصيرا } [ النساء : 52 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق قال : قال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه و سلم و أمرهم أن يغزوه و قال لهم إنا معكم فقالوا : إنكم أهل كتاب و هو صاحب كتاب و لا نأمن أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين و آمن بهما ففعل ثم قالوا له : أنحن أهدى أم محمد ؟ نحن نصل الرحم و نقري الضيف و نطوف بالبيت و ننحر الكوماء و نسقي اللبن على الماء و محمد قطع رحمه و خرج من بلده قال بل أنتم خير و أهدى قال : فنزلت فيهم : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [ النساء : 51 ]
و قال : حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم : ديننا خير أم دين محمد ؟ قال : اعرضوا علي دينكم قالوا : نعمر بيت ربنا و ننحر الكوماء و نسقي الحاج الماء و نصل الرحم و نقري الضيف قال : دينكم خير من دين محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية
قال موسى بن عقبة عن الزهري كان كعب بن الأشرف اليهودي ـ و هو أحد بني النضير أو هو فيهم ـ قد آذى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهجاء و ركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد و أصحابه ؟ و أينا أهدى في رأيك و أقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء و نسقي اللبن على الماء و نطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف : أنتم أهدى منهم سبيلا ثم خرج مقبلا حتى أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه و سلم معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه و سلم و بهجائه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لنا من ابن الأشرف ؟ قد استعلن بعداوتنا و هجائنا و قد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا و قد أخبرني الله بذلك ثم قدم على أخبث ما ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم ] ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين ما أنزل فيه و إن كان لذلك و الله أعلم قال الله عز و جل : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله { سبيلا } [ النساء : 51 ] و آيات معها فيه و في قريش
و ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت ] فقال له محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله أقتله و ذكر القصة في قتله إلى آخرها ثم قال : فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله و رسوله و هجائه إياه و تأليبه عليه قريشا و إعلانه بذلك
و قال محمد بن إسحاق : كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر و قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة و عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى و قتل من قتل من المشركين
كما حدثني عبد الله ابن المغيث بن أبي بردة الظفري و عبد الله بن أبي بكر و عاصم بن عمر بن قتادة و صالح بن أبي أمامة بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا : كان كعب بن الأشرف من طيء ثم أحد بني نبهان و كانت أمه من بني النضير فقال حين بلغه : أحق هذا الذي يروون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان ؟ ـ يعني زيدا و عبد الله بن رواحة ـ فهؤلاء أشراف العرب و ملوك الناس و الله لئن كان محمد أصحاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة و نزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي و عنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فأنزلته و أكرمته و جعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد الأشعار و يبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر و ذكر شعرا و ما رد عليه حسان و غيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ كما [ حدثني عبد الله بن أبي المغيث ـ : من لي بابن الأشرف ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله و ذكر القصة(2/79)
و قال الواقدي : حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان و معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك و إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا لنا عليه قالوا : ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الخلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا فكان المشركون و اليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه أذى شديدا فأمر الله نبيه و المسلمين بالصبر على ذلك و العفو عنهم و فيهم أنزل : { و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] و فيهم أنزل الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب } الآية [ البقرة : 109 ] فلما أبى ابن الأشرف أن يمسك عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و إيذاء المسلمين و قد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين و أسر من أسر منهم و رأى الأسرى مقرنين كبت و ذل ثم قال لقومه : ويلكم ! و الله لبطن الأرض خير لكم اليوم هؤلاء سراة قد قتلوا و أسروا فما عندكم ؟ قالوا : عداوته ما حيينا قال : و ما أنتم و قد وطئ قومه و أصابهم ؟ و لكني أخرج إلى قريش فأخصها و أبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة و وضع رحله عند أبي وداعة بن أبي صبرة السهمي و تحته عاتكة بنت أسد بن أبي العيص فجعل يرثي قريشا و ذكر ما رثاهم به من الشعر و ما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذين نزل فيهم قال : فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله و قالت : ما لنا و لهذا اليهودي ؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان ؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حسان فقال : ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحله فلما لم يجد مأوى قدم المدينة فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم قدوم ابن الأشرف قال : [ اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في اعلانه الشر و قوله الأشعار ] و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من لي من ابن الأشرف فقد آذاني ؟ ] فقال محمد بن مسلمة : أنا به يا رسول الله و أنا أقتله قال : فافعل و ذكر الحديث فقد جمع لابن الأشرف ذنوب : أنه رثى قتلى قريش و خصهم على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم و واطأهم على ذلك و أعانهم على محاربته بإخباره أن دينهم خير من دينه ز هجا النبي صلى الله عليه و سلم و المؤمنين
قلنا : الجواب من وجوه :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة و قال ما قال هناك و إنما ندب إلى قتله لما قدم و هجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله : [ ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي صلى الله عليه و سلم ] ثم أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع و أن النبي صلى الله عليه و سلم حينئذ ندب إلى قتله
و كذلك في حديث موسى بن عقبة [ من لنا من ابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا و هجائنا ؟ ]
و يؤيد ذلك شيئان :
أحدهما : أن سفيان بن عتبة روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : [ جاء حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا : أنتم أهل الكتاب و أهل العلم فأخبرونا عنا و عن محمد فقالوا : ما أنتم و ما محمد ؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام و ننحر الكوماء و نسقي الماء على اللبن و نفك العناة و نسقي الحجيج و محمد صنبور قطع أرحامنا و اتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : بل أنتم خير و أهدى سبيلا فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } لإلى قوله : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ]
و كذلك قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف و حيي ابن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون : نحن أهدى أم محمد و أصحابه ؟ فإنا أهل السدانة و أهل السقاية و أهل الحرم فقالا : أنتم أهدى من محمد و أصحابه و هما يعلمان أنهما كاذبان إنما حملهما على ذلك حسد محمد و أصحابه فأنزل الله تعالى فيهم : { أولئك الذين لعنهم الله و من يلعن الله فلن تجد له نصيرا } [ النساء : 52 ] فلما رجعا إلى قومهما : إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا و كذا قالا : صدق و الله ما حملنا على ذلك إلا حسده و بغضه(2/80)
و هذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما أن كلا الرجلين ذهبا إلى مكة و قالا ما قالا ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه و سلم إلى قتل ابن الأشرف و أمسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه و سلم فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجب للندب إلى قتل ابن الأشرف و إنما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء و نحوه و إن كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضدا لكن مجرد الأذى لله و رسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] و كما بينه جابر في حديثه
الوجه الثاني : أن ابن أبي أويس قال : حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن أبيه عن جابر قال : لما كان من أمر النبي صلى الله عليه و سلم و بني قريظة [ كذا فيه : و أحسبه بني قينقاع ] اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكة و كان منها : و قال : و لا أعين عليه و لا أقاتله فقيل له بمكة أديننا خير أم دين محمد و أصحابه ؟ قال : دينكم خير و أقدم من دين محمد و دين محمد حديث فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربته
الجواب الثاني : أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذى باللسان فإن مرثيته لقتلى المشركين و تحضيضه و سبه و هجاءه و طعنه في دين الإسلام و تفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان و لم يعمل عملا فيه محاربة و من نازعنا في سب النبي صلى الله عليه و سلم و نحوه فهو في تفضيل دين الكفار و حضهم باللسان على قتل المسلمين أشد منازعة لأن الذمي إذا تجسس لأهل الحرب و أخبرهم بعورات المسلمين و دعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندما ينتقض عهد الساب و من قال إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول : [ لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار و مطالعتهم بأخبار المسلمين ] بطريق الأولى عندهم و هو مذهب أبي حنيفة و الثوري و الشافعي على خلاف بين أصحابه و ابن الأشرف لم يوجد منه إلا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل
و نحن نقول : إن ذلك كله نقض للعهد
الجواب الثالث : أن تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي صلى الله عليه و سلم بلا ريب فإن كون الشيء مفصولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فإن كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بطريق الأولى و أما مرثيته للقتلى و حضهم على أخذ ثأرهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة و قريش كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه و سلم عقب بدر و أرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته و تفضيله مما زادهم غيظا و محاربة لكن سبه للنبي صلى الله عليه و سلم و هجاؤه له و لدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة و يغريهم به فعلم أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام و أبلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى و لهذا قتل النبي صلى الله عليه و سلم جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه و يهجونه مع عفوه عمن كانت تعين عليه و تحض على قتاله
الجواب الرابع : أن ما ذكره حجة لنا من وجوه أخر و ذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة أن قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } [ النساء : 51 ] نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش و قد أخبر الله سبحانه أنه لعنه و أن من لعنه فلن تجد له نصيرا و ذلك دليل على أنه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب أنتقاض عهده و عدم ناصره فكيف بما هو أغلظ منه من شتم و سب ؟ و إنما لم يجعله النبي صلى الله عليه و سلم و الله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام و لم يجهر به و إنما أعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم في الأحاديث و لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليأخذ أحدا من المسلمين و المعاهدين إلا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة و أعلن الهجاء و العداوة استحق أن يقتل لظهور اذاه و ثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى يظهر المحاربة و يثبت عليه فإن قيل : كعب بن الأشرف سب النبي صلى الله عليه و سلم بالهجاء و الشعر كلام موزون يحفظ و يروى و ينشد بالأصوات و الألحان و يشتهر بين الناس و ذلك له من التأثير في الأذى و الصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور و لذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يأمر حسان أن يهجوهم و يقول : [ لهو أنكى فيهم من النبل ] فيؤثر هجاؤه فيهم أثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور أضعاف الشعر
و أيضا فإن كعب بن الأشرف و أم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه و سلم و أذاه و كثر و الشيء إذا كثر و استمر صار له حال اخرى ليست له إذا انفرد و قد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة و إن لم يجيزوا قتل من لم يتكررمنه فإذا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به(2/81)
قلنا أولا : إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده و يبقى الكلام في الناقض للعهد : هل هو نوع خاص من السب ـ و هو ما كثر أو غلظ ـ أو مطلق السب ؟ هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال إنه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة فلو زعم زاعم أن شيئا من الكلام الذمي و أذاه لا يبيح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لأحد
و قلنا ثانيا : لا ريب أن الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أوصفة و قدرا فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل والد أو ولد عالم صالح و لا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين و ليست الجناية في الأوقات و الأماكن و الأحوال المشرفة كالحرم و الإحرام و الشهر الحرام كالجناية في غير ذلك و كذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب و قال النبي صلى الله عليه و سلم ـ و قد قيل له : أي الذنب أعظم ؟ ـ قال : [ أن تجعل لله ندا و هو خلقك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] قيل له : ثم أي ؟ قال : [ ثم أن تزاني حليلة جارك ] و لا شك أن من قطع الطريق مرات متعددة و سفك دماء خلق من المسلمين و كثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يقطعه إلا مرة واحدة و لا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو نظم القصائد في سبه فإن جرمه أغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث أن تكون إقامة الحد عليه أوكد و الانتصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم أوجب و 'ن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك
لكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله و رسوله و مطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده و إن كان بعض الأشخاص أغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا و ذلك من وجوه : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله و رسوله ؟ ] فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله و رسوله و أذى الله و رسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع و لا بقدر فيجب أن يكون أذى الله و رسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي و غيره و قليل السب و كثيره و منظومه و منثوره أذى بلا ريب فيتعلق به الحكم و هو أمر الله و رسوله بقتله و لو لم يرد هذا المعنى لقال : من لكعب فإنه قد بالغ في أذى الله تعالى و رسوله أو قد أكثر من أذى الله و رسوله أو قد داوم على أذى الله و رسوله و هو صلى الله عليه و سلم الذي أوتي جوامع الكلم و هو الذي لا ينطق عن الهوى و لم يخرج من بين شفتيه صلى الله عليه و سلم إلا حق في غضبه و رضاه و كذلك قوله في الحديث الأخر : [ إنه نال منا الأذى و هجانا بالشعر و لا يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف ] و لم يقيده بالكثرة
الثاني : أنه آذاه بهجائه المنظوم و اليهودية بكلام منثور و كلاهما أهدر دمه فعلم أن النظم ليس له تأثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم و الوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التأثير فلا يجعل جزءا من العلة و لا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذاك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل و الزنا أما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الأعم هو العلة و الأخص عديم التأثير الوجه الثالث : أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله و كثيره و غليظه و خفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة و الزنا و المحاربة و نحو ذلك و هذا هو قياس الأصول فمن زعم أن من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر و لا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول و ليس له ذلك إلا بنص يكون أصلا بنفسه و لا نص يدل على إباحة القتل في الكثير دون القليل و ما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل و الفاحشة في الدبر دون القبل إنما هو حكاية مذهب و الكلام في الجميع واحد
ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجارية من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع أنه لم يتكرر منه و قال في الذي يعمل عمل قوم لوط [ اقتلوا الفاعل و المفعول به ] و لم يعتبر التكرر و كذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك إما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر
و إذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة و المرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل و لا نظير له بل على خلاف الأصول الكلية و ذلك غير جائز
يوضح ذلك : أن ما ينقص الإمان من الأقوال يستوي فيه واحده و كثيره و إن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسب الرسول مرة واحدة فإنه كما [ لو ] صرح بتكذيب الرسول
و كذلك ما ينقض الإمان من الأقوال لو صرح به و قال : [ قد نقضت العهد و برئت من ذمتك ] انتقض عهده بذلك ويكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب و الطعن في الدين و نحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير(2/82)
الوجه الرابع : أنه إذا أكثر من هذه الأقوال و الأفعال فإما أن يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فإن كان الأول فهو المطلوب و إن كان الثاني فما حد ذلك المقدار المبيح للدم ؟ و ليس لأحد أن يحد في ذلك حدا إلا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات و الثلاثة منفية في مثل هذا فإنه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص فلا يبيحه أقل منه و لا ينتقض هذا بالإقرار في الزنا فإنه لا يثبت إلا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فإنه لا يثبت إلا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنة فإنه لا يثبت إلا بعد أن يشهد الزوج أربع مرات عند من يرى أنها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار و لا الأيمان و إنما المبيح فعل الزنا أو فعل القتل و إنما الإقرار و الأيمان حجة و دليل على ثبوت ذلك و نحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نصب محدودة و إنما قلنا : إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع و إنما الحكم معلق بجنسه
الوجه الخامس : أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيرا يرجع إلى رأي الإمام فإن كان الأول فلا بد من تحديد موجبه و لا حد له إلا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم و إن كان الثاني فليس في الأصول تعزير بالقتل فلا يجوز إثباته إلا بدليل يخصه و العمومات الواردة في ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ]
تدل على ذلك أيضا
الوجه الثاني من الاستدلال به : أن النفر الخمسة الذين من المسلمين : محمد بن مسلمة و أبا نائلة و عباد بن بشر و الحارث بن أوس و أبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يغتالوه و يخدعوه بكلام يظهرون به أنهم قد آمنوا و وافقوه ثم يقتلوه و من المعلوم أن من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه و كلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق [ من أمن رجلا على دمه و ماله ثم قتله فأنا منه بريء و إن كان المقتول كافرا ] رواه الإمام أحمد و ابن ماجه
و عن سليمان بن صرد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمنك الرجل على دمه فلا تقتله ] رواه ابن ماجه
و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن ] رواه أبو داود و غيره و قد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان و نقض العهد قبل هذا و زعم مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات و الإغارة عليهم في أوقات الغرة لكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا و أدنى أحواله أن تكون له شبهة أمان و مثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فإن الأمان يعصم الحربي و يصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه و إنما قتلوه لأجل هجائه و أذاه لله و رسوله و من حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان و لا عهد كما لو آمن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق و محاربة الله و رسوله و السعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو آمن من وجب زناه أو آمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام و نحو ذلك و لا يجوز له أن يعقد له عقد عهد سواء كان عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود و ليس قتله لمجرد كونه كافرا كما سيأتي و أما الإغارة و البيات فليس هناك قول و لا فعل صاروا به آمنين و لا اعتقدوا أنهم قد أومنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت أن أذى الله و رسوله بالهجاء و نحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فإن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة و الهدنة المؤقتة بطريق الأولى فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر و يعقده كل مسلم و لا يشرط على المستأمن شيء من الشروط و الذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه و لا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة : من التزام الصغار و نحوه و قد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان و ذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك روى ابن وهب : أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان ابن سعيد الثوري إن أبيه عن عباية قال : ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين : كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة : يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لا تنكر ؟ و الله لا يظلني و إياك سقف بيت أبدا و لا يخلو لي دم هذا إلا قتله(2/83)
و قال الواقدي : حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال : قال مروان بن الحكم و هو على المدينة و عنده ابن يامين النضري : كيف كان قتل ابن الأشرف ؟ قال ابن يامين : كان غدرا و محمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال : [ يا مروان أيغدر رسول الله صلى الله عليه و سلم عندك ؟ و الله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و الله لا يؤويني و إياك سقف بيت إلا المسجد ] و أما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت و قدرت عليك و في يدي سيف إلا ضربت به رأسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر و إلا لم ينزل فبينا محمد في جنازة و ابن يامين في البقيع فرأى محمدا نعشا عليه جرائد يظنه لا يراه فعاجله فقام إليه الناس فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ما تصنع ؟ نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل يضربه جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه و رأسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله و لا طباخ به ثم قال : و الله لو قدرت على السيف لضربتك به فإن قيل : [ فإذا كان هو و بنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال : [ حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ظفرتم به من رجال يهود فأقتلوه ] فوثب محصية ابن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم و يبايعهم فقتله و كان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم و كان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه و يقول : أي عدو الله قتله ؟ أما و الله لرب شحم في بطنك من ماله فو الله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة : فقلت له : و الله لقد أمرني بقتله من أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة : و الله إن دينا بلغ منك هذا لمعجب
و قال الواقدي بالأسانيد المتقدمة قالوا : فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ] فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم و لم ينطلقوا و خافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف و ذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال : و فزعت يهود و من معها من المشركين و ساق القصة كما تقدم عنه
فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين و إلا لما أمر بقتل من صودف منهم و يدل هذا على أن العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين اليهود كان بعد قتل ابن الأشرف و حينئذ فلا يكون الأشرف معاهدا ]
قلنا : إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل من ظفر منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم و قد تقدم أنه قال : ما عندكم ؟ يعني في النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : عداوته ما حيينا و كانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله و كان مما يهيجهم على المحاربة و إظهار نقض العهد انتصارهم للمقتول و ذبهم عنه و اما من قر مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة و لهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم و لم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك و أما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده
الصارم المسلول - (ج 1 / ص 104)
و وجه الدلالة أن هذه المرأة لم تقتل إلا لمجرد أذى النبي صلى الله عليه و سلم و هجوه و هذا بين في قول ابن عباس : [ هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم فقال : من لي بها ] فعلم أنما ندب إليها لأجل هجوها و كذلك في الحديث الآخر [ فقال عمير حين بلغه قولها و تحريضها : اللهم إن لك علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لأقتلنها ] و في الحديث لما قال له قومه : [ أنت قتلتها ؟ ] فقال : [ نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون فو الذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم ] فهذه مقدمة
و مقدمة أخرى أن شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي صلى الله عليه و سلم حتى يقال : التحريض على القتال قتال و إنما فيه نحريض على ترك دينه و ذم له و لمن اتبعه و أقصى غاية ذلك أن لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل أو أن يخرج عنه من دخل فيه و هذا شأن كل ساب
يبين ذلك أنها هجته بالمدينة و قد أسلم أكثر قبائلها و صار المسلم بها أعز من الكافر و معلوم أن الساب في مثل هذه الحال لا يقصد أن يقاتل الرسول و أصحابه و إنما يقصد إغاظتهم و أن لا يتابعوا
و أيضا فإنها لم تكن تطمع في التحريض على القتال فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن جميع قبائل الأوس و الخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي صلى الله عليه و سلم بيد و لا لسان و لا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك و إنما غاية الكافر أو المنافق منهم أن يثبط الناس عن أتباعه أو أن يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة و نحو ذلك مما فيه تخذيل عنه و حض على الكفر به لا على قتاله على أن الهجاء إن كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به و يقتل به الذمي فإنه إذا قاتل انتقض عهده لأن العهد اقتضى الكف عن القتال فإذا قاتل بيد أو لسان فقد فعل ما يناقض العهد و ليس بعد القتال غاية في نكث العهد(2/84)
إذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه و سلم الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه صلى عليه و سلم لما قدم المدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس و الخزرج فإنه كان يسالمهم و يتألفهم بكل وجه ن و كان الناس إذ قدمها على طبقات : منهم المؤمن و هم الأكثرون و منهم الباقي على دينه و هو متروك لا يحارب و لا يحارب و هو و المؤمنون من قبيلته و حلفائهم أهل سلم لا أهل حرب حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي صلى الله عليه و سلم على حلفهم
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و ليس فيها دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين إلا بني خطمة و بني واقف و بني وائل كانوا آخر الأنصار إسلاما و حول المدينة حلفاء الأنصار كانوا يستظهرون بهم في حربهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخلوا حلف حلفائهم للحرب التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين من عادى الإسلام
و كذلك قال الواقدي فيما رواه عن يزيد بن رومان و ابن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله في قصة كعب بن الأشرف قال : فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا : [ إن ابن الأشرف كان شاعرا و كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحرض عليهم كفار قريش في شعره ] و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة و أهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة و الحصون و منهم حلفاء للحيين جميعا الأوس و الخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين قدم المدينة ـ استصلاحهم كلهم و موادعتهم و كان الرجل يكون مسلما و أبوه مشركا و المعلوم أن قبائل الأوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض
فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أقرهم كانت هذه المرأة من المعاهدين و كان فيهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه يقول بلسانه ما ليس في قلبه و كان الإسلام و الإيمان يفشو في بطون الأنصار بطنا بعد بطن حتى لم يبق فيهم مظهر للكفر بل صاروا إما مؤمنا أو منافقا و كان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادعا مهادنا أو هو أحسن حالا من اليهود لما يرجى فيه من العصبية لقومه و أن يهوى هواهم و لا يرى أن يخرج عن جماعتهم و كان النبي صلى الله عليه و سلم يعاملهم ـ من الكف عنهم و احتمال أذاهم ـ بأكثر مما يعامل به اليهود لما كان يرجوه منهم و يخاف من تغير قلوب من أظهر الإسلام من قبائلهم لو أوقع بهم و هو في ذلك متبع قوله تعالى : { لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين اشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ]
ثم إنه مع هذا ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته و قال فيمن قتلها : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسوله بالغيب فانظروا إلى هذا ] فثبت بذلك أن هجاءه و ذمه موجب للقتل غير الكفر و ثبت أن الساب يجب قتله و إن كان من الحلفاء و المعاهدين و يقتل في الحال التي يحقن فيها دم من ساواه في غير السب و لا سيما و لو لم تكن معاهدة فقتل المرأة لا يجوز إلا أن تقاتل لأنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة في بعض مغازيه مقتولة فقال : [ ما كانت هذه لتقتاتل ] و نهى عن قتل النساء و الصبيان ثم إنه أمر يقتل هذه المرأة و لم تقاتل بيدها فلو لم يكن السب موجبا للقتل لم يجز قتلها لأن قتل المرأة لمجرد الكفر لا يجوز و لا نعلم قتل المرأة الكافرة الممسكة عن القتال أبيح في وقت من الأوقات بل القرآن و ترتيب نزوله على أنه لم يبح قط لأن أول آية نزلت في القتال : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم } الآية [ الحج : 40 ] فأباح للمؤمنين القتال دفعا عن نفوسهم و عقوبة لمن أخرجهم من ديارهم و منعهم من توحيد الله و عبادته و ليس للنساء في ذلك حظ
ثم إنه كتب عليهم القتال مطلقا و فسره بقوله : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } الآية [ البقرة : 190 ] فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله و النساء لسن من أهل القتال فإذا كان قد أمر بقتل هذه المرأة فإما أن يقال [ هجاؤها قتال ] فهذا يفيدنا أن هجاء الذمي قتال فينقض العهد و يبيح الدم أو يقال [ ليس بقتال ] و هو الأظهر لما قدمناه من أنه لم يكن فيه تحريض على القتال و لا كان لها رأي في الحرب فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم و نحو ذلك يفيد أن السب موجب للقتل بوجوه :
أحدها : أنه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المرأة و إن كانت حربية لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد و لا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجة للقتل و هذا ما أحسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل
الثاني : أن هذه السابة كانت من المعاهدين ممن هو أحسن حالا من غير المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت و لما جاز قتلها و لهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ينتطح فيها عنزان ] مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام فبين صلى الله عليه و سلم أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن و لا كثير رحمة من الله بالمؤمنين و نصرا لرسوله و دينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا(2/85)
الثالث : أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء و أن سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا و أنهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا أو مسلما أو معاهدا حتى يجوز أن يقتل لأجله من لا يقتله بدونه و إن كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر و ذلك في المسلم ظاهر و أما في المعاهد فلأن الهجاء إذا أباح دم المرأة فهو كقتال أو أسوأ حالا من القتال
الرابع : أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة و في أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال و كان قتل الكفار حينئذ محرما و هو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } إلى قوله { فلما كتب عليهم القتال } [ البقرة : 246 ] و لهذا أول ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة لقوله : { أذن للذين يقاتلون } و هذا من العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يخفى على أحد منهم أنه صلى الل عليه و سلم كان قبل الهجرة و بعيدها ممنوعا عن الابتداء بالقتل و القتال و لهذا قال للأنصار الذين بايعوه ليلة العقبة لما استأذنوه في أن يميلوا على أهل منى [ إنه لم يؤذن لي في القتال ] و ذلك حينئذ بمنزلة الأنبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح و هود و صالح و إبراهيم و عيسى بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل
ثم إنه لم يقاتل أحدا من أهل المدينة و لم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر و لا من غيرهم و الآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم و قاتلوهم و نحو ذلك و ظاهر هذا أنه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة فإن دوام إمساكه عنهم يدل على استحبابه أو وجوبه و هو في الوجوب أظهر لما ذكرنا لأن الإمساك كان واجبا و المغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فيبقى على الوجوب المتقدم مع فعله صلى الله عليه و سلم
قال موسى بن عقبة عن الزهري : كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في عدوه قبل أن تنزل براءة يقاتل من قاتله و من كف يده و عاهده كف عنه قال الله تعالى : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } [ النساء : 90 ]
و كان القرآن ينسخ بعضه بعضا فإذا نزلت آية نسخت التي قبلها و عمل بالتي أنزلت و بلغت الأولى منتهى العمل بها و كان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة و إذ أمر بقتل هذه المرأة التي هجت و لم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين على أن السب موجب للقتل و إن كان هناك ما يمنع القتال لولا السب كالعهد و الأنوثة و منع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته
و هذا وجه حسن دقيق فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق و ليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع و لا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع و لا العقول و كان دم الكافرين في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية و بمنع الله المؤمنين من قتله و دماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى و كدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك و قد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا و الآخرة مع أن قتله كان خطأ شبه عمد أو خطأ محضا و لم يكن عمدا محضا
فظاهر سيرة نبينا و ظاهر ما أذن له فيه أن حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فإذا قتل المرأة التي هجت من هؤلاء و ليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل امرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة و أولى لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب و على أن تكون صاغرة و تلك لم نعاهدها على شيء
الحديث السابع : قصة أبي عفك اليهودي ذكرها أهل المغازي و السير قال الواقدي : حدثنا سعيد بن محمد عن عمارة بن غزية و حدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن أشياخه قالا : إن شيخا من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك ـ و كان شيخا كبيرا قد بلغ عشرين و مائة سنة حين قدم النبي صلى الله عليه و سلم كان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه و سلم و لم يدخل في الإسلام فلما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر ظفره الله بما ظفره فحسده و بغى فقال و ذكر قصيدة تتضمن هجو النبي صلى الله عليه و سلم و ذم من اتبعه أعظم ما فيها قوله :
( فسلبهم أمرهم راكب ... حراما حلالا لشتى معا )
قال سالم بن عمير : علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه فأمهل فطلب له غرة حتى كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف فأقبل سالم بن عمير فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش و صاح عدو الله فثاب إليه أناس ممن هم على قوله فأدخلوه منزله و قبروه و قالوا : من قتله ؟ و الله لو نعلم من قتله لقتلناه
و به ذكر [ محمدبن سعد ] أنه كان يهوديا و قد ذكرنا أن يهود المدينة كلهم كانوا قد عاهدوا ثم إنه لما هجا و أظهر الذم قتل قال الواقدي عن ابن رقش : [ قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهرا ] و هذا قديم قبل ابن الأشرف و هذا فيه دلالة واضحة على أن المعاهد إذا أظهر السب ينقض عهده و يقتل غيلة لكن هو من رواية أهل المغازي و هو يصلح أن يكون مؤيدا مؤكدا بلا تردد
==============
حكم سب غير الرسول صلى الله عليه وسلم (1)
__________
(1) - الصارم المسلول - (ج 1 / ص 213)(2/86)
و عن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر : إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و لكن اجلده على رأسه أسواطأ و لولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل رواه حرب و ذكره الإمام أحمد و هذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز و هو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها
فهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و التابعين لهم بإحسان لا يعرف عن صاحب و لا تابع خلاف لذلك بل إقرار عليه و استحسان له
و أما الاعتبار فمن وجوه :
أحدها : أن عيب ديننا و شتم نبينا مجاهدة لنا و محاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة و المحاربة بالأولى
يبين ذلك أن الله سبحانه قال في كتابه : { و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] و الجهاد بالنفس يكون باللسان كما يكون باليد بل قد يكون أقوى منه قال النبي صلى الله عليه و سلم [ جاهدوا المشركين بأيديكم و ألسنتكم و أموالكم ] رواه النسائي و غيره
و كان [ صلى الله عليه و سلم ] يقول لحسان بن ثابت : [ أهجهم و هاجهم ] [ و كان ينصب له منبر في المسجد ينافح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بشعره و هجائه للمشركين ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم أيده بروح القدس ] و قال : [ إن جبرئيل معك ما دمت تنافح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و قال : [ هي أنكى فيهم من النبل ]
و كان عدد من المشركين يكفون عن أشياء ممن يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان حتى إن كعب بن الأشرف [ لما ] ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل البيت هجاهم حسان بقصيدة فيخرجونه من عندهم حتى لم يبق له بمكة من يؤويه
و في الحديث : [ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ] و [ أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل تكلم بحق عند سلطان جائر فأمر به فقتل ]
و إذا كان شأن الجهاد باللسان هذا الشأن في شتم المشركين و هجائهم و إظهار دين الله و الدعاء إليه علم أن من شتم دين الله و رسوله و أظهر ذلك و ذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين و حاربهم و ذلك نفض للعهد
الوجه الثاني : أنا و إن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر و الشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة و إرادة السوء بنا و تمني الغوائل لنا فإننا نحن نعلم أنهم يعتقدون خلاف ديننا و يريدون سفك دمائنا و علو دينهم و يسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر أقررناهم عليه فإذا عملوا بموجب هذه الإرادةـ بأن حاربونا و قاتلونا ـ نقضوا العهد كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة ـ من إظهار السب لله و لكتابه و لدينه و لرسوله ـ نقضوا العهد إذ لا فرق بين العمل بموجب الإدارة و موجب الاعتقاد
الوجه الثالث : أن مطلق العهد الذي بيننا و بينهم يقتضي أن يكفوا و يمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا و شتم رسولنا كما يقتضي الإمساك عن دمائنا و محاربتنا لأن معنى العهد ان كل و احد من المتعاهدين يؤمن الآخر مما يحذره منه قبل العهد و من المعلوم أنا نحذر منهم إظهار كلمة الكفر و سب الرسول و شتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى لأنا نسفك الدماء و نبذل الأمول في تعزير الرسول و توقيره و رفع ذكره و إظهار شرفه و علو قدره و هم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره و نقاتله عليه قبل العهد و هذا واضح
الوجه الرابع أن العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر ابن الخطاب و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم معه قد تبين فيه ذلك و سائر أهل الذمة إنما جروا على مثل ذلك العهد روى حرب بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن غنم قال : كتب لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام : هذا كتاب لعبد الله أمير المؤمنين من مدينة كذا و كذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا و ذرارينا و أموالنا على أن لا نحدث و ذكر الشروط إلى أن قال : و لا نظهر شركا و لا ندعو إليه أحدا و قال في آخره : شرطنا ذلك على أنفسنا و أهلينا و قبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شيء شرطناه لكم و ضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة و الشقاق
و قد تقدم قول عمر له في مجلس العقد : [ إنا لم نعطيك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا و الذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن عنقك ] و عمر صاحب الشروط عليهم
فعلم بذلك أن شروط المسلمين عليهم أن لا يظهروا كلمة الكفر و أنهم متى أظهروها صاروا محاربين و هذا الوجه يوجب أن يكون السب نقصا للعهد عند من يقول : لا ينتقص العهد به إلا إذا شرط عليهم تركه كما خرجه بعض أصحابنا و بعض الشافعية في المذهبين
و كذلك يوجب أن يكون نقصا للعهد عند من يقول : إذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض كما ذكر بعض أصحاب الشافعي فإن أهل الذمة إنما هم جارون على شروط عمر لأنه لم يكن بعده إمام عقد عقدا يخالف عقده بل كل الأئمة جارون على حكم عقده و الذي سعى أن يضاف إلى من خالف في هذه المسألة أنه لا يخالف إذا شرط عليهم انتقاض العهد بإظهار السب فإن الخلاف حينئذ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط و جريانه على وفق الأصول فإذا كان الأئمة قد شرطوا عليهم ذلك ـ و هو شرط صحيح لزم العمل به على كل قول(2/87)
الوجه الخامس : أن العقد مع أهل الذمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام و على أنهم أهل صغار و ذلة على هذا وهدوا و صولحوا فإظهار شتم الرسول الله صلى الله عليه و سلم و الطعن في الدين ينافي كونهم أهل صغار و ذلة فإن من أظهر سب الدين و الطعن فيه لم يكن من الصغار في شيء فلا يكون عهده باقيا الوجه السادس : أن الله فرض علينا تعزير رسوله و توقيره و تعزيره : نصره و منعه و توقيره : إجلاله و تعظيمه و ذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك أول درجات التعزير و التوقير فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة أن يسمعونا شتم نبينا و يظهروا ذلك فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعزير و التوقير و هم يعلمون أنا لا نصالحهم على ذلك بل الواجب علينا أن نكفهم عن ذلك و نزجرهم عنه بكل طريق و على ذلك عاهدناهم فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا و بينهم
الوجه السابع : إن نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض علينا لأنه من التعزير المفروض و لأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله و لذلك قال سبحانه : { مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } إلى قوله { إلا تنصروه فقد نصره الله } [ التوبة : 40 ] و قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله } الآية [ الصف : 14 ] بل نصر آحاد المسلمين واجب بقوله صلى الله عليه و سلم : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] و بقوله : [ المسلم أخو المسلم لا يسلمه و لا يظلمه ] فكيف لا ينصر رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
و من أعظم النص حماية عرضه ممن يؤذيه إلا ترى إلى قوله صلى الله عليه و سلم : [ من حمى مؤمنا من منافق يؤذيه حمى اله جلده من نار جهنم يوم القيامة ] و لذلك سمى من قابل الشاتم بمثل شتمه منتصرا
و سب رجل أبا بكر عند النبي صلى الله عليه و سلم و هو ساكت فلما أخذ لينتصر قام فقال : يا رسول الله كان يسبني و أنت قاعد فلما أخذت لأنتصر قمت فقال : [ كان الملك يرد عليه فلما انتصرت ذهب الملك فلم أكن لأقعد و قد ذهب الملك ] أو كما قال صلى الله عليه و سلم
و هذا كثير معروف في كلامهم يقولون لمن كافى الساب و الشاتم [ منتصرا ] يقولون لمن كافى الضارب و القاتل [ منتصرا ]
و قد تقدم أنه صلى الله عليه و سلم قال للذي بنت مروان لما شتمه : [ إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله و رسول بالغيب فانظروا إلى هذا ] و قال للرجل الذي خرق صف المشركين حتى ضرب بالسيف ساب النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعجبتم من رجل نصر الله و رسوله ؟ ]
و حماية عرضه صلى الله عليه و سلم في كونه نصرا أبلغ من ذلك في حق غيره لأن الوقعية في عرض قد لا تضر مقصوده بل يكتب له بها حسنات أما انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه مناف لدين الله بالكلية فإن العرض متى انتهك سقط الاحترام و التعظيم فسقط ما جاء به من الرسالة فبطل الدين فقيام المدحة و الثناء عليه و التعظيم و التوقير له قيام الدين كله و سقوط ذلك سقوط الدين كله و إذا كان كذلك وجب علينا أن تنتصر له ممن انتهك عرضه و الانتصار له بالقتل لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله
و من المعلوم من سعى في دين الله بالإفساد استحق القتل بخلاف انتهاك عرض غيره معينا فإنه لا يبطل الدين و المعاهد لم نعاهده على ترك الانتصار لرسول الله صلى الله عليه و سلم [ منه ] و لا من غيره كما لم نعاهد على ترك استيفاء حقوق المسلمين و لا يجوز أن نعاهده على ذلك و هو يعلم أنا لم نعاهده على ذلك فإذا سبه فقد وجب علينا أن ننتصر له بالقتل و لا عهد معه على ترك ذلك فيجب قتله و هذا بين واضح لمن تأمله
الوجه الثامن : أن الكفار قد عوهدوا على أن لا يظهروا شيئا من المنكرات التي تختص بدينهم في بلاد الإسلام فمتى أظهروا استحقوا العقوبة على إظهارها و إن كان إظهارها دينا لهم فمتى أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه و سلم استحقوا عقوبة ذلك القتل كما تقدم
الوجه التاسع : أنه لا خلاف بين المسلمين ـ علمناه ـ أنهم ممنوعون من إظهار السب و أنهم يعاقبون عليه إذا فعلوه بعد النهي ن فعلم أنهم لم يقروا عليه كما أقروا على ما هم [ عليه ] من الكفر و إذا فعلوا ما لم يقروا عليه من الجنايات استحقوا العقوبة بالاتفاق و عقوبة السب إما أن تكون جلدا حبسا أو قطعا او قتلا و الأول باطل فإن مجرد سب الواحد من المسلمين و سلطان المسلمين يوجب الجلد و الحبس فلو كان سب الرسول كذلك استوى من سب الرسول و [ من ] سب غيره من الأمة و هو باطل بالضرورة و القطع لا معنى له فتعين القتل
الوجه العاشر : أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء فإن الدم مباح بدون العهد و العهد عقد من العقود و إذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن يفسح العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه هذا أصل مقرر في عقد البيع و النكاح و الهبة و غيرها من العقود و الحكمة فيه ظاهرة فإنه إنما التزم ما التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه فإذا لم يلتزمه الآخر صار هذا غير ملتزم فإن الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء و إنما اختلفوا في ثبوت مثله(2/88)
إذا تبين هذا فإن كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له أن يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا أو صفة في المبيع ـ و إن كان حقا له أو لغيره ممن يتصرف له بالولاية و نحوها ـ لم يجز له إمضاء العقد بل ينفسخ العقد بفوات الشرط و يجب عليه فسخه كما إذا شرط أن تكون الزوجة حرة فظهرت أمة و هو ممن لا يحل له نكاح الإماء أو شرط أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا أو شرط أن تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية و عقد الذمة ليس حقا للإمام بل هو حق لله و لعامة المسلمين فإذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل : يجب على الإمام أن يفسخ العقد و فسخه : أن يلحقه بمأمنه و يخرجه من دار الإسلام ظنا أن العقد لا ينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه و هذا ضعيف لأن المشروط إذا كان حقا لله ـ لا للعاقد ـ انفسخ العقد بفواته من غير فسخ
و هنا الشروط على أهل الذمة حق لله لا يجوز للسلطان و لا لغيره أن يأخذ منهم الجزية و يعاهدهم على المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها و إلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن و لو فرضنا جواز إقرارهم بدون هذا الشرط فإنما ذاك فيما لا ضرر على المسلمين فيه فأما ما يضر المسلمين فلا يجوز إقرارهم عليه بحال و لو فرض إقرارهم على ما يضر المسلمين في أنفسهم و أموالهم فلا يجوز إقرارهم على افساد دين الله و الطعن على كتابه و رسوله
و بهذه المراتب قال كثير من الفقهاء : إن عهدهم ينتقض بما يضر المسلمين من المخالفة دون ما لا يضرهم و خص بعضهم ما يضرهم في دينهم دون ما يضرهم في دنياهم و الطعن على الرسول أعظم المضرات في دينهم
إذا تبين هذا فنقول : قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب الرسول و هذا الشرط [ ثابت ] من وجهين :
أحدهما : أنه موجب عقد الذمة و مقتضاه كما أن سلامة المبيع من العيوب و حلول الثمن و سلامة المرأة و الزوج من موانع الوطء و إسلام الزوج و حريته إذا كانت الزوجة حرة مسلمة هو موجب العقد المطلق و مقتضاه فإن موجب العقد هو ما يظهر عرفا أن العاقد شرطه و إن لم يتلفظ به كسلامة المبيع و معلوم أن الإمساك عن الطعن في الدين و سب الرسول مما يعلم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذمة و يطلبونه كما يطلبون الكف عن مقاتلتهم و أولى فإنه من أكبر المؤذيات و الكف عن الأذى العام موجب عقد الذمة و إذا كان ظاهر حال المشتري أنه دخل على أن السلعة سليمة من العيوب ـ حتى يثبت له الفسخ بظهور العيب و إن لم يشرطه ـ فظاهر حال المسلمين الذين عاقدوا أهل الذمة أنهم دخلوا على أن المشركين يكفون عن إفساد دينهم و الطعن فيه بيد أو لسان و أنهم لو علموا أنهم يظهرون الطعن في دينهم لم يعاهدوهم على ذلك و أهل الذمة يعلمون ذلك كعلم البائع أن المشتري إنما دخل معه على أن المبيع سالم بل هذا أظهر و أشهر و لا خفاء به
الوجه الثاني في ثبوت هذا الشرط : أن الذين عاهدوهم أولا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر و من كان معه و قد نقلنا العهد الذي بيننا و بينهم و ذكرنا أقوال الذين عاهدوهم و هو عهد متضمن أنه شرط عليهم الإمساك عن الطعن في دين المسلمين و أنهم إذا فعلوا ذلك حلت دماؤهم و أموالهم و لم يبق بيننا و بينهم عهد و إذا ثبت أن ذلك مشروط عليهم في العقد فزاوله يوجب انفساخ العقد لأن الانفساخ أيضا مشروط عليهم و لأن الشرط حق الله كاشتراط إسلام الزوج و الزوجة فإذا فات هذا الشرط بطل العقد كما يبطل إذا ظهر الزوج كافرا أو المرأة وثنية أو المبيع غصبا أو حرا أو تجدد بين الزوجين صهر أو رضاع يحرم أحدهما على الآخر أو تلف المبيع قبل القبض فإن هذه الأشياء ـ كما لم يجز الإقدام على العقد مع العلم بها ـ أبطل العقد مقارنتها له أو طروؤها عليه فكذلك و جود هذه الأقوال و الأفعال من الكافر لما لم يجز للامام أن يعاهده مع إقامته عليها كان وجودها موجبا لفسخ عقده من غير إنشاء فسخ على أنا لو قدرنا أن العقد لا ينفسخ إلا بفسخ الإمام فإنه يجب عليه فسخه بغير تردد لأنه عقده للمسلمين فإنه لو اشترى الولي سلعة لليتيم فبانت معيبة وجب عليه استدراك ما فات من مال اليتيم و فسخه يكون بقوله و بفعله و قتله له فسخ لعقده نعم لا يجوز له أن يفسخه بمجرد القول فإن فيه ضررا على المسلمين و ليس للسلطان فعل ما فيه ضرر على المسلمين مع القدرة على تركه و قولنا : [ إن الذمي انتقض عهده ] أي لم يبق له عهد يعصم دمه و الأول هو الوجه ن فإن بقاء العقد مع وجود ما ينافيه محال نعم هنا اختلف الفقهاء فيما ينافي العقد فقائل يقول : جميع المخالفات تنافيه بناء على أنه ليس للإمام أن يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر
و قائل يقول : التي تنافيه هي المخالفات المضرة بالمسلمين بناء على جواز مصالحتهم على ما هو دون ذلك كما صالحهم النبي صلى الله عليه و سلم أولا حال ضعف الإسلام
و قائل يقول : التي تنافيه هي ما يوجب الضرر العام في الدين أو الدنيا كا لطعن على الرسول و نحوها
و بالجملة فكل ما لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع كونهم يفعلونه فهو مناف للعقد كما أن كل ما لا يجوز للمتبايعين و المتناكحين أن يتعاقدا مع وجوده فهو مناف للعقد
و إظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم أعنى مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا و هذا مما أجمع المسلمون عليه و لهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزير و أكثرهم يعاقبون عليه بالقتل(2/89)
و هو مما لا يشك فيه مسلم و من شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
و إذا كان العقد لا يجوز عليه كان منافيا للعقد و من خالف شرطا مخالفة تنافي ابتداء العقد فإن عقده ينفسخ بذلك بلا ريب كأحد الزوجين إذا أحدث دينا يمنع ابتداء العقد ـ مثل ارتداد المسلم أو إسلام المرأة تحت الكافر ـ فإن العقد ينفسخ بذلك : إما في الحال أو عقب انقضاء العدة أو بعد عرض القاضي كما هو مقرر في مواضعه
فإحداث أهل الذمة الطعن في الدين مخالفة لموجب العقد مخالفة تنافي ابتداءه فيجب انفساخ عقدهم بها و هذا بين لمن تأمله و هو يوجب انفساخ العقد بما ذكرناه عند جميع الفقهاء و تبين أن ذلك هو مقتضى قياس الأصول
و اعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها من جهة المعنى في الذمي فأما المسلم إذا سب فلم يحتج أن يذكر فيه شيئا من جهة المعنى لظهور ذلك في حقه و لكون المحل محل وفاق و لكن سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيق الأمر فيه هل سبه ردة محضة كسائر الردد عن زيادة مغلظة أو هو نوع من الردة متغلظ عل كل حال ؟ و هل يقتل للسب مع الحكم بإسلامه أم لا ؟ و الله سبحانه أعلم فإن قيل : فقد قال تعالى : { لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فان ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] فأخبر أنا نسمع منهم الأذى الكثير و دعانا إلى الصبر على أذاهم و إنما يؤذينا أذى عاما الطعن في الله و دينه و رسوله و قوله تعالى : { لن يضركم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] من هذا الباب
قلنا أولا : ليس في الأية بيان أن ذلك مسموع من أهل الذمة و العهد و إنما هو مسموع في الجملة من الكفار
و ثانيا إن الأمر بالصبر على أذاهم و بتقوى الله لا يمنع قتالهم عند المكنة و إقامة حد الله عليهم عند القدرة فإنه لا خلاف بين المسلمين أنا إذا سمعنا مشركا أو كتابيا يؤذي الله و رسوله فلا عهد بيننا و بينه [ بل ] وجب علينا إن نقاتله و نجاهده إذا أمكن ذلك
================
خروج أهل الذمة من دار الإسلام لدار الحرب (1)
القسم الثاني : إذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفة أن مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد و لا ينقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة و منعة و يمتنعوا بذلك عن الإمام و لا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم أو تخلفوا بدار الحرب لأنهم إذا لم يكونوا ممتنعين أمكن الإمام أن يقيم عليهم الحدود و يستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابته كمن خرج عن طاعة الإمام من أهل البغي و لم تكن له شوكة
و قال الإمام مالك : [ لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ناقضين للعهد و منعا للجزية و امتنعوا منا من غير أن يظلموا أو يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم ] لكن يقتل عنده الساب و المستكره للمسلمة على الزنى و غيرهما
و أما مذهب الإمام الشافعي و الإمام أحمد فإنهم قسموا الأمور المتعلقة بذلك قسمين أحدهما : يجب عليهم فعله و الثاني : يجب عليهم تركه
فأما الأول فإنهم قالوا : إذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله ـ و هو أداء الجزية أو جريان أحكام الملة عليه إذا حكم بها حاكم المسليمين ـ انتقض العهد بلا تردد قا ل الإمام أحمد في الذي يمنع الجزية : إن كان واحدا أكره عليها و أخذت منه و لم يعطيها ضربت عنقه و ذلك لأن تعالى أمر بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون و الإعطاء له مبتدأ و تمام فمبتدأه الألتزام و الضمان و منتهاه الأداء و الإعطاء و من الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم فمتى لم يتموا إعطاء الجزية أو أعطوها و ليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي أمرنا بقتالهم إليها فيعود القتال و لأن حقن دمائهم إنما ثبت ببذل الجزية و التزام جريان أحكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه و أتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام إذا امتنع منه و اتى بكلمة الكفر
و على ما ذكره الإمام أحمد فلابد أن يمتنع من ذلك على وجه لا يمكن استيفاؤه منه مثل أن يمتنع من حق بدني لا يمكن فعله و النيابة عنه دائما أو يمتنع من أداء الجزية و لعيب ماله كما قلنا في المسلم إذا امتنع من الصلاة أو الزكاة فأما إن قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة أو الزكاة
أما القسم الثاني ـ و هو ما يجب عليهم تركه ـ فنوعان :
أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين و الثاني ما لا ضرر فيه عليهم و الأول قسمان أيضا :
أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم و أموالهم : مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يعين على قتال المسلمين أو يتجسس للعدو بمكاتبة أو كلام أو إيواء عين من عيونهم أو يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح
و القسم الثاني ما فيه أذى و غضاضة عليهم : مثل أن يذكر الله أو كتابه و رسوله أو دينه بالسوء
و النوع الثاني ما لا ضرر فيه عليهم : مثل إظهار أصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس و الكتاب و نحو ذلك و مثل المسلمين في هيآتهم و نحو ذلك و قد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الأقسام فإذا نقض الذمي العهد ببعضها و هو في قبضة الإسلام ـ مثل أن يزني بمسلمة أو يتجسس للكفار ـ فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يقتل قال في رواية حنبل : [ كل من نقض العهد أو أحداث في الإسلام حدثا مثل هذا ـ يعني سب النبي صلى الله عليه و سلم ـ رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد و الذمة ]
__________
(1) - الصارم المسلول - (ج 1 / ص 272)(2/90)
فقد نص على أن من نقض العهد و أتى بمفسده مما ينقض العهد قتل عينا و قد تقدمت نصوصه أن من لم يوجد منه إلا نقض العهد بالامتناع فإنه كالحربي
و قال في مواضع متعددة في ذمي فجر بامرأة مسلمة : يقتل ليس على هذا صولحوا و المرأة إن كانت طاوعته أقيم عليها الحد و أن كان استكرهها فلا شيء عليها
و قال في يهودي زنى بمسلمة : يقتل : لأن عمر رضي الله عنه أتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى أشد من نقض العهد قيل : فعبد نصراني زنى بمسلمة قال : يقتل أيضا و إن كان عبدا
و قال في مجوسى فجر بمسلمة : يقتل هذا قد نقض العهد و كذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له : ترى عليه الصلب مع القتل ؟ قال : إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه
و قال مهنا : سألت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة : ما يصنع به ؟ قال : يقتل فأعدت عليه قال : يقتل قلت : إن الناس يقولون غير هذا قال : كيف يقولون ؟ فقلت : يقولون عليه الحد قال : لا و لكن يقتل فقلت له : في هذا شيء ؟ قال : نعم عن عمر أنه أمر بقتله
و قال في رواية جماعة من أصحابه في ذمي فجر بمسلمة : يقتل قيل : فإن أسلم قال : يقتل هذا قد وجب عليه
فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا أو غير محصن و أن القتل واجب عليه و إن أسلم و أنه لا يقام عليه حد الزنا الذي يفرق فيه بين المحصن و غير المحصن و اتبع في ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك أن رجلا نخس بامرأة فتجللها فأمر به عمر فقتل و صلب و رواه المروزي عن مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة أن رجلا من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام و هي على حمار فصرعها و ألقى نفسه عليها فرآه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فأتى عوف عمر فحدثه فأرسل إلى المرأة يسألها فصدقت عوفا فقال : قد شهدت أختنا فأمرنا به عمر فصلب قال : فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر : أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه و سلم و لا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له
و روى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة و ذكر فيها أن الحمار صرع المرأة و أن النبطي أرداها فامتنعت و استغاثت قال عوف :
فأخذت عصاي فمشيت في أثره فأدركته فضربت رأسه ضربة ذا عجر و رجعت إلى منزلي و فيه : [ فقال للنبطي : اصدقني فأخبره ]
و قال الإمام أحمد أيضا في الجاسوس : إذا كان ذميا قد نقض العهد يقتل و قال في الراهب : لا يقتل و لا يؤذى و لا يسأل عن شيء إلا أن نعلم منه أنه يدل على عوارت المسلمين و يخبر عن أمرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه
و قد نص الإمام أحمد على أنه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فإنه يقتل
ثم اختلف أصحابنا بعد ذلك فقال القاضي و أكثر أصحابه مثل أبيه أبي الحسين و الشريف أبي جعفر و أبي المواهب العبكري و ابن عقيل و غيره و طوائف بعدهم : [ إن من نقض العهد بهذه الأشياء و غيرها فحكمه حكم الأسير يخير الإمام فيه كما يخير في الأسير بين القتل و المن و الاسترقاق و الفداء و عليه أن يختار من الأربعة ما هو الأصلح للمسلمين ] قال القاضي في المجرد : [ إذا قلنا قد انتقض عهده فانا نستوفي منه الحقوق و القتل و الحد و التعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه و هذه أحكامنا فإذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل و الاسترقاق و لا يرد إلى مأمنه لأنه بفعل هذه الأشياء قد نقض العهد و إذا نقض عاد بمعناه الأول فكأنه وجد نصراني بدار الإسلام ]
ثم إن القاضي في الخلاف قال : [ حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء : القتل و الاسترقاق و المن و الفداء لأن الإمام أحمد قد نص في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء و حكم الأسير لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان قال : و يحمل كلام الإمام أحمد إذا رآه الإمام صلاحا و استثنى في الخلاف و هو الذي صنفه آخرا ساب النبي صلى الله عليه و سلم خاصة قال : فإنه لا يقبل توبته و يتحتم قتله و لا يخير الإمام في قتله و تركه لأن قذف النبي صلى الله عليه و سلم حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي
و قد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد و تعليله حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد و خرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال : [ إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجرى على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى ] و على هذا نقول : فللامام أن يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الأصلي(2/91)
و هذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي و القول الآخر للشافعي أن من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مأمنه ثم من أصحابه من استثنى سب رسول الله صلى الله عليه و سلم خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره و منهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره أصحابه و أما لفظه فإنه قال في الأم : [ إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب و ذكر الشروط إلى أن قال : و على أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه و سلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين و جميع المسلمين و نقض ما أعطي من الأمان و حل لأمير المؤمنين ماله و دمه كما يحل أموال أهل الحرب و دماؤهم و على أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده و أحل دمه و ماله و إن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم
ثم قال : [ فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فإن لم يرضها فلا عقد له و لا جزية ]
ثم قال : [ و أيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد و أسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا و كذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد و إن فعل مما وصفنا و شرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ] و لكنه قال [ أتوب و أعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده ] عوقب و لم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه و لا يقتل ]
قال : فإن فعل أو قال ما وصفنا و شرط أن يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول [ أسلم أو أعطى جزية قتل و أخذ ماله فيئا ]
و هذا اللفظ يعطي وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام و العود إلى الذمة
و سلك أبو الخطاب في : الهداية و الحلواني و كثير من متأخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها و هو الصواب فإن الإمام أحمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام و جعل هذا أشد من نقض العهد باللحاق و دار الحرب ثم إنه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير و نص هنا على أن الإمام يخير أن يقتل و لا يخفى لمن تأمل نصوصه أن القول بالتخيير مطلقا مخالف لها
و أما أبو حنيفة فلا تجيء هذه المسألة على أصله لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة و منعة فيمتنعون بذلك على الإمام و لا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم
و مذهب مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين منا ما نعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب و لكن مالكا يوجب قتل ساب الرسول صلى الله عليه و سلم عينا و قال : إذا استكره الذمي مسلمة على الزنا قتل إن كانت حرة و إن كانت أمة عوقب العقوبة الشديدة فمذهبه إيجاب القتل عينا لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال [ إنه يرد إلى مأمنه ] قال : لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مأمنه كما لو دخلها بأمان صبي و هذا ضعيف جدا لأن الله قال في كتابه : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } الآية [ التوبة : 13 ]
فهذه الآية و إن كانت نزلت في أهل الهدنة فعمومها لفظا و معنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى و قد أمر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك مأمنهم و غير مأمنهم و لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية أو لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الآية و لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل من رأوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الأشرف و كانوا معه معاهدين و لم يأمر بردهم إلى مأمنهم
و كذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مأمنهم و لما نقضت بنو قريظة العهد قالتهم و أسرهم و لم يبلغهم مأمنهم و كذلك كعب بن الأشرف نفسه أمر بقتله غيلة و لم يشعره أنه يريد قتله فضلا عن أن يبلغه مأمنه و كذلك بنو النضير أجلاهم على أن لا ينقلوا إلا ما حملته الإبل إلا الحلقة و ليس هذا بإبلاغ للمأمن لأن من بلغ مأمنه يؤمن على نفسه و أهله و ماله حتى يبلغ مأمنه
و كذلك سلام بن أبي الحقيق و غيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير و لم يبلغهم مأمنهم و لأنه قد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر و أبا عبيدة و معاذ بن جبل و عوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد أن يفجر بالمسلمة و صلبوه و لم ينكره منكر فصار إجماعا و لم يردوه إلى مأمنه و لأن في شروط عمر التي شرطها على النصارى [ فإن نحن خالفنا عن شيء شرطناه لكم و ضمناه على أنفسنا فلا لنا و قد حل لكم منا ما حل لأهل المعاندة و الشقاق ] رواه حرب بإسناد صحيح(2/92)
و قد تقدم عن عمر و غيره من الصحابة مثل أبي بكر و ابن عمر و ابن عباس و خالد بن الوليد و غيرهم رضوان الله تعالى عليهم أنهم قتلوا أو أمروا بقتل ناقض العهد و لم يبلغوه مأمنه و لأن دمه كان مباحا و إنما عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة بقي على الإباحة و لأن الكافر لو دخل دار الإسلام بغير أمان و حصل في أيدينا جاز قتله في دارنا و أما من دخل بأمان صبي فإنما ذلك لأنه يعتقد أنه مستأمن فصارت له شبهة أمان و ذلك يمنع قتله كمن وطىء فرجا يعتقد أنه حلال لا حد عليه و كذلك ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط و أما فإنه ليس له أمان و لا شبهة أمان لأن مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة أمان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينقض به العهد مفرط في ذلك عالم أنا لم نصالحه على ذلك فأي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمأمنه ؟ نعم لو فعل من نواقض العهد مالم يعلم أنه يضرنا ـ مثل أن يذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بشيء يحسبه جائزا عندنا ـ كان معذورا بذلك فلا ينقض العهد كما تقدم مالم يتقدم إليه كما فعل عمر بقسطنطين النصراني
و أما من قال إنه كالأسير الحربي إذا حصل في أيدينا فقال : [ لأنه كافر حلال الدم حصل في أيدينا و كل من كان كذلك فإنه مأسور فلنا أن نقتله كما قتل النبي صلى الله عليه و سلم عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث و لنا أن نمن عليه كما من النبي صلى الله عليه و سلم على ثمامة بن أثال الحنفي و على أبي عزة الجمحي و لنا أن نفادي كما فادى النبي صلى الله عليه و سلم بعقيل و غيره و لنا أن نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الأسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر و مماليك العباس و غيرهم
أما قتل الأسير و استرقاقه فما أعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه و المفاداة هل هو باق أو منسوخ ؟ على ما هو معروف في مواضعه و هذا لأنه إذا نقض العهد عاد كما كان و الحربي الذي لا عهد له إذا قدر عليه جاز قتله و استرقاقه و لأنه ناقض للعهد فجاز قتله و استرقاقه كاللاحق بدار الحرب و المحارب في طائفة ممتنعة إذا أسر بل هذا أولى لأن نقض العهد بذلك متفق عليه فهذا أغلظ فإذا جاز أن يحكم فيه بحكم الأسير ففي هذا أولى نعم إذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه ـ مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق عليه و نحو ذلك ـ أقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا أو جلدا ثم إن بقي حيا بعد إقامة حد تللك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لاحد عليه
و من فرق بين سب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين سائر النواقض قال : لأن هذا حق لرسوله الله صلى الله عليه و سلم و لم يعف عنه فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق و لا بالتوبة كسب غير رسول الله عليه الصلاة و السلام و سيأتي إن شاء الله تعالى تحرير مأخذ السب
و أما من قال إنه يتعين قتله إذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما إذا لم يوجد منه إلا مجرد اللحاق بدار الحرب و الامتناع عن المسلمين فلأن الله تعالى قال : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة } إلى قوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف قوم مؤمنين } [ التوبة : 12 ـ 14 ]
فأوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد و طعنوا في الدين و معلوم أن مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد و أوكد فلا بد أن يفيد هذا زيادة توكيد و ما ذاك إلا لأن الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عن قتاله إذا اقتضت المصلحة ذلك إلى وقت فيجوز استرقاقه بخلاف هذا الذي نقض و طعن فإنه يجب قتاله من غير استتابة و كل طائفة وجب قتالها من غير استئناف لفعل يبيح دم آحدها فإنه يجب قتل الواحد منهم إذا فعله و هو في أيدينا كالردة و القتل في المحاربة و الزنا و نحو ذلك بخلاف البغي فإنه لا يبيح دم الطائفة إلا إذا كانت ممتنعة و بخلاف الكفر الذي لا عهد معه فإنه يجوز الاستيفاء بقتل أصحابه في الجملة
و قوله سبحانه : { يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم } دليل على أن الله تعالى يريد الانتقام منهم و ذلك لا يحصل من الواحد إلا إذا قتل و لا يحصل إن من عليه أو فودي به أو استرق نعم دلت الآية على أن الطائفة الناقضة الممتنعة يجوز أن يتوب الله على من يشاء منها بعد أن يعذبها و يخزيها بالغلبة لأن ما حاق بهم من العذاب و الخزي يكفي في ردعهم و ردع أمثالهم عما فعلوه من النقض و الطعن أما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن فعله
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما سبى بني قريظة قتل المقاتلة و استرق الذرية إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك و حديثها مع عائشة رضي الله عنها معروف ففرق صلى الله عليه و سلم بين من اقتصر على نقض العهد و بين من آذى المسلمين مع ذلك و كان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين أنه آذى المسلمين إلا ندب إلى قتله و قد أجلى كثيرا و من على كثير ممن نقض العهد فقط
و أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عاهدوا أهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين أو ثلاثا و كذلك مع أهل مصر و مع هذا فلم يظفروا بمعاهد آذى المسلمين بطعن في الدين أو زنا بمسلمة و نحو ذلك إلا قتلوه و أمروا بقتل هؤلاء الأجناس عينا من غير تخيير فعلم أنهم فرقوا بين النوعين(2/93)
و أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتل مقيس بن صبابة و عبد الله بن خطل و نحوهما ممن ارتد و جمع إلى ردته قتل مسلم و نحوه من الضرر و مع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير و قتلوه من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحة الأسدي عكاشة بن محصن و غيره و لم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فإذا كان المرتد يؤخذ بما أصابه قبل الامتناع من الجنايات و لا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لأن كليهما خرج عما به دمه : هذا نقض إيمانه و هذا نقض أمانه و إن كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب و غيره فإنما قسنا على أصل ثبت بالسنة و إجماع الصحابة نعم المرتد إذا عاد إلى الإسلام عصم دمه إلا من يقتل بمثله المسلم و المعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضرة بالمسلمين لأنه يصير مباحا بالنقض و لم يعد إلى شيء يعصم دمه فيصير كحربي يغلظ قتله يبين ذلك أن الحربي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا آذى المسلمين و ضرهم قتله عقوبة له على ذلك و لم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر المسلمين أولى بذلك
ألا ترى أنه لما من على أبي عزة الجمحي و عاهده أن لا يعين عليه فغدر به ثم قدر عليه بعد ذلك و طلب أن يمن عليه فقال : [ لا تمسح سبلاتك بمكة و تقول : سخرت بمحمد مرتين ] ثم قال : [ لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ] فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لأنه ضره بعد أن كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من أهل الذمة أنه لا يؤذي المسلمين ثم آذاهم لو أطلقوه للدغوا من جحر واحد مرتين و لمسح المشرك سبلاته و قال : سخرت بهم مرتين
و أيضا فلأنه إذا لحق بدار الحرب و امتنع لم يضر المسلمين و إنما أبطل العقد الذي بينهم و بينه فصار كحربي أصلي أما إذا فعل ما يضر بالمسلمين ـ من مقاتلة أو زنا بمسلمة أو قطع طريق أو حبس أو نحو ذلك ـ فإنه يتعين قتله لأنه لو لم يقتل لخلت هذه المفاسد عن العقوبة عليها و تعطلت حدود هذه الجرائم و مثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلان لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي أولى و أحرى و لا يجوز أن يقام عليه حدها منفردا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لأن صاحبها حربيا و الحربي لا يقام عليه إلا القتل فتعين قتله و صار هذا كالأسير اقتضت المصلحة قتله لعمنا أنه متى أفلت كانت فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله لا يجوز المن عليه و لا المفاداة به اتفاقا و لأن الواجب في مثل هذا إما القتل أو المن أو الاسترقاق أو الفداء فأما الاسترقاق فإنه أبقى له على ذمته بنحو مما كان فإنه تحت ذمتنا نأخذ منه الجزية بمنزلة العبد و لهذا قال بعض الصحابة لعمر في مسلم قتل ذميا : [ أتقيد عبدك من أخيك ؟ ] بل ربما كان استعباده أنفع له من جعله ذميا و استعباد مثل هذا لا تؤمن عاقبته و سوء مغبته و أما المن عليه و المفاداة به فأبلغ في المفسدة و إعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله
يوضح ذلك أنا على هذا التقدير لا نعاقبه إذا عاد إلى الذمة إلا بما يعاقب فيه المسلم أو الباقي على ذمته و هذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول : [ إن العهد لا ينقض بهذه الأشياء ] فلا معنى لجعل هذه الأشياء ناقضة للعهد و إيجاب إعادة أصحابها إلى العهد و أن لا يعاقبوا إذا عادوا إلا بما يعاقب به المسلم
يؤيد ذلك أن هذه الجرائم إذا رفعت العهد و فسخته فلأن يمنع ابتداء بطريق الأولى لأن الدوام أقوى من الابتداء ألا ترى أن العدة و الردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فأما إن كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتداءه أولى و أحرى و إذا يجز ابتداء عقد الذمة فلأن لا يجوز المن أولى و لأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلا أن المشدود و ثاقه من المحاربين جعل لنا أن نعامله بما نرى و الخارج عن العهد ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه كما أن الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فإن الذي لم يدخل فيه باق على حاله و الذي خرج من الإيمان و الأمان قد أحدث فسادا فلا يلزم من احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لأن الدوام أقوى من الابتداء
يبين ذلك أن كل أسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فإن النبي صلى الله عليه و سلم قتله مثل : النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و مثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية
و أيضا فإنه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب كان ما يتوقى من ضرره متعلقا بعزه و منتعه كالحربي الأصلي فإذا زالت المنعة بأسره لم يبق منه ما يبقى إلا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه بين غيره أما إذا أضر المسلمين و آذاهم بين ظهرانيهم أو تمرد عليهم بالامتناع مما أوجبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفه تمنعه و تنصره فيجب إزهاق نفسه التي لا عصمة لها و هي منشأ للضرر و ينبوع لأذى المسلمين ألا ترى أن الممتنع ليس فيما فعله إغراء للآحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فإن فيما يفعله فتح باب الشر فإن لم يعاقب فعل ذلك غيره و غيره و لا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار إلا السيف(2/94)
و أيضا فإن الممتنع منهم قد أمرنا بقتاله إلى أن يعطي الجزية عن يد و هو صاغر و أمرنا بقتاله حتى إذا أثخناه فشدوا الوثاق فكل آية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين و يجوز إنشاء عقد ثان لهم و استرقاقهم و نحو ذلك أما من فعل جناية انتقض بها عهده و هو في أيدينا فلم يدخل في هذه العمومات لأنه لا يقاتل و إنما يقتل إذ القتال للممتنع و إذا كان أخذ الجزية و المن و الفداء إنما هو لمن قوتل و هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله : { فاقتلوا المشركين } غير داخل في آية الجزية و الفداء
و أيضا فإن الممتنع يصير بمنزلة الحربي و الحربي يندرج جميع شأنه تحت الحراب بحيث لو أسلم لم يؤاخذ بضمان شيء من ذلك بخلاف الذي في أيدينا و ذلك أنه ما دام تحت أيدينا في ذمتنا فإنه لا تأويل له في ضرر المسلمين و إيذائهم و أما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى أنه إذا تمكن من الهرب هرب لا سيما و بعض فقهائنا يبيح له ذلك فإذا فعل ذلك بتأويل كان بمنزلة ما يتلفه أهل البغي و العدل حال القتال لا ضمان فيه و ما أتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للأخرى فليس حال من تأول فيما فعله من النقض كحال من لم يتأول
و أيضا فإن ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتفض به عهده لابد له من عقوبة لأنه لا يجوز إخلاء الجرائم التي تدعو إليها الطباع من عقوبة زاجرة و شرع الزواجر شاهد لذلك ثم لا يخلو إما أن تكون عقوبنه من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم أو ذمي بامرأة ذمية أو دون ذلك أو فوق ذلك و الأول باطل لأنه يلزم أن يكون عقوبة المعصوم و المباح سواء و لأن الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره و على ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد و إنما أخرت عقوبة الكفر لأجل العهد فإذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الأمرين و بهذا يظهر الفرق بينه و بين من فعل ذلك و هو معصوم و بين مباح دمه لم يفعل ذلك
لأن هذه المعاصي إذا فعلها المسلم فإنها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين و منفعهتهم و موالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لأن فيه منفعة و مضرة و خيرا و شرا بخلاف الذمي فإنه إذا اضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته و وجود هذه الأمور المضرة و إذا لم يجز أن يعاقب بمثل ما يعاقب به لمسلم فأن لا يعاقب بما هو دونه أولى و أحرى فوجب أن يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم يتحتم قتله إذا فعل مثل هذه الأشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد أولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب أن يتحتم و ذلك عقوبته تارة القتل و تارة القطع و تارة الرجم أو الجلد إذا تلخصت هذه القاعدة فيمن نقض العهد على العموم فنقول : شاتم رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعين قتله كما قد نص عليه الأئمة
أما على قول من يقول : يتعين قتل كل من نقض العهد وهو في أيدينا أو يتعين قتل كل من نقض العهد بما فيه ضرر على المسلمين وأذى لهم كما قد ذكرناه في مذهب الإمام أحمد و كما قد دل عليه كلام الشافعي الذي نقلناه أو نقول : يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول الله صلى الله عليه و سلم وحده كما قد ذكره القاضي أبو يعلى و غيره من أصحابنا و كما ذكره طائفة من أصحاب الشافعي و كما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد و ذكروا أن الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الإجمال فإنهم ذكروا في مواضع أخر انه يقتل من غير تخيير فظاهر
و أما على قول من يقول : [ إن كل ناقض للعهد فإن الإمام يتخير فيه كالأسير ] فقد ذكرنا أنهم قالوا : إنه يستوفى منه الحقوق كالقتل و الحد و التعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه و هذه أحكامنا ثم إذا استوفينا منه ذلك فالإمام مخير فيه كالأسير و على هذا القول فيمكنهم أن يقولوا : إنه يقتل لأن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنا أو قطع طريق فإنه يقام عليه حد ذلك فيقتل إن أوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود و إن لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا آخر أو زنى بذمية فإنه يستوفى منه القود و حد الزنا و عهده باق و مذهب مالك يمكن أن يوجه على هذا المأخذ إن كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده
و بالجملة فالقول بأن الإمام يخير في هذا إنما يدل عليه كلام بعض الفقهاء أو إطلاقه و كذلك القول بأنه يلحق بمأمنه و أخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم و ما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبييحة فإن تقرر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلا لما قدمناه و توجيها لما سنذكره و الدليل على أنه يتعين قتله و لا يجوز استرقاته و لا المن عليه و لا المفادة به من طريقين
أحدهما : ما تقدم من الأدلة على وجوب قتل ناقض العهد إذا نقضه بما فيه ضرر على المسلمين مطلقا
الثاني : ما يخصه و هو من وجوه :
أحدها : من الآيات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين(2/95)
الثاني : حديث الرجل الذي قتل المرأة اليهودية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دمها و قد تقدم من حديث علي و ابن عباس فلو كان سب النبي صلى الله عليه و سلم يرفع العهد فقط و لا يوجب القتل لكانت هذه المرأة بمنزلة كافرة أسيرة و بمنزلة كافرة دخلت إلى دار اإسلام و لا عهد لها و معلوم أنه لا يجوز قتلها و أنها تصير رقيقة للمسلمين بالسبي و هذه المرأة المقتولة كانت رقيقة و المسلم إذا كان له أمة كافرة حربية لم يجز له و لا لغيره قتلها لمجرد كونها حربية بل تكون ملكا لسيدها ترد عليه إذا أخذها المسلمون و لا نعلم بين المسلمين خلافا في أن المرأة لا يجوز قتلها لمجرد الكفر إذا لم يكن معاهدة كما يقتل الرجل لذلك و لا نعلم خلافا في أن المرأة إذا ثبت في حقها حكم نقض العهد فقط مثل أن تكون من أهل الهدنة و قد نقضوا العهد فإنه لا يجوز قتل نسائهم و أولادهم بل يسترق النساء و الأولاد و كذلك الذمي إذا نقض العهد و لحق بدار الحرب فمن ولد له بعد نقض العهد لم يجز قتل النساء منهم و الأطفال بل يكونون رقيقا للمسلمين و كذلك أهل الذمة إذا امتنعوا بدار الحرب و نحوها
فمن الفقهاء من قال : [ العهد باق في ذريتهم و نسائهم ] كما هو المعروف عن الإمام أحمد و قال أكثرهم : [ ينتقض العهد في الذرية و النساء أيضا ] ثم لا يختلفون أن النساء لا يقتلن و أصل ذلك أن الله تبارك تعالى يقول في كتابه : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } [ البقرة : 190 ] فأمر بقتال الذين يقاتلون فعلم أن شرط القتال كون المقاتل مقاتلا و في الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء و الصبيان
و عن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة غزاها و على مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني و يتعجبون من قتلها حتى لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم على راحلته فانفرجوا عنها فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ ما كانت هذه لتقاتل ] فقال لأحدهم [ إلحق خالدا فقل له : لا تقتلوا ذرية و لا عسيفا ] رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن ماجة
و عن ابن كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر [ نهى عن قتل النساء و الصبيان ] رواه الإمام أحمد
و في الباب أحاديث مشهورة على أن هذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف و ذلك لأن المقصود بالقتال أن تكون كلمة الله هي العليا و أن يكون الدين كله لله و أن لا تكون فتنة أي لا يكون أحد يفتن أحدا عن دين الله فإنما نقاتل من كان ممانعا عن ذلك و هم أهل القتال فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمرأة و الشيخ و الراهب و نحو ذلك و لأن المرأة تصير رقيقة للمسلمين و مالا لهم ففي قتلها تفويت لذلك عليهم من غير حاجة و إضاعة للمال لغير حاجة نعم إذا قاتلت المرأة جاز أن تقتل بالاتفاق لوجود المعنى فيها الذي جعل الله و رسوله عدمه مانعا من قتلها بقوله صلى الله عليه و سلم [ ما كانت هذه لتقاتل ] لكن هل يجوز أن نقصد بالقتل كما يقصد الرجل أو يقصد كفها كما يقصد كف الصائل ؟ ففيه خلاف بين الفقهاء فإذا كان الحكم في المرأة مثل ذلك و قد أهدر النبي صلى الله عليه و سلم دم امرأة ذمية لأجل سبها مع أن قتلها لو كان حراما لأنكره النبي صلى الله عليه و سلم كما أنكر قتل المرأة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه و إن لم تكن مضمونة بدية و لا كفارة فإنه صلى الله عليه و سلم لا يسكت عن إنكار المنكر بل إقراره دليل على الجواز و الإباحة و قد علم أن السابة ليست بمنزلة الأسيرة الكافرة لأن تلك لا يجوز قتلها و علم أن السب أوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالاجماع إذا قطعت الطريق و قتلت فيه و إذا زنت و كما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء
===============
إلزام أهل الذمة بالصغار (1)
__________
(1) - منهاج السنة النبوية - (ج 6 / ص 69)(2/96)
وفي المسند وغيره أن الله تعالى ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال عبد الله بن عمر ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا كانت آثار رأيه محمودة فيها صلاح الدين والدنيا فهو الذي فتح بلاد فارس والروم وأعز الله به الإسلام وأذل به الكفر والنفاق وهو الذي وضع الديوان وفرض العطاء وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار وقمع الفجار وقوم العمال وكان الإسلام في زمنه أعز ما كان وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام وهذا حال المعلم الأول للرافضة أول من ابتدع الرفض وحال أئمه الباطنية وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى وهو الغالب على عامة الشيعة إذا كانوا مسلمين في الباطن وإذا قال الرافضي علي كان معصوما لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول قيل له نظيرك في البدعة الخوارج كلهم يكفرون عليا مع أنهم أعلم واصدق وأدين من الرافضة لا يسترتب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم وقد قاتلوه في حياته وقتله واحد منهم ولهم جيوش وعلماء ومدائن وأهل السنة ولله الحمد متفقون على أنهم مبتدعة ضالون وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة وأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزا فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا قوتل معه وإن قاتل قتالا وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر وإن كان في القافلة من هو ظالم فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم لأن الله تعالى يقول وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (سورة المائدة). وقال موسى رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين (سورة القصص). وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار (سورة هود). وقال تعالى ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها (سورة النساء). والشفيع المعين فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه فلا يجوز أن يعان أحد لا ولي أمر ولا غيره على ما حرمه الله ورسوله وأما إذا كان للرجل ذنوب وقد فعل برا فهذا إذا أعين على البر لم يكن هذا محرما كما لو أراد مذنب أن يؤدى زكاته أو يحج أو يقضى ديونه أو يرد بعض ما عنده من المظالم أو يوصى على بناته فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى ليس إعانة على إثم وعدوان فكيف الأمور العامة والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور فإن لم يغز معهم لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد فإما أن يتعطل وإما أن ينفرد به الفجار فيلزم من ذلك استيلاء الكفار أو ظهور الفجار لأن الدين لمن قاتل عليه وهذا الرأي من أفسد الآراء وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم فقال لا المذهب أنا لا نغزو إلا مع المعصوم فقال ذلك المستفتى مع عاميته والله إن هذا لمذهب نجس فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه ظلما فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار
- - - - - - - - - - - - - - - - - -(2/97)
الباب السادس
ذكر بعض أقوال أهل العلم المعاصرين
أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي
عبد العزيز بن محمد الحويطان
(أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي)(1) هو عنوان للرسالة التي رأيت مناسبة عرضها، والتي فرضت جودتها وحسن تبويبها: الوقوف عندها هذه الوقفات العاجلة، ولعل أهمية هذه الرسالة تتضح من عنوانها؛ فأهل الذمة في بلاد المسلمين موجودون قديماً وحديثاً، وربما ازداد عددهم في هذه الأزمنة نتيجة تقدم وسائل النقل، واختلاط الشعوب، وانتقال الأيدي العاملة للبحث عن مصادر الرزق، مما يجعل دراسة الموضوع أكثر إلحاحاً وأهمية، وأكثر مساساً بواقع بعض المسلمين ـ الذي امتزج به الجهل والفقر والتخلف، إلا من رحم الله ـ، والذي يفرض طَرق مثل هذه الأبحاث والتأكيد عليها، وزاد الرسالة قوة: ذلك العرض والتقسيم البديع الذي صاحب فصولها، وسأتطرق بحول الله (تعالى) إلى مميزات الرسالة، وما عليها، بعد العرض السريع لها.
قسّم الباحث الرسالة بابين: الباب الأول ـ جعله مدخلاً للرسالة ـ في الولاية وما يتعلق بها، وقسمه ثلاثة فصول: تعريف الولاية، وأقسامها، وشروطها. والباب الثاني: (في الذمة والولايات العامة).
ففي تعريف الولاية في الاصطلاح: وبعد أن أورد أقوال الفقهاء: خلص إلى أنها: (سلطة شرعية لشخص في إدارة شأن من الشؤون، وتنفيذ إرادته فيه على الغير من فرد أو جماعة) (ص27).
وقد ثبتت مشروعيتها من الكتاب والسنة والإجماع.
وفي مبحث أقسام الولاية: ذكر أنها تنقسم إلى ولاية عامة وخاصة (وهذا تقسيم الفقهاء)، فالولاية الخاصة يمكن حصرها في: ولاية الحضانة، والولاية على النفس، والولاية على المال.
أما الولاية العامة فإنها تتمثل فيما يقوم به الإمام أو نائبه من التصرفات، وتنبثق عنها ولايات عامة متعددة، وعلى هذا تكون أنواع الولاية العامة هي:
1- الإمامة العظمى.
2- الوزارة (سواء أكانت وزارة تفويض أو تنفيذ).
3- الإمارة على البلدان (بنوعيها: العام، والخاص).
4- الإمارة على الجهاد (إمارة على سياسة الجيش والجند، أو إمارة على جميع أحكام الجهاد).
5- الولاية على حروب المصالح (قتال أهل الردة والبغي والمحاربين).
6- ولاية القضاء.
7- ولاية المظالم.
8- ولاية النقابة على ذوي الأنساب.
9- الولاية على إمامة الصلوات.
10- الولاية على الحج.
11- ولاية الصدقات.
12- ولاية الفيء.
13- ولاية الجزية والخراج.
14- ولاية الحسبة.(ص53-57).
وهذه الأنواع لم يذكر الباحث من أين استقاها، ولعله استقرأها من كتب الفقه، والسؤال هنا: ألا توجد مناصب جديدة في هذا الوقت تختلف عن السابق؟ ثم: ألا يمكن وضع ضوابط عامة لهذه الولاية العامة بدلاً من تفصيلها؟.
ثم أورد الباحث في الفصل الثالث شروط الولاية العامة والخاصة كلّ على حدة باختصار.
أما الباب الثاني فهو: (في الذمي والولاية العامة): فقد قسمه أربعة فصول: الذمي وعقده، وواجبات أهل الذمة في الفقه الإسلامي وحقوقهم، وحكم تولي الذمي المناصب العامة، وأخيراً: أهل الذمة والشورى.
أما الذمي فقد عرفه الباحث في الاصطلاح قائلاً: (كل من يُقَر من الكفار في دار الإسلام على التأبيد آمناً، بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة فيما يتعلق بهم) (ص74).
قلت: وتبقى المسألة، فيمن تقبل منه الجزية ويقر ببذلها؟ وقد أجاب الباحث عن هذا التساؤل قائلاً: وهذا فيه خلاف بين الفقهاء بعد اتفاقهم على دخول اليهود والنصارى فيهم، وبعد أن أورد الباحث أقوال أئمة المذاهب خلص إلى أن (الجزية تقبل من كل كافر، فيدعى للإسلام أولا، فإن أبى فالجزية، فإن بذلها قبلت منه).
ثم ساق الأدلة فيما يلي:
1- آية الجزية: ((قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة: 29].
2- حديث بريدة (رضي الله عنه) الطويل المشهور: (كان رسول الله إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه... فإن هم أَبَوْ فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم..) أخرجه مسلم والترمذي، وهو على عمومه في أهل الكتاب وغيرهم.
3- كما استدلوا بقبول الجزية من المجوس وهم ليسوا أهل كتاب بقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه مالك في الموطأ(2).
أما عقد الذمة، فقال الباحث: (هو التزام الإمام أو نائبه بإقرار بعض الكفار بالإقامة الدائمة في دار الإسلام، على أن يبذلوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة فيما يتعلق بهم) (ص97) والمقصود بأحكام الملة أي: الأحكام الظاهرة، كمنعهم من إظهار الخمر والخنزير.
ثم تطرق الباحث إلى شروط العقد وآثاره، وذكر من آثاره:
1- عصمة النفس.
2- عصمة الأموال والأعراض لأنها تبع للنفوس.
3- إنهاء الحرب بين المسلمين وأهل الذمة.
4- هذا العقد ملزم للمسلمين، فلا يستطيعون نقضه.
5- التزام كل طرف بحقوق وواجبات الطرف الآخر.
وذكر الحقوق الواجبة عليهم ما أورده الماوردي (رحمه الله) حيث قال:
1- ألا يذكروا كتاب الله بطعن ولا تحريف.
2- ألا يذكروا رسول الله بتكذيب له ولا ازدراء.
3- ألا يذكروا دين الإسلام بذم أو قدح.
4- ألا يصيبوا مسلمة بزنى ولا باسم نكاح.
5- ألا يفتنوا مسلماً عن دينه.
6- ألا يعينوا أهل الحرب، ولا يودوا أغنياءهم. (ص103).(2/98)
ثم تسائل الباحث قائلاً: متى ينتقض العقد؟ فأجاب بقوله: ينتقض العقد بمخالفة النظام الشرعي في ناحية جوهرية، كقتال الذمي للمسلمين والتحاقه بدار الحرب، وامتناعه عن الجزية لغير عذر كفقر، وامتناعه التزام أحكام المسلمين، كذلك ينتقض بالشروط الستة التي ذكرها الماوردي، (ص107).
أما الفصل الثاني (واجبات أهل الذمة في الفقه الإسلامي): فقسمه الباحث قسمين: واجبات أهل الذمة، وحقوقهم.
تطرق في المبحث الأول إلى الواجبات المترتبة عليهم، وهي ثلاثة:
أولاً: الجزية، وهي واجبة عليهم بالاتفاق، ومقدارها زهيد، يجب مرة واحدة في السنة، ويرجع تقديرها للإمام، كما اجتهد عمر (رضي الله عنه) في تقديرها)؛لأن القيمة الشرائية للدرهم تتغير بتغير الأحوال والأزمان.
ثانياً: الخراج وهو ما وضع على رقاب الأرض المفتوحة عنوة أو صلحاً من حقوق تؤدى عنها، ودليل مشروعيته: فعل عمر وموافقة الصحابة له؛ فيكون إجماعاً، وأما تقديره فهو راجع أيضاً للإمام، فيراعي مصلحة الطرفين وحال الأرض والزرع.
ثالثاً: العشور، وقد ثبتت بعمل الصحابة (رضوان الله عليهم)، حيث ثبت عن عمر (رضي الله عنه) أنه أخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر، وقد عمل بها الصحابة من غير نكير؛ فيكون إجماعاً، ويشترط أن يكون في التجارة مما ينتقل بها صاحبها في دار الإسلام، وألا يؤخذ إلا مرة واحدة في العام، وأن يبلغ نصاباً (اشترطه الأحناف والحنابلة).
هذا عن الواجبات اللازمة عليهم، أما المستحبة التي لا تجب عليهم إلا إذا ذكرت في العقد، كما أنها لا تنقض العقد لكن يؤاخذون بها إجباراً ويؤدبون عليها زجراً: فقد سردها الماوردي (رحمه الله) قائلاً: (أما المستحبة فستة أشياء:
1- تغيير هيئاتهم بلباس الغيار وشد الزنار.
2- ألا يعلوا المسلمين في الأبنية.
3- ألا يسمعوهم أصوات نواقيسهم أو تلاوة كتبهم.
4- ألا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم.
5- أن يخفوا دفن موتاهم، ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.
6- أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقاً وهجاناً. (ص124).
قلت: وما ورد من الشروط العمرية شبيه بهذا، إلا أن أهل الذمة شرطوها على أنفسهم في خلافته فيجب أن ينفذوها، لكن السؤال: هل ثبتت الشروط العمرية تفصيلاً؟ وهل هي لازمة لأهل الذمة على الدوام؟ هذا ما لم يتطرق إليه الباحث.
أما ثبوت الشروط العمرية فقد ثبتت جملة بالإجماع، قال ابن القيم: (إن شهرتها تغني عن إسنادها)، ونقل ابن تيمية الإجماع على ثبوتها جملة، أما تفصيلاً: فهذا راجع لأسانيدها، وقد أجاد الباحث في رده على من أنكرها من أمثال الشيخ محمد الغزالي وغيره(3).
أما المبحث الثاني في الفصل الثاني: فعن (حقوق أهل الذمة)، وهذا من المباحث المهمة في الرسالة التي كان من المفترض أن يتوسع فيها الباحث بدل اختصارها واكتفائه منها بالعموميات، فقد تطرق لحقوقهم بعد أن فند القاعدة التي يذكرها بعض الفقهاء (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وبيّن أنها خاطئة بإطلاق، وقد أجاد.
وذكر من حقوقهم حرية المعتقد دون إظهار للشعائر، أما بخصوص معابدهم فرجح أن ما أسلم عليه أهل مصر أو مصّره المسلمون فلا يجوز لهم فيه إحداث بيعة أو كنيسة؛ قال ابن القيم: (وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع)، وأما ما فتح عنوة ففيه خلاف، والراجح: إن شرطوا الإحداث في عقد الجزية يوف لهم بالشرط، وكذا: إن شرطوه فيما فتح صلحاً. (ص133).
ومن حقوقهم: حرمة الدماء والأبدان، وحق الحماية داخليّاً وخارجيّاً، وحق الأمن ـ ويقصد به حرمة المسكن ـ فله أن يسكن فيما شاء إلا في جزيرة العرب، وقيل: الحجاز خاصة ـ على خلاف ـ والأول هو الصواب، قلت: ويلزم أن يقيّد بألا يكون فيه إضرار للمسلمين، أما بخصوص حرية التنقل وحرية الفكر والكتابة والاجتماع في المناسبات: فقد أجازها الباحث بإطلاق، وفيه نظر، إذ إن بعضها يلزم منه إظهار لدينهم ورأيهم. (ص141).
وذكر من حقهم: حق التمتع بمرافق الدولة وخدماتها، قلت: وهذا يقيد بعدم الإضرار أو التضييق بالمسلمين، ولهم حق الحرية في شؤونهم الخاصة كالحقوق الشخصية، ونظام الأسرة، والطلاق، والزواج، والإرث.. وغيرها. (ص144).
وتطرق الباحث أخيراً إلى حق تولي وظائف الدولة، وأوضح أن الوظائف الرئيسة في الدولة والوظائف ذات الصبغة الدينية لا يجوز للذمي شغلها، ثم فصّل القول بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- استعمالهم في الحرب، وذكر الخلاف في ذلك.
2- استعمالهم في غير الحرب، ورجح جوازه بشروط، هي:
أن يحصل الوثوق به، ألا يكون في عمله ولاية على مسلم، ألا تكون الوظيفة ذات صبغة دينية، قلت: ويلزم أن يزاد شرط: ألا يوجد من هو أولى لها من المسلمين، تمشياً مع قول عمر لأبي موسى الأشعري.
3- استعمالهم في الوظائف العامة، وهذا ما سيذكره في الفصل الثالث.
أما الفصل الثالث (حكم تولي الذمي المناصب العامة): فهو لب الرسالة وموضوعها، قسمه الباحث ثمانية مباحث، كل منها يمثل منصباً من المناصب العامة، وطريقته هنا: أن يورد المنصب، ثم يعرفه، ويذكر مشروعيته، وضوابطه، وشروطه، بشكل بديع قلما يوجد في غير هذه الرسالة، ثم يعرج على حكم تولي الذمي لهذا المنصب.(2/99)
بدأ بمبحث رئاسة الدولة أو الخلافة، ذكر فيه: تعريف الخلافة، وأدلة مشروعيتها، وشروط الخليفة، وواجباته، وحقوقه، ثم عرج على تولي الذمي للخلافة، وذكر أن لا مدخل له في هذا المنصب بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول؛ فأما الكتاب: فهناك آيات كثيرة، منها قوله (تعالى): ((وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء: 141] وأما السنة: فمنها قوله: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) أخرجه البخاري، ووجهه: أن طاعة الأمير واجبة، وهو الأمير الذي أمّره رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمر كافراً على مسلم، وأما الإجماع: فقد نقله غير واحد كالقاضي عياض وابن حجر والجويني، قال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل) (ص180). ثم ذكر موانع ذلك من المعقول، منها: أن حفظ الدين لا يقوم به الكافر، وأن غير المسلم لا يضحي من أجل المسلمين، وأن أسرار المسلمين وثغراتهم يجب ألا تكون عند الكافر. (ص184).
أما في مبحث الذمي والوزارة: فبعد تعريف الوزارة لغة واصطلاحاً، ذكر مشروعيتها من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والمعقول، ثم ذكر أنواع الوزارة، وهي نوعان: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ، ففي وزارة التفويض: عرفها الماوردي بقوله: (وهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده) وأعمال وزير التفويض تكاد تكون هي أعمال الخليفة، وشروطه شروطه مع اختلاف يسير، أما تقليد الذمي لوزارة التفويض فلا مدخل له فيها، لأن وزير التفويض كالخليفة فيما يقوم به من تدبير للأمور وتعيين للولاة وعزلهم.
أما وزارة التنفيذ: فقال الماوردي عنها: (وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمره، وينفذ عنه ما ذكره، فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوالٍ عليها). (ص197)، وبخصوص حكم تولي الذمي لهذا المنصب: فقد أجازه الماوردي (رحمه الله) دون ذكر دليل على ذلك من كتاب أو سنة، وهذا خلاف ما عليه عامة الفقهاء، فقد نقل أحمد والجويني وابن جماعة وغيرهم عدم جواز ذلك، بل قال الجويني في مقولة الماوردي هذه: (وهذه عثرة ليس لها مقيل، فهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل) والصواب الذي رجحه المؤلف: عدم جواز ذلك لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة، كأدلة النهي عن اتخاذ بطانة من دون المسلمين وغيرها. (ص207).
وقد أجاد الباحث في تقصيه لأصل هذا التقسيم للوزارة (وزارة تفويض ووزارة تنفيذ) وذكر بطلانه، لأن الإمام هو الذي يباشر الأمور بنفسه، وإذا فوضت جميع الأعمال إلى الوزير: فما دور الإمام إذن؟ وهذا التقسيم لم يكن معروفاً قبل عصرالماوردي والفراء، فهما أول من ذكره، وما خرج هذا التقسيم إلا في عهد بني بويه، وكان الخليفة العباسي آنذاك منزوع السلطة، وقد وصل من تعدي بني بويه على الخليفة أن اعتقلوا المستكفي وسملوا عينيه وحبس في دار الخلافة إلى أن توفي. (ص197).
ثم عقد المؤلف مقارنة بين الوزارة في السابق وبينها في العصر الحاضر؛ليثبت أن الوزير سابقاً ولاحقاً له ولاية وسلطة على المسلمين، فلا يجوز للذمي تولية هذا المنصب (وليت هذه المقارنة استمرت في جميع مباحث الرسالة).
وفي المبحث الثالث (الذمي والإمارة): قسم الإمارة قسمين: عامة وخاصة، فالإمارة العامة: (هي أن يفوض إليه الخليفة إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل ومعهوداً من نظر) أما الإمارة الخاصة، فهي: (أن يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة والذب عن الحريم، لكن لا يتولى القضاء والأحكام وجباية الصدقات والخراج).
أما تولي الذمي للإمارة العامة: فلا مدخل له فيها؛ لأن الكافر لا تكون له ولاية على المسلمين، ولم يعرف أنه بعث أميراً ذميّاً أو كافراً، والأمير نائب عن الخليفة، والنائب كالأصيل في حالة غيابه، فلا يستحق هذه النيابة كافر، أما الإمارة الخاصة: فإن الأمير له سبيل على المسلمين ولا سبيل لكافر على مسلم، ولا يجوز أن يسند هذا المنصب لغير المسلم. (ص228).
وفي المبحث الرابع (الذمي والقضاء): بعد تعريفه للقضاء أورد شروط القاضي، وهي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والعدالة (وقد أجاز الأحناف تولية الفاسق)، وسلامة السمع والبصر والنطق (والمالكية يعدون ذلك شرط دوام وليس شرط انعقاد)، وأخيراً: العلم بالأحكام الشرعية، حيث اشترط الحنابلة والشافعية وابن حزم الاجتهاد، على خلاف المالكية والأحناف، والراجح أن يحصل القاضي من الوسائل ما يوصله إلى الحكم الشرعي في حدود ما ولي له. (ص239).
أما ولاية الذمي للقضاء: فلا مدخل له فيها؛ لأن من شروطها الإسلام بالاتفاق، كما أن القاضي من أولي الأمر ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) [النساء: 59] فلا يجوز طاعة الكافر.(2/100)
وأهل الذمة يطبق عليهم في دار الإسلام الشرع الإسلامي، ورجح الباحث استثناء شربهم للخمر وأكلهم الخنزير وشعائرهم التعبدية ـ ما لم يظهروها في أمصار المسلمين ـ وقوانين الأسرة كالنكاح، وإذا ترافعوا إلينا يجب على القاضي أن يحكم فيهم بحكم الإسلام، ولا يشترط ترافع الاثنين بل يكفي واحد، وإذا اختلف المسلم والذمي فيجب الحكم بينهما حماية للمسلم وحفاظاً على الذمي، وأما إذا اختلفت ملة المتحاكمين كيهودي ونصراني فيجب الحكم بينهم عند الشافعية وهو الصواب. (ص252).
أما المبحث الخامس (الذمي وولاية الحسبة): فذكر أنه لا مدخل له فيها لاتفاق الفقهاء على اشتراط الإسلام في المحتسب، كما أن المحتسب وما بيده يدل على العز والسلطان وهذا لا يتمتع به الذمي لأنه ينافي النص الذي ورد بصغارهم ((حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة: 29].
وما يقال عن الذمي وولاية الحسبة يقال عن الذمي وولاية المظالم. (ص284).
أما المبحث السابع (الذمي وإمارة الجيش): فلا مدخل له فيها؛ لأن ولاية الجيش شبيهة بالإمارة العامة والخاصة والتي شروطها هي شروط الإمامة (في الغالب)، كما أنه لم يعرف عنه أنه أمّر كافراً على سرية من المؤمنين، إضافة إلى القدوة في هذا المنصب والاطلاع على الأسرار التي لا يجوز أن يطلع عليها كافر. (ص290).
أما في المبحث الثامن (أهل الذمة والولايات الأخرى): فقسمه إلى عدة مطالب، هي: الفيء والغنيمة، والصدقة، والخراج، والجزية، أما الفيء (كل مال وصل إلى المسلمين من غير مباشرة القتال): فليس للذمي مدخل في ولايته، وأجاز الماوردي والفراء للذمي أن يُستعمل في عمل لا يستدعي الاستنابة وكان ما يجبيه متعلقاً بأهل الذمة، كالجزية وعشور أهل الذمة، والراجح خلافه، أما ولاية الغنيمة: فلا مدخل للذمي فيها، وكذلك الصدقة، إلا أن الماوردي والفراء أجازا تولي قبض نوع من أنواع الزكاة، والراجح عدم الجواز؛ لأنه شاهد على رب المال ولا تجوز شهادة غير المسلم على المسلم، أما ولاية الخراج: فلا يجوز توليتها للذمي إلا إذا كان جباية ـ دون تقسيم ـ على مال محدد يؤخذ من أهل الذمة، ويشترط أن يتصف الذمي بالصدق والأمانة، أما ولاية الجزية: فلا مدخل له فيها. (3).
أما الفصل الرابع (آخر فصول الرسالة) فعن أهل الذمة والشورى: عرف الباحث الشورى اصطلاحاً بقوله: (هي استعراض الآراء المطروحة من أهل الرأي في المسألة، واختبارها، ثم اختيار أصوبها، أما تولية الذمي للشورى: فقد اتفق العلماء على اشتراط الإسلام في أهل الحل والعقد، وليس للمتقدمين قول بجواز تولية ذلك للذمي، نقله الماوردي والفراء والجويني وابن جماعة وابن خلدون، قال الإمام الجويني: (ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة، فخروج هؤلاء عن منصب الحل والعقد ليس به خفاء)، وذكر الباحث قولاً لبعض المحدثين بجوازه بشرط ألا ينظر في الأمور التشريعية، وألا يشارك في انتخاب الخليفة، وأن تكون استشارته مقصورة على قضايا أهل الذمة والأمور الفنية البحتة، ومال الباحث إلى استحسان هذا، قلت: وهذا خلاف ما عليه الكتاب والسنة والإجماع. (ص340).
ثم ختم الباحث رسالته بذكر مبحث وضّح فيه عدل المسلمين مع أهل الذمة مقارنة بما فعله ويفعله اليهود والنصارى قديماً وحديثاً مع الأقليات المسلمة بينهم، فهذا (جوستاف لوبون) يصف فظاعة الصليبيين: (وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أُناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة) ويقول أيضاً: (كان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طريق المدينة (القدس) المغطاة بالجثث)، ومدينة (معرة النعمان) شاهدة على ما فعله الصليبيون عندما قتلوا مئة ألف لاجئ مسلم صبراً في الجوامع والطرقات والسراديب.
بل ما نشهده هذه الأيام من وقوع مجازر في البوسنة والهرسك ـ بالرغم من أنهم أغلبية في بلادهم، فليتأمل ـ لأكبر دليل على هضم حقوق المسلمين في البلدان الغربية (المتحضرة)!، أما موقف المسلمين من أهل الذمة: فهذه كتب الفقهاء ومقولات عمر (رضي الله عنه) تنطق بذلك (.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم...).
هذا عرض سريع لأبواب وفصول هذه الرسالة، أردت منه إعطاء فكرة ـ ولو ميسرة ـ عنها.
ومما تميزت به هذه الرسالة ما يلي:
1- إجادة الباحث لجمع مادته العلمية بخصوص الموضوع، واستقصائه لأقوال الأئمة ومناقشتها في مباحث الرسالة، فجاءت أحكامه الفقهية ـ في الغالب ـ متزنة وموافقة للدليل الصحيح، وإن كان يؤخذ عليه إغفاله لأقوال بعض المتأخرين الذين أشبعوا الموضوع مناقشة ودراسة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
2- الدراسة التي قام بها المؤلف في أوائل مباحث الرسالة عن بعض المناصب الإسلامية (الخلافة القضاء الشورى الحسبة الإمارة) تعتبر دراسة فريدة؛ نظراً لتقصيه في تعريف هذه الولايات وشروطها وأحكامها، وحقّها أن تخرج في كتاب منفصل.
وكل عمل لا يسلم من الملاحظات (أبى الله أن يتم إلا كتابه) وقد قيل (من ألّف فقد استهدف)... وألخص ملاحظاتي على الرسالة في النقاط التالية:(2/101)
1- كان من المفترض إفراد فصل عن معاملة الإسلام للذمي، تورد فيه أحاديث المصطفى-صلى الله عليه وسلم-، وفعله معهم، وفعل الخلفاء الراشدين، والدول الإسلامية بعدهم (وقد أورد لمحة عن ذلك في الخاتمة لكنها ـ في نظري ـ لا تكفي).
2- أشرت في عرض الرسالة إلى أهمية وضع ضوابط للولاية العامة، بدلاً من إيرادها هكذا مفصلة، فلو أن الباحث قام بوضع ضوابط لها، وقام بدراسة هذه الضوابط، وجعلها أصل الرسالة لكان أفضل، وإن أشار إلى جزء من هذه الضوابط في مبحث الذمي ووظائف الدولة.
3- كان من المفترض أن تربط المناصب المذكورة عند الفقهاء بالمناصب الموجودة الآن في عصرنا الحاضر، وتعقد مقارنة بينها في الماضي والحاضر لتتم الفائدة من الموضوع.
4- يلاحظ القارئ عدم تمحيص بعض الأحاديث صحة وضعفاً، فما يسكت عنه أبو داود لا يحتج به إطلاقاً،كما أن تصحيح الحاكم لا يؤخذ به بإطلاق، إضافة إلى كثرة الاستدلال بفعل عمر (رضي الله عنه) (خاصة فيما ينقله عن كتاب الخراج لأبي يوسف)، وهذا النقل يحتمل الصحة والضعف، فلا يحتج به هكذا بدون تحقيق صحته.
5- يُلحظ في مواضع قليلة: الاحتجاج بأقوال بعض الطوائف المخالفة لنا في أصولها وأصلها.
6- تعتبر الشروط العمرية مع أهل الذمة أصلاً في التعامل معهم، ومنهجاً لمن بعده في تحري الحقوق التي لهم والواجبات التي عليهم، لكن الباحث لم يتطرق لهذه الشروط ولا لأسانيدها، وكان بودي لو عرج على هذه الأسانيد ونقحها واعتمد عليها في كتابه هذا لمعرفة مالهم وما عليهم، ورسالة في هذا الموضوع خليق بها ألا تغفلها، وأن تقف عندها وقفات طويلة، وقد تطرق إليها ابن القيم في كتابه (أحكام أهل الذمة) وكذلك ابن تيمية في كتابه الرائع (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).
وفي العموم: فإن هذا لا يقدح في هذه الرسالة المتميزة عرضاً ومحتوًى وعنواناً، وقد أجاد في طبعها، نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن ينفع بها المسلمين جميعاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تعريف بالرسالة:
-إعداد: نمر محمد الخليل النمر.
-إشراف: الدكتور محمد أبو فارس.
-قدمت إلى كلية الشريعة في الجامعة الأردنية استكمالاً لمتطلبات الماجستير في قسم الفقه والتشريع.
-عدد الصفحات: 415 صفحة، بما فيها الفهارس.
-الطبعة الأولى: 1409هـ المكتبة الإسلامية.
(2) إسناده ضعيف، انظر: إرواء الغليل، رقم (1248).
(3) وبخصوص لزومها لمن بعده فقد ذكر الدكتور ناصر العقل أنها غير لازمة بحذافيرها (بدليل تغيير عمر بن عبد العزيز لبعض منها) إلا ما تلقته الأمة بالقبول وأجمعوا عليه؛ كثبوت مبدأ المغايرة والتميز في عامة الهدي، وعدم إظهار شيء مما يختصون به، وترك إكرامهم، وإلزامهم الصغار، فهذا لازم لهم بالإجماع، قلت: وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (جـ1، ص320 ومابعدها) فليراجعه من أراد مزيد تفصيل.
=================
أحكام أهل الذمة(1)
هذا الموضوع هو أيضا من الموضوعات التي تعرضت للتحريف في هذا الزمان من بعض المعاصرين تارة باسم الاجتهاد والتجديد وتارة بدعوى التسامح الديني، فنقضوا بتحريفاتهم الأحكام الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
وبداية ينبغي أن يعرف الطالب معنى أهل الذمة، وماجرى عليه العمل بشأنهم في ديار الإسلام عبر القرون الخالية حتى تم إسقاط الأحكام الخاصة بهم مع إحلال القوانين الوضعية محل أحكام الشريعة.
أولا: تعريف (أهل الذمة).
أما عن معنى أهل الذمة، فقد قال ابن القيم رحمه الله (الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان. وقد عقد الفقهاء لكل صنف باباً، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة. ولفظ «الذمة والعهد» يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ «الصلح ». ــ إلى أن قال ــ
ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء «أهل الذمة» عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله.
بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لاتجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة.
وأما المستأمن: فهو الذي يَقْدُم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رُسُل، وتجار، ومستجيرون حتى يُعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها. وحكم هؤلاء ألا يهاجروا، ولا يُقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يُعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربيا كما كان) (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، 2/ 475 ــ 476. وأظن أن كلمة (ألا يهاجروا) فيها تصحيف وتحريف، ولعلها (ألا يُجاهَدوا).
ثانيا: أحكام أهل الذمة في دار الإسلام.
__________
(1) - الجامع في طلب العلم الشريف - (ج 9 / ص 21)فما بعدها(2/102)
وأما ما جرى عليه العمل بشأن أهل الذمة في ديار الإسلام فهو إلزامهم بدفع الجزية (وهى مبلغ من المال يدفعه الرجال البالغون منهم سنوياً) وجريان أحكام الشريعة عليهم وإلزامهم بالشروط العمرية أو العهد العمري، وذلك مقابل إقامتهم في دار الإسلام مع أمنهم على أنفسهم وأموالهم.
وقد وردت الشروط العمرية في معظم كتب الفقه المبسوطة، وننقل هنا ما قال ابن القيم رحمه الله (قال عبدالله بن الإمام أحمد: حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد قال: حدثني عمر أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبدالرحمن بن غنم: «إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ماخرب من كنائسنا ولا ماكان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولانؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشاً للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا، ولانظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً ــ قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر ــ ولاشعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير ولاببيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغّب في ديننا، ولاندعو إليه أحداً، ولانتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم زيّنا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فَرْق شعر ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولانكتنى بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا ولانفرِق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولانركب السروج، ولانتخذ شيئاً من السلاح ولانحمله، ولانتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولانطلع عليهم في منازلهم، ولانعلم أولادنا القرآن، ولايشارك أحد منا مسلماً في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط مانجد. ضَمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإنْ نحن غيَّرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، وقَبِلْنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منّا مايحل لأهل المعاندة والشقاق».
فكتب بذلك عبدالرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر «أن أمضِ لهم ماسألوا، وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ماشرطوا على أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده».
فأنفذ عبدالرحمن بن غنم ذلك، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط.
قال ابن القيم (وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها) (أحكام أهل الذمة) لابن القيم جـ 2 صـ 657 ــ 664، ط دار العلم للملايين 1983م.
وقد اشتملت الشروط العمرية على عدة مسائل
ــ منها ما يتعلق بأحكام البِيَع والكنائس والصوامع وما يتعلق بها.
ــ ومنها ما يتعلق بإخفاء شعار دينهم.
ــ ومنها ما يتعلق بإخفاء منكرات دينهم.
ــ ومنها ما يتعلق بتميزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمركب.
ــ ومنها ما يتعلق بالتزامهم ترك كل مايضر الإسلام والمسلمين.
ــ ومنها ما يتعلق بأحكام ضيافتهم للمارة.
ــ ومنها ما يتعلق بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى.
نقلت هذا بتصرف من (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، 2/665 ــ 666، ومن (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية، ط المدني، صـ 121 ــ 123.
وهناك أمران أساسيان لاتنعقد الذمة بدونهما لم يذكرا في الشروط العمرية، وهما أداء الجزية وجريان أحكام الإسلام عليهم. قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله (ولايجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين: أحدهما: أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول، والثاني: التزام أحكام الإسلام وهو قبول مايُحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم، لقول الله تعالى «حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون») (المغني والشرح الكبير) 10/572. والصغار هو التزامهم لجريان أحكام الشريعة الإسلامية عليهم، ذكره ابن القيم وغيره (أحكام أهل الذمة) 1/ 24.
وقد ذكر ابن تيمية الشروط العمرية بإسناد صحيح، انظر (الصارم المسلول) صـ 208، و (اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 120. وقال ابن تيمية (وهذه الشروط أشهر شيء في كتب العلم والفقه، وهى مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة، ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة منها)(اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 121. وقال ابن تيمية أيضا (وهذه الشروط مازال يجددها عليهم من وفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين) (مجموع الفتاوى) 28/ 654.(2/103)
وقد ظل العمل جاريا في بلاد المسلمين وفق هذه الشروط عبر القرون، وأورد المؤرخون في كتبهم تجديد السلاطين المسلمين لهذه الشروط العمرية على أهل الذمة، وانظر على سبيل المثال وثيقة تجديد السلطان الناصر محمد بن قلاوون للعهد العمري على أهل الذمة عام 700 هـ، أوردها القلقشندي في (صبح الأعشى) 13/ 378، 387.
ثالثا: التغيير الذي طرأ على أحكام أهل الذمة في الدول العلمانية:
واستمر العمل على ذلك حتى أواخر القرن الثاني عشر الهجري ــ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي ــ حين تدهورت أحوال الدولة العثمانية وولاياتها المختلفة واتجهت نحو العلمانية بصورها المختلفة من تحكيم القوانين الوضعية بدلا من أحكام الشريعة، واقتباس النظام الديمقراطي الغربي الذي يمنح السيادة للشعب كسلطة عليا بدلا من سيادة حكم الله تعالى في الإسلام، وكان من آثار العلمنة بناء الدولة على أساس المواطنة (والتي تعني التسوية بين جميع السكان في الحقوق والواجبات دون النظر إلى هويتهم الدينية) بدلا من اعتماد الهوية الدينية التي تقسم السكان إلى مسلمين وأهل ذمة. وكان هذا هو نهاية العمل بأحكام أهل الذمة وسقط هذا المصطلح من الدساتير العلمانية التي تبنت فكرة المواطنة في سائر بلدان المسلمين اليوم، حتى أصبح المسلم من غير أهلها يعامل كغريب ٍ وأجنبي عنها، في حين يُعامل الكافر من أهلها كمواطن له سائر الحقوق.
تقول إحدى الباحثات، د. سميرة بحر ــ في وصف تطور الأحوال في بلدٍ كمصر ــ (ومضت الحكومات الإسلامية المتعاقبة في معاملة لاتوصف في جملتها بأنها سيئة باستثناء أمرين: أولهما: دفع الجزية التي كانت مظهرا من مظاهر الدولة الثيوقراطية (ويلحق بذلك عدم السماح لهم بحمل السلاح، وعدم قبول شهادتهم ضد المسلمين في المحاكم.. الخ). وثانيهما: هدم الكنائس التي كان العامة وطغام الناس يفعلون بها ذلك في ثوراتهم، ثم لايلبث النصارى أن يؤذن لهم في إعادة بنائها بأمر الحاكم المسلم. وجاء في العهد المنسوب إلى الخليفة عمر بن الخطاب «وليس لكم أن تظهروا الصليب في شيء من أمصار المسلمين ولاتبنوا كنيسة ولا موضع مجتمع لصلاتكم، لاتضربوا بناقوس» ــ إلى أن قالت: ــ استمر تقدم الأقباط في الحياة العامة الحديثة مع إخوانهم المسلمين خاصة وأن الوالي سعيد ــ حاكم مصر ــ أدخلهم في صلب الدولة، لأنه كان يريد على الأخص إخراج الأتراك من الوظائف المدنية والحربية، فبدأ يعتمد بدرجة أكبر على المصريين ويفسح لهم المجال واسعا في وظائف الدولة والجيش، واقتضى هذا النزوع المصري منه أن يزيل آخر عقبات الاندماج بين عناصر المصريين باصدار قرار قبول المسيحيين في الجيش وتطبيق الخدمة العسكرية عليهم. فنصّ الأمر العالي الصادر في جمادى الأولى 1272 هـ على أن «أبناء الأعيان القبط سوف يدعون إلى حمل السلاح أسوة بأبناء المسلمين وذلك مراعاة لمبدأ المساواة». وكان قد أصدر أمره قبل ذلك بالغاء الجزية المفروضة على أهل الذمة في ديسمبر 1855 م ــ إلى أن قالت ــ وفي عهد الخديوي إسماعيل أيضا تم تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم كما ألمحنا. وهو أمر لايقل أهمية عن التمثيل بالمجالس التشريعية، وتلازم هذا التطبيق مع إلغاء المجالس القضائية القديمة التي كانت تقتصر على القضاة من المسلمين وحدهم مع إحلال محاكم أهلية محلها. فلزم تعيين القضاة بصرف النظر عن الدين ليتكون قضاء يخضع له المصريون بصرف النظر عن الدين أيضا، وكانت دلالة الأمرين السابقين معا (أي تقبل المدارس الأميرية للمصريين جميعا وتعيين قضاة من القبط في المحاكم) هو البدء في بناء مؤسسات الدولة على قاعدة المواطنة وعلى الأساس المدني العلماني) أهـ. من كتاب (الأقباط في الحياة السياسية المصرية) للدكتورة سميرة بحر، ط مكتبة الأنجلو المصرية، ط 2، 1984، صـ 35 ــ 38. وقد أدرجت في السياق كلمة ــ حاكم مصر ــ وهذا الكلام يهمنا منه السرد التاريخي، وإلا فإن المؤلفة قالت كلاماً مكفراً، وهو وصفها الجزية بأنها أمر سييء، وهى أمر الله تعالى في قوله (حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) التوبة 29. وإن كنت لا أدري أمنتسبة للإسلام هى أم نصرانية؟. كذلك ماذكرته من إعادة بناء الكنائس هو أمر غير مشروع وتهاون من الحكام المسلمين، وتفصيله بمجموع فتاوى ابن تيمية، جـ 28 صـ 632 ومابعدها.
وبإسقاط الجزية عن أهل الكتاب وبمساواتهم بالمسلمين بما يعني مخالفة الشروط العمرية يكون عهدهم قد انتقض وعادوا كفاراً محاربين. قال الشوكاني رحمه الله (ثبوت الذمة لهم مشروط بتسليم الجزية والتزام ماألزمهم به المسلمون من الشروط، فإذا لم يحصل الوفاء بما شُرط عليهم عادوا إلى ماكانوا عليه من إباحة الدماء والأموال، وهذا معلوم ليس فيه خلاف، وفي آخر العهد العمري: فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم مايحل من أهل العناد والشقاق) (السيل الجرار) للشوكاني، 4/ 574. وقد سبق كلام ابن قدامة في نفس المعنى.
وسواء كان انتقاض عهد الذمة من جهتهم أو من جهة الحاكم الكافر كما صنع الخديوي سعيد ومن تلاه في حكم مصر، فإن هذا لايؤثر في النتيجة، فالكافر لايعصم نفسه وماله من المسلمين إلا أمان معتبر من جهتهم، فإذا عدم الأمان سقطت عصمته. وهذا مثال لما وقع بشتى بلدان المسلمين.(2/104)
وأتى البعض بشبهة فقالوا: وماذنبهم ــ أي أهل الكتاب ــ إذ كان انعدام عقد الذمة ليس من جهة امتناعهم عنه بل من جهة غياب الدولة الإسلامية، ولعلها لو وجدت لدخلوا في الذمة؟.
والجواب: أن هذه شبهة فاسدة لأنها من الاحتجاج الفاسد بالقدر، فقيام دولة الإسلام أو ذهابها شئ قدّره الله، فإن وجدت وجدت معها أحكام معينة هذا منها، وإن ذهبت زالت هذه الأحكام. وهذا يشبه قول من قال ماذنب هذا الكافر المقلد لأبويه الكافرين ولعله لو ولد لأبوين مسلمين لكان مسلماً، هذا شئ قدّره الله، ولايحتج بقدر الله لإبطال شرع الله، كالذين ذمهم الله في قوله تعالى (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، إن أنتم إلا في ضلال مبين) يس 47، فاحتج هؤلاء بالقدر (وهو أن الله أراد جوع هذا الجائع ولو شاء لأطعمه) على إبطال الشرع (وهو أمرهم بالإنفاق والصدقة)، فحكم الله تعالى بضلال من يحتج بمثل هذا فقال سبحانه (إن أنتم إلا في ضلال مبين). فكذلك أصحاب هذه الشبهة احتجوا بالقدر (وهو إرادة الله تعالى زوال دولة الإسلام) على إبطال الشرع (وهو أن الكافر غير المعاهد مهدر الدم والمال) فنجيبهم بقول الله تعالى (إن أنتم إلا في ضلال مبين).
وأضيف فأقول إن إسقاط أحكام أهل الذمة في بلد كمصر قد قوبل بارتياح وترحيب كبيرين من النصارى، وتبع ذلك مقاومتهم لأي توجه إسلامي للحكومة العلمانية بمصر بداية من مهاجمتهم لفكرة الجامعة الإسلامية التي نادى بها جمال الدين الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وانتهاء باعتراضهم على تطبيق أحكام الشريعة عليهم إذا كان في نية الحكومة المصرية العمل بها أو ببعضها، ومن هذا الباب تقدم الأزهر ووزارة العدل بمشروع قانون الحدود إلى مجلس الشعب لإقراره عام 1977م، وتجمد المشروع في خزانة مجلس الشعب، ولكن هذه الخطوة قوبلت برد فعل عاصف من جهة النصارى فعقدوا مؤتمرهم بالاسكندرية في 17/1/1977م حضره كبيرهم شنودة وسائر ممثلي الأقباط وأصدر المؤتمر بياناً طالب فيه بالغاء مشروع قانون الردة واستبعاد التفكير في تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين. انظر (المرجع السابق) لسميرة بحر، صـ 156، وكتاب (المسألة الطائفية في مصر) ط دار الطليعة 1980م، صـ 36 ــ 37. وطلبهم الأخير هذا يعتبر نقضاً جماعيا لعقد الذمة لو افترضنا وجوده وسريان مفعوله حينئذٍ.
وبعد: فقد كان هذا عرضاً موجزاً لما كان عليه الحال وما آل إليه بشأن أهل الكتاب في بلاد المسلمين، ومع أنه لا يوجد اليوم على ظهر الأرض من يسمون بأهل الذمة، إلا أن هذا لا يمنع من دراسة الموضوع ومعرفة أحكامه خاصة بالنسبة لطلاب العلم المتخصصين، وليدركوا التحريفات التي أراد بعض العصريين إدخالها عليه.
وعلى هذا فسوف أذكر فيما يلي المراجع الأساسية لدراسة هذا الموضوع، ثم أذكر بعض الكتب المعاصرة التي اشتملت على تحريفات في هذا الموضوع وذلك للتحذير منها.
رابعا: المراجع الأساسية لدراسة هذا الموضوع.
1 ــ كتاب الجزية بكتاب (المغني) لابن قدامة، وقد ورد في آخر كتاب الجهاد، وهو في (المغني مع الشرح الكبير) في جـ 10 من صـ 567 إلى آخره.
2 ــ كتاب الجزية بصحيح البخاري مع شرحه، وهو في (فتح الباري) 6/ 257 ــ 285.
3 ــ كتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، في مجلدين طبع دار العلم للملايين، وهو أوسع مرجع في هذا الموضوع. وله مقدمه لمحققه الدكتور صبحي الصالح ولآخر اسمه د. محمد حميد الدين، كلاهما أتى بأخطاء فاحشة سأعرضها ضمن نقد كتابات المعاصرين إن شاء الله.
4 ــ أبواب الجزية في كتب السياسة الشرعية، (كالأحكام السلطانية) للماوردي، و(الأحكام السلطانية) لأبي يعلى، و(تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام) لبدر الدين بن جماعة، وهذا الكتاب الأخير قد نبهت على بعض أخطاء محققه د. فؤاد عبدالمنعم من قبل عند الكلام في كتب السياسة الشرعية فلتراجع هناك.
5 ــ كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية، تناول فيه بعض أحكام أهل الذمة.
6 ــ القسم الأخير بالمجلد الثامن والعشرين من مجموع فتاوي ابن تيمية، وقد تكلم فيه عن أحكام بناء الكنائس وهدمها وأحكام الوقف عليها في دار الإسلام، راجع جـ 28 صـ 601 ــ 668، من (الرسالة القبرصية) إلى آخر المجلد.
7 ــ كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) لابن تيمية، وقد اشتمل على بعض أحكام أهل الذمة.
فهذه أهم مراجع هذا الموضوع (أحكام أهل الذمة)، والتي بدراستها يتمكن الطالب من تمييز الحق من الباطل في هذا الموضوع، كما يتمكن من نقد الكتب المعاصرة التي تناولته فيميز مافيها من أخطاء.
خامسا: أخطاء المعاصرين في هذا الموضوع:
ارتكزت أخطاء المعاصرين التي زعموا أنها اجتهادات تتناسب مع العصر على أمرين: التشكيك في صحة الشروط العمرية، والقول بأنها وإن صحت فهى غير ملزمة للمعاصرين لأنها مجرد اجتهاد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبهذين الأمرين تحللوا من الشروط العمرية وأطلقوا لأنفسهم حرية مازعموا أنه اجتهاد.
فمن التشكيك في صحة نسبة هذه الشروط إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماذكره د. صبحي الصالح في مقدمته لكتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم، صـ 14 ــ 16.(2/105)
ومن القول بأنها غير ملزمة ماقال أحد المؤلفين (وأيا ماكان القول في صحة نسبة الشروط المصطلح على تسميتها «بالمستحبة» إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنها على أي حال ليست بملزمة للمسلمين، لانجد على إلزامها دليلا من الكتاب أو دليلا من السنة، وإن كنا لانجد فيهما كذلك دليلا على منع أو تحريم) من كتاب (فقه الجاهلية المعاصرة) لعبدالجواد ياسين، صـ 99. وأقول: أرأيتم مثل هذه الجرأة على الفتوى؟.
أما عن صحة نسبة هذه الشروط إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهى متواترة يشهد بها المسلمون والكفار جميعا جيلا بعد جيل، ولايخلو منها كتاب من كتب الفقه، وجري عليها العمل في ديار الإسلام مدة اثنى عشر قرنا من الزمان. وقد ذكر ابن تيمية ــ فيما نقلته عنه من قبل ــ أنها مروية بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بكتابيه (الصارم المسلول) صـ 208، و(اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 120 ــ 121.
أما من جهة الإلزام: فهى ملزمة لجميع المسلمين يجب عليهم العمل بها في مختلف العصور، ويرجع وجوبها إلى سببين:
الأول: أنها سنة خليفة راشد يجب العمل بها لقوله صلى الله عليه وسلم (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
والثاني: إجماع الصحابة على العمل بهذه الشروط في حياة عمر ومن بعده، إذ لم يخالفه في ذلك أحد، وإجماعهم حجة ملزمة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة.
وقد ذكر ابن تيمية هذين السببين في قوله (في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام، وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وعليه العمل عند أئمة المسلمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وقوله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر»، لأن هذا صار إجماعا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لايجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.) (مجموع الفتاوى) 28/ 651.
ومع القول بإلزام هذه الشروط ينبغي التنبيه على أن العمل بها مشروط بالقدرة والتمكين، أما مع العجز ــ كما في حالة ضعف المسلمين أو في حالة نشوء دولة إسلامية ضعيفة ــ فلا يجب على المسلمين إلزام أهل الكتاب بهذه الشروط، وفي نفس الوقت لايجوز وضع تشريع يخالف الشريعة بشأنهم كالقول باعتماد المواطنة كمبدأ ونحو ذلك لأن واضع هذه التشريعات يكون قد دخل في دائرة الكفر بتشريعه مايضاد أحكام الله. قال ابن القيم رحمه الله (ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبيّن له حقيقة الأمر، وعلم أن كثيراً من هذه الأحكام التي ذكرنا من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة، ولهذا لم يُغَيِّرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبوبكر رضي الله عنه، وغَيَّرهم عمر رضي الله عنه) (أحكام أهل الذمة) 2/ 770، وبمعناه في 2/ 756، وفي 1/ 395. وفي هذا أيضا قال ابن تيمية رحمه الله (وسبب ذلك أن المخالفة لهم لاتكون إلا بعد ظهور الدين وعُلُوِّه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصَغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يُشرع المخالفة لهم، فلما كَمُل الدين وظهر وعَلاَ شُرِعَ ذلك) (اقتضاء الصراط المستقيم) صـ 177، ط المدني.(2/106)
واتخذ بعض المعاصرين حجة أخرى للتحلل من الشروط العمرية وغيرها من أحكام أهل الذمة، وهى القول بسماحة الإسلام وحضه على البر إلى المخالفين في العقيدة الذين لم يقاتلونا في الدين، وهذه كلمة حق أريد بها باطل إذا أريد تعميمها، فسماحة الإسلام ليست مطلقة ولكنها مقيدة بضوابط شرعية، وإلا فإن الله أمرنا بُبغض الكافرين والغلظة عليهم كما أمرنا بجهادهم. أما أهل الكتاب فلهم أحكام خاصة نص عليها الكتاب والسنة ولايجوز أن تعارض بهذه العموميات، وإلا صار الأمر كمن يُقال له إن لُبس الذهب والحرير حرام على الرجال فيعارضك بقوله تعالى (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده) الأعراف، هذه معارضة باطلة، فلا يجوز معارضة الخاص بالعام، بل يُعمل بكل نص في موضعه. والقائلون بسماحة الإسلام في هذا الشأن متأثرون ببدعة التسامح الديني والتقارب بين الأديان التي اخترعها الكافرون لتضليل المسلمين وصرفهم عن جهادهم كما قال تعالى (ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم، ومايضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) آل عمران 69، ويساعدهم في ذلك بعض المنافقين من المنتسبين إلى الإسلام بعقد المؤتمرات والندوات وترويج المطبوعات الداعية لتسامح الأديان لنزع الحمية الدينية من نفوس المسلمين لتظل الأوضاع على ماهى عليه الآن من استعلاء الكافرين على المسلمين، إذ يخشى الكفار من حدوث طوفان إسلامي يجتاحهم كما صنع المسلمون في العصور الزاهرة التي يسميها العلمانيون الكافرون بالعصور المظلمة. وكفى بالإسلام والمسلمين سماحة أن سمحوا لأهل الكتاب والمجوس أن يقيموا بينهم بكفرهم يؤدون شعائرهم آمنين على أنفسهم وأموالهم في ديار الإسلام بموجب عقد الذمة، وتدرك فرط هذه السماحة إذا علمت ماصنعه الصليبيون في حروبهم مع المسلمين بساحل الشام وفي الأندلس قديما، وفي صبرا وشاتيلا بلبنان وفي البوسنة والهرسك حديثا وانقل لك شهادة الصليبيين أنفسهم في ذلك، قال أحدهم ــ جيبون ــ (إن الصليبيين خُدام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15/ 7/ 1099 م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء، في مذبحة استمرت ثلاثة أيام بلياليها، ولم تنته إلا لما أعياهم الاجهاد من القتل فقد حطموا رؤوس الصبيان على الجدران وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل، وشووا الرجال والنساء بالنار، وبقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب،... ثم يقول: كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران) نقلا عن (العلاقات الدولية في الإسلام) لكامل سلامة الدقس، صـ 333. ومثال آخر، مافعله الصليبيون في الأندلس عندما تغلبوا على المسلمين، فقد قال أحد كتاب الغرب أنفسهم وهو المدعو (جوستاف لوبون) قال: لما أُجْلِيَ العرب سنة (1610م) اتخذت جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم، وكان مجموع من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا، تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاساتهم غير مكلفين إلا بدفع الجزية وهى بمقدار ماكانوا يبذلونه لملوك القوط، وقد بلغ من تسامح العرب طول حكمهم في أسبانيا مبلغاً قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام.) من كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون صـ 279 ترجمة عادل زعيتر. وهذان المثالان نقلتهما من كتاب (الموالاة والمعاداة) لمحماس الجعلود، 2/ 597 ــ 598. هذا في الماضي، أما في الحاضر فالأمثلة كثيرة يكفي منها مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982م، إذ حاصر اليهود هذين المعسكرين للفلسطينيين وسمحوا لنصارى حزب الكتائب اللبناني بتدبير المذبحة، فاغتصبوا النساء ثم قتلوا الجميع من الرجال والنساء والأطفال ومثلوا بجثثهم. أما مايجري في البوسنة فأمره معلوم للجميع فقد قتل الصرب النصارى آلاف المسلمين واغتصبوا مايزيد عن عشرين ألف امرأة مسلمة واحتجزوهن حتى يلدن أطفالا صربيين في حملة لتنفيذ ماأسموه بالتطهير العرقي لتغيير الخارطة السكانية في البوسنة، وقع هذا وسط سكوت العالم كفاراً ومسلمين. فهل هذا هو التسامح الديني وتقارب الأديان؟.
فهذه هي الذرائع التي توصل بها بعض المعاصرين لإدخال تحريفاتهم على أحكام أهل الذمة الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، تحللهم من الشروط العمرية بالتشكيك في صحتها وبإدعاء عدم إلزامها، مع القول بالتسامح الديني.
أما أهم أخطاء المعاصرين في هذا الموضوع، فمنها.
1 ــ القول بأن أهل الكتاب في بلاد المسلمين مازالوا أهل ذمة إلى اليوم، وهذا قول ساقط، وقد بيّنت ماكان عليه العمل وماصار إليه بشأنهم، وأصحاب هذا القول تكذبهم الدساتير العلمانية لهذه الدول فقد اعتمدت المواطنة كأساس للتسوية بين السكان دون النظر إلى دينهم، ولم تشر إلى مصطلح أهل الذمة لا من قريب ولا من بعيد.
2 ــ القول باسقاط العمل بحكم أهل الذمة في دار الإسلام، والدعوة إلى اعتماد مبدأ المواطنة كبديل، وهو ما قامت عليه الدساتير العلمانية الكافرة، وهذا القول يروج له بعض من يسمون بالمفكرين الإسلاميين في هذا الزمان، ولاشك في كفر من قال بهذا القول لانكاره المعلوم من الدين بالضرورة الثابت بالكتاب والسنة والإجماع.(2/107)
3 ــ القول بجواز تولي الذميين للوظائف العامة في دار الإسلام، وهو قول فاسد ليس لصاحبه مستند إلا ماذكره الماوردي في أحكامه السلطانية برأيه، وقد ذكرت من قبل كيف شنع عليه الجويني في (الغياثي) بسبب هذا، وقد استوفى ابن القيم الرد على هذا القول في كتابه (أحكام أهل الذمة) جـ 1 صـ 208 ــ 244، ط دار العلم للملايين 1983 م.
4 ــ القول بجواز إسقاط الجزية عن أهل الذمة للمصلحة أو إذا طبق عليهم نظام التجنيد الإجباري، وهذا خطأ، فالجزية لاتسقط إلا لعجز من جهة المسلمين عن فرضها على أهل الذمة، أو لعجز من جانب بعض الذميين عن أدائها. وتفصيل ذلك في المراجع الأساسية التي ذكرتها من قبل.
5 ــ القول باطلاق الحرية للذميين للدعوة لدينهم وبناء الكنائس في دار الإسلام حتى لا تُضَيِّق الدول النصرانية على المسلمين المقيمين بها، وهذا قول خطأ مبني على خطأ، لأنه إذا وجدت دار إسلام في الدنيا فإنه يجب على المسلمين الهجرة إليها لنصرة أهلها وحتى لايفتنوا في دينهم بالإقامة بين الكفار في بلادهم، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا برئ من كل مسلم يقيم بين المشركين) الحديث؟. وكيف وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حمل المصحف عند السفر لبلاد الكفار؟. فذهاب المسلم إلى بلاد الكفار وإقامته بها لاتجوز إلا للضرورة ليست هى الأصل، وليست من المباحات كما تساهل فيها الناس في هذه الأزمان. فليست هذه من الأعذار التي تسقط من أجلها الأحكام الثابتة الخاصة ببناء الكنائس في دار الإسلام.
6 ــ القول بعدم وجوب إلزام الذميين بالغيار (أي بمخالفة المسلمين في الشعور واللباس والمركب)، وذلك في دار الإسلام، وأن هذا وإن ورد في الشروط العمرية فهو اجتهاد غير ملزم من عمر رضي الله عنه، وأنه يمكن إلغاء هذا الشرط لاختلاف الزمان. وهذا خطأ، فقد ذكرت من قبل أن الشروط العمرية ملزمة لعموم المسلمين عند القدرة، ولايجوز اعتبار حالة العجز هى الأصل، وقد قال ابن القيم رحمه الله (فلما فتح الله على المسلمين أمصار الكفار، ومَلّكهم ديارهم وأموالهم وصاروا تحت القهر والذل، وجرت عليهم أحكام الإسلام ألزمهم الخليفة الراشد والإمام العدل الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وأمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ــ عمر بن الخطاب ــ بالغيار، ووافقه عليه جميع الصحابة، واتبعه الأئمة والخلفاء بعده. وإنما قصّر في هذا من الملوك من قلّت رغبته في نصر الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الكفر وأهله، وقد اتفق علماء المسلمين على وجوب إلزامهم بالغيار، وأنهم يمنعون من التشبه بالمسلمين في زِيّهم) (أحكام أهل الذمة) 2/756.
هذا وقد بلغت الجرأة بأحد المعاصرين أن قال (لم تبق إلا مسألة اللباس الذي يميز الذمي من المسلم، وأبادر إلى التأكيد بأن القرآن لم يمسّ هذا، وأن الحديث النبوي لم يعرض له، فليس له إذاً أساس ديني، بل أساسه عندي اجتماعي أو سياسي أو زماني مؤقت، فقد وقع في بعض العصور المتأخرة ثم كاد يصبح بعدها تقليداً) أهـ. وقائل هذا اسمه الدكتور محمد حميد الله، شارك د. صبحي الصالح في وضع مقدمة كتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم. وسمّاه صبحي الصالح بالعلامة الاستاذ الدكتور محمد حميد الله، وكلامه السابق بمقدمة الكتاب في صـ 94. ويبدوا أنه لم يقرأ شيئا من الكتاب الذي قدم له، فالغيار معمول به من عصر الصحابة لا في العصور المتأخرة كما قال، والغيار أساسه ديني، سَنَّه خليفة راشد يجب اتباع سنته وأجمع عليه الصحابة وإجماعهم حجة، والعمل بالإجماع ليس تقليداً بل اتباع كما هو مقرر في أصول الفقه (انظر «ارشاد الفحول» للشوكاني، صـ 246). وأضيف هنا أن العمل بالغيار ليس اجتهاداً قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه برأيه، بل قد دلّت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بمخالفة أهل الكتاب والمشركين في شتى الأمور خاصة في الهدي الظاهر، وقد ذكر ابن تيمية جملة من الأحاديث الدالة على ذلك في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)، وذكر أحمد بن الصديق الغماري جملة من هذه الأحاديث في كتابه (الاستنفار لغزو التشبه بالكفار)، وقد ذكر ابن تيمية وجوه الحكمة في الأمر بمخالفتهم وكيف أن التشبه بهم في الظاهر يفضي إلى مشابهتهم في الباطن، كما ذكر ابن القيم الحكمة في إلزامهم بالغيار في عقد الذمة وأنها حتى لايُعامل الكافر معاملة المسلم في دار الإسلام، وذلك في الباب الخاص بسد الذرائع من كتابه (اعلام الموقعين). وهذا كله في بيان أن إلزام الذميين بالغيار ليس رأيا قابلا للأخذ والردّ، وإنما هو من الأحكام الثابتة في الشريعة وقد دلت عليه عشرات الأحاديث من السنة المشرفة، وتطبيقه منوط بالقدرة كما سبق التنبيه.(2/108)
7 ــ ومن الأخطاء الفاحشة ماذكره الأستاذ المشار إليه أعلاه (د. محمد حميد الله) في مقدمة (أحكام أهل الذمة) صـ 90، حيث قال إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين، وقتل يهودياً عملاً بأحكام التوراة، ثم قال مانصه (فلقاضي المسلمين إذاً أن يطبق على أهل الذمة إذا جاءوه قانونهم لاقانون الإسلام) أهـ. أما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم بالتوراة، فقد قال ابن حزم إن من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين اليهود بحكم التوراة المنسوخة فهو مرتد، انظر (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم، 2/104. وأقول: سبب الردة هنا هو مخالفة هذا القول للنصوص الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم إلا بشريعة الإسلام، وأن القرآن ناسخ لما قبله من الشرائع، قال تعالى (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله) المائدة 48. ولا أقول إن هذا الكاتب مرتد ولكنه أخطأ خطأ فاحشا، ودخلت عليه الشبهة من أن إحدى روايات حديث رجم اليهوديين ورد فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (فإني أحكم بما في التوراة، فأمر بهما فَرُجِما) الحديث رواه أحمد وأبو داود. وليس معناه أنه حكم بالتوراة نفسها بل حكم بمثل ماورد بها في حكم هذه المسألة، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم (لو كان موسى حياً ماوسعه إلا اتباعي) الحديث رواه أحمد والدارمي، فكيف يتبع النبي صلى الله عليه وسلم كتاب موسى؟ ومصداق هذا الحديث الأخير من كتاب الله قوله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسولٌُ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) ال عمران 81. ولهذا فبعدما ذكر ابن كثير رواية (فإني أحكم بما في التوراة) قال رحمه الله (فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عزوجل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقرّرهم على ما بأيديهم مما تواطؤا على كتمانه) (تفسير ابن كثير) 2/59، وقد قال ابن حجر إن رواية (فإني أحكم بما في التوراة) في سندها رجل مبهم، أي لايحتج بها، وأنها إذا ثبتت فتأويلها عنده هو كما نقلناه عن ابن كثير، هذا معنى كلام ابن حجر (فتح الباري) 12/ 170 ــ 171. وقال ابن تيمية رحمه الله (وهو صلى الله عليه وسلم لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال «وأن احكم بينهم بما أنزل الله») (مجموع الفتاوى) 4/ 111. وأما قول الأستاذ محمد حميد الله (فلقاضي المسلمين إذاً أن يطبق على أهل الذمة إذا جاءوه قانونهم لا قانون الإسلام) فقول مخالف للكتاب والسنة والإجماع بناه على قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بينهم بحكم التوراة وهو قول باطل كما سبق بيانه، وقد قال تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم) المائدة 49، وقانونهم المبدل المحرّف هو من أهوائهم. وقد ذكرت في أول هذا الموضوع الإجماع على أن عقد الذمة لاينعقد إلا بشرطين: أداء الجزية والتزامهم جريان أحكام الإسلام عليهم.
فهذه بعض الأخطاء الواردة في كتابات المعاصرين في هذا الموضوع، أردت التنبيه عليها ليكون الطالب على بينة منها، ومن اليسير على الطالب أن يدرك هذه الأخطاء وغيرها إذا بدأ دراسته لهذا الموضوع بالمراجع الأساسية التي ذكرتها أولا، أما إذا بدأ بقراءة كتابات المعاصرين فهنا الخطر، إذ قد لا يتبين هذه الأخطاء بل قد يظنها الحق، والأسوأ من ذلك ماقد يعلق بقلب الطالب من التشكيك في الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية بدعاوى هِى أَوْهَى من خيوط العنكبوت.
ومن كتابات المعاصرين التي اشتملت على هذه الأخطاء.
1 ــ كتاب (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) ليوسف القرضاوي.
2 ــ كتاب (حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية) لأبي الأعلى المودودي.
3 ــ كتاب (حكم إحداث الكنائس والبيع والصلوات في بلاد المسلمين) لعبدالله زيد آل محمود، القاضي بالمحاكم الشرعية بقطر.
4 ــ كتاب (أحكام الذميين والمستأمنين) لعبدالكريم زيدان، وهذا الكتاب قد اشتمل على أخطاء جسيمة قالها المؤلف برأيه بغير مستند من الشريعة، واعتبر المؤلف أن الدول الكافرة الحاكمة بغير الشريعة دول إسلامية وأن النصوص المتعلقة بالأديان في دساتيرها تتفق مع آرائه التي اعتبرها اجتهادات شرعية، مع أن هذه الدساتير علمانية محضة. وادعى المؤلف أنه لم يُكتب كتاب مبسوط في هذا الموضوع قبل كتابه هذا، وهذا يدل على أنه لم يطلع على كتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم قبل أن يكتب كتابه الذي ليته ماكتبه، وهكذا ذكر د. صبحي الصالح محقق كتاب (أحكام أهل الذمة) في مقدمته أن الاستاذ عبدالكريم زيدان لم يطلع على كتاب ابن القيم، وهذا عيب كبير أن يكتب كاتب في موضوع قبل مطالعة مراجعه الأساسية، ولعله لو فعل لما وقع فيما وقع فيه من مخالفات جسيمة. وكتاب (أحكام أهل الذمة) لابن القيم فيه الحق والصواب وفيه غنية عن الكتب المعاصرة التي اختلط فيها الحق بالباطل.
وهذا آخر ما أذكره في موضوع أحكام أهل الذمة، وبالله تعالى التوفيق.
====================
تحطيم الأوثان
فهد بن محمد القرشي
مكة المكرمة
العمودي
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة(2/109)
1- فرح المؤمنين وفزع المنافقين والكافرين والمخاذلين بتكسير أصنام طالبنا. 2- رخصت دماء المسلمين عند الغرب وغلا بوذا وصنمه. 3- الأنبياء يحطمون الأصنام. 4- الصحابة والسلف يدمرون أوثان الجاهلية. 5- أقوال العلماء في هذه المسألة. 6- رد شبهات المانعين تحطيم أصنام بوذا.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد أثلج صدورنا، وأفرح قلوبنا، وأقر عيوننا، ما قامت به حكومة طالبان الإسلامية من تحطيمها للأصنام الوثنية، مقتدين مهتدين بهدي خير البرية، في حرصه على هدم الأصنام الوثنية من دون الله. في حين أن هذا العمل الجليل أقض مضاجع الكافرين على اختلاف أصنافهم أجمعين، ولكن الكفر كله ملة واحدة.
نعم عباد الله لقد ثار العالم كله على حكومة طالبان الإسلامية في تحطيمها للأصنام الوثنية، وفي مقدمتهم أمريكا، ولا غرابة في ذلك فهم أعداء الإسلام والمسلمين، ويحاربون المسلمين بكل ما يستطيعون فهم بَيْن عُبَّادٍ للأصنام أو عباد للبقر أو بني الإنسان. فنقول لهم جميعاً وفي مقدمتهم هيئة الأمم المتحدة الملحدة والتي حذر مندوبها حكومة طالبان بأنهم سيدفعون الثمن غالياً إذا قاموا بتحطيم تلك الأصنام. نقول لهم: هل الحجر في دينكم أهم من البشر؟ إن كان هذا دينكم فنحن تعلمنا من ديننا أن زوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم، وأن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم مسلم، وأن المسلم لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة. فأين هيئة الأمم ومن سار في ركابها من فضائح القوات الأمريكية في الصومال؟ وأين هم من ملايين الأطفال الذين ماتوا ويموتون سنوياً في بعض بلاد المسلمين، بسبب الهجوم الأمريكي والبريطاني المشترك عليها؟. وأين هيئة الأمم المتحدة عن فضائح قواتها في البوسنة والهرسك من اغتصاب وغير ذلك ؟. وأين هم من مذابح المسلمين في كل مكان؟ بل أين هيئة الأمم المتحدة من محمد الدرة وأطفال المسلمين في فلسطين الذين يفرقون بالدبابات والقنابل والرصاص على أيدي القوات الإسرائيلية؟ فهل تصدقون عباد الله أن يهب كل أولئك الرهط في صوت واحد لإنقاذ مجموعة من الحجارة بدعوى الحفاظ على الحضارة والثقافة، بينما قَتْل الملايين عندهم لا يحرك ساكناً.
لكن للأسف الشديد عباد الله ساءنا وآلمنا ما سمعنا وقرأنا من استنكار بعض الدول الإسلامية وبعض المنتسبين إلى العلم الذين همّهم مسايرة الغرب والمحافظة على مشاعره. حتى أنهم بعثوا بعوثاً ووفوداً مؤملين وراجين وطالبين من طالبان أن لا تهدم تلك الأصنام، ولكنهم رجعوا بخفي حنين. يا ويح أولئك القوم، هدم المسجد البابري فلم نسمع أصواتهم، وهو مسجد عتيق له ما يقرب من ثمانمائة عام. يا ويحهم يقتل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ولم نسمع أصواتهم، يا ويحهم يموت في أفغانستان في اليوم الواحد ما يقرب من أربعمائة طفل ولم نسمع أصواتهم. يا ويحهم أغلق المطار في وجوه حجاج بيت الله الحرام من قبل اليهود اللئام ولم نسمع أصواتهم، مع ما يعيشون فيه من ضيق وكرب لا يعلم مداه إلا الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله: هل انتهت مشاكل المسلمين وأزماتهم ونكباتهم وسارع أولئك القوم في حلها، ولم يبق أمامهم إلا أصنام بوذا يسارعون في حلها ويحاولون في عدم هدمها، إنني أذكر أولئك بقوله تعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً وقوله: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمن يكون عليهم وكيلاً. فما عساهم أن يقولوا في إبراهيم الخليل ذلك الأواه الحليم الذي أقسم بالله العظيم ليكيدن أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين وذكر الله عنه في كتابه العزيز أنه راغ عليهم ضرباً باليمين وسفههم بقوله: ألا تأكلون ؟، فما ذكر الله إبراهيم الخليل في كتابه العزيز إلا ما قام به من عمل عظيم ألا وهو تحطيم الأصنام غالباً.
وهذا موسى عليه الصلاة و السلام، كليم الرحمن، وأحد أولي العزم من الأنبياء، ما ذا فعل بما صنع السامري عندما فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ [طه:88]. قال الله تعالى على لسانه وَانظُرْ إِلَى الهكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفاً [طه:97].
وعيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير. كما ورد عند الشيخين البخاري ومسلم.(2/110)
أما ما ورد عن إمام المرسلين وسيد الناس أجمعين وقائد الغر المحجلين، ما رواه الشيخان من فعله عليه الصلاة والسلام وبيده الكريمة لما فتح مكة نهض عليه الصلاة والسلام والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام فأقبل على الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس ويقول: وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]. قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]. والأصنام تتساقط على وجوهها. كيف لا وقد بعث عليه الصلاة والسلام بكسر الأصنام، فعن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي وبأي شئ أرسلك الله؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيئاً))، وروى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)). وعند أحمد: ((وأن أطمس كل صنم)).
أما عن بعوثه لأصحابه لهدم الأصنام فكثيرة نذكر منها ما تيسر:- أولا: بعث خالد بن الوليد إلى العزى وكان صنماً تعظمه قريش فهدمها وحطمها. ذكره بن سعد في الطبقات.
ثانياً: بعث عمرو بن العاص إلى سواع، وهو صنم لهذيل فكسره وهدمه. ذكره بن سعد أيضاً.
ثالثاً: بعث علي بن أبي طالب إلى الفليس وهو صنم طي ليهدمه، وكان صنماً منحوتاً على جبل من جبالهم فهدمه وكسره. كما عند ابن سعد في الطبقات.
رابعاً: بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت بالمُشَللْ عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم فهدمها وكسرها. كما عند ابن سعد.
خامساً: بعث الطفيل بن عمرو إلى ذو الكفين وهو صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي ليهدمه، فهدمه وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه وهو يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادك ميلادنا أقدم من ميلادكَ
إني حششت النار في فؤادكَ
[رواه ابن سعد].
سادساً: بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخَلَصة صنم لدوس، وقال له : ((هل أنت مريحي من ذي الخلصة))، فنفر إليه ومعه أصحابه فكسره وهدمه. [رواه البخاري ومسلم].
سابعاً: بعث أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لتحطيم اللات وهو صنم لثقيف، وفيها نكتة لطيفة ليسمعها أصحاب القلوب المريضة الذين انتكست فطرهم وأصبحوا يخافون من غير خالقهم.
نعم عباد الله: يخافون من الساحر والكاهن ونحوهم. لما قدم المغيرة ومن معه لهدم ذلك الصنم، استنكفت ثقيف كلها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى خرج العواتق من الحجال، لا ترى ثقيف أنها مهدومة، يظنون أنها ممتنعة، فقام المغيرة فأخذ الكرزين ـ وهو فأس له حد ـ وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض فأربح أهل الطائف بضجة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطاً، وقالوا لأصحابه: من شاء منكم فليقرب، وليجتهد على هدمها، فوالله ما تستطاع ،فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة وقدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتى سووها بالأرض ولسان حالهم يقول:
نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
قال ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة وفوائدها ومنها: "هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله، وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المشاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويشرك بأربها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها". وقال أيضاً رحمه الله: "إنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً فإنها من شعائر الكفر والشرك، فهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة على هدمها البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته. وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركاً عندها وبها، والله المستعان".
كيف لا عباد الله وقد أمر النبي بهدم وحرق مسجد الضرار وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوى للمنافقين، وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي يدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بالهدم وأوجب، كما ذكر ابن القيم رحمه الله.
وقد جاء في معجم البلدان أنه لما غلب عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب على ناحية سجستان في أيام ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه سار إلى الدوار فحصرهم في جبل الزون، وعلى الزون صنم من ذهب فقطع يديه وقطعه المسلمون وكسروه.
عباد الله: هذا هدى الكتاب والسنة، وهدي الصحابة رضوان الله عليهم في تحطيم الأصنام والأوثان، أفيأتي بعدهم من يشكك في هذه الملة الحنيفية والسنة الربانية بحجج واهية أملتها عليهم ضرورة مجاراة العصر والحضارات الكافرة وما هذه الشبهة التي يلوكونها ويرددونها إلا تخذيل لأتباع رسالة نبينا محمد علم أولئك أم جهلوا.(2/111)
عباد الله: قد جاء الوعيد الشديد لمن نصب الأصنام والأوثان كما حدث للطاغية عمرو بن لحي الخزاعي إمام الشرك والوثنية، فقد قال : ((رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبة في النار)) [رواه البخاري]. وكان أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله وعلى آله ومن والاه.
أما بعد:
فيا عباد الله، اعلموا رحمكم الله أن الإجماع منعقد على وجوب كسر هذه الأصنام والأوثان، حتى إن الأمام الشافعي رحمه الله نقل عن أئمة العلم بمكة أنهم كانوا يأمرون بهدم ما بني على القبور. ونقل الملا علي قاري الحنفي رحمه الله قول العلماء في وجوب محو الصور. وهذا الذي نقله مما يقول به عامة علماء الأحناف وغيرهم. وقال أبو يحيى الشافعي في "أسنى المطالب": ويلزم المكلف القادر كسر الأصنام ثم نقل عن صاحب الإحياء أنه قال" ليس لأحد أن يمنع أحداً من كسرها، وأن الصبي غير المكلف مأجور على كسرها.
أما ابن العربي المالكي رحمه الله: فقد أوجب كسر الأصنام. وقد نقل صاحب "تيسير العزيز الحميد" الحنبلي إجماع أهل العلم على هدم ما بني على القبور. وقد سبق نقل نصوص عن بعض أئمة الحنابلة فيما مضى.
ثم اعلموا عبد الله: أن الأدلة الدالة على تحطيم الأصنام عامة، فأين إخراج الأصنام المعدة للتراث أو النفع الاقتصادي أو المعدة للسياحة ونحوه. قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
ثم نقول لهم: هل هناك نفع لشيء وصفه الله تعالى بأنه رجس كما قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْنصَابُ وَالاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]. وجاء في الحديث الصحيح عن جابر مرفوعاً: ((إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقد حرم المصطفى بيع الأصنام ولم تجعل باباً من أبواب الاتجار والنفع الاقتصادي، وهل أصنام العرب عباد الله إلا من الآثار القديمة التي هي إرث حضاري فاسد؟ فهل تركها أم حطمها؟ وقد سبق الجواب عملياً منه ثم أرسل أصحابه لهدمها.
وأما ما يقال من أنها لا تشكل خطراً على المسلمين فلو كانت كما يقال لم يتفق الرسل عليهم الصلاة والسلام على تحطيمها وعدم إبقائها، إذ الأصنام وكل ما يعبد من دون الله خطر على التوحيد الذي أمر الله به عز في علاه، ثم ألا يكفي بوذا في بلاد الوثنيين حتى يقر على رؤوس المسلمين في أفغانستان.
وأخيراً عباد الله: اعلموا أن ما تركه المسلمون من الأصنام والتماثيل والمعبودات في البلدان التي فتحوها على ثلاثة أقسام: _ في البلدان التي فتحوها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان في هذه الأصنام داخلاًً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، فتترك بشرط عدم إظهارها كما في الشروط العمرية.
القسم الثاني: أن تكون تلك الأصنام والتماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجزون عن هدمها وإزالتها، مثل تلك التماثيل الهائلة المنحوتة في الجبال والصخور، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته: أن ما كان من الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة ،بل تتم في أزمنة متعاقبة حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان.
القسم الثالث: أن تكون تلك الأصنام مطمورة تحت الأرض أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات الإسلامية. وهذا مثل كثير من آثار الفراعنة في مصر. كما ذكر المقريزي رحمه الله تعالى في خططه: أن أبا الهول كان مغموراً تحت الرمال، ولم يظهر منه إلا الرأس والعنق دون الباقي بخلافه اليوم. وقد توفي المقريزي رحمه الله في القرن التاسع يعني بعد الصحابة بثمانمائة عام على أقل تقدير.
وقد سئل المؤرخ الزركلي كما في كتابه (شبه جزيرة العرب) عن الأهرام وأبي الهول ونحوها هل رآه الصحابة الذين دخلوا مصر؟ فقال كان أكثرها مغموراً بالرمال، ولا سيما أبا الهول.
ولذلك عباد الله: لا يصح مطلقاً نسبة ترك هذه الأصنام والتماثيل إلى خير القرون، فإنهم أحرص الناس على إقامة التوحيد وشعائره وإزالة الشرك ومظاهره.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة رسولك وعبادك الصالحين.
===============
يوسف القرضاوي يتلاعب بعقيدة المسلمين
[الكاتب: محمد بن محمد الفزازي]
بسم الله الرحمن الرحيم
سألت سائلة: هل النصارى كفار؟
فأجاب الدكتور القرضاوي على هذا السؤال في حلقة يوم الأحد؛ 22/جمادى/الأولى 1419، موافق: 13/9/1998 من برنامج "الشريعة والحياة" التي تبثه قناة الجزيرة، بما يمكن أن نجد له وجهاً من الحق وإن كان في كلامه ما يتعب المسلم الموحد.
إلا أنه بعد ذلك تدخل مقدم البرنامج أحمد منصور بشبهة أفسدت على الشيخ كل شيء: (يعني هنا... هم كفار بديننا وليسوا كفاراً بالله... هذه القضية ينبغي أن توضح لأن هناك فهماً لدى كثير من الناس... بأنهم كفار بالله).(2/112)
وهنا استأنف الشيخ القرضاوي كلامه متأثراً بتوجيه أحمد منصور قائلاً: (ليسوا كفاراً بالله... ويؤمنون بالله، ويؤمنون باليوم الآخر، ويؤمنون بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بالقيم الأخلاقية، ولذلك نحن دعونا إلى الحوار الإسلامي المسيحي لأن هناك أرضية مشتركة بيننا وبينهم، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [...]، وقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]) - وقد أسقط من الآية قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، ومكانه بين القوسين، ولعله مجرد سهو -
ثم أردف قائلاً: (فنحن نؤمن بالله، ونؤمن بالفضائل، ونؤمن بالعبادات، ونؤمن بالآخرة. هذه قواسم مشتركة بيننا وبينهم. إنما ليسوا مسلمين يقيناً، هم يعتبروننا كفاراً، ونحن نعتبرهم كفاراً، هذا أمر طبيعي... نحن كفار بدينهم، لا نؤمن بالمسيحية الموجودة، وهم كفار بديننا لا يؤمنون برسالة محمد وأن القرآن كلام الله، هذا أمر طبيعي يجب أن [...]، ومع هذا... الإسلام يدعو إلى التسامح مع هؤلاء الناس، وأباح مؤاكلتهم ومصاهرتهم والتزوج منهم... رابطة اجتماعية نسباً وصهراً [...] المصاهرة إحدى الروابط الأساسية، هذا هو الذي...).
أضف إلى ذلك أنه خاطب نصرانياً من لبنان، بعد أن علم بنصرانيته، خاطبه: (يا أخي... يا أخي...)، في لين بليغ وعبارات ودودة.
وقبل تحليل كلام القرضاوي وفسخه، وبيان ما فيه من التدليس والتلبيس على المسلمين، أحب أن أنبه أن الشيخ القرضاوي مجرح في فتاواه عند أهل العلم، ونظرة شرعية خاطفة على كتاباته وفتواه تكفي لمعرفة مدى التسيب والتلاعب بالدين عند الرجل. حيث إنه يتتبع رخص الأولين والآخرين، ويمطّ دائرة الضرورة من غير ضرورة شرعية حتى أحل بذلك كثيراً مما حرم الله... جرياً خلف ما يسميه التيسير على المسلمين، والتبشير بالإسلام، فنسج على منوال التمييع أثواباً قذرة تعكس طعوناً بليغة في ثوابت الدين المحكمة.
ونحن مع التيسير والتبشير، ولسنا مع التعسير والتنفير، لكن دون أن يكون هذا ذريعة للاجتهاد في ما لا يجوز فيه الاجتهاد، كما يفعل القرضاوي وهو الذي أولَ كثيراً من النصوص بالهوى، مداهنة لمن طغى وغوى، فصار علماً في التأويل الفاسد... وهاهو اليوم يشكك المسلمين في دينهم، ويشوه عقيدتهم عبر الفضائيات، حتى أصبح محط المدح المفرط من طرف النصارى والفساق والمتسيبين، فضلاً عن الطوائف والفرق الدينية المبتدعة التي اتخذته مُنَظِّراً وإماماً وهادياً إلى صراط معوج... فما عاد ينفع حوار، والقرضاوي عندهم أعلم من يهدي، وأهدى من يعلم.
الرد على القرضاوي، لا ينتهي، فمنكراته ومثالبه لا أول لها ولا آخر، ولقد رددت بعضاً من جهالاته الفظيعة حول مفهومه "للديموقراطية" في كتابي "الشورى المفترى عليها والديموقراطية"، ورد عليه آخرون وآخرون، في هذا وفي غير هذا.
والرجل ليس في حاجة إلى نصح أو موعظة، إنما هو في حاجة إلى استتابة، والمطلوب أن يصدر فيه العلماء الأحرار تحذيرهم ونذيرهم حتى لا يستفحل الأمر أكثر، ولا سيما وقد بدأت ترخيصاته وتيسيراته المزعومة تتحول إلى دين وسلوك للمسلمين... فوجب البيان.
* * *
ورداً عليه حول ما سبق ذكره، أبدأ في هذه العجالة بمخاطبته للنصراني اللبناني في تودد مكشوف: (يا أخي... ! يا أخي...):
فأقول: لإن كانت هذه الأخوة المعلنة دينية، فهي ردة واضحة ولا أبا بكر لها، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] بالحصر، ويقول: {فإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، واليهود والنصارى وغيرهم من الكفار ليسوا إخوة للمسلمين، ولم يصبحوا وإيانا بنعمة الله إخواناً.
أما إن كانت هذه الأخوة في جانبها الإنساني، باعتبارنا جميعاً أبناء آدم وحواء عليهما السلام؛ على نحو ما ورد في قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وفي قوله سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، وقوله عز ثناؤه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود: 84]، وما أشبه ذلك، فبعيد بكل تأكيد، ومعلوم أن هذه الأخوة المشار إليها في الآيات بين أولئك الأنبياء وأقوامهم الكفرة أخوة على نحو ما ذكر المفسرون.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في آية الأعراف (65) : (أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، قال ابن عباس أي ابن أبيهم، وقيل: أخاهم في القبيلة، وقيل: أي بشراً من بني أبيهم آدم، وفي مصنف أبي داود أن أخاهم هودا أي صاحبهم...) [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي].
وبالتأكيد ليس في هذا للقرضاوي معض ولا مستمسك، فليس ذلك النصراني اللبناني ابن أبيه أو ابن أبي المصريين جميعهم، وليس أخاً لهم في القبيلة، وليس صاحبهم، إلا أن يكون بشراً من بني آدم، فنعود إلى الأخوة الإنسانية، وهو ما لا يشي به سياق الحوار في البرنامج؛ ذلك الحوار المطبوع بالذلة وخفض الجناح للنصارى، في حين كانت عباراته في حقي، أنا المسلم، تنبعث منها رائحة الكراهية والسخط، كأني أفوت عليهم فرصة للتقارب أكيدة يقوم على أساسها جلاء الجيوش النصرانية من بلاد الإسلام شرقاً وغرباً.(2/113)
ونقطة أخرى قبل التحول إلى غيرها؛ وهي أن الآيات السالفة الذكر فيها الإخبار من الله تعالى على تلك الأخوة وفق ما فسر أهل التفسير، وليس فيها أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام قال لكافر من الكفار: "يا أخي، يا أخي..."، أو "يا إخواني..."، بل يقول: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [هود: 65]، ومثيلاتها، فبطل القياس لهذا الفارق.
زد على هذا أن القرضاوي وأمثاله لا يقولون للشيوعيين والبوذيين والهندوس... مثلاً؛ يا إخوان، مع أن الإنسانية جامعة، فهل هي إلا أخوة المحبة مع النصارى؟
من هنا كانت إثارة هذه الأخوة مع النصراني اللبناني، الحربي بمفهوم الشرع، تلبيساً خسيساً لا يشي إلا بالأخوة المحرمة، والتي هي ثمرة العقيدة اللجلجة في جانب الولاء والبراء. قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وأقرب الأمرين في مخاطبة النصراني: "يا أخي... يا أخي..." أنه إلقاء المودة المحرمة إليه ضداً على الإسلام الذي ينهى المؤمنين عن ذلك. فيقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} إلى قوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
والقرضاوي يعلن هذه المودة ولا يسر بها، والمفروض شرعاً - أقول المفروض وليس المستحب - أن تبدو العداوة والبغضاء بين المسلمين والكافرين، ولنا في ذلك الأسوة الحسنة في أب الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، فليتفضل القرضاوي وليظهر لنا علمه في هذا، وليقل لنا فيما؛ إذا كان النصارى يؤمنون بالله وحده، أم يؤمنون بأن الله ثالث ثلاثة، وأنه سبحانه هو المسيح ابن مريم؟ تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
* * *
النصارى كفار بالله واليوم الآخر:
إن ما نؤاخذه على القرضاوي في ما نقلناه عنه بأمانة، هو الإطلاقات التي أطلقها في النصارى من حيث وصفهم بأنهم مؤمنون و... إلى آخره، وهذه الإطلاقات من شأنها أن تُفهَم فهماً يكتنفه كثير من الخلط، وكثير من التيه والضياع، وبالتالي تتسبب في التشويش على المؤمنين حيال هؤلاء النصارى واليهود المشركين بالله، لا سيما وأن هناك كتماناً من طرف الشيخ من حيث ضرورة التفصيل في أنواع الكفار محاربين ومعاهدين وذميين ومستأمنين... وكيف هي الأحكام الشرعية مختلفة باختلاف هذه الأنواع من الكافرين.
فالتسامح الإسلامي الذي يدندن حوله القرضاوي ليس على إطلاقه، ولكنه مقيد ومحدود في حق أهل الذمة والعهود، بالشروط العمرية، وليس لأهل الحرب فيه نصيب، كما أن دعوته إلى ما أسماه "الحوار الإسلامي" بناء على الأرضية المشتركة المزعومة ليست دعوة سليمة ولا مستقيمة، وخاصة وهي محكومة من طرف حكومات لا علاقة لها بالإسلام البتة - حكومة إيطاليا مثلاُ - وتضم عناصر من الفقهاء هم أقرب للقوانين الوضعية الوضيعة منهم للشريعة الإسلامية.
لذا أحببت هنا تفنيد هذه الدعاوى التي أسماها القرضاوي "قواسم مشتركة بيننا وبين النصارى"، وأنها مجرد حيلة ابتدعها الكفار أنفسهم للحيلولة دون انتشار الوعي الإسلامي بضرورة إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ذلك لأن الجهاد وحده هو الذي يحرر بلاد المسلمين من قبضة الكافرين... حيلة سيق إليها المخدوعون، واعتمدها المنافقون.
1) قال الله عز ثناؤه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وهذه الآية قرأها القرضاوي خلال جوابه، إلا أنه استشهد بها على كون النصارى كفاراً بديننا وليسوا كفاراً بالله، وهذا تحريف للقرآن وتخريف في معانيه.
فقولهم عن الله تعالى: {هُوَ الْمَسِيحُ}؛ يفيد أنهم كفار بالله، ولا سيما باستعمال ضمير الفصل الذي يفيد الحصر، حيث وجب أن يكون الله تعالى عندهم هو المسيح ابن مريم لا غيره، وبالتالي فقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ...}؛ هو الكفر بالله لا بأي شيء آخر، وقوم بلغ بهم الكفر هذا المبلغ لا نتأدب معهم على نحو ما يهذي به القرضاوي والمهزومون من ضرورة الأدب والأخلاق وما إلى ذلك.
وانظر إلى أدب الأئمة الجهابذة أمثال الحافظ ابن كثير رحمه الله الذي قال في أثناء تفسير هذه الآية نفسها: (وهذا ردّ على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة) [تفسير القرآن العظيم: ج: 2/ص: 34].(2/114)
وذكر الإمام ابن كثير في تفسيره للآية (116) من سورة البقرة: {وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه} حديثاً قدسياً أخرجه البخاري رحمه الله بسنده قال: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا).
أرأيت يا شيخ يوسف أدب العلماء مع من يسبون الله تعالى؟ وفي المقابل، أرأيت كيف تتأدب أنت مع من يشتم ربك ورب الناس أجمعين؟ والآن ما حكم من يشتم الله عز وجل؟ هل هو مؤمن بالله أم كافر به؟
أترك الجواب للمفتي الكبير القرضاوي.
2) وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (قالوا كفراً بربهم وشركاً: "الله ثالث ثلاثة" وهذا قول كان عليه جمهور النصارى...) [جامع البيان للطبري].
أرأيت مرة أخرى يا شيخ... "قالوا كفراً بربهم وشركاً"، فالكفر بالرب تعالى والشرك بالرب تعالى، ومعنى "ثالث ثلاثة": (الله سبحانه، وعيسى، ومريم) [فتح القدير للشوكاني]، فهل الإيمان بالتثليث والقول بأن الله متعدد إيمان بالله تعالى؟
قلت: وهذه الآية ذكرها القرضاوي في معرض جوابه عن السؤال: هل النصارى كفار؟ لكن ذكرها مع تأكيده أنهم ليسوا كفاراً بالله في حين هي نص في كونهم كفاراً به جل وعلا، ثم جاء بالقول ونقيضه حيث اعترف أنهم كفار بديننا، وأننا كفار بدينهم، وفاته أنه ذكر بالحرف: (إن النصارى لهم عقائد معينة، القرآن اعتبرها كفراً بالتوحيد) [نفس الحلقة]، فهل الكفر بالتوحيد إيمان بالله؟
3) يقول القرضاوي بالحرف: (وهم - أي النصارى - كفار بديننا، لا يؤمنون برسالة محمد وأن القرآن كلام الله).
فالنصارى إذن لا يؤمنون برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمون النبي الكريم؛ الكذاب، وفي هذا لا يغضب القرضاوي وأتباعه لوجه الله، وغيرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى القرآن الكريم، بل يقولون عن هؤلاء الملاعين "إخواننا".
وأنصح مقدم البرنامج "أحمد منصور" أن يتقي الله في هذا، وقد ذكرهم بهذه الأخوة غير مرة.
قلت: وإنكار ما أنزل الله تعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إنكار لكل الرسالات، وطعن في ذات الله جل جلاله، وهم بهذا ما قدروا الله حق قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
قال ابن أبي العز في كتابه "شرح العقيدة الطحاوية" : (بل إنكار رسالته صلى الله عليه وآله وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحد للرب بالكلية وإنكار) [ص: 153]، ثم بين ذلك بالأدلة والبراهين، رحمه الله.
ومن المعلوم أن القرضاوي لبّس على المسلمين في كون النصارى أهل كتاب، وقال: (ونناديهم بأهل الكتاب)، كأنه يستثقل نعتهم بالكفر، وبأن الإسلام: (يدعو إلى التسامح مع هؤلاء الناس، وأباح مؤاكلتهم ومصاهرتهم والتزوج منهم...)، على حد قوله.
ومن المعلوم لدى صغار طلبة العلم أن كون اليهود والنصارى أهل كتاب، لا يعني بحال من الأحوال الشرعية أنهم مؤمنون بالله، بل قد صرح القرآن بأن من أهل الكتاب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مع كونهم من أهل الكتاب؛ وذلك في قوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وهذا صريح جداً، خاصة إذا علمنا أن الآية نزلت في محاربة الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها غزوة تبوك [تفسير الطبري للآية].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه، لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحاً لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه. فلما جاء كفروا به وهو أشرف الرسل عُلم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم، ولهذا قال : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}).
قلتُ: ولئن ادعى أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، فليس هو الإيمان المعتبر شرعاً، هم مؤمنون بزعمهم، لكنهم كافرون في شرعنا، والعبرة بما عندنا لا بما يأفكون.
وطبعاً القرضاوي لا يحب الكلام في الجزية وأحكامها ولا في مشروعيتها إبقاءً على مودته للنصارى، وخصوصاً أقباط مصر الذين تربطه بهم مودة المواطنة، وعذوبة النيل.
وقد يقول المفتونون به: ليس الوقت وقته!(2/115)
ونقول: بل وقته، والإسلام كله صالح للزمان كله والمكان كله إلى قيام الساعة، وإلا، هل الوقت وقت المرأة القاضية في الإسلام؟ فأين الإسلام؟ ولماذا الدندنة حول الملكة بلقيس يوم أن كانت كافرة، وقبل أن تسلم وجهها لله مع سليمان عليه السلام؟ بل لماذا ولاية المرأة بما كان في شريعة من قبلنا المنسوخة بشريعتنا؟
وفي كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [جاء في الصفحة 215 منه] قوله: (وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله؟ من التبرك بالصليب - قلت: فالتبرك بالصليب إيمان بهذا الصليب، وهو تكذيب مباشر لرب العالمين،فهل هو إلا الكفر بالله كما قال شيخ الإسلام؟ -... والتعميد في المعمودية، أو قول القائل "المعبود واحد، وإن كانت الطرق مختلفة" ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدّلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله، والتدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك؟).
أجل، بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، فما هي تلك الوسطية وذاك الاعتدال الذي يرفع القرضاوي رايته،وقد خالف الأمة الوسط بلا خلاف؟
وبخصوص المناكحة والمصاهرة والمؤاكلة، فهذه من الأمور التي ينبغي إمعان النظر فيها اليوم، ذلك لأن النصارى واليهود في هذا الزمان حربيون وليس منهم ذمي واحد، وأن أغلبيتهم اليوم لا علاقة لهم لا بالتوراة ولا بالإنجيل، على ما فيهما من تحريف، وكل ما لدى النصارى اليوم مثلاً هو إنجيل متّى وإنجيل ماركوس وإنجيل يوحنى وإنجيل لوقا، وليس عندهم إنجيل عيسى عليه السلام، ولو كان عندهم إنجيل عيسى عليه السلام وهم مؤمنون به لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونستحضر هنا أن من الصحابة رضي الله عنهم من كان لا يرى الزواج والمصاهرة... إلا من حرائر وعفائف الذميين، وليس من الحربيين، هذه واحدة.
ومنهم من كان يرى أن امرأة تقول "عيسى ابن الله" هي مشركة لا تحل.
قال ابن كثير في التفسير: (وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... الآية}، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول؛ لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن... الآية}).
صحيح خالفه الصحابة رضي الله عنهم، للاعتبارات التي ذكرها ابن كثير رحمه الله، وهو ما نعيبه على القرضاوي الذي يفتي في أمور كثيرة وخطيرة دون أن يشير إلى ما هنالك من أقوال للسلف، ودون ما وضعه أولئك السلف من قيود وشروط... لذا جاءت فتاوى القرضاوي في كثير من القضايا متسيبة سقيمة.
أما أهل الكتاب الحقيقيون؛ فهم أهل الكتاب الحقيقي، الكتاب الذي أنزله الله تعالى من توراة وإنجيل، قبل التحريف.
أما بعد التحريف؛ فلم يعد أحدهما الكتاب الذي أنزله الله، ولا أتباع المحرف منهما أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله، إلا وفق ما تعارف عليه الكفار وزعموه لأنفسهم من أنهم أهل دين وإيمان، والعبرة بما في ديننا لا بما في أفواههم، كما علمت.
* * *
ومما ينبغي أن يعلمه المسلمون؛ أن التسامح المطلوب شرعاً مع غيرهم، مقيد وليس مطلقاً، كما قلت آنفاً، والقرضاوي ذكر قول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وعامة المسلمين لا يفهمون ما هي هذه التي هي أحسن، ولا ما هي طبيعة تلك المجادلة، وعلى أي أساس وبأية شروط، إلا من كان دارساً، واستغلال جهل المسلمين من طرف أصحاب راية الاعتدال المزيفة، استغلال خبيث خال من تقوى الله تعالى.
فهل ذكر القرضاوي للناس بأن ما استشهد به هنا منسوخ على حد قول التابعي الجليل قتادة وغيره، رضي الله عنهم؟ أو أنها محكمة لكن في حق طلاب الحق من أهل الكتاب؟
وهذا كما قال المفسر الكبير ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية: (قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف، وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادَل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... الآية}).
إلى قوله: (قال مجاهد: {إلا الذين ظلموا منهم}؛ يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية) اهـ.
وهذا هو القيد في التسامح الإسلامي، فهل نتبع سلفنا الصالح، أهل العلم والعمل، أم نتبع الدكتور وصاحبه أحمد منصور؟!
ولا شك أن الفهم الصحيح للقرآن الكريم هو فهم السلف لا فهم الخلف المخالف، والذين يتجاوزون أقوال الأئمة وحفاظ الأمة ويذهبون إلى مزبلة الأفكار البشرية قوم لا يعقلون.
ثم إن القرضاوي كتم على المسلمين الاستثناء القرآني في الآية، فأوردها ناقصة في المبنى والمعنى، وهو عبث بعقيدة المسلمين لا يخدم إلا مراد الكافرين والمنافقين، والمستثنى من الجدال بالتي هي أحسن، وفق ما تم بيانه، هو قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ولئن كان إسقاطها عن سهو، كما رجحنا، فإسقاط معناها كان عن عمد، وهذا هو الخطر على الشيخ، ونقول عن عمد، لأن كل ما بنى عليه من اجتهادات كان على هذا الخرم الفاضح للقرآن الكريم، أم نقول جاهل؟(2/116)
وهؤلاء الذين ظلموا منهم، هم أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية؛ كما قال مجاهد رضي الله عنه، وهم اليوم الذين يصولون ويجولون ويسرحون ويمرحون في بلاد المسلمين، بل يقتلون ويغتصبون ويرهبون وينهبون ويحاصرون... كما فعل الأمريكان - ولا يزالون -
ويعصرني الألم وأنا أسمع إدانة القرضاوي لليهود باعتبارهم يفعلون في فلسطين المسلمة ما يفعلون، ويبرئ ساحة النصارى على ما هم عليه من عدوان وإجرام في حق أمتنا، وكأني به يجهل أن النصارى هم وراء زرع الكيان اليهودي في قلب أمتنا، وهم الذين يحمون اليهود وينصرونهم بالرجال والأموال والعتاد والتكنلوجيا والدعاية والإعلام والفيتو... وغير ذلك، ويتجاهل أن النصارى محاربون بكل معاني الكلمة، كما يدل على ذلك الوضع في جنوب السودان وفي احتلال المدينتين المسلمتين سبتة ومليلية، بل واحتلال بلاد الجزيرة العربية الآن احتلالاً مسلحاً، وإن كان مقنّعاً.
بل إن النصارى في مصر والأردن وسوريا ولبنان وغيرها محاربون بكل المعاني الشرعية، وأنهم حقيقة هم وأمثالهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، فهؤلاء ليسوا معنيين بالجدال بالتي هي أحسن، ولو على فهم المهزومين.
* * *
ونأتي الآن إلى الأمور المشتركة المزعومة بيننا وبين أهل الكتاب:
فقد ذكر القرضاوي أن هناك أموراً مشتركة بيننا وبين النصارى، ينبغي أن تشكل قاعدة التسامح والتعايش؛ وهي الإيمان بالله واليوم الآخر... إلخ.
وقد سبق أن بينا بالنصوص القاطعة أن النصارى واليهود لا يؤمنون بالله تعالى، وأن كل من لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بالإسلام، أو بشيء منه؛ فهو لا يؤمن بالله تعالى.
والقول؛ بأنهم مؤمنون بالله ولكنهم كفار بديننا - كما قال القرضاوي - قول سقيم لا يمت إلى العلم بأدنى صلة، ذلك لأن الله الذي يؤمن به اليهود له ابن اسمه عزير، والله الذي يؤمن به النصارى له ابن اسمه المسيح، والله الذي نؤمن به - نحن المسلمين - لم يلد ولم يولد، فهل الله هو هو في عقيدة هؤلاء وهؤلاء؟ اللهم ألف لا.
فإن قالوا: إنهم يؤمنون بالله!
فليس الله الذي يؤمنون به هو الله الذي نعلم نحن أسماءه وصفاته وأفعاله التي هي في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن إبراهيم عليه السلام الذي نجتمع فيه - نحن الثلاثة - مسلمين ويهوداً ونصارى، والذي هو أيضاً من القواسم المشتركة بيننا وبينهم كما يقول الجاهلون، كان مسلماً ولم يكن مشركاً: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، وفي قوله تعالى: {وما كان من المشركين} إشارة إلى أن اليهود والنصارى مشركون. كيف لا وهم الذين {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، أجل: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وكذلك الأمر في قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].
* * *
وأختم بما بدأ القرضاوي به، قال: (كلمة كفار، يعني إيه؟ ملحدون؟ ليسوا ملحدين)، قالها بنبرة غاضبة.
وأقول: بل هم ملحدون بلغة الشرع، وأعلم أنه يقصد ما تعارف الناس عليه اليوم من أن الملحدين هم الدهريون والشيوعيون وأمثالهم الذين ينكرون اليوم الآخر، إلا أن تغليب لغة الشرع في فتاوانا ينبغي أن يكون سائداً، لأنه هو الصواب، ونفي الإلحاد عن أهل الكتاب بهذا الإطلاق لا ينم إلا عن الهشاشة العلمية، أو الكتمان لشهادة الحق عياذاً بالله، فما هو الإلحاد؟
(الإلحاد: الميل وترك القصد; يقال: ألحد الرجل في الدين، وألحد إذا مال، ومنه اللحد في القبر؛ لأنه في ناحيته) [تفسير القرطبي].
(وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد والميل والجور والانحراف... ) [تفسير القرآن العظيم].
قلتُ: واليهود والنصارى مالوا ميلاً عظيماً، وتركوا القصد المطلوب، وكذبوا بدين الله تعالى جملة وتفصيلاً، وطعنوا في أسماء الله جل وعلا طعناً بليغاً، وجاروا وانحرفوا وانجرفوا، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
* * *
فيا شيخ يوسف القرضاوي، اتق الله تعالى، فقد بلغت من الكبر عتياً، ولم يعد أمامك عمر مديد، وانظر كيف تلقى ربك.
وعد إلى ذلك الماضي المشرق في حياتك يوم كنت طليقاً في سجن أعدائك، وقبل أن تصبح أسيراً في عالم ساداتك وكبرائك اليوم، حيث كنت يومها تنشدنا من وراء القضبان:
النور في قلبي، وقلبي بين يدي ربي، وربي ناصري ومعيني...
سأظل معتصماً بحبل عقيدتي، وأموت مبتسماً ليحيى ديني...
فلا تمت عبوساً ليحيى دين شنودة.
وإياك أن تأخذك العزة بالإثم.
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
وكتبه؛ محمد بن محمد الفزازي
طنجة، 24 جمادى الأولى 1419هـ
===================
إسعاف المؤمنين بنصرة خاتم المرسلين
تأليف / د.وسيم فتح الله
المقدمة(2/117)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً. الحمد لله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى صراطه المستقيم بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله تعالى به الملة العوجاء وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صُمَّاً وقلوباً غُلفاً، أرسله سبحانه وتعالى على حين فترة من الرسل، وأنزل عليه خير كتبه وآخر رسالاته وختم به النبوات فكان خير النبيين وخاتمهم عليه أفضل الصلاة والسلام. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبعد؛
فلقد تتابعت سهام الكفر والشرك على أمة الإسلام تترى، فتارةً تنال دماءَنا وتارةً تنال أموالَنا، وتارةً تنال نساءَنا وتارةً تنال أولادَنا، وتارةً تنال ديارَنا وتارةً تنال أوطانَنا، غير أن ذلك كله هينٌ إذا ما طالت سهام الكفر والغدر أحبَّ خلق الله تعالى إلينا وأكرم خلقه سبحانه وتعالى عنده، ذاك شمس النبوة ومصباح الهداية وقائد الأمة وشفيعها بإذن الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا نالت سهام الحقد النتنة مقام النبوة وتعرضت لجناب الرسالة هان عنده كل مصاب، وبات كل مصاب بعده جلل، فلا الديار ولا الأموال ولا النفوس ولا الأهلون تفي فداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إلى الله المشتكى من الخَوَر والخذلان، وإلى الله المشتكى ممن يرى ويسمع ولكن لا تُبصر له عين ولا تعي له أذن، بل كالحجارة الصماء والدواب البكماء، ولو استثيرت هذه الدواب في بعض ما فيه معاشها لهبَّت ونهضت واستنهضت، فلا نامت أعين الجبناء...
ولئن كان مصابنا في سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاباً عظيماً، فإن الفاجعة تزداد ألماً وسوءاً عندما نرى ممن ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاهلاً بحق النبي صلى الله عليه وسلم، تاركاً لسنته التي شرعها الله تعالى وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاقبة أمثال هؤلاء المجرمين، فإذا به لما جهل خطاب الشرع أو تجاهل عنه يلجأ إلى ما تمليه العقول والأفكار وينضبط بضوابط الأعراف و"البروتوكولات"؛ يغضب لكن بمقدار، ويُنكر لكن بعد إذن، ويزمجر ولكن بصمت، ويستنصر ولكن بأعداء الله، يدعو على الشاتم ولكن بعد موافقة ولي الأمر، ويتبرأ لكن ممن يريد حق الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدَق الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه حين قال:"إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأى فضلوا وأضلوا "، وكما نبَّه رضي الله عنه على الداء فلقد نبَّه على الدواء فقال:"سيأتي أناسٌ سيجادلونكم بشبهات القرآن خذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله "، نعم أصحاب السنن، سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الراضين المرضيين هم أعلم بكتاب الله وبحكم الله، ولمَّا لم يكن سبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم جريمةً مبتدعة اليوم بل كانت جريمةً قديمةً قِدم الرسالة والبعثة، فتارة رموه بالسحر وتارة بالجنون، وتارة نظموا في هجائه الشعر، وتارة حثُّوا القيان على التغني بسبِّه، فلا بد وأن يكون الوحي قد نطق بحكم هؤلاء قرآناً وسنةً، والأمر كذلك، فكان لا بد من المصير إلى حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء، إذ لا يخفى أن صدرونا لم تشفَ وغيظ قلوبنا لم يذهب بتلك البيانات الهزيلة والاستنكارات الخافتة، والدعوات الغريبة لإقامة مؤتمرات التقارب وغير ذلك من الترَّهات، لم يذهب شيءٌ من ذلك بما في قلوبنا من غيظٍ وكمدٍ تجاه أولئك المجرمين، ولن يذهب غيظ قلوبنا حتى نرى حكم الله تعالى فيهم نافذاً إنه خير مأمول وأكرم مسؤول.(2/118)
ثم إني قرأت كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي المتوفى عام 544 هجرية، وهو كتاب نافع ماتع جمع فيه مؤلفه عليه رحمة الله الواسعة فصولاً نفيسة شاملة لحقوق النبي صلى الله عليه وسلم وما يجب علينا تجاهه في حياته وبعد مماته، مع بيان حكم من تجرأ بسبه وشتمه، كما طالعت كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هجرية رحمه الله برحمته الواسعة، فوجدته سِفراً نفيساً لم يُسبق إليه ولم يُكتب على شاكلته، انتصب فيه رحمه الله للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان حكم الله تعالى فيمن سبَّه حيث حصل ذلك في حياته رحمه الله، وكان مما قال في مقدمته:"أما بعد، فإن الله تعالى هدانا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته ويُمن سِفارته خير الدنيا والآخرة، وكان مِن ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها، وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع إلى عيِّها وصمتِها، فاقتضاني لحادثٍ حدث أدنى ما له من الحق علينا بله ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق، وإيثاره بالنفس والمال في كل موطِن، وحفظه وحمايته من كل مؤذٍ، وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض، وليعلم الله من ينصره ورسلَه بالغيب، ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب أن أذكر ما شرع من العقوبة لمن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم مِن مسلمٍ وكافر وتوابع ذلك ذكراً يتضمن الحكم والدليل، ونقل ما حضرني في ذلك من الأقاويل وإرداف القول بحظِّه من التعليل، وبيان ما يجب أن يكون عليه التعويل، فأما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل، وإنما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي، ويقضي به القاضي، ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه، والله هو الهادي إلى سواء السبيل"، قلت: وكذلك فعل رحمه الله في هذا السِفر العظيم فلقد أجاد وأفاد وجمع وفصَّل وردَّ بما لم يُسبق إليه، فرحمه الله برحمته الواسعة.
ولما رأيت ما في الهمم من قصور وتقاصر عن استقراء مثل هذه الكتب الجليلة عزمت بعد أن استخرت الله عز وجل على تأليفٍ موجزٍ مختصر يتسع وقتُ كل مسلم غيور على دينه وعِرض نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأه ويتعلم حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء ليدين لله تعالى به وليعمل – كما أشار شيخ الإسلام – منه بحسب إمكانه، إذ واجبٌ على الأمة ذلك، ولم ألتزم بذكر جميع مسائل وأدلة واستدلالات الكتابين، وإنما ذكرت ما تيسر على سبيل الاختصار دون إخلالٍ بالمقصود، وأوصي من اتسع له الوقت وأسعفه الجهد أن يعود إلى الأصلين لا سيما طلاب العلم فإن فيهما من النفائس الشيء الكثير.
ولقد رتبتُ مادة هذا الكتاب في فصولٍ خمسة، عرضت في الأول منها شيئاً من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة عند المؤمنين، وتناولت في الثاني بعض ما صان الله تعالى به جناب النبوة، وتكلمت في الثالث على صفة سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع وعمل الصحابة وأقوال أهل العلم على كفر شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله في الفصل الرابع، وأما الفصل الخامس فتناولت فيه بعض الشبهات المتعلقة بهذا الحكم ثم ذيلت بالخاتمة، وسميته إسعاف المؤمنين بنصرة خاتم المرسلين، حيث تتوالى الخطوب تترى فلا بد من مرجعٍ وجيزٍ يشفي الصدور ويأتي على المجرمين بالهلاك والثبور بإذن الله، ويسر الله جمعه في أواخر رمضان وإتمامه في غرة شوال فأسأله تعالى القبول.
ولا بد من بيان أننا رغم ما يكتنف قلوبنا من الغيظ والألم تجاه هؤلاء المارقين، فإننا ثقة كل الثقة بأن الله تعالى منجز وعده وناصر جنده وهازم حزب عدوه، لا نماري في ذلك كما لا نماري في طلوع الشمس في وضح النهار، ولكنها سنة الله في الابتلاء قبل التمكين، ولعل ما ينتابنا اليوم من الشعور بالأمل الممتزج مع الألم قريبٌ من شعور أهل الثغور الذي نقله شيخ الإسلام حين كانوا يتألمون لما يسب به بعض أهل الكفر المحاصَرين الممتنعين النبي صلى الله عليه وسلم، فيستبشرون بفتح الله تعالى عليهم، فإذا بالحصن يُفتح والعدو يُقهر وكلمة الذين كفروا سافلة وكلمة الله تعالى هي العليا كانت ولم تزل، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
وأخيراً فإني أتقدم بخجل شديد من سيدي وقائدي وحبيبي وشفيعي بإذن الله يوم القيامة وفرطي على الحوض الرسول الكريم بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه بهذا الدفاع المتواضع عن عرضه وجنابه، وأسأل الله تعالى أن يكون ما في القلب من حبه صلى الله عليه وسلم جابراً لما في العمل في الدفاع عنه من تقصير وما أشده، سلواي في ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتمراً قبل أن يفتحها وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلُّوا بني الكفار عن سبيله ……اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الهام عن مقيلة ……ويُذهل الخليل عن خليله(2/119)
فقال عمر: يا ابن رواحة، في حَرَم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا الشعر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" خلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لَكلامه أشدُّ عليهم من وقع النبل"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه وكان يهجو المشركين ويرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هجاه المشركون:"اهجهم أو هاجهم وجبريل معك".
وأسأل الله تعالى التسديد لما يرضيه من الأقوال والأفعال، اللهم ما وافق الحق مما كتبت فمنك وحدك وبفضلك وجودك وكرمك، وما خالف الحق فمني وأنا منه بريء، والحمد لله رب العالمين.
وكتب أفقر خلق الله
وسيم فتح الله
5شوال 1427 هجرية
الفصل الأول : مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة في قلوب المؤمنين
إن أول واجبٍ يتعين على المرء تحقيقه في مقام الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم هو تحديد مكان النبي صلى الله عليه وسلم من قلوبنا وأنفسنا وأزواجنا وأولادنا وأهلونا وجميع دنيانا. وإن النصوص الشرعية مستفيضة في هذا المقام، ولا بد من سرد ما يتيسر منها على كثرتها لأن كلاً منها يحقق معنىً إضافياً وتشريفاً واجباً وتعزيراً لازماً لمقام النبوة، بحيث لا يمكن لمؤمن أن يستغني عن كل إضافة لحقٍ النبي صلى الله عليه وسلم يضيفها نصٌ شرعي أو خطابٌ تكليفي، ولست أخشى إطالةً في السرد إذ لا مكان لما يُخشى منه في العادة من حدوث الإملال بالإطناب، فإن هذا المحذور منتفٍ في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ، بل على من تململ من شيء من خصوصياته أن يخشى على قلبه المرض وعلى دينه الضياع، نسأل الله السلامة والعافية. أما المؤمن فدأبه عند كل نصٍ شرعي متعلق بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن اثنين : أي حقٍ يضيفه هذا الخطاب إلى حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وهل أنا ملتزم بأداء هذا الحق على قلة بضاعتي وتقصيري فيه ؟ فدأب التابعِ المحبِّ لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يدور بين هاتين المسألتين أعني التعرف على حقوقه صلى الله عليه وسلم والسعي الجاد في أدائها، لا يمنعه عن تعرف حقوقه صلى الله عليه وسلم كلٌّ ولا فتور، لا يثنيه عن أداء هذا الحق تعبٌ ولا قصور، والله المستعان.
أولاً: مكان الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم :(2/120)
قال الله تعالى :" الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نُزِّل على محمد وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم"، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (وآمنوا بما نُزل على محمد):" عطف خاصٍ على عام، وهو دليلٌ على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم"، وقال الإمام البيضاوي رحمه الله :"تخصيصٌ للمنزَّل عليه مما يجب الإيمان به تعظيماً له وإشعاراً بأن الإيمان لا يتم دونه وأنه الأصل فيه"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار"، وجاء في ترجمة الحديث (باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته)، ورواه البزار عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار"، فقال (يؤمن بي)، أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وترجم للحديث الإمام النسائي بقوله تعالى :"ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده""، والحاصل من هذا كله أن تحقيق مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الواقع تحقيق مكان التوحيد؛ فلا معقد لأصل الإيمان في قلب امرئٍ بغير الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، هذا ما عليه عهد الأنبياء من قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وهذا ما عليه العهد بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، أما عهد الأنبياء فقوله تعالى:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمة ثم جاءكم رسولٌ مصدِّقٌ لما معكم لتؤمنُنَّ به ولتنصُرُنَّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين"، وأما بعد بعثته فلا تنفع شهادة أن لا إله إلا الله حتى يتمها بشهادة أن محمداً رسول الله، قال القاضي عياض رحمه الله :"فالإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم واجبٌ متعيِّن لا يتم إيمانٌ إلا به، ولا يصح إسلامٌ إلا معه، قال تعالى:"ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً"". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه النفيس الصارم المسلول على شاتم الرسول :" فإذا قال (لا إله إلا الله) فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، (وأشهد أن محمداً رسول الله) تضمنت تصديق الرسول بما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار"، ثم ذكر الأصل الآخر الذين لا بد منه وهو الانقياد فقال رحمه الله :" فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذبٌ له أو ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفرٌ صريح". والحاصل هنا أن من لم يؤمن تصديقاً وانقياداً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى وغيرهم فمات على ذلك، فإنه خالدٌ في نار جهنم خلود الكفار كما تقدم في حديث أبي هريرة وأبي موسى رضي الله عنهما، إذ ببعثته صلى الله عليه وسلم أكمل الله تعالى الدين ونسخ ما سبقه من الشرائع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن مَثَلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"، فعُلم أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم هو معقد التوحيد، وسبيل النجاة، وبالله التوفيق.
ثانياً: مكان النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين :(2/121)
قال الإمام البيضاوي رحمه الله في قوله تعالى :" النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" :" في الأمور كلها؛ فإنه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فلذلك أطلق، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذُ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتم من شفقتهم عليها"، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما من مؤمنٍ إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دَيناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه"، فقد جعل نفسه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه مولى للمؤمنين يسد عنهم ويحمل عنهم، وأمره يسري علينا بلا ترددٍ أو نظر، لأن نظره بنا أرفق ونظره لمصالح ديننا ودنيانا أتم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"ومِن ذلك أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يُوقى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى:"ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب أن يتخلَّفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه""، فمكانه صلى الله عليه وسلم فوق مكاننا، بل فوق مكان المخلوقين، وقد روى مسلم في صحيحه في باب (تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق) حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع"، ولقد كانت الجمادات تعرف ذلك وتُنزل الرسول صلى الله عليه وسلم منزله وتعرف له قدره، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسَلِّم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن"، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو حديث طويل وفيه:" سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته، فاتبعتُه بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرَ شيئاً يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال:"انقادى عليَّ بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائدَه حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال:" انقادى عليَّ بإذن الله" فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لَأَمَ بينهما - يعني جمعها- فقال:" التئما عليَّ بإذن الله" فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أُحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي فيبتعد - وقال محمد بن عباد فيتبعد - فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق"، نعم، الحجر والشجر يعرفان مكانة النبي صلى الله عليه وسلم فيسلِّم الحجر عليه وينقاد الشجر لأمره في حين تُسوِّل تلك النفوس الخبيثة لأصحابها الهلكى التطاول على مقام النبوة، ألا تباً لهم من تعساء وتباً لهم من هلكى. ولعمري لئن كان هذا حال الحجر والشجر مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفيليق بالمؤمن أن يكون في توقيره صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره أقل حالاً من الحجر والشجر، لا والله لا يليق.
ثالثاً: مكان محبة النبي صلى الله عليه وسلم :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" ومن حقه – صلى الله عليه وسلم – أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه:"قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنٌ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين""، وقال الشيخ السعدي رحمه الله :" هذه الآية الكريمة أعظم دليلٍ على وجوب محبة الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد على مَن كان شيءٌ من المذكورات أحبَّ إليه من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله، وعلامةُ ذلك أنه إذا عُرض عليه أمران؛ أحدهما يحبه الله ورسوله وليس لنفسه فيها هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ولكنه يفوِّت عليه محبوباً لله ورسوله أو يُنقصه، فإنه إن قدَّم ما تهواه نفسه على ما يحبه الله دل على أنه ظالمٌ تاركٌ لما يجب عليه".(2/122)
وعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال:" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر"، قال الحافظ العيني رحمه الله :"قوله (حتى أكون) أي لا يكمل إيمانك حتى أكون، قوله (الآن) يعني كمل إيمانك"، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"، قال الحافظ العيني رحمه الله:" قال أبو الزناد: هذا من جوامع الكلم الذي أوتيه عليه الصلاة والسلام، إذ أقسام المحبة ثلاثة؛ محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلةٍ واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضاً، فجمع عليه السلام ذلك كله"، قلت: فمكان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب المؤمن أولى وأعلى من مكان غيره في أقسام المحبة كلها؛ أما محبة الشفقة والرحمة فتلك التي يضحي لأجلها المحب بكل نفيسٍ وغالٍ في سبيل محبوبه، ولئن كان أحدنا يضحي بنفسه وماله وراحته في سبيل ولدٍ لا يدري أيكون له فتنة ونقمة أم رحمة ونعمة، فكيف بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النعمة المسداة من رب العالمين، وهو طريقنا إلى محبة الله ومرضاته وجنته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بلوازم هذا الحب من أبنائنا وبناتنا، وهو كذلك، وأما محبة الإجلال والإعظام فلئن كان أحدنا يبذلها لوالديه وحقيقٌ بهما ذلك لما لهما من حق وسابقة نعمة وفضل، فلعمر الحق لا أحد أولى بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدانيه في منزلة تعظيمه وتوقيره ملِكٌ معظَّم ولا أميرٌ مبجّل ولا والد والدة ولا صاحب فضل ولا نعمة، كيف وكل نعمة نعيشها في ظلال الإسلام قد تفيأنا ظلها بفضل الله تعالى عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بمحبة التعظيم والتوقير وأولى بلوازم هذه المحبة من آبائنا وأمهاتنا وهو كذلك، وأما محبة المشاكلة والاستحسان فلا تخرج عن أن تكون فرعاً عن محبوبٍ أعظم أو أن تكون دوراناً في فلك المصالح ، وإذا كان الأمر كذلك فأي محبوب أعظم من الله تعالى وأي فرع أقرب لهذه المحبة من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الدوران مع المصلحة فأي مخلوقٍ أنفع لنا بمصلحة دين أو دنيا حتى نقدم حبه على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شك إذاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذه المحبة أيضاً وهو أولى بلوازمها من غيره، فإذا عُلم ما تقدم فقد اجتمعت الدواعي على تقديم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أقسام المحبة، وطرح كل ما سواه من المخلوقين جانباً، وهو كذلك.
ولقد تكلم القاضي عياض رحمه الله بكلامٍ نفيس عن علامة محبته صلى الله عليه وسلم فذكر منها لزوم اتباعه وموافقته والرغبة في سنته وامتثال أمره وترك نواهيه والتأدب بأدبه في عُسره ويسره صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"ومنها بغض من أبغضَ الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينه، واستثقاله كل أمر يخالف شريعته، قال الله تعالى :" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله"، وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته، وقال له عبد الله بن عبد الله بن أُبي : لو شئت لأتيتك برأسه، يعني أباه". قلت: فلا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم تستلزم معاداة مبغِضِه، وأن من ادعى حب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلن ببغضه وحربه لمن أبغض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب، ونسبته إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم نسبة كاذبة، فحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدَّى بالأرواح والأولاد والأهلون والأموال والأوطان، وها هو خبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه حين أراد المشركون قتله، "فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوبٌ نادوه وناشدوه: أتحب محمداً مكانك؟ فقال: لا والله العظيم، ما أحب أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه، فضحكوا"، نعم إن من لا يفهم حقيقة هذا الحب يضحك لجهله، أما من أُشرب في قلبه حب محمد صلى الله عليه وسلم فلا يفتدي نفسه بشوكة في قدمه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا حب محمد صلى الله عليه وسلم، فهل من محبين...
رابعاً: مكان متابعة النبي صلى الله عليه وسلم :(2/123)
لم يجعل الله تعالى لأحد من الخلق متابعة مستقلة منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا له، فقال سبحانه وتعالى:"يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً"، ففرض الله تعالى طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وردَّ الناس إلى الله ورسوله – أي الكتاب والسنة – عند التنازع، ثم أكدت الآيات هذا المعنى بالتحذير من عواقب نقيضه وهو الإعراض عن طاعته صلى الله عليه وسلم وترك متابعته، وجعل الله تعالى المتابعة والانقياد والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حداً للإيمان؛ فمتى وُجد ذلك وُجد الإيمان ومتى فُقد فُقد، فقال تعالى:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلوا :"فليحذرِ الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة" ..الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلوا هذه الآية :"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"". وروى ابن خزيمة في صحيحه عن أمية بن عبد الله بن خالد أنه قال لعبد الله بن عمر :"إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن؟ فقال عبد الله: يا ابن أخي، إن الله عز وجل بعث إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل"، قلت: وهذه هي المتابعة التي يسعد بها المرء في الدنيا والآخرة، فلله دَرُّهم مِن صحبةٍ اختارها الله تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه. لقد علم الصحابة رضوان الله عليهم أن الخير كل الخير في اتباع سنته، وأن المحبة صدق المحبة في التزام هديه صلى الله عليه وسلم، فقال أفضل الصحابة وخيرهم بل خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه:"لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ".قلت: صدق الصدِّيق رضي الله عنه، فإنما هما أمران لا ثالث لهما؛ اتباع سنةٍ وهدى، أو ترك سنة وزيغ وضلال، وليس ذلك لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلٌ يؤخذ منه ويُرد إلا هو بأمي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
خامساً: مكان النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة". قلنا: لمن؟ قال:" لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، قال الإمام النووي رحمه الله:"وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته فى أمره ونهيه، ونصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته، ونفى التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلُّمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلُّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع فى سنته أوتعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك"، وقال القاضي عياض رحمه الله :" وقال أبو بكر الآجري وغيره: النصح له يقتضي نصحين؛ نصحاً في حياته، ونصحاً بعد مماته. ففي حياته نصحَ أصحابُه له بالنصر والمحاماة عنه، ومعاداة من عاداه، والسمع والطاعة له، وبذل النفوس والأموال دونه، كما قال تعالى:"رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم مَن قضى نَحبَه ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلاً"، وقال:"وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"، وأما نصيحة المسلمين له بعد وفاته فالتزام التوقير والإجلال، وشدة المحبة له، والمثابرة على تعلم سنته، والتفقه في شريعته، ومحبة آل بيته وأصحابه، ومجانبة مَن رغب عن سنته وانحرف عنها وبغضه والتحذير منه، والشفقة على أمته، والبحث عن تعرف أخلاقه وسيره وآدابه والصبر على ذلك". قال أبو عبدالله المروزي رحمه الله :"قال بعض أهل العلم: جِماع تفسير النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له مَن كان، وهى على وجهين أحدهما فرض والآخر نافلة" ثم قال :"وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فبذل المجهود في طاعته ونصرته ومعاونته وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته، وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره ولزوم القيام به، وشدة الغضب والإعراض عن من يدين بخلاف سنته، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا وإن كان متديناً بها، وحُبُّ من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به في زيه ولباسه".(2/124)
فهذه أقوال أهل العلم متضافرة على وجوب النصيحة له صلى الله عليه وسلم، والنصيحة في اللغة الإخلاص، وهي لرسولنا صلى الله عليه وسلم الإخلاص في متابعته بحيث تكون مجردةً له صلى الله عليه وسلم لا يدخل على هذه المتابعة شيء من البدعة والحدث والرأي والهوى، وهذا كما جاء في الأثر :"جعل رجلٌ يقول لابن عمر رضي الله عنهما: أرأيت أرأيت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، إنما هي السنن".
سادساً: مكان الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اعلم أن الله تعالى قد افترض علينا الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى:"إن الله وملائكته يصلُّون على النبي يأيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً"، وهذه الصلاة كما قال أبو العالية:"صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء"، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:"والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلى بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعاً" .
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليه، ففي الحديث عن كعب بن عجرة رضي الله عنه:"...إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:" قلنا: يا رسول الله، هذا السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم"، وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا:"يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"، وهذه الصلاة فرضٌ على الجملة، ولها أوقات فضيلة واستحباب، ومن أوقاتها الخاصة ما بعد التشهد الأخير في الصلاة، وعند الدعاء، وعند ذكره صلى الله عليه وسلم وسماع اسمه أو كتابه، ويوم الجمعة، وعند دخول المسجد، وعند الأذان، وغيرها من المواطن ذكرها القاضي عياض رحمه الله تعالى.
ولقد ورد الذم صريحاً فيمن ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" رغِم أنف رجلٍ ذُكرت عنده فلم يصلِّ علي"، وعن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" البخيل الذي ذُكرت عنده فلم يُصلِّ عليَّ".
سابعاً: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة رضوان الله عليهم:
لقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنموذج الذي اختاره الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكانوا مصداقاً حقيقياً لوصف القرآن :" محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومَثَلُهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقِه يعجب الزُرَّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالجات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً"، لقد أحاط الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسياج المحبة والحرص، والتوقير والتعظيم، فلم يكونوا يصدرون إلا عن أمره، ولا يتقدمون بين يديه، وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في مرض موته قال :" ...وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أَجَلَّ في عينَي منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينَي منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عينَي منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة"، وعن أسامة بن شريك يقول:" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصحابه عنده كأن على رؤوسهم الطير"، وأرسلت قريش عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية:" فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه؛ لا يتوضأ وضوءاً إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنى جئت كسرى في مُلكه، وجئت قيصر والنجاشي في مُلكهما، والله ما رأيت مُلكاً قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً"، قلت: فما بالنا اليوم نُسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونخذله أمام شرذمة حقيرة من زبالات البشر...
ثامناً: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :(2/125)
عن عائشة رضي الله عنها قالت:" تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوِّذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوِّذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى. ومرَّ عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما كان مستناً، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة"،
وعن عائشةرضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله وبكى، ثم قال:" بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مِتَّها"، قال الزهري : وحدثني أبو سلمة عن عبد الله بن عباس أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر:" أما بعد؛ فمن كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، قال الله:" وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل" إلى قوله "الشاكرين"، وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها، فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال:" والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تُقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات"،
وعن أنس قال:" لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة عليها السلام:" واكرب أباه" فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. فلما دُفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب"،
وعن عائشة قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح:" إنه لم يُقبض نبيٌ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخَيَّر. فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال:" اللهم الرفيق الأعلى". فقلت: إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكانت آخر كلمة تكلم بها :"اللهم الرفيق الأعلى"،
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشراً،، وعن عائشة رضي الله عنها:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي وهو ابن ثلاث وستين".
فصلوات الله وسلامه عليك يا نبي الله، يا رسول الله، أشهد أنك قد بلَّغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وجاهدت في الله حق جهاده حتى أتاك اليقين، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
الفصل الثاني: صيانة الله عز وجل لجناب النبوة
قال الله تعالى :" إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتُعزِّروه وتوقِّروه وتسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً"، فضرب الله تعالى حول رسوله صلى الله عليه وسلم سياجاً منيعاً من الحفظ والصون، وجعل لشخصه الكريم حريماً يصون به جنابَه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره أن هذه المنزلة فوق منزلة المحبة؛ لأنه ليس كل مُحَبٍّ معظَّماً، فالوالد يحبُ ولده ولكن حبَّه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه، والولد محبُّ والده يجمع له بين التكريم والتعظيم، فعُلم أن التعظيم رتبةٌ فوق المحبة، ولئن كان الداعي إلى المحبة ما يفيض عن المحبوب على المحِب من الخيرات، فإن الداعي إلى التعظيم ما يجب للمُعَظَّم في نفسه من الصفات العلية. ثم قال رحمه الله بعد أن بيَّن أن التعزير هو التعظيم، :"فأبان أن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون مُعزَّزاً موَّقراً مهيباً، ولا يُعامل بالاسترسال والمباسطة كما يعاملُ الأكفاء بعضهم بعضاً، قلت: وسيأتي تفصيل ذلك قريباً بإذن الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معقد بيان ما يجب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خصوصية التعزير والتوقير والتشريف :"إن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقاً زائدةً على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدةً على مجرد التصديق به سبحانه، وحرَّم سبحانه لحرمة رسوله مما يُباح أن يُفعل مع غيره أموراً زائدةً على مجرد التكذيب بنبوته"، قلت: وإن معرفة وفهم هذه الواجبات التي فرضها الله تعالى صوناً لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أمرٌ لازمٌ لكل مؤمن، ليعلم أن أحداً من المخلوقين ليس له مكانته صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن تعدياً على جنابه صلى الله عليه وسلم ليس كاعتداء على أحد، والله المستعان.(2/126)
ولنشرع في بيان جملةٍ من التشريفات التي وضعها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حتى يستيقن المؤمن ويتعرف الجاهل على قدر هذا النبي بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وحتى يُعذر كل امرئ تسول له نفسه الخبيثة التطاول على مقام النبوة أو انتهاك حريمها، ألا فليعلم أن الله تعالى هو الذي وضع وأوجب هذه التشريفات لنبيه العظيم وأنه تعالى هو المتكفل بالانتقام ممن تطاول عليه صلى الله عليه وسلم، فلقد قال تعالى :"إنا كفيناك المستهزئين"، فحسبُ نبينا صلى الله عليه وسلم كفاية الله تعالى له عدوه وشانئه ومبغضه، والله المستعان.
أولاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يدي الله ورسوله":
لقد صان الله تعالى جناب نبيه صلى الله عليه وسلم فمنع أحداً من أن يُدلي بقول أو رأي أو مشورة أو فعل قبل أن يقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء، وهذه الآية الكريمة أصلٌ في هذا الباب، بل هو أصلٌ من أصول الدين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُشرِّع، ومن تقدَّمه بقول أو رأي فقد شرَّع معه، وكأن فاعل ذلك يقول بلسان حاله : لا حاجة لي ببعثة اللهِ تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم ليبلغ أحكامه ويشرع لأهل ملته ويسن طريق شريعته، وهذا غاية البطلان وطريق الخسران. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية:"لا تعجلوا بقضاء أمرٍ في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، مَحكيٌ عن العرب: فلانٌ يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه". وقال البخاري رحمه الله :"وقال مجاهد (لا تقدموا) :لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه"، وفي سبب نزول هذه الآية أخرج البخاري رحمه الله عن ابن أبي مليكة:" أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أَمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أَمِّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلى - أو إلا- خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا لا تُقَدِّموا بين يدَي الله ورسوله" حتى انقضت الآية"، فهذان خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم يسبقون بين يديه بمشورة في أمر من الأمور فينزل القرآن ناهياً زاجراً عن ذلك، مخوِّفاً مَن عاد إليه بحبوط العمل، قال القاضي عياض رحمه الله :" ونهى عن التقدم بين يديه بالقول، وسوء الأدب بسبقه بالكلام"، قلت: ولئن كان السبق بين يديه بالكلام منهياً عنه فالنهي عن سبقه صلى الله عليه وسلم بالتصرف والفعل من باب أَولى.
فهذا أول سورٍ ضربه الله تعالى حول حمى النبوة، إجلالاً وتعظيماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل هذا السور حراماً حتى على أقرب صحابته وأحبهم إليه صلى الله عليه وسلم. ولا يفوت محلُّ هذا الأمر بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل النهي عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم يكون بعدم تقديم رأي أو اجتهاد على السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام المروزي رحمه الله:"فنهى الله المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم أو يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض إعظاماً له وإجلالاً، وأعلمَ أن ذلك يحبط أعمالهم، فكيف بمن جعل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وغيرَه في دين الله وأحكامه مِلَّتين، ثم يؤخِّر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمه؛ إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يوافقه قال هذا منسوخ، فإذا حدث عنه بما لا يعرفه قال هذا شاذ، فمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنسوخ ومنه الناسخ، ثم مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاذ ومنه المعروف، ومِن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتروك ومنه المأخوذ"، ولابن قيم الجوزية رحمه الله كلامٌ نفيسٌ في هذا المعنى أيضاً حيث قال:"فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدَّم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به"، قلت: لا شك أن هذا غاية الخسران، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.
ثانياً: باب قوله تعالى :" لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً":(2/127)
نعم فلقد قال الله تعالى بأسلوب الحصر :"إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معَه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم. لا تجعلوا دعاءَ الرسولِ بينَكم كدعاء بعضِكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لِواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم"، فهذا أدبٌ جامع في الاستئذان منه صلى الله عليه وسلم وفي دعائه أي ندائه صلوات الله وسلامه عليه. ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم محتاجون إلى مخالطة ومجالسة ومخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنهم يحتاجون إلى مخالطة ومخاطبة غيره، فهل يسوي الله تعالى بين مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجلس غيره، وبين ندائه ودعائه صلى الله عليه وسلم ودعاء غيره، كلا. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"وهذا أيضاً أدبٌ أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف، لاسيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين"، وقال رحمه الله:"قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون يامحمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فقولوا يانبي الله، يا رسول الله، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يُهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يُبَجَّل وأن يُعظَّم وأن يُسَوَّد".
فهذا شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه عظمته وجلالة قدره صلوات الله وسلامه عليه، وتأمل كيف منعت الشريعة من تعاطي أي سببٍ قد يؤدي إلى سوء أدب أو تصرف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بدون قصد، فعن حميد عن أنس قال:" نادى رجلٌ رجلاً بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لم أعنِك، إنما دعوت فلاناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي"، قلت: ولا شك أن المقصود هنا النهي عن نداء غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنيته صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك مدعاة للغلط والالتباس كما حدث في سبب ورود الحديث، أو يكون مدخلاً لاستهزاء ضعاف القلوب والمنافقين بحيث ينادونه صلى الله عليه وسلم بما لا يليق ثم يعتذرون بأنهم لم يقصدوه وإنما قصدوا غيره، فإن قيل: فلم لم يمنع من التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أن المؤمنين قد نُهوا عن ندائه صلى الله عليه وسلم باسمه مجرداً فلا يرد مثل هذا المحذور، فهم منهيون عن قولهم: يا محمد، بل يقولون : يا رسول الله ، يا نبي الله، وهكذا.
والحاصل هنا أن هذا سورٌ آخر ضربه الله تعالى حول حرم النبوة، فلا يتحدث أو يدخل أو ينصرف أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، ومن احتاج أن يناديه أو يخاطبه التزم الأدب في ذلك فناداه بما يليق وبما لا يلتبس مع غيره ، فيقول : يا رسول الله ، يا نبي الله، قال أبو القاسم ، فعل أبو القاسم صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله مزيد احتياط واعتناء من الله عز وجل بصفيِّه وخليله وصفوة خلقه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
ثالثاً: باب قوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا":(2/128)
إن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة كانوا لا يستطيعون كتمان ما في صدورهم من حقدٍ وحسدٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتحينون فرص التعريض به كلما استطاعوا، فنبَّه الله تعالى المؤمنين لذلك كي لا يقعوا في مثل فعل يهود، وقال سبحانه وتعالى في تحريم التعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم :"يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظُرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليم"، قال القاضي عياض رحمه الله :" وذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد؛ أي : أرعِنا سمعك، واسمع منا، ويُعرِّضون بالكلمة يريدون الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم، وقطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها، لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبِّه والاستهزاء به". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية :"ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر أنها كانت سبَّاً قبيحاً بلغة اليهود، قال: كان المسلمون يقولون: راعنا يارسول الله وارعنا سمعك، يعنون من المراعاة، وكانت هذه اللفظة سباً قبيحاً بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها، وقالوا فيما بينهم: كنا نسبُّ محمداً – صلى الله عليه وسلم - سراً فأعلِنوا له الآن بالشتم. وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لأن سمعتها من رجلٍ منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها فأنزل الله:" يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، لئلا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركة في لغة العرب ولغة العبرانيين، وأن المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها إلا معناها في لغتهم، فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها، وأعلموهم أن ذلك ناقضٌ لعهدهم ومبيحٌ لدمائهم".
ولقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام على مثل هذا التعريض حين كشف تعريض اليهود عليهم لعنة الله بالسلام، فعن ابن عمر رضي الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم، فقل: عليك"، قلت: والسام هو الموت، فكان اليهود عليهم لعنة الله يعرِّضون بالسلام ويريدون الموت كأنهم يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبه صلى الله عليه وسلم على هذا وأمر الصحابة برد المثل عليهم.
فإذا تأملنا النهي الوارد في الآية الكريمة عن قول كلمة (راعنا) مع العلم بأن الصحابة رضوان الله عليها كانوا يقولونها يريدون معناها في اللغة العربية قولاً واحداً، وأنهم لا يقصدون بها حاشاهم تعريضاً أو سباً خفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نهوا عن استعمال هذه اللفظة تبرؤاً من سلوك أهل الكتاب الكفار أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسداً لذريعةٍ قد تؤدي إلى تعريضٍ بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تأملنا ذلك كله أدركنا مدى عناية الله تعالى بصيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ جنابه عن ذريعة الأذى ناهيك عن الأذى نفسه، وكيف أمر سبحانه بالبراءة من سلوك المتطاولين على مقام النبوة قولاً كان أو فعلاً، فلله الحمد في الأولى والآخرة على ما اختار لنبينا صلى الله عليه وسلم من التشريف والكرامة، وعلى ما فرضه له سبحانه وتعالى من الإجلال والهيبة صلوات الله وسلامه عليه.
رابعاً: باب قوله تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ":(2/129)
قال تعالى :"يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبطَ أعمالُكم وأنتم لا تشعرون"، وقال تعالى :"إنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم"، ولقد أخرج البخاري عن ابن أبي مليكة قال:"كاد الخَيِّران أن يهلكا؛ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجلٍ آخر - قال نافع لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. قال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله :"يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم" الآية، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمِع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر"، قلت: فإذا كان هذا حال خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم أعني أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وأرضاهما، حيث ارتفعت أصواتهما عن غير قصد أذيةٍ أو تهوينٍ لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أنزل الله تعالى في ذلك من القرآن ما أنزل، وفيه الوعيد الشديد بحبوط الأعمال، ومعلوم أنه لا يحبطُ العمل إلا الشرك والكفر، وكأن التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أو رأي هو من جنس ذلك، لأنه يجعل عقله مشرعاً مع الله ورسوله فكان أشبه بالشرك فأوجب حبوط العمل، إضافةً إلى ما في ذلك من تهاون في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وتوقيراً وهيبةً وتعظيماً. وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله، وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"، قال البيهقي رحمه الله :"فكان بعد ذلك إذا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخفض صوته حتى ما يكاد يسمع الذي يليه، فنزلت فيه "إن الذين يغُضُّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم""، فهذا صحابيٌ آخر سمع تحذير الله عز وجل المؤمنين من رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذكر ما كان يبدر منه عن غير قصد سوءِ أدبٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم فأيقن أنه هالكٌ محبط العمل، حتى جاءت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم فهدأ روعه وعلم أنه ليس هو المقصود، غير أن القصد صار لاغياً فيما بعد وصارت مجرد صورة رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم مَناطاً لحبوط العمل بنص الآية، ولم يعد يُستفصل في سبب رفع الصوت أو مقصود صاحبه، ولا يخفى أن ترك الاستفصال هذا مرده إلى أن ترك عموم رفع الصوت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم هو المطلوب بغضِّ النظر عن قصدِ صاحبِه إجلالاً وهيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا إذاً بابٌ رابعٌ فيما فرضه الله تعالى لصيانة مقام النبوة، وحفظ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يصيبه أذى أو أن يتصرف معه بما لا يليق قولاً وبطريق الأولى فعلاً، والله أعلم.
خامساً: باب قوله تعالى:" إن ذلكم كان يؤذي النبيَّ فيستحيي منكم واللهُ لا يستحيي من الحق":
قال الله سبحانه وتعالى:"فإذا طَعِمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبيَّ فيستحيي منكم واللهُ لا يستحيي من الحق"، قال الخلال :" ولقد بلغ من قدرِه عند الله عز وجل أنه لما دخل بأم سلمة أو زينب أرسل ضعفاء أصحابه فأولم عليهم، فجلسوا للحديث، وعلم الله عز وجل أنه أراد الخلوة بأهله فمنعه الحياء منهم أن يخرجهم، فأنزل الله تبارك وتعالى :"إذا دُعيتم فادخلوا فإذا طَعِمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم""، وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم، فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثةُ نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبتُ أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله :"يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي" الآية"، فهذا بابٌ في تأديب الله عز وجل المؤمنين في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس في بيته، فمنع سبحانه وتعالى من الدخول بدون إذن، ومنع من ترقُّب وقت الحاجة من طعام ونحوه وتحيُّن الدخول عند ذاك، ونهى عن الجلوس فوق قدر الحاجة لئلا يُحرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكلمهن صاحب حاجة إلا من وراء حجاب وبقدر ما تنقضي الحاجة، فهذه كلها أسوارٌ منيعةٌ ضُربت لصيانة جناب النبي صلى الله عليه وسلم وفرض حرمته على المؤمنين جميعاً، وما ذلك إلا لعظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند الله سبحانه وتعالى.(2/130)
سادساً: باب قوله تعالى:"وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله":
قال تعالى:"وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ الله ولا أن تنكحوا أزواجَه مِن بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً"، قال الشيخ السعدي رحمه الله :" (وما كان لكم) يا معشر المؤمنين؛ أي غير لائقٍ ولا مستحسنٍ منكم، بل هو أقبح شيء (أن تؤذوا رسول الله) أيَّ أذية قولية أو فعلية بجميع ما يتعلق به، (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً) هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى الله عليه وسلم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته بعده مُخِلٌّ بهذا المقام، وأيضاً فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته، (إن ذلكم كان عند الله عظيماً)، وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر واجتنبت ما نهى الله عنه منه، ولله الحمد والشكر"، قلت: وليس هذا لأحد من المؤمنين غير النبي صلى الله عليه وسلم، وما هذا إلا إمعاناً في إجلاله وتوقيره صلوات الله وسلامه عليه. وليس أحد من نساء المؤمنات تحرم بعد وفاة زوجها على غيره من غير المحارم إلا زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم،كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ومن ذلك أنه حرَّم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباحٌ أن يعامل به بعضهم بعضاً تمييزاً له مثل نكاح أزواجه من بعده"، وقال رحمه الله :"وقد قال الله تعالى:"النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم"،وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم"، وقال في موضعٍ آخر:"فحرَّم على الأمة أن تنكح أزواجه مِن بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته، وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجتُ عائشة". قلت: وما هذا التحريم إلا لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أن أصول الشريعة لا تقتضي هذا التحريم من جهة المحرمية وإنما اقتضته من جهة حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريم أذاه بقول أو فعل أو غير ذلك، وهذا كله يدل على عظيم قدره سبحانه وتعالى، بل إن الأحكام الشرعية الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لتدل أيضاً على اختصاص الله عز وجل له بما يليق بقدره وعظيم مكانته صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: باب قوله تعالى:" عسى ربُّه إن طلقكنَّ أن يبدِلَه أزواجاً خيراً منكن":(2/131)
لقد بلغ من عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم أن انتصر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى مما يجري عادة بين الأزواج، فلقد نبه الله تعالى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بما لهن وعليهن من ميزاتٍ وواجباتٍ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هن اخترن البقاء معه، فقال تعالى :" يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالَين أمتعكنّ وأُسرحكنّ سراحاً جميلاً. وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً"، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"هذا أمرٌ من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ماعنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة". فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:" دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يُؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً. قال: فقال: لأقولنَّ شيئاً أُضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأتُ عنقها! فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال:" هن حولي كما ترى يسألنني النفقة" فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده. ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية:"يا أيها النبي قل لأزواجك" حتى بلغ "للمحسنات منكن أجراً عظيماً"، قال فبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبَوَي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً". فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى من بعض تصرفات نسائه صلى الله عليه وسلم وعادة المرأة أن تتقوى بأهلها على مطالبة زوجها فإذا بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما يضربان بمطالب ابنتيهما عرض الحائط وينهرانهنَّ أشد ما يكون إعظاماً لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بزوج النبي صلى الله عليه وسلم حين عرض عليها التخيير لا تفكر ولاتستشير بل تضرب بالدنيا كلها عرض الحائط إيثاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشاهد في هذا كله أن القرآن الكريم نبه بعد مطالبة بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم التوسعة في النفقة على حُرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الأذى المعنوي والمادي، إذ أن هذا هو مقتضى التخيير؛ فإما أن يصبرن على حال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقدير النفقة دون تضجر أو تبرم أو عودة للمطالبة بشيء، وهذا هو مقتضى تشريف وتعظيم وإجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يسرحهن سراحاً جميلاً وهذا مقتضى عدل الله تعالى وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً)، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
ثامناً: باب قول الله تعالى :"إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم اللهُ في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً":(2/132)
بعد أن نبه الله تعالى المؤمنين على آداب التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداءً وخطاباً واستئذاناً وهجراً لذرائع سوء الأدب معه وحفظاً لواجبات الزوجية على الوجه اللائق بمقام النبوة، نجد أن القرآن الكريم يفضح أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلنين بأذاه حتى يتميز عنهم فريق المؤمنين الذين قد كان يقع بعضهم في سوء تصرف عن غير قصد ومع ذلك ينكر الله تعالى على مثل ذلك التصرف، فإذا بالحال مع أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتمل التنبيه اللطيف أو التعليم الرفيق، وإنما هو الزجر والوعيد والبطش الشديد بمن تسول له نفسه الإعلان بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجد قول الله تعالى:"لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنُغرينَّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثُقِفوا أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً. سنَّة الله في الذين خَلَوا من قبل ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً "، ونجد الله تعالى يفرق بين أذية سائر المؤمنين وأذية رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"ومن كرامته – صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالقول أنه فرَّق بين أذاه وأذى المؤمنين فقال تعالى:"إن الذين يؤذون الله ورسولَه لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً""، وتأمل كيف أن الله تعالى قرن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى الله تعالى، كما قرن طاعته بطاعته، قال ابن تيمية رحمه الله:"وفي هذا وغيره بيانٌ لتلازم الحقين، وأن جهة حرمه الله ورسوله جهةٌ واحدةٌ، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يَصِلُون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحدٍ منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفرق بين الله ورسوله في شئ من هذه الأمور". وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:"والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله" ثم ذكر حديث عبد الله بن المغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"، . فهذا دليلٌ صريح علىاقتران أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى الله عز وجل، ولذلك رتب القرآن الكريم من الوعيد على إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يرتبه على إيذاء غيره من المؤمنين؛ فإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تترتب عليه اللعنة في الدنيا والآخرة مع العذاب المهين، في حين ترتب على إيذاء غيره صلى الله عليه وسلم من المؤمنين والمؤمنات ترتب الإثم وحدُّ القذف. كما أننا نجد هذا التفريق بين إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاء غيره من المؤمنين في موضع آخر من القرآن الكريم ، وذلك في قوله تعالى :"إن الذين يرمون المحصَنات الغافلات المؤمنات لُعِنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم"، وقوله تعالى :"والذين يرمون المحصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم"، فالآية الأولى على قولٍ عند أهل التفسير هي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث يترتب على مَن قذفهنَّ لعنة الدنيا والآخرة مع الوعيد بالعذاب الأليم وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن قذف أزواجه رضي الله عنهن أذى له صلى الله عليه وسلم، أما الآية الثانية فهي في قذف غيرهن من المؤمنات حيث ترتب على ذلك حد القذف مع التنبيه على أن باب التوبة مفتوح لهؤلاء في حين لم تذكر الآية الأولى ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قول كثيرٍ من أهل العلم، فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال: فسر ابن عباس سورة النور، فلما أتى على هذه الآية:" إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات" إلى آخر الآية قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي مبهمةٌ ليس فيها توبة، ومَن قذف امرأةً مؤمنةً فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ :"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء" إلى قوله "إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا"، فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فَهَمَّ رجلٌ أن يقوم فيُقبِّل رأسه مِن حُسن ما فَسَّر. وقال أبو سعيد الأشج: ثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما :"إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات" نزلت في عائشه رضى الله عنها خاصة، واللعنة في المنافقين عامة، فقد بيَّن ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين(2/133)
لما في قذفهن من الطعن على رسول صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإنَّ قذفَ المرأة أذى لزوجها"، قلت: والشاهد هنا التفريق بين قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأزواج غيره من المؤمنين، وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آكد في تقرير حرمة مقام النبوة، ووآكد في صيانة الله عز وجل لشخص نبيه صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة.
تاسعاً: باب قوله تعالى:" إلا تنصروه فقد نصره الله":
إنَّ تعرُّضَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لشيءٍ من الأذى من أعدائه عليهم لعنة الله لَيمثل داعياً قوياً للمؤمنين الأوفياء للقيام بواجب الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفديته بالأرواح والأهلون والأموال والأوطان، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم نعمَ الأنموذج يُحتذى في هذا المقام، غير أن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إلى نصرة أحد ولا مفتقراً إليها رغم تأكد وجوبها عليهم؛ فنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة علينا وهو صلى الله عليه وسلم غير مفتقرٍ إليها بما أغناه الله تعالى عنها بل عن الخلق أجمعين، ألم تر إلى قوله تعالى :" والله يعصمك من الناس"، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الآية:"والله يعصمك من الناس"، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". وقال تعالى :"إنا كفيناك المستهزئين" ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ومن سنة الله أن من لم يمكِّن المؤمنين أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله، فان الله سبحانه ينتقم منه لرسوله- صلى الله عليه وسلم - ويكفيه إياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفترى، وكما قال سبحانه:"فاصدَع بما تُؤمر وأعرِض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين"، والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً مِن هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهل السِيَر والتفسير وهم على ما قيل نفرٌ من رؤوس قريش، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يُسلم، لكن قيصر أكرمَ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمَ رسولَه فثبت ملكُه، فيقال إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم، وكسرى مزَّقَ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله اللهُ بعد قليل، ومزَّق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك". وقد أخرج الطبراني رحمه الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :"إنا كفيناك المستهزئين"قال:المستهزئون الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بنى أسد بن عبد العزى، والحارث بن غيطل السهمي، والعاص بن وائل السهمي، فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه أبا عمرو الوليد بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أبجله فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. ثم أراه الحارث بن غيطل السهمي فأومأ إلى بطنه. فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. ثم أراه العاص بن وائل السهمي فأومأ إلى أخمصه. فقال: ما صنعت شيئاً. فقال: كفيتكه. فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجلٍ من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فعمي فمنهم من يقول عمى كذا، ومنهم من يقول نزل تحت شجرة فجعل يقول: يا بني لا تدفعون عني قد هلكت أطعن بشوك في عينى، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوماً حتى دخل في رجله شبرقة حتى امتلأت منها فمات"، فهذه بعض نماذج انتقام الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكتب السير طافحة بمثل هذا، وقد عقد القاضي عياض رحمه الله فصلاً في كتابه النفيس الشفا بتعريف حقوق المصطفى بعنوان (عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته مَن آذاه) ذكر فيه نماذج مثل ماتقدم.(2/134)
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:" غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركَتهُ القائلة وهو في وادٍ كثير العضاة، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلّق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابيٌ قاعدٌ بين يديه فقال: إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتاً قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه ثم قعد فهو هذا. قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ووقع في رواية بن إسحاق بعد قوله (قال: الله) : فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد. قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولَّى قال: أنت خير مني". والأحاديث في مثل هذا كثيرة، والشاهد فيها عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتجريد افتقاره لله تعالى وحده مع ما فرض على المؤمنين من نصرته، ليُعلم أن نصرة المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم شرفٌ لهم لا حاجةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقضونها، وليُعلم أن التخاذل عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم منقصةٌ للمتخاذلين لا تضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشيء وقد كفاه الله تعالى حيث قال سبحانه:"أليس الله بكافٍ عبده"، قال القاضي عياض رحمه الله:"قيل: بكافٍ محمداً صلى الله عليه وسلم أعداءه المشركين". قلت: فليُعلم إذاً أن قوله تعالى :"إلا تنصروه فقد نصره الله" كما أنه خبر عن نصرة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وكفايته إياه، فإن فيه معنى الوعيد والتهديد لمن تخاذل عن نصرته صلى الله عليه وسلم، لأنه متى أُعلن بأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تمحض فسطاطان؛ أحدهما فسطاط عداوته والآخر فسطاط نصرته، فمن لم يهرع لفداء النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما يملك فقد اختار لنفسه فسطاط العداوة ولو بمجرد الصمت وما أخبثه من صمت، فلما ركن إلى أهل العداوة والتحق بفسطاطهم أصبح في عداوةٍ مع الله عز وجل لأن الله تعالى أخبر وهو أصدق القائلين أنه ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم لا محالة، فتأمل هذا وارثَ لحال من اختار خذلان نبي الله صلى الله عليه وسلم وعداوة الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.
عاشراً: بابٌ جامعٌ لقوله تعالى :"واصبر لحُِكم ربِّك فإنك بأعيننا":
هذا بابٌ جامعٌ لكل ما تقدم، فإذا تأملت أدركت رعاك الله كيف أحاط الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بسياج الحفظ والمنعة، وضرب من حوله فسطاط العظمة والتوقير والإجلال، فنهى ومنع من التقدم برأيٍ أو كلامٍ بين يديه صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وُجِد داعي التخاطب معه صلى الله عليه وسلم منع من مناداته باسمه ومنع من التسمي بلقبه حتى لا يلتبس النداء ويتمكن العدو الغادر من الاستهزاء، وقصر نداءه صلى الله عليه وسلم على مثل يا رسول الله ، يا نبي الله، والموفَّق من قدَّم بين يدي ذلك بالتفدية بالنفس والأهلون، حتى إذا جاء الإذن بالكلام في حضرته صلى الله عليه وسلم كان النهي والمنع من رفع الصوت إجلالاً وتوقيراً لمجلسه من أن يعلو فيه صوتٌ فوق صوته صلى الله عليه وسلم، ثم إذا كان الإذن بالكلام مَنع من تناول ألفاظٍ قد تكون مدعاة إساءة في الخطاب وسوء أدب في السلوك معه صلى الله عليه وسلم، بل أمر بهجر ألفاظٍ لا لشيء إلا لأنها قريبة من ألفاظ يكيده بها أعداؤه صلى الله عليه وسلم لتكتمل بذلك البراءة من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إذا جاء الكلام بهذه القيود والضوابط منع من الانبساط والاسترسال في المجلس حتى لا يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم بتعب أو ملل، ولكن هيهات أن يؤذن لأحد بقيامٍ من مجلسه صلى الله عليه وسلم إلا بإذن، فإذا كان الإذن كان الانصراف مسموحاً به، وهم لا ينصرفون عنه صلى الله عليه وسلم إلا بأجسادهم أما قلوبهم فمعلَّقة به صلى الله عليه وسلم، ثم حذَّر سبحانه وتعالى أحداً أن ينال جناب النبوة بأذى، ولو كان من أزواجه بشيء تستدعيه طبيعة النساء وهنَّ مَن هنَّ في الورع والتقوى وخشية الله عز وجل وتوقير النبي صلى الله عليه وسلم، فنبه بهذا الأدنى على المحذور والمحظور الأعلى وهو أذى أعدائه من المنافقين المبغضين الشانئين، ولما لم يكن يكفي هؤلاء التنبيه والتحذير كان الوعيد الشديد لهم بالعذاب الأليم في الدنيا تقتيلاً وفي الآخرة في النار تخليداً، ولما كان وقوع الأذى والكيد داعياً للمؤمنين لنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم أكد سبحانه وتعالى على أن مقام النبوة أعز عند الله تعالى من أن يُحيجَ نبينا صلى الله عليه وسلم لأحد، فتكفل بنصرته سبحانه وتعالى وإعلاء شأنه وقطع دابر شانئه وبتره وُجوداً وذِكراً، لتكتمل بهذا المشهد الجليل معالم صيانة الله تعالى لجناب النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، ألا فليعلم أن من شتم مِن هذا مكانه عند الله تعالى فقد اختار لنفسه أن يُؤذِنَه اللهُ تعالى بحربٍ ينتصر بها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلبئس ما اختار الهالك المعتدي على مقام صفوة خلق الله أجميعن، ولنعم ما نصر الله تعالى وأعز به مقام نبيه صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين.(2/135)
ثم اعلم أن كل ما تقدم وصفُه مما أوجبه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حياته فإن مِثلَه باقٍ بعد مماته صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحدٍ أن يتقدم برأي بين يدي الكتاب والسنة، وإذا أحوجه الموقف إلى إعمال فكر واجتهاد تنبه لئلا يعلو رأيُه فوق قول الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم ليعرف للنبي صلى الله عليه وسلم فضله ومكانه فلا يذكره باسمه مجرداً ولا يترك الصلاة والسلام عليه أبداً مهما تكرر ذكره صلى الله عليه وسلم، ثم ليتخير من الكلام واللفظ ما ينأى به عن تحريف مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الرغبة عن سنته أو الابتداع في شريعته، ثم لينتبه من أن يسترسل مع داعي رأيه بزعم الاجتهاد فيبتعد عن شاطئ السنة ويضيع في محيط الوساوس والرأي المذموم، وليحذر من أن يسيء وهو لا يدري لمقام النبوة بنسبة قولٍ باطلٍ أو مذمومٍ لشريعته صلى الله عليه وسلم؛ فلا يرميها بنقصٍ أو عدم مجاراةٍ للواقع ولتغير الزمان والمكان فإن هذا غاية سوء الأدب مع مَن بعثه الله تعالى بشريعةٍ كاملةٍ إلى يوم يبعثون، وليراقب بحذر كل من تسول له نفسه التنقص عمداً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأولئك الهلكى من المستشرقين وأذنابهم من بني جلدتنا الذين يتطاولون على مقام النبوة بتكذيب حديثٍ أو توهين سنةٍ أو تقديم عقلٍ دعِّيٍ على سنةٍ نبويةٍ ثابتةٍ صحيحة، وليعلم أن مقامه من هؤلاء الهلكى مقام الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم بدفع شبهة إن كانت هي الغالب أو قطع اللسان والوتين إن كان السبُّ المجرَّد، وليعلم أن الله تعالى ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم سواء نصره الأتباع أم لا، فليتخير من يدَّعي الانخراط في صفوف الجندية المحمدية أن يكون ممن يسلَّ السيف ذوداً عن جناب النبوة أو أن يكون من القابعين مع الخوالف والمنافقين، وهكذا فلن تعدم أدباً وتعزيراً وتوقيراً برَّ به صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيَّهم عليه الصلاة والسلام في حياته، إلا وجدت مِن جنسه ما تبره به صلى الله علبه وسلم بعد مماته، والحمد لله رب العالمين.
الفصل الثالث: جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم
إن مما لا يخفى على عاقل فضلاً عن مسلم أن تنقُّصَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورميهم بشيء من الأذى قولاً كان أم فعلاً إنما هو جريمة بشعة لا تصدر إلا عن سفهٍ وحقدٍ وخبثٍ في النفس. ذلك أن الله تعالى إنما بعث رسله وأنبياءه رحمةً للعالمين، وجعلهم للبشرية هداةً مهتدين، يمسكون الناس برفق يحجزونهم عن النار ويسيرون بهم إلى طريق طاعة الله موصلين مَن شاء الله تعالى أن يستنقذه بهم إلى جنة الرضوان، فكان الاعتداء على هؤلاء الرسل الكرام خبثاً في الطبع وحقداً في النفس وقبحاً في القول والفعل، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من ذلك. فإذا تأملت ما تقدم مِن فضلِ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تيقنت أن من تطاول على مقامه صلوات الله وسلامه عليه بشيءٍ من هذا الأذى والسب هو أشد خبثاً وأكثر حقداً وأسوأ قبحاً في ذلك كله، لأنه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه خيرُ رسل الله أجمعين وخاتم النبيين وإمام المرسلين أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، فكان حقه التجريد في المتابعة والإخلاص في المحبة والمبالغة في التعظيم والتوقير والتعزير والتفدية بالأرواح والأهلون والأموال والأوطان، وكان غاية الخبث أن تمتد ألسنة الباطل بسبِّه أو لمزِه أو تنقُّصِه صلوات الله وسلامه عليه، وسوف يأتي لاحقاً بيان أن هذا الفعل الخبيث أشد سوءاً من الكفر بغيره من الأفعال والأقوال.
وهذا الفصل معقودٌ لبيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان ما هو في حقه شتمٌ وتنقُص وإساءة، ثم التنبيه على الفرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفر المجرد عن ذلك، حتى تتحرر هذا المسألة تحريراً جيداً قبل الانتقال إلى الفصل التالي الذي نبين فيه حكم هذا الساب المعادي لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: بيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو في حقه صلوات الله وسلامه عليه شتم وتنقُص وإساءة:(2/136)
إن الكلام هنا مما يتعاظم في النفس ذِكره، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"التكلُّم في تمثيل سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين، لكن للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقاً من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك"، قلت: هذا غاية الأدب والورع فالمؤمن لا يستطيع أن يحكي هذا السب ولو ناقلاً لثقله واختلاج القلب دونه، وهذا بطبيعة الحال ما يجده المؤمن في قلبه، أما من حكى هذا الكلام ولو ناقلاًَ دون أن يتعاظم في نفسه ذلك فليبكِ على نفسه وليخشَ عليها الموت والران، بل لقد عقد القاضي عياض رحمه الله فصلاً كاملاً في حكم الناقل والحاكي لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن ما يجوز منه (على سبيل الشهادة على الشاتم أو التعريف به أو التعليم أو الفتوى)، وما لا يجوز من هذا النقل فقال رحمه الله :"فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار والطُرَف وأحاديث الناس ومقالاتهم في الغث والسمين ومضاحك المجان ونوادر السخفاء والخوض في قيل وقال وما لا يغني فكل هذا ممنوع، وبعضه أشد في العقوبة والمنع من بعض"، قلت: وهذا مما ينبغي التنبيه عليه اليوم إذ أن بعض الغيورين أصلحهم الله يسارعون في نقل وتناقل هذا السباب والشتم بغية التعريف بجريمة المجرم فإذا بهم يصبحون وسيلة لنشر هذا الإزراء والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يحدث على مواقع الشبكة العالمية الحاسوبية وغير ذلك، فينبغي التورع عن هذا ويكفي التعريف بالساب والإشارة إلى جنس السب ونوعه مُجملاً دون نقل تفاصيله، لا سيما وأن المقام هنا في الغالب ليس مقام شهادة أمام القضاء، وإنما تعريفٌ بهؤلاء المجرمين السفهاء ، فلينتبه إلى هذا والله الموفق.
أما صفة السب فليس لها حدٌ معينٌ في الشرع، بل المحتكم فيه العرف وفق القاعدة الفقهية المعروفة: العادة محكَّمة، فكل ما كان في عُرف مجتمعٍ من المجتمعات سباً أو تنقصاً أو شتماً فهو كذلك إذا نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى سبيل المثال نجد أن من أنواع السب التي لم تكن معهودة في القديم استعمال الرسوم فيما يدعى اليوم بالرسوم التشخيصية للاستهزاء والسخرية أو النقد أو الاستخفاف أو الامتهان، وقد تطاولت بعض الأيدي – قطعها الله – من قريب بمثل هذا الأذى على مقام خبر البرية صلوات الله وسلامه عليه، ولا تزال هذه الأيدي قطعها الله طليقةً اليوم نسأل الله تعالى أن يقيض لها من يقيمُ حكمَه فيها. والشاهد هنا أن صور السب لا تقتصر لا ما تعارف عليه الناس قديماً أو أُثر من هجاء شعر ونحوه، فربما درس مثل هذا النوع وظهرت أنواع أخرى، فلا يتقيد الحكم بما أُثر من صفات وأنواع السب قديماً بل يشمل كل ما تعارف عليه الناس اليوم أنه استهزاء وسخرية وشتم وسب، نسأل الله السلامة من ذلك.
والسبُّ مُطلقاً لا يخرج عن قسمين اثنين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهما الدعاء والخبر. وفيما يلي بيان ذلك:
النوع الأول من السب : الدعاء
فهذا النوع من السب مثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله أو قبَّحه الله أو أخزاه الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سبٌ للأنبياء ولغيرهم. وكذلك لو قال عن نبيٍ : لا صلى الله عليه أو لا سلَّم أو لا رفع الله ذِكره أو محا الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضررٌ عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة
فهذا كله اذا صدر من أحدٍ فهو سبٌ يترتب عليه حكمه الشرعي على ما نبينه في الفصل التالي.(2/137)
أما إن أظهر الدعاء للنبي وأبطن الدعاء عليه إبطاناً يُعرف من لحن القول، بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض، مثل قول (السام عليكم) إذا أخرجه مخرج التحية، وأظهر أنه يقول (السلام عليكم) ولم يُظهروا السبَّ ولم يجهروا به، وإنما أظهروا التحية والسلام لفظاً وحالاً، وحذفوا اللام حذفاً خفياً يفطن له بعض السامعين، وقد لا يفطن له الأكثرون، فهذا قد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" إن اليهود إذا سلَّموا عليكم يقول أحدهم: السام عليكم. فقولوا: عليك"، فجعل هذا شرعاً باقياً في حياته وبعد موته حتى صارت السنة أن يُقال للذمي إذا سلم :وعليكم أو عليكم. وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال: أتدرون ماقال؟ إنما قال: السام عليكم. ولو كان هذا من السب الذي هو سبٌ لوجب أن يشرع عقوبة اليهودي إذا سمع منه ذلك ولو بالجَلد، وقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى:"وإذا جاؤوك حيَّوك بما لم يحيِّك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"، فجعل الله تعالى عذاب الآخرة حسبهم، فدل على أنه لم يشرع على ذلك عذاباً في الدنيا، وهذا لأنهم لو قُرروا على ذلك وسئلوا عنه لقالوا :إنما قلنا السلام وإنما السمع يخطئ، وأنتم تتقولون علينا. فموجبات العقوبات لابد أن تكون ظاهرةً الظهور الذي يشترك فيه الناس، وإن إتيان السب على هذا الوجه الخفي غاية ما يكون من الكتمان والإخفاء ونحن لا نعاقبهم على ما يُسرونه ويخفونه من السب وغيره. والحاصل من هذا أنه يحتاج أن يجتمع في السب أن يكون من جنس السب وأن يكون ظاهراً لا خفاء فيه حتى تُقام البينة بوضوح لا خفاء فيه. قلت: وهنا نكتة لطيفة وهي أن الذي يُبطن السب ويُلحن القول فيه ويُغلفه بالسلام وغيره من الأقوال الظاهرة المتعامل بها بين الناس إنما يتكتم بهذا على هذا النحو لنوع مذلةٍ وقمعٍ يعيشه وهذا هو المطلوب، أعني أن تكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، فالسبُّ المبطَّن لا يترتب عليه الانتقاص من الدين والرسول صلى الله عليه وسلم الحاصل بإعلان السب وإطهاره، والعقوبة الشرعية في الدنيا شرعت لمن أظهر السب وأعلن به، ولهذا قال تعالى فيمن أبطن السب وأضمره وأخفاه مقموعاً ذليلاً :" حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"، وهذا غاية العدل لأن مَن كان السب منه ظاهراً وباطناً عاقبناه في الدنيا وعاقبه الله في الآخرة، ومن كان السب منه باطناً ولم يظهره إظهاراً تقوم به الحجة عليه في الدنيا عومل بظاهره في الدنيا وعاقبه الله تعالى في الآخرة وحسبه جهنم وبئس المصير، فلم يكن لنا أن نتقدم بين يدي لله تعالى بعقوبة غير التي قرر سبحانه وتعالى أنها حسب هؤلاء، فإن مثلهم مثل الفئران في جحورها إن ظهرت ظهرت سريعاً وعادت إلى جحورها سريعاً فلم يكن هناك من داعٍ لتعقبها وقتلها خارج جحورها بل يُصار إلى تسميم جحورها لتموت وتتعفن فيها، ولله الحمد من قبل ومن بعد.
النوع الثاني من السب: الخبر :
فكل ما عهده الناس شتماً أو سباً أو تَنَقُصاً فإنه سبٌ يترتب عليه حكمه وعقوبته الشرعية حتى لو كان السب يوافق معتقد الكافر الذي يُبطنه في قلبه، فان الكفر ليس مستلزماً للسب، وقد يكون الرجل كافراً ليس بسابٍّ والناس يعلمون علماً عاماً أن الرجل قد يبغض الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه، وقد يضم إلى ذلك مسبته. والحاصل أنه ليس كل ما يُحتمل اعتقاداً يُحتمل قولاً، وليس كل ما يُحتمل أن يُقال سراً يُحتمل أن يُقال جهراً، والمعنى أن أهل الذمة مثلاً يُقرون على دينهم بشرط عدم المجاهرة به ونحن نعلم أن من دينهم تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا المعتقد نحتمله منهم في السر والباطن ولا نقبل ولا نحتمل ولا نرضى منهم إظهار ذلك والإعلان به والقول به جهراً، فليس على ذلك العهد بيننا وبينهم، هذا في أهل الذمة، فما بالك بالمحارب والمستأمن! والكلمة الواحدة تكون في حالٍ سباً وفي حالٍ ليست بسب، فمن ذكر في مناظرة أنه لا يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم حاكياً معتقده ليس كمن تكلم بتكذيب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على وجه التنقص والاستهزاء وأنه حاشاه صلى الله عليه وسلم ليس أهلاً لاختيار الله له تلك المنزلة، فالأول ليس بسب والثاني سبٌ واضح لا مرية فيه. فعُلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال، وإذا لم يكن للسب حدٌ معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عُرف الناس؛ فما كان في العرف سباً فهو للنبي سب وهو الذي يجب أن ينزل عليه حكم الصحابة والعلماء في الساب، وما لم يكن في العرف سباً فلا. وهذه جملةٌ من أقسام السب الخبري نذكرها للمثال لا حكايةً عن سب الرسول صلى الله عليه وسلم :
2.…إظهار التنقص والاستهزاء :كالتسمية ببعض أسماء الحيوانات، أو الوصف بالمسكنة والخزي والمهانة أو الإخبار بأنه في العذاب وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك.(2/138)
3.…إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذَّب: مثل وصفه بأنه ساحرٌ خادعٌ محتال، وأنه يضر من اتبعه، وأن ما جاء به كله زور وباطل وشر ونحو ذلك، فإن نظم ذلك شِعراً كان أبلغ في الشتم، فإن الشعر يُحفظ ويروى وهو الهجاء، وربما يؤثر في نفوسٍ كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تأثير البراهين، فإن غنَّى به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره، وأما إن أخبر عن مُعتَقَدِه بغير طعنٍ فيه مثل أن يقول: أنا لست متبعه أو لست مصدقه أو لا أحبه أو لا أرضى دينه ونحو ذلك، فإنما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصاً، لأن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الأسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي، خلاف ما إذا قال: مَن كان! ومن هو! وأي كذا وكذا هو! ونحو ذلك من الاستهزاء والاستخفاف، وإذا قال لم يكن رسولاً ولا نبياً ولم ينزَّل عليه شيء ونحو ذلك، فهو تكذيبٌ صريح، وكل تكذيبٍ فقد تضمن نسبتَه إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب، فهناك فرق بين من لا يُقر بأنه صلى الله عليه وسلم نبي وبين من يقول هو كذَّاب؛ فليس مَن نَفى عن غيره بعض صفاته نفياً مجرداً كمن نفاها عنه ناسباً له إلى الكذب في دعواها، والمعنى الواحد قد يؤدَّى بعباراتٍ بعضها يُعد سباً وبعضها لا يُعد سباً، فيُنظر في هذا كله إلى السياق وقرائن الأحوال للحكم على قائل ذلك.
4.…في عصرنا هذا تصوير الصور والرسوم على سبيل الاستهزاء والسخرية: فهذا مما لا يُشك في كونه سبَّاً وتنقصاً وشتماً للنبي صلى الله عيه وسلم ، بل إننا لا نقبله منسوباً لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
5.…الطعن في العرض: كنسبة الأم إلى الفاحشة ونسبة الزوج إلى الفاحشة فهذا كله طعن في مقام النبوة وسب وشتم يترتب عليه موجبه من الحكم الشرعي والعقوبة الشرعية بلا خلاف.
6.…ذكر ما تعرض إليه من ابتلاءات على سبيل السخرية والتعريض : كأن يقول مستخفاً : مرض وضُرب وأوذي وسقط من على فرسه ، وسُحر وحُبس عن أزواجه ، ولم يجد النفقة على أزواجه فمن حكى شيئاً من ذلك مستخفاً فهو سابٌ يترتب على مسبته الحكم والعقوبة الشرعية.
وجماع ما تقدم أن ما يعرف الناس أنه سبٌ فهو سب، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك، وما اشتبه فيه الأمر أُلحق بنظيره وشَبَهه والله سبحانه أعلم.
ثانياً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر والردة:
هذا المبحث من أهم المباحث التي تناولها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالعرض والجواب، ولقد أبدع وأجاد وأفاد رحمه الله في ذلك، وأنا أوجز وأختصر ما تيسر من كلامه رحمه الله لشدة الحاجة إليه في هذا المقام، رب يسِّر وأعن:
إنَّ سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جناية وجريمة فوق باقي الجنايات، وإن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم جريمة زائدة على جريمة الردة والكفر والحراب، وبدايةً لا بد من تحرير أوجه الحقوق المتعلقة بسب الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حرر ذلك ابن تيمية رحمه الله تحريراً نفيساً فقال:" إن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق:
8.…حق الله سبحانه: من حيث كفرَ – أي الساب – برسوله، وعادى أفضل أوليائه، وبارزه بالمحاربة، ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفةٌ على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته؛ فإن الطعن في الرسول طعنٌ في المرسِل، وتكذيبه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى، وإنكارٌ لكلامه وأمره وخبره وكثيرٍ من صفاته.
9.… حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم: فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسِفارته، فالسب له أعظم عندهم مِن سبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.
10.…حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه: فإن الإنسان تؤذيه الوقيعةُ في عِرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهرَ للناس كمالُ عِرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده مِن قتله، فإن قتلَه لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره، كما أن موته لا يقدح في ذلك، بخلاف الوقيعة في عِرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النُفره عنه وسوء الظن به ما يُفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة.
فعُلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة، وهذا ظاهرٌ إن شاء الله تعالى." قلت: إذا تأملنا في هذه الحقوق تبينت أوجه الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الجنايات على النحو التالي:
أولاً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الله سبحانه وتعالى: إن مما لا يحتاج إلى تقرير أن سب الله عز وجل أعظم مقاماً من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، غير أن هذا لا يمنع من وجود فرق بين سب الله تعالى وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يترتب فرق في الآثار المترتبة على هذا السب من حيث قبول التوبة من عدمه، فإذا تبين هذا فالفرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب الله تعالى من وجوه:(2/139)
5.…إن سبَّ الله تعالى حقٌ محضٌ لله، وذلك يسقط بالتوبة، وسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقان؛ حقٌ لله وحقٌ للعبد، فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة، إلا أن يعفو.
6.…إن النبي صلى الله عليه وسلم تلحقه المعرة بالسب لأنه مخلوق، وهو من جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم، وكذلك يُثابون على سبِّهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضاً على ما أصابهم من المصيبة بالشتم، فمن سبَّه فقد انتقص حرمته صلى الله عليه وسلم. والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك، فإنه منزَّهٌ عن لحوق المنافع والمضار به، كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فنتفعوني"، وإذا كان سب النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤثِر انتقاصَه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم، وربما كان سبباً للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته، شُرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبِّه فلا تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم، وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يُقتل. ويؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنى، ثم لم يُشرع عليه حدٌ مقدَّر كما شُرع على الرمي بالزنى، وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنى، لأنه بما يُظهر من الإيمان يُعلَم كذب القاذف، وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرَّة، بخلاف الزنى فإنه يستسر به ولا يمكنه إظهار البراءة منه، ولا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة، فكذلك ساب الرسول يُلحق بالدِين وأهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسبِّ الله ظاهراً معلوماً لكل أحدٍ علماً يشترك فيه كل الناس، بمعنى أن أثر سب الله تعالى لا يظهر بالنسبة لله تعالى.
7.…إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يُسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة، وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داعٍ من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله، ومن جهة المخالفة في دينه، ومن جهة التكبر عن الانقهار تحت حكم دينه وشرعه، ومن جهة المراغمة لأمته، وأما سبُّ الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافاً واستهانةً وإنما يقع تديُّناً واعتقاداً، وليس للنفوس في الغالب داعٍ إلى إيقاع السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيماً وتمجيداً، وهذا كمن يدعي أن الله اتخذ ولداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهذا من جنس السب بل هو شتم صريح كما جاء في الحديث القدسي، ومع ذلك فحكمه حكم الكفر إلا أن يتوب.
8.…إن مفسدة سب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزول بإظهار التوبة، بخلاف مفسدة سب الله تعالى، ولهذا إذا نظرت إلى جريمة القتل والزنى وإلى جريمة الردة وجدت أن حد القتل والزنى لا يسقط لأنه لا يمكن إزالة مفسدتهما التي وقعت، بخلاف حد الردة فإنه يسقط بالإسلام لأن مفسدة وقوع الردة تزول بعودته للإسلام.
والحاصل أن حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم أُلحقت بحرمة الله من جهة التغليظ، لأن الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه، ولكن هذا الحق أشبه بحقوق الآدميين من جهة بقاء حقه في استيفاء العقوبة من الساب، فهو صلى الله عليه وسلم من المخلوقين الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة، لأنهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه، ولئن كان من حقه صلى الله عليه وسلم العفو عمن شاء ممن له عليه حق في حياته فقد انقطع هذا بموته صلى الله عليه وسلم ولم يعد إلا تغليظ العقوبة وبطلان سقوطها بالتوبة. فالنبي صلى الله عليه وسلم يتألم بأذى مَن سبه وشتمه، فله أن يعاقب من آذاه تحصيلاً لمصلحة نفسه صلى الله عليه وسلم، كما له أن يأكل ويشرب، ومعلوم أن الله تعالى غني عن ذلك كله، ولهذا فان تمكين البشر من استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم ممن بغى عليه من جملة مصالح المؤمنين، ولولا ذلك لماتت النفوس غمّاً من وقوع أذاه وعدم الانتصار له صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب سائر المؤمنين:
ولا أراني محتاجاً إلى كثير بسطٍ واستدلال على هذه البدهية، غير أننا نحتاج إلى استحضارها كي يستبين للمؤمنين أن قياس الأَولى تغليظُ عقوبة من ارتكب جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم لتكون أشد زجراً وردعاً وإيلاماً وإرهاباً لمن تطاول على مقام النبوة منها لمن سب أحداً من سائر المؤمنين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"إن سب النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون من حيث هو سب بمنزلة سبِّ غيرِه من المؤمنين، لأنه صلى الله عليه وسلم يباين سائر المؤمنين من أمته في عامة الحقوق مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس، ووجوب تعزيره وتوقيره على وجهٍ لا يساويه فيه أحد، ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى. وفي سبه إيذاءٌ لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده، وأقل ما في ذلك أن سبَّه كفرٌ ومحاربة، وسب غيره ذنبٌ ومعصية، ومعلوم أن العقوبات على قدر الجرائم، فلو سوّى بين سبه وسب غيره، لكان تسوية بين الشيئين المتباينين وذلك لا يجوز".(2/140)
يبين ذلك أن المؤمن حق الإيمان يؤلمه ويؤذيه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يؤلمه سب غيره من المؤمنين بما فيهم نفسه، ومن لم يجد هذا في نفسه فليخش عليها، فإن الإيمان لا يكمل بدون تقديم النبي صلى الله عليه وسلم على النفس وعلى سائر المخلوقين في المحبة والتفدية والمتابعة والانتصار والغضب لمن يزعجه ويسخطه صلى الله عليه وسلم، ولقد تقدم ذلك في مبحث مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمن، فإذا كان الأمر كذلك لم يستسغ العقل أن يكون رد المؤمن على من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم كرده على من يشتمه هو أو يشتم غيره من المؤمنين، وهذا كما قلت لا يحتاج إلى كثير تقريرٍ واستدلال، والله أعلم.
وخلاصة هذا الفصل أن نميز أوجه السب التي يعتبر صاحبها ساباً للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينتبه المؤمن إلى أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم جناية عظيمة وجريمة بشعة لها خصوصيتها واستقلاليتها عن غيرها من الجرائم، وأن الكفر مع ما فيه من إجرام ليس وحده كالكفر مع سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فليعلم هذا كل مؤمن، وليعلم أن أولوية إعلان الحرب على الكافر المحارب الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والترصد له بالقتل المتعين فوق أولوية محاربة غيره من الكفار، وسيأتي بيان ذلك في الفصل التالي بإذن الله، والله أعلم.
الفصل الرابع: حكم سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم
إن معرفة حكم ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة دينية لا غنى لمسلم عنها اعتقاداً وعملاً، أما الاعتقاد فبالكامل، وأما العمل فعلى قدر الاستطاعة، وإن هذه الضرورة أكثر تمحضاً اليوم من الأمس القريب إذ لم نعهد حتى القريب مثل هذه الحملة الشعواء الشرسة لأكابر مجرمي الأرض ممن يتجرأون على مقام النبوة وجناب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وليكن مقام أحدنا مِن تعلُّم حكم هؤلاء المجرمين مقام المصحح لعقيدته والمقوِّم لانحراف أمته المجاهد في سبيل إعلاء دينه، والحذر كل الحذر من أن ينجرف أحدنا إلى مهاوي الخذلان والتهالك فيكون حاله حال من وصفهم الله تعالى فقال:" ولِيَعلمَ الذين نافقوا وقيل لهم تعالَوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون".
وقبل الخوض في تفاصيل هذا المبحث لا بد من مقدمة للتعريف بأقسام الناس من حيث الإسلام والكفر حيث إن تفريع بعض الأحكام المتعلقة بسب الرسول صلى الله عليه وسلم ينبني عليه، فنقول وبالله التوفيق:
الناس إما مسلمون وإما كفار. والكفار أصنافٌ أربعة هي كما ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله :"الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل الذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان". وهذه نبذة عن كل نوع منهم:
2.…أهل الذمة: فهم الذين دخلوا مع المسلمين في عقد الذمة بحيث رضوا بأن يكونوا تحت حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مقيمين في دار الإسلام مضروباً عليهم الجزية والصغار في مقابل إقرارهم على دينهم فيما بينهم مع حماية الدولة الإسلامية لهم،كما قال الله تعالى :" قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدِينُون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون"وعقد الذمة عقدٌ مؤبد ما لم ينقضه الذمي بناقضٍ من نواقض العهد المعروفة.
3.…أهل الهدنة: ويعرفون أيضاً بأهل العهد وأهل الصلح وهم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم – أي دار الكفار - لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم:" فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"
4.…أهل الأمان: المستأمَن هو الكافر يدخل دار الإسلام من غير استيطان لها أو إقامة فيها يدخلون بأمان المسلمين، وهؤلاء إما رسل وسفراء أو تجار أو مستجيرين يدخلهم المسلمون حتى يسمعوا كلام الله تعالى ويُعرَض عليهم الإسلام كما قال الله تعالى:"وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمعَ كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون" فإن أسلموا فبها، وإن لم يسلموا بُلِّغوا مأمنهم بعد قضاء الغاية من زيارتهم لبلد الإسلام، ولا تضرب عليهم الجزية ولا يقتلوا، فإذا عاد إلى دار الحرب عاد حكمه حربياً.
5.…أهل الحرب: هم كل الكفار ما عدا الأصناف المذكورة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:" كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام"، فأهل الكفر في الأصل محاربون، فإن عقد المسلمون معهم صلحاً كانوا أهل هدنة، وإن عقدوا معهم الجزية كانوا أهل ذمة، وإن دخلوا مستأمنين كانوا أهل أمان، والله تعالى أعلم.(2/141)
ثم إن أهل الذمة قد عاهدوا المسلمين على الامتناع عن أمور إن هم تعاطوها نقضوا العهد وترتبت على نقض العهد أحكام شرعية وعقوبات شرعية بحسب هذا الناقض، وهذا كله مبسوط في مظانه، وأذكر في هذا المقام بعض ما ورد في الشروط العمرية التي صالح عليها المسلمون نصارى الشام وشرط النصارى على أنفسهم في مقابل الذمة والصلح شروطاً وفيها :" ولا نُظهر شركاً، ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً"، فكتب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المسلمين :" أن أمضِ لهم ما سألوا وألحِق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم : ألا يشتروا من سبايانا، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده"، فتأمل جيداً هذه الشروط:
3.…أن لا نُظهر شركاً: فلا يجوز لهم أن يعلنوا ويظهروا على الملأ شعائر دينهم الشركية كإظهار الصليب أو التحديث ببنوة عيسى لله تعالى سبحانه وتعالى عما يشركون، ونحو ذلك مما فيه أذى لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا قد أُقروا عليه فيما بينهم في مقابل دفع الجزية وجريان حكم الله ورسوله عليهم.
4.…ولا نرغِّب في ديننا: فلا يدعون أحداً إلى دينهم الباطل لأن هذه الدعوة معناها تفضيل دينهم على دين الإسلام وهو مخالف لما عاهدناهم عليه من خضوعهم لحكم الإسلام.
5.…ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده: فإذا كانت هذه هي حرمة المسلم فحرمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من باب أولى.
فإذا تأملت هذه الشروط وجدت أنها تدل بقياس الأَولى على حرمة ومنع التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسب والإساءة والشتم والتعريض، فلا يخفى ولا يحتاج إلى تقريرٍ صريح أن وقوع مثل هذا ناقض للعهد مع ما يستجره من عقوبة على ما نبين لاحقاً. وإنما كان التفصيل في هذه الأصناف محتاجاً إليه في موضوع هذا الكتاب لما كان من وجود أهل الذمة في أرجاء الدولة الإسلامية مع ما لهم وعليهم من حقوق وواجبات، وما يحتاج لمعرفته من أحكام الشريعة الجارية عليهم فيما يقع منهم من إخلال بالعهد أو اقتراف جناية كزنى وقتل وحرابة أو سب للدين ولله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أحكام المستأمنين فإن عهدهم أقل توثيقاً من عهد أهل الذمة فنقضه بمثل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وأما المحارب فلا عصمة لدمه أصلاً والمقاتلةُ منهم يُخيَّر الإمام فيهم بين القتل والرق والفداء والمن، أما غير المقاتلة فلا يجوز قتلهم كالنساء والرهبان ومَن في حكمهم إلا أن يقاتلوا، وأحكام هذا كله مبسوطة في كتب الفقه والسياسة الشرعية فليرجع إليه.
ويمكننا أن نقسم الناس اليوم بخصوص ما يتعلق بمسألة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين اثنين فقط هما : مسلم وكافر، بغض النظر عن وضع الكافر من حيث الأقسام المذكورة آنفاً، لأن أقوى هذه الأقسام عهداً وتوثيقاً وأماناً – أعني أهل عقد الذمة – غير موجودين اليوم على الصفة الشرعية المذكورة، فكل ما سوى ذلك من أقسام الكفار أقل درجةً من حيث عصمة الدم والأمان، وكل ما تكلم فيه الفقهاء قديماً عن انتقاض عهد أهل الذمة وترتُّب عقوبة جريمة سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الساب منهم يقع على غير أهل الذمة من الكفار بطريق الأولى على تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم السابِّ ؛ يُقتل على ما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك مَن لعنه أو دعا عليه، أو تمنى له مضرة، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسُخفٍ من الكلام وهُجر، ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا"
رحم الله القاضي عياض، وجعل كل حرف من هذه الأحرف وكل مَن عمل بها من بعده إلى يوم القيامة في ميزان حسناته، وهكذا فليكن انتصار العلماء الربانيين للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فالأمة بغنى عن عالم متعالم لا يزمجر بمثل هذه الكلمات في أرجاء الكون حتى ترتعد فئران الكفر والضلال وتموت كمداً في جحورها أو دهساً تحت أقدام الموحدين، رحم الله القاضي عياض رحمةً واسعة ينور بها قبره ويعلي بها قدره بين العلماء العاملين.
وإن كلامنا في هذا المبحث يتعلق بما يلي :
1.…بيان الأدلة الشرعية المتضافرة على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله.
2.…بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه
3.…بيان الأدلة على عدم استتابة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حكمه إن تاب.(2/142)
واعلم أن استطرادنا في عرض الأدلة ليس لترددٍ في صدورنا أو اختلاجٍ تجاه حكم الله تعالى في هؤلاء، فإن الفطرة السليمة لا تقبل لهذا المجرم عقوبةً دون القتل، ولكننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لا نصدر عن انفعالاتنا ولا عن عقولنا بل نصدر عن الوحي، فما جاء به صلى الله عليه وسلم سمعنا وأطعنا، وما لم يأتِ به توقفنا حتى يأتي أو يستبين لنا أمره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.
المطلب الأول: بيان الأدلة الشرعية على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
لقد تضافرت أدلة الشرع قرآناً وسنةً وإجماعاً وقياساً على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتقض إيمانه إن كان مسلماً وأمانه إن كان كافراً معاهداً ووجب قتله أياً ما كان. وعلى هذا الحكم الشرعي استقر العقل السليم واطمأنت الفطرة التي لم تلوثها شوائب الضلال، والحمد لله من قبل ومن بعد، يقص الحق وهو خير الفاصلين. وفيما يلي عرض هذه الأدلة بتوفيق الله وفضله :
أولاً : الأدلة القرآنية على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
فصَّل مَن كتب في هذا قديماً بين أدلة القرآن على انتقاض عهد الذمي بالسب ووجوب قتله، وأدلة كفر المسلم بالسب ووجوب قتله، ولن أفصل في هذا التقسيم بل أذكر الأدلة مجتمعةً لتداخل أوجه الدلالة ولقلة الحاجة إلى هذا التفريق اليوم، وأفصِّل فيما يحتاج إلى تفصيل عند الكلام عل كل دليل ووجه الدلالة منه والله الموفق.
17.…قول الله تعالى :" إن الذين يؤذون اللهَ ورسولَه لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً"، ووجه الدلالة من هذه الآية لا يحتاج كثير نظر وتدبر وهو من وجوه، (أولها) أن الله تعالى قرن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذاه، كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، و(منها) أن الله تعالى صرح بلعن الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والسب أذى فالساب ملعون، و(منها) أن هذا اللعن حاصلٌ في الدنيا والآخرة مما يشير إلى أن العذاب المتوعَّد به واقعٌ بمن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، قال ابن تيمية رحمه الله في معرض الكلام على انتقاض عهد الذمي بالسب وترتب القتل عليه:"كذلك هنا سبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث هو جنايةٌ منفصلةٌ عن نقض العهد، له عقوبةٌ تخصه في الدنيا والآخرة زائدةٌ على مجرد عقوبة التكذيب بنبوته، والدليل عليه قوله سبحانه :"إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً"، فعلَّق اللعنة في الدنيا والآخرة والعذاب المهين بنفس أذى الله ورسوله فعُلم أنه موجِب ذلك" قلت: أي سبب قتل الساب هو نفس السب لا مجرد الكفر أو انتقاض العهد، و(منها) أن وصف العذاب بالمهين يجري في القرآن الكريم وعيداً للكفار مما يدل على كفر من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و(منها) أن الآيتين فرقتا في العقوبة بين أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى سائر المؤمنين إذ قرن الأول بأذى الله مباشرة ورتب عليه اللعنة في الدنيا والآخرة في حين رتب الإثم على أذية المؤمنين وذلك أن أذية المؤمنين فسقٌ كما في الحديث:"سباب المسلم فسوق"، والآية فرقت بين أذى المؤمنين وأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبقى إلا أن يكون أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل إثماً وهذا باطل فلم يبق إلا أن يكون أعظم إثماً وليس فوق الفسق إلا الكفر، وهو المطلوب.
18.…قوله تعالى:" ومنهم الذين يؤذون النبيَّ ويقولون هو أُذن قل أُذُن خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمةٌ للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسولَ الله لهم عذابٌ أليم. يحلفون بالله لكم لِيُرضوكم والله ورسولُه أحق أن يُرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادِدِ اللهَ ورسولَه فأنَّ له نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ العظيم"، ووجه الدلالة هنا من وجوه (أولها) توعُد الله تعالى من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب الأليم، والسبُّ أذى بالقول كما لا يخفى، و(منها) أنه رتب على وصف الأذى وصف المحادة لله ورسوله، قال ابن تيمية:"فعُلم أن إيذاء رسول الله محادةٌ لله ولرسوله، لأن ذِكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلاً فيه"، وقال رحمه الله:"المحادَّة هي المعاداة والمشاقَّة، وذلك كفرٌ ومحاربةٌ فهو أغلظ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً عدواً لله ورسولِه محارباً لله ورسوله"، و(منها) أن هذه الآية نزلت فضيحةً للمنافقين ومعلومٌ أن المنافق يعامَل معاملة المسلم في الظاهر، ولكن لما فضح الله سريرته وكشف باطنه صار حكمه حكم الكافر، لأنه بإظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم يكون قد وافق ظاهرُه باطَنه من حيث الكفر، وانتفى السبب الذي كان مانعاً من إجراء حكم الكافر عليه وهو تستره بالإسلام في الظاهر، والحاصل أنَّ إظهار السب دليلٌ ظاهر على الكفر فلم نعد محتاجين إلى الكشف عن السريرة والباطن، وهتِك الستر الظاهر الذي كان مانعاً من التكفير والقتل، فتأمل هذا فإنه دقيق.(2/143)
19.… قول الله تعالى مبيناً مصير المحاد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم :" إن الذين يُحادُّون الله ورسوله أولئك في الأذلين"، وقال تعالى:" إن الذين يُحادُّون الله ورسوله كُبتوا كما كُبت الذين مِن قبلهم"، ووجه الدلالة هنا من وجوه (أولها) أن المحاد لله ورسوله كافرٌ معادٍ لله تعالى كما تقدم، و(منها) أنه وصف هؤلاء بالأذلين وهذا من أدنى دركات الذل الذي يتنافى مع بقاء الإيمان، وإنما يتماشى مع وصف الكفر والمحاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدل على انتقاض الإيمان وتحقق أدنى دركات الكفر،قال ابن تيمية رحمه الله :"والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبوا الرسل قط "،و(منها) أن وصف الكبت يدل على شدة الغيظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يغتاظ منه إلا كافرٌ مغرقٌ في الكفر والعداوة، قال ابن تيمية رحمه الله:"يبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين، فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم، لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قُتلوا فيجب أن يكون كل محادٍّ كذلك"، فالساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محادٌ لله ولرسوله وهو مستحقٌ لكل أوصاف ونعوت الذل والكبت الواردة في الآية المختصة بالمنافقين والكفرة الفاجرين.
20.…قول الله تعالى:" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخِر يوادُّون مَن حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم "، فهذه الآية تدل على كفر مَن سب الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقاض إيمانه إن كان قبل السب مسلماً وأمانه إن كان معاهداً، ووجه الدلالة من باب قياس الأولى حيث قال ابن تيمية رحمه الله:"فإذا كان من يوادّ المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه، وقد قيل إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصدِّيق قتلَه، وأن ابن أُبي تنقَّص النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك، فثبت أن المحاد كافرٌ حلال الدم، وأيضاً فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادِّين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله"، قلت: والسب والشتم من أعظم المحادة والعداوة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى. وقال الإمام البغوي رحمه الله في هذه الآية:"أخبر أن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكفار، وأن مَن كان مؤمناً لا يوالي من كفر وإن كان من عشيرته"، قلت: وهذا صريح في أن المحاد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأذى أو سب أو شتم أو غيره من أنواع العداوة فإنه كافر لا تجوز موالاته كما لا تجوز موالاة سائر الكفار، بل هنا آكد لمكان العداوة والمحاربة الظاهرة لله والرسول صلى الله عليه وسلم.
21.…قوله تعالى:" يحذر المنافقون أن تُنزَّل عليهم سورةٌ تبنئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرجٌ ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولنّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفةٍ منكم نعذب طائفةً بأنهم كانوا مجرمين" ، ووجه الدلالة هنا من وجوه (أولها) أن الآية دلت صراحةٌ على أن الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم كفر، قال ابن تيمية رحمه الله:"وهذا نصٌ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كُفرٌ، فالسب المقصود بطريق الأولى، وقد دلت هذه الآية على أن كلَّ مَن تَنَقَّصَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر"، و(منها) أن السب هو الكفر الظاهر الموافق للكفر الباطن، حيث قال تعالى إنه مُخرجٌ ما يخفيه المنافقون في قلوبهم من الكفر، وكان هذا الإخراج بفضيحتهم وإعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء الحاصل منهم تجاه الله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن الاستهزاء – والسب منه – هو من أعمال وأقوال الكفر الظاهر التي تحكي الكفر الباطن،و(منها) الحكم بالعذاب على المستهزئ وهذا يشمل العقوبات الشرعية بالقتل في الدنيا وعقوبة الآخرة في نار جهنم و(منها) أن الآية وصفت الاستهزاء بالجريمة وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو أشد، قال ابن جرير الطبري رحمه الله:"وأما قوله (بأنهم كانوا مجرمين) فإن معناه: نعذب طائفة منهم باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قلت : وهذا صريح في أن الاستهزاء كفر وأولى منه سب الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/144)
22.…قوله تعالى:" لئن لم ينتهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجفون في المدينة لنُغريَنَّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثُقفوا أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً"، هذه الآية بيَّنت أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض يُخفونه وهو الطعن في دين الله والاستهزاء بآياته وبرسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم مستحقون للعن، بل هم إن اللعن وصفٌ ثابتٌ عليهم، ثم بيَّنت هذه الآية ما يترتب على هذا اللعن من التقتيل وهي صيغة مبالغة من القتل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في سياق الكلام على قوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة):"أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومَن طََرَدَه عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً، فإن المؤمن يقرُب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمةٌ عظيمة من الله، فلا يثبت في حقه، ويؤيد ذلك قوله :"لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً. ملعونين أينما ثُقفوا أُخذوا وقُتّلوا تقتيلاً"، فإنَّ أخْذهم وتقتيلهم والله أعلم بيانٌ لصفة لعنهم، وذُكِر لحكمةٍ - فلا موضع له من الإعراب وليس بحالٍ ثانية- لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يظهر أثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك وعيدٌ لهم، بل تلك اللعنة ثابتةٌ قبل هذا الوعيد وبعده، فلابد أن يكون هذا الأخذ والتقتيل من آثار اللعنة التي وُعدوها، فثبت في حق من لعنه الله في الدنيا والآخرة"، قلت: وهذا كما قدمنا غاية العدل لأن المنافق الذي أبطن الكفر وأظهر الإسلام عومل وفق ذلك فحُقن دمه في الدنيا بما أظهره من الإسلام وعُذب في نار حهنم خالداً فيها يوم القيامة بما أبطن من الكفر، أما إذا تسرب إلينا من باطن كفره ما ظهر لنا به كفره قولاً كان كالسب والشتم أو فعلاً كالإرجاف والتخذيل والدلالة على عورات المسلمين رجع حكمه في الدنيا إلى الأصل وعومل معاملة الكافر الحربي المعادي لله ورسوله المحاد لهما والمشاق لهما فأُخِذ وقُتل جزاءً وفاقاً، وبهذا يتبين أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم ينقض الإيمان والأمان ويوجب القتل واللعن على هؤلاء المجرمين، وهو المطلوب.
23.…قوله تعالى :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً"، ووجه الدلالة من هذه الآية هو أيضاً من قياس الأولى حيث بينت الآية بشكل صريح أن مَن أعرض عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقبول بحكمه قد انتفى عنه الإيمان، وقال الإمام أحمد:"نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلوا :"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة" الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك! لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلوا هذه الآية :"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله:"فأقسم سبحانه بنفسه أنَّا لا نؤمن حتى نُحكِّم رسولَه في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه فلا يبقى منها حرج، ونسلِّم لحكمه تسليماً، فلا نعارضه بعقلٍ ولا رأيٍ ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يُقدِّمون العقل على ما جاء به الرسولُ، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه"، قلت: فإذا كان الإيمان منفياً عمن لم ينشرح صدره لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بمن سبَّه وشتمه وآذاه بفحشٍ من القول وزور من الكلام. قال ابن تيمية رحمه الله:" فإذا كان النفاق يثبت، ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا تركٌ محضٌ وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتنقص والسب"، قلت: أي أن كون السب والشتم سبباً في نفي الإيمان أولى وأقوى، لأن الساب لم يقتصر على الترك والإعراض الذي هو بحد ذاته كفر، بل ضم إلى ذلك التنقص والشتم فهو متعاطي لأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التعاطي للإيذاء فوق الترك المحض فكان أولى بنفي الإيمان واستحقاق العقوبة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه دحيم في تفسيره عن عتبة بن ضمرة :حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحِقِّ على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، وقد ذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضي لي. فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبُه أن يرضى. قال: فأتيا عمر بن الخطاب، فأتياه فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر فقال أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرضى، فسأله عمر، فقال كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل الله:" فلا وربك لا يؤمنون " إلى آخر الآية. قلت: فكيف يفعل الصحابة إذاً بالساب والشاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يجدر بالمؤمن أن يفعل!(2/145)
24.…قوله تعالى:" ومنهم من يَلمِزُك في الصدقات فإن أُعطوا منها رَضُوا وإن لم يُعطَوا منها إذا هم يَسخَطون" ، ووجه الدلالة من هذه الآية يجمع أموراً مما تقدم (فأولها) يتعلق بصفات المنافقين وسلوكهم الظاهر الدال على كفرهم الباطن وهو في هذه الآية الفاضحة لمزُ النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات، قال ابن تيمية رحمه الله :"واللمز: العيب والطعن، قال مجاهد: يتهمك، يسألك، يزرأك، وقال عطاء: يغتابك"، قلت : وكل هذا من جنس أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسب أشد منه لكونه صريحاً معلناً فحكمه حكم اللمز من حيث الحكم بالنفاق والكفر كما لا يخفى، و(ثانيها) أن من صفات المنافين الكفار في الباطن أنهم لا يرضون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقسيم الأموال وفي غيره من الأمور الدينية والدنيوية وهو ما تقدم تحريره في الدليل السابق، ويقوي هذا المعنى ويوضحه ما رواه الإمام البخاري رحمه الله بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال:" بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه. قال: دعه، فإن له أصحاباً يحقِر أحدُكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ..إلى أن قال : فنزلت فيه :"ومنهم من يلمزك في الصدقات"، قلت: وهذه الآية والحديث الذي يروي سبب نزولها صريحان في أن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وفي حكمه وقضائه كفرٌ يبيح دم قائله حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ عمر بن الخطاب على حكمه على الرجل بالقتل، ولكن منعه لسبب آخر ولمصلحة راجحة – وهذا حقٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته حيث يعفو عن حقه هو لما يراه مناسباً، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يجرؤ على إسقاط حق رسول الله صلى الله عليه وسلم!
25.…قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالُكم وأنتم لا تشعرون"، ووجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم وعن الجهر له بالقول كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع والجهر قد يُفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر، فإنه علَّل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلبِ سلامة العمل عن الحبوط، وبيَّن أن فيه من المفسدة احتمال حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك، وما قد يُفضي إلى حبوط العمل يجب تركُه غاية الوجوب، والعمل يحبط بالكفر قاله سبحانه :"ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"، وقال تعالى:" ومن يكفر بالإيمان فقد حبِط عمله"، وقال:" ولو أشركوا لَحَبِط عنهم ما كانوا يعملون"، وقال :"لئن أشركتَ ليحبطنَّ عملُك"، وقال:"ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل اللهُ فأحبط أعمالهم"، وقال :"ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخطَ اللهَ وكرهوا رضوانَه فأحبط أعمالهم"، كما أن الكفر إذا قارنه عملٌ لم يُقبل لقوله تعالى :"إنما يتقبل الله من المتقين"، وقوله:"الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالَهم"، وقوله :"وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله"، وهذا ظاهرٌ ولا تحبط الأعمال بغير الكفر، لأن من مات على الإيمان فإنه لابد من أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها، ولو حبط عملُه كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمالَ مطلقاً إلا الكفر، وهذا معروفٌ من أصول أهل السنة، نعم قد يبطلُ بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى:"لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى" ولكن لا يحبط كلُّ عمل المرء بذلك، ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر. فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول يُخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لايشعر، ويحبط عمله بذلك وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لِما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولِما أنَّ رفعَ الصوت قد يشتمل على أذى له أو استخفاف به وإن لم يقصد الرافعُ ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً، فيكون الأذى والاستخفاف المقصود والسب والشتم المتعمد كفراً بطريق الأَولى. قلت: هذا غاية الفقه منه رحمه الله فقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المبحث النفيس مسائل من أصول الدين لا ينفك المسلم يحتاج إليها، منها أن المعاصي لا تحبط الإيمان كله وإنما ينقص بها الإيمان، وأن حبوط كامل العمل رديف الكفر، وأن كل ما دل دليل الشرع على أنه يؤدي إلى حبوط كامل العمل فهو كفر وهذا كما مثَّل وذكر كسب النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن رحمه الله أن مسألة سب النبي صلى الله عليه وسلم وإيذائه من متعلقات أصول الدين وأنه ليس مجرد ذنب عارض بل هو جريمة كبرى، ولكن هل من سامع أو مجيب.(2/146)
26.…قوله تعالى :" فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذاب أليم"، ووجه الدلالة هنا أن مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مفضٍ إلى الفتنة وهي الكفر، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"أمرَ مَن خالف أمرَه أن يحذر الفتنة؛ والفتنة الردة والكفر"، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"أي فليحذر وليخشَ من يخالف شريعة الرسول باطناً أو ظاهراً (أن تصيبهم فتنة) أي في قلوبهم مِن كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعة، (أو يصيبهم عذابٌ أليم) أي في الدنيا؛ بقتلٍ أو حدٍ أو حبسٍ أو نحو ذلك"، وذكر ابن تيمية رحمه الله وجه الدلالة من الآية :"فإذا كان المخالف عن أمره صلى الله عليه وسلم قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ولما كان معلوماً أن إفضاءه إلى العذاب بسبب مجرد فعل المعصية، عُلِم أن إفضاءه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر، وهذا كما فعل إبليس حيث استخف بحق الآمر واستكبر عنه فكفر بذلك لا لمجرد المعصية، فكيف لما هو أغلظ من ذلك الاستحفاف كالسب والشتم والانتقاص ونحوه"، قلت: فلا شك أن السب والشتم أشد إفضاءً إلى الكفر من إفضاء مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم المقترنة بالاستخفاف به صلى الله عليه وسلم،وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، والله الموفق.
27.…قوله تعالى:" وما كان لكم أن تؤذوا رسولَ الله ولا أن تَنكِحوا أزواجَه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً"، ولقد تقدم الكلام عن هذه الآية وبيان منع معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ببعض ما يجوز للمسلمين أن يتعاملوا به بينهم حفظاً لجنابه وتوقيراً وتعظيماً لمقامه صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الله تعالى منع مِن تزوُّج أزواجه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وسمى ذلك أذى للرسول صلى الله عليه وسلم وعظَّم قدر هذا الأذى مُشعراً بالوعيد الشديد لفاعله، فإنَّ ترتب هذا الوعيد على الشاتم من باب أولى، قال ابن تيمية رحمه الله:"فحرَّم على الأُمة أن تنكح أزواجَه من بعده لأن ذلك يؤذيه، وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته. وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجتُ عائشة. ثم إنَّ مَن نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل جزاءً له بما انتهك من حرمته فالشاتم له أولى"، قلت: وسيأتي دليل هذا أعني قتل من تزوج أحداً من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مبحث أدلة السنة إن شاء الله.
28.…قوله تعالى:" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"، تقدم معنا في تقديم هذا المبحث صفة أهل الذمة وأن حقن دماءهم بدخولهم في عقد الذمة مترتبٌ على أمرين هما؛ دفع الجزية للمسلمين، وانقيادهم لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في دار الإسلام، وذكرنا بعض الشروط التي يشترط التزام أهل الذمة بها لسريان عقد الذمة وحقن دمائهم، وأن لازمها عدم الطعن في الإسلام وفي الله سبحانه وتعالى وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة من هذه الآية من وجهين (أولهما) أن الأصل في التعامل مع الكفار هو قتالهم، ومن حلَّ قتاله حلَّ قتله، ثم إن قتله يتعين بتعين الجريمة المستوجبة للقتل كما نبين لاحقاً، و(الآخر) أن من أعلن وأظهر سبه النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملتزماًً بشروط العهد من الكف عن الطعن في دين الإسلام والتزام حال الصغار بالانقياد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في دار الإسلام، قال ابن تيمية رحمه الله:" فمن المعلوم أن من أظهر سبَّ نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملأ منا، وطعن في ديننا في مجامعنا، فليس بصاغرٍ لأن الصاغر الذليل الحقير، وهذا فعلُ متعززٍ مراغم، بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة"، وقال الإمام الشافعي رحمه الله:" الصَغَار والله أعلم أن يجري عليهم حكم الإسلام"، قلت: ولا يخفى أن إظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم مخالفٌ لجريان حكم الإسلام عليهم، قال القاضي عياض رحمه الله :" لأنا لم نعط الذمة أو العهد على هذا" أي على إظهار سب النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا كله بالنسبة للكافر الذمي، فإذا تأملنا أنه غير موجود اليوم كان حال الكافر المستأمن أو الحربي إذا أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الحكم وهو انتقاض أمانه إن كان مستأمناً وتعين قتله إن كان حربياً وظُفر به، والله أعلم.(2/147)
29.…قوله تعالى:" كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"، فهذه الآية الكريمة تبين حكم الكافر الحربي وأنه لا عهد له ولا أمان من الله ورسوله، بل يقاتَل حتى يسلم أو يعطي الجزية إن كان من أهلها أو يهادن على تفصيل مبسوط في كتب الفقه، ثم استثنى الله تعالى مَن كان له عهدٌ سابق مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان مستقيماً على شروط العهد ومقتضياته، قال الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله:" ولما قدم المدينة – يعني النبي صلى الله عليه وسلم - صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم؛ فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم"، ومن المعلوم أن المجاهرة بسب النبي صلى الله عليه وسلم ليست من الاستقامة على العهد في شيء، قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر الآية الكريمة:" نفى سبحانه أن يكون لمشركٍ عهدٌ ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم إلا قوماً ذكرهم، فإنه جعل لهم عهداً ما داموا مستقيمين لنا، فعُلم أن العهد لايبقى للمشرك إلا ما دام مستقيماً، ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وديننا وكتابنا يقدح في الاستقامة، كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد، بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا، ولا يُجهر في ديارنا بشيء من أذى الله ورسوله، فاذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين فكيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما"، قلت: تأمل فقه هذا الإمام العظيم، حيث جعل محاربة المشركين لنا بقتالنا واستباحة دمائنا أهون الأمرين وجعل سب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الأمرين وهو كذلك، هذا – كما قال رحمه الله – إن كنا مؤمنين، تأمل هذا الكلام النفيس ثم ابكِ على ما يظنه البعض اليوم نصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم من دعوة لحوار الأديان وتخوفٍ من المبالغة في النكير على الشاتمين خشية تعثر عجلة التقدم في تعايش الأديان وتجاور الحضارات، فلا ينتهي العجب من هذا، نسأل الله السلامة والعافية.
30.…قوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانَهم مِن بَعد عهدِهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمةَ الكفر إنهم لا أَيمان لهم لعلهم ينتهون"، وإن الآية الكريمة تدل على انتقاض الإيمان والأمان ووجوب القتل من وجوه، (أولها) أن مجرد نكث الأيمان أي نقضها موجبٌ لانتقاض الأمان، و(منها) أن الطعن في الدين جريمة مستقلة زائدة على مجرد نقض العهد، و(منها) تسمية من ضم إلى نقض العهد طعناً في دين الإسلام إماماً في الكفر وهذا يستدعي قدراً زائداً من العقوبة الزاجرة الرادعة لأن إمام الكفر معلنٌ بمحاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وداعية إلى الكفر فلا بد من كف أذاه عن الناس وهذا لا يتحقق إلا بقطع دابره، قال الإمام البيضاوي رحمه الله في قوله تعالى (فقاتلوا أئمة الكفر) :"أي فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل، وقيل: المراد بالأئمة رؤساء المشركين، فالتخصيص إما لأنَّ قتلهم أهم وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم"، قلت: أي المنع من مراقبة العهد فيهم لأنهم أولى مَن نكث العهد بالقتل لعظيم خطرهم و(منها) توكيد الآية على أنه لا أمان لهؤلاء الكفار الطاعنين في الدين فيعودون إلى حكم الأصل من وجوب قتالهم، و(منها) تعليل هذا القتال برجاء انتهائهم عن الطعن في الدين والذي دلت عليه التجربة أن طعن هؤلاء في الدين لا ينتهي ولا ينقطع إلا بقطع دابرهم، و(منها) أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو من أعظم الطعن في الدين لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو الواسطة بين الله عز وجل وبين الناس فبه بلَّغ الله تعالى دينه وعرَّف الناس أوامره ونواهيه، فمن طعن في نبينا صلى الله عليه وسلم بالسب فقد طعن في الله الذي أرسله ونقض أصل الدين، وفاعل هذا إمامٌ في الكفر لا بد من أن يُستراح منه، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (وطعنوا في دينكم):" أي عابوه وانتقصوه؛ ومن ههنا أُخذ قتلُ من سب الرسول ضلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص". والحاصل أن هذه الآية أصلٌ عظيم في مسألتنا لأنها جامعة في الدلالة على كل أوجه المطلوب وهو انتقاض الإيمان والأمان وتعين القتل على هؤلاء المجرمين، والله أعلم.(2/148)
31.…قوله تعالى:"ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمُّوا بإخراج الرسول"، وهذه الآية تالية في الترتيب للآية السابقة، وفيها مزيد تهييج للمؤمنين على قتال هؤلاء الطاعنين في دين الله وفي الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التهييج والإغراء بهم يؤكد على أن المطلوب قتلهم واستئصال شأفتهم، بل إنك لتستشعر نوع عتاب في الآية لمن تردد في قتلهم، وكأن في الآية : كيف لا تقتاتلون هؤلاء الذين أرادوا إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأوه وإياكم القتال ونكث العهود! قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية:"وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا باخراج الرسول من مكة"، وقال ابن تيمية رحمه الله:"فجعل همَّهم بإخراج الرسول من المحضضات على قتالهم، وما ذاك إلا لما فيه من الأذى، وسبُّه أغلظ من الهم بإخراجه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عفا عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه ولم يعفُ عمَّن سبَّه، فالذمي إذا أظهر سبَّه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله"، قلت: فهذا حال الذمي فما بالك اليوم بالكافر الحربي الذي لم ينعقد له أمان ولا عهدٌ أصلاً وهو يبارز النبي صلى الله عليه وسلم بالسب والشتم والتنقص والوقيعة في عرضه بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، أيكون نصيبه من العقوبة دعوة إلى مؤتمر حوار أديان وتحذيره من مغبة الاستمرار في الشتم لئلا يعكر جو حوار الحضارات والتعايش السلمي بين الأديان، أم يكون نصيبه ضرباً فوق الأعناق وضرباً لكل بنان، تأمل هذا يا ما تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمله جيداً ثم اختر لنصرة نبيك صلى الله عليه وسلم حالاً من هاتين.
32.…قوله تعالى:"سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بَنان. ذلك بأنهم شاقُّوا الله ورسولَه ومن يشاقق اللهَ ورسولَه فإن الله شديد العقاب. ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذابَ النار"، ووجه الدلالة من هذه الآية أن تعليل الضرب فوق الأعناق وهو القتال كان بسبب مشاقة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم والأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله ورسوله، فكل من شاقَّ الله ورسوله يستوجب ذلك، والمؤذي للنبي مشاقٌ لله ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك"، قلت: وهذا صريح واضح لا يحتاج إلى كثير بسطٍ وبيان.
33.…قوله تعالى:" ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذَّبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. ذلك بأنهم شاقُّوا الله ورسوله ومن يُشاقِّ الله فإن الله شديدُ العقاب"، فهذا مصير هؤلاء من أهل الذمة الذين نقضوا عهدهم بمشاقة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال ابن تيمية رحمه الله :"فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا ولِعذاب النار في الآخرة هو مشاقَّة الله ورسوله، والمؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُشاقٌّ لله ورسوله كما تقدم، والعذاب هنا هو الإهلاك بعذابٍ من عنده أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال وفراق الأوطان"، قلت: فهذا أيضاً صريح في أن من شاق الرسول صلى الله عليه وسلم بسب وشتيمة وغيرهما من أنواع الاذى فإنه مستحقٌ للعقوبة في الدنيا والنار في الآخرة، وما من عقوبة في الدنيا تليق بهذا الشاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القتل على ما نبينه لاحقاً إن شاء الله، أما انتقاض إيمانه وأمانه فلا إشكال فيه بحمد الله.(2/149)
34.…قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوَّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودةِ وقد كفروا بما جاءكم مِن الحق يُخرجون الرسولَ وإياكم أن تؤمنوا بالله ربِّكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلَّ سواء السبيل"، ووجه الدلالة من هذه الآية من وجوه (أولها) أن الله تعالى قرن عداوة المؤمنين بعداوته سبحانه وتعالى ولا شك أن أولى المؤمنين وسيدهم وإمامهم في هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فمن عاداه فقد عادى الله ومن عادى الله استحق الحرب والقتل، و(منها) أن الله تعالى نهى عن موالاة هؤلاء الأعداء الآتية صفتهم في الآية، ونهي المؤمنين عن الموالاة إنما يكون مع الكافر لأن المؤمن لا يُنهى عن موالاة المؤمن كما هو مقررٌ ومستفيض في آيات القرآن، و(منها) أن هذه العداوة جاءت منعوتة موصوفة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من بلده وهذا نوع أذى، فكل أذى مِن جنسه أو أشد منه كالسب والشتم يكون أبلغ في تقرير العداوة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى (يُخرجون الرسول وإياكم) :"هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بين أظهرهم كراهةً لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده"، قلت: فكيف بمن يسبه ويشتمه ويقع في عِرضه صلى الله عليه وسلم، و(منها) أن تعليق الجهاد في سبيل الله وهو القتال على قطع الموالاة مع هؤلاء الأعداء الذين آذوا النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد أن هؤلاء كفارٌ لا إيمان لهم ولا أمان لأن الجهاد أي القتال في سبيل الله وتقصُّد قتلهم ينصرف إلى هؤلاء. والحاصل أن هذه الآية قد قطعت كل وشيجة وصلة بين المؤمنين وبين من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع الأذى سواء أكان ما صرحت به الآية من إخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة أم كان غيره من أنواع الأذى كالهجاء والسب والتنقص بل هذا أولى كما لا يخفى.
35.…قوله تعالى:" وأعِدُّوا لهم ما استطعتم مِن قوةٍ ومِن رباط الخيل تُرهبون به عدوَّ الله وعدوكم" ، قال الإمام الطبري رحمه الله :"يقول تعالى ذِكره: وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم الذين بينكم وبينهم عهد إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله ما استطعتم من قوة، يقول: ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم من السلاح والخيل، (ترهبون به عدو الله وعدوكم) يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين"، قلت : وهذا لا يخفى أنه إعداد للقتال والقتل لأولئك المحاربين الناقضين للعهد والناكثين للإيمان والأيمان، وأي عداوة أشد من سب النبي صلى الله عليه وسلم وإعلان ذلك وإظهاره على الملأ في كل ما تيسر لهؤلاء المجرمين من وسائل الإعلان المسموع والمقروء والمرئي جهاراً نهاراً، ينفثون كل حقدهم ضد من بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وشرفه على سائر خلقه أجميعن، أليس هذا المجرم الساب والشاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذاً أولى الناس بأن يعيش حال الخوف والإرهاب وهو يعلم تربص المؤمنين به لقتله ودحره وقطع دابره. ولئن لم يصدق على ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاتمه ومتنقصه والطاعن فيه والواقع في عرضه وفي أزواجه الطاهرات المطهرات أنه عدو لله وعدو للمؤمنين فعلى من يصدق وصف العداوة؟ بل ما بقاء المؤمنين بعد شتم نبيهم إذا لم ينتصروا له صلى الله عليه وسلم بتربص الشاتم والساب بكل ما يملكون من أسباب القوة والرهبة، حتى إذا ظفروا به أخذوه أخذاً وبيلاً وقتَّلوه تقتيلاً ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.(2/150)
36.…قوله تعالى:" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيدِيهِم وأرجُلُهُم مِن خِلافٍ أو يُنفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا"، وهذه الآية أصلٌ في حدِّ الحرابة، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"المحاربة: هي المضادة والمخالفة وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر"، وقال رحمه الله :"وليست تُحرز – أي تمنع - هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يُقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحد الذي أصاب"، قلت: أي ولو تاب فإن التوبة تُسقط حق الله عز وجل ولا تُسقط حق العباد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكر الآية :"فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فساداً الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلماً أو معاهداً، وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب، فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن أُخذ وقُدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه، وحدُّه القتل فيجب قتله سواءٌ تاب أو لم يتب"، قلت: وسيأتي مزيد بيان لمسألة عدم استتابة شاتم النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المقصود هنا بيان وجه دخول الساب في المحاربين لله ورسوله مع ما يترتب على ذلك من النكال العظيم، ولا يماري عاقل فضلاً عن مسلم في أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو من أشد المحاربة لله ورسوله ومن أعظم الإفساد في الأرض، فلا تردد في دخوله في وعيد هذه الآية والله تعالى أعلم.
فهذه عشرون دليلاً من القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تدل دلالة صريحة صحيحة على أن من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبٍ أو شتمٍ فقد انتقض إيمانه وزال أمانه ووجب قتله فهو كافر محارب يستحق وعيد الدنيا والآخرة جزاءً وفاقاً على ما اجترأ عليه من جريمة شنعاء قبيحة.
ثانياً: أدلة السنة النبوية على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
إن ما تقدم من الأدلة القرآنية شافٍ كافٍ في تقرير مسألتنا، غير أن السنة النبوية المطهرة جاءت شارحةً للقرآن مبينةً لمبهمه، ومفصلةً لمجمله، ومخصصة لعمومه، ومقيدةً لمطلَقِه، ومؤكدةً لأحكامه، ومُشرِّعةً لأحكام مستقلةٍ، ولما كان هذا شأن السنة فمن المهم النظر في أدلتها المتعلقة بمسألتنا كي تستبين لنا الضوابط الشارحة لتطبيق ما تقدم تقريره بالأدلة القرآنية، حتى لا تبقى شائبة أو شبهة في ذهن المكلف، ولينظر كيف كان تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأدلة القرآنية. وكما قدمت آنفاً فإني لن أفصل في عرض هذه الأدلة بين ما يتعلق بالمسلم والمعاهد والمحارب بل نسرد الأدلة ونذكر وجوه الدلالة منها على المطلوب في موضعها مع الإشارة إلى خصوصيات كل دليل حسب الحاجة إن شاء الله.
12.…عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله قال: مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"قال الفاكهاني: في هذا تهديدٌ شديد لأن من حاربه اللهُ أهلكه، وهو من المجاز البليغ لأن مَن كَرِهَ مَن أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه". وقال ابن تيمية رحمه الله :"فإذا كان من عادى واحذاً من الأولياء قد بارز اللهَ بالمحاربة، فكيف بمن عادى صفوة الله من أوليائه، فإنه يكون أشد مبارزةً له بالمحاربة، وإذا كان محارباً لله لأجل عداوته للرسول، فهو محارب للرسول بطريق الأولى، فثبت أن الساب للرسول محاربٌ لله ورسوله"، قلت: فإذا ثبت هذا تبين أن الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منتقض الإيمان منتقض الأمان مستحق للقتل، وهو المطلوب.(2/151)
13.…عن أنس رضي الله عنه قال:" كان رجلٌ نصرانياً فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله فدفنوه فأصبحَ وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فِعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه"، قال العيني رحمه الله :"وفي رواية ثابت: فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم"، قلت: أي في قومه من النصارى الكفار لأنه لحق بهم بعد أن ارتد، وكان يطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ويزعم أن ما كان يأتي به صلوات الله وسلامه عليه من الوحي إنما علَّمه إياه هو، وواضحٌ ما في هذا من نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الطعن والتنقص والإزراء به صلوات الله وسلامه عليه، ورواه مسلم في صحيحه أيضاً عن أنس بن مالك قال:"كان منا رجلٌ من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه؛ قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد، فأُعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه، بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمرٌ خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه ومظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يُمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مراتٍ متعددة في حصار الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا، حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحه وتيَّسر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين"، قلت: ولا بد من الحذر من الركون إلى مثل هذه البشارات مع ترك تعاطي أسباب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمل كيف أن أهل الثغور كانوا يستبشرون بنصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بتعجيل هذه الحصون التي يحاصرونها لا أن أحدهم يقعد في بيته مع الخوالف ينتظر نصر الله من السماء دون أن يتعاطى أسبابه في الأرض من إعداد عدة وصدق عزيمة وإخلاص نية الخروج في سبيل الله تعالى. والشاهد هنا أن الله تعالى لا يفضح ولا يخزي عبداً بمثل هذا الخزي والفضيحة بحيث تلفظه الأرض ولا تقبل نتنه إلا وقد احتوى قلبه من النتن والحقد الكثير الكثير حتى ضاق به صدره فظهر على جوارحه ولسانه فأخذ يتجرأ على مقام النبوة بشتى أنواع السباب والشتم، فهذا قد انتقض إيمانه وأمنه وهو بين عذابين؛ عذاب القتل بأيدينا أو عذاب الله تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو.(2/152)
14.…عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلقٌ بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه"، قلت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه واستثناه ونفراً آخرين من الأمان الذي أعطاه لأهل مكة عام الفتح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"واستدل به- أي بالحديث - على جواز قتل الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر كما قاله ابن عبد البر، لأن ابن خطل كان حربياً ولم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانه لأهل مكة، بل استثناه مع من استثنى وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجاً واحداً، فلا دلالة فيه لما ذكره، انتهى. ويمكن أن يُتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييدٍ بكونه ذمياً، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم أن سبب قتله السب"، قلت: هذا الذي ذكره ابن حجر جيد أعني عدم التقييد بالساب الذمي لأن ابن خطل كان مرتداً ولمن يكن من أهل الذمة، ولكن يبقى الدليل قوياً من الحديث على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إن كان في المسلم المرتد بالسب مؤكداً ففي الذمي الناقض للعهد بالسب من باب أولى، وأما قوله رحمه الله إن ابن خطل قارف موجبات القتل الأخرى فلقد حرر ذلك شيخ الإسلام تحريراً نفيساً بحيث بيَّن أن الموجب الذي بسببه أباح النبي صلى الله عليه وسلم دمه إنما هو السب لا غير، حيث قال رحمه الله:"وقد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه – أي جريمة ابن خطل - أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على الصدقة وأصحبه رجلاً يخدمه، فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاماً أمره بصنعه فقتله، فخاف ثَمَّ أن يُقتل فارتد واستاق إبل الصدقة، وأنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنِيّا به، فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم؛ قتل النفس والردة والهجاء. فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يُقتل قَوَداً، والمقتول من قبيلة خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قُتل قَوَداً أن يُسلَّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية، وهذا ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أنه لم يُقتل قوداً، وكذلك لم يُقتل لمجرد الردة لأن المرتد يُستتاب واذا استنظر أُنظر، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت عائذاً به طالباً للأمان تاركاً للقتال ملقياً للسلاح حتى يُنظر في أمره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يُقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض بل يُقتل قبل الاستتابة، ولا يُؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة"، قلت: وهذا تحريرٌ نفيس للمسألة وقد تبين منه أن موجب إهدار دمه كان السب دون غيره من موجبات القتل، وهو المطلوب.
15.…حديث ابن عباس رضي الله عنهما :"أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جَعَلَت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"ألا اشهدوا أن دمها هدر"، قال الشيخ العظيم آبادي :"وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله، قاله السندي". وقال ابن تيمية رحمه الله:"وهذه المرأة إما أن تكون كانت زوجة لهذا الرجل أو مملوكةً له، وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزاً لبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً، ولأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم والدية إن لم تكن مملوكةً له. فلما قال: اشهدوا أن دمها هدر، والهدر الذي لا يُضمن بقَوَد ولا دية ولا كفارة، عُلم أنه – أي قتلها - كان مباحاً مع كونها كانت ذمية، فعُلم أن السبَّ أباح دمها لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السب، فعُلم أنه الموجب لذلك والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك". قلت: نعم، القصة ظاهرة الدلالة على ذلك لمن أراد أن يصدر عن سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما من أراد أن يصدر عن داعية هواه ويسير وراء عقله المزعوم ومبتغاه، يداهن ويماري ويختلق الشبه والأعذار فما تغن النذر والآيات عن هؤلاء شيئاً والله المستعان.(2/153)
16.…حديث الشعبي عن علي رضي الله عنه:" أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها"، أي أهدره، قال الإمام الشوكاني رحمه الله :"وفي حديث ابن عباس – وهو المتقدم معنا - وحديث الشعبي دليلٌ على أنه يُقتل مَن شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً وجب قتله". وسواء أكانت القصة في هذين الحديثين نفسها أم لا فالدلالة منهما واضحة على إهدار دم شاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
17.…أمر النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بقتل أفراد بعينهم مع كفه عمن سواهم، كما روى البيهقي في الحديث وفيه :"وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحداً إلا مَن قاتلهم، وأمر بقتل أربعة نفر منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحارث بن نقيذ، وابن خطل ومقيس بن صبابة، وأمر بقتل قينتين لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم قُتلت إحدى القينتين واستخفت الأخرى حتى استؤمن لها، قال ابن تيمية رحمه الله:"فوجه الدلالة أن تعمُّدَ قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ، ثم قال :"إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء النسوة كن معصومات بالأنوثة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن لمجرد أنهن كنَّ يهجينه وهنَّ في دار حرب، فعُلم أن مَن هجاه وسبَّه جاز قتلُه بكل حال"، قلت: هذا الدليل من الأهمية بمكان لانطباق كافة أوصاف المعيَّن فيه على كثير ممن يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم اليوم ممن هم في بلاد الكفر كأوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها من الدول الصليبية، فأهل هذه الدول كفار محاربون في دار الحرب تماماً كما كان حال هاتين القينتين، ثم إن مَن كان من الشاتمين اليوم من الكفار المحاربين امرأة فدخولها في الحديث واضح لا إشكال فيه حيث انطبقت كل الصفات، ومَن كان رجلاً فمن باب أَولى لأن الذكورة ليست عاضمة لدم الكافر الحربي، فاستقام انطباق هذا الدليل على طائفة كبيرة من أكابر مجرمي هذه الدول الصليبية الكافرة التي يتطاول بعض أفرادها بسب النبي صلى الله عليه وسلم ويسكت الآخرون إما سكوت تقرير أو سكوت تبرير، فيما تستمر استجداءات بعض البيانات الإعلامية الهزيلة لبعض المسلمين يحسبون أنهم ينتصرون بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما بيننا وبين الانتصار له حقيقةً إلا استنهاض الهمة تحريضاً على الظفر بهؤلاء المجرمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتتبع هاتين المجرمتين ولو كنَّ في حرم مكة شرفها الله، ثم إنزال حكم الله تعالى فيهن بعد الظفر بهن، وكذلك يجب السعي للظفر بكل مجرم دنيء يتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُقام فيه حد الله تعالى أعني القتل لا غيره، والله الموفق وله الحمد على ما هدانا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.(2/154)
18.…حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فائذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً، والله لتملُنَّه. قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين. - وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقاً أو وسقين فقلت له: فيه وسقاً أو وسقين؟ فقال: أرى فيه وسقاً أو وسقين- فقال: نعم ارهنوني. قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيُسبُّ أحدهم فيقال رُهن بوسق أو وسقين هذا عارٌ علينا، ولكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان: يعني السلاح - فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة - وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة - وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة- إن الكريم لو دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ لأجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين - قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم. قال عمرو: جاء معه برجلين وقال غير عمرو أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر - قال عمرو: جاء معه برجلين فقال: إذا ما جاء فإني قائلٌ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، - وقال مرة ثم أشمكم- فنزل إليهم متوشحاً وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً أي أطيب - وقال غير عمرو قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب - قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف كان شاعراً وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش"، قلت: فهذا صريح في أنه كان يسب ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجوه، (أولها) أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى قتل من يؤذيه والأذى كما بينت باقي الروايات وكما هو معروف مستفيض في قصة كعب بن الأشرف كان بالسب والشتم والهجاء، و(منها) أن كعب بن الأشرف كان معاهداً ذمياً ومع ذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتله دون أن ينبذ إليه عهده، فدل على أن مجرد السب والشتم والهجاء ناقض للأمان، و(منها) أن الصحابة احتالوا عليه لقتله وأوهموه الأمان حتى استمكنوا منه، فدل على أن قتله ليس لمجرد الكفر لأن الكفار لا بد من أن يُعرض عليهم الإسلام قبل القتال والقتل، قال ابن تيمية رحمه الله:"الوجه الثاني من الاستدلال به أن النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين؛ محمد بن مسلمة، وأبا نائله وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتالوه ويخدعوه بكلامٍ يُظهرون به أنهم قد أمنوه ووافقوه ثم يقتلوه، ومن المعلوم أن من أظهر لكافرٍ أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم أمَّنه وكلمه على ذلك صار مستأمناً"، ثم قال رحمه الله:"وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله، ومَن حَلَّ قتلُه بهذا الوجه لم يُعصم دمُه بأمان ولا بعهد، كما لو أمَّن المسلمُ مَن وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل زِناه أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الاسلام ونحو ذلك، ولا يجوز أن يُعقد له عقد عهدٍ سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة، لأن قتله حدٌ من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً، قلت: وهذه القصة من الوضوح بمكان وإنما عرضنا بعض هذه الوجوه لتحرير صفات المجرم الساب وليُعلم تناول الحكم من هذه صفته ممن قد يشتبه على البعض أن له عصمة أو أمان يقيه القتل، والله الموفق.(2/155)
19.…عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، فأمَّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعينُ عليه، وكان في حصنٍ له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلقٌ ومتلطفٌ للبوّاب لعلّي أن أدخل. فأقبلَ حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلتُ فكمنتُ، فلما دخل الناس أغلقَ الباب ثم علّق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سَمَرِه صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت عليَّ مِن داخل، قلت: إنِ القوم نُذِرُوا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، فقلت: يا أبا رافع! قال: مَن هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي، فمسحها فكأنها لم أشتكها قط"، وفي هذا الحديث الصحيح جملة نافعة من الفوائد جمعها الحافظ ابن حجر ولمعظمها تعلق بمسألتنا مع دخول مسألتنا في جملة هذه الفوائد حيث قال رحمه الله:"وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصرّ، وقتلِ من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده – يعني بمقاتلته - أو ماله – يعني بدعم من يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لسانه – يعني بالسب والأذى والتحريض ونحوه ، وجواز التجسيس على أهل الحرب، وتطلُّب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرُّض القليل من المسلمين للكثير من المشركين، حيث أرسل سرية من نفر يسير إلى حصن من حصون الكفار، والحكم بالدليل والعلامة حيث استدل ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتمد على صوت الناعي بموته والله أعلم". قال ابن تيمية رحمه الله :" فقد تبين من هذه القصة أنما تسرى المسلمون بقتله بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب أذاه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاداته له، وأنه كان نظير ابن الأشرف وقد تقدمت قصته، لكن ابن الأشرف كان معاهداً فآذى اللهَ ورسولهَ فندب المسلمين إلى قتله، وهذا لم يكن معاهداً. فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه من الكفار، فإنه كان يقصد قتلَه ويحض عليه لأجل ذلك، وكذلك أصحابه يفعلون ذلك بأمره، مع كفِّه عن غيره من الكفار ممن هو على مثل حاله في أنه كافرٌ غير معاهد، بل مع أمانه لأولئك الكفار غير السابين ولا الشاتمين أو إحسانه إليهم من غير عهدٍ بينه وبينهم"، قلت: أي أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار حتى الحربيين منهم غير المؤذين باللسان والسب والشتم والتحريض كانت سيرة معاملة بإحسان ولو لم يكن بينه وبينهم عهد، فعُلم أن معاملة القتل وإرسال السرايا وراء أمثال أبي رافع إنما كان لمعنى زائد عن الكفر وهو أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المطلوب.
20.…قصة قتل أبي عفك اليهودي: روى ابن سعد رحمه الله في طبقاته :"ثم سرية سالم بن عمير العمري إلى أبي عفك اليهودي في شوال على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخاً كبيراً قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهودياً وكان يحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول الشعر. فقال سالم بن عمير - وهو أحد البكائين وقد شهد بدراً – : عليَّ نذرٌ أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غرة، حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء وعلم به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله فثاب إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه"، فهذا آخرٌ ممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر والهجاء ويحرض عليه، قد نذر أحد الصحابة قتله وفعل ذلك من غير نكير من الله سبحانه وتعالى ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن شاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إيمان له ولا أمان وإنما له السيف يقتل مهدور الدم كما تقتل البهائم، بل إن البهائم فيها ضمان القيمة على من أتلفها وليس على قاتل مثل هذا المجرم شيء، فتأمل.(2/156)
21.…عن أنسٍ أن رجلاً كان يُتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:" اذهب فاضرب عنقه. فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ما له ذَكَر"، قال أبو محمد ابن حزم الظاهري رحمه الله:" هذا خبرٌ صحيح، وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وجبَ قتلُه، وإن كان لو فعل ذلك برجلٍ من المسلمين لم يجب بذلك قتله". وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعملون بهذا التحريم، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تقدم عليه، وقيل أنه خيرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال عمر : ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها. فوجه الدلالة أن الصدِّيق رضى الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنهما لذلك، فعُلم أنهم – أي الصحابة - كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: فإذا كانوا يرون هذا فيمن نكح أحد أزواجه صلى الله عليه وسلم وهذا مما يجوز معاملة المسلمين بعضهم بعضاً به لكن حرمه الله تعالى عليهم مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حرمة له كما تقدم، فكيف بمن سبه وآذاه وشتمه وتنقصه وطعن في عرضه ونسبه إلى الكذب أو الشر أو الفحش حاشاه بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، أليس القتل والتحريق لهؤلاء المجرمين بالجزاء المناسب لهم في الدنيا، ونكلهم إلى عذاب الله في الآخرة.
فهذه عشرة أحاديث وآثار ما بين صحيح وحسن يدل كل منها منفرداً على حكم ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بها مجتمعة، وكيف بها منضمة إلى ما تقدم من آياتٍ قرآنية لاتدع مجالاً لريبة أو شك إلا عند من تمكنت الريبة والشك من قلبه فهو أشبه بمريض أعضل مرضه فبات مستعصياً على الدواء، لا لعلةٍ في الدواء وإنما لفسادٍ في نفسه وخبثٍ في سريرته نسأل الله السلامة والعافية من ذلك كله. هذا مع العلم بأن السنة لا تزال طافحة بعشرات الأمثلة من جنس ما قدمنا، غير أني اقتصرت على المذكور بغية الاكتفاء بما لا مقال في ثبوته من جهة السند ولا غموض في دلالته من جهة المتن، واجتناباً للتطويل حيث وضعنا هذا الكتاب على الاختصار كما بينا. وأشير إلى أن من أراد تفصيلاً زائداً عما قدمنا بالنسبة للأحاديث أو أوجه الدلالة منها أو رد شبهات مثارة عليها فليعد إلى كتاب الصارم المسلول فإنه لم يترك شاردة ولا واردة مما ذكرنا، وهو أليق بطالب العلم الذي يهتم بوجوه الاستدلال والاستنباط ونحوها، فليرجع إليه من احتاج، والله الموفق.
ثالثاً: دليل الإجماع على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله:
لقد دل دليل الإجماع أيضاً على أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم حلال الدم لا إيمان له ولا أمان، ولئن كان الإجماع المنضبط هو إجماع عصر الصحابة رضوان الله عليهم، فحسبنا به إجماعاً في مسألتنا هذه، فهم أعلم بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرص على حبه وأصدق في تفديته بالأرواح والأهلون والعشائر والأوطان، وفيما يلي بعض أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
19.…قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه خكم السابِّ ؛ يُقتل على ما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك مَن لعنه أو دعا عليه، أو تمنى له مضرة، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسُخفٍ من الكلام وهُجر، ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا"
20.…قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله، وقتل المسلم إذا أتى ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار".، فذكر رحمه الله إجماع الصحابة والتابعين على هذه المسألة.
21.…قال ابن حزم الظاهري رحمه الله:" فصح بهذا أن كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافرٌ مرتدٌ يُقتل ولا بد، وبالله تعالى التوفيق"
22.…قال ابن المنذر رحمه الله :" وأجمعوا على أن على من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل"(2/157)
23.…قال ابن عبد البر رحمه الله:" وقد روي عن ابن عمر أنه قيل له في راهبٍ سب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لو سمعته لقتلته. ولا مخالف له من الصحابة علمته"، فهذا حكاية إجماع الصحابة على قتل الساب للنبي صلى الله عليه وسلم.وقال رحمه الله أيضاً:"وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئاً أنزله الله أو قتل نبياً من أنبياء الله وهو مع ذلك مقرٌ بما أنزل الله أنه كافر".
ونقل عن غيرهم من العلماء ذلك، ومن الجدير بالذكر أن الإجماع المقصود هنا هو إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين، ثم نُقل خلافٌ بين الفقهاء يتعلق بالذمي وهو خلافٌ يعود إلى مسألة انتقاض العهد وموجبات ذلك، مع ملاحظة اتفاق الجميع على انتقاض العهد، ولقد قدمنا من الآيات والأحاديث ما فيه غنية ومستند لما قرره العلماء من انتقاض إيمان وأمان من سب النبي صلى الله عليه وسلم وإهدار دمه والحض على قتله بما أغنى عن الإعادة، ثم عندما تقوم دولة الإسلام من جديد وتتمحض لنا فئة أهل الذمة بالوصف الشرعي الصحيح فيمكن النظر في تعدد أقوال العلماء في موجبات انتقاض عهد الذمي بالسب وهل يُقتل حداً أو تعزيراً على تفصيل مبسوط في مظانه من كتب الفقه، أما وحالنا اليوم حال الفسطاطين؛ فسطاط المسلمين وفسطاط الكافرين فلسنا ممن يتوقف في حكم الكافر الحربي الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم في أمثال هؤلاء المجرمين، والله الموفق.
وبهذا يكون قد اجتمع بفضل الله تعالى ومنته دليل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي نوع من أنواع السب والشتم والأذى المعنوي فإنه كافرٌ لا إيمان له ولا أمان وهو حلال الدم مهدره والشريعة تحرض على قتله والسنة دالة على جواز تعرض الفئة القليلة من المسلمين للفئة الكبيرة من الكافرين تحصيلاً للظفر بالساب وقتله والوصول إليه بكل حيلة، وهذا ما ندين لله تعالى به ونراه حقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، والله أعلم.
المطلب الثاني : بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه:
لقد تبين مما تقدم أمران ؛ أحدهما أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم كافرٌ لا إيمان له ولا أمان بغض النظر عن حاله قبل وقوع السب مسلماً كان أم ذمياً أم مستأمناً أم حربياً، فقد صار حاله بعد السب حالاً واحداً وهو الكفر وانتقاض الأمن والإيمان، وثانيهما إهدار دمه عقوبةً له على هذه الجريمة. ولما كان حكم الإمام المسلم في الكافر التخيير بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، كما كان حال المرتد المبدِّل لدينه المفارق للجماعة الاستتابة قبل القتل كان من المهم بيان عدم تناول هذه الخيارات للساب وذلك لعظم جريمته كما تقدم. ونبين هنا أن القتل هو العقوبة الوحيدة المناسبة والمتعينة على ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم نتكلم في المطلب الثالث عن حكم استتابة وتوبة الساب بإذن الله .
ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على مسألة تعيُّن قتل الذمي الساب فأجاد وأفاد رحمه الله، ونحن لن نفصل كثيراً في دقائق أحكام أهل الذمة وتعدد أقوال الفقهاء فيهم فإن ذلك مبسوط في مظانه، ولكن نتكلم إن شاء الله على الأدلة التي تحتم قتل الساب وعدم مناسبة غيره من العقوبات كالجلد أو الاسترقاق وعدم جواز غير ذلك من التصرفات الجائزة للإمام المسلم مع الأسرى الكفار غير السابين والشاتمين للنبي صلى الله عليه وسلم كالمن والفداء، وأنبه هنا على أن الخلاف بين الفقهاء خلاف متأخر عن عصر الصحابة كما قدمنا في مبحث الإجماع، كما أنه خلاف حول تحتم القتل لا حول جواز القتل فلينتبه إلى هذا الفارق حتى لا يظن ظان أن ثمة خلاف في جواز قتل الساب وإهدار دمه كما تقدم من أدلة القرآن والسنة.
أدلة تحتم قتل الساب وتعيُّن هذه العقوبة:
إن كل ما نذكره في هذا الموضع من الأدلة أو من وجوه الاستدلال على المطلوب فهو بالإضافة إلى الأدلة المتقدمة في المطلب الأول، حيث إن الأدلة المتقدمة كلها تفيد الدلالة على المطلوب لمن تأملها جيداً، ونزيدها بما يلي :(2/158)
30.…قول الله تعالى:" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصُركم عليهم ويَشفِ صدورَ قومٍ مؤمنين. ويُذهب غَيظَ قلوبهم"، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الآية فقال:"والتعذيب بأيدينا هو القتل، فيكون الناكث الطاعن مستحقاً للقتل، والسابُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكثٌ طاعنٌ كما تقدم فيستحق القتل. ولقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح دم الذين باشروا هجاءه ولم يُهدر دم الذين سمعوا الهجاء، وهذا يدل على أن موجب هدر الدم أمر زائد على مجرد الكفر وهو هنا سب الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى (ويشف صدور قومٍ مؤمنين. ويُذهب غيظ قلوبهم) دليلٌ على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن، وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من أثر الطعن أمرٌ مقصودٌ للشارع مطلوب الحصول، ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم مِن أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماءَ بعضهم وأخذ أموالهم، فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظاً أعظم منه، فالمؤمن المسدَد لايغضب هذا الغضب إلا لله، والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم، وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه (أحدها) أن مجرد تعزيره وتأديبه بغير القتل يُذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحداً من المسلمين أو فعل نحو ذلك، فلو أذهب غيظ قلوبهم في حال شتم الرسول صلى الله عليه وسلم لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل، فلا بد أن تكون عقوبة ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فوق التعزير وهذه العقوبة هي القتل، و(الثاني) أن شتمه أعظم عندهم من أن يُؤخذ بعض دمائهم، ثم لو قتل الذمي واحداً منهم لم يشف صدورهم إلا قتله، فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، وإلا لم يكن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد علينا من قتل بعضنا، و(الثالث) أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء، والأصل عدمُ سببٍ آخر يحصله، فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا، و(الرابع) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فُتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة - وهم القوم المؤمنين- من بني بكر الذين قاتلوهم ونكثوا العهد معهم مكَّنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس، فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس، فدل على أن شفاء الصدور وذهاب غيظ القلوب من نكث العهد وما هو أشد منه كسَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يحصل إلا بقتل الناكث الطاعن الساب، وهو المطلوب"، قلت: هذا الذي حرره ابن تيمية في غاية الحسن، وهو الذي يجده سليم الفطرة وسليم القلب وهو أنه لا يذهب غيظ قلبه عند سماع نبأ الشاتم إلا بقتل الشاتم ، وهذا يعرفه أحدنا لأنه أول ما يتمناه أن يمكنه الله من الشاتم للنبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، ومن لم يجد هذا في نفسه فليبكِ على نفسه أو ليجد لنفسه متبوعاً آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.
31.…قول الله تعالى:"إن شانئك هو الأبتر"،قال الإمام الطبري رحمه الله بعد ذكر أقوال المفسرين في هذه الآية:"وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله تعالى ذِكره أخبر أن مُبغضَ رسول الله هو الأقل الأذل المنقطع عقبُه، فذلك صفة كلِ من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخصٍ بعينه"، قلت: فمن كان بغضه مستوراً مبطناً عامله الله بذلك وعاملناه بظاهره، ومن أظهر بغضه للنبي صلى الله عليه وسلم وشنآنه كأن يسبه أو يشتمه عاملناه بذلك، وتعاطينا أسباب بتره وقطع عقبه حساً ومعنى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقتل، قال ابن تيمية رحمه الله:"فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر؛ والبتر القطع، يقال: بتر يبتر بتراً، وسيفٌ بتار إذا كان قاطعاً ماضياً، ومنه في الاشتقاق الأكبر تبَّره تتبيراً إذا أهلكه، والتبار الهلاك والخسران. وبيَّن سبحانه أنه هو – أي المبغض للنبي صلى الله عليه وسلم - الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد، لأنهم قالوا إن محمداً صلى الله عليه وسلم ينقطع ذِكره لأنه لا ولد له، فبيَّن الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو، والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر، ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده، وكل جرمٍ استحق فاعله عقوبةً من الله، إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله، فيجب أن نبتر مَن أظهر شنآنه وأبدى عداوته، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله وإن اظهر التوبة بعد القدرة، وإلا لما انبتر له شانيء بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف"، قلت: وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان فالبتر القطع، فمن أظهر لنا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشتمه وسبه بترناه وقطعنا ذكره وطمسنا سيرته بأيدينا والحمد لله.(2/159)
32.…قوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون"، قال القاضي عياض رحمه الله :" واستدل بعض شيوخنا على قتله – أي الذمي الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى:"وإن نكثوا أيمانهم " وذكر الآية ثم قال رحمه الله :"وأيضاً فإن ذمتهم لا تُسقط حدود الإسلام عنهم، من القطع في سرقة أموالهم، والقتل لمن قتلوه منهم، وإن كان ذلك حلالاً عندهم، فكذلك سبهم للنبي صلى الله عليه وسلم يُقتلون به"، وقال ابن تيمية رحمه الله:"إن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا، لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقَب على ذلك ويؤدب عليه، فعُلم أنه لم يعاهَد عليه، لأنا لو عاهدنه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه، وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم طعن في ديننا، فقد نكث في يمينه من بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية". وقال رحمه الله :"وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره". فهؤلاء المجرمون ليس حالهم كحال الكافر الحربي الذي تجرد عن الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وسبه، وقد تقدم تقرير ذلك، وعُلم أن هذا القدر الزائد على مجرد الكفر أعني السب والشتم والتنقص من مقام النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي لأجله أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء من قارف ذلك مع كونهم متلبسين بموجبات أخرى للقتل، وهذا الطعن هو الذي جعل هؤلاء أئمة في الكفر، بحيث حثَّت الآية هنا على قتلهم خصوصاً مما يشعر بقدر جنايتهم الزائد على مجرد الكفر، وهذا كله واضح بحمد الله وتوفيقه.
33.…قوله تعالى :" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله"، ووجه الدلالة أن إعلاء كلمة الله وتطهير الأرض من الطاعنين في دينه ورسوله مطلوبٌ شرعاً كما بينت الآية، وهذا المطلوب متعذرٌ بغير قتل الساب. وتحقيق ذلك كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية:" أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبٌ حسب الإمكان، لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبُّه ولم يُنتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهراً ولا كلمة الله عالية، بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة؛ لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين بجريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة، بل هو من ظهور الدين وإعلائه لأنهم يقَرُّون على دينهم بالذمة صاغرين منقادين لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خلافاً للساب".
34.…الأحاديث المتقدمة التي قتلت فيها نساء كافرات بسبب السب مع أن الكافرة لا يحل قتلها لمجرد كفرها: وقد تقدم حديث قتل الأعمى لأم ولده لأنها شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم أهدر دمها، وكذلك أمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل القينتين اللتين كانت تغنيان بهجائه، وهذه الأحاديث من أقوى الأدلة على أن تعين القتل هو لخصوص السب والشتم، فإن المرأة الكافرة لا يجوز قتلها فهي معصومة بالأنوثة، فلما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماء هؤلاء النسوة وحث على قتلهن تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده السبب المتمحض لقتل هؤلاء النسوة لا مجرد الكفر، فتأمل هذا فهو عظيمٌ في بابه.
35.…إن سب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من مجرد الردة: ذكر ابن تيمية هذا الدليل فقال:" إن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام، فإنه مِن المسلمِ ردةٌ وزيادة كما تقدم تقريره، فإذا كان كفر المرتد قد تغلَّظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عيناً، فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أَولى أن يتغلَّظ فيوجب القتل عيناً، لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة. وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها، ونحن قد قدمنا نصوصاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية، والمرتد يستتاب من الردة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه، فعُلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتلِه أولى". قلت: وهذا قد تقدم تقريره مراراً، ويمكن تخريج هذه المسألة على قاعدة إهدار الضرر الخاص منعاً للضرر العام؛ وتوجيهه أن الكافر المعيَّن إن اقتصر في كفره على ما في باطنه فإنه لا يضر إلا نفسه، أما إن تعدى بكفره الباطن وأظهر الطعن على الدين والسب والشتم للنبي صلى الله عليه وسلم فإن ضرره يتعدى، بسبب ما قد يؤدي إليه سبه للنبي صلى الله عليه وسلم من نفور بعض الناس عن الدين، وتوهم نسبة النقص إليه حاشاه صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا حصل فلا شك أنه ضرر عام، وفي الشريعة احتمال الضرر الخاص – وهو هنا قتل الكافر الساب الطاعن على النبي صلى الله عليه وسلم – منعاً للضرر العام وهو إعراض الناس عن دعوته صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة إن استعراض الأدلة على هذا يطول وفيما ذكرنا مضموماً إلى ما تقدم من أدلة القرآن والسنة والإجماع في المطلب الأول كفاية لمن أراد تعرف الحق، والله الموفق.(2/160)
المطلب الثالث : بيان الأدلة على عدم استتابة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حكمه إن تاب:
تبقى مسألة الاستتابة والتوبة، وبدايةً نبين أن المرتد عموماً يُستتاب وتُقبل توبته من الردة، ويبقى النظر في المرتد الساب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مسألتنا هنا، والمسألة الثانية هي عصمة دم الكافر بإسلامه ويبقى النظر في الساب للنبي صلى الله عليه وسلم إذا أسلم..
المسألة الأولى: استتابة وتوبة المرتد عن الإسلام الساب للنبي صلى الله عليه وسلم :
لقد دل الدليل على قتل هذا الساب المرتد بغير استتابة وبغير قبول توبة، كما في حديث قتل ابن خطل، قال ابن تيمية رحمه الله قال في تعليقه على قصة إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دم ابن خطل :"وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين يُقتل وإن أسلم حداً، واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربياً فقُتل لذلك، وجوابه أنه كان مرتداً بلا خلاف بين أهل العلم بالسير، وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلماً قد ألقى السلم كالأسير، فعُلم أنَّ مَن ارتد وسبَّ يُقتل بلا استتابة، بخلاف من ارتد فقط. يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة، وكان ممن أهدر دمه دون غيره، فعُلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب". وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة".
والنكتة في هذه المسألة تدور حول أمرين أولهما أن الغرض من القتل هو الزجر عن استحلال حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يحصل إلا بقتل الساب بغض النظر عن توبته، فلم يكن لاستتابته أثرٌ في منع القتل عنه فلم تجب، والثاني أن أثر الردة المجردة عن السب يمكن زواله بتوبة المرتد وعودته إلى الإسلام بل هو المطلوب، أما أثر سب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزول بالتوبة فلم يكن هناك بد من قتل الساب زجراً وردعاً وإحاطةً لحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم بسور المنعة والعزة والتوقير والتعظيم والإجلال. ثم إن هو تاب بينه وبين الله حقيقة فهو إلى الله تعالى إن قبل توبته نفعه ذلك في الآخرة.
وبطريق أخرى يمكن القول إن قتل الساب هو حد سب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حق لله وحق للآدمي؛ فإن فرضنا قبول التوبة سقط بذلك حق الله تعالى، ولم يسقط حق الآدمي وهو حق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا من السنة المستفيضة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب حقه ويهدر دم الساب ويحرض على قتله دون استتابة، هذا مع علمنا أنه كان يعفو أحياناً عمَّن سبه فأكد هذا على أن القتل هو لأجل حقه صلى الله عليه وسلم لا لمجرد الردة، إذ ليس للإمام أن يُسقط حداً لله تعالى ثبت موجبه، فإذا عُلم هذا تبين أن العفو عن حد القتل لسب النبي صلى الله عليه وسلم هو حق النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وقد تعذر إسقاطه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع دلالة الشرع المستفيضة على وجوب نصرته وتوقيره وتعزيره صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من هذه النصرة في شيء العفو عن سابِّه وشاتمه ولو تاب، فلم يكن للاستتابة معنى، والله أعلم. ولكن مِن أهل العلم من يقول بالاستتابة وقبول التوبة بناء على معاملة الساب معاملة المرتد دون نظر إلى خصوص جريمة السب، وقد بيَّنا ضعف هذا وقصوره عمَّا يجب علينا تجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن المرتد الساب إذا فُتح له باب التوبة فيحقن دمه، ثم يسب ثم يتوب أصبح هذا أشد استهزءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو طريق الزندقة، وقد كشف لنا هذا الساب عن خبث سريرته، فلم نعد نقبل منه ستر باطنه الخبيث بظاهرٍ مصطنع تبين كذبه، وهذا كحال المنافقين الذين فضحهم الله تعالى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في المنافق أن يُعامل بالظاهر، ولكن لما افتضح باطنه عاملناه به، وكذلك الزنديق، قال ابن تيمية:"فإذا علمت هذا فنقول: هذا الرجل – أي المرتد الساب للنبي صلى الله عليه وسلم - قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له، فإظهاره الإقرار برسالته الآن – أي بعد الاستتابة والتوبة ظاهراً - ليس فيه أكثر مما كان يُظهره قبل هذا – أي من الإسلام - وهذا القدر قد بطلت دلالته بسبب الشتم فلا يجوز الاعتماد عليه، وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق".
والذي يترجح في هذه المسألة والعلم عند الله أن المرتد بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يستتاب، ولا تقبل توبته في الدنيا، بل يُقتل صيانةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم وزجراً للنفوس عن استحلال حرمته، وإمعاناً في تعزيره وتوقيره وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه، وأما توبته إن كان صادقاً فيما بينه وبين الله تعالى فتنفعه في الآخرة والله أعلم.
المسألة الثانية: عصمة إسلام الكافر الساب للنبي صلى الله عليه وسلم لدمه من القتل:(2/161)
إذا أسلم الكافر قُبِل إسلامه وليس النظر في هذا،وإنما النظر في استصحاب تحتم وتعيُّن قتل الكافر إذا أسلم وكان قد سب النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأفاد في عرض أدلة هذه المسألة حيث بيَّن بأكثر من عشرين طريقة، وبما لا يترك مجالاً للشك أن حكم الكافر الأصلي الساب للنبي صلى الله عليه وسلم هو كحكم المرتد الساب يُقتل لموجب السب مع قبول إسلامه. والدليل على ذلك مجمل الأدلة المتقدمة في المسألة الأولى بل في الكتاب كله، إذ أنها إذا كانت نافذة في المرتد مع ما له من سابقة الإسلام فلأن تنفذ في الكافر الأصلي ذمياً كان أم مستأمناً أم حربياً أحرى وأولى، ونضيف إلى ما سبق ما يلي من الأدلة:
10.…قول الله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر"، قال ابن تيمية في هذه الآية :"وكل جرمٍ استحق فاعله عقوبةً من الله، إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله، فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله وإن اظهر التوبة بعد القدرة، وإلا لما انبتر له شانيء بأيدينا في غالب الأمر، لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف". قلت: وهذه الآية خبرٌ من الله تعالى بمآل مَن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم وشانه، وهذا الخبر كما أنه مجمول على الواقع بالنسبة لأعيانٍ انتقم الله تعالى منهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه محمولٌ أيضاً على الطلب من المؤمنين الموحدين أتباع محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه بأن يجدّوا في تعاطي أسباب قطع دابر كل من تسول له نفسه التطاول بالسب والشتم والأذى على النبي صلى الله عليه وسلم.
11.…قصة أنس بن زنيم الديلي : قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"ذكر ابن إسحاق في المغازي أن عمرو بن سالم الخزاعي خرج في أربعين راكباً يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش، فأنشده: لاهم إني ناشدٌ محمداً عهدَ أبينا وأبيه الأتلدا ..الأبيات، ثم قال: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم هجاك، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغه ذلك فقدم عليه معتذراً، وأنشده أبيات مدحه بها، وكلَّمه فيه نوفل بن معاوية الديلى فعفا عنه، وهكذا أورد الواقدي والطبري القصة لأنس بن زنيم"، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن أنس بن زنيم الديلي الذي ذُكر عنه أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءه وأنشده قصيدةً تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهداً، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وجعل أنس يسأل العفو عنه حتى عفا عنه، فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد مستحقة لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمه، ولا احتاج إلى العفو عنه، ولولا أن للرسول صلى الله عليه وسلم عليه حقاً يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه، كما لم يكن يحتاج أن يعفو عمن أسلم ولا تبعة عليه، وهذا الحديث لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدين ثم أسلم"، قلت: فلقد صح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"، فهذا الحديث يدل على أن مجرد الإسلام يعصم الدم فلا يحتاج معه إلى عفو، فلما أتى أنس النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً كان الأصل يقتضي أن يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم منه بذلك فيحقن دمه، ولكنه جاء مسلماً ومعتذراً عن الهجاء حتى تكلم بعض الصحابة في عفو النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن حق النبي صلى الله عليه وسلم في قتلِ مَن سبه لا يسقط بمجرد إسلام الكافر أو المعاهد، وإنما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم إسقاطاً لحق نفسه، وهذا العفو متعذرٌ تحققه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فنبقى على الأصل من وجوب قتل الساب الكافر وإن أسلم، وينفعه إسلامه في الآخرة عند الله تعالى إن كان صادقاً مخلصاً فيه، والله أعلم.(2/162)
12.…عن مصعب بن سعد عن سعد قال:" لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بايِع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"، فهذا جاء مسلماً تائباً ومع ذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعته ينتظر أن يقوم إليه أحد أصحابه فيقتله بسبب ما كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن إظهار الإسلام لا يمنع قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ،قال ابن تيمية رحمه الله :"إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد، وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ونذر بعضُ المسلمين ليقتلنه. ثم حبسه عثمان أياماً – يعني يوم الفتح - حتى اطمأن أهل مكة، ثم جاء به تائباً ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره. ففي هذا دلالة على أن المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعن عليه قد كان له أن يقتله وأن دمه مباح، وإن جاء تائباً مِن كفره وفِريته، لأن قتله لو كان حراماً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، ولا قال للرجل: هلا وفيت بنذرك بقتله! وعبد الله بن سعد إنما جاء تائباً ملتزماً لإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، بل جاء بعد أن أسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه كان مريداً لقتله، وقال للقوم: هلا قام بعضكم إليه ليقتله، و هلا وفيت بنذرك في قتله. فعُلم أنه قد كان جائزاً له أن يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار، وإن جاء مظهراً للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه، وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه يجوز له قتل فاعله وإن أظهر الإسلام والتوبة". قلت: وهذا الحديث يكاد يكون نصاً في الباب، فصورته هي عين المسألة التي بين أيدينا، والحقيقة إن من تأمل المسألة من جهة حق النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكافر الأصلي والذمي والمسلم إن وقع من أحدهم سب النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثلاثة أدلة مستقلة تضاف إلى ما تقدم من أدلة من القرآن والسنة الدالة على تحتم قتل الساب، وهي هنا تكاد تكون نصاً في مسألة الساب الكافر إن جاء مسلماً. والذي يترجح والعلم عند الله تعالى أن الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء مسلماً، فإنه يُقتل بسبب سب النبي صلى الله عليه وسلم لا فرق بينه وبين المرتد كما تقرر وتقدم آنفاً، والنكتة هنا كالنكتة هناك من حيث تعلق السب بحق النبي صلى الله عليه وسلم ولا مسقط له بعد موته، ومن حيث واجب التعظيم والتوقير والإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حيث دلالة حوادث السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريداً قتل هؤلاء مع ما عُلم من سنته من العفو عند المقدرة، والله تعالى أعلم.
والحاصل هنا أننا لم نفرق بين المرتد والكافر الأصلي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتحتم قتله متى أمكن ذلك، إذ لا معنى للتفريق بين نوعي الكفار، ولئن تنزلنا مع القول بأن للذمي نوع عهد وأمان يوجب له حقاً فإن حقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأعظم وأحرى أن يراقَب من الحق المزعوم لذلك الساب، والحمد لله.
الفصل الخامس: رد شبهات حول حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم
إننا مع كل ما قدمنا من أدلة نجد أنفسنا اليوم أمام تراكماتٍ من الشبهات وسُحب التضليل التي تريد أن تتقدم بين يدي الله ورسوله برأي، وأن تواجه نصوص الشريعة باجتهاد تزين لها أنفسها أنه أنسب لروح العصر وأوفى بمتطلباته وأليق بحضارته، وحسبنا في هذا المقام أن نضع نصب أعيننا منهج الصحابة رضوان الله عليهم في التعامل مع نصوص الوحي ولو كان حديث النفس وداعية الرأي على خلافها، ففي الصحيح عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال:"يا أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"، أي ومع ذلك لم أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وحديث سهل بن حنيف وعمر بن الخطاب وإن كان يدل على ذم الرأي لكنه مخصوص بما إذا كان معارضاً للنص، فكأنه قال اتهموا الرأي إذا خالف السنة"، قلت: وهذه قاعدة كلية يجدر بالمسلم أن يعيها ويعمل بها : اتهم الرأي إذا خالف السنة.(2/163)
إن ما تقدم من أدلة مستفيضة متضافرة تدل دلالة محكمة لا ريب فيها على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم منتقض الأمن والإيمان مستحق للقتل ليس رأياً لنا نزينه للناس، وليس رأياً شاذاً استخرجناه من خفايا الكتب والشروح، بل هو دليل القرآن الذي نتلوه صباح مساء، ودليل السنة المطهرة التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم نقيةً بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، ولقد بيَّنا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم العملي قولاً وفعلاً للأصول القرآنية الدالة على هذا، وليس بعد السنة الشارحة المبينة للقرآن قولاً وفعلاً مجال للتقدم برأي أو تأويل أو تفسير لكتاب الله تعالى. بقي أننا في زمان تراكمت فيه الشبهات إما لجهلٍ أو ضلال أو تضليل فمنعت صدور الموحدين من تلقي نور الوحي، فلم تنقدح في قلب المؤمن عقيدةُ لا إله إلاالله محمد رسول الله على الوجه الذي انقدحت به في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا بهم يسودون العالم فاتحين ومحررين للإنسان كل الإنسان من عبودية الطاغوت إلى عبودية الرحمن الرحيم، ولا بد لنا اليوم ونحن نجابه هذه الحملة الشرسة على الإسلام، والتي يتمحور كثير منها حول الطعن في نبي الرحمة ومصباح الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام، من أن ننتصر لنبينا صلى الله عليه وسلم حباً وفداءً له، وقياماً بواجب الجهاد في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته ونشر سنته صلى الله عليه وسلم، وتحقيقاً لمصداقيتنا المفقودة أمام الأمم إذ ندَّعي أننا أتباع خير الأنبياء ثم نتقاصر عن تفديته بالأموال والدماء. ولما كان الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المذكور تنتابه بعض الشبهات رأيت من المناسب استعراض شيء من ذلك استعراضاً سريعاً كي نتحرر من كل الموانع التي تعوق نهضتنا لنصرة خاتم الأنبياء على الوجه الذي سنه لنا صلوات الله وسلامه عليه، لا سيما وأن معظم هذه الشبهات مما له علاقة بواقعنا المعاصر؛ واقع الخذلان أقول لا واقع الضعف، فإن ما نحن فيه اليوم خذلان لا ضعف عند النظر والتأمل، ولن نستطيع أن ننهض من هذا الواقع إلا بهبة رجل واحد ننتصر فيها لنبينا صلى الله عليه وسلم ونقطع دابر كل متطاول خبيث على مقام خير خلق الله أجمعين،والله المستعان.
الشبهة الأولى :التنصل من حكم الإسلام في قتل هؤلاء المجرمين بحجة نفي الإرهاب والعنف عن الإسلام وبحجة عدم القدرة على هؤلاء مما يثير الفتنة والبلابل ويشوه صورة الإسلام:
جواب الشبهة الأولى: هذا كله هراءٌ محض، أما الحجة الأولى فمردودة لأن أحكام الإسلام لا يضرها أن يسميها الجهلة ما يريدون، ولقد ثبت بالقرآن والإجماع وجوب قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقدمت الأدلة على ذلك. ولقد سمى الكفار قديماً رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحراً ومجنوناً وشاعراً حاشاه صلوات الله وسلامه عليه فلم يمتنع عن دعوة الناس وتبليغ رسالة رب العالمين بذريعة منع تسمية الكفار له بذلك! وأما الحجة الثانية فمردودة أيضاً لأن عدم التمكن من إقامة الحكم شيء وإنكار الحكم شيء آخر، وهذا على فرض عدم التمكن من إقامة الحكم في هؤلاء الصعاليك المجرمين. فنحن نتكلم في المقام الأول عن بيان حكم الله ورسوله في هؤلاء المجرمين ثم يُنتقل إلى تطبيق الحكم، ولو صدقنا الله تعالى في السعي إلى ذلك ليسره الله تعالى لنا، ومن يزعم اليوم أننا في واقع ضعف فهو بين واهمٍ ومرجفٍ مخذِّل؛ إن واقعنا اليوم واقع خذلان لا واقع ضعف، والدليل أننا نجد من انتصارنا لأنفسنا ولدنيانا ومرادات نفوسنا حكاماً ومحكومين أضعاف أضعاف ما نجد من انتصارنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كان هذا حاله كان خاذلاً متخاذلاً، ولم يكن ضعيفاً مقهوراً اللهم إلا أمام شهوته وطاغوته ووليه من دون الله.(2/164)
ولا بد لنا هنا من كلمة حول مسألة العنف في الإسلام ومعالجة الإسلام لبعض الظاهر بالقوة والسيف بدلاً من الحجة والبرهان. فإن مَثلَ هذا مثل من كان في جسده مرضٌ فنظر الطبيب في نوع مرضه ليقرر العلاج النافع له؛ فمن كان مرضه ضعفاً عاماً في الجسد مع سلامة الجسد من الآفات الخبيثة وصف له ما يقوي بدنه ويقيم صلبه، ومن كان مرضه ناجماً عن انعقاد مادة سمية في الجسد وصف له ترياقاً ناجعاً يقاوم السم ويُذهب أثره، ومن كان مرضه نتناً خبيثاً كالغرغرينا والسرطان لم يصف له الطبيب إلا بتراً لذاك العضو المصاب بذلك، وهذا البتر مع ما فيه من ضرر وشدة فهو العلاج الوحيد الناجع لاستنقاذ بقية البدن، ومن كان مرضه وباءً يفتك به وينتشر إلى غيره لم يكن بد من حجره وإبعاده عن الناس مع ما في ذلك من الإضرار به.. فمثل المريض الأول المؤمن الذين تنتابه حالات ضعف وفتور في إيمانه لِغَلَبةِ شهوة فهذا ينفع معه تقوية الإيمان بالاستزادة من الطاعات والأذكار الشرعية، ومثل المريض الثاني مثل من شابت قلبه شائبة شبهة أو تأويل فاسد مانع من قبول الحق، فإذا نفيت عنه الشبهة وبينت له وجه الحق انتقع بذلك ما كتب الله تعالى له الانتفاع، ومثل المريض الثالث مثل المعاند الجاحد الذي عرف الحق فرفض الانقياد له عناداً وجحوداً فلم ينجع في ردعه إلا التهديد بالسيف أو إنفاذ ذلك السيف فيه إن لم يرعوي، كتارك الصلاة لا عن شبهة ولكن عن عناد وإصرار ، وأما المريض الرابع فمثله مثل أئمة الكفر المعاندين الجاحدين المحاربين ولكن لم يكتفوا بذلك حتى أصبحوا ينشرون أذاهم بين الناس يدعون إلى سبيل الباطل فهؤلاء لا بد من استئصال شأفتهم رأفة بالناس من حولهم، وهذا هو حال الطاعن الساب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو العنف والإرهاب في الإسلام يوضع في موضعه الصحيح، تماماً كما يضع الطبيب مِشرطه ومِبضعه من العضو النتن لينقذ حياة المريض، وكما يضع الحاكم سيفه على المجرمين قطاع الطرق حفظاً للأمن العام، والله الموفق.
الشبهة الثانية: ادعاء أن سب النبي صلى الله عليه وسلم جزء مما يعتقده الكافر الذمي وهو من دينه، وقد أقررناه بعقد الذمة على دينه فكيف نقتله بجزء مما يعتقده؟
جواب الشبهة الثانية:
هذه الشبهة شبهة سقيمة بل شبهة مشبوهة، لأننا ما أقررنا أهل الذمة بعقد الذمة على إظهار ما يدينون به، وإنما أقررناهم على دينهم بالجملة فيما بينهم فلا يظهرون منه شيئاً علانية لا سيما ما يتنقص به من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد سبق بيان أن شرط الذمة بذل الجزية والانقياد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خرق أياً من الشرطين خلع الذمة ونقض العهد، فكيف بمن أظهر سب نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي عياض رحمه الله :"قال محمد بن سحنون: فإن قيل : لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه وسلم ومِن دينهِ سبه وتكذيبه؟ قيل: لأنا لم نعطه العهد على ذلك ولا على قتلنا وأخذ أموالنا، فإذا قتل واحداً منا قتلناه وإن كان من دينه استحلاله، فكذلك إظهاره لسب نبينا صلى الله عليه وسلم" .هذا كله قاله العلماء في أهل الذمة فما بالك بمن لا ذمة له اليوم ولا عهد من الكفار المحاربين المستبيحين لحرمات الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أي هراء هذا الذي لا يقبله أحدنا مع نفسه، وأي منا يقبل إذا سمع أحداً يسبه ويشتمه أن يسكت عنه لأن الساب والشاتم يعتقد في قلبه ودينه أنه مستحق لهذا السب والشتم، هذا إلى كلام المجانين أقرب منه إلى كلام العقلاء الفاهمين، ولكنها ضلالات الشيطان تتردى بأهلها في مهاوي الجهل وظلمات الهوى، نسأل الله العافية من ذلك.
الشبهة الثالثة: ادعاء أن سب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم سببه عدم معرفتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتقصير المسلمين في ذلك:
جواب الشبهة الثالثة:
وهذه الشبهة من أعجب ما رأيت وسمعت، ولقد تناولتها بالرد في مقال مفرد أوجز منه ما يناسب موضوعنا هذا مستعيناً بالله عز وجل؛(2/165)
لقد ظهر بعض الكلام في معرض ردود الأفعال تجاه بعض جرائم السب المعاصرة التي تناولت بها بعض الأيدي والألسن قطعها الله مقام نبينا صلى الله عليه وسلم بالسخرية والاستهزاء ما يفسر هذه الجرائم بتقصير المسلمين في تعريف الغير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبتقصير المسلمين في التعريف بالإسلام ونحوه. وإن أحداً لا ينازع في أننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم اليوم مقصرون في القيام بأمر الإسلام، غير أن هذا لا يمكن قبوله تفسيراً لجرائم القوم ولا تبريراً لمهادنتهم. نعم لو كان المشتوم نحن المسلمين لقبلنا ذلك، ولو كان المتنازَع فيه بيننا وبينهم سوء فهم مبدأ من مبادئ الإسلام، أو نسبة أمرٍ مغلوطٍ إليه لكان للحجاج والجدل بالتي هي أحسن موضع، أما وقد شتموا شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما لا تتعلق به شبهة عقلية، ولا تتعلق به حرية اعتقادية، ولا تتناوله مساحات التأويل العقلي الفاسد. فإن غاية ما يتعلق به كفر الكافر استكبارٌ عن قبول الحق أو فسادٌ في فهمه، وإن غاية ما تتيحه مساحة الاختيار للمكلفين هو تصديق الشرع والانقياد له أو الجحود له والإعراض عنه، كما بيَّن الله تعالى في قوله :" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وهذا التخيير كما لا يخفى للتهديد، كما قال الإمام الطبري رحمه الله :" وقد بيَّنّا في غير هذا الموضع بأن العرب تُخرج الكلام بلفظ الأمر ومعناها فيه النهي أو التهديد والوعيد، كما قال جل ثناؤه فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، والحاصل أن هذه هي مساحة الاختيار للمكلف وهو اختيار تكليف يترتب عليه وعدٌ ووعيد، لا اختيار حرية ينجو المرء فيه باختياره ويسعد كائناً ما كان اختياره. فغاية ما يُقال في شأن الكافر أنه أعرض عن الشرع جهلاً أو تأويلاً أو جحوداً أو استكباراً،فالجاهل يُعلَّم، والمتأول يُفهَّم، والجاحد يُذَكّر، والمستكبر يُخوَّف، فإن زالت عوارض الكفر ففضلٌ من الله وإن لم تزُل فلا عدوان إلا على الظالمين. وليس من لازم أي واحد من العوارض السابقة إيقاع الشتم والعدوان على مُبلِّغ الرسالة صلى الله عليه وسلم حتى يُعتذر عن هذا الشتم بالكفر أو بجهالة حق المبلِّغ ومقامه وفضله صلى الله عليه وسلم، فعُلم ضرورة عقلية ما هو معلومٌ ضرورةً شرعية أن الاعتداء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم جريمة مستقلة لها اتصال بجريمة الكفر من وجه، ولها انفصال من وجه آخر، وهذا الموضع هو الذي يستزل قدم بعض المخلصين أو الغيورين أو أصحاب النوايا الحسنة من المسلمين إلى مهادنة هؤلاء المجرمين بحجة الخطاب الهادئ والحوار الناجع، ولعمري إن المقام هنا مقام انفكاك في الجهة بين جريمة الشتم وجريمة الكفر، يدلك على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أمره بقتل كعب بن الأشرف :" مَن لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال: نعم "، قال القاضي عياض رحمه الله بعد أن ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب :"ووجَّه إليه مَن قَتَلَهُ غيلةً دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل قتله بأذاه له، فدل على أن قتله إياه لغير الشرك، بل للأذى"، قلت: رحم الله القاضي العياض ما أفقهه، وهل الفقه إلا الوقوف عند كلام الله ورسوله، فلقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بعلة القتل هنا وهي الأذى، فلم يعد هناك مجال للتقدم بين يدي الله ورسوله برأي وتبرير وتفسير، وعُلم أن الشتم والأذى جريمة مستقلة عن جريمة الكفر من هذا الوجه.
ثم إن العجيب ممن يقول إن شتم هؤلاء المجرمين للنبي صلى الله عليه وسلم سببه تقصيرنا وجهلنا في التعريف به، وكيف يسب أحد شخصاً لا يعرفه؟ فمن أين لهم إذاً تحديد اسمه وصفته ونسبة دين الإسلام إليه ونشأته في جزيرة العرب ونسبة ما جاء به صلى الله عليه وسلم إلى التخلف الحضاري لعرب الجزيرة ونحو ذلك من المعلومات التي لا بد لحصولها في ذهن الشاتم من اطلاع على شيء من حياة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن مثل هذا مثل من جاء إلى أحدنا فشتم أباه باسمه فقال له : إنك تشتم أبي لأنك لا تعرفه ولأني قصرت معك في تعريفك بمناقب أبي فهلا تفضلت بالجلوس معي حتى أستطيع أن أعرفك بذلك كله عسى أن تكف عن شتم أبي ؟ أي عاقل يقبل مثل هذا في حظ نفسه وأبيه حتى نقبله في حق أكرم الخلق على الله تعالى، سبحانك هذا بهتان عظيم.
إن من شتم محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عرف محمداً، نعم، قد لا يكون عرفه حق المعرفة، لكنه لم يتوجه بسبه وشتمه إلى معدومٍ في ذهنه، ولم يتوجه بحقده ولؤمه إلى وهمٍ في مخيلته، وإن مَن هذا حاله مظنة قول الله تعالى :" إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً"، فليعش هؤلاء المجرمون كالفئران يفرون من جحر إلى جحر، ويهلعون لرؤية مسلم يخشون انقضاضه عليه، أو أي جندٍ آخر من جند الله عز وجل، وما يعلم جنود ربك إلا هو، أما أن يهنأ هؤلاء بمهرجانٍ ثقافي سخيف أو بدعوة لحضور مؤتمر حوار أديان، أو أن يكون غاية انتصارنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعض مأكولاتهم ومشروباتهم، فليس مما ننتصر به لرسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، بل ليس مما يقبله أحدنا انتصاراً لنفسه أو أبيه أو قومه ، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا فليُفق هؤلاء وليُعلم أن المقام مع هؤلاء مقام ردعٍ وترهيب لا مقام دفع شبهات وتعليم، وقد قال الشاعر :(2/166)
ووضع الندى في موضعِ السيفِ بالعلا……مُضِرٌ، كوضع السيف في موضع الندى
والحاصل أنَّ مَن شتم النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه مكانه صلى الله عليه وسلم من الدين وإلا لم يتوجه بالسب إليه إغاظةً لنا، ومثل هؤلاء يحتاجون أن يُعرفوا بحقه بإرغام أنوفهم لأنهم ليسوا من جنس المتأول صاحب الشبهة فيتوجه إليه بالبيان، وإنما هم من جنس المحارب المعلن ببغضه فيتوجه إليه بالسنان، في حين تتوجه الدعوة بالبيان والتعريف به وبسيرته صلى الله عليه وسلم للكفار الجهال جهلاً محضاً متجرداً عن إيذاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
الشبهة الرابعة: أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر إذا كان مستحلاً للسب أما إذا لم يكن مستحلاً له فإنه يفسق فقط ولا يكفر:
جواب الشبهة الرابعة: لقد استقصى شيخ الإسلام هذه الشبهة الواهية والقول الشاذ وفنده أحسن ما يكون، وأنا أوجز من كلامه ما تمس الحاجة إليه بإذن الله، حيث قال رحمه الله برحمته الواسعة:
"يجب أن يُعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلةٌ منكرة وهفوةٌ عظية، وانما مرد مثل هذه الشبهة والهفوة إلى مقولة الجهمية الإناث الذين ذهبوا إلى أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب، وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتضِ عملاً في القلب ولا في الجوارح. ومن المقرر المعلوم أن الإيمان قول وعمل بالقلب واللسان والجوارح كما هو مذهب الأئمة كلهم مالك وسفيان والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة،وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل وإنما الغرض التنيبه على ما يخص هذه المسألة أي بيان فساد وبطلان تعليق كفر الساب على الاستحلال، وذلك من وجوه:
(أحدها) إن هذا القول قول شاذ مأثور عن بعض المتكلمين ممن لا يُعد قوله قولاً، فلا يظن ظانٌّ أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل في كفر الساب بالاستحلال، بل الفتوى على أن نفس السب كفر، (الثاني) أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال، واعتقاد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب، ولكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي عُلم أن الله تعالى قد حرَّمها، فإن من فعل شيئاً من هذه المحرمات مستحلاً كفر، مع أنه لايجوز أن يُقال: مَن قذف مسلماً أو اغتابه كفر ثم يقول إنه يعني بذلك اذا استحله، فتبين أن فعل المحرَّم شيء واستحلاله شيء آخر، ولا تلازم بين الأمرين؛ فقد يفعل الحرام معتقداً تحريمه فلا يكفر، وقد يستحلّه ولا يفعله فيكفر، وقد يكون نفس الفعل كفراً ولا يحتاج إلى النظر في استحلال فاعله له كما هو حال سب النبي صلى الله عليه وسلم، (الثالث) أن اعتقاد حل السب كفرٌ سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن، وعلى هذا لا أثر للسب في التكفير وجوداً وعدماً وإنما المؤثر هو الاعتقاد وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء من أن السب بنفسه كفر، (الرابع) يلزم من هذا القول الفاسد وهو زعم أن المكفِّر هو اعتقاد الحل أن لا يكون في السب نفسه ما يدل على أن الساب مستحلٌ فيجب أن لا يُكفَّر، لا سيما إذا قال: أنا أعتقد أن هذا حرام وإنما قلته غيظاً وسفهاً أو عبثاً أو لعباً، كما قال المنافقون:"إنما كنا نخوض ونلعب"، فإن قيل: لا يكونون كفاراً فهو خلاف نص القرآن، وإن قيل يكونون كفاراً فهو مناقض لزعمهم عدم وجود أثر لنفس السب إذا لم يجعل نفس السب مكفراً وهذا باطل، فلزم أن يكون نفس السب كفراً كما نص القرآن الكريم، ولهذا قال سبحانه وتعالى:"لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم" ،ولم يقل :قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب، فبيَّن أنهم كفروا بعد إيمانهم بنفس هذا الخوض واللعب، وهذا واضح.(2/167)
وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخَلَف أن السب بنفسه كفر استحله الساب أو لم يستحله، فالدليل على ذلك جميع ما تقدم من الدليل على كفر الساب من الآيات والأحاديث والآثار، فإنها أدلة بيِّنة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجوداً وعدماً، إذ لو كان الكفر المبيح للدم هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفير الساب وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهوراً تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء، وهذا خلاف ما تقدم من الأدلة. والحقيقة أن منشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم أنهم رأوا أن الإيمان هو مجرد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به دون الانقياد له، وظنوا أن اعتقاد صدقه صلى الله عليه وسلم لا ينافي السب والشتم بالذات، وغاب عن هؤلاء أن السب إهانة واستخفاف، وأن الانقياد للأمر إكرامٌ وإعزاز، ومُحالٌ أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، وهذا هو بعينه كفر إبليس؛ فإنه سمع أمر الله له فكان مصدقاً للخبر، ولكنه لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافراً، وهذا موضعٌ زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق، ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب، وكفره مِن أغلظ الكفر فيتحيرون، ولو أنهم هُدوا لما هدي اليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قولٌ وعمل، فيصدق القلب أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقاً يوجب حالاً في القلب وينقاد لأمره ويستسلم، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين: التصديق بالخبر والانقياد للشرع، فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد إنك نبي، ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق. ألا ترى أن مَن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبراً وأمراً، فإنه يحتاج إلى مقامٍ ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله؛ فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: وأشهد أن محمداً رسول الله، تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله وانقياده لأمره، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الاقرار، ويلزم الأصل الآخر وهو الانقياد. والشاهد هنا أن هذا مما يبين أن الاستهزاء بالله ورسوله بالسب والشتم ينافي الانقياد له والطاعة منافاةً ذاتية، ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقاداً لأمره صلى الله عليه وسلم، فإن الانقياد إجلالٌ وإكرام، والاستخفاف إهانةٌ وإذلال، وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعُلم أن الاستخفاف والاستهانة نفسها تنافي الإيمان منافاة الضد للضد".
قلت: والحاصل أن محل هذه الشبهة عند من اختل مفهوم الإيمان لديه، وهذا يستدعي المسارعة إلى تصحيح هذا الخلل لأنه على حافة جرف خطير جداً، فالإيمان الذي هو تصديق الخبر والانقياد للشرع له آثار في الظاهر تحتم وجود بعض أنواع القول والفعل وهي التي بها ينعقد أصل الإيمان وتوجب بعض أنواع القول والفعل وهي التي يتحقق بها الإيمان وتحث على بعض أنواع القول والفعل وهي التي يكمل بها الإيمان، وفي المقابل لا بد أن يمتنع ظهور بعض أنواع القول والفعل وهو الذي يقدح في أصل الإيمان، ويمتنع ظهور أنواع أخرى من القول والفعل وهو المخل بالإيمان، وتحث على ترك أنواع من القول والفعل وهي التي تنافي كمال الإيمان، وأنت إذا نظرت إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم جزمت أنه من نوع القول والفعل الذي لا بد أن يمتنع من انعقد أصل الإيمان في قلبه من أن يظهر على لسانه وجوارحه، وبالله التوفيق.
هذه بعض الشبهات التي رأيت من المناسب التعرض إليها، ولقد ذكرت في الجواب عليها ما تمس الحاجة إلى معرفته، وأنضح من أراد الاستزادة بالعودة إلى الأصل أعني كتاب الصارم المسلول لتفصيل الجواب فيما لا يحتمل مقامنا هنا التفصيل فيه، والله تعالى أعلم.
الخلاصة(2/168)
إن حال الأمة اليوم لا يخفى على أحد، ولكن خيرية هذه الأمة وبقاء الطائفة المنصورة فيها إلى أن يأتي أمر الله لا يخفى على أحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولقد سلك الغيورون من أتباع هذا النبي الكريم بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه مسالك شتى في التعامل مع صعاليك الكفر المتجرأين على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست أنازع في حسن نية المخلصين نحسبهم والله حسيبهم، ولكننا ننازع في مسلك اللين والمفاوضة بالحجة والبرهان مع من حقه المقارعة بالسيف والسنان، فلما وجدنا هذا التنازع التزمنا بأمر الله تعالى حيث قال:"يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً"، فتحاكمنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوجدنا فيه حكم هؤلاء تكفيراً وتقتيلاً فالتزمنا به عقيدةً ندين لله تعالى بها وننصر نبينا صلى الله عليه وسلم بها، ونحن ندعو كل مسلم إلى اعتقاد حكم الله تعالى في هؤلاء ونشره على الملأ كي يتسنى لنا الاجتماع على تعاطي أسباب تطبيق هذا الحكم، ولربما كان من بركة النبوة أن يكون الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم عقيدةً وعملاً بداية عودة إلى تحكيم دين الله وشريعته عقيدةً وعملاً، فإذا بنور النبوة يشرق في نفوسنا من جديد لتضيء الدنيا بشمس الرسالة كما أضاءت منذ أربعة عشر قرناً، ولتتراجع كائنات الظلام إلى جحورها، وينقطع دابر الكفر ويُقمع طواغيته من جديد. ولعمر الحق إذا لم نجتمع اليوم على نصرة النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به صلى الله عليه وسلم فمتى نجتمع؟ وإذا أخضعنا غضبنا اليوم للنبي صلى الله عليه وسلم لبروتوكولات الأمم الطاغوتية والأعراف الدولية فمتى يتحرر الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد؟
ثم ما بال البعض منا اليوم يشكك في أهمية بث العقيدة الصحيحة والموقف الصحيح بحجة تعذر العمل؟ ومن قال إن انعقاد حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القلب ليس عملاً، ومن قال إن هذا الانعقاد لا يورث من العز والمنعة ما يظهر معه أثره باللسان والجوارح، فإذا بعقيدة الإيمان تزمجر في أرجاء الكون، فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبيٍ بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، قلت: فهذا صريح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدنى مراتب الإيمان اعتقاد الحكم بالقلب ثم يكون السعي بنشر الحكم باللسان ثم يكون تطبيقه باليد، ولئن تعذر الأخيران لظرف ما، فما العذر في عدم انعقاد القلب على حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل! ولئن كان الجهاد باللسان واليد مقدراً بالاستطاعة فإن جهاد القلب وغضبه للحق لا يكون إلا تاماً كاملاً لا تردد فيه ولا اختلاج، ولا مراعاة ولا مداهنة، فمن لم يجد في قلبه الغضب الكامل تجاه انتهاك حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليخشَ على نفسه، فإن هذا لا يتقدر بالاستطاعة إذ لا مُكرِه لقلبه ولا سيطرة لأحد عليه إلا الله عز وجل، والله تعالى لا يحول بين المرء وبين الإنكار القلبي التام أعني بطبيعة الحال قلب المرء المؤمن.(2/169)
غير أننا ننبه على أمر دقيق هنا، وهو أن إهدار دم شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم يفتح الباب واسعاً أمام كل واحدٍ من جند الرسول صلى الله عليه وسلم للفوز بشرف نصرته، وقد تقدم معنا في الأدلة أن من الصحابة من تقدم بقتل شاتمة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الرجوع إلى (الحاكم) فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومنهم من نذر قتل الساب مع أنه ليس من السلطة المخولة بإقامة وتنفيذ الحدود الشرعية فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومنهم من استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالحيلة والمكر وصولاً إلى الإغارة على الكافر الساب في عقر داره متوهماً أمانه فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ومنهم من خرج بأمر (الدولة) دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية صغيرة تغزو عقر دار الكافرين المتفوقين عدداً وعدةً فيما يشبه اليوم فرق المغاوير لتنفيذ حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في قتل شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم كائناً من كان وفي أي مكان كان، ومنهم من كُسرت ساقه في سياق ذلك، ومنهم من فدى بنفسه وأمه في ذلك فأقرهم الوحي على ذلك كله، روي عن حسان بن عطية قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم ابن رواحة وخالد، فلما صافّوا المشركين أقبل رجلٌ منهم يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من المسلمين: أنا فلان بن فلان، وأمي فلانة، فسبَّني وسب أمي وكُفَّ عن سب رسول الله. فلم يزده ذلك إلا إغراءً، فأعاد مثل ذلك، وأعاد الرجل مثل ذلك، فقال لئن عدت الثالثة لأرحلنك بسيفي، فعاد فحمل عليه الرجل، فولى الرجل مدبراً فأتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه، فأحاط به المشركون فقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أعجبتم من رجلٍ ينصر الله ورسوله"، ثم إن الرجل برأ من جراحته فأسلم وكان يسمى الرحيل"، نعم، أعجبتم من رجلٍ ينصر الله ورسوله، ويفدي بعرضه عرض محمد صلى الله عليه وسلم، ويخترق صفوف الكفار موقناً بالهلاك متتبعاً ذلك المجرم الساب للرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت: لن تعدم أمة الإسلام اليوم أمثال هذا، فانظر يا رعاك الله في سيرة الصدر الأول من الصحابة والتابعين كيف كان هديهم في الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اعقد القلب على متابعتهم وأعد العدة للعمل على سننهم دون انتظار إذن أحد، فتلك علامة صدق القلب، قال تعالى:" إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون. ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عُدةً ولكن كرِه الله انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"، فلا يكن حالنا كحال المنافقين وليكن دأبنا دأب خير القرون الذين آووا ونصروا ووقَّروا وعزَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا خير الحواريين لخير رسل الله أجمعين.
وختاماً، فهذا جهد المُقصِّر وزاد المُقِل، فأسأله سبحانه وتعالى أن يجبر الكسر ويعفو عن الزلل، وأن يجعل ما كتبناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وأن يجعله من جنس الانتصار لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وها نحن نعلن على الملأ أننا جنده المخلصون رهن أمره وإشارته، متى أمرنا ببذل نفوسنا بذلناها، ومتى أمرنا بسفك الدماء سفكناها، ننتهي بنهيه، ونأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم، ولا نتقدم بين يديه بشيء من تفاهات عقولنا ولا شهوات نفوسنا، وكل غالٍ في سبيل توقيره وتعظيمه وإجلاله رخيص، وكل أمر الدنيا في مقابل أن يُشاك بشوكة في قدمه حقير، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين مِن قبلنا، ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم في الأولين وصلى الله عليه وسلم في الآخرين، وصلى الله وسلم عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
وكتب أفقر خلق الله
وسيم فتح الله
5 شوال 1427 هجرية
الموافق 27 تشرين الأول 2006 ميلادية
-=============
ما حكم أمر غير المسلمين بلبس لباس معين يميزهم عن المسلمين؟
الأخ عبد الجبار .
ذكر الإمام ابن القيم نص الشروط العمرية في كتابه القيم " أحكام أهل الذمة "(3/1159) ، ثم شرح الشروط العمرية شرحا مفصلا في ستة فصول (3/1167)
ولكن ينبغي أن يعلم أن أسانيد الشروط العمرية لا تثبت ، ولكن هناك آثار أخرى تبين أن إلزام أهل الكتاب ببعض الأمور التي تميزهم عن المسلمين مستقر عند سلف هذه الأمة كما نقل ذلك الإمام ابن القيم في الكتاب المذكور ، ومنها أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وقد ضعف العلامة الألباني - رحمه الله - إسناد الشروط العمرية في الإرواء (5/103 ح 1265) وقال :
وإسناده ضعيف جدا .........ا.هـ.
وقال بعده :
ثم روى البيهقي عن أسلم قال :
كتب عمر بن الخطاب إلى أمراء الأجناد أن اختمور رقاب أهل الجزية في أعناقهم .
قلت ( الألباني ) : وإسناده صحيح .ا.هـ.
أما قول ابن القيم - رحمه الله - في أحكام أهل الذمة (3/1164) :
وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها.....ا.هـ.
فإنه لا يسلم له ، بل لا بد من إثبات صحة سندها ، وشهرة هذه الشروط لا تغني عن إسنادها .
وقد شرح الإمام ابن القيم في الفصل الثالث من " أحكام أهل الذمة " (3/1262) ما يتعلق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس ونحوه ، وذكر جملة من الأحكام الخاصة بأهل الكتاب .(2/170)
أما سؤالك :
ما هو حكم ثياب التمييز ؟ وما الحكمة منه ؟
لقد ذكر الإمام ابن القيم فوائد كثيرة في فرض لباس معين على أهل الكتاب :
قال الإمام ابن القيم (3/1265) :
وقد نهى أن يبدأ اليهود والنصارى بالسلام ، وأمر إذا سلم أحدهم علينا أن نقول له : وعليكم .
وإذا كان هذا من سنة الإسلام فلا بد أن يكون لأهل الذمة زي يعرفون به حتى يمكن استعمال السنة في السلام في حقهم ويعرف منه المسلم من سلم عليه : هل هو مسلم يستحق السلام أو ذمي لا يستحقه ؟ وكيف يرد عليهم ؟ .
قلت ( ابن القيم ) : ما ذكره ( يقصد ابن القيم : ابو القاسم الطبري ) من أمر السلام فائدة من فوائد الغيار ؛ وفوائده أكثر من ذلك .
فمنها أنه لا يقوم له ، ولا يصدره في المجلس ، ولا يقبل يده ، ولا يقوم لدى رأسه ، ولا يخاطبه بأخي وسيدي ووليي ونحو ذلك ، ولا يدعى له بما يدعى به للمسلم من النصر والعز ونحو ذلك ، ولا يصرف إليه من أوقاف المسلمين ، ولا من زكواتهم ، ولا يستشهده تحملا ولا أداء ، ولا يبيعه عبدا مسلما ، ولا يمكنه من المصحف ، وغير ذلك من الأحكام المختصة بالمسلمين ، فلولا النهي لعامله ببعض ما هو مختص بالمسلم فهذا من حيث الإجمال .ا.هـ.
وأشار ابن القيم أيضا إلا أن أهل الكتاب لا يلبسون القلنسوة فقال (3/1267) :
فيمنعون من لباسها لما كان رسول الله وصحابته يلبسونها ولم يزل لبسها عادة الأكابر من العلماء والفقهاء والقضاة ، والأشراف والخطباء على الناس ، واستمر الأمر على ذلك إلى أواخر الدولة الصلاحية فرغب الناس عنها .
فإنما نهى عمر رضي الله عنه أهل الذمة عن لبسها لأنها زي رسول الله وصحابته من بعده وغيرهم من الخلفاء بعده وللمسلمين رسول الله وأصحابه أسوة وقدوة فالخلفاء يلبسونها اقتداء برسول الله وتشبها به وهم أولى الناس باتباعه واقتفاء أثره والعلماء يلبسونها إذا انتهوا في علمهم وعزهم وعظمت منزلتهم واقتدى الناس بهم فيتميزون بها للشرف على من دونهم لما رفعهم الله بعلمهم على جهلة خلقه والقضاة تلبسها هيبة ورفعة والخطباء تلبسها على المنابر لعلو مقامهم فيمنع أهل الذمة من لباس القلنسوة لعدم وجود هذه المعاني فيهم .ا.هـ.
ولا يلبسون العمائم لأنها لباس العرب قديما ولباس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ، فهي لباس الإسلام .
ونقل صورة من صور العزة لأهل الإسلام في فترة من فترات تاريخ هذه الأمة عندما عز أهلها فقال (3/1273) :
وقال أبو الشيخ : حدثنا أحمد بن الحسين حدثنا الدورقي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا معمر ، أن عمر بن عبدالعزيز كتب : " أن امنع من قِبَلك فلا يلبس نصراني قَباء ولا ثوب خز ولا عصب ، وتقدم في ذلك أشد التقدم حتى لا يخفى على أحد نهي عنه وقد ذُكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم ، وتركوا المناطق على أوساطهم ، واتخذوا الوفر والجمم ، ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك ضعف وعجز ، فانظر كل شيء نهيت عنه وتقدمت فيه فلا ترخص فيه ، ولا تغير منه شيئا " .ا.هـ.
الله أكبر !!!!
وقد قال المحقق عن هذا الأثر : وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات .
وجاء في لفظ آخر :
أن عمر بن عبدالعزيز كتب : " أما بعد فلا يركبن يهودي ولا نصراني على سرج وليركبن على إكاف ، ولا يركبن نساؤهم على راحلة ، وليكن ركوبهن على إكاف وتقدم في ذلك تقدما بليغا " .
ومن صور المخالفة في اللباس مما ذكره الإمام ابن القيم لبس النعال فإن أهل الكتاب لا يتشبه بهم المسلمون حتى في لبس النعال فقال (3/1282) :
فصل قولهم ولا في نعلين ولا فرق شعر
أي لا نتشبه بهم في نعالهم بل تكون نعالهم مخالفة لنعال المسلمين ليحصل كمال التمييز وعدم المشابهة في الزي الظاهر ليكون ذلك أبعد من المشابهة في الزي الباطن .ا.هـ.
واكتفي بهذه الصور لأن الموضوعَ طويلٌ جدا ، وبإمكانك الرجوع إلى كتاب أحكام أهل الذمة للإمام ابن القيم ففيه الفائدة والغنية إن شاء الله تعالى .
عبد الله زقيل
===========
الحب في الله والبغض في الله
فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد .
فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان ، وتحقيقه في واقعنا هو المقياس الشرعي السديد تجاه الناس بشتى أنواعهم ، والحب في الله والبغض في الله هو الحصن الحصين لعقائد المسلمين وأخلاقهم أمام تيارات التذويب والمسخ كزمالة الأديان والنظام العالمي الجديد والعولمة ونحوها .
ومسائل هذا الموضوع كثيرة ومتعددة ، وقد عُني العلماء قديماً وحديثاً بتحريرها وتقريرها ، لكن ثمت مسائل مهمة - في نظري - تحتاج إلى مزيد بحث وتحقيق وإظهار .
منها : أن الحبّ في الله تعالى والبغض في الله متفرع عن حب الله تعالى ، فهو من لوازمه ومقتضياته ، فلا يمكن أن يتحقق هذا الأصل إلا بتحقيق عبادة الله تعالى وحبّه ، فكلما ازداد الشخص عبادة لله تعالى وحده ازداد تحقيقاً للحبّ في الله ، والبغض في الله ، كما هو ظاهر في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام ، وهو أظهر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .(2/171)
ومنها: أن الحبّ في الله والبغض في الله له لوازم ومقتضيات ، فلازم الحب في الله : الولاء ، ولازم البغض في الله : البراء ، فالحب والبغض أمر باطن في القلب ، والولاء والبراء أمر ظاهر كالنصح للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وترك التشبه بالكفار ، ومخالفتهم ، وعدم الركون والثقة بهم ، فإذا انتفى اللازم – الولاء والبراء – انتفى الملزوم – الحب والبغض – هذا التلازم بين الحب والبغض ، وبين الولاء والبراء يتسق مع التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان .
ومنها : أن الحب في الله والبغض في الله من أعظم أسباب إظهار دين الإسلام ، وكف أذى المشركين ، بل إن تحقيقه سبب في إسلام الكافرين ، وهاك بعض الأحداث التي تقرر ذلك ، فقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية جملة مما ذكره الواقدي في معازيه وغيره .
فمن ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشراف على يد محمد بن مسلمة – رضي الله عنه - 1
ويقول شيخ الإسلام : ( وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت ، حتى إن كعب بن الأشراف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة ، فيخرجونه من عندهم ، حتى لم يبق بمكة من يؤويه ) 2
ولما قتل مُحيَّصة – رضي الله عنه – ذلك اليهودي فزجره أخوه حويصة ، قال مُحيَّصة : ( والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربتُ عنقك فقال حويصة : والله إن ديناً بلغ منك هذا لعَجَبُ ن ثم أسلم حويصة ) 3
ولعل هذه الرسالة المختصرة تحقق شيئاً من هذا الأصل الكبير عموماً ، وتظهر جملة من المسائل المذكورة خصوصاً ، وبالله التوفيق .
المبحث الأول
أهمية الموضوع
قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم- : (( أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله )) وفي حديث آخر قال- صلى الله عليه وسلم- : ((من أحق في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله ؛ فقد استكمل الإيمان)) 4 إذاً الحب في الله والبغض في الله ليس إيماناً فحسب ، بل هو آكد وأوثق عُرى الإيمان ، فحري بنا أن نحرص على هذا الأمر .
كان- صلى الله عليه وسلم- يبايع على هذا الأمر العظيم ، فقد جاء عن جرير بن عبد الله البجلي- رضي الله عنه- أنه قال : أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يبايع فقلت : يا رسول الله ، أبسط يدك حتى أبايعك ، واشترط علىّ وأنت أعلم . فقال : (( أبايعك على أن تعبد الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتُناصح المسلمين ، وتفارق المشركين )) 5 .
هذا هو الشاهد ، فهو- صلى الله عليه وسلم- بايع جرير بن عبد الله على أن يناصح المسلمين وهذا هو الحب في الله ، ويفارق المشركين وهذا هو البغض في الله , تفارق المشركين بقلبك وقالبك . بقلبك بأن تبغضهم وتعاديهم كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله ، وتفارقهم بجسدك كما سيأتي الإشارة إلى الهجرة وهي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا لم يكن الشخص مستطيعاً أن يظهر دينه في بلاد الكفر وكان قادراً على الهجرة ؛ فإذا اجتمع الأمران تعيّن عليه الهجرة والانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام .
جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- لما سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن آيات الإسلام ، فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم- : (( أن تقول أسلمت وجهي لله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم قال : " كل مسلم على مسلم حرام أخوان نصيران ، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين)) 6
فتأمل رحمك الله كيف أنه صلى الله عليه جعل ذلك شرطاً في قبول العمل ، ولا شك أن هذا مقتضٍ البغض في الله لأعداء الله عز وجل من الكافرين والمرتدين . قال شيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله عليهم- : ( فهل يتم الدين أو يقام علمُ الجهاد أو علمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله ، والمعاداة في الله والموالاة في الله ، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غيرعداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل ، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) 7
الحب في الله والبغض في الله من مكملات حب الله عز وجل وحب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن حب الله وحب الرسول من أعظم الفرائض والواجبات وآكدها ، وفي المقابل فإن بغض رسوله أو بغض شيء مما جاء عن الله أو صحّ عن رسول الله فهو من أنواع الردة والخروج عن الملة .
الناظر إلى واقع المسلمين الآن يجد أنهم قد ضيّعوا هذا الأصل ، فربما كان الحب من أجل شهوات فيتحابون من أجل المال ، ويتباغضون من أجل المال ، ويتحابون من أجل القبيلة والعشيرة ويتباغضون من أجلها ، فإذا كان الشخص من قبيلتهم أحبوه ولو كان كافراً ولو كان تاركاً للصلاة مثلاً ، والشخص يبغضونه إن لم يكن منهم أو من عشيرتهم ولو كان أفضل الناس صلاحاً و تقي ، وربما حصل الحب من أجل وطن أو من أجل قومية ، وكل ذلك لا يجدي على أهله شيئاً ، ولا تنفع هذه الصلاة وتلك المودات ؛ فلا يُبتغى بها وجه الله ولا قيمة لها عند الله .
وقد أشار إلى هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن فيما معناه : [" من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله ؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك "] أي إذا أردت أن تكون ولياً من أولياء الله عليك بهذا الأمر .(2/172)
ثم قال ابن عباس : [" ولن تجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك ، وقد صارت عامة
مؤاخاة الناس لأجل الدنيا ، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً "] وصدق- رضي الله عنه- ،فهذا في كتاب الله عز وجل ، قال تعالى : (( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)) (البقرة:166) .
قال ابن عباس ومجاهد : ( المراد بالأسباب هنا : المودات والصلات التي ليست لأجل الله تعالى ) ز
لماذا ؟ لأن الحب في الله والبغض في الله يراد به وجه الله ،والله تعالى هو الباقي سبحانه الدائم ، فلهذا ما كان لله يبقى ، أما ما لم يكن لله فهو يضمحل، فالشخص الذي يحب آخر من أجل الدنيا هذه الرابطة تنتهي وتفني وتتقطع وتجد أن هؤلاء يتعادون .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضاً، وإن كانوا فعلوا بتراضيهم ).
قال طاووس : ( ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلاَّ تفرقا عن تقال، إلى أن قال : فالمخالة إذا كانت على غير مصلحة الاثنين كانت عاقبتها عداوة ، وإنما تكون على مصلحتها إذا كانت في ذات الله ) 8 .
وهذا واقع ؛ فنجد الذين يجتمعون على شر أو فساد – مثلاً – سرعان ما يتعادون وربما فضح بعضهم الآخر .
قال أبو الوفاء بن عقيل ( 513هـ ) رحمه الله : ( إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك ، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة ) .
ثم قال رحمه الله : (عاش ابن الراوندي والمعري عليهم لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً ، عاشوا سنين وعُظمت قبورهم واشترت تصانيفهم ، وهذا يدل على برودة الدين في القلب ) .
والآن أيها الإخوة تجدون كثيراً من المجلات والصحف والمؤلفات الساقطة التي تحارب دين الله عز وجل ؛ ومع ذلك ترى الكثير من أهل الصلاة قد انكبوا على شرائها أو الاشتراك فيها .
نحن في زمان حصل فيه تلبيس وقلب للمفاهيم ؛ فتجد بعض الناس إذا تحدث عن الحب في الله والبغض في الله قال : هذا يؤدي إلى نفرة الناس ، يؤدي إلى كراهية الناس لدين الله عز وجل .
وهذا الفهم مصيبة ، فالناس يقون في المداهنة والتنازلات في دين الله عز وجل باسم السماحة ، ولا شك أن هذا من التلبيس، فالحب في الله والبغض في الله ينبغي أن يتحقق ، وينبغي أن يكون ظاهراً ؛ لأن هذا أمر فرضه الله علينا ، ولهذا يقول ابن القيم- رحمه الله- عن مكائد النفس الأمارة بالسوء : [" إنَّ النفس الأمارة بالسوء تُرى صاحبها صورة الصدق وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم ، وأنه يعرض نفسه للبلاء ما لا يطيق ، وأنه يصير غرضاً لسهام الطاعنين وأمثال ذلك من الشبه "] 9
فبعض الناس يقول : لو أحببنا هذا الشخص في الله وأبغضنا فلاناً الكافر أو المرتد لأدّى هذا إلى العداوة وإلى أنه يناصبنا العداء . وهذا من مكائد الشيطان ، فعلى الإنسان أن يحقق ما أمر الله به وهو سبحانه يتولى عباده بحفظه كما قال تعالى : (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) (الزمر:36) وقال عز وجل : (( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) (الطلاق:3) .
المبحث الثاني
معنى الحب في الله والبغض في الله
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( قاعدة في المحبة ) : ( أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعادة البغض ، فإنَّ التحاب يوجب التقارب والاتفاق ، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف ) 10
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن- رحمة الله عليهم- : ( أصل الموالاة : الحب ، وأصل المعاداة : البغض ، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة ؛ كالنصرة والأنس والمعاونة وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال ) 11 .
وسئل الإمام أحمد- رحمه الله- عن الحب في الله ، فقال : ( ألا تُحبه لطمع في ديناه) 12
فمن خلال أقوال هؤلاء الأئمة ونحوهم يتبيّن لنا أن الحب والبغض أمر قلبي ، فالحب محله القلب ، والبغض محله القلب، لكن لا بد لهذا العمل القلبي أن يظهر على الجوارح ، فلا يأتي شخصٌ يقول : أنا أبغض فلاناً في الله ثم تجد الأنس والانبساط والزيارة والنصرة والتأييد لمن أبغضه في الله ! فأين البغض في الله . ... فلا بد أن يظهر على الجوارح ، فلو أبغضنا مثلاً أعداء الله من النصارى ومن اليهود فهذا البغض محلهُ القلب لكن يظهر على الجوارح من عدم بدئهم بالسلام – مثلاً – كما قال- صلى الله عليه وسلم- : (( لا تبدءوا اليهود والنصارى باليهود بالسلام)) أو من خلال عدم المشاركة في أعيادهم ؛ لأن هذه المشاركة من التعاون على الإثم والعدوان ، والله يقول : ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم)) (المائدة: من الآية2)(2/173)
وكذلك الحب في الله ، فإذا أحببنا عباد الله الصالحين وأحببنا الأنبياء والصحابة وغيرهم من أولياء الله تعالى ، فهذا الحب في القلب لكن له لوازم وله مقتضيات تظهر على اللسان وعلى الجوارح ، فإذا أحببنا أهل الإسلام أفشينا السلام كما قال عليه الصلاة والسلام : (( ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم )) كذلك النصيحة فعند ما أرى أخاً لي من أهل الإسلام يُقصر في الصلاة كأن يخل بأركانها أو واجباتها فأنصحه فهذا من مقتضى الحب في الله ، فإذا عُدم ذلك فهذا يدل على ضعف الإيمان، فلو وجدنا رجلاً يقول : أنا أحب المؤمنين لكنه لا يسلّم عليهم ، ولا يزور مريضهم ، ولا يتبع جنائزهم ، ولا ينصح لهم ، ولا يشفق عليهم ؛ فهذا الحب لا شك أن فيه دخن ونقص لا بد أن يتداركه العبد .
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتاويه (( إن الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم ، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم من ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم . وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين . وكل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته ، وكل من كان بخلاف ذلك فإن يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة ، فالولاء والبراء تابع للحب والبغض ، والحب والغض هو الأصل ، وأصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم ، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله )) 13
وقد بيّن أهلُ العلم أن المؤمن تحبُ محبته وإن أساء إليك ، والكافر يجب بغضه وعداوته وإن أحسن إليك .
فالمسلم وإن قصّر في حقك وظلمك فيبغض على قدر المظلمة ؛ لكن يبقى حق الإسلام وحق النصرة وحق الولاية .
ماذا يجب علينا تجاه المسلمين من خلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً ، فهم ليسوا من أولياء الله الصالحين ، وليسوا من أعداء الله الكافرين ؟
الواجب في حقهم أن نحبهم ونواليهم بقد طاعتهم وصلاحهم ، وفي نفس الوقت نبغضهم على قدر معصيتهم وذنبهم .
فمثلاً : جارك الذي يشهد الصلوات الخمس عليك أن تحبه لهذا الأمر، لكن لو كان هذا الجار يسمع ما حرم الله من الأغاني مثلاً، أو يتعاطى الربا فعليك أن تبغضه على قدر معصيته ، وكلما ازداد الرجل طاعة ازددنا له حبّاً ، وكلما زاد معصية ازددنا له بغضاً .
وقد يقول قائل : وكيف يجتمع الحب والبغض في شخص واحد ؟ كيف أحب الشخص من جانب وأبغضه من جانب ؟
أقول : هذا ميسر ، فهذا الأب ربما ضرب ابنه وآلمه تأديباً وزجراً ، ومع ذلك يبقى الأصل أن الأب يحب ابنه محبة جبلية . فيجتمع الأمران .
وكذلك المعلم مع تلاميذه أو الرجل مع زوجته إذا زجرها أو هجرها إذا كان الأمر يقتضي ذلك لكن يبقى الأصل في ذلك محبتها والميل إليها . فإذا كان الشخص يجتمع في إيمان مع ارتكاب محرمات أو ترك واجبات – مما لا ينافي الإيمان بالكلية – فإن إيمانه يقتضي حبّه ونصرته ، وعصيانه يقتضي عداوته وبغضه – على حسب عصيانه .
ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدى النبي صلى الله عليه وسلم فقد حقق عليه السلام الأمرين ، والدليل ذاك الرجل الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واسمه عبد الله ، وكان كثيراً ما يؤتى به فيجلد ، فأتي به في أحد المرات فقال أحد الحاضرين : لعنه الله ما أكثر ما يُؤتى به ، فقال عليه السلام : (( لا تلعنه ، أما علمت أنَّه يحب الله ورسوله )) أو كما ورد في الحديث – فمقتضى العداوة والبغضاء أن أقام عليه الحد فجلده ، وفي نفس الوقت أيضاً مقتضى الحب والولاء له أن دافع عنه- عليه الصلاة والسلام- فقال : ((لا تلعنه))
معاودة الكافرين :
هذه المسألة تغيب في هذا الزمان بسبب جهل الناس وتكالب قوى الكفر على إلغاء الولاء والبراء وإلغاء ما يسمى بالفوارق الدينية .
قال الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ ) : [" فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أنَّ الله أوجب ذلك وأكد إيجابه ، وحرّم موالاتهم وشدد فيه ، حتى أنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر وأبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده "] .
وقال في موضع آخر : " وهنا نكتة بديعة في قوله : (( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )) (الممتحنة: من الآية4) وهي أن الله قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله ، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله ، لأن الأول أهم من الثاني ، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ، ولا يتبرأ ممن عبدها ، فلا يكون آتياً بالواجب عليه ، وأما إذا تبرأ من المشركين ، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم " 14
فإذا علم هذا تبين خطأ وانحراف كثير من الناس عند ما يقولون : نتبرأ من الكفر ونتبرأ من عقيدة التثليث عند النصارى ونتبرأ من الصليب ، لكن عند ما تقول لهم تبرؤوا من النصارى . يقولون : لا نتبرأ منهم ولا نواليهم .
لوازم الحب في الله والبغض في الله .
أشرنا إلى أن الحب في الله والبغض في الله عملان قلبيان لكن لهذا الحب لوازم مثل : النصح للمسلمين ، والإشفاق عليهم ، الدعاء لهم ، والسلام ، وزيارة مريضهم ، وتشييع جنائزهم ، وتفقد أحوالهم .
أما لوازم البغض فمنها : ألا نبتدئهم بالسلام ، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وعدم التشبه بهم ، وعدم مشاركتهم في الأعياد – كما هو مبسوط في موضعه .
المبحث الثالث
أحوال السلف الصالح في تحقيق عقيدة الولاء والبراء(2/174)
يقول أبو الدرداءِ- رضي الله عنه- : ( ما أنصف إخواننا الأغنياء، يحبوننا في الله ويفارقوننا في الدنيا، إذا لقيته قال : أحبكَ يا أبا الدرداء ، فإذا احتجت إليه في شيءٍ امتنع مني ) 15
ويقول أيوب السيختياني- رحمه الله- : " إنَّه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنَّه مات، فكأنما فقدتُ بعض أعضائي " .
وكان أحمد بن حنبل- رحمه الله- إمام أهل السنة، [ إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه ، فقيل له في ذلك، فقال- رحمه الله- : ( لا أقدرُ أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه ) 16 .
فانظر - يا رعاك الله – كيف كان تعظيم الله وتوقيره في قلب الإمام أحمد يجعله لا يطيق النظر إلى من افترى على الله وكذب عليه ، وأي افتراء أعظم من مقالة النصارى أن لله ولد – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – قال عمر بن الخطاب في شان النصارى : " أهينوهم ولا تظلموهم ، فإنهم سبُّوا الله تعالى أعظم المسبة " .
وهذا بهلول بن راشد- رحمه الله- من أصحاب مالك بن أنس- رحمه الله- دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري به زيتاً ، فذُكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد . فانطلق إليه الرجل بالدينارين وأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول بن راشد ، فقال النصراني : نتقرب إلى الله تعالى بخدمة بهلول كما تتقربون أنتم إلى الله بخدمته . وأعطاه بالدينارين من الزيت ما يعطى بأربعة دنانير، ثم أقبل الرجل إلى بهلول وأخبره الخبر، فقال بهلول : قضيت حاجةً فاض لي الأخرى ، رُدَّ علىّ الدينارين فقال : لم ؟ قال: تذّكرت قول الله تعالى : (( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) (المجادلة: من الآية22) .
فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير 17
وسئل الإمام أحمد عن جار رافضي ؟ فقال : ( لا تسلم عليه ، وإذا سلم لا يُرد عليه ) 18 .
وكان ابن رجاءٍ من الحنابلة، يهجرُ من باع لرافضي كفنه ، أو غسله ، أو حمله 19
ولما كان العزُّ بن عبد السلام في دمشق، وقعَ فيها غلاءٌ فاحش، حتى صارت البساتينُ تباع بالثمن القليل ، فأعطتهُ زوجته ذهباً وقالت : اشرِ لنا بستاناً نصيّف فيه، فأخذ الذهبَ وباعهُ، وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريت لنا ؟ قال : نعم بستاناً في الجنة. إنِّي وجدتُ الناس في شدةٍ، فتصدقتُ بثمنه، فقالت المرأة : جزاك الله خيراً 20
وهذا محمد بن عبدوس المالكي، من علماءِ المالكية، كان في غايةِ النصحِ والإشفاقِ على المسلمين، ففي أحدَ المرات ذهبَ إلى أحدِ أصحابه وعليه جُبَّةَ صوف، وكانت ليلةً شاتيةً، فقال له : ما نمتُ الليلةَ غمّاً لفقراءِ أمة محمد ، ثم قال : هذه مائةُ دينار ذهبا،ً غلةُ ضيعتي هذا العام، أحذر أن تُمسي وعندك منها شيء وانصرف .
دخل أبو الوليد الطرطوشي- رحمه الله- على الخليفة في مصر، فوجدَ عنده وزيراً راهباً نصرانياً، قد سلّم إليه القيادة، وكان يأخذُ برأيهِ، فقال الطرطوشي:
يا أيها الملك الذي جودهُ يطلبهُ القاصدُ والراغب
إنَّ الذي شرفت من أجله يزعمُ هذا أنَّه كاذب 21
فعندئذٍ اشتد غضبُ الخليفة، فأمرَ بالراهبِ فسُحبَ وضُرب ، وأقبل على الشيخِ فأكرمهُ وعظَّمهُ بعد ما كان قد عزم على إيذائه .
يقول القرافي معلقاً على هذه القصة : " لما استحضر الخليفةُ تكذيب الراهبِ للرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو سببُ شرفه ، وشرفَ آبائهِ وأهل الأرض ، بعثهُ ذلك عن البعدِ عن السكونِ إليه والمودة، وأبعدهُ عن منازلِ العزِّ إلى ما يليقُ به من الذلِ والصغار 22
المبحث الرابع
تنبيهات
علينا أن نفرق بين بغض الكفار ومعاداتهم، وبين البرِ والاقساط ، فبعض الناس يخلطُ بين الأمرين، فيجعل البرَ والعدل مع الكفار محبةً لهم ، وعكسَ بعضُ الناس المسألة، فربما ظلمَ الكافر باسم العداوة له .
فالمتعين أن نبغض الكفار؛ لأنَّ الله أمرنا أن نبغضهم، ولكن لا نظلمهم، فقد قال تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة:8)
وقال تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي ، إنِّي حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )) .
يقولُ القرافي في كتابه (الفروق ) لما فرقَ بين مسألةِ بُغضهم، ومراعاةُ البرِ والإقساط قال : " وسرُّ الفرق أنَّ عقد الذمة يوجبُ حقوقاً علينا لهم ؛ لأنَّهم في جوارنا ، فيتعين علينا برُّهم في كل أمرٍ لا يكونُ ظاهرهُ يدل على مودةٍ في القلب، ولا تعظيمِ شعائرِ الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذينِ، امتنع وصار من قبل ما نهى عنه في الآية " 23
بعض الناس يقول : نحن إذا بغضنا النصارى وعاديناهم – مثلاً – هذا يُؤدي إلى نفرتهم عن الإسلام وبغضهم له .(2/175)
وليس الأمرُ كذلك ، فإنَّ الله تعالى أرحمُ الراحمين ، وهو سُبحانه وتعالى أحكمُ الحاكمين، حيثُ شرعَ بُغض الكفارِ وعداوتهم ، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرةِ البراءةِ من الكافرين يؤولُ إلى النفرة عن الإسلام ، بل إنَّ الالتزامَ بهذه الشعيرة – وسائر شعائرِ الإسلام – سببٌ في ظهورِ الإسلام وقبوله، كما وقعَ في القرون المفضلة ، " جاء في سيرةِ ابن هشام أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : (( من ظفر به من رجال يهود فاقتلوه)) فوثب مُحيصةَ بن مسعودِ على ابن سُنَينَة ، رجلٌ من تجارِ اليهود يبايعهم ، فقلتهُ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم ، وكان أسنّ من محيصة ، فلما قتلهُ جعل حويصةُ يضربهُ ويقول : أي عدوَّ الله أقتلته ؟ أما والله لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله ، قال محيصة : فقلتُ له : واللهِ لقد أمرني بقتلهِ من لو أمرني بقتلكَ لضربتُ عُنُقك ، قال : فو الله إن كان لأوّل إسلام حويصة ، قال : آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ؟ قال نعم ، والله لو أمرني بضربِ عنقك لضربتها، قال : والله إنَّ ديناً بلغَ بك هذا لَعجَبٌ ، فأسلم حويصة " 24
وها نحنُ نرى الكثير من المسلمين – في هذا العصر – وقد ارتموا في أحضانِ الكفار ، وأحبُّوهم وداهنوهم ، ولم يكن ذلك سبباً في إسلامهم ، بل امتهن الكفارُ أولئك القوم ، وزادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله .
وأمرٌ آخر : أنَّ تحقيق هذا الأصلِ سببٌ في إسلامهم، كما كان اليهودُ والنصارى يدفعون الجزية للمسلمين عن صغارٍ وذلة، فكان هذا سبباً في أن ينظروا إلى الإسلام، ويسلموا من أجلِ أن تسقط عنهم الجزية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( مثل الآصارِ والأغلالِ التي على أهلِ الكتاب ، وإذلالَ المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم ، فهذه قد تكونُ داعياً له إلى أن ينظرَ في اعتقادهِ، هل هو حقٌّ أو باطل، حتى يتبينَ له الحق ، قد يكونُ مُرغباً له في اعتقادٍ يخرج به من هذا البلاء ، وكذلك قهرَ المسلمين عدوهم بالأسرِ، يدعوهم للنظرِ في محاسن الإسلام ) 25
البعضُ يقول : إنَّ الكفار تغيّروا، فليسوا كالكفار الأوائل ، نقولُ : هذا غير صحيح، فالكفارُ هم الكفار، وهم أعداؤنا في القديم والحديث ، والله تعالى ذكر في ذلك حكماً عاماً فقال : (( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً )) ٍ(التوبة: من الآية10) وقال : عز وجل : (( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً)) (التوبة: من الآية8) .
البعضُ يحبُ في الله، ويبغضُ في الله، لكن تكونُ هناك شائبة، فعند ما يتفقدُ نفسهُ يجدها تحبُّ لأجل دنيا أو تبغض لأجل دنيا.
مثال: رجلٌ يقول: أنا أبغضُ فلاناً النصراني في الله، لكن عند ما تبحث في أصلِ البغض تجدهُ يبغضهُ لأجل حظٍ أو أثرةٍ. فينبغي أن يمحصَ الحبُّ في الله والبغضُ في الله، بأن يكون خالصاً لله وحده .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : ( من أحبَّ إنساناً لكونهِ يعطيهِ فما أحب إلاَّ العطاء ، ومن قال إنَّهُ يحبُ من يعطيهِ لله فهذا كذبٌ ومحالٌ وزورٌ من القول ، وكذلك من أحبَّ إنساناً لكونه ينصرهُ إنما أحب النصر لا الناصر ، وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس ، فإنَّه لم يحب في الحقيقة إلاَّ ما يصلُ إليه من جلب منفعةٍ أو دفع مضرةٍ ، فهو إنما أحبَّ تلك المنفعة ودفع المضرة ، وليس هذا حباً لله ولا لذاته المحبوب ، وعلى هذا تجري عامةُ محبة الخلقِ بعضهم مع بعض ، لا يُثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم ، بل رُبما أدَّى هذا للنفاقِ والمداهنةِ، فكانوا في الآخرة من الأخلاءِ الذين بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين . وإنما ينفعهم في الآخرة الحبُّ في الله ولله وحده. وأمَّا من يرجو النفعَ والضر من شخصٍ ثُمَّ يزعمُ أنَّهُ يحبهُ لله، فهذا من دسائسِ النفوسِ ونفاقِ الأقوال "] 26
المبحث الخامس
التحذير من مشاركة الكافرين في أعيادهم
إن الكثيرين من المسلمين الذين ابتلوا بمخالطة الكفار سواء في بلاد الكفر أو في أعمال ربما شاركوا الكفار في أعيادهم البدعية ، إما في حفلاتهم أو في التهنئة ، وهذا أمر خطير جداً ، فمشاركة الكفار في أعيادهم لا شك في تحريمها على أقل الأحوال وربما أفضت إلى الكفر بالله عز وجل . وقد تحدث أهل العلم عن ذلك وحذروا وأنذروا .
قال تعالى في وصف عباد الرحمن : (( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72)) والزور كما قال بعض المفسرين هو : أعياد المشركين .
والرسول- صلى الله عليه وسلم- لما قدم إلى المدينة وجد أنهم يلعبون ، فسال عن ذلك فقالوا هذا يومان كنا نلعب في الجاهلية فقال- صلى الله عليه وسلم- : ((قد أبدلكم الله خيراً من ذلك عيد الفطر وعيد الأضحى )) 27
وكذلك ما جاء في الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - على أهل الذمة وهو ألا يظهروا أعيادهم ؛ لأن الأعياد من جملة العبادات ، فكما لا يجوز أن يظهروا صليبهم ونحو ذلك أيضاً لا يجوز أن يظهروا أعيادهم .
ولهذا تجد أهل العلم في غاية التحذير من هذا الأمر حتى إن بعض علماء الأحناف قال : " من أهدى لمجوسي بيضة في يوم النيروز فقد كفر " .(2/176)
يقول ابن القيم رحمه الله ( في أحكام أهل الذمة ) : ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثمناً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ونحوها . وكثير مما لا قدر للدين عندهم يقع في ذلك ولا يدري قبل ما فعل . فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) 28
المبحث السادس
آثار وثمار الحب في الله والبغض في الله
تحقيق أوثق عرى الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله )) .
تذوق حلاوة الإيمان كما جاء في حديث أنس مرفوعاً : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان " وذكر منها صلى الله عليه وسلم " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله )) 29
أن من حقق هذا الأصل يرجى أن ينال الوعد الكريم في الحديث : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر صلى الله عليه وسلم : " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " .
نيل ولاية الله ، فالعبد لا يكون وليا لله إلا إذا حقق ذلك كما مرّ معنا في قول ابن عباس :[ " من أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله وعادى في الله ؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك "] . وقال الله تعالى في الحديث القدسي : (( وما تقرب عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)) .
السلامة من الفتنة والدليل قوله تعالى : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) (لأنفال:73)
قال ابن كثير في تفسيره : " أي تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس ، وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين ، فيقع في الناس فساد كبير منتشر عريض طويل " 30
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل ، فيكون حبه لله ولما يحبه لله وبغضه لله ولما يبغضه لله ، وكذلك موالته ومعاداته " 31
حصول النعم والخيرات والرخاء ، والدليل قوله تعالى عن الخليل عليه السلام : (( فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً ، وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً)) (مريم:49 ، 50) . فهذه النعم العديدة ما تحققت لإبراهيم عليه السلام إلا بعد ما حقق هذا الأصل ، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء الجميل 32
خاتمة
وفي ختام هذا الموضوع أؤكد على ضرورة العناية بهذا الأصل علماً وعملاً والتواصي بتحقيقه وتربية الأمة على ذلك ، وأن يجتهد في ببان لوازم الحب في الله بين المسلمين ومظاهره ، وتطبيق تلك اللوازم في حياة المسلمين مثل : تعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، وإحياء التكافل بين أهل الإسلام ، والتعاون على البر والتقوى ، ونصرة المسلمين وتفريج كُربهم ، والأخذ على أيدي سفهائهم .
كما يجب الحذر من موالاة الكفار بشتى صورها ومظاهرها ، مثل نصرة الكفار وتأييدهم أو محبتهم ، أو الركون إليهم ، أو تقريبهم ، أو التعويل عليهم أو إكرامهم أو اتباع أهوائهم .
إن عقيدة الولاء والبراء هي أكبر ضمان في حفظ الأمة من الذوبان والانجراف في تيار الأمم الكافرة ، لا سيما في هذا الزمان الذي صار العالم قرية واحدة ، فظهرت أنواع المؤثرات والاتصالات كالفضائيات وشبكات ( الانترنت ) ونحوها ، فإن عقيدة الولاء والبراء أعظم حاجز في درء الفتن والسلامة من فتن التغريب والتنصير وسائر الشبهات والشهوات ، ألا ترى أصحاب هذه العقيدة الراسخة – أعنى الولاء والبراء – أنهم أعظم الناس استعلاء بإيمانهم ، وأظهر النفوس عزة كما هو ظاهر في سير الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم .
إن أصحاب هذه العقيدة لا يرد عليهم بأي حال من الأحوال الانبهار بالكفار أو التشبه بهم أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم ، فأنى للأعلى أن يتشبه بالأدنى !
فأما الذين خلت قلوبهم من هذا الولاء والبراء فهم أصحاب أهواء متبعة وشهوات مستبعدة ، فتراهم ينظرون إلى الكفار بكل استحسان وإكبار كما ينظر الطفل الصغير إلى أبيه ، ألا ترى أولئك الشباب الذين أشربوا حب الكرة وغفلوا عن شعيرة الولاء والبراء أنهم من أجل الكرة يحبون ويوالون ، ومن أجلها يبغضون ويعادون ، فهذا لاعب أو مدرب لفريقهم فهم يحبونه حبّاً جمّاً ،وربما حملوه على أعناقهم ، وتنافسوا في التودد له وإكرامه والاحتفاء به ، وذاك الآخر ليس من فريقهم فربما أبغضوه وكرهوه أشد من اليهود والنصارى !
تأمل حال هؤلاء المنهزمين وانظر حال السلف الصالح الذين كانوا يُعلّمون أولادهم حبّ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتأمل حال أبناء السلف الصالح الذين كانوا يرمون جنازة بشر المرسي المبتدع بالحجارة 33
نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ، ويذل فيه أهل معصيته ، والله المستعان .
[1] الصارم المسلول ( 2/152)
[2] الصارم المسلول ( 2/390)
[3] الصارم المسلول ( 2/185)
[4] أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة في الإيمان وحسنه الألباني .(2/177)
[5] أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي وصححه الألباني .
[6] أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
[7] أوثق عرى الإيمان ( ص 38 ) .
[8] مجموع الفتاوى ( 15/128، 129)
[9] كتاب الروح ( ص 392) .
[10] قاعدة في المحبة ( ص 387)
[11] الدرر السنية ( 2/157) .
[12] طبقات الحنابلة ( 1/57) .
[13] الفتاوى السعدية ( 1/98) .
[14] النجاة والفكاك ( ص 22)
[15] الزهد لابن المبارك ( ص 232)
[16] طبقات الحنابلة ( 1/12)
[17] ترتيب المدارك للقاضي عياض ( 1/337)
[18] طبقات الحنابلة ( 2/14)
[19] طبقات الحنابلة ( 2/57) /
[20] طبقات الشافعية للسبكي ( 214)
[21] الذي شرفت من أجله هو النبي صلى الله عليه وسلم
[22] الفروق ( 3/16)
[23] الفروق ( 3/14)
[24] سيرة ابن هشام ( 2/821 )
[25] جامع الرسائل ( 3/238)
[26] جامع الرسائل ( 2/ 256)
[27] أخرجه أحمد وأبو داود .
[28] أحكام أهل الذمة ( 1/205)
[29] أخرجاه .
[30] تفسير ابن كثير ( 2/216)
[31] الفتاوى ( 10 /601 )
[32] انظر منهاج الصواب ( ص 52)
[33] السنة للخلال ( 5/114 ) .
============
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
محمد بن شاكر الشريف
لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً ، ترعاه السوائم من كل لون وجنس ، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر ، والغضب ، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال ، فيجد الجهل و الجور والحيف في تناول الأمور الشرعية ، لكن هذه الحالة التي يكاد يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام تزداد أكثر وأكثر ، ويزداد حرها ولهيبها اللافح ، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط ، والحيف ، والجور ، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس ، أومن جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس .
وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية ، أو حفاظاً على منصب زائل ، أو دفعاً لمضرة متوهمة ، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو الرغبة في عمل ما يسمونه » مصالحه « مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل الله ، أو إنهاء أزمة معه ، أو الحصول على ما يسمونه » بعض المكاسب « من مثل السماح بدخول الانتخابات ، أو إصدار مجلة ، أو غير ذلك .
وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات ، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك» المساومات « على حساب الإسلام ، وعلى حساب أحكامه ، وشرائعه ومناهجه وثوابته ، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه » المساومات « لأصحابها ، وسوف تعزلهم ، وفي النهاية سوف تلفظهم ، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك ، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ 30/2/ 1415 ص5 العدد 11494 من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة ، لها رصيدها ، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي .
ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين :
الموضع الأول : قول بيان الجماعة : (إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة ، ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين ، وإن عقيدتهم ، وفكرتهم من حيث النقاء والأصالة لا تشوبها شائبة ، كما إن مناهجهم واضحة ، ومتميزة من حيث اعتمادها على الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ) .
ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى صوابه من خطئه ، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً ، ينبغي أن يقوم عليه أي عمل إسلامي ، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام .
إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام ، لابد أن يلقى الترحيب والإشادة ، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام ويعيشون له ، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل ، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم للمضي فيه قدماً ، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور .
الموضع الثاني : فقد جاء في بيان الجماعة أن » الشريعة الإسلامية أباحت لغير المسلمين حرية العقيدة ، والعبادة ، وإقامة الشعائر ، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى « ..
ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها » ترى أن المواطنة ، أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة ، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة ، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات ، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى » الجماعة « أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ، ومديرين ، ووزراء ، ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه ، وتماسكت عناصره « ، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن يكون الذي كتب تلك الفقرة ، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها ؟ !
شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به .(2/178)
أولاً : هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد .. إلى آخر ما قال البيان ، مع العلم أن » غير المسلمين « وهو التعبير الذي آثر بيان الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة الأبقار ، وكل كافر أو مشرك .
فأين نجد تلك الإباحة في » الكتاب والسنة ، والفهم الصحيح ، الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة ، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي ، وإنما الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب : اليهود والنصارى وما سواهما من الكفار ، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب ، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول في الإسلام { لا إكراه في الدين } أما » الإباحة « فلا ، وفرق كبير بين » الإباحة « وبين عدم الإكراه ، فإن » المباح « هو الذي يستوي فيه الأمران : الفعل أو الترك ، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال : إن الشريعة أباحت ذلك ؟ !
لكن لنقل : إن بيان الجماعة لم يقصد » الإباحة « بالمعنى الوارد في أصول الفقه ، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه » غير المسلم « على ترك دينه والدخول في الإسلام ، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه .
ثانياً : لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب ، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم ، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان لأهل الكتاب فقط ، أو لجميع الكفار ؟
إن مقتضى » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من » أهل الذمة « فيلتزموا بأحكام » أهل الذمة « ، » ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون « أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [التوبة : 29] .
وأما سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-المؤيد من ربه ، والذي لا ينطق عن الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه : » اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله .... . ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .. « [1]
فالكتاب والسنة « يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون ، وذلك التزام بأحكام » أهل الذمة « .
وأما » الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « ، فارجع إليه وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام » أهل الذمة « المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام ، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة إلا إذا خضع لأحكام » أهل الذمة « ، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على أنفسهم وأهليهم وأموالهم .
وعلى هذا فقول بيان الجماعة : » إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة « ، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات ، بل جاء مناقضاً لكل ذلك .
إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح » أهل الذمة « والأحكام المرتبطة به قد انتهى ، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة ، وكفنه ودفنه في ثياب » المواطنة والجنسية « لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة ، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات .
فيا أصحاب البيان : خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة وأحكامهم ، ماذا تفعلون بهذا ؟ أتقولون : إن بيانكم نسخ تلك الأحكام ؟ ! وهل يملك أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع ، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه ؟ !
وربما قد يعجب بعض القراء ، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون :
(ياعم : أين أنت الآن ، وفيم تتكلم ، وعن أية جزية أو صغار ، وأين هذا الجهاد الذي تتحدث عنه ، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار ، ونحن الذين في الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون) .
وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام :
أولاً : أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي ، وإنما هو نصوص الشرع وأقوال أهل العلم ، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه .
ثانياً : أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً ، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها ، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف والتبديل ، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت ، أما النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله ؟ !(2/179)
وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب ، فلا أقل يا أخي من أن نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل) .
ثالثاً : ونمضي مع البيان حيث يذكر : » وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات « وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في الحصول عليه ، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار ، فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها !
لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى يكون كلامه هو الشاهد عليه ، يقول بيان الجماعة : » وبمقتضى هذه المواطنة وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ، ترى (الجماعة) أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ومديرين ووزراء .
لقد أصبحت » المواطنة « في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً ، وقاعدة تُفَرّع عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل ، فها هو ذا يقول : » وبمقتضى هذه المواطنة« ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام الشرعية ألا وهو قوله : » وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده «
فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان : » (المواطنة « ) وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده « هل تصلح تلك الحجج ، لمعارضة الأحكام الشرعية الثابتة !!
وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع أصول ثابتة يرجع إليها ، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى « دون أن يذكر » اليهود « وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ » أهل الكتاب « باتفاق أهل العلم ، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان « التي استندتم إليها لإخراج اليهود من تولي المناصب ؟ ! وما النصوص الشرعية من » الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات « التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود والنصارى ؟ ! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود ، وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود ، لكن أقول لك يا أخي : لا تخشَ شيئاً ، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام ، ولم يعد بين المسلمين واليهود حروب ، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك ، وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك : » وبمقتضى هذه المواطنة ، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن يتولوا .... « إلى آخر ما جاء في الفقرة ، بل وأضف البقية الباقية من غير المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان : طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية حلت محل مفهوم أهل الذمة ، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية ؟ !
إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة :
رئيسها مسلم ، ورئيس وزرائها يهودي ، والوزراء خليط من المسلمين واليهود والنصارى ، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً ، حتى تكون هناك عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى ! !
وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه ، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء رئاسة الدولة .
أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك ، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء عليهم ، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة ، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله ورسوله منه .
ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق ، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة ، وإن كان المرء ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة ، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام الذي يقال عنه : مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه ، بل إن الرجل المسلم العامي صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام الذي ذكرتموه ، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه ، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى الشارع المسلم ، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة .
يقول الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم .. } [المائدة : 51](2/180)
يقول ابن كثير رحمه الله : » ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } « أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود والنصارى ، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين) ، إذا كنتم لا توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية : » عن عياض الأشعري أن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر ، وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام ؟
فقال : إنه لا يستطيع ، فقال عمر أجنب هو ؟ قال : لا ، بل نصراني ، قال :
فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ثم قرأ { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ... } ، قال أبو موسى : والله ما توليته وإنما كان يكتب ، فقال عمر رضي الله عنه : أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ ! ، لا تدنهم إذ أقصاهم الله ، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله ، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله « [2] فانظروا كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج على ذلك بالآية المذكورة ، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط ، بل تجعلونه رئيساً للوزراء ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا .
يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة » ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه وتماسكت عناصره « ، وإني لأتعجب : هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات ، وهل من الممكن أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين ؟ ، الشيء الغريب والعجيب في آن :
أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه ؛ لأن هذا الكلام يعنى أن ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً ، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها ، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين ، وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك تجاه النصارى ، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول ، لكن عليك ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم ، فما أظن أن أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك .
ثم أقول : وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً ، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم ؟ ! ألم تسمعوا عن » الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة ، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك النسيج المزعوم .
ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية « وهو يحذر فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه ، إنه كتاب » اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم « فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.
على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك ، فلا علينا أن نسمعكم بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب ، أومن غيرهم ، و تحول بين المسلم وحدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد .
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : منكراً على المسلمين ما يقع منهم من مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى ، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول : » لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جُحْر ضب تبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ « [3]، قال ابن حجر رحمه الله : » قوله : قال فمن : هو استفهام إنكار ، والتقدير : فمن هم غير أولئك « [4]
ويقول -صلى الله عليه وسلم- » من تشبه بقوم فهو منهم « [5] قال ابن تيمية : » إسناده جيد وأقل أحواله : أنه يقتضي تحريم التشبه بهم « وقال صلى الله عليه وسلم : » إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم « [6] ولا يُكَمّل رد السلام ، بخلاف المسلم الذي يقال له : وعليكم السلام ورحمة الله ، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد ، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه ، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره .
وفي النهاية أقول لأصحاب البيان : ما الغرض ، ومن المستفيد ، ومن يرتضي ذلك البيان ؟
فإن كان الغرض أن يرضى عنكم » الأسياد « المحليون أو غيرهم ، فأنا أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام ، ولو تنازلتم عن أمور كثيرة ، فلن يرضوا عنكم ، كما قال تعالى : { ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [البقرة : 120 ] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن الإسلام ، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها .(2/181)
وأما المستفيد ، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة ، وبالتالي رواج الأباطيل بينها ، وسهولة انقيادها للطواغيت .
وأما الرضا ، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين ؛ لأنه لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة .
وأخيراً فلي رجاء : هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق خير له من أن يكون رأساً في الباطل ، آمل ذلك ، لا سيما أنكم إناس مسلمون تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم ، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم ، لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة ، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم وأحاديثهم .
والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم .
________________________
(1) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ح/1731 .
(2) تفسير ابن كثير 2/108 ، فتح الباري 13/196 .
(3) البخاري كتاب الاعتصام بالسنة باب/14 ، ح/7320 .
(4) فتح الباري 13/201 .
(5) أبو داود 4/314 ، مسند أحمد 3/142 وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني .
(6) البخاري كتاب الاستئذان باب 22 ، ح/6258 .
=============
الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية
محمد بن شاكر الشريف
مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي ينتظر ـ حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون ـ أن تعم دول العالم الإسلامي ـ عرباً وعجماً ـ بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن «الآخر»، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يُتداول بين الكُتَّاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: «ما الموقف من الآخر» و «العلاقة بالآخر» و «ينبغي أن لا تنفي الآخر» و «ينبغي التسامح مع الآخر»، «التعاون مع الآخر» ولا بد أن يكون هناك «موقف حضاري وتعددي من الآخر» ومطلوب «القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر» و «الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء» و «إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً ومشاعر» و «اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيّق الهوة مع الآخر».
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من المفكرين العصرانيين. والمقصود بالآخر في هذا الكلام «غير المسلم» أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة، وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقاً، وإما تجبراً وكبراً، ثم يدلي كل من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع «الآخر» وفي النظرة إلى «الآخر» وموقفهم من «أفكار الآخر»، وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
مَنِ «الآخر»؟
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة «الآخر» دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو «غير الإسلامي»، ولفظ «الآخر» لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ «غير» دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا. قال الله ـ تعالى ـ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال ابن جرير: «عنى بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ عمَّ بقوله: وآخرين منهم»(1)؛ فهنا وصف «الآخر» بأنه منهم، مما يعني أن «الآخر» قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن «الآخر» مساقاً واحداً؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن «الآخر» بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام أوالمواقف.
أنواع «الآخر»:
«الآخر» قد يكون كافراً، وقد يكون مسلماً، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهَد. والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. وأهل السنة توجد بينهم خلافات في الفقه على تعدد درجات الاختلاف، كما أن البدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن «الآخر» سَوْقاً واحداً فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو موقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديما قالوا: كِلا طرفي قصد الأمور ذميم.
أصول عامة في مسألة الآخر:
لكن هنا أصول أو قواعد عامة لا ترتبط بـ «الآخر» أياً كان، من فئة أقرب الموافقين أو أبعد المخالفين ينبغي الالتزام والتقيد بها؛ فمن ذلك:
1 ـ العدل:(2/182)
وهو قيمة عليا من قيم الإسلام، وهدف من أهدافه الرئيسة. قال الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، وقال ـ تعالى ـ: {يَ ا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ فالمسلم مطالب بالعدل مع الموافق والمخالف ولو كان كافراً، وإن المسلم لا ينبغي أن يحمله بغضه لأقوام ـ حتى وإن كان يبغضهم في الله ـ على ترك العدل معهم، وظلمهم، بل هو مطالَب ومأمور من الله ـ تعالى ـ بالعدل معهم بـ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وهو أيضاً مطالَب بالعدل مع نفسه ووالديه والأقربين. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، قال ابن جرير ـ ـ رحمه الله ـ ـ: «ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط؛ يعني العدل»(2). فالعدل عند المسلم صفة من الصفات وخلق من الأخلاق، وليس موقفاً من المواقف، وهو ما يعني ان هذه صفة أصلية ثابتة يطبع الإسلام بها المسلم في كل أحيانه؛ إذ العدل واجب من كل أحد على كل أحد في كل حال. ومن العدل ألا نفرق بين المتماثلين، وأن لا نساوي بين المختلفين؛ فمساواة المسلم بالكافر ليس عدلاً، ومساواة السني بالبدعي ليس عدلاً، كذلك مساواة من خالف في الأصول بمن خالف في الفروع ليس عدلاً، كما أن التفرقة بين الناس على أساس الاختلاف في مسائل الاجتهاد؛ بحيث يأخذ هذا حكم، وذاك حكم مع أن الخلاف في مسائل الاجتهاد فليس ذلك أيضاً عدلاً، كما أنه ليس من العدل نقل صورة غير أمينة عن الواقع سواء بالزيادة فيه وتضخيمه، أو بالتنقص منه وتقليله، سواء أكان ذلك يصب في مصلحة المنقول عنه أو ضرره؛ فكل تلك الأحوال ليست من العدل، ويتفرع عنها صور كثيرة جداً؛ والضابط في ذلك أن العدل هو الوقوف عند ما حدَّه الشرع بلا زيادة أو نقص، وليس بما يتصور الإنسان أنه عدل(3)؛ إذ إنه قد يُتصور أمور كثيرة من العدل، وهي ليست منه في شيء.
2 ـ الأخذ بالظاهر:
الإنسان أياً كان؛ فمن الممكن أن يكون عمله في الظاهر ليس متوافقاً مع باطنه، وباطن الإنسان لا يعلمه أحد على الحقيقة إلا الذي يعلم السر وأخفى. وأما الإنسان فليس له إلى علم حقيقة البواطن سبيل، وإن كانت هناك قرائن قد تدل بغلبة الظن على الباطن؛ وعلى ذلك فإننا مطالَبون بالحكم على الشيء المنضبط الواضح وهو الظاهر الذي يظهر من الإنسان، ولا نرتب مواقفنا على تصوراتنا للباطن، ونقول: هو نيته كذا أو كذا، ونحو ذلك من الكلام، وهذه قاعدة معلومة؛ فإن المنافق مع أنه في الدرك الأسفل من النار، لكن لما كان ظاهره الإسلام، وكان يخفي نفاقه في داخله ـ وإن كانت هناك قرائن قد ترشد إلى شيء مما في داخله ـ فإننا نعامله بحسب ما يظهر منه، وهذا أيضاً نوع من أنواع العدل أن تكون المواقف مؤسسة على الأشياء الظاهرة الواضحة وليس على الأشياء الباطنة الخفية؛ إذ لو فُتِحَ باب أخذ المواقف بناءً على الأمور الباطنة الخفية ـ والتي لا سبيل إلى معرفتها يقيناً ـ لفسدت أمور الناس وسفك بعضهم دماء بعض، واستحلوا الأموال بناءً على ما يُتصور لهم في الباطن، وهذا من رحمة الله ـ تعالى ـ بالناس.
3 ـ مرجعية الكتاب والسنة:
فكتاب ربنا ـ تعالى ـ تكفل الله بحفظه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ملحقة به في ذلك الحفظ؛ لأنها من بيان الدين وتوضيحه، وهما المأمور بالاحتكام إليهما لاحتوائهما على الحق الصراح، وهما المأمور بالرد إليهما عند الاختلاف. قال الله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]؛ فعلَّق الإيمان بالله واليوم الآخر على الرد إلى الله والرسول عند الاختلاف والتنازع، وبين أن ذلك هو الخير والأحسن عاقبة ومآلاً، وقد اتفق أهل العلم أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هوالرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد موته -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا يدل على أن الكتاب والسنة فيهما بيان كل شيء وتوضيح كل مشكل، وحل كل معضل. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين»(4)، وعلى ذلك؛ فإن الكتاب والسنة هما اللذان يُرجَع إليهما، ويُعوَّل عليهما في تناولنا لجزئيات الحديث في موضوع هذه الدراسة.
4 ـ التثبت من المنقول قبل اتخاذ المواقف:(2/183)
المواقف لا ينبغي أن تُبنى على الظن ولا على التصور أو التخيل، وإنما ينبغي أن تُبنى على واقع وحقيقة؛ لذا فلا غناء للموقف الصحيح من أن يؤسَّس على التثبت مما ينقل والتأكد من صدقه وصوابه، وهذا أمر ذو أهمية كبرى، وقد أرشدنا الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى التثبت قبل الإقدام بقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6]، وقد قُرئ قوله ـ تعالى ـ «فتبينوا» بقراءة ثانية وهي: «فتثبتوا»، وقال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: «فتبينوا» بالباء، يعني أمهلوا حتى تعرفوا صحته ولا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى «فتثبتوا»(5)، وقد بينت الآية ضرر عدم التثبت؛ إذ يجعل الإنسان نادماً على ما فعل «ولات حين مندم».
وعلى ما دلت عليه الآية السابقة دلَّ قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]، يقول ابن جرير: «إذا سرتم مسيراً لله في جهاد أعدائكم، فتأنوا في قتل مَنْ أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله»(6)، وقد كان التثبت قبل الإقدام من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس بن مالك «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر؛ فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم»(7)، وقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعل خالد بن الوليد عندما أقدم على قتل الذين قالوا: «صبأنا» ولم يحسنوا أن يقولوا: «أسلمنا» فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ابن الوليد ـ مرتين»(8)، قال الخطابي: «أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا»(9).
5 ـ قبول الحق ممن جاء به:
الحق لا يستمد قيمته من قائله، أو من الظرف الذي قيل فيه، وإنما يستمد ذلك من كونه الحق؛ فالحق يحمل قيمة ذاتية مستقلة عن ظروف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإذا كان الحق يُقبل لأنه حق؛ فلذلك يُقبل الحق ممن جاء به، سواء كان من جاء به مسلماً أو كافراً، أو شريفاً أو وضيعاً؛ فقد يقول الكافر أو المنافق كلمة الحق، كما قد يقول المؤمن كلمة الباطل؛ لذلك جاء في وصية معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ التي سبقت وفاته بعدما حذر من زيغة الحكيم، وبين أن المنافق قد يقول كلمة الحق، وأن الشيطان قد يلقي كلمة الضلالة على لسان الرجل الحكيم قال: «فخذ العلم أنَّى جاءك؛ فإن على الحق نوراً»(10).
وقد حشر لسليمان ـ عليه السلام ـ جنوده من الجن والإنس والطير، وكان فيهم الذي يقدر على إحضار عرش ملكة سبأ في طرفة عين، ومع ذلك فلم يُخبر بخبر ملكة سبأ إلا هدهد، وقد قال الشيطان لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح» وأبو هريرة لا يعرفه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة لما قص عليه ذلك: «أما إنه قد صدقك، وهو كذوب»(11)، فلم يمنع كونه شيطاناً أن يُقر الحق الذي قاله، لكن لا بد من الاحتراز في مثل ذلك؛ حيث لا يقبل منه إلا الجزء الذي تبينت حقيقته، ولعله لأجل ذلك عقَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله: «صدقك» بكلمة: «وهو كذوب» حتى لا يكون قوله: «صدقك» تعديلاً وتوثيقاً له يحمل السامع على قبول كل ما جاء به، وقد قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «إن الحق لا يُعرف بالرجال»(12)، مما يعني تميز الحق وتفرده وقبوله ممن جاء به.
الموقف من فكر الكافر:
الكافر هو كل إنسان لم يؤمن بالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يدن بدين الإسلام سواء كان من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو كان من عبدة الأصنام والأوثان، أو كان ـ في ظاهره ـ لا يعبد شيئاً؛ فهذه الأصناف جميعها كفار، وعلى ذلك تطابقت أدلة الشرع من الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك أهل الإسلام علماؤهم وعوامهم، بل الكفار أنفسهم يعلمون أن من دين المسلمين تكفير كل من لم يؤمن بالله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والكافر قد يكون مقيماً بدار الإسلام إذا كان ذمياً أو دخل إليها بعهد أو أمان، كما قد يكون مقيماً ببلاد الكفر (دار الحرب، أو دار العهد)، والكلام هنا مقصور على الكافر المقيم بيننا؛ فهذا هو المقدور عليه:(2/184)
قَبِلَت الشريعة ـ وفق شروطها المعلومة ـ إقامة الكافر ببلد المسلمين، مع بقائه على دينه، وهذا يعني أن الكافر المقيم بدار الإسلام بسببٍ مشروعٍ لا يُجبر أو يُكره على ترك دينه والدخول في الإسلام، وهذا يتناول بالضرورة أن الكافر غير مجبر على ترك آرائه وأفكاره الشخصية وتصوراته سواء منها ما خالف الإسلام أو وافقه، وهذا يسميه بعض الناس: «حرية الاعتقاد» أو «حرية وحق التفكير» إلى غير ذلك من المسميات، ونحن لا نسمي ذلك «حقاً» أو «حرية» لأن الله لم يعط أحداً الحق في الكفر أو الضلال، ولم يبح ذلك في شريعته قط، وإنما نسمي هذا «عدم الإكراه» أو «الجبر» فلا حق لإنسان في أن يكفر ولا «حرية» في أن يضل ويشرد عن الطريق المستقيم. ولكن نقول كما قال ربنا: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ فنحن لا نُكرِه الكافر على الإسلام وإن كان لا حق له في أن يكفر، ويترتب على هذا الفرق الذي لم ينتبه له كثير من الكتاب المعاصرين تحديدُ الموقف من حكم نشر أو إذاعة الكافر لآرائه بين المسلمين؛ فإذا كان الكافر لا حق له ولا حرية في أن يكفر ويضل؛ فمن باب أوْلى لا حق له ولا حرية في نشر كفره وإذاعته بين الناس، وعدم إكراهه على الإسلام والهدى لا يعطيه حق الدعوة إلى كفره وضلاله في بلاد المسلمين.
وما يتكلم فيه الكافر المقيم بدار الإسلام إما أن يكون أموراً دنيوية بحتة، وإما أن يكون مسائل دينية أو لها متعلق بالدين. فالمسائل الدنيوية البحتة كالمسائل المتعلقة بالخبرة المكتسبة في الزراعة مثلاً أو الصناعة أو تخطيط المدن، وأشباه هذه الأمور، فليس بين أيدينا نصوص معينة تمنعه من المشاركة في ذلك أو من نشر رأيه في ذلك والدعوة إليه، ومن ثم فإن حريته في نشر ذلك النوع من الفكر والدعوة إليه يتبع السياسة الشرعية ويرتبط بالمصلحة في كل عصر.
وأما المسائل الدينية أو المسائل المتعلقة أو لها اتصال بالدين فيرى بعض المعاصرين أن في منعه من نشر فكره المخالف لدين الإسلام حَجْراً على الفكر وكبتاً لحريات الناس، وأن من حقه أن ينشر ما يراه، وينبغي أن يُمَكَّن من ذلك، وأن تُفتح له وسائل النشر المتعددة أبوابها، وربما يُعلل ذلك بأن صاحب الفكر الصحيح أو القوي لا يخاف أو يؤثر عليه صاحب الفكر الباطل والضعيف، وقد يضيف إلى ذلك قوله بأن بلاد الغرب أو الشرق الكافر تمنح المسلمين حرية نشر أفكارهم الإسلامية والدعوة إليها وهذا قمة الرقي والتحضر أو التمدن الحقيقي، حيث لا حجر على نشر الأفكار أياً كان نوعها، وينبغي أن نعاملهم بالمثل.
وهذه كما نرى احتجاجات فكرية، وهي احتجاجات مُقابلة بما هو أقوى منها وأكثر منطقية، ولا يتعارض مع العقول السليمة، فإذا قلنا: إن شريعة الإسلام تشهد بالبطلان على كل ما يخالفها ويناقضها، وأن في مخالفتها ومناقضتها الخسران والبوار، وأنها لذلك لا تسمح لأحد بنشر الدعوة المضادة لها بين أتباعها في أرض تحكمها وتسيطر عليها، كان هذا قولاً مقبولاً معقولاً؛ إذ كيف يستجيز عاقل يريد أن يبني بناءً أن يترك آخرين يهدمون ما يبني وهو قادر على منعهم، ويعلل ذلك بأنه قوي وأنه قادر على بناء ما يهدمون، هذا ليس بتصرف العقلاء.
وأما النقطة الثانية وهي سماحهم لغيرهم بالدعوة إلى أفكارهم ونشرها؛ فإن هذا له ما يسوغه عندهم، وهم في ذلك متوافقون من أنفسهم وليسوا مخالفين لنظمهم؛ فإن القوم مرجعيتهم العليا في ذلك هى الإنسان نفسه، وليس لهم مرجع خارج الإنسان نفسه؛ فالفكر الذي ينظر إليه على أنه مُغرق في الفساد الذي لا تقبله الفطرة يتمتع بالقدر نفسه من الحجية التى يتمتع بها الفكر الذي ينظر إليه على أنه فكر صالح؛ إذ الكل صادر عن الإنسان صاحب المرجعية العليا عندهم؛ حتى وجدنا لديهم أفكاراً في منتهى الفساد ـ ربما لا تقبلها بعض الحيوانات ـ تحولت عندهم إلى واقع ممارس أو قوانين يحتكم إليها الناس؛ ففي تلك البلاد توجد حرية الزواج بين المثلين (رجل لرجل، وامرأة لامرأة) بل يوجد عندهم زواج المحارم حيث يتزوج الرجل ابنته، وهكذا.
وعلى هذا نقول: لو أنهم سمحوا في بلادهم للمسلمين بنشر أفكارهم ودعوتهم؛ فهم لم يخالفوا القاعدة التى ينطلقون منها، ولا يُقبل شرعاً أو عقلاً أن نكافئهم على عدم مخالفتهم لأنظمتهم بمخالفتنا لشريعتنا.
أدلة عدم جواز نشر ما يخالف الشريعة:(2/185)
وقد دل عدم جواز نشر أو إذاعة آراء وأفكار الكفار المخالفة للشرع أدلة كثيرة؛ فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]؛ فأمر الله ـ تبارك وتعالى ـ بالإعراض ـ أي الصد وعدم الاستماع أو الجلوس ـ عمن يخوض أى يستهزئُ ويكذِّب بآيات الله أو يخالفها ويناقضها حتى يأخذوا في حديث آخر؛ أي حتى يبتعدوا عن الخوض في آيات الله؛ فالمسلمون ممنوعون من الإقبال أو الجلوس إلى الكفار والاستماع إليهم حال خوضهم في آيات الله، وإذا كان المسلمون ممنوعين من ذلك، فلا يجوز أن يباح أو يسمح للكفار بأن يقتحموا على المسلمين بيوتهم ومجالسهم ونواديهم ـ عن طريق وسائل النشر الحديثة ـ ليسمعوهم باطلهم وكفرهم بآيات الله وتكذيبهم لها أو معارضتهم ومخالفتهم لها؛ لأنه لا يقول عاقل إن المسلم لا يجوز له أن يذهب إلى الكفار ويجلس إليهم ويستمع لما يقولون، بينما يجوز أن يذهب الكفار إلى المسلم ليسمعوه ما عندهم من الخوض في آيات الله، ولو قال قائل: إن هذه الآية منعت المسلمين من الجلوس لسماع خوض الكفار، ولم تأمر المسلمين بمنع الكفار عن الخوض في الدين، قلنا: هذه الآية مكية، والمسلمون في مكة لم تكن لهم قوة أو ولاية أو سلطان يتمكنون به من دفع الكفار عن الخوض في دين الله، وكان كل الذي يمكن فعله في هذه الحالة هو منع المسلمين من الجلوس إلى الكفار والاستماع إلى خوضهم في الدين، وهذا قد جاء الأمر به.
فلما انتقل المسلمون إلى المدينة وصارت لهم قوة ومنعة ودار حصينة، لم يكن أحد يستطيع إظهار الخوض في آيات الله، أو دعوة المسلمين إلى ذلك، وإنما كان يقوم بشيء من ذلك المنافقون، ولا يجلس إليهم أو يستمع إليهم إلا أمثالهم، فنزل تحذير الله لهم بقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138]، إلى قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وفي هذه الآية زجر شديد عن الجلوس والاستماع إلى الخائضين؛ وذلك حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ}. فلم يكن أحد في المدينة وخاصة بعد انتصار المسلمين في بدر، يستطيع أن يجهر بالخوض في آيات الله، واقتصر ذلك على المنافقين أو اليهود في مجالسهم الخاصة التي لا يطلع عليها غيرهم، ولذلك كان القرآن إذا نزل يخبر عن أقوالهم وأفعالهم؛ إذ ينظر بعضهم لبعض ويقول: هل سمع خبركم أو رآكم أحد، فأخبر محمداً -صلى الله عليه وسلم- بذلك؟ وهذا من قلة علمهم وفقههم؛ لأن الله ـ عز وجل ـ هو الذي يخبره. والمقصود أنهم كانوا يسرون ولا يجهرون، قال الله ـ تعالى ـ مبيناً ذلك: {وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]. قال القرطبي: المنافقون: «إذا حضروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يتلو قرآناً أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا، فينقله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه»(13).
وإذا كانت وسيلة نشر الأقوال في الزمن الغابر هي الجلوس إلى صاحب القول والاستماع منه؛ فإن الوسائل قد تعددت الآن وتنوعت، وإذا كان المسلمون ممنوعين من الجلوس والاستماع لمن يخوض في دين الله؛ فإن المنع ليس قاصراً على الوسيلة، وإنما هو المنع من الاستماع للباطل، فيعم ذلك كل وسيلة تؤدي الغرض نفسه.
ومن الأدلة على ذلك أن يقال: إن الله ـ تعالى ـ ما أنزل كتبه ولا أرسل رسله إلا للنهي عن الشرك كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وآيات كثيرة في ذلك، وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ فهذا أعظم مقصد من مقاصد بعثات الرسل على تعدد الأزمان؛ فكيف يقال إنه تباح الدعوة إلى ما يناقض ذلك، وأنه يحق لكل أحد التعبير عن ذلك ونشره بين الناس؟ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ..»(14). فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مأموراً بقتال الناس من أجل توحيد الله تعالى؛ فكيف يقال: ينبغي أن تعطى للكافر الحرية ليدعو إلى كفره وشركه أو مناقضة ما هو معلوم من دين الإسلام؟(2/186)
وقد عمل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومَنْ بعدَهم من أهل العلم بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فقد جاء في الشروط العمرية(15)، التي تؤخذ على أهل الذمة: «ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً»، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في شرح هذه الفقرة من الشروط العمرية: «هذا من أوْلى الأشياء أن ينتقض العهد به»(16)؛ فبين ـ رحمه الله ـ أن العهد ينتقض بذلك؛ وانتقاض العهد يحل دمه وماله. وذكر في الفروع أن العهد ينتقض بـ «ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء»(17)، وكذلك الأمر لو «فتن مسلماً عن دينه»(18)، وبعض أهل العلم يقول: ينبغي على الإمام أن يشترط عليهم أن من فعل ما تقدم ذكره ينتقض عهده، وإن لم يشترط ذلك في العقد فلا ينتقض عهده بذلك، ويعللون ذلك بأن من دينهم سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسب الإسلام، لكنهم يمنعون من إظهار ذلك؛ فأهل العلم متفقون على منعهم من إظهار الطعن في ديننا والانتقاص له، والخلاف بينهم هل يُعَدُّ ذلك منهم نقضاً للعهد حتى لو لم يشترط عليهم في أصل العقد، أم لا يكون ناقضاً إلا بالاشتراط(19)؛ فقد دلت الآيات والأحاديث ومقاصد الدين وكلام أهل العلم على عدم جواز السماح للكفار بنشر أقوالهم أو أفكارهم المناقضة للإسلام، فلا ينبغي أن يسمح لهم بذلك، ولا تجوز معاونتهم فيه؛ لأن التعاون المشروع هو التعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان. قال الله ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، وقد دلت النصوص أن من عاون أو ساعد في ذلك فله من جرمهم نصيب. قال الله ـ تعالى ـ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة الكافرين ودعوتهم إلى الإسلام ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وسماع ما عندهم من شبهات أو اعتراضات تصرفهم عن الدين، والجواب عنها، ولا مانع من أن تُعقد جلسات لذلك بين الدعاة المسلمين وبين المدعوين الكفار لعرض الإسلام عليهم وبيان حقائقه ومزاياه، لكن هذا لا يستلزم السماح لهم بنشر أفكارهم المخالفة للإسلام والدعوة إليها بوسائل النشر المعلومة؛ إذ لا ارتباط بين دعوتهم إلى الإسلام وبين السماح لهم بعرض ما عندهم على الناس.
الموقف من فكر المسلم المخالف:
عندما نتكلم عن المسلم فإنما نتكلم عن الشخص الذي يُحكَم له بالإسلام شرعاً، وليس عمن هو مولود لأبوين مسلمين، أو من كان مسمى باسم من أسماء المسلمين؛ لأنه يوجد في وقتنا الحاضر أناس لهم أسماء إسلامية لكنهم اعتنقوا آراءً وأفكاراً خرجت بهم من حظيرة الإسلام؛ فالشخص الذي لا يرى الإسلام ناسخاً لما سبقه من الرسالات، ويرى أن المسلمين واليهود والنصارى كلهم مؤمنون وأنهم ناجون في الآخرة، وأن الاختلاف بينهم كالاختلاف بين المذاهب الفقهية، وكذلك الذي يرى أن الإسلام صالح فقط لحياة البداوة، وأنه قد استنفد أغراضه، وأنه لم يعد صالحاً للحياة المعاصرة، وكذلك الذي يرى أن الحدود الشرعية عقوبات غير مناسبة للعصر الحديث، وأنه ينبغي استبدالها، وكذلك الذي يرى أنه ينبغي المساواة بين الذكر والأنثى في قسمة الميراث، وكذلك الذي يرى أن الشاب أو الفتاة إذا بلغا سن الرشد فإن لكل منهما أن يقيم ما شاء من علاقات «جنسية» خارج إطار الزواج ولا حرج عليه أو لوم في ذلك، ونحو هذا الكلام؛ فإن كل هؤلاء قد خرجوا من حظيرة الإسلام باتفاق العلماء؛ لأنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وإن كانت لهم أسماء إسلامية، وإن كانوا ما زالوا يؤمنون ببعض ما جاء به الشرع: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْملُون} [البقرة: 85]. ونحن هنا لا نتكلم عن هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدخلون في الصنف الذي تقدم الكلام عنه، وإن كان هؤلاء من حيث الحقيقة لا يكون لهم وجود في دار الإسلام؛ لأن المرتد لا يُقَر على ردته؛ فإما أن يتوب ويرجع وإما أن يُقتل، وإنما يُتصور وجود هؤلاء: إما في بلاد الكفر، وإما في بلاد المسلمين التي لا تلتزم شرع الله، وأما في البلاد التي تلتزم شرع الله فإن هؤلاء يسرون ذلك الكلام ويخفونه، ولا يبوحون به إلا لأمثالهم؛ فهم في هذه الحالة منافقون. والمراد بحديثنا في هذه الفقرة المسلم المحكوم له بالإسلام شرعاً، وهنا أيضاً نقسم الفكر إلى نوعين:
نوع في مسائل الدين أو متعلق بمسائل الدين، ونوع متعلق بمسائل الدنيا البحتة:
الفكر الدنيوي:(2/187)
لا تلزم الشريعة المسلمين باتباع نمط واحد في الفكر الدنيوي ولا تحجر عليهم في ذلك، ولا تمنعهم من نشر ما لديهم من الأفكار النافعة المفيدة التى تنفع المسلمين في حياتهم الدنيا، ولا بأس من تحاور المسلمين في ذلك وعقد المناقشات أو الندوات والمؤتمرات التي يعرض فيها كلٌ ما عنده، وليس من اللازم أن يتفق المسلمون في هذا النوع من الفكر، ولا يلام أحد على الخلاف في هذا الباب، وليس في منع هذا النوع حجة شرعية يُستند إليها، كما أنه ليس في منعه فائدة دنيوية، ويجوز نشر هذا النوع من الفكر بوسائل النشر المتعددة، لكن ينبغي أن يكون ذلك من أجل تقديم شيء مفيد نافع أو الوصول إلى شيء مفيد نافع، وأن يتكلم الإنسان فيما يحسن من الأمور، وأن لا يكون الحديث أو النشر هو الغاية؛ إنما الغاية تحقيق مصلحة حقيقية من وراء ذلك، ولا يضر المسلم بعد ذلك الخطأ في هذا النوع من الفكر.
الفقه في الدين:
النوع الثاني من الفكر هو الفقه في الدين، وهو ليس فكراً بالمعنى المتداول بين الناس «أي تكوين آراء قائمة على التأمل في الواقع من خلال الخبرات المكتسبة وإعمال العقل انطلاقاً من تلك الخبرات»، وإنما الفقه هو: فهم المراد من نصوص الشرع ـ سواء أكانت النصوص تتعلق بمسائل الأصول أو بمسائل الفروع ـ وتقديم الآراء والحلول لما يجدُّ من أشياء وأمور استناداً إلى النصوص الشرعية والفقه فيها، والخلاف في فهم النصوص الشرعية أمر متصوَّر وممكن الحدوث، وقد وقع فعلاً، وله أنوع:
1 ـ خلاف في مسائل الأصول (العقيدة):
والعقيدة هي كل ما يجب على المسلم اعتقاده يقيناً من غير شك أو ارتياب ولا يجوز له مخالفته، والعقيدة التي تتمتع بذلك هي عقيدة «أهل السنة والجماعة» وهي ـ بحمد الله ـ مدونة مسطورة، محددة مضبوطة، وما خالف هذه العقيدة فهو البدعة كبدعة الخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة والجهمية والروافض (وهاتان الأخيرتان قد تكلم أهل العلم في تكفيرهما)، وقد نهى أهل العلم قديماً وحديثاً عن الجلوس إلى أهل البدع والاستماع لما هم عليه (وإن قلتَ: أرد عليهم؛ فقد تدخل عليك شبهتهم ولا تستطيع ردها فتصبح بعدها متحيراً مضطرباً).
قال في فتح القدير في قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} [الأنعام: 68]: «وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة؛ فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم(20)».
وإذا كان الدعاة إلى البدع ـ كما قرر أهل العلم من السلف والأئمة ـ لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون عقوبة لهم حتى ينتهوا عمّا هم فيه(21)؛ فكيف يجوز نشر بدعهم والسماح بذلك بزعم «حرية الفكر» أو «حق التعبير» أو «إشاعة ثقافة التعدد» أو «إطلاق روح الإبداع»، ومثل هذه العبارات التى لا يترتب عليها غير إفساح الطريق أمام الدعوات الضالة والمنحرفة عن الصراط المستقيم لتغزو العقول والنفوس، وتؤثر في الأفكار والتصورات لتنتج في النهاية مجتمعاً متناقضاً متعارضاً، لا يرجى منه نفع ولا يعوَّل عليه في تحقيق هدف.
فالدعوة إلى الضلال لا تجوز ويتحمل الداعي وزر ذلك، وكذلك المعِين على ذلك أو المساعد فيه، وقد قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(22).
وقد منع أهل العلم قديماً وحديثاً من نشر الأقوال المضلة، وقالوا بحرق أو إتلاف الكتب المشتملة على تلك العلوم الباطلة. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أوْلى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، أو إتلاف آنية الخمر؛ فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها»(23). وقال النووي: «قال أصحابنا: ولا يجوز بيع كتب الكفر؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة، بل يجب إتلافها... وهكذا كتب التنجيم والشعوذة والفلسفة، وغيرها من العلوم الباطلة المحرمة؛ فبيعها باطل؛ لأنه ليس فيها منفعه مباحة والله ـ تعالى ـ أعلم»(24). وقد ظهر في عصرنا الحاضر عدد من البحوث التي تدعو إلى مذهب المرجئة وتنتصر له، فأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية في السعودية بعدم جواز نشر هذه الكتب أو طباعتها.
ومن الأدلة على عدم جواز نشر أفكار البدع والضلالات الكثرة الكاثرة من النصوص الشرعية التي تُلزم المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف يكون هناك تقيد والتزام بتلك النصوص مع القول بجواز نشر البدع تحت زعم «حرية النشر» و «حق التعبير» ونحو ذلك الكلام؟
ومن الأدلة أيضاً قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما تلا قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم»(25)؛ فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالحذر منهم؛ فكيف يُعطَوْن الحق في التعبير أو نشر ما حذَّر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟(2/188)
وينبغي أن نشير هنا إلى أن المسلم قد يقع في مسألة أو مسألتين أو نحو ذلك، فيخالف بذلك مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يعد بذلك مبتدعاً؛ لأنه لم يؤسس أقواله تلك على أصول أهل البدع، ولم يتخذ البدعة له منهجاً، وإنما وقع فيها من قبيل الخطأ؛ فلا يعد ميتدعاً إلا من يؤسس أقواله على أصول أهل البدع. لكن هذا الموقف إنما هو من الشخص القائل. أما الموقف من القول المبتدع فلا يتغير، بل يجب رده وعدم نشره أياً كان الموقف من قائله، وقد يبدو لبعضهم هنا أن يقول: لماذا لا تُترك لهم حرية نشر أفكارهم وآرائهم على الناس، ثم يُرد عليها ويُبين ما فيها من خطأ، ولا شك أن هذا الكلام يروِّجه بعضهم، وينظرون إليه على أنه من قبيل حرية الفكر، وأن نشر هذا الكلام أوْلى من جعله ينبت في السر والخفاء، لكن هذا القول معارَض بما كان عليه سلفنا الصالح؛ إذ الفتاوى المشهورة عنهم بهجر أصحاب البدع وعدم الجلوس إليهم والاستماع لهم. ثم إن هذا العمل ليس فيه فائدة سوى التشويش على بعض الذين لم ترسخ عندهم الحقائق، إضافة إلى إضاعة الوقت، ولهذا لا نرى صواب ما تقوم به بعض وسائل النشر والإعلام من عمل المناظرات والمقابلات بين من يحملون العلم الشرعي، وبين من يناقضون ذلك ويتمسكون بالأقوال المخالفة له؛ إذ لا فائدة ترجى من وراء ذلك؛ فلم نر أن أحداً على كثرة هذه المناظرات رجع عن مقالاته الفاسدة، وكل ما هنالك أنه تمكن من إسماع باطله لعدد كبير من الناس، ثم إنه قد يتأثر بباطله بعض أصحاب العقول الضعيفة، ولسنا نمانع من إجراء هذه المناظرة وأمثالها؛ ولكن ليس عن طريق النشر في وسائل الإعلام لما يترتب على ذلك من المفاسد التي تزيد عن المصالح المتوقعة. أما إذا لم يكن هناك طريق فعال للرد على تلك الأباطيل غير ذلك؛ فهل يجوز أن نشارك في الرد على أهل الباطل، ومناظرتهم في تلك الوسائل؟ والذي يظهر أن جواب ذلك مرتبط بالمصلحة حسبما تقرر في فقه السياسة الشرعية.
2 ـ خلاف في مسائل الفروع (الخلاف الفقهي):
وهو نوعان: خلاف تنوع وخلاف تضاد. والمراد بخلاف التنوع: هو خلاف في أمور متعددة كلها مشروعة فيختار هذا نوعاً، ويختار ذلك نوعاً آخر، ولا حرج في ذلك. ويلحق بالخلاف في ذلك الاختيارات المتعددة المتعلقة بأمور الدنيا، وهذا النوع لا يُحظر نشره والدعوة إليه بين الناس، وليس من شروطٍ في هذا غير عدم البغي على الآخرين. والمراد بخلاف التضاد: هو التناقض بين الأقوال، وهو أيضا نوعان:
- فخلاف تضاد ضعُفَ فيه أحد القولين ضعفاً كبيراً لمخالفته النص أو الإجماع أو نحوه، ومثل هذا القول يُنقَض؛ فلو حكم به حاكم نُقض حكمه. وما كان سبيله هذا السبيل فلا يجوز نشره والدعوة إليه والاستدلال له ممن يرى صوابه، وإن جازت حكايته لبيان خطئه وبعده عن الصواب. يقول شيخ الاسلام: «فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما يُنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو معنى ذلك»(26).
- وخلاف تضاد لم يضعف فيه قول من الأقوال بحيث يُرَدُّ؛ ومسائل هذا النوع يعبر عنها أهل العلم بمسائل الاجتهاد؛ فهذا النوع من الخلاف لا يمنع نشره والدعوة إليه، ومن رأى صواب شيء من الأقوال فله نشر ذلك والدعوة إليه، وعلى ذلك جرى الحال منذ أيام الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلى يومنا هذا، يختلفون في كثير من هذا النوع من المسائل ولا يحجر بعضهم على بعض أو يبدِّع بعضهم بعضاً أو يفسق بعضهم بعضاً؛ مع الحفاظ على الأخوة والمحبة والألفة. وهكذا يتبين أنه ليس عندنا مشكلة تتعلق بحرية الفكر أو حق التعبير؛ فكل ما يسوغ القول به أوالعمل في الشريعة فلا منع ولا حرج من نشره والدعوة إليه، ولكن كثيراً من القوم يريدون منا تحت زعم «حرية الفكر» أو «حق التعبير» أو «إشاعة ثقافة التعدد» أن نبيح ما لا يباح وأن نتجاوز ما لا يجوز تجاوزه.
وقد سئل شيخ الإسلام عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد؛ فهل ينكر عليه أم يُهجَر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين فاجاب: «الحمد لله: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين. والله أعلم»(27).
وينبغي أن يُعلم أن التقليد هنا رخصة، ولا يجوز لمستعملها أن يدعو إلى ما تضمنه وينافح عنه ويستدل له، إنما يقوم بذلك من كان لديه علم بالأدلة؛ أما من ليس عنده غير التقليد فإنه لا ينبغي له أن ينشر؛ لأنه ليس من أهل ذلك، ولو تقيد الناس بذلك لقل كثير من الكلام الدي يُنشر؛ لأنه ليس من أهل العلم. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء»(28)، وقال: «مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل؛ فهذا خلاف إجماع المسلمين(29)».
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوِّز «شركة الأبدان» فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: «ليس له منع الناس من ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك»(30).(2/189)
وينبغي هنا التفريق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ إذ بعض الناس يستخدمون اللفظين على أنهما مترادفان؛ ومسائل الخلاف أوسع أو أعم من مسائل الاجتهاد؛ فمسائل الخلاف تشمل المسائل التي اختلف فيها المسلمون سواء أكان هذا الخلاف سائغاً أو غير سائغ، وأما مسائل الاجتهاد فإنما تتناول أو تشمل المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف.
آداب النشر:
وفي الدعوة إلى مسائل الاجتهاد أو نشرها ينبغي مراعاة أمور كثيرة حتى يكون العمل نافعاً مفيداً من غير أن يترتب عليه ضرر؛ فمن ذلك:
ـ عدم البغي أو الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، والبحث له عن زلات أو عيوب خارجة عن نطاق الموضوع. ومنه أن تكون المرجعية والمحاججة لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وليس لفلان؛ فإذا وقف الأمر عند حد المحاججة بالرجال فينبغي أن ينتهي الحديث عند ذلك. ومن ذلك العلم؛ فلا يتكلم في شيء إلا إذا علمه صحيحاً من مصادره الصحيحة، وليس لمجرد كلمة يقرؤها من هنا وكلمة من هناك، ثم ينصب نفسه للدعوة والمجادلة. ومن ذلك عدم إهدار ما عند الآخرين من الخير والفضل من أجل الخلاف في هذه المسائل، ومن ذلك عدم التفسيق أو التبديع؛ لأن هذه المسائل ليست من مسائله. ومن ذلك أن يكون الحرص على الاتفاق لا على تأكيد الخلاف، ومن ذلك أن تبقى الأخوة والمودة والتناصح والتعاون على الخير حتى مع استمرار الخلاف.
لكن هناك مسألة ينبغي النظر إليها، وهي ما إذا كان الشخص قد جمع بين الأمرين: بين فساد في بعض مسائل الاعتقاد أو الأقوال الفقهية الشاذة، وبين جودة رأي في بعض المسائل الأخرى؛ فهل يسمح له بحرية النشر في المجال الذي أجاد فيه؟ وهذه المسألة قد تطرَّق لشبيه لها من بعض الوجوه علماء الحديث من قبل فيما يخص جواز التحديث عن أهل البدع؛ فبعض أهل العلم رأى أن مجال الرواية هو على الأمانة والصدق والضبط، فإذا كان الرجل أميناً صادقاً ضابطاً فلا حرج من التحديث عنه، وعليه بدعته.
ورأى آخرون أن يترك حديثه لئلا يكون في التحديث عنه إشهار لأمره وتعديل له وتزكية. وفصَّل آخرون وقالوا: إن كان ما يرويه يدعم بدعته ويؤيدها فلا يقبل، وإلا فلا مانع من التحديث عنه بشرط الصدق والضبط.
والذي يترجَّح لديَّ أن هذه المسائل تعد من مسائل السياسة الشرعية التي لا يترجَّح فيها قولٌ واحدٌ على طول الزمن، وإنما هو تابع للمصلحة الشرعية في كل عصر؛ فإن كان يوجد من بين المسلمين سليمي العقيده من يغني عما عنده من جودة فكر ورأي؛ فلا أرى تمكينه من النشر ومخاطبة الناس، وإن كان لا يوجد من يغني عنه، فلا مانع من النشر له في هذا الباب فقط، والمسألة من قبل ومن بعد مسألة اجتهادية.
________________________________________
(1) تفسير ابن جرير 82/62.
(2) تفسير ابن جرير 5/123.
(3) انظر منهاج السنة لابن تيمية 3/2، (طبعة أنصار السنة بالقاهرة).
(4) مجموع الفتاوى 91/671، وانظر الموافقات للشاطبي 3/712 ـ 812.
(5) تفسير ابن جرير رحمه الله 62/321.
(6) المصدر السابق 5/122.
(7) أخرجه البخاري كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، رقم 585، واللفظ له، ومسلم 1/882.
(8) أخرجه البخاري (3/391 فتح الباري).
(9) ذكره ابن حجر 8/85 فتح الباري.
(10) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/315) وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه أبو داود 4/202.
(11) أخرجه البخاري، باب فضل سورة البقرة.
(12) تفسير القرطبي 1/043.
(13) تفسير القرطبي 8/992.
(14) متفق عليه.
(15) العمرية: نسبة إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي وردت عنه تلك الشروط، وأهل الذمة هم الكفار الذين يقيمون بدار الإسلام بعد التزامهم بأحكام أهل الذمة.
(16) أحكام أهل الذمة 3/4521.
(17) الفروع 6/752.
(18) التنبيه 1/932، وانظر منار السبيل 1/582.
(19) انظر في تفصيل ذلك أحكام القرأن، للجصاص 4/572، أحكام أهل الذمة، لابن القيم 3/7531.
(20) فتح القدير 2/821.
(21) انظر مجموع الفتاوى 82/702.
(22) اخرجه مسلم، باب من سن سنة حسنة 4/0602.
(23) الطرق الحكمية، ص، 235.
(24) المجموع شرح المهذب (91042).
(25) أخرجه البخاري 4/5561 ومسلم 4/3502.
(26) مجموع الفتاوى (72/403).
(27) مجموع الفتاوى (2/702).
(28) مجموع الفتاوى (53/212).
(29) مجموع الفتاوى (53/232).
(30) مجموع الفتاوى (03/08).
البيان السنة التاسعة عشرة * العدد 206* شوال 1425هـ * نوفمبر/ديسمبر 2004م
=============(2/190)
حكم المشاركة في الحرب العراقية
المجيب …د.حاكم عبيسان المطيري
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعةوالدراسات الإسلامية بجامعة الكويت
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …17/1/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: د. حاكم المطيري (عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت) وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تحية طيبة وبعد..
فقد صدرت -مؤخراً- فتوى بجواز المشاركة في الحرب على العراق، وأن ذلك من الجهاد في سبيل الله، بدعوى أن العراق فئة باغية، وأن الحرب هي على الحزب الحاكم؛ لا على العراق وشعبه، وبدعوى أن إعانة أمريكا جائزة قياساً على الاستعانة بها سنة 1990م وأن من يرفض المشاركة فيها مغرر به وجاهل بأحكام الشريعة...إلخ والسؤال هو ما مدى صحة هذه الفتوى شرعاً؟ وما حكم المشاركة في هذه الحرب؟ علماًَ أن الموقف الحكومي الرسمي هو أن الكويت ليست طرفاً في هذه الحرب، ولن تشارك فيها، وأنها ملتزمة بقرار الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي الرافض للحرب؛ إلا أنها لا تستطيع المنع من استخدام أراضيها، وأن قواتها وقوات درع الجزيرة إنما هي للدفاع عن نفسها، أفتونا مأجورين مع التفصيل فقد أشكل علينا الأمر.
مقدمه: مجموعة من طلبة كلية الشريعة والدارسات الإسلامية بجامعة الكويت
الجواب
هذه الفتوى المذكورة ظاهرة البطلان، ومصادمة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة القطعية، ومخالفة للقواعد الشرعية، والأصول المرجعية للفتوى، وذلك من وجوه:
الأول: إن إعانة غير المسلمين في حربهم على المسلمين يحرم بالإجماع القطعي؛ لقوله تعالى في شأن مناصرة غير المسلمين "بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" قال ابن حزم في المحلى (10/138) (هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) واحتج القرطبي في تفسيره (60/717) بهذه الآية على ردة من أعانهم، وقد عدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام كما في الدرر السنية (10/92) ونقل الشيخ ابن باز الإجماع على ذلك فقال في الفتاوى (15/774):" أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين، وساعدهم بأي نوع من أنواع المساعدة فهو كافر مثلهم"، واحتج بهذه الآية.
الثاني: إن قياس إعانتهم في حربهم للمسلمين على الاستعانة بهم قياس فاسد الاعتبار؛ إذ هو قياس قضية إجماعية وردت فيها نصوص قطعية على قضية خلافية بين الفقهاء، تعارضت فيها الأدلة وهو قضية الاستعانة بهم لدفع عدو مشترك أو لدفع عدوان مسلم ظالم صائل على المسلمين.
الثالث: أن الاستعانة بهم سنة 1990 جازت للضرورة ردا على العدوان، وتقدّر الضرورة بقدرها فلا يقاس عليها إعانتهم في عدوانهم على العراق لقوله تعالى: "ولا تعتدوا" وقوله: "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" وقوله - صلى الله عليه وسلم- "ولا تخن من خانك".
الرابع: إنه لا يُعرف في تاريخ المسلمين كله، ولا في علمائهم من أفتى بجواز إعانتهم على المسلمين، وليس لهؤلاء الذين يجيزون إعانتهم سلف؛ اللهم إلا ما كان عن نصير الطوسي الذي شجع التتار على دخول بغداد سنة 656هـ بدعوى رفع الظلم عن أهلها فقتل التتار مليوني مسلم!!
الخامس: إن الفصل بين النظام الحاكم في العراق وشعبه، والقول بأن العدوان هو على الحزب لا على العراق وشعبه، تضليل واضح. إذ لا يمكن فك الارتباط بين الشعب والدولة والنظام، لا واقعياً، ولا سياسياً، ولا قانونياً، فأي عدوان خارجي على حكومة دولة ما هو عدوان بالضرورة على شعبها وأرضه، وهذا ما لا خلاف فيه بين دول العالم، ولهذا لا يفرق ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي في حكم العدوان الخارجي على الدول بين العدوان على الأنظمة والعدوان على الشعوب والأوطان، لاستحالة الفصل واقعياً، إذ الحرب لا تقتصر عند وقوعها على النظام فقط؛ بل تشمل الأرض والشعب ويقع الضرر والدمار عليهما قبل أن يقع على النظام، فمن أجاز الاعتداء الأمريكي على العراق فقد أجاز ضرورةً الاعتداء على الشعب العراقي المسلم، الذي سيضطر أن يدافع عن أرضه ونفسه وماله، وعرضه، وإن لم يدافع عن النظام كما أنه لن يكون في مأمن من القصف والتدمير حتى وإن لم يقاتل، وقد لا يكون النظام البديل أحسن حالاً من الأول كما حصل في أفغانستان، ولا يمكن إباحة تدمير بلد مسلم وتدمير شعبه في حرب كارثية، وباستخدام الأسلحة بدعوى أن نظامه غير إسلامي.(2/191)
السادس: إن علماء الأمة منذ سقوط الخلافة إلى اليوم وهم يعيشون في دول أكثر حكوماتها غير إسلامية ومع ذلك لم يختلفوا على وجوب دفع عدوان الاستعمار عن بلاد المسلمين، وتحريم التعاون معه بصرف النظر عن الحكومات وشرعيتها مراعاة للمصالح الكلية للأمة الإسلامية كما جاء في فتوى العلامة المحدث القاضي (أحمد شاكر) في رسالته (كلمة حق ص126) في حكم التعاون مع الإنجليز والفرنسيين في عدوانهم على مصر وبلدان المسلمين حيث قال: (أما التعاون بأي نوع من التعاون قل أو كثر فهو الردة الجامحة والكفر الصراح لا يقبل فيه اعتذار ولا ينفع معه تأول سواء كان من أفراد أو جماعات أو حكومات أو زعماء كلهم في الكفر سواء، إلا من جهل وأخطأ، ثم استدرك فتاب).
ومعلوم حال أكثر الحكومات في عصر الشيخ أحمد شاكر وأنها لم تكن إسلامية إلا بالاسم كما هو حال الحكومة المصرية إبان العدوان الثلاثي على مصر الذي أجمع العلماء آنذاك على ضرورة صده عن مصر وشعبها، بقطع النظر عن طبيعة النظام الحاكم.
السابع: إن قاعدة سد الذرائع تقضي بضرورة رفض مثل هذه الحرب وتحريم المشاركة فيها على فرض أنها جائزة في الأصل إذ تبريرها يقضي إلى فتح الباب على مصراعيه أمام عودة الاستعمار الغربي من جديد وتدخل دولة في شؤون العالم الإسلامي تارة بدعوى الحيلولة دون انتشار الأسلحة المحظورة، وتارة بدعوى حماية حقوق الإنسان، وتارة بدعوى تغيير الأنظمة الدكتاتورية، وإقامة أنظمة ديمقراطية عميلة، وتارة بدعوى مكافحة الإرهاب وما من دولة عربية وإسلامية إلا ويمكن توجيه كل هذه الاتهامات إليها أو بعضها ليصبح العالم العربي والإسلامي مسرحاً للحروب الاستعمارية من جديد.
الثامن: إن قاعدة دفع المفاسد ودفع الضرر الأكبر بالأصغر تقضي بوجوب رفض هذه الحرب -على فرض جوازها في الأصل- إذ لا سبيل إلى مقارنة الضرر الحالي الواقع على الشعب العراقي بالضرر الذي سيقع عليه بعد شن الحرب التي قد تقضي إلى دمار شامل يذهب ضحيته آلاف الأبرياء في الداخل من الأطفال والشيوخ والنساء، وقد يؤدي إلى تخلف العراق عقود من الزمن وقد لا يسقط بعدها النظام، وقد لا يكون النظام البديل أحسن حالاً أو لا تقوم حكومة قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار كما حدث في أفغانستان ويحصل فيها الآن مع أن من حق الشعب العراقي شرعاً وجميع الشعوب الإسلامية تغيير مثل هذه الأنظمة الاستبدادية ولو بالقوة إذا استطاعت.
التاسع: إنه على فرض عدم وجود نصوص تحرم الإعانة على هذه الحرب والمشاركة فيها، فإن السياسة الشرعية تقضي برفضها، إذ أن دول العالم التي وقفت مع الكويت ضد العدوان العراقي التزاماً منها بالميثاق الدولي الذي يمنع الاعتداء بين الدول هي التي ترفض اليوم الاعتداء على العراق التزاماً بنفس الميثاق. فالسياسة الشرعية تقتضي منا الالتزام بهذا الموقف وكما لا يقبل العالم ادعاء العراق بأن عدوانه كان بقصد تغيير الحكم في الكويت لا لاحتلالها بحجة أن هذا تدخل في الشؤون الداخلية لدولة الكويت، وهو خرق للميثاق الدولي. كذلك لم يقبل العالم ادعاء أمريكا وتبرير عدوانها على العراق، وقد صرح الأمين العام للأمم المتحدة بعدم قانونية هذه الحرب، ومن الخطأ الفادح والعطل في الرأي تأييد مثل هذا العدوان وترسيخ عدوان الدول الكبيرة على الدول الصغيرة، حتى لو لم تكن دولاً إسلامية، وقد قال تعالى: "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" فالظلم محرم مطلقاً مع المسلم وغير المسلم والصديق والعدو، والعدل واجب مطلقاً مع المسلم وغير المسلم ومع الصديق والعدو فلا يمكن قبول العدوان على بلد أو ظلمه لأنه عدو لنا.
العاشر: إن أحكام الفئة الباغية خاصة في القتال بين طائفتين من المسلمين فيجب على المسلمين قتال الطائفة الباغية منهما حتى تفيء إلى أمر الله أما الحرب التي تشنها أمريكا على العراق، فهو قتال بين دول مسيحية وبلد إسلامي محاصر، فإن لم يكن شعب العراق هو الطرف المسلم الذي يجب نصره، وإلا فليس هناك من يجوز إعانته في هذه الحرب، ولا يمكن تنزيل أحكام الفئة الباغية على مثل هذه الدول غير الإسلامية، وقد أجمعت الدول العربية والإسلامية على رفض الحرب على العراق، كما صرحت الكويت أنها ليست طرفاً فيها ولن تشارك في عملياتها، فلا يمكن، والحال هذه إدعاء مشروعيتها وعدها جهاداً في سبيل الله بدعوى أنها من أجل الدفاع عن الكويت، ومن باب دفع الفئة الباغية إذ العالم كله يعلم أن سببها الظاهر نزع أسلحة العراق لا من أجل أن يفيء العراق إلى أمر الله كما جاء في الفتوى المذكورة.
وأخطر من ذلك الإدعاء بأن إعانة أمريكا في هذه الحرب هي من باب الجهاد في سبيل الله، وهذا من القول على الله بلا علم ومن محادّة الله ورسوله، ومضادة حكمهما ووصف ما أجمع المسلمون على أنه ردة وكفر بأنه جهاد وطاعة هو استحلال لما حرم الله ورسوله بالنصوص القطعية.(2/192)
وهذا كله على فرض أن الهدف من الحرب هو إسقاط النظام العراقي فقط، فكيف إذا كان لها أهداف أشد خطراً وأبعد أثراً على العالم الإسلامي كله كما صرح بذلك المسؤولون الأمريكيون أنفسهم كما جاء في إعلان الرئيس الأمريكي بأن الحرب ستكون صليبية وهو ما أكدته الوقائع والأيام كما في أفغانستان بالأمس، والعراق اليوم، وغداً إيران وسوريا والمملكة إلخ.. وهو ما اعترف به وزير الخارجية الأمريكي الذي أعلن أنه سيتم إعادة تغيير خريطة المنطقة بشكل جذري بما يضمن أمن إسرائيل وتفوقها العسكري ويؤمن لأمريكا السيطرة على المنطقة.
فكل ما سبق ذكره كان في بيان عدم صحة تلك الفتوى وبطلانها، وأما من رفضوا المشاركة في الحرب على العراق فهم مأجورون إذ يحرم على المسلم أن يشارك في عمل محرم وليس له أن يطيع أحداً في معصية الله ورسوله كما في الحديث الصحيح (إنما الطاعة بالمعروف)، و (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فحصر الشارع الطاعة فقط بالمعروف، فلا طاعة في أمر منكر ولا فيما فيه شبهة، كما في الحديث الصحيح (من ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، وقد امتنع أكثر الصحابة من القتال مع الخليفة الراشد علي بن أبي طالب لأنه قتال شبهة، والفتنة بين المسلمين فاعتزلوه ولم يروا له عليهم طاعة مع بيعتهم له لما علموه من أن الطاعة إنما هي بالمعروف ولهذا عذرهم، ثم غبطهم على ذلك بعد ذلك وقد قال تعالى: "وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" ولا شك بأن الحرب التي تشنها أمريكا على العراق ليست من البر والتقوى بل هي من الإثم والعدوان باعتراف العالم ومنظماته الدولية وعلى أحسن أحوالها فهي من الفتن والشبه التي يجب الكف عنها، وعدم الخوض فيها فقد جاء في الحديث الصحيح "لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"، وجاء أيضاً: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق"، ومعلوم أن هذه الحرب سيذهب ضحيتها آلاف الأبرياء من المسلمين الضعفاء في العراق كما جرى في أفغانستان وسيبوء بإثمهم كل من شارك فيها أو حث عليها ولو بكلمة كما في الحديث "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة فقد يئس من رحمة الله" فكيف بمن يشارك في حرب عدوانية قد يذهب فيها العراق كله؟! فيحرم المشاركة فيها بأي نوع من أنواع الإعانة في العدوان على الشعب العراقي المسلم كما قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء"، قال: (المعنى لا تتخذوهم أنصاراً توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر إلا أن تتقوا منهم تقاة بأن تكونوا في سلطانهم لتخالفوهم على أنفسكم فتظهرون لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تعينوهم على مسلم بفعل)، وأما المشاركة في قوات درع الجزيرة لحماية أمن دولة الكويت من أي عدوان قد يقع عليها أثناء هذه الحرب جائزة شرعاً وكذا المشاركة في لجان الإغاثة لإنقاذ اللاجئين من الشعب العراقي والله تعالى أعلم وأحكم - وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم-.
=============
استقدام عمال غير مسلمين
المجيب …د. خالد بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …22/7/1422
السؤال
هناك شخص يريد استقدام عمال للمزرعة من دولة نيبال ، الذين في غربها فيهم إسلام ولكن عملهم رديء، والذين في شرقها نصارى وعملهم جيد حسب كلام الذين يتعاملون معهم، فما رأيكم باستخدام أي الطرفين، وما الحكم الشرعي في ذلك ؟ والله يحفظكم ويرعاكم .
الجواب
الواجب استقدام المسلمين ولو كانوا أقل مهارة ، . سواء من نيبال أو غيرها، وذلك لمصالح كثيرة فمنها :
1. عدم إدخال الكفار في جزيرة العرب.
2. تقوية المسلمين لأن في استقدام هذا العامل إعالة لأسرته ورفع لمستواه الديني بخلطة المسلمين في بلاد الإسلام، ومستواه المادي بالمهارات التي يستفيدها والمال الذي يكسبه.
=============
موادة الكافر هل تحرم مطلقاً؟
المجيب …العلامة/ عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …22/8/1424هـ
السؤال
"لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم..." فهل تعني هذه الآية أننا يجب ألاَّ نكن أي عاطفة لأقاربنا من غير المسلمين، حتى ولو كان عندهم اهتمام بالإسلام، ولا يعادون إيماننا؟ أم أن هناك فرقاً بين العاطفة الفطرية والعاطفة بسبب الإيمان؟ هل يكون من الجائز للمسلم أن يكره كفر أقاربه، ومع ذلك يبقى لديه نوع من العاطفة الفطرية نحوهم؟ هل مثل هذه العاطفة تخرج المسلم من الملة؟ أرجو توضيح الأمر.
الجواب(2/193)
الحمد لله، الواجب على من منّ الله عليه بالإسلام والإيمان والتوحيد أن يبغض الشرك وأهله، فإن كانوا محاربين فعليه أن يعاديهم بكل ما يستطيع، وإن كانوا مسالمين للمسلمين فيجب بغضهم على كفرهم ومعاداتهم لكفرهم، ولكن من غير أن ينالوا بأذى؛ بل لا مانع من الإحسان إليهم وصلتهم إن كانوا أقارب، وبرهم إن كانوا من الوالدين، كما قال تعالى: "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" [لقمان: 15]، وبغض الكافرين لا يمنع من أداء الحقوق، حق القرابة، وحق الجوار، كما قال - صلى الله عليه وسلم- لما أنذر عشيرته وتبرأ منهم قال: "إن لكم رحماً عندي سأبلها ببلالها" مسلم (204)، وقال سبحانه وتعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة: 8]، وقوله سبحانه وتعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..." [المجادلة: 22] المراد من يواد الكافرين ولا يبغضهم البغض الإيماني ولا يبرأ منهم ومن دينهم ومعبوداتهم الباطلة فهذا هو الذي لا يكون مسلماً وإن ادعى الإيمان، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" (سبق تخريجها) فالمؤمنون الصادقون يبغضون الكافرين وإن كانوا أقرب الأقارب إليهم، وعلى هذا فيجتمع في قلب المؤمن المحبة الفطرية الطبيعية والبغض الديني، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أبا طالب لقرابته ولنصرته له وهو يبغضه لكفره، ولهذا كان حريصاً على هدايته ولكن الله سبحانه وتعالى بحكمته لم يوفقه للإيمان؛ لأنه تعالى أعلم بمن هو أهل لذلك قال تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين" [القصص: 56]، فلك أيها السائل أن تصل أقاربك وأن تبر بالوالدين، وأن تحسن إلى جيرانك وإن كانوا كفاراً، ما داموا لا يجاهرون بعداوة الإسلام والمسلمين، وأما من أعلن محاربته للمسلمين فالواجب محاربته وجهاده حتى يدخل في الإسلام أو يعطي الجزية كما قال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة:29] والله أعلم.
===========
الجهاد والدعوة
المجيب …د. رشيد بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …16/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الشيخ: سؤالي عن موضوع علاقة الجهاد والقتال في سبيل الله بالدعوة؟ والبساطة فقد سمعت بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن فعلوا فقد عصموا مني دماءهم ..." إلى آخر الحديث أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فهل هناك تعارض بين ما جاء في الحديث وبين قول الحق تبارك وتعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"، أرجو الإفادة لأن هناك من أعداء المسلمين من يتشدق بأن الدعوة إلى الإسلام تكون بالسيف، لا أن السيف يلجأ إليه فقط إذا ما استعمله العدو أولا في إيذاء الدعاة، شكراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أخي الكريم: أجيب على سؤالك هذا في نقاط، وأسأل الله أن يلهمني الصواب، وما توفيقي إلا بالله.
أولاً: الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام وأحد مبانيه العظام، واعتقاد أن الإسلام حق يقتضي منا أن لا نخجل أو نستكين إذا عورضت بعض شعائره وشرائعه من مخالف كائناً ما كان ذلك المخالف، وإذا كانت الأمة تمر بمرحلة ضعف وتبعية فإن هذا لا يعني أن نخضع ثوابت ديننا للتغيير ونتخلى عن الإيمان بها.
ثانياً: من المتقرر في شريعتنا أنه لا إكراه في الدين، وشواهد هذا قائمة على مدى التاريخ الإسلامي، فقد عاش في حمى الإسلام طوائف من اليهود والنصارى، وجاوروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكرهوا على تغيير دينهم.
ثالثاً: من أراد أن ينتمي إلى الإسلام فعليه أن يعرف قبل انتمائه أنه سيكلف بتكاليف، ويلتزم بحكم هذا العهد والعقد بأمور إذا خالفها عرض نفسه للعقاب، وهذا من الأمور المسلمة حتى في الاتفاقات والأنظمة المعقودة بين الناس، في أمور الدنيا ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو معاند، فلو أن شخصاً طلب منحه الجنسية من دولة ما من الدول؛ ومنحها فإنه بقدر ما يحظى بمزايا تلك الجنسية لابد وأن يتحمل تبعات ويلتزم بقوانين تلك الدولة، ومن خالف عوقب، ولا يقال بأن له مطلق العنان والحرية في أن يفعل ما يشاء.
رابعاً: مفهوم الجهاد أوسع من مفهوم القتال، ونحن لم نؤمر أن نبدأ الناس في جهادنا معهم بالقتال، بل هناك أمور ومراحل تؤخذ تباعاً ولا يلجأ إلى القتال إلا عند الحاجة إلى ذلك.(2/194)
خامساً: هناك قيد مهم جداً في الجهاد ينبغي أن لا يغفل ألا وهو: أن يكون جهاداً في سبيل الله، فمتى خرج عن هذا القيد لم يكن جهاداً يؤجر عليه طالبه.
سادساً: من المسلم أن القوانين البشرية التي تحكم أحوال الناس اليوم تحول - دون شك - بين الناس وبين رسالة الإسلام في صفائها ونقائها، ومهما زعموا من دعوى حرية الرأي، وحقوق الإنسان، فإن الواقع يشهد بأن تلك القوانين تحول بين الناس وبين معرفة الإسلام على حقيقته، ولو ترك الناس والإسلام لدخلوا في دين الله أفواجاً.
سابعاً: ليعلم أن الجهاد نوعان:
(1) جهاد دفاع عن النفس والمال ونحوهما مما ورد، وهذا لا يحتاج فيه إلى إذن إمام، وعلى كل من لزمه فعله.
(2) جهاد الطلب الذي يتضمن الذهاب إلى العدو لقتاله، فهذا لا يوكل إلى كل أحد أن يفعله كيفما اتفق، بل لابد له من ضوابط، واستعداد وإذن الإمام وغير ذلك من الشروط التي لابد من توافرها، وهذا النوع من الجهاد يغفل عن معرفة أحكامه كثير من المتحمسين للعمل الإسلامي ولابد للمنصف أن يراجع أحكام هذا النوع من الجهاد في مظانه من كتب العلم، ويتلقى الفتوى فيه عن العلماء المتفقهين في أحكامه، ومن لم يفعل ذلك جنى بفعله على الإسلام وأهله ما لا تحمد عقباه، والله المستعان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
==============
حكم قتال العراقيين للأمريكان
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …28/1/1424هـ
السؤال
ما حكم قتال العراقيين للكفرة الغزاة؟ وهل يشترط في كون الجهاد شرعياً أن يكون تحت راية إسلامية؟ أو أن يأذن فيه الحاكم؟ نرجو التفصيل في القول، وجزاكم الله خيرا.
الجواب
من المعلوم أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وهو نوعان:(2/195)
جهاد طلب وجهاد دفع، فجهاد الطلب أن يغزو المسلمون بلاد الكفار، لتبليغهم الإسلام ودعوتهم إليه فمن دخل فيه بنعمة الله دخل، ومن امتنع عن الدخول عرض عليه أن يدفع الجزية إن كان من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وله ما لنا وعليه ما علينا والجزية إنما شرعت في مثل هذه الحال مقابل حمايته وحقن دمه.هذا كله إذا كانت الدولة المسلمة قوية مهابة الجانب قادرة على مثل هذا الجهاد، وهو الذي يسمى بجهاد الطلب، أما إذا كانت الأمة الإسلامية ضعيفة أمام العدو فيلزمها الصبر والمصابرة وعدم التعرض والمساكنة للعدو والكافر المتغلب، وقد اختفى الجهاد الطلبي في - سبيل الله- منذ زمن طويل لتخلف المسلمين وتفوق عدوهم عليهم في وسائل الإعداد وفي العُدد، ولم يبق أمام المسلمين في مقاتلة الأعداء غير جهاد الدفع والمدافعة إذا اعتدي عليهم، وهذا النوع من الجهاد لا يشترط له ما يشترط للنوع الآخر، - جهاد الطلب- فإذا دهم العدو بلداً من بلاد المسلمين وجب على أهل تلك البلاد المغزوة -وجوباً عينياً عن كل مكلف رجلاً كان أو امرأة- مقاتلة الكفار المعتدين كل بحسبه، ولا يشترط حينئذ إذن الوالي (الحاكم) أو الوالدين أو الزوج، بل يخرج الجميع حاملين السلاح في وجه العدو، وإن لم يأذن الأولياء في ذلك، وأيضاً جهاد الدفع لا يشترط فيه اتحاد الراية بأن تكون إسلامية، بل لو قاتلوا تحت راية حزبية كقومية أو بعثية جاز لهم ذلك، وإن أمكن أن يتحد المسلمون العراقيون تحت راية إسلامية واحدة، وينسقوا مع الرايات الحزبية الأخرى في الميدان لكان حسناً، وإن لم يكن فلا شيء عليهم إن شاء الله، وسيبعثون على نياتهم كما جاء في الحديث. انظر البخاري (2118)، ومسلم (2884)، ولعله من الواضح البين أن الأحزاب الإلحادية التي تحكم بعض الدول كالعراق مثلاً تهتم بتكثير سواد العضوية للحزب أكثر من اهتمامها بتطبيق مواد دستور الحزب، والداخلون في الحزب ليسوا كلهم كفاراً، ولا ملحدين، إذ الدافع لعدد من الناس أن يدخلوا في الحزب، لا رغبة فيه وإنما لطلب العيش والارتزاق وتسهيل مهماتهم الحياتية والوظيفية والتي احتكرت كلها، أو معظمها لمن ينتسب إلى الحزب لا غير، وعلى هذا لا ينبغي أن يعمم الكفر على جميع أعضاء حزب البعث والصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يشترط إذن الإمام الحاكم في الجهاد في - سبيل الله- عامة وفي جهاد الدفع خاصة لمن دهم الكفار بلاده؛ لقوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج:40]، وذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أحد أئمة الدعوة في نجد، في رده على من اشترط وجود الإمام أو إذنه للجهاد في سبيل الله فقال: بأي كتاب أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين. والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر... ولا يكون الإمام إماماً إلا بالجهاد، لا أنه لا يكون جهاداً إلا بالإمام، وقصة أبي بصير لا تكاد تخفى على البليد لما جاء مهاجراًُ فطلبت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يرده إليهم بالشرط الذي كان بينهم في - صلح الحديبية- فانفلت منهم حين قتل المشركين اللذين أتيا في طلبه، ورجع إلى الساحل واستقل بحرب قريش يتعرض لقافلتهم إذا أقبلت من الشام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: لما سمع خبره "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه غيره" البخاري (2734).
وانضم معه بعض المسلمين الذين خرجوا من مكة ولم يصلوا إلى المدينة مخافة أن يردهم كما رد أبا بصير، فهل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام؟! - سبحان الله - ما أعظم مضرة الجهل على أهله... وإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها منعة وجب عليها أن تجاهد في - سبيل الله - بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال ولا عند جميع الطوائف. الدرر السنية 5/97-99.
والواجب المتعين على جميع العراقيين داخل العراق أو خارجه محاربة العدو الأمريكي وحلفائه كل حسب استطاعته؛ تحقيقاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم-"قاتلوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" النسائي (3096)، وأبو داود (2504)، وأحمد (12246)، وعليهم بالصبر والمصابرة والاجتماع وتوحيد الصف والحذر كل الحذر من الخلاف والنزاع في جبهات القتال "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" [الأنفال: 46]، وعلى المسلمين عامة أن يناصروا إخوانهم المسلمين في العراق، فيرفعوا من معنوياتهم ولا يخذلوهم في ساعات هم أحوج ما يكونون إليها، ولا أقل من أن يناصروهم في الدعاء بالقنوت في الصلوات لعل الله أن ينصرهم ويرد كيد الأعداء في نحورهم آمين.
==============
واجبنا تجاه الاعتداء على العراق
المجيب …العلامة/ د. عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
عضو الإفتاء سابقاً
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …14/1/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم(2/196)
تعلمون حفظكم الله، الخطر المحدق بإخواننا المسلمين في العراق، حيث تحزبت أحزاب الصليب، وتجمعت قوى الكفر، مستهدفة إخواننا في العراق تحت ذرائع مختلفة، يساندها في ذلك أولياؤهم من المنافقين، فما واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في العراق؟ وفقكم الله لكل خير ونفع بكم المسلمين.
الجواب
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد..
فإن الواجب
أولاً: على المسلمين تصحيح الإسلام، وتحقيق ما يدينون به من التوحيد والإخلاص لربهم - سبحانه وتعالى-، والابتعاد عن الكفر، والشرك، والبدع، والمعاصي، والمحرمات، حتى ينصرهم - الله تعالى- ويخذل من عاداهم، قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" [الحج:38].
وثانياً: عليهم أن يطلبوا النصر من الله، وينصروا دينه، وكتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، حتى يتحقق لهم النصر الذي وعدهم به ربهم في قوله: "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: من الآية7]، وقوله: "وَمَا النَّصْرُ إلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"
[آل عمران: من الآية126]، وقوله: "وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ" [محمد: من الآية35]، وقوله: "وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران: من الآية139]، وقوله تعالى: "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" [غافر:51].
وثالثاً: العلم بأن الذنوب سبب الخذلان، ولتسليط الأعداء على المؤمنين، كما قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" [الشورى: من الآية30]، وقال تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"
[آل عمران: من الآية165]، وفي الحديث القدسي: "إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني"، وفي الحديث قال - صلى الله عليه وسلم- إذا خفيت المعصية لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة".
ونقول رابعاً: لا شك أن الكفار بعضهم أولياء بعض، وأنهم يتكالبون على المسلمين ويحاولون القضاء على الإسلام، الذي ظهر أهله الأولون واستولوا على أغلب بقاع الأرض، فيجب على المسلمين في كل البلاد الإسلامية، أن يقوموا لله مثنى، وفرادى، وأن يصدوا بقدر استطاعتهم هؤلاء الكفار، ومن ساندهم من المنافقين حتى تنقطع أطماعهم ويرجعوا على أدبارهم، ولا يجوز لمسلم أن يقوم معهم على المسلمين، ولا يمكنهم من الاحتلال والتملك لبقعة من بلاد الإسلام، فقد نفاهم الخلفاء الراشدون عن بلاد الإسلام، ولم يتركوا لهم فيها مغز قنطار، فمن مكنهم أو شجعهم أو أعانهم على حرب المسلمين أو احتلال بلاد المسلمين، كالعراق، أو غيرها فقد أعان على هدم الإسلام وتقريب الكفار، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، والله أعلم، - وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم-.
============
جهاد الطلب وجهاد الدفع
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …26/5/1423
السؤال
أمر الله -سبحانه وتعالى- المؤمنين بالكف وعدم الرد على الكفار في أذاهم للمؤمنين في العهد المكي، وكان الجهاد -إن صحت التسمية له بالجهاد- أو العبادة المفروضة في هذا المقام هي عبادة الصبر لا الدفع، مع أن المسلم لو قاتل ودافع لنال الأجر العظيم، لكن للمصلحة العليا كان هذا الحكم.
السؤال: هل صحيح نسخ هذا الحكم أم لا؟ وما الظروف التي يشرع من خلالها للمسلم في هذا العصر -الذي لا يوجد فيه ركن يأوي إليه المسلم- من الأسباب المادية؟ وهل الأمر في تطبيق هذا الأمر خاضع للاجتهاد الفردي أم لابد من أن يكون جماعياً؟ وما الشروط التي يجب توافرها حتى نلزم المؤمن في هذا العصر بالصبر؟ ما العلامات التي يعرف بها انقضاء هذا الحكم أو بموجبها يحكم بأن الدفع هو الأمثل؟ وهل بحكم تأثر العالم كله -ومنه المسلمون- بما يحدث في أي قطر إسلامي يكون هذا الحكم عاماً أم أنه يختلف باختلاف البلدان والأزمان والقضايا؟ وإن كان بالإمكان ذكر أوجه الشبه بين العهد المكي، وهذا العصر، وذكر أوجه الاختلاف.
وجزاكم الله خيراً
الجواب
حكم الجهاد بنوعيه: جهاد الطلب وجهاد الدفع باقٍ لم ينسخ، وإنما هو حسب حال الأمة من القوة والضعف، فإذا كانت الأمة قوية في عددها وعُددها فهي مطالبة بالأخذ بنصوص القتل والقتال وغزو المشركين والقعود لهم في كل مرصد؛ ليؤمنوا بالله أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإن كانت الأمة ضعيفة مستضعفة كحال المسلمين اليوم فالواجب الأخذ بآيات الصبر والمصابرة وعدم محارشة الكفار وإثارة حميتهم، قال -تعالى-:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" [الأنعام:108]، وفي هذا العصر الذي لا يكاد يوجد فيه للمسلم ركن يركن إليه فعليه اللجوء إلى الله وأداء شعائر دينه، والصبر على الأذى فيه، لا سيما إذا كان فرداً وخصمه جماعة، أو دولة، أو قوبل رأيه بفتوى شرعية مستندة إلى الكتاب والسنة وجب عليه قبولها.(2/197)
وتقدير جهاد الدفع وتحديده وإعلانه يخضع للاجتهاد الجماعي من أهل العلم الشرعي -في كل بلد بحسبه- إلا إذا اعتدي على المرء بنفسه أو ماله أو عرضه جاز له أن يدفع ذلك عنه ما استطاع، والأفضل أن يستشير قبل ذلك من هو أعلم منه وأكثر خبرة وتجربة.
وليس هناك علامات ينتفي بها جهاد الدفع بل هو باقٍ إلى يوم القيامة ما دامت الأمة ضعيفة مستضعفة، واختيار أي نوع من نوعي الجهاد يخضع لتقرير أهل العلم والفكر والشوكة في كل بلد من بلاد المسلمين وكل أهل بلد أدرى بشؤونهم من غيرهم.
ومن أوجه الشبه بين المسلمين اليوم والمسلمين في العهد المكي: الضعف وقلة العدد والعُدد، وتكالب الأعداء على المسلمين من اليهود وأذنابهم، والمشركين وإخوانهم والمنافقين وأتباعهم، ومن أوجه الاختلاف بين الحاضر والماضي -العهد المكي خاصة-: وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين ظهراني المسلمين في مكة، ينزل عليه الوحي ويصحح لهم أخطاءهم ويسدد آراءهم، وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات من القرآن يتلونها حتى يعملوا بها، أما نحن اليوم فقد يحفظ الواحد منا القرآن كاملاً أو يختمه أكثر من مرة، ولكنه لا يكاد يعرف شيئاً من حلاله وحرامه، وكانوا عرباً خلصاً على صفات حميدة من الصدق والشجاعة والكرم والشهامة والرجولة، أما نحن فعلى خلاف ذلك -إلا ما شاء الله-.
============
إذا كان لا إكراه في الدين، فلِمَ شرع الجهاد؟!
المجيب …سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …13/2/1425هـ
السؤال
كيف نجمع بين قول الله سبحانه وتعالى "لا إكراه في الدين" وبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (البخاري 4/196) والحديث الآخر : "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"
وهذا الحديث الأخير يحتج به غير المسلمين على عداوة الإسلام للأديان الأخرى.
فكيف تجيبون على هذا الادعاء؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن الحقائق التي تظافرت الأدلة الشرعية على تقريرها: أنه لا يكره أحدٌ على اعتناق الإسلام، بل الواجب أن تقام الحجة حتى يتبين الرشد من الغي. فمن شاء بعدُ أن يسلم فليسلم، ومن أبى إلا الكفر فلا يُكْرَه على الإسلام، ولا يُقتل إن استحبّ الكفر على الإيمان.
ومن أصرح الأدلة على ذلك:
قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة:256] أي لا يُكره أحدٌ على الدخول في الإسلام.
وقولُه تعالى: "ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس:99].
وقوله: "فإن تولوا فإنما عليك البلاغ" سورة [آل عمران:20]، ومثله قوله تعالى: "ما على الرسول إلا البلاغ" سورة [المائدة:99]، وكلتا الآيتين مدنيتان.
ويتساءل بعضهم: إذا كان الأمر كذلك، فلِمَ شُرع الجهاد؟ وكيف تفسرون قتال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته -رضي الله عنهم- للمشركين؟
والجواب: أن الجهاد شُرع لغاياتٍ ليس منها إكراهُ الناس على اعتناق الإسلام.
فقد شُرِع أوَّلَ ما شرع دفاعاً عن المستضعفين المؤمنين الذين يُضطهدون في دينهم ويؤذَون في أنفسهم وأموالهم، ويُخرجون من ديارهم، (وهو ما يسمى بجهاد الدفع)، فقال تعالى: "أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.." [الحج:39 - 40]
قال غير واحد من السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم نزل قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم..الآية" سورة [البقرة: 190-191]
وشُرعَ سنداً لنشر الدعوة حتى تبلغ رسالتها إلى الناس كافةً "وهذا من جهاد الطلب الذي يأتي في مرحلة القوة وظهور الشوكة.
إن الدعوة في حقيقتها دعوةٌ سلمية...باللسان والبيان، فما صحبها السلاحُ لكي يُكره الناس على الدخول في دين الله، وإنما صحبها ليدفع كلَّ من يقف في طريقها ويناوئها.
وما أكثر تلك القوى المتنفِّجة بالباطل التي تقف في وجه دعوة الإسلام، وتصد الناس عن دين الله!
وما عسى الإسلام أن يفعل إذا هي وقفتْ في وجهه وحالت بينه وبين الناس؟
هل سيتركها لتحجبَ عن الناس دعوة الحق، وتمنَعهم اتّباعَها إذا اختاروها ؟
وإنها لفتنة: أن يُصد الناس عن سماع كلمة الحق، ويُسلبوا حرية اختيار الدين، وأعْظِمْ بها من فتنة؟! "والفتنة أشد من القتل" [البقرة:191] "والفتنة أكبر من القتل" [البقرة:217].
إنه ليس ثمَّة خيار للإسلام أمام هذه القوى إلا أن يجاهدها ويدكَّها؛ ليقرِّرَ للناس حريةَ الدعوة بعد أن كانوا محرومين منها تحت سطوة الطغاة ورهبة العتاة، يستعبدونهم ويمارسون الوصاية على عقولهم؟!
ولذا قال جل جلاله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين لله" سورة [البقرة:193].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه لهرقل الروم: "أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" متفق عليه البخاري (7)، ومسلم (1773)، وإنما جعل عليه إثم الأريسيين ـ وهم رعاياه ـ ؛ لأنهم يأتمرون بأمره وينقادون بانقياده.(2/198)
فلا بد إذاً أن تنداح لدعوة الإسلام هذه الموانعُ وتنزاحَ أمامه كل العقباتُ؛ ليسمع الناس دعوة الإسلام كما هي في صفائها وموافقتها للفطرة، لا كما كانوا يسمعونها من أعدائها مشوَّهةً بالأباطيل المختلقة. فإذا بلغتهم كما هي في حقيقتها فهم وما اختاروا لأنفسهم.
وشُرع الجهاد (في أعظم ما شُرع): ليفتح البلاد ويحطم ما نُصب فيها من الطواغيت الباغية، وما تقنِّنه من النظم المستبدة الجائرة؛ ليقيم مكانها نظامَ الإسلام (جهاد الطلب).
وهذا النوع من الجهاد يتطلب قوةً وقدرةً، ولا يتحقق إلا مع ظهور شوكة المسلمين وتحقق وحدتهم وتمكينهم في الأرض.
أما مع حال الضعف والتفرق ـ كما هو حال الأمة اليوم ـ فلا يجب عليهم إلا النوع الأول من الجهاد: وهو جهاد الدفع ـ أي دفع المعتدين على بلاد المسلمين ومقدساتهم وأموالهم ـ ، كما يجب عليهم في هذه الحال أن يأخذوا بأسباب القوة والمنعة، والاعتصام ونبذ الفرقة؛ فلا يمكن أن تقوم لدولة الإسلام قائمة ما لم تكن لها قوةٌ تحميها وتناضل عنها.
إن شريعة الإسلام يجب أن تحكم أرجاء الأرض، حتى لا يُظلم في كنفها مسلم ولا كافر، ولا عجب! فالكتاب إنما نزل ليقوم الناس بالقسط "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..."الآية سورة [الحديد:25]، بيد أن الإسلام إنما ضمن للكافر هذا بشرطه، وشرطُه: أن يحترمَ شعائرَ الإسلام وعقائدَه، وأن يخضعَ لنظامه وشريعتِه.
إن إرضاخ البلاد والأقاليم لحكم الإسلام يعني ـ في أول ما يعنيه ـ إقامةَ العدل "ليقوم الناس بالقسط" الذي لا قيام له إلا بتحكيم شريعة الله في أرضه، لا لإكراه الكفارِ على الدخول فيه، فلهم أن يبقوا على دينهم، وأن يمارسوا شعائرهم في بيوتهم، لكنْ يقابل هذا الحقَّ واجبٌ عليهم لا بد وأن يلتزموه، وهو: أن يخضعوا لحكم الإسلام في مخالطتهم للمجتمع، وفي شؤونه الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، وأن يحترموا نظمَه ويسالموه، فلا يقاوموا دعوته ولا يفتنوا أهله.
ولو كان الجهاد لإرغام الكفار على الدخول في الإسلام لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم إذا اختاروا الجزية، وَلَمَا نهى عن قتل النساء والصبيان في الغزو، وحين رأى مرةً امرأة مقتولةً في إحدى غزواته قال: "ما كان لهذه أن تُقاتِل" أحمد (5959)، فأشار إلى علة القتل، وهي المقاتلَة.
ولو كان الجهاد لأجل إرغام المشركين على الدخول في الإسلام لَمَا نهى خلفاؤه الراشدون عن قتل الرهبان إذا اعتزلوا الناس، ولم يعينوا على القتال بتدبير أو رأيٍ.
ويدل لذلك دلالة ظاهرة حديث بريدة بن حصيب : "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم...فإن هم أبوا فسلهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..."الحديث رواه مسلم (1731).
وهذا الحديث عام في كل مشرك، من العرب وغيرهم، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مشركي العرب لأن آية الجزية إنما نزلت في السنة التاسعة حين لم يبق في الحجاز عربي مشرك محارب.
والجزية التي تؤخذ من الكافر الذمي ليست ضريبةَ رفضه الدخول في الإسلام، وإنما هي مقابل حقن دمه وحماية المسلمين له مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم؛ ولذا كتب خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها : "إني قد عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذمة والمنعة. وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية، وإلا فلا".
وهذا أبو عبيدة رضي الله عنه لما أحس العجزَ عن حماية بعض أهل الذمة في بلادهم كتب إلى ولاته في تلك البلاد يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: "إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا إليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط" أخرجه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج.
إن الغاية العظمى من تشريع الجهاد هي أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله" متّفقٌ عليه البخاري (123)، ومسلم (1904).
وهذه الغاية العظمى (أن تكون كلمة الله هي العليا) تحققها غايات الجهاد وبواعثه التي تقدم ذكرها آنفاً، وهي:
1- حماية الدعوة وضمان تبليغها للناس.
2- سحق الطواغيت وتحطيم النظم الباغية ودفعِ كل مَنْ يقف في طريق الدعوة ويمنع بلوغها إلى الناس.
3- إقامة نظام الإسلام في الأرض ليحتكم الناس إلى شريعته...
وكلٌ من هذه الغايات الثلاث تعمل في إعلاء كلمة الله.
على أن تشريع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ليس مقتضاه أن يُسلم كلُّ من دعي إليه، بل مقتضاه أن يكون نظامُ الإسلام هو المهيمنَ والحاكمَ على حياة الناس، أما هم فيما يعتقدون فلهم الحرية المطلقة أن يعتقدوا ما شاءوا، ودولة الإسلام تحميهم مما تحمي منه أبناءها مقابل دفع الجزية.
وبعد تقرير أن "لا إكراه في الدين" [البقرة:256]، وبيان بواعث الجهاد في سبيل الله وغاياته، لا بد من الإجابة عما يُظَنّ أنه معارض لهذه الحقيقة أو ناسخٌ لها من الأدلة الشرعية.(2/199)
يذكرون من ذلك قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد.."الآية سورة [التوبة:5].
فقد ظن بعضهم أنها ناسخةٌ لآية "لا إكراه في الدين"، إذ مقتضى عمومها أن كل من بلغته الدعوة من الكفار فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام، وإلا مضى فيه السيف.
والجواب: أن هذه الآية وإن كانت من آخر ما نزل ـ حيث نزلت في السنة التاسعة من الهجرة ـ لكن تأخر نزولها لا يقضي بنسخ ما تقدمها من الآيات، ومنها قوله تعالى: "لا إكراه في الدين".
والآية وإن وردت بلفظ العموم؛ لكنها من العام المخصوص، إذ خصّصت عمومها آياتٌ وأحاديث أخرى ـ سيأتي ذكرها ـ، فبقي عمومها مخصوصاً بمشركي العرب الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم ونكثوا أيمانهم. وخرج من هذا العموم مَن عداهم ممن لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا على المسلمين أحداً، وكذلك أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من غير العرب.
ويدل لذلك ما يلي:
أولاً: أن الله قال في أول سورة [براءة:1:6] "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر.."، فأمهل هؤلاء المشركين أربعة أشهر، وأمر بقتلهم إذا انسلختْ هذه الأشهر الأربعة ولم يتوبوا، ثم استنثى منهم "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" [التوبة:4].
فدل هذا على أن قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." [البقرة:5] الآية ليست على عمومها، وإنما هي من العام المخصوص، فهي مخصوصة بمشركي العرب المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نكثوا أيمانهم...
ويُشعِر بهذا دليلان:
الأول: قوله تعالى ـ في صدر سورة التوبة، بعد آية السيف ببضع آيات ـ "ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرَّة.."الآية [التوبة:13].
قال ابن العربي في أحكام القرآن ( 2/456) : (وتبين أن المراد بالآية : اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم) أهـ.
الثاني: قوله تعالى ـ بعد آية السيف بآية ـ : "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" الآية [التوبة:7].
والمقصود بهذه الآية: هم بعض بني بكر من كنانة ممن أقام على عهده، ولم يدخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد، حين نقضته قريش بمعونتها لحلفائها من بني الديل على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم من خزاعة. (ينظر : تفسير الطبري 10/82).
ثانياً: قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" [التوبة:29].
وهي آية الجزية، نزلت عام تبوك، حين لم يبق عربي مشرك محارب في الحجاز، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين ويدع الحجاز وفيه من يحاربه (ينظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/20).
وقد أثبتت الآية لأهل الكتاب حق البقاء على دينهم بشرط دفع الجزية، فهي مخصِّصة لعموم قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"..الآية [التوبة:5].
ثالثاً: حديث بريدة بن حصيب "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم...فإن هم أبوا فسلهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..."الحديث وقد تقدم قريباً (سبق تخريجه).
والحديث يدل على أن المشركين ـ سواء من عبدة الأوثان من العرب أو من غيرهم، كما يقتضيه عموم اللفظ ـ إذا أبوا الدخول في الإسلام واختاروا دفع الجزية فإنه يجب قبولها منهم والكف عنهم، ولا يجوز قتلهم، ولا إكراههم على الإسلام.
فعموم هذا الحديث يدل على أن المقصود بـ (المشركين) في ما يسمى بآية السيف "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.." هم المشركون الذين كانوا يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم، وينقضون عهدهم.
أما حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" فهو حديث صحيح ـ ولا شك ـ رواه البخاري (25) ومسلم (20)وغيرهما.
ولكن الحديث ليس على عمومه، وليس المقصود بـ(الناس) جميع الكفار، من المشركين وأهل الكتاب، بل هو من العام المخصوص.
وكيف يُعمل بعمومه؟ وقد قال الله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ...حتى يُعطوا الجزية ..."الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفّ عنهم..."الحديث (سبق تخريجه).
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لمن قالوا بأن الجزية تؤخذ من كل كافر، لا من أهل الكتاب خاصة، جواباً لهم عن الاستدلال بعموم هذا الحديث، فقال (مجموع الفتاوى 19/20): (مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم، لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم) أهـ.(2/200)
وأجاب عنه ابن حجر بعدة أجوبة (فتح الباري 1/97)، فقال ـ مع بعض الاختصار ـ: (الجواب من أوجه, أحدها : دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث , بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى "فاقتلوا المشركين"، ... ثالثها : أن يكون من العام الذي أريد به الخاص , فيكون المراد بالناس في قوله " أقاتل الناس " أي : المشركين من غير أهل الكتاب , ويدل عليه رواية النسائي بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين " ... رابعها : أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها التعبيرَ عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين, فيحصل في بعضٍ بالقتل وفي بعضٍ بالجزية وفي بعضٍ بالمعاهدة...) أهـ.
وأما حديث: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" أحمد (1691) والدارمي (2498) بلفظ "أخرجوا اليهود الحجاز من جزيرة العرب..." فلا يدل على أن الكافر يرغم على الدخول في الإسلام، بل غاية ما يدل عليه ألا يؤذن لكافرٍ أن يستوطن جزيرة العرب.
أما بقاؤه فيها من غير قصد للاستيطان؛ كأن يقيم فيها لأجل العمل، أو للتجارة، أو للخدمة، فليس في الحديث ما يدل على النهي عن شيء من ذلك.
وهذا الحكم خاص بجزيرة العرب، أما غيرها من بلاد الإسلام مما فتحه المسلمون فلا يُخرج أهلها منها إن بقوا على الكفر، بل لهم أن يستوطنوها على أن يدفعوا الجزية مقابل حماية المسلمين لهم.
على أن بعض أهل العلم يرى أن الحديث وإن ورد فيه الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، إلا أن المراد بعض الجزيرة لا كلها، وهو الحجاز خاصةً، بدليل أن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء، وهي من جزيرة العرب، قال النووي في شرح مسلم (10/212- 213) عند شرح حديث إجلاء عمر لليهود من خيبر، وفيه: "فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء" قال: (وفي هذا دليل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب إخراجهم من بعضها، وهو الحجاز خاصة ؛لأن تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز والله أعلم) أهـ .
وقال في (11/93-94) : (وأخذ بهذا الحديث مالك ،والشافعي وغيرهما من العلماء ، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب ،وقالوا : لا يجوز تمكينهم من سكناها ،ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب،وهو الحجاز ،وهو عنده : مكة ،والمدينة ،واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب، بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه) اهـ .
وقال ابن قدامة في "المغني" 13/242-244 ـ بعد أن ذكر رواية عن الإمام أحمد في (جزيرة العرب المدينة وما والاها) ـ :
(يعني أن الممنوع من سكنى الكفار به: المدينةُ وما والاها ـ وهو مكة، واليمامة، وخيبر، والينبع، وفدك، ومخاليفها، وما والاها ـ وهذا قول الشافعي ... فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد، ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيماء وفدك ونحوهما؛ لأن عمر لم يمنعهم من ذلك) أهـ .
وقال ابن حجر (الفتح 6/198 ) : (لكن الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة، وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب؛ لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها ،مع أنها من جملة جزيرة العرب ،هذا مذهب الجمهور) أهـ .
والمقصود أن منع اليهود والنصارى من استيطان جزيرة العرب إنما هو من خصائص الجزيرة، انفردت به دون سائر ديار الإسلام.
إن الإسلام بأدلته الصريحة يعلن بطلان الديانات الأخرى كلها؛ لأنها إما محرَّفة؛ كاليهودية والنصرانية، وإما وثنية شركية كالمجوسية والهندوسية ووو...إلخ.
غير أنه ـ مع ذلك ـ أوجب علينا العدل معهم، ورغَّبنا في البر إليهم ترغيباً لهم في الإسلام ما لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، كما قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" سورة [الممتحنة:8]
وأمر المسلمَ بمصاحبة والديه في الدنيا معروفاً ولو كانا مشركَين، اعترافاً بجميلهما، ومكافأة لمعروفهما.
وأمر بألا نُجادل أهل الكتاب ( اليهود والنصارى) إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فقال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.." سورة [العنكبوت:46]
وأمرنا بإيفاء العقود والعهود معهم، وأن نستقيم لهم ما استقاموا لنا، وأعظمَ النبي صلى الله عليه وسلم قتل المعاهد منهم فقال: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة.."أخرجه البخاري (3166].
لقد أبطل الإسلام اليهودية والنصرانية؛ لأنها قد حُرِّفتْ ودخلها الشرك وافتراء الكذب على الله إلى غير ذلك من عظائم الأمور ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ.
ومع ذلك فقد أثنى على أتباعها الأولين الذين صدقوا أنبياءهم وناصروهم، ولم يقتلوهم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه، ووعدهم ما وعد المسلمين ـ أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ـ فأعد لهم جنات ومغفرةً وأجراً عظيماً.
ولا يصح إسلام أحد من ملة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمن بالأنبياء والرسل كلهم ويصدِّق بكتبهم (غير المحرفة)، فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً" سورة [النساء: 146](2/201)
كما أثنى القرآن كثيراً على موسى وعيسى عليهما السلام، وبرأ مريم الصديقة مما رماها به المفترون من اليهود.
ومما استفاض في القرآن والسنة: أن دعوة الرسل واحدة وإن اختلفت شرائعهم التفصيلية، ودعوتهم هي توحيد الله سبحانه: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" سورة [الأنبياء:26].
وقال صلى الله عليه وسلم : "الأنبياء إخوة من علاّت، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد" رواه مسلم(4362) .
وأولاد العلات: هم الإخوة من الأب من أمهاتٍ شتى، فالأب رمز للتوحيد، والأمهات رمز للشرائع (الفروع).
فالدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم لم تخرج عن أصل دعوة الأنبياء والمرسلين قبله، وهي: توحيد الله سبحانه، وإخلاص العبادة له وحده. ولا يضير في هذا أن تختلف شرائعهم؛ كتفاصيل العبادات من صلاة وصيام وحج، وأحكام الأطعمة والذبائح وسائر المعاملات، ونحو ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
==========
الحكمة من الجهاد
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …28/5/1424هـ
السؤال
هل الحكمة من وراء جهاد الطلب كان فقط منع الطغاة والحكام من أن يسمع الناس رسالة الإسلام؟ أم أنه يجب أن تحكم كل بلاد الأرض بالشريعة الإسلامية؟ حيث إن الأرض ملك لله -سبحانه-، ويجب أن يساس أهلها بحكمه وشرعه -عز وجل-. أرجو التفصيل بالأدلة.
الجواب
الجهاد في سبيل الله أعم من معنى القتال أو الحرب، فهو يشمل جهاد النفس، والهوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الظلم، ونشر الدعوة إلى الله بكل مجالاتها، ولكن لما كان الجهاد في سبيل الله قد ورد في القرآن بلفظ (القتال) بالنفس والمال في مواضع كثيرة ظن بعض الناس أن الجهاد مقصور على القتال، وإن كان أشمل منه قال -تعالى-: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"
[العنكبوت: 69]وقوله:" فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً" [الفرقان: 52] وهاتان الآيتان نزلتا بمكة قبل الإذن بالقتال، مما يؤكد الجهاد في سبيل الله بمعناه العام، وعامة الآيات القرآنية في الجهاد تحدد أسباب الحرب (القتال) هي: دفع الظلم، ونصرة المظلوم، ومنع الفتنة في الدين والإخراج من الوطن بغير حق، وكفالة حرية العبادة لأهل الكتاب وغيرهم - في غير جزيرة العرب -، وبهذا فالحرب في الإسلام عالمية المنزع إنسانية الهدف، لتكون كلمة الله هي العليا، ليس فيها منزع لعدوان على أحد، ولا مطمع في التوسع لحدود الدولة أو زيادة ثرواتها على حساب الغير، لقد جاءت مبادئ الإسلام عالمية كونية لتحرير الضمير والفكر من ترسبات الوثنيات بأنواعها وأشكالها، فربط الاعتقاد بالفهم والاقتناع "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"
[البقرة:256]، وربط الإيمان بالدليل والبرهان عند إرادة الجدال والحوار "وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [البقرة: 111]، وربط العلم العملي بالتقوى "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" [البقرة: 282] ولم تكن الغزوات ولا السرايا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين إلا تطبيقاً عملياً لمعنى الجهاد الخاص (القتال أو الجهاد) بعد توافر الأسباب الشرعية للحرية المشار إليها أعلاه. فغزوة بدر الكبرى البادئ فيها المشركون، حيث اضطهدوا المسلمين في مكة وصادروا أموالهم واضطروهم إلى الخروج من أوطانهم، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من مشركي مكة باعتراض قافلة لهم قادمة من الشام، فخروج المسلمين لم يكن لغرض القتال وإنما للاستيلاء على عير قريش من باب المقاصة أو المعاملة بالمثل، قد أراد المؤمنون شيئاً وأراد الله شيئاً آخر "كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ" [الأنفال: 5] أي: كارهون للمعركة؛ لأنهم على غير استعداد.(2/202)
أما غزوة أحد فكانت هجوماً من مشركي مكة على المدينة انتقاماً لهزيمتهم في بدر، ومع هذا تردد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الخروج في أول الأمر مما جعله يستشير أصحابه، ثم أخذ رأي الأكثرية منهم الداعين إلى القتال، أما غزوة المريسيع فإن سببها ما بلغه عن يهود بني المصطلق أنهم يجمعون لحرب المسلمين جموعاً كبيرة من قبائل العرب، أما غزوة الأحزاب وبني قريظة فواضح أمرها إذ إن يهود بني قريظة نقضوا العهد الذي أبرموه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوثيقة الشهيرة في التاريخ، فتحالفوا مع المشركين، وفي غزوة الحديبية تجلى حب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورغبته في الصلح، وإنما أراد العمرة والطواف بالبيت، لكن مشركي مكة منعوه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه، فخرج إليهم بقرابة عشرة آلاف من المؤمنين، وعسكر قرب مكة فجاءه بعض وجهاء قريش كالعباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن حرب فأسلموا وعادوا إلى مكة بأمان إلى أهلها، ودخل النبي والمؤمنون مكة بصلح مع وجهاء قريش كما هو مذهب الشافعي ورواية لأحمد، فكان الفتح المبين للإسلام والمسلمين، أما معركة حنين فسببها أن قبيلة هوازن وثقيف وبعض القبائل تجهزوا لحرب المسلمين والهجوم على المصلين في مكة، فخرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين وحاصروهم حتى استسلموا وقتل من قتل، وأسلم عدد كبير، أما غزوة مؤتة وتبوك فسببها أن زعيم الروم قتل أحد رسل النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي قام بتبليغه رسالة الدعوة إلى الإسلام، والعرف الجاري بين الدول والشعوب أن الرسل لا تقتل، وكانت دولة الروم آنذاك تحرض قبائل العرب المجاورة على قتال أهل المدينة، فجمعوا بقيادة (هرقل) أكثر من مئتي ألف مقاتل، فقاتلهم المسلمون فكان ما كان مما قدره الله، ومع هذا كله فإن الإسلام يمنع ويحرم (المباغتة) التي تعتبرها كل دول العالم اليوم مبدأ من مبادئ الحرب، ففرض على المسلمين أن ينذروا عدوهم ويعلنوه بالحرب فلا يؤخذ العدو على غرة قال -تعالى-: "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ"
[الأنفال: 58]يجوز للمسلمين في حالات خاصة أن يبيتوا عدوهم فيعاملوا المشركين عند القتال بمثل معاملتهم للمسلمين "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" [النحل: 126]. قال ابن القيم في (زاد المعاد) :"لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوا ...، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يحاربوه ولم يصالحوه، وهؤلاء ثلاثة أقسام منهم من كان يحب ظهور الرسول وانتصاره، وهؤلاء أسلموا بعد ذلك"، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وهزيمة المسلمين - وهؤلاء آلت حالهم بعد ذلك فانضموا مع المحاربين له، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن وهم المنافقون، فعامل - صلى الله عليه وسلم - كل طائفة من هذه الطوائف بما يناسب حالها مما أمره الله به.
والناظر المتأمل في سورة (براءة) وهي من آخر السور نزولاً يجد أن (41) آية من أول السورة تحدثت عن الكفار المفاوضين فأوجبت لهم الوفاء بعهودهم إلى مدتهم، وقتال من نقض عهده منهم، كما بينت وجوب قتال الكفار الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر أو يساعدون غيرهم على قتال المسلمين، ونهت آيات أخرى عن قتال الكفار الذين لم يباشروا قتال المسلمين أو إعانة عليهم قال -تعالى-:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [الممتحنة: 8-9] وبقية آيات سورة (براءة) تحدثت عن المنافقين فأوجبت معاملتهم على حسب ما يظهر منهم، فإن حاربوا المسلمين أو ظاهروا عليهم حوربوا، وإن سكتوا وسالموا كف عنهم وعوملوا معاملة المسلمين.
وأرى أن عامة آيات القتال ليس من باب (جهاد الدفع)، أما (جهاد الطلب) فيكون بعرض الدعوة على الكفار باللين والحكمة وعدم الإكراه قال -تعالى-:"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"(2/203)
[يونس: 99]وقال -تعالى-: "يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" [المائدة: 67] وقال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [النحل: 125] فإذا رد المدعوون رسالة الله فلم يقبلوها ولم يقبلوا الدخول تحت أمان المسلمين بدفع الجزية، وقاموا بإعداد العدة لمقاتلة المسلمين بالمظاهرة عليهم وجب على المسلمين قتالهم حينئذٍ ولا يسمى هذا قتال طلب؛ لأن الطلب بدأ بالجهاد بالدعوة وانتهى بالقتال، ثم إن الجهاد العسكري في الوقت الحاضر لا يوجد بالمعنى المراد بجهاد الطلب، وإنما هو جهاد الدفع لا غير إذا اعتدي على دولة من دول الإسلام شرع لأهلها أن يجاهدوا المعتدي بالسلاح دفاعاً عن دينهم وأموالهم وأعراضهم، ويتصور بعض المسلمين خطأ يدعو إلى جهاد الكفار بالسلاح قبل دعوتهم وتعريفهم بالإسلام، وهذا خطأ يتعين تصحيحه.
==============
معاملة غير المسلمين
المجيب …د. الشريف حمزة بن حسين الفعر
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …9/1/1423
السؤال
أعمل في شركة يوجد بها العديد من غير المسلمين ومن جنسيات عديدة وطبيعة العمل تحتم علينا الاحتكاك اليومي معهم، فهل هناك من حرج في مبادلتهم التحايا، وأحياناً قد يدخل أحدهم عليك في مكتبك ويهم بالسلام عليك فتقف للسلام عليه، أو يسألك عن حالك فتسأله عن حاله، مع أننا نُشْهد الله على بغضهم فيه، والشق الآخر من السؤال (يوجد أيضاً بالشركة بعض الرافضة، وقد عاب عليّ بعض الإخوان عندما كنا في مجلس ودخل أحدهم فقام الجميع للسلام عليه إلا أنا بغضاً له وكرها لمعتقده, فهل هذا التصرف صحيح للتعامل مع هؤلاء ؟
الجواب
لا حرج على المسلم في معاملة غير المسلم، ويجب العدل معه، وعدم ظلمه، وسؤال هؤلاء الكفار عن أحوالهم ومبادلتهم التحية، التي يلقونها لا حرج فيه أيضاً، فقد ثبت أن النبي - عليه السلام - كان يسأل ثمامة بن أثال - رضي الله عنه - في كل يوم عن حاله وكان على الشرك عندما أسره المسلمون وربطوه في المسجد، انظر ما رواه البخاري (462) ومسلم (1764) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وصلة القريب الكافر والجار الكافر مشروعة، بل وتعزيتهم في وفاة أقاربهم ولكن يدعى لهم بما يناسب حالهم، فلا يقال لميّتهم غفر الله له، ولا رفع الله درجته في الجنة ولكن يقال: عوضكم الله خيراً ونحوه. والمنهي عنه إنما هو موالاتهم المقتضية لمحبتهم القلبية، والرضا بما هم عليه من الكفر، ونحوه، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون "[الممتحنة:8-9].
ويقول تعالى: " ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا "[المائدة:8]، "وإذا قلتم فاعدلوا " [الأنعام:152] وهذا ينسحب على أهل البدع والضلالات فإنهم يعاملون بالعدل ولا يظلمون مع بغض ما هم عليه من الابتداع والضلال. ولنعلم أن المعاملة الحسنة التي لا يترتب عليها انتقاص من الدين، ولا رضا بالكفر والضلال سبيل من سبل الدعوة إلى الله وهي داخلة فيما أمر الله تبارك وتعالى به "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"[النحل:125] "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن" [الإسراء:53] "وقولوا للناس حسنا" [البقرة:83] وأوصى الله موسى وهارون عندما بعثهما إلى فرعون بقوله " فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" [طه:44] وبالله التوفيق .
============
أهل الذمة
المجيب …أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …22/4/1424هـ
السؤال
من هم أهل الذمة؟ وهل ينطبق اليوم عليهم حديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - "من آذى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة"؟ وهل يجوز القيام بمهاجمة السفارات والمصالح الأجنبية للدول الكافرة في بلاد المسلمين، وما رأي فضيلتكم في الأحداث التي شهدتها الرياض مؤخراً؟
الجواب(2/204)
الكفار عموماً إما أهل حرب وإما أهل عهد، وأهل الحرب هم الذين أعلن ولي أمر المسلمين (الإمام) الحرب بيننا وبينهم بالسلاح، أما الحرب التي تقوم بين دولتين مسلمتين فلا يسمى المقاتلون من الطرفين أهل حرب، ولا يأخذون أحكامهم، لأن (أهل الحرب) خاص بالكفار، أما غيرهم فمسلمون وإن تقاتلوا فقد أثبت الله لهم الإيمان والأخوة بقوله: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات:10]، وأما أهل العهد من الكفار فثلاثة أصناف.
(1) أهل الذمة ممن تؤخذ منهم الجزية: وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهؤلاء تجري عليهم أحكام الإسلام، غير أنهم لا يجوز أن يقيموا إقامة دائمة في جزيرة العرب لحديث: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" رواه مالك في الموطأ (1697) وغيره.
(2) أهل هدنة: وهم من بيننا وبينهم حرب فاتفقنا معهم على إيقاف الحرب لمدة محددة معلومة، ويقال لهم (أهل الصلح) ولا يجوز أن يعقد الصلح أو الهدنة إلى الأبد، لأن في هذا تعطيل لأصل الجهاد، وإنما نهادنهم إذا كنا ضعفاء، فإذا تقوينا أعلن لهم الجهاد.
(3) أهل أمان: وهم الذين يقدمون من الكفار لبلاد المسلمين، كرجال الأعمال والزائرين وأصحاب المهن والحرف، وأهل الأمان وأهل الهدنة من المشركين لا تؤخذ منهم الجزية وإنما يقرون حسب الشروط التي بيننا وبينهم، وجميع هذه الأصناف الثلاثة من أهل الذمة والهدنة والأمان كلهم أهل عهد وذمة يشملهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" أخرجه البخاري (3166) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما-، وحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - "ذمة المسلمين واحدةٌُ يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقبل منه صرفٌُ ولا عدلٌُ" رواه البخاري
(3179)، ومسلم (1370).
وهذا ينطبق على بلادنا [المملكة العربية السعودية] وما يشبهها من بلاد المسلمين الذين لم تكن الحرب معلنة بينهم وبين الكفار، وأما البلاد التي أعلنت فيها الحرب بين المسلمين والكفار كالفلسطينيين مع اليهود والشيشان مع الروس فلا تنطبق عليهم هذه الأحاديث ونحوها، لأن الكفار مع الفلسطينيين والشيشان أهل حرب وليسوا أهل عهد وأمان، ومهاجمة السفارات والمصالح الأجنبية خارج بلاد المسلمين ممن لهم معنا عهد وذمة حرام لا يجوز، كما لا تجوز مهاجمتهم داخل بلادنا، أما من بينهم وبين الكفار حرب قائمة فيجوز لهم ذلك.
أما التفجيرات التي شهدتها الرياض أخيراً فهي جريمة نكراء وحادث بشع أزهقت فيه أرواح مسلمة وغير مسلمة بغير حق، واختصاراً للوقت فإني أنصحك وغيرك بقراءة البيان الصادر بهذا الخصوص من الموقع من (47) من العلماء والمشايخ، والمنشور في بيان حول حوادث التفجيرات ، ففيه غنية وكفاية لمن كان يريد الحق، وفق الله الجميع إلى كل خير.
===============
الحكمة من فرض الجزية
المجيب …د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ العقيدة بجامعة القصيم
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ …22/01/1427هـ
السؤال
ما الحكمة من فرض الجزية على غير المسلمين؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففرض الجزية على غير المسلمين من أهل الذمة، مقصوده الأعظم كون الدين كله لله، وكون كلمة الله هي العليا، باستسلام غير المسلمين، وإذعانهم لأحكام الملة. وقد يقترن بهذا الهدف أهداف أخرى من مقتضى عقد الذمة، مثل: الكف عنهم والحماية لهم، وهذا العقد ينقل غير المسلم من صف المحاربين، الذين تستباح دماؤهم وأموالهم في كل شرعة، إلى بر الأمان، حيث تتكفل الأمة المسلمة -بأجمعها، لا الحاكم فقط- بحفظ حقوقهم المدنية، والذود عنهم، وافتكاك أسيرهم، وإطعام جائعهم، وكسوة عاريهم، في حال العجز. فهو عقد كسائر العقود، يتضمن حقوقاً، وتترتب عليه واجبات، وهو بهذه النتيجة لون من ألوان التسامح، مقارنة بما يفعله المنتصرون في الأمم الأخرى بالمنهزمين، من إبادة، وتهجير، واسترقاق.
إن عقد الذمة لا يحمل المسلمين على نبذ مواطنيهم، وقطع الإحسان إليهم، كلا! بل جاءت النصوص بوجوب العدل في معاملتهم، والترغيب في الإحسان إليهم، ومن صور ذلك: حسن جوارهم، وعيادة مريضهم، وتشميت عاطسهم، والقيام لجنائزهم، وجواز الصدقة والوقف على فقرائهم، بل والوصية لهم، ومنحهم حرية التنقل، والتكسب، والاتجار داخل دار الإسلام، وكل ذلك معروف في الشريعة.
ومن ثم، فإن عقد الذمة لا يناقض مدلول قوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة:8]. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
=================
كيف تُقدَّر الجزية؟!
المجيب …د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أستاذ العقيدة بجامعة القصيم
التصنيف …الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار(2/205)
التاريخ …26/03/1428هـ
السؤال
هل كانت الجزية مبلغاً ثابتاً يدفعه غير المسلمين، أم كانت نسبة مئوية من الدخل أو المدخرات؟
وإذا كانت هذه النسبة من مدخراتهم فهل كانت مثل الزكاة؟ وكم كانت هذه النسبة؟
علماً بأن كلامي عن المقيمين من أهل الكتاب في دولة الإسلام (أهل الذمة)، وليس عن التجار الذين يدفعون 10% مقابل مرور بضائعهم عبر حدود الدولة الإسلامية.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن (الجزية) ما يؤخذ من أهل الذمة لقاء إقامتهم في دار الإسلام، إذا أبوا الدخول في دين الإسلام، آمنين على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وسائر حقوقهم الدينية، والمدنية.
وتقدير الجزية يرجع إلى اجتهاد الإمام، ويختلف تبعاً لاختلاف الأحوال، والأمصار. وهي تجب على الأفراد بمقدار لا يتفاوت بتفاوت الأشخاص.
أما المدخرات فلا يجب فيها شيء إلا ما أعدوه للتجارة، وتنقلوا به من بلد إلى بلد داخل دار الإسلام، ففيه العشر، ويسمى عند الفقهاء (العشور). ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها. وقد تسقط في بعض الأحوال لاعتبارات طارئة، وتفاصيل أحكام الجزية مبسوط في كتب الفقه، وكتب الأحكام السلطانية.
والجزية ليست كالزكاة، لا حقيقةً، ولا حكماً، بل هي شريعة مستقلة، فالزكاة من باذلها عبادة وقربة إلى الله، وطهرة للمال، ونفع للفقراء وأمثالهم. والجزية مظهر لإعلاء كلمة الله، وإظهار الصغار على من خالف أمره، وتنكب طريقه، وأصر على كفره.
وحكمتها منصوصة في كتاب الله. قال تعالى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" [التوبة:29].
ومعلوم أن (الجزية) تابعة للوضع العام للأمة؛ قوةً وضعفاً، وتلتحق بباب السياسية الشرعية. والبحث فيها الآن بحث نظري بحت. نسأل الله أن يعز دينه.، وأن يعلي كلمته. والله الموفق.
============
غياب الموضوعية في تيار مجاملة الآخر
اطلعت على الحلقة الأولى والثانية من بحث «صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية»، ومع تقديري للجهد المبذول في هذا البحث إلا أن ثمة ملحوظات على ذلك الجهد أذكرها على سبيل العموم والإجمال، ثم أذكر أمثلة ونماذج تفصيلية على تلك الملحوظات.
غلب على البحث ردود الأفعال، واستحوذت تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر على تفكير الكاتب وتقريراته، فسلك مسلك التبرير والتسامح المفرط «والمبالغة» في الاحتفاء «بالآخر»، فغابت الموضوعية العلمية في تيار التسويغ والمجاملة للآخر، واستولت الانتقائية في تقرير النتائج وما خالف تلك النتائج ـ التي قررها الباحث ـ من نصوص شرعية فتؤول أو تخصص!
ومن جملة «المفقودات» في هذا البحث: غياب اللغة الشرعية في كثير من التقريرات، واستعمال الألفاظ الموهمة المجملة ـ حمّالة وجوه ـ كالتعايش وحرية الرأي...
ومن الملحوظات التفصيلية على تلك الحلقتين ما يلي:
* جاء عنوان البحث «صورة الآخر...» ولفظ «الآخر» عائم لا ينضبط، فهو بمعنى غير، ألا يسع الباحث أن يسمي «الآخر» بما أسماه الله تعالى في مثل قوله سبحانه: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن: آية2). فالآخر هو الكافر، والله سبحانه أعلم وأحكم وأرحم حيث أطلق عليه اسم الكافر دون الآخر!
* ساق الباحث ـ في عنوان المقالة ـ قوله تعالى: {ليسوا سواء} دون أن يتم الآية الكريمة، وكان على الباحث ألا يجعل من آيات القرآن عناوين صحفية مثيرة، فتبتر الآية دون استكمالها، ما يؤدي إلى سوء فهم، لا سيما وأن الباحث قد طالب بالنظر إلى سياق الآيات.
* أشار الباحث إلى اهتمام وزارة التربية في فرنسا بصورة العرب والمسلمين من خلال اختيار نصوص من قصص ألف ليلة وليلة والأيام لطه حسين. فيقال: هل يمكن فهم الإسلام وحقيقة المسلمين من خلال كتاب سمر وأساطير، أو من خلال طه حسين الذي أشرب حب الأوروبيين فنادى بالسير على طريقة الغرب جملة وتفصيلاً؟ وهل فرنسا بهذا الغباء أو الجهل حين تقرر أساطير و«أيام»؟ وقد بلغ بها الكيد إلى إعداد فتوى تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، وضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر ـ زمن الاستعمار ـ(1).
* تحدث الكاتب عن القيام لجنازة الكافر بشيء من الانتقائية، وكأن الكاتب لم يكتف بهذا القيام الدؤوب للغرب من قبل حكومات المسلمين، فأراد لشعوب المسلمين أن تقوم لجيف الكفار.
كان من المهم أن تعرض هذه المسألة بموضوعية، وأن نحذر من الأحادية في التقرير، فهناك خلاف في مسألة القيام لجنازة المسلم فضلاً عن الكافر، كما أن المراد بأهل الأرض هاهنا أهل الذمة كما جاء في الصحيحين، وجاء تعليل القيام بعدة روايات لم يذكرها الباحث، منها رواية للحاكم «إنما قمنا للملائكة»، ورواية لأحمد «إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس»، ورواية ابن حيان «إعظامًا لله الذي يقبض الأرواح»(2).
* قرر الباحث الكرامة الإنسانية بناء على قوله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم..} الآية.
وكان عليه أن يقرر ما جاء في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (سورة التين آية 4ـ6).
فإذا انحرف الإنسان وكفر بالله تعالى، انتكس إلى أحط الدركات، بل تصبح البهائم أرفع منه.(2/206)
* تحدث الكاتب عن حرية اختيار الكافر وعدم الإكراه، وكان عليه أن يجمع أطراف المسألة فيورد ـ مثلاً ـ قوله [: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.». الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
* لم يكن الكاتب دقيقًا في نقله حيث قال: «لا يجوز إجبار أسير أو كتابي..» وفي هذا يقول ابن حزم: «واتفقوا أن من أسر بالغًا منهم فإنه لا يجبر على مفارقة دينه» وبالرجوع إلى كتاب ابن حزم، نلحظ أنه قال: أسير كتابيّ، ولم يقل أسير أو كتابي. ولا يخفى تفاوت المعنيين، كما أن كما أن ما نقله الباحث كان مبتورًا، فقد جاء النص بتمامه على النحو الآتي: «واتفقوا أن من أسر بالغًا منهم فإنه لا يجبر على مفارقة دينه أعني إن كان كاتبيًا» هكذا قال ابن حزم في مراتب الإجماع ص120 .
وقع الكاتب في لبس وتلبيس فظن أن «التوحيد الكلي» متحقق عند اليهود والنصارى، وأطلق هذا الحكم دون أن يفصّل أو يفرّق بين اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهؤلاء مسلمون، وأما اليهود القائلون بأن عزيرًا ابن الله، وكذا النصارى القائلون بالتثليث فهؤلاء كفار اتفاقًا، كما حكاه ابن حزم قائلاً: «واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفارًا واختلفوا في تسميتهم مشركين» مراتب الإجماع ص119 .
* احتج الكاتب بخطاب رسول الله [ إلى هرقل عظيم الروم، في تسويغ مخاطبة الملوك بألقابهم المعروفة، وكان على الكاتب أن يتم الحديث ويورد نص الخطاب لهرقل حيث قال المصطفى [: «سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» أخرجه البخاري، فالمقام مقام دعوة وهذا اللقب ـ عظيم الروم لمصلحة التألف ـ كما حرره الحافظ ابن حجر في الفتح 38/1 .
وقد قال الحافظ ابن حجر: «قوله «عظيم الروم» فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة، لأنه معزول بحكم الإسلام..»... وفي حديث دحية أن ابن أخي قيصر أنكر أيضًا كونه لم يقل ملك الروم، فتح الباري 38/1 .
* أورد الكاتب تفسير التدافع بالانتخاب الطبيعي، ويبدو أن الكاتب يتوارى من تقرير الصراع بين الحق والباطل، وجهاد أعداء الله تعالى، مع أن آية البقرة {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (آية 251)، جاءت بعد قصة طالوت وجالوت، وانتصار المؤمنين وقتل داود جالوت، ثم بيّن الله فائدة الجهاد فقال: {ولولا دفع الله الناس..} الآية، كما حرره السعدي في تفسيره ص90، كما أن آية الحج {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع..}( آية 40)، نظير الآية السابقة، فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين.
يقول العلامة السعدي: «ودلّ ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وبركتهم.
فإن قلت: نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب في ديار الكفار، أجيب بأن جواب هذا السؤال داخل في عموم هذه الآية وفرد من أفرادها.. فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب الدينية والدنيوية، وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها، وتفقد بعض أركانها..» أ.هـ ملخصًا، تفسير السعدي ص489 .
* زعم الكاتب أن أهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإنما يكون ذلك لأهل القبلة من أهل الإسلام كما في قوله [: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، وله ما لنا عليه ما علينا» أخرجه البخاري، أفتجعل ـ يا دكتور أحمد ـ المسلمين كالمجرمين!
* نقل الكاتب مقولة من قال: إن الولاء والبراء منوطان بحالتي السلم والحرب، إذًا الأصل التعايش في حال السلم، والاستثناء هو التناحر في حال الحرب. وهذه مغالطة مكشوفة؛ فالولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، وأصل الولاء الحب، وأصل البراء البغض، والحب والبغض أمر فطري لا انفكاك عنه، فكل إنسان سواء كان برًا أو فاجرًا لديه هذه الغريزة الفطرية من مشاعر الحب والبغض، وهؤلاء الذين يسعون إلى استئصال مشاعر الكراهية تجاه الكافرين (الآخر) لا يخالفون الثوابت الشرعية فحسب، بل يصادمون الطبيعة البشرية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة، كما أن البغض والكراهة أصل كل ترك» جامع الرسائل 193/2 .
* نقل الباحث مقررًا أن معتنقي الإسلام في ظل السلام بعد صلح الحديبية ستون ضعفًا مقارنة بمن أسلم من قبل، وغاب عن الباحث أن هذا الصلح إنما جاء بعد جهاد مستمر وغزوات متتابعة وسرايا متوالية، والله تعالى هو الحكيم في تقديره وتشريعه، وها هم الكثير بني جلدتنا قد بحّت حناجرهم وكلّت أقدامهم في السعي نحو الغرب من أجل المناشدة بالسلام العالمي، فما زاد الكفار إلا عتوًا ونفورًا عن الإسلام.
* تكلّف الباحث في تأويل قوله تعالى: {ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى..} فالآية التي تليها تبين أنهم قوم من نصارى آمنوا بمحمد [، حيث قال سبحانه: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} (المائدة: 83).
ولا موجب للشغب والاحتجاج بلفظ «أقرب» و«أشد» فقد يأتي أفعل التفضيل على غير بابه كما جاء في التنزيل ولغة العرب.(2/207)
* يبدو أن الباحث ـ سامحه الله ـ شرق بآية في كتاب الله تعالى تعكر مقصوده، فأشار إلى رقمها ثم تكلف في تأويلها، أما الآية فقوله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم} (البقرة: آية 105)، وقد امتطى ـ الدكتور الدغشي ـ مركب التأويل المتعسف، فادعى بلا بيّنة أن هذا من إطلاق «الكل» وإرادة «البعض»، مع أن الآية جاءت باسم الموصول المفيد للعموم(3).
* بالغ الكاتب في حقوق الآخر.. وغفل عن الشروط العمرية وما فيها من الأحكام، ومنها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترط على نصارى الشام حين صالحهم ـ ألا يحدثوا في مدينتهم كنيسة، ولا يجددوا ما خرب، ولا يظهروا شركًا، وأن يوقروا المسلمين، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتقلدوا سيفًا، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزّوا مقادم رؤوسهم، ولا يظهروا صليبًا.. فإن خالفوا شيئًا مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
قال ابن القيم ـ عن هذه الشروط: «وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها» أحكام أهل الذمة 4/2 .
وأخيرًا إن علينا أن نأخذ هذا الدين بقوة واعتزاز، ومن ذلك أن نبغض الكفار والمنافقين ونتبرأ منهم كما جاء في النصوص المحكمة، وهذا لا يتعارض مع العدل والقسط إليهم، بل يتفق معه، كما يجب أن نتأسى برسول الله [ فننظر فيه بعلم وشمول، فلا يقتصر على جانب كونه نبي الرحمة أو التسامح، كما لا يكتفي بكونه نبي الملحمة، بل إن المتعين أن نشتغل باتباع هديه في الحب والبغض، والولاء والبراء.
وإن يراعى في أثناء تطبيق الولاء والبراء أحوال المسلمين من قوة وتمكين، أو ضعف وعجز، ففي القوة لهم أن يبادروا بالجهاد لأعداء الله تعالى، وفي حال الضعف لهم أن يأخذوا بآيات الصبر والصفح والعفو كما حرر ذلك جمع من المحققين كابن تيمية في الصارم المسلول 413/2 .
اللهم اجعلنا سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك وبالله التوفيق.
المراجع:
(1). انظر تفصيل ذلك في الرحلات إلى شبه الجزيرة العربية (من إصدار دارة الملك عبدالعزيز) 249/1 .
(2). انظر هذه الروايات كما ساقها الحافظ ابن حجر في الفتح 180/3 .
(3). انظر الجواب الصحيح لابن تيمية 55/2 .
===============
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية
…الشروط العمرية التي تخص أهل الذمة
تاريخ الفتوى : …13 محرم 1422 / 07-04-2001
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
لدي أسئلة عن العهد العمري:
1. ما نصه؟
2. ما مصادره؟
3. هل هناك نص واحد أم نصوص؟
4. حاله عند أهل الرواية و الدراية؟
5. هل يُلفظ ب "العُهدةَ العُمريةَ" أم "العهد العمري"؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ذكر الإمام ابن القيم الشروط العمرية في كتابه أحكام أهل الذمة، وعزاها لعدد من المصادر وأضفنا نحن مصادر أخر:
أولها مسند الإمام أحمد، فقد روى ابنه عبد الله في زوائده على المسند، فقال: حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثني (عمي) أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحدٍ من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: "إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا: ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاّية (بناء كالدير)، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشا للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.(2/208)
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن أمض لهم ما سألوا، وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا شيئاً، ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده.
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط".
وروى هذه الشروط الخلاّل في كتاب أحكام أهل الملل من طريق عبد الله بن الإمام أحمد.
ثانيها: أخرج البيهقي في سننه (السنن الكبرى 9/202) عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاّية ولا كنيسة ولا صومعة راهب.. فذكر نحو رواية عبد الله بن الإمام أحمد.
ثالثها: روى سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة، قال: كتب عمر رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام كتاباً وشرط عليهم فيه... فذكر نحو ما ذكر في رواية عبد الله بن الإمام أحمد، مع خلاف يسير في ألفاظه.
وكل رواية من روايات هذا الأثر لا تخلو من مقال في إسنادها، إلا أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها (أحكام أهل الذمة لابن القيم 3/1163-1164).
وقال الإمام ابن تيمية: "في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام، وشارطهم بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وعليه العمل عند أئمة المسلمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر" لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لا يجتمعون على ضلالةٍ على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم".
مجموع الفتاوى 28/651.
أما تسمية هذه الشروط بالعهدة العمرية أو العهد العمري فلا حرج في ذلك ، فكل من اللفظين مستقيم لغة ، والنسبة إليه صحيحة .
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
==============
الجزية وأقسام الكفار فيها .
تاريخ الفتوى : …16 صفر 1420 / 01-06-1999
السؤال
هل تؤخذ الجزية من عموم الكفار أم هي على أهل الكتاب فقط من اليهود والنصارى؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أن الكفار ينقسمون بالنسبة إلى الجزية إلى ثلاثة أقسام:
1- أهل كتاب وهم: اليهود والنصارى، فهؤلاء يقاتلون حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويقرون على دينهم إذا بذلوها.
2- قسم لهم شبهة كتاب وهم: المجوس، فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإقرارهم بها، لقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه مالك وابن أبي شيبة. ولا يعلم خلاف في هذين القسمين بين أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن البصري من أن الجزية لا تؤخذ من أهل الكتاب العرب.
وقسم ثالث وهم: من لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان وسائر الكفار، فلا يقبل منهم سوى الإسلام. وهذا هو مذهب الشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، وروي ذلك عن مالك وأحمد.
وذهب مالك في الراجح عنه إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار، ومنهم المشركون وعبدة الأوثان مطلقاً: عرباً ـ ولو كانوا من قريش ـ فأحرى إذا كانوا غير عرب. وإلى هذا ذهب الأوزاعي، ونقل عن مالك أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا مشركي قريش.
والراجح أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس فقط، لعموم الأدلة بقتال المشركين، وخُصّ أهل الكتاب بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة: 29] والمجوس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فمن عداهم يبقى على مقتضى العموم. وروى البخاري أن عمر لم يقبل الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وهذا يدل على أن الصحابة توقفوا في أخذ الجزية من المجوس حتى عرفوا المخصص لهم من بين سائر الكفار، فيدل على أنهم لم يأخذوها من غيرهم. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يدل على اختصاص أهل الكتاب ببذل الجزية، إذ لو كان عاماً في جميع الكفار لم يختص أهل الكتاب بإضافتها إليهم.
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
===============
…الشروط العمرية التي تخص أهل الذمة
تاريخ الفتوى : …13 محرم 1422 / 07-04-2001
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة المحترمين
السلام عليكم
لدي أسئلة عن العهد العمري:
1. ما نصه؟
2. ما مصادره؟
3. هل هناك نص واحد أم نصوص؟
4. حاله عند أهل الرواية و الدراية؟
5. هل يُلفظ ب "العُهدةَ العُمريةَ" أم "العهد العمري"؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(2/209)
فقد ذكر الإمام ابن القيم الشروط العمرية في كتابه أحكام أهل الذمة، وعزاها لعدد من المصادر وأضفنا نحن بعضها:
أولها مسند الإمام أحمد، فقد روى ابنه عبد الله في زوائده على المسند، فقال: حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثني (عمي) أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحدٍ من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا: أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاّية (بناء كالدير)، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشا للمسلمين، وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن أمضي لهم ما سألوا، وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا شيئاً، ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده.
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط.
وروى هذه الشروط الخلاّل في كتاب أحكام أهل الملل من طريق عبد الله بن الإمام أحمد.
ثانيها: أخرج البيهقي في سننه (السنن الكبرى 9/202) عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاّية ولا كنيسة ولا صومعة راهب.. فذكر نحو رواية عبد الله بن الإمام أحمد.
ثالثها: روى سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة، قال: كتب عمر رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام كتاباً وشرط عليهم فيه... فذكر نحو ما ذكر في رواية عبد الله بن الإمام أحمد، مع خلاف يسير في ألفاظه.
وكل رواية من روايات هذا الأثر لا تخلو من مقال في إسنادها، إلا أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها (أحكام أهل الذمة لابن القيم 3/1163-1164).
وقال الإمام ابن تيمية: "في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام، وشارطهم بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وعليه العمل عند أئمة المسلمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر" لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لا يجتمعون على ضلالةٍ على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم".
مجموع الفتاوى 28/651.
أما تسمية هذه الشروط بالعهدة العمرية أو العهد العمري فلا حرج في ذلك ، فكل من اللفظين مستقيم لغة ، والنسبة إليه صحيحة .
والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
===============
…لا تناقض بين الشروط العمرية والعهدة العمرية
تاريخ الفتوى : …15 صفر 1422 / 09-05-2001
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة المحترمون
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
لقد سألتكم فيما مضى عن (العهد العُمري) و رقم السؤال كان 9507 . و أجبتم مشكورين على سؤالي بالجواب رقم 7497.(2/210)
في نهاية الأسبوع طالعت موقعكم المحترم، و فوجئت بذكر ل(الوثيقة العمرية في فتح بيت المقدس) ، http://www.islamweb.net/Article.asp?Article=256 .
سؤالي هذه المرة، هل هناك تباين بين ما أجبتم على سؤالي مشكورين و ما مذكور في موقعكم الكريم أم لا؟ وكيف ينبغي النظر إلى هذه الوثيقة روائياً و فقهياً؟
مع بالغ الإحترام و التقدير و السلام
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقنا وإياك لطاعته، واعلم أن الذي تبادر إلى أذهاننا ونحن نقرأ سؤالك الأول برقم 9507 أن مرادك هو الشروط العمرية، والتي أوسعها الإمام ابن القيم بحثاً في كتابه (أحكام أهل الذمة) فكانت إجابتنا بناءً على ما تبادر إلى أفهامنا من سؤالك، ولعل ذلك يوضح لك سبب ما ظننته تبايناً بين ما أجبناك به ، وبين ما نشر في موقعنا. أما العهدة العمرية، وهي: عهد عمر رضي الله عنه لأهل بيت المقدس، فقد ذكرها الإمام الطبري في تاريخه من غير إسناد، فقال: وعن عدي بن سهل قال ثم ذكرها.
أما فقهياً: فالعمدة في بيان أحكام أهل الذمة على ما ذكرناه من الشروط العمرية، وهي التي بنى عليها ابن القيم كتابه، كما سبق آنفاً، وفيها ذكر -رحمه الله- أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها، ونقل الإمام ابن تيمية إجماع الصحابة على العمل بموجبها، أما العهدة العمرية فكانت مجملة في شروطها، مما جعلها محل قبول عند بعض من لم ترق له الشروط العمرية، وأخذ يضعف سندها مغفلاً الإجماع القائم على الأخذ بها، وعمل الخلفاء على وَفْقِها، ولا يخفى أن هذا المسلك مسلك مجانب للصواب، فكيف يسوغ لطالب الحق أن يضرب بإجماع مبرم في أول القرون المزكاة، وسنة ماضية عرض الحائط. هذا ومما ينبغي التنبه له أنه ليس في العهدة العمرية لأهل المقدس ما ينقاض الشروط العمرية، وكل ما في الأمر هو أن الثانية مفصلَّة، والأولى مُجملَة بعض الشيء. والله أعلم.
المفتي: …مركز الفتوى
===========
دفاع عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
تاريخ الفتوى : …10 ربيع الثاني 1427 / 09-05-2006
السؤال
لدي بعض الاستفسارات حول ما ينسب إلى أمير المؤمنين أبي حفص عمر رضي الله تعالى عنه ، أرجو الإجابة عليها للضرورة القصوى :
أولاً - ما حقيقة إلغائه رضي الله عنه لسهم من أسهم الزكاة ( المؤلفة قلوبهم ) علماً أن هذا السهم جاء بآية في كتاب الله العزيز أي هو تشريع من الله ؟
ثانياً - ما حقيقة أنه رضي الله عنه عطل حد السرقة عندما جاءت فترة جدب وجوع علماً أنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المسلمون يعيشون في شظف ومع ذلك حذر الله ورسوله بالآيات والأحاديث الصحيحة من التعدي على حدوده وأمر بإقامتها ؟
ثالثاً - ما حقيقة تعطيله رضي الله عنه لحد الردة ؟
رابعاً - هل ما ورد في كتاب ابن كثير وما نقله ابن القيم رحمهما الله عن العهدة العمرية هو أصح النصوص ؟
أخيراً هل يكون عمل عمر بذلك مردودا عليه وهو مجتهد ولكنه لا يلزم أحدا ولا يحتج به عند أحد من بعده باعتباره مخالفاً لنصوص صريحة ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عمر رضي الله تعالى عنه كان على درجة كبيرة من العلم والفهم والفضل والاستقامة على الطاعة، وراجع كتب الحديث والسير فهي طافحة بذكر مآثر عمر وعلمه وحرصه على اتباع الحق، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ، وقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إني لأحسب عمر قد رفع معه يوم مات تسعة أعشار العلم ، وإني لأحسب علم عمر لو وضع في كفة الميزان وعلم من بعده لرجح عليه علم عمر ، وقد جاء الوحي بموافقته في كثير من اجتهاداته كما سبق ذكره في الفتوى رقم : 62984 .
واعلم أنه لا اعتبار عند السلف لقول أي مجتهد عند مخالفته لنص صريح صحيح من نصوص الوحي، فقد قال ابن القيم في الصواعق المرسلة : وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بأراء الرجال ولا يقرون المعارض على ذلك وكان عبد الله بن عباس يحتج في مسألة متعة الحج بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره لأصحابه بها فيقولون له : إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا فلما أكثروا عليه ، قال : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله ، وتقولون قال أبو بكر وعمر ، ولقد سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له : إن أباك نهى عنها فقال : إن أبي لم يرد ما تقولون فلما أكثروا عليه قال : أفرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم عمر .(2/211)
وأما المسائل المذكورة فقد تكلم فيها العلماء فلم يذكروا أن أحدا من الصحابة خطأ فيها عمر ولا اتهمه بمخالفة الوحي، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر رضي الله عنه إنما لم ير إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة لعدم الحاجة لتأليفهم نظرا لانتشار الإسلام وقوته ، قال في مجموع الفتاوى : وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب كإعطاء المؤلفة قلوبهم فإنه ثابت بالكتاب والسنة ، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التأليف ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، وهذا الظن غلط ، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فرض أنه عٌدم في بعض الأوقات ابن السبيل ، والغارم ونحو ذلك . أهـ .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء من قديم، وقد رأى بعضهم سقوط المؤلفة قلوبهم من المصارف ورأى بعضهم خلاف ذلك ورأى بعضهم عدم إعطائهم زمن قوة الإسلام لعدم الحاجة لتأليفهم، فإن احتيج لذلك أعطوا من الزكاة وقد بين أقوالهم فيها ابن قدامة في المغني ، والقرطبي في التفسير، فقال ابن قدامة في شأن المؤلفة : وأحكامهم كلها باقية وبهذا قال الحسن والزهري وأبو جعفر محمد بن علي وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي : انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعز الله تعالى الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال ، فلا يعطى مشرك تألفا بحال ، قالوا : وقد روي هذا عن عمر ، ولنا كتاب الله وسنة رسوله ، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء ، وكان يعطي المؤلفة كثيرا ، في أخبار مشهورة , لم يزل كذلك حتى مات . ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت بالاحتمال ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة ، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم ، أو بقول صحابي أو غيره على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك لها قياس فكيف يتركون به الكتاب والسنة قال الزهري لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة ، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا فكذلك جميع الأصناف إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة فإذا وجد عاد حكمه ، كذا هنا .
وقال القرطبي في التفسير : واخلتف العلماء في بقائهم ( يعني المؤلفة قلوبهم ) فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور عن مذهب مالك وأصحاب الرأي ، قال بعض علماء الحنفية : لما أعز الله الإسلام وأهله وقطع دابر الكافرين اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على سقوط سهمهم وقال جماعة من العلماء : هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين قال يونس سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخا في ذلك ، قال أبو جعفر النحاس : فعلى هذا الحكم فيهم ثابت فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه ، قال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة ، وقال القاضي ابن العربي : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ، فإن في الصحيح : بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ .
وفي الموسوعة الفقهية : اختلف الفقهاء في صنف المؤلفة قلوبهم : فالمعتمد عند كل من المالكية والشافعية والحنابلة أن سهم المؤلفة قلوبهم باق لم يسقط ، وفي قول عند كل من المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة : أن سهمهم انقطع لعز الإسلام فلا يعطون الآن ، لكن إن احتيج لاستئلافهم في بعض الأوقات أعطوا ، قال ابن قدامة : لعل معنى قول أحمد : انقطع سهمهم أي لا يحتاج إليهم في الغالب أو أراد أن الأئمة لا يعطونهم اليوم شيئا فأما إن احتيج إلى إعطائهم جاز الدفع إليهم فلا يجوز الدفع إليهم إلا مع الحاجة ، وقال الحنفية : انعقد الإجماع على سقوط سهمهم من الزكاة لما ورد أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا يطلبان من أبي بكر أرضا فكتب لهما بذلك فمرا على عمر فرأى الكتاب فمزقه وقال : هذا شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم والآن قد أعز الله الإسلام واغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعا إلى أبي بكر فقالا ما ندري الخليفة أنت أم عمر ؟ فقال هو إن شاء ، ووافقه ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك .(2/212)
قال ابن قدامة : المؤلفة قلوبهم ضربان : كفار ومسلمون ، وهم جميعا السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم ، ثم ذكر المسلمين منهم فجعلهم أربعة أضرب : 1 ـ سادة مطاعون في قومهم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيعطون تثبيتا لهم ، 2 ـ قوم لهم شرف ورياسة أسلموا ويعطون لترغيب نظرائهم من الكفار ليسلموا ، 3 ـ صنف يراد بتأليفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار ويحموا من يليهم من المسلمين ، 4 ـ صنف يراد بإعطائهم من الزكاة أن يجبوا الزكاة ممن لا يعطيها ، ثم ذكر ابن قدامة الكفار فجعلهم ضربين : 1 ـ من يرجى إسلامه فيعطى لتميل نفسه إلى الإسلام ، 2 ـ من يخشى شره ويرجى بعطيته كف شره وكف غيره معه . أهـ .
وأما حكم المرتد فإن عمر كان يرى أنه يستتاب ثلاثة أيام فإن لم يتب قتل، فقد أخرج الإمام مالك في الموطأ : أن رجلا قدم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس ؟ فأخبره أن رجلا كفر بعد إسلامه قال ما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه ، قال عمر : أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى ثم قال عمر : اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ، كما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، وقد نقل البيهقي في السنن عمل عثمان وعلي في خلافتهما باستتابة المرتد ثلاثا وقتله بعد ذلك إن لم يتب .
ومن الأدلة على قتل من رجع عن الإسلام سواء كان رجلا أو امرأة ولم يتب قوله صلى الله عليه وسلم : ومن بدل دينه فاقتلوه . رواه البخاري .
ومن الأدلة على عدم قتل من تاب من المرتدين عمل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته فلم يقتل صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من رجعوا للإسلام بعد ردتهم بل قبلوا منهم توبتهم . وللمزيد من التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع إلى الفتوى رقم :13987 ، وراجع في مسألة السرقة والعهدة العمرية الفتاوى التالية أرقامها : 7497 ، 45881 ، 25069 .
والله أعلم .
المفتي: …مركز الفتوى
==============
حقوق المنتصر : بين الشروط العمرية وضربات بوش الاستباقية
3/2/2007
هناك مواطن في التاريخ الإسلامي أو الفقه الإسلامي يقف أمامها بعض أهل الإسلام اليوم موقف الحائر المتردد ، فمنهم من يسلم مؤمناً على مضض ، ومنهم ينساح منها بزعم أنّها مواقف اقتضتها ظروف المرحلة والأعراف السائدة في تلك الحقبة والواجب اليوم التعامل بشكل مختلف تبعاً لظروفنا الراهنة .
وفرقة ثالثة تتنكر أصلاً لتلك المواطن وتعتبرها جُزءاً من الأخطاء التي وقع فيها المسلمون معتبرين ذلك خطوة في طريق الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني وهو الاعتراف بأخطاء السابقين على يد اللاحقين تمهيداً لتقبل أوضاع جديدة وأنماط جديدة لا تتعارض مع الواقع المعاصر .
هذا كلام ربما لا يصل إلى البعض إلا بالمثال ، فمن الأمثلة الحية المشهورة : قضايا مثل الولاء والبراء ، عدم التشبه بالكفار ، جهاد الطلب والغزو ، الرق وقضايا الرقيق وغيرها كثير .
وأحب هنا بيان وتجلية هذا الأمر من خلال موقفين متباينين مضموناً وأهدافاً لكنهما متشاكلين من حيث المبدأ .
أما الموقف الأول فهو ما يعتبر عند كثير من الظلاميين المستغربين نقطة عار وموقف مخجل : ألا وهو ما كان يفرضه المسلمون ـ حين يحكمون بلداً من البلدان ـ على أهل الكتاب من ممارسات ، ومن أشهرها الشروط العمرية التي فرضها الفاروق رضي الله عنها على أهل الكتاب ممن رضي بالبقاء تحت رعاية الدولة الإسلامية ، لقد فرض عليهم عمر أموراً قد يقف البعض أمامها موقفاً متردداً .
لأنّ ثقافة الحرية الفردية التي نشرتها أمريكا وزرعتها في عقول الناس جعلهم يعتبرون مثل هذا التصرف نوعاً من الظلم والتدخل في شؤون الغير الخاصة بهم .
وهذه النظرة نظرة خاطئة ، وتصورمغلوط له سبب ربما يغيب عن تفكير الكثيرين منّا .
إنه النصر .
الأمة لم تعرف النصر والانتصار والقوة منذ قرون ولم تذق له طعماً.
الأمة لم تبذل (كأمة) من الدماء والأموال والأرواح في سبيل تحقيق النصر .. نصر القوة والسيطرة ..لا مجرد الدفاع عن أرض محتلة أو طرد مستعمر غاصب ..
لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة والهدى للعالم أجمع .
وإن من أعظم ما أرسل به صلى الله عليه وسلم تحقيق عبودية الإنسان لله واستقلاله في عبادته وفكره وشخصيته إلا عن الله تعالى .
وهذا هدف عظيم جليل كانت تقف أمامه عقبات ضخمة .. مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وعشرين سنة فقط ليؤسس نواته ودولته الصغيرة في مساحتها القوية في مبدئها ودينها وتمسك رجالها ..
ثم رحل عن الدنيا تاركاً المسؤولية بأيدي رجال عظما بذلوا في سبيل المضي في الرسالة الغالي والرخيص حتى خضعت لهم الدنيا فكسروا الأكاسرة وقصروا القياصرة ..
كما مهجة بُذلت ؟ وكم ديناراً أُنفق ؟ وكم وقتاً صُرف ؟
كم حبيب فارق حبيبه ؟ وزوج فارق زوجته وأولاده ؟ وأب وأم ماتا ولم تقر أعينهما برؤية فلذة الكبد ؟
كم بذل المسلمون لتطأ خيولهم نمارق الفرس والروم ؟
إذا تخيلت معي كل هذه التضحيات وذلك البذل تعرف أنّ المنتصر الذي بذل وتعب وجهد لا يجوز مصادرة حقه في أن يفرض شروطه على من وقف في وجهه وأراده على الدنية وأن يصده عن الحق ويحجب نور الشمس عن الدنيا : شمس الهدى والنور .
فبعد كل هذا كان من الواجب على الأمة أن تحافظ على مكاسب بُذل في تحقيقها دم غالٍ ووقت ومال لا يُحصى .. فما هي مكاسب الأمة التي يجب عليها أن تحافظ عليها ؟(2/213)
هل خرج الصحابة لجبي الأموال وسبي النساء واعتلاء العروش ؟
كلا : لقد خرجوا من ديارهم وأبنائهم ليبلغوا دين الله ويحكموا به أرض الله ، هذه هي رسالتهم ..
فلما دخل الناس في دين الله .. وبدأ الناس يرون حقيقة النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كان من الواجب على من ولاه الله الأمر أن يمنع أي مظاهر تؤدي إلى تضييع شيء مما كسبه وحصله الأوائل ..
هل يجوز أن يُترك أهل الكتاب يجاهرون بمعاصيهم ومظاهر دينهم وأن يختلطوا بالمسلمين فلا يُعرفون حتى تذوب شخصية المسلمين في بيئتهم فتبدأ بالانحلال ويبدأ النزوح الفكري والثقافي والاجتماعي تجاه دين اليهود والنصارى ومظاهر حياتهم المليئة بالترف والتفلت الخلقي حتى على مستوى الأحبار والرهبان ؟
وهل يجوز بعد كل هذا البذل تمكين اليهود والنصارى من المناصب العليا المحترمة في الدولة ؟
وهل يجوز أن يُترك لهم مظاهر العلو في الأرض من خلال أموالهم بركوب أفخر المراكب فيكون ذلك فتنة لضعاف القلوب ممن هو حديث عهد بالإسلام ؟
إن ما فرضه عمر رضي الله عنه كان حقاً مكتسباً مؤيداً بأمور :
أوّلها : الحق الطبيعي الذي يقر به العرف الحربي للمنتصر .
فإذا غامر شخص ما ودخل حرباً يهدر فيها دم خصمه فعليه أن يخضع عند هزيمته للمنتصر وشروطه . هذا عرف قديم حديث لا يعارضه أحد ..
ثانيها : أن هذا حقيقة ما بعث الله به النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر أن يتميز أهل الإسلام عن أهل الكفر في لباسهم وعاداتهم ودينهم إلا ما استثناه الشرع فكانت الشروط العمرية نوع من التطبيق المنظم المفصل لهذا التشريع .
ثالثها : أن هذه القيود قليلة بالنسبة لمجمل حياة الفرد الكتابي ومعيشته ، وقليلة في مقابل ما يحصل عليه من دعم وحماية وعدالة لا يحلم بها في دولة النصارى واليهود ، ولهذا فضل أهل الكتاب يومها البقاء تحت الحكم الإسلامي على الهجرة إلى بلاد النصارى لأنهم يعلمون أن عدالة المسلمين لا يجدونها في أي أرض ليسوا فيها .
..
إن ما يعتمل في نفوس كثير من المسلمين اليوم من هذه الفرائض والشعائر التي يدندن الكفار وأذنابهم على اللمز بها هو ناتج طبيعي لحال الذل والهوان الذي تعيشه الأمة ..
ولأن الأمة إلى الآن لم تذق طعم النصر والتمكين ..
حتى إن بعض فقهائنا بدأ يختصر متون الفقه بحذف أحكام الرق والرقيق لأنه بزعمه في عصر انعدم فيه الرق والرقيق لتوقف عجلة الجهاد .. فبالله عليك يا أيها الفقيه إن لم يكن ثم جهاد بمعناه الحقيقي أفيعِزّ عليك أن تترك في نفوسنا بعض أثره ؟!
وإذا قارنا ما يفعله الأمريكان في الأرض اليوم من خلال تجبرهم وفرضهم الوصاية على الأرض وأهلها سنصل إلى سبب هذا كله ..
الأمريكان اليوم يجبون مكاسب جهادهم ( إن صح التعبير) في سبيل تحقيق النصر والتمكن ..
عملت السياسة الأمريكية والعسكرية الأمريكية والمال الأمريكي والإعلام الأمريكي وكل المؤسسات الأمريكية على تحقيق هذا التفوق في كل المجالات حتى أصبحوا سادة الدنيا ..
إن هؤلاء الناس يعتبرون الديموقراطية والحرية الأمريكية المطلقة هي أعظم إنجاز ومكسب حققوه ..
ويعلمون أنه لا يوجد من يهدد هذا المنجز ويسعى لاستئصاله من جذوره إلا المشروع الإسلامي ، الدين الإسلامي بصبغته السلفية ..
لهذا ترى أن أمريكا مهما زرعت من عملاء ووكلاء يحكمون البلاد بالحديد والنار ويخضعون المسلمين لحكم الطاغوت إلا أنهم لا يطمئنون ولا يقر لهم قرار ما دام يوجد هنا وهناك حلقات العلم ودروس التوحيد وفقه السنة ..
لا يهدأ لأمريكا بال ما دامت ترى معاول هدم الحلم الأمريكي تستعرض قوّتها الحضارية الدينية من المحيط إلى المحيط مهما بلغ هؤلاء من الضعف والقلة إلا أنّهم في نظر أمريكا خطر حقيقي يستحق أن تجيش الجيوش وتهلك الحرث والنسل في سبيل استئصاله وردم المواقع التي تهيئ له الحياة ..
إن العالم بأسره يقر لأمريكا كل العنجهية والتمدد والتدمير التي تفعله تحت عنوان حماية المنجز الحضاري ..
وإذا كان هناك من يختلف معها من الكفار وأذنابهم فإنه ليس منهم من يستطيع الوقوف في وجهها بل بعضهم أصبح ذيلاً لها مع أنه خامس خمسة كبار في مجلس الأمن .
خمسة يملكون الفيتو فهل استخدمه أحد كما أمريكا ؟
لماذا ؟
إنه منطق القوة والانتصار الذي يقرون لأمريكا به .. ولهذا أعطوها هذا الحق في أن تضرب وبكل قوة في كل مكان تشعر أنه يتمرد ويهدد منجزها الديموقراطي .. تحت شعار الضربة الاستباقية ..
وهذا الحق العرفي أقر لها به كل البشر على وجه الأرض ..
إلا ثلة واحدة صابرة مرابطة تؤمن بأنّ ما تعيشه أمريكا هو وهم الانتصار ، وحقيق به أن يُسمى بالحلم الأمريكي ..أضغاث أحلام ..
أمّا النصر الحقيقي فهو لم يأت بعد .. لأن الموعود به هم الغرباء ..
الطائفة المنصورة والفرقة الناجية التي وعدها الله النصر والعاقبة والتمكين ..
ليس بطائراتها وعتادها ..
وإنما بدينها وقيمها واستقلاليتها وانفرادها وعزتها بالحق الذي تملكه ولا تستحي منه ولا تخجل أن تعلنه : أنّ العزة لله جميعاً ..
وأنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ..
ثلة ترى أنه بالإيمان ـ وبه وحده ـ يتحقق النصر لهذه الأمة التي لم ولن تُعدم المجاهدين والعلماء المرابطين على الحق حتى يأتي وعد الله ..
ثلة لا تتردد أن تقول للكافر الباغي : بيننا وبينك نصل يبرق ، إن كان الآن في غمده لمصلحة شرعية فإننا لا نتنكر له ولا نتبرّؤ منه ولا ننتفي عنه ..
وإنّما بيننا وبينه موعد لا نخلفه نحن ولا هو ..(2/214)
موعد وعدنا الله إيّاه والله منجز وعده لا محالة إن نحن بذلنا الثمن : {إن تنصروا الله ينصركم} ومن أصدق من الله قيلاً ..ومن أصدق من الله حديثاً ..
===============
النصر على نصارى مصر
بسم الله الرحمن الرحيم
على خلفية الإعتداءات على الكنائس في الاسكندرية و قبلها في أنحاء مختلفة في مصر، و إذ لا أؤيد هذه الأحداث بالضرورة حيث أنها لاتزال غامضة لا يمكن للمرء ان يشكل حكماً عليها فلعل وراءها أيدي خفية تحاول الحصول على مكاسب سياسية في أرض الكنانة وراء قناع المحافظة على حرية الأديان، و لكنني أرى لزاماً على كل مسلم بالمقابل أن يعي العلاقة الشرعية التي يفترض أن تكون بينه و بين النصراني الذمي .
فمن المسائل التي صارت شائكة في الفكر الإسلامي المعاصر مسألة أهل الذمة من الذين كفروا و يعيشون بين ظهراني المسلمين، فتجد كثير من اصحاب النيات الطيبة و أحياناً السيئة يظهرون الجانب المتسامح من أحكام معاملة الكافرين، و يغضون الطرف على أحكام أخرى واجبة كالجزية و الصغار و غيرها ، غرضهم من ذلك نفي اي صفة عنصرية كما يصفونها عن ديننا الحنيف بالإضافة الى أهداف اخرى تتعلق بألاوضاع السياسية المعاصرة سمتها الهجوم على الإسلام نعايشها جميعاً على إختلاف مشاربنا تدفع بالبعض الى المسارعة في نفي أي قول على أنه شبهة إساءة دون تملي أو تمحيص.
و لقد وقعت مؤخراً على رسالة قديمة قام بتجميعها ابو حفص السياف المصري جزاه الله خيراً ، كانت معيني في إنشاء هذا الموضوع، فهي تحيي جانب كبير من هذه الأحكام الشرعية الهامة، و يتبين من خلالها ان الجانب المتسامح هو سمة بارزة من المعاملة في هذا الدين و لكنها بالتأكيد ليست الجانب الوحيد، و أن هناك أحكام اخرى يجب ان تقيد تصرفاتنا و نظرتنا إزاء الكفار _ و أهل الكتاب منهم خصوصاً _ قد غفلنا عنها عمداً او سهواً .
و كان من جراء ذلك أن تجرأ النصارى في بلاد المسلمين على المسلمين بل وعلى الإسلام، و إن الناظر إلى أوضاع النصارى اليوم ليرى خطراً محدقاً إن لم يستيقظ له المسلمون عصف بما تبقى من الدين.
لقد تجرءوا على خطف أخواتنا المسلمات بقوة الشرطة و عين النظام، وامتدت أيديهم وألسنتهم إلى المسلمين والإسلام بكل سوء، واستشرى بناء الكنائس في دار الاسلام تبنى كالقلاع لا كمجرد دور للعبادة، أما على النت فحدث و لا حرج، لقد أظهر النصارى العرب و الأقباط منهم خصوصاً إجتراءً على هذا الدين لم يسبقهم إليه أحد على حد علمي، و كشفوا من خلال مواقعهم السافلة و مأجوريهم على البالتوك عن وجههم الحاقد الذي يتقون إظهاره في الحياة العامة، فأخذوا ينفثون سمومهم و يسخرون من نبينا بأبشع الأوصاف و أقسى التعبيرات و يستهترون بأحكام هذا الدين، كل هذا يفعلونه و هم يدركون أنه على بصر و سمع من المسلمين و لا يأبهون كونهم آمنين من تحديد شخصياتهم أو محميين بقوات دولة الطاغوت، إلى غير ذلك من التطورات الخطيرة التي صارت تواكب تصرفات النصارى العرب و تشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها، في ظل مناخ دولي مشجع و مؤاتي.
1. أصل العلاقة قتال
معروف أن علاقة المسلمين بالكفار من الذين أوتوا الكتاب هي علاقة قتال من حيث المبدأ و الأصل ، قال تعالى:
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
قال ابن كثير :
وقوله: {حتى يُعْطُوا اْلْجِزْيَةَ }أي إن لم يسلموا {عَن يَدٍ } أي عن قهر لهم وغلبة {وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»
فانظر قول ابن كثير عليه رحمة الله : هم أذلاء صغرة أشقياء، ثم أنظر حالهم اليوم في مصر مثلاً لتدرك أن الوضع صار بالعكس، و صار المسلمين في أرضهم هم الأذلاء الصغرة الأشقياء!.
قال القاضي أبو يعلى
وفى هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان، ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين، وأخذ الضرائب، لا ذمة لهم، وأن دماءهم مباحة، لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل.
وهذا الذي استنبطه القاضي و غيره من أصح الاستنباط، فإن اللّه سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية: وهى إعطاء الجزية مع الصغار، فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه ولا ماله، وليست له ذمة، وقد صار ملموساً لكل ذي بصيرة انه قد حل للمسلمين منهم اليوم ما يحل من أهل الشقاق والمعاندة.
2. الشروط العمرية:(2/215)
من الطريف ان اولئك المروجين للتسامح و التواصل و المحبة مع النصارى لا يكتفون بتجاهل البراءة من الكفار و بغض ما هم عليهم من الكفر و إعلانهم بذلك ...و غير هذا مما هو معلوم من الدين بالضرورة بل تجدهم يستدلون و يستشهدون في معرض كلامهم ذاك بالعهدة العمرية، رغم ان هذه العهدة هي أصلاً سند علماء السلف و الخلف على السواء في أحكام اهل الذمة و المعاهدين المسكوت عنها، و التي صار مجرد الإشارة اليها في اقطار إسلامية معينة كمصر مثلاً من المحرمات الخطيرة التي ستؤدي الى فتنة عمياء و تهديد للأمن القومي و نشر للعنصرية و تشويه للدين ...إلى آخر الإتهامات المعروفة و المحفوظة.
إن هذه الشروط يصلح كل واحد منها لأن يكون موضوعاً وحده، لما تضمنته من أحكام هامة و تفصيلية صارت اليوم مهملة منسية و الله المستعان، سأوردها في عجالة و على القاريء أن يقارن بين هذه الشروط و حال النصارى في ديارنا اليوم:
ذكر سفيان الثوري، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم قال:
كتبت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يُؤْوا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه.
وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس.
ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يتكنوْا بكناهم، ولا يركبوا سرجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين.
فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
فهذه بعض من الشروط العمرية التي ارتضاها الفاروق رضي الله عنه ، وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجُّوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعد ذلك الخلفاء، وعملوا بموجبها.
قال ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي:
أن علياً رضي اللّه عنه قال لأهل نجران: إن عمر كان رشيد الأمر، ولن أغير شيئاً صنعه عمر!، وقال الشعبي: قال عليّ حين قدم الكوفة: ما جئت لأحل عقدة شدّها عمر!
الأمر الذي يؤكد ما ذهبنا إليه من أن تلك الشروط لم تكن آنية أو متعلقة بحال معينة او حكم توقيفي، بل هي تطبيق صحيح لأحكام أهل الذمة في الدين الإسلامي ككل و طول الدهر، و أي تنازل عنها أو تحريف لها يعد نسفاً لجانب مهم و أساسي من أحكام هذا الدين
3. حكم بناء الكنائس في ديار الإسلام:
و سأقتصر على تبيان حكم الكنائس في البلاد التي أنشأها المسلمون في الإسلام، مثل بغداد والقاهرة، لأنها المعنية بهذا الموضوع.
إن هذه البلاد صافية للمسلمين، إذا أراد الإمام أن يقر أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز، فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة، أو يظهروا فيها خمراً أو خنزيراً أو ناقوساً لم يجز، وِإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسداً، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع.
قال الإمام أحمد
حدثنا معتمر بن سليمان التيْمي عن أبيه عن حنش عن عكرمة قال: سُئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئاً؟، فقال: أيما مصرٍ مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يتخذوا فيه خنزيراً.
و سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الكنائس التي بالقاهرة وكان فيما قاله النصارى على عهده أن هذه الكنائس أقرهم عليها عمر بن الخطاب فكان من جوابه رحمه الله:
وأما قولهم: إن هذه الكنائس قائمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها، فهذا أيضاً من الكذب، فإن من العلم المتواتر أن القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأكثر من ثلاثمائة سنة.
فهذا هو الحكم الشرعي في بلاد الإسلام التي أنشأها المسلمون، و التي من ضمنها القاهرة كما تبين،و مع ذلك فإن حال الأقباط في هذه المدينة لمما يشيب منه الولدان، و كنائسهم و صلبانهم ظاهرة مستشرية في كل ركن منها، و لا تجد من يصدهم، بل لا تجد إلا من يدافع عن ذلك و يعتبره من سماحة هذا الدين و تعاطفه و تفهمه للأديان الأخرى....إلى آخر ما يفترون.
فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصَرها المسلمون؟
هي على نوعين
أحدهما : أن تحْدَث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر فهذه تُزال اتفاقاً.
وثانيهما: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض، ثم يمصر المسلمون حولها المصر، فهذه لا تُزال، واللّه أعلم.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:(2/216)
... فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه كما ملكوا ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار، ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان،والمتاع والنقد.
وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن ملك المسلمين، فإن ما يقال فيها من الأقوال، ويفعل فيها من العبادات، إما أن يكون مبدلاً أو محدثاً لم يشرعه اللّه قط، أو يكون اللّه قد نهى عنه بعد ما شرعه.
وقد أوجب اللّه على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله للّه، وتكون كلمة اللّه هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث اللّه به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ولهذا لما استولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم، كبني قينقاع والنضير وقريظة، كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلت في قوله سبحانه: {وأورْثَكُمْ أرَضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وأمْوالَهُمْ }...
وملخص الجواب: أن كل كنيسة في مصر والقاهرة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار التي مصرها المسلمون بأرض العنوة فإنه يجب إزالتها إما بالهدم أو غيره بحيث لا يبقى لهم معبد في مصرمصره المسلمون بأرض العنوة، سواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة، لأن القديم منها يجوز أخذه ويكون واجباً عند المفسدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجتمع قبلتان بأرض فلا يجوز للمسلمين أن يمكنوا أن يكون بمدائن الإسلام قبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم، لا سيما وهذه الكنائس التي بهذه الأمصار محدثة جرى بناؤها بعد الفتح، و يظهر حدوثها بدلائل متعددة، والمحدث يهدم باتفاق الأئمة.
وأما الكنائس التي بالصعيد وبر الشام ونحوها من أرض العنوة فما كان منها محدثاً وجب هدمه، وإذا اشتبه المحدث بالقديم وجب هدمهما جميعاً لأن هدم المحدث واجب وهدم القديم جائز، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وما كان منها قديماً فإنه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم.
فينظر الإمام في المصلحة: فان كانوا قد قلوا والكنائس كثيرة أخذ منهم أكثرها، وكذلك ما كان على المسلمين فيه مضرة فإنه يؤخذا أيضاً، وما احتاج المسلمون إلى أخذه أخذ أيضاً.
وأما إذا كانوا كثيرين في قرية ولهم كنيسة قديمة لا حاجة إلى أخذها ولا مصلحة فيه فالذي ينبغي تركها.
كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لهم من الكنائس ما كانوا محتاجين إليه، ثم أخذ منهم.
وأما ما كان لهم بصلح قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها، فلا يجوز أخذه ما داموا موفين بالعهد إلا بمعاوضة أو طيب أنفسهم كما فعل المسلمون بجامع دمشق لما بنوه.
و بعد...
إن هذا هو ما جاءت به النصوص والآثار، و هو مقتضى أصول الشرع وقواعده: فإن إحداث هذه الكنائس و إبراز الصلبان و الاحتفالات الصاخبة بأعيادهم الكفرية يعتبر إحداث لشعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فهذا شعار فسق و تلك شعار كفر، و الثاني أغلظ و أشد.
و من يرى حال النصارى اليوم في مصر و هم قد أقاموا الدنيا و لم يقعدوها حتى لحظة كتابة هذه السطور على ما أسموه عدواناً، و تحرك رأس الكفر العالمي أمريكا بالشجب و الإدانة تأييداً لهم، و مظاهراتهم الصاخبة، فضلاً عما أرسوه من إظهار لكفرياتهم و عدوانهم اللفظي على هذا الدين يدرك جيداً حجم الشقة و بعد الخلاف بين حالهم هذا و الحال الذي يفترض شرعاً أن يكونوا عليه في ديار الإسلام.
يقول ابوحفص سياف المصري حفظه الله:
وأخيراً..
نقول كما قال صلى الله عليه وسلم لكعب بن الأشرف وغيره: من لهؤلاء النصارى فقد آذو الله ورسوله..
من لهم فقد فتنوا المؤمنين عن دينهم وانتهكوا أعراضهم
من لهم فقد خطفوا أخواتكم واخوانكم
من لهم فقد رفعوا قلاع الكفر على أرضكم
من لهم فقد ألبوا عليكم عدوكم
من لهم فقد تفننوا في تنصير إخوانكم وأخواتكم وأبناءكم
من لهم فقد بسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون
من لهم فالفتنة أشد من القتل
ماذا تنتظرون؟
أندونسيا أخرى؟ تنتهك فيها الأعراض وتسفك فيها الدماء؟
ووالله إن ما حدث من التطاول على شرع الله مراراً لهو أشد في نفس المؤمن من القتل..
أيها المؤمنون.. قد بين لكم ربكم سبيل كف بأس الكفار: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً) .
ومع ذلك فهناك كثير من الذين في قلوبهم مرض وزيغ ما زالوا حيارى يبحثون عن الطريق .. لم يروِ غليلهم القرآن. .
علماً إنني لم أخاطب بموضوعي هذا أولئك المنافقين الذين يوالون النصارى ويوادونهم ويسارعون فيهم، ولا أولئك الزنادقة الذين يقدمون مصلحة الوطن -زعموا- على مصلحة الشرع ويجعلون رابطة الوطن فوق رابطة الدين، فلهؤلاء وأولئك خطاب يليق بأمثالهم.
وإنما أخاطب الباحثين عن الحق الذين يستقون الشرع من معينه: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، الذين يتجردون لله في طلب الحق من كل هوى وعصبية وتقليد، فإذا أبصروا نور الأدلة الساطع سارعوا إليه يبتغون مرضاة الله وإن غضب أهل الأرض قاطبة.
فهل أنت منهم؟
و الله من وراء القصد و هو الهادي إلى سواء السبيل
==============
( حكم المشاركة في أعياد الكفار )
عناصر الموضوع :
1. حث الشريعة على الاتباع ونبذ التشبه بالكفار
2. ارتباط الأعياد بالعقائد(2/217)
3. أدلة وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم
4. حكم المشاركة في أعياد الكفار
5. الشروط العمرية على أهل الذمة
6. حدوث المشابهة للكفار ومشاركتهم أعيادهم
حكم المشاركة في أعياد الكفار:
من أعظم البدع والضلالات مشابهة الكفار من اليهود والنصارى، ومن أعظمها مشابهة الكفار ومشاركتهم في أعيادهم قولاً وفعلاً. وفي هذه الخطبة بيان مفصل لما يجب على المسلمين تجنبه من أعمال وتصرفات في أيام عيد الكفار؛ لأنها دليل المشابهة والمشاركة، والتي تورث التعارف والتآلف وتلغي حقيقة الولاء للمسلمين والبراء من الكفرة والمشركين.
حث الشريعة على الاتباع ونبذ التشبه بالكفار:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. ومن أعظم البدع والضلالات التي هي في النار مشابهة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، ومن مقاصد شريعة الإسلام تمييز شخصية المسلم عن كل ما يخالطها من شعائر أهل الكفر، لتبقى هذه الشخصية نقية متميزة عن غيرها من شخصيات أهل الأرض، ومن مقصود هذا الدين إعلاء الإسلام وعزله عن شوائب الشرك، وإظهار ميزاته وتفرداته عن سائر الملل والأديان، ولذلك كان من أخص خصائص هذا الذين اتباع السنة والابتعاد عن مشابهة الكفار في كل صغيرة وكبيرة، ولذلك فإنك تجد ربنا عز وجل قد تكلم بهذه الآيات الدالة على تمييز الملة الإسلامية وأهلها عن سائر الملل: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة:48] ويقول: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48]. فشريعتكم غير شريعتهم، ومنهاجكم غير مناهجهم: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:5-6] ودينكم غير دينهم، وجاءت هذه الملة الحنيفية ناسخة لسائر الملل من قبلها، مستعلية عليها، وصار هذا الإسلام بحمد لله دين الله القويم، وكان مهيمناً على الدين كله من قبل. ولذلك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين بقوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه قاعدة أساسية من قواعد هذا الدين في تحريم التشبه بالكفرة، وقال في أكثر من مناسبة: (خالفوا المشركين) وأنت تقرأ في الصلاة سورة الفاتحة، وفيها قول الله عز وجل: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] لا اليهود ولا النصارى، بل اهدنا لطريق الحق وسبيله الذي ليس مثل سبيل اليهود ولا سبيل النصارى. اهدنا الصراط المستقيم، صراطاً مستقيماً لا يشابه سبيل اليهود ولا النصارى ولا سائر الكفار، ولذلك نجد في شريعتنا الأمر بمخالفة الكفرة في كثير من الأمور منها: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، والصلاة بالنعال خصوصاً إذا كان المكان مناسباً، وتوجيه قبور المسلمين إلى الكعبة بخلاف قبور الكفار، وكثير جداً من الأمور التي أُمرنا فيها بمخالفة الكفار وعدم مشابهتهم، حتى صيام يوم عاشوراء نصوم يوماً قبلهم أو يوماً بعدهم تحقيقاً لهذه المخالفة، ونحن أحق بموسى منهم وهو يوم نجى الله فيه موسى، ولكن تمعناً في المخالفة، حتى أن اليهود تضايقوا أشد المضايقة فقالوا: ما ترك صاحبكم شيئاً إلا خالفنا فيه.
ارتباط الأعياد بالعقائد:(2/218)
ومن الأمور الخطيرة التي أُمرنا بمخالفتهم فيها: قضايا الأعياد، والعيد اسم لما يعود ويتكرر، وقد يكون عيداً سنوياً، أو شهرياً، أو أسبوعياً، أو أكثر من ذلك، فسمي عيداً، ونحن المسلمون لنا ثلاثة أعياد فقط، عيدان سنويان وعيد أسبوعي، عيد الفطر وعيد الأضحى في السنة، والجمعة عيد الأسبوع، وليس لنا أعياد أخرى غير هذه البتة، والعيد يرتبط بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً، وليس هو مناسبة فرح وعادات فقط، والذي يظنون أن الأعياد مسألة عادات فقط فهم أناس ما فقهوا دين الله، لا عندنا ولا عند غيرنا، الأعياد مرتبطة بالدين. فانظر مثلاً عيد الفطر يعقب صوماً، وفيه زكاة الفطر وصلاة العيد أهم شعائر ذلك اليوم، وعيد الأضحى بالإضافة للصلاة هناك نحر الأضحية تقرباً إلى الله، وهو أعظم أيام السنة، والأيام التي بعده من أيام التشريق أيام أكل وشرب، وتأمل كيف أن الشارع أمر بالفطر في هذين اليومين وحرم الصيام يومي العيد. فالمسألة إذاً مرتبطة بالدين وليست مسألة عادات، وعند الكفرة من اليهود والنصارى أعيادهم أيضاً مرتبطة بدينهم ويقومون فيها بطقوس من صميم عقيدتهم، وليست قضية عادات وتقاليد.
أدلة وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم:(2/219)
ومن الأدلة الدالة على وجوب مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم وعدم مشاركتهم فيها البتة، قول الله عز وجل: (( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ )) [الفرقان:72] فهي صفة مهمة من صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان:72]. قال محمد بن سيرين : هو عيد الشّعانين عند النصارى، عيد يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصل، ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون أن ذلك ذكرى لدخول بيت المقدس . فانظر إلى ارتباط العيد عندهم بقضية دينية وليست قضية عادات وتقاليد. وقال مجاهد : الزور أعياد المشركين. وكذا قال الربيع بن أنس. وقال عكرمة : لعبٌ كان لهم في الجاهلية مؤقت بأوقات معينة. وعن الضحاك قال: عيد المشركين. وقال بعضهم: لا يشهدون الزور أي: لا يمالئون أهل الشرك على شركهم، ولا يخالطونهم. فإذاً هذه الآية: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] نص صريح في عدم جواز مشاركة الكفار في أعيادهم، وإذا كان الله قد قال: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ [الفرقان:72] مجرد الشهود والحضور لا يجوز، فكيف بالمشاركة والممارسة معهم لأحوال ذلك اليوم وذلك العيد! وانظر كيف سماه الله زوراً، وهذا من أدلة التحريم: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] فسماها زوراً، وروى أبو داود عن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ولأهل المدينة يومان من أيام الجاهلية يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) إسناده صحيح على شرط مسلم . والإبدال يقتضي ترك المبدل، فبدلهم الله بهذين اليومين يومين آخرين هما الفطر والأضحى، وهذا يقتضي ترك الأيام السابقة، وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: (نذر رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة -موضع قريب من مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيهما وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) بعد أن تأكد بأنه ليس في هذا الموضع مكان لعيد للكفار ولا وثن من أوثانهم، وإسناده صحيح على شرط الشيخين وأصله فيهما. فإذا كان صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبح في مكان العيد مع أنه قد لا يكون في ذلك الوقت عيد، لكن مجرد أن هذا المكان يجتمعون فيه يوماً من الأيام لا يجوز الذبح فيه؛ لعدم إحياء تلك البقعة؛ لأن المشركين يعيدون فيها، فكيف بمن وافقهم في نفس العيد؟ وكيف بمن فعل معهم بعض الأعمال التي تفعل في عيدهم؟ وبهذا الحديث يتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً أشد الحرص على طمس أعياد الكفرة وإزالتها، ودرسها وعدم إحيائها البتة، واقتلاعها من جذورها. والعيد أيها الإخوة! عندنا وعند غيرنا، مع ما فيه من صلاة أو ذكر أو نسك، يجتمع معه عادات مثل التوسع في الطعام واللباس واللعب، فإذاً ليس العيد قضية فرح وتوسع باللباس والمأكل والهدايا فقط، وإنما هو مرتبط بالعقيدة وبالدين وبالملة. ومن الأدلة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل أبو بكر عليه يوم العيد وجد عنده جاريتان تغنيان في بيت رسول الله، فنهرهما أبو بكر فقال: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا) عيدنا نحن مختص بنا، ولكل قوم عيد مختص بهم. هذا دليل آخر على تميز المسلمين بأعيادهم وعدم مشاركة الكفرة، وبالمناسبة أقول: احتج بعض التافهين السفهاء بجواز الأغاني والمعازف الموجودة والمنتشرة بهذا الحديث، من الذي كان يغني؟ جاريتان صغيرتان، هل ورد في الحديث أن معهما معازف؟ كلا، إذاً هو بالصوت لبنتين صغيرتين، كلام طيب وإلا ما وافقه رسول الله، كلام طيب لبنتين صغيرتين بدون معازف، هل يدل على هذه الأغاني الموجودة الآن؟ اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. وكذلك حديث: (فإن الله أضل عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة) رواه مسلم . ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد.
حكم المشاركة في أعياد الكفار:(2/220)
الأعياد من أهم ما تتميز به الشرائع والأديان، والمشاركة في أعياد الكفرة تتراوح بين المعصية والكفر، قد تكون معصية، وقد تكون كفراً، وفيها من المخاطر أمورٌ كثيرةٌ جداً، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم بحثاً في هذا الموضوع، لا أظن أنه يوجد في مكان آخر لغيره، واشتكى فيه شيخ الإسلام رحمه الله من حال المسلمين المجاورين للكفار في بلادهم. بلاد المسلمين واسعة، فمنها ما هو في القلب، مثل جزيرة العرب ، ومنها ما هو في الأطراف، مثل حال بلاد الأندلس الملاصقة للنصارى ومنذ زمن كان الإسلام يهيمن على تلك الديار، فاشتكى شيخ الإسلام رحمه الله من تغير حال المسلمين الملاصقين لبلاد الكفار من تلك البلاد، فقال: لقد صار من حال المسلمين فيها أمراً عجيباً -معنى كلامه- قل علمهم وإيمانهم فصاروا يشاركون الكفرة في أعيادهم، حتى صارت مشاركتهم لأعياد الكفار أبهى في أنفسهم وأعظم من أعياد المسلمين، لما يفعلونه في أعياد الكفار من الهدايا والخروج والاجتماع والنفقات والكسوة للأولاد. وإذا علمنا أيها الإخوة أنهم يشاركون النصارى في أكل البيض واللحم واللبن والخروج في الخميس إلى تبخير البخور، ويأخذون معهم ذبائح يزفونها بناقوس صغير، وكثير من المسلمين يفعلون ذلك كما ذكر شيخ الإسلام في ذلك الزمن، حتى أنه كان في يوم الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغيرة، وكلام المنجمين، وتباع فيها صور الحيات والعقارب التي يلصقونها في بيوتهم؛ لزعمهم واعتقادهم أنها تمنع السموم، وتمنع العين، وكانوا يصبغون أبوابهم ومراكبهم ودوابهم بالطين الأحمر أو الخلوط مشابهة للنصارى لما يفعلونه، ويحملون أوراق الزيتون، ويكشفون رءوسهم لاعتقادهم بأن مريم تمر فوق رءوسهم فتنزل عليهم بالبركة.
الشروط العمرية على أهل الذمة:
إذا تأملنا في شروط أهل الذمة التي تمنع الوصول إلى هذا المستوى التي شرطها عليهم عمر رضي الله عنه، تعلمون عظمة هذا الدين، فإن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة توقير المسلمين، والقيام لهم من مجالسهم إذا أراد المسلمون أن يجلسوا فيها، ولا يتشبهون بهم في شيء، لا في اللباس ولا غيره، ولا يفرقون رءوسهم؛ لأن الفرق من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والإسدال من عادات اليهود والنصارى، فألزمهم بإسدال شعورهم وعدم فرقها، ولا يتكنون بكنى المسلمين ولا يتقلدون سيفاً ولا سلاحاً، ولا ينقشون خواتيمهم بالعربية، وأن يشدوا الزنانير على وسطهم حتى يتميزوا عن المسلمين، ولا يظهرون صليباً على كنائسهم ولا كتباً، ولا تبنى كنائس جديدة، وبالنسبة للكنائس القديمة في البلاد التي فتحها المسلمون، فلا يظهر الصليب فوق الكنيسة، ولا تباع كتبهم وأناجيلهم، ولا يضربون بنواقيسهم في الكنائس إلا ضرباً خفيفاً لا يسمع من خارج الكنيسة، ولا يرفعون أصواتهم في صلواتهم، ولا يبيعون خمراً، ولا يجاورون مسلماً بخنازير، ولا يخرجون في باعوث، وهذا عيد من أعيادهم، يخرجون فيجتمعون فيه، فإذا تأملنا هذه السنن التي شرطها عليهم أمير المؤمنين، كيف يوجد فيها من الصغار عليهم وإذلالهم، وكبت دينهم وشعائرهم حتى لا تظهر أمام المسلمين، تميزاً لهذه الملة وأهلها عن تقاليد الكفر وشعائرهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يميزون هذا الدين، ويحافظون على نقائه، وصلى الله على نبينا محمد. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
حدوث المشابهة للكفار ومشاركتهم أعيادهم:
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لا شريك له، لم يكن له صاحبة، ولم يتخذ ولداً، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر إخوانه من الأنبياء، وصحابته من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة! أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا سنقلد اليهود والنصارى، بلام التوكيد والنون: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم نكح أمه علانية، لكان في أمتي من يفعل ذلك) وكلام رسول الله وحي يوحى، فهو لا ينطق عن الهوى، وما أخبرنا به قد حصل، فأنت ترى اليوم واقع بلاد المسلمين من جهة مشاركتهم للكفار في أعيادهم أمراً مؤلماً وواقعاً سيئاً، هذه المشابهة التي تهنئ فيها النصراني بعيد رأس السنة مثلاً، أو تشاركه فيه، فإن هذا إقرار ضمني منك ولو غير صريح على عقيدته ودينه ومنهجه. إقرار غير صريح منك على هذا الأمر، بل إنهم سيغتبطون سروراً عندما يرون المسلمين يشاركونهم في أعيادهم، وإن المشرك ليتمنى أن موحداً يشاركه في عيده، لكي يحس بأنه لا فرق بين الأديان، وأن الكل سواء، ولا يحس بخطئه هو. ومن المقاصد من وراء عدم مشابهة الكفار تحسيسهم بغربتهم وتحسيسهم بخطئهم، وأننا لماذا لا نشاركهم؟ لأنها خطأ، شرك، فعندما تشاركهم وتهنئهم كأنك تقول لهم: ليس عليكم ضير في هذا الدين، فنحن نفرح معكم، ونسر كما تسرون، وكم في هذا من إماتة لشعائر الإسلام! وكم في هذا من إقرار لأهل الباطل على باطلهم إقراراً لا يرضاه الله! ويتربى أطفالنا اليوم منذ الصغر على التشوق لهذه الأيام -أيام رأس السنة واحتفالات عيد الميلاد كما يقولون- لما يأتيهم من الهدايا والحلويات في هذه الأيام في كثير من بلدان المسلمين، فصار الأطفال من الصغر يتوجهون قلبياً لهذه الأيام.
المشابهة والمشاركة تسبب التآلف:(2/221)
واعلموا أن مشابهة اليهود والنصارى بمشاركتهم في أعيادهم تجر إلى المشاركة في أمور أخرى تسبب نوعاً من التآلف معهم، ألا ترى أن أصحاب المهنة الواحدة! النجار يميل إلى نجار مثله، وصاحب سيارة الأجرة يميل إلى مثيله؛ لاشتراكهم في صنعة واحدة، وهي قضية دنيوية، بل إن الذي يسير في الشارع في سيارة ويرى أمامه سيارة مماثلة لسيارته التي يركبها تماماً، يشعر بنوع من التقارب لصاحب هذه السيارة شاء أم أبى، هذه الطبيعة ركبها الله في النفس، فإذا شاركناهم في أعيادهم؛ فإن هذا مشابهة لهم توجب تقارباً وتآلفاً شئنا أم أبينا. كيف نشعر بعدائنا لليهود والنصارى، وكيف نشعر أن دينهم شرك، وكيف نتبرأ من شركهم ونعلن أن هذا لا يرضاه الله ثم نشاركهم في أعيادهم؟! لا يمكن أن يجتمعا.
محرمات في أيام أعياد الكفار:(2/222)
واحذروا من طاعة كثير من النساء في مثل هذه الأيام اللاتي يردن الذهاب للتفسح والسفر في مثل هذه الأيام. ومن الأشياء المحرمة تخصيص أيام معينة لطبخات معينة، كما يفعل اليهود والنصارى؛ مثل أكل رز باللبن في أيام معينة في السنة، أو البسيسة وربما تكون هي البسبوسة، أو العدس أو البيض المصبوغ كما يفعلون، بيض ملون بألوان مختلفة، يفعلونه في عيد من أعيادهم، مثل عيد الربيع عندهم وأعياد أخرى، يصبغون البيض بألوان مختلفة ويوزعونه على الأطفال، أو الاغتسال بغسالة ورقة الزيتون كما يعتقدونه، أو التعطيل في أيام عيدهم، تعطيل الصنائع والتجارات والوظائف، فإنها من أكبر المحرمات لما في ذلك من مشاركتهم في عيدهم، ويقول شيخ الإسلام رحمه الله مضيفاً: والواجب أن تجعل أيام عيدهم عندنا كسائر أيام السنة دون قطع، طمساً لهذا الدين المحرف، ولا يعين المسلم على التشبه بهم، ولا تجاب دعوتهم إلى ولائمهم في تلك الأعياد، وقال شيخ الإسلام : ولا تقبل هداياهم التي يهدوننا إياها بمناسبة عيدهم، تقول: لا. آسف لا أقبل منك: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6]. وكذلك لا يجوز بيعهم ما يستعينون به على شعائر أعيادهم مثل الديك الرومي، وإذا علمت أن المشتري واحد منهم أو يريد أن يعينهم، لكن بيع الديك الرومي في سائر أيام السنة لا بأس به، وبيعه لمسلم بالطريقة العادية لا بأس به، لكن بيعه لكافر تعلم أنت أنه سوف يستعين به على إظهار شعائر دينه لأن من تقاليده في أعيادهم طبخ الديك الرومي فلا يجوز، ولا يجوز تأجيرهم الصالات ولا الفنادق لإقامة احتفالاتهم، لأن في ذلك رفعاً لدينهم وإظهاراً لأعيادهم، والله يأبى ذلك، وما يفعلونه ليلة خمسة وعشرين من ديسمبر، ويوم خمسة وعشرين من الشهر نفسه فيه من المنكرات ما الله به عليم، وفي الساعة العاشرة ليلاً أكثر من تسعين في المائة من الشعب الأوروبي والأمريكي يكونون سكارى في هذا اليوم، ويعملون الولائم ويخصصون لها الأكلات المعينة، ويلبسون ثياباً مثل ثياب المهرجين، وبعضهم يمثل دور بابا نويل كما يقولون، الذي يسمونه سنتا كلوز، شيخ بلحية بيضاء يوزع الحلويات على الأطفال، والبيت الذي ليس أمامه شجرة عيد ميلاد عندهم هو بيت بؤس وتعاسة، حتى أن فقراءهم يتقاسمون هذه الشجرة، ويزينونها بالأنوار، ويجعلون الحلويات التي تقدم إلى الأطفال على شكل عكاز بابا نويل، وطبعاً بعض أطفال المسلمين يشترون ذلك ويأكلون منه، أو على شكل دمى مثل بابا نويل أو غيره. وقبل الساعة الثانية عشرة ليلاً بدقيقة تطفأ الأنوار في رأس السنة، وترتكب أنواع الفواحش، يودعون السنة التي أعطاهم الله إياها بأنواع الفواحش. ويقولون: وألقى كثير من الشباب المخمرين أنفسهم في النافورة الكبيرة المشهورة في ميدان الطرف الآخر في مدينة لندن ، يشربون الخمر ويلقون أنفسهم في النوافير ابتهاجاً في تلك الليلة بهذا اللعب. وما يحدث من المسلمين من المشاركة سيأثمون عليه عند الله إن لم يغفر الله لهم، ويتوبوا إلى الله من هذا، مثل إرسال بطاقات المعايدة لهم المخصصة لتلك الأعياد، أو تهنئتهم مثلما يقولون: هبي النورين ونحو ذلك، أو ميري كرسميس ونحو ذلك، ولا يجوز تبادل الهدايا بهذه المناسبات، وبعض المسلمين يتعمد زيارة الكفار في بيوتهم مع ما فيها من المنكرات والفواحش بيتاً بيتاً، وبعض المسلمين يسافرون إلى بلاد أخرى لحضور هذه المناسبات، وبعض المسلمين يشترون الهدايا لأولادهم في هذه المناسبات، حتى أنهم شابهوا الكفرة في إعطاء الشراب الأحمر للطفل الصغير ليجمع فيه الحلويات والهدايا واللعب، ويضعونها لهم تحت وسائدهم، كما يفعل النصارى. وتوقد الشموع في هذه المناسبات، وتجلب الأشجار حتى وهي اصطناعية. وبالمناسبة حتى تعلموا أن القضية متعلقة بالدين، وليست قضية عادات وتقاليد وأفراح فقط، يزعمون أن هذه الشجرة هي التي ولد عيسى تحتها، فهي شجرة خير وبركة، فلذلك يجلبونها ويضعونها ويزينون بها مقدمات بيوتهم وأبوابها. وبعض المسلمين من السذج البسطاء يقولون: لماذا تقيمون الدنيا وتقعدونها، هم يهنئوننا في أعيادنا، أفلا نهنئهم في أعيادهم؟ أفلا نقابل الإحسان بالإحسان؟ نقول: إذا كنت أنت تعلم أنك على الحق، وهم هنئوك بعيدك اعترافاً منهم فالحمد لله، لكن إذا كنت تعلم أنهم على الباطل فكيف تهنئهم بعيدهم؟ كلامك يقال عندما يكون الدينان سواء، النصرانية مثل الإسلام كلها صحيحة، عند ذلك تهنئهم ويهنئونك! لكن إذا كنت تعلم أن الله قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73].. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:72]. كفروا وخرجوا عن الملة وعادوا الدين وأهله، ثم تهنئهم بأعيادهم!! وكذلك أيها الإخوة فإنما يجب أن نسعى بالتواصي بالحق والصبر، والحمد لله إن لبعض الجهات المسئولة إسهاماً جيداً في هذا الأمر، نسأل الله أن يوفق هؤلاء المسئولين المخلصين إلى إقامة شعائر الدين، وكبت شعائر أهل الكفر والزيغ. اللهم إنا نسألك أن تقيمنا على الملة(2/223)
الحنيفية من غير اعوجاج، اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك ظاهراً وباطناً، اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، واللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل التوحيد أحياءً وأمواتا، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان في هذا الشتاء، اللهم كن لهم معيناً وناصراً يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا من أهل السنة في لبنان و فلسطين ، اللهم اكبت اليهود والعنهم، اللهم أخزهم ودمرهم. اللهم إنهم عاثوا في بلاد المسلمين فأظهروا فيها الفساد، اللهم صب عليهم سوط عذاب، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم فرعون وعاد وثمود، اللهم واجعل نصرة الموحدين من هذا الدين قريبة، اللهم لولا ثقتنا بك ما دعوناك، اللهم لا تخيب رجاءنا فيك يا رب العالمين، اللهم انصر الإسلام نصراً مؤزراً، وأعل كلمته على سائر الملل وأديان الكفر المنحرفة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله
============
الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية
المصدر : مفكرة الإسلام
[align=right]مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي ينتظر ـ حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون ـ أن تعم دول العالم الإسلامي ـ عربًا وعجمًا ـ بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن 'الآخر' حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يتداول بين الكتاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: 'ما الموقف من الآخر' و'العلاقة بالآخر' و'ينبغي من الآخر' ومطلوب 'القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر' و'الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيدًا عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء' و'إعادة الاعتبار إلى الآخر وجودًا ورأيًا ومشاعر' و'اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيّق الهوة مع الآخر'.
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من المفكرين العصرانيين، والمقصود بالآخر في هذا الكلام 'غير المسلم' أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة, وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقًا، وإما تجبرًا وكبرًا، ثم يدلي كل من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع 'الآخر' وفي النظرة إلى 'الآخر' وموقفهم من 'أفكار الآخر'، وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
مَنْ 'الآخر'؟
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة 'الآخر' دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو 'غير الإسلامي', ولفظ 'الآخر' لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ 'غير' دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا. قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال ابن جرير: 'عنى بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ عمَّ بقوله:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}؛ فهنا وصف'الآخر' بأنه منهم، مما يعني أن 'الآخر' قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن 'الآخر' مساقًا واحدًا؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن 'الآخر' بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام أو المواقف.
أنواع 'الآخر':
'الآخر' قد يكون كافرًا، وقد يكون مسلمًا، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهَد. والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. وأهل السنة توجد بينهم خلافات في الفقه على تعدد درجات الاختلاف، كما أن البدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن 'الآخر' سَوْقًا واحدًا فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو موقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديمًا قالوا: كلا طرفي قصدي الأمور ذميم.
أصول عامة في مسألة الآخر:
لكن هنا أصول أو قواعد عامة لا ترتبط بـ'الآخر' أيًا كان، من فئة أقرب الموافقين أو أبعد المخالفين ينبغي الالتزام والتقيد بها؛ فمن ذلك:
1ـ العدل:(2/224)
وهو قيمة عليا من قيم الإسلام، وهدف من أهدافه الرئيسة. قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؛ فالمسلم مطالب بالعدل مع الموافق والمخالف ولو كان كافرًا، وإن المسلم لا ينبغي أن يحمله بغضه لأقوام ـ حتى وإن كان يبغضهم في الله ـ على ترك العدل معهم، وظلمهم، بل هو مطالَب ومأمور من الله ـ تعالى ـ بالعدل معهم بـ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وهو أيضًا مطالَب بالعدل مع نفسه ووالديه والأقربين. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135]، قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: 'ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط؛ يعني العدل'. فالعدل عند المسلم صفة من الصفات وخلق من الأخلاق، وليس موقفًا من المواقف وهو ما يعني أن هذه صفة أصلية ثابتة يطبع الإسلام بها المسلم في كل أحيانه؛ إذ العدل واجب من كل أحد على كل أحد في كل حال. ومن العدل ألا نفرق بين المتماثلين، وأن لا نساوي بين المختلفين؛ فمساواة المسلم بالكافر ليس عدلاً، ومساواة السني بالبدعي ليس عدلاً، كذلك مساواة من خالف في الأصول بمن خالف في الفروع ليس عدلاً، كما أن التفرقة بين الناس على أساس الاختلاف في مسائل الاجتهاد؛ بحيث يأخذ هذا حكم، وذاك حكم ـ مع أن الخلاف في مسائل الاجتهاد ـ فليس ذلك أيضًا عدلاً، كما أنه ليس من العدل نقل صورة غير أمينة عن الواقع سواء بالزيادة فيه وتضخيمه، أو بالتنقص منه وتقليله، سواء أكان ذلك يصب في مصلحة المنقول عنه أو ضرره؛ فكل تلك الأحوال ليست من العدل، ويتفرع عنها صور كثيرة جدًا، والضابط في ذلك أن العدل هو الوقوف عند ما حدَّه الشرع بلا زيادة أو نقص، وليس بما يتصور الإنسان أنه عدل؛ إذ إنه قد يُتصور أمور كثيرة من العدل، وهي ليست منه في شيء.
2ـ الأخذ بالظاهر:
الإنسان أيًا كان، فمن الممكن أن يكون عمله في الظاهر ليس متوافقًا مع باطنه، وباطن الإنسان لا يعلمه أحد على الحقيقة إلا الذي يعلم السر وأخفى. وأما الإنسان فليس له إلى علم حقيقة البواطن سبيل، وإن كانت هناك قرائن قد تدل بغلبة الظن على الباطن؛ وعلى ذلك فإننا مطالَبون بالحكم على الشيء المنضبط الواضح وهو الظاهر الذي يظهر من الإنسان، ولا نرتب مواقفنا على تصوراتنا للباطن، ونقول: هو نيته كذا أو كذا، ونحو ذلك من الكلام، وهذه قاعدة معلومة؛ فإن المنافق مع أنه في الدرك الأسفل من النار، لكن لما كان ظاهره الإسلام، وكان يخفي نفاقه في داخله ـ وإن كانت هناك قرائن قد ترشد إلى شيء مما في داخله ـ فإننا نعامله بحسب ما يظهر منه، وهذا أيضًا نوع من أنواع العدل أن تكون المواقف مؤسسة على الأشياء الظاهرة الواضحة وليس على الأشياء الباطنة الخفية؛ إذ لو فُتِحَ باب أخذ المواقف بناءً على الأمور الباطنة الخفية ـ والتي لا سبيل إلى معرفتها يقينًا ـ لفسدت أمور الناس وسفك بعضهم دماء بعض، واستحلوا الأموال بناءً على ما يُتصور لهم في الباطن، وهذا من رحمة الله تعالى بالناس.
3ـ مرجعية الكتاب والسنة:
فكتاب ربنا ـ تعالى ـ تكفل الله بحفظه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ملحقة به في ذلك الحفظ؛ لأنها من بيان الدين وتوضيحه، وهما المأمور بالاحتكام إليهما لاحتوائهما على الحق الصراح، وهما المأمور بالرد إليهما عند الاختلاف. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]؛ فعلَّق الإيمان بالله واليوم الآخر على الرد إلى الله والرسول عند الاختلاف والتنازع، وبيَّن أن ذلك هو الخير والأحسن عاقبة ومآلاً، وقد اتفق أهل العلم أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أن الكتاب والسنة فيهما بيان كل شيء وتوضيح كل مشكل، وحل كل معضل. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: 'الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين'، وعلى ذلك؛ فإن الكتاب والسنة هما اللذان يُرجَع إليهما، ويُعوَّل عليهما في تناولنا لجزئيات الحديث في موضوع هذه الدراسة.
4ـ التثبت من المنقول قبل اتخاذ المواقف:(2/225)
المواقف لا ينبغي أن تُبنى على الظن ولا على التصور أو التخيل، وإنما ينبغي أن تُبنى على واقع وحقيقة؛ لذا فلا غناء للموقف الصحيح من أن يؤسَّس على التثبت مما ينقل والتأكد من صدقه وصوابه، وهذا أمر ذو أهمية كبرى، وقد أرشدنا الله تبارك وتعالى إلى التثبت قبل الإقدام بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وقد قُرئ قوله تعالى: 'فتبينوا' بقراءة ثانية وهي: 'فتثبتوا'، وقال ابن جرير رحمه الله: 'فتبينوا' بالباء، يعني أمهلوا حتى تعرفوا صحته ولا تعجلوا قبوله، وكذلك معنى 'فتثبتوا'، وقد بينت الآية ضرر عدم التثبت؛ إذ يجعل الإنسان نادمًا على ما فعل 'ولات حين مندم'.
وعلى ما دلت عليه الآية السابقة دلَّ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]، يقول ابن جرير: 'إذا سرتم مسيرًا لله في جهاد أعدائكم، فتأنوا في قتل مَنْ أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حربًا لكم ولله ولرسوله'.
وقد كان التثبت قبل الإقدام من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أنس بن مالك: 'أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر؛ فإن سمع أذانًا كف عنهم وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم'. وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد بن الوليد عندما أقدم على قتل الذين قالوا: 'صبأنا' ولم يحسنوا أن يقولوا: 'أسلمنا' فقال: [[اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ابن الوليد]] مرتين. قال الخطابي: 'أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا'.
5 ـ قبول الحق ممن جاء به:
الحق لا يستمد قيمته من قائله، أو من الظرف الذي قيل فيه، وإنما يستمد ذلك من كونه الحق؛ فالحق يحمل قيمة ذاتية مستقلة عن ظروف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإذا كان الحق يُقبل لأنه حق؛ فلذلك يُقبل الحق ممن جاء به، سواء كان من جاء به مسلمًا أو كافرًا، أو شريفًا أو وضيعًا؛ فقد يقول الكافر أو المنافق كلمة الحق، كما قد يقول المؤمن كلمة الباطل؛ لذلك جاء في وصية معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ التي سبقت وفاته بعدما حذر من زيغة الحكيم، وبين أن المنافق قد يقول كلمة الحق، وأن الشيطان قد يلقي كلمة الضلالة على لسان الرجل الحكيم قال: 'فخذ العلم أنَّى جاءك؛ فإن على الحق نورًا'.
وقد حشر لسليمان ـ عليه السلام ـ جنوده من الجن والإنس والطير، وكان فيهم الذي يقدر على إحضار عرش ملكة سبأ في طرفة عين، ومع ذلك فلم يُخبر بخبر ملكة سبأ إلا هدهد، وقد قال الشيطان لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: 'إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح' وأبو هريرة لا يعرفه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة لما قص عليه ذلك: [[أما إنه قد صدقك، وهو كذوب]]، فلم يمنع كونه شيطانًا أن يُقر الحق الذي قاله، لكن لابد من الاحتراز في مثل ذلك؛ حيث لا يقبل منه إلا الجزء الذي تبينت حقيقته، ولعله لأجل ذلك عقَّب الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله: 'صدقك' بكلمة: 'وهو كذوب' حتى لا يكون قوله: 'صدقك' تعديلاً وتوثيقًا له يحمل السامع على قبول كل ما جاء به، وقد قال علي رضي الله عنه: 'إن الحق لا يُعرف بالرجال'، مما يعني تميز الحق وتفرده وقبوله ممن جاء به.
الموقف من فكر الكافر:
الكافر هو كل إنسان لم يؤمن بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يدن بدين الإسلام سواء كان من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو كان من عبدة الأصنام والأوثان، أو كان ـ في ظاهره ـ لا يعبد شيئًا؛ فهذه الأصناف جميعها كفار، وعلى ذلك تطابقت أدلة الشرع من الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك أهل الإسلام علماؤهم وعوامهم، بل الكفار أنفسهم يعلمون أن من دين المسلمين تكفير كل من لم يؤمن بالله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
والكافر قد يكون مقيمًا بدار الإسلام إذا كان ذميًا أو دخل إليها بعهد أو أمان، كما قد يكون مقيمًا ببلاد الكفر [دار الحرب، أو دار العهد]، والكلام هنا مقصور على الكافر المقيم بيننا؛ فهذا هو المقدور عليه:(2/226)
قَبِلَت الشريعة ـ وفق شروطها المعلومة ـ إقامة الكافر ببلد المسلمين، مع بقائه على دينه، وهذا يعني أن الكافر المقيم بدار الإسلام بسببٍ مشروعٍ لا يُجبر أو يُكره على ترك دينه والدخول في الإسلام، وهذا يتناول بالضرورة أن الكافر غير مجبر على ترك آرائه وأفكاره الشخصية وتصوراته سواء منها ما خالف الإسلام أو وافقه، وهذا يسميه بعض الناس: 'حرية الاعتقاد' أو 'حرية وحق التفكير' إلى غير ذلك من المسميات، ونحن لا نسمي ذلك 'حقًا' أو 'حرية' لأن الله لم يعط أحدًا الحق في الكفر أو الضلال، ولم يبح ذلك في شريعته قط، وإنما نسمي هذا 'عدم الإكراه' أو 'الجبر' فلا حق لإنسان في أن يكفر ولا 'حرية' في أن يضل ويشرد عن الطريق المستقيم. ولكن نقول كما قال ربنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فنحن لا نُكرِه الكافر على الإسلام وإن كان لا حق له في أن يكفر، ويترتب على هذا الفرق الذي لم ينتبه له كثير من الكتاب المعاصرين تحديدُ الموقف من حكم نشر أو إذاعة الكافر لآرائه بين المسلمين؛ فإذا كان الكافر لا حق له ولا حرية في أن يكفر ويضل؛ فمن باب أوْلى لا حق له ولا حرية في نشر كفره وإذاعته بين الناس، وعدم إكراهه على الإسلام والهدى لا يعطيه حق الدعوة إلى كفره وضلاله في بلاد المسلمين.
وما يتكلم فيه الكافر المقيم بدار الإسلام إما أن يكون أمورًا دنيوية بحتة، وإما أن يكون مسائل دينية أو لها متعلق بالدين. فالمسائل الدنيوية البحتة كالمسائل المتعلقة بالخبرة المكتسبة في الزراعة مثلاً أو الصناعة أو تخطيط المدن، وأشباه هذه الأمور، فليس بين أيدينا نصوص معينة تمنعه من المشاركة في ذلك أو من نشر رأيه في ذلك والدعوة إليه، ومن ثم فإن حريته في نشر ذلك النوع من الفكر والدعوة إليه يتبع السياسة الشرعية ويرتبط بالمصلحة في كل عصر.
وأما المسائل الدينية أو المسائل المتعلقة أو لها اتصال بالدين فيرى بعض المعاصرين أن في منعه من نشر فكره المخالف لدين الإسلام حَجْرًا على الفكر وكبتًا لحريات الناس، وأن من حقه أن ينشر ما يراه، وينبغي أن يُمَكَّن من ذلك، وأن تُفتح له وسائل النشر المتعددة أبوابها، وربما يُعلل ذلك بأن صاحب الفكر الصحيح أو القوي لا يخاف أو يؤثر عليه صاحب الفكر الباطل والضعيف، وقد يضيف إلى ذلك قوله بأن بلاد الغرب أو الشرق الكافر تمنح المسلمين حرية نشر أفكارهم الإسلامية والدعوة إليها، وهذا قمة الرقي والتحضر أو التمدن الحقيقي، حيث لا حجر على نشر الأفكار أيًا كان نوعها، وينبغي أن نعاملهم بالمثل.
وهذه كما نرى احتجاجات فكرية، وهي احتجاجات مُقابلة بما هو أقوى منها وأكثر منطقية، ولا يتعارض مع العقول السليمة، فإذا قلنا: إن شريعة الإسلام تشهد بالبطلان على كل ما يخالفها ويناقضها، وأن في مخالفتها ومناقضتها الخسران والبوار، وأنها لذلك لا تسمح لأحد بنشر الدعوة المضادة لها بين أتباعها في أرض تحكمها وتسيطر عليها، كان هذا قولاً مقبولاً معقولاً؛ إذ كيف يستجيز عاقل يريد أن يبني بناءً أن يترك آخرين يهدمون ما يبني وهو قادر على منعهم، ويعلل ذلك بأنه قوي وأنه قادر على بناء ما يهدمون، هذا ليس بتصرف العقلاء.
وأما النقطة الثانية وهي سماحهم لغيرهم بالدعوة إلى أفكارهم ونشرها؛ فإن هذا له ما يسوغه عندهم، وهم في ذلك متوافقون من أنفسهم وليسوا مخالفين لنظمهم؛ فإن القوم مرجعيتهم العليا في ذلك هي الإنسان نفسه، وليس لهم مرجع خارج الإنسان نفسه؛ فالفكر الذي ينظر إليه على أنه مُغرق في الفساد الذي لا تقبله الفطرة يتمتع بالقدر نفسه من الحجية التي يتمتع بها الفكر الذي ينظر إليه على أنه فكر صالح؛ إذ الكل صادر عن الإنسان صاحب المرجعية العليا عندهم؛ حتى وجدنا لديهم أفكارًا في منتهى الفساد ـ ربما لا تقبلها بعض الحيوانات ـ تحولت عندهم إلى واقع ممارس أو قوانين يحتكم إليها الناس؛ ففي تلك البلاد توجد حرية الزواج بين المثلين [رجل لرجل، وامرأة لامرأة] بل يوجد عندهم زواج المحارم حيث يتزوج الرجل ابنته، وهكذا.
وعلى هذا نقول: لو أنهم سمحوا في بلادهم للمسلمين بنشر أفكارهم ودعوتهم؛ فهم لم يخالفوا القاعدة التي ينطلقون منها، ولا يُقبل شرعًا أو عقلاً أن نكافئهم على عدم مخالفتهم لأنظمتهم بمخالفتنا لشريعتنا.
أدلة عدم جواز نشر ما يخالف الشريعة:(2/227)
وقد دل على عدم جواز نشر أو إذاعة آراء وأفكار الكفار المخالفة للشرع أدلة كثيرة؛ فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه} [الأنعام: 68]؛ فأمر الله تبارك وتعالى بالإعراض ـ أي الصد وعدم الاستماع أو الجلوس ـ عمن يخوض أي يستهزئ ويكذِّب بآيات الله أو يخالفها ويناقضها حتى يأخذوا في حديث آخر؛ أي حتى يبتعدوا عن الخوض في آيات الله؛ فالمسلمون ممنوعون من الإقبال أو الجلوس إلى الكفار والاستماع إليهم حال خوضهم في آيات الله، وإذا كان المسلمون ممنوعين من ذلك، فلا يجوز أن يباح أو يسمح للكفار بأن يقتحموا على المسلمين بيوتهم ومجالسهم ونواديهم ـ عن طريق وسائل النشر الحديثة ـ ليسمعوهم باطلهم وكفرهم بآيات الله وتكذيبهم لها أو معارضتهم ومخالفتهم لها؛ لأنه لا يقول عاقل إن المسلم لا يجوز له أن يذهب إلى الكفار ويجلس إليهم ويستمع لما يقولون، بينما يجوز أن يذهب الكفار إلى المسلم ليسمعوه ما عندهم من الخوض في آيات الله، ولو قال قائل: إن هذه الآية منعت المسلمين من الجلوس لسماع خوض الكفار، ولم تأمر المسلمين بمنع الكفار عن الخوض في الدين، قلنا: هذه الآية مكية، والمسلمون في مكة لم تكن لهم قوة أو ولاية أو سلطان يتمكنون به من دفع الكفار عن الخوض في دين الله، وكان كل الذي يمكن فعله في هذه الحالة هو منع المسلمين من الجلوس إلى الكفار والاستماع إلى خوضهم في الدين، وهذا قد جاء الأمر به.
فلما انتقل المسلمون إلى المدينة وصارت لهم قوة ومنعة ودار حصينة، لم يكن أحد يستطيع إظهار الخوض في آيات الله، أو دعوة المسلمين إلى ذلك، وإنما كان يقوم بشيء من ذلك المنافقون، ولا يجلس إليهم أو يستمع إليهم إلا أمثالهم، فنزل تحذير الله لهم بقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:138]، إلى قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140]، وفي هذه الآية زجر شديد عن الجلوس والاستماع إلى الخائضين؛ وذلك حيث يقول الله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ}. فلم يكن أحد في المدينة وخاصة بعد انتصار المسلمين في بدر، يستطيع أن يجهر بالخوض في آيات الله، واقتصر ذلك على المنافقين أو اليهود في مجالسهم الخاصة التي لا يطلع عليها غيرهم، ولذلك كان القرآن إذا نزل يخبر عن أقوالهم وأفعالهم؛ إذ ينظر بعضهم لبعض ويقول: هل سمع خبركم أو رآكم أحد، فأخبر محمدًا صلى الله عليه وسلم بذلك؟ وهذا من قلة علمهم وفقههم؛ لأن الله ـ عز وجل ـ هو الذي يخبره. والمقصود أنهم كانوا يسرون ولا يجهرون، قال الله تعالى مبينًا ذلك: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127]. قال القرطبي: المنافقون: 'إذا حضروا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قرآنًا أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا؛ فينقله إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه'.
وإذا كانت وسيلة نشرة الأقوال في الزمن الغابر هي الجلوس إلى صاحب القول والاستماع منه؛ فإن الوسائل قد تعددت الآن وتنوعت، وإذا كان المسلمون ممنوعين من الجلوس والاستماع لمن يخوض في دين الله؛ فإن المنع ليس قاصرًا على الوسيلة، وإنما هو المنع من الاستماع للباطل، فيعم ذلك كل وسيلة تؤدي الغرض نفسه.
ومن الأدلة على ذلك أن يقال: إن الله تعالى ما أنزل كتبه ولا أرسل رسله إلا للنهي عن الشرك كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وآيات كثيرة في ذلك، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]؛ فهذا أعظم مقصد من مقاصد بعثات الرسل على تعدد الأزمان؛ فكيف يقال إنه تباح الدعوة إلى ما يناقض ذلك، وأنه يحق لكل أحد التعبير عن ذلك ونشره بين الناس؟ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [[أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله...]]. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورًا بقتال الناس من أجل توحيد الله تعالى؛ فكيف يقال: ينبغي أن تعطى للكافر الحرية ليدعو إلى كفره وشركه أو مناقضة ما هو معلوم من دين الإسلام؟(2/228)
وقد عمل الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدهَم من أهل العلم بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فقد جاء في الشروط العمرية، التي تؤخذ على أهل الذمة: 'ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدًا'، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في شرح هذه الفقرة من الشروط العمرية: 'هذا من أوْلى الأشياء أن ينتقض العهد به'؛ فبين رحمه الله أن العهد ينتقض بذلك؛ وانتقاض العهد يحل دمه وماله. وذكر في الفروع أن العهد ينتقض بـ'ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء'، وكذلك الأمر لو 'فتن مسلمًا عن دينه'، وبعض أهل العلم يقول: ينبغي على الإمام أن يشترط عليهم أن من فعل ما تقدم ذكره ينتقض عهده، وإن لم يشترط ذلك في العقد فلا ينتقض عهده بذلك، ويعللون ذلك بأن من دينهم سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسب الإسلام، لكنهم يمنعون من إظهار ذلك؛ فأهل العلم متفقون على منعهم من إظهار الطعن في ديننا والانتقاص له، والخلاف بينهم هل يُعَدُّ ذلك منهم نقضًا للعهد حتى لو لم يشترط عليهم في أصل العقد، أم لا يكون ناقضًا إلا بالاشتراط؛ فقد دلت الآيات والأحاديث ومقاصد الدين وكلام أهل العلم على عدم جواز السماح للكفار بنشر أقوالهم أو أفكارهم المناقضة للإسلام، فلا ينبغي أن يسمح لهم بذلك، ولا تجوز معاونتهم فيه؛ لأن التعاون المشروع هو التعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان. قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، وقد دلت النصوص أن من عاون أو ساعد في ذلك فله من جرمهم نصيب. قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة الكافرين ودعوتهم إلى الإسلام ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وسماع ما عندهم من شبهات أو اعتراضات تصرفهم عن الدين، والجواب عنها، ولا مانع من أن تُعقد جلسات لذلك بين الدعاة المسلمين وبين المدعوين الكفار لعرض الإسلام عليهم وبيان حقائقه ومزاياه، لكن هذا لا يستلزم السماح لهم بنشر أفكارهم المخالفة للإسلام والدعوة إليها بوسائل النشر المعلومة؛ إذ لا ارتباط بين دعوتهم إلى الإسلام وبين السماح لهم بعرض ما عندهم على الناس.
الموقف من فكر المسلم المخالف:
عندما نتكلم عن المسلم فإننا نتكلم عن الشخص الذي يُحكَم له بالإسلام شرعًا، وليس عمن هو مولود لأبوين مسلمين، أو من كان مسمى باسم من أسماء المسلمين؛ لأنه يوجد في وقتنا الحاضر أناس لهم أسماء إسلامية لكنهم اعتنقوا آراءً وأفكارًا خرجت بهم من حظيرة الإسلام؛ فالشخص الذي لا يرى الإسلام ناسخًا لما سبقه من الرسالات، ويرى أن المسلمين واليهود والنصارى كلهم مؤمنون وأنهم ناجون في الآخرة، وأن الاختلاف بينهم كالاختلاف بين المذاهب الفقهية، وكذلك الذي يرى أن الإسلام صالح فقط لحياة البداوة، وأنه قد استنفد أغراضه، وأنه لم يعد صالحًا للحياة العصرية، وكذلك الذي يرى أن الحدود الشرعية عقوبات غير مناسبة للعصر الحديث، وأنه ينبغي استبدالها، وكذلك الذي يرى أنه ينبغي المساواة بين الذكر والأنثى في قسمة الميراث، وكذلك الذي يرى أن الشاب أو الفتاة إذا بلغا سن الرشد فإن لكل منهما أن يقيما ما شاء من علاقات 'جنسية' خارج إطار الزواج ولا حرج عليه أو لوم في ذلك، ونحو هذا الكلام؛ فإن كل هؤلاء قد خرجوا من حظيرة الإسلام باتفاق العلماء؛ لأنهم أنكروا معلومًا من الدين بالضرورة، وإن كانت لهم أسماء إسلامية، وإن كانوا ما زالوا يؤمنون ببعض ما جاء به الشرع: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]. ونحن هنا لا نتكلم عن هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدخلون في الصنف الذي تقدم الكلام عنه، وإن كان هؤلاء من حيث الحقيقة لا يكون لهم وجود في دار الإسلام؛ لأن المرتد لا يُقَر على ردته؛ فإما أن يتوب ويرجع وإما أن يُقتل، وإنما يُتصور وجود هؤلاء: إما في بلاد الكفر، وإما في بلاد المسلمين التي لا تلتزم شرع الله، وأما في البلاد التي تلتزم شرع الله فإن هؤلاء يسرون ذلك الكلام ويخفونه، ولا يبوحون به إلا لأمثالهم؛ فهم في هذه الحالة منافقون، والمراد بحديثنا في هذه الفقرة المسلم المحكوم له بالإسلام شرعًا، وهنا أيضًا نقسم الفكر إلى نوعين:
نوع في مسائل الدين أو متعلق بمسائل الدين، ونوع متعلق بمسائل الدنيا البحتة.
الفكر الدنيوي:(2/229)
لا تلزم الشريعة المسلمين باتباع نمط واحد في الفكر الدنيوي ولا تحجر عليهم في ذلك، ولا تمنعهم من نشر ما لديهم من الأفكار النافعة المفيدة التي تنفع المسلمين في حياتهم الدنيا، ولا بأس من تحاور المسلمين في ذلك وعقد المناقشات أو الندوات والمؤتمرات التي يعرض فيها كلٌ ما عنده، وليس من اللازم أن يتفق المسلمون في هذا النوع من الفكر، ولا يلام أحد على الخلاف في هذا الباب، وليس في منع هذا النوع حجة شرعية يُستند إليها، كما أنه ليس في منعه فائدة دنيوية، ويجوز نشر هذا النوع من الفكر بوسائل النشر المتعددة، لكن ينبغي أن يكون ذلك من أجل تقديم شيء مفيد نافع أو الوصول إلى شيء مفيد نافع، وأن يتكلم الإنسان فيما يحسن من الأمور، وأن لا يكون الحديث أو النشر هو الغاية؛ إنما الغاية تحقيق مصلحة حقيقية من وراء ذلك، ولا يضر المسلم بعد ذلك الخطأ في هذا النوع من الفكر.
الفقه في الدين:
النوع الثاني من الفكر هو الفقه في الدين، وهو ليس فكرًا بالمعنى المتداول بين الناس 'أي تكوين آراء قائمة على التأمل في الواقع من خلال الخبرات المكتسبة وإعمال العقل انطلاقًا من تلك الخبرات'، وإنما الفقه هو: فهم المراد من نصوص الشرع ـ سواء أكانت النصوص تتعلق بمسائل الأصول أو بمسائل الفروع ـ وتقديم الآراء والحلول لما يجدُّ من أشياء وأمور استنادًا إلى النصوص الشرعية والفقه فيها، والخلاف في فهم النصوص الشرعية أمر متصوَّر وممكن الحدوث، وقد وقع فعلاً، وله أنواع:
1ـ خلاف في مسائل الأصول [العقيدة]:
والعقيدة هي كل ما يجب على المسلم اعتقاده يقينًا من غير شك أو ارتياب ولا يجوز له مخالفته، والعقيدة التي تتمتع بذلك هي عقيدة 'أهل السنة والجماعة' وهي ـ بحمد الله ـ مدوَّنة مسطورة، محددة مضبوطة، وما خالف هذه العقيدة فهو البدعة كبدعة الخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة والجهمية والروافض [وهاتان الأخيرتان قد تكلم أهل العلم في تكفيرهما]، وقد نهى أهل العلم قديمًا وحديثًا عن الجلوس إلى أهل البدع والاستماع لما هم عليه [وإن قلتَ: أرد عليهم؛ فقد تدخل عليك شبهتهم ولا تستطيع ردها فتصبح بعدها متحيرًا مضطربًا].
قال في فتح القدير في قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} [الأنعام: 68]: 'وفي هذه الآية موعظة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة؛ فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم'.
وإذا كان الدعاة إلى البدع ـ كما قرر أهل العلم من السلف والأئمة ـ لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون عقوبة لهم حتى ينتهوا عمّا هم فيه؛ فكيف يجوز نشر بدعهم والسماح بذلك بزعم 'حرية الفكر' أو 'حق التعبير' أو 'إشاعة ثقافة التعدد' أو 'إطلاق روح الإبداع'، ومثل هذه العبارات التي لا يترتب عليها غير إفساح الطريق أمام الدعوات الضالة والمنحرفة عن الصراط المستقيم لتغزو العقول والنفوس، وتؤثر في الأفكار والتصورات لتنتج في النهاية مجتمعًا متناقضًا متعارضًا، لا يرجى منه نفع ولا يعوَّل عليه في تحيق هدف.
فالدعوة إلى الضلال لا تجوز ويتحمل الداعي وزر ذلك، وكذلك المعين على ذلك أو المساعد فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا]].
وقد منع أهل العلم قديمًا وحديثًا من نشر الأقوال المضلة، وقالوا بحرق أو إتلاف الكتب المشتملة على تلك العلوم الباطلة. قال ابن القيم رحمه الله: 'هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أوْلى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، أو إتلاف آنية الخمر؛ فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها'. وقال النووي: 'قال أصحابنا: ولا يجوز بيع كتب الكفر؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة، بل يجب إتلافها.. وهكذا كتب التنجيم والشعوذة والفلسفة، وغيرها من العلوم الباطلة المحرمة؛ فبيعها باطل؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة والله تعالى أعلم'. وقد ظهر في عصرنا الحاضر عدد من البحوث التي تدعو إلى مذهب المرجئة وتنتصر له، فأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية في السعودية بعدم جواز نشر هذه الكتب أو طباعتها.
ومن الأدلة على عدم جواز نشر أفكار البدع والضلالات الكثرة الكاثرة من النصوص الشرعية التي تُلزم المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف يكون هناك تقيد والتزام بتلك النصوص مع القول بجواز نشر البدع تحت زعم 'حرية النشر' و'حق التعبير' ونحو ذلك الكلام؟
ومن الأدلة أيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما تلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} [آل عمران: 7]: [[إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم]]؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالحذر منهم، فكيف يُعطَوْن الحق في التعبير أو نشر ما حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم؟(2/230)
وينبغي أن نشير هنا إلى أن المسلم قد يقع في مسألة أو مسألتين أو نحو ذلك، فيخالف بذلك مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يعد بذلك مبتدعًا؛ لأنه لم يؤسس أقواله تلك على أصول أهل البدع، ولم يتخذ البدعة له منهجًا، وإنما وقع فيها من قبيل الخطأ؛ فلا يعد مبتدعًا إلا من يؤسس أقواله على أصول أهل البدع. لكن هذا الموقف إنما هو من الشخص القائل. أما الموقف من القول المبتدع فلا يتغير، بل يجب رده وعدم نشره أيًا كان الموقف من قائله، وقد يبدو لبعضهم هنا أن يقول: لماذا لا تُترك لهم حرية نشر أفكارهم وآرائهم على الناس، ثم يُرد عليها ويُبين ما فيها من خطأ. ولا شك أن هذا الكلام يروِّجه بعضهم، وينظرون إليه على أنه من قبيل حرية الفكر، وأن نشر هذا الكلام أوْلى من جعله ينبت في السر والخفاء، لكن هذا القول معارَض بما كان عليه سلفنا الصالح؛ إذ الفتاوى المشهورة عنهم بهجر أصحاب البدع وعدم الجلوس إليهم والاستماع لهم. ثم إن هذا العمل ليس فيه فائدة سوى التشويش على بعض الذين لم ترسخ عندهم الحقائق، إضافة إلى إضاعة الوقت؛ ولهذا لا نرى صواب ما تقوم به بعض وسائل النشر والإعلام من عمل المناظرات والمقابلات بين من يحملون العلم الشرعي، وبين من يناقضون ذلك ويتمسكون بالأقوال المخالفة له؛ إذ لا فائدة ترجى من وراء ذلك؛ فلم نر أن أحدًا على كثرة هذه المناظرات رجع عن مقالاته الفاسدة، وكل ما هنالك أنه تمكن من إسماع باطله لعدد كبير من الناس، ثم إنه قد يتأثر بباطله بعض أصحاب العقول الضعيفة، ولسنا نمانع من إجراء هذه المناظرة وأمثالها؛ ولكن ليس عن طريق النشر في وسائل الإعلام لما يترتب على ذلك من المفاسد التي تزيد عن المصالح المتوقعة. أما إذا لم يكن هناك طريق فعال للرد على تلك الأباطيل غير ذلك؛ فهل يجوز أن نشارك في الرد على أهل الباطل، ومناظرتهم في تلك الوسائل؟ والذي يظهر أن جواب ذلك مرتبط بالمصلحة حسبما تقرر في فقه السياسة الشرعية.
2ـ خلاف في مسائل الفروع [الخلاف الفقهي]:
وهو نوعان: خلاف تنوع وخلاف تضاد. والمراد بخلاف التنوع: هو خلاف في أمور متعددة كلها مشروعة فيختار هذا نوعًا، ويختار ذلك نوعًا آخر، ولا حرج في ذلك. ويلحق بالخلاف في ذلك الاختيارات المتعددة المتعلقة بأمور الدنيا، وهذا النوع لا يُحظر نشره والدعوة إليه بين الناس، وليس من شروط في هذا غير عدم البغي على الآخرين. والمراد بخلاف التضاد: هو التناقض بين الأقوال، وهو أيضًا نوعان:
ـ فخلاف تضاد ضعُفَ فيه أحد القولين ضعفًا كبيرًا لمخالفته النص أو الإجماع أو نحوه، ومثل هذا القول يُنقَض؛ فلو حكم به حاكم نُقض حكمه. وما كان سبيله هذا السبيل فلا يجوز نشره والدعوة إليه والاستدلال له ممن يرى صوابه، وإن جازت حكايته لبيان خطئه وبعده عن الصواب. يقول شيخ الإسلام: 'فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما يُنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو معنى ذلك'.
ـ وخلاف تضاد لم يضعف فيه قول من الأقوال بحيث يُرَدُّ؛ ومسائل هذا النوع يعبر عنها أهل العلم بمسائل الاجتهاد؛ فهذا النوع من الخلاف لا يمنع نشره والدعوة إليه، ومن رأى صواب شيء من الأقوال فله نشر ذلك والدعوة إليه، وعلى ذلك جرى الحال منذ أيام الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلى يومنا هذا، يختلفون في كثير من هذا النوع من المسائل ولا يحجر بعضهم على بعض أو يبدِّع بعضهم بعضًا أو يفسق بعضهم بعضًا؛ مع الحفاظ على الأخوة والمحبة والألفة. وهكذا يتبين أنه ليس عندنا مشكلة تتعلق بحرية الفكر أو حق التعبير؛ فكل ما يسوغ القول به أو العمل في الشريعة فلا منع ولا حرج من نشره والدعوة إليه، ولكن كثيرًا من القوم يريدون منا تحت زعم 'حرية الفكر' أو 'حق التعبير' أو 'إشاعة ثقافة التعدد' أن نبيح ما لا يباح وأن نتجاوز ما لا يجوز تجاوزه.
وقد سئل شيخ الإسلام عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد؛ فهل ينكر عليه أم يُهجَر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين فأجاب: '، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين. والله أعلم'.
وينبغي أن يُعلم أن التقليد هنا رخصة، ولا يجوز لمستعملها أن يدعو إلى ما تضمنه وينافح عنه ويستدل له، إنما يقوم بذلك من كان لديه علم بالأدلة؛ أما من ليس عنده غير التقليد فإنه لا ينبغي له أن ينشر؛ لأنه ليس من أهل ذلك، ولو تقيد الناس بذلك لقل كثير من الكلام الذي يُنشر؛ لأنه ليس من أهل العلم. قال ابن تيمية رحمه الله: 'ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء'. وقال: 'مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل؛ فهذا خلاف إجماع المسلمين'.
وسئل رحمه الله عمن ولي أمرًا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوزِّ 'شركة الأبدان' فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: 'ليس له منع الناس من ذلك ولا من نظائره مما يسوغه فيه الاجتهاد وليس معه نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك'.(2/231)
وينبغي هنا التفريق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ إذ بعض الناس يستخدمون اللفظين على أنهما مترادفان؛ ومسائل الخلاف أوسع أو أعم من مسائل الاجتهاد؛ فمسائل الخلاف تشمل المسائل التي اختلف فيها المسلمون سواء أكان هذا الخلاف سائغًا أو غير سائغ، وأما مسائل الاجتهاد فإنما تتناول أو تشمل المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف.
آداب النشر:
وفي الدعوة إلى مسائل الاجتهاد أو نشرها ينبغي مراعاة أمور كثيرة حتى يكون العمل نافعًا مفيدًا من غير أن يترتب عليه ضرر، فمن ذلك:
ـ عدم البغي أو الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، والبحث له عن زلات أو عيوب خارجة عن نطاق الموضوع. ومنه أن تكون المرجعية والمحاججة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لفلان؛ فإذا وقف الأمر عند حد المحاججة بالرجال فينبغي أن ينتهي الحديث عند ذلك. ومن ذلك العلم؛ فلا يتكلم في شيء إلا إذا علمه صحيحًا من مصادره الصحيحة، وليس لمجرد كلمة يقرؤها من هنا وكلمة من هناك، ثم ينصب نفسه للدعوة والمجادلة. ومن ذلك عدم إهدار ما عند الآخرين من الخير والفضل من أجل الخلاف في هذه المسائل، ومن ذلك عدم التفسيق أو التبديع؛ لأن هذه المسائل ليست من مسائله. ومن ذلك أن يكون الحرص على الاتفاق لا على تأكيد الخلاف، ومن ذلك أن تبقى الأخوة والمودة والتناصح والتعاون على الخير حتى مع استمرار الخلاف.
لكن هناك مسألة ينبغي النظر إليها، وهي ما إذا كان الشخص قد جمع بين الأمرين: بين فساد في بعض مسائل الاعتقاد أو الأقوال الفقهية الشاذة، وبين جودة رأي في بعض المسائل الأخرى؛ فهل يسمح له بحرية النشر في المجال الذي أجاد فيه؟ وهذه المسألة قد تطرَّق لشبيه لها من بعض الوجوه علماء الحديث من قبل فيما يخص جواز التحديث عن أهل البدع؛ فبعض أهل العلم رأى أن مجال الرواية هو على الأمانة والصدق والضبط، فإذا كان الرجل أمينًا صادقًا ضابطًا فلا حرج من التحديث عنه، وعليه بدعته.
ورأى آخرون أن يترك حديثه لئلا يكون في التحديث عنه إشهار لأمره وتعديل له وتزكية. وفصَّل آخرون وقالوا: إن كان ما يرويه يدعم بدعته ويؤيدها فلا يقبل، وإلا فلا مانع من التحديث عنه بشرط الصدق والضبط.
والذي يترجَّح لديَّ أن هذه المسائل تعد من مسائل السياسة الشرعية التي لا يترجَّح فيها قولٌ واحدٌ على طول الزمن، وإنما هو تابع للمصلحة الشرعية في كل عصر؛ فإن كان يوجد من بين المسلمين سليمي العقيدة من يغني عما عنده من جودة فكر ورأي؛ فلا أرى تمكينه من النشر ومخاطبة الناس، وإن كان لا يوجد من يغني عنه، فلا مانع من النشر له في هذا الباب فقط، والمسألة من قبل ومن بعد مسألة اجتهادية.[/align]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجميعن...
======================
المواطنة أم الإسلام؟؟
سؤال يحتاج إلى جواب!!ج7
و- إظهار العبادات وبناء أماكن العبادة الفرق الخامس ينقسم إلى أمرين :
1 - إظهار العبادات
2 - بناء أماكن العبادة
أولا : إظهار العبادات :(2/232)
أما المسلمون فيشرع لهم إظهار عباداتهم لا سيما بعض العبادات التي حض الشارع الكريم على إظهارها لما فيها من إظهار لشعائر الله - عز وجل - : " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " ( الحج 32 ) ومن هذه العبادات التي يشرع إظهارها الأذان فإنه يعد من أهم العلامات المميزة بين دار الإسلام ودار الكفر كما روى البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة - رحمهم الله - من حديث أنس - رضي الله عنه - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا كف ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم " ومن هذه العبادات التي يشرع إظهارها أيضا صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء والأضحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم وتحفيظ القراّن والتكبير في عشر ذي الحجة والعيدين وإطلاق اللحية والحجاب للمرأة المسلمة وغير ذلك من العبادات . أما الكفار فإنهم يمنعون من إظهار عباداتهم ؛ لأنها كفر وضلال و، ولا يمكن أن يظهر الكفر داخل الدولة الإسلامية ، وأيضا لا يجوز لهم إظهار ما يعتقدون حله كأكل الخنزير وشرب الخمور ، ومن باب أولى لا يجوز لهم الدعوة إلى دينهم ، وإليكم بعض أقوال أهل العلم في المسألة : 1 - جاء في الشروط العمرية - وهي إن لم تخل أسانيدها من مقال إلا أن شهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها ، فإن الأئمة تلقوها بالقبول ، وذكروها في كتبهم ، واحتجوا بها . أحكام أهل الذمة لابن القيم - رحمه الله - ج2 ص454 طبعة دار الحديث - : " وأن لا نضرب ناقوسا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ، و لا نظهر عليهم صليبا و لا نرفع أصواتنا في الصلاة ، و لا القراءة في الصلاة فيما يحضره المسلمون ، وأن لا نخرج صليبا و لا كتابا في سوق المسلمين ، وأن لا نخرج باعوثا ( الباعوث للنصارى كالاستسقاء للمسلمين ) ، و لا شعانينا ( عيد من أعياد النصارى ) ، و لا نرفع أصواتنا مع موتانا ، و لا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين ، ولا نجاورهم بالخنازير و لا بيع الخمور ، وأن لا نجاورهم بالجنائز ، و لا نظهر شركنا ، و لا نرغب في ديننا ، و لا ندعو إليه أحدا ....." 2 - قال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن ميمون بن مهران قال : كتب عمر بن عبد العزيز أن يمنع النصارى في الشام أن يضربوا ناقوسا ، و لا يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم . أحكام أهل الذمة لابن القيم - رحمه الله - ج2 ص490 3- قال الإمام أحمد - رحمه الله - في رواية أبي طالب : " و لا يرفعوا أصواتهم في دورهم " المصدر السابق 4 - قال الإمام الشافعي - رحمه الله - : " واشترط عليهم ألا يسمعوا المسلمين شركهم ، و لا يسمعونهم ضرب ناقوس ، فإن فعلوا ذلك عزروا " المصدر السابق 5 - قال أبو عبيد - رحمه الله - : وقد قضى ابن عباس - رضي الله عنهما - : أيما مصر مصره المسلمون فلا يباع فيه خمر ". المصدر السابق . 6 - قال ابن القيم - رحمه الله - وهو يتحدث عن منعهم من الدعوة إلى دينهم : " هذا من أولى الأشياء أن ينتقض العهد به : فإنه حراب الله ورسوله باللسان ، وقد يكون أعظم من الحراب باليد ، كما أن الدعوة إلى الله ورسوله جهاد بالقلب واللسان ، وقد يكون أفضل من الجهاد باليد ، ولما كانت الدعوة إلى الباطل مستلزمة - و لا بد - للطعن في الحق كان دعاؤهم إلى دينهم وترغيبهم فيه طعنا في دين الإسلام ، وقد قال تعالى : " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر " (التوبة 12 )، و لا ريب أن الطعن في الدين أعظم من الطعن بالرمح والسيف، فأولى ما انتقض به العهد الطعن في الدين ولو لم يكن مشروطا عليهم ، فالشرط ما زاده إلا تأكيدا وقوة " أحكام أهل الذمة ج2 ص496 - 497 طبعة دار الحديث 7 - قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - : "فإن قيل : وهذه الإذاعات التي تنشر الاّن عبر المذياع : هل يمنعون منها ؟ الجواب : يجب علينا أن نحول بين الناس وبين سماعها بقدر الإمكان فإذا أمكن أن نشوش عليها بأجهزة التشويش المعروفة ، فيجب على المسلمين أن يشوشوا عليها . فإن قيل : يخشى إذا شوشنا عليهم دعوتهم للنصرانية أن يشوشوا علينا دعوتنا للإسلام ، وهذا وارد ؟ فهل نتركهم ونحذر المسلمين من شرهم ؟ أم ماذا ؟ هذا محل بحث ونظر . الشرح الممتع ج 3 ص457 طبعة دار الإمام مالك - دار المستقبل ومقصود الشيخ - رحمه الله - من قوله : " هذا محل بحث ونظر " أي أن الأمر متعلق بالمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في التشويش والمنع بأن يكون للمسلمين قوة يتمكنون فيها من ذلك ، وقد تكون المصلحة في تركهم مع التحذير من شرهم إذا لم يتمكن المسلمون من ذلك أو لم يتمكنوا من منعهم من التشويش على الدعوة إلى الإسلام . ثانيا :بناء أماكن العبادة أما المسلمون فبناء المساجد من أعظم القربات إلى الله - عز وجل - ففي الصحيحين من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه(2/233)
وسلم - يقول : " من بنى مسجدا - قال بكير : حسبت أنه قال : يبتغي به وجه الله - بنى الله له مثله في الجنة " وفي سنن ابن ماجة - رحمه الله - بسند صححه الألباني - رحمه الله - من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة " القطاة : طائر يشبه الحمامة ، والمفحص : الموضع الذي تخيم فيه وتبيض فيه . أما الكفار فإن بناء أماكن العبادة لهم من الكفر ؛ لأن هذه الأماكن يعبد فيها الشيطان والطواغيت ويكفر فيها بالله - عز وجل - فما حكم بناء الكنائس والبيع داخل الدولة الإسلامية ؟ تنقسم البلاد الإسلامية - كما قال ابن القيم - إلى ثلاثة أقسام : أولا- بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام مثل البصرة والكوفة وغيرهما : فهذه البلاد لا يجوز فيها بناء كنيسة بالاتفاق كما قال ابن القيم - رحمه الله - ، وأما الكنائس التي بنيت في هذه البلاد فإنه يجب هدمها بالاتفاق كما ذكر ابن القيم أيضا ، وهذه بعض النصوص في هذه المسألة : 1 - قال الإمام أحمد : حدثنا حماد بن خالد الخياط ، أخبرنا الليث بن سعد عن توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا خصاء في الإسلام و لا كنيسة " ولكن الحديث سنده ضعيف كما ذكر الحافظ ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية ، وقد روي بإسناد اّخر أصح من هذا الإسناد ولكن موقوفا على عمر - رضي الله عنه - ، قال علي بن عبد العزيز : حدثنا أبو القاسم ، حدثني أبو الأسود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لا كنيسة في الإسلام و لا خصاء " 2 - وقال الإمام أحمد حدثنا معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن حنش عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا ، فقال : أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه ، و لا يضربوا فيه ناقوسا ، و لا يشربوا فيه خمرا ، و لا يتخذوا فيه خنزيرا . وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله عز وجل على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم ، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ، و لا يكلفوهم فوق طاقتهم . أحكام أهل الذمة لابن القيم ج2 ص459 طبعة دار الحديث 3 - وقيل لأبي عبد الله ( أي الإمام أحمد ) ( إيش ) الحجة في أن يمنع أهل الذمة أن يبنوا بيعة أو كنيسة إذا كانت الأرض ملكهم ، وهم يؤدون الجزية ، وقد منعنا من ظلمهم وأذاهم ، قال : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : أيما مصر مصرته العرب . المصدر السابق 4 - و قال في حاشية ابن عابدين(ج6 ص248 طبعة إحياء التراث) : ( مطلب في بيان أن الأمصار ثلاثة وبيان إحداث الكنائس فيها تنبيه في "الفتح" قيل الأمصار ثلاثة ما مصره المسلمون كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط ولا يجوز فيه إحداث ذلك إجماعاً......... " 5 - فتوى للجنة الدائمة بالسعودية : الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد.. فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين المقيدة استفتاءاتهم في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم -86 - وتاريخ 5/1/1421هـ، ورقم -136- 1327- 1328- وتاريخ 2/3/1421هـ، بشأن حكم بناء المعابد الكفرية في جزيرة العرب مثل بناء الكنائس للنصارى، والمعابد لليهود، وغيرهم من الكفرة، أو أن يخصص صاحب شركة أو مؤسسة مكاناً للعمالة الكافرة لديه يؤدون فيه عباداتهم الكفرية.. إلخ. وبعد دراسة اللجنة لهذه الاستفتاءات أجابت بما يلي: من ضروريات الدين تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام ومنه تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة يهودية أو نصرانية أو غيرها؛ لأن تلك المعابد، سواء كانت كنيسة أم غيرها تعد معابد كفرية؛ لأن العبادات التي تؤدي فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: -وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثور- ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء معابد الكفرة مثل الكنائس في بلاد المسلمين؛ وأنه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألا يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أحدثت في أرض الإسلام، ولا تجوز معارضة ولي الأمر في هدمها، بل تجب طاعته، وأجمع العلماء - رحمهم الله تعالى - على أن بناء المعابد الكفرية ومنها الكنائس في جزيرة العرب أشد إثماً وأعظم جرماً للأحاديث الصحيحة الصريحة بخصوص النهي عن اجتماع دينين في جزيرة العرب، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" -رواه الإمام مالك وغيره وأصله في الصحيحين-. فجزيرة العرب حرم الإسلام وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها ولا التجنس بجنسيتها، ولا التملك بها، فضلاً عن إقامة(2/234)
كنيسة فيها لعباد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان ولا يكون فيها إلا دين واحد هو دين الإسلام، الذي بعث الله به نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون فيها قبلتان إلا قبلة واحدة هي قبلة المسلمين إلى البيت العتيق، والحمد لله الذي وفق ولاة أمر هذه البلاد إلى صد هذه المعابد الكفرية عن هذه الأرض الإسلامية الطاهرة. وبهذا يعلم أن السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية مثل الكنائس أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام من الإعانة على الكفر وإظهار شعائره والله عز شأنه يقول: -وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان-. - عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر آل الشيخ. - عبدالله بن عبدالرحمن الغديان- بكر بن عبدالله أبوزيد - صالح بن فوزان الفوزان فتوى رقم 21413 تاريخ 1-4-1421هـ ثانيا : بلاد أنشئت قبل الإسلام فافتتحها المسلمون عنوة ( أي بالسيف ) وملكوا أرضها وساكنيها : فهذه البلاد لا يجوز إحداث كنائس فيها ، ويجب هدم ما استحدث منها بعد الفتح ، كما نقل ابن القيم عن الإمام أحمد - رحمه الله - أحكام أهل الذمة ج2 ص469 ، أما الكنائس التي كانت موجودة قبل الفتح فلأهل العلم فيه قولان : 1 - تجب إزالتها ويحرم إبقاؤها وهذا وجه عند الشافعية والحنابلة - رحمهم الله - . 2 - يجوز الإبقاء وتجوز الإزالة ، فيفعل الإمام ما يراه الأصلح للمسلمين وهذا القول هو الراجح - إن شاء الله - ، يقول ابن القيم - رحمه الله - ، وهذا ما رجحه شيخا الإسلام ابن تيمية و ابن القيم - رحمه الله - راجع أحكام أهل الذمة ج2 ص469 والأدلة على صحة هذا القول : * إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر على معابدهم وقد فتحت بلدهم عنوة . * فتح الصحابة للكثير من البلاد عنوة ، فلم يهدموا شيئا من الكنائس التي بها ، والدليل على ذلك بقاء هذه الكنائس داخل البلاد . * ما كتبه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى عماله أن لا تهدموا كنيسة و لا بيعة و لا بيتا . أما أدلة جواز هدم هذه الكنائس : * لأن هذه الكنائس صارت ملكا للمسلمين بعد أن فتحوا هذه البلاد عنوة . * إجلاء عمر - رضي الله عنه - والصحابة أهل خيبر من دورهم ومعابدهم بعد أن أقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ولو كان ذلك الإقرار تمليكا لم يجز إخراجهم عن ملكهم إلا برضى أو معاوضة . - وقد أفتى الإمام أحمد - رحمه الله - الخليفة المتوكل - رحمه الله - بهدم كنائس السواد ، وهي أرض العنوة . راجع أحكام أهل الذمة ثالثا : بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحا ، وهي نوعان : 1 - أن يصالحهم على أن الأرض لهم ، ولنا الخراج عليها ، أو يصالحهم على مال يبذلونه وهي الهدنة . فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها ، لأن الدار لهم كما صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل نجران ولم يشترط عليهم ألا يحدثوا كنيسة أو ديرا . أحكام أهل الذمة ج2 ص470 طبعة دار الحديث 2 - أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ، ويؤدون الجزية إلينا ، فحكم هذه البلاد هو ما اتفق عليه في الصلح ، ولكن عند القدرة يجب أن يكون الحكم هو أن لا تهدم كنائسهم التي بنوها قبل الصلح ، و يمنعون من إحداث كنائس بعد ذلك ، كما جاء في الشروط العمرية : " وأن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ، و لا فيما حولها ديرا ، و لا قلاية ، و لا صومعة راهب ..... " مسائل : 1 - ما حكم بناء ما انهدم من الكنائس أو ترميمها ؟ اختلف العلماء على ثلاثة أقوال : * المنع من بناء ما انهدم ، وترميم ما تلف وهي رواية عن أحمد ، وبعض الشافعية وبعض المالكية ، ودليلهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبنى كنيسة في الإسلام و لا يجدد ما خرب منها " ولكن الحديث ضعيف فقد ضعفه ابن حجر - رحمه الله - في الدراية ، وضعفه ابن القيم - رحمه الله - أيضا ، ومن أدلتهم ما جاء في الشروط العمرية : " و لا يجدد ما خرب من كنائسنا " . * المنع من بناء ما انهدم ، وجواز ترميم ما تلف ، وهي رواية عن أحمد . * إباحة الأمرين وهي رواية عن أحمد وهو رأي الأحناف وجمهور الشافعية وكثير من المالكية ، ودليلهم أن إقرارنا لهم عليها تضمن إقرار جواز ترميمها وإصلاحها وإلا ستنقض يوما من الأيام لأن البناء لا يبقى أبدا. 2 - إذا قلنا بالمنع من جواز بناء ما انهدم أو ترميم ما أتلف ، فهذا إن سقطت بسبب عوامل الزمن أو غير ذلك من الأسباب ، أما إن سقطت ظلما أي اعتدى عليها أحد من المسلمين ، فإنه يعاد بناؤها على الراجح قال العلامة ابن العثيمين - رحمه الله - : " فالصواب : أنه إذا هدمت ظلما فإنها تعاد ؛ وذلك لأنها لم تنهدم بنفسها فإن هدموها هم وأرادوا تجديدها فإنهم يمنعون منه " الشرح الممتع ج 3 ص455 طبعة دار الإمام مالك - دار المستقبل 3 - ما حكم نقل الكنيسة من مكان إلى اّخر ؟ أما من يقولون بعدم جواز بناء ما انهدم منها فمن باب أولى سيمنعون نقلها إلى مكان اّخر ، أما المجيزون فإنهم يجوزون نقلها من مكان لاّخر بشرط أن يكون في ذلك النقل مصلحة للمسلمين لا للكفار . 4 - قال العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - : " ومن(2/235)
سفه بعض الناس أنه يقول : لماذا لم نمكنهم من بناء الكنائس في بلادنا كما يمكنوننا من بناء المساجد في بلادهم ؟ الجواب : نقول هذا من السفه ، ليست المسألة من باب المكافأة ، إذ ليست مسائل دنيوية ، فهي مسائل دينية ، فالكنائس بيوت الكفر والشرك ، والمساجد بيوت الإيمان والإخلاص فبينهما فرق ، والأرض لله ، فنحن إذا بنينا مسجدا في أي مكان من الأرض فقد بنينا بيوت الله في أرض الله بخلافهم . الشرح الممتع ج 3 ص455 5 - القول بجواز إبقاء الكنائس لا يعني جواز تعلية الصلبان كما هو موجود الاّن في مصر وغيرها من البلاد ، ولا يجوز إظهار صوت الناقوس وصوت الكفر ، بل يقيمون شعائرهم سرا ، كما جاء في الشروط العمرية : " وأن لا نضرب ناقوسا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ، و لا نظهر عليهم صليبا ". 6 - أفتت دار الإفتاء المصرية برئاسة فضيلة الشيخ حسن مأمون - رحمه الله - بجواز تحويل الكنيسة إلى مسجد إذا كانت معطلة و لا ينتفع بها فيما أنشئت من أجله بسبب عدم وجود مصلين بها . س83 -م32 - 2صفر 1376- ايونية 1957 م
- - - - - - - - - - - - - - -
المصادر والمراجع
التحرير والتنوير
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
الوسيط لسيد طنطاوي
تفسير ابن كثير
تفسير الألوسي
تفسير الرازي
تفسير السعدي
تفسير الطبري
في ظلال القرآن
أحكام القرآن لابن العربي
أحكام القرآن للجصاص
أحكام القرآن للشافعي
آيات الأسماء والصفات
الصارم المسلول
منهاج السنة النبوية
اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
المستدرك على الصحيحين للحاكم
المعجم الأوسط للطبراني
المعجم الصغير للطبراني
المعجم الكبير للطبراني
تهذيب الآثار للطبري
دلائل النبوة للبيهقي
سنن أبى داود
سنن ابن ماجه
سنن الترمذى
سنن الدارقطنى
سنن الدارمى
سنن النسائى
شرح معاني الآثار
شعب الإيمان للبيهقي
صحيح ابن حبان
صحيح البخاري
صحيح مسلم
مستخرج أبي عوانة
مسند أبي يعلى الموصلي
مسند أحمد
مسند البزار 1-10
مسند الحميدى
مسند الشاميين للطبراني
مشكل الآثار للطحاوي
مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل
مصنف عبد الرزاق مشكل
موسوعة السنة النبوية
موطأ مالك
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير
المسند الجامع
الجامع الصغير وزيادته
السلسلة الصحيحة - مختصرة
صحيح أبي داود
صحيح ابن ماجة
صحيح الترغيب والترهيب
صحيح الترمذي
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
التمهيد لابن عبد البر
بلوغ المرام من أدلة الأحكام
تأويل مختلف الحديث
جامع العلوم والحكم
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود
حاشية السندي على ابن ماجه
حاشية السندي على النسائي
شرح ابن بطال
شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية
شرح النووي على مسلم
شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم
شرح ياض الصالحين لابن عثيمين
شرح سنن ابن ماجه
شرح سنن النسائي
عمدة القاري شرح صحيح البخاري
فتح الباري لابن حجر
فتح الباري لابن رجب
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
الحاوي للفتاوي للسيوطي
الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية
الفتاوى الفقهية الكبرى
الفتاوى الكبرى
الفقه الإسلامي وأدلته
المنتقى من فتاوى الفوزان
فتاوى ( سؤال من حاج )
فتاوى إسلامية
فتاوى الأزهر
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
فتاوى الزحيلي
فتاوى السبكي
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتاوى من موقع الإسلام اليوم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
فتاوى يسألونك
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين
أحكام النساء
الفقه على المذاهب الأربعة
المحلى [مشكول و بالحواشي]
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
نيل الأوطار
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية
العناية شرح الهداية
المبسوط
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
فتح القدير
التاج والإكليل لمختصر خليل
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
بداية المجتهد ونهاية المقتصد
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير
شرح مختصر خليل للخرشي
منح الجليل شرح مختصر خليل
مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل
الأم
الإقناع في الفقه الشافعي للماوردي
المجموع شرح المهذب
حاشية البجيرمي على الخطيب
روضة الطالبين وعمدة المفتين
كتاب الإبهاج في شرح المنهاج
مغني المحتاج شرح المنهاج
تحفة المحتاج شرح المنهاج
نهاية المحتاج للرملي
الشرح الكبير لابن قدامة
المبدع شرح المقنع
المغني لابن قدامة
دليل الطالب
زاد المستقنع في إختصار المقنع
كشاف القناع عن متن الإقناع
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى
الآداب الشرعية
الزواجر عن اقتراف الكبائر
المدخل لابن الحاج
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
أنوار البروق في أنواع الفروق
إعلام الموقعين عن رب العالمين
الفروق للقرافي
الأحكام السلطانية
الحسبة لابن تيمية
السياسة الشرعية
الطرق الحكمية
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام
تهذيب الرياسة وترتيب السياسة
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام
شرح كتاب السير الكبير
معالم القربة في طلب الحسبة
معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام
نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة
الإستيعاب في معرفة الأصحاب
الإصابة في معرفة الصحابة
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم(2/236)
الطبقات الكبرى لابن سعد
الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة
الكامل لابن عدي
تاريخ أسماء الثقات
تاريخ دمشق
تعجيل المنفعة
تقريب التهذيب
تهذيب التهذيب
تهذيب الكمال للمزي
ثقات ابن حبان
سير أعلام النبلاء
لسان الميزان
ميزان الاعتدال
تاريخ الإسلام للذهبي
تاريخ الرسل والملوك
البداية والنهاية لابن كثير
القاموس المحيط
النهاية في غريب الأثر
تاج العروس
لسان العرب
مجلة البيان
موسوعة كتب ابن القيم
مجلة البحوث الإسلامية
موسوعة المقالات والبحوث العلمية
موسوعة خطب المنبر
الخلاصة في فقه الأقليات 1-9
المفصل في أحكام الربا 1-8
المفصل في أحكام الهجرة
المفصل في الرد على الحضارة الغربية1-8
المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام
موسوعة الخطب المنبرية
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
الشاملة 2
برنامج قالون
الفهرس العام
موقف المعاصرين من الشروط العمرية
طريقتي في العمل :
تمهيد حول هذا الموضوع
سبب تأليف هذا الكتاب
الهزيمة النفسية التي يعاني منها العصرانيون
المفاصلة التامة بيننا وبين الكفار
وكذلك قد فات هؤلاء المنهزمين ( المبهورين بحضارة الغرب العفنة ) أنهم مهما قدموا من تنازلات فلن تعتذر الكنيسة للمسلمين عن الحروب الصليبية أبدا لأن الله تعالى يقول عنهم :
وفاتهم أن الكفار لا عهد لهم ولا ذمة قال تعالى :
وفاتهم أنهم قد يرضون المسلمين ( إذا كان المسلمون أقوياء مرهوبي الجانب ) بأفواههم وتأبى قلوبهم ذلك
وما يجري الآن في العالم الإسلامي من قتل وتدمير ونهب وسلب لخيرات المسلمين ( من قبل ( اليهود والنصارى ) أمام شاشات التلفزة العالمية دون حسيب ولا رقيب لهو أكبر شاهد على سقوط تلك الدعوات الجبانة الخائرة البعيدة عن الإسلام بعد المشرقين
وكذلك في دعوة هؤلاء التنازلية لن يبقوا من الإسلام شيء
والشروط العمرية مما جرى بها العمل في جميع أمصار الإسلام
ويجب أن نعلم أن الصراع بين الحق والباطل باق إلى قيام الساعة
وإذا كان المسلمون لا يملكون شيئا وضعفاء ومشردين في الأرض فلا يعني ذلك أن يتنازل المسلمون عن دينهم ولا عن جزء منه أبدا مهما أصابهم من محن وشدائد
كما أنه على المؤمنين أن يعلموا أنه لا قيمة لهم بغير دينهم وسيبقون في آخر الركب إذا لم يتبعوه
وأنه لا عزة إلا لله ولرسوله ولمن اتبعهما
العزة لله جميعا
وكذلك فإن الكفار مهما ملكوا من قوة فإنهم مهزومون بإذن الله تعالى
وأخيرا فليعلم المؤمنون الصادقون أن الكفار مهزومون وأننا سوف ننتصر عليهم بإن الله تعالى عندما نرجع إلى ديننا ونحكمه في جميع شئون حياتنا
وأننا سوف نفتح عاصمة النصرانية شاءوا أم أبوا بإذن الله
الباب الأول
تخريج الحديث من مصادره
الباب الثاني
شرح الشروط العمرية عند الفقهاء القدامى
وفي المحلى :
958 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ إلَّا الْإِسْلَامُ , أَوْ السَّيْفُ - الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ - حَاشَا أَهْلَ الْكِتَابِ خَاصَّةً , وَهُمْ الْيَهُودُ , وَالنَّصَارَى , وَالْمَجُوسُ فَقَطْ , فَإِنَّهُمْ إنْ أَعْطُوا الْجِزْيَةَ أُقِرُّوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ الصَّغَارِ .
وفي المغني :
( 106 ) فَصْلٌ وَاِتِّخَاذُ الشَّعْرِ أَفْضَلُ مِنْ إزَالَتِهِ .
( 5675 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا دُخُولُ مَنْزِلٍ فِيهِ صُورَةٌ , فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ
( 6613 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا قَتَلَ الْكَافِرُ الْعَبْدَ عَمْدًا , فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ , وَيُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ يَعْنِي الْكَافِرَ الْحُرَّ ,
( 7686 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ , بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ , حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ )
وفي فتاوى السبكي :
( مَسْأَلَةٌ ) فِي مَنْعِ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ رحمه الله مُصَنَّفَاتٌ فِيهَا هَذَا :
حكم من دخل دار الإسلام بتجارة من الكفار
وفي الفروع :َمَنْ أَبَى بَذْلَ الْجِزْيَةِ أَوْ الصِّغَارَ
وفي الإنصاف :قَوْلُهُ ( وَإِنْ أَظْهَرَ مُنْكَرًا , أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِكِتَابِهِ وَنَحْوِهِ : لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ )
وفي الموسوعة الفقهية :دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ :
الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ :
وفي معالم القربى :
( الْبَابُ الرَّابِعُ : فِي الْحِسْبَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )
وفي أسنى المطالب :
( الطَّرَفُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَيَلْزَمُنَا )
وفي شرح النيل :
( وَأَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمْ إنْ اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ )
وفي المغني :
( 7686 ) مَسْأَلَةٌ ; قَالَ : ( وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ , بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ , حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ )
وفي الموسوعة الفقهية :
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ :
أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ :
وفي البحر الزخار :
" مَسْأَلَةٌ " : ( هـ ) وَيَلْزَمُونَ زِيًّا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ
وفي تحفة المحتاج :
( وَنَمْنَعُهُمْ ) وُجُوبًا ( إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ ) , وَبِيعَةٍ , وَصَوْمَعَةٍ لِلتَّعَبُّدِ , وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ
وفي مغني المحتاج :
( وَنَمْنَعُهُمْ ) وُجُوبًا ( إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ ) وَبَيْعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ , وَبَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ ( فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ )
وفي المغني :
( 7687 ) فَصْلٌ : أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ(2/237)
وفي أنوار البروق :
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ نَقْضَهَا )
وفي نصب الراية :
فَصْلٌ ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ )
وفي البحر الزخار :
" مَسْأَلَةٌ " : وَلَيْسَ لَهُمْ إحْدَاثُ بِيعَةٍ , أَوْ كَنِيسَةٍ فِيمَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ
وفي التلخيص الحبير :
2328 - ( 29 ) - حَدِيثُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ : " لَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا كَنِيسَةٍ , وَلَا صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ " .
وفي فتح القدير :
( فَصْلٌ ) ( وَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ بِيعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ )
وفي دقائق أولي النهى :
( وَ ) يُمْنَعُونَ ( مِنْ إحْدَاثِ كَنَائِسَ وَبِيَعٍ )
وفي مطالب أولي النهى :
( وَ ) يُمْنَعُونَ ( مِنْ إحْدَاثِ كَنَائِسَ وَبِيَعٍ )
وفي نيل الأوطار :
لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ , وَلَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ
وفي التاج المذهب :
( وَ ) لَهُمْ أَحْكَامٌ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمُوهَا صَغَارًا لَهُمْ وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أُمُورٍ وَيَجُوزُ لِآحَادِ النَّاسِ إلْزَامُهُمْ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ يَجِبُ النَّهْيُ إذَا تَكَامَلَتْ الشُّرُوطُ .
وفي الموسوعة الفقهية :
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :
وقال ابن العربي :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } : قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَالْوِلَايَةَ وَأَنَّ مَآلَهُمَا إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى .
وفي المغني :
( 7685 ) فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ
وفي إحكام الأحكام :
قتل الجاسوس الكافر
وفي نيل الأوطار :
بَابُ قَتْلِ الْجَاسُوسِ إذَا كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا
وفي منح الجليل :
وَكُرِهَ التَّطْرِيبُ , وَقَتْلُ عَيْنٍ , وَإِنْ أُمِّنَ وَالْمُسْلِمُ كَالزِّنْدِيقِ , وَقَبُولُ الْإِمَامِ هَدِيَّتَهُمْ , وَهِيَ لَهُ إنْ كَانَتْ مِنْ بَعْضٍ كقَرَابَةٍ , وَفَيْءٌ إنْ كَانَتْ مِنْ الطَّاغِيَةِ , إنْ لَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ
وفي كشاف القناع :
( وَلَا يَتَقَلَّدُوا السُّيُوفَ وَلَا يَحْمِلُوا السِّلَاحَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَلَّمُوا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم )
وفي الموسوعة الفقهية :
حُكْمُ لُبْسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْقَلَانِسَ :
وفي المغني :
( 7693 ) فَصْلٌ : وَالْمَأْخُوذُ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ
وفي التاج والإكليل :
( وَمُنِعَ رُكُوبُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالسُّرُوجِ وَجَادَّةِ الطَّرِيقِ )
وفي المدخل :
وَمِنْهَا السَّقَّاءُونَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ
الباب الثالث
ذكر الخلاصة في أحكام أهل الذمة ، من الموسوعة الفقهية
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ وَحَقُّ آلِ الْبَيْتِ تَعْرِيفُ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ :
اخْتِلَافُ الدَّارِ
أَنْوَاعُ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ :
الْإِرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ :
( وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ) :
الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ :
بَحْرُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْجُزُرِ :
دُخُولُ الْكَافِرِ أَرْضَ الْعَرَبِ لِغَيْرِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ :
مَا يُشْتَرَطُ لِدُخُولِ الْكُفَّارِ أَرْضَ الْعَرَبِ :
اسْتِئْمَانٌ :
تَمَلُّكُ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ :
إقَامَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ :
دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ :
أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ :
حِمَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
اسْتِسْقَاءٌ
خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ
ثَالِثًا : الْإِسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ :
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى
الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ
جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ
مَا لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ
لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
حُكْمُ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ مِنْ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ
الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ
آثَارُ الِالْتِزَامِ
تَحَقُّقُ الْأَمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ
أَهْلُ الْحَرْبِ
انْقِلَابُ الْحَرْبِيِّ ذِمِّيًّا
انْقِلَابُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى حَرْبِيٍّ
دِمَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمْوَالُهُمْ
أَوَّلًا : قَتْلُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ حَرْبِيًّا
ثَانِيًا : حُصُولُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ بِمُعَامَلَةٍ يُحَرِّمُهَا الْإِسْلَامُ :
أَهْلُ الذِّمَّةِ
أَوَّلًا - عَقْدُ الذِّمَّةِ :
مَنْ يَتَوَلَّى إبْرَامَ الْعَقْدِ :
مَنْ يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ :
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ :(2/238)
ثَانِيًا : حُصُولُ الذِّمَّةِ بِالْقَرَائِنِ
أ - الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ :
ب - زَوَاجُ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ :
ج - شِرَاءُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ :
ثَالِثًا - صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا بِالتَّبَعِيَّةِ :
رَابِعًا - الذِّمَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ :
حُقُوقُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
أَوَّلًا - حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ لَهُمْ :
ثَانِيًا - حَقُّ الْإِقَامَةِ وَالتَّنَقُّلِ :
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :
رَابِعًا - اخْتِيَارُ الْعَمَلِ :
الْمُعَامَلَاتُ الْمَالِيَّةُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ :
أ - الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ :
ب - ( ضَمَانُ الْإِتْلَافِ ) :
ج - اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا لِلْخِدْمَةِ :
د - وَكَالَةُ الذِّمِّيِّ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ :
هـ - عَدَمُ تَمْكِينِ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ :
و - شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
أَنْكِحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا :
وَاجِبَاتُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَالِيَّةِ
أ - الْجِزْيَةُ :
ب - الْخَرَاجُ :
ج - الْعُشُورُ :
مَا يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ
جَرَائِمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعُقُوبَاتُهُمْ
أَوَّلًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْحُدُودِ :
ثَانِيًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِصَاصِ :
ثَالِثًا - التَّعْزِيرَاتُ :
خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ
مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ
حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ
عَقْدُ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ
مُجَاهَدَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ
تَرْكُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ :
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ , أَوْ مِيثَاقُهُ , أَوْ ذِمَّتُهُ :
اتِّخَاذُ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ :
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ
اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِالْكُفَّارِ :
بَيْتُ الْمَالِ
مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ
مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ
أَمْثِلَةٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ :
تَبْيِيتٌ
حُكْمُ التَّبْيِيتِ : أَوَّلًا : تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ :
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : التَّقَوُّمُ :
مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ الْبَيْعِ :
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ
تَحْقِيرٌ
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :
تَحَوُّلُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى ذِمِّيٍّ
تَحَوُّلُ الذِّمِّيِّ إلَى حَرْبِيٍّ
تَشَبُّهٌ
3 - وَمِنْهَا : الْمُوَافَقَةُ , وَهِيَ : مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْآخَرِ أَمْ لَا لِأَجْلِهِ . فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنْ التَّشَبُّهِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّشَبُّهِ :
أَوَّلًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ :
أَحْوَالُ تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ :
سَادِسًا : تَشَبُّهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ :
أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ
الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ
الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ
تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ
صِفَةُ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ
تَقْبِيلٌ
تَقَوُّمُ الْمُتْلَفَاتِ
مَنْ شُرِعَ لَهُ التَّيْسِيرُ
أ - جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ :
«ب - جباية الخراج»
ج - جِبَايَةُ عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
جِزْيَةٌ
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ فِي الْإِسْلَامِ :
الْأَدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :
أَنْوَاعُ الْجِزْيَةِ :
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَالْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ :
ثَانِيًا - جِزْيَةُ الرُّءُوسِ , وَالْجِزْيَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ :
( طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ ) :
عَقْدُ الذِّمَّةِ :
إجَابَةُ الْكَافِرِ إلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ :
رُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ :
مَحَلُّ الْجِزْيَةِ :
الطَّوَائِفُ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ :
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ :
( الْمَجُوسُ ) :
قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ الصَّابِئَةِ :
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ :
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ :
شُرُوطُ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ :
أَوَّلًا : ( الْبُلُوغُ ) :
ثَانِيًا : ( الْعَقْلُ ) :
ثَالِثًا : ( الذُّكُورَةُ ) :
رَابِعًا : ( الْحُرِّيَّةُ ) :
خَامِسًا : ( الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ ) :
سَادِسًا : أَلَا يَكُونَ مِنْ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ :
سَابِعًا : السَّلَامَةُ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ :
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ :
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ :
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ :
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ :
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
1 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ :
2 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ :(2/239)
3 - دَفْعُ الْجِزْيَةِ إلَى الْبُغَاةِ :
حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطُّرُقِ " :
مَا يُرَاعِيهِ الْعَامِلُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ :
الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ :
الْأَمْوَالُ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْجِزْيَةُ :
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ :
تَأْخِيرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ :
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَقْسَاطٍ :
كِتَابَةُ عَامِلِ الْجِزْيَةِ بَرَاءَةً لِلذِّمِّيِّ :
الرِّقَابَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ :
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
مُسْقِطَاتُ الْجِزْيَةِ :
الْأَوَّلُ : الْإِسْلَامُ :
حُكْمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَمَّا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ بَعْدَ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ :
الثَّانِي : الْمَوْتُ :
الثَّالِثُ : اجْتِمَاعُ جِزْيَةِ سَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ :
الرَّابِعُ : طُرُوءُ الْإِعْسَارِ :
الْخَامِسُ : التَّرَهُّبُ وَالِانْعِزَالُ عَنْ النَّاسِ :
السَّادِسُ : الْجُنُونُ :
السَّابِعُ : الْعَمَى وَالزَّمَانَةُ وَالشَّيْخُوخَةُ :
الثَّامِنُ : عَدَمُ حِمَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
التَّاسِعُ : اشْتِرَاكُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ :
مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ :
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْجِهَادِ
مُجَاوَرَةُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ :
و - تَحْرِيقُ الْعَدُوِّ بِالنَّارِ , وَتَغْرِيقُهُ بِالْمَاءِ , وَرَمْيُهُ بِالْمَنْجَنِيقِ :
( جَهْلٌ )
أَقْسَامُ الْجَهْلِ : يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إلَى قِسْمَيْنِ :
حِجَازٌ
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ :
خَامِسًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ :
شُرُوطُ الْحِمَى :
( أَحْكَامُ الْحَمَالَةِ ) :
دُخُولُ الذِّمِّيَّةِ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ :
خَرَاجٌ
انْتِقَالُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إلَى الذِّمِّيِّ , وَمَا يَجِبُ فِيهَا :
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ :
ب - تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ :
شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِلِ الْخَرَاجِ :
1 - الْإِسْلَامُ :
2 - ( الْحُرِّيَّةُ ) :
3 - ( الْأَمَانَةُ ) :
4 - ( الْكِفَايَةُ ) :
5 - ( الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ ) :
الْخُرُوجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ :
إقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ :
سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إتْلَافُهُ :
خِيَانَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
الْمُسَابَقَةُ بَيْنَهَا :
دَارُ الْإِسْلَامِ
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ :
الْأَمَانُ لِأَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ :
ب - ( الدِّيَةُ ) :
دَهْرِيٌّ
دَوْلَةٌ
أَوَّلًا : الْحَاكِمُ أَوْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ :
ثَانِيًا : وَلِيُّ الْعَهْدِ :
ثَالِثًا : أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ:
رَابِعًا : الْمُحْتَسِبُ :
خَامِسًا : الْقَضَاءُ :
سَادِسًا : بَيْتُ الْمَالِ :
وَاجِبَاتُ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ :
دِيوَانُ الدَّوْلَةِ وَأَقْسَامُهُ :
كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ :
انْتِهَاءُ الذِّمَّةِ :
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ :
( دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ ) :
( نَصْبُ الْعَشَّارِينَ ) :
3 - الْكُفَّارُ وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ :
5 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا :
( زُنَّارٌ )
مَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّنَّارِ مِنْ أَحْكَامٍ :
أَوَّلًا : اتِّخَاذُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الزُّنَّارَ :
ثَانِيًا : لُبْسُ الْمُسْلِمِ الزُّنَّارَ :
حُكْمُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
سَبُّ الذِّمِّيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
أَسْبَابُ السَّبْيِ :
الْأَوَّلُ - الْقِتَالُ :
الثَّانِي : النُّزُولُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ :
الثَّالِثُ - الرِّدَّةُ :
الرَّابِعُ : نَقْضُ الْعَهْدِ :
ب - الْمُفَادَاةُ :
أَرْكَانُ السَّرِقَةِ :
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ : السَّارِقُ :
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ :
شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي :
سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ :
السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ :
رَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ :
سِلْمٌ
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : أَوَّلًا : السِّلْمُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ :
. ثَانِيًا : السِّلْمُ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ :
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُؤَقَّتًا . وَيَأْتِي فِي صُورَتَيْنِ :
الْأُولَى : عَقْدُ الْهُدْنَةِ :
شَهَادَةُ الزُّورِ :
صَابِئة
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّابِئَةِ :
إقْرَارُ الصَّابِئَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ :
دِيَةُ الصَّابِئِ :
حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ , وَحُكْمُ تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ :
وَقْفُ الصَّابِئَةِ :
هـ - الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ :
الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ :
اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ :
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ :
أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي شَهَادَةِ الْمَقْتُولِ :
عَرْضٌ
عُشْرٌ
حُكْمُ أَخْذِ الْعُشْرِ :
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ :
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ :
الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ تُعَشَّرُ أَمْوَالُهُمْ :
أَوَّلًا : الْمُسْتَأْمَنُونَ :
ثَانِيًا : أَهْلُ الذِّمَّةِ :(2/240)
( تَعْشِيرُ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ ) :
شُرُوطُ مَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ :
الْأَمْوَالُ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْعُشْرِ :
شُرُوطُ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ :
مِقْدَارُ الْعُشْرِ :
ثَانِيًا : الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الْحَرْبِيِّ :
الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ :
( وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ ) :
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ :
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ :
حُكْمُ الْعَمَلِ عَلَى الْعُشُورِ :
شُرُوطُ الْعَاشِرِ :
مَا يُرَاعِيهِ الْعَاشِرُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ :
د - ( الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْعُشْرِ ) :
. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ :
. مُسْقِطَاتُ الْعُشْرِ :
( مَصَارِفُ الْعُشْرِ ) :
صِفَةُ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
عَنْوة
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ )(عنوة ) :
- ( عَقْدُ الْجِزْيَةِ ) :
عِيادة
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
غَدْر
الْغَدْرِ ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
غَصْبُ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ :
غَنِيمَةٌ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْغَنِيمَةِ :
مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ :
( أَصْحَابُ الرَّضْخِ ) :
انْفِرَادُ الْكُفَّارِ بِغَزْوَةٍ :
غِيلَةٌ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِيلَةِ مِنْ أَحْكَامٍ : الْقَتْلُ غِيلَةٌ :
فِدَاءُ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ , بِآلَاتِ الْحَرْبِ , وَالْكُرَاعِ :
فِدْيَةٌ
ز - ( الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدَّارِ ) :
فَقِيرٌ
الْفَقِيرُ الَّذِي تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ :
ب - ( مَوَارِدُ الْفَيْءِ ) :
قَبَالَةٌ
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ :
مَنْ تُوَجَّهُ إلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ :
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْكَافِرِ :
وِلَايَةُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ :
حُكْمُ لُبْسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْقَلَانِسَ :
طرق توفير الكفاية :
أ - توفير الكفاية عن طريق الزّكاة :
ب - توفير الكفاية عن طريق بيت المال :
ج - توفير الكفاية عن طريق توظيف الضّرائب على الأغنياء :
جزاء الكافر في الآخرة والدنيا :
نكاح المسلم كافرةً ونكاح الكافر مسلمةً :
رابعاً : المستحق للإطعام :
ما يشترط في التّكفير بالكسوة :
ب - كنوز الجاهليّة :
ج - الكنز المشتبه الأصل :
ثانياً : تقسيم الكنز الجاهليّ بالنّظر إلى الدّار الّتي وجد فيها :
النّوع الأوّل : الكنز الّذي يوجد في دار الإسلام :
النّوع الثّاني : الكنوز الّتي يجدها المسلم أو الذّمّي في دار الحرب :
ملكيّة الكنز :
ملكيّة الكنوز الإسلاميّة :
مسائل فقهيّة خاصّة بالكنز :
احتفار الذّمّيّ والمستأمن للكنوز :
لحوق الذّمّيّ بدار الحرب :
ز - النّهي عن ألفاظٍ معيّنةٍ :
الحكم بإسلام اللّقيط أو كفره :
حرمة مال المسلم والذّمّيّ :
مَجُوس
الأحكام المتعلّقة بالمجوس :
عقد الذّمّة للمجوسيّ :
شهادة مدمن الخمر :
ثياب مدمن الخمر من حيث الطّهارة والنّجاسة :
أكل الأفيون للمدمن عليه :
المرور على العاشر :
مُسْتأمِن *
أمان المستأمن
أ - مشروعيّة الأمان والحكمة فيها :
أولاً - أمان الإمام أو نائبه :
ثانياً - أمان الأمير :
ثالثاً - أمان آحاد الرّعيّة :
هـ - ما ينعقد به الأمان :
و - شرط إعطاء الأمان للمستأمن :
ز - شروط المؤمِّن :
اختلف الفقهاء في أمان العبد والمرأة والمريض على التّفصيل الآتي :
ك - ما ينتقض به الأمان :
ل - ما يترتّب على رجوع المستأمن إلى دار الحرب :
م - ما يجوز للمستأمن حمله في الرجوع إلى دار الحرب :
الدخول إلى دار الإسلام بغير أمان :
نكاح المسلم بالمستأمنة :
التّفريق بين المستأمن وزوجته لاختلاف الدّار :
التّوارث بين المستأمنين وبينهم وبين غيرهم :
المعاملات الماليّة للمستأمن :
قصاص المستأمن بقتل المسلم وعكسه :
دية المستأمن :
زنا المستأمن وزنا المسلم بالمستأمنة :
قذف المستأمن للمسلم :
النّظر في قضايا المستأمنين :
شهادة المسلم على المستأمن وعكسه :
شهادة الكفّار بعضهم على بعض :
إسلام المستأمن في دارنا :
موت المستأمن في دارنا :
أخذ العشر من المستأمن :
ما يرضخ للمستأمن من مال الغنيمة :
ما يستحقّه للمستأمن من الكنز والمعدن :
تحول المستأمن إلى ذمّيٍّ :
استئمان المسلم :
ج - قتال المسلم المستأمن في دار الحرب :
د - قتل المستأمن المسلم مسلماً آخر في دار الحرب :
دخول الكافر المسجد الحرام :
سادساً : مصافحة الكافر :
مضاربة غير المسلم :
مَعَابِد
أقسام المعابد :
الأحكام المتعلّقة بالمعابد :
إحداث المعابد في أمصار المسلمين :
هدم المعابد القديمة :
15 - الأراضي المفتوحة صلحاً ثلاثة أنواعٍ :
إعادة المنهدم :
ترميم المعابد :
نقل المعبد من مكانٍ إلى آخر :
اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً :
الصّلاة في معابد الكفّار :
النزول في الكنائس :
دخول المسلم معابد الكفّار :
الإذن في دخول الكنيسة والإعانة عليه :
ملاعنة الذّمّيّين في المعابد :
وقوع اسم البيت على المعابد :
بيع عرصة كنيسةٍ :
بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً :
استئجار أهل الذّمّة داراً لاتّخاذها كنيسةً :
جعل الذّمّي بيته كنيسةً في حياته :
عمل المسلم في الكنيسة :
ضرب النّاقوس في المعابد :
الوقف على المعابد :
الوصيّة لبناء المعابد وتعميرها :
حكم المعابد بعد انتقاض العهد :
المفارقة في النّكاح :
مُكُوس
الشّهادة على المكوس :
إظهار أهل الذّمّة المنكر في دار الإسلام :
نقض(2/241)
ثانيا نقض العهود
و- الجزية
نكاح الكفار
نَكْث
أ- الحكم التكليفي للنكث
ب- الحكم الوضعي للنكث
ويشترط في وزير التنفيذ شروط خاصة ، تتعلق بعمله ،
الوصية لجهة عامة
الوصية لغير المسلم
تَوَطُّنُ الْحَرْبِيَّةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
الشروط المعتبرة في الداعي:
أولاً ـ كون الداعي مطلق التصرف:
ثانياً ـ كون الداعي مسلماً:
يوم السبت
جـ ـ ترك اليهودي طلب الشفعة يوم السبت:
د ـ إحضار اليهودي إلى مجلس القضاء يوم السبت:
الباب الرابع
ذكر شرح العلامة ابن القيم رحمه الله لهذه الشروط
ذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها
206 - الفصل الاول في أحكام البيع والكنائس
207 فصل بيان بناء بعض المدن الإسلامية
208 فصل مآل معابد أهل الذمة
209 - فصل ما يترتب على نقض العهد
فصل الضرب الثاني من البلاد ما فتح عنوة
211 - فصل الضرب الثالث ما فتح صلحا
212 - فصل ذكر نصوص أحمد وغيره من الأئمة في هذا الباب
214 - فصل زوال الأمان عن الأنفس زوال عن الكنائس
215 - فصل في ذكر بناء ما استهدم منها ورم شعثه وذكر الخلاف فيه
216 - فصل حكم ترميم الكنيسة وزيادة البناء فيها
217 - فصل نقل الكنيسة من مكان لآخر
218 - فصل حكم أبنية ودور أهل الذمة
219 - فصل في تملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام
220 - فصل قولهم ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل
221 - فصل قولهم ولانؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا
222 - فصل قولهم ولا نكتم غشا للمسلمين
223 - فصل قولهم ولا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا
224- فصل قولهم ولا نظهر عليها صليبا
225 - فصل قولهم ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا مما يحضره المسلمون
226 - فصل قولهم ولا نخرج صليبا ولا كتابا في أسواق المسلمين
227 - فصل قولهم وألا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين
228 - فصل حكم حضور أعياد أهل الكتاب
229 - فصل قولهم ولا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور
230 - فصل وكذلك قولهم ولا نجاوز المسلمين بموتانا
231 - فصل قولهم ولا ببيع الخمور
232 - فصل قولهم ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا
234 - فصل في مفاداة الأسير الكافر
235 - فصل قولهم وألا نمنع أحدا من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام
236 - فصل وقولهم وأن نلزم زينا حيثما كنا وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا فرق شعر ولا في مراكبهم
237 - فصل قولهم ولا عمامة
238 - فصل اختصاص أهل الإسلام بالتلحي في العمائم
239 - فصل قولهم ولا في نعلين ولا فرق شعر
240 - فصل وكذلك قولهم ولا بفرق شعر
241 - فصل في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلق الرأس وتركه وكيفية جعل شعره
242 - فصل متى يرخى الشعر ومتى يضفر
243 - فصل منع أهل الذمة من لباس الأردية
244 - فصل قالوا ولا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا
245 - فصل قالوا ولا نتقلد السيوف
246 - فصل بعض الأحكام التي ضربت على أهل الذمة
247 - فصل لون لباس أهل الكتاب
248 - فصل فساد ذمم نساء أهل الكتاب
249 - فصل قالوا ولا نتكلم بكلامهم
250 - فصل قالوا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية
251 - فصل قالوا ولا نتكنى بكناهم
252 - فصل خطاب الكتابي بسيدي ومولاي
253 - فصل ومما يتعلق بهذا الفصل كيف يكتب إليهم
254 - فصل قالوا ونوقر المسلمين في مجالسهم ونقوم لهم عن المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ونرشدهم الطريق
255 - فصل صيانة القرآن أن يحفظه من ليس من أهله
256 - فصل قالوا ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة
257 - فصل قالوا وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد
258 - فصل نزول المريض من أهل الإسلام على أهل الذمة
259 - فصل قولهم وأن من ضرب مسلما فقد خلع عهده
260 - فصل متى يعتبر الذمي ناقضا لعهده?
261 - فصل حكم إذا أسلم الذمي بعد فجوره بمسلمة
262 - فصل إذا نقضوا ما شرطوا على أنفسهم نقض عهدهم
فيما ينقض العهد وما لا ينقضه
ذكر قوله فيمن يتكلم في الرب تعالى من أهل الذمة
263 - فصل طريق ثالث في نقضهم العهد
264 - فصل مذهب الإمام الشافعي فيما ينقض العهد
265 - فصل مذهب الإمام مالك فيما ينقض العهد
266 - فصل مذهب الإمام أبو حنيفة فيما ينقض العهد
267 - فصل ليس لأهل الذمة عهد إلا ما داموا مستقيمين لنا
268 - فصل انتقاض العهد بنكثهم أيمانهم
269 - فصل كل من طعن في ديننا فهو من أئمة الكفر
270 - - فصل الهم بإخراج الرسول موجب لقتالهم
271 - فصل الأمر بقتال الناكثين الطاعنين في الدين
272 - فصل المحاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس له عهد
273 - فصل بيان معنى الكبت
274 - فصل زوال العصمة عن نفس ومال المؤذي لله ورسوله
275 - فصل مد الله قتالهم حتى ينتهوا عن أسباب الفتنة
276 - فصل يوفى العهد إليهم ما لم ينقصونا شيئا مما عاهدناهم عليه
277 - فصل حجة الإمام الشافعي في قتل الساب
278 - فصل رد شيخ الإسلام على شبهة في قتل ابن الأشرف
279 - فصل سب النبي صلى الله عليه وسلم أو الأصحاب
الباب الخامس
بيان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أهل الذمة
: فَصْلٌ فِي وُجُوبِ اخْتِصَاصِ الْخَالِقِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ
السلف أعلم من الخلف
رأيه في البطائحية(2/242)
حكم من ترك الجمعة والجماعات هل ينكر عليه ؟
الفرق بين الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ
شهادة أهل الذمة
حكم التشبه بأهل الكتاب
كل من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر خالد في النار
حكم من ترك فرائض الإسلام
شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ
أَهْلُ الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ مَعَابِدِهِمْ
جواز شراء خل أهل الذمة
لباس أهل الذمة
النهي عن رفع الصوت خلف الجنازة
النهي عن حضور أعياد المشركين
الفرق بين عقوبة المسلم العاصي يوم القيامة وعقوبة الكافر الأصلي
وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُعَاهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ
العشر على تجار أهل الذمة
هَلْ تُحْصَنُ الْمُرَاهِقَةُ لِلْبَالِغِ ؛ وَبِالْعَكْسِ ؟
مصرف الفيء
الرسالة القبرصية
حكم بناء معابد جديدة لأهل الذمة
إصلاح الكنيسة المهدمة
دفاعه عن الشروط العمرية
إلزام أهل الذمة بلباس غير اللباس المعروف بالشروط العمرية
قتل الراهب وأخذ الجزية منه
أخذ الجزية من اليهود
إراقة خمور أهل الذمة
حكم بيع أهل الذمة الخمر للمسلمين
حكم شتم الكتابي لمسلم
تحريم الحيل
حكم شراء الأرض الخراجية
حكم المكس
هل أكل الحلال اليوم متعذر ؟
قَاعِدَةٌ فِي الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
حكم بيوع العينة
شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ
بعض نواقض عقد الذمة
تحويل البيعة لمسجد
بيع المجهول
مقدار ما يطعم أهل الذمة المسلمين بالضيافة
تحريم ظلم أهل الذمة
نواقض عهد الذمة
قتل من يسب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة
حكم سب غير الرسول صلى الله عليه وسلم
خروج أهل الذمة من دار الإسلام لدار الحرب
إلزام أهل الذمة بالصغار
الباب السادس
ذكر بعض أقوال أهل العلم المعاصرين
أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي
أحكام أهل الذمة
تحطيم الأوثان
يوسف القرضاوي يتلاعب بعقيدة المسلمين
إسعاف المؤمنين بنصرة خاتم المرسلين
الفصل الأول : مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة في قلوب المؤمنين
الفصل الثاني: صيانة الله عز وجل لجناب النبوة
الفصل الثالث: جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الرابع: حكم سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الخامس: رد شبهات حول حكم ساب النبي صلى الله عليه وسلم
ما حكم أمر غير المسلمين بلبس لباس معين يميزهم عن المسلمين؟
الحب في الله والبغض في الله
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية
الشروط العمرية في معاملة الذميين
حكم المشاركة في الحرب العراقية
استقدام عمال غير مسلمين
موادة الكافر هل تحرم مطلقاً؟
الجهاد والدعوة
حكم قتال العراقيين للأمريكان
واجبنا تجاه الاعتداء على العراق
جهاد الطلب وجهاد الدفع
إذا كان لا إكراه في الدين، فلِمَ شرع الجهاد؟!
الحكمة من الجهاد
معاملة غير المسلمين
أهل الذمة
الحكمة من فرض الجزية
كيف تُقدَّر الجزية؟!
غياب الموضوعية في تيار مجاملة الآخر
وفي فتاوى الشبكة الإسلامية
…الشروط العمرية التي تخص أهل الذمة
الجزية وأقسام الكفار فيها .
…الشروط العمرية التي تخص أهل الذمة
…لا تناقض بين الشروط العمرية والعهدة العمرية
دفاع عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
حقوق المنتصر : بين الشروط العمرية وضربات بوش الاستباقية
النصر على نصارى مصر
( حكم المشاركة في أعياد الكفار )
الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية
المواطنة أم الإسلام؟؟
المصادر والمراجع(2/243)